الخلق تولدوا منه كما ألزمكم المنانية حيث زعموا أن النور والظلمة أصل الاشياء وأن الأشياء تحدث منهما وأنهما لا ينفكان مما كان بعدهما ولا ينفك عنهما كذلك زعمتم أن الواحد الذي { ليس كمثله شيء } سورة الشورى 11 تعالى عما قلتم كان لا نهاية له ثم خلق الأشياء غير منفكة منه ولا هو منفك منها ولا يفارقها ولا تفارقه فأعظمتم معناهم ومنعتم القول والعبارة
فيقال هذا الذي ذكره ابن كلاب من موافقة الجهمية في الحقيقة للدهرية والثنوية يحققه ما فعلته غالية الجهمية من القرامطة الباطنية فأنهم ركبوا لهم قولا من قول الفلاسفة الدهرية وقول المجوس الثنوية وقولهم هو منتهى قول الجهمية
وكان ذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال ومن الناس إلا هؤلاء
(6/196)
وفي الحديث الآخر الصحيح لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا اليهود والنصارى قال فمن
ومشابهة اليهود والنصارى أيسر من مشابهة فارس والروم فإن الفرس كانوا مجوسا والروم إن لم يكونوا نصارى كانوا مشركين صابئة وغير صابئة فلاسفة وغير فلاسفة والباطنية ركبوا مذهبهم من قول المجوس ومن دخل فيهم ومن قول المشركين من الروم ومن دخل فيهم كاليونان ونحوهم
وأما الأشعري وأئمة أصحابه فهم مصرحون بأن الله نفسه فوق العرش كما ذكر ذلك في كتبه كلها الموجز والإبانة والمقالات وغير ذلك
قال إن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل نقول إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 وقد قال { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه }
(6/197)
سورة فاطر 10 وقال { بل رفعه الله إليه } سورة النساء 158 وقال { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } سورة السجدة 5
وقال تعالى حكاية عن فرعون { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } سورة غافر 36 37 كذب موسى في قوله إن الله عز وجل فوق السموات
وقال عز وجل { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } سورة الملك 16 فالسموات فوقها العرش
فلما كان العرش فوق السموات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال { أأمنتم من في السماء } يعني جميع السماء وإنما أراد العرش الذي هو أعلى
(6/198)
السموات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال { وجعل القمر فيهن نورا } سورة نوح 16 ولم يرد أن القمر يملؤهن جميعا وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السموات فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض
قال وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قول الله تعالى { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 أنه استولى وملك وقهر وأن الله عز وجل في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها
(6/199)
وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو سبحانه مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها
قال وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم والحشوش والأخلية وهذا خلاف الدين تعالى الله عن قولهم
وقال دليل آخر وقال الله عز وجل { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء }
(6/200)
سورة الشورى 51 فقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم كان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو أرسل رسولا ويترك أجناسا لم يعمهم بالآية فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم
قلت ومقصود الأشعري من هذا أنه على قول النفاة لا فرق بين البشر وغيرهم فإنه عندهم لا يحجب الله تعالى أحدا بحجاب منفصل عنه بل هو محتجب عن جميع الخلق بمعنى أنه لا يمكن أحد أن يراه فاحتجابه عن بعضهم دون بعض دل على نقيض قولهم وذلك أن نفاة المباينة يفسرون الاحتجاب بمعنى عدم الرؤية لمانع من الرؤية في العين ونحو ذلك من الأمور التي لا تنفصل عن المحجوب بل نسبتها إلى جميع الأشياء واحدة
قال الأشعري دليل آخر قال تعالى { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } سورة الأنعام 62 وقال تعالى { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم }
(6/201)
سورة الأنعام 30 وقال { ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم } سورة السجدة 12 وقال تعالى { وعرضوا على ربك صفا } سورة الكهف 48 وكل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه مستو على عرشه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علو كبيرا الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي يريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل
قلت فقد احتج على عدم مداخلته يقول تعالى { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } سورة الأنعام 30 وقوله { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } سورة الأنعام 62 وقوله تعالى { ناكسو رؤوسهم عند ربهم } سورة السجدة 12 وقوله { وعرضوا على ربك صفا } سورة الكهف 48 فإنه لو كانت نسبته إلى جميع الأمكنة واحدة ولا يختص بالعلو لكان في المردود كما هو في المردود إليه وفي
(6/202)
الواقف كما هو في الموقوف عليه وفي الناكس كما هو فيمن نكس رأسه عنده وفي المعروض كما هو في المعروض عليه
فهذه النصوص تنفى مداخلته للخلق وتوجب مباينته لهم فلو أمكن وجود موجود لا مباين ولا محايث لكان نسبة ذاته إلى جميع المخلوقات نسبة واحدة وهو مناقض لما ذكر وقوله مع نفى المداخلة أنه على العرش يبين أنه يثبت المباينة لا ينفيها كما ينفى المداخلة
وقال الأشعري
أيضا وروت العلماء عن ابن عباس رضي اللع عنهما أنه قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك
قلت وهذه الحديث رواه الحاكم أبو محمد العسال في كتاب المعرفة له من حديث عبد الوهاب الوراق الرجل الصالح ثنا على بن عاصم عن عطاء بن السايب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإن ما بين كرسيه إلى السماء سبعة الآف نور وهو فوق ذلك قال عبد
(6/203)
الوهاب الوراق من زعم أن الله ههنا فهو جهمي خبيث إن الله فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة
قال الأشعري ومما يؤكد أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث النزول كقوله ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأستجيب له حتى يطلع الفجر
قال الأشعري دليل آخر قال الله تعالى { يخافون ربهم من فوقهم } سورة النحل 50 وقال تعالى { تعرج الملائكة والروح إليه } سورة المعارج 4 وقال { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } سورة فصلت 11 وقال { ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } سورة الفرقان 59 وقال { ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } سورة السجدة 4 فكان ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه والسماء
(6/204)
بإجماع الناس ليست الأرض فدل على أن الله منفرد بوحدانيته مستو على عرشه
وقال الأشعري دليل آخر قال عز وجل { وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر 22 وقال تعالى { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } سورة البقرة 210 وقال تعالى { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى } إلى قوله { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } سورة النجم 7 18
وقال عز وجل لعيسى بن مريم { إني متوفيك ورافعك إلي } سورة آل عمران 55
وقال { وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه } سورة النساء 157 158 وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء
قال الأشعري ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذ هم
(6/205)
رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل بهم يقولون جميعا يا ساكن العرش ومن حلفهم جميعا لا والذي احتجب بسبع سماوات
فقد حكى الأشعري إجماع المسلمين إلى أن الله فوق العرش وأن خلقه محجوبون عنه بالسموات وهذا مناقض لقول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن هؤلاء يقولون ليس للعرش به اختصاص وليس شيء من المخلوقات يحجب عنه شيئا
ومن أثبت الرؤية منهم إنما يفسر رفع الحجاب بخلق إدراك في العين لا أن يكون هناك حجاب منفصل يحجب العبد عن الرؤية
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابي الإبانة والتمهيد وغيرهما فإن قال قائل أتقولون إنه في كل مكان قيل له معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 وقال { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } سورة فاطر 10 وقال { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } سورة الملك 16
(6/206)
ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي نرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وشمائلنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله
فقد وافق القاضي أبو بكر لأبي الحسن الأشعري وأنكر أن يكون في كل مكان وجعل مقابل ذلك أنه على العرش لم يجعل مقابل ذلك أنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن الأقسام أربعة ليس لها خامس إما أن يكون نفسه مباينا للعالم وإما أن يكون مداخلا له وإما أن يكون مباينا ومداخلا وإما أن يكون لا مباينا ولا مداخلا
فهؤلاء جعلوا مقابلة المداخلة المباينة ولم يقولوا لا داخل العالم ولا خارجه وهؤلاء أئمة طوائفهم
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل فإذا ثبت أنه على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه
(6/207)
قال وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه
قال والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة
قال والدليل عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية
قال ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس في جهة ولا خارجا منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم
قلت وهذا الذي اختلف فيه قول القاضي اختلف فيه أصحاب أحمد وغيرهم فكان طائفة يقولون العلو من الصفات السمعية الخبرية كالوجه واليد ونحوذلك وهذا قول طوائف من الصفاتية ولهذا نفاة من متأخري الصفاتية من نفى الصفات السمعية الخبرية كأتباع صاحب الإرشاد
(6/208)
وأما الأشعري وأئمة أصحابه فإنهم متفقون على إثبات الصفات السمعية مع تنازعهم في العلو هل هو من الصفات العقلية أو السمعية
وأما أئمة الصفاتية كابن كلاب وسائر السلف فعندهم أن العلو من الصفات المعلومة بالعقل وهذا قول الجمهور من أصحاب أحمد وغيرهم وإليه رجع القاضي أبو يعلى آخرا وهو قول جمهور أهل الحديث والفقه والتصوف وهو قول الكرامية وغيرهم
وأما الاستواء فهو من صفات السمعية عند من يجعله من الصفات الفعلية بلا نزاع فإن ذلك لم يعلم إلا بالسمع وهذا الذي ذكره ابن كلاب وغيره من أن المنازع من المسلمين في أن الله فوق العرش كانوا قليلين جدا يبين خطأ من قال إن النزاع إنما هو مع الكرامية والحنبلية بل جماهير الخلق من جميع الطوائف على الإثبات جمهور أئمة الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والداوودية وجمهور أهل التصوف والزهد والعبادة وجمهور أهل التفسير وجمهور أهل الحديث وجمهور أهل الكلام من الكرامية والكلابية والأشعرية والهشامية وجمهور المرجئة وجمهور قدماء الشيعة
وإنما الخلاف في ذلك معروف عن جهم وأتباعه والمعتزلة ومن
(6/209)
وافقهم من الخوارج ومتأخري الشيعة ومتأخري الأشعرية وللمعتزلة والفلاسفة فيها قولان
بل وهذا هو المنقول عن أكثر الفلاسفة أيضا كما ذكر أبو الوليد ابن رشد الحفيد وهو من أتبع الناس لمقالات المشائين أرسطو وأتباعه ومن أكثر الناس عناية بها وموافقة لها وبيانا لما خالف فيه ابن سينا وأمثاله لها حتى صنف كتاب تهافت التهافت وانتصر فيه لإخوانه الفلاسفة ورد فيه على أبي حامد في كتابه الذي صنفه في تهافت الفلاسفة مع أن في كلام أبي حامد من الموافقة للفلاسفة في مواضع كثيرة ما هو معروف وإن كان يقال إنه رجع عن ذلك واستقر أمره على التلقى من طريقة أهل الحديث بعد أن أيس من نيل مطلوبه من طريقة المتكلمين والمتفلسفة والمتصوفة أيضا
فالمقصود أن ابن رشد ينتصر للفلاسفة المشائين أرسطو وأتباعه بحسب الإمكان وقد تكلمنا على كلامه وكلام أبي حامد في غير هذا المواضع وبينا صواب ما رده أبو حامد من ضلال المتفلسفة وبينا ما تقوى به المواضع التي استضعفوها من رده بطرق أخرى لأن الرد على أهل الباطل لا يكون مستوعبا إلا إذا اتبعت السنة من كل الوجوه وإلا فمن وافق السنة من وجه وخالفها من وجه طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالف فيه السنة واحتجوا عليه بما وافقهم عليه من تلك المقدمات المخالفة للسنة
وقد تدبرت عامة ما يحتج به أهل الباطل عل من هو أقرب إلى الحق منهم فوجدته إنما تكون حجة الباطل قوية لما تركوه من الحق الذي
(6/210)
أرسل الله به رسوله وأزل به كتابه فيكون من تركوه م ذلك الحق من أعظم حجة المبطل عليهم ووجدت كثيرا من أهل الكلام الذي هم أقرب إلى الحق ممن يردون عليه يوافقون خصومهم تارة على الباطل ويخالفونهم في الحق أخرى ويستطيلون عليهم بما وافقوهم عليه من الباطل وبما خالفوهم فيه من الحق كما يوافق المتكلمة النفاة للصفات أو لبعضها كالعلو وغيره لمن نفى ذلك من المتفلسفة وينازعونهم في مثل بقاء الأعراض أو مثل تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة أو وجوب تناهي جنس الحوادث ونحو ذلك
والمقصود هنا أن ابن رشد نقل عن الفلاسفة إثبات الجهة وقرر ذلك بطرقهم العقلية التي يسمونها البراهين مع أنه يزعم أنه لا يرتضي طرق أهل الكلام بل يسميها هو وأمثاله من الفلاسفة الطرق الجدلية ويسمون المتكلمين أهل الجدل كما يسميهم بذلك ابن سينا وأمثاله فإنهم لما قسموا أنواع القياس العقلي الشمولي الذي ذكروه في المنطق إلى برهاني وخطابي وجدلي وشعري وسوفسطائي زعموا أن مقاييسهم في العلم الإلهي من النوع البرهاني وأن غالب مقاييس المتكلمين إما من الجدلي وإما من الخطابي كما يوجد هذا في كلام هؤلاء المتفلسفة كالفارابي وابن سينا ومحمد بن يوسف العامري
(6/211)
ومبشر بن فاتك وأبي علي بن الهيثم والسهروردي المقتول وابن رشد وأمثالهم وإن كانوا في هذه الدعاوى ليسوا صادقين على الإطلاق بل الأقيسة البرهانية في العلم الإلهي في كلام المتكلمين أكثر منها في كلامهم وأشرف وإن كان قد يوجد في كلام المتكلمين أقيسة جدلية وخطابية بل سوفسطائيه فهذه الأنواع في العلم الإلهي هي في كلام الفلاسفة أكثر منها في كلام المتكلمين وأضعف إذ ا قوبل ما تكلموا فيه من العلم الإلهي بما تكلم فيه المتكلمون بل ويستعملون من هذا الضرب في الطبيعيات بل وفي الرياضيات قطعة كبيرة
والمقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد عنهم وهذا لفظه في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصوليين قال القول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر
(6/212)
يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله وظواهر الشرع تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 ومثل قوله تعالى { وسع كرسيه السماوات والأرض } سورة البقرة 255 ومثل قوله { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } سورة الحاقة 17 ومثل قوله { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } سورة السجدة 5 ومثل قوله { تعرج الملائكة والروح إليه } سورة المعارج 4 ومثل قوله { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } سورة الملك 16 إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السماء نزلت الكتب وإليها
(6/213)
كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى
قال وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية
قال ونحن نقول إن هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة وبهذا نقول إن للحيوان فوقا وسفلا ويمينا وشمالا وأماما وخلفا وإما سطوح جسم آخر تحيط بالجسم من الجهات الست فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلا وأما سطوح الجسم المحيطة به فهي له مكان مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضا مكان للهواء وهذه الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن انه ليس خارجه جسم
(6/214)
لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم أيضا جسم آخر ويمر الأمر إلى غير نهاية فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم فإذا إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه القوم وهو موجود هو جسم لا موجود ليس بجسم وليس لهم أن يقولوا إن خارج العالم خلاء وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئا أكثر من أبعاد ليس فيها جسم أعنى طولا وعرضا وعمقا لأنه إن وقعت الأبعاد عنه عاد عدما وإن أنزل الخلاء موجودا لزم أن تكون اعراض موجودة في غير جسم وذلك لأن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين يريدون الله والملائكة وذلك أن ذلك الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسدا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن
(6/215)
وقد تبين هذا المعنى فيما أقوله وذلك أنه لما لم يكن ههنا شيء يدرك إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم وكان من المعروف بنفسه أن الموجود إنما ينسب إلى الوجود أعني أنه يقال إنه موجود في الوجود إذ لا يمكن أن يقال إنه موجود في العدم فإن كان ههنا موجود هو أشرف الموجودات فواجب أن ينسب من الوجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهي السموات ولشرف هذا الجزء قال الله تعالى { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } سورة غافر 57
قال فهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع وأن وجه العسر في تفهيم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو
(6/216)
أنه ليس في الشاهد مثال له وهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك معلوم الوجود في الشاهد مثل العلم في الفاعل فإنه لما كان في الشاهد شرطا في وجوده كان شرطا في وجود الصانع الغائب وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عن الأكثر ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته إن لم تكن بالجمهور حاجة إلى معرفته مثل العلم بالنفس أو يضرب له مثال في الشاهد فإن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم وإن لم يكن ذلك المثال هو الأمر المقصود فتفهيمه مثل كثير مما جاء من أحوال المعاد والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها ليس يتفطن الجمهور لها لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم فيجب أن يمتثل في هذا كله فعل الشرع ولا يتأول ما لم يصرح الشرع بتأويله
والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث رتب صنف لا
(6/217)
يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى وخاصة متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع وهؤلاء هم الأكثرون وهم الجمهور وصنف عرفوا حقيقة هذه الأشياء وهم العلماء الراسخون في العلم وهؤلاء هم الأقل من الناس وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها وهؤلاء هم فوق العامة ودون العلماء وهذ الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع وهم الذين ذمهم الله تعالى وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه فعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم المتشابه ومثال ما عرض لهذا الصنف من الشرع مثال ما يعرض لخبز البر مثلا الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان أن يكون لأقل الأبدان ضارا وهو نافع للأكثر وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر وربما ضر الأقل ولهذا الإشارة بقوله تعالى { وما يضل به إلا الفاسقين } سورة البقرة 26 لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز على الأقل منها والأقل من الناس وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الإعلام عن أشياء في الغائب ليس لها مثال في الشاهد فيعبر عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها وأكثرها شبها بها فيعرض لبعض الناس أن
(6/218)
يرى الممثل به هو الممثل نفسه فتلزمه الحيرة والشك وهو الذي يسمى متشابها في الشرع وهذا ليس يعرض للعلماء والجمهور وهم صنفا الناس بالحقيقة لأن هؤلاء هم الأصحاء والغذاء الملائم إنما يوافق أبدان الأصحاء وأما أولئك فمرضى والمرضى هم الأقل ولذلك قال تعالى { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } سورة آل عمران 7 وهؤلاء هم أهل الجدل والكلام
وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره وقالوا إن هذا التأويل هو المقصود به وإنما أتى به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا لهم ونعوذ بالله من هذا الظن بالله بل نقول إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزا من جهة الوضوح والبيان فإذا ما أبعد عن مقصد الشرع من قال فيما ليس بمتشابه إنه متشابه ثم أوله بزعمه وقال لجميع الناس إن فرضكم هو اعتقاد هذا التاويل مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت
(6/219)
وجدت ليس يقوم عليها برهان ولا تفعل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها وعلمهم عنها فإن المقصود الأول في العلم في حق الجمهور إنما هو العمل فما كان أنفع في العمل فهو أجدر فأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعا أعنى العلم والعمل
قال ومثال من أول شيئا من الشرع وزعم أن ما أوله هو الذي قصد الشرع وصرح لذلك التأويل للجمهور مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر الحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا لأقل الناس فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت به العادة في ذلك أن يدل بذلك الاسم عليه وإنما أراد به دواء آخر مما يمكن أن تدل عليه بذلك استعارة بعيدة فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم
(6/220)
وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب وقال للناس هذا هو الذي قصده الطبيب الأول فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه هذا المتأول ففسدت به أمزجة كثير من الناس فجاء آخرون شعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركب فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير المرض الأول فجاء ثالث فتأول أدوية ذلك المركب على غير التأويل الثاني فعرض للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة فعرض للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها عرض منه للناس أمراض شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس وهذه حال الفرق الحادثة في هذه الشريعة وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تاويلا غير
(6/221)
التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى وزعمت أنه الذي قصد صاحب الشرع حتى تمزق الشرع كل ممزق وبعد جدا عن موضوعه الأول ولما علم صلى الله عليه وسلم مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس
قال وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح فأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور وبآراء
(6/222)
الحكماء على ما أداه إليه فهمه وذلك في كتابه الذي سماه بالمقاصد وزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم ثم وضع كتابه المعروف بتهافت الفلاسفة فكفرهم فيه في مسائل ثلاثة من جهة خرقهم فيها الإجماع فيها زعم وبدعهم في مسائل وأتى فيه بحجج مشككه وشبه محيرة أضلت كثيرا من الناس عن الحكمة والشريعة جميعا ثم قال في كتابه المعروف بجواهر القرآن إن الذي أثبته في كتاب التهافت هي أقاويل جدلية وأن الحق إنما أثبته في المضنون به على غير أهله ثم جاء في كتابه المعروف بمشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين بالله وقال إن سائرهم محجوبون إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك السماء الأولى وهو الذي صدر عنه هذا المحرك وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية وهو قد قال في غير ما موضع إن علومهم الإلهية تخمينات بخلاف الأمر في سائر علومهم وأما في كتابه الذي سماه بالمنقذ من الضلال فتحامل فيه على
(6/223)
الحكماء وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة وأن هذه المرتبة من جنس مراتب الأنبياء في العلم وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذي سماه بكيمياء السعادة فصار الناس بسبب هذا التخليط والتشويش فرقتين فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة وفرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة وهذا كله خطأ بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم دون أن يكون عندهم برهان عليها وهذا لا يحل ولا يجوز أعنى التصريح بشيء من نتائج الحكمة لم يكن عنده البرهان عليها لأنه لا يكون مع العلماء الجامعين بين الشرع والعقل ولا مع الجمهور المتبعين لظاهر الشرع فلحق من فعله هذا إخلال بالأمرين جميعا أعنى بالحكمة وبالشرع عند أناس وحفظ الأمرين أيضا جميعا عند آخرين أما إخلاله بالشريعة فمن جهة إفصاحة فيها بالتأويل الذي لا يجب الإفصاح به وأما إخلاله بالحكمة فلإفصاحه أيضا بمعان فيها لا
(6/224)
يجب أن يصرح بها إلا في كتاب البرهان وأما حفظه للأمرين جميعا فإن كثيرا من الناس لا يرى بينهما تعارضا من جهة الجمع الذي استعمل منهما وأكد هذا المعنى بأن عرف وجه الجمع بينهما وذلك في كتابه الذي سماه التفرقة بين الإسلام والزندقة وذلك أنه عدد فيه أصناف التأويلات وقطع فيه على أن المتأول ليس بكافر وإن خرق الإجماع في التأويل فإذا ما فعل من هذه الأشياء هو ضار للشرع بوجه وللحكمة بوجه ونافع لهما بوجه وهذا الذي فعله هذا الرجل إذا فحص عنه ظهر أنه ضار بالذات للأمرين جميعا أعنى الحكمة والشريعة وأنه نافع لهما بالعرض وذلك أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس من أهلها يلزم عن ذلك بالذات إما إبطال الحكمة وإما إبطال الشريعة وقد يلزم عنها بالعرض الجمع بينهما والصواب كان ألا يصرح بالحكمة للجمهور فأما وقد وقع التصريح فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة أنها ليست مخالفة لها وكذلك يعرف الذين يرون أن الحكمة
(6/225)
مخالفة لها من الذين ينتسبون للحكمة أنها غير مخالفة لها وذلك بأن يعرف كل أحد من الفريقين أنه لم يقف على كنهها بالحقيقة أعنى على كنه الشريعة ولا على كنه الحكمة وأن الرأي في الشريعة الذي اعتقد أنه مخالف للحكمة هو رأي إما مبتدع في الشريعة لامن أصلها وإما رأي خطأ في الحكمة أعنى تأويل خطأ عليها كما عرض في مسألة علم الجزئيات وفي غيرها من المسائل
قال ولهذا المعنى اضطررنا نحن في هذا الكتاب أن نعرف أصول الشريعة فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول عليها وكذلك الرأي في الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة يعرف أن السبب في ذلك أنه لم يحط علما بالحكمة ولا بالشريعة ولذلك اضطرنا نحن إلى وضع قول في موافقه الحكمة للشريعة
قال فإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول إن
(6/226)
الذي بقى علينا من هذا الجزء من المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء أعني في الجزء المعدوم يعني جزء التنزيه فإنه تكلم في التنزيه بعد تكلمه في الصفات الثبوتية فقال فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخله في هذا الجزء أعني في الجزء المعدوم لقوله تعالى { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } سورة الأنعام 103 ولذلك أنكرتها المعتزلة وردت الآثار الواردة في الشرع بذلك مع كثرتها وشهرتها فشنع الأمر عليهم والسبب في وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه واعتقدوا وجوب التصريح بها لجميع المكلفين وجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفى الجهة وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية إذ كل مرئي في جهة من الرائي فاضطروا لهذا المعنى إلى رد الشرع المنقول وأعلوا الأحاديث بأنها أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم مع أن ظاهر القرآن معارض لها أعني قوله { لا تدركه الأبصار } سورة الأنعام 103
(6/227)
قال وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعنى بين انتفاء الجسمية وبي جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم ولجاؤا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة أعني الحجج الي توهم أنها حجج وهي كاذبة وذلك أنه يشبه أن يكون يوجد في الحجج ما يوجد في الناس أعني كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة يوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل وهو المرائي وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين ومنها حجج مرائية وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في دفع دليل المعتزلة ومنها أقاويل لهم في جواز إثبات الرؤية لما ليس بجسم وأنه ليس بعرض من فرضها محال فأما ما عاندوا به قول المعتزلة أن كل مرئي فهو في جهة من الرائي فمنهم من قال إن هذا إنما هو حكم الشاهد لا حكم الغائب وإن هذا الموضع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب وإنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة إذ كان جائزا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها
(6/228)
دون عين وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة أعني في مكان وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة أعني في مكان ولا في كل جهة بل في جهة ما مخصوصة ولذلك ليس تتأتي الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضا وهي ثلاثة أشياء حضور الضوء والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر وكون المبصر ذا لون والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الإبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع وإبطال لجميع علوم النظر والهندسة وقد قال القوم أعني الأشعرية إن أحد المواضع التي يجب فيها أن ينقل حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط مثل حكمنا بأن كل عالم حي لكون الحياة تظهر في الشاهد شرطا في وجود العلم قلنا لهم وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شرط في الرؤية فألحقوا الغائب فيها بالشاهد على أصلكم
(6/229)
قال وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بالمقاصد أن يعاند هذه المقدمة أعني أن كل مرئي في جهة من الرائي بأن الإنسان ينظر ذاته في المرآة وليست ذاته منه في جهة ولا في غير جهة تقابله وذلك أنه لما كان يبصر ذاته وكانت ذاته لا تحل في المرآة التي في الجهة المقابلة فهو يبصر ذاته في غير جهة
قال وهذه مغالطة فإن الذي يبصر هو خيال ذاته فقط والخيال هو في جهة إذ كان الخيال في المرآة والمرآة في جهة وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم فإن المشهور عندهم من ذلك حجتان إحداهما وهي الأشهر عندهم ما يقولونه من أن الشيء لا يخلو من أن يرى من جهة أنه متلون أو من جهة أنه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه موجود وربما عددوا جهات أخر غير هذه الوجوه ثم يقولون وباطل أن يرى من قبل أنه جسم إذ لو كان كذلك لما رئي ما
(6/230)
هو غير جسم وباطل أن يرى من قبل أنه ملون إذ لو كان كذلك لما رئي اللون وباطل أن يرى لمكان أنه لون إذ لو كان كذلك لما رئي الجسم قالوا وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب لم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود
قال والمغالطة في هذا القول بينة فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته ومنه ما هو مرئي من قبل المرئي بذاته وهذه هي حال اللون والجسم فإن اللون مرئي بذاته والجسم مرئي من قبل اللون وكذلك ما لم يكن له لون لم يبصر ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس فكان يكون البصر والسمع وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة وهذا كله خلاف ما يعقل وقد اضطر المتكلمون لمكان
(6/231)
هذه المسألة وما أشبهها إلى أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع والأصوات ممكنة أن لا تسمع وهذا كله خروج عن الطبع وعما يمكن أن يعقله الإنسان فإن من الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع وأن محسوس هذه غير محسوس تلك وأن آلة هذه غير آلة تلك وأنه ليس يمكن أن ينقلب البصر سمعا كما لا يمكن أن يعود اللون صوتا والذين يقولون إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت فقد يجب أن يسألوا فيقال لهم ما هو البصر فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها المرئيات الألوان وغيرها ثم يقال لهم ما هو السمع فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها الأصوات فإذا وضعوا هذا قيل لهم فهل البصر عند إدراكه الأصوات هو بصر فقط أو سمع فقط فإذا قالوا سمع فقط فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان وإن قالوا بصر فقط فليس يدرك الأصوات وإذا لم يكن بصرا فقط لأنه يدرك الأصوات ولا سمعا فقط لأنه يدرك الألوان فهو بصر وسمع معا وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئا واحدا حتى المتضادات وهذا شيء فيما أحسب يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا أو يلزمهم تسليمه يعني هؤلاء الأشعرية
(6/232)
قال وهو رأى سوفسطائي لأقوام مشهورين بالسفسطة
وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالى في كتابه المعروف بالإرشاد وتلخيصها أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء وما تنفضل به الموجودات بعضها من بعض فهي أحوال ليست بذوات فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذات والذات هي نفس الوجود المشترك لجميع الموجودات فإذا الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو هو موجود
قلت هذه الحجة من جنس الأولى لكن هذه على قول مثبتة الأحوال وتلك على رأى نفاة الأحوال لكن ذكرها على هذا الوجه فيه تناقض حيث جعل الأحوال لا ترى بل إنما يرى الوجود والوجود حال عند مثبتة الأحوال لكن مضمون ذلك أنها تدرك للحال المشتركة وهي الوجود لا لما اختصت به
ثم قال ابن رشد وهذا كله في غاية الفساد ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لوجودها لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود لأن الأشياء لا تفترق بالشيء
(6/233)
الذي تشترك فيه ولكان في الجملة لا يمكن في الحواس لا في البصر أن يدرك فصول الألوان ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات وللزم أن يكون مدارك المحسوسات بالحس واحدا فلا يكون فرق بين مدرك السمع ومدرك البصر وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان وإنما تدرك الحواس ذوات الأشياء المشار إليها يتوسط إدراكها لمحسوساتها الخاصة بها فوجه المفالطة في هذا هو أنه ما يدرك ثانيا أخذ أنه يدرك بذاته
قال ولولا النشأ على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة
قال والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة حتى ألجأت القائلين بنصرتها في زعمهم إلى مثل هذه الأقاويل الهجينة التي هي ضحكة عند من عنى بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية هو التصريح في الشرع بما لم يأذن به الله ورسوله وهو التصريح ينفي
(6/234)
الجسمية للجمهور وذلك أنه من العسير أن يجتمع في اعتقاده واحد أن ههنا موجودا ليس بجسم وأنه مرئي بالأبصار لأن مدرك الأبصار هي في الأجسام أو أجسام وكذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت وهذا لا يليق أيضا الإفصاح به للجمهور فإنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك عن التخيل بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى ووصف لهم نفسه سبحانه بأوصاف تقرب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك مع تعريفهم أنه لا يجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من ذلك بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب المثال به إذ كان النور هو أشهر الموجودات عند الحس والتخيل وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني
(6/235)
الموجودات في المعاد أعني تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة فإذا متى أخذ الشرع في أوصاف الله على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها لأنه إذا قيل إنه نور وإن له حجابا من نور كما جاء في القرآن والسنن الثابتة ثم قيل إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة كما ترى الشمس لم يعرض في هذا كله شك ولا شبهة في حق الجمهور ولا حق العلماء وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفروا المصرح لهم بها فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل وأنت إذا تأملت الشرع وجدته مع أنه قد ضرب للجمهور في هذا المعنى المثالات التي لم يمكن تصورهم إياها دونها فقد نبه العلماء على تلك المعاني أنفسها التي ضرب مثالاتها للجمهور فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفا صنفا من الناس لئلا يختلط التعليمان كلاهما فتفسد الحكمة الشرعية النبوية ولذلك قال عليه
(6/236)
السلام إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم ومن جعل الناس شرعا واحدا في التعليم فهو كمن جعلهم شرعا واحدا في عمل من الأعمال وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول
قال وقد تبين لك من هذا أن الرؤية معنى ظاهر وأنه ليس يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى أعنى إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا إثباتها
قلت هذا الرجل قد ذكر في كتابه أن أصناف الناس أربعة الحشوية والأشعرية والمعتزلة والباطنية باطنية الصوفية وهو يميل إلى باطنية الفلاسفة الذين يوجبون إقرار الجمهور على الظاهر كما يفعل ذلك من يقول بقولهم من أهل الكلام والفقه والحديث ليس هو من باطنية الشيعة كالإسماعيلية ونحوهم الذين يظهرون الإلحاد
(6/237)
ويتظاهرون بخلاف شرائع الإسلام وهو في نفي الصفات أسوأ حالا من المعتزلة وأمثالهم بمنزلة إخوانه الفلاسفة الباطنية حتى أنه يجعل العلم هو العالم والعلم هو القدرة وهو مع موافقته لابن سينا على نفي الصفات يبين فساد طريقته التي احتج بها وخالف بها قدماء الفلاسفة وهو أن ما شهد به الوجود من الموجود الواجب يمتنع كونه موصوفا لأن ذلك تركيب ووافق أبا حامد مع تشنيعه عليه على أن استدلال ابن سينا على نفي الصفات بأن وجوب الوجود مستلزم لنفي التركيب المستلزم لنفي الصفات طريقة فاسدة واختار طريقة المعتزلة وهي أن ذلك التركيب والمركب يفتقر إلى مركب وهي أيضا من نمط تلك في الفساد
وكذلك أيضا زيف طريقهم التي استدلوا بها على نفي التجسيم زيف طريقة ابن سينا وطرق المعتزلة والأشعرية بكلام طويل واعتمد هو في نفي التجسيم على إثبات النفس الناطقة وأنها ليست بجسم فيلزم أن يكون الله ليس بجسم
ولا ريب أن هذه الحجة أفسد من غيرها فإن الاستدلال على نفي كون النفس جسما أضعف بكثير من نفي ذلك في الواجب والمنازعون له في النفي أكثر من المنازعين له في ذلك لكن مما يطعمه ويطمعه أمثاله في ذلك ضعف مناظرة أبي حامد لهم في مسألة النفس فإن أبا حامد بين فساد أدلتهم التي استدلوا بها على نفي كون الواجب ليس بجسم وبين أنه لا حجة لهم على ذلك وإنما الحجة على ذلك طريق
(6/238)
المعتزلة طريقة الأعراض والحوادث وأما في مسألة النفس فهو موافق لهم على قولهم لاعتقاده صحة طريقهم
وابن رشد يذم أبا حامد من الوجه الذي يمدحه به علماء المسلمين ويعظمونه عليه ويمدحه من الوجه الذي يذمه به علماء المسلمين وإن كانوا قد يقولون إنه رجع عن ذلك لأن أبا حامد يخالف الفلاسفة تارة ويوافقهم أخرى فعلماء المسلمين يذمونه بما وافقهم فيه من الأقوال المخالفة للحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم الموافقة لصحيح المنقول وصريح المعقول كما وقع من الإنكار عليه أشياء في كلام رفيقه أبي الحسن المرغيناني وأبي نصر القشيري وأبي بكر الطرشوشي وأبي بكر بن العربي وأبي
(6/239)
عبد الله المازري وأبي عبد الله الذكي ومحمود الخوارزمي وابن عقيل وأبي البيان الدمشقي ويوسف الدمشقي وابن حمدون القرطبي القاضي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي محمد المقدسي وأبي عمرو بن الصلاح وغير واحد من علماء المسلمين وشيوخهم
(6/240)
والمتفلسفة الذين يوافقون ما ذكره من أقوالهم يذمونه لما اعتصم به من دين الإسلام ووافقه من الكتاب والسنة كما يفعل ذلك ابن رشد الحفيد هذا وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وابن سبعين وابن هود وأمثالهم
وهؤلاء وأمثالهم يعظمون ما وافق فيه الفلاسفة كما يفعل ذلك صاحب خلع النعلين وابن عربي صاحب الفصوص وأمثالهم ممن يأخذ المعاني الفلسفية يخرجها في قوالب المكاشفات والمخاطبات الصوفية ويقتدي في ذلك بما وجده من ذلك في كلام أبي حامد ونحوه
وأما عوام هؤلاء فيعظمون الألفاظ الهائلة مثل لفظ الملك والملكوت والجبروت وأمثال ذلك مما يجدونه في كلام هؤلاء وهم لا يدرون هل أراد المتكلم بذلك ما أراده الله ورسوله أم أراد بذلك ما أراده الملاحدة كابن سينا وأمثاله
(6/241)
والمقصود هنا أن ابن رشد هذا مع اعتقاده أقوال الفلاسفة الباطنية لا سيما الفلاسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم الذين لهم التصانيف المعروفة في الفلسفة ومع أن قول ابن رشد هذا في الشرائع من جنس قول ابن سينا وأمثاله من الملاحدة من أنها أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما يتخيلونه في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر وأن الحق الصريح الذي يصلح لأهل العلم فإنما هو أقوال هؤلاء الفلاسفة وهذه عند التحقيق منتهاها التعطيل المحض وإثبات وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج غير وجود الممكنات وهو الذي انتهى إليه أهل الوحدة القائلون بالحلول والاتحاد كابن سبعين وأمثاله ممن حقق هذه الفلسفة ومشوا على طريقة هؤلاء المتفلسفة الباطنية من متكلم ومتصوف وممن أخذ بما يوافق ذلك من كلام أبي حامد وأمثاله وزعموا أنهم يجمعون بين الشريعة الإلهية والفسلفة اليونانية كما زعم ذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من هؤلاء الملاحدة
وابن رشد هذا مع خبرته بكلام هؤلاء وموافقته لهم يقول إن جميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله الملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك وقرر ذلك بطريق عقلية من جنس تقرير ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي والأشعري
(6/242)
والقاضي أبي بكر وأبي الحسن التميمي وابن الزاغوني وأمثالهم ممن يقول إن الله فوق العرش وليس بجسم
وقال هؤلاء المتفلسفة كما يقوله هؤلاء المتكلمون الصفاتية إن إثبات العلو لله لا يوجب إثبات الجسمية بل ولا إثبات الكان وبناء ذلك على أن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوى وهذا قول أرسطو وأتباعه فهؤلاء يقولون مكان الإنسان هو باطن الهواء المحيط به وكل سطح باطن من الأفلاك فهو مكان للسطوح الظاهرة بما يلاقيه
ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسم باطن يحوي شيئا فلا مكان هناك على اصطلاحهم إذ لو كان هناك محوى لسطح الجسم لكان الحاوي جسما وإذا كان كذلك فالموجود هناك لا يكون في مكان ولا يكون جسما ولهذا قال فإذا إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم فالذي يمتنع وجود هناك هو موجود جسم لا وجود ما ليس بجسم
(6/243)
فقرر إمكان ذلك كما قرر إثباته كما ذكره من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس
والذي يمكن منازعوه من الفلاسفة أن يقولوا له لا يمكن أن يوجد هناك شيء لا جسم ولا غيره أما الجسم فلما ذكره وأما غيره فلانه يكون مشارا إليه بأنه هناك وما أشير إليه فهو جسم
وهذا كما يقوله المعتزلة للكلابية وقدماء الأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث كالتميميين وأمثالهم وأتباعهم فيقول ابن رشد لهم ما تقوله الكلابية للمعتزلة وهو أن وجود موجود ليس هو وراء أجسام العالم ولا داخل فيها إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا بطل قولكم وإن كان ممكنا فوجود موجود هو وراء أجسام العالم وليس بجسم أولى بالجواز لأنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه لا في العالم ولا خارجا عنه ولا يشار إليه وعرضنا عليه وجود موجود يشار إليه فوق العالم ليس بجسم كان إنكار العقل للأول
(6/244)
أعظم من إنكاره للثاني فإن كان الأول مقبولا وجب قبول الثاني وإن كان الثاني مردودا وجب رد الأول فلا يمكن منازعو هؤلاء أن يبطلوا قولهم مع إثباتهم لموجود قائم بنفسه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه
وما ذكره ابن رشد من أن هذه الصفة صفة العلو لم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله تعالى حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية كلام صحيح وهو يبين خطأ من يقول إن النزاع في ذلك ليس إلا مع الكرامية والحنبلية وكلامه هذا أصح مما زعمه ابن سينا حيث ادعى أن السنن الإلهية منعت الناس عن شهرة القضايا التي سماها الوهميات مثل أن كل موجود فلابدان يشار إليه فإن تلك السنن ليست إلا سنن المعتزلة والرافضة والإسماعيلية ومن وافقهم من أهل البدع ليست سنن الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين
وما نقله ابن رشد عن هذه الأمه فصحيح وهذا مم يرجح أن نقله لأقوال الفلاسفة أصح من نقل ابن سينا لكن التحقيق أن الفلاسفة في هذه المسألة على قولين وكذلك في مسألة ما يقوم بذاته من الأفعال وغيرها من الأمور للفلاسفة في ذلك قولان
(6/245)
والرازي إذ قال اتفق الفلاسفة فإنما عنده ما في كتب ابن سينا وذويه وكذلك الفلاسفة الذين يرد عليهم أبو حامد إنما هم هؤلاء
ولا ريب أن مسائل الإلهيات والنبوات ليس لأرسطو وأتباعه فيها كلام طائل أما النبوات فلا يعرف له فيها كلام وأما الإلهيات فكلامه فيها قليل جدا وأما عامة كلام الرجل فهو في الطبيعيات والرياضيات ولهم كلام في الروحانيات من جنس كلام السحرة والمشركين وأما كلامهم في واجب الوجود بنفسه فكلام قليل جدا مع ما فيه من الخطأ وهم لا يسمونه واجب الوجود ولا يقسمون الوجود إلى واجب وممكن وإنما فعل هذا بن سينا وأتباعه ولكن يسمونه المحرك الأول والعلة الأولى كما قد بسطت أقوالهم في موضع آخر
وعلم ما بعد الطبيعة عندهم هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه وتلك أمور كلية عامة مطلقة تتناول الواجب وغيره وبعض كلامهم في ذلك خطأ وبعضه صواب وغالبه تقسم لأجناس الجواهر والأعراض ولهذا كانوا نوعين نوعا نظارين مقسمين للكليات ونوعا متألهين بالعبادة والزهد على أصولهم أو جامعين بين الأمرين كالسهروردي المقتول وأتباع ابن سبعين وغيرهم
(6/246)
وأما كلامهم في نفس العلة الأولى فقليل جدا ولهذا كانوا على قولين منهم من يثبت موجودا واجبا مباينا للأفلاك ومنهم من ينكر ذلك وحجج مثبتي ذلك على نفاته منهم حجج ضعيفة وقدماؤهم كأرسطو كانوا يستدلون بأنه لا بد للحركة من محرك لا يتحرك وهذا لا دليل عليه بل الدليل يبطله
وابن سينا سلك طريقته المعروفة وهو الاستيدلال بالوجود على الواجب ثم دعواه أن الواجب لا يجوز أن يتعدد ولا تكون له صفة وهذه أيضا طريقة ضعيفة ولعلها أضعف من طريقة أولئك أو نحوها أو قريب منها
وإذا كان كلام قدمائهم في العلم بالله تعالى قليلا كثير الخطأ فإنما كثر كلام متأخريهم لما صاروا من أهل الملل ودخلوا في دين المسلمين واليهود والنصارى وسمعوا ما أخبرت به الأنبياء من أسماء الله وصفاته وملائكته وغير ذلك فأحبوا أن يستخرجوا من أصول سلفهم ومن كلامهم ما يكون فيه موافقة لما جاءت به الأنبياء لما رأوا في ذلك من الحق العظيم الذي لا يمكن جحده والذي هو أشرف المعارف وأعلاها فصار كل منهم يتكلم بحسب اجتهاده فالفارابي لون وابن سينا لون وأبو البركات صاحب المعتبر لون وابن رشد الحفيد لون والسهروردي المقتول لون وغير هؤلاء ألوان أخر
وهم في هواهم بحسب ما يتيسر لهم من النظر في كلام أهل
(6/247)
الملل فمن نظر في كلام المعتزلة والشيعة كابن سينا وأمثاله فكلامه لون ومن خالط أهل السنة وعلماء الحديث كأبي البركات وابن رشد فكلامه لون آخر أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من كلام ابن سينا
لكن قد يخفي ذلك على من يمعن النظر ويظن أن قول ابن سينا أقرب إلى المعقول كما يظن أن كلام المعتزلة والشيعة أقرب إلى المعقول من كلام الأشعرية والكرامية وغيرهم من أهل الكلام ومن نظار أهل السنه والجماعة ومن المعلوم بعد كمال النظر واستيفائه أن كل من كان إلى السنة وإلى طريقة الأنبياء أقرب كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد لا تتناقص وتتعارض
وما ذكره ابن رشد في اسم المكان يتوجه عند من يسلم له مذهب أرسطو وأن المكان هو السطح الداخل الحاوي المماس للسطح الخارج المحوى ومعلوم أن من الناس من يقول إن للناس في المكان أقوالا أخر منهم من يقول إن المكان هو الجسم الذي يتمكن غيره عليه ومنهم من يقول إن المكان هو ما كان تحت غيره وإن لم يكن ذلك متمكنا عليه ومنهم من يزعم أن المكان هو الخلاء وهو أبعاد
والنزاع في هذا الباب نوعان أحدهما معنوي كمن يدعى وجود مكان هو جوهر قائم بنفسه ليس هو الجسم وأكثر العقلاء ينكرون ذلك
(6/248)
والثاني نزاع لفظي وهو من يقول المكان ما يحيط بغيره ويقول آخر ما يكون غيره عليه أو ما يتمكن عليه
ولا ريب أن لفظ المكان يقال على هذا وهذا ومن هنا نشأ تنازع أهل الإثبات هل يقال إن الله تعالى في مكان أم لا وهذا كتنازعهم في الجهة والحيز لكن قد يقر بلفظ الجهة من لا يقر بلفظ الحيز أو المكان وربما أقر بلفظ الحيز أو المكان من لا يقر بالآخر وسبب ذلك إما اتباع ما ورد أو اعتقاد أن في أحد اللفظين من المعنى المردود ما ليس في الآخر
وحقيقة الأمر في المعن أن ينظر إلى المقصود فمن اعتقد أن المكان لا يكون إلا ما يفتقر إليه المتمكن سواء كان محيطا به أو كان تحته فمعلوم أن الله سبحانه ليس في مكان بهذا الاعتبار ومن اعتقد أن العرش هو المكان وأن الله فوقه مع غناه عنه فلا ريب أنه في مكان بهذا الاعتبار
فما يجب نفيه بلا ريب افتقار الله تعالى إلى ما سواه فإنه سبحانه غني عن ما سواه وكل شيء فقير إليه فلا يجوز أن يوصف بصفة تتضمن افتقاره إلى ما سواه وأما إثبات النسب والإضافات بينه وبين خلقه فهذا متفق عليه بين أهل الأرض وأما علوه على العالم ومباينته للمخلوقات فمتفق عليه بين الأنبياء والمرسلين وسلف الأمة وأئمتها وبين هؤلاء الفلاسفة كما ذكر ذلك عنهم ولكن آخرون من الفلاسفة ينازعون في ذلك
(6/249)
فصل
فهذا ونحوه بعض كلام رؤوس أهل الكلام والفلسفة في هذا الباب يبين خطأ من جعل النزاع في ذلك مع الكرامية والحنبلية ويبين أن أكثر طوائف العقلاء يقولون بالعلو وبامتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأما كلام من نقل مذهب السلف والأئمة فأكثر من أن يمكن سطره
قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له فأئمتنا كسفيان الثوري ومالك وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن ويد وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد ابن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خاف شيئا من ذلك فهو منهم برئ وهم منه براء
وأبو نصر هذا كان مقيما بمكة في أثناء المائة الخامسة
وقال قبله الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي أحد أئمة وقته بالأندلس في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول قال وأجمع
(6/250)
المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله { وهو معكم أين ما كنتم } سورة الحديد 4 ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء
وقال أيضا قال أهل السنة في قوله { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 أن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز
وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي الشيخ المشهور في كتاب الحجة له إن قال قائل قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من أتباع كتاب الله وسنة ورسوله وما أجمع عليه الأئمة والعلماء والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة فاذكر مذاهبهم وما أجمعوا من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم فالجواب أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيتهم وأخذت عنهم ومن بلغني قوله من غيرهم فذكر جمل اعتقاد أهل السنة وفيه أن الله مستو على عرشه بائن من خلقه كما قال في كتابه { أحاط بكل شيء علما } سورة الطلاق 12 { وأحصى كل شيء عددا } سورة الجن 28
(6/251)
وقال قبله الحافظ أبو نعيم الأصبهاني المشهور صاحب التصانيف المشهورة كحلية الأولياء وغيرها في عقيدته المشهورة عنه طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة فما اعتقدوه اعتقدناه فما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها ومن غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن عن خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سماواته من دون أرضه
وقال الشيخ أبو أحمد الكرخي الإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة في العقيدة التي ذكر أنها اعتقاد أهل السنة والجماعة وهي العقيدة التي كتبها للخليفة القادر بالله وقرأها على الناس وجمع الناس عليها وأقرتها طوائف أهل السنة وكان قد استتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وكان حينئذ قد تحرك ولاة الأمور لإظهار السنة لما كان الحاكم المصري وأمثاله من أئمة الملاحدة قد انتشر أمرهم وكان أهل ابن سينا وأمثالهم
(6/252)
من أهل دعوتهم وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السنة وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيصم فرجح ذلك ويقال إنه قال لابن فورك فلو أردت تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا أو قال فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحاق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسما ومن الناس من يقول إن السلطان لما ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السم حتى قتله وتناظر عنده فقهاء الحديث من أصحاب الشافعي وغيرهم وفقهاء الرأي فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجحه وغزا المشركين بالهند وهذه العقيدة مشهورة وفيها كان ربنا وحده ولا شيء معه ولا مكان يحويه فخلق كل شيء بقدرته وخلق العرش لا لحاجته إليه فاستوى عليه استواءاستقرار كيف شاء واراد لا استقرار راحة كما يستريح الخلق وهو يدبر السموات والأرض ويدبر ما فيهما ومن في البر والبحر لا مدبر غيره ولا
(6/253)
حافظ سواه يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم والخلق كلهم عاجزون الملائكة والنبيون والمرسلون وسائر الخلق أجمعين وهو القادر بقدرة والعالم بعلم أزلي غير مستفاد وهو السميع بسمع والبصير ببصر تعرف صفتهما من نفسه لا يبلغ كنههما أحد من خلقه متكلم بكلام يخرج منه لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها نبيه فهي صفة حقيقة لا صفة مجاز
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن الله في السماء على
(6/254)
العرش فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله بكل مكان
قال والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى وذكر عدة آيات إلى أن قال وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم
وقال أبو عمر أيضا أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } سورة المجادلة 7 هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله
(6/255)
وقال أيضا أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يجدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة ويزعم أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود بلاشون والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة ورسوله وهم أئمة الجماعة
قال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصبهاني أحد شيوخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة أحببت أن أوصى أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال
(6/256)
فيها وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول وأنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة لا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وأن الله سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر
قال ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول وتأول فهو مبتدع ضال
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة يعني في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار فقالوا أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا فكان من مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته
إلى أن قال وأن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علما
(6/257)
وقال الشيخ أبو محمد المقدسي إن الله وصف نفسه بالعلو في السماء ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة والأتقياء والأئمة من الفقهاء فتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين وجمع الله عليه قلوب المسلمين وجعله مغروزا في طباع الخلق أجمعين فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم وينتظرون مجيء الفرج من ربهم وينطقون بذلك بألسنتهم ولا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته
قال وأنا ذاكر في هذا الجزء بعض ما بلغني في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والأئمة المقتدين بسنته على وجه يحصل القطع واليقين بصحة ذلك عنهم ونعلم تواتر الرواية بوجوه منهم ليزداد من وقف عليه من المؤمنين إيمانا وننبه من خفى ذلك عليه حتى يصير كالمشاهد له عيانا
وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي لما ذكر اختلاف الناس في تفسير الاستواء قال وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخبار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات
(6/258)
وقال أيضا في كتابه الكبير في التفسير لما تكلم على آية الاستواء قال هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء وقد بينا أقوال العلماء فيها في شرح الأسماء الحسنى وذكرنا فيها أربعة عشر قولا وذكر قول النفاة من المتكلمين فقال وأنهم يقولون إذا وجب تنزيه الرب عن الحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه له تنزيه الرب عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان وحيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون ويلزم من ذلك التغير والحدوث
وذكر قول هؤلاء المتكلمين وقال قد كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف
(6/259)
الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء
وأما كلام السلف أنفسهم فأكثر من أن يمكن حصره فال أبو بكر النقاش صاحب التفسير والرسالة حدثنا أبو العباس السراج قال سمعت قتيبة بن سعيد يقول هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة أنبأ أبو بكر المروذي ثنا محمد بن الصباح النيسابوري ثنا سليمان بن داود أبو داود الخفاف قال قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال الله تعالى { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 إجماع أهل العلم أنه فوق العرش ويعلم كل شيء في أسفل الأرضين السابعة وفي قعور البحار وفي رواية وفي رؤوس الآجام وبطون الأودية وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السموات السبع وما دون العرش أحاط بكل شيء علما فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه ولا يعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره
(6/260)
وروى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة وعبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحق أنه ذكر عنده الجهمية فقال هم شر قولا من اليهود والنصارى قد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله فوق العرش وقالوا هو ليس عليه شيء
ورويا أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور وهو من هذه الطبقة قال أصحاب جهم يريدون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويريدون أن يقولوا ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا
وروى عبد الله بن أحمد عن عباد بن العوام الواسطي من تلك الطبقة قال كلمت بشر المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء
ورويا عن علي بن عاصم شيخ البخاري وغيره قال ناظرت جهميا فتبين من كلامه أنه لا يرى أن في السماء ربا
وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب قال سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء
وروى عبد الله وغيره عن أبيه أحمد بن حنبل ثنا شريح بن
(6/261)
النعمان سمعت عبد الله بن نافع الصائغ سمعت مالك بن أنس يقول الله في السماء وعلمه في كل مكان وروى هذا الكلام مالك مكي خطيب قرطبة فيما جمعه من تفسير مالك نفسه وكل هذه الأسانيد صحيحة
وروى أبو بكر البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال كنا نحن والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته
فقد ذكر الأوزاعي وهو أحد الأئمة في عصر تابعي التابعين الذي كان فيه مالك وابن الماجشون وابن أبي ذئب ونحوهم أئمة أهل الحجاز والليث بن سعد ونحوه أئمة أهل مصر والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ونحوهم أئمة أهل الكوفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمه ونحوهما أئمة أهل البصره وهؤلاء ونحوهم أئمة الإسلام شرقا وغربا في ذلك الزمن وقد حكى الأوزاعي عن شهرة القول بذلك في زمن التابعين وهم أيضا متطابقون على ما كان عليه التابعون كما ذكرنا قول مالك وحماد بن زيد وغيرهما
(6/262)
وقال أبو حنيفة في كتاب الفقه الأكبر المعروف المشهور عند أصحابه الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال قال أبو حنيفة عمن قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقال قد كفر لأن الله يقول { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 وعرشه فوق سبع سماوات قال أبو مطيع قلت فإن قال إنه على العرش ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض قال هو كافر لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل
وفي لفظ قال سألت أبا حنيفة عمن قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض قال قد كفر لأن الله يقول { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 وعرشه فوق سبع سموات
(6/263)
قال فإنه يقول على العرش استوى ولكنه لا يدري العرش في الأرض أم في السماء قال إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر
وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة عن عبد الله بن المبارك أنه قيل له بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما يقول الجهمية بأنه ههنا في الأرض
وممن ذكر هذا عن ابن المبارك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد
وهكذا قال الإمام أحمد وغيره
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة من لم يقل بأن الله فوق سماواته وأنه على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب والإ ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة وهذا معروف عنه رواه الحاكم في تاريخ نيسابور وأبو عثمان النيسابوري في رسالته المشهورة
وروى الخلال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة قال سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق وهذا
(6/264)
الكلام مروى عن مالك بن أنس صاحب ربيعة من وجوه متعددة يقول في بعضها الاستواء معلوم وفي بعضها غير مجهول وفي بعضها استواؤه غير مجهول فيثبت العلم بالاستواء وينفي العلم بالكيفية
وروى ابن أبي حاتم عن هشام بن عبيد الله الرازي أنه حبس رجلا في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال له أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال لا أدري ما بائن من خلقه قال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب بعد
وروى أيضا عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه جعل يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم ويقول لا حتى يقول الرحمن على العرش استوى بائن من خلقه
وعن جرير بن عبد الحميد الرازي أنه قال كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله
وجميع الطوائف تنكر هذا إلا من تلقى ذلك عن الجهمية كالمعتزلة ونحوهم من القلاسفة فأما العامة من جميع الأمم فلا يستريب اثنان في أن فطرهم مقرة بأن الله فوق العالم وأنهم إذا قيل لهم لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء ولا يحجب العباد عنه شيء ولا ترفع إليه الأيدي ولا تتوجه القلوب إليه طالبة له في العلو فإن فطرهم تنكر ذلك وإذا أنكروا هذا في هذه القضية
(6/265)
المعينة التي هي المطلوب فإنكارهم لذلك في القضايا المطلقة العامة التي تتناول هذا وغيره أبلغ وأبلغ وأما خواص الأمم فمن المعلوم أن قول النفاة لم ينقل عن نبي من الأنبياء بل جميع المنقول عن الأنبياء موافق لقول أهل الإثبات وكذلك خيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم ينقل عنهم إلا ما يوافق قول أهل الإثبات
وأول من ظهر عنه قول النفاة هو الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وكانا في أوائل المائة الثانية فقتلهما المسلمون وأما سائر أئمة المسلمين مثل مالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم فالكتب مملوءة بالنقل عنهم لما يوافق قول أهل الإثبات
وكذلك شيوخ أهل الدين مثل الفضيل بن عياض وبشر الحافي وأحمد بن أبي الحواري وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي والحارث المحاسبي ومحمد بن خفيف الشيرازي وغير هؤلاء
وكتب أهل الآثار مملوءة بالنقل عن السلف والأئمة لما يوافق قول أهل الإثبات ولم ينقل عن أحد منهم حرف واحد صحيح يوافق قول النفاة فإذا كان سلف الأئمة وأئمتها وأفضل قرونها متفقين على قول أهل الإثبات فكيف يقال ليس هذا إلا قول الكرامية والحنبلية
ومن المعلوم أن ظهور قول أهل الإثبات قبل زمن أحمد بن حنبل كان أعظم من ظهوره في هذا الزمان فكيف يضاف ذلك إلى أتباعه
(6/266)
وأيضا فعبد الله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وأبو الحسن بن مهدي الطبري وعامة قدماء الأشعرية يقولون إن الله بذاته فوق العرش ويردون على النفاة غاية الرد وكلامهم في ذلك كثير مذكور في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على بطلان ما يعارض به النفاة من الحجج العقلية وأما النفي فلم يكن يعرف إلا عن الجهمية كالمعتزلة ونحوهم ومن وافقهم من الفلاسفة وإلا فالمنقول عن أكثر الفلاسفة هو قول أهل الإثبات كما نقله ابن رشد الحفيد عنهم وهو من أعظم الناس انتصارا لهم وسلوكا لطريقتهم لا سيما لأرسطو وأتباعه مع أنه يميل إلى القول يقدم العالم أيضا
الوجه الثاني من أجوبة قوله لو كان بديهيا لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره وهم ما سوى الحنابلة والكرامية
هو أن يقال لم يطبق على ذلك إلا من أخذه بعضهم عن بعض كما أخذ النصارى دينهم بعضهم عن بعض وكذلك اليهود والرافضة وغيرهم
فأما أهل الفطر التي لم تغير فلا ينكرون هذا العلم وإذا كان كذلك فأهل المذاهب الموروثة لا يمتنع إطباقهم على حجد العلوم البديهية فإنه
(6/267)
ما من طائفة من طوائف الضلال وإن كثرت إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية
الوجه الثالث أن يقال ما من طائفة من طوائف الكلام والفلسفة إلا وجمهور الناس يقولون إنهم حجدوا العلوم الضرورية
فالقائلون بأن الممكن قد يترجح أحد طرفيه بلا مرجح من القادر أو غيره يقول جمهور العقلاء إنهم حجدوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن الأجسام لا تبقى والأعراض لا تبقى يقول جمهور الناس إنهم جحدوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن الأصوات المتعاقبة تكون قديمة أزلية الأعيان باقية وأن الأصوات المسموعة من الآدميين هي قديمة يقول جمهور العقلاء إنهم خالفوا العلم الضروري
والقائلون بأن الكلام هو معنى واحد هو الأمر بكل ما أمر به والخبر عن كل ما أخبر به وأنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة يقول جمهور العقلاء إنهم حجدوا العلم الضروري
والقائلون بأن العالم هو العلم والمعلوم والعاقل هو العقل والمعقول والعاشق هو العشق والمعشوق واللذة هي الملتذ والعلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة يقول جمهور العقلاء إنهم خالفوا العلوم الضرورية
(6/268)
والقائلون بأن الوجود الواجب وجود مطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط يقول جمهور العقلاء إنهم خالفوا العلوم الضرورية
والقائلون بأن النفس لا تدرك إلا الكليات دون الجزئيات يقول جمهور العقلاء إنهم خالفوا العلم الضروري
والقائلون بأن كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمسة وأن الصوت يرى والطعم يسمع واللون يشم يقول جمهور العقلاء إنهم خالفوا العلم الضروري
والقائلون بأنه يحدث إرادة لا في محل أو يحدث فناء لا في محل يقول جمهور العقلاء إن فساد قولهم معلوم بالضرورة والقائلون بأن افرادة تحدث في الإنسانت من غير سبب يوجب حدوثها مما يقول جمهور العقلاء إن فساد قولهم معلوم بالضرورة
والقائلون بأنه حي عليم قدير من غير حياة ولا علم ولا قدرة مما يقول جمهور العقلاء إن فساد قولهم معلوم بالضرورة
والقائلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على على بالخلافة نصا جليا اشاعه بين المسلمين فكتموه ولم يظهروه يقول جمهور العقلاء إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة
والقائلون بأن للأمة إماما معصوما عمره سنتان أو ثلاث أو أربع دخل السرداب من أكثر من أربعمائة سنة أو أن عليا لم يمت
(6/269)
وأمثال ذلك يقول جمهور الناس إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة
وكذلك قول القائلين بأن الأعراض لا تبقى زمانين مما يقول جمهور العقلاء إن فساده معلوم بالضرورة
وكذلك من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمى المنافقين مؤمنين ويجعل إيمانهم كإيمان المؤمنين غير المنافقين وهم مع ذلك مخلدون في النار مما يعلم جمهور المسلمين فساده بالاضطرار من دين الإسلام
وكذلك القائلون بأن القرآن العزيز زيد فيه زيادات ونقص منه أشياء مما يعلم بالضرورة امتناعه في العادة
وقول النصارى إن الكلمة اتحدث بالمسيح وإنها ليست هي الآب الجامع للأقانيم وهي مع ذلك الرب الذي يخلق ويرزق وهي جوهر والجوهر عندهم واحد ليس إلا الآب مما يقول الناس إنه معلوم الفساد بالضرورة
ومثل هذا إذا تتبعناه كثير
فوجود الأقوال التي يقول جمهور الناس إنها معلومة الفساد بالضرورة في قول طوائف كثيرة من الناس أكثر من أن تستوعب فكيف يقال لا يجوز إطباق الجمع الكثير على إنكار ما علم بالبديهة
(6/270)
ولكن إذا قيل ما الفرق بين هذا وبين ما لا يمكن التواطؤ عليه من إثبات منف أو نفي ثابت كما في خبر أهل التواتر
كان الجواب أن الفطر التي لم تتواطأ يمتنع اتفاقها على حجد ما يعلم باليديهة فأما مع المواطأة فلا يمتنع اتفاق خلق كثير على الكذب الذي يعلمون كلهم أنه كذب وإن تضمن من حجد الحسيات والضروريات وإثبات نقيضها ما شاء الله وأما في المذاهب فقد يجتمع على حجد الضروريات جمع كثير إذا كان هناك شبهة أو هوى فيكون عامتهم لم يفهموا ما قاله خاصتهم مثل التعبير عن هذا المسألة بنفى الجهة والحيز والمكان فيظن عامتهم أن مرادهم تنزيه الله تعالى عن أن يكون محصورا في خلقه أو مفتقرا إلى مخلوق فيوافقون على هذا المعنى الصحيح ظانين أنه مفهوم تلك العبارة فأما إذا فهموا هم حقيقة قولهم وهو أنه ما فوق السموات رب ولا وراء العالم شيء موجود فهذا لا يوافقهم عليه بعد فهمه أحد بفطرته وإنما يوافقهم عليه من قامت عنده شبهة من شبه النفاة لا سيما إن كان له هوى وغرض
وإذا كان المتفقون على هذا النفي بعد فهمه إنما قالوه لما قامت عندهم من حجج النفاة أمكن غلطهم في ذلك وخطؤهم واتفاقهم على حجد ما يخالف ذلك وإن كان معلوما بالضرورة كما
(6/271)
وقع مثل ذلك في عامة فرق أهل الضلال ومع هذا فلا يكاد يوجد منهم من يرجع إلى فطرته بلا هوى إلا وفطرته تنكر إثبات موجود لا مباين ولا محايث لكن يقهر فطرته بالشبهة أو العادة أو التقليد كما يقهر النصراني فطرته إذا أنكرت أن يكون الله هو المسيح بن مريم
وعامة هؤلاء إذا أصابت أحدا منهم ضرورة تلجئه إلى دعاء الله وجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ففطرته وضرورته تقر بالعلو وينكر وجود موجود لا محايث ولا مباين وعقيدته التي اعتقدها تقليدا أو عادة أو شبهة تناقض فطرته وضرورته
الوجه الرابع أن يقال هذا معارض بما هو أبلغ منه فإن الجموع الكثيرة يقولون إنهم يجدون في أنفسهم عند الضرورة معنى يطلب العلو في توجه قلوبهم إلى الله ودعائه وأنه يمتنع في عقولهم وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأن هذا معلوم لهم بالضرورة فإن امتنع القاف الجمع العظيم على مخالفة البديهة فتجب الحجة المثبتة فيبطل نقيضها وإن لم تمتنع بطلت حجة النفاة فيثبت بطلانها على التقديرين فصل
وأما الوجه الثاني فقوله إن مسمى الإنسان المشترك بين الأشخاص ممتنع أن يكون له قدر معنى وحيز معنى وما أوردوه من أن
(6/272)
هذا لا وجود له إلا في العقل وأن النزاع في الموجودات الخارجية وجوابه بأن الغرض تعقل أمر لا يثبت العقل له جهة ولا قدرا وهذا يمنع كون تلك المقدمة بديهية
فجوابه من وجوه
أحدها أن المثبتين إنما ادعوا أنه لا يوجد في الخارج موجودان إلا ولا بد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا له وأما ما في النفس من العلوم الكلية فلم ينفوه ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون العلوم الكلية ثابتة في النفس إمكان ثبوتها في الخارج وإذا لو يلزم ذلك إمكان وجود موجود في الخارج لا محايث للآخر ولا مباين له
وأما قوله المقصود أنه ممكن تعقل أمر لا يثبت له العقل جهة ولا قدرا
فيقال بتقدير صحة ذلك هذا يفيد إمكان تعقل ثبوته في النفس لا يفيد إمكان تعلقه في الخارج فمورد النزاع لا دليل عليه وما أثبته ليس مورد النزاع
الوجه الثاني أن يقال هذه المعاني الكلية هي كلية باعتبار مطابقتها لمفرداتها كما يطابق اللفظ العام لأفراده وأما هي في نفسها
(6/273)
فأعراض معينة كل منها عرض معين قائم فى نفس معينة كما يقوم اللفظ المعين بالفم المعين والخط المعين بالورق المعين فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى الذهني والمعنى يطابق الموجود الخارجي وكل من تلك الثلاثة قد يقال له عام وكلي ومطلق باعتبار شموله للأعيان الموجودة في الخارج وأما هو في نفسه فشيء معين مشخص
وإذا كان كذلك فالإنسان المطلق من حيث هو الذي تصوره الذهن هو علم وعرض معين في محل معين فإذا قدر أن محل العلم وغيره من صفات الإنسان كالحب والرضا والبغض وغير ذلك مما يشار إليه إشارة حسية كما يقوله جمهور الخلق كانت الإشارة إلى ما فيه من الأعراض كالإشارة إلى كل عرض قائم بمحله وحينئذ فإذا كان المشار إليه حسيا له قدر معين وحيز معين فلمحل الصور الذهينة قدر معين وحيز معين وله أيضا جهة
والكليات الثابتة في النفس كالجزئيات الثابتة فيها فالنفس تعلم الإنسان المطلق والإنسان المعين والإشارة إلى أحدهما كالإشارة إلى الآخر فلا فرق حينئذ بين تصور الإنسان المشترك الكلي والإنسان المعين الجزئي من هذه الجهة لكن أحدهما لا يوجد إلا في النفس والآخر يوجد في الخارج ويوجد تصورة في النفس
والوجه الثالث أن يقال هذه الماهية المطلقة من حيث هي هي
(6/274)
إما أن يقال هي ثابتة في الخارج وإما أن لا يقال هي ثابتة في الخارج فإن من الناس من يقول بثبوت الماهيات المجردة منفردة عن الأعيان كالقائلين بالمثل الأفلاطونية
ومن الناس من يقول بثبوتها مقارنة للمعينات والمطلق بجزء من المعين ويقولون المطلق لا بشرط موجود في الخارج وأما المطلق بشرط الإطلاق فليس موجودا في الخارج ويسمون المطلق لا بشرط الكلي الطبيعي والمطلق بشرط الإطلاق هو العقلي وكونه كليا ومطلقا هو الكلي المنطقي إذ العقل عندهم مركب من الطبيعي والمنطقي فيقول الإنسان من حيث هو مع قطع النظر عن جميع قيوده هو الطبيعي وكونه عاما وكليا ومطلقا هو المنطقي والمؤلف منهما هو العقلي
وآخرون يقولون ليس في الخارج ما هو كلي في الخارج أصلا بل ليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص ولكن ما كان في النفس كليا يوجد في الخارج ولا يوجد في الخارج إلا معينا
فإذا قيل الكلي الطبيعي موجود في الخارج وأريد به أن الطبيعة التي يجردها العقل كلية توجد في الخارج ولا توجد فيه إلا معينة فهذا صحيح وإذا قيل إن الطبيعة الكلية مع كونها كلية توجد في الخارج أو أن الكلي الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه جزء من المعين الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه أو أن هذا الإنسان المعين مركب من جوهرين أحدهما حيوان والآخر ناطق أو من عرضين حيوانية وناطقية أو نحو هذه المقالات هذا كله
(6/275)
باطل وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يقال هذه الكليات إما أن يقال إنها ثابتة في الخارج وأما أن لا يقال فإن لم يقل بذلك لم يكن فيها حجة على إمكان وجود موجود في الخارج لا يشار إليه وإذا قيل بثبوتها في الخارج فمن المعلوم أن هذا ليس من العلوم البديهية الأولية بل لم يقل هذا إلا طائفة من أهل المنطق اليوناني وهم متناقضون في ذلك ويقولون القول ويقولون ما يناقضه وبعضهم ينكر على بعض إثبات ذلك
وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل مثل هذه القضية مقدمة في إبطال قضية اعترف بها جماهير الأمم واعترفوا بأنها مركوزة في فطرهم مغروزة في أنفسهم وأنهم مضطرون إليها لا يمكنهم دفعها عن أنفسهم
لكن طائفة منهم تقول إنها مع هذا خطأ لاعتقادهم أنها وإن كانت ضرورية في فطرتهم ففطرتهم تسلم مقدمات تنتج نقيضها وهؤلاء لا ينازعون أنها فطرية مبتدأة في النفوس ولكن يقدحون فيها بطرق نظرية
فإذا قال لهم المثبتون نحن لا نقبل القدح في القضايا المبتداة في النفس بالقضايا النظرية أو قالوا نحن لا نسلم لكم المقدمات التي تستدلون بها على نقيض هذه القضايا كما لا نسلم لكم ثبوت الكليات في الخارج ونحو ذلك ظهر انقطاع المعارض لهم وأنهم يريدون دفع القضايا الضرورية بمجرد الدعاوي الوهمية الخيالية
(6/276)
فصل
وأما الوجه الثالث فقوله إن الخيال والوهم لا يمكنهما أن يستحضرا لأنفسهما صورة وشكلا ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى
فهذه الحجة من جنس حجة ابن سينا على ذلك فإنه قال في إشاراته في الحجة الثانية لو كان كل موجود بحيث يدخل في الوهم والحس لكان الحس والوهم يدخل في الحس والوهم ولكان العقل الذي هو الحكم الحق يدخل في الوهم ومن بعد هذه الأصول فليس شيء من العشق والخجل والوجل والغضب والشجاعة والجبن مما يدخل في الحس والوهم وهي من علائق الأمور المحسوسة فما ظنك بموجودات إن كانت خارجة الذوات عن درجة المحسوسات وعلائقها
وجواب ذلك من وجوه
أحدهما أن يقال الوهم والخيال والقوة الباصرة وغير ذلك من
(6/277)
القوى هي من باب الأعراض الباطنة في الإنسان وكذلك العشق والخجل والوجل ونحوها
ومن المعلوم أن أحدا لم يقل إن كل عرض له شكل وصورة وأنما غاية من يقول ذلك أن يقوله في الجسم القائم بنفسه لا في العرض بل الأعراض الظاهرة المشهودة كالألوان والحركات والطعوم والروائح ليس لها في أنفسها شكل وصورة قائمة بنفسها فكيف بالأعراض الباطنة
فإن قال بل هذه لها صورة وشكل إما باعتبار محلها وصورتها وشكلها بحسب الجسم الذي قامت به أو بجعل نفس العرض القائم بالجسم له صورة وشكل
يقال وهذا يمكن أن يقال في الأعراض الباطنة القائمة بباطن الإنسان كحسه الباطن وتوهمه وتخيله القائم بدماغه ونفسه ونحو ذلك فإن هذه أعراض قائمة ببعض بدن الإنسان وبروحه التي هي النفس الناطقة أو بهما وذلك جسم له شكل وصورة فلها من الشكل والصورة من جنس ما للطعم واللون والحركات
الوجه الثاني أن هذه الأمور إما أن تكون قائمة بنفسها وإما أن تكون قائمة بغيرها فإن قال هي قائمة بنفسها مثل أن يريد
(6/278)
بالوهم والخيال الروح الباطن في الدماغ الذي تقوم به هذه القوى أو جسما آخر فمعلوم أن ذلك له ما لغيره من الأجسام من الشكل والصورة وإن كانت قائمة بهذه الأجسام فلها حكم أمثالها من الأعراض القائمة بالأجسام
فعلى التقديرين لم يثبت بذلك إمكان وجود موجود لا جسم ولا قائم بجسم فضلا عن أن يثبت وجود ما ليس في جهة وما لا يمكن الإشارة إليه
وهكذا القول في الخجل والوجل وسائر الأعراض النفسانية
فإن قال هذه الأعراض عندي قائمة بالنفس الناطقة وتلك ليست جسما ولا قوة في جسم ولا يمكن الإشارة إليها وليست داخل السموات والأرض ولا خارج السموات والأرض ولا تصعد ولا تنزل ولا تتحرك ولا تسكن
فيقال له هذا منتف في التخيل والتوهم ونحو ذلك مما يعرف بأن محله قائم بنفسه وهو جسم
ثم يقال إن ثبت ما تقوله في النفس الناطقة كان ذلك حجة في إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه وإن لم يثبت ذلك لم يكن في مجرد الدعوى حجة لك في إثبات موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه وقال لك المنازع جميع هذه الأعراض عندي يمكن الإشارة إليها بالإشارة إلى محلها كما يشار إلى غيرها من الأعراض ويمكن الإحساس بها وإن كنت الآن لا أحس بها كما لا أحس ببعض أعضاء بدني الباطنة والظاهرة
(6/279)
وأهل الملل يعلمون أن الملائكة والجن موجودون في الخارج وجمهور العباد لا يحسون بهم والعقلاء لا يرتابون في إمكان أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشاهده نحن الآن وهذا معلوم بالضرورة
الوجه الثالث أن يقال المثبتون قالوا إنه لا يمكن وجود موجودين إلا أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له أو قالوا لا يمكن وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه أو لا يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك فهذه قضية كلية لا تبطل إن قبلت البطلان إلا بثبوت نقيضها
وقول القائل إن الخيال والوهم لا يمكنهما أن يستحضرا لأنفسهما صورة ولا شكلا ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى كلام أجنبي لا يقدح في مقصودهم سواء كان حقا أو باطلا إلا أن يثبت أن ما لا يمكن الوهم والخيال أن يثبت له صورة وشكلا لا يمكن الإشارة إليه بل يكون لا محايثا لغيره ولا مباينا له ونحو ذلك
ومعلوم أن هذا باطل فإن القوة الباصرة وغيرها من القوى قائمة بالجسم يشار إليها كما يشار إلى كل عرض قائم بجسم وهي محايثة لمحلها كما تحايث الأعراض للجواهر وتحايث سائر الأرض القائمة لمحلها كما يحايث العرض العرض فليست خارجه عن المباينة والمحايثة فلم يكن في إثبات ذلك ما يناقص دعواهم الكلية التي قالوا إنها معلومة بالضرورة 281
الوجه
(6/280)
الرابع أن يقال قول القائل إن الوهم والخيال والقوة الباصرة وغيرها من القوى والعشق والخجل والوجل والغضب والشجاعة لا تدخل في الحس والوهم والخيال إما أن يعنى به لا يمكن الإنسان أن يحس هذه الأمور أو لا يمكن الإحساس بها بحال
فإن أراد الأول لم يكن فيه حجة
وإن أراد الثاني منعه المنازع وقال بل هذا مما يمكن الإحساس به وطالبه بالدليل على أنه لا يمكن الإحساس به
الوجه الخامس أن يقال حكم الإنسان بأن هذه الأعراض والقوى أو النفس الحاملة لها لا يتصور أن تحس بها أضعف من حكمه بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له وبأن كل موجود قائم بنفسه مشار إليه ونحو ذلك
بل يقال بأن العاقل إذا رجع إلى فطرته وقيل له هل يمكن أن يخلق الله في الإنسان قوة يحس بها إما بالمشاهدة وإما باللمس وإما بغير ذلك ما في باطن غيره من القوى والأعراض ومحل ذلك وعرض على فطرته وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه كان جزمه بامتناع هذا أقوى من جزمه بامتناع الأول
فإذا كان كذلك لم يمكن أن يجزم بامتناع الأول ويجعل امتناعه دليلا على إمكان الثاني
(6/281)
وأما الوجه الرابع فقوله العقل يتصور النفي والإثبات ثم يحكم بتناقضهما مع أنه لا يحكم بكون إحداهما ساريا في الآخر أو مباينا عنه في الجهة
فجوابه من وجوه
أحدها أن ما يتصوره العقل من النفي والإثبات إما أن يكون معينا أو مطلقا فإن كان إثبات معين ونفيه كان تصوره تبعا لذلك المعين فإذا كان ذلك المعين محايثا لغيره أو مباينا كان تصوره كذلك فإذا كان العقل يجزم بانتفاء وجود موجودين لا متباينين لا متحايثين نفى الثالث وإن تصور النفي المطلق والإثبات المطلق كان هذا من القضايا العامة الكلية والكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان وقد تقدم أن الكلام إنما هو في الوجود الخارجي لا الذهني
الثاني أن يقال لا نسلم أنه لا يحكم بكون أحدهما محايثا للآخر بل تصوره للنفي والإثبات محله الذهن وتصور أحدهما هو حيث هو تصور الآخر ولا نعني بالمحايثة إلا هذا
الوجه الثالث أن يقال هو عبر عن قول هؤلاء بعباة لا يقولونها فإنهم لا يقولون إن كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما ساريا في الآخر أو مباينا عنه فإن الأعراض المجتمعة في محل واحد ليس كل منها مباينا للآخر ولا يقال إن العرض سار في العرض بل يقال إن الأعراض سارية في المحل اللهم إلا أن يعبر معبر بلفظ
(6/282)
السريان عن كون أحد العرضين بحيث هو الآخر فإن هذا قد يسمى محايثة ومداخلة ومجامعة ونحو ذلك وإذا كان كذلك فتصور النفي وتصور الإثبات يجتمعان كما تجتمع سائر التصورات والتصورات محلها كلها محل العلم من الإنسان وهذه كلها متحايثة متجامعة قائمة بمحل واحد
وأما الوجه الخامس فقوله إن البديهية حاكمة بأن كل موجودين فإما أن يكون أحدهما ساريا عنه أو مباينا عنه في الجهة أو لا ساريا ولا مباينا ثم إنا نجد العقل متوقفا عن القسم الثالث إلا لبرهان يثبته أو ينفيه
فجوابه من وجوه
أحدها أن يقال مجرد تقدير الذهن للأقسام لا يدل على إمكانها في الخارج فإنه يقدر أن الشيء إما موجود وإما معدوم وإما لا موجود ولا معدوم وأن الموجود إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا وإما أن يكون لا واجبا ولا ممكنا وأنه إما قديم وإما محدث وإما قائم بنفسه أو بغيره أو لا قائم بنفسه ولا بغيره وأمثال ذلك من التقديرات ثم لم يكن هذا دليلا على إمكان كل هذه الأقسام في الخارج
(6/283)
فكذلك تقديره لأن الشيء إما محايث وإما مباين وإما غير محايث ولا مباين لا يدل على إمكان كل من الأقسام في الخارج
الثاني أن يقال القوم لا يقولون إما سارى وإما مباين ولكن يقولون إما أن يكون مباينا له وإما أن يكون محايثا له أي بحيث هو سواء كان ساريا فيه سريان الصفة في الموصوف وإما أن يكونا جميعا ساريين في موصوف واحد كالحياة والقدرة القائمة لموصوف واحد
وحينئذ فلا يسلم توقف العقل عن نفي القسم الثالث فإن من يقول أنا أعلم بالضرورة أن الموجودين إما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين يجزم بانتفاء موجود لا يكون مباينا للموجود الآخر ولا محايثا له
الوجه الثالث أن يقال القسم الثالث إما أن يقول إنه ممكن إمكانا ذهنيا أو خارجيا والإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع والثاني معناه العلم بالإمكان في الخارج
وهو قد فسر مراده بالأول وهو عدم العلم حتى يقوم دليل وحينئذ فيقال مجرد الإمكان الذهني وهو عدم العلم بالامتناع لا يدل على الإمكان الخارجي ولا العلم به وإنما غايته أن يقول إني لا أعرف إمكانه ولا امتناعه والمدعي يقول أنا اعلم امتناعه بالضرورة وقد ذكرنا أنهم طوائف متفرقون اتفقوا على ذلك من غير مواطأة وذلك يقتضي أنهم صادقون فيما يخبرون به عن فطرهم
(6/284)
ومعلوم أن العلوم الضرورية لا يقدح فيها نفي النافي لها فكيف يقدح فيها شك الشاك فيها
والجواب الرابع أن يقال لا نسلم توقف العقل بعد التصور التام بل لا يتوقف إلا لعدم التصور أو لوجود ما يمنع من الحكم لظن أو هوى كسائر المنازعين في القضايا الضرورية من أهل الجحود والتكذيب
ومعلوم أن هؤلاء كثيرون في بني آدم فإن الله قد أخبر عن قوم فرعون أنهم حجدوا بآياته واستيقنتها أنفسهم
وقال تعالى عن اليهود { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } سورة البقرة 146 وقال تعالى { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } سورة البقرة 75
وقال عن المشركين { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } سورة الأنعام 33 وقال موسى لفرعون { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } سورة الإسراء 102
وقد أخبر عن كذب طوائف وإذا كان كثير من الطوائف يتعمدون الكذب والتكذيب بما يعلمون أنه حق وهذا جحد لما علموه وتيقنوه علم أن في الطوائف من قد يتفقون على حجد ما يعلمونه وكل طائفة
(6/285)
جاز عليها المواطأة على الكذب جاز عليها ذلك ويجوز أيضا أن يشبته عليها الحق بالباطل حتى تجحد ما هو حق في نفسه لاشتباهه عليها وإن كان معلوما بالضرورة عند غيرها فإنه إذ جاز تعمد الكذب عليهم فجواز الخطأ عليهم أولى
ومعلوم أن الحس قد يغلط والعقل قد يغلط فيجوز على الطائفة المعينة غلط حسهم أوعقلهم وإذا كانت المعاني دقيقة وفيها ألفاظ مجملة وقد ألقى بعضهم إلى بعض أن هذه القول باطل وكفر أمكن أن لا يتصوروه على وجهه وإن كان غيرهم يتصوره لسلامته من الهوى ومن الاعتقاد المانع من ذلك
وأما قوله في الوجه السادس إن العقل يدرك ماهيات كمراتب الأعداد مع أنه لا يمكنه أن يحكم على كل واحدة منها بأن موضعها كذا أو مقدارها كذا
فجوابه من وجوه
أحدها ما أجاب به بعض أصحابهم حيث قال هذا لا يرد عليهم لأن الأعداد أمور ذهنية والكلام في أمور خارجية
الوجه الثاني أن يقال العدد مع المعدود والتقدير مع المقدر
(6/286)
كالحد مع المحدود والاسم مع المسمى والعلم مع المعلوم ونحو ذلك فالعلم والقول والعدد والحد الذي هو القول الدال والتقدير ونحو ذلك هي قائمة بالعالم القائل العاد الحاد المقدر وإذا كان العدد هو معنى يقوم بالعاد كان حكمه حكم سائر ما يقوم بالإنسان من هذه الأمور وموضع ذلك نفس الإنسان وأما مقدارها فهو تابع محلها كأمثالها من الأعراض
الوجه الثالث أن يقال هذه الأعداد هي من جملة الكليات والقول فيها كالقول في كليات الأنواع ومن المعلوم أن أصحاب فيثاغورس لما أثبتوا عددا مجردا قائما بنفسه أنكر ذلك عليهم جماهير العقلاء من إخوانهم وغيرهم وكانوا أضعف قولا من أصحاب أفلاطن الذين أثبتوا الحقائق المجردة الكلية قائمة بأنفسها التي يسمونها المثل الأفلاطونية
فإذا كان قد تقدم بطلان حجة من احتج بكليات الحقائق فبطلان حجة من احتج بكليات العدد أولى وأحرى فصل
قال الرازي وإذا عرفت ذلك فنقول المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك والعالم مختص بالجهة والمكان بهذا المعنى فإن كان الباري
(6/287)
كذلك كان مماسا للعالم أو محاذيا له قطعا ثم قول أكثر الكرامية إنه مختص بجهة فوق مماس للعرش أو مباين عنه ببعد متناه وقالت الهيصمية هو مباين عن ببعد غير متناه
فيقال الناس لهم في هذا المقام أقوال منهم من يقول هو نفسه فوق العرش غير مماس ولا بينه وبين العرش فرجة وهذا قول ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي والأشعري وابن الباقلاني وغير واحد من هؤلاء وقد وافقهم على ذلك طوائف كثيرون من أصناف العلماء من أتباع الأئمة الأربعة وأهل الحديث والصوفية وغيرهم
وهؤلاء يقولون إنه بذاته فوق العرش وليس بجسم ولا هو محدود ولا متناه
ومنهم من يقول هو نفسه فوق العرش وإن كان موصوفا بقدر له لا يعلمه غيره ثم من هؤلاء من لا يجوز عليه مماسة العرش ومنهم من يجوز ذلك وهذا قول أئمة أهل الحديث والسنة وكثير من أهل الفقه والصوفية والكلام غير الكرامية فأما أئمة أهل السنة والحديث
(6/288)
وأتباعهم فلا يطلقون لفظ الجسم نفيا ولا إثباتا وأما كثير من أهل الكلام فيطلقون لفظ الجسم كهشام بن الحكم وهشام الجواليقي وأتباعهما
قال الرازي لنا وجوه الأول لو كان مشارا إليه فإن لم ينقسم كان في الحقارة كالجوهر الفرد وتعالى عنه وفاقا وإن انقسم كان مركبا وقد سبق بطلانه
قال وعبر أصحابنا عن هذا بأنه لو كان العرش فإن كان أكبر منه أو مثله كان منقسما لكون العرش منقسما وإن كان أصغر فإن بلغ إلى صغر الجوهر الفرد جاءت الحقارة المنزه عنها وفاقا وإلا لزم التركيب ثم قال بأن كل متحيز قابل للقسمة كفاه أن يقول كل متحيز فإنه يمينه غير يساره وقدامه غير خلفه ولزم التركيب
فيقال الاعتراض على هذا من وجوه
أحدها قول من يقول هو فوق العرش وليس بمنقسم ولا متحيز ولا له يمين ولا يسار يتميز منه بعضه عن بعض كما يقول ذلك من يقوله من الكلابيه والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث والصوفية الذين يقولون هو فوق العرش وليس بجسم
(6/289)
كالتميميين والقاضي أبي يعلى وأتباعه كابن الزاغوني وغير ذلك وكما يقول ذلك من يقوله من الفلاسفة كما حكاه ابن رشد عن الحكماء كما تقدم بعض ذلك
وهؤلاء خلق كثيرون فإن هؤلاء يقولون لا نسلم أنه إذا لم ينقسم كان كالجوهر الفرد ويقولون لا نسلم أنه يلزم أنه يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا فإن هذه الأقسام الثلاثة إنما تلزم إذا كان جسما متحيزا محدودا فإذا كان فوق العرش وليس بجسم مقدر محدود لم يلزم لا هذا ولا هذا مع أنه مشار إليه
فإن قال النفاة فساد هذا معلوم بالضرورة فإنا نعلم بالضرورة أن ما كان فوق غيره فإما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه أو بقدره ونعلم أنه يتميز منه جانب عن جانب وهذا هو الانقسام
قال لهم المثبتة تجويز هذا أقرب إلى العقل من تجويز وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه وتجويز وجود موجودين ليس أحدهما محايثا للآخر ولا مباينا له وأنتم تقولون إن الحكم بكون الشيء أكبر من غيره وأصغر ومساويا وأنه مباين له ومحايث له ومشار إليه ونحو ذلك هو من حكم الوهم التابع للحس وتقولون إن حكم الوهم لا يقبل في غير الأمور الحسية وتزعمون أن الكلام في صفات الرب تعالى من هذا الباب
فيقال لكم إن كان مثل هذا الحكم غير مقبول لم يقبل حكمكم
(6/290)
بأنه إما أكبر وإما أصغر وإما مساو فإن هذا حكم على ذوات المقدار فإذا قدر ما لا مقدار له وهو فوق غيره لم يلزمه شيء من الأقسام الثلاثة وإن كان مثل هذا الحكم مقبولا لزم الحكم بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا له
ومن المعلوم بضرورة العقل أنا إذا عرضنا على العقل أو الوهم أو الخيال أو الحس أو ما شئت فقل قولين أحدهما يتضمن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه والآخر يتضمن إثبات موجود خارج العالم ليس بجسم ولا منقسم ولا يكون أكبر من العالم ولا أصغر كان إنكار العقل إن أنكر القولين للأول أعظم وتجويزه إن جوز القولين للثاني أعظم
فإن ادعى المدعى أن فساد قول من يثبت موجودا خارج العالم لا أكبر ولا أصغر ولا مساويا معلوم بالضرورة
قيل له وفساد قول من يثبت موجودا لا داخل العالم ولا خارجه وهو معلوم بالضرورة بطريق الأولى وقد تقدم بيان قول من يقول إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة وإن المنازعين له يقولون هذا حكم الوهم لا حكم العقل فهكذا يقول هؤلاء إن قولكم هذا فاسد من حكم الوهم لا من حكم العقل
ولك هؤلاء النفاة فيهم جهل وظلم فإنهم يحتجون على منازعيهم بحجة هي لهم ألزم ويثبتون قولهم بحجة هي على قول منازعيهم أدل وهذا القول مع أنه أقرب إلى العقل فهو أقرب إلى السمع فإن صاحبه لا يحتاج أن يتأول النصوص المثبتة للعلو والفوقية والاستواء
(6/291)
فيكون قوله أقرب إلى اتفاق الشرع والعقل وأقرب إلى الشرع منفردا وأقرب إلى العقل منفردا فيكون أرجح من قولهم على كل تقدير
وهكذا هو عند أهل الإسلام فإن الكلابية والكرامية والأشعرية أقرب إلى السنة والحق من جهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم باتفاق جماهير المسلمين وعوامهم
الجواب الثاني أنه يقال له ما تعنى بقولك إن كل مشار إليه فإما أن ينقسم أو لا ينقسم أتعني بالانقسام إمكان تفريقه وتجزئته وتبعضه أم تعني به أن كل مشار إليه إذا لم يكن بقدر الجوهر الفرد فإنه يكون مركبا من الجواهر المنفردة أو تعني به أنه يشار إلى شيء منه دون شيء ويرى منه شيء دون شيء ويتميز منه شيء عن شيء
فإن أردت الأول بطل لازم التقدير الأول فإنه لا يلزم من كونه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه أن يكون صغيرا بقدر الجوهر الفرد فإنا نعلم بالاضطرار إمكان كون الشيء كبيرا عظيما مع أنه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه بل قد تنازع الناس في كثير من المخلوقات هل تقبل التفريق أو لا تقبله ومن قال إنها تقبله أثبته بالدليل لم يقل إنه معلوم بالضرورة
وإن أردت أن كل مشار إليه فإنه يكون مركبا من الجواهر المفردة إذا لم يكن حقيرا منعت هذا وقيل لك هذا مبني على أن الأعيان المشهودة مركبة من الجواهر المنفردة وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم ينكرون ذلك بل أكثرهم طوائف أهل الكلام تنكر ذلك كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية وغير هؤلاء
(6/292)
وكذلك إن عني به أنه مركب من المادة والصورة كما يقول بعض الفلاسفة فأكثر العقلاء ينكرون ذلك والصواب قول من ينكر ذلك كما هو مذكور في غير هذا الموضع وبتقدير تسليمه ينازع من سلمه في صحة المقدمة الثانية ويمنع صحة انتفاء اللازم
وإن أردت به المعنى الثالث وهو أنه يتميز منه شيء عن شيء
فيقال لك هذا القول لازم لجميع الخلائق أما الصفاتية فإنهم يثبتون العلم والقدرة والإرادة والكلام ومن المعلوم أن هذه معاني متميزة في أنفسها ليس كل واحد منها هو الآخر وأما غيرهم فيعلمون الفرق بين كونه عالما وكونه قادرا وكونه حيا ونحو ذلك والمتفلسفة يعلمون الفرق بين كونه موجودا وكونه واجبا وكونه عاقلا وعقلا وعاشقا وعشقا ولذيدا وملتذا ونحو ذلك ففي الجملة لزوم مثل هذه المعاني المتعددة المتكثرة لازم لجميع الخلائق وهذه مسألة الصفات
فإذا قال النفاة عندنا العلم هو الإرادة والإرادة هي القدرة والوجوب هو الوجود ونحو ذلك
كان لهم جوابان أحدهما أن يقال هذا معلوم الفساد بالضرورة كما تقدم ولا يرتاب عاقل في فساد مثل هذا بعد تصوره
والثاني أن يقال إذا جاز لكم أن تثبتوا معاني متعددة ومتغايرة في الأحكام واللوازم والأسماء ليس التغاير بينها تغاير العموم والخصوص كاللون والسواد وتقولون إنه لا تعدد فيها ولا كثرة ولا انقسام جاز
(6/293)
لمنازعكم أن يثبت ذاتا فوق العالم لا انقسام فيها ولا تركيب وكان هذا أقرب إلى العقل
فإن جاز أن تقولوا لا يتميز العلم عن القدرة ولا الإرادة عن الحياة جاز أن يقول لا يتميز ما يحاذي يمين العرش عما يحاذي يسار العرش
ومن المعلوم أن التعدد في الصفات أظهر من التعدد في المقدر فإن كان ذلك مقبولا كان هذا أولى بالقبول وإن كان هذا مردودا كان ذلك أولى بالرد ولا يمكن أحد من العقلاء أن يرد ما يثبت أنه من المعاني المتعددة المعلومة بصريح العقل مع نطق الشرع بذلك في غير موضع فإن الله تعالى أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى التي تتعدد معانيها كالعليم والقدير والرحيم والعزيز وغير ذلك وأثبت له من الكلمات التي لا تعادلها ما شهد به الكتاب العزيز فقد أثبت أسمائه وكلماته وفي ضمن ذلك تعدد صفاته وهو الواحد المسمى بأسمائه الحسنى المنعوت بصفاته العلى الصادق العدل في كلماته التامات صدقا وعدلا وإذا كانت هذه الحجة مبنية على نفي الصفات فقد علم فساد أصلها
الوجه الثالث أن يقال قولك وإن انقسم كان مركبا وقد سبق بطلانه قد سبق قولك إنه ليس بمتحيز لأن كل متحيز منقسم لذاته بناء على نفي الجزء وكل منقسم لذاته ممكن لافتقاره إلى
(6/294)
جزئه الذي هو غيره وكون المفتقر إلى الغير ممكنا بالذات
ومعلوم أن هذه الحجة قد تبين فسادها بطريق البسط في مواضع متعددة وبين أن مبناها على ألفاظ مجملة مشتبهة وهي أصل توحيد الفلاسفة وقد بين نظار المسلمين فسادها كما بين ذلك أبو حامد الغزالي وغيره
والرازي أجاب الفلاسفة عن حجة التركيب في مسألة الصفات فقال في نهاية العقول قوله يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما يلتزمه فأين المحال وأيضا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما ألزمتمونا في الصفات في الصور المرتسمة في ذاته من المعقولات
وقال أيضا مما يحقق فساد قول الفلاسفة أنهم قالوا إن الله
(6/295)
عالم بالكليات وقالوا إن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم وقالوا إن صورة المعلومات موجودة في ذات الله تعالى حتى ابن سينا قال إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات بل كانت من لوازم الذات ومن كان هذا مذهبا له كيف يمكنه أن ينكر الصفات وفي الجملة فلا فرق بين الصفاتية وبين الفلاسفة إلا أن الصفاتية يقولون إن الصفات قائمة بالذات والفلاسفة يقولون إن هذه الصورة العقلية عوارض متقومة بالذات والذي تسميه الصفاتية صفة يسميه الفلسفي عارضا والذي يسميه الصفاتي قياما يسميه الفلسفي قواما وتقوما فلا فرق إلا بالعبارات وإلا فلا فرق في المعنى
الوجه الرابع أن يقال إذا كان لفظ التحيز والانقسام
(6/296)
والجزء والافتقار والغير ألفاظا مجملة فلفظ المتحيز يراد به ما حازه غيره من الموجودات وليس مرادهم بهذا ويراد به ما كان منحازا عن غيره أو ما كان بحيث يشار إليه وإن لم يكن معه موجود سواه وهذا مرادهم بلفظ المتحيز ولهذا يقولون العالم متحيز
ولفظ الاتقسام يراد به الانقسام المعروف الذي يتضمن تفريق الأجزاء وليس هذا مرادهم ويراد به ما يتميز منه شيء عن شيء أو جانب عن جانب وهذا مرادهم
ولفظ الجزء يراد به ما كان منفردا فانضم إليه غيره أو ما أمكن التفريق بينه وبين غيره وليس هذا مرادهم ويراد به ما حصل الامتياز بينه وبين غيره وهذا مرادهم ولفظ الافتقار يراد به أن يكون الشيء مفتقرا إلى فاعل يفعله وليس هذا مرادهم هنا ويراد به أن يكون ملازما لغيره فلا يوجد أحدهما إلا مع الآخر وهذا مرادهم وقد يقال إنه يراد به كون الشيء مفتقرا إلى أمر منفصل عنه وليس هذا مرادهم هنا ويراد أن يكون الشيء لا يتم إلا بما يدخل فيه مما يقال إنه جزء كالصفة وهذا مرادهم هنا
وإذا عرف ذلك كان مضمون كلامهم أنه لوكان مشارا إليه للزم أن لا يوجد إلا بلوازمه التي لا يوجد إلا بها الداخلة في مسمى اسمه ومعلوم أن ما كان كذلك لم يمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه المستلزمه لهذه اللازمات المتصفة بهذه الصفات بل إذا كانت حقيقته متصفة بصفات الكمال الوجودية كانت أحق بالوجود من أن لا يوصف إلا بأمور سلبية يستلزم أن تكون ممتنعة الوجود مشبهة
(6/297)
بالمعدومات والجمادات فما لا يتصف بشيء من صفات الكمال فلا تكون له حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ولا فعل ولا عظمه ولا رحمة بل يكون موجودا مطلقا أو مجردا كان ممتنع الوجود ولا واجب الوجود وما لا يكون إلا كاملا لا يكون إلا بكماله وما يجب أن يكون حيا عليما قديرا لا يكون إلا بحياته وقدرته وعلمه وليس لزوم صفات الكمال له واستلزامه إياها موجبا لكونه لا يكون موجودا بنفسه
وتسمية المسمى هذا جزءا وبعضا ونحو ذلك غايته أن يقال لا يمكن وجود الكل إلا بوجود بعضه ومن المعلوم أن وجود الكل لا يوجد إلا بوجود الكل فيكون الكل موجودا بالكل ولا يتضمن ذلك افتقارا له إلى غيره فإذا كان قول القائل إنه مفتقر إلى نفسه أو كله لا يقدح في وجوب وجوده فقوله هو مفتقر إلى صفته أو بعضه أولى أن لا يقدح في وجوب وجوده
ومما يبين ذلك أن هؤلاء المتفلسفة يقولون إن وجوده مستلزم لوجود المعلولات الممكنات فلا يتصور وجوده بدون وجودات ممكنة معلومة منفصلة عنه وذلك لا يقدح عندهم في وجوب وجوده بنفسه فكيف يقدح في وجوب وجوده كونه مستلزما لصفات كمال لازمه له قائمة بنفسه فإن كان استلزامه لغيره افتقارا إليه فاقتقاره إلى معلولة
(6/298)
المنفصل أعطم امتناعا وإن لم يكن افتقارا إلى اللازم لم يكن استلزامه الصفات افتقارا إليها
ومثل هذا التناقض كثير في كلام المخالفين للسنة تحقيقا لقوله تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } سورة النساء 82
قال الرازي والوجه الثاني لوكان مشارا إليه لكان متناهيا من جميع الجوانب لما سبق من تناهي الأبعاد ولأن عدم تناهيه إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات تعالى عنه وإن كان من بعضها فالجانب المتناهي إن وافق غير المتناهي في الماهية صح على المتناهي أن ينقلب غير متناه وبالعكس فصح عليه الفصل والوصل وإن خالفه فيها وكل مركب من أجزاء مختلفة الطبائع ففيه أجزاء بسيطة فأمكن على كل منها أن يماس ما على يمينه ويساره وبالعكس فصح عليه الوصل والفصل وكل ما كان كذلك كان تأليفه بمؤلف تعالى عنه وكل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد
(6/299)
فاختصاصه بذلك القدر المخصص ولأنه لو كان متناهيا من جميع الجوانب لم يكن فوق كل الموجودات لأنه يكون فوقه أمكنة خالية عنه والخصم ينفيه
فيقال الاعتراض على هذا من وجوه
أحدها قول من يقول هو فوق العرش ولا يوصف بالتناهي ولا بعدمه إذ لا يقبل واحدا منها وهو قول من تقدم ممن يقول هو فوق العرش ولا يوصف بأن له قدرا كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم
وإذا قال لهم النفاة هذا ممتنع في بديهة العقل
قالوا لهم القول بوجود موجود لا يشار إليه ولا يقبل الوصف بالنهاية وعدمها ولا بدخول العالم ولا خروج منه أظهر فسادا في بديهة العقل فإنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود خارج العالم بائن منه لا يوصف بثبوت النهاية ولا انتفائها ووجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا بائن ولا محايث ولا متناه ولا غير متناه كان الثاني أظهر فسادا في العقل كما ت تقدم نظيره
القول الثاني قول من يقول هو غير متناه إما من جانب
(6/300)
وإما من جميع الجوانب كما قال ذلك طوائف أيضا من أهل الكلام والفقهاء وغيرهم وحكاه الأشعري في المقالات عن طوائف
فإذا قيل لهم هذا ممتنع
قالوا قول منازعينا أظهر امتناعا
وإذا قيل لهم يلزمكم أن يكون مخالطا للعالم
قالوا منازعونا منهم من يقول هو بذاته في كل مكان ومنهم من ينفي ذلك ونحن يمكننا أن نقول كما قال هؤلاء وهؤلاء وإذا ادعى هؤلاء إمكان ذلك من غير مخالطة ادعينا مثل ذلك
والقول الثالث قول السلف والأئمة وأهل الحديث والكلام والفقه والتصوف الذين يقولون له حد لا يعلمه غيره
فإذا قيل لهؤلاء كان متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد واختصاصه بذلك القدر المخصص منفصل منعوا هذا كما تقدم ذكره وقالوا لا نسلم أن كل ما اختص بقدر افتقر إلى مخصص منفصل عنه ولا نسلم أن كل ما ثبت لواجب الوجود من خصائصه يمكن أن يوجد بخلاف ذلك
(6/301)
وقد تقدم الكلام على هاتين المقدمتين اعتراف هؤلاء المحتجين بهما بفسادهما
وأما قوله لو كان متناهيا من جميع الجوانب لم يكن فوق كل الموجودات لأنه يكون فوقه أمكنه خالية منه
فكلام ساقط لأنه ليس هناك شيء موجود لا مكان ولا غير مكان وإنما هناك إما خلاء هو عدم محض ونفي صرف ليس شيئا موجودا على قول طائفة وإما أنه لا يقال هناك لا خلاء ولا ملاء
وعلى كل تقدير فليس هناك شيء موجود بل يقال لمن احتج بهذا أنت تقول ليس فوق العالم شيء موجود ولا وراء العالم شيء موجود مع أنه متناه عندك فكيف يجب أن يكون فوق رب العالمين شيء موجود
ثم قال أنتم تزعمون أنكم تحتجون بالمعقولات اليقينية لا بالمقدمات الجدلية فهب أنه لا يكون فوق جيمع الموجودات فأين دليلكم العقلي على امتناع هذا
الوجه الرابع قول بعض هؤلاء النفاة لبعض لم قلتم إن عدم تناهيه إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات تعالى عنه ولم لا يجوز أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو غير مخالط فإن قالوا لأن فرض مشار إليه غير متناه لا يخالط العالم ممتنع في صريح العقل
قيل وفرض موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مباينا لغيره ممتنع في صريح العقل
(6/302)
فإن قلتم هذا في حكم الوهم
قالوا وإثبات المخالطة لما لا نهاية له من حكم الوهم
وهؤلاء النفاة لمباينته للعالم منهم من يقول إنه جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء
وقال بعضهم مساحته على قدر مساحة العالم
وقال بعضهم هو جسم له مقدار في المساحة ولا ندري كم ذلك القدر
ومنهم من يقول إنه جسم تحل الأشياء فيه وهو الفضاء وليس بذى غاية ولا نهاية وقال بعضهم هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمه به وقال بعضهم ليس لمساحة البارئ
(6/303)
نهاية ولا غاية وإنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذى حدود ولا هيئة ولا قطب
حكى هذه الأقوال الأشعري في المقالات وحكى عن زهير الأثري أنه كان يقول إن الله بكل مكان وإنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال تعالى { وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر 22 بلا كيف وكذلك أبو معاذ التومني
وهذا القول الذي حكاه الأشعري عن هؤلاء يشبه قول كثير من الصوفية والسالمية كأبي طالب المكي وغيره
فهؤلاء القائلون بأنه بذاته في كل مكان على أقوال منهم من يقول له قدر ومنهم من يقول ليس له غاية ولا نهاية ومنهم من يقول هو جسم ومنهم من يقول ليس بجسم ثم من هؤلاء من
(6/304)
يقول إنه غير متناه من جميع الجوانب وهو مع ذلك لا يخالط الأشياء وأيضا فإنهم إذا قالوا إنه يخالط الأشياء قالوا هذا لا يقدح في كماله كما أن الشعاع لا يقدح فيه أنه فوق الأقذار
وقول هؤلاء وإن كان باطلا كما قد بين في غير هذا الموضع فالمقصود أن النفاة الذين يقولون لي بداخل العالم ولا خارجه لا يمكنهم إبطال قول هؤلاء بل قد يقول القائل إن قول هؤلاء الحلولية خير من قول أولئك المعطلة الذين يقولون لا داخل العالم ولا خارجه
ولهذا قال من قال متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء
ومنهم من يقول هذا تارة وهذا تارة ومنهم من يقول هذا اعتقادي وهذا ذوقي ووجدى وإنما يتمكن من إبطال قول هؤلاء كلهم أهل السنة المثبتة الذين يقولون إنه مباين للعالم فأما بعض هذه الطوائف مع بعضهم فإنهم متناقضون
فإذا قالوا لا نسلم أنه يجب أن يخالط العالم أو لا نسلم أن في ذلك محذورا بل يمكن عدم المخالطة أو المخالطة بلا نقص ولا عيب كان قول هؤلاء من جنس أقوال أولئك فإنهم أثبتوا ما يحيله العقل
فإذا قالوا لأولئك هذا من حكم الوهم لا من حكم العقل كان
(6/305)
هذا بمنزلة قول أولئك إن إحالة موجود لا داخل العالم ولا خارجه من حكم الوهم فإنهم قد قالوا إنه حكم في غير المحسوس بحكم المحسوس فإن لم يكن في الوجود ما لا يمكن الإحساس به بطل قولهم وإن كان فيه ما لا يمكن الإحساس به وادعى هؤلاء أنه غير متناه من جميع الجوانب هوغير جسم عند بعضهم وجسم عند آخرين منهم كان الحكم حينئذ بكونه يكون مخالطا للعالم وأن ذلك ممتنع عليه حكما على غير المحسوس بحكم المحسوس وهم لا يقبلون هذا الحكم
ثم إن الكلام هنا من جهة من يقول إنه مشار إليه ويقول إنه متناه وهو مع ذلك جسم أو ليس بجسم وإذا قال هؤلاء كل مشار إليه فهو جسم كان كقولهم لو كان فوق العرش لكان مشارا إليه ولكان جسما وقد نازعهم في ذلك طوائف
وتبين أن قول من قال هو فوق العرش وليس بجسم ليس هو أبعد عن العقل من قول من قال إنه لا داخل العالم ولا خارجه أصلا فإن هذا أقرب إلى المعدوم من ذلك وكل ما كان أقرب إلى العدم كان أبعد عن الوجود الواجب
فهكذا من قال يشار إليه وهو غير متناه ولا يخالط أو يخالط ولا نقص في ذلك فقوله ليس أبعد عن العقل من قول أولئك بل نظير قولهم أن يقال إنه في كل مكان بذاته ولا يشار إليه ولا نهاية له كما قال بعضهم
(6/306)
فهذه الأقوال حكم ببطلانها حاكم واحد فإن رد حكمه في بعضها رد في سائرها فهذا جواب هؤلاء
الوجه الخامس قول من يقول لا نسلم أنه إذا كان متناهيا من بعض الجهات يلزم ما ذكره من المحذور وقوله الجانب المتناهي إن وافق غير المتناهي في الماهية صح عليه أن ينقلب غير متناه وإلا لزم التركيب فيصح الفصل والوصل وما كان كذلك احتاج إلى مؤلف يؤلفه
قالوا لا نسلم أنه يجوز عليه الفصل والوصل والحال هذه لإمكان أن يكون ذلك الاتصال من لوازم الذات كقيام الصفات اللازمة لموصوفها وأيضا الموافقة في الماهية إنما تقتضي جواز انقلابه غير متناه إن لم يكن المقدار المعين من لوازم وجوده
فإن قال إن كل مختص بقدر فهو ممكن فهي المقدمة الثانية وقد تقدم إبطالها فلا يمكنه حينئذ تقرير المقدمة الأولى إلا بالثانية فلا يكون قد أقام دليلا على أنه إذا كان متناهيا لزم التناهي من جيمع الجوانب إلا لافتقار الاختصاص إلى مخصص وهذا إن كان دليلا صحيحا فهو كاف سواء قدر التناهي من جميع الجوانب أو بعضها وإن لم يكن صحيحا بطل كلامه على بطلان تناهيه من جيمع الجوانب ومن بعضها
(6/307)
قال الرازي الوجه الثالث أنه لو كان مشارا إليه فإن صح عليه الحركة والسكون كان محدثا لما سبق في مسألة الحدوث وإلا كان كالزمن المقعد وهو نقص تعالى عنه
فيقال الاعتراض عليه من وجوه أحدها أن يقال قد تقدم إبطال هؤلاء لدليل الحركة والسكون كما أبطله الرازي نفسه في كتبه العقلية المحضة وأبطل كل ما احتج به النفاة من غير اعتراض على إبطال ذلك وكذلك أبطله الآمدي والأرموي وغيرها
الثاني قول من يقول هو مع كونه مشارا إليه لا يقبل الوصف بالحركة والسكون ولا بضد ذلك كما يقولون هم إنه لا يقبل الوصف بالدخول والخروج والمباينة والمحايثة ونحو ذلك من المتقابلات
فإذا قيل لهؤلاء إثبات مشار إليه لا يقبل ذلك غير معقول
قالوا هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه
وهؤلاء إذا قيل لهم إما أن يكون مباينا وإما أن يكون محايثا
قالوا هذا من عوارض الجسم فإذا قدر موجود لا يقبل ذلك لم يوصف بمباينة ولا محايثة فيقول لهم هؤلاء كونه موصوفا بالحركة
(6/308)
والسكون فرع على قبوله لذلك فإذا قدر موجود مشار إليه لا يقبل ذلك لم يوصف بأحدهما
ومن الناس من يقول الحركة من خصائص الجسم ومنهم من يقول الحركة يوصف بها ما ليس بجسم كمن يقول بإثبات نوع من الحركة للنفس ويقول إنها غير جسم وكذلك قول من قال مثل ذلك في الواجب
الثالث أن يقال اتصاف المتصف بالحركة والسكون إما أن يكون صفة كمال أو لا فإن لم يكن صفة كمال لم يكن سلب ذلك نقصا فلا محذور فيه وإن كان صفة كمال أمكن اتصافه بذلك فلا محذور فيه
فإن قيل هو صفة كمال للجسم دون غيره
قيل إما أن نعلم ثبوت موجود غير الجسم أولا نعلمه فإن لم نعلمه لم يمكن إثبات موجود قائم بنفسه لا تكون الحركة كمالا وإن علمنا وجود موجود ليس بجسم فالعلم بذلك ليس بضروري بل هو نظري فلا بد له من دليل
وحينئذ فإما أن يمكن وجود مشار إليه ليس بجسم أو لا يمكن فإن أمكن جاز أن يشار إلى الباري تعالى ويكون فوق العرش وليس بجسم وإن لم يمكن وجود مشار إليه إلا أن يكون جسما فلا بد من دليل يدل على إثبات وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه ولا يكون جسما
(6/309)
وهذه الوجوه هي أدلة ثبوت ذلك
فإذا قيل لو لم يصح عليه الحركة والسكون لكان كالزمن لم يمكن إثبات ذلك إلا إذا ثبت أن كل مشار إليه يقبل الحركة والسكون وأن كل مشار إليه جسم
وهذا لا يثبت إلا إذا بطل قول من يقول يمكن أن يشار إليه ولا يكون جسما أو يمكن أن يكون فوق العرش ولا يكون جسما
وهؤلاء لا يمكن إبطال قولهم إلا إذا بطل قول من يقول بوجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه لأنه بتقدير صحة قول هؤلاء يمكن صحة قول أولئك فإنه إذا جاز في العقل إمكان وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يباين غيره ولا يحايثه أمكن وجود موجود قائم بنفسه فوق عرشه لا يشار إليه وكان هذا أقرب إلى العقل من ذلك
فإذا كان إبطال قول هؤلاء مستلزما لبطلان قول المدعي لم يبطل قولهم إلا ببطلان قوله وإذا بطل قوله كانت الحجة على صحته باطلة
فتبين أن هذه الحجة يلزم من صحة مقدمتيها بطلان قول المدعي المحتج بها فلا يمكن الاستدلال بها عليه وهو المطلوب فإنها إن صحت استلزمت بطلان دعواه وإن لم تصح لم يمكن الاستدلال بها على دعواه فبطلت الدلالة على التقديرين وهو المطلوب
الرابع أن يقال كثير من النظار يقولون صحة الحركة ليست
(6/310)
من خصائص كونه مشارا إليه فإن كثيرا من هؤلاء يجوز أن يقوم به ما هو متجدد أو حادث وإن قال إنه غير مشار إليه وقد تقدم قول الرازي إن عامة الطوائف يلزمهم القول بحلول الحوادث وإن أنكروا ذلك مع أن نفاة العلو من هؤلاء يمنعون جواز الإشارة إليه كما يقول ذلك من يقوله من الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم بل المتفلسفة يجوزون حلول الحوادث بما ليس بجسم غير الواجب كما يقولون مثل ذلك في النفس الفلكية والإنسانية ثم أكثر أهل الكلام من هؤلاء يقولون إن ذلك الحادث القائم بالواجب تجدد بعد أن لم يكن فهؤلاء يصفونه بقيام الحوادث به في وقت دون وقت ومع هذا فلا يجعلونه في حال انتفاء ذلك كالزمن المقعد فيقول هؤلاء يمكن أن تقوم به الحوادث وهو نوع من الحركة ولا يكون مشارا إليه ولا يكون عند انتفاء ذلك كالزمن فإن سلم أولئك لهم إمكان ذلك بطلت الحجة وإن لم يسلموا ذلك لهم قالوا هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لايشار إليه وإن كان هذا من حكم الوهم فكذلك الأول وإلا لزم امتناع موجود قائم بنفسه لايشار إليه وهو المطلوب
ومما يوضح هذا أن لفظ الحركة قد يعني به الانتقال من حيز إلى حيز وقد يعنى به ما هو أعم من ذلك كالحركة في الكيف والكم والوضع مثل مصير النفس عالمة وقادرة ومريدة ومصير الجسم أسود وأحمر وحلوا وحامضا ومثل الاغتذاء والنمو الحاصل في الحيوان والنبات ومثل حركة الفلك في حيز واحد فهذه قد تسمى حركات وإن لم يكن قد خرج الجسم فيها من حيز إلى حيز آخر
(6/311)
وإذا كان لفظ الحركة من جنس لفظ الحدوث كان البحث عن قيام أحدهما به كالبحث عن قيام الآخر به ومعلوم أن كثيرا من النظار يصفونه بذلك ولا يقولون هو جسم
قال الرازي الوجه الرابع المكان الذي يزعم الخصم حصوله فيه إن كان موجودا وهو منقسم كان جسما ولزم قدم الأجسام لذواته وأيضا المكان مستغن في وجوده عن المتمكن لجوازه الخلاء وفاقا والباري تعالى عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز فكان مفتقرا إلى الحيز وكان المكان بالوجوب والإلهية أولى وإن كان معدوما استحال حصول الوجود فيه ولا يلزم علينا كون الجسم في المكان لأن المعنى منه كونه يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به وهذا المعنى في الباري يوجب التركيب وتعالى عنه
والجواب عن هذا من وجوه
أحدها أن يقال لا نسلم الحصر بل قد يكون الحيز تارة
(6/312)
موجودا وتارة معدوما فإنه إذا كان في الأزل وحده لم يكن معه شيء موجود فضلا عن أن يكون في شيء موجود ثم لما خلق العالم فإما أن يكون مداخلا للعالم وإما أن يكون مباينا له وإذا امتنع أن يكون هو نفسه دخل في العالم أو دخل العالم فيه وجب أن يكون مباينا له وإذا كان مباينا للعالم أمكن أن يكون فوق العالم ويكون ما يسمى حينئذ مكانا أمرا وجوديا ولا يلزم أن يكون ملازما له فلا يلزم قدم المخلوقات ولا افتقاره إلى شيء منها بل كان مستغنيا عنها وما زال مستغنيا عنها وإن كان عاليا عليها فعلوه على العرش وعلى غيره من المخلوقات لا يوجب افتقاره إليه فإن السماء عالية على الأرض وليست مفتقرة إليها والهواء عال على الأرض وليس مفتقرا إليها وكذلك الملائكة عالون على الأرض وليسوا مفتقرين إليها فإذا كان المخلوق العالى لا يجب أن يكون مفتقرا إلى السافل فالعلى الأعلى الخالق لكل شيء الغني عن كل شيء أولى أن لا يكون مفتقرا إلى المخلوقات مع علوه عليها
الوجه الثاني أن قول القائل إنه في مكان لفظ فيه إجمال وتلبيس والمثبتون لعلو الله على خلقه لا يحتاجون أن يطلقوا القول بأنه في مكان بل منهم كثير لا يطلقون ذلك بل يمنعون منه لما فيه من الإجمال
فإذا قال القائل إنه لو كان في مكان لم يخل إما أن يكون المكان موجودا أو معدوما
قيل له إذا قيل إن الشيء في مكان وفسر المكان بأنه معدوم
(6/313)
كان حقيقته أنه وحده ليس معه غيره إذ لا يقول عاقل إنه في مكان معدوم وإنه مع هذا في شيء موجود قد أحاط به أو كان هو فوقه أو غير ذلك إذ هذا كله من صفات الموجودات
وإذا كان كذلك فقول القائل وإن كان المكان معدوما استحال حصول الموجود فيه إنما يلزم لو قدر أن هناك أمرا يكون الواجب فيه فأما إذا فسر ذلك بأنه وحده ليس معه غيره امتنع أن يقال إنه في غيره
الثالث أن يقال إذا كنت أنت وعامة العقلاء تقولون إن الجسم في مكان ولا يلزم من هذا أن يكون في شيء موجود لأنه يستلزم أبعادا لا تتناهى ولا في معدوم لأن العدم لا يكون فيه شيء فقولهم أولى بالقبول والجواز
وأما قوله إن المعنى من كون الجسم في المكان كونه بحيث يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به
فيقال له وبهذا المعنى فسرت قولهم بأنك قلت المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك
وأما قولهم هذا المعنى يوجب التركيب في الباري فهذا هو الحجة الأولى وقد تقدم جوابها فإذن هذه الحجة لا تتم إلا بالأولى فلا تجعل حجة أخرى وحجة التركيب قد تقدم بيان فسادها
الرابع أن يقال لفظ الحيز والمكان قد يعني به أمر
(6/314)
وجودي وأمر عدمي وقد يعني بالمكان أمر وجودي وبالجيز أمر عدمي ومعلوم أن هؤلاء المثبتين للعلو يقولون إنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه وإذا قالوا أنه بائن من جميع المخلوقات فكل ما يقدر موجودا من الأمكنة والأحياز فهو من جملة الموجودات فإذا كان بائنا عنها لم يكن داخلا فيها فلا يكون داخلا في شيء من الأمكنة والأحياز الوجودية على هذا التقدير ولا يلزم قدم شيء من ذلك على هذا التقدير
وإذا قالوا إنه فوق العرش لم يقولوا إن العرش كان موجودا معه في الأزل بل العرش خلق بعد أن لم يكن وليس هوداخلا في العرش ولا هو مفتقر إلى العرش بل هو الحامل بقوته للعرش ولحملة العرش فكيف يلزم على هذا أن يكون معه في الأزل بل كيف يلزم على هذا أن يكون داخلا في العرش أو مفتقرا إليه وإنما يلزم ما ذكره من لا بد له من شيء مخلوق يحتوي عليه وهذا ليس قول من يقول إنه بائن عن جميع المخلوقات
الوجه الخامس أن يقال قوله الباري عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز لفظ مجمل فإن قال إنه مفتقر عنده إلى حيز وجودي فهذا لم يقله الخصم وولا يعرف أحدا قاله وإن قاله من لا يعرف لم يلتفت إليه ولا ريب عند المسلمين أن الله تعالى غني عن كل ما سواه فكيف يقال إنه مفتقر إلى حيز عدمي فالعدم ليس بشيء حتى يقال إن الرب مفتقرا إليه أو ليس بمفتقر إليه
(6/315)
وإذا فسر الحيز بأمر عدمي لم يجز أن يقال إن العدم الذي ليس بشيء أحق بالإلهية من الموجود القائم بنفسه فعلم أن هذه الحجة مغلطة محضة وأن لفظ الحيز لفظ مجمل
وهؤلاء يريدون بالحيز تارة ما هو موجود ويريدون به تارة ما هو معدوم وكذلك لفظ المكان لكن الغالب عليهم أنهم يريدون بالحيز ما هو معدوم وبالمكان ما هو موجود ولهذا يقولون العالم في حيز وليس في مكان
وإذا كان كذلك فمن أثبت متحيزا في حيز عدمي لم يجعل هناك موجودا غيره سواء كان ذلك واجبا أو ممكنا وإذا كان كذلك لم يجب أن يكون هناك ما يجب أن يكون موجودا معه فضلا عن أن يكون هو مفتقرا إليه
الوجه السادس أن يقال هذه الجحة مبنية على أن كل مشار إليه مركب وأن ذلك ممتنع في الواجب فإن أردت بالتركيب أن غيره ركبه أو أنه يقبل التفريق ونحو ذلك لم تسلم الأولى
وإن عينت بالتركيب إمكان الإشارة إلى بعضه دون بعض فللناس هنا جوابان
أحدهما قول من يقول هو فوق العالم وليس بمشار إليه أو هو مشار إليه وهو لا يتبعض فيشار إلى بعضه دون بعض لأن الإشارة إلى البعض دون البعض إنما تعقل فيما له أبعاض فإذا قدر مشار إليه لا يتبعض لم يمكن أن يقال هذا فيه
(6/316)
والثاني قول من يقول يمكن الإشارة إلى بعضه دون بعض ويقول التبعيض المنفي عنه هو مفارقة بعضه لبعض وأما كونه يرى بعضه دون بعض فليس هذا منفيا عنه بل هو من لوازم وجوده وإذا قال الثاني هذا تركيب وهو ممتنع فقد عرف بطلان هذه الحجة
الوجه السابع أن يقال إذا كان فوق العرش فلا يخلو إما أن يلزم أن يكون جسما أو لا يلزم فإن لم يلزم بطل مذهب النفي فإن مدار قولهم على أن العلو يستلزم أن يكون جسما فإذا لم يلزم ذلك لم يكن في كونه على العرش محذور وإن لزم أن يكون جسما فإن لازم هذا القول قدم ما يكون جسما وحينئذ فقول القائل إن كان المكان موجودا كان جسما ولزم قدم الأجسام لدوامه لا يكون محذورا على هذا التقدير ولا يصح الاستدلال على انتفاء المكان بهذا الاعتبار
وأما الوجه الثامن فقوله المكان مستغن في وجوده عن المتمكن لجواز الخلاء وفاقا والباري عند الخصم يمتنع كونه لا في الحيز فكان مفتقرا إلى الحيز يعترض عليه الخصم بأنا لا نسلم أنه على هذا التقدير يكون كل مكان مستغنيا عن المتمكن فإنه لا يقول عاقل إن شيئا من الممكنات مستغنية عن الواجب الوجود فإذا جعل ما سمى مكانا عن الممكنات المبدعات لله تعالى لم يجز أن يقال هو مستغن عنه
وأيضا يقال إن عنيت بكون المكان مستغنيا عن المتمكن أنه لا يفتقر إلى كون المتمكن عليه فهذا مسلم لكنه لا يفيدك إلا إذا
(6/317)
قيل إن المتمكن مفتقرا إلى وجود المكان المستغنى عنه وهذا لم يذكره في التقسيم
وإن عنيت أنه يستلزم استغناءه عن فاعل مبدع فهذا ليس بلازم على هذا التقدير فإن الأمكنة كلها مفتقرة إلى فاعل مبدع وإن استغنت عن متمكن وإذا كان وجوده مستلزما للحيز على هذا التقدير لم يكن مفتقرا إلى ما هو مستغن عنه بل كان وجوده مستلزما لأمور لازمة له مفتقرة إليه وذلك لا يوجب أن يكون غيره مستغنيا عنه ولا أن يكون مفتقرا إلى ما هو مستغن عنه كما أن الذات إذا كانت مستلزمة للصفات لم يجب أن تكون الصفات أحق بالإلهية
هذا عند من يقول بالصفات وكذلك من يقول بالأحوال من المسلمين ومن نفى الجميع كالفلاسفة الدهرية فعندهم أن وجود الواجب مستلزم لوجود الممكنات مع أنها هي المفتقرة إليه وهو مستغن عنها
ونكتة الاعتراض أنه إذا فرض افتقاره إلى مكان مستغن عنه فلا ريب ان هذا باطل بالاتفاق لأنه يلزم أن يكون الخالق فقيرا إلى ما هو مستغن عنه وهذا ينافي وجوب وجوده وأما إذا كان ما سمى مكانا مفتقرا إليه وهو المبدع الخالق له لم يكن فيما ذكره ما يبطل ذلك
(6/318)
أما إذا قدر أن وجوده لا يستلزم وجود ذلك ولا يشترط فيه ذلك لكن حصل بحكم الجواز لا بحكم الوجوب فهذا ظاهر
وأما إذا قدر أن ذلك لازم له فغايته أن وجوده مستلزم لما يكون الرب ملزوما له وهو مفتقر إلى الرب تعالى وقد عرف كلام الناس في مثل هذا
قال الرازي الوجه الخامس في نفي علوه على الخلق أن الأحياز إن تساوت في تمام الماهية كان حصوله في بعضها بدلا عن الآخر جائزا فافتقر فيه إلى مرجح وإن تخالفت فيها كانت متباينة بالعدد والماهية تختص بخواص معينة وصفات معينة وهي غير متناهية فقد وجد في الأزل مع الله أشياء قائمة بأنفسها غير متناهية ولا يرتضيه مسلم
والاعتراض على هذا من وجوه
أحدها أن يقال الأحياز أمور عدمية كما قد عرف فإنهم يقولون العالم في حيز والحيز عندهم عدمى ولو قال قائل إن الحيز قد يكون وجوديا فالمثبتون يقولون نحن نقول إنه فوق العالم وحده كما كان قبل المخلوقات وليس هو في حيز وجودي فإذا
(6/319)
سميت ما هناك حيزا كان تسميته للعدم حيزا وهو اصطلاحهم
وحينئذ فالعدم المحض ليس هو أشياء موجودة حتى يقال إنها متماثلة أو مختلفة
فإن قيل من الناس من يقول الحيز جوهر قائم بنفسه لا نهاية له
قيل هذا القول إن كان صحيحا ثبت قدم الحيز الوجودي وحينئذ فتبطل الحجة التي مبناها على نفي ذلك وإن كان باطلا بطلت الحجة أيضا كما تقدم فهي باطلة على تقدير النقيضين فثبت بطلانها في نفس الأمر
الوجه الثاني أن يقال لم لا يجوز أن تكون الأحياز متساوية في الماهية
قوله حصوله في بعضها بدلا عن الآخر جائز فيفتقر إلى مرجح
يقال له نعم وإذا افتقر إلى مرجح فإنه يرجح بعضها بقدرته ومشيئته كما ترجح سائر الأمور الجائزة بعضها على بعض وكما يرجح خلق العالم في بعض الأحياز على بعض مع إمكان أن يخلقه في حيز آخر وكما رجح ما خلقه بمقدار على مقدار وصفة على صفة مع إمكان أن يخلقه على قدر وصفة أخرى
الوجه الثالث أن يقال ترجح بعض الأحياز على بعض متفق
(6/320)
عليه بين العقلاء سواء قالوا بالفاعل بالاختيار أو بالعلة الموجبة فإن القائلين بالعلة الموجبة يقولون إنها اقتضت وجود العالم في هذا الحيز دون غيره وأما على القول بالفاعل المختار فالأمر ظاهر وإذا كان ترجيح بعض الأحياز على بعض متفقا عليه بين العقلاء لم يكن في ذلك محذور
وإذا قيل هذا ترجيح لبعضها على بعض في الممكن
قيل فإذا جاز ذلك في الممكن فهو في الواجب أولى بالجواز فإن المرجح إن كان موجبا بالذات فترجيحه لما يتعلق به أولى من ترجيحه لما يتعلق بغيره وإن كان فاعلا بالاختيارفاختياره لما يتعلق به أولى من اختياره لما يتعلق بغيره
وإذا قيل هذا يلزم منه قيام الأمور الاختيارية بذاته
قيل قد عرف أنهم يعترفون بذلك وهو لازم لعامة العقلاء
الوجه الرابع أن يقال أهل الإثبات القائلون بأن الله سبحانه فوق العالم لهم في جواز الأفعال القائمة بذاته المتعلقه بمشيئته وقدرته قولان مشهوران
أحدهما قول من يقول لا يجوز ذلك كما يقوله ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهما من أصحاب أبي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي وغيرهم فهؤلاء يقولون استواؤه مفعول له فعله في العرش ويقولون إنه خلق العالم تحته من غير أن يحصل منه انتقال وتحول من حيز إلى حيز ويقولون إنه خصص العالم بذلك الحيز بمشيئته وقدرته
(6/321)
والقول الثاني قول من يقول إنه يفعل أفعالا قائمة بنفسه باختياره ومشيئته كما وصف نفسه في القرآن بالاستواء إلى السماء وعلى العرش وبالإتيان والمجيء وطي السموات بيمينه وغير ذلك مما هو قول أئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فهؤلاء يقولون إن ما يحصل من الترجيح لبعض الأحياز على بعض بأفعاله القائمة بنفسه هو بمشيئته وقدرته فحصل الجواب عن هذا على قول الطائفتين جميعا
الوجه الخامس أن يقال الحيز إما أن يقال إنه موجود وإما أن يقال إنه معدوم
فإن قيل هو معدوم لم يلزم أن يكون مع الله في الأزل شيء موجود
وإن قيل هو موجود فإما إن يكون وجوده في الأزل ممتنعا وإما أن الأحياز متماثله في تمام الماهية فإن العدم المحض لا يتميز فيه شيء عن شيء وحينئذ فالتخصيص المفتقر إلى المرجح يحصل إما بقدرته ومشيئته على قول المسلمين وجمهور الخلق وإما بالذات عند من يجوز نظير ذلك وإن كان وجوده في الأزل ممكنا فلا محذور فيه فبطل انتفاء اللازم
الوجه السادس أن يقال التقسيم المذكور غير حاصر وذلك لأن الأحياز إما أن تكون متماثلة وإما أن تكون مختلفة وعلى التقديرين فإما أن تكون متناهية وإما أن تكون غير متناهية فإن كان
(6/322)
وجود أحياز وجودية غير متناهية ممتنعا بطل هذا التقسيم ولم يلزم بطلان غيره وكذلك أي قسم بطل لم يلزم بطلان غيره وذلك لأن هؤلاء النفاة منهم من يقول بثبوت أحياز قديمة إما بنفسها وإما بغيرها كما تقول طائفة منهم بأن القدماء خمسة الواجب بنفسه والحيز الذي هو الخلاء والدهر والمادة والنفس ويقول آخرون منهم بثبوت أبعاد لا نهاية لها وإن لم يقولوا بغير ذلك
وما يذكر من هذه الأقوال ونحوها وإن قيل إنه باطل فالقائلون بغير ذلك بهذه الأقوال هم المعارضون لنصوص الكتاب والسنة وهم الذين يدعون أن معهم عقليات برهانية تنافي ذلك فإذا خوطبوا على موجب أصولهم وبين أنه ليس في العقليات ما ينافي النصوص الإلهية على كل مذهب كان هذا من تمام نصر الله لرسوله وإظهار لنوره
الوجه السابع أن يقال مقدمات هذه الحجة ليست برهانية فإنه على تقدير تماثل الأحياز إنما يلزم الافتقار إلى المرجح وهذا غير ممتنع وأما على التقدير الثاني فيلزم ثبوت أحياز مختلفة أما كونها غير متناهية فذلك غير لازم
وحينئذ فيقال إذا قدر أن هذه الأحياز مفتقرة إليه ممكنة بنفسها واجبة به أمكن أن يقال فيا ما يقوله من يجوز أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته كما عرف من مذاهب الطوائف ويقال على وجه التقسيم إن امتنع أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته تعين القسم الأول وإلا جاز الثاني
(6/323)
والمقصود بيان فساد أمثال هذا الكلام بالحجج العقلية المحضة فإن هؤلاء النفاة يستعينون على معارضة النصوص الإلهية بأقوال الفلاسفة وغيرها المخالفة لدين المرسلين فإذا احتج لنصر النصوص الإلهية بما هو من هذا الجنس كان ذلك خيرا من فعلهم
الوجه الثامن أن يقال الأحياز إن كانت عدمية لم يكن في ذلك محذور سواء كانت متماثلة أو مختلفة فإن ثبوت أعدام غير متناهية في الأزل غير محذور والمثبت لا يقول إنه يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه فإن هذا ليس هو معروفا من أقوال المثبتين وإن قدر قائل يقوله أمكنه أن يقول هذا من لوازم ذاته وحينئذ فإن جاز أن يلزمه أمر وجودي كان هذا ممكنا وإلا تعين قول من يجعل الحيز عدميا فعلم أنه لا حجة فيما ذكره
الوجه التاسع أن من المسلمين من يقول قد قامت به في الأ زل معاني لا نهاية لها كعلوم لا نهاية لها وكلمات لا نهاية لها وإرادات لا نهاية لها ونحو ذلك ومن الناس من يقول بثبوت أبعاد لا نهاية لها وحينئذ فإن كان علوه على العالم ممكنا بدون ثبوت أحياز قديمة مختلفة غير متناهية لم يضرهم بطلان هذا اللازم وإن قيل
إن ذلك يستلزم هذا القول كان نفيه محتاجا إلى دليل وهو لم يذكر على نفيه وإنما قنع بحجة مسلمة وهى أن المسلمين ليس فيهم من يرتضي أن يوجد معه في الأزل أشياء موجودة
(6/324)
قائمة بأنفسها غير متناهية ومعلوم أن هذا لا يرتضيه المسلمون من أهل الإثبات وغيرهم لاعتقادهم أن ذلك ليس من لوازم قولهم فإذا قدر أنه من لوازم قولهم احتاج نفيه إلى دليل ولا يجوز أن يحتج على ذلك بالسمع لأن السمع الدال على علو الله على خلقه أظهر وأكثر وأبين مما يدل على مثل هذا فإن المحتج إذا احتج بمثل قوله تعالى { الله خالق كل شيء } سورة الزمر 62 و { رب العالمين } سورة الفاتحة 2 ونحو ذلك لم يدل إلا على أن الأحياز الموجودة مخلوقه لله وهو ربها وهذا لا ينازع فيه مسلم لكن الاستدلال بالسمع على قدم شيء من ذلك أضعف من الاستدلال على أن الله تعالى ليس فوق العالمين فلا يمكن دفع أقوى الدلالتين بأضعفهما
الوجه العاشر أن يقال هذا الرازي وأمثاله يدعون أنه ليس في السمع ما يصرح بأن الله كان وحده ثم ابتدأ إحداث الأشياء من العدم بل يقولون بما هو أبلغ من ذلك كما يذكر مثل ذلك في كتاب المطالب العالية وغير ذلك من كتبه
وأما النصوص الكثيرة الدالة على علو الله على خلقه فلا ينازعون في كثرتها وظهور دلالتها ولا يدعون أنه عارضها نصوص سمعية تدفع موجبها وإنما يدعون أنه عارضها العقل
وإذا كان الأمر كذلك لم يجز أن يدفع موجب النصوص الكثيرة الدالة على أن الله فوق بأدلة سمعية ليست في الظهور والكثرة بمنزلتها
(6/325)
بل إذا قدر تعارض الأدلة السمعية كان الترجيح مع الأكثر الأقوى دلالة بلا ريب فعلم أنه لا يجوز دفع موجب نصوص العلو بالمقدمة التي أثبتها بالسمع
والمقدمة السمعية إما نص أو إجماع ولا نص في المسألة وأما الإجماع فهو يقول إنه لا يمكن العلم بإجماع من بعد الصحابة ومعلوم أنه ليس عن الصحابة بل ولا التابعين ولا الأئمة المشهورين ما يقرر مطلوبه بل النقول المتواترة عنهم توافق إثبات العلو لا نفيه
وأيضا فالإجماع عنده دليل ظني
ومعلوم أن النصوص الدالة على العلو أكثر وأقوى دلالة من النصوص الدالة على كون الإجماع حجة فكيف يجوز أن تدفع النصوص الكثيرة البينة الدلالة بنصوص دونها في الظهور والكثرة
وبالجملة من بنى كونه تعالى ليس على العرش على مقدمة سمعية فقوله في غاية الضعف كيفما احتج سواء ادعاها نصية أو إجماعية مع أن قوله أيضا في غاية الفساد في العقل عند من خبر حقائق الأدلة العقلية فقوله فاسد في صحيح المنقول وصريح المعقول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
قال الرازي الوجه السادس العالم كرة فإن الكسوف القمري يرى في البلاد الشرقية في أول الليل وفي البلاد الغربية في
(6/326)
آخره فلو كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر وأنه باطل
والاعتراض على هذا من وجوه
أحدها أن يقال القائلون بأن العالم كرة يقولون إن المحيط هو الأعلى وإن المركز الذي هو جوف الأرض هو الأسفل ويقولون إن السماء عالية على الأرض من جميع الجهات والأرض تحتها من جميع الجهات ويقولون قسمان حقيقية وإضافية فالحقيقية جهتان وهما العلو والسفل فالأفلاك وما فوقها هو العالى مطلقا وما في جوفها هو السافل مطلقا
وأما الإضافية فهي بالنسبة إلى الحيوان فما حاذى رأسه كان فوقه وما حاذى رجليه كان تحته وما حاذى جهته اليمنى كان عن يمينه وما حاذى اليسرى كان عن يساره وما كان قدامه كان أمامه وما كان خلفه كان وراءه
وقالوا هذه الجهات تتبدل فإن ما كان علوا له قد يصير سفلا له كالسقف مثلا يكون تارة فوقه وتاره تحته وعلى هذا التقدير فإذا علق رجل جعلت رجلاء إلى السماء ورأسه إلى الأرض أو مشت نملة تحت سقف رجلاها إلى السقف وظهرها إلى الأرض كان هذا
(6/327)
الحيوان باعتبار الجهة الحقيقية السماء فوقه والأرض تحته لم يتغير الحكم وأما باعتبار الإضافة إلى رأسه ورجليه فيقال إن السماء والأرض فوقه
وإذا كان كذلك فالملائكة الذين في الأفلاك من جميع الجوانب هم باعتبار الحقيقة كلهم فوق الأرض وليس بعضهم تحت بعض ولا هم تحت شيء من الأرض أي الذين في ناحية الشمال ليسوا تحت الذين في ناحية الجنوب وكذلك من كان في ناحية برج السرطان ليس تحت من كان في ناحية برج العقرب وإن كان بعض جوانب السماء تلى رؤوسنا تارة وأرجلنا أخرى وإن كان فلك الشمس فوق القمر وكذلك السحاب وطير الهواء هو من جميع الجوانب فوق الأرض وتحت السماء ليس شيء منه تحت الأرض ولا من في هذا الجانب تحت من في هذا الجانب وكذلك ما على ظهر الأرض من الجبال والنبات والحيوان والأناسي وغيرهم هم من جميع جوانب الأرض فوقها وهم تحت السماء وليس أهل هذه الناحية تحت أهل هذه الناحية ولا أحد منهم تحت الأرض ولا فوق السماء ألبتة فكيف تكون السماء تحت الأرض أو يكون من هو فوق السماء تحت الأرض ولو كان شيء منهم تحت الأرض للزم أن يكون كل منهم تحت الأرض وفوقها ولزم أن تكون كل من الملائكة وطير الهواء وحيتان الماء ودواب الأرض فوق الأرض وتحت الأرض ويلزم أن يكون كل شيء فوق ما يقابله وتحته ولزم أن يكون كل من جانبي
(6/328)
السماء فوق الآخر وتحت الأرض وأن يكون العرش إذا كان محيطا بالعالم تحت السماء وتحت الأرض مع أنه فوق السماء وفوق الأرض ولزم أن تكون الجنة تحت الأرض وتحت جهنم مع أنها فوق السموات وفوق الأرض وفوق جهنم ولزم أن يكون أهل عليين تحت أهل سجين مع أنهم فوقهم
فإذا كانت هذه اللوازم وأمثالها باطلة باتفاق أهل العقل والإيمان علم أنه لا يلزم من كون الخالق فوق السموات أن يكون تحت شيء من المخلوقات وكان من احتج بمثل هذه الحجة إنما احتج بالخيال الباطل الذي لا حقيقة له مع دعواه أنه من البراهين العقلية فإن كان يتصور حقيقة الأمر فهو معاند جاحد محتج بما يعلم أنه باطل وإن كان لم يتصور حقيقة الأمر فهو من أجهل الناس بهذه الأمور العقلية التي هي موافقه لما أخبرت به الرسل وهو يزعم أنها تناقض الأدلة السمعية فهو كما قيل % فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة % وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم %
الوجه الثاني أن يقال هب أنا لا نأخذ بما يقوله هؤلاء أليس من المعلوم عند جميع الناس أن السموات فوق الأرض والهواء فوق الأرض والسحاب والطير فوق الأرض والحيتان والدواب والشجر فوق الأرض الأرض والملائكة الذين في السموات فوق الأرض وأهل عليين فوق أهل سجين والعرش أعلى المخلوقات
(6/329)
كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفه عرش الرحمن
وهذه الأمور بعضها متفق عليه عند جميع العقلاء وما لم يعرفه جميع العقلاء فهو معلوم عند من يقول به ولم يقل أحد من العقلاء إن هذه الأمور تحت الأرض وسكانها وعلم العقلاء بذلك أظهر من علمهم بكرية الأفلاك لو قدر أن ذلك معارض لهذا فكيف إذا لم يعارضه
وإذا كانت المخلوقات التي في الأفلاك والهواء والأرض لا يلزم من علوها على ما تحتها أن تكون تحت ما في الجانب الآخر من العالم فالعلى الأعلى سبحانه أولى أن لا يلزم من علوه على العالم أن يكون تحت شيء منه
الوجه الثالث أن يقال هذه الحجة إما أن تكون سمعية وإما أن تكون عقلية ومن المعلوم أنها ليست سمعية ولو كانت سمعية لكانت السمعيات التي تدل على علو الله تعالى أنص وأكثر وأظهر على مالا يخفى على مسلم وإن كانت عقلية فلا بد من بيان مقدماتها بالعقل وهو لم يذكر إلا قوله فإن كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى
(6/330)
سكان الوجه الآخر من الأرض وأنه باطل فذكر مقدمتين لم يدل عليهما لزوم كونه أسفل بالنسبه إلى بعض المخلوقات وبطلان هذا اللازم والمنازع ينازع في كل من المقدمتين فلا يسلم لزوم السفول وإن سلم لزومه فلا بد من دليل عقلي ينفي به ذلك وهو لم يذكر على ذلك دليلا
ولا يجوز أن يقال هذا يوجب النقص وهو منزه عنه لوجهين
أحدهما أن المثبت لا يسلم أن هذا نقص ألا ترى أن الأفلاك موصوفة بالعلو على الأرض مع لزوم ما ذكر من السفول تحت سكان الوجه الآخر وليس ذلك نقصا فيها وكذلك كل ما يوصف بالعلو على ما تحته مثل الهواء والسحاب والطير والحيوان والنبات والجبال والمعدن ومثل الملائكة والجنة والعرش وغير ذلك فإذا كانت المخلوقات العالية أشرف في النفوس من المخلوقات السافلة ولم يكن ما ذكره من هذا السفول الإضافي مانعا من هذا الشرف والرتبة ولا يوجب ذلك نقصا علم أن هذا ليس بنقص
فإن قيل الناحية الأخرى ليس فيها حيوان ونبات ومعادن وجبال وإنما فيها ماء وكذلك السحاب والمطر قد يمنع كونه فيها
قيل هذا لا يضرنا فإنا نعلم أن الكواكب والشمس والقمر فوق الأرض مطلقا وعلوها على الأرض ليس بنقص فيها وإن قدر ما تخيلوه في السفول وكذلك إذا قدر هناك مثل ما في هذا الوجه ولو
(6/331)
كان ما هناك سافلا للزم أن تكون الشمس والقمر والسموات إذا ظهرت علينا تحت ذلك الجانب من الأرض وتحت ما هناك ولزم انه لا تزال الأفلاك تحت الكواكب والشمس والقمر تحت الأرض وهذا في غاية الفساد
ومن العجب أن هؤلاء النفاة يعتمدون في إبطال كتاب الله وسنة أنبيائه ورسله وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وما فطر الله عليه عباده وجعلهم مضطرين إليه عند قصده ودعائه ونصب عليه البراهين العقلية الضرورية على مثل هذه الحجة التي لا يعتمدون فيها إلا على مجرد خيال ووهم باطل مع دعواهم أنهم هم الذين يقولون بموجب العقل ويدفعون موجب الوهم والخيال
وكل من له معرفة يعلم أن قول القائل إن الشمس والقمر والكواكب الدائرة في الفلك هي بالليل تحت الأرض وهو من حكم الوهم الفاسد والخيال الباطل ليس له حقيقه في الخارج فيريدون بهذا الوهم والخيال الفاسد أن يبطلوا صريح المعقول وصحيح المنقول في أعظم الأصول ويحولوا بين القلوب وقصد خالقها وعبادته بمثل هذا الوهم والخيال الفاسد الملتبس على من لا يفهم حقيقة قولهم
الوجه الثاني أن يقال أنتم تقولون لم يقم دليل عقلى على نفي النقص عن الله تعالى كما ذكر ذلك الرازي متلقيا له عن أبي المعالى وأمثاله وإنما ينفون النقص بالأدلة السمعية وعمدتهم فيه على
(6/332)
الإجماع وهو ظني عنده والنصوص الدالة عليه دون النصوص الدالة على العلو في الكثرة والقوة
وإذا كان كذلك وكان علو الله تعالى على خلقه ثابتا بالسمع كان السمع مثبتا لما نفيتموه لا نافيا له ولم يكن في السمع ما ينفي هذا المعنى وإن سميتموه نقصا فإنه إذا كان عمدتهم الإجماع فلا إجماع في موارد النزاع ولا يجوز الاحتجاج بإجماع في معارضة النصوص الخبرية بلا ريب فإن ذلك يستلزم انعقاد الإجماع على مخالفة النصوص وذلك ممتنع في الخبريات وإنما يدعيه من يدعيه في الشرعيات ويقولون نحن نستدل بالإجماع على أن النص منسوخ
الوجه الرابع أن يقال إذا قدرنا موجودين أحدهما عظيم كبير أعظم من السموات والأرض بحيث يمكنه ان يحيط بذلك كله ويحتوي عليه وآخر ولا يشار إليه وليس هو داخل العالم ولا خارجه كان من المعلوم بالضرورة أن الأول أكمل وأعظم
فإذا قال القائل هذه العظمة تقتضي إذا كان محيطا بالعالم أن يكون تحت شيء منه كان من المعلوم أن وصف ذاك له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يحيط بشيء ولا يوصف بأنه عظيم كبير في نفسه ولا أنه
(6/333)
ليس بعظيم كبير في نفسه أعظم نقصا من وصفه بإحاطة ما يستلزم إحاطته بجميع الموجودات
الوجه الخامس أن يقال هب أن العالم كرى فلم قلت إنه إذا كان فوق العالم يلزم أن يكون تحت بعضه فإن هذا إنما يلزم إذا قدر أنه محيط بالعالم كله من جميع الجهات فأما إذا قدر أنه فوق العالم من هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن لم يلزم أن يكون تحت العالم من تلك الجهة فلو فرضنا مخلوقين أحدهما مدور والآخر فوق المدور ليس محيطا به كما يجعل الإنسان تحت قدمه حمصة أو بندقة لم يلزم أن يكون الذي فوق المدور تحت المدور يوجه من الوجوه
وإذا قيل المحيط بالمدور كالفلك التاسع المحيط بالأرض هو العالي من كل جانب
قيل هو العالي بالنسبة إلى ما في جوف المدور وأما بالنسبة إلى ما فوق المدور فلا بل المحيط وما في جوفه تحت ذلك الفوقاني مطلقا كما أن الحمصة والبندقة تحت الرجل الموضوعة عليها
ومما يوضح ذلك أن مركز الفلك هو السفل المطلق للفلك والفلك من كل جانب عال عليه فإذا قدر فوق الفلك من الجانب الذي يلي الجانب الذي عليه الأنام ما هو أعلى من الفلك من هذا الجانب وليس محيطا به ولا مركز العال مركزا له امتنع أن يكون هذا تحت شيء من العالم بل هو قطعا فوق الأفلاك من هذا الجانب وليس تحتها من ذلك الجانب فيلزم أن يكون هو فوقها لا تحتها
(6/334)
وإذا قال القائل هذا كما لا يوصف بالسفول فهو لا يوصف أيضا بالعلو فإن العالي المطلق هو المحيط إذا ليس إلا المحيط والمركز وهذا إذا لم يكن محيطا لم يكن عاليا
قيل عن هذا جوابان أحدهما أنه على هذا التقدير إذا كان محيطا لم يكن سافلا ألبتة بل يكون عاليا وعلى هذا فإن كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء ولو أدلى المدلى بجبل لهبط عليه كان محيطا بالعالم عاليا عليه مطلقا ولم يلزم من ذلك أن يكون فلكا ولا مشابها للفلك فإن الواحد من المخلوقات تحيط قبضته بما في يده من جميع جوانبها وليس شكلها شكل يده بل ولا شكل يده شكلها
وذكر أن بعض الشيوخ سئل عن كون الرب عاليا محيطا بالعالم ممسكا له فقال بعض مخلوقاته كالباشق مثلا يقبض بيده حمصة فيكون فوقها محيطا بها ممسكا لها فإذا كان هذا لا يمتنع في بعض مخلوقاته فكيف يكون ممتنعا في حقه
الثاني أنه إذا قدر أنه عال وليس بمحيط لم يلزم أن يكون له مركز ولا أن يكون مركز العالم مركزا له وأن يكون المركز هو السفل بالنسبة إليه وأن يكون العالي هو المحيط بالنسبة إليه بل ذلك بل ذلك إنما يلزم في المحيط كالنقطة من الدائرة فإذا قدر ما ليس بدائرة ولا هو كرة لم يكن له مركز كنقطة الدائرة ولهذا لو
(6/335)
قدر أن السموات ليست محيطة بالأرض لم يكن لها مركز مع تقدير الكرة المستديرة فلا بد لها من نقطة في وسطها هو المركز وأما ما ليس بمستدير ولا هو كرة فليس مركز الكرة وهو النقطة التي وسطها مركزا له سواء جعل فوق المستدير أو تحته فلا يمتنع أن يكون شيء فوق المستدير وتحته إذا لم يكن مستديرا ولا يكون مع هذا مشاركا للمستدير في أن النقطة لتي هي المحيطة مركزا له بل المركز نسبته إلى جميع جهات المحيط واحدة وليست نسبته إلى ما فوق المحيط أو تحته إذا قدر أن فوقه شيء أو تحته شيء ليس بمستدير نسبة واحدة بل يكون المركز مع المحيط تحت هذا الشيء المعين الذي ليس بمستدير كما قد يمكن أن يكون قوق شيء آخر فالمركز بالنسبة إلى المحيط تحته والمحيط فوقه وأما ما يقدر فوق المحيط فهو عال على الجميع قطعا ويمتنع أن يقال إنه ليس فوق المحيط فإنه معلوم بصريح العقل أن الهواء فوق الأرض والسماء فوق الأرض وهذا معلوم قبل أن يعلم كون السماء محيطة بالأرض بل الإحاطة قد يظن أنها مناقضة للعلو لا يقول أحد إن العلم بالعلو موقوف على العلم بها ولا إن العلو مشروط بها فإن الطير فوق الأرض وليس محيطا به والسحاب فوق الأرض وليس محيطا بها وكل جزء من أجزاء الفلك هو فوق الأرض وليس محيطا بها فتبين أن العلو معنى معقول مع أنه لا يشترط فيه الإحاطة وإن كانت الإحاطة لا تناقضه
(6/336)
وهؤلاء النفاة حائرون تارة ويجعلون الإحاطة مناقضة للعلو وتارة يجعلونها شرطا في العلو لازمة له ونحن قد بينا خطأهم في هذا وهذا فلا هي مناقضة له ولا هي منافية له
ولهذا كان الناس يعلمون أن السماء فوق الأرض والسحاب فوق الأرض قبل أن يخطر بقلوبهم أنها محيطة بالأرض
وكذلك يعلمون أن الله فوق العالم وإن لم يعلموا أنه محيط به وإذا علموا أنه محيط لم يمنع ذلك علمهم بأنه فوقه
فتبين أنه ليس من شرط العلم بكون الشيء عاليا أن يعلم أنه محيط ولو كانت الإحاطة شرطا في العلم امتنع العلم بالمشروط دون شرطه ولكن لما كان في نفس الأمر الأفلاك عالية محيطة كانت الإحاطة والعلو متلازمين في هذا محال فإن قدر أن كل عال فهو محيط كان العلو والإحاطة متلازمين وإن قدر وجود موجود عال ليس بمحيط لم تكن الإحاطة لازمة للعلو
فقد تبين أنه بتقدير أن يكون الرب عاليا ليس بمحيط فهو عال وبتقدير أن يكون عاليا محيط فهو عال فثبت علوه على التقديرين وهو المطلوب وإذا كان هذا معقولا في مخلوقين ففي الخالق بطريق الأولى
وقد قررت هذا على وجه آخر بأن يقال فإن قيل المحيط لا يتميز منه جانب دون جانب بكونه فوقا وسفلا فلا يمكن إذا قدر شيء
(6/337)
خارجا عنه أن يقال هو فوقه إلا كما يقال هو سفله وحينئذ ففرض شيء خارجا عن المدور المحيط مع كونه فوقه جمع بين الضدين
قيل الجواب عن هذا من وجوه
أحدها أن هذا الكلام إن كان صحيحا لزم بطلان حجتكم وإن لم يكن صحيحا لازم بطلانها فثبت بطلانها على تقدير النقيضين فيلزم بطلانها في نفس الأمر لأن الحق في نفس الأمر لا يخلو عن النقيضين
بيان ذلك أن المحيط إما أن يصح أن يقال إن بعضه عال وبعضه سافل وإما أن لا يصح فإن لم يصح بطل أن يكون الخارج عنه تحت شيء من العالم بل إذا قدر أنه يحيط به ولو بقبضته له لزم أن يكون عاليا عليه مطلقا ولم يكن سافلا تحت شيء من العالم وإن صح أن يكون بعضه عاليا وبعضه سافلا أمكن أن يكون مباينا للعالم من الجهة العالية فيكون عاليا عليه
وإن قيل بل المحيط إذا حاذى رؤوسنا كان عاليا وإذا حاذى أرجلنا كان سافلا فلا يزال بعضه عاليا وبعضه سافلا
قيل فعلى هذا التقدير يكون العالي ما كان فوق رؤوسنا وحينئذ فإذا كان مباينا للعالم من جهة رؤوسنا دون أرجلنا لم يزل عاليا علينا دائما وهو المطلوب
الوجه الثاني أن يقال هب أنه محيط بالعالم وفوقه من
(6/338)
جميع الجهات فإنما يلزم ما ذكرت أن لو كان من جنس فلك من الأفلاك فإن المتخيل قد يتوهم أن ما استدار وأحاط بالأفلاك كان تحت بعض العالم من بعض الجهات
ومن المعلوم أن الله تعالى ليس مثل فلك من الأفلاك ولا يلزم إذا كان فوق العالم ومحيطا به أن يكون مثل فلك فإنه العظيم الذي لا أعظم منه
وقد قال الله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } سورة الزمر 67
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ما يوافق ذلك مثل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض وفي رواية إنها تكون بيده مثل الكرة في يد الصبيان وروى ما هو أقل من ذلك
والمقصود أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره أو تدركه أبصارهم أو يحيطون به علما وأمكن أن تكون السموات والأرض في قبضته لم يجب والحال هذه أن يكون تحت العالم أو تحت شيء منه فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل وأحاط بها بغير ذلك لم يجز أن يقال إن أحد جانبيها فوقه لكون يده لما أحاطت بها كان منها
(6/339)
الجانب الأسفل يلي يده من جهة سفلها ولو قدر من جعلها فوق بعضه بهذا الاعتبار لم يكن هذا صفة نقص بل صغة كمال
وكذلك أمثال ذلك من إحاطة المخلوق ببعض المخلوقات كاحاطة الإنسان بما في جوفه وإحاطة البيت بما فيه وإحاطة السماء بما فيها من الشمس والقمر والكواكب فإذا كانت هذه المحيطات لا يجوز أن يقال إنها تحت المحاط وأن ذلك نقص مع كون المحيط يحيط به غيره فالعلى الأعلى المحيط بكل شيء الذي تكون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه كيف يجب أن يكون تحت شيء مما هو عال عليه أو محيط به ويكون ذلك نقصا ممتنعا
وقد ذكر أن بعض المشايخ سئل عن تقريب ذلك إلى العقل فقال للسائل إذا كان باشق كبير وقد أمسك برجله حمصة أليس يكون ممسكا لها في حال طيرانه وهو فوقها ومحيط بها فإذا كان مثل هذا ممكنا في المخلوق فكيف يتعذر في الخالق
قال الرازي واحتج الخصم بالعلم الضروري بأن كل موجودين فإن أحدهما سار في الآخر أو مباين عنه في الجهة
(6/340)
قال والجواب أن دعوى الضرورة قد سبق بطلانها وبقي القسم الثالث فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها
والاعتراض على هذا أن دعوى الضرورة لا يمكن إبطالها إلا بتكذيب المدعي أو بيان حطئه والمدعون لذلك أمم كثيرة منتشرة يعلم أنهم لم يتواطأوا على الكذب فالقدح في ذلك كالقدح في سائر الأخبار المتواترة فلا يجوز أن يقال إنهم كذبوا فيما أخبروا به عن أنفسهم من العلم الضروري
وأيضا فالمنازع يسلم أن مثل هذا مستقر في فطر جميع الناس وبدائههم وأنهم مضطرون إليه لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم إلا كما يمكن دفع أمثاله مما هم مضطرون إليه وإنما يقولون إن هذه الضرورة خطأ وهي من حكم الوهم
وقد تقدم بيان فساد ذلك وأن هذه القضية كلية عقلية لا خبرية معينة ولو كانت خبرية معينة فالجزم بها كالجزم بسائر الحسيات الباطنة والظاهرة فهي لا تخرج عن العقليات الكلية والحسيات المعينة وكما يمتنع اتفاق الطوائف الكثيرة التي لم تتواطأ على دعوى الكذب في مثل
(6/341)
ذلك يمتنع اتفاقهم على الخطأ في مثل ذلك ولو جاز الخطأ في مثل ذلك لم يكن الجزم بما يخبر به الناس عما عرفوه بالحس أو الضرورة لإمكان غلطهم في ذلك فإن غلط الحس الظاهر أو الباطن أو العقل يقع لآحاد الناس ولطائفة حصل بينها مواطأة وتلقى بعضها عن بعض كالمذاهب الموروثة وكقول التابعين لكون هذا معلوما بالضرورة فإنهم أهل مذهب تلقاه بعضهم عن بعض
وأما الجازمون بالضرورة في أن الله فوق العالم أو أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يعقل موجودان ليس أحدهما محايثا للآخر ولا مباينا له وأن مثل هذا ممتنع بالضرورة التي يجدونها في أنفسهم كسائر علومهم الضرورية فهؤلاء أمم كثيرة لم يتواطأوا ولم يتفقوا على مذهب معين
وأما قوله وبقي القسم الثالث فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها
فليس الأمر كذلك لأن هذه المقدمة الضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يعارضها كسائر المعارف الضرورية بل نعلم بالضرورة أن ماعارضها من النظريات فهو باطل على سبيل الجملة وإن لم نذكر حل الشبه على وجه التفصيل كما نعلم فساد سائر النظريات السوفسطائية المعارضة للعلوم الضرورية
وإذا قال القائل لا تثبت هذه المقدمة حتى ينفى المعارض المبطل لها ونفي ذلك لا يكون إلا بثبوتها
(6/342)
كان قوله ممنوعا غير مقبول باتفاق العقلاء على نظائر ذلك فإن كل مقدمة ضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يقدح فيها والاستدلال بها لا يتوقف على ذلك بل هم يقولون إن القضايا اليقينية سواء كانت ضرورية أو نظرية لا يتوقف العلم بموجبها على نفي المعارض ولو توقف على ذلك لم يعلم أحد شيئا لأن ما يخطر بالقلوب من الشبهات المعارضة لا نهاية له فكيف يحتاج فى العلوم الضرورية إلى نفي المعارض
ولهذا كان جميع العقلاء السالمي الفطرة يحكمون بموجب هده القضية الضرورية قبل أن يعلموا أن فى الوجود من ينكرها ويخالفها وأكثر الفطر السليمة إذا ذكر لهم قول النفاة بادروا إلى تجهيلهم وتكفيرهم ومنهم من لا يصدق أن عاقلا يقول ذلك لظهور هذه القضية عندهم واستقرارها في أنفسهم فينسبون من خالفها إلى الجنون حتى يروا ذلك في كتبهم أو يسمعوه من أحدهم
ولهذا تجد المنكر لهذه القضية يقر بها عند الضرورة ولا يلتفت إلى ما اعتقده من المعارض لها فالنفاة لعلو الله إذا حزب أحدهم شدة وجه قلبه إلى العلو يدعو الله
ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم وهو يطلب مني حاجة وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني غير منكر له وأخرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره فرفع طرفه ورأسه إلى السماء وقال يا الله فقلت له أنت محقق لمن ترفع طرفك
(6/343)
ورأسك وهل فوق عندك أحد فقال استغفر الله ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته ثم بينت له فساد هذا القول فتاب من ذلك ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم
قال الرازي واحتج الخصم أيضا بأن اختصاص الجسم بالحيز والجهه إنما كان لكونه قائما بالنفس يعني وهذا ثابت لكل قائم بنفسه وإذا كان في جهة كان في جهة فوق لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء قال والجواب أن اختصاص الجسم بالحيز والجهة قد يكون لذاته المخصوصة فإنه لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى
والاعتراض على ذلك أن يقال إن عنيت بذاته المخصوصة هو ما
(6/344)
يمتاز به جسم عن جسم كما يقال اختصاص الفلك بالحيز لكونه فلكا واختصاص الماء بالحيز لكونه ماء واختصاص الهواء بالحيز لكونه هواء فهذا باطل لا يقوله عاقل فإن جميع الأجسام مشتركة في الاختصاص بالحيز والجهة والحكم العام المشترك بينها لا يكون إلا لما امتاز به بعضها عن بعض فإنه لو كان لما امتاز به بعضها عن بعض وجب أن يختص ببعضها كسائر ما كان من ملزومات المخصصات المميزات
وإذا قيل إن المختلفات يجوز أن تشترك في لازم عام كاشتراك أنواع الحيوانات المختلفة في الحيوانية فهذا صحيح لكن لا يجوز أن يكون الحكم العام المشترك فيه لأجل ما يختص به كل حيوان
وإذا قيل إن الحكم الواحد بالنوع يجوز أن يعلل بعلتين مختلفتين كما يعلل حل الدم بالردة والقتل والزنا وكما يعلل الملك بالإرث والبيع والاصطياد وكما يعلل وجوب الغسل بالإنزال والإيلاج والحيض فالوجوب الثابت بهذا السبب ليس هو بعينه الوجوب الثابت بهذا السبب لكنه نظيره مع أنهما يختلفان بحسب اختلاف الأسباب فليس الملك الثابت بالإرث مساويا للملك الثابت بالبيع من كل وجه بل له خصائص يمتاز بها عنه وكذلك حل الدم الثابت بالردة ليس مساويا لحل الدم الثابت بالقتل بل بينهما فروق معروفة
وكذلك الغسل المشروع بالحيض مخالف للغسل المشروع بالإيلاج من بعض الوجوه وأما الإنزال والإيلاج فهما نوع واحد
وأما ما جزم العقل بثبوته للقدر المشترك فيجب أن يضاف إلى قدر
(6/345)
مشترك والعقل يحزم بثبوت الحيز والجهة لكل جسم من غير أن يعلم كل جسم بل لا يعقل حقيقة الجسم عنده إلا مع كونه متحيزا ذا جهة فصار هذا من لوازم القدر المشترك فلا يجوز أن يضاف إلى المخصصات
وقوله لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفه لصفة أخرى
إنما تكون حجة لو قيل العلة في ثبوت هذه الصفة لصفة أخرى وليس هذا هو المدعى بل المدعى أن هذا من لوازم القدر المشترك سواء قيل إنه معلول له أو لازم غير معلول له وحينئذ فلا يحتاج أن نقول ثبت لصفة أخرى بل يمكن أن يكون لازما لنفس الذات لكن هو لازم لسائر ما يشابهها في الحيز والجهة فلم يكن لزومه لها من جهة ما يمتاز به عن غيرها بل من جهة القدر المشترك بينها وبين غيرها من الأجسام
فعلم أن اتصاف الجسم بكونه متحيزا وذا جهة لازم له لعموم كونه جسما لا لخصوص المعينات بمعنى أن المشترك مستلزم لهذا الحكم
وإن عنيت بذاته المخصوصة القدر المشترك بين الأجسام فلفظ الجسم مجمل إن عنيت به كل ما يشار إليه فتسمية مثل هذا جسما مما ينازعك فيه من ينازعك من أهل الإثبات والكلام في المعاني العقلية لا في المنازعات اللفظية
وصاحب هذا القول قد يمنع أن كل ما يشار إليه مركب من الجواهر
(6/346)
المفردة أو من المادة والصورة وحينئذ فالناس هنا طوائف منهم من يقول لك هو فوق العالم وليس بجسم ومنهم من يقول لك هو فوق العالم وهو جسم بمعنى أنه يشار إليه لا بمعنى أنه مركب ومنهم من يسلم لك أنه يلزم أن يكون مركبا ومنهم من لا يطلق الألفاظ البدعية في النفي ولا الإثبات بل يراعي المعاني العقلية والألفاظ الشرعية فيقولون لك القدر المشترك بينهما هو القيام بالنفس فإنها كلها مشتركة في القيام بالنفس وفي التحيز وفي الجهة فهذه أمور متلازمة
ويقول لك كثير منهم أو أكثرهم لا يعقل قائم بنفسه غير متحيز كما لا يعقل قائم بغيره إلا وهو صفة سواء سمى عرضا أو لم يسم فإثبات المثبت قائما بنفسه لا يشار إليه أمر لا يعقل عند عامة العقلاء كإثباته قائما بغيره ليس صفة له
ويوضح ذلك أن الأجسام مختلفة على أصح قولى الناس وإنما اشتركت في مسمى القيام بالنفس والمقدار مع القيام بالنفس فكما أن التحيز والجهة هما من لوازم المقدار العام لا من لوازم ما يختص ببعضها فكذلك هما من لوازم القيام بالنفسى العام لا من لوازم ما يختص ببعضها وإن عنيت بلفظ الجسم ما هو مركب من المادة والصورة أو من الجواهر المفردة كما هو قول طوائف من أهل الكلام والفلسفة فهنا المنازعون لك صنفان منهم من يقول هو جسم مركب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة وهؤلاء وإن كان قولهم باطلا فليس لك حجة تبطل بها قولهم بل هم على إبطال قولك أقدر منك على إبطال قولهم فإن كل قول يكون أبعد عن الحق
(6/347)
تكون حجج صاحبه أضعف من حجج من هو أقل خطأ منه
وقول المعطلة لما كان أبعد عن الحق من قول المجسمة كانت حجج أهل التعطيل أضعف من حجج أهل التجسيم ولما كان مرض التعطيل أعظم كان عناية الكتب الإلهية بالرد على أهل التعطيل أعظم وكانت الكتب الإلهية قد جاءت بإثبات صفات الكمال على وجه التفضيل مع تنزيهه عن أن يكون له فيها مثيل بل يثبتون له الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات ويأتون بإثبات مفصل ونفي مجمل فيثبتون أن الله حي عليم قدير سميع بصير غفور رحيم ودود إلى غير ذلك من الصفات ويثبتون مع ذلك أنه لا ند له ولا مثل له ولا كفو له ولا سمى له
ويقول تعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } سورة الشورى 11 ففي قوله { ليس كمثله شيء } رد على أهل التمثيل وفي قوله { وهو السميع البصير } رد على أهل التعطيل
ولهذا قيل الممثل يعبد صنما والمعطل يعبد عدما
والمقصود هنا أن هؤلاء النفاة لا يمكنهم إقامة حجة على غلاة المجسمة الذي يصفونه بالنقائص حتى الذين يقولون ما يحكى عن بعض اليهود أنه بكى على الطوفان حتى رمد وأنه عض يده حتى جرى منه الدم ندما ونحو ذلك من المقالات التي هي من أفسد المقالات وأعظمها كفرا ليس مع هؤلاء النفاة القائلين بأنه بداخل العالم ولا خارجه حجة عقليه يبطلون بها مثل هؤلاء الأقوال الباطلة فكيف بما هو دونها من الباطل فكيف بالأقوال الصحيحة
(6/348)
وذلك أن عمدتهم على أن هذه الصفات تستلزم التجسيم وهو باطل وعمدتهم في نفي التجسيم على امتناع اتصافه بالصفات ويسمونه التركيب أو على حدوث الجسم الذى مبناه على أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وعلى أن ما اختص بشيء فلا بد له من مخصص من غير فرق بين الواجب بذاته القديم الأزلي وبين غيره مع العلم بأنه لا بد للموجود الواجب من حقيقة يختص بها يتميز بها عما سواه وأن ما اختصت به حقيقته يمتنع أن يكون لها مخصص كما يمتنع أن يكون لوجوده الواجب موجب أو لعلمه معلم أو لقدرته مقدور ونحو ذلك
وإذا كان كذلك فهؤلاء يقولون لك الاختصاص بالحيز والجهة إنما كان لكون المختص بها قائما بالنفس فيكون كل قائم بنفسه مختصا بالحيز والجهة ويقولون إن عنيت أن كل مختص بجهة إنما اختص بجنس الحيز والجهة لذاته المخصوصة فقد ظهر بطلان ذلك
وإن قلت إنما اختص بالجهة المخصوصة والحيز المخصوص لذاته المخصوصة لم ينازعك في ذاك بل يقولون الاختصاص بجنس الجهة والحيز كان لجنس القيام بالنفس فجنس الاختصاص لازم لجنس القيام بالنفس فكل قائم بنفسه مختص بحيز وجهة فقد تبين أن كونه متحيزا ذا جهة لازم لعموم كونه جسما لا لخصوص جسم معين
وحينئذ فإذا قلت كما أن الاختصاص بالجهة والحيز من لوازم القيام بالنفس فهو مستلزم لكونه جسما
قالوا لك ونحن نقول بذلك
(6/349)
وكذلك إذا قلت لهم كما لا تعقلون قائما بنفسه إلا مختصا بجهة وحيز فلا تعقلون قائما بنفسه إلا جسما
قالوا لك ونحن نقول بذلك
فإذا شرعت معهم في نفي الجسم كان لهم طريقان أحدهما أن يقولوا هذا قدح في الضروريات بالنظريات فلا نقبله كما تقدم
والثاني أن يبينوا بطلان أدلة النافيه للتجسيم وأنت تعترف ببطلانها
فأنت في غير موضع من كتبك ومن تقدمك كالغزالي وغيره تبينون فساد حجج المتكلمين على أن كل جسم محدث وتقدحون فيها بما لا يمكن إبطاله كما فعلت في المباحث المشرقية والمطالب العالية بل كما فعل من بعدك كالآمدي والآرموي وغيرهما وأنتم في مواضع أخر تقدحون في حجج من احتج على أن الجسم مركب وكل مركب فهو مفتقر بذاته وتقدحون في أدلة الفلاسفة التي احتجوا بها على إمكان كل مركب كما فعل الغزالي في تهافت الفلاسفة وكما فعله الرازي والآمدي وغيرهما
وهذه الحجة وهي الاحتجاج بكون الرب قائما بنفسه على كونه مشار إليه وأنه فوق العالم لما كانت حجة عقلية لا يمكن مدافعتها وكانت مما ناظر به الكرامية لأبي إسحاق الإسفراييني فر أبو إسحاق وغيره إلى إنكار كون الرب قائما بنفسه بالمعنى المعقول
(6/350)
وقال لا أسلم أنه قائم بنفسه إلا بمعنى أنه غني عن المحل فجعل قيامه بنفسه وصفا عدميا لا ثبوتيا وهذا لازم لسائرهم
ومعلوم أن كون الشيء قائما بنفسه أبلغ من كونه قائما بغيره فإذا كان العرض القائم بغيره يمتنع أن يكون عدميا فقيام الجسم بنفسه أبلغ في الامتناع وإذا كان المخلوق قائما بنفسه فمعلوم أن هذه صفة كمال تميز بها الجسم عن العرض فخالق الجميع كيف لا يتصف إلا بهذه الصفة الكمالية
بل لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره إلا بمعنى عدمي فيكون المخلوق مختصا بصفة موجودة كمالية والخالق لا يتصف إلا بالأمر العدمي فيكون المخلوق متصفا بصفة كمال وجودية والخالق مختصا بالأمر العدمى والعدم لا يكون قط صفة كمال إلا إذا تضمن أمرا وجوديا فما ليس بوجود ولا كمال في الوجود فليس بكمال فإذن لم يكن القيام بالنفس متضمنا لأمر وجودي بل لا معنى له إلا العدم المحض لم يكن صفة كمال وعدم افتقاره إلى الغير أمر عدمي والعدمي إن لم يتضمن صفة ثبوتية لم يكن صفة كمال والعدم المحض لا يفتقر إلى محل وكل صفة لا يشاركه فيها المعدوم لم تكن صفة كمال
وأما الصنف الثاني فهم يوافقونك على أن صانع العالم ليس بمركب من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة فليس هو بجسم
وحينئذ فقولك إن اختصاص الجسم بالحيز والجهة قد يكون
(6/351)
لذاته المخصوصة إن عنيت بذاته المخصوصة هذا التركيب فهذا المعنى ممنوع عنده فضلا عن أن يكون علة لهذا الحكم
وإن عنيت بذاته المخصوصة ما هو مشترك بين الأجسام من كونها مشارا إليها فلا يسلم لك أن في الوجود قائما بنفسه غير مشار إليه
قال الرازي في حجة خصمه وإذا كان في جهة كان في جهة فوق لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب
قال والجواب قوله جهة فوق أشرف الجهات خطابي لا يثبت به العقليات
قال ولأن العالم كرة فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة ولأنه إن لم يكن لامتداده في جهة العلو نهاية فكل نقطة فوقها نقطة أخرى فلا شيء يفرض فيه إلا وهو سفل وإن كان له نهاية كان فوق طرفه الأعلى خلاء أعلى منه فلم يكن علوا مطلقا ولأن الشرف الحاصل بسبب الجهة للجهة بالذات وللحاصل فيها بالعرض فكان المكان في هذا الباب أشرف منه تعالى الله عن ذلك
(6/352)
قلت ولقائل أن يقول تقرير العلو بالأدلة العقلية ثبت من طرق
أحدها أن يقال إذا ثبت بالعقل أنه مباين للمخلوقات وثبت أن العالم كرى وأن العلو المطلق فوق الكرة لزم أن يكون في العلو بالضرورة
وهذه مقدمات عقلية ليس فيها خطابي وذلك لأن العالم إذا كان مستديرا فله جهتان حقيقيتان العلو والسفل فقط وإذا كان مباينا للعالم امتنع أن يكون في السفل داخلا فيه فوجب أن يكون في العلو مباينا له وقد تقدم أن النافي قال إن العالم كرة واستدل على ذلك بالكسوف القمري إذا كان يتقدم في الناحية الشرقية على الغربية
والقول بأن الفلك مستدير هو قول جماهير علماء المسلمين والنقل بذلك ثابت عن الصحابة والتابعين بل قد ذكر أبو الحسين بن المنادى وأبو محمد بن حزم وابن الجوزي وغيرهم أنه ليس في ذلك خلاف بين الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين وقد نازع في ذلك طوائف من أهل الكلام والرأي من الجهمية والمعتزلة وغيرهم
وقد قال الله تعالى { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } سورة الأنبياء 33 وقال { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } سورة يس 40
(7/3)
قال ابن عباس وغيره في فلكه مثل فلكة المغزل
وفي حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما أن أعرابيا قال يا رسول الله جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فسبح رسول الله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك أتدري ما الله شأن الله أعظم من ذلك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه إن عرشه على سماواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة وإنه ليأط به أطيط الرحل الجديد براكبه وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
وإذا كان الخصم قد استدل بذلك كان ذلك حجة عليه فإذا كان العالم كريا وقد ثبت بالضرورة أنه إما مداخل له وإما مباين له وليس بمداخل له وجب أن يكون مباينا له وإذا كان مباينا له وجب أن يكون فوقه إذ لا فوق إلا المحيط وما كان وراءه
(7/4)
الطريق الثاني أن يقال علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم أمر مستقر في فطر العباد معلوم لهم بالضرورة كما اتفق عليه جميع الأمم إقرارا بذلك وتصديقا من غير أن يتواطأوا على ذلك ويتشاعروا وهم يخبرون على أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم
الطريق الثالث أن يقال هم عندما يضطرون إلى قصد الله وإرادته مثل قصده عند الدعاء والمسألة يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو فكما انهم مضطرون إلى دعائه وسؤاله هم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلو إليه لا يجدون في قلوبهم توجها إلى جهة أخرى ولا استواء الجهات كلها عندها وخلو القلوب عن قصد جهة من الجهات بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات
وهذا الوجه يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو وتوجههم عند دعائه إلى العلو والأول يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك فهذا فطرة واضطرار إلى العلم والتصديق والإقرار وذاك اضطرار إلى القصد والإرادة والعمل المتضمن للعلم والتصديق والإقرار
الطريق الرابع أن يقال قوله جهة فوق أشرف الجهات خطابي ليس كذلك وذلك لأنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص فلما تقابل الموت والحياة وصف
(7/5)
بالحياة دون الموت ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل ولما تقابل القدرة والعجز وصف بالقدرة دون العجز ولما تقابل الكلام والبكم وصف بالكلام دون البكم ولما تقابل السمع والبصر والصمم والعمى وصف بالسمع والبصر دون الصمم والعمى ولما تقابل الغنى والفقر وصف بالغنى دون الفقر ولما تقابل الوجود والعدم وصف بالوجود دون العدم ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عاليا على العالم أو مسامتا له وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة فضلا عن السفول
والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم فإذا كان مباينا للعالم كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم لا محاذيا له ولا سافلا عنه ولما كان العلو صفة كمال كان ذلك من لوازم ذاته فلا يكون مع وجود غيره إلا عاليا عليه لا يكون قط غير عال عليه
كما ثبت في الصحيح الذي في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر
(7/6)
فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء
ولهذا كان مذهب السلف والأئمة أنه مع نزوله إلى سماء الدنيا لا يزال فوق العرش لا يكون تحت المخلوقات ولا تكون المخلوقات محيطة به قط بل هو العلي الأعلى العلي في دنوه القريب في علوه
ولهذا ذكر غير واحد إجماع السلف على أن الله ليس في جوف السماوات ولكن طائفة من الناس قد يقولون إنه ينزل ويكون العرش فوقه ويقولون إنه في جوف السماء وإنه قد تحيط به المخلوقات وتكون أكبر منه
وهؤلاء ضلال جهال مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول كما أن النفاة الذين يقولون ليس داخل العالم ولا خارجه جهال ضلال مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول فالحلولية والمعطلة متقابلان
(7/7)
الطريق الخامس أن يقال إذا كان مباينا للعالم فإما أن يقدر محيطا به أو لا يقدر محيطا به سواء قدر أنه محيط به دائما أو محيط به بعض الأوقات كما يقبض يوم القيامة الأرض ويطوي السماوات فإن قدر محيطا به كان عاليا عليه علو المحيط على المحاط به
وقد تقدم قولهم ان الفلك كرى فيلزم أن تكون الأفلاك محيطة بالأرض وهي فوقها باتفاق العلماء فما كان محيطا بالجميع أولى بالعلو والارتفاع سبحانه وتعالى وإن لم يكن مماثلا لشيء من المخلوقات ولا مجانسا للأفلاك ولا غيرها
وإن لم يقدر محيطا به فإن كان العالم كريا وليس لبعض جهاته اختصاص بالعلو فإذا كان مباينا له لزم أن يكون عاليا كيفما كان الأمر
وإن قدر أن العالم ليس بكرى أو هو كرى ولكن بعض جهاته لها اختصاص بالعلو مثل أن نقول إن الله وضع الأرض وبسطها للأنام فالجهة التي تلي رؤوس الناس هي جهة العلو من العالم دون الأخرى فحينئذ إذا كان مباينا وقدر أنه غير محيط فلا بد من اختصاصه بجهة العلو أو غيرها
ومن المعلوم أن جهة العلو أحق بالاختصاص لأن الجهة العالية أشرف بالذات من السافلة ولهذا اتفق العلماء على أن جهة السماوات أشرف من جهة الأرض وجهة الرأس أشرف من جهة الرجل فوجب اختصاصه بخير النوعين وأفضلهما إذ اختصاصه بالناقص المرجوح ممتنع
(7/8)
وأما قول النافي ولأن العالم كرة فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة
فيقال له هذا خطأ لما تقدم من أن المحيط باتفاق العقلاء عال على المركز وأن العقلاء متفقون على أن الشمس والقمر والكواكب إذا كانت في السماء فلا تكون إلا فوق الأرض وكذلك السحاب والطير في الهواء
وأيضا فإن هذا التحت أمر خيالي وهمي لا حقيقة له وليس فيه نقص كالمعلق برجليه لا تكون السماء تحته إلا في الوهم الفاسد والخيال الباطل وكذلك النملة الماشية تحت السقف فالشمس والقمر والنجوم السابحة في أفلاكها لا تكون بالليل تحتنا إلا في الوهم والخيال الفاسد
وأيضا فإنه مع كونه كريا لا يمتنع أن نختص إحدى جهتيه بوصف اختصاص ألا ترى أن الأرض مع قولهم إنها كرية فإن هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن أشرف من الجهة التي غمرها الماء وإذا كانت هذه الجهة أشرف جهتي الأرض لم يمتنع أن يكون ما يحاذيها أشرف مما يحاذي الجهة الأخرى فما كان فوق الأفلاك من هذه الجهة أشرف مما يكون من تلك الجهة الأخرى
ومما يوضح ذلك أن مقتضى طبيعة الماء والتراب عند من يعتبر ذلك أن يكون الماء قد غمر الأرض كلها من هذه الناحية كما غمرها
(7/9)
من تلك الناحية لأن الماء بالطبع يعلو على التراب ومع هذا فقد اختص هذا الوجه بأن الماء ممنوع عنه
وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من ليلة إلا والبحر يستأذن ربه في أن يغرق بني آدم فيمنعه ربه
وأهل الطبع والحساب قد حاروا في سبب جفاف هذا الوجه حتى قالوا هذا سببه عناية الرب مع أن هذا عندهم إذا قالوه ينقض مذاهبهم
وإذا كان هذا فيما شوهد فما المانع أن يكون فوق الأفلاك من هذا الجانب ما هو مختص بأمر يقتضي اختصاص الرب بالعلو عليه من هذا الوجه
وأما قوله إن لم يكن لامتداده في جهة العلو نهاية فكل نقطة فوقها أخرى فلا شيء يفرض فيه إلا وهو سفل وإن كان له نهاية كان فوق طرف العلو خلاء أعلى منه فلم يكن علوا مطلقا
فجوابه من وجوه
أحدها أن يقال العلى الأعلى هو الذي ليس فوقه شيء أصلا
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنت
(7/10)
الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء
وحينئذ فهذا الخلق المذكور إما أن يكون شيئا موجودا وإما أن لا يكون شيئا موجودا فإن كان الأول فهو من العالم والله فوقه إذ هو العلى الأعلى الظاهر الذي ليس فوقه شيء وإن لم يكن شيئا موجودا فهذا لا يوصف بأنه فوق غيره ولا تحته ولا يقال إن تحته شيء ولا فوقه شيء إذ هو عدم محض ونفي صرف فلا يجوز أن يقال إن فوق الله شيء والعدم ليس بشيء لا سيما العدم الممتنع فإنه ليس بشيء باتفاق العقلاء ويمتنع أن يكون فوق الله شيء فهو عدم ممتنع
الثاني أن يقال غاية الكمال في العلو أن لا يكون فوق العالي شيء موجود والله موصوف بذلك وما ذكرته من الخلاء إذا قدر أنه لا بد منه لم يقدح ذلك في علوه الذي يستحقه كما أنه سبحانه موصوف بأنه على كل شيء قدير والممتنع لنفسه الذي ليس بشيء ولا يدخل في العموم لا يكون عدم دخوله نقصا في قدرته الشاملة
وكذلك هو سبحانه بكل شيء عليم فيعلم الأشياء على ما هي عليه فما لم يكن موجودا لا يعلمه موجودا كما قال تعالى { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } سورة يونس
(7/11)
( 18 ) ولا يكون نفي هذا العلم نقصا بل هو من تمام كماله لأنه يقتضي أن يعلم الأشياء على ما هي عليه ونظائر هذا كثيرة
الثالث أن يقول له إخوانه الذين يقولون إنه لا نهاية له في ذاته قولك إن ما لا يتناهى فكل نقطة منها فوقها نقطة فكل شيء منه سفل لا يقدح في مطلوبنا فإن مقصودنا أن لا يكون غيره أعلى منه بل هو عال على كل موجود ثم بعد ذلك إذا قدرت أنه ما منه شيء إلا وغيره منه أعلى منه لم يقدح هذا في مقصوده ولا في كماله فإنه لم يعل على شيء منه إلا ما هو منه لا من غيره
وأيضا فإن مثل هذا لا بد منه والواجب إثبات صفات الكمال بحسب الإمكان
وأيضا فإن مثل هذا كمال في العلو ولا يقدح في العالي أن يكون بعضه أعلى من بعض إذا لم يكن غيره عاليا عليه
وأيضا فإن الناس متنازعون في صفاته هل بعضها أفضل من بعض مع أنها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه وهل بعض كلامه أفضل من بعض مع كمال الجميع
والسلف والجمهور على أن بعض كلامه أفضل من بعض وبعض صفاته أفضل من بعض مع كونها كلها كاملة لا نقص فيها كما دلت
(7/12)
على ذلك نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } سورة البقرة 106
وكقوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه إن رحمتي تغلب غضبي وفي لفظ سبقت غضبي
وقوله { قل هو الله أحد } سورة الإخلاص 1 تعدل ثلث القرآن
وقوله في فاتحة الكتاب لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها
فنفى أن يكون لها مثل
وقوله عن آية الكرسي إنها أعظم آية في القرآن
(7/13)
وقوله صلى الله عليه وسلم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وقوله يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع فأخبر أن الفضل بيده اليمنى والقسط بيده الأخرى مع أن كلا يديه يمين
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا
فإذا كانت صفاته كلها كاملة لا نقص فيها وبعضها أفضل من بعض لم يمتنع أن يكون هو العالي علوا مطلقا وإن كان منه ما هو أعلى من غيره
(7/14)
وأما قوله إن الشرف الحاصل بسبب الجهة لها بالذات وللحاصل فيها بالعرض
فجوابه من وجوه
أحدها أن هذا إنما يمكن أن يقال إذا كانت الجهة أمرا وجوديا فأما إذا كانت أمرا عدميا والمراد بذلك أنه فوق العالم مباين له ليس معه هناك موجود غيره لم يكن هناك شيء موجود غيره يستحق العلو لا جهة ولا غيرها فضلا عن أن يستحق غيره العلو والشرف والذات
وهؤلاء يتكلمون بلفظ الجهة والحيز والمكان ويعنون بها تارة أمرا معدوما وتارة أمرا موجودا ولهذا كان أهل الإثبات من أهل الحديث والسلفية من جميع الطوائف منهم من يطلق لفظ الجهة ومنهم من لا يطلقه وهما قولان لأصحاب أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والرأي
وكذلك لفظ ( المكان ) منهم من يطلقه ومنهم من يمنع منه وأما لفظ المتحيز فمنهم من ينفيه وأكثرهم لا يطلقه ولا ينفيه لأن هذه ألفاظ مجملة تحتمل حقا وباطلا
وإذا كان كذلك فيقال قول القائل إن الله في جهة أو حيز أو مكان إن أراد به شيئا موجودا غير الله فذلك من جملة مخلوقاته ومصنوعاته فإذا قالوا إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه امتنع أن يكون محصورا أو محاطا بشيء موجود غيره سواء سمى مكانا أو جهة أو حيزا أو غير ذلك ويمتنع أيضا أن يكون محتاجا إلى
(7/15)
شيء من مخلوقاته لا عرش ولا غيره بل هو بقدرته الحامل للعرش ولحملته فإن البائن عن المخلوقات العالي عليها يمتنع أن يكون في جوف شيء منها
وإذا قيل إنه في السماء كان المعنى إنه في العلو وهو مع ذلك فوق كل شيء ليس في جوف السماوات فإن السماء هو العلو وكل ما علا فهو سماء
يقال سما يسمو سموا أي علا يعلو علوا وهذا اللفظ يعم كل ما يعلو لم يخص بعض أنواعه بسبب القرينة
فإذا قيل فليمدد بسبب إلى السماء فقد يراد به السقف وإذا قيل نزل المطر من السماء كان نزوله من السحاب وإذا قيل العرش في السماء فالمراد به ما فوق الأفلاك وإذا قيل الله في السماء فالمراد بالسماء ما فوق المخلوقات كلها أو يراد أنه فوق السماء وعليها فأما أن يكون في جوف السماوات فليس هذا قول أهل الإثبات أهل العلم والسنة ومن قال بذلك فهو جاهل كمن يقول إن الله ينزل ويبقى العرش فوقه أو يقول إنه يحصره شيء من مخلوقاته فهؤلاء ضلال كما أن أهل النفي ضلال
وإن أراد بمسمى الجهة والحيز والمكان أمرا معدوما فالمعدوم ليس شيئا فإذا سمى المسمى ما فوق المخلوقات كلها حيزا وجهة ومكانا كان المعنى أن الله وحده هناك ليس هناك غيره من الموجودات لا
(7/16)
جهة ولا حيز ولا مكان بل هو فوق كل موجود من الأحياز والجهات والأمكنة وغيرها سبحانه وتعالى
الوجه الثاني أن يقال لو عارضكم معارض وقال الجهة وإن كانت موجودة فهي مخلوقة له مصنوعة وهي مفتقرة إليه وهو مستغن عنها فإن العرش مثلا إذا سمي جهة ومكانا وحيزا فالله تعالى هو ربه وخالقه والعرش مفتقر إلى الله افتقار المخلوق إلى خالقه والله غني عنه من كل وجه فليس في كونه فوق العرش وفوق ما يقال له جهة ومكان وحيز وإن كان موجودا إثبات شرف لذلك المخلوق أعظم من شرف الله تعالى
وهذا قد يجيب به من يثبت الخلاء ويجعله مبدعا لله تعالى
الوجه الثالث أنه إذا كان عاليا على ما يسمى جهة ومكانا كان هو أعلى منه فأي شرف وعلو كان لذلك الموجود بالذات أو بالعرض فعلو الله أكمل منه
الوجه الرابع أن يقال لا نسلم أن العلو الحاصل بسبب الجهة هو لها بالذات ولغيرها بالعرض إذ الجهة تابعة لغيرها سواء كانت موجودة أو معدومة وعلوها تبع لعلو العالي بها فكيف يكون العلو للتابع بالذات وللمتبوع بالعرض
وقولنا عال بالجهة مثل قولنا عال بالعلو وعالم بالعلم وقادر بالقدرة أو عال علو المكانة أو عال بالقهر فليس في ذلك ما
(7/17)
يوجب أن تكون المكانة والقهر والعلو والعلم أكمل من القاهر العالم العالي ذي المكانة العالية ومهما قدر أنه يسمى جهة فإما أن يكون عدما فلا شرف له أصلا وإما أن يقدر موجودا إما صفة لله وإما مخلوقا لله وعلى التقديرين فالموصوف أكمل من الصفة والخالق أكمل من المخلوق فكيف تكون الصفات والمخلوقات أكمل من الموصوف الخالق سبحانه وتعالى
الوجه الخامس أن الجهة قد نعني بها نسبة وإضافة كاليمين واليسار والأمام والوراء فالعلو إذا سمي جهة بهذا الاعتبار كان العالي بالجهة معناه أن بينه وبين ما هو عال عليه نسبة وإضافة أوجبت أن يكون هذا فوق هذا فهل يقال إن هذه النسبة والإضافة التي بها وصف العالي بأنه عال أكمل من ذاته العالية الموصوفة بهذا العلو والنسبة
الوجه السادس أن يقال هذا الذي قاله إنما يتوجه في المخلوق إذا علا على سقف أو منبر أو عرش أو كرسي أو نحو ذلك فإن ذلك المكان كان عاليا بنفسه وهذا صار عاليا لما صار فوقه بسبب علو ذلك فالعلو لذلك السقف والسرير والمنبر بالذات ولهذا الذي صعد عليه بالعرض
فكلامهم يتوجه في مثل هذا وهذا في حق الله وهم وخيال فاسد وتمثيل لله بخلقه وتشبيه له بهم في صفات النقص التي يتعالى عنها
(7/18)
وهؤلاء النفاة كثيرا ما يتكلمون بالأوهام والخيالات الفاسدة ويصفون الله بالنقائص ولآفات ويمثلونه بالمخلوقات بل بالناقصات بل بالمعدومات بل بالممتنعات فكل ما يضيفونه إلى أهل الإثبات الذين يصفونه بصفات الكمال وينزهونه عن النقائص والعيوب وأن يكون له في شيء من صفاته كفو أو سمي فما يضيفونه إلى هؤلاء من زعمهم أنهم يحكمون بموجب الوهم والخيال الفاسد أو أنهم يصفون الله بالنقائص والعيوب أو أنهم يشبهونه بالمخلوقات هو بهم أخلق وهو بهم أعلق وهم به أحق فإنك لا تجد أحدا سلب الله ما وصف به نفسه من صفات الكمال إلا وقوله يتضمن لوصفه بما يستلزم ذلك من النقائص والعيوب ولمثيله بالمخلوقات وتجده قد توهم وتخيل أوهاما وخيالات فاسدة غير مطابقة بنى عليها قوله من جنس هذا الوهم والخيال وأنهم يتوهمون ويتخيلون أنه إذا كان فوق العرش محتاجا إلى العرش كما أن الملك إذا كان فوق كرسيه كان محتاجا إلى كرسيه
وهذا عين التشبيه الباطل والقياس الفاسد ووصف الله بالعجز والفقر إلى الخلق وتوهم أن استواءه مثل استواء المخلوق أولا يعلمون أن الله يحب أن نثبت له صفات الكمال وننفي عنه مماثلة المخلوقات وأنه { ليس كمثله شيء } سورة الشورى 11 لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله فلا بد من تنزيهه عن النقائص والآفات ومماثلة شيء من المخلوقات وذلك يستلزم إثبات صفات الكمال والتمام التي ليس فيها كفو لذي الجلال والإكرام
وبيان ذلك هنا أن الله مستغن عن كل ما سواه وهو خالق كل
(7/19)
مخلوق ولم يصر عاليا على الخلق بشيء من المخلوقات بل هو سبحانه خلق المخلوقات وهو بنفسه عال عليها لا يفتقر في علوه عليها إلى شيء منها كما يفتقر المخلوق إلى ما يعلو عليه من المخلوقات وهو سبحانه حامل بقدرته للعرش ولحملة العرش
وفي الأثر أن الله لما خلق العرش أمر الملائكة بحمله قالوا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك فقال قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله
فإنما أطاقوا حمل العرش بقوته تعالى والله إذا جعل في مخلوق قوة أطاق المخلوق حمل ما شاء أن يحمله من عظمته وغيرها فهو بقوته وقدرته الحامل للحامل والمحمول فكيف يكون مفتقرا إلى شيء وأيضا فالمحمول من العباد بشيء عال لو سقط ذلك العالي سقط هو والله أغنى وأجل وأعظم من أن يوصف بشيء من ذلك
وأيضا فهو سبحانه خلق ذلك المكان العالي والجهة العالية والحيز العالي إذا قدر شيئا موجودا كما لو جعل ذلك اسما للعرش وجعل العرش هو المكان العالي كما في شعر حسان
% تعالى علوا فوق عرش إلهنا % وكان مكان الله أعلى وأعظما %
(7/20)
فالمقصود أنه خلق المكان وعلاه وبقوته صار عاليا والشرف الذي حصل لذلك المكان العالي منه ومن فعله وقدرته ومشيئته فإذا كان هو عاليا علا ذلك وهو الخالق له وذلك مفتقر إليه من كل وجه وهو مستغن عنه من كل وجه فكيف يكون قد استفاد العلو منه ويكون ذلك المكان أشرف منه
وإنما صار له الشرف به والله مستحق للعلو والشرف بنفسه لا بسبب سواه فهل هذا وأمثاله إلا من الخيالات والأوهام الباطلة التي تعارض بها فطرة الله التي فطر الناس عليها والعلوم الضرورية والقصود الضرورية والعلوم البرهانية القياسية والكتب الإلهية والسنن النبوية وإجماع أهل العلم والإيمان من سائر البرية
قال الرازي في حجة خصمه ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء
وأجاب عن ذلك بأن رفع الأيدي إلى السماء معارض لوضع الجبهة على الأرض
والاعتراض على هذا من وجوه
أحدها أن يقال وضع الجبهة على الأرض لم يتضمن قصدهم لأحد في السفل بل السجود بها يعقل أنه تواضع وخضوع للمسجود له لا طلب وقصد ممن هو في السفل بخلاف رفع الأيدي إلى العلو عند الدعاء فإنهم يقصدون به الطلب ممن هو في العلو
(7/21)
والاستدلال هو بقصدهم القائم بقلوبهم وما يتبعه من حركات أبدانهم والداعي يجد من قلبه معنى يطلب العلو والساجد لا يجد من قلبه معنى يطلب السفل بل الساجد أيضا يقصد في دعائه العلو فقصد العلو عند الدعاء يتناول القائم والقاعد والراكع والساجد
الوجه الثاني أن وضع الجبهة على الأرض يفعله الناس لكل من تواضعوا له من أهل الأرض والسماء ولهذا يسجد المشركون للأصنام والشمس والقمر سجود عباده وقد سجد ليوسف أبواه وإخوته من سجود تحية لا عبادة لكون ذلك كان جائزا في شرعهم وأمر الله الملائكة بالسجود لآدم والسجود لا يختص بمن هو في الأرض بل لا يكاد يفعل لمن هو في بطنها بل لمن هو على ظهرها عال عليها وأما توجيه القلوب والأبصار والأيدي عند الدعاء إلى السماء فيفعلونه إذا كان المدعو في العلو فإذا دعوا الله فعلوا ذلك وإن قدر منهم من يدعو الكواكب ويسألها أو يدعو الملائكة فإنه يفعل ذلك
فعلم أن قصدهم بذلك التوجه إلى جهة المدعو المسئول الذي يسألونه ويدعونه حتى لو قدر أن أحدهم يدعو صنما أو غيره مما يكون على الأرض لكان توجه قلبه ووجهه وبدنه إلى جهة معبوده الذي يسأله ويدعوه كما يفعله النصارى في كنائسهم فإنهم يوجهون قلوبهم وأبصارهم وأيديهم إلى الصور المصورة في الحيطان وإن كان قصدهم صاحب الصورة وكذلك من قصد الموتى في قبورهم فإنه يوجه
(7/22)
قصده وعينه إلى من في القبر فإذا قدر أن القبر أسفل منه توجه إلى أسفل وكذلك عابد الصنم إذا كان فوق المكان الذي فيه الصنم فإنه يوجه قلبه وطرفه إلى أسفل لكون معبوده هناك
فعلم بذلك أن الخلق متفقون على أن توجيه القلب والعين واليد عند الدعاء إلى جهة المدعو فلما كانوا يوجهون ذلك إلى جهة السماء عند الله علم إطباقهم على أن الله في جهة السماء
الوجه الثالث أن الواحد منهم إذا اجتهد في الدعاء حال سجوده يجد قلبه يقصد العلو مع أن وجهه يلي الأرض بل كلما ازداد وجهه ذلا وتواضعا ازداد قلبه قصدا للعلو كما قال تعالى { واسجد واقترب } سورة العلق 19
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
فعلم أنهم يفرقون بين توجه وجوههم في حال السجود إلى الأرض وتوجيه القلوب في حال الدعاء إلى من في السماء والقلوب حال الدعاء لا تقصد إلا العلو وأما الوجوه والأيدي فيتنوع حالها تارة تكون في حال السجود إلى جهة الأرض لكون ذلك غاية الخضوع وتارة تكون حال القيام مطرقة لكون ذلك أقرب إلى الخشوع وتارة تتوجه إلى السماء لتوجه القلب
(7/23)
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن رفع البصر في الصلاة إلى السماء وقال لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم
وأما رفع البصر حال الدعاء خارج الصلاة ففيه نزاع بين العلماء وإنما نهي عن رفع البصر في الصلاة لأنه ينافي الخشوع المأمور به في الصلاة
قال تعالى { فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم } سورة القمر ( 76 )
وقال { يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم } سورة المعارج ( 4443 )
قال { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } سورة الشورى 45
ورأى عمر رضي الله عنه رجلا يصلي وهو يلتفت فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه
فخشوع القلب يستلزم خشوع البصر وذله وذلك ينافي رفعه وفي اعتبار هذا في الدعاء نزاع ولهذا يوجد من يخاطب المعظم عنده لا يرفع
(7/24)
بصره إليه ومعلوم أنه لو كانت الجهات بالنسبة إلى الله سواء لم نؤمر بهذا
الوجه الرابع أن السجود من باب العبادة والخضوع للمسجود له كالركوع والطواف بالبيت وأما السؤال والدعاء ففيه قصد المسئول المدعو وتوجيه القلب نحوه لا سيما عند الضرورة فإن السائل الداعي يقصد بقلبه جهة المدعو المسئول بحسب ضرورته واحتياجه إليه
وإذا كان كذلك كان رفع رأسه وطرفه ويديه إلى جهة متضمن لقصده إياه في تلك الجهة بخلاف الساجد فإنه عابد ذليل خاشع وذلك يقتضي الذل والخضوع ليس فيه ما يقتضي توجيه الوجه واليد نحوه لكن إن كان داعيا وجه قلبه إليه وهذا حجة من فرق بين رفع البصر في حال الصلاة وحال الدعاء
الوجه الخامس أن يقال قصد القلوب للمدعو في العلو أمر فطري عقلي اتفقت عليه الأمم من غير مواطأة وأما السجود فأمر شرعي يفعل طاعة للآمر كما تستقبل الكعبة حال العبادة طاعة للآمر
وحينئذ فالاحتجاج بما في فطر العباد من قصد من في العلو وهذا لا معارض له
قال واحتج الخصم أيضا بالآيات الواردة الموهمة للجهة كقوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 وقوله { يخافون ربهم من فوقهم } سورة النحل 50 وقوله { وهو القاهر فوق عباده } سورة الأنعام 62
(7/25)
قال والجواب أن الظواهر النقلية إذا عارضت الدلائل العقلية لم يمكن تصديقهما ولا تكذيبهما لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ولا تصديق النقل وتكذيب العقل لأن العقل أصل النقل فتكذيبه لتصديقه يوجب تكذيبهما فتعين تصديق العقل وتفويض علم النقل إلى الله أو الاشتغال بتأويل الظواهر
وجواب هذا أن يقال القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك كالعلم بالأكل والشرب في الجنة والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب والعلم بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والعلم بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بل نصوص العلو قد قيل إنها تبلغ مئين من المواضع
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك فلم يكن بنا حاجة إلى نفي ذلك من لفظ معين قد يقال إنه يحتمل التأويل ولهذا لم يكن بين الصحابة والتابعين نزاع في ذلك كما تنطق بذلك كتب الآثار المستفيضة المتواترة في ذلك وهذا يعلمه من له عناية بهذا الشأن أعظم مما يعلمون أحاديث الرجم والشفاعة
(7/26)
والحوض والميزان وأعظم مما يعلمون النصوص الدالة على خبر الواحد والإجماع والقياس وأكثر مما يعلمون النصوص الدالة على الشفعة وسجود السهو ومنع نكاح المرأة على عمتها وخالتها ومنع ميراث القاتل ونحو ذلك مما تلقاه عامة الأمة بالقبول
ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري
ولهذا كان كثير من علماء اليهود والنصارى يؤمنون بأن محمدا رسول الله وأنه صادق ويقولون إنه لم يرسل إليهم بل إلى الأميين لأنهم أعرضوا عن سماع الأخبار المتواترة والنصوص المتواترة التي تبين أنه كان يقول إن الله أرسله إلى أهل الكتاب بل أكثرهم لا يقرون بأن الخليل بنى الكعبة هو وإسماعيل ولا أن إبراهيم ذهب إلى تلك الناحية مع أن هذا من أعظم الأمور تواترا لإعراضهم
وكثير من الرافضة تنكر أن يكون أبو بكر وعمر مدفونين عند النبي
(7/27)
صلى الله عليه وسلم وفي الغالية من يقول إن الحسن والحسين لم يكونا ولدين لعلي وإنما ولدهما سلمان الفارسي وكثير من الرافضة لا تعلم أن عليا زوج بنته لعمر ولا أنه كان له ابن كان يسمى عمر
وأما دعوى التقية والإكراه فهذا شعار المذهب عندهم
وبعض المعتزلة أنكر وقعة الجمل وصفين وكثير من الناس لا يعلمون وقعة الحرة ولا فتنة ابن الأشعث وفتنة يزيد بن المهلب ونحوها من الوقائع المتواترة المشهورة
بل كثير من الناس بل من المنسوبين إلى العلم لا يعلمون مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة المشهورة وترتيبها وما كان فيه قتال أو لم يكن فلا يعلمون أيما قبل بدر أو أحد وأيما قبل الخندق أو خيبر وأيما قبل فتح مكة أو حصار الطائف ولا يعلمون هل كان في تبوك قتال أو لم يكن ولا يعلمون عدد أولاد النبي صلى الله عليه وسلم الذكور والإناث ولا يعلمون كم صام رمضان وكم حج واعتمر ولا كم صلى إلى بيت المقدس بعد هجرته ولا أي سنة فرض رمضان ولا يعلمون هل أمر بصوم يوم عاشوراء في عام واحد أو أكثر ولا يعلمون هل كان يداوم على قصرا لصلاة في السفر أم لا ولا يعلمون هل كان يجمع بين الصلاتين وهل كان يفعل ذلك كثيرا أم قليلا
إلى أمثال هذه الأمورا لتي كلها معلومة بالتواتر عند أهل العلم
(7/28)
بأحواله وغيرهم ليس عنده فيها ظن فضلا عن علم بل ربما أنكر ما تواتر عنه
ومعلوم أن أئمة الجهمية النفاة والمعتزلة وأمثالهم من أبعد الناس عن العلم بمعاني القرآن والأخبار وأقوال السلف وتجد أئمتهم من أبعد الناس عن الاستدلال بالكتاب والسنة وإنما عمدتهم في الشرعيات على ما يظنونه إجماعا مع كثرة خطئهم فيما يظنونه إجماعا وليس بإجماع وعمدتهم في أصول الدين على ما يظنونه عقليات وهي جهليات لا سيما مثل الرازي وأمثاله الذين يمنعون أن يستدل في هذه المسائل بالكتاب والسنة
واعتبر ذلك بما تجده في كتب أئمة النفاة مثل أبي الحسين البصري وأمثاله ومثل أبي حامد والرازي وأمثالهما
فأبو الحسين البصري وأمثاله من المعتزلة يعتمدون في أصول دينهم على أحاديث قد جمعها عبد الوهاب بن أبي حية البغدادي فيها الكذب والضعف وأضعاف أضعافها من الأخبار المتواترة لا يعرفونها البتة حتى يعتقدون أنه ليس في الرؤية إلا حديث جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع
(7/29)
الشمس وقبل غروبها فافعلوا ويقولون هذا لم يروه إلا قيس بن أبي حازم وكان يبغض عليا فيظنون أنه ليس في الرؤية إلا هذا الحديث
وأهل العلم بالحديث يعلمون أحاديث الرؤية متواترة أعظم من تواتر كثير مما يظنونه متواترا وقد احتج أصحاب الصحيح منها أكثر مما خرجوه في الشفعة والطلاق والفرائض وسجود السهو ومناقب عثمان وعلي وتحريم المرأة على عمتها وخالتها والمسح على الخفين والإجماع وخبر الواحد والقياس وغير ذلك من الأبواب الذين يقولون إن أحاديثها متواترة
فأحاديث الرؤية أعظم من حديث كل نوع من هذه الأنواع وفي الصحاح منها أكثر مما فيها من هذه الأنواع
مثل حديث أبي هريرة الطويل في تجليه يوم القيامة ومرورهم على الصراط وهو في الصحيح أيضا من حديث أبي سعيد ومن حديث جابر
(7/30)
وفي الصحيحين حديث أبي موسى في رؤيته في الجنة
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة رؤيته لربه
وفي الصحيح حديث صهيب في رؤية أهل الجنة
وأما أحاديث العلو وما يتضمن هذا المعنى فأضعاف أضعاف أحاديث الرؤية
فأبو الحسين وأمثاله من المعتزلة وكذلك الغزالي والرازي وأمثالهما من فروع الجهمية هم من أقل الناس علما بالأحاديث النبوية وأقوال السلف في أصول الدين وفي معاني القرآن وفيما بلغوه من الحديث حتى أن كثيرا منهم لا يظن أن السلف تكلموا في هذه الأبواب
(7/31)
ومن كان له علم بهذا الباب علم أن كلام السلف في هذه المسائل الأصولية كمسألة العلو وإثبات الصفات الخبرية وغير ذلك أضعاف أضعاف كلامهم في مسائل الجد والإخوة والطلاق والظهار والإيلاء وتيمم الجنب ومس المحدث للمصحف وسجود السهو ومسائل الأيمان والنذور والفرائض وغير ذلك مما تواتر به النقل عنهم
وهذا الأصل قد بسطناه في مواضع مثل كلامنا في تواتر معجزات الرسول وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفة هذا الأصل وأنه قد يتواتر عند أهل العلم بالشيء ما لا يتواتر عند غيرهم
وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإليهم المرجع في هذا الباب لا إلى من هو أجنبي عن معرفته ليس له معرفة بذلك ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأئمة لكان في الشرع مثل آحاد الجهال من العامة
فإن قيل قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول واقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين وما بلغوه عن الرسول ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك
قيل هؤلاء أنواع نوع ليس لهم خبرة بالعقليات بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية وليس لهم قوة على الاستقلال بها بل هم في الحقيقة مقلدون فيها وقد اعتقد أقوال أولئك فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث
(7/32)
وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك بل إما أن يظنوه موافقا لهم وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه
وهذه حال مثل أبي حاتم البستي وأبي سعد السمان المعتزلي ومثل أبي ذر الهروي وأبي بكر البيهقي والقاضي عياض وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي الحسن علي بن المفضل المقدسي وأمثالهم
والثاني من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها كما غلط غيره فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة مع أنه لا
(7/33)
يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة في هذا الباب ما كان لأئمة السنة وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما
وهذه حال أبي محمد بن حزم وأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي وأمثالهم
ومن هذا النوع بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأمثالهما
ونوع ثالث سمعوا الأحاديث والآثار وعظموا مذهب السلف وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها ولا من جهة الفهم لمعانيها وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية ورأوا ما بينهما من التعارض
وهذا حال أبي بكر بن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأمثالهم
(7/34)
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار
وتارة يفوضون معانيها ويقولون تجري على ظواهرها كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك
وتارة يختلف اجتهادهم فيرجحون هذا تارة وهذا تارة كحال ابن عقيل وأمثاله
وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع ولا يعرفون أنه موضوع وما له لفظ يدفع الإشكال مثل أن يكون رؤيا منام فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية وغيرهم وقد شاركهم في بعض أصولها ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة كمسألة القرآن والرؤية فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله يرى في الآخرة فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند اهل السنة والحديث وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية التي ظنها صحيحة ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه والحديث وأقوال الصحابة ما لأئمة السنة والحديث فذهب مذهبا مركبا من هذا وهذا وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض
(7/35)
وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي إسحاق الإسفراييني وأمثالهما ولهذا تجد أفضل هؤلاء كالأشعري يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال ويحكيه بحسب ما يظنه لازما ويقول إنه يقول بكل ما قالوه وإذا ذكر مقالات أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم حكاها حكاية خبير بها عالم بتفصيلها
وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغيرهم ومعرفة فساد أقوالهم وأما في معرفة ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة والتابعون فمعرفتهم بذلك قاصرة وإلا فمن كان عالما بالآثار وما جاء عن الرسول وعن الصحابة والتابعين من غير حسن ظن بما يناقض ذلك لم يدخل مع هؤلاء إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال كأكثر أهل الحديث أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك وعبد العزيز الماجشون وحماد بن زيد وحماد بن سلنة وسفيان بن عيينة وابن المبارك ووكيع بن الجراح وعبد الله بن إدريس وعبد الرحمن بن مهدي ومعاذ بن معاذ ويزيد بن هارون الواسطي ويحيى بن سعيد القطان وسعيد بن عامر والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبد الرحمن القاسم بن
(7/36)
سلام ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري والدارميين أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن وعثمان بن سعيد وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وأبي داود السجستاني وأبي بكر الأثرم وحرب الكرماني ومن لايحصى عدده إلا الله من أئمة الإسلام وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل
فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة كما تواترت الآثار عنهم وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك من غير خلاف بينهم في ذلك
الوجه الثاني أن يقال نصوص ذلك صريحة لا تحتمل التأويل بل التأويلات المذكورة في ذلك من جنس تأويلات القرامطة الباطنية وهي باطلة كما قد بين في موضعه بل معلومة الفساد بالضرورة كما بين بطلان تأويل كل من تأول استوى على غير ما يتضمن علوه على العرش مثل تأويله بالقدرة والمكانة أو غير ذلك
الوجه الثالث أن يقال لا نسلم أنه عارض ذلك دليل عقلي أصلا بل العقليات التي عارضتها هذه السمعيات هي من جنس شبه السوفسطائية التي هي أوهام وخيالات غير مطابقة وكل من قالها لم يخل من أن يكون مقلدا لغيره أو ظانا في نفسه وإلا فمن رجع في مقدماتها إلى الفطر السليمة واعتبر تأليفها لم يجد فيما يعارض السمعيات برهانا مؤلفا من مقدمات يقينية تأليفا صحيحا وجمهور من تجده
(7/37)
يعارض بها أو يعتمد عليها إذا بينت له فسادها وما فيها من الاشتباه والالتباس قال هذه قالها فلان وفلان وكانوا فضلاء فكيف خفي عليهم مثل هذا فينتهون بعد إعراضهم عن كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وإجماع السلف الذين لا يجتمعون على ضلالة ومخالفة عقول بني آدم التي فطرهم الله عليها إلى تقليد رجال يقولون إن هذه القضايا عقلية برهانية وقد خالفهم في ذلك رجال آخرون من جنسهم مثلهم وأكثر منهم وعامة من تجده من طلبة العلم المنتسبين إلى فلسفة أو كلام أو تصوف أو فقه أو غير ذلك إذا عارض نصوص الكتاب والسنة بما يزعم أنه برهان قطعي ودليل عقلي وقياس مستقيم وذوق صحيح ونحو ذلك إذا حاققته وجدته ينتهي إلى تقليد لمن عظمه إذا كان من الأتباع أو إلى ما افتراه هو أو توهمه إن كان من المتبوعين وللطائفتين نصيب مما ذكره الله في أشباههم
قال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } سورة البقرة 165167
وقال تعالى { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا }
(7/38)
سورة الفرقان 2927
وقال تعالى { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } سورة الأحزاب 6866
وقال تعالى { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد } سورة غافر 47 48
الوجه الرابع أن يقال لا نسلم أنه بتقدير ما يذكر من التعارض لا يمكن تصديقهما بل يمكن ذلك فإن ما ينفيه صريح العقل من صفات النقص وإثبات المماثلة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته لم يثبته السمع الصحيح وما أثبته السمع الصحيح الصريح لم ينفه عقل صريح
وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح وإنما يظن تعارضهما من غلط في مدلولهما أو مدلول أحدهما كمن يعارض الدلالات العقلية الصريحة من السوفسطائية وأمثالهم وكمن يظن تعارض الأدلة السمعية من الملاحدة
(7/39)
وكثيرا ما يشتبه ذلك وتتعارض الدلالتان عند من يكن السفسطة والإلحاد لشبه قامت به فتكون الآفة من إدراكه لا من المدرك كالأحول الذي يرى الواحد اثنين والممرور الذي يجد الحلو مرا وإلا فالسمع الصحيح هو القول الصادق من المعصوم الذي لا يجوز أن يكون في خبره كذب لا عمدا ولا خطأ والمعقول الصحيح هو ما كان ثابتا أو منتفيا في نفس الأمر لا بحسب إدراك شخص معين وما كان ثابتا أو منتفيا في نفس الأمر لا يجوز أن يخبر عنه الصادق بنقيض ذلك بل من شهد الكائنات على ما هي عليه وجدها مطابقة لخبر الصادق
كما قال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } سورة فصلت 53 فأخبر أنه سيريهم من الآيات العيانية المشهودة لهم ما يبين لهم أن القرآن حق
وقال تعالى { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } سورة سبأ 6 فمن أوتي العلم رأى أن ما أنزل إليه به من ربه هو الحق وأما ما كان عنده ما يظنه علما وهو جهل فذاك يرى الأمر على خلاف ما هو عليه مثل من زاغ فأزاغ الله قلبه وكان في قلبه مرض فزاده الله مرضا وممن يقلب الله أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ومن الصم والبكم
(7/40)
العمي الذين لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهدى أو لم يكونوا يعقلون بحال
وأمثال هؤلاء قال تعالى فيهم { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } سورة الأنعام 39
وقد ضرب الله مثل هؤلاء وهؤلاء في غير موضع من القرآن كسورة النور وغيرها
الوجه الخامس أن يقال لا نسلم أن تصديق النقل المثبت لعلو الله على خلقه وتكذيب ما يناقض ذلك مما يسمى معقولا يوجب القدح في أصل النقل كما في قوله لأن العقل أصل للنقل فتكذيبه لتصديقه موجب لتكذيبهما
قلنا لا نسلم أن المعقول النافي لعلو الله على خلقه أصل للنقل فإنه ليس كل ما يسمى معقولا ولا كل ما يعلم بالعقل يتوقف العلم بصحة السمع عليه فتلك الأمور التي لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها ليست أصلا للسمع ولا يجوز أن يقال جنس المعقول به يعلم بالسمع فلا يجوز أن يرد شيء منه فإن العقلاء متفقون على أن جنس المعقولات لا يلزم من تكذيب بعضها تكذيب السمع وإن قدر أنها عقليات صحيحة مثل مسائل الحساب الدقيقة وغيرها فإنها مع كونها
(7/41)
عقليات صحيحة لا يلزم من القدح فيها القدح في السمع فكيف بالمعقولات التي فيها خطأ كثير وتنازع عظيم
بل كل من كان عن الشرائع أبعد كان اضطرابهم في عقلياتهم أكثر كالفلاسفة فإن بينهم من الاختلاف في عقلياتهم حتى في المنطق والهيئة والطبيعيات ما لا يكاد يحصى وكلامهم في الإلهيات قليل وعلمهم بها ضعيف ومسائلها عندهم يسيرة وهي مع هذا عندهم لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل
وأساطينهم معترفون بأنه لا سبيل لهم إلى اليقين فيها وإنما يتكلمون فيها بالأولى والأخلق وهم مع هذا متنازعون فيها أعظم من تنازع كل فرقة من مبتدعة أهل الملل في الأمور الإلهية
وإذا كان جنس ما يسميه هؤلاء عقليات فيه خطأ كثير باتفاق الناس وبالضرورة لم يمكن أن يقبل جنس ما يقال له عقليات فضلا عن أن يعارض به ولو قبل جنس ما يقال له عقليات كله للزم من الجمع بين النقيضين ما شاء الله
فنفاة الجزء الذي هو الجوهر الفرد ومثبتوه كل منهم يقول إن ذلك معلوم بالعقل والقائلون ببقاء بعض الأعراض مع القائلين بفنائها والقائلون بتماثل الأجسام مع القائلين باختلافها والقائلون
(7/42)
بوجوب تناهي الحوادث مع القائلين بعدم جواز تناهيها وأضعاف ذلك
بل العقليات الصحيحة ما كان معقولا للفطر السليمة الصحيحة الإدراك التي لم يفسد إدراكها وهذا القدر لا يزال موجودا في بني آدم وإن فسد رأى قوم لم يلزم فساد رأي آخرين
لكن إذا تنازع الناس وادعى كل فريق أن قولنا هو الذي تشهد به الفطر السليمة لم يفصل بينهم إلا ما يتفقون على صدق شهادته إما كتاب منزل من السماء يحكم بينهم وإما شهادة فطر تقر الطائفتان أنها صحيحة الإدراك صادقة الخبر فلا يحكم بين المتنازعين إلا حاكم يسلمان لحكمه
والمقصود هنا أنه لا يقول عاقل إن كل ما يسمى معقولا يجوز قبوله فضلا عن أن يجب فضلا عن أن يعارض به معقول آخر فضلا عن أن يعارض به كتاب منزل من عند الله
وإذا كان كذلك لم يكن في رد كثير مما يسمى معقولا رد لسائرها فإذا رد مما يسمى معقولا ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن في هذا رد للأصل المعقول الذي به يعلم السمع وهو المطلوب
وإذا كان كذلك فالمعقول المذكور هنا الذي عارضوا به الآيات الإلهية والأحاديث النبوية هو ما ذكروه في نفي علو الله على خلقه وليس شيء من ذلك مما يحتاج في العلم بصحة السمع إليه فإن إثبات موجود لا يمكن أن يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه
(7/43)
ومقدمات ذلك المستلزمة له لا يتوقف العلم بصحة السمع على شيء من ذلك فإنا نعلم بالاضطرار بعد تأمل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أن الذين آمنوا بالرسول وجزموا بصدقه وهم باتفاق المسلمين أعلم الأمة بصدقه وصدق ما أخبر به وصحة ذلك لم يكونوا في إيمانهم وعلمهم بصدقه يستدلون بشيء من هذه المقدمات على صحة ذلك ولا مناظرين بها أحدا ولا يقيمون بها حجة على غيرهم فضلا عن أن يكونوا هم لم يعلموا صدقه إلا بعد العلم بهذه المقدمات المستلزمة لوجود موجود لا يشار إليه وأن صانع العالم ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا فوق العالم رب ولا على العرش إله
ومما يوضح ذلك أنا نعلم بالعادة المطردة أن القضايا التي بها علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به عن الله لو كانت مستلزمة لقول نفاة العلو وأن الله ليس مباينا للعالم ولا هو فوق السماوات ولا يمكن الإشارة إليه ولا عرج أحد من الملائكة ولا محمد إليه نفسه ولا نزل من عنده نفسه شيء لا ملك ولا غيره لكانت هذه اللوازم تحصل في نفوسهم كما حصلت في أنفس غيرهم لاسيما مع كثرة الخلق وانتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا ولو كانت هذه القضايا مستقرة في أنفسهم لامتنع في العادة أن لا يتكلموا بها فضلا عن أن يتكلموا بنقيضها ولو وجب في العادة أن يعارضوا بها ما دل عليه ظاهر السمع لكانوا يسألونه ويقولون ما دلت
(7/44)
عليه هذه الآيات والأحاديث التي أخبرتنا بها يناقض هذه القضايا التي علمنا بها أنك رسول الله الصادق عليه فما يمكننا أن نجمع بين تصديقك في دعوى الرسالة وبين الإخبار بهذه الأمور بل تصديقك في دعوى الرسالة يقتضي تكذيب مقتضى هذه الأخبار فكيف نصنع هل لها تأويل يوافق ما به علمنا أنك صادق أم نحن مأمورون بأن نقرأ ما ظاهره كفر وكذب يقدح في أصول إيماننا ونعرض بقلوبنا وعقولنا عن فهم ذلك وتدبره والنظر فيه
وهذا فيه عذاب عظيم للعقول وفساد عظيم في القلوب إذا كان الرجل مأمورا أن يقرأ في الليل والنهار كلاما يقرأ به في صلاته وغير صلاته ويجزم بأنه صدق لا كذب وأن من كفر بحرف منه فهو كافر وذلك الكلام مشتمل على أخبار ظاهرها ومفهومها يناقض ما به علم صدق ذلك الكلام بل هو باطل وضلال وكفر فيورثه ذلك الحيرة والاضطراب ويمرض قلبه أعظم مرض ويكون تألمه بذلك ووجع قلبه أعظم بكثير من مرض بدنه ووجع يده ورجله
فإنه حينئذ إن قبل ما به صدق هذا الرسول قدح في الكلام الذي أخبره أنه حق وصدق فيكون ذلك الدليل الذي دله على صدقه دله على كذب المفهوم من أخباره وإن صدق المفهوم من أخباره أبطل شاهد صدقه
ومن المعلوم أن أخباره لو عارضت معقولا لهم غير ما به علموا صدقه لأوجب ذلك من الحيرة والألم والفساد ما لا يعلمه إلا الله فكيف إذا كان المعارض له ما به علموا صدقه
(7/45)
وقد كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسأل بعضهم بعضا عن أدنى شبهة تعرض في خطابه وخبره مثل ما كان يوم الحديبية لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم مشركي مكة على أن يرجع ذلك العام بأصحابه الذين قدموا معه معتمرين وبايعهم بيعة الرضوان تحت الشجرة وهم السابقون الأولون وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة فصالح المشركين على أن يرجع بهم ذلك العام ويرد إلى المشركين من جاءه مؤمنا مهاجرا ولا يرد المشركون من ذهب إليهم مرتدا وامتنعوا من أن يكتبوا في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم وأن يكتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله وأمثال ذلك
والمقصود أن كثيرا من الصحابة اشتد عليهم ذلك وأجلهم عمر فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا قال إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه فقال ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به فقال بلى أقلت لك أنك تأتيه هذا العام قال لا قال فإنك آتيه ومطوف به ثم ذهب عمر إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم وأجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون سمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم
(7/46)
والقصة مستفيضة رواها أهل الصحيح والمسند والمغازي والسير والتفسير والفقه وسائر العلماء
فهذا عمر وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر أخرجه في الصحيحين
وقال إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه
وقال لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر رواه الترمذي
إلى غير ذلك من فضائله وقد اشتبه عليه معنى نص وليس في ظاهره ما ينافي الواقع بل هو ظن أن ظاهره ينافي الواقع فإن الله تعالى قال { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } سورة الفتح 27
(7/47)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بذلك قبل نزول الآية خبرا مطلقا ومن المعلوم باتفاق الفقهاء أن الرجل إذا قال والله لأفعلن كذا وكذا ولم يكن هناك سبب ولا نية توجب التعجيل كان له أن يؤخره إلى وقت آخر فلم يكن في ظاهر خطاب الله ورسوله ما يقتضي تعجيل إتيان البيت والطواف به
ومع هذا لما ظن هذا الذي هو أفضل الأمة بعد أبي بكر أن ظاهره يقتضي التعجيل أورده على النبي صلى الله عليه وسلم ثم على صديقه وأجابه كل منهما في مغيب الآخر بأنه ليس في الخطاب ما يقتضي التعجيل وإنما الذي فهم ذلك من الخطاب غلط في فهمه فالغلط منه لا لنقص في دلالة الخطاب
وأيضا ففي الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم من نوقش الحساب عذب قالت عائشة فقلت يا رسول الله أليس الله يقول في كتابه { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } سورة الانشقاق 8 فقال ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب
ومعلوم أن قوله { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } لا يدل ظاهره على أن المحاسب يناقش بل الظاهر من لفظ الحساب اليسير أنه لا تكون فيه مناقشة ومع هذا فلما قال من نوقش الحساب عذب فظنت امرأة تحبه ويحبها وهي أحب النساء إليه وأبوها أحب الرجال إليه أن ظاهر خطابه يعارض تلك الآية سألته عن ذلك ولم تسكت
(7/48)
وكذلك في الحديث الصحيح أنه قال والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة قالت حفصة فقلت يا رسول الله أليس الله يقول { وإن منكم إلا واردها } سورة مريم 71 فقال ألم تسمعيه قال { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } سورة مريم 72
وقد بين في الحديث الصحيح الذي رواه جابر وغيره أن الورود هو المرور على الصراط ومعلوم أنه إذا كان قد أخبرهم أن جميع الخلق يعبرون الصراط ويردون النار بهذا الاعتبار لم يكن قوله لهم فلان لا يدخل النار منافيا لهذا العبور ولهذا قال لها ألم تسمعيه قال { ثم ننجي الذين اتقوا } فأخبرها أن هذا الورود لا ينافي عدم الدخول الذي أخبرت به فالذين نجاهم الله بعد الورود الذي هو العبور لم يدخلوا النار
ولفظ الورود والدخول قد يكون فيه إجمال فقد يقال لمن دخل سطح الدار إنه دخلها ووردها وقد يقال لمن مر على السطح ولم يثبت فيها إنه لم يدخلها فإذا قيل فلان ورد هذا المكان الرديء ثم نجاه الله منه وقيل فلان لم يدخله الله إياه كان كلا الخبرين صدقا لا منافاة بينهما
وقوله تعالى { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا }
(7/49)
سورة مريم 71 72 فيه بيان نعمة الله على المتقين أنهم مع الورود والعبور عليها وسقوط غيرهم فيها نجوا منها والنجاة من الشر لا تستلزم حصوله بل تستلزم انعقاد سببه فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه يقال نجاه الله منهم
ولهذا قال تعالى { ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } سورة الأنبياء 76 ومعلوم أن نوحا لم يفرق ثم خلص بل نجى من الغرق الذي أهلك الله به غيره
كما قال { فأنجيناه وأصحاب السفينة } سورة العنكبوت 15
وكذلك قوله عن لوط { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث } سورة الأنبياء 74
ومعلوم أن لوطا لم يصبه العذاب الذي أصابهم من الحجارة والقلب وطمس الأبصار
وكذلك قوله { ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ } سورة هود 58 وقوله { فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ } سورة هود 66
(7/50)
وأمثال ذلك يبين سبحانه أنه نجى عباده المؤمنين من العذاب الذي أصاب غيرهم وكانوا معرضين له لولا ما خصهم الله من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك
فلفظ النجاة من الشر يقتضي انعقاد سبب الشر لا نفس حصوله في المنجى
فقوله تعالى { ثم ننجي الذين اتقوا } سورة مريم 72 لا يقتضي أنهم كانوا معذبين ثم نجوا لكن يقتضي أنهم كانوا معرضين للعذاب الذي انعقد سببه وهذا هو الورود
فقوله صلى الله عليه وسلم لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة لا ينافي هذا الورود فإن مجرد الورود ليس بعذاب بل هو تعريض للعذاب وهو إنما نفى دخول الذي هو العذاب لم ينف التقريب من العذاب ولا انعقاد سببه ولا الدخول على سطح مكان العذاب
ومع هذا لما اشتبه ذلك على امرأته سألته عن ذلك وذكرت ما يعارض خبره في فهمها ولم تسكت وقد كان يفعل الأمر فيسألونه هل هو بوحي فيجب طاعته أو هو رأي يمكن معارضته برأي أصلح منه ويشيرون عليه في الرأي برأي آخر فيقبل منهم ويوافقهم كما سأله الحباب بن المنذر لما نزل ببدر فقال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتعداه أم هو الرأي
(7/51)
والحرب والمكيدة فقال بل هو الرأي والحرب والمكيدة فقال ليس هذا بمنزل قتال
ولما صالح غطفان عام الخندق على نصف ثمر المدينة لما تألبت عليهم الأحزاب من قريش وحلفائها وأهل نجد وجموعهم وبني قريظة اليهود جيران المدينة وكانت تلك القضية من أعظم البلاء والمحنة وفيها أنزل الله سورة الأحزاب فلما صالحهم على نصف ثمرها قال له سعد ما مضمونه إن كان الله أمرك بهذا سمعنا وأطعنا وإن كان رأيا منك أردت به مصلحتنا فقد كنا في الجاهلية وما أحد منهم ينال منها ثمرة إلا بشرى أو قرى فحين أعزنا الله بالإسلام نعطيهم ثمرنا أو كما قال فبين له النبي صلى الله عليه وسلم إني لما رأيت الأعداء قد تحزبوا عليكم خشيت أن تضعفوا عنهم فرأيت أن أدفع هؤلاء ببعض الثمر فإذا كنتم ثابتين صابرين فلا حاجة إلى هذا
وفي الصحيح أنهم كانوا في بعض الأسفار فنفد زادهم فاستأذنوه في نحر ظهرهم وهي الإبل التي يركبونها فأذن لهم فأتاه عمر وأخبره أنهم إن نحروا ظهرهم تضرورا بذلك وطلب أن تجمع أزوادهم ويدعو فيها
(7/52)
بالبركة ليغنيهم الله بذلك عن نحر ظهرهم ففعل ذلك
وكذلك في الصحيح أنه أعطى أبا هريرة نعلة ليبشر الناس بأن الموحدين في الجنة فلقيه عمر فرده وقال للنبي صلى الله عليه وسلم إنهم إذا سمعوا بذلك اتكلوا فترك ذلك
بل كان يأمرهم بالأمر الذي يجب عليهم طاعته فيعارضه بعضهم بما لا يصلح للمعارضة فيجيبهم فإن في الصحيح أنه نهاهم عن الوصال فقالوا إنك تواصل فقال إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني
ومعلوم أن هذه معارضة فاسدة لو أوردها بعض طلبة الفقهاء أجابه آخر بأن امره ونهيه يجب طاعته فيه وحكمه لازم للأمة باتفاق المسلمين بل ذلك معلوم بالاضطرار من دينه وإن كان بعض الناس
(7/53)
ينازع في الأمر المطلق هل يفيد الإيجاب أم لا فلم ينازع في أنه إذا بين في الأمر أنه للإيجاب يجب طاعته ولا أنه إذا صرح ابتداء بالإيجاب تجب طاعته
ولكن نزاعهم في مراده بالأمر المطلق هل يعلم به أنه أراد به الإيجاب فهذا نزاع في العلم بمراده لا نزاع في وجوب طاعته فيما أراد به الإيجاب فإن ذلك لا ينازع فيه إلا مكذب به
والمقصود أن حكم النهي لازم للأمة وأما فعله فقد يكون مختصا به باتفاق الأمة بل قد تنازعوا في تعدي حكم فعله إلى غيره على ما هو معروف فإذا أمر المسلمين أو نهاهم أمرا ونهيا علموا به مراده لم يكن لأحد منهم أن يعارض ذلك بفعله باتفاق العلماء وإنما يتكلمون في تعارض دلالة القول والفعل إذا لم يعلموا مراده بالقول كما تكلموا في نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول مع أنه قد رآه ابن عمر مستقبل الشام مستدبر الكعبة وهو يتخلى
فهنا قد يظن بعضهم أن نهيه ليس عاما بل خاص إذا لم يكن حائل ويوفق بين القول والفعل ويظن بعضهم الفرق بين الاستقبال والاستدبار ويظن بعضهم أن أحدهما منسوخ لاعتقاده التعارض
(7/54)
ويظن بعضهم أن الفعل خاص له فهذا كله لعدم علمهم بأن النهي عام محكم وأما إذا علموا أن نهيه عام محكم غير منسوخ كانوا متفقين على أنه لا يعارض بفعله فتبين أن من عارض نهيه عن الوصال بقوله إنك تواصل كا (1)
1- ت معارضته خطأ باتفاق العلماء ومع هذا فقد أجابه ببيان الفرق وقال إني لست كأحدكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني
بل لما غير عادته يوم الفتح فصلى الصلوات بوضوء واحد سأله عمر فقال إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته
وهذا وأمثاله كثير هذا من المؤمنين به المحبين له فاما معارضة الكفار له بما لا يصلح للمعارضة عند أهل النظر والخبرة بالمناظرة على سبيل الجدل بالباطل فكثيرة
مثل معارضتهم له لما نزل قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } سورة الأنبياء 98 فقام ابن الزبعرى وغيره فقالوا قد عبد المسيح فآلهتنا خير أم هو
فأنزل الله تعالى { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } سورة الزخرف 57 أي يضجون
{ وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل >
(7/55)
سورة الزخرف 58 59
وأنزل الله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } سورة الأنبياء 101 102
وقد ظن طائفة من الناس أن قوله { وما تعبدون } سورة الأنبياء 98 لفظ يعم كل معبود من دون الله لكل أمة فيتناول المسيح وغيره وجعلوا هذا مما استدلوا به على عموم الأسماء الموصولة مثل من وما والذي واستدل بذلك بعضهم على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب
قالوا لأن اللفظ عام وأخر بيان المخصص إلى أن نزل قوله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } سورة الأنبياء 101
وهذا خطأ ولو كان قول هؤلاء صحيحا لكانت معارضته المشركين صحيحة فإن من سمع اللفظ العام ولم يسمع المخصص فأورد على المتكلم كان إيراده مستقيما
وهذا سوء ظن ممن قاله بكلام الله ورسوله وحسن ظن بالمشركين ولكن هؤلاء وأمثالهم الذين يجعلون المفهوم المعقول الظاهر من القرآن مردودا بآرائهم كما رده المشركون بالمسيح فإن قول المشركين إن المسيح لا يدخل النار والملائكة لا تدخل النار كلام صحيح أصح مما يعارض به المعارضون لكلام الله ورسوله
(7/56)
فإذا كانت معارضة ابن الزبعري باطلة فمعارضة هؤلاء أبطل وهي باطلة قبل نزول القرآن وقبل رد الله عليهم وما نزل من القرآن كان مبينا لبطلانها الذي هو ثابت في نفسه يمكن علمه بالعقل فإن الله إنما خاطب بقوله { إنكم وما تعبدون من دون الله } سورة الأنبياء 98 المشركين الذين يعبدون الأوثان لم يخاطب بذلك أهل الكتاب
بل الآيات المكية عامتها خطاب لمن كذب الرسل مطلقا وأما ما يخاطب به من صدق جنس الرسول من أهل الكتاب والمؤمنين ففي السور المدنية
والقرآن قد فصل بين المشركين وأهل الكتاب في غير موضع كقوله { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } سورة البينة 1
وقوله { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } سورة الحج 17
وقوله لهم { إنكم وما تعبدون من دون الله } سورة الأنبياء 98
بمنزلة قوله { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } سورة الأنعام 156
(7/57)
وبمنزلة قوله { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا } سورة فاطر 42
وأمثال ذلك مما فيه ضمير المخاطب والغائب وهو متناول لأولئك المشركين لكن يتناول غيرهم من جهة المعنى والاعتبار وتماثل الحالين
فلما قال تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } سورة الأنبياء 98 99 أخبر أن آلهتهم التي يعبدونها حصب جهنم ولم يدخل في هذا المسيح وأمثاله فإنهم لم يكونوا يعبدونهم
وقوله { لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها } سورة الأنبياء 99 دليل على انتفاء الإلهية فإن الإله لا يدخل النار والدليل لا ينعكس فلا يلزم أن يكون من لم يدخل النار إلها فمن ورد النار لم يكن إلها وليس كل من لا يردها إله
لكن كانت معارضة ابن الزبعرى وأشباهه من جهة المعنى والقياس والاعتبار أي إذا كانت آلهتنا دخلوا النار لكونهم معبودين وجب أن يكون كل معبود يدخل النار والمسيح معبود فيجب أن يدخلها فعارضوه بالقياس والقياس مع وجود الفارق المؤثر قياس فاسد فبين الله الفرق بأن المسيح عبد حي مطيع لله لا يصلح
(7/58)
أن يعبد لأجل الانتقام من غيره بخلاف الأوثان فإنها حجارة فإذا عذبت لتحقيق عدم كونها آلهة وانتقاما ممن عبدها كان ذلك مصلحة ليس فيها عقوبة لمن لا يصلح أن يعاقب
ولهذا قال تعالى { ولما ضرب ابن مريم مثلا } سورة الزخرف 157 أي جعلوه مثلا لآلهتهم فقاسوها به فهذا حال من عارض النص الخبري بالقياس الفاسد وهو حال الذين يعارضون النصوص الإلهية بأقيستهم الفاسدة فيقولون لو كان له علم وقدرة ورحمة وكلام وكان مستويا على عرشه للزم أن يكون مثل المخلوق الذي له علم وقدرة ورحمة وكلام ويكون مستويا على العرش ولو كان مثل المخلوق للزم أن يجوز عليه الحدوث وإذا جاز عليه الحدوث امتنع وجوب وجوده وقدمه
فهذا من جنس معارضة ابن الزبعرى حيث قاس ما أخبر الله عنه بشيء آخر ليس مثله بل بينهما فرق والفرق بين الله وبين مخلوقاته أعظم من الفرق بين المسيح وبين الأوثان فإن كلاهما مخلوق لله تعالى
وأما قياس الخالق بالمخلوق وقول القائل لو كان متصفا بالصفات والأفعال القائمة به لكان مماثلا للمخلوق المتصف بالصفات والأفعال القائمة به ففي غاية الفساد فإن تشابه الشيئين من بعض الوجوه لايقتضي تماثلهما في جميع الأشياء فإذا كان المسيح المشابه لآلهتهم في وجوه كثيرة لا تكاد تحصى مثل كون هذا كان معدوما وهذا كان معدوما وهذا محدث ممكن وهذا محدث ممكن
(7/59)
غيره وهذا مفتقر إلى غيره وهذا يقدر عليه غيره وهذا يقدر عليه غيره وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض وهذا يمكن إفساده واستحالته وهذا يمكن إفساده واستحالته وأمثال ذلك من الأمور التي يجب تنزيه الرب عنها فمع اشتراكهما في هذه الأمور التي يجب تنزه الرب عنها لم يصح قياس أحدهما بالآخر ولا أن يثبت له من الحكم ما ثبت له وإن كانا قد اشتركا في هذه الأمور
فالخالق سبحانه الذي يفارق غيره بأعظم مما فارق به المسيح آلهتهم هو أولى وأحق بأن لايمثل بخلقه لأجل موافقته في بعض الأسماء والصفات إذ أصل هذا القياس الفاسد أن الشيئين إذا اشتركا وتشابها في بعض الأشياء لزم اشتراكهما وتماثلهما في غير ذلك مما ليس من لوازم المشترك وهذا كله خطأ فاحش وبعضه أفحش من بعض فالشيئان إذا اشتركا في شيء لزم أن يشتركا في لوازمه فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم فاما ما ليس من لوازمه فلا يجب اشتراكهما فيه
فكون المعبود من حصب جهنم ليس من لوازم كونه معبودا بل من لوازم كونه معبودا يصلح دخوله النار والمسيح ونحوه لا يصلح دخولهم النار
وكذلك ثبوت الوجود والحياة والعلم والقدرة والاستواء والنزول ونحو ذلك من الأمور التي يوصف بها الخالق والمخلوق ليس من لوازمها
(7/60)
الإمكان والحدوث والآفات والنقائص فإن الإمكان من لوازم ما ليس واجبا بنفسه والحدوث من لوازم المعدوم وإمكان الآفات والنقائص من لوازم ما يقبل ذلك
وهذه الصفات صفات كمال لا تستلزم الآفات بل قد تكون منافية للآفات والنقائص والمنافي للشيء لا يكون من لوازمه بل هو مناقض للوازمه فكيف يجعل المنافي كالملازم
والمقصود أن المشركين كانوا يعارضون الرسول بما يتخيلونه مناقضا لقوله وإن لم يكن في ظاهر قوله ما يناقض لا معقولا ولا منقولا فكيف إذا كان ظاهر قوله يناقض صريح المعقول الذي عليه أئمة أرباب العقول لا سيما إذا كان ذلك المعقول هو الذي لا يمكن تصديقه إلا به فإذا كان قد أظهر ما يطعن في دليل صدقه وشاهده كان معارضته بذلك أولى الأشياء
وكذلك أيضا لما أخبرهم بالإسراء وشجرة الزقوم أنكر ذلك طائفة منهم وزعموا أن العقل ينفي ذلك وأنزل الله تعالى { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن } سورة الإسراء 60
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به
(7/61)
قال تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } سورة الإسراء 1
وقال { أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى } سورة النجم 12 16
وقال تعالى { وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم } سورة التكوير 22 25
فإذا كان ما أخبرهم به من رؤية الآيات التي أراه الله إياها ليلة الإسراء قد أنكروها وكذبوه لأجلها واستبعدوا ذلك بعقولهم مع أن ذلك ليس ممتنعا في العقل فكيف بما هو ممتنع في صريح العقل
وكذلك أيضا أنكروا أن يبعث الله بشرا رسولا وجعلوا ذلك منكرا ممتنعا في عقولهم
كما قال تعالى { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا } سورة الإسراء 24
وقال { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } سورة يونس 2
(7/62)
وقال تعالى { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا } سورة الفرقان 41
وقال تعالى { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } سورة الأنعام 9
وقال تعالى { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } سورة الأنعام 91
وقد حكى نحو ذلك عمن تقدم من الكفار كقول قوم فرعون { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين } سورة المؤمنين 47 48
وقول قوم نوح { ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } سورة هود 27
وقالت أصناف الأمم لرسلهم { إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } سورة ابراهيم 10
حتى قالت الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } سورة إبراهيم 11 وأمثال هذا
فقد ذكر عن المشركين أنهم أنكروا إرسال رسول من البشر ودفعوا ذلك بعقولهم
(7/63)
وهذا قول من يجحد النبوات من البراهمة مشركي الهند وغيرهم ولهم شبه معروفة يزعمون أنها براهين عقلية تقدح في جواز إرسال الرسل
ولهذا قال تعالى { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } سورة يوسف 109
وقال { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } سورة النحل 43
وقال { قل ما كنت بدعا من الرسل } سورة الأحقاف 9 وأمثال ذلك
وكذلك لما أخبرهم بالمعاد عارضوه بعقولهم وقد ذكر الله تعالى من حججهم التي احتجوا بها في إنكار المعاد ما هو مذكور في القرآن
كقوله تعالى { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } سورة يس 78 81
وقد ذكر طعنهم في الرسالة والمعاد جميعا في قوله تعالى { ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ }
(7/64)
سورة ق 1 4
ثم ذكر الأدلة عليهم إلى قوله { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } سورة ق 15
وهذه السورة قد تضمنت من أصول الإيمان ما أوجبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المجامع العظام فيقرأ بها في خطبة الجمعة وفي صلاة العيد وكان من كثرة قراءته لها يقرأ بها في صلاة الصبح وكل ذلك ثابت في الصحيح
قال تعالى { وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } سورة الإسراء 49 52
وقد ذكر نحو ذلك عمن مضى من المكذبين للرسل كقولهم عن رسولهم { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين }
(7/65)
سورة المؤمنون 35 38
وقال تعالى { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } سورة الجاثية 24
وأمثال هذا في القرآن كثير
وذكر عنهم أنهم طعنوا في الرسول بعقولهم بأمور ظنوها لازمة له كقولهم { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } سورة الفرقان 7 8
قال تعالى { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } سورة الفرقان 9
وكذلك قالوا عمن قبله من الرسل كما قال فرعون { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين } سورة الزخرف 52 53
وقالوا لشعيب { وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز } سورة هود 91
والمقصود هنا أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم كان يعارضه من
(7/66)
المؤمنين به والكفار من لا يكاد يحصى معارضة لا ترد عليه ولم تكن إلا من جهل المعارض ولم يكن في ظاهر الكلام الذي يقوله لهم ومفهومه ومعناه ما يخالفه صريح المعقول بل كان المعارضون يعارضون بعقولهم ما لا يستحق المعارضة فلو كان فيما بلغهم إياه عن الله من أسمائه وصفاته ونحو ذلك ما يخالف ظاهره صريح المعقول لكان هذا أحق بالمعارضة وكان يمتنع في مستمر العادة أن مثل هذا لا يعارضه أحد لا معارضة دافع طاعن ولا معارضة مستشكل مسترشد فكيف إذا كان يعارض القضايا العقلية التي بها علموا نبوته وأنه رسول الله إليهم فكيف تكون المعارضة بذلك أولى أن تقع من الكفار والمسلمين
أما الكفار فيقولون له نحن لا نعلم صدقك إلا بأن نعلم بعقولنا أمورا تناقض ما يفهم ويظهر مما تخبرنا به فالمصدق لك يكون متناقضا متلاعبا لا يمكنه أن يقبل بعض أخبارك إلا برد بعضها وهذا ليس فعل العالمين الصادقين دائما بل فعل من يكذب تارة ويصدق أخرى أو يصيب تارة ويخطىء أخرى
وأما المسلمون المظهرون للإسلام فقد كان فيهم منافقون وفي المؤمنين سماعون لهم يتعلقون بأدنى شبهة يوقعون بها الشك والريب في قلوب المؤمنين وكان فيهم من له معرفة وذكاء وفضيلة وقراءة للكتب ومدارسة لأهل الكتاب مثل أبي عامر الفاسق الذي كان يقال له عامر الراهب الذي اتخذ له المنافقون مسجد الضرار
(7/67)
وأيضا فقد كان اليهود والنصارى يعارضونه بما لا يصلح للمعارضة ويقدحون في القرآن بأدنى شبهة ويخاطبون بذلك من أسلم كما قالوا للمغيرة بن شعبة أنتم تقرأون في كتابكم { يا أخت هارون } سورة مريم 28 وموسى بن عمران كان قبل عيسى بسنين كثيرة فظنوا أن هارون المذكور هو هارون أخو موسى وهذا من فرط جهلهم فإن عاقلا لا يخفى عليه أن موسى كان قبل عيسى بسنين كثيرة وأن مريم أم عيسى ليست أخت موسى وهارون ولا هو المسيح ابن أخت موسى وليس في من له تمييز وإن كان من أكذب الناس من يرى أن يتكلم بمثل هذا الذي يضحك عليه به كل من سمعه فكيف بمن هو أعظم الناس عقلا وعلما ومعرفة غلبت عقول بني آدم ومعارفهم وعلومهم حتى استجاب له كل ذي عقل مصدقا لخبره مطيعا لأمره وذل له أو خاف منه كل من لم يستجب له وظهر به من العلم والبيان والهدى والإيمان ما قد ملأ الآفاق وأشرق به الوجود غاية الإشراق
فكان النصارى الذين سمعوا هذا لو كان لهم تمييز لعلموا أن مثل هذا الرجل العظيم الذي جاء بالقرآن لا يخفى عليه أن المسيح ليس هو ابن أخت موسى بن عمران ولا يتكلم بمثل ذلك ولو كانت أختهما لكان إضافتها إلى موسى أولى من إضافتها إلى هارون فكان يقال لها يا أخت موسى لكن لما اتفق أن مريم هذه بنت عمران وذانك
(7/68)
موسى وهارون ابنا عمران فكان لفظ عمران فيه اشتراك والاشتراك غالب على أسماء الأعلام نشأت الشبهة حتى سأل المغيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ألا قلت لهم إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم إن هارون هذا كان رجلا في بني إسرائيل سموه باسم هارون النبي
فمن كانوا يعارضونه بمثل هذه المعارضة كيف يسكتون عن معارضته إذا كان الخطاب الذي أخبر به والمفهوم الظاهر منه بل الصريح منه الذي لا يحتمل التأويل مخالفا لصريح العقل بل مخالفا لما به يعلم صدقه وصدق الأنبياء قبله وهلا كان أهل الكتاب يقولون له ما جئت به يقدح في نبوات الأنبياء قبلك فإنا لا يمكننا أن نصدقك إلا بقضايا عقلية بها يعلم صدق الرسل وما أظهرته للناس وبينته لهم وأخبرتهم به يناقض الأصول العقلية التي بها نعلم تصديق الأنبياء
واعلم أن من أمعن النظر في هذا المقام وتوابعه حصل له أمور جليلة
بطلان قول من يقول العلم بصحة السمع لا يكون إلا بقضايا عقلية مناقضة للمفهوم الظاهر من أخبار الله ورسوله
بل بطلان قول من يجعل صريح العقل مناقضا لأخباره
(7/69)
بل بطلان قول من يدعي أن أقوال الجهمية النفاة لعلو الله على خلقه مما هي معروفة بصريح العقل سواء كانت موافقة لخبر الرسول أو مخالفة له
وذلك من وجوه
أحدها أن إيمان المؤمنين به العالمين بصدقه حصل بدون هذه القضايا
الثاني أن أحدا منهم لم يورد هذه المعارضة ولم يستشكل هذا الذي هو تناقض في زعم هؤلاء
الثالث أن المنافقين لم يورد أحد منهم هذا
الرابع أن المشركين لم يورد أحد منهم هذا
الخامس أن أهل الكتاب لم يورد أحد منهم هذا
السادس أنه لم يعهد إليهم أن لا يصدقوا بمضمون هذه الظواهر ولا يعتقدوا موجبها ولا أمرهم بترك تدبرها وفهمها وعقلها ولا بتأويلها تأويلا يصرفها عن المعنى الظاهر المفهوم منها ولا بتفويضها وقولهم لا نعلم معناها
السابع أن الصحابة لم يوصوا التابعين بذلك
الثامن أن التابعين لم يوردوا على الصحابة ولا أورد بعضهم على بعض ظهور هذا التناقض والتعارض ولا سأل بعضهم بعضا كيف نصنع هل نتبع موجب النصوص أو موجب العقول المعارضة
(7/70)
ونتأول النصوص أو نصرف قلوبنا عن فهمها وتدبرها وعقلها ونقول لا ندري ما معناها
فإن قيل فهذا الذي ذكرته ظاهر لا يخفى على من تأمل أمور الإسلام كيف كانت وكيف ظهر الإسلام ومع هذا فهذه الشبه العقلية التي احتج بها النفاة قد ضل بها خلق كثير من هذه الأمة ومن أهل الكتاب فهل كانت عقول الكفار أصح من عقول هؤلاء ثم إذا كان الأمر هكذا فكيف وقع في هذا من وقع
قيل المقصود هنا فساد قول من يقول إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بقضايا عقلية تناقض مفهوم ما أخبر به وهذا يلزم من قال ذلك من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الأشعرية ومن دخل معهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة والصوفية أن تصديق الرسول لا يمكن إلا بأن يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام وانه يستدل على ذلك بحدوث ما قام بها من الأعراض مطلقا أو الحركات وأن ذلك مبني على امتناع حوادث لا أول لها وذلك يستلزم نفي الأفعال القائمة بذات الله تعالى المتعلقة بمشيئته واختياره بل نفي صفاته وأن يكون القرآن مخلوقا وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يكون فوق العالم
فمن قال إن تصديقه فيما أخبر به لا يمكن إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا قال الأشعري وغيره إن هذه الطريق مبتدعة في دين الأنبياء بل محرمة غير
(7/71)
مشروعة ولا ريب أن عقل من آمن بالله والرسول كان خيرا من عقل من سلك هذه الطريق من أهل الكلام
وأما عقول الكفار فلا ريب وإن كانت عقول جنس المؤمنين خيرا من عقولهم لكن قد يكون عند الكافر من العقل والتمييز ما يمنعه أن يقول ما يقوله كثير من أهل البدع ألا ترى أن أكاذيب الرافضة لا يرضاها أكثر العقلاء من الكفار فكذلك عقول المشركين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تقبل أن ترد رسالته بمثل هذا الكلام الذي فيه من الدقة والغموض ما لا يفهمه أكثر الناس ومن فهمه من العقلاء علم أنه من باب الهذيان والبهتان
يبين لك كل ذلك أن العرب مع شركها كانت مقرة بأن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه مقرة بالقدر وكانت عقولهم من هذا الوجه خيرا من عقل من جعل كثيرا من المحدثات لم يخلقه الله ولا قدره ولا أراده وكانت العرب أيضا تقر بأن الله فاعل مختار ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فكانت عقولهم خيرا من عقول الدهرية الفلاسفة الذين يقولون بأن العالم صدر عن علة تامة موجبة له كما يقوله الدهرية الإلهيون
ولا ريب أن من أنكر الصانع وقال بأن العالم واجب بذاته فعقله أفسد من عقل هؤلاء والعرب لم تكن تقول بهذا اللهم إلا أن يكون في تضاعيفهم آحاد تقوله ولكن لم يكن هذا القول ظاهرا فيهم بل الظاهر فيهم الإقرار بالخالق وعلمه وقدرته ومشيئته
وهذه الشبه شبه الجهمية هي في الأصل نشأت من ملاحدة
(7/72)
الأمم المنكرين للصانع وهؤلاء أجهل الطوائف وأقلهم عقلا فلهذا لم تكن العرب تعارض بمثل هذه الشبه وإنما ذكر الله تعالى نظير قول الجهمية عن مثل فرعون وأمثاله من المعطلة كالذي حاج إبراهيم في ربه
ولا ريب أن المعطلة شر من المشركين والعرب وإن كانوا مشركين لم يكن الظاهر فيهم التعطيل للصانع وإن كان قد يكون في أضعافهم من هو في المرتابين في الصانع أو الجاحدين له كما في تضاعيف كل أمة حتى في المصلين من هو من هؤلاء إذ المنافقون لم يزالوا في الأمة ولن يزالوا على اختلاف أصنافهم
وإذا عرف أن المقصود بيان فساد قول من يزعم أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بالطريق الجهمية المناقضة لإثبات ما أخبر به من صفات الله وكلامه وأفعاله حصل المقصود
وأما من قال إن هذه المعقولات تعارض المفهوم الظاهر من الآيات والأحاديث من غير أن يقول إن العلم بصدق الرسول موقوف عليها كما يقوله من يعتقد صحة هذه الطريق طريقة الاستدلال على الصانع بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام وإن قال إنه يمكن تصديق الرسول بدونها كما يقوله الأشعري نفسه وكثير من أصحابه والرازي وأمثاله وكثير من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية ويوجد شيء من هذا في كلام المحاسبي وأبي حاتم البستي والخطابي وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغير هؤلاء فإن هؤلاء وجمهور المسلمين يقولون إنه
(7/73)
يمكن تصديق الرسول بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام
لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطرق وإن قالوا إن تصديق الرسول لايتوقف عليها
ثم منهم من يقول إنها لا تعارض النصوص بل يمكن الجمع بينهما
وهذه طريقة الأشعري وأئمة أصحابه يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن مع اعتقادهم صحة طريقة الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام
وهذه طريقة أبي حاتم بن حبان البستي وأبي سليمان الخطابي والتميميين كأبي الحسن التميمي وغيره من أهل بيته وأبي علي بن أبي موسى والقاضي أبي يعلى وأبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وخلق كثير من طوائف المسلمين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية
ومن هؤلاء من يدعي التعارض بينهما كالرازي وأمثاله كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض كالمعتزلة وأبي المعالي وأتباعه
فهؤلاء مشتركون في أن هذه الطريقة المعقولة لهم مناقضة لما يفهم من الآيات والأحاديث سواء قالوا إن تصديق الرسول موقوف عليها كما يقوله من يقوله من المعتزلة وأتباع صاحب الإرشاد أو لم يقولوا ذلك كما يقوله من يوافق الأشعري والرازي وجمهور المسلمين على
(7/74)
أن تصديق الرسول ليس موقوفا عليها
وليس المقصود في هذا المقام إلا إبطال قول من يدعي أن تقديم النقل على العقل المعارض له يقدح في العقل الذي به علم صحة السمع وقد تبين أن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار من الدين معلوم بالاضطرار من العادة وأن الذين آمنوا بالرسول وعلموا صدقه لم يكن علمهم موقوفا على هذه القضايا
ومما يشترك فيه الفريقان أن يقال أهل العقول الذين سمعوا القرآن والكفار من المشركين وأهل الكتاب في العصور المتقدمة لم يكن منهم من طعن فيه أو أورد عليه مخالفة هذه الأخبار عن صفات الله لصريح المعقول فلو كان العلم بنقيض ذلك ثابتا في عقول بني آدم لم يمكن في العادة أن يكون هذا الكلام الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها وظهر وليه على عدوه بالحجة الباهرة والسيف القاهر وفي صريح المعقول ما يناقض أخباره ولا أحد من العقلاء يتفطن لذلك لا على وجه الطعن ولا على وجه الاستشكال مع أن هذه العقليات مما تتوفر الهمم والدواعي على استخراجها واستنباطها لو كانت صحيحة لأنها متعلقة بأشرف المطالب والعلم به الذي تتوفر الهمم على طلب معرفة صفاته نفيا وإثباتا
فلو كانت هذه الطرق الدالة على السلب طرقا صحيحة تعلم بالعقل لكان مع الداعي التام يجب تحصيلها فإنه مع كمال القدرة
(7/75)
والداعي يجب وجود المقدور فكان يجب أن تظهر هذه من أفضل الناس عقلا ودينا
فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن ذلك كان لفسادها وأنهم لصحة عقولهم لم يعتقدوها كما لم يعتقدوا مذهب القرامطة الباطنية والرافضة الغالية وأمثالهم من الطوائف التي يعلم فساد قولهم بصريح المعقول
ومعلوم أن الباطل ليس له حد محدود فلا يجب أن يخطر ببال أهل العقل والدين كل باطل وأن يردوه فإن هذا لا نهاية له بخلاف ما هو حق معلوم بصريح العقل في حق الله تعالى لا سيما إذا كان مما يجب اعتقاده بل يتوقف تصديق الرسول على معرفته فإن هذا يمتنع أن تكون العصور الفاضلة مع كثرة أهلها وفضلهم عقلا ودينا لم يعلموها ولم يقولوها
فعلم بذلك أن هذه المعارضات ليست من العقليات الصحيحة التي هي مستقرة في صريح العقل بل هي من الخيالات الفاسدة المشابهة للعقليات التي تنفق على طائفة من الناس دون طائفة كما نفقت على الجهمية ومن وافقهم دون جمهور عقلاء بني آدم ولهذا كان أعظم نفاقها على أجهل الناس وأعظمهم تكذيبا بالحق وتصديقا بالباطل من القرامطة الباطنية والحلولية والاتحادية وأمثالهم
ومن المعلوم أن أهل التواتر لا يجوز عليهم في مستقر العادة أن يكذبوا ولا أن يكتموا ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فكما أن الفطر فيها مانع من الكذب ففيها داع إلى الإظهار والبيان فكذلك ها هنا كما أن العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا أخبرت عما تعلمه بضرورة أو
(7/76)
حس لم تتفق على الكذب ولا الخطأ فكذلك أيضا العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا سمعت ما يعلم بصريح العقل بطلانه وفساده لم تتفق على الإعراض عن النظر والاستدلال حتى يعرف فساده وبطلانه
ولهذا لم تظهر في امة من الأمم أقوال باطلة إلا كان فيهم من يعرف بطلان ذلك فيتكلم بذلك مع من يثق به وإن وافق في الظاهر لغرض من الأغراض
ولهذا تجد خلقا من الرافضة والإسماعيلية والنصيرية يعلمون في الباطن فساد قولهم ويتكلمون بذلك مع من يثقون به
وكذلك بين النصارى خلق عظيم يعلمون فساد قول النصارى وكذلك بين اليهود
وهذه الأمة قد كان فيها في القرون الثلاثة منافقون لا يعلم عددهم لا الله وقد جاورهم من المشركين وأهل الكتاب أمم أخر وهم طوائف متباينة فما يمكن احدا أن ينقل أنه كان قبل الجعد بن درهم وجهم بن صفوان من ظهر عنه القول بأن العقول تنافي ما في القرآن من إثبات العلو والصفات أو بعض الصفات لا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب ولا من سائر الكافرين
ومن المعلوم أن هذا إذا كان مستقرا في صريح المعقول فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يستخرج ويستنبط وإذا استخرج واستنبط فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يتكلم به وإذا تكلم به فلا بد مع
(7/77)
توفر الهمم والدواعي أن ينقل ألا ترى أنه لما تكلم به واحد وهو الجعد بن درهم نقل الناس ذلك ثم الجهم بعده كذلك ولم نقل إن هذا لم يكن في نفس أحد فإن هذا لا يمكن نفيه ولم ينقل أن أحدا من هؤلاء لم يناج به بعض الناس فإن هذا لا يمكن نفيه بل قلنا إنه لم يظهر وعدم ظهوره مع الكثرة والقوة الموجبة لتوفر الهمم والدواعي على استخراجه واستنباطه إن كان حقا يوجب أنه ليس حقا فإن معرفة الله وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا أعظم المطالب
ونحن نعلم بالاضطرار أن سلف الأمة كانوا أعظم الناس رغبة في هذا ومحبة له فإذا كان الحق هو قول النفاة وعلى ذلك أدلة عقلية يستخرجها الناظر بعقله وهم من أعقل الناس وأرغبهم في هذا المطلب امتنع مع ذلك أن لا يكون منهم من يفطن لهذا الحق وإذا تفطنوا له مع قوة دينهم ورغبتهم في الخير كانوا يظهرونه ويبينونه وذلك يوجب ظهوره وانتشاره لو كان حقا
وكذلك الكفار لهم رغبة في معرفة ذلك وإظهاره لو كان حقا لما فيه من معارضة الرسول ومناقضته ولما فيه من معرفة الحق
واعلم أن هذا كما يقال في أمتنا فإنه يقال في بني إسرائيل فإن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي يسميها النفاة تشبيها وتجسيما ومن المعلوم أن التوراة قد تداولها من الأمم ما لا يحصيهم إلا الله وقد انتشرت بين النصارى كما انتشرت بين اليهود فلو كان ما فيها من الصفات وإثبات العلو لله مما يناقض صريح العقل لكان ذلك من أعظم ما كان
(7/78)
ينبغي أن يتعنت به بنو إسرائيل وغيرهم لموسى فقد ذكر عنهم من تعنت بموسى أشياء لا تعلم بصريح العقل فقد اذوا موسى وقالوا إنه آدر وإنه قتل هارون ودس عليه قارون بغيا لرميه بالزنا ليؤذي موسى بذلك
وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } سورة الأحزاب 69 ومع هذا فأذى موسى بذلك أذى لا يشهد به صريح العقل فلو كان ما أخبرهم به مما يناقض صريح العقل لكان أذاه بالقدح في ذلك أبين وأظهر وأولى أن يستعمله من يريد الأذى له
وقد قال تعالى { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } سورة البقرة 47
وقال { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } سورة المائدة 20
وقال { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين } سورة الجاثية 16
وقد كان القوم مجاورين للروم والقبط والنبط والفرس وهم أئمة الفلاسفة والصابئين والمشركين من جميع الأصناف وقد ذكروا أن
(7/79)
أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط وأفلاطن قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان فكيف يكون ما تدل عليه التوراة ويفهم منها مناقضا لصريح المعقول الذي لا ينبغي أن يشك عاقل فيه ولا يظهر ذلك لا في أوليائها ولا أعدائها
بل الطوائف كلها مجتمعة على تعظيم الذي جاء بالتوراة خاضعين له فهل يكون كتاب مملوءا مما ظاهره كذب وفرية على الله ووصف له بما يمتنع عليه ولا يجوز في حقه ولا يظهر بين العقلاء مناقضته ومعارضته
ومن اعتبر الأمور وجد الرجل يصنف كتابا في طب وحساب أو نحو أو فقه أو ينشىء خطبة أو رسالة أو ينظم قصيدة أو أرجوزة فيلحن فيها لحنة أو يغلط في المعنى غلطة فلا يسكت الناس حتى يتكلموا فيه ويبينوا ذلك ويخرجون من الحق إلى زيادة من الباطل وإن كان صاحب ذلك الكلام لا يدعوهم إلى طاعته واستتباعه ويذم من يخالفه فضلا عن أن يكفره ويبيح قتاله وشتمه فإذا كان الذي جاء بالقرآن ودعا الناس إلى طاعته واستتباعه وأن يكون هو المطاع الذي لا ينبغي مخالفته في شيء دق ولا جل ويقول إن السعادة لمن أطاعه والشقاء لمن خالفه ويعظم مطيعيه ويعدهم بكل خير ويلعن مخالفيه ويبيح دماءهم وأموالهم وحريمهم فمن المعلوم ان مثل هذه الدعوى لا يدعيها إلا أكمل الناس وأحقهم بها وهم الرسل الصادقون أو أكذب الناس وأبعدهم عنها كالمتنبئين الكاذبين
(7/80)
ومعلوم أن صاحب هذه الدعوة تعاديه النفوس وتحسده كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره بما جاءه فقال إن قومك سيخرجوك قال أو مخرجي هم قال نعم إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا
ومن المعلوم أن أعداء من يقول مثل هذا إذا كان المفهوم من كلامه والظاهر من خطابه هو كذب على الله ووصفه بما يجب تنزيهه عنه وبما يعلم بصريح العقل أن الله منزه عنه وأنه من وصفه بذلك كان قائلا من التشبيه والتجسيم بما يخالف صريح العقل بل يكون صاحبه كافرا كاذبا مفتريا على الله كان هذا من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على معارضته به والطعن في ذلك والقدح في نبوته به
وهكذا موسى بن عمران وبنو إسرائيل كان بمقتضى العادة المطردة أنه لا بد في كل عصر من أن يظهر إنكار مثل ذلك والقدح فيما جاء به موسى وأن يكون المؤذون له يؤذونه بذلك وأعظم منه
فإذا قيل إنه قد وجد طعن في موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم بمثل هذا
(7/81)
قلنا نعم وجد بعد أن ظهرت مقالة الجهمية في المسلمين وحديث الملاحدة من القرامطة الباطنية الذين أخذوا شر قول الجهمية وشر قول الرافضة وركبوا منهما قولا ثالثا شرا منهما ونحن لم نقل إنه لم يقدح أحد في الأنبياء والمرسلين ولا كذبهم ولا عارضهم في نفس ما دعوا إليه من التوحيد والنبوة والمعاد وعارضوهم بعقولهم ولم يعارضوهم معارضة صحيحة بل كان ما عارضوا به فاسدا في العقل
فهؤلاء الذين حدثوا من المعارضين هم أسوأ حالا من أولئك المعارضين فإن القرامطة الباطنية شر من عباد الأصنام من العرب وشر من اليهود والنصارى فمجادلة هؤلاء وأمثالهم بالباطل ليس بعجيب فما زال في الأرض من يجادل بالباطل ليدحض به الحق ولكن قلنا إذا كان الظاهر المفهوم مما خبروا به مخالفا لصريح العقل امتنع في العادة أن لا يعارض أولئك الأعداء به ولا يستشكله الأصدقاء مع طول الزمان وتفرق الأمة فإذا كان العدو يعارض بالمعقول الفاسد فكيف لا يعارض بالمعقول الصريح وإذا كان الولي يستشكل ما لا إشكال فيه لخطأه هو نفسه فكيف لا يستشكل ما هو مشكل يخالف ظاهره بل نصه للحق المعلوم بصريح العقل
فقلنا عدم وجود هذه المعارضات مع توفر الهمم والدواعي على وجودها لو كانت حقا دليل على أنها باطل كما أن عدم نقل ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو كان موجودا دليل على أنه كذب بخلاف وجود الطعن والمعارضة فإنه ليس دليلا على صحة ما
(7/82)
عارض به وطعن كما أن مجرد نقل الناقل ليس دليلا على صحة ما نقل
فليتدبر الفاضل هذا النوع من النظر والكلام فإنه ينفتح له أبواب من الهدى ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن الجهمية النفاة هم من أفسد الناس عقلا وأعظمهم جهلا وإن كان قد يحصل لأحدهم ملك وسلطان بيد او لسان كما حصل لفرعون ونمرود بن كنعان ونحوهما
ولهذا وصف الله لهؤلاء وأشباههم بأنهم لا يسمعون ولا يعقلون ومن تدبر الحقائق وجد كل من كان أقرب إلى التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به كان أكمل عقلا وسمعا وكل من كان أبعد عن التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به كان أنقص عقلا وسمعا
ولا ريب أن قول أهل التعطيل والإلحاد ومن دخل منهم من أهل الحلول والاتحاد ومن شاركهم في بعض أصولهم المستلزمة لتعطيلهم وإلحادهم من سائر العباد هي من أفسد الأقوال وأكذبها وأعظمها تناقضا وأكثر الأمور أدلة على نقيضها من الأدلة العقلية والسمعية لكن اشتبه بعض أصولهم على كثير من أهل الإيمان فظنوا أن ذلك برهان عقلي معارض للقرآن الإلهي ولم يعلموا أن البرهان موافق للقرآن معاضد لا مناقض معارض وأن دلائل الآيات والآفاق العيانية موافقة للدلائل القرآنية إذ كانت أدلة الحق شهودا صادقين وحكاما لا يثبت عندهم إلا الحق المبين
ومن المعلوم أن أخبار الصادقين وشهاداتهم وإثباتاتهم تتعاون وتتعاضد وتتناصر وتتساعد لا تتناقض ولا تتعارض وإن قدر أن
(7/83)
أحدهم يغلط خطأ أو يكذب أحيانا فلا بد أن يظهر خطؤه وكذبه وهذا مما استقراه الناس في أحاديث المحدثين للأحاديث النبوية لا يعرف أن أحدا منهم غلط أو كذب إلا وظهر لأهل صناعته كذبه أو خطؤه
وكذلك الناظرون أهل النظر والاستدلال في الأدلة السمعية أو العقلية ما يكاد يغلط غالط منهم إلا ويعرف الناس غلطه من أبناء جنسه وغيرهم
والجهمية النفاة المعطلة قلبوا حقائق الأدلة والبراهين العقلية والسمعية ثم ادعوا أن معهم دلالات عقلية تعارض الآيات السمعية فحرفوا الآيات وبدلوها بالتأويل بعد أن أفسدوا العقول بزخرف الأباطيل
قال تعالى { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } سورة الأنعام 112 115
فإذا رأيت الدلائل اليقينية تدل على أن ما أخبر به الرسول لا يناقض العقول بل يوافقها وأن ما ادعاه النفاة من مناقضة البرهان
(7/84)
لمدلول القرآن قول باطل فلا تعجب من كثرة أدلة الحق وخفاء ذلك على كثيرين فإن دلائل الحق كثيرة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وقل لهذه العقول التي خالفت الرسول في مثل هذه الأصول عقول كادها باريها واتل قوله تعالى { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون } سورة الأحقاف 26
ومما يوضح الأمر في ذلك أن يقال من المعلوم أن موسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وأمثالهما كانوا من أكمل الناس معرفة وخبرة وعقلا باتفاق من آمن بهم ومن كفر فإن الكافر بهم يقول كانوا من أدهى الناس وأخبرهم بالأمور وأعرفهم بالطرق التي تنال بها المقاصد والأسباب التي تطلب بها المرادات فسعوا فيما يصدقهم به الناس ويطيعونهم بما كان عندهم من المعرفة والحذق والذكاء
وأما المؤمن بهم فيقول إن الله خصهم من العلم والعقل والمعرفة واليقين بما لم يشركهم فيه أحد من العالمين
قال وهب بن منبه لو وزن عقل محمد صلى الله عليه وسلم بعقل أهل الأرض لرجح
وإذا كان كذلك امتنع في صريح العقل أن من يريد أن الناس يصدقونه ويطيعونه يذكر لهم ما يوجب في صريح العقل تكذيبه
(7/85)
ومعصيته والقدح فيما جاء به ومعارضته فإن كان المفهوم المعروف مما أخبروا به الناس مناقضا لصريح العقل وهم لم يعرفوا أنه مناقض لصريح العقل فقد وصفهم من قال ذلك من نقص العقل وفساده بما أجمع الناس على فساده وإن علموا أنه مناقض لصريح العقل وأظهروه ولم يبينوه ولم يذكروا ما يجمع بينه وبين صريح المعقول فقد سعوا فيما به يكذبهم المكذب ويرتاب المصدق ويستطيل به أعداؤهم على أوليائهم فيكون أولياؤهم في الريب والاضطراب وأعداؤهم قد فوقوا إليهم النشاب وحزبوا عليهم الأحزاب وهم لا يستطيعون نصر ما جاء به الرسول بل يطلبون الإعراض عن سماعه ومنع الناس من استماعه ولا يفعله إلا من هو أقل الناس عقلا
وإذا كان هؤلاء بإجماع أهل الأرض كاملي العقول والمعرفة بل أكمل الناس عقلا ومعرفة تبين أن الدين الذي أظهروه وبينوه وأخبروا به ووصفوه لم يكن عندهم مناقضا لصريح المعقول ولا منافيا لحق مقبول بل كان عندهم لا يخالف ذلك إلا كل كاذب جهول
ومما يوضح الأمر في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر وانتشر ما أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم وما أظهر من عيوبهم وذنوبهم وتنزيهه لله عما وصفوه به من النقائص والعيوب
(7/86)
كقوله تعالى { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق } سورة آل عمران 181
وقوله تعالى { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين } سورة المائدة 64 65
وقوله تعالى { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } سورة ق 38
ونزه نفسه عما وصفوه به من الفقر والبخل والإعياء فالإعياء من جنس العجز المنافي لكمال القدرة والفقر من جنس الحاجة إلى الغير المنافي لكمال الغنى والبخل من جنس منع الخير وكراهة العطاء المنافي لكمال الرحمة والإحسان وكمال القدرة والرحمة
والغني عن الغير مستلزم سائر صفات الكمال فإن الفاعل إذا كان عاجزا لم يفعل وإذا كان قادرا ولم يرد فعل الخير لم يفعله فإذا كان قادرا مريدا له فعل الخير ثم إن كان محتاجا إلى غيره كان معاوضا لا محسنا متفضلا وكان فيه نقص من وجه آخر فإذا كان مع
(7/87)
هذا غنيا عن الغير لم يفعل إلا لمجرد الإحسان والرحمة وهذا غاية الكمال
وقد نزه الله سبحانه نفسه في القرآن عما زعمته النصارى من الولد والشريك فقال تعالى { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه } سورة النساء 171
وقال { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } سورة المائدة 17
وقال تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } سورة المائدة 73 74
ثم إنه جمع اليهود والنصارى في قوله { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } سورة التوبة 30
ومن المعلوم لمن له عناية بالقرآن أن جمهور اليهود لا تقول إن عزير ابن الله وإنما قاله طائفة منهم كما قد نقل أنه قال فنحاص بن
(7/88)
عازورا أو هو وغيره
وبالجملة إن قائلي ذلك من اليهود قليل ولكن الخبر عن الجنس
كما قال { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } سورة آل عمران 173 فالله سبحانه بين هذا الكفر الذي قاله بعضهم وعابه به فلو كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم فإن فيها من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيها وتجسيما بل فيها إثبات الجهة وتكلم الله بالصوت وخلق آدم على صورته وأمثال هذه الأمور
فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدلته كان إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وبيان ذلك أولى من ذكر ما هو دون ذلك فكيف والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة فإنك تجد عامة ما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات موافقا مطابقا لما ذكر في التوراة وقد قلنا قبل ذلك إن هذا كله مما يمتنع في العادة توافق المخبرين به من غير مواطأة
وموسى لم يواطىء محمدا ومحمد لم يتعلم من أهل الكتاب فدل
(7/89)
ذلك على صدق الرسولين العظيمين وصدق الكتابين الكريمين وقلنا إن هذا لو كان مخالفا لصريح المعقول لم يتفق عليه مثل هذين الرجلين اللذين هما وأمثالهما أكمل العالمين عقلا من غير أن يستشكل ذلك وليهما المصدق ولا يعارض بما يناقضه عدوهما المكذب ويقولان إن إقرار محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب على ذلك من غير أن يبين كذبهم فيه دليل على أنه ليس مما كذبوه وافتروه على موسى مع أن هذا معلوم بالعادة فإن هذا في التوراة كثير جدا وليس لأمة كثيرة عظيمة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها غرض في أن تكذب من تعظمه غاية التعظيم بما يقدح فيه وتبين فساد أقواله ولكن لهم غرض في أن يكذبوا كذبا يقيمون به رياستهم وبقاء شرعهم والقدح فيما جاء به من ينسخ شيئا منهم كما لهم غرض في الطعن على عيسى ابن مريم وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم فإذا قالوا ما هو جنس القدح في عيسى ومحمد كان تواطؤهم على الكذب فيه ممكنا فأما إذا قالوا ما هو من جنس القدح في موسى فيمتنع تواطؤهم على ذلك في العادة مع علمهم بأنه يقدح في موسى كما يمتنع تواطؤ النصارى على ما يعلمون أنه قدح في المسيح
(7/90)
وأما المسلمون فقد عصمهم الله من أن يتفقوا على خطأ لكن يعلم بمطرد العادات أنه يمتنع تواطؤهم على ما يعلمون أنه قدح في نبوته فإن هذا لا يفعله إلا من هو مبغض له مكذب ونحن نعلم أن اليهود لم يتفقوا على بغض موسى وتكذيبه ولا اتفقت النصارى على بغض المسيح وتكذيبه فضلا عن أن تتفق طائفة من المسلمين على بغض محمد وتكذيبه وإذا اتفقت طائفة على بغضه وتكذيبه مثل غالية الإسماعيلية والخرمية الباطنية وأمثالهم لم تكن هذه الطائفة من أهل الإيمان به وقد انكشف ولله الحمد أمرهم وانهتك سترهم
وقد تتفق الطائفة على قول يكون متضمنا للقدح فيمن تعظمه ولا يعلم ذلك كما يتفق مثل ذلك للنصارى والرافضة وأمثالهم من جهال الطوائف الذين اعتقدوا عقائد فاسدة فظنوها حقا وكذب بعضهم فنقلها لهم عن المسيح أو علي فصدقوا ذلك الناقل لا لثبوت صدقه عندهم لكن لموافقته لهم فيما يعتقدونه
وهذا سبب كثرة الكذب والضلال بين النصارى والرافضة والغلاة من العامة وغيرهم وإذا كان كذلك فهذه الأقوال التي في التوراة إن كانت مخالفة لصريح العقل لم يكن في إضافتها إلى موسى إلا بطريق القدح فيه فيمتنع اتفاق اليهود على نقلها عنه وإن لم تكن مخالفة لصريح العقل لم يكن حينئذ في نقلها عن موسى محذور
فثبت أنه لايجوز تكذيب نقل هذه عن موسى لاعتقاده مخالفتها بالعقل الصريح
(7/91)
فإن قيل إن الذي كذبها لهم كان يعتقد صدقها أو كان غرضه إضلالهم كما أن كثيرا من هذه الأمة يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أكاذيب لاعتقاده أنها حق صحيح يجب على الناس قبوله فيكذب أحاديث في ذلك ليقبل الناس ما يعتقده كما وقع مثل هذا لطوائف من أهل البدع والكلام وبعض المتفقهة والمتزهدة مثل الجويباري الذي كان يكذب للمرجئة والكرامية وغيرهم أحاديث توافق قولهم ومثل بعض المتفقهة الذين كذبوا أحاديث توافق رأيهم لاعتقادهم أنه صدق ومثل طائفة من أهل الزهد والعبادة كذبوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا نحن كذبنا له ما كذبنا عليه ومثل الذين كذبوا أحاديث في فضائل الأشخاص والبقاع والأزمنة وغير ذلك لظنهم أن موجب ذلك حق أو لغرض آخر
واخرون من الزنادقة والملاحدة كذبوا أحاديث مخالفة لصريح العقل ليهجنوا بها الإسلام ويجعلوها قادحة فيه مثل حديث عرق الخيل الذي فيه أنه خلق خيلا فأجراها فعرقت فخلقت نفسه من ذلك العرق فخلق نفسه من ذلك العرق فإن هذا الحديث وأمثاله لا يكذبه من يعتقد صدقه لظهور
(7/92)
كذبه وإنما كذبه من مقصوده إظهار الكذب بين الناس كما يقولون إنه وضعه بعض أهل الأهواء ليقول إن أهل الحديث يروون مثل هذا ومع هذا فكل أهل الحديث متفقون على لعنه من وضعه
ومما يشبه ذلك حديث الجمل الأورق وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق فيصافح المشاة ويعانق الركبان وحديث رؤيته لربه في الطواف أو رؤيته ليلة المعراج بعين رأسه وعليه تاج يلمع بل وكل حديث فيه رؤيته لربه ليلة المعراج عيانا فإنها كلها أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل المعرفة بالحديث لكن الذين وضعوها يمكن أنهم كانوا زنادقة فوضعوها ليهجنوا بها من يرويها ويعتقدها من الجهال ويمكن أن الذين وضعوها كانوا من الجهال الذين يظنون مثل هذا حقا وأنهم إذا وضعوه قووا الحق كما وضع كثير من هؤلاء أحاديث في فضائل الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان لا سيما ما وضعوه في فضائل علي من الأكاذيب فإنه لا يكاد يحصى مع أن في فضائلهم الصحيحة ما يغني عن الباطل ومثل ما وضعوه في مثالبهم لا سيما ما وضعته الرافضة في مثالب الخلفاء وغيرهم فإن فيه من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله
والمقصود أن المعترض يقول يمكن أن يكون الذين كذبوا ما في
(7/93)
التوراة من الصفات على موسى كانوا يعتقدونها فكذبوها أو كان مقصودهم إضلال اليهود وبث الكذب فيهم لإفساد دينهم
قيل هذا القدر يمكن أن يفعله الواحد والاثنان والطائفة القليلة ولكن هؤلاء إذا حدثوا به عامة اليهود مع معرفتهم واختلافهم فلا بد إذا كان معلوما فساده بصريح العقل أن يرده بعضهم أو يستشكله ويقول إن مثل هذا يقدح في موسى فحيث قبلوه كلهم علم أنهم لم يكونوا يعتقدون أنه فاسد في صريح العقل
ومن المعلوم عند أهل الكتاب أن قدماءهم لم يكونوا ينكرون ما في التوراة من الصفات وإنما حدث فيهم بعد ذلك لما صار فيهم جهمية إما متفلسفة مثل موسى بن ميمون وأمثاله وإما معتزلة مثل أبي يعقوب البصير وأمثاله فإن اليهود لهم بالمعتزلة اتصال وبينهما اشتباه ولهذا كانت اليهود تقرأ الأصول الخمسة التي للمعتزلة ويتكلمون في أصول اليهود بما يشابه كلام المعتزلة كما أن كثيرا من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى
ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }
(7/94)
سورة الفاتحة 6 7
والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال واليهود تشبه الخالق بالمخلوق في صفات النقص ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك فلو كان ما في التوراة من هذا الباب لكان إنكار ذلك للهدى من أعظم الأسباب وكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لذلك من أعظم الصواب ولكان النبي صلى الله عليه وسلم ينكر ذلك من جنس إنكار النفاة
فنقول إثبات هذه الصفات يقتضي التجسيم والتجسيد والتشبيه والتكييف والله منزه عن ذلك فإن عامة النفاة إنما يردون هذه الصفات بأنها تستلزم التجسيم
ومن المسلمين وأهل الكتاب من يقول بالتجسيد فلو كان هذا تجسيما وتجسيدا يجب إنكاره لكان الرسول إلى إنكار ذلك أسبق وهو به أحق وإن كان الطريق إلى نفي العيوب والنقائص ومماثلة الخالق لخلقه هو ما في ذلك من التجسيد والتجسيم كان إنكار ذلك بهذا الطريق المستقيم كما فعله من أنكر ذلك بهذا الطريق هو الصراط المستقيم من القائلين بموجب ذلك من أهل الكلام فلما لم ينطق النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه والتابعون بحرف من ذلك بل كان ما نطق به
(7/95)
موافقا مصدقا لذلك وكان اليهود إذا ذكروا بين يديه أحاديث في ذلك يقرأ من القرآن ما يصدقها
كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن يهوديا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله يوم القيامة يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا لقول الحبر ثم قرأ قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } سورة الزمر 67
وأخبر هو صلى الله عليه وسلم بما يوافق ذلك غير مرة كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر هذه الآية ثم قال يقول الله أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا المتعال يمجد نفسه قال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرددها حتى رجف به المنبر حتى ظننا أنه سيخر به
فهذا كله ذكرناه لما بينا أن ما يخالف هذه النصوص من القضايا التي يقال إنها عقلية ليست مما يحتاج إليه في العلم بصدق الرسول فعلم
(7/96)
بطلان قول القائل إن تقديم النقل على العقل يوجب القدح فيه بالقدح في أصله حيث تبين أن ذلك ليس قدحا في أصله
وهذا الكلام في الأصل هو من قول الجهمية المعتزلة وأمثالهم وليس من قول الأشعري وأئمة أصحابه وإنما تلقاه عن المعتزلة متأخرو الأشعرية لما مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع
ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع وأثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضا للسمع بل ما جعله معاضدا له وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل
وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة أصحابه في هذا وهذا فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات وعارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات
والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الأجسام وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة كالحارث المحاسبي وأبي علي الثقفي وأبي بكر بن إسحاق الصبغي مع أنه قد قيل إن
(7/97)
الحارث رجع عن ذلك وذكر عنه غير واحد ما يقتضي الرجوع عن ذلك وكذلك الصبغي والثقفي قد روى أنهما استتيبا فتابا
وقد وافق الأشعري على هذه الأصول طوائف من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم منهم من تبين له بعد ذلك الخطأ فرجع عنه ومنهم من اشتبه عليه ذلك كما اشتبه غير ذلك على كثير من المسلمين والله يغفر لمن اجتهد في معرفة الصواب من جهة الكتاب والسنة بحسب عقله وإمكانه وإن أخطأ في بعض ذلك
والمقصود أنه لم يكن في المنسوبين إلى السنة ولو كان فيه نوع من البدعة من يزعم أن صريح المعقول يخالف مدلول الكتاب والسنة بل كل من تكلم بذلك كان عند الأمة من أهل البدع المضلة فضلا عن أن يقال إن ما به يعلم صدق الرسول من المعقول مناقض لمدلول الكتاب والسنة إذ هذا الكلام يفتح على صاحبه من الزندقة والإلحاد ما يخرجه عن طرد قوله إلى غاية الجهل والضلال والكفر والإلحاد وإن لم يطرد قوله ظهر منه التناقض والفساد ما لا يوافقه عليه لا أهل التوحيد والحق والإيمان ولا طائفة من طوائف العباد
وبهذا كان يصف الأشعري كل من يواليه ويحبه من المنسوبين إلى السنة والجماعة كما في رسالة أبي بكر البيهقي التي كتبها إلى بعض ولاة الأمور لما كان وقع بخراسان من لعنة أهل البدع ما وقع وقصد بعض
(7/98)
الناس إدخال الأشعرية فيهم وقد ذكر الرسالة أبو القاسم ابن عساكر في تبيين كذب المفترى
قال البيهقي في أثناء الرسالة فليعلم الشيخ العميد أن أبا الحسن من أولاد أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
ثم ذكر من فضائل أبي موسى والأشعريين وذرية أبي موسى أمورا معروفة إلى أن قال إلى أن بلغت النوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري فلم يحدث في دين الله حدثا ولم يأت فيه ببدعة بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدينا فبصرنا بزيادة شرح وتبيين وأن ما قالوه وجاء به الشرع في الأصول صحيح في المعقول خلاف ما زعمه أهل الأهواء من أن بعضه لا يستقيم في الآراء فكان في بيانه
(7/99)
تقوية ما لم يزل عليه أهل السنة والجماعة ونصرة أقاويل من مضى من الأئمة كأبي حنيفة وسفيان الثوري من أهل الكوفة والأوزاعي وغيره من أهل الشام ومالك والشافعي من أهل الحرمين ومن نحا نحوهما من أهل الحجاز وغيرها من سائر البلاد كأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث والليث بن سعد وغيره ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري إمامي أهل الآثار وذلك دأب من تصدر من الأئمة في هذه الأمة وصار رأسا في العلم من أهل السنة في قديم الدهر وحديثه
إلى أن قال وحين كثرت المبتدعة في هذه الأمة وتركوا ظاهر الكتاب والسنة وأنكروا ما ورد أنه من صفات الله تعالى نحو الحياة والقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والكلام وجحدوا ما دلا عليه من المعراج وعذاب القبر والميزان وأن الجنة والنار مخلوقاتان وأن أهل الإيمان يخرجون من النيران وما لنبينا صلى الله عليه وسلم من الحوض والشفاعة وأن الخلفاء الأربعة
(7/100)
كانوا محقين فيما قاموا به من الولاية وزعموا أن شيئا من ذلك لا يستقيم على العقل ولا يصح في الرأي أخرج الله من نسل أبي موسى الأشعري إماما قام بنصرة دين الله وجاهد بلسانه وبنانه من صد عن سبيل الله وزاد في التبيين لأهل اليقين أن ما جاء به الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة مستقيم على العقول الصحيحة والآراء
ومضمون الرسالة إزالة ما وقع من الفتنة وإطابة قلوب أهل السنة
قال أبو القاسم بن عساكر وإنما كان انتشار ما ذكره أبو بكر البيهقي من المحنة واستعار ما أشار بإطفائه في رسالته من الفتنة ما تقدم به من سب حزب الشيخ أبي الحسن الأشعري في دولة السلطان طغرلبك ووزارة أبي نصر الكندري وكان السلطان حنفيا سنيا وكان وزيره معتزليا رافضيا فلما أمر السلطان بلعن المبتدعة على المنابر في الجمع قرن الكندري للتسلي والتشفي اسم الأشعرية
(7/101)
بأسماء أرباب البدع وامتحن الأئمة الأفاضل وعزل أبا عثمان النيسابوري عن خطابة نيسابور وفوضها إلى بعض الحنفية فأم الجمهور وخرج الأستاذ أبو القاسم وأبو المعالي عن البلد
ثم ذكر زوال تلك المحنة في دولة ابن ذلك السلطان ووزارة النظام
وهذا الذي ذكره عنه البيهقي هو المعروف في كتبه وعند أئمة أصحابه وذكر ابن عساكر عن جماعة ما يوافق كلام البيهقي فذكر أن أبا الحسن القابسي وهو من كبار أئمة المالكية بالمغرب سئل عنه فكان في جوابه واعلموا أن أبا الحسن الأشعري لم يأت من هذا الأمر يعني الكلام إلا ما أراد به إيضاح السنن والتثبيت عليها ودفع الشبه عنها
وقال أبو بكر بن فورك انتقل الشيخ أبو الحسن الأشعري
(7/102)
من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية وصنف في ذلك الكتب
وذكر ابن عساكر كلامه في مصنفاته
وقوله فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن خالف
(7/103)
قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا وأن الله إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله مستو على عرشه كما قال { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 وأن له وجها كما قال { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } سورة طه 27 وأن له يدين كما قال { بل يداه مبسوطتان } سورة المائدة 64 وكما قال { لما خلقت بيدي }
(7/104)
سورة ص 75 وأن له عينين بلا كيف كما قال { تجري بأعيننا } سورة القمر 15 إلى أن قال
ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال { وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر 22 وأن الله يقرب من عباده كيف يشاء كما قال { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } سورة ق 16 وكما قال { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } سورة النجم 8 9
فهذا الكلام وأمثاله في كتبه وكتب أئمة أصحابة يبينون أنهم يعتصمون في مسائل الأصول التي تنازع فيها الناس بالكتاب والسنة والإجماع وأن دينهم التمسك بالكتاب والسنة وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ثم خصوا الإمام أحمد بالاتباع والموافقة لما أظهره من السنة بسبب ما وقع له من المحنة
فأين هذا من قول من لا يجعل الكتاب والسنة والإجماع طريقا إلى معرفة صفات الله وأمثال ذلك من مسائل الأصول فضلا عمن يدعى تقديم عقله ورأيه على مدلول الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة ويقول إذا تعارض القرآن وعقولنا قدمنا عقولنا على القرآن
(7/105)
ولهذا كان الأشعري وأئمة أصحابه من المثبتين لعلو الله بذاته على العالم كما كان ذلك مذهب ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي بكر الصبغي وأبي علي الثقفي وأمثالهم
لكن للبقايا التي بقيت على ابن كلاب وأتباعه من بقايا التجهم والاعتزال كطريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام احتاج من سلك طريقهم إلى طرد تلك الأقوال فاحتاج أن يلتزم قول الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات الخبرية ويقدم عقله على النصوص الإلهية ويخالف سلفه وأئمته الأشعرية وصار ما مدح به الأشعري وأئمة أصحابه من السنة والمتابعة النبوية عنده من أقوال المجسمة الحشوية كما أن المعتزلة لما نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردوا على الكفار بحجج عقلية لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول ورد أخباره ونصوصه لكن احتجوا بحجج عقلية إما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم وإما تلقوها عمن احتج بها من غير أهل الإسلام فاحتاجوا أن يطردوا أصول أقوالهم التي احتجوا بها لتسلم عن النقص والفساد فوقعوا في أنواع من رد معاني الأخبار الإلهية وتكذيب الأحاديث النبوية
وأصل ما أوقعهم في نفي الصفات والكلام والأفعال والقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية والعلو لله على خلقه هي طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام وعنها لزمهم ما خالفوا به الكتاب والسنة والإجماع في هذا المقام مع مخالفتهم للمعقولات الصريحة التي لا تحتمل
(7/106)
النقيض فناقضوا العقل والسمع من هذا الوجه وصاروا يعادون من قال بموجب العقل الصريح أو بموجب النقل الصحيح وهم وإن كان لهم من نصر بعض الإسلام أقوال صحيحة فهم فيما خالفوا به السنة سلطوا عليهم وعلى المسلمين أعداء الإسلام فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا
فإن قيل إنما لم يعارض سلف المؤمنين والكفار المتقدمون لهذه النصوص لأنهم كانوا قوما عربا فصحاء يفهمون ما أريد بها ولم يكونوا يفهمون منها إثبات أن ذاته نفسه فوق العرش ولا ما يشبه ذلك من الأمور المستلزمة للتجسيم فلما لم يفهموا منها ما فهمه المتأخرون من هذا الإثبات لم يكن المفهوم منها عندهم معارضا لشيء من الأدلة العقلية وأما المتأخرون فلما صاروا يستدلون بها على الإثبات المستلزم للتجسيم صار من يريد أن يرد عليهم يعارضهم بالأدلة العقلية النافية
فهذا خلاصة ما يمكن أن يقوله من يعظم الرسول والسلف من النفاة
فيقال هذا باطل من وجوه متعددة
أحدها أن يقال فعلى هذا التقدير لا يكون المفهوم الظاهر من هذه النصوص إثبات العلو على العالم والصفات ولا يجوز أن يقال ظواهر هذه النصوص غير مراد ولا أنه قد تعارضت الدلائل النقلية والعقلية فإنه إذا قدر أنها لا تدل على الإثبات لا دلالة قطعية ولا ظاهرة بطل أن يكون في ظاهرها ما يفهم منه الإثبات
(7/107)
ومن المعلوم أن هذا خلاف قول الطوائف كلها من المثبتة والنفاة حتى من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وإنكار معاد الأبدان فإنهم معترفون بما اعترف به سائر الخلق من أن الظاهر المفهوم منها هو إثبات الصفات
لكن هؤلاء المتفلسفة يقولون إن الرسول لم يرد بيان العلم والإخبار بالأمر على وجهه وإنما أراد التخييل وإن تضمن ذلك التدليس وإظهار خلاف ما يبطن والكذب للمصلحة وهذا قول الملاحدة الباطنية
وفساد هذا معلوم من وجوه أكثر مما يعلم به فساد قول الجهمية والمعتزلة ولهذا كان هؤلاء عند المسلمين ملاحدة زنادقة
الوجه الثاني أن يقال التفاسير الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان تبين أنهم إنما كانوا يفهمون منها الإثبات بل والنقول المتواترة المستفيضة عن الصحابة والتابعين في غير التفسير موافقة للإثبات ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين حرف واحد يوافق قول النفاة ومن تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة والتابعين بل المصنفة في السنة من كتاب السنة والرد على الجهمية للأثرم ولعبد الله بن أحمد وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبي داود السجستاني وعبد الله بن محمد الجعفي والحكم بن معبد الخزاعي وحشيش بن أصرم النسائي وحرب بن إسماعيل الكرماني وأبي بكر الخلال ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأبي القاسم الطبراني وأبي الشيخ الأصبهاني وأبي أحمد العسال وأبي
(7/108)
نعيم الأصبهاني وأبي الحسن الدارقطني وأبي حفص بن شاهين ومحمد بن إسحاق بن منده وأبي عبد الله بن بطة وأبي عمر الطلمنكي وأبي ذر الهروي وأبي محمد الخلال والبيهقي وأبي عثمان الصابوني وأبي نصر السجزي وأبي عمر بن عبد البر وأبي القائم اللالكائي وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي القاسم التيمي وأضعاف هؤلاء رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين ما يعلم معه بالاضطرار أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه المثبتين لرؤيته القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه
وهذا يصير دليلا من وجهين أحدهما من جهة إجماع السلف فإنهم يمتنع أن يجمعوا في الفروع على خطأ فكيف في الأصول
الثاني من جهة أنهم كانوا يقولون بما يوافق مدلول النصوص ومفهومها لا يفهمون منها ما يناقض ذلك
ولهذا كان الذين أدركوا التابعين من أعظم الناس قولا بالإثبات وإنكارا لقول النفاة كما قال يزيد بن هارون الواسطي من قال إن الله على العرش استوى خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي وقال الأوزاعي كنا والتابعون متوافرون نقر بأن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته
الثالث أن من له عناية بآثار السلف يعلم علما يقينيا أن قول النفاة إنما حدث فيهم في أثناء المائة الثانية وأن أول من ظهر ذلك عنه الجعد
(7/109)
ابن درهم والجهم بن صفوان وقد قتلهما المسلمون وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية أعظم وأكثر من أن يذكر هنا حتى كان غير واحد من الأئمة يخرجهم عن عداد الأمة
وقال يوسف بن أسباط وعبد الله بن المبارك أصول الثنتين وسبعين فرقة أربع الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية فقيل لابن المبارك فالجهمية فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
ولأصحاب أحمد في الجهمية هل هم من الثنتين وسبعين فرقة أم هم خارجون عنها كالملاحدة الزنادقة قولان والجهمية باتفاقهم هم نفاة الصفات الذين يقولون إن الله ليس فوق العالم ولا يرى ولا تقوم به صفة ولا فعل وابن كلاب ومتبعوه خالفوهم في العلو والصفات ووافقوهم على نفي الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته فكيف يمكن مع هذا أن يقال إن السلف كانوا من القائلين بنفي العلو والصفات
وإذا كانوا من المثتبة امتنع أن يقال إنهم عرفوا أن القرآن إنما يدل على قول الإثبات وخالفوه
الوجه الرابع أن يقال القرآن إما أن يقال إنه بنفسه دال على العلو وإثبات ما يفهم منه من الصفات وإما أن يقال إنه ينفي ذلك وإما أن يقال إنه لا يدل على ذلك لا بنفي ولا إثبات
فإن قيل بالأول ثبت المقصود وعلم أن مدلول القرآن ومفهومه هو
(7/110)
الإثبات وتبين ما ذكر من أنه يمتنع أن يكون العقل الصريح معارضا لذلك وإن قيل بالثاني كان هذا معلوم الفساد بالاضطرار فإنه ليس في القرآن آية واحدة ظاهرة في نفي الصفات وغاية ما يريد من يستدل بذلك أن يستدل بقوله { ليس كمثله شيء } سورة الشورى 11 وقوله { ولم يكن له كفوا أحد } سورة الإخلاص 4 ونحو ذلك وهذه الآيات إنما تنفي مماثلة صفاته لصفات المخلوقات لا تنفي ثبوت الصفات ولا ريب أن القرآن تضمن إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات فأما أن يكون فيه ما ينفي الصفات فهذا من أعظم البهتان الذي يظهر أنه كذب لكل عاقل
ولهذا لما كان النفاة يعتمدون على ما ينفي التمثيل كقوله تعالى { ليس كمثله شيء } وقوله { ولم يكن له كفوا أحد } وهذا لا يدل على مقصودهم في اللغة التي نزل بها القرآن بل هو على نقيض مقصودهم أدل فإن هذا يدل على ثبوت شيء موصوف بصفات الكمال لا مماثل له في ذلك وهم لم يثبتوا ذلك احتاجوا إلى أن يفتروا على اللغة بعد أن افتروا على العقل فصاروا مفترين على الشرع والعقل واللغة فيقول أحدهم لو كان موصوفا بالعلو لكان جسما ولو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام والله قد نفى عنه المثل فهذا أعظم ما يعتمدون عليه من جهة السمع
وقد بين في غير هذا الموضع فساد هذا من وجوه كثيرة منها أن يقال هنا ثلاث مقدمات حصل فيها التلبيس أحدها كون كل
(7/111)
عال جسما والثاني كون الأجسام متماثلة والثالث كون هذا التماثل هو المراد بالمثل في لغة العرب التي نزل بها القرآن
ومنشأ الغلط من الاشتباه والاشتراك والإجمال في لفظ الجسم ولفظ المثل
فيقال الجسم في لغة العرب هو البدن وهو عندكم مما يمكن الإشارة إليه فالهواء والماء والنار ونحو ذلك ليس هو جسما في لغة العرب وهو في اصطلاحكم جسم
وإذا كان الجسم في لغة العرب أخص منه في عرفكم وقد علم بصريح العقل أن الذهب ليس مثل الفضة ولا الخبز مثل التراب ولا الدم كالذهب فما يسمى في لغة العرب جسدا وجسما ونحو ذلك هو مما يعلم أنه ليس متماثلا بصريح العقل والحس فكيف بما هو أعم من ذلك مثل كونه يشار إليه أو كونه يقبل الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق مع أن هذه الألفاظ ليس مرادهم بها ما هو معناها في اللغة المعروفة فإن هؤلاء عندهم الحبة الواحدة كالعدسة والسمسمة بل الذرة التي قال الله فيها { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } سورة النساء 40 هي في اصطلاحهم طويلة عريضة عميقة
ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أنهم يقولون عن نوع الإنسان هذا طويل وهذا قصير وكذلك أعضاء الإنسان كيده
(7/112)
ورجله وعنقه يقولون هذا طويل وهذا قصير ويقولون هذا عريض وهذا دقيق ورقيق لعنقه ويده
وأما العميق عندهم فيقال في مثل الآبار ونحوها لا يقولون لفم الإنسان إنه عميق ولا لأذنه وعينه ونحو ذلك فكيف بالعدسة والسمسمة والذرة
فإذا قالوا عن الشيء إنه طويل عريض عميق لم يقصدوا بذلك المعروف في اللغة وما يعقله الناس من معنى الطول والعرض والعمق بل يقصدون هذا المعنى العام الذي وضعوا له لفظ الطول والعرض والعمق ثم يقولون مع هذا إن كل ما وصف بهذه المعاني العامة فإنه يجب أن يكون متماثلا مستويا في الحد والحقيقة لا يختلف إلا باختلاف أعراضه
فهذا القول من أبعد الأقوال عن المعقول الذي يعرفه الناس بحسهم وعقلهم ثم بتقدير أن يكون كذلك فلا يتمارى عاقلان أن لفظ المثل في لغة العرب وسائر الأمم ليس المراد به هذا وأنه إذا قيل إن كذا مثل كذا أو ليس مثله وهذا ليس له مثل فإنه ليس المفهوم من المثل كون هذا بحيث يشار إليه وكون هذا بحيث يشار إليه أو كون كل منهما له قدر أو له طول وعرض وعمق لا بالمعنى اللغوي ولا بما هو أقرب إليه فضلا عن اصطلاحهم
ونحن نعلم بالضرورة من لغة العرب أنهم لا يقولون الجبل مثل النار ولا الهواء مثل الماء ولا الجمل مثل البقر ولا الشمس والقمر مثل الذهب والفضة مع اشتراكهما في كثير من الصفات الزائدة على
(7/113)
مطلق المقدار بل قد نفى في القرآن كون الشيء مثل غيره مع كون كل منهما جسما بل حيوانا بل إنسانا
كما في قوله { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } سورة محمد 38
وقال تعالى { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون } سورة الواقعة 58 61
وهذا في لغة العرب لقول شاعرهم
% ليس كمثل الفتى زهير % خلق يوازيه في الفضائل %
وقال الآخر
% ما إن كمثلهم في الناس واحد %
فكيف يجوز مع هذا أن يستدل بقوله { ليس كمثله شيء } أو قوله { ولم يكن له كفوا أحد } على أنه لا صفة له أو لا يرى في الآخرة أو ليس فوق العرش بناء على تلك المقدمات وهو أنه لو كان كذلك لكان جسما والأجسام متماثلة والله قد نفى المثل
ومن عجيب ما يحتجون به أنهم يقولون لو كان متصفا بذلك لكان جسما ولو كان جسما لكان منقسما والمنقسم ليس بواحد والله قد أخبر أنه واحد مع أنه لا يوجد في لغة العرب بل ولا غيرهم
(7/114)
من الأمم استعمال الواحد الأحد والوحيد إلا فيما يسمونه هم جسما ومنقسما كقوله تعالى { ذرني ومن خلقت وحيدا } سورة المدثر 11
وقوله تعالى { وإن كانت واحدة فلها النصف } سورة النساء 11
وقوله { واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } إلى قوله { قال له صاحبه وهو يحاوره } سورة الكهف 32 37
وقوله { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } سورة البقرة 266
وقوله تعالى { ولا يظلم ربك أحدا } سورة الكهف 49
وقوله { ولا يشرك في حكمه أحدا } سورة الكهف 26
وقوله { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } سورة الكهف 110
وقوله { ولا تستفت فيهم منهم أحدا } سورة الكهف 23
وقوله { قل إني لن يجيرني من الله أحد } سورة الجن 22
وقوله { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } سورة الجن 18
وقوله { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } سورة التوبة 6
(7/115)
وقوله { ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا } سورة يوسف 36
إلى قوله { أما أحدكما فيسقي ربه خمرا } سورة يوسف 41
وقوله { قالت إحداهما يا أبت استأجره } سورة القصص 26 إلى قوله { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } سورة القصص 27
وقوله { ولم يكن له كفوا أحد } سورة الإخلاص 4
والعرب وغيرهم من الأمم يقولون رجل ورجلان اثنان وثلاثة رجال وفرس واحد وجمل واحد ودرهم واحد وثوب واحد ورأس واحد وذكر واحد وأمير واحد وملك واحد ومسكن واحد وسيد واحد وأمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى
فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسما منقسما لأن ما لا يسمونه هم جسما منقسما ليس هو شيئا يعقله الناس ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه بل عقول الناس وفطرهم مجبولة على إنكاره ونفيه فلو قدر وجود هذا في الخارج أو إمكان وجوده لاحتيج بعد ذلك إلى أن يثبت لفظ الواحد في لغة العرب يعبرون بها عنه إذ ليس كل ما وجد أو أمكن وجوده يجب أن يتصوره أهل اللغة ويكون داخلا فيما عبروا عنه من لغتهم
(7/116)
وإذا قدر أن أهل اللغة عبروا بلفظ الواحد والأحد في لغتهم عن هذا لم يجز أن يقال إن لفظ الواحد في لغتهم لا يقع إلا عليه لما ذكرناه من أن لفظ الواحد وما اشتق منه إنما عرف واشتهر استعماله في اللغة فيما يجعلونه هم جسما منقسما وذلك ليس بواحد عندهم فمسمى الواحد عندهم منتف في اللغة وإن قدر وجوده لكان نادرا في اللغة
والغالب المشهور في اللغة أن اسم الواحد يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم وإذا كان كذلك لم يجز أن يحتج بقوله تعالى { وإلهكم إله واحد } سورة البقرة 163 وقوله { قل هو الله أحد } ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب وأخبرنا فيه أنه أحد وأنه إله واحد على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحدا مما ليس معروفا في لغة العرب بل إذا قال القائل دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر كان قد قال الحق فإن القرآن نزل بلغة العرب وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديما بنفسه متصفا بالصفات مباينا لغيره مشارا إليه
وما لم يكن مشارا إليه أصلا ولا مباينا لغيره ولا مداخلا له فالعرب لا تسميه واحدا ولا أحدا بل ولا تعرفه فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه لا على مطلوبهم
(7/117)
يؤيد هذا أنهم يقولون اللفظ المشهور في اللغة الذي يتداوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعا بإزاء المعنى الدقيق الذي لا يفهمه إلا خواص الناس وهذا مما استدل به نفاة الأحوال على مثبتيها وقالوا المعروف في اللغة أن الحركة هي كون الجسم متحركا وأما ما يدعونه من أن الحركة أمر يوجب كون الجسم متحركا فهذا المعنى لا يفهمه إلا الخاصة فضلا عن أن يعلموا أن لفظ الحركة موضوع له
ولفظ الحركة لفظ مشهور يتداوله الخاصة والعامة فلا يجوز أن يكون مفهومه ما لا يتصوره المتخاطبون به وهذا بعينه يقال لهؤلاء النفاة الذين يسمون نفيهم توحيدا فيقال هذا الواحد الذي تثبتونه وهو أنه لا يشار إليه ولا يتميز منه شيء عن شيء ونحو ذلك أمر لا يتصوره إلا بعض الناس بل قليل منهم والذين تصوروه تنازعوا في إمكان وجوده في الخارج فمنهم من قال وجود هذا في الخارج ممتنع وإذا كان كذلك ولفظ الواحد مشهور في اللغات كلها أشهر من لفظ الحركة فلا يجوز أن يكون مسمى هذا الاسم في اللغة المعروفة معنى لا يتصوره إلا قليل من الناس وهم متنازعون في إمكان ثبوته في الخارج وإذا لم يكن هذا المعنى هو المراد بلفظ الواحد والأحد لم يجز الاستدلال بالسمع الوارد بلغة العرب على هذا
(7/118)
ولو قيل إنه يجوز استعمال لفظ الواحد في لغتهم في هذا المعنى إما بطريق المجاز والاشتراك أو التواطؤ
قيل هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك لكن نحن نعلم أنهم لم يستعملوه في ذلك لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى وبتقدير أن يكون مستعملا في هذا وهذا فإنه يكون دالا على ما به الاشتراك فلا يدل على ما يمتاز به أحدهما عن الآخر فلا يدل على محل النزاع ولو قدر أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر لكان حقيقة في المعنى الذي يسبق إلى أفهام الناس عند الإطلاق وهو المعروف ولو قدر أنه مشترك اشتراكا لفظيا لم يجز تعيين محل النزاع إلا بقرينة تدل على تعيينه والقرائن اللفظية إنما تدل على نقيض قولهم لا على عين قولهم فإنه ليس في الكتاب إثبات واحد بالمعنى الذي ادعوه فضلا عن أن يكون الله موصوفا به
وهذا الواحد الذي يثبته هؤلاء من جنس الأحوال التي يثبتها أولئك ومن جنس الشيء المعدوم الذي يثبته من يقول المعدوم شيء ومن جنس الكليات والمجردات كالعقول والمادة والصورة العقلية التي يثبتها الفلاسفة فهؤلاء يثبتون في الخارج ما لا وجود له في الخارج لكن مثبتة الأحوال أعقل وهذا كان فيهم من هو أهل الإثبات فإنهم عرفوا أنها ليست موجودة في الخارج لكن تناقضوا حيث قالوا لا موجودة ولا معدومة فصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية المتفلسفة الذين يقولون لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ومن قال المعدوم شيء وهو ثابت وليس بموجود يشبه المتفلسفة الذين جعلوا
(7/119)
الكليات المجردات أمورا موجودة في الخارج لكن تناقضوا حيث فرقوا بين الوجود والثبوت
والمقصود أن كل هؤلاء يجمعهم إثبات أمور يدعون أنها موجودة في الخارج وهي لايتصورها إلا طائفة قليلة من الناس فضلا عن أن تكون الألفاظ المعروفة المشهورة في اللغة دالة عليها ولا ريب أنهم أخطأوا في المعاني المعقولة ثم في مدلول الألفاظ المسموعة
فتبين لك أن قولهم يتضمن من الفرية على اللغة والعقل من جنس ما تضمن من الفرية على الشرع وأنهم لا يمكنهم أن يقولوا إن الشرع دل على قولهم بوجه من الوجوه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز
فإذا أريد بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعوه من مسمى الواحد كان هنا طرق
أحدها أن هذا اللفظ لم يستعمل إلا فيما نفوه دون ما أثبتوه
الثاني أن نبين انتفاء ما أثبتوه في الخارج وحينئذ فلا يكون كلام الله دالا على وجود ما ليس بموجود
الثالث أن ما يذكرونه لا يتصوره عامة الناس لا العرب ولا غيرهم فلا يكون اللفظ موضوعا له ودالا عليه وإن كان له وجود ولا يقال هو بتقدير وجوده يشمله لفظ الواحد لما تقدم من أن اللفظ المشهور بين الخاص والعام لا يكون مسماه مما لا يتصوره إلا الخاصة
الرابع أنه بتقدير شموله لما أثبتوه وما نفوه فلا ريب أن شموله لما
(7/120)
نفوه أظهر إذ لم يعرف استعماله في ذلك فلا يمكنهم دعوى اختصاص معنى الواحد بما ادعوه
الخامس أنه بتقدير عمومه وكونه متواطئا إنما يدل على القدر المشترك لا على خصوص ما أثبتوه
السادس أنه بتقدير كون أحدهم مجازا فالحقيقة هي ما نفوه دون ما أثبتوه لأنه المعنى الذي يسبق إلى أفهام المخاطبين
السابع أنه بتقدير الاشتراك اللفظي لا يجوز إرادة ما ادعوه إلا بقرينة ويكفينا في هذا المقام ألا نستدل به على أحدهما
الثامن أن من يستدل به على ما نفوه لأن القرائن اللفظية المذكورة في القرآن تدل عليه لأنه أثبت لهذا الواحد صفات متعددة وأفعالا متعددة وتلك تستلزم ما نفوه لا ما أثبتوه
التاسع أن يقال اسم الأحد لا يستعمل في حق غير الله إلا مع الإضافة أو في غير الموجب كقوله { قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا } سورة يوسف 36 وقال { ولا يظلم ربك أحدا } سورة الكهف 489 وقال { وإن أحد من المشركين استجارك } سورة التوبة 6 فهو أبلغ في أثبات الوحدانية من اسم الواحد ومع هذا فلم يستعمل إلا فيما نفوه في مثل قوله { ولم يكن له كفوا أحد } وأمثاله لا يعرف استعمال الأحد فيما ادعوه لا في النفي والإثبات فكيف اسم الواحد
(7/121)
العاشر أن القرآن أثبت الوحدانية في الإلهية بقوله { وإلهكم إله واحد } سورة البقرة 62 وقوله { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } سورة النحل 51 وقوله حكاية عن المشركين { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } سورة ص 5 وأمثال ذلك
وأما كون القديم واحدا أو الواجب واحدا فهذا إنما يعرف عن الجهمية من المتكلمين والفلاسفة فإنهم قالوا القديم واحد وهو لفظ مجمل يراد به أن الإله القديم واحد وهذا حق ويراد به أن مسمى القديم واحد ثم قالوا لو أثبتنا له الصفات لكان القديم أكثر من واحد
وقالت جهمية الفلاسفة الواجب واحد وهو مجمل يراد به الإله الواجب بذاته وهذا حق ويراد به مسمى الواجب ثم قالوا لو أثبتنا له الصفات لتعدد الواجب
ومعلوم أن التوحيد الذي في القرآن هو الأول لا هذا وكذلك التوحيد الذي جاءت به السنة واتفق عليه الأئمة فتبين أن لفظ التوحيد والواحد والأحد في وضعهم واصطلاحهم غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي
(7/122)
لفظ التوحيد على ما يدعونه هم لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته كما قال تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } سورة ابراهيم 4 بل لفظ التوحيد والأحد والواحد الموجود في كلام الله ورسوله يدل على نقيض قولهم وأنه موصوف بالصفات الثبوتية كما تقدم التنبيه عليه من أنه لا يعرف مسمى الواحد في لغة العرب إلا ما كان كذلك ومن أن الله وصف هذا الواحد بالصفات الثبوتية وسماه بالأسماء المتضمنة للمعاني الثبوتية في غير موضع فلو قدر أن لفظ الواحد فيه اشتراك وإجمال لكان ما بينه القرآن من اتصافه بالصفات الثبوتية رافعا للإجمال والاشتراك موافقا لقول أهل الإثبات دون النفاة
وهذه الأدلة كلما تدبرها العاقل تبين له قطعا أن هؤلاء النفاة مناقضون للرسول هم في جانب والرسل في جانب كمناقضة القرامطة الباطنية وأمثالهم وأن استدلال هؤلاء بنصوص الأنبياء على نفيهم من جنس استدلال القرامطة على شريعتهم الإلحادية بنصوص الأنبياء
ومما يبين ذلك أن كلام الله ورسوله صدق بل أصدق الكلام كلام الله والكلام الصدق يتضمن الإخبار عن الأمور على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه بخلاف الكلام الذي هو كذب سواء كان
(7/123)
صاحبه يعلم أنه كذب أو كان مخطئا يظن أنه صدق مطابق للحقائق وليس كذلك كما هو كلام هؤلاء النفاة للصفات فإن الواحد الذي يثبتونه لا حقيقة له في الخارج فيمتنع أن يكون كلام الله مخبرا عن وجوده في الخارج وذلك أنهم يجعلون الحقائق المتنوعة كل واحدة هي الأخرى بلا امتياز أصلا فيجعلون الذات القائمة بنفسها هي الصفة القائمة بها كما يجعلون العالم عين العلم والقادر عين القدرة
ومنهم من يجعل العلم عين المعلوم ويجعلون كل صفة هي الأخرى كما يجعلون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة أو يجعلون النوع الكلي العام المقسوم إلى أعيان هو واحدا بالعين بحيث تكون هذه العين هي تلك العين كما يقولون الوجود واحد والموجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي لا يختص بوجه من الوجوه أو بشرط عدم كل أمر وجودي عنه فلا يختص بكونه واجبا أو عالما أو قادرا أو حيا أو نحو ذلك من الأمور التي توجب اختصاصه بموجود دون موجود
وإذا حققوا الأمر لم يفرقوا بين الوجود الواجب الخالق القديم الفاطر الغني عن كل ما سواه والوجود الممكن المحدث المخلوق المفطور الفقير الذي لا يستغنى عنه بوجه من الوجه عن خالقه بل لا يزال فقيرا إليه
ويجعلون الكلام المنقسم إلى الأمر والنهي والخبر هو نفس الأمر والنهي والخبر وإن عين الكلام الذي هو أمر عين الكلام الذي هو
(7/124)
خبر وعين الكلام الذي هو أمر بالصلاة هو عين الكلام الذي هو أمر بالصيام وعين الكلام الذي هو خبر عن الله هو عين الكلام الذي هو خبر عن أبي لهب فيجمعون في ذلك بين كون الواحد العام الكلي المشترك الذي لا يكون إلا في الذهن هو الآحاد المعينة الموجودة في الخارج ولا يفرقون بين الواحد بالنوع والواحد بالعين
كما لم يفرق بين هذا وهذا أهل وحدة الوجود الذين قالوا الوجود واحد وجعلوا وجود الخالق عين وجود المخلوقات والذين قالوا الحقائق المتنوعة كالأمر والخبر حقيقة واحدة
فالواحد الذي يثبته النفاة أو من أخذ ببعض أقوالهم لا بد أن يتضمن بعضهم هذا مثل جعل الذات هي الصفات أو جعل كل صفة هي الأخرى أو جعل الكلي المقسوم إلى أنواع هو نفس الأعيان المختلفة الموجودة في الخارج وجعل ما يمتنع وجوده في الخارج ولا يكون إلا في الذهن أمرا موجودا في الخارج يجب وجوده في الخارج وجعل ما يجب وجوده في الخارج مما يمتنع وجوده في الخارج فلا يكون إلا في الذهن
ومنتهاهم في توحيدهم في إثبات واحدين أحدهما الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من المعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام مع أن
(7/125)
جمهور العقلاء ينكرونه مع دعوى النظام أن في كل جسم من ذلك ما لا يتناهى
والثاني الجواهر العقلية التي يثبتها من يثبتها من المتفلسفة مع أن جمهور العقلاء يعلمون بالضرورة أنها إنما هي في الأذهان لا في الأعيان مثل الكليات المطلقة التي توصف بها الأعيان
وهم يقولون إن الحقائق الموجودة في الخارج التي يسمونها الأنواع كالإنسان والفرس وغيرهما من أنواع الحيوان مركبة من هذه ومثل المادة الكلية والصورة الجوهرية اللتين يدعون أنهما جوهران عقليان يتركب منهما كل جسم ومثل العقول العشرة التي يدعون أنها مجردات فإن هؤلاء يصورون ما يعقله الإنسان من المعقولات المجردات المفارقات للأعيان المحسوسة فتوهموا أن تلك المعقولات المجردات هي موجودة في الخارج مفارقات للأعيان المحسوسة وإنما هي أمور متصورة في الأذهان لا أنها موجودة مع كونها كلية أو مع كونها مجردة في الأعيان ثم يدعون تركب الأنواع منها كما يدعي أولئك تركب الأعيان من الأجزاء التي يسمونها الجواهر المنفردة
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر وبين أن هذا الواحد الذي يثبتونه في العلم الإلهي والطبيعي والمنطقي لا حقيقة له إلا في الذهن ومن تصور هذا حق التصور تبين له من غلط هؤلاء
(7/126)
وضلالهم ما يطول وصفه وتبين له أن ضلال هؤلاء في العقليات من جنس ضلالهم في السمعيات وأنهم كما أخبر تعالى عن أصحاب النار { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } سورة الملك 10
وكان من أصول هذا الإلحاد والتعطيل الذي سموه توحيدا هو فرارهم من تعدد صفات الواحد الحق وتعدد أسمائه وكلامه مع أن ذلك لا محذور فيه بل هو الحق الذي لا يمكن جحده
ومن فهم هذا انحل له ما يقوله من يقوله من المتفلسفة إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وما يقوله من تركيب الأنواع من الأجناس والفصول وأن ذلك الفرد الذي تتركب منه هذه الحقائق هو أيضا أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج وما يقولونه من أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا وأمثال ذلك مما يعبرون عنه بلفظ الواحد وهو واحد يقدر في الأذهان لا حقيقة له في الخارج
وإن قيل إن القرآن لم يدل على العلو والصفات لا بنفي ولا إثبات كان هذا أيضا باطلا ومعلوم البطلان من وجوه
أحدها أن العلم بدلالة النصوص على العلو والصفات أمر ضروري فالقدح فيه من جنس القدح فيما دل عليه القرآن من خلق السماوات والأرض ومن نعيم الجنة والنار ولا ريب أن دلالة القرآن والحديث على ذلك أعظم من دلالته على الميزان والشفاعة والحوض
(7/127)
وفتنة القبر ومساءلة منكر ونكير وأعظم من دلالته على أن محمدا خاتم النبيين وأنه أفضل الخلق وأن الأنبياء أفضل من غيرهم وأن السابقين الأولين من أهل الجنة وأعظم من دلالته على تنزيه الله عن البخل والكذب والظلم ونحو ذلك من النقائص
وبالجملة فما من صنف من الأصناف المعلومة بالضرورة من الدين إلا وتطريق التأويل إلى نصوصه من جنس تطريقه إلى نصوص العلو والصفات أو أبلغ من ذلك أو قريب من ذلك
الوجه الثاني أن يقال جميع الطوائف متفقة على أن ظواهر النصوص مثبتة للعلو والصفات ولهذا كان المخالفون لذلك يقولون إما بالتأويل المتضمن لصرف ذلك عن ظاهره وإما بالتفويض مع قولهم ظاهر ذلك غير مراد فلو لم يكن ظاهرها دالا على الإثبات لما احتاجوا إلى هذا ولدفعوا أصل ظهور هذه الدلالة كما يدفع ظهور الدلالة في غير ذلك مما تقدم التمثيل به وغير ذلك
الثالث أن يقال نحن نعلم بالضرورة أن ظهور دلالة هذه النصوص على العلو والصفات أعظم من ظهور ما كان المؤمنون والكافرون يوردونه على السؤالات عما يظنونه مشكلا من القرآن كما تقدم تمثيلا وإذا كان كذلك ولم يسألوا عن ذلك علم قطعا أنه لم يكن منافيا لما يعلمونه بعقولهم
(7/128)
الوجه الرابع أن يقال فعلى هذا التقدير يمتنع تعارض العقل والسمع إذا لم يكن للسمع ظاهر يخالف العقل وهذا هو كان المقصود بالكلام وإنما ذكرنا مسألة العلو على طريق التمثيل لأنهم يذكرون ذلك فيها فيقال ليس في ظاهر القرآن ما يخالف الأدلة العقلية وهو المطلوب
الوجه الخامس أن الهمم والدواعي متوفرة على طلب العلم بهذه المسائل وهي من أجل علوم الدين ومعرفتها إما واجبة أو مؤكدة الاستحباب وما كان كذلك يمتنع في الشرع والعادة أن الرسول لا يبين أمرها بنفي ولا إثبات
الوجه السادس أن العلم بهذه المسائل إما أن يكون من الدين وإما أن لا يكون فإن قيل ليس ذلك من الدين بحيث لا يكون العلم بها أفضل من الجهل بها وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وكل دين فإن العلم بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات لا ريب أنه مما يفضل الله به بعض الناس على بعض أعظم مما يفضلهم بغير ذلك من أنواع العلم ولا ريب أن ذلك يتضمن من الحمد لله والثناء عليه وتعظيمه وتقديسه وتسبيحه وتكبيره ما يعلم به أن ذلك مما يحبه الله ورسوله وسواء قيل إن ذلك واجب أو مستحب فالمقصود أنه من المحمود الحسن المفضل عند الله ورسوله فيكون ذلك من الدين
وقد قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } سورة المائدة 3
(7/129)
وقال تعالى { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } سورة المائدة 16 وقال تعالى { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } سورة الإسراء 9
وقال { كنتم خير أمة أخرجت للناس } سورة آل عمران 110 وأمثال ذلك من النصوص التي يدل كل منها على أن بيان هذا ومعرفته مما جاء به الرسول ونزل به هذا الكتاب وعلمته هذه الأمة وتضمنه هذا الدين فلا يمكن أن يقال إن الرسول والمؤمنين أعرضوا عنه فلم يكن لهم به علم ولا لهم فيه كلام لا بنفي ولا إثبات
والجواب السادس عن أصل الحجة أن يقال لا نسلم أن العقل ينافي موجب هذه النصوص بل هذه المعقولات النافية لذلك فاسدة كما تقدم التنبيه على فسادها فضلا عن أن يكون المعقول المنافي لها هو الأصل في العلم بالسمع فإن غاية هذه المعقولات أن يقال لو كان فوق العالم لكان جسما وذلك منتف وقد علم جواب أهل الإثبات عن هذه الحجة فإن منهم من منع المقدمة الأولى مثل كثير من أهل الكلام والفلسفة وغيرهما من أصحاب ابن كلاب والأشعري وأهل الفقه والحديث والتصوف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم والفلاسفة كما ذكره ابن رشد ونحوه ومنهم من منع الثانية كالهشامية والكرامية وغيرهما ومنهم من فصل عن معنى الجسم
(7/130)
فإن قيل إن معناه ما ليس بلازم للعلو مثل كونه مماثلا للمخلوقات منع الأولى
فإن قيل إن معناه لازم للعلو مثل كونه مشارا إليه منع الثانية
فهو يقول إنه فوق العالم قطعا كما علم ذلك بالعقل والسمع
فإذا قيل لو كان فوقه لكان جسما فالمراد بمعنى الجسم إما أن يكون لازما للعلو وإما أن لا يكون لازما فإن كان لازما لا محالة منعت المقدمة الثانية وهي انتفاء اللازم وإن لم يكن لازما منعت المقدمة الأولى وهي التلازم
وكل ما يقال في هذا المقام من الألفاظ المجملة مثل لفظ المتحيز والمركب ونحو ذلك يستفصل عن معناه كما يستفصل عن معنى لفظ الجسم فإذا تلخص محل النزاع في معنى معقول مثل كون المراد بذلك ما تقوم به الصفات أو ما يتميز منه شيء عن شيء ونحو ذلك من المعاني لم يسلم انتفاء ذلك بل نقول هذا لا بد من ثبوته بالعقل الصريح كما دل عليه النقل الصحيح
الجواب السابع أن يقال بل العقل الصريح موافق للسمع لا منازع له والعقل قد دل على أن الله تعالى فوق العالم وهذه طريقة حذاق أهل النظر من أهل الإثبات كما هو طريق السلف والأئمة يجعلون العلو من الصفات المعلومة بالعقل وهذه طريقة أبي محمد بن كلاب وأتباعه كأبي العباس القلانسي والحارث المحاسبي وأشباههما
(7/131)
من أئمة الأشعرية وهي طريقة محمد بن كرام وأتباعه وطريقة أكثر أهل الحديث والفقه والتصوف وإليها رجع القاضي أبو يعلى وأمثاله
ولكن طائفة من الصفاتية من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن العلو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك وأنهم إذا أثبتوا ذلك أثبتوه لمجيء السمع به فقط ولهذا كان من هؤلاء من ينفي ذلك ويتأول نصوصه أو يعرض عنها كما يفعل مثل ذلك في نصوص الوجه واليد
ومن سلك هذه الطريقة فإنه يبطل الأدلة التي يقال إنها نافية لهذه الصفة كما يبطل به ما به ينفون صفة الاستواء والوجه واليد ويبين أنه لا محذور في إثباتها كما يقول مثل ذلك في الاستواء والوجه واليد ونحو ذلك من الصفات الخبرية
وهؤلاء كلامهم أمتن من كلام نفاة الصفات الخبرية نقلا وعقلا وإذا قيل إن في كلامهم تناقضا أو أنهم يقولون ما لا يعقل ففي كلام النفاة من التناقض وما لا يعقل أكثر مما في كلامهم فهم بالنسبة إلى النفاة أكمل علما بالمعقول والمنقول وأما بالنسبة إلى السلف والأئمة أهل الإثبات فيظهر من تناقضهم وقولهم ما لا يعقل ما يظهر به رجحان طريقة السلف والأئمة عليهم وتنسد به معارضة النفاة لهم ويتبين به الحق الذي لا يعدل عنه من فهمه ولا حول ولا قوة إلا بالله
ثم المثبتون للعلو بالعقل لهم طرق منها أنهم يقولون العلم بذلك ضروري مستقر في فطر بني آدم
(7/132)
ومنها أنهم يقولون قصدهم لربهم عند الحاجات التي لايقضيها إلا هو هو أيضا ضروري وقصدهم له بتوجه قلوبهم إلى العلو أيضا ضروري فهم مفطورون على الإقرار به وأنه في العلو وعلى أنهم محتاجون إليه يسألونه عند الضرورات وعلى أنهم يقصدونه في العلو لا في السفل وأن قلوبهم بفطرتها تتوجه إلى العلو اللهم إلا من أفسد فطرته وقصد أن يصدها عن مقتضاها مع أن هذا عند الحقيقة بغلب مع فطرته ويضل عنه ما كان يفتريه
ومنها أنهم يقولون إن ذلك أمر متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة وكل منهم يخبر بذلك عن فطرته من غير مواطأة من بعضهم لبعض ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة ويمتنع أيضا غلطهم في الأمور الفطرية الضرورية فإن ذلك يسد باب العلم والمعرفة وأن يثق الإنسان بشيء من علومه ومتى قدح في مثل هذا كان القدح في مقدمات ما يدعى أنه معارض لذلك أسهل بكثير فإن المعارضين لابد فيما يعارضون به من العقليات من قضايا تلقاها بعضهم عن بعض فيجوز عليهم فيها من الاتفاق على الغلط وعلى تعمد الكذب ما لا يجوز على المتفقين على قضايا لم يتلقها بعضهم عن بعض مع كثرة هؤلاء وتنوع أصنافهم
ومنها أنهم يثبتون العلو بطرق نظرية كقولهم كل موجودين فإما أن أن يكون أحدهما مباينا للآخر وإما أن يكون مداخلا له ونحو ذلك من الطرق المعلومة لهم فمعهم من العلم الضروري والقصد الضروري واتفاق العقلاء الذين لم يتواطأوا على قضاياهم والعقليات
(7/133)
النظرية ما ليس للنفاة ما يشابهه وليس مع النفاة إلا أقيسة نظرية قد بين فسادها ومن لم يعلم فسادها على التفصيل كفاه أن يعلم فسادها مجملا فإنها مخالفة للمعارف الضرورية ولما أجمعت عليه فطر البرية مع مخالفتها لما جاء في الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب فالعلم الموروث عن الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم مع علم عامة المسلمين بمخالفتها للقرآن ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولما أجمع عليه سلف الأمة وخيار قرونها ولما أجمع عليه عامة المؤمنين وأعيان الأمة من كل صنف
والجواب الثامن أن يقال لمن أجاب بهذا عن النصوص إذا احتججت على من ينفي ما تثبته بالنصوص كإثبات القدر إن كنت من المثبتين له أو إثبات الجنة والنار وما فيهما من الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك إن كنت من المثبتين له وإثبات وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الربا والخمر وغير ذلك من الشرائع إن كنت من المثبتين له إذا قال لك منازعك هذه الظواهر التي احتججت بها قد عارضها دلائل عقلية وجب تقديمها عليها فما كان جوابك لهؤلاء كان جواب أهل الإثبات لك
فإن قلت ما أثبته معلوم بالاضطرار من الدين قال لك أهل الإثبات للعلو وهذا معلوم لنا بالاضطرار من الدين
فإن قلت أنا لا أسلم هذا لكم قالوا لك ومن نازعك من القرامطة أو الفلاسفة أو المعتزلة لا يسلم لك ما ادعيته من الضرورة
(7/134)
فإن قلت لا يقدح في علمي الضروري منازعة غيري قالوا لك لا يقدح في علمنا الضروري منازعتك لنا
فإن قلت أنا إذا نازعني منازع في الضروريات التي عندي سكت عنه ولم أنازعه
قيل لك وهذا مما يمكن المثبت أن يقوله لك كما تقوله لمنازعك أيضا لكن أنت لا توفي بهذا بل تتناقض وتخاصم أهل الإثبات وتنكر عليهم بل قد تعاديهم أو تكفرهم فإن كان ما فعلته سائغا لك ساغ لأولئك النفاة أن يخاصموك ويعادوك ويكفروك كما فعلت هذا بأهل الإثبات وإن كنت تنكر على من يعاديك ويكفرك من النفاة لما أثبته فأنكر على نفسك معاداتك وتكفيرك لأهل الإثبات لما نفيته
وإن قلت أنا لا أثق بصدقهم أنهم يعلمون ذلك اضطرارا أو لا أثق بخبرتهم بالعلم الضروري
قيل لك ومنازعك النافي لا يثق بصدقك وعلمك أيضا
فإن قلت هو يعلم من ديني وعقلي ما يوجب معرفته بصدقي وعلمي
قيل لك وأنت تعرف من دين أهل الإثبات وعقلهم ما يوجب معرفتك بصدقهم وعلمهم
وإن قلت أنا أبين فساد العقليات التي يعارض بها النفاة لما أثبته
قيل لك والمثبتون لما تنفيه يثبتون فساد العقليات التي تعارضهم أنت بها
(7/135)
وإن قلت أنا وأولئك النفاة متفقون على النفي لما أثبته هؤلاء
قيل لك والطائفة الفلانية والفلانية متفقتان على النفي لما أثبته
واعلم أنه ليس من أهل الأرض إلا من يمكن مخاطبته بهذه الطريق حتى غلاة النفاة من الجهمية والقرامطة والفلاسفة فإنهم لا بد أن يثبتوا شيئا من السمعيات بوجه من الوجوه إذ لا يمكن أحدا من الطوائف أن ينفي جميع ما أثبته السمع من القضايا الخبرية والطلبية
وإذا قال أنا أثبت ما جاء به السمع لكوني علمته بالعقل لا لمجيء السمع به أمكن أن يجاب بمثل ذلك في إثبات العلو والصفات أيضا وأمكن أن يجاب بجواب آخر وهو أن كل من أقر بالنبوات بوجه من الوجوه فلا بد له أن يثبت بأقوال الأنبياء ما تكون الحجة فيه مجرد قولهم ولو أنه من الأمور العلمية السياسية فإن هؤلاء كلهم لا بد له من العمل بالشرائع إما في الظاهر وإما للجمهور وإما في أوائل سلوكهم
وإن كان ممن لا يثبت النبوات بوجه فلا بد له من العمل بقول غير الأنبياء كالملوك والفلاسفة ونحوهم
بل لا بد للإنسان أن يفهم كلام بني جنسه إذ الإنسان مدني بالطبع لا يستقل بتحصيل مصالحه فلا بد لهم من الاجتماع للتعاون على المصالح ولا يتم ذلك إلا بطريق يعلم به بعضهم ما يقصده غيره
(7/136)
وأي طريق فرض من الإشارة والعبارة والكتابة وغير ذلك كان ذلك من جنس السمعيات والنقليات فإن جماع ذلك ما به يعلم مراد الغير فإن نفى ناف ذلك بطريق جعله معارضا له من عقلياته فلا بد لمن أثبت ما يثبته من السمعيات أن يجيبه بجواب فما كان جوابا له كان نظيره جوابا لأهل الإثبات فيما علموا أنه مراد للرسول صلى الله عليه وسلم وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
الجواب التاسع أن يقال نحن لا نرضى أن نجيبكم بما أجبتم به النفاة وذلك أنكم مقصرون في مناظرة النفاة لما أثبتموه عقلا وسمعا فإنكم في كثير من مناظراتكم لهم تصيرون إلى المكابرة ودعوى ما يعلمون هم نقيضها كما تفعلونه في مسألة الرؤية والكلام وإثبات الصفات بدون إثبات لوازم ذلك إذ أنتم كثيرا ما تثبتون الشيء بدون لوازمه أو مع وجود منافيه
ومن هنا تسلط عليكم القرامطة والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم من النفاة وكلام أئمتكم معهم كلام قاصر يظهر قصوره لمن كان خبيرا بالعقليات وسبب ذلك تقصيرهم في مناظرتهم حيث سلموا لهم مقدمات عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة فاحتاجوا إلى إثبات لوازمها فاضطروا إما إلى موافقتهم على الباطل وإما إلى التناقض الذي يظهر به فساد قولهم وإما إلى العجز الذي يظهر به قصورهم وانقطاعهم
(7/137)
ثم أخذوا يناظرون أهل الإثبات للعلو ونحوه بما به ناظرهم أولئك ويتسلطون على العاجز عن مناظرتهم من المثبتين كما تسلط عليهم أولئك فصاروا بمنزلة من قصروا في جهاد من يليهم من الكفار حتى غلبوهم وهزموههم فقاموا يقاتلون من يليهم من المسلمين كما قاتلهم أولئك الكفار حتى ظهر الباطل والكفر والضلال بتفريطهم أولا في جهاد من يليهم من الكفار وعداوتهم ثانيا على من يليهم من المسلمين
وصاروا على ضد ما وصف الله به المؤمنين حيث قال { أشداء على الكفار رحماء بينهم } سورة الفتح 29 { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } سورة المائدة 54 فصاروا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين كما نعت النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج حيث قال يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان
وحال الجهمية والرافضة شر من حال الخوارج فإن الخوارج كانوا
(7/138)
يقاتلون المسلمين ويدعون قتال الكفار وهؤلاء أعانوا الكفار على قتال المسلمين وذلوا للكفار فصاروا معاونين للكفار أذلاء لهم معادين للمؤمنين أعزاء عليهم كما قد وجد مثل ذلك في طوائف القرامطة والرافضة والجهمية النفاة والحلولية ومن استقرأ أحوال العالم رأى من ذلك عبرا وصار في هؤلاء شبه من الذين قال الله تعالى فيهم { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } سورة النساء 51 52
ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء النفاة يصنف في الشرك والسحر وعبادة الكواكب والأوثان وفي النفاق والزندقة التي توجد في كلام كثير من الفلاسفة وغيرهم بل يخضع لهؤلاء الكفار والمنافقين ويذل لهم ويريد أن يعلو على المؤمنين ويقهرهم وإن كان هذا بسبب ضعف من قاتله من المؤمنين وتفريطهم وعداوتهم كما أن قهر أولئك الكفار له كان بسبب ضعفه الحاصل من تفريطه وعدوانه فالذم لاحق له بقدر ما فرط فيه من حقوق الله وتعداه من حرماته كما أن هؤلاء يلحقهم أيضا الذم بقدر ما فرطوا فيه من حقوق الله وتعدوه من حرماته
وقد قال تعالى { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } سورة الزخرف 39
والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء الذين ينفون العلو ويثبتون بعض الصفات نحن لا نرضى أن نجيبكم بما تجيبون به أنتم نفاة الصفات
(7/139)
وغيرها مما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم بل نجيبكم وأولئك جميعا ببيان أنه ليس معكم فيما تخالفون به النصوص لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل ليس معكم في ذلك إلا الأكاذيب المموهة المزخرفة بالألفاظ المجملة الموهمة التي تلقاها بعضكم عن بعض تقليدا لأسلافكم فإذا فسر معناها وكشف عن مغزاها ظهر فسادها بصريح المعقول كما علم فسادها بصحيح المنقول وتبين أيضا أن حجة الرسول صلى الله عليه وسلم قائمة على من بلغه ما جاء به ليس لأحد أن يعارض شيئا من كلامه برأيه وهواه بل على كل أحد أن يكون معه كما قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } سورة النساء 65
ونحن لا نسلم ما سلمتموه أنتم من المقدمات الفاسدة كما سلمتموه لمن عارض الكتاب من القرامطة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم بل نسد عليهم الطريق التي منها دخلوا على الإسلام ونمنعهم المقدمات التي جعلوها أصل علم الكلام الذي خالفوا به الكتاب والسنة وإجماع الأنام
(7/140)
الوجه الرابع والأربعون
أن يقال العقليات التي يقال إنها أصل للسمع وأنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها فامتنع أن تكون أصلا له بل هي أيضا باطلة وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر من أهل الكلام والفلسفة فإن جماع هذه الطرق هي طريقان أو ثلاثة
طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الموصوف بها أو ببعضها كالحركة والسكون
وطريقة التركيب والاستدلال بها على أن الموصوف بها ممكن أو محدث فهاتان الطريقتان هي جماع ما يذكر في هذا الباب
والثالثة الاستدلال بالاختصاص على إمكان المختص أو حدوثه قد يقال إنها طريقة أخرى وقد تدخل في الأولى
والاستدلال باجتماع الجواهر وافتراقها على رأي من يقول إن الجسم مركب من الجواهر المنفردة يدخل في الأولى وفي الثانية
أما دخولها في الأولى فبناء على أن الجواهر لا تخلو من الاجتماع والافتراق كما لا يخلو الجسم بل الجوهر من الحركة والسكون
(7/141)
وأما دخولها في الثانية فبناء على أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وحينئذ فيكون إما ممكنا عند من يستدل بذلك على الإمكان وإما محدثا عند من يستدل بذلك على الحدوث
ولكن الاستدلال بهذه الطريق مبني على أن الجسم مركب من الجواهر المحسوسة التي لا تنقسم وهي الجواهر المنفردة أو من الجواهر العقلية وهي المادة والصورة وهذا مما ينازعهم فيه جمهور العقلاء بخلاف كون الجسم لا يخلو عن نوع من الأعراض فلا يخالف فيه إلا شذوذ
ثم الطريقة الأولى مبنية على امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث والثانية مبنية على أن ما اجتمعت فيه معان لزم أن يكون ممكنا أو حادثا والثالثة مبنية على أن المختص لا بد له من مخصص منفصل عنه
وهذه المقدمات الثلاث قد نازع فيها جمهور العقلاء وكل من هذه الطرق تسلكه الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات والأفعال ويسلكه أيضا نفاة الأفعال القائمة به دون الصفات
وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم نفاة الصفات فأصل كلامهم مبني على طريقة التركيب بناء على أن الموصوف مركب وإذا استدلوا
(7/142)
بطريقة الأعراض فإنما يستدلون بها على أن الموصوف بها ممكن ويسندون ذلك إلى التركيب فإنما استدلالهم بالأعراض على حدوث الموصوف فلا يمكنهم بل هذا نقيض قولهم
وكل من الطائفتين تطعن في طريقة الأخرى وتبين فسادها ومعلوم أن المتكلمين القائلين بإثبات الصفات لله تعالى أقرب إلى الإسلام والسنة من نفاة الصفات وأن نفاة الصفات القائلين بحدوث السماوات والأرض أقرب إلى الإسلام والسنة من القائلين بقدم ذلك ومن كان إلى الإسلام والسنة أقرب كانت عقلياته التي يعارض بها النصوص الإلهية أقل بعدا عن دين المسلمين
فإذا كان أئمة العلم قد أنكروا هذه التي هي أقرب من غيرها إلى العقل والنقل وبينوا أنها فاسدة في العقل محرمة في الشرع كان ما هو أبعد منها وأضعف أعظم فسادا في العقل وتحريما في الشرع
وما زال أئمة العلم على ذلك حتى أئمة النظر من أهل الكلام والفلسفة فالاستدلال بالحركة والسكون على حدوث المتحرك الساكن بل الاستدلال بالأعراض مطلقا على حدوث ما قامت به من الجواهر والأجسام والاستدلال بحدوث الصفات على حدوث ما قامت به من الموصوفات والاستدلال بتركب الأجسام من الجواهر ونحو ذلك وجعل ذلك طريقا إلى العلم بحدوث العالم وإلى العلم
(7/143)
بإثبات الصانع تعالى هو طريق الجهمية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المذموم عند السلف المحدث في الإسلام وهم الذين ابتدعوا هذه الطريق والاستدلال بها والتزام لوازمها والتفريع عليها وإن كان قد شركهم في ذلك قوم من غير المسلمين أو سبقوهم إلى ذلك سواء كانوا من الصابئين أو اليهود أو غيرهم
والمقصود أن ظهور هذه في الإسلام كان ابتداؤه من جهة هؤلاء المتكلمين المبتدعين وهذه هي من اعظم أصول هؤلاء المتكلمين وهذه وأمثالها هي من الكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه والنهي عنه وتجهيل أصحابه وتضليلهم حيث سلكوا في الاستدلال طرقا ليست مستقيمة واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصرائح المعقول فكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ووسائلهم وأحكامهم ودلائلهم
وكلام السلف والأئمة في ذم ذلك كثير مشهور في عامة كتب الإسلام وما من أحد قد شدا طرفا من العلم إلا وقد بلغه من
(7/144)
ذلك بعضه لكن كثير من الناس لم يحيطوا علما بكثير من أقوال السلف والأئمة في ذلك وبمعانيها وقد جمع الناس من كلام السلف والأئمة في ذلك مصنفات مفردة مثل ما جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ومثل المصنف الكبير الذي جمعه الشيخ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام الذي سماه ذم الكلام وأهله ومن ذلك في كتب الآثار والسنة ما شاء الله
وممن ذكر اتفاق السلف على ذلك الغزالي في أجل كتبه الذي سماه إحياء علوم الدين قال فإن قلت فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه فاعلم أن للناس في هذا غلوا وإسرافا في أطراف فمن قائل إنه بدعة وحرام وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام ومن قائل إنه واجب فرض إما على الكفاية أو على الأعيان وإنه أجل الأعمال وأعلى القربات
(7/145)
وإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله
قال وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل سفيان وجميع أهل الحديث من السلف قال ابن عبد الأعلى سمعت الشافعي يوم ناظر حفصا الفرد وكان من متكلمي المعتزلة يقول لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام وإني سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه وقال أيضا قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت ظننته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام
وقال أيضا لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد
(7/146)
وقال حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام
قال وقال احمد بن حنبل لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل
قال وبالغ فيه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال ويحك ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث
قلت هجران أحمد للحارث لم يكن لهذا السبب الذي ذكره أبو حامد وإنما هجره لأنه كان على قول ابن كلاب الذي وافق المعتزلة
(7/147)
على صحة طريق الحركات وصحة طريق التركيب ولم يوافقهم على نفي الصفات مطلقا بل كان هو وأصحابه يثبتون أن الله فوق الخلق عال على العالم موصوف بالصفات ويقررون ذلك بالعقل وإن كان مضمون مذهبه نفي ما يقوم بذات الله تعالى من الأفعال وغيرها مما يتعلق بمشيئته واختياره وعلى ذلك بنى كلامه في مسألة القرآن
وهذا هو المعروف عند من له خبرة بكلام أحمد من أصحابه وغيرهم من علماء أهل الحديث والسنة ولأبي عبد الله الحسين والد أبي القاسم الخرقي صاحب المختصر المشهور كتاب في قصص من هجرة أحمد سأل فيه لأبي بكر المروذي عن ذلك فأجابه عن قصصهم واحدا واحدا
وقد ذكر ذلك أيضا أبو بكر الخلال في كتاب السنة وقد ذكر ذلك ابن خزيمة وغيره ممن يعرف حقيقة هذه الأمور وكذلك السري السقطي كان يحذر الجنيد بن محمد من شقاشق الحارث ثم ذكر غير واحد أن الحارث رجع عن ذلك كما ذكره معمر بن زياد في أخبار
(7/148)
شيوخ أهل المعرفة والتصوف وذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذاهب التصوف عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول إن الله يتكلم بصوت وهذا يناقض قول ابن كلاب
وأبو حامد ليس له من الخبرة بالآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك الذين يميزون بين صحيحه وسقيمه ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والأثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها
وأحمد رضي الله عنه قد رد على الجهمية وغيرهم بالأدلة السمعية والعقلية وذكر من كلامهم وحججهم ما لم يذكره غيره بل استوفى حكاية مذهبهم وحججهم أتم استيفاء ثم أبطل ذلك بالشرع والعقل
وقد نقل أبو حامد في كتابه ما ذكر أنه سمعه من بعض الحنابلة وهو
(7/149)
أن أحمد لم يتأول إلا ثلاثة أحاديث وهذا غلط على أحمد وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتبين ما في هذا الكلام وتوابعه من الصواب والخطأ نقلا وتوجيها ولو اقتصر أبو حامد على ما نقله من كتاب ابن عبد البر عن الأئمة لم يكن فيه شيء من هذا الخطأ فإن ابن عبد البر وأمثاله أعلم بالآثار من هؤلاء ولكن لعله نقل ذلك من كلام أبي طالب أو غيره
ونظير هذا ما ذكره أبو المعالي في كتابه أصول الفقه المسمى بالبرهان لما ذكر مذاهب الناس في القياس العقلي والشرعي
(7/150)
فقال القياس فيما ذكره أصحاب المذاهب ينقسم إلى شرعي وعقلي ثم الناظرون في الأصول والمنكرون تفرقوا على مذاهب فذهب بعضهم إلى رد القياسين وقال القائلون هذا مذهب منكري النظر وقال قائلون بالقياس العقلي والسمعي وهذا مذهب الأصوليين والقياسيين من الفقهاء وذهب ذاهبون إلى القول بالقياس العقلي وجحد القياس الشرعي وهذا مذهب النظام وطوائف من الرافضة والإباضية والأزارقة ومعظم فرق الخوارج إلا النجدات وصار صائرون إلى النهي عن القياس النظري والأمر بالقياس الشرعي
(7/151)
قال وهذا مذهب أحمد بن حنبل والمقتصدين من أتباعه وليس ينكرون إفضاء النظر العقلي إلى العلم ولكن ينهون عن ملابسته والاشتغال به
قال وذهب الغلاة من الحشوية وأهل الظاهر إلى رد القياس العقلي والشرعي قال أبو المعالي أطلق النقلة القياس العقلي وإن عنوا به النظر العقلي فهو من نوعه إذا استجمع شرائط الصحة مفض إلى العلم مأمور به شرعا والقياس الشرعي متقبل معمول به إذا صح على السبر اللائق به وإن عنى الناقلون بالقياس العقلي اعتبار شيء بشيء ووقوف نظر في غائب على استثارة معنى في شاهد فهذا باطل عندي لا أصل له فليس في المعقولات قياس وقد فهم عنا ذلك طلبه المعقولات
(7/152)
قلت هذا الذي ذكره أبو المعالي من إنكار القياس في المعقولات وافقه عليه طائفة من المتاخرين كأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وقالوا قياس التمثيل إنما يكون في الشرعيات والمنطقيون قد يدعون أن قياس التمثيل في العقليات إنما يفيد الظن واما جمهور العقلاء فعلى أنه لا فرق بين قياس الشمول وقياس التمثيل في إفادة العلم والظن فإن ما يجعل في قياس الشمول حدا أوسط يجعل في قياس التمثيل مناط الحكم ويسمى العلة والوصف والمشترك
فإذا قيل النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر وكل مسكر حرام فهذا قياس شمول ولا بد له من دليل يدل على صحة المقدمة الكبرى القائلة كل مسكر حرام فإذا استدل بقياس التمثيل قال لأنه مسكر فكان حراما قياسا على عصير العنب المسكر ثم يبين أن العلة في الأصل هو السكر فالدليل الدال على علية الوصف في الأصل هو الدال على صحة المقدمة الكبرى والسكر هو الوصف الذي علق به الحكم وهو مناطه وهو المشترك بين الأصل والفرع الذي علق به الحكم والمسكر المتصف بالسكر هو الحد الأوسط المكرر في قياس الشمول الذي هو محمول في المقدمة الصغرى موضوع في الكبرى
وأول ما ذكره عن أحمد فقد أنكره أصحاب أحمد حتى قال أبو البقاء العكبري لمن قرأ عليه كتاب البرهان هذا النقل ليس بصحيح عن مذهب الإمام أحمد وهو كما قال فإن أحمد لم ينه عن نظر في دليل عقلي صحيح يفضي إلى المطلوب بل في كلامه في أصول الدين في الرد على الجهمية وغيرهم من الاحتجاج بالأدلة العقلية
(7/153)
على فساد قول المخالفين للسنة ما هو معروف في كتبه وعند أصحابه
ولكن أحمد ذم من الكلام البدعي ما ذمه سائر الأئمة وهو الكلام المخالف للكتاب والسنة والكلام في الله ودينه بغير علم
واستدل أحمد بقوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } سورة الأعراف 33
وأحمد أشهر وأكثر كلاما في أصول الدين بالأدلة القطعية نقلها وعقلها من سائر الأئمة لأنه ابتلي بمخالفي السنة فاحتاج إلى ذلك والموجود في كلامه من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة ولكن قياس التمثيل في حق الله تعالى لم يسلكه أحمد لم يسلك فيه إلا قياس الأولى وهو الذي جاء به الكتاب والسنة فإن الله لا يماثل غيره في شيء من الأشياء حتى يتساويا في حكم القياس بل هو سبحانه أحق بكل حمد وأبعد عن كل ذم فما كان من صفات الكمال المحضة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه فهو أحق به من كل ما سواه وما كان من صفات النقص فهو أحق بتنزيهه عنه من كل ما سواه
والقرآن لما بين قدرته على إعادة الخلق بفعله لما هو أبلغ من ذلك كان هذا من باب قياس الأولى وكذلك بين تنزيهه عن الولد والشريك وكذلك أحمد سلك هذا المسلك كما ذكر في موضعه مثل بيانه لإمكان كونه عالما بجميع المخلوقات مع كونه بائنا عن العالم فوق
(7/154)
العرش بقياسين عقليين أحدهما أن الإنسان قد يكون معه قدح صاف فيرى ما فيه مع مباينته له فالرب سبحانه قدرته على العالم ومباينته له أعظم من قدرة هذا على ما في يديه فلا تمتنع رؤيته لما فيه وإحاطته به مع مباينته له
والقياس الثاني من بنى دارا وخرج منها فهو يعلم ما فيها لكونه فعلها وإن لم يكن فيها فالرب الذي خلق كل شيء وأبدعه هو أحق بأن يعلم ما خلق وهو اللطيف الخبير وإن لم يكن حالا في المخلوقات
والمقصود أن أحمد يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة إنما يذم ما خالف الكتاب والسنة أو الكلام بلا علم والكلام المبتدع في الدين كقوله في رسالته إلى المتوكل لا أحب الكلام في هذا إلا ما كان في كتاب الله أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود
وهو لا يكره إذا عرف معاني الكتاب والسنة أن يعبر عنها بعبارات أخرى إذا احتيج إلى ذلك بل هو قد فعل ذلك بل يكره المعاني المبتدعة في هذا أي فيما خاض الناس فيه من الكلام في القرآن والرؤية والقدر والصفات إلا بما يوافق الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين
(7/155)
ولهذا كره الكلام في الجسم وفي الحيز وفي اللفظ بالقرآن نفيا وإثباتا لما في كل من النفي والإثبات من باطل وكلامه في هذه الأمور مبسوط في موضع آخر كما هو معروف في كتابه وخطابه
والمذموم شرعا ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل والجدل بغير علم والجدل في الحق بعد ما تبين
فاما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام وأمر بها في مثل قوله تعالى { قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } سورة هود 32
وقوله { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } سورة الأنعام 83 وقوله تعالى { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } سورة البقرة 258 وقوله تعالى { وجادلهم بالتي هي أحسن } سورة النحل 125
وأمثال ذلك فقد يكون واجبا أو مستحبا وما كان كذلك لم يكن مذموما في الشرع
وما ذكره أبو حامد الغزالي من كلام السلف في ذم أهل الكلام لولا أنه معروف عنهم في كتب يعتمد عليها لم يذكره هنا
(7/156)
وقد نقل من ذلك ما نقله من كتاب أبي عمر بن عبد البر الذي سماه فضل العلم وأهله وما يلزمهم في تأديته وحمله وأبو عمر من أعلم الناس بالآثار والتمييز بين صحيحها وسقيمها
ومن ذلك ما نقله أبو حامد أيضا عن أحمد أنه قال علماء الكلام زنادقة قال وقال مالك أرأيت إن جاء من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد قال يعني أن أقوال المتجادلين تتقاوم قال وقال مالك لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع فقال بعض أصحابه في تأويله إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا
قلت هذا الذي كنى عنه أبو حامد هو محمد بن خويز منده
(7/157)
البصري الإمام المالكي وقد قال إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه الذين ترد شهادتهم هم أهل الكلام
قال فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه وكل متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء أشعريا كان أو غير أشعري هكذا ذكره عنه ابن عبد البر ومنه نقل ذلك أبو حامد لكن كنى عن التصريح بذلك
قال أبو حامد وقال أبو يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق
(7/158)
قال وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا ولا ينحصر ما ينقل عنهم من التشديدات فيه وقالوا ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد منه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون هلك المتنطعون أي المتعمقون في البحث والاستقصاء
قال واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم طريقه ويثني على أربابه فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلى حفظ الفرائض
(7/159)
وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام في القدر وعلى هذا استمر الصحابة فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة
قال وأما الفرقة الأخرى فاحتجوا بأن المحذور من الكلام إن كان هو من أجل لفظ الجوهر والعرض وهذه الاصطلاحات الغريبة التي لم تعهدها الصحابة فالأمر فيه قريب إذ ما من علم إلا وقد أحدث فيه اصطلاحات لأجل التفهم كالحديث والتفسير والفقه ولو عرض عليهم عبارة النقض والكسر والتعدية والتركيب وفساد الوضع لما كانوا يفهمونه وإحداث عبارة للدلالة على مقصود صحيح كإحداث آنية على
(7/160)
هيئة جديدة لاستعمالها في مباح وإن كان المحذور هو المعنى فنحن لا نعني به إلا معرفة الدليل على حدوث العالم ووحدانية الخلق تعالى وصفاته كما جاء به الشرع فمن أين تحرم معرفة الله بالدليل وإن كان المحذور هو الشغب والتعصب والعداوة والبغض وما يفضي إليه الكلام فذلك يحرم ويجب الاحتراز منه كما أن الكبر والرياء وطلب الرياسة مما يفضي إليه علم الحديث والتفسير والفقه وهو محرم يجب الاحتراز منه ولكن لا يمنع من العلم لأجل أدائه إليه
وكيف يكون ذكر الحجة والمطالبة والبحث عنها محظورا وقد قال الله تعالى { قل هاتوا برهانكم } سورة النمل 64 وقال تعالى { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } سورة الأنفال 42
(7/161)
وقال تعالى { إن عندكم من سلطان } سورة يونس 68 أي من حجة وبرهان
وقال تعالى { قل فلله الحجة البالغة } سورة الأنعام 149
وقال تعالى { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } إلى قوله { فبهت الذي كفر } سورة البقرة 258 وذكر إبراهيم ومجادلته وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه وقال تعالى { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } سورة الأنعام 83
وذكر كلاما طويلا ذكرناه وتكلمنا على ما فيه من مقبول ومردود كلاما مبسوطا في غير هذا الموضع إلى أن قال فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين
ثم ذكر تفصيلا اختاره مضمونه أن فيه مضرة من إثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم ومضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث
(7/162)
دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ولكن هذا الإصرار بواسطة التعصب الذي يثور عن الجدل
قلت المضرة التي ذكرها نوعان أحدهما يتعلق بالعلم وهو التنبيه على شبه الباطل التي تضعف اعتقاد الحق وتفضي إلى الباطل والثاني يتعلق بالقصد وهو إثارة الهوى والحمية والعصبية التي تدعو إلى الإصرار ولو على الباطل لئلا يغلب الشيطان
قال وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود
قال ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف
(7/163)
وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور وفي أمور جلية تكاد تنال قبل التعمق في صناعة الكلام
قال بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسدا ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها إذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم واجتماع السلف عليها والعلماء متعبدون بحفظ ذلك على العوام من تلبيسات المبتدعة كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الغصاب والظلمة
قال وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون
(7/164)
كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر إذ لا يضعه إلا في موضعه وذلك في وقت الحاجة وعلى قدر الحاجة
قلت فهذا كلام أبي حامد مع معرفته بالكلام والفلسفة وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام ويذكر خلاف من نازعهم ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته وإذا لم يكن فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد امتنع أن يكون معارضا لها فضلا عن أن يكون مقدما عليها فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضا للكتاب والسنة وما كان من ذلك مناقضا للكتاب والسنة وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذي لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين لا من السلف والأئمة ولا أحد من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة وما يقبل من ذلك وما يرد وما يحمد وما يذم وإن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء
هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدل باطلا وإن قصد به نصر الكتاب والسنة فيذمون من قابل بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد فكيف من قابل السنة بالبدعة وعارض الحق بالباطل وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق
(7/165)
ولكن المقصود هنا بيان ما ذكره من اتفاق أئمة السنة على ذمه وما ذكره من أنه هو وطريق المتفلسفة لا يفيد كشف الحقائق ومعرفتها مع خبرته بذلك وهو تكلم بحسب ما بلغه عن السلف وما فهمه وعلمه مما يحمد ويذم ولم تكن خبرته بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كخبرته بما سلكه من طرق أهل الكلام والفلسفة فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره وذلك أن ما ذكره من أن مضرته هي إثارة الشبهات في العلم وإثارة التعصب في الإرادة إنما يقال إذا كان الكلام في نفسه حقا بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة بل معلومة
فإذا كان مع ذلك قد يورث النظر فيه شبها وعداوة قيل فيه ذلك والسلف لم يكن ذمهم للكلام لمجرد ذلك ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله بل كانوا أعلم الناس بذلك وأعرفهم بأدلة ذلك ولا حرموا نظرا صحيحا في دليل صحيح يفضي إلى علم نافع ولا مناظرة في ذلك نافعة إما لهدي مسترشد وإما لإعانة مستنجد وإما لقطع مبطل متلدد بل هم أكمل الناس نظرا واستدلالا واعتبارا وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها فإن الناظر
(7/166)
الطالب للعلم إما أن يكون نظره في كلام معلم يبين له ويخاطبه بما يعرفه الحق وإما أن يكون في نفس الأمور الثابتة التي يخبر عنها المتكلم ويريد أن يعلم أمرها المتعلم كسائر الناظرين في الطب والنحو وغير ذلك إما أن ينظر في كلام المعلمين لهذا الفن وإما أن ينظر فيما من شأنه أن يخبر عنه كالأبدان واللغات
والسلف كان نظرهم في خير الكلام وأفضله وأصدقه وأدله على الحق وهو كلام الله تعالى وهم ينظرون في آيات الله تعالى التي في الآفاق وفي أنفسهم فيرون ذلك من الأدلة ما يبين أن القرآن حق قال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } سورة فصلت 53
والمناظرة المحمودة نوعان والمذمومة نوعان وذلك لأن المناظر إما أن يكون عالما بالحق وإما أن يكون طالبا له وإما أن لا يكون عالما به ولا طالبا له فهذا الثالث هو المذموم بلا ريب وأما الأولان فمن كان عالما بالحق فمناظرته المحمودة أن يبين لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشدا طالبا للحق إذا تبين له أو يقطعه ويكف عدوانه إن كان معاندا غير متبع للحق إذا تبين له ويوقفه ويسلكه ويبعثه على النظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه حق وقصده الحق
وذلك لأن المخاطب بالمناظرة إذا ناظره العالم المبين للحجة إما أن
(7/167)
يكون ممن يفهم الحق ويقبله فهذا إذا بين له الحق فهمه وقبله وإما أن يكون ممن لا يقبله إذا فهمه أو ليس له غرض في فهمه بل قصده مجرد الرد له فهذا إذا نوظر بالحجة انقطع وانكف شره عن الناس وعداوته وهذا هو المقصود الذي ذكره أبو حامد وغيره وهو دفع أعداء السنة المجادلين بالباطل عنها
وإما أن يكون الحق قد التبس عليه وأصل قصده الحق لكن يصعب عليه معرفته لضعف علمه بأدلة الحق مثل من يكون قليل العلم بالآثار النبوية الدالة على ما أخبر به من الحق أو لضعف عقله لكونه لا يمكنه أن يفهم دقيق العلم أو لا يفهمه إلا بعد عسر أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقد موجبه وظن أنه لا جواب عنه فهذا إذا نوظر بالحجة أفاده ذلك إما معرفة بالحق وإما شكا وتوقفا في اعتقاده الباطل أو في اعتقاده صحة الدليل الذي استدل به عليه وبعث همته على النظر في الحق وطلبه إن كان له رغبة في ذلك فإن صار من أهل العصبية الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ألحق بقسم المعاندين كما تقدم
واما المناظرة المذمومة من العالم بالحق فأن يكون قصده مجرد الظلم والعدوان لمن يناظره ومجرد إظهار علمه وبيانه لإرادة العلو في الأرض فإذا أراد علوا في الأرض أو فسادا كان مذموما على إرادته
(7/168)
ثم قد يكون من الفجار الذين يؤيد الله بهم الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر فكما يجاهد الكفار فاجر فينتفع المسلمون بجهاده فقد يجادلهم فاجر فينتفع المسلمون بجداله لكن هذا يضر نفسه بسوء قصده وربما أوقعه ذلك في أنواع من الكذب والبدعة والظلم فيجره إلى أمور أخرى
وقد وقع في ذلك كثير من هؤلاء وهؤلاء
وأما إن كان المناظر غير عالم بالحق بأن لايعرف الحق في نفس المسألة أو يعرف الحق لكن لا يعرف بعض الحجج أو الجواب عن بعض المعارضات أو الجمع بين دليلين متعارضين وأمثال ذلك فهذا إذا ناظر طالبا لمعرفة الحق وأدلته والجواب عما يعارضها والجمع بين الأدلة الصحيحة كان محمودا وإن ناظر بلا علم فتكلم بما لا يعرف من القضايا والمقدمات كان مذموما
والسلف رضوان الله عليهم كانت مناظرتهم مع الكفار وأهل البدع كالخوارج وغيرهم من القسم الأول وكانت مناظرة بعضهم لبعض في مسائل الأحكام والتفسير تارة من القسم الأول وتارة من
(7/169)
القسم الثاني وهي المشاورة التي مدحهم الله عليها بقوله عز وجل { وأمرهم شورى بينهم } سورة الشورى 38
وما ذكره الله تعالى عن الأنبياء والمؤمنين من المجادلة يتناول هذا وهذا وقد ذم الله تعالى في القرآن ثلاثة أنواع من المجادلة ذم صاحب المجادلة بالباطل ليدحض به الحق وذم المجادلة في الحق بعدما تبين وذم المحاجة فيما لا يعلم المحاج
فقال تعالى { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } سورة غافر 5
وقال تعالى { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } الآية سورة الأنفال 6
وقال { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } سورة آل عمران 66
والذي ذمه السلف والأئمة من المجادلة والكلام هو من هذا الباب فإن أصل ذمهم الكلام هو الكلام المخالف للكتاب والسنة وهذا لا يكون في نفس الأمر إلا باطلا فمن جادل به جادل بالباطل وإن كان ذلك الباطل لا يظهر لكثير من الناس أنه باطل لما فيه من الشبهة فإن الباطل المحض الذي يظهر بطلانه لكل أحد لا يكون قولا ومذهبا لطائفة تذب عنه وإنما يكون باطلا مشوبا بحق كما قال تعالى
(7/170)
{ لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } سورة آل عمران 71
أو تكون فيه شبهة لأهل الباطل وإن كانت باطلة وبطلانها يتبين عند النظر الصحيح كالذين قالوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن ومجنون قالوا إنه شاعر لأن الشعر كلام موزون مقفى فشبهوا القرآن به من هذا الوجه والكاهن يخبر أحيانا بواحدة تصدق فشبهوا الرسول به من هذا الوجه والمجنون يقول ويفعل خلاف ما في عقول ذوي العقول فلما زعموا أن ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف ما يأتي به العقلاء نسبوه إلى ذلك
لكن ما ينصبه الله من الأدلة ويهدي إليه عباده من المعرفة يتبين به الحق من الباطل الذي يشتبه به ولكن ليس كل من عرف الحق إما بضرورة أو بنظر أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع وما به يعرفه به غيره نوع وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به فلهذا كان النظر أوسع من المناظرة فكل ما يمكن المناظرة به يمكن النظر فيه وليس كل ما يمكن النظر فيه يمكن مناظرة كل أحد به
(7/171)
ولهذا كان أهل العلم بالحديث لهم علوم ضرورية بأقوال الرسول ومقاصده لا يشركهم فيها إلا من شركهم في أسبابها
والمقصود هنا أن السلف كانوا أكمل الناس في معرفة الحق وأدلته والجواب عما يعارضه وإن كانوا في ذلك درجات وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك بل هذا يقوم بالبعض وهذا يقوم بالبعض كما في نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من أمور الدين
والكلام الذي ذموه نوعان أحدهما أن يكون في نفسه باطلا وكذبا وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب فإن أصدق الكلام كلام الله
والثاني أن يكون فيه مفسدة مثلما يوجد في كلام كثير منهم من النهي عن مجالسة أهل البدع ومناظرتهم ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم فإن الحق إذا كان ظاهرا قد عرفه المسلمون وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك فإذا هجر وعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي وكما كان المسلمون يفعلونه أو قتل كما قتل المسلمون
(7/172)
الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا ترك داعيا وهو لا يقبل الحق إما لهواه وإما لفساد إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين
والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه وناظروه وبينوا له الحق كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه
وكذلك علي رضي الله عنه بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس قوبل بالعقوبة
قال الله تعالى { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } سورة الشورى 16
وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجا قويا من علوج الكفار فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة وقد ينهى عنها إذا كان المناظر
(7/173)
معاندا يظهر له الحق فلا يقبله وهو السوفسطائي فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان سوفسطائيا ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك بل إن كان فاسد العقل داووه وإن كان عاجزا عن معرفة الحق ولا مضرة فيه تركوه وإن كان مستحقا للعقاب عاقبوه مع القدرة إما بالتعزير وإما بالقتل وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر
والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها أو مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة أو فيها مفسدة راجحة فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال
وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة أخرى وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها محمود ومذموم ومفسدة ومصلحة وحق وباطل
ومنشأ الباطل من نقص العلم أو سوء القصد كما قال تعالى { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } سورة النجم 23
ومنشأ الحق من معرفة الحق والمحبة له والله هو الحق المبين ومحبته أصل كل عبادة فلهذا كان أفضل الأمور على الإطلاق معرفة الله ومحبته وهذا هو ملة إبراهيم خليل الله تعالى الذي جعله الله للناس إماما وجعله أمة يأتم به الخلق وهو الذي ناظر المعطلين والمشركين
(7/174)
كما ذكر الله تعالى محاجته لمن حاجه في ربه { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } سورة البقرة 258 ومحاجته لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب
والجهمية نفاة الصفات الذين هم رؤوس أهل الكلام المذموم قولهم مأخوذ من قول خصمائه كما هو مأخوذ من قول فرعون خصم موسى عليه السلام فإن فرعون أظهر جحد الصانع وعلوه على خلقه وجحد تكليمه لموسى وقوم إبراهيم كانوا مشركين كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك وكان فيهم من هو معطل كما ذكر الله تعالى ذلك
والفلاسفة القائلون بدعوة الكواكب فيهم المشرك وفيهم المعطل ونفي الصفات من أقوالهم فمنهم من لا يثبت لهذا العالم المشهود ربا أبدعه كما هو قول الدهرية الطبيعية منهم ويجعلون العالم نفسه واجب الوجود بذاته ومنهم من يثبت له مبدعا واجبا بنفسه أبدعه كما هو قول الدهرية الإلهية منهم ويقولون إن الواجب ليس له صفة ثبوتية بل صفاته إما سلب وإما إضافة وأما مركبة منهما
وكان الجعد بن درهم من أهل حران وكان فيهم بقايا من الصابئين والفلاسفة خصوم إبراهيم الخليل عليه السلام فلهذا أنكر تكليم موسى وخلة إبراهيم موافقة لفرعون والنمروذ بناء على أصل هؤلاء
(7/175)
النفاة وهو أن الرب تعالى لا يقوم به كلام ولا يقوم به محبة لغيره فقتله المسلمون ثم انتشرت مقالته فيمن ضل من هذا الوجه
والمحبة متضمنة للإرادة ومسألة الكلام والإرادة ضل فيهما طوائف كما ضلوا في إنكار العلو الذي أنكره فرعون على موسى كما قد بسط هذا في موضعه
ومما يبين هذا أن السلف لم يذموا التكلم بأسماء مفردة كالجوهر والجسم والعرض فإن الاسم المفرد ليس بكلام ولا يتكلم به أحد وإنما ذموا الكلام المؤلف الدال على معان والذين كانوا يتكلمون بهذه الأسماء كان كلامهم متضمنا لأمور فيها افتراء على الله ورسوله إما إثبات ما نفاه الله وإما نفي ما أثبته الله ومتضمنة لمعان باطلة هي كذب وباطل في نفس الأمر
والمقصود هنا التنبيه على جنس ما مدحه السلف وذموه وأنهم كانوا أعرف الناس بالحق وأدلته وبطلان ما يعارضه وإنما يظن بهم التقصير في هذا من كان جاهلا بحقيقة الحق وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من العلم والإيمان وبما وصل إليه السلف والأئمة فجهله بالأول يوجب أن لا يعلم الحق بل يعتقد نقيضه وجهله بالثاني يوجب ظنه أن ليس فيما جاء به الرسول بيان الحق بأدلته والمناظرة عنه وجهله بالثالث يوجب ظنه أن السلف ذموا الكلام بالأدلة الصحيحة المفضية
(7/176)
إلى العلم بالله وصفاته خوفا من الشبهات والأهواء بل الأصل في ذم السلف للكلام هو اشتماله على القضايا الكاذبة والمقدمات الفاسدة المتضمنة للافتراء على الله تعالى وكتابه ورسوله ودينه
فهذا هو الكلام المذموم بالذات وهو الكلام الكاذب الباطل وأما الكلام الذي هو حق وصدق فهذا لا يذم بالذات وإنما يذم المتكلم به أحيانا لاشتمال ذلك على مضرة عارضة مثل ما يحرم القذف وإن كان القاذف صادقا إذا لم يكن له أربعة شهداء ومثل ما تحرم الغيبة والنميمة ونحو ذلك مما هو صدق لكن فيه ظلم للغير
وأما الكلام في الدين فنوعان أحدهما أمر والثاني خبر والكلام في أصول الدين هو من نوع الثاني ولا ريب أن الله تعالى أخبر بإثبات أمور ونفى أمور وأصدق الكلام كلام الله فما ناقض ذلك كان كذبا وقولا على الله غير الحق
كما قال تعالى { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } سورة النساء 171
وقال تعالى { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } سورة الأعراف 169
وقال تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } سورة الأعراف 152
(7/177)
وقال تعالى { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } سورة الصافات 180 وأمثال ذلك
وعامة الكلام الذي ذمه السلف تشتمل مسائله على كذب وفرية ودلائل مسائله على كذب وفرية كأقوال الجهمية النفاة لما أثبته الله تعالى له من الأسماء والصفات وكلام القدرية النافية لما أثبته الله من قدرته ومشيئته
ودلائل الجهمية النفاة هو استدلالهم بدليل الجواهر والأعراض فإنهم زعموا أن الأعيان المشاهدة كالسماوات والأرض مركبة من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وأن المركب مسبوق بجزئه ومفتقر إلى مركب يركبه فيكون محدثا وممكنا وما قام بها من الصفات والحركات أعراض والأعراض أو بعضها حادثة وما كان شخصه حادثا وجب أن يكون نوعه حادثا فيمتنع وجود حوادث لا تتناهى وقالوا بهذا عرفنا أن السماوات مخلوقة وبذلك عرفنا أن الله موجود فلزمهم على ذلك أن ينفوا صفات الله وأفعاله وذلك باطل شرعا وعقلا ولم يكن ما أقاموه دليلا صحيحا فلا هم عرفوا الحق بدليل صحيح قويم ولا
(7/178)
هم نصروه بميزان مستقيم ولكنهم قد يقابلون الفاسد بالفاسد فإن أعداء الملة قد يقيمون شبهة على نقيض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كشبهة الدهرية على قدم السماوات فيقابلون ذلك بفاسد آخر كاستدلالهم على حدوث ذلك بدليل الأعراض والصفات
وحفظ مثل هذا الكلام لاعتقاد العوام كدفع المظلمة عنهم بعقوبات فيها عدوان ومن ظن أن الخلف أعلم بالحق وأدلته أو المناظرة فيه من السلف فهو بمنزلة من زعم أنهم أقوم بالعلم والجهاد وفتح البلاد منهم وكلا الظنين طريق من لم يعرف حقيقة الدين ولا حال السلف السابقين
وهذا مثل كلام الرافضة وأمثالهم من أهل الفرية الذين يتضمن قولهم التكذيب بالحق والتصديق بالباطل فهؤلاء فيما يحدثون به من الكذب ويكذبون به من الصدق في المقولات بمنزلة أهل الكلام الباطل في البحث والنظر كالجهمية الذين يكذبون بالحق ويصدقون بالباطل في العقليات
ولهذا كان غير واحد من السلف يقرن بين الجهمية والرافضة وهما شر أهل الأهواء وكان الكلام المذموم عند السلف أعظم من الشهادة بالزور وظلم الحق
(7/179)
وذلك لأن الكاذب الظالم إذا علم أنه كاذب ظالم كان معترفا بذنبه معتقدا لتحريم ذلك فترجى له التوبة ويكون اعتقاده التحريم وخوفه من الله تعالى من الحسنات التي يرجى أن يمحو الله بها سيئاته
واما إذا كذب في الدين معتقدا أن كذبه صدق وافترى على الله ظانا أن فريته حق فهذا أعظم ضررا وفسادا
ولهذا كان السلف يقولون البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج المبتدعين مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم ونهى عن الخروج على أئمة الظلم وأمر بالصبر عليهم
وكان يجلد رجلا يشرب الخمر فلعنه رجل فقال لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله
وجاءه ذو الخويصرة التميمي وبين عينيه أثر السجود فقال يا محمد اعدل فإنك لم تعدل فقال ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ثم قال يخرج من ضئضىء هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته
(7/180)
مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة
فهذا المبتدع الجاهل لما ظن أن ما فعله الرسول ليس بعدل كان ظنه كاذبا وكان في إنكاره ظالما وهذا حال كل مبتدع نفى ما أثبته الله تعالى أو أثبت ما نفاه الله أو اعتقد حسن ما لم يحسنه الله أو قبح ما لم يكرهه الله فاعتقادهم خطأ وكلامهم كذب وإرادتهم هوى فهم أهل شبهات في آرائهم وأهواء في إراداتهم
فالسلف ذموا أهل الكلام الذين هم أهل الشبهات والأهواء لم يذموا أهل الكلام الذين هم أهل كلام صادق يتضمن الدليل على معرفة الله تعالى وبيان ما يستحقه وما يمتنع عليه ولكن قد يورث شبهة وهوى
وقد اعترف أبو حامد بأن ما ذكره هو من الكلام والفلسفة ليس فيه كشف الحقائق ومعرفته
(7/181)
وأما حراسة عقيدة العوام
فيقال أولا لا بد أن يكون المحروس هو نفس ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أخبر به لأمته فأما إذا كان المحروس فيه ما يوافق خبر الرسول وفيه ما يخالفه كان تمييزه قبل حراسته أولى من الذب عما يناقض خبر الرسول صلى الله عليه وسلم فإن حاجة المؤمنين إلى معرفة ما قاله الرسول وأخبرهم به ليصدقوا به ويكذبوا بنقيضه ويعتقدوا موجبه قبل حاجتهم إلى الذب عن ذلك والرد على من يخالفه فإذا كان المتكلم الذي يقول إنه يذب عن السنة قد كذب هو بكثير مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقد نقيضه كان مبتدعا مبطلا متكلما بالباطل فيما خالف فيه خبر الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن ما وافق فيه خبر الرسول فهو فيه متبع للسنة محق يتكلم بالحق
وأهل الكلام الذين ذمهم السلف لا يخلو كلام أحد منهم عن مخالفة السنة ورد لبعض ما أخبر به الرسول كالجهمية والمشبهة والخوارج والروافض والقدرية والمرجئة
ويقال بأنها لا بد أن تحرس السنة بالحق والصدق والعدل لا تحرس بكذب ولا ظلم فإذا رد الإنسان باطلا بباطل وقابل بدعة ببدعة كان هذا مما ذمه السلف والأئمة
(7/182)
وهؤلاء كما ذكره أبو حامد يدخلون في هذا وكلام السلف في ذم الكلام متناول لما ذمه الله في كتابه والله سبحانه قد ذم في كتابه الكلام بالباطل والكلام بغير علم
والأول كثير وأما الثاني فقد قال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } سورة الأعراف 33
وقال تعالى { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } سورة آل عمران 66
وقال { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } سورة الإسراء 36
وهذا النوعان مذمومان في القضاء والفتيا والتفسير
قال النبي صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة قاض في الجنة وقاضيان في النار رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وحكم بخلافه فهو في النار
(7/183)
وفي السنن من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار
فهذان النوعان من الكلام مذمومان مطلقا لا سيما ما كان في نفسه كذبا باطلا وأما جنس النظر والمناظرة فهذا لم ينه السلف عنه مطلقا بل هذا إذا كان حقا يكون مأمورا به تارة ومنهيا عنه أخرى كغيره من أنواع الكلام الصدق فقد ينهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع أو الذي يضر المستمع وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء فلا تفيد علما ولا دينا
ومن هذا الباب أنه خرج صلى الله عليه وسلم على طائفة من أصحابه وهم يتناظرون في القدر فقال أبهذا أمرتم أم إلى هذا دعيتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل القرآن ليصدق بعضه بعضا لا ليكذب بعضه بعضا
فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نهي عنها لذلك وأكثر الاختلاف بين ذوي الأهواء من
(7/184)
هذا الباب كالقائلين بأن الله جسم متحيز في جهة والنافين لذلك والقائلين إن الله يجبر العباد والنافين لذلك وأمثال ذلك من الكلام المجمل المتشابه الذي يتضمن حقا وباطلا في جانبي النفي والإبثات
والكلام بلفظ الجسم والجوهر والعرض في مسائل الصفات هو من هذا الباب قال أبو عبد الرحمن السلمي وقد ذكره شيخ الأسلام في ذم الكلام من طريقه سمعت أبا نصر أحمد بن حامد السجزي يقول سمعت أبي يقول قلت لأبي العباس بن سريج ما التوحيد قال توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك
والمقصود هنا بيان فساد الطرق المعارضة للكتاب والسنة واما بيان اشتمال الكتاب والسنة على الطرق التي بها تحصل معرفة الله والإيمان به وبرسله وباليوم الآخر فهذا مذكور في موضع آخر
وقد قال أبو حامد أيضا لما ذكر أقسام العلوم فإن قلت لم لم تورد في أقسام العلوم الكلام والفلسفة وتبين أنهما محمودان أو
(7/185)
مذمومان فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه وما خرج عنه فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع وإما مشاغبات بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل وقت بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منها مألوفا في العصر الأول فكان الخوض فيه بالكلية من البدع
قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب ووقفت على ما التمستموه من ذكر الأصول التي عول
(7/186)
سلفنا رحمة الله عليهم عليها وعدلوا إلى الكتاب والسنة من أجلها واتباع خلفنا الصالح لهم في ذلك وعدولهم عما صار إليه أهل البدع من المذاهب التي أحدثوها وصاروا إلى مخالفة الكتاب والسنة بها وما ذكرتم من شدة الحاجة إلى ذلك فبادرت أيدكم الله بإجابتكم إلى ما التمستموه وذكرت لكم جملا من الأصول مقرونة بأطراف من الحجاج تدلكم على صوابكم في ذلك وخطأ أهل البدع فيما صاروا إليه من مخالفتهم وخروجهم عن الحق الذي كانوا عليه قبل هذه البدع معهم ومفارقتهم بذلك الأدلة الشرعية وما أتى به الرسول منها ونبه عليها وموافقتهم بذلك لطرق الفلاسفة الصادين عنها والجاحدين لما أتت به الرسل صلوات الله عليهم منها اعلموا أرشدكم الله أن الذي
(7/187)
مضى عليه سلفنا ومن اتبعهم من صالح خلفنا أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى سائر العالمين وهم أحزاب متشتتون وفرق متباينون منهم كتابي يدعو إلى الله بما في كتابه وفلسفي قد تشعبت به الأباطيل في أمور يدعيها بقضايا العقول وبرهمي ينكر أن يكون لله رسول ودهري يدعي الإهمال ويخبط في عشواء الضلال وثنوي قد اشتملت عليه الحيرة ومجوسي يدعي ما ليس له به خبرة وصاحب صنم يعكف عليه ويزعم أن له ربا يتقرب بعبادة ذلك الصنم إليه لينبههم جميعا على حدثهم ويدعوهم إلى توحيد المحدث لهم ويبين لهم طرق معرفته بما فيهم من آثار صنعته ويأمرهم برفض كل ما كانوا عليه من سائر الأباطيل بعد تنبيهه عليه السلام لهم على فسادها ودلالته على صدقه فيما يخبرهم به عن ربهم بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة ويوضح لهم سائر
(7/188)
ما تعبدهم الله به من شريعته وأنه عليه السلام دعا جماعتهم إلى ذلك ونبههم على حدثهم بما فيهم من اختلاف الصور والهيئات وغير ذلك من اختلاف اللغات وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم بما فيهم وفي غيرهم مما يقتضي وجوده ويدل على إرادته وتدبيره حيث قال عز وجل { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } سورة الذاريات 21 فنبههم عز وجل بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك
وشرح لهم ذلك بقوله سبحانه { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } سورة المؤمنون 12 14
وهذا من أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان
(7/189)
ووجود المحدث له من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديما وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره وكونه قديما ينفي تلك الحال فإذا حصل متغيرا بما ذكرناه من الهيئات التي لم يكن قبل تغيره عليها دل ذلك على حدوثها وحدوث الهيئة التي كان عليها قبل حدوثها إذ لو كانت قديمة لما جاز عدمها وذلك أن القديم لا يجوز عدمه وإذا كان هذا على ما قلنا وجب أن يكون ما عليه الأجسام من التغير منتهيا إلى هيئات محدثة لم تكن الأجسام قبلها موجودة بل كانت معها محدثة ويدل ترتيب ذلك على محدث قادر حكيم من قبل أن ذلك لا يجوز أن يقع بالاتفاق فيتم من غير مرتب له ولا قاصد إلى ما وجد منه فيها دون ما كان يجوز وقوعها عليه من الهيئات المخالفة لها وجواز تقدمها في الزمان وتأخرها وحاجتها بذلك إلى محدثها ومرتبها لأن سلالة الطين والماء المهين يحتمل من الهيئات ضروبا كثيرة لا يقتضي واحد منها سلالة
(7/190)
الطين ولا الماء المهين بنفسه ولا يجوز أن يقع شيء من ذلك فيها بالاتفاق لاحتمالها لغيره فإذا وجدنا ما صار إليه الإنسان في هيئته المخصوصة به دون غيره من الأجسام وما فيه من الآلات المعدة لمصالحه كسمعه وبصره وشمه وحسه وآلات ذوقه وما أعد له من آلات الغذاء التي لا قوام له إلا بها على ترتيب ما قد أحوج إليه من ذلك حتى يوجد في حال حاجته إلى الرضاع بلا أسنان تمنعه من غذائه وتحول بينه وبين مرضعته فإذا نقل من ذلك وخرج إلى غذاء لا ينتفع به ولا يصل منه إلى غرضه إلا بطحنها له جعل له منها بقدر ما به الحاجة في ذلك إليه والمعدة المعدة لطبخ ما يصل إليها من ذلك وتلطيفه حتى يصل إلى الشعر والظفر وغير ذلك من سائر الأعضاء في مجار لطيف قد هيئت لذلك بمقدار ما يقيمها والكبد المعدة لتسخينها بما يصل من حرارة القلب
(7/191)
والرئة المهيأة لإخراج بخار الحرارة التي في القلب وإدخال ما يعتدل به من الهواء البارد باجتذاب المناخر وما فيها من الآلات المعدة لخروج ما يفضل من الغذاء عن مقدار الحاجة في مجار ينفذ ذلك منها وغير ذلك مما يطول شرحه مما لا يصح وقوعه بالاتفاق ولا يستغنى فيما هو عليه عن مقوم له يرتبه إذ كان ذلك لا يصح أن يترتب وينقسم في سلالة الطين والماء المهين بغير صانع لها مدبر عند كل عاقل متأمل كما لا يصح أن تترتب الدار على ما تحتاج إليه فيها من البناء بغير مدبر يقسم ذلك فيها ويقصد إلى ترتيبها
ثم زادهم الله تعالى في ذلك بيانا بقوله عز وجل { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }
(7/192)
سورة آل عمران 190 فدلهم تعالى بحركة الأفلاك على المقدار الذي بالخلق الحاجة إليه في مصالحهم التي لا تخفى مواقع انتفاعهم بها كالليل الذي جعل لسكونهم ولتبريد ما زاد عليهم من حر الشمس في زروعهم وثمارهم والنهار الذي جعل لانتشارهم وتصرفهم في معايشهم على القدر الذي يحتملونه في ذلك
ولو كان دهرهم كله ليلا لأضر بهم ما فيه من الظلمة التي تقطعهم عن التصرف في مصالحهم وتحول بينهم وبين إدراك منافعهم وكذلك لو كان دهرهم كله نهارا لأضر بهم ذلك ودعاهم ما فيه من الضياء إلى التصرف في طلب المعاش مع حرصهم على ذلك إلى ما لا يطيقونه فأداهم قلة الراحلة إلى عطبهم فجعل لهم من النهار قسطا لتصرفهم لا يجوز بهم قدر الطاقة فيه وجعل لهم من الليل قسطا لسكونهم لا يقصر عن درك حاجتهم لتعتدل في ذلك
(7/193)
أحوالهم وتكمل مصالحهم وجعل لهم من الحر والبرد فيهما بمقدار ما لهم ولثمارهم ولمواشيهم من الصلاح رفقا لهم وجعل لون ما يحيط بهم من السماء ملاوما لأبصارهم ولو كان لونها على خلاف ذلك من الألوان لأفسدها ودلهم على حدثها بما ذكرناه من حركاتها واختلاف هيئاتها كما ذكرنا آنفا ودلهم على حاجتها وحاجة الأرض وما فيهما من الحكم مع عظمهما وثقل أجرامهما إلى إمساكه عز وجل لهما بقوله تعالى { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } سورة فاطر 41 فعرفنا تعالى أن وقوفهما لا يصح أن يكون من غيره وأن وقوفهما
(7/194)
لا يجوز أن يكون بغير موقف لهما ثم نبهنا على فساد قول الفلاسفة بالطبائع وما يدعونه من فعل الأرض والماء والنار والهواء في الأشجار وما يخرج منها من سائر الثمار بقوله عز وجل { وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } ثم قال عز وجل { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } سورة الرعد 4
ثم نبه تعالى خلقه على أنه واحد باتساق أفعاله وترتيبها وأنه تعالى لا شريك له فيها بقوله عز وجل { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } سورة الأنبياء 22 ووجه الفساد بذلك لو كانا إلهين ما اتسق أمرهما على نظام ولا يتم على إحكام وكان لا بد أن يلحقهما العجز أو يلحق أحدهما عند التمانع في الأفعال والقدرة على ذلك وذلك أن كل واحد منهما لا يخلو أن يكون قادرا على
(7/195)
ما يقدر عليه الآخر على طريق البدل من فعل الآخر أو لا يكون كل واحد منهما قادرا على ذلك فإن كان كل واحد منهما قادرا على فعل ما يقدر عليه الآخر بدلا منه لم يصح أن يفعل كل واحد منهما ما يقدر عليه الآخر إلا بترك الآخر له وإذا كان كل واحد منهما لا يفعل إلا بترك الآخر له جاز أن يمنع كل واحد منهما صاحبه من ذلك
ومن يجوز أن يمنع ولا يفعل إلا بترك غيره له فهو مذموم عاجز وإن كان كل واحد منهما لا يقدر على فعل مقدور الآخر بدلا منه وجب عجزهما وحدوث قدرتيهما والعاجز لا يكون إلها ولا ربا
ثم نبه المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالابتداء على جواز إعادته تعالى لهم حيث قال لهم لما استنكروها وقالوا من يحي العظام وهي رميم { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم }
(7/196)
ثم أوضح ذلك بقوله { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } سورة يس 79 80 فدلهم بما يشاهدونه من جعله النار من العفار والمرخ وهما شجرتان خضراوان إذا حكت إحداهما الأخرى بتحريك الريح لها اشتعل النار فيهما على جواز إعادته الحياة في العظام النخرة والجلود المتمزقة
ثم نبه عباد الأصنام بتعريفه لهم على فساد ما صاروا إلى عبادتها مع نحتها بقوله تعالى { أتعبدون ما تنحتون } ثم قال تعالى { والله خلقكم وما تعملون } سورة الصافات 95 96 فبين لهم فساد عبادتها ووجوب عبادته دونها بأنها إذا كانت لا تصير أصناما إلا بنحتكم لها فأنتم أيضا لن تكونوا على ما أنتم عليه
(7/197)
من الصور والهيئات إلا بفعلي وإني مع خلقي لكم وما تنحتونه خالق لنحتكم إذ كنت أنا المقدر لكم عليه والممكن لكم منه
ثم رد على المنكرين لرسله بقوله عز وجل { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } سورة الأنعام 91
وقال تعالى { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } سورة النساء 165
ثم احتج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الكتب بما في كتبهم من ذكر صفته والدلالة على اسمه ونعته وتحدى النصارى لما كتموا ما في كتبهم من ذلك وجحدوه بالمباهلة عند أمر الله عز وجل له بذلك بقوله { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين }
(7/198)
سورة آل عمران 61
وقال لليهود لما بهتوه { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } سورة البقرة 94 فلم يجد أحد منهم على ذلك مع اجتماعهم على تكذيبه وتناهيهم في عداوته واجتهادهم في التنفير عنه لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم وصدقه فيما يخبرهم لأقدموا على إجابته ولسارعوا إلى فعل ما يعلمون أن فيه توهين أمره
ثم إن الله تعالى بعد إقامة الحجج عليهم أزعج خواطر جماعتهم للنظر فيما دعاهم إليه ونبههم عليه بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة وأيده بالقرآن الذي تحدى به فصحاء قومه الذين بعث
(7/199)
إليهم لما قالوا إنه مفترى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات أو سورة من مثله وقد خاطبهم فيه بلغتهم فعجزوا عن ذلك مع إخباره لهم أنهم لا يأتون بمثله ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن وقطع عليه السلام عذرهم به وعذر غيرهم كما قطع موسى عليه السلام عذر السحرة وغيرهم في زمانه بالعصا التي فضحت سحرهم وبان بما كان منها لهم ولغيرهم أن ذلك من فعل الله تعالى وأن هذا ليس تبلغه قدرتهم ولا تطمع فيه خواطرهم وكما قطع عيسى عليه السلام عذر من كان في زمانه من الأطباء الذين قد برعوا في معرفة العقاقير وقوى ما في الحشائش وقدر ما ينتهي إليه علاجهم وتبلغه حيلهم بإحياء الموتى بغير علاج وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك مما
(7/200)
بهرهم به وأظهر لهم منه ما يعلمون بيسير الفكر أنه خارج عن قدرهم وما يصلون إليه بحيلهم
وكذلك قد أزاح نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن وما فيه من العجائب علل الفصحاء من أهل وقطع به عذرهم لرؤيتهم أنه خارج عما انتهت إليه فصاحتهم في لغاتهم ونظموه في شعرهم وبسطوه في خطبهم وأوضح لجميع من بعث إليه من الفرق التي ذكرناها فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيناته ودل على صحة ما دعاهم إليه ببراهين الله وآياته حتى لم يبق لأحد منهم شبهة فيه ولا احتيج مع ما كان عليه السلام في ذلك إلى زيادة من غيره ولو لم يكن ذلك كذلك لم يكن له عليه السلام حجة على جماعتهم ولا كانت طاعته لازمة لهم مع خصامهم وشدة عنادهم ولكانوا قد احتجوا عليه بذلك ودفعوه عما يوجب
(7/201)
طاعتهم له وقرعوه بتقصيره عن إقامة الحجة عليهم فيما يدعوهم إليه مع طول تحديه لهم وكثرة تبكيتهم وطول مقامه فيهم ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا مع حرصهم عليه
وإذا كان هذا على ما ذكرناه علم صحة ما ذهبنا إليه في دعوته عليه الصلاة والسلام إلى التوحيد وإقامة الحجة على ذلك وإيضاحه الطرق إليها وقد أكد الله تعالى دلالة نبوته بما كان من خاص آياته عليه السلام التي تنقض بها عاداتهم كإطعامه الجماعة الكثيرة في المجاعة الشديدة من الطعام اليسير وسقيهم الماء في العطش الشديد من الماء اليسير وهو ينبع من بين أصابعه حتى رووا ورويت مواشيهم وكلام الذب وإخبار الذراع المشوية أنها مسمومة وانشقاق القمر ومجيء الشجرة إليه عند دعائها إليه ورجوعها إلى مكانها بأمره لها وإخباره لهم عليه
(7/202)
السلام بما تجنه صدورهم وما يغيبون به عنه من أخبارهم
ثم دعاهم عليه السلام إلى معرفة الله عز وجل وإلى طاعته فيما كلف تبليغه إليهم بقوله تعالى { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } سورة التغابن 12 وعرفهم أمر الله بإبلاغه ذلك وما ضمنه له من عصمته منهم بقوله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } سورة المائدة 67 فعصمه الله منهم مع كثرتهم وشدة بأسهم وما كانوا عليه من شدة عنادهم وعداوتهم له حتى بلغ رسالة ربه إليهم مع كثرتهم ووحدته وتبري أهله منه ومعاداة عشيرته وقصد جميع المخالفين له حين سفه آراءهم فيما
(7/203)
كانوا عليه من تعظيم أصنامهم وعبادة النيران وتعظيم الكواكب وإنكار الربوبية وغير ذلك مما كانوا عليه حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة وأوضح الحجة في فساد جميع ما نهاهم مما كانوا عليه ودلهم على صحة جميع ما دعاهم إلى اعتقاده وفعله بحجج الله وبيناته وأنه عليه السلام لم يؤخر عنهم بيان شيء مما دعاهم إليه عن وقت تكليفهم فعله لما يوجبه تأخير ذلك عنهم من سقوط تكليفه لهم وإنما جوز فريق من أهل العلم تأخير البيان فيما أجمله الله من الأحكام قبل لزوم فعله لهم فأما تأخير ذلك عن وقت فعله فغير جائز عند كافتهم
ومعلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليه من واجهه من أمته من اعتقاد حدثهم ومعرفة المحدث لهم وتوحيده ومعرفة أسمائه الحسنى وما هو عليه من صفات نفسه وصفات
(7/204)
فعله وتصديقه فيما بلغهم من رسالته مما لا يصح أن يؤخر عنهم البيان فيه لأنه عليه السلام لم يجعل لهم فيما كلفهم من ذلك من مهلة ولا أمرهم بفعله في الزمن المتراخى عنه وإنما أمرهم بفعل ذلك على الفور وإنما كان ذلك من قبل أنه لو أخر ذلك عنهم لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله وألزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه وهذا غير جائز عليه لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره وسقوط طاعته
ولهذا المعنى لم يوجد عن أحد من صحابته خلاف في شيء مما وقف عليه جماعتهم ولا شك في شيء منه ولا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك ولا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج بل مضوا جميعا على ذلك وهم متفقون لا يختلفون في حدثهم ولا
(7/205)
في توحيد المحدث لهم وأسمائه وصفاته وتسليم جميع المقادير إليه والرضا فيها بأقسامه لما قد ثلجت به صدورهم وتبينوا وجوه الأدلة التي نبههم عليه السلام عليها عند دعائه لهم إليها وعرفوا بها صدقه في جميع ما أخبرهم به وإنما تكلفوا البحث والنظر فيما كلفوه من الاجتهاد في حوادث الأحكام عند نزولها بهم وحدوثها فيهم وردها إلى معاني الأصول التي وقفهم عليها ونبههم بالإشارة على ما فيها فكان منهم رحمة الله عليهم في ذلك ما نقل إلينا عنهم من طريق الاجتهاد التي اتفقوا عليها والطرق التي اختلفوا فيها ولم يقلد بعضهم بعضا في جميع ما صاروا إليه من جميع ذلك لما كلفوه من الاجتهاد وأمروا به فأما ما دعاهم إليه عليه السلام من معرفة حدثهم والمعرفة
(7/206)
بمحدثهم ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وعدله وحكمته فقد بين لهم وجوه الأدلة في جميعه حتى ثلجت صدورهم به واستغنوا عن استئناف الأدلة فيه وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك واتفقوا عليه إلى من جاء بعدهم فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك مقطوعا بما نبههم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأدلة على ذلك وما شاهدوه من آياته الدالة على صدقه وعذر سائر من تأخر عنه مقطوع بنقلهم ذلك إليهم ونقل أهل كل زمان حجة على من بعدهم من غير أن نحتاج أرشدكم الله في المعرفة لسائر ما دعينا إلى اعتقاده إلى استئناف أدلة غير الأدلة التي نبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها ودعا سائر أمته إلى تأملها إذ كان من المستحيل أن يأتي في ذلك أحد بأهدى
(7/207)
مما أتى به أو يصلوا من ذلك إلى ما بعد عنه عليه السلام
وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول مشهور في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك وانقطعوا إلى الاحتياط فيه والاجتهاد في طلب الطرق الصحيحة إليه من المحدثين والفقهاء يعلمه أكابرهم أصاغرهم ويدرسونه صبيانهم في كتاتيبهم لتقرر ذلك عندهم وشهرته فيهم واستغنائهم في العلم بصحة جميع ذلك بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته
واعلموا أرشدكم الله أن ما دل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات بعد تنبيهه لسائر المتكلفين على حدثهم ووجود المحدث لهم قد أوجب صحة أخباره ودل على أن ما أتى به من الكتاب والسنة من عند الله عز وجل وإذا ثبت بالآيات صدقه فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم
(7/208)
عنه وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا وصفات فعله وصار خبره عليه السلام عن ذلك سبيلا إلى إدراكه وطريقا إلى العلم بحقيقته وكان ما يستدل به من أخباره عليه السلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدق الكلام عليها فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها والمعرفة بفساد شبه المنكرين لها والمعرفة بمخالفتها للجواهر في كونها لا تقوم بنفسها ولا يجوز ذلك على شيء منها والمعرفة بأنها لا تبقى والمعرفة باختلاف أجناسها وأنه لا يصح انتقالها من محالها والمعرفة بأن ما لا ينفك منها فحكمه في الحدث حكمها ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة وما
(7/209)
يفسد به شبه المخالفين في جميع ذلك حتى يمكن الاستدلال بها على ما هي أدلة عليه عند مخالفينا الذين يعتمدون في الاستدلال على ما ذكرناه بها لأن العلم بذلك لا يصح عندهم إلا بعد المعرفة بسائر ما ذكرناه آنفا
وفي كل رتبة مما ذكرنا فرق تخالف فيها ويطول الكلام معهم عليها وليس يحتاج أرشدكم الله في الاستدلال بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى مثل ذلك لأن آياته والأدلة على صدقه محسوسة مشاهدة قد أزعجت القلوب وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعو إليه وتأمل ما استشهد به على صدقه والمعرفة بأن آياته من قبل الله تدرك بيسير الفكر فيها وأنها لا يصح أن
(7/210)
تكون من البشر لوضوح الطرق إلى ذلك ولا سيما مع إزعاج الله قلوب سائر من أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم على النظر في آياته بخرق عوائدهم له وحلول ما يعدهم به من النقم عند إعراضهم عنه ومخالفتهم له على ما ذكرنا مما كان من ذلك عند دعوة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم
وإذا كان ذلك على ما وصفنا بان لكم أرشدكم الله أن طرق الاستدلال بأخبارهم عليهم السلام على سائر ما دعينا إلى معرفته مما لا يدرك بالحواس أوضح من الاستدلال بالأعراض إذ كانت أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن اتبعهم من أهل الأهواء واغتروا بها لبعدها عن الشبهة كما ذكرناه وقرب من أخلد ممن ذكرنا إلى الاستدلال به من الشبه وكذلك ما منع الله رسله من الاعتماد
(7/211)
عليه لغموض ذلك على كثير ممن أمروا بدعائهم وكلفوا عليهم السلام إلزامهم فرضه فأخلد سلفنا رحمة الله عليهم ومن اتبعهم من الخلف الصالح بعد ما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما دعاهم إليه من العلم بحدثهم ووجود المحدث لهم بما نبههم عليه من الأدلة إلى التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما دعوا إلى معرفته منها والعدول عن كل ما خالفها لثبوت نبوته عليه السلام عندهم وثقتهم بصدقه فيما أخبرهم به عن ربهم لما وثقته الدلالة لهم فيه وكشفته لهم العبرة وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه وإنما صار من أثبت حدث العالم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم وإذا كان العلم قد حصل لنا بجواز
(7/212)
مجيئهم في العقول وغلط من دفعهم ذلك وبان صدقهم بالآيات التي ظهرت عليهم لم يسع لمن عرف من ذلك ما عرفه أن يعدل عن طرقهم إلى طرق من دفعهم وأحال مجيئهم فلما كان هذا واجبا لما ذكرناه عند سلف الأمة والخلف كان اجتهاد الخلف في طلب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والاحتياط في عدالة الرواة لها واجبا عندهم ليكونوا فيما يعتقدونه من ذلك على يقين
ولذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصا على معرفة الحق من وجهه وطلبا للأدلة الصحيحة فيه حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه وتسكن نفوسهم إلى ما يتدينون به ويفارقوا بذلك من ذمه الله في تقليده لمن يعظمه من سادته بغير دلالة تقتضي ذلك ولما كلفهم الله عز وجل ذلك وجعل أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم
(7/213)
طريقا إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان حفظ أخباره عليه السلام في سائر الأزمنة ومنع من تطرق الشبه عليها حتى لا يروم أحد تغيير شيء منها أو تبديل معنى كلمة قالها إلا كشف الله تعالى ستره وأظهر في الأمة أمره حتى يرد ذلك عليه العربي والعجمي ومن قد أهل لحفظ ذلك من حملة علمه عليه السلام والمبلغين عنه كما حفظ كتابه حتى لا يطيق أحد من أهل الزيغ على تحريك حرف ساكن فيه أو تسكين حرف متحرك إلا يبادر القراء في رد ذلك عليه مع اختلاف لغاتهم وتباين أوطانهم لما أراده الله عز وجل من صحة الأداء عنه ووقوع التبليغ لما أتى به نبينا عليه السلام إلى من يأتي في آخر الزمان
(7/214)
لانقطاع الرسل بعده واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم حتى قد ظهر ذلك بينهم وأيست من نيله خواطر المنحرفين عنه وجعل الله ما حفظه من ذلك وجمع القلوب عليه حجة على من تعبد بعده عليه السلام بشريعته ودلالة لمن دعا إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار وأكمل الله لجميعهم طرق الدين وأغناهم بها عن التطلع إلى غيرها من البراهين
ودل على ذلك بقوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } سورة المائدة
وليس يجوز أن يخبر الله عز وجل عن إكماله الدين مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم الدين به وبين النبي صلى الله عليه وسلم معنى
(7/215)
ذلك في حجة الوداع لمن كان بحضرته من الجم الغفير من أمته عند اقتراب أجله ومفارقته لهم صلى الله عليه وسلم بقوله اللهم هل بلغت
فلو كنا نحتاج مع ما كان منه عليه السلام في معرفة ما دعانا إليه إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال لما كان مبلغا إذ كنا نحتاج في المعرفة بصحة ما دعانا إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها ولو كان هذا كما قالوا لكان فيما دعانا إليه وقوله بمنزلة الملغز ولو كان كذلك لعارضه المنافقون وسائر المرصدين لعداوته في ذلك ولم يمنعهم مانع كما لم يمنعهم من تعنيته في طلب الآيات ومجادلته في سائر الأوقات ولكنهم لم يجدوا سبيلا إلى الطعن لأنه عليه السلام لم يدع شيئا مما بهم الحاجة إليه في معرفة سائر ما دعاهم إلى اعتقاده
(7/216)
أو مثل فعله كذا إلا وقد بينه لهم
ويزيد هذا وضوحا قوله عليه السلام إني قد تركتكم على مثل الواضحة ليلها كنهارها وإذا كان هذا على ما وصفنا علم أنه لم يبق بعد ذلك عتب لزائغ ولا طعن لمبتدع إذ كان عليه السلام قد أقام الدين بعد أن أرسى أوتاده وأحكم أطنابه ولم يدع النبي صلى الله عليه وسلم لسائر من دعاه إلى توحيد الله حاجة إلى غيره ولا لزائغ طعنا عليه ثم مضى صلى الله عليه وسلم محمودا بعد إقامة الحجة وتبليغ الرسالة وأداء الأمانة والنصيحة لسائر الأمة حتى لم يحوج أحدا من أمته إلى البحث عن شيء قد أغفله هو مما ذكره لهم أو معنى أسره إلى أحد من أمته
بل قد قال عليه السلام في المقام الذي لم ينكتم قوله
(7/217)
فيه لاستحالة كتمانه على من حضره أو طي شيء منه على من شهده إني خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي ولعمري إن فيهما الشفاء من كل أمر مشكل والبرء من كل داء معضل وإن في حراستهما من الباطل على ما تقدم ذكرنا له آية لمن نصح نفسه ودلالة لمن كان الحق قصده
قال وفيما ذكرنا دلالة على صحة ما استندوا إلى الاستدلال به وقوة لما عرفوا الحق منه فإذا كان ذلك على ما وصفنا فقد علمتم بهت أهل البدع لهم في نسبتهم لهم إلى التقليد وسوء اختيارهم لهم في المفارقة لهم والعدول عما كانوا عليه معهم وبالله التوفيق وإذ قد بان بما ذكرناه استقامة طرق
(7/218)
استدلالهم وصحة معارفهم فلنذكر الآن ما أجمعوا عليه من الأصول
قلت الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له ووجوب تناهي الحوادث
والفرق بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه بين والذي في القرآن هو الأول لا الثاني كما قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } سورة الطور 35 فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة بل مشهود لا يحتاج إلى دليل وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة
والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لا يحتاج إلى دليل وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة إما بإخبار يفيد العلم الضروري أو غير ذلك من العلوم الضرورية
وحدوث الإنسان من المني كحدوث الثمار من الأشجار وحدوث
(7/219)
النبات من الأرض وأمثال ذلك ومن المعلوم بالحس أن نفس الثمرة حادثة كائنة بعد أن لم تكن وكذلك الإنسان وغيره كما قال تعالى { أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } سورة مريم 67 وقال تعالى { قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } سورة مريم 9
ومعلوم أن هذه المخلوقات خلقت من غيرها كما خلق الإنسان من نطفة والطائر من بيضة والثمر من شجرة والشجرة من نواة والسنبلة من حبة ومعلوم أن ما منه خلق هذا استحال وزال فالحبة التي أنبتت سبع سنابل لم تبق حبة ولم يبق منها شيء بل استحال
وقد تنازع الناس في هذا الموضع فقال طائفة من أهل الكلام هنا أجسام وجواهر منتقلة من حال إلى حال كالاجتماع بعد الافتراق والافتراق بعد الاجتماع وأن تلك الجواهر باقية ولكن تغيرت صفاتها وأعراضها وأنكر هؤلاء أن تكون نفس الأعيان القائمة بنفسها انقلبت حقيقتها فاستحالت ذاتها ولكن تغيرت صفاتها وهذا مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة
وهؤلاء يقولون إنما يعلم بالحس والضرورة حدوث ما يحدث من الأعراض والصفات وأما حدوث شيء من الأجسام القائمة بأنفسها فلا نعلمه إلا بالاستدلال
(7/220)
والذي ذكره الأشعري أولا مبني على هذا الأصل وهو في ذلك موافق لمن قال به من المعتزلة وغيرهم وهذا من البقايا التي بقيت عليه من أصولهم العقلية بعد رجوعه عن مذهبهم وبيانه لبطلان أقوالهم التي أظهروا بها خلاف أهل السنة والجماعة
وجمهور العقلاء من أصناف الناس أهل النظر والفلسفة وغيرهم يقولون إن هذا باطل وأن الأجسام يستحيل بعضها إلى بعض كما يقول ذلك الفقهاء والأطباء وغيرهم وكما يشهد ذلك وإن الحادث هو نفس أعيان الحيوان والنبات لا مجرد صفاتها وينكرون أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة
والمنكرون للجوهر المفرد أكثر طوائف الكلام كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وطائفة من الكرامية مع جمهور الفلاسفة وقالت طائفة من الفلاسفة وغيرهم بل الأجسام التي يستحيل بعضها إلى بعض بينها مادة وهي هيولى مشتركة بينها هي بعينها باقية لم تتبدل وإنما تبدلت الصورة وتلك الهيولى جوهر عقلي
(7/221)
وجمهور العقلاء أيضا ينكرون ذلك وذلك أن المني إذا صار حيوانا والماء هواء والهواء ماء ونحو ذلك فالجسم الثاني له عين وصفات ليست عين الأول ولا صفاته وإنما يشتركان في النوع وهو أن هذا له قدر وهذا له قدر وكل منهما يقبل الاتصال والانفصال لكن ليس عين قدر هذا هو عين قدر هذا ولا نفس ما يقوم به الاتصال والانفصال من أحدهما هو عين الآخر الذي يقوم به الاتصال والانفصال وأحدهما إذا قبل الاتصال والانفصال فهو اجتماعه وافتراقه وذلك عرض له والقابل للاجتماع الذي هو الاتصال هو القابل للافتراق الذي هو الانفصال بمعنى أن نفس القائم به هو هو ولكن تفرق بعد اجتماعه كالثوب والحجر ونحوهما مما يقطع ويكسر وهو كالشمعة التي تختلف صورها وهي هي بعينها وكالفضة التي تختلف صورها مع بقاء عينها فنفس العين التي هي الجوهر والجسم باقية وإنما تغير شكلها وصفتها وذلك هو الصورة العرضية التي تغيرت لم تتغير الحقيقة
ولفظ الصورة لفظ مشترك يراد بالصورة الشكل والهيئة كصورة الخاتم والشمعة والمادة الحاملة لهذه الصورة هي الجسم بعينه
ويراد بالصورة نفس الجسم المتصور وهذا الجسم المتصور
(7/222)
ليس له مادة تحمله فإن الجسم القائم بنفسه لا يكون شائعا في جسم قائم بنفسه لكن خلق من مادة كما خلق الإنسان من المني وهذه المادة لا تبقى مع وجود ما خلق منها بل تفنى وتعدم شيئا فشيئا وهذا هو العدم المشهود في الأعيان فإن الله تعالى كما ينشىء ما يخلقه شيئا فشيئا فيفني ما يعدمه شيئا فشيئا وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
وإذا كان كذلك فالطريقة المذكورة في القرآن هي المعلومة بالحس والضرورة ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان بل يستدل بذلك على وجود المحدث تعالى
وأما المعتزلة والجهمية ومن تبعهم فطريقتهم المشهورة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع هي الاستدلال بإثبات الأعراض أولا وإثبات حدوثها ثانيا وبيان استحالة خلو الجواهر عنها ثالثا وبيان استحالة حوادث لا أول لها رابعا وقد وافقهم عليها أكثر الأشعرية وغيرهم وهذه هي التي ذمها الأشعري وبين أنها ليست طريقة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا من اتبعهم وإنما سلكها من يخالفهم من الفلاسفة وأتباعهم المبتدعة كما تقدم وقد تقدم نقل كلامه في ذلك وهو المقصود وكلامه يقتضي أنها محرمة في الدين
(7/223)
مبتدعة لا حاجة إليها لطول مقدماتها وغموضها وما فيها من النزاع وهذا هو الذي قصدناه وهو أنه نقل اتفاق السلف على الاستغناء عن هذه الطريقة واما بطلانها فذاك مقام آخر ليس في كلامه تعرض لذلك ولهذا كان ما سلكه هو من جنس هذه الطريق
قال الشهرستاني في مسألة حدوث العالم وللمتكلمين طريقان في المسألة إحداهما إثبات حدوثه والثاني إبطال القول بالقدم أما الأول فقد سلك عامتهم طريق الإثبات بإثبات الأعراض كما تقدم ذكره قال وأما الثاني فقد سلك شيخنا أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه طريق الإبطال فقال لو قدرنا قدم الجواهر لم يخل من أمور إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو بعضها مجتمعا وبعضها مفترقا وبالجملة ليس يخلو من اجتماع وافتراق
(7/224)
وجواز طريان الاجتماع والافتراق عليها أو تبدل بعضها ببعض وهي بذاتها لا تجتمع ولا تفترق لأن حكم الذات لا يتبدل فلا بد إذا من جامع فارق
قال وقد أخذ الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني هذه الطريق فكساها عبارة أخرى
قلت هذه الطريقة إنما أراد بها امتناع قدم جميع الجواهر فهي مبنية على إثبات الجوهر الفرد حتى يمكن أن يفرض إمكان اجتماع الجواهر وافتراقها وإلا فإذا قيل إن من الأجسام ما هو واحد في نفسه أو كل جسم متشابه فهو واحد في نفسه أو قيل إنه مركب من المادة والصورة لم يلزم الافتراق فيما هو واحد في نفسه ولا يسلم المنازع إمكان افتراق كل جسم فيمنع قوله
(7/225)
لا يخلو من اجتماع وافتراق وجواز طريان الاجتماع والافتراق بل ويمكن مع هذا أن يقال هي مركبة من الجواهر ويمنع قبول كل منهما للافتراق لكن يبنيه على أن الجواهر متماثلة فما جاز على أحدهما جاز على الآخر
ولا ريب أن تماثل الجواهر والأجسام إن سلمه المنازع كان القول بحدوث الأجسام كلها ظاهرا فإن منها ما هو حادث قطعا فيكون جميعها قابلا للحدوث وما قبل الحدوث لم يكن بنفسه موجودا فلا بد له من صانع وهو الذي سماه جامعا فارقا
لكن هم يقولون إن الحادث المعلوم حدوثه هو الأعراض وحينئذ فلا يكون في الجواهر ما يعلم حدوثه إلا بالدليل وإن أراد بها امتناع قدم بعض الجواهر فهذا لا ينازعه فيه من يقول إن الأعيان المحدثة جواهر وهم أكثر العقلاء فإنه من المعلوم بالاضطرار حدوث ما يشهد حدوثه من الحيوان والنبات والمعدن لكن من يقول بأن الأجسام مركبة من جواهر قد يقول إن المحدث تأليف وتركيب وهي أعراض واما جمهور العقلاء فيقولون إن المحدث المشهود جواهر قائمة بأنفسها
فالمقصود أن من قال الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة فهذه الحجة توجب أنه لا بد لذلك التركيب من مركب
وكلام الأشعري الذي ذكره الشهرستاني مبني على هذا الأصل ومن نازع في ذلك لم يفده شيئا
(7/226)
وإذا دلت هذه الحجة فإنما تدل على حدوث التركيب الذي هو عرض لا تدل على حدوث الجواهر إلا بالطريقة الأولى وهي إثبات حدوث التركيب وامتناع حوادث غير متناهية وهذه الطريقة تسلكها الكرامية ونحوهم ممن يقول إن الله جسم قديم أزلي وإنه لم يزل ساكنا ثم تحرك لما خلق العالم ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة فهي تقبل الاجتماع والافتراق ولا تخلوا من اجتماع وافتراق وهي أعراض حادثة لا تخلو منها وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق ولكنه لم يزل ساكنا والسكون عندهم أمر عدمي وهو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة وهؤلاء يقولون إن الباري لم يزل خاليا من الحوادث حتى قامت به بخلاف الأجسام المركبة من الجواهر المفردة فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق
قال الشهرستاني وربما سلك أبو الحسن طريقا في حدوث الإنسان بكونه من نطفة أمشاج وتقلبه في أطوار الخلقة وأكوار الفطرة وليس يشك في أنه ما غير ذاته ولا بدل
(7/227)
صفاته لا الأبوان ولا الطبيعة فتعين احتياجه إلى صانع مدبر قال وما ثبت من الأحكام لشخص واحد أو لجسم واحد ثبت في الكل لاشتراك الكل في الجسمية
قال الشهرستاني وهذه الطريقة تجمع الإثبات والإبطال
قلت هذه الطريقة هي المتقدمة التي ذكرها الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وهي مبنية على أنه أثبت حدوث الإنسان بما فيه من اختلاف الصور والهيئات ولهذا قال إنه سلك طريقا في إثبات حدوث الإنسان فجعل حدوثه هو المدلول وجعل الدليل اختلاف الصور عليه وقد جعل الصورة الحادثة دليلا على حدوث المتصور ولا بد في هذه الطريقة من بيان امتناع حوادث لا أول لها فهذه الطريقة من جنس طريقة الأعراض لكنها أخص دليلا ومدلولا فإن الهيئات أخص ومدلولها إنما هو حدوث ما حدثت هيئته ودليل أولئك يعم ولكن الأشعري عدل عن طريقة غامضة إلى طريقة واضحة وهي الطريقة هي التي يسميها الرازي وأمثاله الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض القائمة بالأجسام فإنهم يقولون في
(7/228)
الاستدلال على وجود الصانع ما قاله الرازي في نهاية العقول وغيره
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما ذكره من ذلك في الأربعين وقال في النهاية اعلم أن الاستدلال على ما لا يعلم بالضرورة إنما يكون بما يعلم بالضرورة والمعلوم بالضرورة الأجسام والأعراض القائمة بها وكل منهما إما أن يعتبر إمكانه أو حدوثه فلا جرم كانت الأدلة الدالة على الصانع تعالى هذه المسالك الأربعة
وذكر أن الأول هو الاستدلال بحدوث الأجسام لقيام الأعراض بها أو بعضها بها فهذه هي الطريقة المشهورة عند الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية ومن دخل في ذلك من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم
(7/229)
وهذه هي التي ذكر الأشعري أنها طريقة الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وذكر أنها مبتدعة مذمومة في الدين لم يسلكها السلف الصالح وذكر أنها خطرة مبتدعة وأنه لا حاجة إليها
قال الرازي والثاني الاستدلال بإمكان الأجسام على وجود الصانع تعالى
قال وهذه عمدة الفلاسفة
قلت هذه طريقة ابن سينا ومن وافقه ليست طريقة قدماء الفلاسفة وهي مبنية على أصلهم الفاسد في التوحيد ونفي الصفات الذي بين الناس فساده وتناقضهم فيه وهو طريقة التركيب الذي يقولون إن المتصف بالصفات مركب والمركب مفتقر إلى أجزائه قد تكلمنا عليها في مواضع
قال الرازي والمسلك الثالث الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة أو ممكنة قديمة أو حادثة
(7/230)
قلت وهذه الحجة مبنية على تماثل الأجسام وقد بين الناس فساد هذه الحجة وبين الرازي نفسه فسادها بل وجمهور العقلاء على فسادها وقد بين ذلك في موضع آخر على وجه لا يبقى في القلب شبهة
قال الرازي والمسلك الرابع الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع ولنفرض الكلام في أعراض لا يقدر عليها البشر مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء إنسانا فإذا كانت تلك التركيبات أعراضا حادثة والعبد غير قادر عليها فلا بد من فاعل آخر ثم من ادعى أن العلم بحاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة هاهنا ومن بنى ذلك على الإمكان أو على القياس على حدوث الذوات فكذلك يقول في حدوث الصفات
قال والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسما والثاني لا يقتضي ذلك
قلت قد ذكرنا في غير موضع أن هذا المسلك صحيح لكن
(7/231)
الرازي قصر فيه من وجهين أحدهما أنه لا يستدل بنفس الحدوث بل يجعل الحدوث دليلا على إمكان الحادث ثم يقول والممكن لا بد له من مرجح وهذا الإمكان الذي يثبته هو الإمكان الذي يثبته ابن سينا وهو الإمكان الذي يشترك فيه القديم والحادث فجعل القديم الأزلي ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مما خالفوا فيه سلفهم وسائر العقلاء فإنهم متفقون على أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا
وابن سينا وأتباعه يوافقون الناس على ذلك لكن يتناقضون وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع كما تكلمنا على ذلك فيما ذكره الرازي في إثبات الصانع في أول المطالب العالية وأول الأربعين وبينا فساد ذلك وأنه على هذا التقدير لا ينفى لهم دليل على إثبات واجب الوجود
الوجه الثاني أنه جعل ذلك استدلالا بحدوث الصفات والأعراض ليس بمستقيم بل هو مبني على مسألة الجوهر الفرد وقد ذكرنا في غير موضع أن هؤلاء بنوا مثل هذا الكلام على مسألة الجوهر الفرد وأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة وأن الحادث إنما هو اجتماع الجواهر وافتراقها وحركتها وسكونها وهذه الأربعة هي الأكوان عندهم أو حدوث غير ذلك من الأعراض فيجعلون تبديل الأعيان وإحداثها إنما هو تبديل أعراض وإحداثها
(7/232)
وقد قابلهم في ذلك طائفة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله فجعلوا الصور كلها جواهر كما جعل أولئك الصور كلها أعراضا وذلك أن هؤلاء المتفلسفة نظروا في المصنوعات كالخاتم والدرهم والسيف والسرير والبيت والثور ونحو ذلك مما يؤلفه الآدميون ويصورونه فوجدوها مركبة من مادة كالفضة ويسمونها أيضا الهيولى والهيولى في لغتهم معناه المحل وتصرفهم فيه بحسب عرفهم الخاص كتصرف متكلمي العرب في اللغة المعربة فهذه المصنوعات مركبة من مادة هي المحل ومن صورة وهي الشكل الخاص وهذا نظر صحيح
ثم زعموا أن صور الحيوان والنبات والمعدن لها مادة هي هيولاها كذلك وأن النار والهواء والتراب لها أيضا مادة هي هيولاها ومنهم من قال جميع الأجسام لها مادة مشتركة وهي هيولاها وجعلوا الهيولى ثلاث مراتب صناعية وطباعية وكلية وتنازعوا هل تنفرد المادة الكلية عن الصور فتكون الهيولى مجردة عن الصور على قولين
وإثبات هذه المادة المجردة يذكر عن شيعة أفلاطن وإنكار ذلك قول أصحاب أرسطو
(7/233)
والتحقيق أن الصور الصناعية إنما هي أعراض وصفات قائمة بالأجسام كالفضة والحديد والخشب والغزل واللبن ونحو ذلك وأما الحيوان والنبات والمعدن فهي جواهر استحالت عن جواهر أخرى وإثبات مادة مشتركة بينها باقية مع اختلاف الصور عليها قول باطل كما أن إثبات أولئك للجوهر الفرد قول باطل
والذين قالوا إن بدن الإنسان وأمثاله من المحدثات إنما حدثت أعراضه لم تحدث عين قائمة أخطأوا والذين قالوا إن جميع الصور جواهر أخطأوا بل الصورة قد تكون عرضا كالشكل والصور الصناعية من هذا الباب
وقد يعبر بالصورة عن نفس الشيء المصور كالإنسان فالصورة هنا جوهر قائم بنفسه ليس قائما بجوهر آخر
والقرآن العزيز ذكر خلق الله تعالى لما خلقه من الجواهر التي هي أعيان قائمة بأنفسها مع ما نشهده من إحداث الصفات والأعراض أيضا والاستدلال بذلك على الخالق سبحانه وجعل ذلك من آياته هو مما بينه القرآن
(7/234)
ولكن هؤلاء لم يسلكوا طريقة القرآن من وجهين أحدهما أنهم جعلوا الحوادث إنما هي أعراض لا أعيان كما جعله الرازي وغيره
لكن الرازي وغيره مع ذلك استدلوا بذلك على إثبات الصانع فكان دليلا صحيحا في نفسه وإن كان فيه تقصير من ذلك الوجه ومن حيث رد ذلك إلى طريقة الإمكان
الثاني ما ذكره الأشعري حيث إنه استدل بذلك على حدوث محل هذه الصفات والأعراض بناء على أن الحادث صورة هي عرض ولها محل فتكون الأجسام التي هي محل هذه الأعراض حادثة وهذا لا يتم إلا ببيان امتناع حوادث لا أول لها ثم إذا أراد أن يستدل بذلك على حدوث سائر الأجسام احتاج أن يبنيه على تماثل الأجسام
وهذه ثلاث مقدمات ينازعهم فيها أكثر العقلاء بل يبينون فسادها بصريح المعقول فهي من جنس طريقة المعتزلة لكن مقصود الأشعري أن هذه الطريقة تغني الناس عن تلك الطريقة الطويلة
الكثيرة المقدمات الغامضة التي يقع فيها نزاع فإذا كانت الطريقتان مشتركتين في البناء على امتناع حوادث لا أول لها وهذه الطريقة لا تحتاج إلى ما تحتاج إليه تلك فكانت هذه أقرب وأيسر فبحث الأشعري مع المعتزلة في هذه الطريقة من جنس بحوثه
(7/235)
معهم في غير ذلك من أصولهم فإنه يبين تناقضهم ويلزمهم فيما نفوه نظير ما يلزمونه لأهل الإثبات فيما أثبتوه فيستفاد من مناظرته لهم معرفة فساد كثير من أصولهم ولكن سلم لهم أصولا وافقهم عليها مثل تسليمه لهم صحة طريق الأعراض مع طولها ومثل إثباته للصانع بهذه الطريق التي هي من جنسها وبنى ذلك على إثبات الجوهر الفرد فلزم من تسليمه ذلك لهم لوازم أراد أن يجمع بينها وبين ما أثبته من الرؤية وإثبات الكلام والصفات والعلو لله تعالى فقال جمهور طوائف العقلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم ومن المعتزلة والفلاسفة وغيرهم إن هذا مناقضة مخالفة لصريح المعقول
ولهذا قال من قال بقيت عليه بقية من الاعتزال وقالوا إنه وافقهم على بعض أصولهم التي بنوا عليها قولهم كهذا الأصل
وهذا مثل ما ذكره أبو نصر السجزي في الإبانة قال حكى محمد بن عبد الله المغربي المالكي وكان فقيها صالحا عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذه خلف المعلم وكان من فقهاء المالكيين قال أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول
قال أبو نصر وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وغوره
(7/236)
قلت ليس مراده بالأصول ما أظهروه من مخالفة السنة فإن الأشعري مخالف لهم فيما أظهروه من مخالفة السنة كمسألة الرؤية والقرآن والصفات ولكن أصولهم الكلامية العقلية التي بنوا عليها الفروع المخالفة للسنة مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات الصانع فإن هذا أصل أصولهم كما قد بينا كلام أبي الحسين البصري وغيره في ذلك وأن الأصل الذي بنت عليه المعتزلة كلامها في أصول الدين هو هذا الأصل الذي ذكره الأشعري لكنه مخالف لهم في كثير من لوازم ذلك وفروعه وجاء كثير من أتباعه المتأخرين كأتباع صاحب الإرشاد فأعطوا الأصول التي سلمها للمعتزلة حقها من اللوازم فوافقوا المعتزلة على موجبها وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه فنفوا الصفات الخبرية ونفوا العلو وفسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة وقالوا ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى وإنما خلافهم مع المجسمة وكذلك قالوا في القرآن إن القرآن الذي قالت المعتزلة إنه مخلوق نحن نوافقهم على خلقه ولكن ندعي ثبوت معنى آخر وأنه واحد قديم
والمعتزلة تنكر تصور هذا بالكلية وصارت المعتزلة والفلاسفة مع جمهور العقلاء يشنعون عليهم بمخالفتهم لصريح العقل ومكابرتهم للضروريات
(7/237)
وسبب ذلك تسليمهم لهم صحة تلك الأصول التي ذكر الأشعري أنها مبتدعة في الإسلام مع أنه يمكن بيان أن قول الأشعري وأصحابه أقرب إلى صريح المعقول من قول المعتزلة كما يمكن أن يبين أن قول المعتزلة أقرب إلى صريح المعقول من قول الفلاسفة لكن هذا يفيد أن هذا القول أقرب إلى المعقول وإلى الحق لا يفيد أنه هو الحق في نفس الأمر فهذا ينتفع به من ناظر الطاعن على الأشعرية من المعتزلة والطاعن على المعتزلة من الفلاسفة فتبين له أن قول هؤلاء خير من قول أصحابك فإنه كما أن كل من كان أقرب إلى السنة فقوله أقرب إلى الأدلة الشرعية فكذلك قوله أقرب إلى الأدلة العقلية
ولا ريب أن هذا مما ينبغي سلوكه فكل قول أو قائل كان إلى الحق أقرب فإنه يبين رجحانه على ما كان عن الحق أبعد ألا ترى أن الله تعالى لما نصر الروم على الفرس وكان هؤلاء أهل كتاب وهؤلاء أهل أوثان فرح المؤمنون بنصر الله لمن كان إلى الحق أقرب على من كان عنه أبعد وأيضا فيمكن القريب إلى الحق أن ينازع
(7/238)
البعيد عنه في الأصل الذي احتج به عليه البعيد وأن يوافق القريب إلى الحق للسلف الأول الذين كانوا على الحق مطلقا
مثال ذلك أن متأخري الأشعرية إذا ناظروا المعتزلة في مسألة الرؤية وقالت لهم المعتزلة رؤية مرئي لا يواجه ولا يقابل مخالف لصريح العقل أمكن الأشعرية ومن وافقهم على نفي المقابلة والمواجهة كطائفة من أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب الأئمة الأربعة أن يقولوا لهم الرؤية ثابتة بالسنة المستفيضة بل المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبإجماع السلف من أهل العصر الأول ويمكن تقريرها أيضا بالعقل كما بيناه في غير هذا الموضع فلا يخلو مع ذلك إما أن يمكن الرؤية بدون المواجهة والمقابلة وإما أن لا يمكن فإن أمكن ذلك انقطعت المعتزلة وإن لم يمكن كانوا بين أمرين إما موافقة المعتزلة على نفي المقابلة لانتفاء المباينة والعلو وإما موافقة أهل الحديث على المباينة والعلو المتضمن معنى المقابلة والمواجهة
وهذا أولى باتباع الأشعري لأنه قول أئمة مذهبهم كابن كلاب وغيره بل وقول الأشعري أيضا وغيره من قدماء الأصحاب
فإن قال له المعتزلي إذا قلت ذلك لزمك أن يكون متحيزا وأنت قد وافقتني على بطلان ذلك أمكن الأشعري أن يقول له إما أن يكون علوه على العرش ومباينته للخلق مع نفي التحيز ممكنا وإما أن
(7/239)
لا يكون فإن كان ممكنا انقطع المعتزلي وإن لم يكن ممكنا قال له أنا وافقتك على نفي التحيز لاعتقادي صحة الدليل الدال على أن كل متحيز فهو محدث لما اتفقنا عليه من أن المتحيز لا بد أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة فيصح عليه الاجتماع والافتراق ويصح عليه الحركة والسكون وكل ما قبل ذلك لم يخل من الحوادث والحوادث يجب أن تكون متناهية لها انتهاء وما كان مستلزما لما له انتهاء كان له ابتداء فإذا كان المتحيز لا ينفك عما له ابتداء كان له ابتداء لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع
فيقول الأشعري هذا الدليل إن كان صحيحا ودليل الرؤية والعلو والمباينة أيضا صحيح أمكن أن أقول بموجب ذلك وأثبت العلو والرؤية والمباينة بدون التحيز وإن قدر أنه لا يمكن الجمع بين هذين فموافقتي للسلف والأئمة في إثبات الرؤية والعلو والمباينة مع موافقتي للكتاب والسنة أولى من موافقتك على هذه المقدمة وهي امتناع وجود ما لا يتناهى فإن هذه المقدمة لكل طائفة فيها قولان فللفلاسفة فيها قولان وللمعتزلة فيها قولان وللأشعرية فيها قولان ولأهل السنة والحديث والفقه فيها قولان
وأكثر العقلاء على جواز وجود ما لا يتناهى في الجملة لكن منهم
(7/240)
من يجوز ذلك في الماضي كما يجوزه في المستقبل ومنهم من يجوزه في المستقبل دون الماضي والأدلة الدالة على امتناع ذلك قد عرف ضعفها
ويقول له وقد علمت بالاضطرار أن تصديق السلف للرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مبنيا عليها فلا يكون العلم بصدق الرسول موقوفا عليها ولا علمي أيضا بصدق الرسول موقوفا عليها ولا معرفتي للصانع تعالى موقوفة عليها
وليست هذه الطرق وأمثالها هي الطرق العقلية التي دل القرآن عليها وأرشد إليها فإن تلك طرق صحيحة عقلية لا يمكن عاقلا أن ينازع فيها فإن حدوث المحدثات مشهود معلوم بالحس وافتقار المحدث إلى محدث معلوم بضرورة العقل بل العقل الصريح يعلم افتقار كل ما يعلم حدوثه إلى محدث كما يعلم افتقار جنس المحدثات إلى محدث فتعلم الأعيان الجزئية الموجودة في الخارج كما تعلم القضية الكلية الشاملة لها إلى سائر ما في هذا الباب من الآيات الدالة على معرفة الصانع سبحانه كما قد بسط في موضعه
(7/241)
وإذا كان كذلك تبين أن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ليس موقوفا على شيء من المقدمات المناقضة لإثبات الصفات الخبرية والرؤية والعلو على العرش ونحو ذلك مما دل عليه السمع وهو المطلوب فصل
ومما يوضح ذلك أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام في إثبات الصانع التي أحدثها المعتزلة والجهمية وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية وغيرهم من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم قد طعن فيها جمهور العقلاء فكما طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم وذموا أهل الكلام بها كذلك طعن فيها حذاق الفلاسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن العزيز أصح منها وإن كان أولئك المعتزلة والأشعرية أقرب إلى الإسلام من هؤلاء الفلاسفة من وجه آخر
فأما ذم السلف والأئمة لهذا الكلام فمشهور كثير وقد قال أبو القاسم ابن عساكر في كتابه المعروف بتبيين كذب المفترى فيما ينسب إلى الأشعري فإن قيل غاية ما تمدحون به أبا الحسن أن تثبتوا أنه
(7/242)
متكلم وتدلونا على أنه بالمعرفة برسوم الجدل متوسم ولا فخر في ذلك عند العلماء من ذوي التسنن والاتباع لأنهم يرون أن من تشاغل بذلك من أهل الابتداع فقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين وذم أهل الكلام ولو لم يذمهم غير الشافعي لكفى فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم وشفى وأنتم تنتسبون إلى مذهبه فهلا اقتديتم في ذلك به
ثم روى ابن عساكر بإسناده عن الفريابي حدثني بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب غريب الحديث كذب ومن طلب المال بالكيمياء أفلس قال البيهقي وروى هذا أيضا عن مالك بن أنس وقال قال البيهقي وإنما يريد والله أعلم بالكلام
(7/243)
كلام أهل البدع فإن في عصرهما إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع فأما أهل السنة فقلما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد
قال ابن عساكر وأما قول الشافعي فأخبرنا فلان وذكر من كتاب مناقب الشافعي لعبد الرحمن بن أبي حاتم ثنا يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه سوى الشرك خير له من الكلام ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك قال ابن أبي حاتم ثنا أحمد بن أصرم المزني قال قال أبو ثور سمعت الشافعي يقول ما تردى أحد بالكلام فأفلح
(7/244)
وقال ابن أبي حاتم ثنا الربيع قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام فصاح فقال إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوموا عنا وروى أيضا عن ابن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول لو علم الناس ما في الكلام في الأهواء لفروا منه كما يفر من الأسد
قال ابن عساكر فإنما عن الشافعي الكلام البدعي المخالف عند اعتباره للدليل الشرعي
قال وقد بين زكريا بن يحيى الساجي في روايته هذه الحكاية عن الربيع أنه أراد بالنهي عن الكلام قوما تكلموا في القدر ولذلك حكم بالتبديع ويدل عليه ما أخبرنا فلان وروى بإسناده عن محمد بن إسحاق بن خزيمة سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول جئت الشافعي بعد ما كلم حفصا الفرد فقال غبت عنا يا
(7/245)
أبا موسى لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام
قال فالشافعي إنما عنى بمقالته كلام حفص القدري وأمثاله
قلت حفص الفرد لم يكن من القدرية وإنما كان على مذهب ضرار بن عمرو الكوفي وهو من المثبتين للقدر لكنه من نفاة الصفات وكان أقرب إلى الإثبات من المعتزلة والجهمية
وقد ذكر ذلك الأشعري في المقالات فقال ذكر الضرارية أصحاب ضرار بن عمرو والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة قوله إن أعمال العباد مخلوقة وإن فعلا واحدا لفاعلين أحدهما خلقه وهو الله والآخر اكتسبه وهو العبد وإن الله فاعل لأفعال العباد في الحقيقة وهم فاعلون لها في
(7/246)
الحقيقة وكان يزعم أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل وأنها بعض المستطيع وأن الإنسان أعراض مجتمعة وكذلك الجسم أعراض مجتمعة وأن الأعراض قد يجوز أن تنقلب أجساما وكان يزعم أن كل ما تولد عن فعله كالألم الحادث عن الضربة وذهاب الحجر الحادث عن الدفعة فعل لله سبحانه وللإنسان وكان يزعم ان معنى أن الله عالم قادر أنه ليس بجاهل ولا عاجز وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه
قال وكان يزعم أن الله سخلق حاسة سادسة يوم القيامة للمؤمنين يرون بها ماهيته أي ما هو
قال وقد تابعه على ذلك حفص الفرد وغيره
فهذا الذي ذكره الأشعري من قول ضرار وحفص الفرد في القدر هو مخالف لقول المعتزلة بل هو من أعدل الأقوال وأشبهها وقوله إلى قول الأشعري وأصحابه في القدر والرؤية أقرب من قوله إلى قول المعتزلة بل هو في القدر أقرب إلى قول أهل الحديث والفقهاء وسائر أهل السنة
(7/247)
وأعدل من قول الأشعري حيث جعل العبد فاعلا حقيقة وأثبت استطاعتين ونحو ذلك مما أثبته أئمة الفقهاء وأهل الحديث كما هو مذكور في موضعه
قال ابن عساكر فأما الكلام الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الأصول عند الفتنة فهو محمود عند العلماء
وروي عن ابن خزيمة سمعت الربيع يقول لما كلم الشافعي حفصا الفرد فقال حفص القرآن مخلوق قال له الشافعي كفرت بالله العظيم
وعن الربيع قال حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب ألا إني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم فقال ما تقول
(7/248)
في القرآن فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه فكلاهما أشار إلى الشافعي فسأل الشافعي واحتج عليه فطالت فيه المناظرة فقام الشافعي بالحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفر حفصا الفرد قال الربيع فلقيت حفصا في المسجد بعد فقال أراد الشافعي قتلي
وروي عن الشافعي قال ما ناظرت أحدا أحببت أن يخطىء إلا صاحب بدعة فإني أحب أن ينكشف أمره للناس
قال البيهقي إنما أراد الشافعي بهذا الكلام حفصا الفرد وأمثاله من أهل البدع وهكذا مراده بكل ما حكي عنه من ذم الكلام وذم أهله غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده
(7/249)
وروى البيهقي عن أبي الوليد بن الجارود قال دخل حفص الفرد على الشافعي فقال لنا لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه وكان يقول بخلق القرآن
قلت حفص الفرد كما هو معروف عند أهل العلم بمقالات الناس بإثبات القدر فهو من نفات الصفات القائلين بأن الله تعالى لا تقوم به صفة ولا كلام ولا فعل وأصل حجتهم في ذلك هو دليل الأعراض المتقدم فإن القرآن كلام والكلام عندهم كسائر الصفات والأفعال لا يقوم إلا بجسم والجسم محدث فكان إنكار الشافعي عليه لأجل الكلام الذي دعاهم إلى هذا لم تكن مناظرته له في القدر ومن ظن أن الشافعي ناظره في القدر فقد أخطأ خطأ بينا فإن الناس كلهم إنما نقلوا مناظرته له في القرآن هل هو مخلوق أم لا
وأهل المقالات متفقون على أن حفصا لم يكن من نفاة القدر بل من
(7/250)
مثبتيه وقد ظن البيهقي وغيره أنه إنما ذم مذهب القدرية فقال وإنما ذم الشافعي مذهب القدرية ألا تراه قال بشيء من هذه الأهواء واستحب ترك الجدال فيه وكأنه سمع ما رويناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم الحديث أو غير ذلك من الأخبار الواردة في معناه وعلى مثل ذلك جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما في كتاب الله ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على إثبات القدر لله تعالى وأنه لا يجري في ملكوت السماوات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته وكذلك في سائر مسائل
(7/251)
الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم حتى حدثت طائفة سموا ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها وقالوا نترك القول بالأخبار أصلا وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم فقام جماعة من أئمتنا بهذا العلم وبينوا لمن وفق للصواب ورزق الفهم أن جميع ما ورد في تلك الأخبار صحيح في المعقول وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في المعقول وحين أظهروا بدعهم وذكروا ما اغتر به أهل الضعف من شبههم أجابوهم فكشفوا عنها بما هو حجة عندهم كما فعل الشافعي فيما حكينا عنه لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما في ترك إنكار المنكر والسكوت عنه من الفساد والتعدي وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة وكانوا لا يتسمون بتسميتهم
قال وإنما يعنى والله أعلم بقوله من ارتدى بالكلام لم يفلح كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معولهم
(7/252)
عقولهم وأخذوا في تسوية الكتاب عليها وحين حملت عليهم السنة بزيادة بيان لنقض أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا عنها
قال فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل
إلى أن قال البيهقي وفي كل هذا دلالة أن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة ويبين بالعقل والعبرة فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم
قال وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز شيخ مالك بن أنس أستاذ الشافعي بصيرا بالكلام والرد على أهل الأهواء
وروى من تاريخ يعقوب بن سفيان عن ابن وهب قال
(7/253)
قال مالك كان ابن هرمز رجلا كنت أحب أن أقتدي به وكان قليل الكلام قليل الفتيا شديد التحفظ وكان كثيرا ما يفتي الرجل ثم يبعث في إثره فيرده إليه حتى يخبره بغير ما أفتاه
قال وكان بصيرا بالكلام وكان يرد على أهل الأهواء وكان من أعلم الناس بما اختلف فيه الناس من هذه الأهواء
وروى ابن عساكر من طريق البيهقي عن الحاكم سمعت أبا بكر بن عبد الله بن يوسف الحفيد من أصل كتابه سمعت الحسين بن الفضل البجلي يقول دخلت على زهير بن حرب بعد ما قدم من عند المأمون وقد امتحنه فأجاب إلى ما سأله وكان أول ما قال لي يا أبا علي تكتب عن المرتدين فقلت معاذ الله ما أنت بمرتد وقد قال الله تعالى { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } سورة النحل 106 فوضع الله عن المكره ما يسمعه في القرآن ثم سألته عن أشياء يطول ذكرها فقال أشدها
(7/254)
علينا أن قال لنا ما تقولون في عيسى صلى الله عليه وسلم قلنا من عيسى يا أمير المؤمنين قال عيسى بن مريم قلنا رسول الله قال وكلمته قلنا نعم قال فما تقولون فيمن قال ليس عيسى كلمة الله قلنا كافر يا أمير المؤمنين قال فقال لنا أليس عيسى كلمة الله قلنا بلى قال أفمخلوق أم غير مخلوق قلنا مخلوق قال فمن زعم أنه غير مخلوق قلنا كافر يا أمير المؤمنين قال فما تقولون في القرآن قلنا كلام الله عز وجل قال مخلوق أو غير مخلوق قلنا غير مخلوق قال فمن زعم أنه مخلوق قلنا كافر قال فمن زعم أن عيسى غير مخلوق وهو كلمة الله قلنا كافر قال يا سبحان الله عيسى كلمة الله ومن نفى الخلق عنه كافر والقرآن كلمة الله ومن يثبت الخلق عليه كافر قال الحسين فأعلمته ما يجب من القول وقلت له قد كان المكي يختلف إليكم ويقول لكم إني أعلم من هذا الباب ما لا تعلمون فتعلموا ذلك مني فتحملكم الرياسة على ترك ذلك ويقول لكم يكون لكم ما تعلمتموه مني عدة تعتدونها لأعدائكم فإن هجموا لم تحتاجوا إلى طلب العدة وإن لم يحضركم الأعداء لم يضركم الإعداد للعدة
(7/255)
فتأبون ذلك والحجة في هذا الباب كيت وكيت
فقال والله وددت أني كنت أعلم هذا كما تعلمه يوم دخلت على المأمون وأن ثلث روايتي ساقطة عني ثم نظر إلى يحيى بن معين وهو معه فقال له وأنا أقول كما تقول فقال لي زهير فعلم ابني فإنه حدث فخلوت به في المسجد فعلمته ذلك ثم انصرفت
قال الحاكم الحسين بن الفضل البجلي صاحب عبد العزيز المكي المقدم في معرفة الكلام ه
قلت هذه الحكاية وقع فيها تغيير إن كان أصلها صحيحا فإن زهير بن حرب ويحيى بن معين ونحوهما ممن امتحن في زمن المحنة لم يجتمعوا بالمأمون ولا ناظرهم بل ذهب إلى الثغر بطرسوس وكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب أن يمتحن الناس فامتنعوا من الإجابة فكتب إليه كتابا ثانيا يغلظ فيه ويأمر بقتل القاضيين بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق إن لم يجيبا ويأمر بتقييد من لم يجب من العلماء فامتنع من الإجابة سبعة منهم زهير بن حرب المذكور ثم أجاب بعد القيد خمسة منهم
(7/256)
زهير بن حرب وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح لم يجيبا فحملا إليه مقيدين فمات محمد بن نوح في الطريق ومات المأمون قبل وصول أحمد بن حنبل إليه
وهذا كله معلوم عند أهل العلم بذلك لم يختلفوا في ذلك فإن كانت قد جرت مناظرة مع زهير بن حرب فلعل ذلك كان مع غير المأمون ولعل ذلك كان بين يدي نائبه إسحاق بن إبراهيم فإنه هو الذي باشرهم بالمحنة وإنما الذي ناظر الجهمية في المحنة هو أحمد بن حنبل وكان ذلك في خلافة المعتصم بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها من الجهمية والمعتزلة والنجارية مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وناظرهم ثلاثة أيام وقطعهم في تلك المناظرات كما قد شرحنا تلك المناظرت في غير هذا الموضع
وهذه الحجة التي ذكرت في حكاية زهير بن حرب ذكرها الإمام أحمد وتكلم عليها فيما كتبه في الرد على الجهمية وهو في الحبس قبل اجتماعه بهم للمناظرة فكان الجواب عن هذه مما هو بعد عند الأئمة كأحمد بن حنبل وأمثاله
قال أحمد فيما كتبه ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر فقال
(7/257)
أنا أجد آية في كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق فقلنا أي آية قال قول الله عز وجل { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم } سورة النساء 171 وعيسى مخلوق فقلنا إن الله منعك الفهم في القرآن إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن لأنه يسمى مولودا ورضيعا وطفلا وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى ولكن المعنى من قول الله جل ثناؤه { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم }
(7/258)
فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى صلى الله عليه وسلم بكن فعيسى ليس هو الكن ولكن بالكن كان فالكن من الله قول وليس الكن مخلوقا
وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا عيسى روح الله وكلمته إلا أن كلمته مخلوقة وقالت النصارى عيسى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال إن هذه الخرقة من هذا الثوب قلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة وأما قول الله تعالى { وروح منه } سورة النساء 171 يقول من أمره كان الروح فيه كقوله { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } سورة الجاثية 13 يقول من أمره وتفسير
(7/259)
روح الله إنما معناها أنها روح يملكها الله خلقها الله كما يقال عبد الله وسماء الله وأرض الله
فبين الإمام أحمد أن الجهمية المعطلة والنصارى الحلولية ضلوا في هذا الموضع فإن الجهمية النفاة يشبهون الخالق تعالى بالمخلوق في صفات النقص كما ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم وصفوه بالنقائص وكذلك الجهمية النفاة إذا قالوا هو في نفسه لا يتكلم ولا يحب ونحو ذلك من نفيهم والحلولية يشبهون المخلوق بالخالق فيصفونه بصفات الكمال التي لا تصلح إلا لله كما فعلت النصارى في المسيح ومن جمع بين النفي والحلول كحلولية الجهمية مثل صاحب الفصوص وغيره قالوا ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي كلها صفات له كما أن صفات المخلوق حق لله
فهم يصفون المخلوق بكل ما يوصف به الخالق ويصفون
(7/260)
الخالق بكل ما يوصف به المخلوق فإن الوحدة والاتحاد والحلول العام يقتضي ذلك
ولفظ الكلام مثل لفظ الرحمة والأمر والقدرة ونحو ذلك من ألفاظ الصفات التي يسمونها في اصطلاح النحاة مصادر ومن لغة العرب أن لفظ المصدر يعبر به عن المفعول كثيرا كما يقولون درهم ضرب الأمير
ومنه قوله تعالى { هذا خلق الله } سورة لقمان 11 أي مخلوقة فالأمر يراد به نفس مسمى المصدر كقوله { أفعصيت أمري } سورة طه 93 { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } سورة النور 63 { ذلك أمر الله أنزله إليكم } سورة الطلاق 5
ويراد به المأمور به كقوله تعالى { وكان أمر الله قدرا مقدورا } سورة الأحزاب 38 { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } سورة النحل 1 فالأول هو من كلام الله وصفاته والثاني مفعول ذلك وموجبه ومقتضاه
وكذلك لفظ الرحمة يراد بها صفة الله التي يدل عليها اسمه الرحمن الرحيم كقوله تعالى { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } سورة غافر 7 ويراد بها ما يرحم به عباده من
(7/261)
المخلوقات كقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة
وقوله عن الله تعالى يقول للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويقول للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي
وكذلك الكلام يراد به الكلام الذي هو الصفة كقوله تعالى { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } سورة الأنعام 115 وقوله { يريدون أن يبدلوا كلام الله } سورة الفتح 15
ويراد به ما فعل بالكلمة كالمسيح الذي قال له كن فكان فخلقه من غير أب على غير الوجه المعتاد المعروف في
(7/262)
الآدميين فصار مخلوقا بمجرد الكلمة دون جمهور الآدميين كما خلق آدم وحواء أيضا على غير الوجه المعتاد فصار عيسى عليه السلام مخلوقا بمجرد الكلمة دون سائر الآدميين
وفي هذا الباب باب المضافات إلى الله تعالى ضلت طائفتان طائفة جعلت جميع المضافات إلى الله إضافة خلق وملك كإضافة البيت والناقة إليه وهذا قول نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم حتى ابن عقيل وابن الجوزي وأمثالهما إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك وقالوا هذه آيات الإضافات لا آيات الصفات كما ذكر ذلك ابن عقيل في كتابه المسنى بنفي التشبيه وإثبات التنزيه وذكره أبو الفرج ابن الجوزي في منهاج الوصول وغيره وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة
وطائفة بإزاء هؤلاء يجعلون جميع المضافات إليه صفة ويقولون بقدم الروح فمنهم من يقول بقدم روح العبد لقوله
(7/263)
{ ونفخت فيه من روحي } سورة الحجر 29 وهم من جنس النصارى الذين يقولون بأن روح عيسى من ذات الله تعالى
ومن هؤلاء من ينتسب إلى أهل السنة والحديث إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كطائفة أهل طبرستان وجيلان وأتباع الشيخ عدي وغيرهم
وطائفة ثالثة تقف في روح العبد هل هي مخلوقة أم لا وهم منتسبون إلى السنة والحديث من أصحاب أحمد وغيرهم والنزاع بين متأخري أصحاب أحمد وغيرهم هو في المضافات الخبرية كالوجه واليد والروح وأما المعتزلة فيطردون ذلك في الكلام وغيره
وقد بين أحمد الرد على الطائفتين الأوليين وهؤلاء الطائفتان أيضا يضلون في المضاف بمن فإن المجرور بالإضافة حكمه حكم المضاف كقوله تعالى { ولكن حق القول مني } سورة السجدة 13 وقوله تعالى { وروح منه } سورة النساء 171 فالطائفتان يجعلون القول منه كالروح منه ثم يقول النفاة والروح مخلوقة بائنة عنه فالقول مخلوق بائن عنه ويقول الحلولية القول صفة له ليس لمخلوق فالروح التي منه صفة له ليست مخلوقة
(7/264)
والفرق بين البابين أن المضاف إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل وأرواح بني آدم امتنع ان تكون صفة لله تعالى لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره
فقوله تعالى { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا } سورة مريم 17 وقوله في عيسى { وروح منه } وقوله تعالى { قل الروح من أمر ربي } سورة الإسراء 85 يمتنع أن يكون شيء من هذه الأعيان القائمة بنفسها صفة لله تعالى
لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين أحدهما أن تضاف إليه من جهة كونه خلقها وأبدعها فهذا شامل لجميع المخلوقات كقولهم سماء الله وأرض الله ومن هذا الباب فجميع المخلوقين عباد الله وجميع المال مال الله وجميع البيوت والنوق لله
والوجه الثاني أن يضاف إليه لما خصه الله به من معنى يحبه ويرضاه ويأمر به كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره وكما خص المساجد بأن يفعل فيها ما يحبه ويرضاه من العبادات وأن
(7/265)
تصان عن المباحات التي لم تشرع فيها فضلا عن المكروهات وكما يقال عن مال الفيء والخمس هو مال الله ورسوله ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه وهذه الإضافة العامة لا تتضمن إلا خلقه وربوبيته
وكذلك كلماته نوعان كلماته الدينية المتضمنة شرعه ودينه كالقرآن وكلماته الكونية التي بها كون الكائنات وهي الكلمات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بها في قوله أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر فإن كلماته التي بها كون المخلوقات لا يخرج عنها بر ولا فاجر بخلاف كلماته التي شرع بها دينه فإن الفجار عصوها كما عصاها إبليس ومن اتبعه
والله تعالى لا يضيف إليه من المخلوقات شيئا إضافة تخصيص إلا
(7/266)
لاختصاصه بأمر يوجب الإضافة وإلا فمجرد كونه مخلوقا ومملوكا لا يوجب أن يخص بالإضافة
وبهذا يتبين فساد قول النفاة الذين يقولون في قوله تعالى { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } سورة ص 75 من الأقوال ما لا اختصاص لآدم به كقولهم بقدرته أو بنعمته أو أن المعنى خلقته أنا أو أنه أضافه إلى نفسه إضافة تخصيص فإن هذه المعاني كلها موجودة في الملائكة وإبليس والبهائم فلا بد أن يثبت لآدم من اختصاصه بكونه سبحانه خلقه بيديه ما لا يثبت لهؤلاء
وكذلك أيضا إذا قيل عن القرآن العزيز أو غيره إنه كلام الله فإن هذا لا يوجب أن تكون إضافته إليه إضافة خلق وملك لوجهين أحدهما أنه صفة والصفات إذا أضيفت إليه كانت إضافة وصف لا إضافة خلق الثاني أن هذا يقتضي أن يكون كل كلام خلقه الله كلامه فيكون إنطاقه لما أنطقه من المخلوقات كلاما له ومن عرف أن الله خالق كل شيء لزمه أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه كما فعل ذلك حلولية الجهمية كابن عربي وغيره حيث قالوا
% وكل كلام في الوجود كلامه % سواء علينا نثره ونظامه %
(7/267)
ولا يجوز أن تكون إضافته إليه لاختصاصه بمعنى يحبه ويرضاه كما أضاف إليه البيت والناقة بقوله تعالى { وطهر بيتي للطائفين والقائمين } سورة الحج 26 وقوله { ناقة الله وسقياها } سورة الشمس 13 لأن هذا يوجب أن يكون كل كلام يحبه الله فإنه كلامه فيكون الإنسان إذا أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يكون ذلك كلام الله ويكون الشاهد إذا شهد بشهادة أمر بها تكون كلام الله ويكون كل من حدث بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما حدث بكلام الله تعالى
والناس قد تنازعوا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله هل المراد بها الكلمة التي شرعها الله وهي عقدة النكاح أو المراد كلمة الله التي تكلم بها وهي شرعه وإذنه وتحليله لذلك
والصواب أن المراد بقوله كلمة الله كلامه الذي تكلم به المتضمن إذنه وتحليله وشرعه لا العقد الذي هو كلام العباد ومن قال
(7/268)
إن المراد به العقد فقد أخطأ من وجوه متعددة قد بسطناها في غير هذا الموضع وتكلمنا على ذلك في مسألة مفردة ولا يعرف قط أنه أضيف إلى الله كلام إلا كلام تكلم الله به ولكن لو قدر أنه قد يراد بالكلام المضاف إلى الله ما أمر به وقدر أنه حصل نزاع في قوله { وكلمة الله هي العليا } سورة التوبة 40 هل المراد الكلمة التي يحبها ويأمر بها أو الكلمة التي تكلم بها وهي نفس أمره وخبره
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فمن قال المراد بالجميع كلام الله الذي تكلم به اطردت الإضافة على قوله ولو قدر أن قائلا قال أضيف إليه من الكلام ما يحبه ويرضاه وإن لم يكن تكلم به لم يمكن أن يجعل كون القرآن
(7/269)
كلامه من هذا الباب بالضرورة والاتفاق إذ لازم ذلك أن يكون القرآن بمنزلة ما أمر به من الشهادة والأخبار وتقويم السلع وخرص النخل وسائر أنواع الكلام الصادق الذي يجب التكلم به فيكون كل من تكلم بشيء من ذلك قد تكلم بكلام الله ويكون كون القرآن كلام الله هو من هذا الباب ولا يكون لله عز وجل في نفسه كلام إلا ما تكلم به الخلق وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده
ثم قول القائل الكلام الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به أو الكلام الذي يكرهه وينهى عنه يقتضي أن هناك محبة ورضاء وأمرا غير المأمور به وكلاما هو نهي غير المنهي عنه وذلك هو كلامه الذي هو أمره ونهيه فالأمر والنهي غير المأمور به والمنهي عنه
وهذا على قول من اشتبه عليه أمر الإضافة في هذه المواضع وإلا فالصواب في قوله صلى الله عليه وسلم واستحللتم فروجهن بكلمة الله أنها كلمته التي تكلم بها
وكذلك قوله تعالى { وكلمة الله هي العليا } سورة التوبة 40
(7/270)
هي كلمته التي تكلم بها وكل كلام تكلم به سبحانه مخبرا فإنه صدق كما أن كل كلام تكلم به آمرا فهو عدل وقد تمت كلماته صدقا وعدلا
فالكلام له نسبة إلى المتكلم به وهو الآمر المخبر به وله نسبة إلى المتكلم فيه وهو المأمور به والمخبر عنه فكلام الله الذي تكلم به يشترك كله في كونه تكلم به
ثم ما أخبر به عن نفسه مثل قوله تعالى { قل هو الله أحد } سورة الإخلاص 1 وآية الكرسي وغير ذلك أفضل مما أخبر به عن خلقه وذكر فيه أحوالهم كقوله تعالى { تبت يدا أبي لهب وتب } سورة المسد 1 وهذا أصح القولين لأهل السنة وغيرهم وهو قول جمهور العلماء من الأولين والآخرين فإن طائفة من المنتسبين إلى السنة وغيرهم يقولون إن نفس كلام الله تعالى لا يتفاضل في نفسه بناء على أنه قديم والقديم لا يتفاضل
ويتأولون قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها }
(7/271)
سورة البقرة 106 أي خير لكم وأنفع والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة أن بعض كلام الله أفضل من بعض كما دل على ذلك الشرع والعقل
ففي الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي سعيد ابن المعلى لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ثم أخبره أنها فاتحة الكتاب فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس في القرآن لها مثل فبطل قول من قال بتماثل جميع كلام الله
وكذلك ثبت في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب أتدري أي آية في كتاب الله أعظم فقال { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } سورة البقرة 255 فضرب بيده في صدري وقال ليهنك العلم أبا المنذر فبين أن هذه الآية أعظم من غيرها من الآيات
(7/272)
وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أن { قل هو الله أحد } سورة الإخلاص 1 تعدل ثلث القرآن
وذلك أن القرآن إما خبر وإما إنشاء والخبر إما خبر عن الخالق وإما عن المخلوق فثلثه قصص وثلثه أمر وثلثه توحيد فهي تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار
وأيضا فالكلام وإن اشترك من جهة المتكلم به في أنه تكلم بالجميع فقد تفاضل من جهة المتكلم فيه فإن كلامه الذي وصف به نفسه وأمر فيه بالتوحيد أعظم من كلامه الذي ذكر فيه بعض خلقه وأمر فيه بما هو دون التوحيد
وأيضا فإذا كان بعض الكلام خيرا للعباد وأنفع لزم أن يكون في نفسه أفضل من هذه الجهة فإن تفاضل ثوابه ونفعه إنما هو لتفاضله في نفسه وإلا فالشيئان المتساويان من كل وجه لا يكون ثواب أحدهما أكثر ولا نفعه أعظم
والمقصود هنا شيئان أحدهما أن الذين يعظمون الأشعري وأمثاله من أهل الكلام كالبيهقي وابن عساكر وغيرهما وقد عرفوا ذم الشافعي وغيره من الأئمة للكلام ذكروا أن الكلام المذموم هو كلام أهل البدع وقالوا إنما كان يعرف في عصرهم بالكلام أهل البدع
(7/273)
وأنه أراد بذلك كلام مثل حفص الفرد وأمثاله وأنه لما حدثت طائفة سمت ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها وقالوا بترك القول بالأخبار التي رواها أهل الحديث وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم قام جماعة من أئمتنا وبينوا أن جميع ما ورد في الأخبار صحيح في المعقول وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في العقول وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء فاما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة فكانوا لا يسمون تسميتهم وإنما يعني بقوله من ارتدى بالكلام لم يفلح كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معولهم عقولهم وأخذوا في تسوية الكتاب والسنة عليها فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل
قلت وهذا اتفاق من علماء الأشعرية مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف على أن الكلام المذموم عند السلف كلام من يترك الكتاب والسنة ويعول في الأصول على عقله فكيف بمن يعارض
(7/274)
الكتاب والسنة بعقله وهذا هو الذي قصدنا إبطاله وهو حال أتباع صاحب الإرشاد الذين وافقوا المعتزلة في ذلك
وأما الرازي وأمثاله فقد زادوا في ذلك على المعتزلة فإن المعتزلة لا تقول إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بل يقولون إنها تفيد اليقين ويستدلون بها أعظم مما يستدل بها هؤلاء
الثاني أن كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه ونحوه من الأئمة تضمن ذم كلام حفص الفرد وأمثاله في مسألة القرآن والكلام في ذلك مبني على نفي قيام الأفعال به فإن المعتزلة يقولون الكلام لا بد له من فعل يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته فلو قام به الكلام لقامت به الأفعال وهي حادثة فكان يكون محلا للحوادث وبطل الدليل الذي استدللنا به على حدوث العالم
وقد بينا أن ذم الشافعي لكلام حفص وأمثاله لم يكن لأجل لإنكار القدر فإن حفصا لا ينكره وإنما كان لإنكار الصفات والأفعال المبني على دليل الأعراض
وهكذا كان كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة في ذم الكلام كان متناولا لكلام الجهمية وكلام أحمد وأمثاله في ذلك كثير ظاهر معلوم فإن مناظرته للجهمية ورده عليهم أشهر وأكثر من أن
(7/275)
يذكر هنا وكان من المناظرين له أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث وهو على قول حسين النجار والنجار من المثبتة للقدر وكذلك كانوا يذمون المريسي وغيره من المثبتين للقدر فتبين أن كلامهم في ذم أهل الكلام لم يكن لأجل إنكار القدر بل كان ذمهم للجهمية أعظم من ذمهم للقدرية
قال الأشعري في المقالات ذكر قول الحسين بن محمد النجار كان هو وأصحابه يقولون إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى وهم فاعلون لها وأنه لايكون في ملك الله إلا ما يريده وأن الله لم يزل مريدا أن يكون في وقته ما علم أنه يكون في وقته مريدا أن لا يكون ما علم أنه لا يكون وأن الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم الفعل وأن العون من الله يحدث في حال الفعل مع الفعل وهو الاستطاعة فإن الاستطاعة الواحدة لا يفعل بها فعلان وأن لكل فعل استطاعة تحدث معه إذا حدث وأن الاستطاعة لا تبقى وأن في وجودها وجود الفعل وفي عدمها عدم الفعل
وذكر سائر قوله في القدر من جنس قول الأشعري وأصحابه
(7/276)
وأن الإنسان لا يفعل في غيره وأنه لا يفعل الأفعال إلا في نفسه كنحو الحركات والسكون والإرادات والعلوم والكفر والإيمان وأن الإنسان لا يفعل ألما ولا إدراكا ولا رؤية ولا يفعل شيئا على طريق التولد
قال وكان برغوث يميل إلى قوله
قال وكان يزعم أن الله لم يزال جوادا بنفي البخل عنه ولم يزل متكلما بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام وأن كلام الله محدث مخلوق وكان يقول في التوحيد بقول المعتزلة إلا في باب الإرادة والجود وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء وكان يزعم أنه جائز أن يحول الله العين إلى القلب ويجعل في العين قوة القلب فيرى الله الإنسان بعينه أي يعلمه بها وكان ينكر الرؤية لله بالإبصار على غير هذا الوجه
(7/277)
قلت فقول ضرار والنجار وأتباعهما كبرغوث وحفص وقول بشر المريسي ونحوه من أهل الكلام الذين ذمهم الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة ليس فيه إنكار للقدر بل فيه إثبات له وإنما ذموهم لما في قولهم من نفي ما وصف الله به نفسه مع أن قول النجار وضرار خير من قول المعتزلة وقولهما في الرؤية يشبه قول من ينفي العلو ويثبت الرؤية من الأشعرية ونحوهم وأصل كلامهم الذي بنوا عليه نفي ذلك ما تقدم من الأصول الثلاثة ليس لهم غيرها وهي دليل الأعراض والتركيب والاختصاص فصل
ومما يبين ذلك ما ذكره الشيخ أبو سليمان الخطابي في رسالته المعروفة في الغنية عن الكلام وأهله قال فيها وقفت على مقالتك وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها
(7/278)
واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة وجنة لها يذب به عنها ويزاد بسلاحه عن حريمها وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالسهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة هؤلاء القوم من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم دفعها ولا يسوغ لهم من جهة العقل جحدها وإنكارها فرأيت إسعافك لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين فإن الدين النصيحة
(7/279)
واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة
قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
قال واعلم أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت وشاعت في البلاد واستفاضت فلا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله وذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قال ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب
(7/280)
فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم وفضل ذكاء وذهن ويوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة للعامة وعد واحدا من الجمهور والكافة وأنه قد ضل فهمه واضمحل لطفه وذهنه فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا
(7/281)
عن حقائقها ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس ولا قبلوها بيقين علم
قال ولما رأوا كتاب الله ينطق بخلاف ما انتحلوه ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسنته المأثورة عنه وردوها على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة ووجهوا عليهم الظنون ورموهم بالتزيد ونسبوهم إلى ضعف المنة وسوء المعرفة بما يروونه من الحديث والجهل بتأويله ولو سلكوا سبيل القصد ووفقوا عند ما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين وروح القلوب ولكثرت البركة
(7/282)
وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصابيح النور والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
فهذا الذي وصفه الشيخ أبو سليمان الخطابي هو حال أهل الكلام الذين يعارضون الكتاب والسنة بعقلهم فيتأولون الكتاب على غير تأويله ويردون الحديث بما يمكنهم مثل زعمهم أنه خبر واحد وإن كان من المستفيضات المتلقاة بالقبول ومثل غير ذلك من وجوه الرد لأن الأصول التي بنوا عليها دينهم تناقض منصوص الكتاب والسنة كطريقة الأعراض والتركيب والاختصاص ونحو ذلك مما تقدم
وهم فيما خاضوا فيه من العقليات المعارضة للنصوص في حيرة وشبهة وشك من كان منهم فاضلا ذكيا قد عرف نهايات أقدامهم كان في حيرة وشك ومن كان منهم لم يصل إلى الغاية كان مقلدا لهؤلاء فهو يدع تقليد النبي المعصوم وإجماع المؤمنين المعصوم ويقلد رؤوس الكلام المخالف للكتاب والسنة الذين هم في شك وحيرة ولهذا لا يوجد أحد من هؤلاء إلا وهو إما حائر شاك وإما متناقض يقول قولا ويقول ما يناقضه فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام أو عن
(7/283)
الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة وعقائد غير مطابقة وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية وأدلة يقينية فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها ويبينون أنها شبهات فاسدة وحجج عن الحق حائدة
وهذا الأمر يعرفه كل من كان خبيرا بحال هؤلاء بخلاف أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المتبعين له فإنهم ينكشف لهم أن ما جاء به الرسول هو الموافق لصريح المعقول وهو الحق الذي لا اختلاف فيه ولا تناقض
قال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } سورة النساء 82
فهؤلاء مثل نور الله في قلوبهم { كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } سورة النور 35 نور الإيمان ونور القرآن نور صريح المعقول ونور صحيح المنقول
كما قال بعض السلف يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر فإذا جاء الأثر كان نورا على نور
(7/284)
وقال غير واحد من الصحابة كجندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا
قال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } سورة الشورى 52 53
وأما أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة فهم إما في الجهل البسيط وإما في الجهل المركب كالكفار فالأولون { كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } سورة النور 40
والآخرون { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } سورة النور 39
فأهل الجهل والكفر البسيط لا يعرفون الحق ولا ينصرونه وأهل الجهل والكفر المركب يعتقدون أنهم عرفوا وعلموا والذي معهم ليس بعلم بل جهل
(7/285)
قال أبو سليمان الخطابي واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأعرضوا عنها لما تخوفوا من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينه من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله له من توفيقه وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم واعترضهم الملحدون بشبههم والمتحذلقون بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا
(7/286)
بهم ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة من الرأي وغبنا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان
قلت هو كما قال أبو سليمان فإن السلف كانوا أعظم عقولا وأكثر فهوما وأحد أذهانا وألطف إدراكا كما قال عبد الله بن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن خير قرون هذه الأمة القرن الذي بعث فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
وأعظم الفضائل فضيلة العلم والإيمان فهم أعلم الأمة باتفاق علماء الأمة ولم يدعوا الطرق المبتدعة المذمومة عجزا عنها بل كانوا كما قال عمر بن عبد العزيز على كشف الأمور أقوى وبالخير لو كان في تلك الأمور أحرى
(7/287)
وقول الخطابي تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها فسنبين إن شاء الله أن تلك الطرق المخالفة للسنة هي في نفسها باطلة فأضربوا عنها كما يضرب عن الكذب والقول الباطل وإن كان مزخرفا مزينا ولم يستجيزوا أن يقابلوا الفاسد بالفاسد ويردوا البدعة بالبدعة وأما الكلام الذي لا يدرى أصدق هو أم كذب فهو بمنزلة الشاهد الذي لا يعلم صدقه فهذا قد يعرض عنه خوفا أن يكون باطلا وكذبا فهذا يكون في الطرق المجهولة الحال
ولا ريب أن كثيرا من الناس لا يعلم أحق هي أم باطل فينهى عن القول بما لا يعلم وقد ينهى بعض الناس عن أن ينظر فيما يعجز عن فهمه ومعرفة الحق فيه من الباطل خوفا من أن يزل ذهنه فيضل ولا يمكن هداه فالخوف يكون فيما لا يعلم حاله او لا يعلم حال سالكه وإن كان حقا وأما الكلام المخالف للنصوص فهو في نفسه باطل فالنهي عنه كالنهي عن الكذب والكفر ونحو ذلك
وقوله وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله له من توفيقه وشرح به صدورهم من نور معرفته
(7/288)
فهذا بيان لأنهم كانوا أهل علم ويقين لا أهل جهل وتقليد وأنه حصل لهم معرفة يقينية ضرورية بهدى الله لهم وشرح صدورهم كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن الإيمان والعلم لا يتوقف على النظر الذي أحدثه أهل الكلام فضلا عن الكلام المخالف للنصوص
وقوله ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب والسنة غنى ومندوحة عما سواهما
فهذا لأن الكتاب والسنة قد بين الحق وبين الطرق التي بها يعرف الحق وذكر من الأدلة العقلية والأمثال المضروبة التي هي مقاييس برهانية ما هو اكمل في تحصيل العلم واليقين مما أحدثه أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة
وليس هدى الكتاب بمجرد كونه خبرا كما يظنه بعضهم بل قد نبه وبين ودل على ما به يعرف الحق من الباطل من الأدلة والبراهين وأسباب العلم واليقين كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع
وما ذكره من أنه لما تأخر الزمان وفترت عزائم بعض الناس عن طلب حقائق علوم الكتاب والسنة أخذوا يردون شبه الملحدين
(7/289)
بالكلام المبتدع المستلزم مخالفة النصوص فهو كما قال وقد تأملت هذا في عامة الأبواب فوجدته كذلك بل وجدت جميع أهل البدع يلزمهم أن لا يكونوا مصدقين بتنزيل القرآن ولا بتفسيره وتأويله في كثير من الأمور والعلم والإيمان يتضمن التصديق بالتنزيل وما دل عليه من التأويل وما من بدعة من بدع الجهمية وفروعهم إلا وقد قالوا في القرآن بما يقدح في تنزيله وقالوا في معانيه بما يقدح في تفسيره وتأويله
فمن تأمل طرق المعتزلة ونحوهم التي ردوا بها على أهل الدهر والفلاسفة ونحوهم فيما خالفوا فيه المسلمين رآهم قد بنوا ما خالفوا فيه النصوص على أصول فاسدة في العقل لا قطعوا بها عدو الدين ولا أقاموا على موالاة السنة واتباع سبيل المؤمنين كما فعلوه في دليل الأعراض والتركيب والاختصاص
وكذلك من ناظرهم من الكلابية وغيرهم فيما خالفوا فيه السنة من مسائل الصفات والقدر وغير ذلك بنوا كثيرا من الرد عليهم على أصول فاسدة إما أصول وافقوهم عليها مما أحدثه أولئك كموافقة من وافقهم على دليل الأعراض والتركيب ونحوهما وإما أصول عارضوهم بها فقابلوا الباطل بالباطل كما فعلوه في مسائل القدر والوعد والوعيد ومسائل الأسماء والأحكام فإن أولئك كذبوا بالقدر وأوجبوا إنفاذ الوعيد وقاسوا الله بخلقه فيما يحسن ويقبح وهؤلاء أبطلوا حكمه الله
(7/290)
تعالى وحقيقة رحمته وعدله وقالوا ما يقدح في أمره ونهيه ووعده ووعيده وتوقفوا في بعض أمره ونهيه ووعده ووعيده فصار أولئك يكذبون بقدرته وخلقه ومشيئته وهؤلاء يكذبون برحمته وحكمته وببعضه أمره ونهيه ووعده ووعيده كما قد بسط في موضعه
فكان ما دفعوا به أهل البدع من أصول مبتدعة باطلة وافقوهم عليها أو أصول مبتدعة باطلة قاتلوهم فيها ضلة من الرأي وغبنا فيه وخدعة من الشيطان بل الحق أنهم لايوافقون على باطل ولايقابلهم باطلهم بباطل
وهذا كما أصاب كثيرا من الناس من أهل العبادة والزهد والتصوف والفقر أعرضوا عن السماع الشرعي والزهد الشرعي والسلوك الشرعي فاحتاجوا أن يعتاضوا عن ذلك بسماع بدعي وزهد بدعي وسلوك بدعي يوافق فيه بعضا بعضا في باطل أو يقابل باطلهم بباطل آخر وكما أصاب كثيرا من الناس مع الولاة الذين أحدثو الظلم فإنهم تارة يوافقونهم على بعض ظلمهم فيعاونونهم على الإثم والعدوان وتارة يقابلون ظلمهم بظلم آخر فيخرجون عليهم
(7/291)
ويقاتلونهم بالسيف وهو قتال الفتنة فمن الناس من يوافق على الظلم ولا يقابل الظلم مثل ما كان بعض أهل الشام ومنهم من كان يقابله بالظلم والعدوان ولا يوافق على حق ولا على باطل كالخوارج ومنهم من كان تارة يوافق على الظلم وتارة يدفع الظلم بالظلم مثل حال كثير من أهل العراق
وكثير من الناس مع أهل البدع الكلامية والعملية بهذه المنزلة إما أن يوافقوهم على بدعهم الباطلة وإما أن يقابلوها ببدعة أخرى باطلة وإما أن يجمعوا بين هذا وهذا وإنما الحق في أن لا يوافق المبطل على باطل أصلا ولا يدفع باطله بباطل أصلا فيلزم المؤمن الحق وهو ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يخرج عنه إلى باطل يخالفه لا موافقة لمن قاله ولا معارضة بالباطل لمن قال باطلا وكلا الأمرين يستلزم معارضة منصوصات الكتاب والسنة بما يناقض ذلك وإن كان لا يظهر ذلك في بادي الرأي
قال أبو سليمان فإن قال هؤلاء القوم فإنكم قد أنكرتم الكلام
(7/292)
ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه وأن الرسول لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها
قال أبو سليمان قلنا إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها
(7/293)
والإيداع والانقطاع على سالكها
قلت وهذا الذي ذكره الخطابي يبين أن طريقة الأعراض من الكلام المذموم الذي ذمه السلف والأئمة وأعرضوا عنه كما ذكر ذلك الأشعري وغيره وأن الذين سلكوها سلكوها لكونهم لم يسلكوا الطرق النبوية الشرعية فمن لم يسلك الطرق الشرعية احتاج إلى الطرق البدعية بخلاف من أغناه الله بالكتاب والحكمة
والخطابي ذكر أن هذه الطريقة متعبة مخوفة فسالكها يخاف عليه أن يعجز أو أن يهلك وهذا كما ذكره الأشعري وغيره ممن لم يجزموا بفساد هذه الطريقة وإنما ذموها لكونها بدعة أو لكونها صعبة متعبة قد يعجز سالكها أو لكونها مخوفة خطرة لكثرة شبهاتها
وهكذا ذكر الخطابي في كتاب شعار الدين ما يتضمن هذا المعنى ولهذا كان من لم يعلم بطلان هذه الطريقة أو اعتقد صحتها قد يقول ببعض موجباتها كما يقع مثل ذلك في كلام الخطابي وأمثاله مما يوافق موجبها وقد أنكره عليه أئمة السلف والعلم كما هو مذكور في غير هذا الموضع وهذا قد وقع فيه طوائف من أصناف الناس من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم
(7/294)
وأما قوله إنهم أخذوا هذه الطريقة من الفلاسفة كما ذكر ذلك الأشعري
فيقال كثير من الفلاسفة يبطل هذه الطريقة كأرسطو وأتباعه فلم يوجد عنهم ومن الفلاسفة من يقول بها والذين قالوا بها من أهل الكلام ليس كلهم أخذها عن الفلاسفة بل قد تتشابه القلوب
كما قال تعال { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } سورة البقرة 118
وقال تعالى { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون } سورة الذاريات 52 53
وأكثر المتكلمين السالكين لها مناقضون للقول المشهور عن الفلاسفة لا موافقون لهم بل يردون على أرسطو وأصحابه في المنطق والطبيعيات والإلهيات
قال الخطابي وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه ومن الطريقة التي يسلكونها ويزعمون أن من لم يتوصل
(7/295)
إليه من تلك الوجوه كان مقلدا غير موحد على الحقيقة هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
وقال له { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } سورة المائدة 67
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع وفي مقامات شتى وبحضرته عامة أصحابه ألا هل بلغت
وكان الذي أنزل عليه من الوحي وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } سورة المائدة 3 فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئا من أمور الدين قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل
(7/296)
للناس إليه وذلك فاسد غير جائز وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لا يمكن واحدا من الناس أن يروى عنه ذلك ولا عن أحد من أصحابه من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل لعدوا من جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم فلما لم يظهر ذلك دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل
قال الخطابي وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه أحدها ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره وأعجزهم شأنه وقد تحداهم به وبسورة من مثله
(7/297)
وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء فكل عجز عنه ولم يقدر على شيء منه بوجه إما بأن لا يكون في قولهم ولا في طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه وبديع نظمه وحسن معانيه وإما أن يكون ذلك في وسعهم وتحت قدرهم طبعا وتركيبا ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته وحجة عليهم في وجوب تصديقه وإما أن يكونوا إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون وعلى الوجوه كلها فالعجز موجود والانقطاع حاصل هذا إلى ما شاهدوه من آياته وسائر معجزاته المشهودة عنه الخارجة عن سوم الطباع الناقضة للعادات كتسبيح الحصا في كفه وحنين الجذع لمفارقته ورجف الجبل تحته وسكونه لما ضربه برجله وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه وسجود البعير له ونبوع
(7/298)
الماء من بين أصابعه حتى توضأ به بشر كثير وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه عدد جم وإخبار الذراع إياه بأنها مسمومة وأمور كثيرة سواها يكثر تعدادها هي مشهورة ومجموعة في الكتب التي أنشئت لمعرفة هذا الشأن
قال الخطابي فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله عز وجل وأمر صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز وجل { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } سورة الذاريات 21 إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على وجود الصانع
(7/299)
الحكيم لما ركب فيها من الحواس التي عنها يقع الإدراك والجوارح التي يباشر بها القبض والبسط والأعضاء المعدة للأفعال التي هي خاصة بها كالأضراس الحادثة فيهم عند استغنائهم عن الرضاع وحاجتهم إلى الغذاء فيقع بها الطحن له وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء والكبد التي يسلك إليها صفاوته وعنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن وكالأمعاء التي يرسب إليها تفل الغذاء وطحانه فيبرز عن البدن
وكقوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت } سورة الغاشية 17 20
وكقوله تعالى { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } سورة آل عمران 190
وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما
(7/300)
يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على ادلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل الذي بان حقه وعن قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد ظهر صدقه ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلافهم وأتباعهم كافة عن كافة قرنا بعد قرن فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواترا واستفاضة على الوجه الذي تقوم به الحجة وينقطع فيها العذر ثم كذلك من بعدهم عصرا بعد عصر إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة وتقوم عليه بها الحجة فكان ما اعتمده المسلمون من الاستدلال في ذلك أصح وأبين وفي التوصل إلى المقصود به أقرب إذ كان التعلق في أكثره إنما هو بمعاني درك الحس وبمقدمات من العلم مركبة
(7/301)
عليها لا يقع الخلف في دلالتها
قلت ذكر الخطابي طريقين إلى معرفة الله وصفاته طريقا سمعية وطريقا عقلية وكلاهما طريق شرعية معروفة بالقرآن أما الأولى فهو أن تعلم نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بما أظهره الله على يديه من المعجزات وبغير ذلك ثم يعرفون بذلك ما أخبرهم به ودعاهم إليه من التوحيد وإثبات الصفات وهذا لأن نفس الإقرار بالصانع سبحانه فطري ضروري أو معلوم بأدنى نظر وتأمل يحصل لعموم الخلق
ثم معرفة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم بما أظهره من المعجزات الدالة على صدق الرسول وقد نبه الخطابي أن فيما جاء به الرسول من بيان الطرق العقلية التي يعرف بها ثبوت الخالق وتوحيده وصفاته فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن تعريفه للناس ما عرفهم إياه بمجرد خبره وإن كان ذلك بعد ثبوت صدقه كما يظنه كثير من أهل الكلام بل عرفهم ما به يعرف ثبوت الخالق ووحدانيته وصفاته وما به يعرف صدقه فبين أن ما جاء به من أصول
(7/302)
الدين وأدلته العقلية التي يعلم بها ما يمكن معرفته بالعقل وأخبرهم عن الغيب الذي لا يمكنهم معرفته بمجرد عقلهم
ولهذا قال الخطابي وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة
قال وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز وجل { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } سورة الذاريات 21
إلى قوله وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يذكرها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الأمور ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب إلى آخر كلامه
وهذا مما اعترف به النظار من جميع الطوائف من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم كما قال القاضي عبد الجبار في أول كتابه المصنف في تثبيت نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم قال الحمد لله
(7/303)
الذي من على عباده بإرسال رسله وختمهم بسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإنما يعرف الرسول من عرف المرسل وقد حصل لك العلم به تبارك وتعالى بما في كتاب المصباح وغيره وأجلها وأعظمها وأوضحها وأبينها ما في القرآن مما نبه الله عليه وجعله في عقول العقلاء فينبغي أن يراعيه ويديم النظر فيه ويواصل الفكر في آيات الله ويعتبر بالنقل والاعتبار تنال المعرفة
وكذلك قال الأشعري في كتابه المشهور المعروف باللمع لما ذكر خلق الإنسان واستدل به على الخالق تعالى كما قد حكينا كلامه وذكرنا كلامه وكلام القاضي أبي بكر عليه وأن كلامه أجود مع أنه جعل الإنسان مما يستدل على خلق جواهره بأنها لا تخلو من الحوادث بناء على أن الحدوث المشهود إنما هو حدوث الأعراض كالتأليف والتركيب وهو المراد بالخلق بناء على ثبوت الجوهر الفرد
وهذا وإن كان ضعيفا وأكثر علماء المسلمين ينازعون في هذا فالمقصود أنه استدل بالخلق على الخالق قال القاضي أبو بكر ثم قال أبو الحسن مؤيدا لما ذكره من حدوث الإنسان وحدوث تصويره
(7/304)
وتعلقه بخالق خلقه ومدبر دبره وقد قال تعالى { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } سورة الواقعة 58 59 فما استطاعوا بحجة أن يقولوا إنهم يخلقون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له يكون قال وقال تنبيها لخلقه على وحدانيته { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } سورة الذاريات 21 فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم ومدبر دبرهم
قال القاضي أبو بكر واعلموا أن الغرض بذكر هاتين الآيتين الإخبار عن الله في نص كتابه بما دلهم العقول عليه وتقريبه والتنبيه على موضع الاستدلال به من جهة السمع ليكون المرء عند سماعه أقرب إلى العلم بإدراك ما يلتمس علمه وترتيب ما النظر فيه على حقه وموجبه وأن يجمع لأهل التوحيد المقرين بالسمع بين دلائل العقول وتنبيه السمع عليها وأن النظر في مقدورات الله والاعتبار بها طريقا إلى العلم بصانعها المدبر لها والخالق لأعيانها
قال وأما وجه التنبيه من قوله { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون }
(7/305)
سورة الواقعة 58 59 فهو أن من سبيل الخالق المنشىء أن يكون ما خلقه واقعا بقصده وإرادته وأن يجد نفسه قادرة عليه وعلى إيجاد عينه إن كان مخترعا له أو على تصويره وتخطيطه إن كان الخلق تصويرا وتقديرا
قال وإذا ثبتت هذه الجملة وعلمنا أن وجود الولد بوجود بنيته وهيئته وليس بمقصور على إرادة الوالد ولا مما يجد في نفسه القدرة عليه ثبت بذلك أن الولد المخلوق ليس من فعل الوالد على سبيل المباشرة ولا على جهة التولد عن حركاته
قال وأما وجه التنبيه من قوله { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } سورة الذاريات 21 رده لهم إلى الاعتبار في أحوالهم وتنقلهم من حال إلى حال ومن تركيب إلى تركيب وعجيب ما قد فعل بذواتهم من التصوير والتأليف وخلق الحواس ومواضعها وتركيب كل عضو من أعضائهم على صفة ما يحتاج إلى استعماله فيه من اليد للبطش والرجل للمشي وغير ذلك من جوارحهم وما يتجدد في أنفسهم من الحوادث التي لم تكن ويزول عنهم من الأمور التي يؤثرون استدامتها مع علمهم بأن الصورة لا بد لها من مصور وأن التأليف للدار والكتابة وضروب المنسوجات والمصنوعات لا بد لها في عقولهم من صانع مؤلف وأن التغير في صفاته مع جواز بقائه على ما يعبر عنه لا بد له من ناقل نقله ومغير غيره وأنهم يجب أن يعلموا بذلك أن تصوير الإنسان وتغيره في الأحوال التي ذكرها أولى أن يتعلق بمصور صوره وناقل نقله وغيره من تركيب إلى تركيب وحال إلى
(7/306)
حال أن الإنسان أقرب إلى علم هذا بالتنبيه من ناحية السمع عليه وأجدر أن يتحقق علم ما فيه وإن كان لو أفرد بعقله وأحيل على صحيح نظره لقال بما نبه السمع على مواضعه وإن احتاج في ذلك إلى فضل فكر بالكد والروية وإتعاب النفس في طلب الحق
قال فهذا وجه التنبيه مما تلاه من التنزيل
وذكر في التوحيد والمعاد نحوا من ذلك بخلاف نفي التشبيه فإنه جعله من باب ما دل القرآن عليه بالخبر
وأما ما ذكره هو وغيره من أنهم عرفوا صدق الرسول بالمعجزات ابتداء فهذا يكون على وجهين أحدهما أنهم عرفوا إثبات الخالق بالضرورة ثم عرفوا صدق الرسول بالمعجزات
والثاني أن يقال نفس ظهور المعجزات دلت على إثبات الخالق وعلى صدق رسوله كما كان إظهار موسى للآيات مثل العصا واليد دليلا على الصانع وعلى صدق الرسول
ولهذا لما قال له فرعون { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } سورة الشعراء 29 قال له موسى { أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } سورة الشعراء 31 33
فأظهر موسى هذه الآيات لما قال له فرعون { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } فدل ذلك على أنه أظهرها لإثبات
(7/307)
العلم بالصانع ولصدق الرسول والأدلة الدالة على صدق الرسول كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع وبنبوته يستدل على تفصيل صفات الله وأسمائه وعلى توحيده الذي هو عبادته وحده لا شريك له وهو توحيد الإلهية وكذلك على توحيد الربوبية
فكلا نوعي التوحيد مما يمكن علمه بالسمع وهذا مما اعترف به غير واحد من حذاق النظار وقالوا إنه يمكن العلم بصدق الرسول قبل العلم بالوحدانية مع أن الخطابي أراد والله أعلم بعلم التوحيد علم صفات الرب سبحانه وأسمائه فإنهم يسمون ذلك علم التوحيد وذلك مما يمكن معرفته بالشرع فإنه يعلم بالفطرة وبالعقل إثبات الصانع على طريق الإجمال وأما تفصيل صفاته وأسمائه فتعلم بالسمع
وأيضا فإذا عرف أن العلوم الإلهية حقيقتها موجودة عند الأنبياء عليهم السلام فإنهم الصادقون المصدوقون فيما يخبرون به من ذلك وأن الواجب تلقى ذلك عنهم كان العلم بأن هذا يستفاد من الرسول يمكن إثباته بما يعلم أنه رسول وإذا علم أنه رسول تعلم منه هذا
(7/308)
المطلوب كما إذا عرف أن علاج المرضى يؤخذ من الأطباء والاستفتاء يرجع فيه إلى المفتين وأمر التقويم يرجع فيه إلى المقومين فإذا عرف أن هذا طبيب أو مفت أو مقوم رجع إليه في ذلك
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وبين أن العلم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم له طرق متعددة فمن ادعى من المتكلمين المعتزلة والجهمية وموافقيهم أنه لا يمكن العلم بصدقه إلا بعد العلم بحدوث الأجسام وأن ذلك لا يعلم إلا بطريقة الأعراض فقوله خطأ مبتدع وهو الذي ذكر الخطابي أنه لم يسلك أحد من السلف هذه الطريق
وأما الطريق العقلية التي ذكرها فهي طريق دل عليها القرآن وأرشد إليها ونبه عليها وهي الاستدلال بما يجدونه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكما عالما خبيرا إلى قوله فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم تبينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما
(7/309)
شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها
وهذا لأن الفعل الواحد المتسق المنتظم لا يكون عن اثنين ولا يكون إلا عن عالم قادر كما بين في غير هذا الموضع
فهذه الصفات ونحوها مما يعلم بالعقل قال ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل وهذه كالصفات الخبرية مثل الوجه واليدين والاستواء على العرش ونحو ذلك
قال الخطابي فأما الإعراض فإن التعلق بها إما أن يكون عذرا وإما أن يكون تصحيح الدلالة من جهتها عسرا متعذرا وذلك أن اختلاف الناس قد كثر فيها فمن قائل لا عرض في الدنيا ناف لوجود الأعراض أصلا وقائل إنما هي قائمة بأنفسها لا تخالف الجواهر في هذه الصفة إلى غير ذلك من الاختلاف فيها وأوردوا في نفيها شبها قوية فالاستدلال بها والتعلق بأدلتها لا يصح إلا بعد التخلص من تلك الشبه والانفكاك عنها والطريقة التي
(7/310)
سلكناها سليمة من هذه الآفات برية من هذه العيوب فقد بان ووضح فساد قول من زعم وادعى من المتكلمين أن من لم يتوصل إلى معرفة الله تعالى وتوحيده من الوجه الذي يصححونه من الاستدلال فإنه غير موحد في الحقيقة لكنه مستسلم مقلد وأن سبيله سبيل الذرية في كونها تبعا للآباء في الإسلام وثبت أن قائل هذا القول مخطىء وبين يدي الله ورسوله متقدم وبعامة الصحابة وجمهور السلف مزر وعن طريق السنة عادل وعن نهجها ناكب
قلت وهذا الذي ذكره الخطابي بين ظاهر بتقدير أن تكون تلك الطريق صحيحة في نفسها موصلة إلى العلم فإن سلوكها والحال هذه إما غرر وخطر وإما مشق صعب بل معجوز عنه فإنها تحتاج إلى تصحيح مقدمات كثيرة دقيقة متنازع فيها وقد لا تثبت للإنسان فيضل عنها فكانت بمنزلة من يريد الحج من طريق بعيدة مخوفة يمكن سالكها أن يصل بعد جهد ومشقة ويمكن أن
(7/311)
ينقطع فمثل هذه الطريق قد يعجز صاحبها وقد يضل بعد جهد ومشقة عظيمة إذا لم يكن فيها مخوف وإذا كان فيها مخوف فقد يهلك قبل الوصول
ومعلوم أن من عدل إلى هذه الطريق وترك الطريق المستقيمة الواضحة الآمنة الميسرة كان ظلوما جهولا
وأما بتقدير أن تكون طريقا فاسدة كما يعرفه من عرف حقيقتها فإنها إما أن لا توصل إلى مطلوب لأن النظر في الدليل الفاسد يستلزم الجهل المركب لا محالة بل قد لا يحصل معه لا علم ولا جهل وهذا حال كثير من حذاق النظار الذين سلكوها وإما أن توصل إلى نقيض الحق إذا اعتقد سالكها صدق بعض مقدماتها الكاذبة وهذه حال كثير ممن اعتقد صحتها وعارض بموجبها صحيح المنقول وصريح المعقول
وهي حال أهل البدع من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على مقتضاها فإنها منشأ ضلال ما شاء الله تعالى من طوائف أهل الكلام كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع فالأولون يبقون في الجهل البسيط وهؤلاء يصيرون في الجهل المركب
(7/312)
قال الخطابي فهذا قولهم ورأيهم في عامة السلف وجمهور الأئمة وفقهاء الخلف فلا تشتغل رحمك الله بكلامهم ولا تغتر بكثرة مقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازنه أو يقاربه فكل بكل معارض وبعض ببعض مقابل وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان وحذقه في صنعه الجدل والكلام وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم فهم يطالبونهم بقودها وطردها فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعا وجعلوه مبطلا وحكموا بالفلج لخصمه عليه والجدل لا يبين به حق ولا تقوم به حجة وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطل ويكون الحق في ثالثة غيرهما فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه وإن
(7/313)
كان مفسدا به قول خصمه لأنهما مجتمعان معا في الخطأ مشتركان فيه كقول الشاعر فيهم
% حجج تهافت كالزجاج تخالها % حقا وكل كاسر مكسور %
وإنما كان الأمر كذلك لأن واحدا من الفريقين لا يعتمد في مقالتها التي ينصرها أصلا صحيحا وإنما هي أوضاع تتكافأ وتتقابل فيكثر المقال ويدوم الاختلاف ويقل الصواب
قال الله تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } سورة النساء 82 فأخبر سبحانه أن ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله عنه
(7/314)
ثم قال سبحانه في صفة الحق { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } سورة الأنبياء 18
قال الخطابي فإن قيل دلائل النبوة ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا القرآن إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد دون التواتر والحجة لا تقوم بنقل الآحاد على من كان في الزمان المتأخر لجواز وقوع الغلط فيها واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها قيل هذه الأخبار وإن كانت شروط التواتر في آحادها معدومة فإن جملتها راجعة من طريق المعنى إلى التواتر ومتعلقة به جنسا لأن بعضها يوافق بعضا ويجانسه إذ كل ذلك واقع تحت الإعجاز والأمر المزعج للخواطر الناقض لمجرى العادات
قال ومثال ذلك أن يروي قوم أن حاتم طي وهب لرجل مائة
(7/315)
من الإبل ويروي آخرون أنه وهب لرجل آخر ألفا من الغنم ويروي آخرون أنه وهب لآخر عشرة أرؤس من الخيل والرقيق إلى ما يشبه ذلك حتى يكثر عدد ما يروى عنه فهو وإن لم يثبت التواتر في كل واحد منها نوعا نوعا فقد ثبت التواتر في جنسها وحصل من جملتها العلم بأن حاتما سخي كذلك هذه الأمور وإن لم يثبت لأفراد أعيانها تواتر فقد ثبت برواية الجم الغفير الذي لا يحصى عددهم ولا يتوهم التواطؤ في الكذب عليهم أنه قد جاء بمعنى معجز للبشر خارج عما في قدرهم فصح بذلك أمر نبوته
وقال الخطابي أيضا فيما ألحقه بكتاب شعار الدين وبراهين المسلمين الكلام المكروه الذي زجر عنه العلماء وعابوه هو التجرد
(7/316)
في مذهب الكلام والتعمق فيه على الوجه الذي يذهب إليه المتكلمون وذلك أنهم ادعوا الوقوف على حقائق الأمور من جهة العقول وزعموا أن شيئا من المعلومات لا يذهب عليهم علمه ولا يعجزهم إدراكه على سبيل التحديد والتحقيق
قلت هذا هو حقيقة قول من لم يجعل السمعيات تفيد العلم إنما يحصل العلم عنده من جهة العقل فقط وقول من يظن أنه بمجرد عقله يعرف ما جاءت به الشرائع
ولهذا قال الإمام أحمد في أول رسالته في السنة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول فبين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعارض بضرب الأمثال له ولا يدركه كل أحد بقياس ولا يحتاج أن يثبته بقياس بل هو ثابت بنفسه وليس كل ما ثبت يكون له نظير وما لا نظير له لا قياس فيه فلا يحتاج المنصوص خبرا وأمرا إلى قياس بخلاف من أراد أن ينال كل ما جاءت به الرسل بعقله ويتلقاه من طريق القياس
(7/317)
كالقياس العقلي المنطقي وهو قياس الشمول أو قياس التمثيل ونحو ذلك فإن كلا من هذا وهذا يسمى قياسا
وقد تنازع الناس في اسم القياس هل هو حقيقة في قياس التمثيل مجاز في قياس الشمول كما يقوله أبو حامد الغزالي وأبو محمد المقدسي وغيرهما أو هو حقيقة في قياس الشمول مجاز في قياس التمثيل كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره أو القياس حقيقة فيهما كما يقوله الجمهور على ثلاثة أقوال
وأيضا فهم متنازعون في الجنس أيهما هو الذي يوصل إلى العلم وكثير من الناس من أهل المنطق اليوناني ونحوهم يزعم أن الموصل إلى العلم هو قياس الشمول فقط دون قياس التمثيل وكثير من أهل الكلام يرجح قياس التمثيل ويقول إن قياسهم المنطقي قياس الشمول قليل الفائدة أو عديمها
وحقيقة الأمر أن القياسين متلازمان فكل قياس شمول هو متضمن لتمثيل وكل قياس تمثيل هو متضمن لشمول فإن القايس قياس التمثيل لا بد أن يعلق الحكم بالوصف المشترك فإذا قال النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر فكان حراما كخمر العنب فقد علق
(7/318)
التحريم بالسكر و بد له من دليل يدل على تعلق الحكم بذلك الوصف المشترك إما بنص أو إجماع أو غير ذلك من الطرق الدالة على أن الحكم معلل بذلك الوصف المشترك بين الأصل والفرع وهو الذي يسمى جواب المطالبة فإن القايس إذا قاس توجه عليه منوع أحدها منع الحكم في الأصل والثاني منع ثبوت الوصل الذي علق به الحكم في الأصل والثالث منع وجوده في الفرع وهذه الأسولة الثلاثة قد يسهل جوابها والرابع منع علة الوصف وهو منع كون الحكم متعلقا به وهذا أعظم الأسولة
وذلك الوصف الذي علق به الحكم يسمونه علة وسببا وداعيا وموجبا ومناطا وباعثا وأمارة وعلامة ومشتركا وأمثال ذلك ثم إذا أراد المستدل أن يصوغ هذا قياس شمول قال النبيذ مسكر وكل مسكر حرام ولا بد له من إثبات هذه القضية الكبرى وهو قوله كل مسكر حرام كما يحتاج الأول إلى إثبات كون السكر هو مناط التحريم والذي جعله الأول مناط الحكم جعله الثاني الحد الأوسط المتكرر في المقدمتين ولا بد لكل منهما من الدلالة على ذلك وكل من القياسين يتضمن حكما عاما كليا ولهذا اتفق أرباب القياس الشمولي المنطقي على أنه لابد فيه من قضية كلية
(7/319)
واتفق أرباب القياس التمثيلي على أنه لا بد فيه من مشترك بين الأصل والفرع والمشترك هو الكلي لكن في قياس الشمول لا يجب أن يبين ثبوت الكلي في صورة من الصور المعينة بل يقول الرجل السواد والبياض لا يجتمعان وإن لم يعين سوادا أو بياضا معينين ويقول الكل أعظم من الجزء ولا يعين شيئا
وأما قياس التمثيل فلا بد فيه من تعيين أصل يقاس به الفرع ويمثل به فيقال هذا السواد وهذا البياض لا يجتمعان فكذلك سائر السواد والبياض وهذا الكل أعظم من هذا الجزء وهلم جرا
ويقول أهل التمثيل هذا أنفع لأن الكليات لا وجود لها في الأعيان إنما وجودها في الأذهان فإذا مثل الفرع بمعين ثابت في الخارج أفاد ذلك معرفة شيء موجود معين بخلاف الكلي الذي لا تتمثل أعيانه في الخارج
ولهذا كل متكلم في كليات مقدرة لا يتصور أعيانها الموجودة في الخارج فإما أن يكون كلامه قليل الفائدة بل عديمها وإما أن يكون كثير الخطأ والغلط وإما أن يجتمع فيه الأمران ويقولون أيضا إن العلم بكل واحد واحد من الأعيان يحصل بما به يحصل المعين
(7/320)
الآخر فإنا إذا قلنا الكل أعظم من الجزء كان علمنا بأن هذا الكل أعظم من هذا الجزء كعلمنا بذلك في الكل الآخر فلم نستفد بالقضية الكلية علما بمعين إلا والعلم بذلك المعين مستغن عن القضية الكلية ففيه تطويل بلا فائدة
ويقول أهل قياس الشمول بل قياس التمثيل لا يفيد إلا بتوسط تعليق الحكم بالمشترك وهو الحد الأوسط فلا بد فيه من قضية كلية أيضا لكن قد يدعى القايس الممثل تعليق الحكم بالمشترك بمجرد التمثيل ولا يقيم دليلا على أن الوصف المشترك الجامع بين الأصل والفرع هو مناط الحكم الذي هو الحد الأوسط وربما أثبت ذلك بطرق لا تفيد العلم كالاستقراء الناقص الذي هو نوع السبر والتقسيم ونحو ذلك ففي كل من القياسين قضية كلية لكن صاحب الشمول يثبتها وصاحب التمثيل لا يثبتها
قال أصحاب التمثيل بل صاحب الشمول لا يمكنه إثباته إلا بطريق التمثيل وإلا فإذا نازعه المنازع في الشمول والعموم لم يكن له طريق إلا ذكر الأعيان بأن يقول هذا الكل أعظم من هذا
(7/321)
الجزء وإذا قيل بل العقل يقضي بالقضية الكلية قضاء عاما قيل إنما كان ذاك بواسطة علمه بالجزئيات فيعود إلى التمثيل
ولهذا توجد عامة قضاياهم الكلية منتقضة باطلة لأنهم يدعون فيها العموم بناء على ما عرفوه من التجارب والعادات وتكون تلك منتقضة في نفس الأمر كما هو الواقع فإن من قال كل نار فإنها تحرق ما لاقته إنما قال لأجل إحساسه بما أحس به من جزئيات هذا الكلي وقد انتفض ذلك عليه بملاقاتها للياقوت والسمندل وغير ذلك وبسط الكلام في هذا له موضع آخر والمقصود هنا التنبيه على أن كل واحد من قياس التمثيل والشمول يفيد أمرا كليا مطلقا بواسطته يحصل العلم بالمعينات الموجودة في الخارج ثم قد يكون العلم بتلك المعينات غنيا عن ذينك القياسين والمعين الذي لا نظير له لا يعلم لا بهذا القياس ولا بهذا القياس وقد تكون الكلية منتقضة فالقياس لا يحصل بنفسه العلم بالمعينات وقد لا يحصل العلم به مطلقا وقد يكون كثير الانتقاض بخلاف النصوص النبوية فإنها لا تكون إلا حقا وهي تخبر عن المعينات على ما هي عليه
وأعظم المطالب العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول ولا بقياس التمثيل فإن الله تعالى لا مثل له فيقاس به ولا يدخل هو
(7/322)
وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها فلهذا كانت طريقة القرآن وهي طريقة السلف والأئمة أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل وقياس شمول تستوي أفراده بل يستعملون من هذا وهذا قياس الأولى فإن الله له المثل الأعلى فإذا أدخل هو سبحانه وغيره تحت قضية كلية مثل أن يقال القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلا أو قيل كل موجود فله خاصية لا يشركه فيها غيره ونحو ذلك كان هو سبحانه أحق بمثل هذه الأمور من سائر الموجودات فهو أحق بالغنى عن المحل من كل قائم بنفسه وهو أحق بانتقاء المشارك له في خصائصه من كل موجود وكذلك إذا قيس قياس تمثيل فكل كمال يستحقه موجود من جهة وجودة فالموجود الواجب أحق به وكل نقص ينزه عنه موجود لكمال وجوده فالموجود الواجب أحق بتنزيهه عنه وهو أحق بانتفاء أحكام العدم وأنواعه وأشباهه وملزوماته عنه من كل موجود
وإذا كان الأمر الوجودي كالرؤية مثلا لا يتعلق إلا بأمور موجودة لا يجوز أن تتعلق بمعدوم لأن العدم لا يكون سببا في للوجود وكان كل
(7/323)
ما كان أكمل وجودا كان أحق بأن يرى كان الباري سبحانه بأن يرى أحق من كل موجود وإذا كان تعذر الرؤية أحيانا قد يكون لضعف الأبصار وكان في الموجودات القائمة بنفسها ما تتعذر أحيانا رؤيته لضعف أبصارنا في الدنيا كان ضعفها في الدنيا عن رؤيته أولى وأولى
وليس المقصود هنا الكلام على أعيان المسائل ولكن المقصود بيان مسمى القياس وأنه وإن كان قد يحصل به من العلوم أمور عظيمة فإنه لا يحصل به كل مطلوب ولا يطرد في كل شيء فطرق العلم ثلاث أحدها الحس الباطن والظاهر وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها
والثاني الاعتبار بالنظر والقياس وإنما يحصل العلم به بعد العلم بالحس فما أفاده الحس معينا يفيده العقل والقياس كليا مطلقا فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين لكن يجعل الخاص عاما والمعين مطلقا فإن الكليات إنما تعلم بالعقل كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس
والثالث الخبر والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب فهو أعم وأشمل لكن الحس والعيان أتم وأكمل
(7/324)
وقد تنازع الناس في السمع والبصر أيهما أكمل فذهبت طائفة منهم ابن قتيبة إلى أن السمع أكمل لعموم ما يعلم به وشموله وذهب الجمهور إلى أن البصر أكمل فليس المخبر كالمعاين وليس كل ما يعاين يمكن الإخبار عنه وليس العلم الحاصل بالخبر كالعلم الحاصل بالعيان وإن كان الخبر لا ريب في صدقه لكن نفس المرئي المعاين لا يحصل العلم به قبل العيان كما يحصل عند العيان
والتحقيق في هذا الباب أن العيان أتم وأكمل والسماع أعم وأشمل فيمكن أن يعلم بالسماع والخبر أضعاف ما يمكن علمه بالعيان والبصر أضعافا مضاعفة ولهذا كان الغيب كله إنما يعلم بالسماع والخبر ثم يصير المغيب شهادة والمخبر عنه معاينا وعلم اليقين عين اليقين
والمقصود هنا أن الخبر أيضا لا يفيد إلا مع الحس أو العقل فإن المخبر عنه إن كان قد شوهد كان قد علم بالحس وإن لم يكن شوهد فلا بد أن يكون شوهد ما يشبهه من بعض الوجوه وإلا لم يعلم بالخبر شيء فلا يفيد الخبر إلا بعد الحس والعقل فكما أن العقل بعد الحس فالخبر بعد العقل والحس فالإخبار يتضمن هذا
(7/325)
وهذا وكما أنه ليس كل ما علم بالقياس والعقل والاعتبار يمكن الإحساس بواحد واحد من أعيانه فكذلك ليس كل ما علم بالخبر والسماع يمكن اعتباره بالقياس إما لعدم النظير له من كل وجه وإما لغير ذلك ثم إذا كان الخبر صادقا لا كذب فيه أمن معه من الانتقاض والفساد بخلاف القياس فإن كثيرا مما يبنى فيه على قضايا كلية تكون منتقضة وإن كان فيه ما ليس منتقضا
والمقصود أنه ليس كل شيء يمكن علمه بالقياس ولا كل شيء يحتاج فيه إلى القياس فلهذا قال الأئمة ليس في المنصوصات النبوية قياس وأما كونها لا تعارض بالأمثال المضروبة فهذا هو الذي ذكرناه من أن المنصوص لا يعارضه دليل عقلي صحيح
أما قولهم لا تدرك بالعقول فإن نفس الغريزة العقلية التي تكون للشخص قد تعجز عن إدراك كثير من الأمور لا سيما الغائبات فمن رام بعقل نفسه أن يدرك كل شيء كان جاهلا لا سيما إذا طعن في الطرق السمعية النبوية الخبرية
وهذا هو الذي يسلكه من يسلكه من الفلاسفة ومن يشبههم من أهل الكلام وهؤلاء هم الذين يذكر أبو حامد الغزالي وغيره تهافتهم
(7/326)
وتناقضهم وأن ما يدعونه من المعارف الإلهية بعقولهم جمهوره باطل وإن كان قد وقع في كلامه من كلام هؤلاء أمور قيل أنه رجع عنها ولا ريب أن الرسل صلوات الله عليهم يخبرون الخلق بما تعجز عقولهم عن معرفته ولا يخبرونهم بما يعلمون امتناعه فهم يخبرونهم بمحارات العقول لا بمحالاتها فمن أراد أن يعرف ما أخبرت به الرسل بعقله كان شبيها بمن قال الله تعالى فيه { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } سورة الأنعام 124 وقال { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة } سورة المدثر 52
قال الخطابي وذهب العلماء إلى خلاف هذا الرأي وجعلوا المعلومات قسمين قسم يمكن استدراكه وتثبته حقيقة وقسم لا يعلم إلا ظاهره ولا يتعرض لعلم باطنه وطلب كيفيته وانتهوا في ذلك إلى ما نطق به الكتاب وهو قوله سبحانه { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } سورة آل عمران 7 يجعلون
(7/327)
الوقف عند قوله { إلا الله } ويستأنفون الكلام فيما بعده وهو مذهب الصحابة وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وعائشة وابن عباس قالوا وقد حجب عنا أنواعا من العلم كعلم قيام الساعة وكعلم الروح حين يقول { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } سورة الإسراء 85 وقال تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } سورة المائدة 101 وقال { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } سورة الأنبياء 23
قلت قد ذكرنا معنى لفظ التأويل في غير هذا الموضع وأنه في اللغة التي نزل بها القرآن يراد به حقيقة الشيء كالكيفية التي لا يعلمها إلا الله كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول
ويراد به التفسير وهو كقوله الاستواء معلوم فإن تفسيره ومعناه معلوم ويراد به تحريف الكلم عن مواضعه كتأويلات الجهمية مثل تأويل من تأول استوى بمعنى استولى وهذا الذي اتفق السلف والأئمة على بطلانه وذم أصحابه ومثل هذا لا يقال فيه لا يعلمه إلا الله بل يقال إنه باطل وتحريف وكذب ولكن في القسم الأول يقال لا يعلمه إلا الله وأما القسم الثاني فيعلمه الله وقد يعلمه الراسخون في العلم
(7/328)
قال الخطابي فلم ينته أهل التعمق من المتكلمين حتى تكلموا في الروح وتكلموا في القدر والتعديل والتجوير وتكلموا في النفس والعقل وما بينهما وتكلموا في أشياء لا تعنيهم ولا تجدي عليهم شيئا كالكلام في الجزء والطفرة وما أشبه ذلك من الأمور التي لا طائل لها ولا فائدة فيها فزجر العلماء عن الخوض في هذه الأمور وخافوا فتنتها والخروج منها إلى ما يفضي بالمرء إلى أنواع من المكروه من الأقوال الشنعة والمذاهب الفاسدة ورأوا أن يقتصروا من الكلام على ما انتهى إليه بيان الدين وتوقيف الشريعة
قلت فقد ذكر الخطابي في الكلام المذموم ما لا يدركه الإنسان بعقله وما لا فائدة فيه وما لا يدركه الإنسان بعقله إذا تكلم فيه تكلم بلا علم والكلام بلا علم ذمه الله في كتابه وما لا فائدة فيه هو من باب ما لا يعني الإنسان ولا يفيده ومن باب العلم الذي لا ينفع وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع
ولهذا يقال العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول وهذان النوعان هما اللذان يذكرهما أبو حامد وغيره في وصف غير العلوم الشرعية فيقول هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن إثم فالأول كالعلم بدقائق الهيئة وحركات الكواكب وغير ذلك مما هو بعد التعب الكثير لا يفيد إلا تضييع الزمان وتعذيب الحيوان
(7/329)
والثاني كالعلم بأحكام النجوم التي غالبها ظنون لا تغني من الحق شيئا والخطأ فيها أكثر من الصواب والكذب فيها أكثر من الصدق
وهذان النوعان غير ما ذكر أولا ذمه لما فيه من الخطر والعسر والعجز وهذه الثلاثة غير ما هو كذب في نفسه وباطل فإن هذا هو الكلام المذموم في نفسه فما كان كذبا غير مطابق للحق فهو مذموم في نفسه بخلاف ما فيه عسر وهو حق فإن هذا وإن ذم من وجه فقد يحمد من وجه آخر بخلاف ما لا يدركه الإنسان أو ما لا فائدة فيه فإن هذا قد يقال إن مضرته تضييع الزمان من جنس اللعب واللهو الذي لا ينفع أو من جنس البطالة وتضييع الزمان لكن متى أفضى بصاحبه إلى اعتقاد الباطل حقا والكذب صدقا كان من القسم المذموم بنفسه وكل كلام ناقض نصوص الأنبياء فإنه من الكلام المذموم بنفسه وهو باطل قطعا
وأما قوله وتكلموا في الروح والقدر والتعديل والتجوير والعقل والنفس فقد يظن أن الكلام في هذا مذموم مطلقا وليس كذلك بل الكلام في ذلك وغيره بالحق النافع لا يذم وإنما يذم الكلام الباطل والكلام بلا علم والكلام الحق لمن يعجز عن معرفته كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون
(7/330)
ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله وأما الكلام الحق النافع فهو محمود غير مذموم
قال الخطابي ثم إن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج الناس إليه نصا وتسمية فاحتجنا إلى انتزاع أحكام الحوادث في ضمن الأسماء والنصوص من طريق المعاني والمعقول من النصوص فاستنبطه العلماء وتكلموا فيه من طريق القياس ولم يتجاوزوه إلى الكلام فيما لا أصل له من الكتاب والسنة ولم يتعرضوا لما ورد الكتاب ثم السنة بالزجر عنه وعن الخوض فيه وكان هذا موضع الفرق بين الكلامين
قال وقد أشار الشافعي إلى هذه الجملة وأبان عنها بما زجر عنه من النظر في الكلام وعابه من مذاهب المتكلمين وبما زجر عنه من التقليد وجب عليه من النظر والاستدلال فعلمنا أن الذي زجر عنه ليس هو الذي أمر به وتبينا أن له في الأصول مذهبا ثالثا ليس بالتقليد ولا بالتجريد لمذاهب المقتحمين في غمرات الكلام والخائضين في أوديته وإنما هو الاستدلال بمعقول أصول
(7/331)
الدين التي مرجعها إلى علوم الحس ومقدماتها والنظر المتعلق بالأصول التي هي الكتاب والسنة الصحيحة التي ينقطع العذر بها
قال ونحن لم نعد فيما أوردناه من الكلام في كتاب شعار الدين هذه الجملة وإن كان الذي عبناه في مسألة الغنية عن الكلام هو المذهب الآخر الذي تقدم ذكرنا له وهو مذهب الغلو والإفراط وما يقابله من مذاهب من يرى التقليد ولا يقول بحجج العقول فهو في التفريط والتقصير مواز لمذاهب المتكلمين في الغلو والإفراط والطريقة المثلى هي القصد والاعتدال وهو ما نختاره ونذهب إليه
قال وسبيل ما نأتيه ونذره من هذا الباب سبيل القياس فإنا نستعمله في مواضع ونأباه في مواضع فلا يكون ذلك منا مناقضة وكذلك ما نطلقه من جواز الكلام في موضع وكراهته في موضع آخر والأصل في مذاهب الناس كلهم ثلاث مقالات القول بالحس حسب وهو مذهب الدهرية فإنهم قالوا بما يدركه الحس ولم يقولوا بمعقول ولا خبر وقال قوم بالحس والمعقول حسب ولم يقولوا بالخبر وهو مذهب الفلاسفة لأنهم لا يثبتون
(7/332)
النبوة وقال أهل المقالة الثالثة بالحس والنظر والأثر وهم جماعة المسلمين وهو قول علمائنا وبه نقول
قلت تفصيل مقالات الناس مبسوط في غير هذا الموضع فإن الدهرية لا تنكر جنس المعقول بل تنكر من المعقول ما لا يكون جنسه محسوسا وهذا فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع وإنما كفروا بإنكارهم الغيب الذي أخبرت به الرسل والفلاسفة أيضا لا تنكر جنس الخبر بل تقول بالأخبار المتواترة وغيرها ولكن ينكرون استفادة الأمور الغائبة بأخبار الأنبياء وهم قد يعظمون الأنبياء صلوات الله عليهم ويوجبون اتباع شرائعهم ويأمرون بقتل من يخرج عنها لكن يجعلون مقصودها هو إقامة مصالح الناس في دنياهم بالعدل الذي شرعته الأنبياء
وأما الأمور الإلهية والمعاد ونحو ذلك فيزعمون أنهم لم يخبروا عنها بما يحصل به العلم ولكن خاطبوا الناس فيه بطريق التخييل وضرب المثل الذي ينتفع به الجمهور وحقيقة قولهم هو ما ذكره الخطابي من أنهم لا يجعلون خبر الأنبياء طريقا إلى العلم وقد ذكرنا من كلام من دخل معهم في هذا الأصل الفاسد من المنتسبين إلى المسلمين ما تبين به هذا الأصل وبينا من ضلالهم وكذبهم في هذا القول ما قد بسط في موضعه
(7/333)
وحقيقة ما يزعمونه في المعقول إنما هو أمور ذهنية كلية قائمة في الذهن لا حقيقة لها في الخارج وما يثبتونه من المجردات العقليات بل وواجب الوجود الذي يثبتونه وغير ذلك يعود إلى هذا ومن هنا استطال عليهم إخوانهم الفلاسفة الطبيعية والدهرية فإن أولئك لم ينكروا مثل هذه العقليات ولكن أنكروا وجود هذه في الخارج وادعوا أن كل موجود في الخارج فلا بد أن يمكن إحساسه
والفريقان جميعا كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله من الإخبار بالغيب إلا من كان منهم من الصابئة الحنفاء الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا فأولئك هم سعداء في الآخرة
كما قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } سورة البقرة 62
وأما الصابئة المشركون الذين يعبدون الكواكب والأوثان ونحوهم من الفلاسفة المشركين فهؤلاء كفار كسائر المشركين
والفلسفة اليونانية فلسفة المشائين عامتها من هذه الفلسفة فإن اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان وفي مقالاتهم حق وباطل كما في مقالات مشركي العرب والهند وغيرهم من أصناف المشركين وهذا مبسوط في موضعه
(7/334)
وأما ما ذكره الخطابي من القياس والاعتبار في الأحكام الشرعية وأن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج إليه الناس نصا فهذا كلام في القياس العملي الشرعي وهو مبسوط في موضعه
والناس في هذا بين إفراط وتفريط كما هم كذلك في القياس العقلي الخبري فطائفة تزعم أن أكثر الحوادث لا تتناولها النصوص بل إنما تعلم بالقياس وطائفة بآرائهم يزعمون أن القياس كله باطل حتى يردون الاستدلال المسمى بتنقيح المناط ويردون قياس الأولى وفحوى الخطاب والعلة المنصوصة ويرجعون إلى العموم واستصحاب الحال
وكل من الطائفتين مخطئة غالطة فإن الطائفة الأولى بخست الكتاب والسنة حقهما وقصرت في معرفتهما وفهمهما واعتصمت بأنواع من الأقيسة الطردية التي لا تغني من الحق شيئا أو بتقليد قول من لا تعرف حجة قائله
وكثيرا ما تجد هؤلاء إذا فتشت حجتهم إنما هي مجرد دعوى بأن يظن أحدهم أن الحكم الثابت في الأصل معلق بالوصف المشترك من غير دليل يدله على ذلك بل بمجرد اشتباه قام في نفسه
(7/335)
أو بمجرد استحسان ورأي ظن به أن مثل ذلك الحكم ينبغي تعليقه بذلك الوصف وأحدهم يبني الباب على مثل هذه القواعد التي متى حوقق عليها سقط بناؤه وربما تمسكوا من الآثار الضعيفة بما يعلم أهل المعرفة بالأثر أنه من الموضوع المكذوب فضلا عن أن يكون من كلام المعصوم وقد يتمسكون بما يظهر لهم من ألفاظ المعصوم ولا تكون دالة على ما فهموه
واما الطائفة الثانية فتعتصم من استصحاب الحال ونفي الحكم لعدم دليله في زعم أحدهم مع ظهور الأدلة الشرعية بما يبين به فساد قولها ويفرق بين المتماثلين تفريقا لا يأتي به عاقل فضلا عن نبي معصوم وتجمد على ما تراه ظاهر النص مع خطائها في فهم النص ومراد قائله وتسلب الشريعة حكمها ومحاسنها ومعانيها وتضيف إلى الله ورسوله من الحكم المنافي للعدل والإحسان ما يجب أن ينزه عنه الملك العادل والرجل العاقل
والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة التي نطق بها الكتاب والسنة وهذا هو الذي يسمى تحقيق المناط كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه والاجتهاد في عدل الشخص المعين والنفقة بالمعروف للمرأة المعينة والمثل لنوع الصيد أو للصيد لمعين والمثل الواجب في إتلاف المال المعين وصلة الرحم الواجبة ودخول أنواع
(7/336)
من المسكرات في اسم الخمر وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه
فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء وهو ضروري في كل شريعة فإن الشارع غاية ما يمكنه بيان الأحكام بالأسماء العامة الكلية ثم يحتاج إلى معرفة دخول ما هو أخص منها تحتها من الأنواع والأعيان
وقد احتج من احتج من الأئمة المثبتين للقياس عليه بمثل هذا القياس وأن القرآن العزيز ورد بمثل هذا في القبلة وجزاء الصيد وعدل الشخص ونحو ذلك وهذا لا حجة فيه فإن مثل هذا لا نزاع فيه وهو ضروري لا بد منه ولا يمكن إثبات حكم النوع أو عين إلا بمثل هذا
ونفاة القياس لا يسمونه قياسا وإن سماه المسمى قياسا كان نزاعا لفظيا والتحقيق أن دخول الأعيان في المعنى العام الذي دل عليه الخطاب هو من قياس الشمول وأن تمثيل بعض الأعيان والأنواع ببعض هو من قياس التمثيل لكن شمول اللفظ لهذا ولهذا بطريق العموم يغني عن قياس التمثيل
(7/337)
ونفاة القياس المعروفون بالسنة لا ينازعون في العموم وإن سماه المسمى قياسا كليا بل هو عمدتهم وعصمتهم هو واستصحاب الحال فهذا نوع ومن نازع في القياس والعموم جميعا كما فعل ذلك من فعله من الرافضة فهؤلاء سدوا على أنفسهم طريق معرفة الأحكام فلهذا يحتجون بما يزعمون أنه قول المعصوم ومن الناس من يظن أن العلة المنصوصة هي المسماة بتحقيق المناط وهي داخلة فيه وليس كذلك فإن هذه فيها نزاع
وهنا نوع ثان يسمى تحقيق المناط وهو أن يكون الشارع قد نص على الحكم في عين معينة وقد علم بالنص والإجماع أن الحكم لا يختص بها بل يتناولها وغيرها فيحتاج أن ينقح مناط الحكم أي يميز الوصف الذي تعلق به ذلك الحكم بحيث لا يزاد عليه ولا ينقص منه
وهذا كأمره صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي استفتاه لما جامع امرأته في رمضان بالكفارة ثم لما أتى بالعرق قال أطعمه أهلك وأمره لمن سأله عن فأرة وقعت في سمن بأن تلقى وما حولها ويأكل السمن وأمره لمن سأل عمن أحرم بعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بخلوق أن ينزع عنه الجبة ويغسل الخلوق ويصنع في
(7/338)
عمرته ما كان صانعا في حجته وأمره لمن ابتاع صاعا جيدا من التمر بصاعين من الرديء أن يبيع الرديء بدراهم ثم يبتاع بها جيدا ومثل أمره لبريرة لما عتقت أن تختار ومثل رجمه لماعز والغامدية وقطعه لسارق رداء صفوان والمخزومية وغيرهما وأمثال ذلك
فإنه من المعلوم لجميع العلماء أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ليس مخصوصا بتلك الأعيان بل يتناول ما كان مثلها لكن يحتاجون إلى معرفة مناط المشترك الذي به علق الشارع الحكم
وهذا قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا فالظاهر مثل كون سبب الرجم هو زنا المحصن وسبب القطع هو السرقة والخفي مثل كون الكفارة وجبت لخصوص الجماع أو لعموم الإفطار وهل وجبت لنوع من الإفطار أو لجنسه وهل وجب لوقاع في صوم صحيح في رمضان أو لوقاع في صوم واجب في رمضان سواء كان صحيحا أو فاسدا كما يجب في الإحرام الواجب سواء كان صحيحا أو فاسدا فهذا مما تنازع فيه الفقهاء
وكذلك لما أجاب عن الفأرة التي وقعت في السمن فلا ريب أن الحكم ليس مخصوصا بتلك الفأرة والسمن ولا بنوع من الفأر ونوع من الأسمان فلا بد من إثبات حكم عام وهذا النوع يقر به كثير من منكري القياس أو أكثرهم وكثير من الفقهاء لا يسميه قياسا بل يثبتون به الكفارات والحدود وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس فإنه
(7/339)
هنا قد علم يقينا أن الحكم ليس مخصوصا بمورد النص فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق كما يمكن ذلك في صور القياس المحض المسمى بتخريج المناط فإنه لما نهى عن التفاضل في الأصناف الستة لم يعلم أن حكم غيرها حكمها إلا بدليل يدل على ذلك ولهذا كان بعض نفاة القياس لما حكموا في مثل هذا بأن الحكم مخصوص بفأرة وقعت في سمن دون سائر الميتات والنجاسات الواقعة في سائر المائعات ظهر خطاؤهم يقينا فإن الشارع صلوات الله عليه لم يعلق الحكم في خطابه بفأرة وقعت في سمن ولكن السائل سأله عن ذلك والسائل إذا سأل عن حكم عين معينة أو نوع باسمه لم يجب أن يكون الحكم معلقا مختصا بما سأل عنه السائل بل قد يكون ما سأل عنه السائل داخلا في حكم عام كما أنه إذا سئل عن عين معينة لم يكن الحكم مخصوصا بتلك العين ولافرق بين أن يسأل عن عين أو نوع فليس في جوابه ما يقتضي اختصاص الحكم بمورد السؤال فهذا من أعظم الغلط
وهنا يظهر تفاضل العلماء بما آتاهم الله من العلم فمن استخرج المناط الذي دل عليه الكتاب والسنة دل على فهمه لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم مثل أن يقول القائل الحكم هنا ليس متعلقا بمجرد الميتة بل بالخبيث الذي قال الله تعالى فيه { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } سورة الأعراف 157 فإن الميتة وإن
(7/340)
شاركت الخنزير والدم في التحريم فقد شمل الجميع اسم الخبيث فالتحريم متناول للوصف العام ليس مخصوصا بنوع من الأنواع وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه دليل على الاختصاص بنوع لتعلق الحكم بالوصف العام المشترك وهو الخبث فيكون الخبيث الجامد الواقع في السمن حكمه حكم الفأرة سواء كان دما أو ميتة متجسدة ونحو ذلك ثم ينظر في السمن فيعلم أنه لا اختصاص في الشرع له بذلك بل سائر الأدهان كذلك ثم سائر المائعات كذلك ثم يبقى النظر هل يفرق بين الماء وسائر المائعات أو يسوى بينهما وهل يفرق بين الجامد والمائع أو يسوى بينهما وهل يفرق بين القليل والكثير أو يسوى بينهما هذا من المواضع الخفية التي تنازع فيها العلماء
والمقصود هنا أن مثل هذا لا يرده إلا جهلة نفاة القياس وكذلك العلة المنصوصة وكذلك القياس في معنى الأصل وقياس الأولى وأما القياس الذي يستخرج علة الأصل فيه بالمناسبة فهذا محل اجتهاد ولهذا تنازع الفقهاء القياسون من أصحاب أحمد وغيرهم في ذلك فمنهم من لا يقول إلا بالعلة المنصوصة ومنهم من يقول بالمؤثر
(7/341)
وهو ما نص على تأثيره في نظير ذلك الحكم كالصغر فإنه قد علم أن الشارع علق به ولاية المال فإذا علق به ولاية النكاح كان هذا إثباتا لعلة هذا الحكم بنظيره المؤثر وأما إذا لم يكن مؤثرا فهو الذي يسمونه المناسب الغريب وفيه قولان مشهوران فإنه استدلال على أن الشرع علق الحكم بالوصف لمجرد ما رأيناه في المصلحة
ومن تدبر الأدلة الشرعية منصوصها ومستنبطها تبين له أن القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين وهو من العدل الذي أمر الله به ورسوله وأنه حق لا يجوز أن يكون باطلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالعدل فلم يسو بين شيئين في حكم إلا لاستوائهما فيما يقتضي تلك التسوية ولم يفرق بين اثنين في حكم إلا لافتراقهما فيما يقتضي ذلك الفرق ولا يجوز أن يتناقض قياس صحيح ونص صحيح كما لا يتناقض معقول صريح ومنقول صحيح بل إذا ظن بعض الناس تعارض النص والقياس كان أحد الأمرين لازما إما أن القياس فاسد وإما أن النص لا دلالة له
ومع هذا فالكتاب والسنة بينا جميع الأحكام بالأسماء العام لكن يحتاج إدخال الأعيان في ذلك إلى فهم دقيق ونظر ثاقب لإدخال كل معين تحت نوع وإدخال ذلك النوع تحت نوع آخر بينه الرسول صلى الله عليه وسلم
(7/342)
وحينئذ فكل من الحوادث شملها خطاب الشارع وتناولها الاعتبار الصحيح وخطاب الشارع العام الشامل دل عليها بطريق العمومم الذي يرجع إلى تحقيق المناط وهو في معنى قياس الشمول البرهاني والاعتبار الصحيح تناولها بطريق قياس التمثيل الذي يتضمن التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين والتماثل والاختلاف ثابت في نفس الأمر وقد نصب الله عليه أدلة تدل عليه وكما أن القياس الشمولي والتمثيلي يرجعان إلى أصل واحد ولا يجوز تناقضهما إلا مع فسادهما أو فساد أحدهما فكذلك الخطاب العام والاعتبار الصحيح يرجعان إلى أصل واحد ولا يجوز تناقضهما إلا لفساد دلالتهما أو دلالة أحدهما
وهذا تنبيه على مجامع نظر الأولين والآخرين في جميع استدلالهم ومن تبصر في ذلك وفهمه وعلم ما فيه من الإحاطة تبين له أن دلائل الله تعالى لا تتتناقض وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق لصرائح المعقول وأن ما شرعه للعباد هو العدل الذي به صلاح المعاش والمعاد وإن فهم مع ذلك مسألة التحسين والتقبيح العقلي وارتباطها بمسألة المناسبات ورجوع جنس التحسين والتقبيح إلى حصول المحبوب ودفع المكروه وهو المعروف والمنكر كما يرجع جنس الخبر إلى الوجود والعدم وأن هذا يرجع إلى الحق النافع وفي مقابلته الباطل الذي لا ينفع وهذا يرجع إلى الحق
(7/343)
الموجود وفي مقابلته المعدوم تبين له أيضا تناسب جميع العلوم الصحيحة والموجودات المعتدلة والشرائع الإلهية وأعطى كل ذي حق حقه { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } سورة الأجزاب 4 { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } سورة النور 40 وإذا أحسن الاعتبار تبين له ما في منطق اليونان وفلسفتهم من الصواب والخطأ في الحد والبرهان لا سيما في مواد القياس والبرهان وتبين له كثير من خطأهم في التفريق بين المتماثلين والتسوية بين المختلفين مثلما ذكروه في مواد البرهان من قبول بعض القضايا التي سموها يقينية واعتقدوها كلية وليس الأمر كذلك وردهم لبعض القضايا التي سموها مشهورات ووهميات مع كونها قد تكون أقوى من كثير من القضايا التي سموها يقينية كما قد ذكر في غير هذا الموضع فهذا لمعة من كلام علماء الكلام وغيرهم في طريقة الأعراض ونحوها
(7/344)
فصل
وأما كلام الفلاسفة في هذا الباب فقال القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد في كتابه المعروف بالأصول في العقائد قد رأيت أن أفصح في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من خالفه إما مبتدع وإما كافر مستباح الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم وسببه ما عرض لهم من الضلال عن مقصد فهم الشريعة
وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة الطائفة التي تسمى بالأشعرية والتي تسمى بالمعتزلة والطائفة التي تسمى بالباطنية والطائفة التي تسمى بالحشوية وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في
(7/345)
الله اعتقادات مختلفة وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها في تلك الاعتقادات وزعم كل منهم أن اعتقاده هو الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع وإذا تؤملت جميعها وتؤمل مقصد الشرع ظهر أن جلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة
وأنا أذكر ما ذلك من ايجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع الذي لا يتم الإيمان إلا به وأتحرى في ذلك مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم دون ما جعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح وأبدأ من ذلك بتعريف ما قصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى والطرق التي سلك بهم في ذلك وذلك في الكتاب العزيز
ونبتدي من ذلك بمعرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف وقبل ذلك فينبغي أن
(7/346)
نذكر آراء تلك الفرق المشهورة فنقول أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا إن طريق معرفة وجود الله سبحانه هو السمع لا العقل أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه أن يتلقى من صاحب الشرع ويؤمن به إيمانا كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه
قال وهذه الفرقة الظاهر منها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تبارك وتعالى
قلت ليس المقصود هنا الكلام على كل ما يقوله هذا الرجل فإن حصره للمسلمين في هذه الطوائف الأربع تقصير منه إذ السلف والأئمة وخيار المسلمين ليس منهم واحد من هذه الطوائف فإن المعتزلة قد عرفت بدعتهم عند المسلمين والأشعرية جاءوا بعدهم وما كان في كلامهم من حق فهو قول السلف والأئمة وما كان فيه من باطل فهو مما أحدث كأقوال المعتزلة وغيرهم
(7/347)
وأما الباطنية فهم أبعد عن السلف والأئمة من هؤلاء وهؤلاء
وأما الذين سماهم بالحشوية فهذا الذي ذكره عنهم إن أريد به أن الإيمان بوجود الرب تبارك وتعالى يكفي فيه مجرد إخبار من لم يعلم صدقه بعد فهذا قول لا يقوله عاقل يعقل ما يقول فضلا عن أن يكون هذا قول طائفة لها قول أو قول سلف الأمة وأئمتها ولكن غاية ما قد يقال إن الجزم بوجود الرب تعالى يكفي في الإيمان بأي طريق من الطرق حصل ذلك
وقد تنازع الناس في الجزم هل يمكن أن يكون بغير علم أم لا وهل يحصل الإيمان بدون العلم به أم لا وإذا حصل الإيمان بدون العلم فهل يجب بعد ذلك طلب العلم به أم لا
وتنازعوا في العلم به هل يحصل ضرورة وموهبة أم لا يحصل إلا كسبا ونحو ذلك من المسائل التي ليس هذا موضعها
وكذلك العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من المخبرين له طرق متنوعة ليس هذا موضعها فغير الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بشيء قد يعلم صدقه بوجوه متنوعة فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يعلم صدقه كذلك وقد يفرق في التصديق بين شخص وشخص فهذا وأمثاله مما يقوله من يتكلم في العلم
(7/348)
فهؤلاء قد يقولون العلم بوجود الرب هو فطري ضروري لا يتوقف على النظر والعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم مع ما يقترن برسالته من آيات الصدق التي تحصل أيضا بالضرورة
وإذا حصل العلم بالصانع تعالى وبالرسول بعلوم ضرورية أمكن بعد هذا أن يعلم تفصيل المعرفة بالله وصفاته وغير ذلك بطريق السماع من الرسول
ومما يبين هذا أن الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم كان عامتهم مقرين بالصانع وكانت آيات رسالته وأعلام نبوته أظهر عند طالب الحق من أن تخفى على عاقل
وأيضا فقد يقال إن من الناس من يحصل له العلم بحال الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه عالم صادق فيما يذكره من العلوم الإلهية والمعارف الدينية ثم يعرف من الرسول صلى الله عليه وسلم هذه العلوم كما قد يسلكه أبو حامد وهذا الرجل وغير واحد في العلم بالنبوة فيقولون نعلم أن هذا نبي كما نعلم أن هذا طبيب وأن هذا شاهد عدل وأن هذا أمين وسائر الصناعات
(7/349)
فإنه إذا علم وجود النوع كان العلم بأن هذا الشخص من أهل هذا النوع له طرق متنوعة فهذه طريق تعرف به نبوة النبي قبل العلم بتفصيل العلوم الإلهية والدينية
وبالجملة فالعلم بنبوة النبي لها طرق كثيرة قد ذكرت في غير هذا الموضع فالذين يسلكون في معرفة الله تعالى طريق السماع والخبر المجرد يعرفون صدق النبي أولا ثم يعلمون بخبره ما أخبر به
والعلم بصدق النبي ليس موقوفا على إثبات المقدمات التي يذكرها كثير من أهل الكلام كالمعتزلة ومن تبعهم لما سلكوا في ذلك طريق إثبات حدوث الأجسام بما ادعوه من التركيب وبما اتصفت به من الاختصاص وبما قام بها من الأعراض والحوادث وظنوا أنه لا طريق إلى العلم بصدق الرسول إلا هذه أخذوا يشنعون على من لم يسلك هذه الطرق أو قال ما يناقض مقدماتها وقد عرف بطلان طريقهم شرعا وعقلا ولهم ولنحوهم من أهل الكلام الباطل تشنيعات على أهل الجماعة
(7/350)
وقد تقدم من كلام أبي سليمان الخطابي وغيره في الغنية عن الكلام وأهله وبيان طريق المعرفة ما يتعلق بهذا الموضوع ومثل هذا موجود في كلام عامة أئمة المسلمين فإنهم يذمون الطريق التي أحدثها أهل الكلام كالمعتزلة ونحوهم ولكن هؤلاء الذين ابتدعوها يذمون من لم يسلكها من عوام المسلمين وعلمائهم ويسمونهم حشوية فإن لفظ الحشوية أول ما عرف الذم به من كلام المعتزلة ونحوهم رووا عن عمرو بن عبيد أنه قال كان عبد الله بن عمر حشويا وهم يسمون العامة الحشو كما تسميهم الرافضة والفلاسفة الجمهور ويسمون مذهب الجماعة مذهب الحشو فلما كان السلف والأئمة يردونهم إلى الشرع وظنوا هم أن الشرع لا يدل إلا بمجرد خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا بطريق الإلزام فيلزم أن يكون وجود الصانع تعالى يكفي فيه مجرد خبر الرسول بوجوده وكان هذا من تقصيرهم في معرفة الشرع فإن الشرع يتضمن بيان الدلائل العقلية التي يحتاج إليها وينتفع بها في هذا الباب
وقد اعترف بذلك أئمة طوائف الكلام والفلسفة الذين يقولون لا تعرف إلا بالعقل بل الذين يقولون بأن وجودب المعرفة والنظر ثابت في العقل كما سنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم في ذلك فإن
(7/351)
الكتاب والرسول وإن كان يخبر أحيانا بخبر مجرد كما يأمر أحيانا بأمر مجرد فهو يذكر مع إخباره عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله من الدلالة والبيان والهدى والإرشاد ما يبين الطرق التي يعلم بها ثبوت ذلك وما يهدى القلوب ويدل العقول على معرفة ذلك ويذكر من الآيات والأمثال المضروبة التي هي مقاييس عقلية وبراهين يقينية ما لا يمكن أن يذكر أحد من أهل الكلام والفلسفة ما يقاربه فضلا عن ذكر ما يماثله أو يفضل عليه
ومن تدبر ذلك رأى أنه لم يذكر أحد طريقا عقليا يعرف به وجود الصانع أو شيء من أحواله من أهل الكلام والفلاسفة إلا وقد جاء القرآن بما هو خير منه وأكمل وأنفع وأقوى وأقطع بتقدير صحة ما يذكره هؤلاء فصل
ومما يبين أصل الكلام في هذا المقام أنه قد تنازع الناس في أصل المعرفة بالله هل تحصل ضرورة في قلب العبد أو لا تحصل إلا بالنظر أو تحصل بهذا تارة وهذا تارة
فذهب كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الطوائف من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة
(7/352)
وغيرهم إلى أنها لا تحصل إلا بالنظر وهؤلاء يقولون في أول واجب على العبد هل هو النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله أو المعرفة وقد تنازعوا في ذلك على قولين ذكرهما هؤلاء الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم
والنزاع لفظي فإن النظر واجب وجوب الوسيلة من باب ما لا يتم الواجب إلا به والمعرفة واجبة وجوب المقاصد فأول واجب وجوب الوسائل هو النظر وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة ومن هؤلاء من يقول أول واجب هو القصد إلى النظر وهو أيضا نزاع لفظي فإن العمل الاختياري مطلقا مشروط بالإرادة وحكى عن أبي هاشم أنه قال أول الواجبات الشك وقال كثير من أهل الكلام والصوفية والشيعة وغيرهم إن المعرفة يبتديها الله اختراعا في قلوب العقلاء البالغين من غير سبب يتقدم وغير نظر وبحث وأنها تقع ضرورة ويذكر ذلك عن صالح قبة وفضل الرقاشي وغيرهما
(7/353)
وعن الجاحظ أنه قال معرفة الله ضرورية وأنها تقع في طباع نامية عقب النظر والاستدلال وأن العبد غير مأمور بها ويذكر نحو ذلك عن ثمامة بن أشرس
وذكروا عن الجهم أنه قال معرفة الله واقعة باختيار الله لا باختيار العبد لأن العبد لا يفعل شيئا
وقال جمهور طوائف المسلمين يمكن أن تقع ضرورة ويمكن أن تقع بالنظر بل قال كثير من هؤلاء إنها تقع بهذا تارة وبهذا تارة فالذين جوزوا وقوعها ضرورة هم عامة اهل السنة وسائر المثبتين للقدر كالأشعري وغيره
وتنازع نظارهم هل ذلك بطريق خرق العادة أو هو معتاد على قولين ومن هؤلاء القائلين بأنها تحصل تارة بالضرورة وتارة بالنظر أبو حامد والرازي والآمدي وغيرهم
ولهذا لما أوردوا عليهم في مسألة وجوب النظر أن المعرفة قد
(7/354)
تحصل بغير الحس والخبر والنظر بطريق تصفية النفس وأنها طريق الصوفية وأنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في المعارف الإلهية بخلاف أصحاب النظر فإنه قد لا يحصل لهم مثل هذا الجزم
وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى تحصيل معرفة الله فلا أقل من أن تكون هي من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله تعالى فقال الرازي في كتابه الكبير نهاية العقول في الجواب العقائد الحاصلة عند التصفية إما أن تكون ضرورية وإما أن لا تكون فإن كانت ضرورية فلا كلام لنا فيها فإنا قد نسلم أن النظريات يمكن أن تصير ضرورية وإن لم تكن ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها زوال شيء من العلوم الضرورية أو لا يلزم فإن لزم فتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية فلا عبرة حينئذ بذلك فإن أمثال تلك العقائد قد توجد لأصحاب الرياضة من المبطلين من اليهود والنصارى والدهرية
(7/355)
وكذلك قال أبو الحسن الآمدي في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار في مسألة وجودب النظر لما ذكر حجة من ذكر من جهة المنازع إنا لا نسلم أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا بالنظر والاستدلال بل أمكن حصولها بطريق آخر إما بأن يخلق الله تعالى العلم للمكلف بذلك من غير واسطة وإما بأن يخبره به من لا يشك في صدقه كالمؤيد بالمعجزات الصادقة وإما بطريق السلوك والرياضة وتصفية النفس وتكميل جوهرها حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية مطلعة على ما ظهر وبطن من غير احتياج إلى تعليم وتعلم
وقال في الجواب قولهم لا نسلم توقف المعرفة على النظر قلنا نحن إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له العلم بالله
(7/356)
بغير النظر وإلا فمن حصلت له المعرفة بالله بغير النظر فالنظر في حقه غير واجب
وكذلك ذكر هذا غير واحد من أئمة الكلام من أصحاب الأشعري وغيرهم ذكروا أن المعرفة بالله تعالى قد تحصل ضرورة وأنهم مع قولهم بوجوب النظر فإنهم يقولون بإيمان العامة إما لحصول المعرفة لهم ضرورة وإما لكونهم حصل لهم من النظر ما يقتضي المعرفة وإما لصحة الإيمان بدون المعرفة ونقلوا صحة إيمان العامة عن جميعهم
وممن ذكر ذلك أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا في كتابه الكلام أو بعض نظرائه من أصحاب الأستاذ أبي المعالي قال فإن قيل إذا قلتم إن النظر واجب والمعرفة واجبة فما قولكم في العوام وسائر الناس الذين لا ينظرون ولا يعرفون أهم مؤمنون أم كافرون قلنا اختلف في هذا علماء الأصول أما أبو هاشم رأس القدرية فإنه ركب الأبلق العقوق في هذا وقال من لا يعرف الله فهو كافر غير مؤمن وقال المعرفة واجبة فإذا لم تحصل فضدها النكرة والنكرة كفر وقرره بأن هؤلاء العامة يقولون إنهم
(7/357)
مخيرون في المذاهب أم غير مخيرين فإن قلتم إنهم مخيرون بين الرفض والاعتزال والقدر والتجسيم والتشبيه وغير ذلك من المذاهب فهذا خطأ وعناد وإن قلتم لا يخيرون بل يتبعون بعض المذاهب فلا يمكن اختيار بعض المذاهب إلا بدليل وذلك هو العلم والنظر
قال وأما علماؤنا فكلهم مجمعون على أن العامة مؤمنون وأنهم حشو الجنة إلا أنهم اختلفوا في ذلك فقال قائلون إنهم عالمون بالله تعالى عارفون بالأدلة إلا أن عبارتهم غير مفصحة بالألفاظ المصطلح عليها وإلا فالأدلة في طي عقولهم ونشر نفوسهم وإذا رأى أحدهم خضرة تفوه يقول سبحان الله وهذا نظر منه وقالوا لا معنى للعلم إلا اعتقاد المعلوم على ما هو عليه وهذا موجود في حق العامة ثم إنهم قالوا في العلوم النظرية ما قولكم فيها أتجيزون وجودها ضرورة أم لا تجيزون وإن لم تجوزوا ذلك فقد أبعدتم وإن جوزتم ذلك فألا قلتم مثله هاهنا ويكون التكليف الوارد في حقهم
(7/358)
قول لا إله إلا الله محمد رسول الله وتكون المعارف ضرورية
قال وقال قائلون من علمائنا هم مؤمنون غير عالمين لأن للعلم حقيقة فإن وجدت حكمنا بانهم عالمون وإلا فلا والعلم معرفة المعلوم على ما هو به على وجه لا يمكن الانحلال عنه ولا الانفكاك منه وإذا طرأت عليه شبهة لا يرتاع لها ولا يتشكك وهذا العلم بناؤه على طريق يفيد العلم ولا يوجد هذا في حق العامة فإنهم وإن اعتقدوا المعلوم على ما هو به إلا أنهم يعرضه التشكك إذا ذكرت لهم شبهة إذ لا يقدرون على دفعها بطريق يستند العلم إليه لأنهم يدفعون الشبه باتباع الآباء والتعصب الذي نشأوا عليه وهذا لا يحصل به العلم وإذا قال إن العلم حصل بغير اتباع الآباء والتقليد فهذا عالم حقيقة كسادات الصوفية فإن المعارف في حقهم ضرورة
قال وأما قوله بأن العامة ينظرون قلنا لعمري ذاك كله مبادىء النظر وما وصلوا إلى غاية النظر وهو وقوف منهم على أحد شطري الشيء لأنهم يقولون العالم حادث ويجوز أن يكون
(7/359)
حادثا ويجوز أن يكون قديما مثلا فيعتقد حدوثه ولا ينظر إلى الجانب الآخر والعالم يستعرض المسالك ويشرحها بالمدارك وينهى النظر إلى الغاية القصوى
قال فإن قيل كيف يكونون مؤمنين وليسوا بعارفين قلنا لأن الله تعالى أوجب عليهم هذا القدر ولم يوجب عليهم العلم وهذا معلوم بضرورة العقل مستندا إلى السمع فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتفي من الأعراب بالتصديق مع علمنا بقصور علمهم عن معرفة النظر والأدلة بل يجب عليهم نفي الشك عنهم فإذا كانوا قد نفوا الشك واللبس عنهم وعقائدهم مستقرة فهم مؤمنون ولا نقول يجب العلم بل لو زال الشك عنهم بخبر التواتر ظاهرا أو قول بعض المشايخ أو منام هائل في حق الخصوم ثم سكنت قلوبهم إلى اعتقادهم صح ذلك فإن لم يزل عنهم الشك إلا بالعلم فعند ذلك لا بد منه
قال وفي القرآن حجاج وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج غير أن العامي يكتفي به كقوله تعالى { أفعيينا بالخلق الأول } سورة ق 15 وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العياء وكذلك قوله تعالى { ويجعلون لله ما يكرهون } سورة النحل 62 { ألكم الذكر وله الأنثى } سورة النجم 21 وليس هذا يدل على نفي الولد قطعا فمبادىء النظر كافية لهم فإن قيل فإذا لم يجب هذا النظر على كافة الناس فهل يجب على الآحاد قلنا أجل يجب في كل عصر أن يقوم به آحاد الناس وهو فرض من فروض الكفايات كالجهاد وتعلم القرآن
(7/360)
وغير ذلك من فروض الكفايات فأما عامة الناس فلا يتعين عليهم العلم بل الاعتقاد الصحيح يكفيهم
قلت المقصود أن الطائفة الأولى الذين قالوا إن العامة عليهم العلم قالوا إنه قد يحصل لهم ضرورة وقد يحصل بالنظر والطائفة الثانية الذين اكتفوا بالاعتقاد اعترفوا بأن من الناس من يحصل له المعرفة ضرورة كسادات الصوفية وأما ذكره من أن الحجاج الذي في القرآن يكتفي به العامي وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج فهذا الكلام يقوله مثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام الجاهلين بحقائق ما جاء به التنزيل وما بعث به الرسول حتى قد يقول بعضهم إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن وهؤلاء جهلهم بمعاني الأدلة البرهانية التي دل عليها القرآن كجهلهم بحقائق ما أخبر به القرآن بل جهلهم بحقائق ما دل عليه الشرع من الدلائل العقلية والمطالب الخبرية أعظم من جهلهم بما سلكوه من الطرق البدعية التي سموها عقلية
وقد رأيت في كلام هذا الرجل وأمثاله من ذلك عجائب يخالفون بها صريح المعقول مع مخالفتهم لصحيح المنقول ونقص علمهم وإيمانهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
(7/361)
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق التي جاء بها القرآن هي الطرق البرهانية التي تحصل العلم في المطالب الإلهية مثال ذلك أنه يستدل بقياس الأولى البرهاني لا يستدل بقياس التمثيل والتعديل وذلك أن الله تعالى ليس مماثلا لشيء من الموجودات فلا يمكن أن يستعمل في حقه قياس شمول منطقي تستوي أفراده في الحكم كما لا يستعمل في حقه قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع فإنه سبحانه لا مثل له وإنما يستعمل في حقه من هذا وهذا قياس الأولى مثل أن يقال كل نقص ينزه عنه مخلوق من المخلوقات فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه وكل كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه لأنه سبحانه واجب الوجود فوجوده أكمل من الوجود الممكن من كل وجه ولأنه مبدع الممكنات وخالقها فكل كمال لها فهو منه وهو معطيه والذي خلق الكمال وأبدعه وأعطاه أحق بأن يكون له الكمال كما يقولون كل كمال في المعلول فهو من العلة
وكان المشركون يقولون إن الملائكة بنات الله كما حكى الله ذلك عنهم بقوله { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } سورة الزخرف 19 وهم مع هذا يجعلون البنات نقصا وعيبا ويرون الذكر كمالا فقال لهم كيف تصفون ربكم بأنقص الوصفين وأنتم مع هذا لا ترضون هذا لأنفسكم فهذا احتجاج عليهم بطريق
(7/362)
الأولى في بطلان قولهم إن له البنات ولهم البنين لم يحتج بذلك على نفي الولد مطلقا كما يقول من يفتري على القرآن
قال تعالى { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون } سورة النحل 56 { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } إلى قوله تعالى { ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون } سورة النحل 57 62
فبين سبحانه وتعالى أنهم يفضلون أنفسهم على ربهم ويجعلون له ما يكرهون ويقولون بوصفهم الكذب أن لهم الحسنى وأنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون وأن ما جعلوا لله نظيره إذا بشر به أحدهم ظل وجهه مسودا يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون فبين سبحانه أن هذا الحكم حكم سيىء
كما قال تعالى في الآية الأخرى { ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى } سورة النجم 21 22 أي قسمة جائرة وقال في
(7/363)
الآية الأخرى { وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون } سورة الزخرف 15 19 فقال تعالى مقيما للحجة مخاطبا باستفهام الإنكار المبين لبطلان ما أنكره وامتناعه وأن ذلك مستقر في الفطر { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } سورة الزخرف 16 فإنه لو قدر على سبيل الفرض أن يتخذ أولادا أكان يتخذ مما يخلق بنات ويصفيكم بالبنين أي يجعل البنين صافين لكم لا يشرككم في اتخاذ البنين بل تكونون أنتم مخصوصون بخير الصنفين وهو سبحانه مخصوص بالصنف المنقوص
ثم ذكر عنهم ما يبين فرط نقص البنات عندهم فقال { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا } سورة الزخرف 17 وهن الإناث كما ذكر ذلك في سورة النحل أي بالذي جعله مثلا للرحمن وهن البنات اللاتي جعل للرحمن مثلهن فضربه للرحمن مثلا أي جعله له مثلا حيث مثل به الملائكة الذين جعلهم بنات الله فجعلهن يماثلن البنات اللاتي جعل الرحمن مثلهن فضرب للرحمن أي
(7/364)
جعل له مثلا يماثل البنات اللاتي إذا بشر أحدهم بها ظل وجهه مسودا وهو كظيم
ثم بين نقص النساء فقال { أو من ينشأ في الحلية } سورة الزخرف 18 وهن النساء تربين في الحلية { وهو في الخصام غير مبين } سورة الزخرف 18 وهي المرأة لا تكاد تتكلم بحجة لها إلا كانت عليها فبين أنهن من نقصهن يكملن بالحلية التي تزينهن في أعين الرجال وهي لا تبين في الخصام
وعدم البيان صفة نقص فإن الله ميز الإنسان بالنطق والبيان الذي فضله به على سائر الحيوان كما قال تعالى { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان } سورة الرحمن 1 4 وقال { اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } سورة العلق 3 5
وأهل المنطق يقولون الإنسان هو الحيوان الناطق ولما كان هذا أظهر صفاته قال تعالى { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } سورة الذاريات 23 وقد قال تعالى { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } سورة النجم 19 20 وهذه هي الأصنام الكبرى التي كانت بمدائن الحجاز فإنه كانت
(7/365)
اللات لأهل المدينة والعزى لأهل مكة ومناة الثالثة الأخرى لأهل الطائف
وهذه كلها مؤنثة كما قال في الآية الأخرى { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا } سورة النساء 117
وهذه جعلوها شركاء له تعبد من دونه وسموها بأسمائه مع التأنيث كما قيل إن اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من منى يمنى إذا قدر وكانوا يسمونها الربة وهم سموها بهذه الأسماء التي فيها وصفها لها بالإلهية والعزة والتقدير والربوبية وهي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان أي من كتاب وحجة فإن الله تعالى لم يأمر أحدا بأن يعبد أحدا غيره ولم يجعل لغيره شركاء في إلهيته
كما قال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } سورة الزخرف 45
(7/366)
وهو سبحانه دائما ينزه نفسه في كتابه العزيز عن الشريك والولد كما ذكره في سورة النحل حيث قال { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم } سورة النحل 56 الآية وما بعدها
وقال { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا } سورة الإسراء 111
وقال تعالى { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } سورة الفرقان 1 2
وقال تعالى { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } سورة الاخلاص
وقال { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون } سورة الأنعام 100
وقالت الجن { وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا } سورة الجن 3
وإذا أراد أن يحتج سبحانه على نفي الولد مطلقا لم يذكر هذه الحجة التي لم يفهم وجهها من لم يعرف ما في القرآن من الحجاج وظن هو
(7/367)
وأمثاله من أهل الضلال أن حجاجهم أكمل من حجاج القرآن وأنهم حققوا أصول الدين أعظم من تحقيق الصحابة والتابعين
بل يذكر سبحانه الحجة المناسبة للمطلوب كقوله تعالى { وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } سورة البقرة 116 117
وقال تعالى { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } سورة الأنعام 100 101
والكلام على هذه الآيات وما فيها من الأسرار مذكور في غير هذا الموضع وقد بين هناك أن هؤلاء الآيات تضمنت إبطال قول المبطلين من المشركين والصابئين وأهل الكتاب وتضمنت إبطال ما كان يقوله مشركو العرب وما يقوله النصارى وما يقوله مشركو الصابئة وفلاسفتهم الذين يقولون بتولد العقول أو العقول والنفوس عنه
ومن أراد الجمع بين كلامهم وبين النبوات سماها ملائكة ويقول العقل كالذكر والنفس كالأنثى فهؤلاء خرقوا له بنين وبنات بغير علم
(7/368)
ثم بين سبحانه أنه مبدع للسماوات والأرض والإبداع خلق الشيء على غير مثال بخلاف التولد الذي يقتضي تناسب الأصل والفرع وتجانسهما
والإبداع خلق الشيء بمشيئة الخالق وقدرته مع استقلال الخالق به وعدم شريك له والتولد لا يكون إلا بجزء من المولد بدون مشيئته وقدرته ولا يكون إلا بانضمام أصل آخر إليه
وقال تعالى { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } سورة الأنعام 101 فبين بطلان كون الولد له من غير صاحبة لقوله { ولم تكن له صاحبة } سورة الأنعام 101 فإن التولد لا يكون إلا من أصلين وليس في الموجودات ما يكون وحده مولدا لشيء بل قد خلق الله تعالى من كل شيء زوجين وهو سبحانه الفرد الذي لا زوج له
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين فساد قول المتفلسفة الذين يقولون لا يصدر عن الواحد إلا واحد حتى قالوا إن الواجب لم يصدر عنه أولا إلا عقل ثم بتوسط العقل صدر عقل ونفس وفلك
(7/369)
وهذا الكلام وإن كان فساده معلوما من وجوه كثيرة كما قد بسط في موضعه فالمقصود هنا أنه ليس في الموجودات الواحد البسيط الذي يصفونه وهو المجرد عن جميع صفات الإثبات الذي لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات بل هذا الواحد لا حقيقة له
وأيضا فإنه لا يعرف في الموجود واحد صدر عنه بمجرده شيء وما يمثلون به من أن النار لا يصدر عنها إلا الاحراق والتسخين والماء لا يصدر عنه إلا التبريد والشمس يصدر عنها الشعاع ونحو ذلك كلها حجج عليهم فإن هذه الآثار لم تصدر عن مجرد هذه الأجسام وطبائعها بل لا تكون السخونة والإحراق إلا عن شيئين أحدهما النار أو الشعاع أو الحركة فإن هذه الثلاثة من أسباب السخونة والثاني محل قابل لذلك كبدن الحيوان والنبات ونحو ذلك وإلا فالسمندل والياقوت وغيرهما لما لم تكن فيه قوة القبول لم تحرقه النار
وكذلك الشعاع لا بد له من محل يقبل الانعكاس عليه وإلا فإذا لم يكن هناك جسم قابل له لم يحدث الشعاع
وهؤلاء الملاحدة يقولون إن الأول الواجب الوجود الذي
(7/370)
يسمونه العلة هو ذات بسيطة ليس له نعت من النعوت وأنه صدر عنه عقل هو واحد بسيط أيضا لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ثم صدر عنه عقل ونفس وفلك وليس هذا نظير ما يمثلون به من الآحاد فإن آثارها كانت بمشاركة من القوابل الموجودة وهنا كل ما سوى الأول فهو معلول له ليس هناك موجود غيره ليشترك هو وذلك الموجود في ذلك كاشتراك الشمس والمطارح القابلة واشتراك النار والموارد القابلة
فقوله تعالى { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } سورة الأنعام 101 بيان أن التولد لا يكون إلا بين اثنين وهو سبحانه لا صاحبة له فكيف يكون له ولد
وهذا القدر لما كان مستقرا في فطر الناس كان عامة ما يسمونه تولدا ونتاجا إنما يكون عن أصلين فالأمور التي تسمى متولدات كالشبع والري ونحو ذلك إنما حدثت عن أصلين فعل العبد والأسباب الأخر المعاونة له
وكذلك النظار يقولون النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين ويشبهون حصول النتيجة عن المقدمتين بحصول النتاج عن الأصلين من
(7/371)
الحيوان لأن هذين أصلان في التوليد وهذين أصلان في التولد
ثم قال تعالى { وخلق كل شيء } سورة الأنعام 101 وذلك بيان لأنه إذا كان خالقا لجميع الأشياء فكيف يكون فيها ما هو متولد عنه والجمع بين الخلق والتوليد ممتنع كما يمتنع الجمع بين التولد والتعبد
كما قال تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا } سورة مريم 88 94
وقال تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } سورة الأنبياء 26 حتى أنه استدل بهذا طائفة من الفقهاء على أن ولد الإنسان يعتق عليه إذا ملكه فلا يكون عبده من هذه الآية لأنه سبحانه بين تنافي التوليد والتعبيد
(7/372)
وهذا الحكم معلوم بأدلة أخرى كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال لعل صاحبها يلم بها قالوا أجل قال لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستعبده وهو لا يحل له
فبين صلى الله عليه وسلم أنه إذا وطىء تلك الحبلى وسقى ماءه زرع غيره فإنه بتلك الزيادة التي تحصل منه في الجنين يصير شريكا له في التولد وحينئذ فلا يحل له أن يستعبده ولا أن يجعله موروثا عنه كما يورث ماله فإذا كان هذا بمشاركته في التولد مع أن الولد قد انعقد من ماء غيره فكيف بالولد الذي انعقد منه
وكذلك قوله تعالى { وهو بكل شيء عليم } سورة الأنعام 101 كما قال في الآية الأخرى { لقد أحصاهم وعدهم عدا } سورة مريم 94 فإن إحاطة العلم والعد بهم فيه بيان أنه لا يكون منهم إلا ما يعلمه لا ينفردون عنه بشيء كما ينفرد الولد عن والده والشريك عن شريكه
(7/373)
وقوله في الآية الأخرى { بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } سورة البقرة 117 بيان لكونه سبحانه يخلق الأشياء بكلمته وأنها منقادة له فإذا قال لها كن كانت وهذا مناف للتوليد بل خلق المسيح عليه السلام بكلمة كن
وقد علم في الشاهد أن من يدبر الأشياء بمجرد كلمته ليس كالذي يحتاج إلى أن تولد منه الأشياء فكيف يوصف بالتولد وهو سبحانه في جميع ما يقضيه إنما يقول له كن فيكون
وأما ما ذكره من قوله تعالى { أفعيينا بالخلق الأول } سورة ق 15 وقول ذلك القائل من أنكر الخلق فلم ينكره لأجل كونه عيي بالخلق الأول فيقال له مثل هذا الكلام إذا قاله ملحد طاعن في القرآن كان فيه من الدلالة على جهله وضلاله ما لا يقدر على وصفه الإنسان
وذلك أن الله تعالى في كتابه ذكر من دلائل المعاد وبراهينه ما لا يقدر أحد على أن يأتي بقريب منه وذكر فيه من أصناف الحجج ما ينتفع به عامة الخلق
(7/374)
فإنه سبحانه دل على إمكان إحياء الموتى وقدرته على ذلك بطريق الوجود والعيان وبطريق الاعتبار والبرهان والأول أعظم الطريقين فلا شيء أدل على إمكان الشيء من وجوده فذكر في كتابه ما أحياه من الموتى في غير موضع
كما قال تعالى في سورة البقرة { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } سورة البقرة 55 56 فهذه في قصة موت بني إسرائيل الذين سألوه الرؤية
وقال في قصة البقرة { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون } سورة البقرة 73
وقال في الذين خرجوا من ديارهم { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس } سورة البقرة 243 الآية وهي قصة معروفة
وقال تعالى { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }
(7/375)
سورة البقرة 259 فقص هذه القصة التي فيها موت البشر مائة عام وموت حماره ومعه طعامه وشرابه ثم إحياء هذا الميت وإحياء حماره وبقاء طعامه وشرابه لم يتغير ولم يفسد وهو في دار الكون والفساد التي لا يبقى فيها في العادة طعام وشراب بدون التغير بعض هذه المدة وهذا يبين قدرته على إحياء الآدميين والبهائم وإبقاء الأطعمة والأشربة لأهل الجنة في دار الحيوان بأعظم الدلالات
وذكر بعد ذلك قول إبراهيم { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم } سورة البقرة 260 فأمره بخلط الأطيار الأربعة مثلا مضروبا لاختلاط الأخلاط الأربعة ثم أحيى الأطيار وميز بين هذا وهذا وجعلهن يأتين سعيا إجابة
(7/376)
لدعوة الداعي فكان في ذلك من الدليل ما لا يخفى على ذي تحصيل
فهذه خمس قصص في إحياء الآدميين وقصة في إحياء البهائم وقصة في إبقاء الطعام والشراب وقصة في إحياء الطير وذكر في غير موضع إحياء المسيح صلى الله عليه وسلم للموتى وذكر قصة أصحاب الكهف وبقاءهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين نياما لا يأكلون ولا يشربون وهم أحياء لم يفسدوا
وقال في القصة { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها } سورة الكهف 21
فهذه القصص فيها من الإخبار بالموجود ما هو من أعظم الدلائل على القدرة والإمكان لإحياء الله الموتى وصدق هذه الأخبار يعلم بما به يعلم صدق الرسول ويعلم بأخبار أخرى من غير طريق الرسول وإخباره بها من أعلام نبوته كما قد بسط في موضع آخر
(7/377)
وأما الصنف الثاني وهو طريق إثبات الإمكان والقدرة بالاعتبار والقياس بطريق الأولى فإنه سبحانه يستدل على ذلك تارة بخلق النبات ويبين أن قدرته على إحياء الموتى كقدرته على إنبات النبات وتارة يستدل على ذلك بخلق الحيوان نفسه وأن قدرته على الإعادة كقدرته على الابتداء وأولى
وتارة يبين ذلك بقدرته على خلق السماوات والأرض كما في قوله تعالى { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } سورة الحج آيه 75
وفي هذا الكلام العزيز من أنواع الاعتبار ما لا يحتمله هذا المكان
وقال تعالى { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } سورة
(7/378)
الأعراف 57 فبين أن إخراج النبات بالماء مما يتذكر به إخراج الموتى من قبورهم
وقال تعالى { ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج } سورة ق 119
وقال تعالى { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور } سورة فاطر 9
وقال تعالى { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون } سورة الواقعة 58 62
وقال تعالى { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } سورة يس 81
وقال تعالى { أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير } الأحقاف 33
وقال تعالى { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } سورة الروم 27
(7/379)
وقد بين سبحانه من حجج منكري المعاد والجواب عنها وتقريره ما يطول هذا الموضع باستقصائه كما في قوله { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } سورة يس 78 80 إلى آخر الآيات وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه
فأما الآية التي ذكرها القائل المتقدم وهي قوله { أفعيينا بالخلق الأول } سورة ق 15 فإن العرب تقول عي وعيى بأمره إذا لم يهتد لوجهه ويقول الرجل عييت بأمري إذا لم يهتد لوجهه وأعياني هو
وقال الشاعر
% عيوا بأمرهم كما % عييت ببيضتها الحمامة %
فالعيى بالأمر يكون عاجزا عنه مثل أن لايدري ما يفعل به
فقال سبحانه باستفهام الإنكار المتضمن نفي ما استفهم عنه وأن ذلك معلوم عند المخاطب { أفعيينا بالخلق الأول } سورة ق 15 فلم نكن عالمين بما نصنع فيه ولا قادرين عليه أم خلقناه بعلمنا وقدرتنا وأتينا فيه من الإحكام والإتقان بما دل على ذلك كمال علمنا وحكمتنا وقدرتنا
وهذا نظير قوله { أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير }
(7/380)
سورة الأحقاف 33
ومن المستقر في بدائة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الآدميين فإذا كان فيها من الدلالة على علم خالقها وقدرته وحكمته ما بهر العقل أفلا يكون ذلك دالا على أنه قادر على إحياء الموتى لا يعيى بذلك كما لم يعى بالأول بطريق الأولى والأخرى
ولعل هذا الجاهل لم يفهم هذه الآية فظن أن قوله { ولم يعي بخلقهن } الأحقاق 33 هو من الإعياء الذي هو النصب واللغوب وأن المعنى إذا كنا ما تعبنا في الخلق الأول فكيف نتعب في الثاني فإن كان هذا هو الذي فهمه من الآية كما يفهم ذلك جهال العامة الذين لا يعرفون لغة العرب ولا تفسير القرآن ولا يفرقون بين عيى وأعيا فقد أوتى من جهة جهله بالعقل والسمع
وهؤلاء المبتدعون يجهلون حقائق ما جاء به الرسول ويعرضون عنه ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من
(7/381)
جنس ما في كلامهم ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لتبينوا أنه الجامع لكل خير
وأما فساد طرقهم المخالفة للنصوص فهو بين لكل ذكي فاضل منهم ومن غيرهم ويكفيك أن عمدتهم في أصول الدين إما دليل الأعراض وقد علم ما فيه من الاعتراض وإما دليل الوجوب المستلزم للواجب
وقد بينا في غير هذا الوضع أن تلك الطريقة لا تدل على وجود واجب فإن ذلك إنما يدل إذا ثبت وجود الممكن الذي يستلزم الواجب والممكن عندهم هو متناول القديم والحادث فجعلوا القديم الأزلي داخلا في مسمى الممكن وخالفوا بذلك قول سائر العقلاء من سلفهم وغيرهم مع تناقضهم في ذلك
وبهذا التقدير لا يمكنهم أن يقيموا دليلا على أن الممكن بهذا الاعتبار يحتاج إلى فاعل وقد أوردوا على هذه الطريقة من الاعتراضات ما أوردوه ولم يمكنهم أن يجيبوا عنه بجواب صحيح كما قد بسط في موضعه ثم غايته إثبات وجود واجب لايتميز عن المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب لا يتميز عن المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات فكثير
(7/382)
من نظارهم يطعن في دليل إثبات واجب الوجود وكثير من محققيهم وعارفيهم يقول إن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات
ومآل القولين واحد وهو قول فرعون الذي أنكر رب العالمين فإن فرعون وغيره لم ينكروا وجود هذا العالم المشهود فمن جعله هو الوجود الواجب أو كان قوله لا يدل إلا على ذلك كان منكرا للصانع ثم إذا كان هذا هو الوجود الواجب كان ما يلزمهم على ذلك من المحالات أضعاف ما فروا منه كما بينا ذلك في غير هذا الموضع
فمن جعله وجود كل موجود كان فيه الشهادة على نفس الوجود المحدث الكائن بعد أن لم يكن بأنه واجب ومن جعله وجود الفلك كان فيه من افتقار واجب الوجود إلى غيره ومن حدوث الحوادث بلا سبب فاعل ومن غير ذلك ما يناقض أصولهم وأصول غيرهم المتفق على صحتها ويوقعهم في شر مما منه فروا
والمقصود هنا أنه سبحانه لما قال { أفعيينا بالخلق الأول } سورة ق 15 لم يرد الإعياء الذي هو التعب وإنما أراد العى كما تقول العرب عيى بأمره إذا لم يهتد لوجهه وحينئذ فيكون في الآية من الدلالة على علم الخالق وحكمته ما يبين أنه خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه ومن كان خالقا لهذا العالم بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه كان بأن يقدر على إحياء الموتى أولى وأحرى
(7/383)
والملاحدة المنكرون للمعاد تعود شبههم كلها إلى ما ينفي علم الرب تعالى أو قدرته أو مشيئته أو حكمته ونفي العي يثبت هذه الصفات فتنتفي أصول شبههم فالفلاسفة الإلهيون الذين هم أشهر هذه الطوائف بالحكمة والنظر بالعلم رهط الفارابي وابن سينا وأمثالهما عمدتهم في إنكار المعاد هو اعتقادهم قدم العالم وأن الفاعل علة تامة موجبة بالذات لايختلف فعلها فلا يجوز أن يتغير العالم لأجل ذلك
وهؤلاء في كلامهم من نفى قدرته وعلمه ومشيئته ما هو مبسوط في غير هذا الموضع ومن أيسر ذلك أنهم في الحقيقة ينكرون أن يكون خالقا للمحدثات
وإذا كان قد عرف بضرورة العقل أن المحدثات وما فيها من التخصيص والإتقان والحكمة دل على الخالق العليم القدير الحكيم علم فساد قول هؤلاء فإن قولهم يستلزم أن تكون المحدثات كلها حدثت بلا محدث لأن العلة القديمة التامة التي جعلوها الأول لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها فلا يكون شيء من الحوادث معلولا لها فلا يكون مفعولا لها ولا يجوز أن تكون الحوادث معلولة لعلة أخرى تامة موجبة بذاتها لأن القول في تلك
(7/384)
العلة كالقول في هذه ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن لا علة له لأن الممكن لا يكون موجودا بنفسه بل لا بد له من موجد سمى علة أو لم يسم ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن بنفسه لأن كون ذلك الممكن محدثا لها أمر ممكن محدث فلا بد له من محدث فإذا استحال على أصولهم صدور الحوادث عن العلة التامة الواجبة بواسطة أو غير واسطة فقد تعذر صدورها عن ممكن لا موجب له وعن موجب لا يستند فعله إلى الواجب بنفسه لزم على قولهم أن لا يكون لها فاعل
ووجه الحصر أن يقال محدث الحوادث إما أن يكون هو الواجب بنفسه بوسط أو بغير وسط أو غير الواجب بنفسه وما ليس بواجب بنفسه فهو الممكن والممكن إما أن يكون له موجد وإما أن لا يكون والثاني ممتنع والأول نفس إحداثه للمحدثات أمر حادث ممكن فلا بد له من موجد
فتبين أن المحدثات لا بد لها من محدث يكون واجبا بنفسه ولا يكون علة تامة مستلزمة لمعلولها وهذا يبطل أصل قولهم
وهذا قول حذاقهم كابن سينا وأمثاله الذين يقولون إنه صدر عن موجب بالذات ويحكى هذا القول عن برقلس وأما أرسطو وأتباعه فعندهم الأول لا يوجب شيئا ولا يفعل شيئا بل
(7/385)
الفلك يتحرك للتشبه به وهذا أفسد من ذاك من طرق متعددة وليس هذا موضع بسط ذلك
وإنما المقصود هنا التنبيه على أن قوله تعالى { ولم يعي بخلقهن } سورة الأحقاف 33 فيه تنبيه على ثبوت الأمور التي توجب وصف خالق السماوات والأرض بصفات الكمال وبإحداث الأفعال وذلك هو الذي يستلزم قدرته على إحياء الموتى وبسط ذلك يطول
ومما يبين خذلان الله لأهل البدع المخالفين للكتاب والسنة أن هذين الأصلين أمر الولادة وأمر المعاد هما من أعظم أصول أهل الضلال كالدهرية من الفلاسفة وغيرهم الذين يقولون إن العقول تولدت عن الله وينكرون إحياء الله الموتى
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وهذا في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس
(7/386)
وهؤلاء الملاحدة شتموه بما ذكروه من تولد الموجودات عنه وكذبوه بقولهم لن يعيدنا كما بدأنا وضاهوا في ذلك أشباههم من ملاحدة العرب
قال تعالى { ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } إلى قوله { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا } إلى قوله تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } سورة مريم 66 95
فذكر سبحانه في هذا الكلام الرد على من أنكر المعاد وعلى من قال إنه اتخذ ولدا كما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في الحديث
(7/387)
وهذا المبتدع ذكر في دلالة القرآن على هذا وعلى هذا ما تقدم التنبيه على فرط ضلال قائله عن حقائق ما أنزل الله على رسوله
ولهذا لما كانت طريقة القرآن فيما يثبته للرب تعالى وينفيه عنه مبنية على برهان الأولى لا على البرهان الذي تستوي أفراده أو يماثل فرعه أصله
قال تعالى { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى } سورة النحل 60 بعد قوله { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم } سورة النحل 58
وقال تعالى في الآية الأخرى { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن } سورة الزخرف 17 أي بما ضربوه للرحمن مثلا والمثل الذي ضربوه له هو البنات وهو عندهم مثل سوء مذموم معيب فقال تعالى { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } سورة النحل 60 ومن قال إنه ولد الملائكة أو قال إنه ولد العقول أو النفوس فإنه لا يؤمن بالآخرة فله مثل السوء
والله تعالى له المثل الأعلى فلا يضرب له المثل المساوي إذ لا كفو له ولا ند فضلا عن أن يضرب له المثل الناقص ولا يكتفى في حقه بالمثل العالي بل له المثل الأعلى إذ هو الأعلى سبحانه والعلم به أعلى العلوم وذكره أعلى الأذكار وحبه أعلى الحب
(7/388)
والذي يبتغي وجه ربه الأعلى هو أعلى إذ هو الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله كما قال تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } سورة الحجرات 13 وقال تعالى { وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } سورة الليل 17 20
ونظير ما ذكره سبحانه في الأولاد ما ذكره في الشركاء في قوله تعالى { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } سورة الروم 28 يقول تعالى إذا كان الواحد منكم ليس له من مماليكه شريك في ما رزقه الله بحيث يخاف ذلك المملوك كما يخاف السادة بعضهم بعضا فكيف تجعلون لي شريكا هو مملوكي وتجعلونه شريكا فيما يختص بي من العبادة والمخافة والرجاء حتى تخافوه كما تخافوني
ومن المعلوم أن ملك الناس بعضهم بعضا ملك ناقص فإن السيد لا يملك من عبده إلا بعض منافعه لا يملك عينه وهو شبيه بملك الرجل بعض منافع امرأته وملك المستأجر بعض منافع أجيره ولهذا
(7/389)
يشبه النكاح بملك اليمين كما قال عمر رضي الله عنه النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته
وقال زيد بن ثابت الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى { وألفيا سيدها لدى الباب } سورة يوسف 25 فإذا كان هذا الملك الناقص لا يكون المملوك فيه شريكا للمالك فكيف بالملك الحق التام لكل شيء ملك المالك للأعيان والصفات والمنافع والأفعال الذي لا يخرج عن ملكه شيء بوجه من الوجوه ولا لغيره ملك مفرد ولا شريك في ملك ولا معاونة له بوجه من الوجوه كيف يسوغ في مثل هذا أن يجعل مملوكه شريكه بوجه من الوجوه
والشرك نوعان أحدهما شرك في الربوبية والثاني شرك في الإلهية فأما الأول فهو إثبات فاعل مستقل غير الله كمن يجعل الحيوان مستقلا بإحداث فعله ويجعل الكواكب أو الأجسام الطبيعية أو العقول أو النفوس أو الملائكة أو غير ذلك مستقلا بشيء من الأحداث فهؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الحوادث عن الفاعل فإن كل ما يذكرونه من فعل هذه الفاعلات أمر حادث يفتقر إلى محدث يتم به إحداثه وأمر ممكن لا بد له من واجب يتم به
(7/390)
وجوده وكل ما سوى الخالق القديم الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره فلا يتم به حدوث حادث ولا وجود ممكن
وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا الوجه بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وإنما كان من النوع الثاني فإثبات التوحيد في النوع الثاني يتضمن الأول من غير عكس
والثاني الشرك في الإلهية وضده هو التوحيد في الإلهية وهو عبادة الله وحده لا شريك له فإن المشركين المقرين بأنه رب كل شيء كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع ويستدفعون بها المضار ويتخذونها وسائل تقربهم إليه وشفعاء يستشفعون بها إليه
وهؤلاء خلق من خلقه لا يملكون لأحد نفعا ولا ضرا إلا بإذنه فكل ما يطلب منهم لا يكون إلا بإذنه وهو سبحانه لم يأمر بعبادة غيره ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل
بل قد قال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } سورة الزخرف 45
وقال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } سورة الأنبياء 25
وقال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون }
(7/391)
سورة يونس 18
وهذا المعنى كثير في القرآن يبين سبحانه أنه لم يشرع عبادة غيره ولا أذن في ذلك بل يبين أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فإنه كما يمتنع أن يكون غيره ربا فاعلا يمتنع أن يكون إلها معبودا
وإذا كان جعل المملوك شريكا في الملك الناقص بحيث يرغب إليه كما يرغب إلى المالك ويرهب منه كما يرهب من المالك ممتنعا يوجب الفساد فجعل المملوك المخلوق شريكا لمالكه الخالق أولى بالامتناع ولزوم الفساد
وذلك أن الذي يخافه إنما يخاف أن يضره فإذا كان يعلم أنه لايضره إلا بإذن الله سبحانه كان الله تعالى هو الذي يجب أن يخاف وكذلك الذي يرجوه إذا كان إنما يرجو نفعه وهو لا ينفعه إلا بإذن الله كان الله هو الذي يجب أن يرجى إذ لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله بخلاف مملوك البشر فإنه وإن كان لا يتصرف في المال إلا بإذن سيده ولا يمنع من أذن له
(7/392)
سيده فقد يمكنه معصية سيده وإذا كان في معصيته نوع من الفساد
والخالق تعالى لا يمكن أحدا أن يفعل شيئا إلا بمشيئته وقدرته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وفي معصية أمره الفساد الذي لا صلاح معه فالمخلوق أعجز عن أن ينفع أو يضر بدون إذنه من عجز المملوك عن النفع والضر بدون إذن سيده ومعصية المخلوق لأمره الذي أرسل به رسله أعظم فسادا من معصية المملوك لأمر سيده
قال تعالى في قصة الخليل صلى الله عليه وسلم ومناظرته لقومه { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } سورة الأنعام 80 81
(7/393)
قال تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } سورة الأنعام 82
وقال تعالى { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } سورة فاطر 2
ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل وهما متلازمان كان من سلك الطريق العقلي دله على الطريق السمعي وهو صدق الرسول ومن سلك الطريق السمعي بين له الأدلة العقلية كما بين ذلك القرآن وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا
كما قال أهل النار { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } سورة تبارك 10
وقال تعالى { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } سورة الحج 46
ولهذا نفى سبحانه عن الشرك الطريق السمعي والعقلي ونفى شرك الإلهية والربوبية في مثل قوله { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين }
(7/394)
سورة الأحقاف 4 فطالبهم أولا بالطريق العقلي وثانيا بالطريق السمعي
ونظيره قوله { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا } سورة فاطر 40 وهذا باب واسع قد بسط الكلام فيه في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه اللطيف على بعض ما في القرآن من تقرير المعاد ونفي الولد والشريك إذ كان هذا فصلا معترضا في هذا المقام
فقد تبين أن جمهور النظار من جميع الطوائف يجوزون أن تحصل المعرفة بالصانع بطريق الضرورة كما هو قول الكلابية والأشعرية وهو مقتضى قول الكرامية والضرارية والنجارية والجهمية وغيرهم وهو قول طوائف أهل السنة من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم
وإنما ينازع في ذلك من ينازع من القدرية كالمعتزلة ونحوهم مع أنهم متنازعون في ذلك بل كثير من أهل الكلام بل
(7/395)
وجمهور العلماء يقولون إن الإقرار بالصانع حاصل لعامة الخلق بطريق الضرورة
كما ذكر الشهرستاني في كتابه المعروف بنهاية الإقدام في قاعدة التعطيل قال قد قيل إن التعطيل ينصرف إلى وجوه شتى منها تعطيل الصنع عن الصانع ومنها تعطيل الصانع عن الصنع ومنها تعطيل الباري عن الصفات الأزلية الذاتية ومنها تعطيل الباري عن الصفات الأزلية القائمة بذاته ومنها تعطيل الباري عن الصفات والأسماء أزلا ومنها تعطيل ظواهر الكتاب والسنة عن المعاني التي دلت عليها
ثم قال أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فلست أراها مقالة ولا عرفت عليها صاحب مقالة إلا ما نقل من شرذمة قليلة من الدهرية أنهم قالوا كان
(7/396)
العالم في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقا فحصل منها العالم بشكله الذي تراه عليه ودارت الأكوار وكرت الأدوار وحدثت المركبات
قال ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع بل هو معترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق احترازا عن التعطيل فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على صانع حكيم قادر عليم { أفي الله شك } سورة إبراهيم 10 { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله }
(7/397)
سورة الزخرف 87 { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } سورة الزخرف 9
قال وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء { دعوا الله مخلصين له الدين } سورة يونس 22 { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } سورة الإسراء 67
ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفى الشريك أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله { فاعلم أنه لا إله إلا الله } سورة محمد 19 ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد ونفى الشريك { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا } سورة غافر 12 { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } سورة الزمر 45 { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا }
(7/398)
سورة الإسراء 46
قال وقد سلك المتكلمون طريقا في إثبات الصانع وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع وسلك الأوائل طريقا آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان ويدعى كل واحد من جهة الاستدلال ضرورة وبديهة
قال وأنا أقول ما شهد به الحدوث أو دل عليه الإمكان بعد تقديم المقدمات دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات فيرغب إليه ولا يرغب عنه ويستغنى به ولا يستغنى عنه ويتوجه إليه ولا يعرض عنه ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب
(7/399)
والحادث إلى المحدث وعن هذا المعنى كانت تعريفات الحق سبحانه في التنزيل على هذا المنهاج
{ أم من يجيب المضطر إذا دعاه } سورة النمل 62 { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } سورة الأنعام 63 { ومن يرزقكم من السماء والأرض } سورة النمل 64 { أم من يبدأ الخلق ثم يعيده } سورة النمل 64
قال وعن هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم خلق الله العباد على معرفته فاجتالتهم الشياطين عنها فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويله الاستغناء ونفي الحاجة والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها من تسويلات الشياطين
(7/400)
فإنهم الباقون على أصل الفطرة ولما كان له عليهم من سلطان { فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى } سورة الأعلى 9 10 { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } سورة طه 44
ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث يرجع إلى نفسه أدنى رجوع فيعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } سورة فصلت 53 عرفت الأشياء بربي وما عرفت ربي بالأشياء ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ومن تعالى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط فثبت بالدلائل والشواهد أن العالم لم يتعطل عن الصانع الحكيم العالم القدير تعالى وتقدس
وقال أيضا في أول كتابه قد أشار إلي من إشارته
(7/401)
غنم وطاعته حتم أن أجمع له مشكلات الأصول وأحل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول لحسن ظنه بي أني وقفت على نهايات مسارح النظر وفزت بغايات مطارح الفكر ولعله استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم
% لعمري لقد طفت المعاهد كلها % وسيرت طرفي بين تلك المعالم % % فلم أر إلا واضعا كف حائر % على ذقن أو قارعا سن نادم %
فلكل عقل مسرى ومسرح هو سدرته المنتهى ولكل قدم محط ومجال هو غايته القصوى إذا وصل إليها ووقف دونها فيظن الناظر أولا أن ليس وراء مرتبته مطاف لطيف الخاطر ولا فوق درجته مطرح لشعاع الناظر ويتيقن آخرا أن مطارد الأفكار إنما يتعلق بذوات المقدار وجناب العزة لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار
(7/402)
إلى أن قال وإذا كان لا طريق إلى المطلوب من المعرفة إلا الاستشهاد بالأفعال ولا شهادة للفعل إلا من حيث احتياج الفطرة واضطرار الخلقة فحيثما كان الاضطرار والعجز أشد كان اليقين أوفر وآكد { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } سورة الإسراء 67 لا جرم { أم من يجيب المضطر إذا دعاه } سورة النمل 62
والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخا في القلب من المعارف التي هي نتائج الأفكار في حال الاختيار
قلت فهذا كله كلام الشهرستاني وهو من أئمة المتأخرين من النظار وأخبرهم بالمقالات وقد صرح بأن معرفة الله ليست معدودة من النظريات التي يقام عليها البرهان وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم إلى آخر ما ذكره وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبر
وأما ما ذكره من أن إنكار الصانع ليس مقالة معروفة لصاحب مقالة فإنه وإن لم يكن مذهبا مشهورا عليه أمة من
(7/403)
الأمم المعروفة لكنه مما يعرض لكثير من الناس ويقوله بعض الناس إما ظاهرا دون الباطن كحال فرعون ونحوه وإما باطنا وظاهرا كما ذكر الله مناظرة إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه للذي حاجه في ربه ومحاجة موسى صلوات الله عليه وسلامه لفرعون
لكن هذا لا يمنع أن تكون المعرفة به مستقرة في الفطرة ثابتة بالضرورة فإن هذا نوع من السفسطة والسفسطة حال يعرض لكثير من الناس إما عمدا وإما خطأ وكثير من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية والمعارف الفطرية في الحسيات والحسابيات وكذلك في الإلهيات ومن تأمل ما يحكيه الناس من المقالات عن الناس في العلوم الطبيعية والحسابية رأى عجائب وغرائب وبنو آدم لا ينضبط ما يخطر لهم من الآراء والإرادات فإنهم جنس عظيم التفاوت ليس في المخلوقات أعظم تفاضلا منه خيارهم خير المخلوقات عند طائفة أو من خيرها عند طائفة وشرهم شر المخلوقات أو من شرها
(7/404)
قال تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } سورة الأعراف 179
وقال تعالى { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } سورة الفرقان 44 وقال تعالى { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال }
سورة الرعد 13 وقال تعالى { أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } سورة الشورى 34 35
ونظير هذا كثير وكما تنازع النظار في المعرفة هل تحصل ضرورة أو نظرا أو تحصل بهذا وهذا على ثلاثة أقوال فكذلك تنازعوا في مسألة وجوب النظر المفضي إلى معرفة الله تعالى على ثلاثة أقوال فقالت طائفة من الناس إنه يجب على كل أحد وقالت طائفة لا يجب على أحد وقال الجمهور إنه يجب على بعض الناس دون بعض فمن حصلت له المعرفة أو الإيمان عند من يقول إنه يحصل بدون المعرفة بغير النظر لم يجب عليه ومن لم تحصل له المعرفة ولاالإيمان إلا به وجب عليه
(7/405)
وذكر غير واحد أن هذا قول جمهور المسلمين كما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه المعروف بالفصل في الملل والنحل فقال في مسألة هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال أم لا يكون مؤمنا مسلما إلا من استدل
قال وذهب محمد بن جرير والأشعرية إلا أبا جعفر السمناني إلى أنه لا يكون مسلما إلا من استدل وإلا فليس مسلما
قال وقال الطبري من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال أو النساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال وقال إنه إذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال على كل ذلك
قال وقالت الأشعرية لا يلزمهما الاستدلال على ذلك إلا
(7/406)
بعد البلوغ قال وقال سائر أهل الإسلام كل من اعتقد بقلبه اعتقادا لا يشك فيه وقال بلسانه أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وبريء من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك
قلت القول الأول هو في الأصل معروف عمن قاله من القدرية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وإنما قاله من قاله من الأشعرية موافقة لهم ولهذا قال أبو جعفر السمناني القول بإيجاب النظر بقية بقيت في المذهب من أقوال المعتزلة وهؤلاء الموجبون للنظر يبنون ذلك على أنه لا يمكن حصول المعرفة الواجبة إلا بالنظر لا سيما القدرية منهم فإنهم يمنعون أن يثاب العباد على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية وليس إيجاب النظر على الناس هو قول الأشعرية كلهم بل هم متنازعون في ذلك فقال الأشعري في بعض كتبه قال بعض أصحابنا أول الواجبات الإقرار بالله تعالى وبرسله وكتبه ودين الإسلام وقال أيضا لو سأل سائل عمن ورد من الصين ورأى الاختلاف ماذا يلزمه فقال عنه جوابان أحدهما أنه يلزمه
(7/407)
النظر ليعرف الحق فيتبعه والثاني يلزمه اتباع الحق وقبول الإسلام ثم تصحيح المعرفة بالنظر والاستدلال على أقل ما يجزئه
وقد تنازع أصحابه وغيرهم في النظر في قواعد الدين هل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات والذين لا يجعلونه فرضا على الأعيان منهم من يقول الواجب هو الاعتقاد الجازم ومنهم من يقول بل الواجب العلم وهو يحصل بدونه كما ذكر ذلك غير واحد من النظار من أصحاب الأشعري وغيرهم كالرازي والآمدي وغيرهما
والذين يجعلونه فرضا على الأعيان متنازعون هل يصح الإيمان بدونه وتاركه آثم أم لا يصح على قولين والذين جعلوه شرطا في الإيمان أو أوجبوه ولم يجعلوه شرطا اكتفوا بالنظر الجملي دون القدرة على العبارة والبيان ولم يوجب العبارة والبيان إلا شذوذ من أهل الكلام
ولا ريب أن المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لم يكونوا يؤمرون بالنظر الذي ذكره أهل الكلام المحدث كطريق الأعراض والأجسام لكن هل يقال مجرد الاعتقاد الجازم كان كافيا لهم أم لا بد من علم يحصل بنظر أم يحصل علم ضروري بغير الطريقة النظرية فهذا مما تنوزع فيه
(7/408)
قال ابن حزم فاحتج من أوجب الاستدلال بالإجماع على أن التقليد مذموم وما لم يعرف بالاستدلال فهو تقليد قالوا والديانات لا يعرف حقها من باطلها بالحس لا يعلم إلا بالاستدلال ومن لم يحصل له العلم فهو شاك واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما حكاه عن المسئول في قبره قال فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو عبد الله ورسوله وأما المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته
وقال في الجواب التقليد أخذ المرء قول من هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لم يأمرنا الله باتباعه وأخذ قوله بل حرم علينا ذلك وأما أخذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي
(7/409)
فرض الله تصديقه وطاعته فليس تقليدا بل إيمان وتصديق واتباع للحق وطاعة الله ورسوله
قال فموه هؤلاء الذين أطقوا على الحق الذي هو اتباع الحق اسم التقليد الذي هو باطل والقرآن إنما ذم فيه تقليد الآباء والكبراء والسادة في خلاف ما جاءت به الرسل وأما اتباع الرسل فهو الذي أوجبه لم يذم من اتبعهم أصلا
قال وأما احتجاجهم بأنه لا تعرف الأشياء إلا بالدلائل وبأن ما لم يصح به دليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما فإن هذا ينقسم قسمين فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى تصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يسمع الدلائل فهذا فرض عليه طلب الدليل إلا أنه إذا مات شاكا أو جاحدا قبل أن يسمع من البرهان ما تثلج به نفسه فقد مات كافرا وهو مخلد في النار بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأى المعجزات فهذا أيضا لو مات قبل أن يرى المعجزات مات كافرا بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضا عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر والقسم الثاني من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم
(7/410)
وسكن قلبه إلى الإيمان ولم كنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقا من الله له وتيسيرا له لما خلق له من الخير والحسنى فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكليف استدلال وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والأكرة والعباد وأصحاب الحديث الأئمة الذين يذمون الكلام والجدل والمراء في الدين
قال وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم } سورة الحجرات 7 8
وقال تعالى { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } سورة الأنعام 125
قال فقد سمى الله راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم وكره إليهم المعاصي فضلا منه ونعمة وهذا هو خلق الله الإيمان في قلوبهم ابتداء وعلى ألسنتهم
(7/411)
ولم يذكر الله في ذلك استدلالا أصلا وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لكبرائهم لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن آباءهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ورؤسائهم والبراءة منهم ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ويرون أن حرق الناس بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام
قال وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حسا وشاهدناه في ذواتنا يقينا فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ونحن ولله الحمد في غاية اليقين بدين الإسلام وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وفي غاية سكون النفس إليه وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك وكانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان فنكاد
(7/412)
لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعا لها كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن ذلك فقيل له إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه وسوسة الشيطان ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها ولله الحمد والمنة فما زادنا يقينا على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق وصرنا كمن عرف وقد أيقن بكون الفيل سماعا ولم يره ثم رآه فلم يزدد يقينا بصحة إنيته أصلا لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط
قال وإن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد فصح بما قلنا أن كل من محض اعتقاد الحق بقلبه وقاله
(7/413)
بلسانه فهم مؤمنون محققون ليسوا مقلدين أصلا وإنما كانوا مكذبين مقلدين لو أنهم قالوا واعتقدوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط ولو أن آباءنا وكبراءنا تركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم لتركناه فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفارا غير مؤمنين لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبراءهم الذين نهوا عن اتباعهم لم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمروا باتباعه
قال وإنما كلف الله الإتيان بالبرهان إن كانوا صادقين الكفار المخالفين لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الإتيان بالبرهان ولا أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان والفرق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي صلى الله عليه وسلم فلا برهان له أصلا فكلف المجيء بالبرهان تبكيتا وتعجيزا إن كانوا صادقين وليسوا
(7/414)
صادقين فلا برهان لهم وأما من اتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه فسواء علم هو بذلك أي البرهان أو لم يعلم حسبه أنه على الحق الذي صح البرهان به ولا برهان على سواه فهو محق مصيب
قال وأما قولهم ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا والديانات لا تعرف صحتها بالحواس ولا بضرورة العقل فصح أنه لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال فإن لم يستدل المرء فليس عالما وإذا لم يكن عالما فهو جاهل شاك أو ظان وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر قال فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال هذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها ولا جاء بتصحيحها قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا لغة ولا طبيعة
(7/415)
ولا قول صاحب وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط وكل من اعتقد شيئا على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به وسواء كان عن ضرورة حس أو عن بديهة عقل أو عن برهان استدلال أو عن تيسير الله عز وجل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به وهذا تناقض وفساد وتعارض
قال وقول النبي صلى الله عليه وسلم في مساءلة الملك حجة عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال فيه فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل فأما المستدل فحسبنا نور المؤمن الموقن كيف كان إيمانه ويقينه وقال صلى الله عليه وسلم وأما المنافق أو المرتاب ولم يقل غير المستدل فيقول سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فنعم هذا هو قولنا لأن
(7/416)
المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين وهذا مقلد للناس لا محقق فالخبر حجة عليهم كافية
وأما قولهم إن الله قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم به لا يكون إلا عن استدلال فهذا أيضا زيادة أقحموها وهي قولهم وأمر به فهذا لا يجدونه أبدا ولكن الله ذكر الاستدلال وحض عليه ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه لأنه مزيد من الخير وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق وإنما ننكر كونه فرضا على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه فهذا هو الباطل المحض
وأما قولهم إن الله أوجب العلم به فنعم
وأما قولهم والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذا هو الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفا وأول بطلانها أنها دعوى بلا برهان
قال فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان وكان دعوى منهم مفتراة لم يأت بها نص قط ولا إجماع قال ونحن ذاكرون البراهين على بطلان قولهم يقال لمن قال لا يكون مسلما إلا من
(7/417)
استدل أخبرنا متى يجب عليه فرض الاستدلال أقبل البلوغ أو بعده فاما الطبري فإنه أجاب بأن ذلك واجب قبل البلوغ قال ابن حزم وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفا ولا مخاطبا
قال وأما الأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم وتقشعر منها جلود أهل الإسلام وتصطك منها المسامع ويقطع ما بين قائلها وبين الله وهو أنهم قالوا لا يلزم طلب الأدلة إلابعد البلوغ ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤونة وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم فقالوا غير مساترين لا يصح إسلام أحد إلا بأن يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق قال وما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم إنه لا يكون أحد مسلما حتى يشك في الله عز وجل وفي صحة النبوة وفي هل رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق أو كاذب ولا سمع قط سامع في الهوس
(7/418)
والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قول هؤلاء إنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ولا يصح التصديق إلا بالجحد ولا يوصل إلى رضا الله عز وجل إلا بالشك فيه وأن من اعتقد موقنا بقلبه ولسانه أن الله ربه لا إله إلا هو وأن محمدا رسول الله وأن دين الإسلام دين الله الذي لا دين غيره فإنه كافر مشرك نعوذ بالله من الخذلان فوالله لولا خذلان الله الذي هو غالب على أمره ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة
قلت هذا القول هو في الأصل من أقوال المعتزلة وقد أوجب أبو هاشم وطائفة معه الشك وجعلوه أول الواجبات ومن لم يوجبه من الموافقين على أصل القول قال إنه لا بد من حصوله وإن لم يؤمر به
وهذا بناء على أصلين أحدهما أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم والثاني أن النظر يضاد العلم فإن الناظر طالب للعلم فلا يكون في حال النظر عالما
وكلا الأصلين باطل أما الأول فقد عرف الكلام فيه وأما الثاني فإن النظر نوعان أحدهما النظر المتضمن طلب الدليل
(7/419)
وهو كالنظر في المسئول عنه ليعلم ثبوته او انتفاؤه كالنظر في مدعي النبوة هل هو صادق أو كاذب والنظر في رؤية الله تعالى هل هي ثابتة في الآخرة أو منتفية والنظر في النبيذ المسكر أحلال هو أم حرام
فهذا الناظر طالب وهو في حال طلبه شاك وليس هذا النظر هو النظر المقتضي للعلم فإن ذلك هو النظر فيما يتضمن النظر فيه للعلم وهو النظر في الدليل كالنظر في الآية والحديث أو القياس الذي يستدل به فهذا النظر مقتض للعلم مستلزم له وذلك النظر مضاد للعلم مناف له
ولما كان في لفظ النظر إجمال كثر اضطراب الناس في هذا المقام وتناقض من تناقض منهم فيوجبون النظر لأنه يتضمن العلم ثم يقولون النظر يضاد العلم فكيف يكون ما يتضمن العلم مضادا لا يجتمعان
فمن فرق بين النظر في الدليل وبين النظر الذي هو طلب الدليل تبين له الفرق والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول بل قد يكون القلب ذاهلا عن الشيء ثم يعلم دليله فيعلم المدلول وإن لم
(7/420)
يتقدم ذلك شك وطلب وقد يكون عالما به ومع هذا ينظر في دليل آخر لتعلقه بذلك الدليل فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير لكن هؤلاء لزمهم المحذور لأنهم إنما أوجبوا النظر لكون المعرفة لا تحصل إلا به فلو كان الناظر عالما بالمدلول لم يوجبوا عليه النظر فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول فيكون الناظر طالبا للعلم فيلزم أن يكون شاكا فصاروا يوجبون على كل مسلم أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه سواء أوجبوه أو قالوا هو من لوازم الواجب
ومن غلطهم أيضا أنه لو قدر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر فليس من شرط ذلك تأخر النظر إلى البلوغ بل النظر قبل ذلك ممكن بل واقع فتكون المعرفة قد حصلت بذلك النظر وإن لم يكن واجبا كما لو تعلم الصبي أم الكتاب وصفة الصلاة قبل البلوغ فإن هذا التعلم يحصل به مقصود الوجوب بعد البلوغ والنظر إنما هو واجب وجوب الوسائل فحصوله قبل وقت وجوبه أبلغ في حصول المقصود
ونظير ذلك أن يتوضأ الصبي قبل البلوغ والبالغ قبل دخول وقت الصلاة فيحصل بذلك مقصود الوجوب بعد البلوغ والوقت
والكلام في هذه المسألة له شعب كثيرة وقد تكلم عليها في غير هذا الموضع والمقصود هنا بيان طرق كثير من أهل العلم في تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتحقيق هذه المسألة يتعلق بمسائل منها أن
(7/421)
الاعتقاد الجازم بلا ضرورة ولا استدلال هل يمكن أم لا وإذا أمكن فهل يسمى علما أم لا
ومنها أن لفظ الضرورة فيه إجمال فقد يراد به ما يضطر إليه الإنسان من المعلومات الظاهرة المشتركة بين الناس وقد يراد به ما يحصل في نفسه بدون كسبه وقد يراد به ما لا يقبل الشك وقد يراد به ما يلزم نفس الإنسان لزوما لا يمكن الانفكاك عنه
ومنها أن حصول العلم في النفس قد يحصل لكثير من الناس حصولا ضروريا مع توهمه أنه لم يحصل له كما يقع مثل ذلك في القصد والنية فإن الأمة متفقة على أن الصلاة ونحوها من العبادات لا تصح إلا بالنية والنية من جنس القصد والإرادة محلها القلب باتفاقهم فلو لفظ بلسانه غير ما قصد بقلبه أو بالعكس كان الاعتبار بقصده الذي في قلبه
ثم إن كثيرا من الناس اشتبه عليهم أمر النية حتى صار أحدهم يطلب حصولها وهي حاصلة عنده ويشك في حصولها في نفسه وهي حاصلة لاسيما إذا اعتقد أنه يجب مقارنة النية للصلاة فيرى في أحدهم من الوسواس في حصولها ما يخرجه عن العقل والدين حتى قيل الوسوسة لا تكون إلا عن خبل في العقل أو جهل بالشرع
وأصل ذلك جهلهم بحقيقة النية وحصولها مع خروجهم عن الفطرة السليمة التي فطر الله عليها عباده ومن المعلوم أن كل من علم
(7/422)
ما يريد أن يفعله فلا بد أن ينويه ويقصده فيمتنع أن يفعل العبد فعلا باختياره مع علمه به وهو لا يريده فالمصلي إذا خرج من بيته وهو يعلم أنه يريد الصلاة امتنع أن لا يقصد الصلاة ولا ينويها وكذلك الصائم إذا علم أن غدا من رمضان وهو ممن يصومه امتنع أن لا ينويه وكذلك المتطهر إذا أخذ الماء وهو يعلم أن مراده الطهارة امتنع أن لا يريدها
وإنما يتصور عدم النية مع الجهل بالمفعول أو مع أنه ليس مقصوده المأمور به مثل من يظن أن وقت الصلاة أو الصيام قد خرج فيصوم ويصلي ظانا أن ذلك قضاء بعد الوقت فهذا نوى القضاء فإذا تبين له بعد ذلك أن الصوم والصلاة إنما كانا في الوقت إذا فهذا يجزئه الصلاة والصيام بلا نزاع
وكذلك من اغتسل بالماء لقصد إزالة الوسخ أو لتعليم الغير فهذا لم يكن مراده بما فعله الطهارة المأمور بها ولهذا تنازع الفقهاء في صحة الصلاة بمثل هذه الطهارة وأمثال ذلك
ولهذا يجد المسلم في نفسه فرقا بين ليلة العيد الذي يعلم أنه لا يصومه وبين ليالي رمضان الذي يعلم أنه يصومه ويجد الفرق بين ما إذا كان مقيما او مسافرا يريد الصيام وبين ما إذا كان مسافرا لا يريد الصيام
(7/423)
فكما أن الإرادة تكون موجودة في نفس الإنسان وقد يشك في وجودها أو لا يحسن أن يعبر عن وجودها أو يطلب وجودها فهكذا العلم الضروري وغيره قد يكون حاصلا في نفس الإنسان وهو يشك في وجوده أو يطلب وجوده أو لا يحسن أن يعبر عنه لأن وجود الشيء في النفس شيء والعلم بوجوده في النفس شيء آخر فالتمييز بينه وبين غيره والتعبير عن ذلك شيء آخر
فهكذا عامة المؤمنين إذا حصل أحدهم في سن التمييز يحصل له من الأسباب التي توجب معرفته بالله وبرسوله ما يحصل بها في نفسه علم ضروري ويقين قوي كحصول الإرادة لمن علم ما يريد فعله ثم كثير من أهل الكلام يلبسون عليه ما حصل له ويشككونه فيه كما أن كثيرا من الفقهاء يلبسون على المريد الناوي ما حصل له ويشككونه فيه
والعلم الحاصل في النفس لا تنضبط أسبابه ومنه ما يحصل دفعه كالعلم بما أحسه ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة والعلم بمدلول القرائن التي لا يمكن التعبير عنها
وكذلك حصول الإرادة فإن من الأشياء ما تحصل إرادته الجازمة في النفس كإرادة الأشياء الضرورية التي لا بد له منها كإرادة دفع
(7/424)
الأمور الضارة له وكإرادة الجائع الشديد الجوع والعطشان الشديد العطش لتناول ما تيسر له من الطعام والشراب
ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء كإرادة الإنسان لما هو أكمل له وأفضل فإن هذا قد تحصل إرادته شيئا بعد شيء
وكذلك إرادته لما يشك في كونه محتاجا إليه أو كونه نافعا له فإن الإرادة قد تقوى بقوة العلم وقد تضعف بضعفه وقد تقوى بقوة نفس محبة الشيء المطلوب وضعف محبته
ومن عرف حقيقة الأمر تبين له أن النفوس فيها إرادات فطرية وعلوم فطرية وأن كثيرا من أهل الكلام في العلم قد يظنون عدم حصولها فيسعون في حصولها وتحصيل الحاصل ممتنع فيحتاجون أن يقدروا عدم الموجود ثم يسعون في وجوده ومن هنا يغلط كثير من الخائضين في الكلام والفقه
وقد يكون العلم والإرادة حاصلين بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل مع نوع من الذهول والغفلة فإذا حصل أدنى تذكر رجعت النفس إلى ما فيها من العلم والإرادة أو توجهت نحو المطلوب فيحصل لها معرفته ومحبته
(7/425)
والله تعالى فطر عباده على محبته ومعرفته وهذه هي الحنيفية التي خلق عباده عليها كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
وقد قال تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } سورة الروم 30
وقال صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهية بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء والكلام في هذه الأمور مذكور في غير هذا الموضع
ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب أن العلم والإيمان واجب على الناس بحسب الإمكان فالجمل التي فرض الله تعالى على الخلق كلهم الإقرار بها مما يمكنهم معرفتها وأما التفاصيل ففيها من الدقيق ما لا يمكن أن يعرفه إلا بعض الناس فلو كلف بقية الناس معرفته كلفوا ما لا يطيقون ولهذا لم يجب على كل أحد أن يسمع كل آية في القرآن ويفهم معناها وإن كان هذا فرضا على الكفاية
(7/426)
ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلا لا ينضبط لنا والقرآن الذي يقرأه الناس بالليل والنهار يتفاضلون في فهمه تفاضلا عظيما وقد رفع الله بعض الناس على بعض درجات كما قال تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } سورة المجادلة 11 بل من الأخبار ما إذا سمعه بعض الناس ضرهم ذلك وآخرون عليهم أن يصدقوا بمضمون ذلك ويعلموه قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
فمثل هذه الأحاديث التي سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعها منه وعلم أنه قالها يجب على من سمعها أن يصدق بمضمونها وإذا فهم المراد كان عليه معرفته والإيمان به وآخرون لا يصلح لهم أن يسمعوها في كثير من الأحوال وإن كانوا في حال أخرى يصلح لهم سماعها ومعرفتها
والقرآن مورد يرده الخلق كلهم وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له قال تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال }
(7/427)
سورة الرعد 17
وهذا مثل ضربه الله سبحانه لما أنزله من العلم والإيمان والقلوب التي تنال ذلك شبه الإيمان بالماء النازل والقلوب بالأودية فمنها كبار ومنها صغار وبين أن الماء كما يختلط بما يكون في الأرض كذلك القلوب فيها شبهات وشهوات تخالط الإنسان وأخبر أن ذلك الزبد يجفأ جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض كذلك الشبهات تجفوها القلوب وما ينفع يمكث فيها
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا ورعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في
(7/428)
دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به
وما ذكره ابن حزم من أن العلم قد يحصل في القلب لا عن ضرورة ولا نظر ورده على من يحصره في النوعين فمثل هذا قد يكون النزاع فيه لفظيا وذلك أن نافي الحصر قد يريد بالضرورة ما كان عن ضرورة حس وأولئك يجعلون ما يحصل من العلم الضروري بالحس أحد أنواع العلم الضروري وقد يريد بالضرورة ما يضطر إليه الإنسان بدون نظر في تصوره وأولئك يريدون بالعلم الضروري والبديهي ما اضطر إليه الإنسان إذا تصور طرفيه سواء كان ذلك التصور ضروريا أو لم يكن بل كثير من الناس يقول إن جميع العلوم ضرورية باعتبار أسبابها فإن العلم الحاصل بالنظر والكسب والاستدلال هو بعد حصول أسبابه ضروري يضطر إليه الإنسان وهذا اختيار أبي المعالي وغيره
وللناس في هذا الباب اصطلاحات متعددة من لم يعرفها يجعل بينهم نزاعا معنويا وليس كذلك كما أن طائفة منهم يجعلون العلم البديهي هو الضروري والكسبي هو النظري ومنهم من يفرق بينهما فيجعلون الضروري ما اضطر إليه العبد من غير عمل وكسب منه لا في
(7/429)
تصور المسألة ولا دليلها ويجعلون البديهي ما بدهه وإن كان عن نظر اضطر إليه من غير كسب منه فإن العبد قد يضطر إلى أسباب العلم وقد يختار اكتساب أسبابه وهذا في الحسيات وغيرها كمن يفجأه ما يراه ويسمعه من غير قصد إلى رؤيته وسمعه ومن يسعى في رؤية الشيء واستماعه والأول لا يدخل تحت الأمر والنهي والثاني يدخل تحت الأمر والنهي
وأيضا فمن الناس من يقول العلوم الضرورية والبديهية يشترك فيها عامة العقلاء ويجعل ما يختص به بعضهم ليس من هذا القسم ومنهم من يسمي كل ما اضطر إليه الإنسان وبدهه ضروريا وبديهيا وإن كان ذلك مختصا بنوع من الناس كما يختص بالأنبياء والأولياء وأهل الفراسة والإلهام
وعلى هذا فالعلم الحاصل بتيسير الله تعالى وهدايته وإلهامه وجعله له في قلب العبد بدون استدلال يسميه هؤلاء علما ضروريا وإن كان ابن حزم وأمثاله لا يسمونه ضروريا فهذا نزال لفظي
ومن حد الضروري بأنه العلم الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه جعل هذا كله ضروريا وكذلك يقول كثير من شيوخ أهل المعرفة لكثير من أهل النظر إن علمنا ضروري كما في الحكاية المعروفة التي ذكرها أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي
(7/430)
ورأيتها بخطه عن الشيخ احمد الحيوقي المعروف بالكبرى قال دخل علي فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة كبير فيهم فقالا يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقلت نعم أنا أعلم علم اليقين فقالا لي كيف تعلم علم اليقين ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا وكلما أقام حجة أبطلتها وكلما أقمت حجة أبطلها فقلت ما أدري ما تقولان ولكن أنا أعلم علم اليقين فقالا فبين لنا ما هذا اليقين فقلت واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعلا يرددان هذا الكلام ويقولان واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردجها
وتعجبا من هذا الجواب لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوما لا يمكنه مع ذلك دفعها ثم قالا له كيف الطريق إلى هذه الواردات فقال لهما بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها فاعتذر الرازي بما له من الموانع وأما المعتزلي فقال أنا محتاج إلى هذه الواردات فإن الشبهات قد أحرقت قلبي فأمره الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر وما يتبع ذلك ففتح الله عليه بهذه الواردات
(7/431)
والمعتزلة ينفون العلو والصفات ويسمون من أثبت ذلك مجسما حشويا فلما فتح الله تعالى عليه بذلك قال والله ما الحق إلا فيما عليه هؤلاء الحشوية والمجسمة أو كما قال فإن عهدي بالحكاية من زمان وكان هذا الشيخ الكبرى إذا قيل له من قال { الرحمن على العرش استوى } فهو مجسم يقول فخذ إني حينئذ مجسم وكان من أجل شيوخ وقته في بلاده بلاد جرجان وخوارزم
قال أبو محمد بن حزم ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئا من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبه وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقربا إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية
(7/432)
وإصغاره ويقبل من آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام ومنهم المرأة البدوية والراعي والراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم من أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه قال ولسنا نقول إنه لم يبلغنا أنه قال ذلك لأحد بل نقطع نحن وجميع أهل الأرض قطعا كقطعنا على ما شاهدناه أنه عليه السلام لم يقل هذا قط لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ومن المحال
(7/433)
الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم يتفق على إغفال ذلك أو تعمد ترك ذكره جميع أهل الإسلام ويبينه هؤلاء الأشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع وخلاف لله ولرسوله ولجميع أهل الإسلام قاطبة
قلت قبول الإسلام الظاهر يجرى على صاحبه أحكام الإسلام الظاهرة مثل عصمة الدم والمال والمناكحة والموارثة ونحو ذلك وهذا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر وإن لم يعلم ما في باطن الإنسان
كما قال صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله
وقال إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم
(7/434)
ولهذا يقاتل الكافر حتى يسلم أو يعطى الجزية فيكون مكرها على أحد الأمرين ومن قال لا تؤخذ الجزية من وثني قال إنه يقاتل حتى يسلم وأما الإيمان الباطن الذي ينجي من عذاب الله في الآخرة فلا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر بل قد يكون الرجل مع إسلامه الظاهر منافقا وقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منافقون وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن في غير موضع وميز سبحانه بين المؤمنين والمنافقين في غير موضع
كما في قوله { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير } سورة الحديد 13 15
وقال تعالى { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون }
(7/435)
سورة الحجرات 14 15
وهؤلاء قد قالت طائفة إنهم أسلموا ظاهرا مع كونهم منافقين وقال الأكثرون بل كانوا مسلمين غير منافقين ولا واصلين إلى حقيقة الإيمان فإنه قد قال فيهم { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم } سورة الحجرات 14
والمنافق عمله حابط لا يتقبله الله ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن وغير ذلك من الأحاديث التي تكلم عليها في غير هذا الموضع فإن مسألة الإيمان والكفر والنفاق متعلقة بمسألة أول الواجبات ووجوب النظر وبالفاسق الملي وتكفير أهل البدع وغير ذلك من المسائل التي تكلم عليها الناس
(7/436)
وبهذا أجابوا عن هذه الحجة فإنه لما قيل لهم أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفى منه بالإقرار بالشهادتين قالوا إنما نجتزىء منه بذلك لإجراء أحكام الإسلام عليه فإن صاحب الشرع جعل ذلك أمارة لإجراء الأحكام
ولو كان ذلك إيمانا حقيقيا لما قال في حق النسوة المهاجرات { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } سورة الممتحنة 10 ثم يقول من تلك ملة من الملل وعاد إلى ملتنا فلا بد له من حامل يحمله عليه فإن كان الذي يحمله عليه ما علمه من فساد ملته وعقيدته وصحة دين الإسلام فهذا القدر كاف من النظر والاستدلال على الجملة وإن كان الذي يحمله رهبة منا أو رغبة فيما أعطانا الله من المال وغيره فهجرته إلى ما هاجر إليه
قال أبو محمد فإن قالوا فما كانت حاجة الناس إلى الآيات والمعجزات وإلى احتجاج الله عليهم بالقرآن وإعجازه وبدعاء اليهود إلى تمني الموت ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر قلنا
(7/437)
وبالله التوفيق قد قلنا إن الناس قسمان قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت فكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الاستدلال فرضا ولا بد وقسم وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام وخلق في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } سورة الحجرات 17 فهؤلاء آمنوا له عليه السلام بلا تكليف آية وأهل هذه الصفة هم اليوم المعتقدون للإسلام حقا بلا معرفة باستدلال قال أبو محمد ويلزم أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار إلا الأقل وقد قال بعضهم إنهم مستدلون قال وهذه مجاهرة هو يدرى أنه فيها كاذب وكل من سمعه يدري
(7/438)
أنه فيها كاذب لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لا يدري ما معنى الاستدلال فكيف يستعمله
قلت لفظ الاستدلال فيه إجمال فإن أريد العبارة عن نظم الأدلة والجواب عن الممانعات والمعارضات فهذا قد يقال إنه لا يحسنه إلا من يحسن الجدل وأما الاصطلاح المعين والترتيب المعين أو اللفظ المعين فهذا بمنزلة اللغات لا يعرفه إلا من يعرف تلك اللغة وليس هذا واجبا بلا ريب
وإن أريد به نفس طلب العلم بالشيء بالدليل والنظر فيما يدل على الشيء فهذا مركوز في فطرة جميع الناس فإنه ما منهم أحد إلا وعنده من نوع النظر والاستدلال بل ومن نوع الجدال بحسب ما هداه الله إليه من ذلك
وقد قال تعالى { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } سورة الكهف 54 والإنسان يجادل بالباطل ليدحض به الحق من غير معرفة بقوانين الجدل فكيف لا يجادل بالحق
والناس من النظر والمناظرة في صناعاتهم وأمور دنياهم ما يبين أن النظر والمناظرة مركوز في فطرهم فكيف في أمور الدين
والله سبحانه يقول { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } سورة الأعلى 2 3 وقال تعالى { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } سورة طه 50
(7/439)
وهذا الذي ذكره ابن حزم هو قول كثير من الأشعرية فإنهم متنازعون في النظر هل هو فرض على الأعيان أو على الكفاية وفي الواجب هل هو المعرفة أو الاعتقاد الجازم المصمم وهل يسمى ذلك علما أم لا
وكان أبو المعالي يقول لم يكلف الناس العلم فإن العلم في هذه المسائل عزيز لا يتلقى إلا من النظر الصحيح التام فتكليف ذلك عامة الناس تكليف ما لا يطاق وإنما كلفوا الاعتقاد السديد مع التصميم وانتفاء الشك والتردد ولو سمى مسم مثل هذا الاعتقاد علما لم يمنع من إطلاقه
قال وقد كنا ننصر هذه الطريقة زمانا من الدهر وقلنا مثل هذا الاعتقاد علم على الحقيقة فإنه اعتقاد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم ثم بدا لنا أن العلم ما كان صدوره عن الضرورة أو الدليل القاطع
قال وهذا الاعتقاد الذي وصفناه لا يتميز في مبادىء النظر حتى يستقر ويتميز عن اعتقاد الظان والمخمن
وقال أبو إسحاق الإسفراييني في آخر مصنفاته من اعتقد ما يجب
(7/440)
اعتقاده هل يكتفى به اختلف الأصحاب فيه فمنهم من اكتفى به ومنهم من شرط إقرار هذه العقائد بالأدلة
قلت والذين أوجبوا النظر من الطوائف العامة نوعان أحدهما من يقول إن أكثر العامة تاركوه وهؤلاء على قولين فغلاتهم يقولون إن إيمانهم لا يصح وأكثرهم يقولون يصح إيمانهم تقليدا مع كونهم عصاة بترك النظر وهذا قول جمهورهم
وقد ذكر هذا طوائف من الحنفية وغيرهم كما ذكر من ذكر من الحنفية في شرح الفقه الأكبر فقالوا قال أبو حنيفة وسفيان ومالك والأوزاعي وعامة الفقهاء وأهل الحديث بصحة إيمان المقلد ولكنه عاص بترك الاستدلال
وقال الشارح هذا يفيد فائدتين إحداهما أن الإيمان بالتقليد صحيح وإن لم يهتد إلى الاستدلال خلافا للمعتزلة والأشعرية فإنهما لا يصححان إيمان المقلد والإيمان بالتقليد ويقولان بكفر العامة
(7/441)
قال وهذا قبيح من أقبح القبائح لأنه يؤدي إلى تفويت حكمة الله تعالى في الرسالة والنبوة لأن من أعطى الرسالة والنبوة أمر بعرض الإسلام أولا على الكفرة فلو كان الاسلام لا يصح بالعرض والتقليد لفات الحكمة في الرسالة إلا أن درجة الاستدلال أعلى من درجة التقليد ألف مرة وكل من كان في الاستدلال والاستنباط أكثر كان إيمانه أنور وذكر كلاما آخر
قلت القول القبيح الباطل تكفير من حكم الشارع بإيمانه وهم المؤمنون من العامة وغيرهم الذين لم يسلكوا الطرق المبتدعة كطريقة الأعراض ونحوها وأما كون إيمان العامة تقليدا أو ليس تقليدا وهل هم عصاة أو ليسوا عصاة فهذا كلام آخر
وأما المعتزلة والأشعرية فلهم في ذلك نزاع وتفصيل معروف
والنوع الثاني من موجبي النظر وهم جمهورهم يقولون إنه متيسر على العامة كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى وغيرهما ممن يقول ذلك قالوا فإن قيل فتقولون بوجوب معرفة الله ومعرفة نبوة رسله في حق كل مكلف من أهل النظر والعامة وجفاة
(7/442)
الأعراب والأكراد وأهل القصبة والرستاق ومن يقصر فهمه عن معرفة الدقيق وأدلة التفصيل قيل نعم لأنه ليس في جميع من ذكرت من يعرف فهمه ويقصر علمه عن معرفة الحدث والمحدث عند مشاهدة تغير العالم وما يحدث ويتجدد في أجسامه من الزيادة والنقصان والنماء وتغير الحالات وما تجد عليه النطفة من التصور والانتقال من حال إلى حال وإن قصرت عبارته عن أن يقول إن هذه أمور متجددة طارئة وإنه لا بد للصنعة من صانع وللكتابة من كاتب وقد علم أن انتقال النطفة إلى أن تصير إنسانا أو بهيمة أعظم في الأعجوبة من تحول الفضة خاتما والخشبة سريرا وبابا والغزل ثوبا منسوجا وإن لم يعبر عن ذلك بعبارات المتكلمين وألفاظ الناظرين وكما يفرق بين خبر الواحد الذي لا يوجب العلم وبين خبر التواتر الموجب للعلم وكما تجد في أنفسها الفرق بين الظن والتقليد وبين المشاهدة وعلم اليقين وإن تعذر عليها الفصل بين ذلك أجمع من طريق العبارة وإذا كان كذلك وجب أن يكون لجميعهم سبيل إلى معرفة الحدوث والمحدث هذه عبارة القاضي أبي يعلى وغيره من هؤلاء الذين وافقوا القاضي أبا بكر على طريقته
وكذلك قال ابن الزاغوني وهو من القائلين بوجوب النظر
(7/443)
والاستدلال وحكى ذلك عن عامة العلماء كما ذكره القاضي أبو يعلى وابن عقيل وأبو الخطاب وغيرهم
قال والذي فرضه الله على الأعيان على ضربين أحدهما ما لا يتم الإيمان إلا به وهو معرفة الله وتوحيده وأنه صانع الأشياء وأن الكل عبيده وأمثال ذلك فهذا يستوي في لزومه العالم والعامي ونعني بقولنا العالم الذي تبصر وتدرب وعرف الحجة من الشبهة وتبحر في مواقف الاجتهاد للمعرفة وانتصب دافعا بالحق شبه أهل الاعتراض على وجه يترجح به الثقة ويساعده بالفهم اليقين والمعرفة ونعني بالعامي من فصل عن أرباب الاختصاص في إحراز العلم وكثرة التبحر وإنما سمي عاميا من جهة قلة العدد في خواص العلماء بالإضافة إلى من بقي فخواص العلماء في كل زمان آحاد يسير عددهم والناس غير أعم وجودا وأكثر عددا فلهذا سمي من قل علمه عاميا ومن جملة العامة ولسنا نريد بالعامي من لا معرفة له بشيء من العلم بحال فإذا ثبت هذا فسائر العامة مؤمنون عارفون بالله في عقائدهم وديانتهم غير مقلدين في شيء قدمنا ذكره
قال وذهبت طوائف من المعتزلة والقدرية إلى أنه لا يعرف الله إلا العلماء فأما العوام فلا يحكم بصحة إيمانهم ولا بمعرفتهم لله
(7/444)
قال والدليل على إبطال قولهم هو أنا نقول حقيقة الإيمان العائد إلى المعتقد هي طمأنينة النفس وسكون القلب إلى معرفة ما يعتقد بإسناد ذلك إلى دليل يصلح له وهذا لا يعدم في حق أحد من العامة وبيان ذلك أنه لو قيل لأحد من العوام بم عرفت ربك لقال بأنه انفرد ببناء هذه السماء ورفعها فلا يشاركه في هذا موصوف بجسم ولا جوهر وهذا مأخوذ من قوله تعالى { وإلى السماء كيف رفعت } سورة الغاشية 18 ومن سائر الآيات التي فيها ذكر السماء والاعتبار بها وهذه الآيات هي الأصل عند العلماء وإنما ينفردون عن العامة في هذا ببسيط البيان المليح والتشقيق والغامض الدقيق وفي بيان حكم يدركها العامي فهما بجنانه ويقصر عن شرحها بلسانه فهما في ذلك كرجلين اتفقا في العلم بمسألة وأحدهما في الكشف أبسط باعا وأفصح شرحا وهذا يرجع إلى شيء وذلك أنه قد ثبت أن الله تعالى كلف الكل معرفته وضمن فيما كلف أنه لا يزيد تكليفه على مقدار الوسع بقوله { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } سورة البقرة 286 وقوله { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } سورة الطلاق 7 فحقيقة المعرفة بالشيء إنما هي الوقوف عليه بالعلم على ما هو به ولا يوصل إلى ذلك في
(7/445)
حق الله إلا باستناد المعتقد فيه إلى دليله فلو كان الدليل لا يدخل الوقوف عليه في طوق العامي لأدى ذلك إلى تكليفه ما ليس في وسعه وهذا خلاف ما نص الله عليه
دليل آخر وهو أنا إذا تأملنا أدلة التوحيد وما يجب على العامي ترك التقليد فيه وجدناه سهلا في مأخذه قريبا في تناوله تشتاق النفوس إليه بأنسها ويستند ذلك إلى شيئين أحدهما أن ذلك منوط بالعقل ولأجل هذا ادعى خصومنا أن المعرفة وجبت بالعقل والعوام عقلاء
ويظهر ذلك شرعا وعقلا أما الشرع فلا يكلف الا عاقلا وهو تسليم أموالهم اليهم لرشدهم ولا رشيد الا عاقل وأما طريق العقل فبما يظهر من ذلك في تدبيرهم وتدقيق حيلهم وخفي مكرهم في تقاسيم أحوال الدنيا
وقد سطر الناس في ذلك كتبا وصنفوا فيها من فنون المكر والحيل وتدقيق الآراء في أنواع التدبير ما فيه غنية لمن تأمله والثاني أن أدلة ذلك جلية في أعلى مقامات الايضاح والكشف حتى تجد النفوس بها مستأنسة وذلك مثلما يستدل
(7/446)
العامي على معرفة أن له خالقا فيعلم عند تأمل نفسه أنه جسم مجموع مفعول مصنوع وهو عاجز في نفسه عن صنع ذاته وصفاته من وجوه
أيسرها أن الصانع من شرطه أن يتقدم على المصنوعات فإذا ثبت ذلك في نفسه واستقر ذلك في أمثاله من جنسه واستوى العالم كله عنده في أنه يشاركه في صفات نفسه اقتضى ذلك إثبات صانع آخر يخالفهم في استحقاق الجمع لحقيقة الوحدة ويتحقق فيه شرط السبق إلى غير غاية
وهذا وأمثاله معروف عند العامة لا يخفى عليهم وإن عجزوا في بعضه عن الافصاح بشرحه والمأخوذ على المكلف فهمه ومعرفته على وجه يزول عنه الشك ويبعد فيه الريب ويستضيء به العقل وتثق به النفس
وهذا سهل لا تقصر العامة عن معرفته فلهذا قضينا لهم بالإيمان والمعرفة وهذا جلي واضح ولكونه حقا في نفسه صحيحا في معناه سوى الله في أحكامه بين العالم والعامي في أحكام ذلك العامة وهي الخطاب بالأمر والنهي وإقرارهم على حكم القبول في المعقود من الأنكحة والبيوع وأداء الفرائض
(7/447)
واجتناب المحارم والغسل والتكفين والصلاة عليهم والدفن في مقابر المسلممين إلى قبلتهم والتوارث منهم وذلك يوجب لهم القضاء بالإيمان والمعرفة
قال واحتج المخالف بأن حقيقة المعرفة هو العلم بالشيء أو العلم بالمعلوم وإنما يكون ذلك إذا وصل صاحبه إلى اليقين فيه وإذا لم يكن قادرا على بصيرة دليل يكشفه ولا على دفع شبهة يحلها لم يكن على يقين فيما علمه لأنه قد يعترض عليه فيما عنده شك ما يوجب نقلته عما كان عليه أو يعرض له من الشكوك ما يزيل الثقة بما عنده
ومن هو على هذه الصفة فهو ناقص المعرفة وتجويز النقصان في هذا يوجب أنه لم يتعلق بما مثله يصلح أن يكون كافيا في مقصوده شافيا في مراده وإلا فحقيقة المعرفة لا تدخلها التجزئة فيثبت منها بعض دون بعض فبان بهذا أن كل من كان في عداد العامة فهو غير عارف على الحقيقة ومن ليس بعارف لم يثبت له تسمية ما يستحقه أهل المعرفة من ذلك
قال والجواب أن ما أسلفناه في اول المسألة هو جواب عما
(7/448)
ذكروه وهو أنه إذا أضاف ما علمه إلى دليل مثله لا يفسد وقد استحكمت ثقة المعترف به في مدة حياته لا يعتريه فساد ولا يدخله نقص واتفق على ذلك من يساويه في معرفته ومن يزيد عليه في مقام العلم والاجتهاد فقد استحكمت ثقته به من وجهين أحدهما علمه وتجربته والثاني اتفاق أهل الملة على صحته ومثل هذا لا يعارضه شك يخرج المتمسك به عن الثقة فإنه قد ثبت عند العامة عموما لا يختلف فيه أحد منهم أن كل جسم مبني مجموع محدث كان بعد أن لم يكن ويتوهم نقضه كما يتحقق بناؤه وإن كان كل واحد منهم ليس بفاعل نفسه ولا فعله مثله ويتحقق أن من شرط الفاعل أن يكون سابقا على المفعول فإذا تساوت الأجسام في هذا دل على أن الفاعل لها غيرها وهو من لا يشاركها فيما أوجب لها العجز وهذا جلي واضح لا يمكن دفعه ولا تقابله شبهة تؤثر فيما استقر عند العالم به وهذا كاف لا يقصر عنه عامي ولا يقدر على الزيادة فيه عالم الا بتحسين العبارة فيه أو حذف مواد الشبهة عنه وهذا أمر زائد على مقدار فهمه والثقة بصحته ولهذا كان من فرائض الكفايات
(7/449)
قلت ولقائل أن يقول ان جمهور العامة لا يعرف هذا الدليل بل ولا يعرف مسمى الجسم في اصطلاح المستدلين به ولايعرف أن الهواء يسمى جسما بل أكثر الناظرين في العلم من أهل الفلسفة والكلام والفقه والحديث والتصوف لم يعرفوا صحة هذا الدليل بل قالوا إنه باطل والسلف والأئمة جعلوا هذا من الكلام المبتدع الباطل ولم يدع أحد من الأنبياء وأتباعهم أحدا إلى الاستدلال على معرفة الله بهذا الطريق وإنما ابتدعه في الإسلام من كان مبتدعا في الإسلام من الجهمية والمعتزلة ونحوهم ولكن الذي يعرفه العامة والخاصة أن كل واحد من الآدميين محدث كان بعد أن لم يكن وأنه ليس بفاعل نفسه ولم يفعله مثله
ولهذا استدل سبحانه بذلك في قوله تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } سورة الطور 35 وكذلك يعلمون حدوث ما يشهدون حدوثه ويعلمون أنواعا من الأدلة غير هذا
قال أبو الحسن ابن الزاغوني وأما قولهم إنه قد يعترض عليه من الشبهة ما يوجب تفلته ويرفع ثقته فليس كذلك من وجهين أحدهما أن خيالات الشبه لا تكافي فيما ذكرنا فما يقصر من الشبه
(7/450)
فتقصيره يظهر سريعا والثاني أنه إذا طرأ على العامي شبهة فإنه لا يزال يسأل عنها ويبالغ في التفتيش والتنقير حتى يخبره العلماء الربانيون في ذلك بما تقوى به ثقته
قال وأما قولهم إن المعرفة ناقصة في حقه فإن أردتم أنها ناقصة من حيث إنه لا يصل إلى مطلوب المسألة فهذا محال لا فهذا مما لا يدخله نقص وذلك لأن الإنسان إما عارف بالمسألة أو غير عارف ولا واسطة بينهما وإن أردتم بالنقص من طريق العدد في المسائل أو في الدلائل فصحيح غير أنه يفصل به بين علم الأعيان وعلم الكفاية وذلك غير قادح في ثبوت المسألة بدليلها الذي لا غنى عنه ولا زيادة عليه
قلت هذا مبني على أن المعرفة بالله تعالى لا تتفاضل وأن الشيء لا يكون معلوما من وجه مجهولا من وجه وهذا أحد القولين للناس في هذه المسألة وهو قول طائفة من أهل الحديث والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وقول كثير من أصحاب الأشعري أو أكثرهم وهو قول جهم بن صفوان وكثير من المرجئة
لكن جمهور الناس على خلاف هذا وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد روايتين وهذا يشبه تنازع الناس في العقل هل
(7/451)
يتفاضل فمذهب الجمهور أنه يتفاضل وهو قول أكثر أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء كالتميمي والقاضي وأبي الخطاب وغيرهم من العلماء
وقالت طائفة لا يتفاضل وهو قول أكثر أصحاب الأشعري وابن عقيل وغيرهم
وهو يشبه تنازعهم في أن بعض الواجبات هل تكون أوجب من بعض فابن عقيل وغيره ينكرون التفاضل في هذا وجمهور الفقهاء يجوزون التفاضل في هذا والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن الذين يقولون بوجوب النظر والاستدلال على الأعيان أو يقولون إن الإيمان لا يصح إلا به لأن المعرفة واجبة والمعرفة لا تتم إلا به فقول جمهورهم إن المراد بذلك هو العلم الذي يقوم بالقلب لا العبارة عنه ولايوجبون نظم الدليل بالعبارة ولا القدرة على جواب المعارض ويقولون إن العلم بالدليل أمر متيسر على العامة وإن العامة المؤمنين قد حصل لهم في قلوبهم النظر والاستدلال المفضي إلى العلم وإن لم يكونوا قادرين على نظم الدليل وبيانه بالعبارة
وهذا موجود في عامة ما يقوم بالنفس من علم وحب وبغض
(7/452)
ولذة وألم وغير ذلك يكون ذلك موجودا في النفس يعلم به الإنسان ولكن وصف ذلك وبيانه والتعبير عنه شيء آخر
وليس كل من علم شيئا أمكنه أن يصفه ولهذا يسمى مثل هذا متكلما ومعلوم أن العلم ليس هو الكلام ولهذا يقال العلم علمان علم في القلب وعلم في اللسان فعلم القلب هو العلم النافع وعلم اللسان هو حجة الله على عباده وقد روي ذلك عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وقد قيل إنه من كلام الحسن وهو أقرب
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إنكم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه كثير معطوه قليل سائلوه وسيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه قليل فقهاؤه قليل معطوه كثير سائلوه
فالفقيه الذي تفقه قلبه غير الخطيب الذي يخطب بلسانه وقد يحصل للقلب من الفقه والعلم أمور عظيمة ولا يكون صاحبه مخاطبا
(7/453)
بذلك لغيره وقد يخاطب غيره بأمور كثيرة من معارف القلوب وأحوالها وهو عار عن ذلك فارغ منه
وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها
فبين صلى الله عليه وسلم أن الإنسان قد يقرأ القرآن فيتكلم بكلام الله وهو منافق ليس في قلبه إيمان وآخر يكون مؤمنا قلبه فيه من معرفة الله تعالى وتوحيده ومحبته وخشيته ما هو اعظم الأمور وهو لا يتكلم بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى
ولهذا قال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان
(7/454)
وقد قال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } سورة الشورى 52 53
وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة
فأخبر أنه أنزل الإيمان في القلوب وقد تقدم قوله تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } سورة الرعد 17 وهذا مثل ضربه الله لما أنزله في القلوب من الإيمان والقرآن وشبه القلوب بالأودية وشبه ما يخالط القلوب من الشهوات والشبهات بالزبد الذي
(7/455)
يذهب جفاء يجفوه القلب ويدفعه وشبه ما يبقى في الأرض من الماء النافع بما يبقى في القلوب من الإيمان النافع
وتقدم أيضا حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به
فقسم صلى الله عليه وسلم الناس فيما بعث به من الهدى والعلم الذي شبهه بالغيث إلى ثلاثة أقسام فقسم قبلوه فانتفعوا به في نفوسهم علما وعملا وقسم حفظوه وأدوه إلى غيرهم وقسم ثالث لا هذا ولا هذا
وقوله تعالى { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } سورة الشورى 52 نظير قوله { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } سورة سبأ 50
(7/456)
ففي هاتين الآيتين بين سبحانه أن الإيمان والهدى حصل بالوحي النازل لا بمجرد العقل الذي كان حاصلا قبل الوحي
والناس متنازعون في المعرفة هل حصلت بالشرع أو بالعقل وهل وجبت بهذا أو بهذا
والنزاع في هاتين المسألتين موجود بين عامة الطوائف من أصحاب أحمد وغيره
فإن الناس لهم في العقل هل يعلم به حسن الأشياء وقبحها والوجوب والتحريم قولان مشهوران أحدهما أنه لا يعلم به ذلك وهو قول الأشعري وأصحابه وابن حامد والقاضي أبي يعلى والقاضي يعقوب وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم من أصحاب أحمد وكثير من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما
والثاني أنه يعلم ذلك وهذا قول المعتزلة والكرامية وغيرهم وهو قول أبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وغيرهما من أصحاب أحمد وذكر أبو الخطاب أنه قول جمهور العلماء وهو قول كثير من أئمة الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وأبي نصر السجزي وقول كثير من أصحاب مالك والشافعي وهو الذي ذكره أصحاب أبي حنيفة وذكروه عن أبي حنيفة نفسه
وقد بسط الكلام على هذه المسألة وما فيها من التفصيل في غير هذا الموضع وكذلك المعرفة هل تحصل بالعقل أو بالشرع فيها
(7/457)
نزاع بين العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء
وحقيقة المسألة أن المعرفة منها ما يحصل بالعقل ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع فالإقرار الفطري كالإقرار الذي أخبر الله به عن الكفار قد يحصل بالعقل كقوله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } سورة لقمان 25
وأما ما في القلوب من الإيمان المشار إليه في قوله تعالى { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } سورة الشورى 52 فلا يحصل إلا بالوحي كما في قوله { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } سورة سبأ 50
ومما يتعلق بهذه المسألة الكلام فيما يلهمه الله تعالى المؤمنين من الإيمان كقوله تعالى { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } سورة المائدة 111
وقوله { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } سورة الأنعام 125 وقوله { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } سورة الزمر 22
وقوله { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } إلى قوله { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } سورة النور 35 40
(7/458)
وقوله { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } سورة الحجرات 7
وقوله { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } سورة المجادلة 22 وقوله { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } سورة يونس 25
وأمثال ذلك مما يبين أن ما يحصل في القلوب من الهدى والنور والإيمان هو من الله تعالى بفضله ورحمته
وهذا يتعلق بمسألة القدر ولما كانت المعتزلة قدرية تنكر أن يكون الله تعالى خالقا لأفعال العباد ويقولون إن ما يحصل للعبد من الإيمان لم يحصل من الله تعالى بل قد أعطى الكافر من أسباب الإيمان مثل ما أعطى المؤمن وليس له نعمة على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر ولكن نفس القدرة التي بها آمن هذا بها كفر هذا وكل منهما رجح أحد مقدوريه بلا سبب يوجب الترجيح لأن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وأما من قال منهم بقول أبي الحسين إن الفعل لا يحصل مع القدرة إلا بالداعي وإن الله يخلق الداعي وأنه يجب وجود المقدور عند وجودهما فهذا موافق لأهل السنة في المعنى وإن أظهر نزاعهم
(7/459)
والمعتزلة كانوا هم أئمة الكلام في وجوب النظر والاستدلال بطريقة الأعراض والأجسام وما يتبع ذلك وصاروا يقولون إن الإيمان لا يمكن أن يحصل للعبد بدون اكتسابه له لا يمكن عندهم أن يحصل بعلم ضروري يجعله الله في قلب العبد ولا بإلهام وهداية منه يختص بها من يشاء من عباده
ولهذا خالفهم المثبتون للقدر كالأشعري وغيره وقالوا يمكن أن يعلم بالاضطرار ما يعلم بالنظر فإن هذا عندهم ليس أمرا لازما لكنه بحسب العادة
والمعتزلة يقولون إن الإيمان إذا كان موهبة من الله تعالى للعبد وتفضلا منه عليه لم يستحق العبد الثواب
وأهل السنة يقولون هو محسن إلى العبد متفضل عليه بأن أرسل اليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأن جعل له السمع والبصر والفؤاد الذي يعقل به وأن هداه للإيمان وأن أماته عليه فكل هذا إحسان منه إلى المؤمن وتفضل عليه وإن كان هو قد كتب على نفسه الرحمة وكان حقا عليه نصر المؤمن وحق العباد عليه إذا وحدوه ألا يعذبهم فذاك حق أوجبه بنفسه بكلماته التامات وبما تستحقه نفسه المقدسة من حقائق الأسماء والصفات لا أن شيئا من المخلوقات أوجب عليه شيئا أو حرم عليه شيئا
(7/460)
والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر
فلما صار من أخذ ما أخذه من الكلام المحدث عنهم كالأشعري ومن سلك سبيله من أصحاب أحمد ومالك والشافعي يسلكون مسالكهم في مسألة إيجاب النظر وأن الايمان لا يحصل الا به قال ابو جعفر السمناني أحد أئمة الاشعرية هذه المسألة بقية بقيت في المذهب من الاعتزال لمن اعتقدها وذلك لكون الأشعري كان معتزليا تلميذا لأبي علي الجبائي ثم رجع عن هذا إلى مذهب ابن كلاب وأمثاله من الصفاتية المثبتين للقدر والقائلين بأن أهل الكبائر لا يخلدون ونحو ذلك من الأصول التي فارق بها المعتزلة للجماعة
وأصل الكلام المحدث المخالف للكتاب والسنة المذموم عند السلف والأئمة كان أئمة الجهمية والمعتزلة وأمثالهم والمعتزلة قدرية جهمية وجهم وأتباعه جهمية مجبرة ثم الأشعري كان منهم ولما فارقهم وكشف فضائحهم وبين تناقضهم وسلك مسالك أبي محمد بن كلاب وأمثاله ناقضهم غاية المناقضة في مسائل القدر والوعيد والأسماء والأحكام كما ناقضهم في ذلك الجهمية والضرارية والنجارية ونحوهم
(7/461)
وكان الأشعري أعظم مباينة لهم في ذلك من الضرارية حتى مال إلى قول جهم في ذلك لكنه كان عنده من الانتساب إلى السنة والحديث وأئمة السنة كالإمام أحمد وغيره ونصر ما ظهر من أقوال هؤلاء ما ليس عند أولئك الطوائف
ولهذا كان هو وأمثاله يعدون من متكلمة أهل الحديث وكانوا هم خير هذه الطوائف وأقربها إلى الكتاب والسنة ولكن خبرته بالحديث والسنة كانت مجملة وخبرته بالكلام كانت مفصلة فلهذا بقي عليه بقايا من أصول المعتزلة ودخل معه في تلك البقايا وغيرها طوائف من المنتسبين إلى السنة والحديث من اتباع الأئمة من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد
وعامة هؤلاء يقولون الأقوال المتناقضة ويقولون القول ولا يلتزمون لوازمه ومن أسباب ذلك أنهم يقولون القول المأثور عن الصحابة والسلف الموافق للكتاب والسنة ولصريح المعقول ويسلكون في الرد على بعض الكفار أو بعض أهل البدع مسلكا سلكته المعتزلة ونحوهم وذلك المسلك لا يوافق أصول أهل السنة فيحتاجون إلى التزام لوازم ذلك المسلك المعتزلي وإلى القول
(7/462)
بموجب نصوص الكتاب والسنة والمعقول الموافق لذلك فيحصل التعارض والتناقض
وهكذا المعتزلة ردوا على كثير من الكفار ردا بطرق سلكوها متى التزموا لوازمها عارضت حقا آخر معلوما بالشرع أو العقل ومن تدبر هذه الأبواب رأى عجائب وما ثم ما يثبت على السبر والتقسيم ويسلم عن التناقض إلا ما جاء من عند الله
كما قال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } سورة النساء 82
وكثير من هذه الطوائف يتعصب على غيره ويرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع المعترض في عينه ويذكر من تناقض أقوال غيره ومخالفتها للنصوص والمعقول ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال أو أضعف منها أو أقوى منها
والله تعالى يأمر بالعلم والعدل ويذم الجهل والظلم كما قال تعالى { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } سورة الأحزاب 72 73
(7/463)
وقال تعالى { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } سورة الأنعام 115
وقال النبي صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار رواه أهل السنن
ومعلوم أن الحكم بين الناس في عقائدهم وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم وأموالهم
وقد قال تعالى { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير } سورة الشورى 15
تم بحمد الله الجزء السابع من
كتاب درء تعارض العقل والنقل
لابن تيمية
(7/464)
وقد رأيت من كلام الناس في هذا الباب وغيره ألوانا لا يسعها هذا الموضع وكثير من نزاع الناس يكون نزاعا لفظيا أو نزاع تنوع لا نزاع تناقص
فالأول مثل أن يكون معنى اللفظ الذي يقوله هذا هو معنى اللفظ يقوله هذا وإن اختلف اللفظان فيتنازعان لكون معنى اللفظ في اصطلاح أحدهما غير معنى اللفظ في اصطلاح الآخر وهذا كثير
فالثاني أن يكون هذا يقول نوعا من العلم والدليل صحيحا ويقول الآخر نوعا صحيحا
وكثير من نزاع الناس في هذا الموضع من هذا الباب وكثير منه نزاع في المعنى والنزاع المعنوى إما أن يكون في ثبوت شىء وانتفائه وإما أن يكون في وجوب شىء وسقوطه
فالنزاع في صحة دليل الأعراض ونحوه نزاع معنوى وكذلك النزاع في وجوب الاستدلال بهذا الدليل على الإيمان أو توقف صحة الإيمان عليه ونحو ذلك
ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة مأخوذا في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات هل هو النظر أو القصد أو الشك أو المعرفة صار كثير من المنتسبين إلى
(8/3)
السنة المخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم يوافقونهم على ذلك ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم كمالك وابي حنيفة والشافعي وأحمد وصنف كتابا في هذا الباب يقول فيه قال اصحابنا وأختلف أصحابنا فإنما يعنى بذلك أصحابه الخائضين في الكلام وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له في ذلك الكلام عموم وخصوص فقد يكون الرجل من هؤلاء دون هؤلاء وبالعكس وقد تجتمع فيه الوصفان
وهذا موجود كثيرا في اتباع جميع الأئمة فتجد الواحد من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يقول اختلف أصحابنا في أول الواجبات ونحو ذلك لا يصح كلامه إلا على هذا الوجه
كما يقول أبو الفرج المقدسي الحنبلي في تبصرته فإنه قال
(8/4)
فصل في أول ما أوجب الله على العبد المكلف وفي ذلك وجهان لأصحابنا أحدهما أن أول ما أوجب الله على العبد معرفته والثاني أن أول ما أوجب الله على العبد النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى
قال وقال قوم أول ما أوجب الله على العبد الطهارة والصلاة وغير ذلك
ثم قال دليلنا أن معرفة الله يجب أن تتقدم على عبادته لأنه لا يجوز للمكلف أن يعبد ما لا يعرف وإذا ثبت هذا وجب تقدم المعرفة على العبادة
قال وإلى ذلك دعانا الباري بقوله تعالى { أو لم يتفكروا في أنفسهم } سورة الروم 8 وقال { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض } سورة الأعراف 185
قال ولم يندبنا إلى النظر والتفكر إلا لكي نستدل على معرفته
قال دليل ثان أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أرسل به إلى الأمة التوحيد ومعرفة الله تعالى بالوحدانية ونفي الإلهية عما سواه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
أمرت أن أقاتل الناس
(8/5)
حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ثم فرض عليهم بعد ذلك الفرائض فدل على ما قلناه
قلت فهذا الكلام وأمثاله يقوله كثير من أصحاب الأئمة الأربعة ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما قالوا لا هذا القول ولا هذا القول وإنما قال ذلك من أتباعهم من سلك السبل المتقدمة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحدا من الخلق إلى النظر ابتداء ولا إلى مجرد إثبات الصانع بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان وبذلك أمر أصحابه
كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن
إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم
(8/6)
وكذلك سائر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لهذا كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عمر
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله
وفي حديث ابن عمر
حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين وعلماء المسلمين فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين سواء كان معطلا أو مشركا أو كتابيا وبذلك يصير الكافر مسلما ولا يصير مسلما بدون ذلك
كما قال أبو بكر بن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على الكافر إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن كل ما جاء به محمد حق وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام وهو بالغ صحيح يعقل أنه مسلم فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدا يجب عليه ما يجب على المرتد
لكن تنازعوا فيما إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله هل يتضمن ذلك الشهادة بالتوحيد أو لا يتضمن أو يفرق بين من يكون
(8/7)
مقرا بالتوحيد ومن لا يكون مقرا على ثلاثة أقوال معروفة في مذهب أحمد وغيره من الفقهاء ولهذا قال غير واحد ممن تكلم في أول الواجبات كالشيخ عبد القادر وغيره أول واجب على الداخل في ديننا هو الشهادتان
واتفق المسلمون على أن الصبي إذا بلغ مسلما لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين
والقرآن العزيز ليس فيه أن النظر أول الواجبات ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس وهذا موافق لقول من يقول إنه واجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجبا إلا به وهذا أصح الأقوال
فقوله تعالى { أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون } سورة الروم 8 وهذا بعد قوله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } سورة الروم 6 7
ثم قال تعالى { أو لم يتفكروا في أنفسهم } سورة الروم 8 فالضمير عائد إلى الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون
(8/8)
وقوله تعالى { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون } سورة الأعراف 184 185
فهذا مذكور بعد قوله { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين } سورة الأعراف 182 183
ثم قال { أولم يتفكروا ما بصاحبهم } فالضمير عائد إلى المكذبين فإنه قال تعالى { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } ثم قال تعالى { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون } فقول هؤلاء كأبي المعالي وغيره أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعا القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم هو في الأصل من
(8/9)
كلام المعتزلة وهو كلام مخالف لما أجمع عليه أئمة الدين ولما تواتر عن سيد المرسلين بل لما علم بالاضطرار من دينه
وإذا قدر أن أول الواجبات هو النظر أو المعرفة أو الشهادتان أو ما قيل فهذا لا يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ إلا إذا لم يكن قد فعله قبل البلوغ فأما من فعل ذلك قبل البلوغ فإنه لا يجب عليه فعله مرة ثانية لا سيما إذا كان النظر مستلزما للشك المنافي لما حصل له من المعرفة والإيمان فيكون التقدير اكفر ثم آمن واجهل ثم اعرف وهذا كما أنه محرم في الشرع فهو ممتنع في العقل فإن تكليف العالم الجهل من باب تكليف ما لا يقدر عليه فإن الجاهل يمكن أن يصير عالما فإذا أمر بتحصيل العلم كان ممكنا أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلا كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه فمن كان الله قد أنعم عليه وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه فحصل له الإيمان المتضمن للمعرفة لم يمكن أن يؤمر بما يناقض المعرفة من نظر ينافي المعرفة أو شك ونحو ذلك بل الأمر لمن حصل له علم ومعرفة أن يقدم ذلك ثم يحصله مثل تكليف من حصل له قصد الصلاة ونيتها بأن يقدم ذلك ثم تحصل النية
(8/10)
وهذا مع أنه من باب الجهل والسفه والضلال فهو من باب تكليف العباد ما يعجزون عنه ولهذا يقال الوسوسة لا تكون إلا من خبل في العقل أو جهل بالشرع
وقد اتفق الفقهاء على أن الصبي إذا تطهر قبل البلوغ لم يجب عليه إعادة الوضوء إذا بلغ وكذلك لو كان عليه ديون فقضاها أو قضاها وليه لم يجب عليه إعادة القضاء بعد البلوغ بل لو صلى الفرض في أول الوقت ثم بلغ ففي إعادة الصلاة عليه نزاع معروف بين العلماء ومذهب الشافعي لا تجب الإعادة وهو قول في مذهب أحمد ومن الناس من يضعف هذا القول ولعله أقوى من غيره فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من الصبيان بإعادة الصلاة مع العلم بان كثيرا منهم يحتلم بالليل وقد صلى العشاء مع بقاء وقتها
والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ
والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله لكن مجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمنا بل ولا يصير مؤمنا بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله ولا يصير مؤمنا
(8/11)
بذلك حتى يشهد أن محمدا رسول الله ثم كون ما يجب من المعرفة لا يحصل إلا بالنظر أو يمكن حصوله بدونه وهل أصل المعرفة فطرية ضرورية أو نظرية أو يحصل بهذا تارة وبهذا تارة والنظر المحصل لها هل يتعين في طريق معين أو لا يتعين هذه مسائل أخر
ومما يتعلق بهذا تنازعهم في المعرفة الواجبة هل تحصل بالعقل أو بالشرع وكثير من النزاع في ذلك لفظي وبعضه معنوي فمن ادعى أن المعرفة لا تحصل إلا بطريقة الأعراض والتركيب ونحو ذلك من الطرق المبتدعة التي للمعتزلة والمتفلسفة ومن وافقهم كان النزاع معه معنويا
ونحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول وسلف الأمة بطلان قول هؤلاء وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا بهذه الطرق ولا علق إيمانه ومعرفته بالله بهذه الطرق بل القرآن وصف بالعلم والإيمان من لم يسلك هذه الطرق ولما ابتدع بعض هذه الطرق من ابتدعها أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها ووسموا هؤلاء بالبدعة والضلالة
ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر لا يمشي على
(8/12)
قول من يقول لا واجب إلا بالشرع كما هو قول الأشعرية وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أو سبع لا وجوب على من لم يبلغ ذلك وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين وإن كان لم يتكلم بهما وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة
وهذا هو المعنى الذي قصده من قال أول الواجبات الطهارة والصلاة فان هذا أول ما يؤمر به المسلمون إذا بلغوا أو إذا ميزوا كما قال صلى اله عليه وسلم مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع
ولهذا قال الأئمة كالشافعي واحمد وغيرهما يجب على كافل الصبي أن يأمره بالطهارة والصلاة لسبع ولم يوجب أحد منهم على أوليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد شهادتين ولا نظر ولا استدلال ونحو ذلك ولا يؤمر بذلك بعد البلوغ وان كان الإقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين ووجوب ذلك يسبق وجوب الصلاة لكن هو قد أدى هذا الواجب قبل ذلك إما بلفظه واما بمعناه فان نفس الإسلام والدخول فيه التزام لذلك
(8/13)
وهنا مسائل تكلم الفقهاء فيها فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما والصحيح انه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الإسلام
فان قال هؤلاء يعني بكونه أول الواجبات انه أول ما يؤديه العبد من الواجبات
قيل قد يؤدي قبل ذلك واجبات من قضاء الديون وأداء الأمانة وصلة الأرحام والعدل وغير ذلك
فان قيل لكن هذا أول واجب يتعلق به الثواب في الآخرة بخلاف ما أدى بدونه لا ثواب فيه في الآخرة
قيل مع قولنا بأنه لا وجوب ولا ثواب في الآخرة إلا بالشرع فلا يثاب لا على هذا ولا على هذا قبل مجيء الشرع ولا يجب لا هذا ولا هذا إلا بالشرع وإذا خاطب الشارع الناس فإنما يأمر العبد ابتداء بما لم يؤده من الواجبات دون ما آداه فلم يخاطب المشركين ابتداء بالمعرفة إذا كانوا مقرين بالصانع وانما أمرهم بالشهادتين ولو لم يكونوا مقرين بالصانع فانه لم يأمرهم بإقرار مجرد عن الشهادتين بل آمرهم بالشهادتين ابتداء والشهادتان تتضمن المعرفة
(8/14)
فلو اقروا بالصانع وعرفوه من غير إقرار بالشهادتين لم يقبل ذلك منهم ولم يخرجوا بذلك من الكفر ولم يرتب خطابهم بذلك شيئا بعد شيء بل خاطبهم بالجميع ابتداء
وهنا تكلم الناس في وجوب إمهال الكافر إذا طلب الإمهال للنظر فأوجبه من أوجبه من المتكلمين من المعتزلة ومن تبعهم على هذه الطريقة كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلي في المعتمد وغيرهما
واما الفقهاء أئمة الدين فلا يوجبون ذلك مطلقا إما في حال المقاتلة فيقاتلون حتى يسلموا أو يقروا بالجزية إن كانوا من أهلها فإذا اسر الرحل منهم فهذا لا يتعين قتله فإذا طلب مثل هذا الإمهال ورجى إسلامه أمهل واما المرتد فلا يؤخر عند الجماهير اكثر من ثلاث وأما من له عهد فذلك لا يكره على الإسلام فهو في مهلة النظر دائما
ولو طلب أهل دار ممتنعين من الإمام إن يمهلهم مدة ورجا بذلك إسلامهم ولم يخف مفسده راجحة أمهلهم
والحربي إذا طلب الامان حتى يسمع القرآن وينظر في دلائل الإسلام أمناه كما قال تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه }
واما من قال بالوجوب العقلي كما هو قول المعتزلة والكرامية ومن
(8/15)
وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد وغيرهم فهؤلاء هم الذين قالوا ابتداء أول ما يجب المعرفة أو النظر المؤدي إليها لكن اخذ كلامهم من أراد أن يبنيه على اصوله من الاشعرية ونحوهم فتناقض كلامه
ومن قال بالوجوب العقلي فهذا إذا قال أول الواجبات المعرفة كان ذلك اقرب ثم له أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أوجب الشهادتين ابتداء فقد ضم إلى الواجب العقلي ما يجب بالشرع وجعل أحدهما شرطا في الآخر فلا يقبل أحدهما دون الآخر ومن أدى هذا الواجب أو بعضه لم يخاطبه إلا بفعل ما لم يؤده وعلى هذا فيكون خطاب الشارع للناس بحسب أحوالهم
وأول الواجبات الشرعية يختلف باختلاف أحوال الناس فقد يجب على هذا ابتداء ما لا يجب على هذا ابتداء فيخاطب الكافر عند بلوغه بالشهادتين وذلك أول الواجبات الشرعية التي يؤمر بها واما المسلم فيخاطب بالطهارة إذ لم يكن متطهرا وبالصلاة وغير ذلك من الواجبات الشرعية التي لم يفعلها
وفي الجملة فينبغي أن يعلم أن ترتيب الواجبات في الشرع واحدا بعد واحد ليس هو أمرا يستوي فيه جميع الناس بل هم متنوعون في ذلك فكما انه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا فكذلك قد
(8/16)
يؤمر هذا ابتداء بما لا يؤمر به هذا فكما إن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض وكلهم يؤمر بالصلاة فهم مختلفون فيما يؤمرون به ابتداء من واجبات الصلاة فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة ونحو ذلك من واجباتها أمر بفعل ذلك ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداء ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة هو أول ما يؤمر به هذا
وهكذا الواجبات العقلية إذا قيل بالوجوب العقلي يتنوع الناس في ترتيبها فهذا يؤمر بقضاء ما عليه من الديون وهذا يؤمر برد ما عنده من الودائع وهذا يؤمر بالعدل في حكمه والصدق في شهادته وامثال ذلك وكما انهم متنوعون في ترتيب الوجوب فهم متنوعون في ترتيب الحصول علما وعملا
وقد سلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم ترتيبا معينا في العلم الواجب على كل مكلف وزعموا انه لا يمكن حصول المعرفة لأحد إلا على ذلك الترتيب الخاص كما ذكرناه من كلام أبي الحسين البصري وامثاله حيث قالوا ليس يثق أحد بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح لكي يؤمن أن يصدق الكذابين وليس يعلم انه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف انه عالم بقبحه
(8/17)
عالم باستغنائه عنه ولا يعرف غناه إلا بعد أن يعلم بأنه غير جسم ولا يعرف انه غير جسم إلا إذا عرف انه قديم ولا يعلم انه قديم ولا يعلم انه عالم بكل قبيح إلا إذا علم انه عالم بكل شيء ولا يعلم ذلك إلا إذا علم لذاته ولا يعلم انه يثبت ويعاقب إلا إذا علم انه قادر حي ولا نعرف موصوفا بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضرار ولا طريق إليها إلا أفعاله
قال فيجب أن يتكلم في هذه الاشياء ليعلم صحة ما جاءت به الرسل
ثم انه تكلم في حدوث الأجسام وبني الأمر في ذلك على إن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث وبنى ذلك على انه إذا كان كل من الحوادث له أول استحال أن لا يكون لها أول لأنها ليست سوى آحادها كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج اسود ولا يكونوا كلهم سودا
فقد جعل الدين كله مبنيا على هذا الترتيب المبني على هذه المقدمة التي ينازعه فيها جمهور العقلاء من أهل الملل وغيرهم وهذه هي أصول الدين عندهم وهذا مما يخالفهم فيه جماهير المسلمين بل جمهور عقلاء العالمين بل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن
(8/18)
الرسول لم يوجب هذه الطريق ولا دعا إليها ولا كان إيمان السابقين الأولين موقوفا عليها
وعامة ما ذكره من الترتيب ممنوع فقوله لا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات ينازعه فيه طوائف كثيرون بل اكثر الناس
وقوله لا تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لم يفعل القبيح ينازعه فيه أيضا طوائف كثيرون وقوله لا يعلم غناه إلا إذا علم انه ليس بجسم ينازعه فيه أيضا طوائف كثيرون وكذلك ما ذكره من قوله ولا يعلم ذلك إلا إذا علم انه عالم لذاته ومراده نفي الصفات والقول بأن القرآن مخلوق وان الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك مما ينازعه فيه طوائف كثيرون
وقوله إنما يعرف إذ استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار ينازعه فيه طوائف آخرون
فهذا ترتيب المعتزلة للعلم بالله ورسله ولغيرهم من طوائف المتكلمين ترتيب آخر وفيه من الممانعات والمعارضات من جنس ما في ترتيب هؤلاء
(8/19)
ونظير هذه التراتيب التي أحدثها أهل الكلام وادعوا أنه لا يحصل العلم إلا بها تراتيب ذكرها طوائف من الصوفية المصنفين في أحوال القلوب وأعمالها لما تكلموا في المقامات والمنازل وترتيبها فهذا يذكر عددا من المنازل والمقامات وترتيبا وهذا يذكر عددا آخر وترتيبا ويقول هذا إن العبد لا ينتقل إلى مقام كذا حتى يحصل له كذا وأنه ينتقل إلى كذا بعد كذا ويقول هذا عدد المنازل مائة ويقول الآخر عددها أكثر وأقل ثم هذا يقسم المنازل أقساما يجعلها الآخر كلها قسما ويذكر هذا أسماء وأحوالا لا يذكرها الآخر
وغاية الواحد من هؤلاء أن يكون ما ذكره وصف حاله وحال أمثاله وسلوكهم وترتيب منازلهم فإذا كان ما قالوه حقا فغايته أن يكون وصف سلوك طائفة معينة أما كون جميع أولياء الله تعالى لا يسلكون إلا على هذا الوجه المرتب وهذه الانتقالات فهذا باطل
وكذلك أيضا نظير هذا ما يذكره من يذكره من المتفلسفة وأهل المنطق في ترتيب العلم وأسباب حصوله وما يذكرونه من الحدود والأقيسة والانتقالات الذهنية فغاية كلامهم إذا كان صحيحا أن يكون ذلك وصفا لما تسلكه طائفة معينة أما كون جميع بني آدم لا يحصل لهم العلم بمطالبهم إلا بهذه الطرق المعينة فهذا كلام
(8/20)
باطل فحصر هؤلاء لمطلق العلم في ترتيب معين وحصر هؤلاء العلم بالله وبصدق رسله في ترتيب معين وحصر هؤلاء للوصول إلى الله في ترتيب معين كل هذا مع كونه في نفسه مشتملا على حق وباطل فالحق منه لا يوجب الحصر ولكن هو وصف قوم معينين وطرق العلم والأحوال وأسباب ذلك وترتيبه أوسع من أن تحصر في بعض هذه الطرائق
ولهذا كانت الرسل صلوات الله عليهم وسلامه يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما هو أقوى وأنفع وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات والأوائل ويذكرون من ذلك ما هو أضعف وأضر فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى ومتبع هؤلاء ضال شقي إذ كانت قضايا هؤلاء فيها من الباطل الذي هو كذب وإفك وإن لم يعلم صاحبه أنه كذب وإفك بل يظنه صدقا ما لا يحصيه إلا الله
وإذا كان الناس يتنوعون في الوجوب وترتيب الواجبات ويتنوعون في الحصول وترتيب الحاصلات لم يمكن أن يجعل ما يخص بعضهم شاملا لجميعهم وكثير من الغلط في هذا الباب إنما دخل من هذا الوجه يصف أحدهم طريق طائفة ثم يجعله عاما كليا ومن لم يسلكه كان ضالا عنده ثم ذلك الطريق إما أن يكون خطأ وإما أن
(8/21)
يكون صوابا ولكن ثم طرق أخرى غير ذلك الطريق فيجىء من سلك غير ذلك الطريق يبطله بالكلية ويرد ما فيه من الصواب
وقد تكلمنا على مسألة تحسين العقل وتقبيحه في غير هذا الموضع وفصلنا القول فيها وبينا منشأ الغلط فإن الطائفتين اتفقوا على أن الحسن والقبح باعتبار الملائمة والمنافرة قد يعلم بالعقل والملائمة تتضمن حصول المحبوب المطلوب المفروح به والمنافرة تتضمن حصول المكروه المحذور المتأذى به
وهذا الذي اتفقوا عليه حق لكن توهموا بعد هذا أن الحسن والقبح الشرعي خارج عن ذلك وليس الأمر كذلك بل هو في الحقيقة يعود إلى ذلك لكن الشارع عرف بالموجود وأثبت المفقود فتحسينه إما كشف وبيان وإما إثبات لأمور في الأفعال والأعيان
وعلى قول من يجعل الأحكام صفات ثابتة للأفعال وللأعيان فالتحسين الشرعي يتضمن أن الحسن ما حصل به الحمد والثواب والقبح ما حصل به الذم والعقاب ومعلوم أن الحمد والثواب والثواب ملائم للإنسان والذم والعقاب مناف للإنسان
وكذلك توهم من توهم من الطائفتين أن إثبات ذلك في حق الله تعالى ممتنع لكون هؤلاء المتوهمين لم يفرقوا بين الإرادة والمحبة
(8/22)
والرضا بل جعلوا كل مراد محبوبا مرضيا ثم قال هؤلاء الكفر والفسوق والعصيان ليس محبوبا باتفاق المسلمين فلا يكون مرادا فيكون وقوع ذلك بدون إرادته فيكون في ملكه ما لا يريده فيكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون
وقال هؤلاء بل هو مريد لكل حادث فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والكفر والفسوق والعصيان مراد له فيكون محبوبا مرضيا فيكون محبا راضيا بالكفر والفسوق والعصيان فهؤلاء سووا بين المأمور والمحظور في أن الجميع محبوب مرضي فلزمهم تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد وإن لم يلتزموه
وأولئك قالوا يكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون فلزمهم أن يكون عاجزا مغلوبا وإن كانوا لا يكرمون عجزه فهؤلاء لم يجعلوا لله الملك وأولئك لم يجعلوا له الحمد والله تعالى له الملك وله الحمد هؤلاء أرادوا إثبات ألهيته وأنه معبود محمود حكيم عادل فقصروا في ذلك ونقصوه موجب ربوبيته وقدرته ومشيئته وهؤلاء أثبتوا موجب ربوبيته وقدرته ومشيئته لكنهم نقصوا موجب ألهيته وحكمته ورحمته وحمده وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
(8/23)
والمقصود هنا التنبيه على منشأ النزاع في الوجوب كما نبهنا على النزاع في ترتيب الوجوب وأما الحصول فكثير من الناس يقول المعرفة لا تحصل إلا بالعقل وقد يسرف هؤلاء حتى لا يثبتوا أشياء من صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا إلا بالعقل وصرح هؤلاء بأنه لا يستدل بنصوص الرسل على شيء من صفات الله تعالى لا إثباتا ولا نفيا كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن اتبعهم من متأخري الأشعرية ويجعلون أصول الدين هي العقليات المحضة التي لا تعلم بالسمع ثم قد يعينون من الطرق العقلية ما هو باطل عقلا وشرعا كطريقة الأعراض وطريقة التركيب وطريقة الاختصاص وإلى هذه الثلاث تعود جميع أصول النفاة ويقابلهم آخرون فيقولون المعرفة لا تحصل إلا بالسمع ولا تحصل بالعقل وربما قالوا إنه لا يمكن حصولها بالعقل وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة العقلية والسمعية متلازمة كل منهما مستلزم صحة الآخر فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرسل فيما أخبروا به والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يعرف الله وتوحيده وصفاته وصدق أنبيائه
ولكن من الناس من ظن أن السمعيات ليس فيها عقلي والعقليات
(8/24)
لا تتضمن السمعي ثم افترقوا فمنهم من رجح السمعيات وطعن في العقليات ومنهم من عكس
وكلا الطائفتين مقصر في المعرفة بحقائق الأدلة السمعية والعقلية ثم تجد هؤلاء وهؤلاء في أتباع الأئمة مالك والشافعي وأحمد وغيرهم
وكثير من النزاع في ذلك قد يكون لفظيا وقد رأيت من ذلك عجائب كطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد سلكوا الطريقة الأولى ونسبوا من خالفهم في ذلك إلى الجهل والغباوة حتى أن بعض متأخري أصحاب أحمد وهو أبو الفرج صدقة بن الحسين البغدادي صنف مصنفا سماه محجة الساري في معرفة الباري سلك فيه مسلك ابن عقيل وأمثاله من المتكلمين المنتسبين إلى السنة مشوب من كلام المعتزلة مع مخالفتهم لهم في شعار مذهبهم فذكر أنه سئل عن المعرفة بأي طريق تحصل ومن أي طريق تجب وأن يبين اختلاف الناس في ذلك وذكر أن الناس تنازعوا في أول واجب على الإنسان بعد سن البلوغ والعقل هل هو النظر أو المعرفة وأنهم اتفقوا على وجوب المعرفة واختلفوا في طريقه
قال فذهب أهل الحق والسنة والجماعة إلى أن طريق الوجوب هو السمع والنقل وقالت المعتزلة طريق الوجوب هو العقل
(8/25)
ثم قال وهنا مزلة أقدام لبعض أصحابنا الحنابلة لأنهم إذا سئلوا مطلقا عن معرفة الله وقيل لهم بم يعرف الله قالوا بالشرع من غير فصل بين الوجوب والحصول
قال وقد نبهتهم على هذا غير مرة فما هبوا من رقدتهم ولا انتبهوا من سنتهم
ثم ذكر قول الإمامية والباطنية وأن المعرفة تحصل عندهم بقول الرسول والإمام المعصوم دون نظر العقل وتكلم في مسألة نفي الوجوب العقلي بما ليس هذا موضعه وتكلم في طرق المعلومات بالكلام المعروف لأهل هذه الطريقة وأن منها ما لا يعلم إلا بالعقل ومنها ما لا يعلم إلا بالسمع ومنها ما يعلم بهما فالذي لا يعلم إلا بالعقل علمنا بأنه لا بد من موجود قديم لأن الكل لو كان حادثا لكان حادثا بلا سبب وهذه المعرفة تتقدم على ورود الرسول فلا حاجة فيها إلى الرسول بل مثاله علمنا بدلالة معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقه والذي يعلم بمجرد التعليم من النبي المعصوم مثل علمنا بمقادير العبادات الواجبة وما يتعلق بالآخرة من الجنة والنار وعذاب القبر والحساب والميزان وغير ذلك
قال فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليفصل الشرع
(8/26)
وليشرح أمر الآخرة فأما معرفة افتقار هذا العالم إلى صانع قادر على إرسال الرسل فهو متقدم على قول الرسول فكيف يكون مستفادا من قول الرسول فمعرفة المرسل إذا تقدم على معرفة الرسول ومعرفة صدقه فكيف يعرف بقول الرسول قال وأما مثال ما يدرك بالعقل والسمع جميعا فهو كرؤية الله تعالى وكونه خالقا لأعمال العباد فهذا مما يعلم بمجرد السمع وبمجرد العقل
ثم قال وأما حجتنا في حصول المعرفة بمجرد العقل فقوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت } سورة الغاشية 17 20 وقال في موضع آخر { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } سورة الذاريات 21 وقال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } سورة فصلت 53 فهذا كله دعوة إلى الدلائل العقلية وهو التأمل في الآيات الدالة على حدوث العالم وقدم الصانع من غير شرط على ما نبينه من بعد
قال ولأنه بالعقل يستدل بالشاهد على الغائب وبالبناء على الباني وبالكتابة على الكتاب من غير سماع خطاب
(8/27)
قال وآثار صنع الباري عزت قدرته في الموجودات أكثر وأظهر من كل دليل وكل من وقف على آثار صنعته بنور عقله يقع له العلم بوجود الصانع إذ لا يتصور مصنوع بلا صانع ولا مخلوق بلا خالق
قال والدليل على أن النظر أول الواجبات هو أن سائر الواجبات من الصلاة والصيام إنما يوجد بعد المعرفة لأنه إنما يصح أن يتقرب إلى الله من يعرفه فصارت المعرفة متقدمة على سائر الواجبات والنظر متقدم على المعرفة لأنه طريق إليها وطريق الشيء متقدم عليه فصح أن النظر متقدم على كل شيء واجب وهنا التقدم في النظر إنما هو في وجوده لا في وجوبه وإلا فالواجب الأول هو المعرفة يعني الواجب قصدا
قال والحاجة التي دعت إلى النظر هو أنه لا طريق إلى المعرفة إلا به والدليل على ذلك أن المعرفة إما أن تكون واقعة مبتدأة كمعرفة العاقل أن العشرة أكثر من الخمسة وإما أن تكون واقعة عن طريق كمعرفتنا بالمدركات إذا أدركناها بحواسنا الخمس وكمعرفتنا بما غاب عنا إذا أخبرنا به خلق عظيم شاهدوه نحو معرفتنا
(8/28)
بمكة من جهة الخبر واما أن تكون واقعة بالاستدلال كاستدلالنا بالبناء على الباني
قال ومعلوم أن معرفة الله تعالى لا تجري مجرى معرفتنا بان العشرة اكثر من الخمسة لأنها لو جرت هذا المجرى لاستغنينا عن الاستدلال عليه كما نستغني عن الاستدلال على أن العشرة اكثر من الخمسة ومعلوم أن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال على الله تعالى ولا يجوز أن تكون معرفتنا بالله تعالى لإدراك الحواس لأنه لا يجوز أن يدرك بشيء منها في الدنيا ولا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر لان الخبر إنما يفضي إلى المعرفة إذا اخبر به خلق كثير عن مشاهدة وليس أحد يخبرنا بالله عن مشاهدة ولا يجوز أن تكون معرفته بطريق الإلهام كما زعمت طائفة من الصوفية وبعض الشيعة لأن الإلهام هو تخايل يقع في القلب قد يكون ذلك من الله وقد يكون من وسوسة الشيطان وليس على أحدهما دليل يدل عليه ولان من يدعي الإلهام يمكن خصمه أن يدعى خلافه فانه إذا قال ألهمت بكذا فيقول خصمه وأنا ألهمت بكذا فكان العمل به عملا بلا دليل إلا ترى أن صاحب الشرع امرنا بالاجتهاد عند
(8/29)
فقد النصوص وهو عمل بدلالة النصوص كما روى في حديث معاذ
قال ولا يلزم على هذا التحرى في الأواني وغيرها في الشرع فانه عمل بشهادة القلب لأنه هناك ليس ثم دليل سواه
وذلك ليس من قبل ما ذكرنا لان الإلهام لا يصلح لإلزام الحكم على الغير وكذلك التحرى أيضا لا يصلح للإلزام على غيره وانما اعتبر لجواز العمل في حق نفسه عند عدم سائر الأدلة إما المشروعات فلا يتصور أن تنفك عن نوع دليل إما الكتاب أو السنة أو إجماع آو قياس فلا ضرورة في العمل بغير حجة ودليل فإذا بطلت هذه الأقسام كلها ثبت انه لا طريق إلى معرفة الله إلا بالنظر
(8/30)
قال فان قيل بماذا تعلمون أن في العقول حجة ودليلا قيل بان تبين في كل مسالة تبيينا عقليا يفضي النظر فيه إلى العلم فان قيل لم قلتم أن معرفة الله لا تنال إلا بالنظر في حجة العقل قيل الدلالة على ذلك أن الكتاب إنما يصح أن يستدل به إذا علم انه كلام الله الحكيم فيجب تقدم العلم بالله وحكمته وبان هذا كلامه وانما لم يصح الاستدلال عليه بالسنة لأنه إنما يصح الاستدلال بها إذا اثبت إنها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكيم فيجب تقدم العلم بالله وحكمته وان هذا الرسول رسوله وانما لم يصح الاستدلال بالإجماع على الله لأنه إنما يصح الاستدلال بالإجماع بعد أن يعلم أن الله ورسوله قد شهدا بأنه حجة فيجب تقدم العلم بالله فصح أن العلم بالله لا يستفاد بغير حجة العقل
قال فإن قيل فما الدليل الذي يؤدي النظر فيه إلى معرفة الله تعالى قيل نفسك وسائر ما تشاهده من الأجسام فوجه دلالة
(8/31)
الإنسان من نفسه على الله تعالى انه قد كان نطفة ثم تقلبت به الأحوال إلى أن انتهى إلى حال الكمال فلا بد لهذا التنقل والتغير من مغير ولم يكن التغير في وقت أولى من وقت فلا يخلو ذلك المغير إما أن يكون قد اقتضى تغيرها على سبيل الإيجاب من غير اختيار بالطبع أو القالب أو يكون اقتضى تغيرها على سبيل الاختبار وهو الفاعل ولا يخلو ذلك الفاعل إما أن يكون هو الإنسان أو غيره وإن كان غيره فلا يخلوا إما ان يكون من جنسه أو من غير جنسه فان كان من جنسه فأما أن يكون أبويه أو غيرهما فان كان من غير جنسه فهو قولنا وسنبطل سائر الأقسام ونثبت هذا الأخير إما انه لا يجوز أن يكون الإنسان قد تشكل لأجل أن الرحم على شكل القالب فلأن الكلام فيمن شكل ذلك القالب كالكلام فيمن شكل الإنسان ولان القالب يقتضي تشكيل ظاهر ما يلقي فيه فما الذي اقتضى تشكيل باطن الإنسان ووضع أجزاء الباطن مواضعها ولا يجوز أن يكون المقتضى لتغيير الإنسان وتشكيله طبيعة غير عالمة ولا مختارة لأن الإنسان أبلغ في الترتيب والحكمة من بناء دار وصناعة وتاج وكما لم يجز أن يحصل ذلك ممن ليس بعالم فكذلك الإنسان إلا ترى أن أعضاء الإنسان مقسومة على حسب المنفعة وموضوعة مواضعها ولا يجوز أن يكون الإنسان هو
(8/32)
الذي غير نفسه من حال إلى حال لأنه لو قدر على ذلك في حال ضعفه لكان في حال كماله اقدر وإذا عجز عن خلق مثله وخلق أعضائه في حال كماله فهو عن ذلك في حال الضعف اعجز ولا يجوز أن يكون المغير له من حال إلى حال أبويه لأنه ليس يجري على حسب إيثارهما إلا ترى انهما يريدانه فلا يكون ويكرهانه فيكون ويريدانه ذكرا فيكون أنثى ويريدانه أنثى فيكون ذكرا فإذا لم يكن لأبويه في ذلك تأثير فغيرهما مما لا تعلق له به اجدر فصح أن للإنسان فاعلا مخالفا له وهو الله تعالى
قال فان قيل فكيف يدل غير على الله قيل أن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وهذه حوادث فيجب أن يكون للجسم محدثا إذ لم يتقدم الحوادث والدليل على أن الأجسام محدثة هو أن الأجسام محدثة وكل محدث يحتاج إلى محدث
قال وهذا الكلام يشتمل على اصلين أحدهما أن الأجسام محدثة والثاني أن كل محدث يحتاج إلى محدث إما الأصل الأول فالغرض به أن يدل على أن الجواهر والأجسام محدثة غير قديمة ولا
(8/33)
يصح أن تثبت صفة لشيء وتنفي صفة عن شيء إلا وقد عرفنا ما تثبت له الصفة والصفة التي تثبتها والصفة التي ننفيها فيجب أن نذكر ما الجوهر وأما الجسم وما القديم وما المحدث ولما كان الوصلة إلى حدوث الجسم هو العرض الذي هو الحركة والسكون والكون والاجتماع والافتراق ولم يصح أن يتوصل بما لا نعرفه وجب أن نبين ما العرض وما الكون وما الحركة وما السكون وما الاجتماع والافتراق فالجوهر هو الذي يشغل الحيز في وجوده ويصح أن تحله الأعراض ومعنى شغله الحيز أن يوجد في جهة ومكان فيحوزه ويمنع مثله من أن يوجد معه بحيث هو والجسم هو المؤلف وعند قوم هو الطويل العريض العميق والقديم هو الموجود الذي لم يزل والذي لا أول لوجوده والمحدث هو الذي لوجوده أول والعرض هو ما يعرض في الوجود ولا يكون له لبث كلبث الجواهر والأجسام وذلك أن ما قل لبثه بالإضافة إلى غيره سموه عارضا قال الله تعالى { هذا عارض ممطرنا } سورة الأحقاف 24 وذلك نحو الحركة والسكون والحركة زوال الجسم من مكان إلى مكان والسكون لبث الجوهر في المكان اكثر من وقت واحد والكون ما به كون الجوهر في مكان دون مكان والاجتماع كونا جوهرين متماسين والافتراق كونا جوهرين غير متماسين
(8/34)
قال وإذ قد ذكرنا حدود هذه الاشياء فلندل على حدوث الأجسام فنقول أن الأجسام لم تسبق الحركة والسكون المحدثين وكل ما لم يسبق المحدث فهو محدث
ثم انه ساق هذه الحجة إلى أخرها كما ساقها من قبله مثل ابن عقيل ونحوه وقبلهم أبو الحسين البصري وامثاله الذين هم أئمة هذه الحجة وقد ذكرنا سياق أبي الحسين لها فلا حاجة إلى تكريرها
وقال فان قيل فما تقولون فيمن حصلت له هذه المعرفة بمجرد التقليد أو غيره أيكون عارفا بالله مؤمنا قيل نعم إلا انه يكون مأثوما بترك ما وجب عليه من النظر
قلت إما هذه الحجة حجة الاعراض فقد عرف اعتراض الناس عليها وذمهم لها واما الحجة المتقدمة وهي الاستدلال بحدوث الانسان فإنها حجة صحيحة وهي من الحجج التي دل عليها القران وارشد اليها
والمقصود هنا نا هذا وامثاله ممن يقولون ان المعرفة لا تحصل إلا بالعقل ويشنعون على من يقول انها تحصل بالسمع من
(8/35)
اصحابهم وغير اصحابهم إذا تدبر كثير من كلام اصحابهم الذين ينازعهم هؤلاء تبين ان نزاعهم لهم ليس في نفس ما ثبت معرفته بمجرد العقل بل في امر آخر
والمعنى الذي اراد اولئك انه يحصل بالسمع ليس هو المعنى الذي اتفقوا على انه لا يحصل إلا بالعقل كما ذكر ذلك الشريف ابو علي بن أبي موسى وغيره وسنذكر ان شاء الله تعالى بعض كلامهم فالنزاع بينهيم وبين كثير من أصحابهم قد يكون لفظيا وقد يكون معنويا فان المقدمات التي حصروا بها المعرفة في طريقهم ينازعهم الناس في كل واحدة منها وان تنوع المنازعون وهذا كله بناء على ان دلالة السمع هي مجرد خبر المخبر الصادق كما هو اصطلاح هؤلاء
واما إذا عرف ان دلالة السمع تتناول الأخبار وتتناول الارشاد والتنبيه والبيان للدلائل العقلية وان الناس كما يستفدون من كلام
(8/36)
المصنفين والمعلمين الأدلة العقلية التي تبين لهم الحق فاستفادتهم ذلك من كلام الله اكمل وافضل
فتلك الأدلة عقلية باعتبار ان العقل يعلم صحتها إذا نبه عليها وهي شرعية باعتبار ان الشرع دل عليها وهدى اليها فعلى هذا التقدير تكون الدلائل حينئذ شرعية عقلية
وعلى هذا فقد يقال الأدلة الشرعية نوعان عقلى وسمعى فالعقلى ما دل الشرع عليه من المعقولات والسمعى ما دل بمجرد الأخبار وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ان ائمة النظار معترفون باشتمال القرآن على الدلائل العقلية واما على اصطلاح اولئك فكثيرا ما يعنون بالدليل الشرعي الدليل السمعي الخبرى وهو مجرد خبر الشارع الصادق فعلى اصطلاحهم ينازعهم الناس في تلك المقدمات العقلية التي زعموا ان المعرفة لا تحصل إلا بها
فأما المقدمة الأولى وهي قولهم ان المعرفة لا تحصل مبتدأة في النفس بل لا بد لها من طريق فهي من موارد النزاع فإذا قيل لهم انها قد تحصل في النفس مبتدأة لم يكن لهم على نفي ذلك دليل إلا مجرد الاستقراء الذي هو إما فاسد واما ناقص
وقولهم ان النفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال يقول لهم المنازعون لا نسلم ان جميع العقلاء كذلك بل جمهور العقلاء
(8/37)
مطمئنون إلى الإقرار بالله تعالى وهم مفطورون على ذلك ولهذا إذا ذكر لاحدهم اسمه تعالى وجد نفسه ذاكرة له مقبلة عليه كما إذا ذكر له ما هو معروف عنده من المخلوقات
والمتجاهل الذي يقول انه لا يعرفه هو عند الناس اعظم تجاهلا ممن يقول انه لا يعرف ما تواتر خبره من الانبياء والملوك والمدائن والوقائع وذلك عندهم اعظم سفسطة من غيره من انواع السفسطة
ولهذا من تتبع مقالات الناس المخالفة للحس والعقل وجد المسفسطين فيها اعظم بكثير من المسفسطين المنكرين للصانع فعلم ان معرفته في الفطرة اثبت واقوى إذ كان وجود العبد ملزوم وجوده وحاجاته معلقة به سبحانه وتعالى بل كل ما يخطر بقلب العبد ويريده فهو ملزوم له وخواطر العباد وارادتهم لا نهاية لها وانتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم لا ينحصر بل إقرار القلوب به قد لا يحتاج إلى وسط وطريق بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الاقرار بغيره من الموجودات
واشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون وقد كان مستيقنا في الباطن كما قال له موسى { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } سورة الاسراء 102
(8/38)
وقال تعالى عنه وعن قومه { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } سورة النمل 14
ولهذا قال { وما رب العالمين } [ سورة الشعراء : 23 ] على وجه الانكار له قال له موسى { رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } سورة الشعراء 24 28 وقد زعم طائفة من ان فرعون استفهم استفهام استعلام فسأله عن الماهية وان المسئول عنه لم يكن له ماهية عجز موسى عن الجواب
وهذا غلط وعلى هذا التقدير يكون استفهم استفهام انكار وجحد كما دل سائر آيات القران على ان فرعون كان جاحدا لله نافيا له لم يكن مثبتا له طالبا للعلم بماهيته
فلهذا بين لهم موسى انه معروف وان اياته ودلائل ربوبيته اظهر واشهر من ان يسال عنه بما هو فان هذا إنما هو سؤال عما يجهل وهو سبحانه اعرف واظهر وابين من ان يجهل بل معرفته مستقرة في الفطرة اعظم من معرفة كل معروف وهو سبحانه له المثل الاعلى في السموات والأرض وهو في السماء اله وفي الأرض فأهل السموات والأرض يعرفونه ويعبدونه وان كان اكثر اهل الأرض كما قال
(8/39)
تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } سورة يوسف 106
ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأممهم { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } سورة إبراهيم 10 وهذا استفهام انكار يتضمن النفي ويبين انه ليس في الله شك
وقول القائل ليس في هذا شك يراد به انه قد بلغ في الظهور والوضوح ولزوم معرفته إلى حيث لا ينبغى أن يشك فيه والى حيث لا يشك فيه وعلى كلا التقديرين يتبين ان الإقرار بالصانع بهذه المثابة
وأما الطريق الثاني وهو ادراك الحواس فلا ريب انهم لا يقولون انهم يدركونه بالحس الظاهر بل يقولون ان الحس نوعان ظاهر وباطن والانسان يحس بباطنه الامور الباطنة كالجوع والعطش والشبع والري والفرح والحزن واللذة والالم ونحو ذلك من احوال النفس فهكذا يحسون ما في بواطنهم من محبته سبحانه وتعظيمه والذل له والافتقار اليه مما اضطروا اليه وفطروا عليه ويحسون أيضا ما يحصل في بواطنهم من المعرفة المتضمنة لمثله الاعلى في قلوبهم
والاحساس نوعان نوع بلا واسطة كالإحساس بنفس الشمس والقمر والكواكب واحساس بواسطة كالإحساس
(8/40)
بالشمس والقمر والكواكب في مرآه أو ماء أو نحو ذلك
والقلوب مفطورة على ان يتجلى لها من الحقائق ما هي مستعدة لتجليها فيها فإذا تجلى فيها شيء احست به احساسا باطنا بواسطة تجليه فيها
وأيضا فنفس مشاهدة القلوب لنفسه تبارك وتعالى امر ممكن وان كان ذلك قد يقال انه مختص ببعض الخلق كما قال ابو ذر وابن عباس وغيرهما من السلف ان نبينا صلى الله عليه وسلم راه بفؤاده مرتين
فهذا النوع إذا كان ممكنا وقد قيل انه واقع لم يكن نفيه إلا بدليل واما الرؤية بالعين في الدنيا وان كانت ممكنة عند السلف والائمة لكن لم تثبت لأحد ولم يدعها أحد من العلماء لأحد إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم على قول بعضهم وقد ادعاها طائفة من الصوفية لغيره لكن هذا باطل لانه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة ان أحدا لا يراه في الدنيا بعينه
(8/41)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال
واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتي يموت
وقد بسطنا الكلام على مسالة الرؤية في غير هذا الموضع وبينا أن النصوص عن الامام احمد وامثاله من الأئمة هو الثابت عن ابن عباس من انه يقال رآه بقلبه أو رآه بفؤاده
واما تقييد الرؤية بالعين فلم يثبت لا عن ابن عباس ولا عن احمد
والذي في الصحيح عن أبي ذر انه سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال
نور اني أراه وقد روى احمد باسناده عن أبي ذر انه رآه بفؤاده واعتمد احمد على قول أبي ذر لان ابا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسالة واجابه وهو اعلم بمعنى ما اجابه به النبي صلى الله عليه وسلم فلما اثبت انه رآه بفؤاده دل ذلك على مراده
(8/42)
واما قولهم لا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر لان الخبر إنما يفضي إلى المعرفة إذا اخبر به خلق كثير عن مشاهدة وليس أحد يخبر بالله عن مشاهدة
فهذا مما ينازعهم فيه المنازعون ويقولون ليس من شرط اهل التواتر أن يخبروا عن مشاهدة بل إذا اخبروا عن علم ضروري حصل العلم بمخبر اخبارهم وان لم يكن المخبر به مشاهدا
والمعرفة بالله قد تقع ضرورة واذا كان كذلك امكن المعرفة بتصديق إخبار المخبرين عن المعرفة الحاصلة ضرورة إلا ترى أن ما يخبر به الناس عن أنفسهم من لذة الجماع وكثير من المطاعم والمشارب بل ولذة العلم والعبادة والرئاسة وحال السكر والعشق وغير ذلك من الأمور الباطنة تحصل المعرفة بوجودها بالتواتر لمن لم يجدها من نفسه ولا عرفها بالضرورة في باطنه وليست امرا مشاهدا بل اطباق الناس على وصف رجل بالعلم أو العدل أو الشجاعة أو الكرم أو المكر أو الدهاء أو غير ذلك من الأمور النفسانية التي لا تعلم بمجرد المشاهدة يوجب العلم بذلك لمن تواترت هذه الأخبار عنده وان لم يكن المخبرون اخبروا عن مشاهدة وكذلك الأخبار عن ظلم الظالمين
(8/43)
ولهذا كانت العدالة والفسق تثبت بالاستفاضة ويشهد بها بذلك كما يشهد المسلمون كلهم أن عمر بن عبد العزيز كان عادلا وان الحجاج كان ظالما والعدل والظلم ليس امرا مشاهدا بالظاهر فان الانسان اكثر ما يشاهد الأفعال كما يسمع الأقوال فإذا راى رجلا يعطي ويقتل شاهد الفعل إما كونه قتل بحق أو بغير حق أو اعطى عدلا واحسانا أو غير عدل واحسان فهذا لا يعلم بمجرد المشاهدة بل لا بد من دخول العقل في هذا العلم
وكذلك من لا يعرف الطب والنحو إذا رأى ما تواتر عند اهل الطب والنحاة من علم ابقراط وجالينوس وامثالهما والخليل وسيبوية علم أن هؤلاء علماء بالطب والنحو وان لم يعرف هو الطب والنحو وليست معرفة المخبرين بذلك عن المشاهدة
بل وكذلك إذا تواتر عنده كلام الناس بالاخبار عن علم مالك والشافعي واحمد ويحي بن معين والبخاري ومسلم وامثالهم بالفقه والحديث علم علمهم بذلك وان كان المخبرون لم يخبروا عن مشاهدة لكن من رأى كلام هؤلاء من اهل الخبرة بالفقه والحديث علم بالضرورة انهم علماء بذلك ثم هؤلاء يخبرون بذلك غيرهم فيتواتر ذلك عند هؤلاء
(8/44)
وكذلك القضايا الحسابية كالعلم بالمضروبات والمنسوبات والمجموعات ونحو ذلك هو ضروري لمن علمه فإذا اخبر اهل التواتر بذلك لواحد حصل له العلم بذلك وان كانوا إنما اخبروا عن علم ضروري
وهكذا العلم بصدق الصادق وكذب الكاذب يعلمه من باشره وجربه ضرورة ويعلمه من تواتر ذلك عنده بطريق الخبر ولهذا كان العلم بان محمدا صلى الله عليه وسلم كان صادقا معروفا بالصدق لا يكذب متواترا عند من لم يباشره لان الذين جربوه من اعدائه وغيرهم كانوا متفقين على انه صادق امين حتى أن هرقل لما سأل ابا سفيان وكان حين ساله من اشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فقال ابو سفيان لا فاخبر انه هو وغيره من قريش لم يكونوا يتهمونه بالكذب فضلا عن أن يخبروا عنه بالكذب وكانوا يسمونه الامين
ولما كان ابو سفيان مخبرا بهذا بين جماعة من قومه يقرونه على ذلك مع قيام المقتضي للتكذيب لو كان قد كذب استفاد هرقل بهذا انه لا يكذب فقال قد علمت انه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله
وهذا امثاله باب واسع فالعلم بمخبر الأخبار يحصل إذا كان المخبر عالما بالضرورة سواء المخبر به مشاهدا أو لم يكن
(8/45)
واما طريقة الإلهام فالألهام الذي يدعى في هذا الباب هو عند اهله علم ضروري لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم أو مستند إلى أدلة خفية لا تقبل النقض فلا يمكن أن يكون باطلا
واما الاستدلال على الأحكام بالإلهام فتلك مسالة اخرى ليس هذا موضعها والكلام في ذلك متصل بالكلام على الاستحسان والرأي وانواعهما وان ما يعنيه هذا بالاستحسان قد يعنيه هذا بالإلهام وليس الكلام فيما علم فساده من الإلهام لمخالفته دليل الحس والعقل والشرع فان هذا باطل بل الكلام فيما يوافق هذه الأدلة لا يخالفها
وليس من الممتنع وجود العلم بثبوت الصانع وصدق رسوله الهاما فدعوى المدعى امتناع ذلك يفتقر إلى دليل
فطرق المعارف متنوعة في نفسها والمعرفة بالله اعظم المعارف وطرقها اوسع واعظم من غيرها فمن حصرها في طريق معين بغير دليل يوجب نفيا عاما لما سوى تلك الطريق لم يقبل منه فإن النافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل
نعم من نفي تلك بحسب علمه لم ينازع في ذلك فإذا قال لا اعلم طريقا اخر أو لم يحصل لى ولمن عرفته طريق اخر كان نافيا لعلمه ولما علم وجوده لا نافيا للأمور المحققة في نفس الأمر
(8/46)
فهذا الكلام وامثاله يرد على النزاع المعنوي ولهذا كان كثير من الفضلاء الذين يوجبون هذه الطريقة ويصححونها قد رجعوا عن ذلك وتبين لهم ذم هذا الكلام بل بطلانه كما يوجد مثل ذلك في كلام غير واحد منهم مثل أبي المعالي وابن عقيل وأبي حامد والرازي وغيرهم من الذين يصححون هذه الطريق بل يوجبونها تارة ثم انهم ذموها أو ابطلوها تارة
قال ابو المعالي في اخر عمره خليت اهل الإسلام وعلومهم وركبت البحر الخضم وغصت في الذي نهوا عنه والان قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق ببره فأموت على دين العجائز وألا فالويل لابن الجوينى
(8/47)
وسأل رجل ابن عقيل فقال له هل ترى لي أن أقرأ الكلام فإني أحسن من نفسي بذكاء فقال له إن الدين النصيحة فأنت الآن على ما بك مسلم سليم وإن لم تنظر في الجزء يعني الجوهر الفرد وتعرف الطفرة يعني طفرة النظام ولم تخطر ببالك الأحوال ولا عرفت الخلاء والملاء والجوهر والعرض وهل يبقى العرض زمانين وهل القدرة مع الفعل أو قبله وهل الصفات زوائد على الذات وهل الاسم المسمى أو غيره وهل الروح جسم أو عرض فإني أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا ذلك ولا تذاكروه فإن رضيت أن تكون مثلهم بإيمان ليس فيه معرفة هذا فكن وإن رأيت طريقة المتكلمين اليوم أجود من طريقة أبي بكر وعمر والجماعة فبئس الاعتقاد والرأي
قال ثم هذا علم الكلام قد أفضى بأربابه إلى الشكوك وأخرج كثيرا منهم إلى الإلحاد بشم روائح الإلحاد من فلتات
(8/48)
كلامهم وأصل ذلك كله أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها ولا أخرج الباري من علمه ما علمه هو من حقائق الأمور وقد درج الصدر الأول على ما درج إليه الأنبياء من هذه الإقناعات ولما راموا ما وراءها ردوا إلى مقام غايته التحكيم والتسليم وهو الذي يزرى به طائفة من المتكلمين على أهل النقل والسنة وتسميهم الحشوية وإليه ينتهي المتكلمون أيضا لكنهم يتحسنون بما ليس لهم وبما لم يتحصل عندهم فهم بمثابة من يدعي الصحة بتجلده وهو سقيم ويتغانى على الفقراء وهو عديم والعقل وإن كان للتعليل طالبا فإنه يذعن بأن فوقه حكمة إلهية توجب الاستكانة والتحكيم لمن هو بعض خلقه
قال وإنما دخلت الشبه من ثلاث طرق ترجع إلى طريق واحد وذلك أن قوما نظروا إلى أن العقل هو الأصل في النظر
(8/49)
والاستدلال اللذين هما طريقة العلم فإذا قضى العقل بشيء عولوا عليه فلما قضى بوجود صانع لهذا العالم المحكم القواعد أثبتوه ثم نظروا في أفعاله فرأوا هدم الأبنية المحكمة وشاهدوا جزئيات لم تأت على نظام الكليات ومضار تعقب منافع فجحدوا الأول بالآخر ففسد اعتقاهم في الكل بما عرض لهم من اختلال الجزء وقالوا إن دل الإحكام على حكيم فقد دل الاختلال على الإهمال فشكوا والقبيل الآخر أثبتوا صانعا للكليات وأضافوا الشرور إلى صانع آخر فثنوا بعد أن وحدوا والقبيل الآخر عللوا بما انحزم بعلل لم تشف غليل العقل فلما لم يستقم لهم التعليل جنحوا وقالوا خفى علينا وجه الحكمة فيما عرض في العالم من الفساد فسلموا لمن استحق التسليم وهو الصانع وهذه طائفة أهل الحديث
قال وهذا الذي يقال له مذهب العجائز وإليه ينتهي كل عالم محق
قال وقد ظن قوم أن مذهب العجائز ليس بشيء وليس كذلك وإنما معناه أن المدققين لما بالغوا في النظر فلم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليلات وقفوا مع هذه الجملة التي هي
(8/50)
مراسم
قلت قول القائل إن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا ذلك فيه تفصيل وذلك أن هذا الكلام فيه حق وباطل فأما الباطل فهو مثل إثبات الجوهر الفرد وطفرة النظام وامتناع بقاء العرض زمانين ونحو ذلك فهذا قد لا يخطر ببال الأنبياء والأولياء من الصحابة وغيرهم وإن خطر ببال أحدهم تبين له أنه كذب فإن القول الباطل الكذب هو من باب ما لا ينقض الوضوء ليس له ضابط وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به وإذا وقع الباطل عرف أنه باطل ودفع وصار هذا كالنهي عن المنكر وجهاد العدو فليس كل شيء من المنكر رآه كل من الصحابة وأنكروه ومع هذا فلا يقطع على كل من الصحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل ويعرفوا بطلانها فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان وكان بهذه البلاد من الكفار المشركين والصابئين وأهل الكتاب من كان عنده من كتب أهل الضلال من الفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات وبينوا بطلانها لمن سألهم
والواحد منا قد يجتمع بأنواع من أهل الضلال ويسألونه عن
(8/51)
أنواع من المسائل ويوردون عليه أنواعا من الأسولة والشبهات الباطلة فيجيبهم عنها واكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا ينقلونه
والشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة قد ناظروا أنواعا من الجهمية أهل الكلام وجرى بينهم من المعاني ما لم ينقل ولكن من عرف طرق المناظرين لهم والمسائل التي ناظروهم فيها علم ما كانوا يقولونه كالفقيه الذي يعرف أن فقيهين تناظرا في مسألة من مسائل الفقه مثل مسألة قتل المسلم بالذمي أو القتل بالمثقل ونحو ذلك فينقل المناظرة من لم يفهم ما قالاه فيعرف الفقيه الفاضل مما نقل ما لم ينقل
وأما الخوض في مسألة الروح هل هي قائمة بنفسها أم هي عرض فكلام الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة في أن الروح عين قائمة بنفسها تخرج من البدن وتصعد وتعرج وتنعم وتعذب وتتكلم وتسأل وتجيب وأمثال ذلك أكثر من أن يمكن سطره هنا فكيف يقال إن الصحابة ماتوا وما عرفوا هل الروح عين قائمة بنفسها أو صفة من الصفات وإن كانوا هم كانوا لا يتخاطبون بلفظ الجسم والعرض
وكذلك قول القائل إن الصحابة لم يعرفوا هل الصفات زوائد على
(8/52)
الذات ليس بسديد فإن كلام الصحابة في إثبات الصفات لله تعالى أكثر وأعظم من أن يمكن سطره هنا بل كلامهم في إثبات الصفات العينيه الخبرية التي تسميها نفاة الصفات تجسيما أكثر من أن يمكن سطره هنا وكلامهم وكلام التابعين صريح في أنهم لم يكونوا يثبتون ذاتا مجردة عن الصفات
وأما هذا اللفظ هل الصفات زائدة على الذات أم لا فلفظ مجمل فإن أراد به المريد أن هناك ذاتا قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها فهذا لا يقوله أهل الإثبات ولا الصحابة وإن أراد به الصفات زائدة على الذات المجردة التي يعترف بها النفاة فهذا حق ولكن ليس في الخارج ذات مجردة فالسلف والأئمة لم يثبتوا ذاتا مجردة حتى يقولوا الصفات زائدة عليها بل الذات التي أثبتوها هي الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها وهذا المعنى متواتر في كلام الصحابة
ففي الجملة المعاني الصحيحة الثابتة كان الصحابة أعرف الناس بها وإن كان التعبير عن تلك المعاني يختلف بحسب اختلاف الاصطلاحات والمعاني الباطلة قد لا تخطر ببال أحدهم وقد تخطر بباله فيدفعها أو يسمعها من غيره فيردها فإن ما يلقيه الشيطان
(8/53)
من الوساوس والخطرات الباطلة ليس له حد محدود وهو يختلف بحسب أحوال الناس
وأما ما ذكره ابن عقيل من قوله ليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها إلى آخر كلامه فهذا كله من العلل الغائية وحكمة الأفعال وعواقبها ومسائل القدر والتعديل والتجوير فإن ابن عقيل كان لكثرة نظره في كتب المعتزلة وما عارضها عنده في هذا الأصل أمر عظيم وهو من أعظم الأصول التي تشعب فيها كلام الناس
وكان طوائف من المنتسبين إلى الحديث والسنة كالأشعري والقاضي أبي بكر ومن وافقهم في أصل قولهم وإن كان قد يختلف كلامه كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وطوائف لا يحصيهم إلا الله ينكرون التعليل جملة ولا يثبتون إلا محض المشيئة ولا يجعلون في المخلوقات والمأمورات معاني لأجلها كان الخلق والأمر إلى غير ذلك من لوازم قولهم
والمعتزلة يثبتون تعليلا متناقضا في أصله وفرعه فيثبتون للفاعل تعليلا لا تعود إليه حكمة ثم يزعمون أن كل واحد من العباد قد
(8/54)
أراد به الفاعل كل ما هو صالح له أو أصلح وفعل معه ما يقدر عليه من ذلك ويتكلمون في الآلام والتعويضات والثواب والعقاب بكلام فيه من التناقض والفضائح ما لا يحصى
وفي ذلك الحكاية المشهورة لأبي الحسن الأشعري مع أبي علي الجبائي لما سأله عن إخوة ثلاثة مات أحدهم قبل البلوغ والآخر بلغ فكفر والآخر بلغ فآمن وأصلح فرفع الله درجات هذا في الجنة والصغير جعله دونه في الجنة والكافر أدخله النار فقال له الصغير يا رب ارفعني إلى درجة أخي قال إنك لا تستحق ذلك فإن أخاك عمل عملا صالحا استحق به ذلك فقال يا رب إنك أحييته حتى بلغ وأنا أمتني فلو أبقيتني لعملت مثل ما عمل فقال له إنه كان في علمي أنك لو بقيت لكفرت فاخترمتك إحسانا إليك قال فصرخ الكافر من النار يا رب فهلا أمتني قبل البلوغ كما فعلت بهذا قالوا فلما سأله عن ذلك انقطع
ولهم على كلام أبي الحسن أجوبة لها موضع آخر
والمقصود هنا أن ابن عقيل نظر في تعليلات المعتزلة فرآها عليلة ورأى أنه لا بد من إثبات الحكمة والتعليل في الجملة خلافا لما كان
(8/55)
ينصره شيخه القاضي أبو يعلى فصار يثبت الحكمة والتعليل من حيث الجملة ويقر بالعجز عن التفصيل
والقاضي أبو حازم بن القاضي أبي يعلى في كتابه المصنف في أصول الدين الذي رتبه ترتيب محمد بن الهيصم في كتابه المسمى = بجمل المقالات يسلك مسلك من أثبت الحكمة والمصلحة العامة التي تجب مراعاتها وإن أفضى ذلك إلى مفسدة جزئية كما يشهد ذلك في المخلوقات والمأمورات وهذا مذهب الفقهاء في تعليل الشرعيات وهو مذهب كثير من النظار أو أكثرهم في تعليل المخلوقات كما ذهب إلى ذلك الكرامية والفلاسفة وغيرهم من الطوائف وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
ولم يرد ابن عقيل بقوله وقد درج الصدر الأول على ما درج عليه الأنبياء من هذه الإقناعيات والإقناعيات تكون في الأدلة الدالة على العلم بإثبات الصانع وإثبات الصفات له والمعاد ونحو ذلك فإن تلك عند ابن عقيل وأمثاله برهانيات يقينيات فكيف يجعلها عند
(8/56)
الأنبياء والسلف إقناعيات ولكن أراد بذلك الإقناعيات في تعليل أفعاله وسماها هو إقناعيات لأن هذا مبلغ أمثاله من العلم ومنتهاهم من المعرفة في ذلك وأما الأنبياء عليهم السلام والسلف رضوان الله عليهم فإن الله تعالى أطلعهم من حكمته في خلقه وأمره على ما لم يطلع عليه هو وامثاله ولكن هؤلاء ليس لهم بحقائق أحوال الأنبياء والصحابة من الخبرة ما يعرفون به منتهاهم في هذه المطالب العالية كما أنه ليس لهم من الخبرة بهذه المسائل الكبار ما انتهوا معه إلى غاياتها لكنهم يعلمون أن الأنبياء أفضل الخلق والصحابة بعدهم أفضل الخلق فيعتقدون فيهم أنهم وصلوا إلى منتهى ما يصل إليه الخلق في هذه المسائل
ثم إنهم لما نظروا مع فرط ذكائهم ولم يصلوا إلا إلى هذا ظنوا أنه لا غاية وراءهم فقالوا ما قالوا وهكذا كل طائفة سلكت فانتهت إلى حيث رأت أنه منتهى الخلق فإنها تقضي على كل من تعظمه بأن هذا منتهاه كما قد رأينا طائفة من الفلاسفة لما رأوا أن قول الفلاسفة هو منتهى معارف العقلاء صاروا إذا رأوا شخصا ظهر عنه ما يدل على كمال عقله وعظم علمه وفضله ومعرفته بأقوالهم على الحقيقة يجعلون قوله هو قولهم في الباطن وإن تظاهر بتكفيرهم والرد عليهم فإذا قيل لأحدهم نحن قد سمعنا منه ورأينا من كلامه ما ينقض قول الفلاسفة يقول ذلك الفيلسوف الفاضل هذا والله قد عرف حقيقة قولنا ومن عرف حقيقة قولنا لم يعدل عنه إلا أن يكون هناك شيء أعلى منه ثم
(8/57)
يبقى حائرا هل فوق قولهم ما هو أكمل منه لما ظهر منه من كون العارف بحقيقة قولهم مع حسن قصده وعدله قد عدل عنه إلى قول يناقضه أو ليس فوقه ما هو أكمل منه لأن هذا الفيلسوف لا يعرف أن فوقه ما هو أكمل منه
وهكذا الاتحادية أهل الوحدة ينسبون كل من عرف علمه وعقله وكماله إلى أنه منهم وإن كان مظهرا للإنكار عليهم وهكذا أهل الحيرة في الصفات الخبرية يجعلون السلف والأئمة يمرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت مع عدم علمهم بمعانيها
وإن كانوا من نفاتها قالوا إنهم كانوا يعتقدون نفيها في الباطن ولا يعلمون مدلول النصوص ولما كان هذا عندهم هو الغاية التي انتهوا إليها والسلف عندهم أعظم الناس جعلوا هذا غاية السلف
وهؤلاء الطوائف وقع لهم الخطأ من جهتين إحداهما أنهم لم يعرفوا الحق في نفسه على ما هو عليه لا بدليل عقلي ولا سمعي الثانية أنهم لم يعرفوا حقيقة أقوال السلف وما كان عندهم من العلم والبيان فكان عندهم قصور في معرفة الحق في نفسه وفي معرفة الأنبياء والسلف به وظنوا أن ما وصلوا إليه هو الغاية الممكنة فجعلوا ذلك
(8/58)
منتهى غيرهم فصاروا يحكون كلام المعظمين عندهم على هذا الوجه
وقد رأينا من ذلك أمورا حتى أن من قضاتهم وأكابرهم من يحكي أقوال الأئمة الأربعة في مسألة من المسائل الكبار فإذا قيل له أهذا نقله أحد عن الشافعي أو فلان أو فلان قال لا لكن هذا ما قاله العقلاء والشافعي لا يخالف العقلاء أو نحو هذا الكلام
فالطوائف المقصرة الضالة تجد حكايتهم للمنقولات مثل نظرهم في المعقولات فلا نقل صحيح ولا عقل صريح وكل من كان أبعد عن متابعة الأنبياء كان أبلغ في هذين الأمرين حتى ينتهي الأمر إلى القرامطة الباطنية الذي مبني أمرهم على السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
ثم الشيعة أقرب منهم فكان عندهم من السفسطة والقرمطة بحسبهم والمعتزلة خير منهم فهم أقل سفسطة وقرمطة ولكن دخل من ذلك عندهم بحسب ما فيهم من مخالفة الكتاب والسنة أمور كثيرة
وابن عقيل لما أخبر كلام المعتزلة لم يرض طريقهم فلهذا ذكر أن
(8/59)
الناس ثلاث طوائف طائفة شكت لما رأت وجود الشر والضرر في العالم وطائفة قالت بالأصلين وهم الثنوية والطائفة الثالثة عللوا ما انخرم بعلل لم تشف غليل العقل كما فعلت المعتزلة فلما لم يستقم لهم التعليل جنحوا وقالوا خفي علينا وجه الحكمة فيما عرض في العالم من الفساد فسلموا لمن استحق التسليم وهو الصانع
قال وهذه طائفة أهل الحديث وهذا بناء على إثبات الحكمة والغاية والتعليل من حيث الجملة والاعتراف بجهله من جهة التفصيل وذكر أن هذا منتهى كل عالم محق وهذا مبلغ علم من انتهى إلى هنا
ولابن عقيل أنواع من الكلام فإنه كان من أذكياء العالم كثير الفكر والنظر في كلام الناس فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الخبرية وينكر على من يسميها صفات ويقول إنما هي إضافات موافقة للمعتزلة كما فعله في كتابه = ذم التشبيه وإثبات التنزيه وغيره من كتبه واتبعه على ذلك أبو الفرج بن الجوزي في كتابه = كف التشبيه بكف التنزيه وفي كتابه = منهاج الوصول وتارة يثبت
(8/60)
الصفات الخبرية ويرد على النفاة والمعتزلة بأنواع من الأدلة الواضحات وتارة يوجب التأويل كما فعله في الواضح وغيره وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهى عنه كما فعله في كتاب الانتصار لأصحاب الحديث فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور
وكذلك يوجد هذا وهذا في كلام كثير من المشهورين بالعلم مثل أبي محمد بن حزم ومثل أبي حامد الغزالي ومثل أبي عبد الله الرازي وغيرهم
ولابن عقيل من الكلام في ذم من خرج عن الشريعة من أهل الكلام والتصوف ما هو معروف كما قال في الفنون ومن خطه نقلت قال فصل المتكلمون وقفوا النظر في الشرع بأدلة العقول
(8/61)
فتفلسفوا واعتمد الصوفية المتوهمة على واقعهم فتكهنوا لأن الفلاسفة اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم والكهان اعتمدوا على ما يلقى إليهم من الاطلاع وجميعا خوارج على الشرائع هذا يتجاسر إن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقل بما يخالف ذلك المنقول بمقتضى ما يزعم أنه يجب في العقل وهذا يقول قال لي قلبي عن ربي فلا على هؤلاء أصبحت ولا على هؤلاء أمسيت لا كان مذهب جاء على غير طريق السفراء والرسل يريد تعلم بيان الشرائع وبطلان المذاهب والتوهمات والطرايق المخترعات هل لعلم الصوفية عمل في إباحة دم أو فرج أو تحريم معاملة أو فتوى معمول بها في عبادة أو معاقدة أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلد أو رستاق أو تصيب للمتوهمة فتاوى وأحكام إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية المحدثون والفقهاء هؤلاء يروون أحاديث الشرع وينفون الكذب عن النقل ويحمون النقل عن الاختلاف وهؤلاء المفتون ينفون عن الأخبار تحريف الغالين وانتحال المبطلين هم الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم الحملة العدول فقال يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين
(8/62)
فالخارج وإن خفقت بنوده وكثرت جموعه وسمي بالملك يبعد أن يضرب له دينار أو درهم أو يخطب له على منبر أو تكون أموره إلا على المغالطة والمخالسة بينا هو على حاله يتضعضع لكتاب الملك ويتخشى من أن يقابله بقتال أو يصافه بحرب لأن في نفس الخارجي بقية من انخساس الباطل وللملك وإن قل جمعه صولة الحق وكذلك البرخشتي مع الطبيب المقيم هذا مختار يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال ويضع على الأمراض الأدوية الجواد العاملة بسرعة فيأخذ العطية والخلعة لسكون الألم وإزالة المرض ويصبح على أرض أخرى ومنزل
(8/63)
بعيد وطبه مجازفة لأنه يأمن الموافقة والمعاينة والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المتركبة دون الحادة لأن الحادة من الأدوية وإن عجلت سكون الألم فإنها غير مأمونة الغوائل ولا سليمة العواقب لأن ما تعطي الأدوية الحادة من السكون إنما هو لغلبة المرض وحيثما غلبت الأمراض أوهت قوى المحل الذي حلته الأمراض فهو كما قيل الدواء للبدن كالصابون للثوب ينقيه ويبليه كذلك كلما احتد الصابون وجاد أخلق الثوب فكذلك الفقهاء والمحدثون يقصرون عن إزالة الشبه لأنهم عن النقل يتكلمون وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويقللون فهم حال الأجوبة ينظرون في العاقبة والمبتدعة والمتوهمة يتهجمون كتهجم البرخشتي فعلومهم فرح ساعة ليس لعلومهم ثبات فإن اشتبه على قوم ما دلسه الصوفية عليهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم إن في أمتي محدثين ومكلمين وهو ما يلقى من الفراسات والدرايات كما نطق به عمر قيل لهم لو نطق
(8/64)
عمر برأيه ولم يصدقه الوحي على لسان السفير لما التفت إلى واقعته ولا يبتنى الشرع على فراسته ألا تراه لما مات السفير قال من هو أعلى طبقة منه أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وقال في الكلالة ما قال يقول الصديق هذا وأسلم اليوم لشيخ رباط يخلو بأمرد في سمعه ويسمع الغناء من أمرد وحرة ويأكل من الحرام شبعة ويرقص كما تشمس الخيل لا يسأل الفقهاء ولا يبني أمره على النقل يقول بواقعة ويقول اتباعه الشيخ يسلم اليه طريقته واي طريقة مع الشرع وهل ابقت الشريعة لقائل قولا وهل جاءت إلا بهدم العوايد ونقض الطرايق ما على الشريعة اضر من المتكلمين والمتصوفين هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول وهؤلاء يفسدون الاعمال ويهدمون قوانين الاديان يحبون البطالات والاجتماع على اللذات وسماع الاصوات المشوشات للمعايش والطاعات وأولئك يجرئون الشباب والاحداثعلى البحث وكثرة السؤال والأعتراضات وتتبع الشرع بالمناقضات وما عرفنا للسلف الصالح اعمال هؤلاء الصوفية بل كانت أحوالهم الجد لا الهزل ولا احوال المتكلمين لا التكشف ولا البحث بل كانوا عبيد تسليم وتحكيم في المعتقدات وجد تشهير في الاعمال والطاعات
(8/65)
فنصيحتي لاخواني من المؤمنين الموحدين أن لا يقرع أبكار قلوبهم كلام المتكلمين ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين بل الشغل بالمعايش أولى من بطالة المتصوفة والوقوف مع الظواهر أولى من توغل المنتحلة للكلام وقد خبرت طريقة الفريقين غاية هؤلاء الشك وغاية هؤلاء الشطح والمتكلمون عندي خير من المتصوفة لأن المتكلمين مرادهم مع التحقيق مزيد الشكوك في بعض الأشخاص ومؤدي المتصوفة إلى توهم الإشكال والتشبيه هو الغاية في الإبطال بل هو حقيقة المحال مما يسقط المشايخ من عيني وإن نبلوا في أعين الناس أقدارا وأنسابا وعلوما وأخطارا إلا قول القائل منهم إذا خوطب بمقتضى الشرع عادتي كذا وكذا يشير إلى طريقة قد قننها لنفسه تخرج عن سمت الشرع فذاك مختلق طريقة وكل مختلق مبتدع ولو كان في ترك النوافل لأن الاستمرار على ترك السنن خذلان قال أحمد رضي الله عنه وقد سئل
(8/66)
عن رجل استمر على ترك الوتر هذا رجل سوء أنا أنصح بحكم العلم والتجارب إياك أن تتبع شيخا يقتدي بنفسه ولا يكون له إمام يعزى إليه ما يدعوك إليه ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير صلى الله عليه وسلم الله الله الثقة بالأشخاص ضلال والركون إلى الآراء ابتداع اللين والانطباع في الطريقة مع السنة أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة الله لا يتقرب إليه بالامتناع مما لم يمنع منه كما لا يتقرب إليه بأعمال لم يأمر بها أصحاب الحديث رسل السفير الفقهاء المترجمون لما أراد السفير من معاني كتابه ولا يتم اتباع إلا بمنقول ولا يتم فهم المنقول إلا بترجمان وما عداهما تكلف لا يفيد وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلة وفقهاء ولا نعرف فيهم ثالثا أصحاب أسواق وصفقات وتجارات لا ربط ولا مناخ للبطالات يا أصحاب المخالطات والمعاملات عليكم بالورع يا أصحاب الزوايا والانقطاعات عليكم بحسم مواد الطمع يا طراق المبتدئين إياكم واستحسان طرائق أهل التوهم والخدع ليس السني عندي المحب لمعاوية ويزيد ولا لأبي بكر وعمر ولا الشيعة عندي من زار المشاهد وأنشد المراثي والقصايد
(8/67)
السني عندي من تتبع آثار الرسول فعمل بها بحسب ما يفتيه الفقهاء واحتذى الرسم واتبع الأمر وكف عن النهي وتنزه عن الشبه ووقف عند الشك وتفرغ من كل علم خالف النقل وإن كانت له طلاوة في السمع وقبول في القلب ليس قلبك معيارا على الشرع ما لله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه وما أحدثوا وعولوا على ما رووا ولا على ما رأوا الصبر على الرواية مقام الصديقين قال الخضر للسفير { إنك لن تستطيع معي صبرا } سورة الكهف 67 لأن مستحسنا برأيه ومستقبحا برأيه لا يتبع لأنه قد بان لك بنص القرآن أن استحسان عقل السفير الكليم واستقباحه ما كان على القانون الصحيح حتى كشف له عن العذر فيما كان استقبحه
قلت ولابن عقيل من هذا الجنس في تعظيم الشرع وذم من يخالفه من أهل النظر والكلام وأهل الإرادة والعبادة كلام كثير من هذا الجنس كما قد تكلم في ذلك طوائف من أهل العلم والدين لكن من غلب عليه طريق النظر والكلام كان ذمه لمنحرفة العباد أكثر من ذمه لمنحرفة أهل الكلام وهذا كثير في أهل الكلام والفقهاء لا سيما في المعتزلة وهؤلاء قد لا يعرفون ما في طريق أهل العبادة والتصوف من الأمور المحمودة في الشرع ومن غلب عليه طريقة أهل
(8/68)
الإرادة والعبادة كان ذمه لمنحرفة أهل الكلام والنظر أكثر من ذمه لمنحرفة أهل التصوف وهذا يوجد كثيرا في كلام أهل الزهد والعبادة لا سيما المعظمين لطريق الصوفية فمثل أبي عبد الرحمن السلمي وأبي طالب المكي وأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري وأبي حامد الغزالي وإن كانوا يذمون من منحرفة الصوفية ما يذمون فذمهم لجنس أهل الكلام والبحث والنظر أعظم
ومثل أبي بكر بن فورك وابن عقيل وأبي بكر الطرطوشي وأبي عبد الله المازري وأبي الفرج بن الجوزي وإن كانوا يذمون من بدع أهل الكلام والفلسفة ما يذمون فذمهم لما يذمونه من بدع أهل التصوف والتأله أعظم
وقد قال الله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون رواه الترمذي وصححه
وكان طائفة من السلف يقولون من فسد من الفقهاء ففيه شبه من
(8/69)
اليهود ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى فمن كان فيه بدعة من أهل الكلام والنظر والفقه كالمعتزلة تجدهم يذمون النصارى أكثر مما يذمون اليهود واليهود يقرأون كتبهم ويعظمونهم ومن كان فيه بدعة من أهل العبادة والتصوف والزهد تجدهم يذمون اليهود اكثر مما يذمون النصارى وتجد النصارى يميلون اليهم وقد يحصل من مبتدعة الطائفتين من موالاة اليهود والنصارى بحسب ما فيهم من مشابهتهم وهذا موجود كثيرا كما دل عليه الكتاب والسنة
وهذه الطريقة الأولى التي يعتمد عليها من يعتمد مثل ابن عقيل وصدقه بن الحسين وغيرهما هي التي ذكرها ابو الحسن الاشعري في رسالته إلى أهل الثغر وهي التي اعتمد عليها في كتابه المشهور المسمى = باللمع في الرد على أصحاب البدع وهو أشهر مختصراته وقد شرحوه شروحا كثيرة من أجلها شرح القاضي أبي بكر له
وهذه السياقة المتقدمة هي سياقة أبي الحسن في = اللمع فإنه قال في أوله إن سأل سائل ما الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره قيل الدليل على ذلك أن الانسان الذي
(8/70)
هو في غاية الكمال والتمام كان نطفة ثم علقة ثم مضغه ثم لحما ودما وقد علمنا انه لم ينقل نفسه من حال إلى حال لأنا نراه في حال كمال قوته وتمام عقله لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعا ولا بصرا ولا أن يخلق لنفسه جارحة فدل ذلك على أنه قبل تكامله واجتماع قوته وعقله كان عن ذلك أعجز لأن ما عجز عنه في حال الكمال فهو في حال النقصان عنه أعجز ورأيناه طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا وقد علمنا انه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم لأن الانسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الاحوال وأن له ناقلا نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر
قال ومما يبين ذلك أيضا أن القطن لا يجوز أن يتحول
(8/71)
غزلا مفتولا ولا ثوبا منسوجا بغير صانع ولا ناسج ومن اتخذ قطنا فانتظر أن يصير غزلا مفتولا ثم ثوبا منسوجا بغير صانع ولا ناسج كان عن المعقول خارجا وفي الجهل والجا وكذلك من قصد إلى برية لم يجد فيها قصرا مبنيا فانتظر أن يتحول الطين إلى حال الاجر وينتضد بعضه إلى بعض بغير صانع ولا بان كان جاهلا فإذا كان تحول النطفة علقة ثم مضغة لم لحما ثم عظما ودما أعظم في الاعجوبة كان أولى أن يدل على صانع صنعها أغنى النطفة ونقلها من حال إلى حال
قال وقد قال الله تعالى { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } سورة الواقعة 58 59 فما استطاعوا بحجة أن
(8/72)
يقولوا انهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له فيكون وقال تنبيها لخلقه على وحدانيته { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } سورة الذاريات 21 فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم ومدبر دبرهم
قلت هذا الدليل مبني على مقدمتين على تحول الانسان من حال إلى حال وأن ذلك لا بد له من صانع حوله من حال إلى حال وكلتا المقدمتين ضرورية والاولى هي مسألة حدوث صفات الأجسام كما تقدم بيانه وأن من أهل الكلام من يقول أن المشهود هو حدوث الصفات لا حدوث الاعيان وان اكثر الناس على خلاف ذلك
وهذا هو طريقة القرآن لكن حدوث الصفات هي أقرب الطرق إلى طريقة القرآن وأما الثانية فهي ضرورية ولهذا لم يذكر ابو الحسن عليها دليلا لكن كثير من أصحابه يقولون انها طريقة موافقة منهم لمن قال ذلك من المعتزلة
ولهذا اعترض من اعترض من المعتزلة على كلام أبي الحسن فأجابه
(8/73)
القاضي أبو بكر على أصله بجواب ذكره قال القاضي أبو بكر اعلم انه إنما ضرب المثل بما ذكره من القطن واللبن لظهوره في نفوس العامة والخاصة واعتقاد جميعهم لجهل من جوز تنضد البنيان واجتماع الآجر والتراب وتصوير المصنوعات بغير صانع ولا مدبر وأنت لو اعترضت كل من سلمت حاسته وصح عقله فسألته هل يجوز وجود ما ذكره من ضروب المحكمات بغير صانع مع العلم بأنها لم تكن كذلك من قبل لمنع ذلك ولاستجهل قائله لتقدم الأدلة وتقررها على فساده في نفوس العامة والخاصة وان كانت العامة تقصر عبارتها عن عبارة الخاصة وألفاظ المتكلمين وطريق المستنبطين في التعبير وقولهم لم نجد كتابة إلا من كاتب ولا ضربا إلا من ضارب ولا بناء إلا من بان وان استحالة وجود ضرب من لا ضارب وبناء من لا بان كاستحالة ضارب لا ضرب له وبان لا بناء له وقد تقرر هذا المعنى في نفوسهم وان قصروا عن تأديته وصار مقارنا للعلوم الضرورية وصار المخالف فيه عند سائرهم كالمخالف فيما يدرك من جهة الحواس
قال وجملة القول في هذا الباب أنا لا ندعي ولا صاحب
(8/74)
الكتاب أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع شيء يدرك من جهة الضروريات وتعلم صحته من طريق درك الحواس ولكنه يدرك بالاستنباط فإذا حصل في نفوس من يجوز أن يشك في هذه المسألة وفي صانع الاشياء التي غاب عنها نظير لما يشك فيه ومثل لما ارتاب فيه رده اليه وجعله اصلا معه في تصحيح ما ينبغي تصحيحه وكشف ما يرجى له كشفه
قال وقوله لو أن منتظرا انتظر اجتماع المصنوعات من غير صانع كان متجاهلا كلام صحيح لأن الصنعة يستحيل وقوعها إلا من صانع كما يستحيل في العقول وجود صانع لا صنعة له وكاتب لا كتابة له فتعلق الصنعة بالصانع كتعلق الصانع في كونه صانعا بوجود صنعته واستحالة أحد الامرين في المعقول كاستحالة الآخر
قال وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل وانما نذكر ضروبا من ضروب الصنائع تقريبا بذكره وليس القصد بذكره تخصيص تعلقه بالصانع وانما يراد بذلك وجوب تعلق سائر المصنوعات بصانع صنعها فاعرف ذلك
وذكر كلاما آخر إلى أن قال فإن قال قائل فما الدليل الآن
(8/75)
على انه لا بد لسائر الأفعال الحاضرة والغائبة من فاعل فعلها ومدبر دبرها وكيف وجه تعلق الانسان وغيره من المصنوعات بفاعل ومدبر صنعه وقصده متى لم يكن هو الفاعل لنفسه قيل له قد تقدم من كلام صاحب الكتاب ما هو دلالة على ذلك وقد مضى شرحنا له حيث قلنا أن تعلق الفعل بالفاعل كتعلق الفاعل في كونه فاعلا بفعله
ثم نقول في الدليل على ذلك انه لا يسوغ أن يجيب عن هذه المسألة إلا من سلم لنا أن هذه الأمور التي هي التأليفات والتصويرات والتركيبات معان محدثات وان كان لا يقر بأنها افعال كلم في أصل هذه المسألة وقرر معه القول بوجوب حدوثها فإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يكن لأحد أن يسأل عن هذه المسألة
وقد يخالف في أن هذه الأمور التي ذكرناها أفعال لأنه إذا قال ما الدليل على أن هذه الأفعال تتعلق بفاعل فقد أثبتها أفعالا فإذا أنكر أن تكون أفعالا فقد أبطل بآخر كلامه ما أثبته بأوله ولكن قد يسوغ أن يقول ما الدليل على أن التأليف يتعلق بمؤلف وان لم يسلم انه فعل لشبهة تدخل عليه
(8/76)
فإذا كان الأمر على ما وصفنا رجعنا فقلنا الدليل على أنه لا بد للأفعال من تعلق بفاعل أنا وجدناها يتقدم بعضها على بعض في الوجود ويتأخر بعضها عن بعض وتوجد في زمان كان يصح عدمها فيه بدلا من الوجود وتعدم في زمان يصح وجودها فيه بدلا من العدم
فإذا كان هذا وصفها قلنا لا يخلو ما تقدم منها أن يكون متقدما لنفسه أو لمعنى يوجد به اولا لنفسه ولا لعلة أو لمقدم قدمه وكذلك حكم القول فيما تأخر منها فنظرنا فإذا هو مستحيل أن يكون أن ما تقدم منها إنما تقدم لنفسه لأنه قد يتقدم على ما هو من جنسه ويتأخر عنه ما ذاته مثل ذاته كالجواهر وأجزاء السواد وغير ذلك من المتماثلات فلو كان ما تقدم منها متقدما لنفسه لم يكن بالتقدم أولى مما هو مثل له ولا كان المتأخر منها بالتأخر اولى منه بالتقدم إذ قد صح وثبت أن المتماثلين هما ما سد أحدهما مسد صاحبه وناب منابه واقتضت ذاته من الأحكام ما اقتضته ذات ما كان مثلا له
وفي العلم بتقدم بعض المتماثلات على بعض وتأخر بعضها عن بعض فإن ما تقدم منها فالتقدم اولى منه بالتأخر وما تأخر منها فالتأخر أولى منه بالتقدم دليل على أنه لا يجوز أن يكون
(8/77)
المتقدم منها متقدما لنفسه ولا المتأخر منها متأخرا لنفسه ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدما لعلة توجد به لأنه ليس بأن توجد له تلك العلة إذا لم تكن تلك العلة منه معلقة بموجد بأولى من وجودها بغيره ووجود سائر ما جانسها بسائر ما يحتمله ذلك الجنس من العلل المقتضية للتقدم الذي هو الوجود في الوقت المخصوص الذي يتكلم عليه حتى تتساوى في الوجود ولا يتأخر بعضها عن بعض لاحتمالها ما يقتضي وجودها من المعاني وكونها متماثلة على أنه لو كان المتقدم من الجواهر وأجزاء السواء متقدما لعلة والمتأخر عنها متأخرا لعلة لكانت علة التقدم قبل علة التأخر إذ كانت موجودة مع المتقدم الذي هو قبل المتأخر
ولو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون لعلة ايضا ما تقدمت احدى العلتين على الاخرى لأن علة التقدم والتأخر يجب أن تكونا من جنس واحد لانهما حدوثان ووجودان للحادث الموجود ولو ثبتا معنى من المعاني وقد أبنا فيما سلف أنه لا يجوز تقدم أحد المثلين على صاحبه لنفسه وجنسه ووجود الشيئين في زمانين متغايرين لا يخرج
(8/78)
الوجود عن حقيقته فيجب لذلك أن تكون علة وجود الشيء في زمان كعلة وجود غيره في غير ذلك الزمان ومن جنسها
واذا كان كذلك وجب أن يكون تقدم احدى العلتين للاخرى لعلة ثانية والقول في الثانية وفي وجوب تعلقها بثالثة إذا كانت متقدمة لعلة كالقول في الأولى وكذلك القول في علة التأخر وهذا يوجب مالا نهاية له من الحوادث وذلك محال
فإن اعترف المخالف أن الشيء الذي يتقدم وجوده وجود ما هو مثل له لعلة فعلها فاعل اقر أن الفعل يتعلق بالفاعل وكان حكم المعلول حكم العلة ففي ذلك ما أردناه
وان امتنع من تعلق العلة المتقضية لوجود ما يوجد به الفاعل دخل عليه ما كلمناه به آنفا من أنه ليس احتمال بعض الجواهر لما يقتضي وجوده في زمان بعد زمان بأولى من احتمال وجود ذلك فيما هو مثل له
قال وسنبين بعد هذا أن الجواهر المعدومات ليست بذوات ولا أعيان ولا جواهر قبل وجود الاعراض وانها لم توجد إلا مع وجودها وانما لم نقدم هذا الباب في هذه الدلالة لعدم حاجتنا
(8/79)
اليه وذلك أنا نجعل مكان قولنا تقدمت الجواهر بعضها على بعض أن نقول أن بعضها ينتضد قبل بعض وبعضها يتفرق قبل بعض وبعضها يجتمع قبل بعض وانه لا يجوز أن يكون ما ينتضد منها منتضدا لنفسه وما افترق منها مفترقا لنفسه لقيام الدليل على تماثلها وان ما اقتضاه ذوات بعضها من الأحكام اقتضاه ذوات سائرها وفي العلم بأن منها ما يكون مجتمعا منتضدا ومنها ما يكون متفرقا متباينا دليل على أنه ليس الذي اقتضى لها ذلك ذواتها وان كانت تلك العلة فعلها فاعل فصارت بوجودها على صفة ما ذكرناه من الاجتماع والافتراق فصح أن الأفعال تتعلق بالفاعل وان تلك العلة إذا كانت متعلقة بالفاعل من حيث كانت فعلا محدثا وجب أن يكون هذا سبيل الجسم إذ كان فعلا لمساواته لما تعلق بالفاعل فيما لو كان متعلقا به وهذا إقرار بتعلق الأفعال بالفاعل
قال ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدما لا لنفسه ولا لعلة لأنه كان يجب أن لا يكون بالتقدم في وقت تقدمه اولى منه بالتأخر ولا بالتأخر اولى منه بالتقدم ولا كان هو بأن يكون متقدما لا لنفسه ولا لعلة اولى من تقدم ما هو مثل له في زمانه لا لنفسه ولا لعلة وفي العلم بكون المتقدم بالتقدم اولى منه بالتأخر والمتأخر بالتأخر
(8/80)
اولى منه بالتقدم وان وصفه بالتقدم والتأخر يفيد فوائد متغايرة لا تجري مجرى الالقاب التي لا تفيد دليل على أنه لا يجوز أن يكون ما تقدم منها متقدما لا لنفسه ولا لعلة
قال وفي فساد هذه الأقسام التي لا يخلو الأمر منها في التقدم والتأخر دليل على أن مقدما قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر
قال وهذا أحد ما يعول عليه في وجوب تعلق الأفعال بفاعل
قلت مضمون هذا الكلام أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث يستدل عليه بأن ذلك يتضمن الاختصاص بزمان دون زمان والتخصيص لا بد له من مخصص لأنه ترجيح لأحد المتماثلين على الآخر وترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح معلوم الفساد بالضرورة ولم يحتج بعد هذا أن يستدل على أن الترجيح لا بد له من مرجح لان ذلك ترجيح لأحد طرفي الممكن على الآخر فلا بد له من مرجح وقد ذكرنا فيما بعد أن هذا هو الطريق الذي سلكه ابو الحسين وابو المعالي وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم قرروا افتقار المحدث
(8/81)
إلى المحدث بأن ذلك تخصيص بأحد الجائزين والتخصيص بأحد الجائزين لأنه لا بد له من مخصص وهذا عندهم مختص بالمحدثات ولا يتصور عندهم ممكن قديم حتى يستدلوا بافتقار الممكن المتساوي الطرفين إلى مرجح لأحدهما أو مرجح لوجوده
وذكر القاضي ابو بكر أن ما ذكر من ضرب المثل باللبن إذا صار بناء والغزل إذا صار ثوبا إنما هو لأجل ظهور ذلك في نفوس العامة والخاصة لا لأن احدهما مقيس على الآخر
وذلك أن كثيرا من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم يقررون ذلك بالقياس على أفعال العباد فيقولون كما أن الكتابة لا بد لها من كاتب والبناء لا بد له من بان فكذلك الجسم المحدث لا بد له من فاعل للقدر المشترك لأن العلة الموجبة افتقار الأصل المقيس عليه إلى الفاعل هي موجودة في الفرع المقيس لان افتقار الأصل إلى الفاعل إنما كان لحدوثه وهذا موجود في الفرع إلى سائر كلامهم المعروف في مثل هذا
فذكر القاضي ابو بكر انه لا حاجة إلى هذا بل افتقار أحدهما كافتقار الآخر وقرر الجميع بالطريقة التي ذكرها وهو قوله لأن
(8/82)
الصنعة يستحيل وقوعها إلى من صانع كما يستحيل في العقول وجود صانع لا صنعة له وكاتب لا كتابة له فتعلق الصنعة بالصانع كتعلق الصانع في كونه صانعا بوجود صنعته
قال وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل
قلت بيان هذا انه إذا قيل صنعة أو فعل كان هذا اللفظ متضمنا صانعا فاعلا كما إذا قيل فاعل صانع كان ذلك متضمنا فعلا وصنعة وذلك لأن المصدر يستلزم الفاعل كما يستلزم الفاعل المصدر فكما أن العقل يعلم امتناع فاعل لا فعل له فهو يعلم امتناع فعل لا فاعل له
و القاضي ابو بكر قرر هذا الوجه ايضا بناء على أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث ليس بضروري وزعم أن الاشعري يقول بذلك كما تقدم من قوله انا لا ندعي ولا صاحب الكتاب أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع شيء يدرك من جهة الضرورات
ومن المعلوم أن كلام الاشعري ليس فيه شيء من هذا ولم يذكر في كلامه أن العلم بافتقار الصنعة إلى صانع يقرر بأن استلزام الصنعة للصانع كاستلزام الصانع للصنعة لا بأن ذلك يتضمن تقديما وتأخيرا فيفتقر إلى مقدم ومؤخر
(8/83)
ثم أن القاضي قرر ذلك بأن ذلك التقدم والتأخر لا يجوز أن يكون لعلة تقوم بالمتقدم والمتأخر لأنه ليس وجود العلة به بأولى من وجودها بغيره إذا لم يكن هناك موجد وكذلك وجود سائر العلل المجانسة لها لسائر ما يحتمله ذلك الجنس الذي وجدت به العلة ولأن ذلك يتضمن تقدم علة على علة فتفتقر ايضا إلى علة متقدمة وذلك يفضي إلى وجود حوادث لا نهاية لها وهو محال
وهذه المقدمة فيها نزاع مشهور لكنه احتج بها على من يسلمها من المعتزلة ولأنه عند نفسه قد أقام الدليل عليها في موضع آخر
وأيضا فإنه بنى دليله على تماثل الجواهر وهذا فيه نزاع مشهور لكنه أحال على تقريره لذلك في موضع آخر
وابطال هذا القسم يظهر بدون هذه الأدلة التي اعتمد عليها وذلك أن الكلام في حدوث ما يحدث من الحوادث التي تقدمت وتأخرت وهذه لا تقوم بها العلل في حال عدمها إنما تقوم بها في حال وجودها فيمتنع أن يكون حدوثها لمعنى قام بها قبل حدوثها لأن المعدوم لا يحدث الموجود ولا يكون المعدوم علة للموجود
ولكن سلوك هؤلاء لهذه الطرق البعيدة التي فيها شبهة وطول دون
(8/84)
الطرق القريبة التي هي أقرب وأقطع قد يكون لكون المناظر لهم لا يسلم صحة الطرق القريبة الواضحة القطعية إما عنادا منه واما لشبهة عرضت له أفسدت عقله وفطرته مثلما يعرض كثيرا لهؤلاء فيحتاج مع من يكون كذلك إلى أن يعدل معه إلى طريق طويلة دقيقة يسلم مقدماتها مقدمة مقدمة إلى أن تلزمه النتيجة بغير اختياره وان كانت المقدمات التي مانعها ابين وأقطع من المقدمات التي سلمها لكن هذا يحتاج اليه كثيرا في مخاطبة الخلق فكم من شخص لا يقبل شهادة العدول الذين لا يشك في صدقهم ويقبل شهادة من هو دونهم إما لجهله واما لظلمه وكذلك كم من الخلق من يرد اخبارا متواترة مستفيضة ويقبل خبر من يحسن به الظن لاعتقاده انه لا يكذب وكم من الناس من يرد ما يعلم بالدلائل السمعية والعقلية ويقبله إذا رأى مناما يدل على ثبوته أو قاله من يحسن به الظن لثقة نفسه بهذا اكثر من هذا وكم ممن يرد نصوص الكتاب والسنة حتى يقول ما يوافقها شيخه أو امامه فيقبلها حينئذ لكون نفسه اعتادت قبول ما يقوله ذلك المعظم عنده لم يعتد تلقى العلم من الكتاب والسنة ومثل هذا كثير
فكذلك كثير من الناس قد يألف نوعا من النظر والاستدلال فإذا أتاه العلم على ذلك الوجه قبله و إذا أتاه على غير ذلك الوجه لم
(8/85)
يقبله وان كان الوجه الثاني أصح وأقرب كمن تعود أن يحج من طريق بعيدة معطشة مخوفة وهناك طرق اقرب منها آمنة وفيها الماء لكن لما لم يعتدها نفرت نفسه عن سلوكها
وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها اكثر الناس احب اليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة
فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات أو تلازمات أو إدراج جزئيات تحت كليات قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين وان كان غير هؤلاء من أهل الفطر السليمة والاذهان المستقيمة لا يحتاج اليها بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه ونفر عنها عقله ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا فإن علم العقول بافتقار المحدث إلى محدث أبين
(8/86)
وأظهر من علم العقول بأن تخصيص أحد المثلين بشيء دون الآخر يحتاج إلى مخصص ومن تصور هاتين القضيتين حق التصور لم يمكنه مع الشك في الأولى أن يجزم بالثانية بل قد لا يتصور احداهما حق التصور
إلا ترى انه إذا قيل لمن صدق بالثانية لم قلت أن التقديم والتأخير لا بد له من مقدم ومؤخر رجع إلى فطرته السليمة وحكم بذلك وغايته أن يقول الاشياء المتساوية لا يترجح بعضها على بعض إلا بمرجح فلو قال قائل لم قلت ذلك ولم لا يجوز أن يترجح هذا على هذا إلا بمرجح أصلا ويختص بما اختص به لا لمخصص اصلا لكان انكاره لقوله هذا القائل دون انكاره لقول من قال لم قلت أن هذه الحوادث لا تحدث إلا بمحدث
وهذه التأليفات والتركيبات الحادثة كانت بعد أن لم تكن لا بمؤلف ولا مركب فإن ترجيح أحد المتساويين الحادثين على الآخر بلا مرجح هو نوع من حدوث الحادث بلا محدث فإن سوغ العقل حدوث حادث بلا محدث سوغ أن يحدث أحد المثلين دون الآخر بلا مخصص لحدوثه
(8/87)
وهل تخصيص أحد الحادثين بوقت دون وقت أو شكل دون شكل أو وصف دون وصف إلا نوع من حدوث حادث فإن الصفات والاشكال حوادث والتقدم والتأخر اضافة للحوادث إلى وقتها فهو صفة في الحدوث كإضافة الحادث إلى مكانه وكل ذلك مما يعلم بصريح العقل وفطرته السليمة انه لا بد له من محدث مخصص فاعل مؤلف سواه
ولهذا لم يحتج الاشعري إلى أن يقيم على ذلك دليلا كما فعله القاضي ابو بكر وأتباعه إلا أن يكون في موضع آخر فعل كما فعلوا ولعله أن فعل ذلك فعله لأجل عناد المناظرين أو جهلهم فسلك بهم الطريق البعيدة لما لم يسلكوا الطريق القريبة لا لأنه عنده يحتاج إلى الطريق البعيدة
ولهذا لا توجد هذه الطريق البعيدة في كلام أحد من السلف والائمة ولا ذكرت في القرآن فإنها من باب تضييع الزمان واتعاب الحيوان في غير فائدة والقرآن لا يذكر فيه مخاطبة كل مبطل بكل طريق ولا ذكر كل ما يخطر بالبال من الشبهات وجوابها فإن هذا لا نهاية له ولا ينضبط وانما يذكر الحق والادلة الموصلة اليه لذوي الفطر السليمة ثم إذا اتفق معاند أو جاهل كان من يخاطبه
(8/88)
من المسلمين مخاطبا له بحسب ما تقتضيه المصلحة كما يحتاج إلى الترجمة أحيانا وكما قد يستدل على أهل الكتاب بما يوجد عندهم من التوراة والانجيل
ففي الجملة الطرق التي تختص بطائفة طائفة مع طولها وثقلها على جمهور الخلق لا تكون في مثل الكتاب العزيز الذي جعله الله شفاء ورحمة ودعا به الخلق جميعهم ليخرج به من الظلمات إلى النور فإن مثل هذا الكتاب العزيز لا يليق أن يذكر فيه من الطرق ما يثقل على جمهور الخلق ويستركونه ويعدونه لكنة وعيا لا يحتاج اليه ويرونه من باب ايضاح الواضحات كما لو ذكر فيه الرد على السوفسطائية ببيان أن الشمس موجودة والقمر موجود والبحار موجودة والجبال موجودة والكواكب موجودة وان الانسان يعلم هذا بالمشاهدة ونحو ذلك لكان هذا مما يستقبح ذكره ويستثقله ويستركه جمهور العقلاء لأن هذا عندهم امر معلوم مستقر في عقولهم لا يحتاجون فيه إلى خطاب عالم من العلماء فضلا عن كتاب منزل من السماء
(8/89)
واذا قدر أن بعض الناس احتاج إلى ازالة ما عرض له من هذه الشبه السوفسطائية كان هذا من الامراض النادرة التي لا تعرض لجمهور العقلاء وعلاج هذا لا يحتاج إلى كتاب منزل من السماء يقصد به هدى الخلق وبيان ما يحتاجون اليه في صلاح امورهم
ولو ذكر في القرآن مثل هذا لم يكن لما يذكر من ذلك غاية لأن الخواطر الفاسدة لا نهاية ولا ضابط فكان يضيع زمان الناس في القراءة والسماع لما لا ينتفع به جماهيرهم ويشتغلون بذلك عما لا بد لهم منه ولا يصلح أمرهم إلا به
ونحن لم يكن بنا حاجة في الإيمان بالله ورسوله إلى مثل هذه الطرق وانما ذكرناها لما كان الذين سلكوها يعارضون كلام الله ورسوله بمقتضاها ويزعمون انه قد قامت عندهم أدلة عقلية تناقض ما جاءت به الرسل فكشفنا حقائق هذه الطرق التي يعارضون بها لنبين أن ما عارض النصوص منها لا يكون إلا باطلا وما لم يعارض النصوص فقد يكون حقا وقد يكون باطلا وما كان حقا ولم يعارض النصوص فقد لا يحتاج اليه بل في الطرق العقلية التي دلت النصوص عليها وهدت اليها ما يغني عن ذلك بل تلك الطرق
(8/90)
اقوى وأقرب وأنفع فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
وقد قال تعالى { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } سورة الشورى 53 والصراط المستقيم هو أقرب الطرق إلى المطلوب بخلاف الطرق المنحرفة الزائفة فإنها إما أن لا توصل واما أن توصل بعد تعب عظيم وتضييع مصالح اخر فالطرق المبتدعة أن عارضت كانت باطلا وان لم تعارض فقد تكون باطلا وقد تكون حقا لا يحتاج اليه مع سلامة الفطرة
ولهذا كل من كان إلى طريق الرسالة والسلف اقرب كان إلى موافقة صريح المعقول وصحيح المنقول اقرب فالقاضي ابو بكر وان كان اقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول في اصول الدين بخلاف اصول الفقه من أبي المعالي واتباعه والاشعري اقرب إلى ذلك من القاضي أبي بكر وابو محمد بن كلاب اقرب إلى ذلك من أبي الحسن والسلف والائمة اقرب إلى ذلك من ابن كلاب فكل من كان إلى الرسول اقرب كان اولى بصريح المعقول وصحيح المنقول لأن كلام المعصوم هو الحق الذي لا باطل فيه وهو المبلغ عن الله كلامه وخير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
ومما يبين ذلك أن ما ذكره القاضي ابو بكر من الطريقين البعيدين اقربهما مبنى على أن دلالة الصنعة على الصانع كدلالة الصانع على الصنعة وهذا إنما يدل من جهة الاشتقاق اللفظي كما تقدم
(8/91)
ومن المعلوم أن من شاهد الحوادث قبل أن يعلم أن لها صانعا لا يعلم انها صنعة ولا مفعولة لفاعل حتى يتضمن علمه بأحداهما علمه بالاخر فإن لم يعلم أن الحادث لا بد له من محدث لم يعلم انها مفعولة ولا مصنوعة فضلا عن أن يعلم أن لها صانعا فاعلا واذا علم انها مصنوعة مفعولة امتنع مع ذلك أن لا يعلم أن لها صانعا فاعلا
يوضح ذلك أن علم الناس بأن الصنعة مفتقرة إلى الصانع ليس بدون علمهم بأن الصانع لا بد له من صنعة بل علمهم بالأول قد يكون اقوى من الثاني وذلك لأنه اراد بكلامه أن الصانع لا يكون صانعا إلا بصنعة والفاعل لا يكون فاعلا إلا بفعل وهذا صحيح ولكن ليس هذا بأبين من كون المصنوع لا يكون مصنوعا إلا بصانع والمفعول لا يكون مفعولا إلا بفاعل والفعل لا يكون فعلا إلا بفاعل والصنعة لا تكون صنعة إلا بصانع بل إذا رأوا الحادث علموا بعقولهم انه لا بد له من فاعل احدثه وقد يرون ما يصلح أن يكون فاعلا ولا يعلمون هل فعل شيئا أو لم يفعله فكان فيما ذكره بيان الابين الاظهر بالاخفى وهم يمنعون من تحديد الاظهر بالاخفى وقد قلنا أن مثل هذا قد يستعمل مع جهل المخاطب أو عناده ونحو ذلك
(8/92)
واما الطريق الثانية التي جعلها القاضي ابو بكر معتمدة فهي مع طولها يمكن تقريرها بمقدمات صحيحة لكنه ادخل في بعض مقدماتها تماثل الجواهر وتناهي الحوادث ومعلوم لكل مؤمن عاقل أن الإقرار بالصانع لا يفتقر إلى هذا وهذا بل وعلم الخلق بأن الحادث لا بد له من محدث لا يفتقر لا إلى هذا ولا إلى هذا وهو ذكر هاتين المقدمتين مع غيرهما وفيما ذكره من غيرهما غنية عنهما فإن تماثيل الاعراض كأجزاء السواد يغنيه عن تماثل الجواهر وما ذكره من الوجه الأول في امتناع التقدم لعلة يغنيه عن الوجه الثاني المبني على تناهي الحوادث
ثم مما ينبغي أن يعرف أن الذين سلكوا الطرق المبتدعة في إثبات الصانع وتصديق رسله إذا اعتقدوا أن لا طريق إلا ذلك الطريق جعلوا من خالفهم في صحة تلك الطريق ملحدا أو دهريا أو نحو ذلك وهذا يذكرونه في مواضع
منها انهم لما اعتقدوا أن إثبات الصانع تعالى موقوف على إثبات
(8/93)
الجوهر الفرد جعلوا إثبات ذلك من اقوال المسلمين ونفى ذلك من اقوال الملحدين
وكذلك قد يقولون أن تماثل الجواهر والاجسام من اقوال المسلمين ونفي ذلك من اقوال الملحدين وكذلك قد يقولون أن تناهي الحوادث من اقوال المسلمين والقول بعدم تناهيها من اقوال الدهرية الملحدين ولهذا نظائر مع أن الذين يضيفونه إلى المسلمين قد يكون إنما ابتدعه طائفة من أهل الكلام الذي ذمه السلف والائمة والقول الآخر هو الذي عليه سلف الأمة وائمتها وجمهور الخلق
وكذلك قد يضيفون إلى السنة ما لا يوجد في كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف بل قد يكون المأثور ضد ذلك حتى يتناقض احدهم في النقل فيحكي إجماع المسلمين أو إجماع اهل الملل على شيء ثم يحكي النزاع عنهم في موضع آخر
كما رأيته قد ذكره بعض فضلاء المتكلمين من أصحاب أبي المعالي اظنه ابا الحسن الطبري المعروف بإلكيا أو بعض نظرائه ذكر في
(8/94)
كتابه في الكلام لما استدل على حدوث العالم بدليل الاعراض المشهور عن المعتزلة واتباعهم من الاشعرية والكرامية وغيرهم قال فأما الركن الرابع وفيه المعركة والتشاجر عنده يحصل وهو إثبات استحالة حوادث لا أول لها وقد اطبق المليون واتباع الأنبياء كلهم على استحالة حوادث لا أول لها وقال ملحدة الفلاسفة باثبات حوادث لا أول لها
وقال في مسألة حلول الحوادث بعد أن ذكر قول الكرامية قال واعلم أن المشبهة ايضا يقولون أن الحوادث تقوم به وان لم يصرحوا به فهم والكرامية في إثبات الجهة وقيام الحوادث بذات القديم على حد سواء وذلك انهم يجوزون على الله الجيئة والذهاب والنزول والصعود والانتقال فيقولون هذه الاشياء لم تكن فكانت وهذا هو الحادث ثم اثبتوا له التحيز وذلك لا يقوم إلا بمتحيز
قال وقد أثبتوا حوادث لا أول لها
قال ولا تصول الملحدة إلا بهذا وقد دللنا على بطلانه وانه لا يتم القول بحدوث العالم إلا بإبطاله
قلت وهذا القول الذي يحكيه هذا وامثاله من إجماع المسلمين أو
(8/95)
إجماع المليين في مواضع كثيرة يحكونه بحسب ما يعتقدونه من لوازم أقوالهم وكثير من الإجماعات التي يحكيها أهل الكلام هي من هذا الباب فإن أحدهم قد يرى أن صحة الإسلام لا تقوم إلا بذلك الدليل وهم يعلمون أن المسلمين متفقون على صحة الإسلام فيحكون الإجماع على ما يظنونه من لوازم الإسلام كما يحكون الاجماع على المقدمات التى يظنون أن صحة الإسلام مستلزمة لصحتها وأن صحتها من لوازم صحة الإسلام أو يكونون لم يعرفوا من المسلمين إلا قولين أو ثلاثة فيحكون الإجماع على نفي ما سواها وكثير مما يحكونه من هذه الإجماعات لا يكون معهم فيها نقل لا عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين بل ولا عن العلماء المشهورين الذين لهم في الأمة لسان صدق ولا فيها آية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مع هذا يعتقدون أنها من أصول الدين التي لا يكون الرجل مؤمنا أو لا يتم دين الإسلام إلا بها ونحو ذلك
ومثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام لما اعتقدوا أن العلم بإثبات الصانع وصدق الرسول موقوف على هذا الدليل أخذ يحكيه عن جميع أهل الملل وجميع أتباع الأنبياء وهو مع هذا لا يمكنه أن ينقله عن عالم واحد لا من الصحابة ولا من التابعين ولا
(8/96)
تابعيهم ولا معه فيه آية ولا حديث والمنصوص عن الأئمة المشهورين عند الأمة يناقض ذلك ولهذا عاد فحكى عن أهل الحديث الذين سماهم مشبهة أنهم يقولون بذلك وإن كان ذكره في معرض التشنيع عليهم ففي ذلك ما يبين أن أتباع الأنبياء تنازعوا في ذلك
وما ذكره من أن حدوث العالم لا يتم إلا بإبطاله يقول منازعوه إن الأمر في ذلك بالعكس وإن القول بما أخبرت به الرسل من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام لا يتم مع هذا القول ولا يتم إلا بنقيضه لأن إبطال هذا يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وحدوث مجموع الحوادث بلا سبب حادث ويصير الفاعل فاعلا بعد أن لم يكن بدون سبب جعله فاعلا بل حقيقة هذا القول أنه صار قادرا بعد أن لم يكن بغير سبب وصار الفعل ممكنا بدون سبب وهذا ممتنع في بدائه العقول
وبذلك صالت الدهرية على اهل الكلام الذين سلكوا هذه السبيل فإنهم لما رأوا فساد هذا القول في صريح المعقول وظنوا أن هذا قول الرسل وأتباعهم اعتقدوا أن الرسل صلوات الله عليهم أخبرت بما يخالف صريح المعقول ثم من أحسن الظن بهم قال فعلوا ذلك لمصلحة الجمهور إذ لم يمكن مخاطبتهم بالحق المحض فكذبوا لمصلحة الجمهور فساء ظن هؤلاء بما جاءت به الأنبياء وامتنع أن
(8/97)
يستدلوا به على علم وأولئك المتكلمون بجهلهم قصدوا إقامة الدليل على تصديق الأنبياء ونصر ما جاءوا به فلما نقص علمهم بالسمعيات والعقليات أدى ما فعلوه إلى تكذيب الرسل والطعن فيما جاءوا به
فأما القول بما أخبرت به الرسل فلا يناقض هذا الأصل بل يبطل ما يدفع به الملاحدة أقوال الرسل ثم إنه يحكي عن أهل الحديث هذا القول وأن معنى قولهم هو أنه تحله الحوادث وتجد كثيرا من متكلمة أهل الحديث كأبي الحسن بن الزاغوني وأبي بكر عربي يحكون الإجماع على امتناع قيام الحوادث به وأظن أن أبا على بن أبي موسى ذكر ذلك وهذا من جملة الإجماعات التي يطلقها من يطلقها بحسب ما ظنه وهذا لأن هذه أقوال مجملة قد يفهم منها ما هو باطل بالإجماع والمطلقون لها أدرجوا فيها معاني كثيرة لا يفهمها إلا خواص الناس
وأول من أظهر هذه المقالات الجهمية والمعتزلة ونحوهم وصاروا يقولون إنه منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والمقدار والحد ونحو ذلك ويدخلون في نفي الأعراض نفي الصفات وفي نفي الحوادث نفي الأفعال القائمة به وفي نفي المقدار نفي علوه على خلقه ومباينته لهم وفي نفي الأبعاض نفي علوه ومباينته ونفي الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك
(8/98)
مما يستلزم عندهم أن يكون له أبعاض ومن عجيب ذلك ما ذكروه في هذه المسألة مسألة افتقار الحادث إلى المحدث فإن أبا الحسن لما قال ما الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره واستدل بحدوث الإنسان كما تقدم فسر القاضي أبو بكر قوله بوجهين
أحدهما أنه يريد بالخلق التقدير وكل جسم فله قدر فيكون المعنى ما الدليل على أن لكل جسم قدرا من الأقدار قدره مقدر لكن هذا الوجه لم يرده الأشعري ولا بنى كلامه على إرادته وإنه لم يذكر دليلا على ذلك
والوجه الثاني أن يكون الخلق بمعنى الإبداع والاختراع وجعل الشيء شيئا عينا بعد أن لم يكن كذلك
وهذا هو الوجه الذي أراده لكن اعترض عليه بعض المعتزلة وأظنه القاضي عبد الجبار بأن كل من أقر بالمحدث المخلوق أقر بالخالق وكل من اعترف بمفعول اعترف بفاعل ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق وأراد
(8/99)
عبد الجبار بيان فساد الطريقة التي سلكها الأشعري وتصحيح طريق شيوخه وهو إثبات حدوث الأجسام أولا ثم إثبات المحدث بعد ذلك
وليس الأمر كما ذكره عبد الجبار بل الأشعري قصد العدول عن هذه الطريقة التي سلكها المعتزلة عمدا مع علمه بها كما قد بين ذلك في رسالته إلى الثغر وبين أنها بدعة محرمة في الشرائع لم يسلكها السلف والأئمة وعدل عنها إلى الاستدلال بحدوث صفات الإنسان لأن ذلك أمر مشهود معلوم والقرآن العزيز قد دل عليها وأرشد إليها
لكن الأشعري لما أراد تقرير حدوث النطفة سلك في الاستدلال على حدوثها الطريقة المعروفة للمعتزلة في حدوث الأجسام فهو وإن كان قد وافقهم على صحة هذه الطريقة فهو يقول إن فيها تطويلا وشبهات ومقدمات كثيرة فيها نزاع فلا يحتاج إليها ابتداء ولا يقف العلم والإيمان بالله تعالى عليها بخلاف نفس تحول النطفة من حال إلى حال فإن هذا أبين وأظهر من كون كل جسم لا بد له من أعراض مغايرة له وأن الأعراض حادثة النوع
ثم من أراد إثبات حدوث الأجسام بأنها لا تخلو عن الحركة والسكون كما فعله من فعله من المعتزلة ومن وافقهم فالأمر عليه أيسر
(8/100)
من إثبات من أثبت ذلك بأنها لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض عن واحد منها وأن جميع أنواع الأعراض لا تبقى زمانين كما سلك هذه الطريق كثير من الأشعرية ومن وافقهم فإن هذه أبعد الطرق وأطولها وأضعفها مقدمات لو كان في هذه الطرق شيء صحيح
فالجواب لعبد الجبار عن الأشعري أن يقال له هو استدل بحدوث الإنسان وهو أمر معلوم مشهود لا ينازع فيه عاقل وكان في ذلك مندوحة له عن الاستدلال بحدوث جميع الأجسام وحينئذ فإذا ثبت أن للإنسان صانعا ثبت سائر صفاته من العلم والقدرة وغير ذلك ثم أمكن أن يعلم حدوث السماوات والأرض بالسمع فلا يحتاج إلى ما يدل على حدوث جميع الأجسام مع أن تمام الطريقة التي ذكرها الأشعري تدل على ذلك فيقال لعبد الجبار إن كانت طريقتكم صحيحة فقد سلكها الأشعري في آخر استدلاله وإن كانت باطلة لم يكن عليه ملام في تركها بل الذين ذموا ما ذموا منه من أتباع السلف والأئمة ذموا منه ما وافقكم فيه من هذه الطريقة وأمثالها فالذي تطلبون منه من موافقتكم هو الذي ينكره عليه أتباع السلف والأئمة كما ينكرون ذلك عليكم
(8/101)
وفي الجملة فإن كان طريقكم مذموما فالذم الذي يلحقه به أقل مما يلحقكم به وإن كان صحيحا فهو قد سلكه في آخر الدليل لكنه لم يجعل نفس إثبات الصانع تعالى مفتقرا إلى إثبات حدوث الأجسام لعلمه بأن الأمر ليس كذلك وبأن هذا مخالفة لدين المسلمين وسائر أهل الملل فكان في موافقتكم على سلوك هذه الطريق ابتداء مخالفة للشرع والعقل
وأما كون من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق ومن اعترف بالمفعول اعترف بالفاعل كما ذكره هذا المعتزلي فالأمر كذلك ولهذا لم يتعرض الأشعري للدليل على ذلك بل جعل كون المحدث دالا على المحدث أمرا مستقرا معلوما بالفطرة إذ النزاع في ذلك أقبح من نزاع السوفسطائية
وأما القاضي أبو بكر فأراد أن يجيب عن الأشعري بوجه آخر فزعم أن افتقار المحدث الى المحدث أمر نظري لا ضروري وأن الأشعري أثبت ذلك وذكر أن إثباته لذلك من جهة تضمن الفعل للفاعل كتضمن الفاعل للفعل
ومن المعلوم أن كلام الاشعري ليس فيه شيء من هذا ولا يحتاج كلامه إلى هذا وإنما نشأ الغلط من ظن القاضي أبي بكر أن العلم
(8/102)
بافتقار المحدث إلى الفاعل أمر نظري وليس الأمر كذلك بل هو ضروري عند جماهير العقلاء وان كان نظريا عند طائفة من اهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم
والشيء قد يكون ضروريا مع إمكان اقامة الأدلة النظرية عليه فلا منافاة بين كونه ضروريا مستقرا في الفطر وبين إمكان إقامة الدليل عليه
فقال القا ضي ابو بكر واما توجيه كلام أبي الحسن إلى أن الخلق بمعنى الاختراع والابتداع فصحيح مع اكثر اهل الدهر لان كثيرا من الدهرية الفلاسفة يزعمون أن العالم محدث من غير محدث وانه متشكل ومتصور بغير مصور ولا مدبر مع اظهارهم الإقرار بحدوثه وانهم لذلك يعتقدون فإذا حصل هذا الإقرار من الفريق الذين ذكرناهم بحدث الأجسام وتصويرها وتركيبها مع انكارهم الصانع المصور كان الكلام معهم في تعلقها بمحدث احدثها وصورها بعد الأصل الذي قد سلموه صحيحا
قال وقد زعم قوم من المسلمين أن شطر الحوادث أو قريبا من شطرها يقع من غير محدث ولا فاعل أصلا وهو ثمامة بن
(8/103)
اشرس النمري وشيعته لانه كان يزعم أن المتولدات كلها لا فاعل لها وهي مع ذلك حوادث وافعال
قال وانما ذكرت لك هذه الفرقة من اهل المللة لتعلم أن الإقرار بحدث الشيء وانكار محدثه مذهب قد شاع في اهل الملة وغيرهم وان تعجب من تعجب من هذا وانكاره دليل على جهله وشدة غباوته وقلة عنايته بمعرفة مذاهب الامم السالفة ومن بعدهم من شيخوخة المعتزلة مع أن الدعوة التي عول عليها صاحب الاعتراض هو أن قال كل من اقر بالشيء المحدث المخلوق اقر بالخالق وكل من اعترف بمفعول اعترف بالفاعل لو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطى الدليل على إثبات الصانع الخالق
قال وقد أنبأنا بالذي سلف من الكلام على جهله في هذا وذهابه عن جهة الصواب فيه ثم نقول فهب أن الأمر كما وصفته ما الذي فيه يوجب غلط واضع الكتاب في تعاطيه اقامة الدليل على إثبات الخالق وقد اتفق الجميع من العاقلين على أن الأفعال تتعلق بفاعل وان المخلوقات تتعلق بخالق ليس هو مما يعلم بالاضطرار ولا يثبت بدرك الحواس وانما يتطرق اليه بالبحث والفحص إلا شرذمة قليلة لا يعتد بقولها ادعت في هذا المذهب البديهة وان
(8/104)
العلم يقع به عند كمال العقل وليس هذا من قولنا وقول هذا المعترض وقد يصح أن يشك في وجوب هذا التعلق من العقلاء شاكون إذا عدلوا عن جهة الاستدلال وطرق الاستشهاد المؤدي إلى معرفة وجوب تعلق الفعل بالفاعل واذا كان هكذا لم يستنكر ما سلكه شيخنا رضي الله عنه من ذكر الدليل على أن الانسان ليس هو المحدث لنفسه وان له محدثا سواه وان المخلوق لا بد له من أن يتعلق بخالق فإذا كان هذا إنما يعلم بالاستدلال فكأنه إنما اراد أن يعرف المتعلم وجه الدليل الذي أدى المجمعين إلى وجوب تعلق الفعل بالفاعل وما من اجله اجمعوا على ذلك فما في هذا مما يعاب لولا فرط الجهل وسوء الظن بالشيوخ
وأيضا فان الذي عابه هذا المعترض غلط بين من قبل انه سام الرجل اقامة الدليل على حدوث الجسم قبل اقامته على وجود محدثه وهذا الترتيب لعمري يجب على من قصد إلى أن يدل على الامرين فأما من قصد أن يقيم الدلالة على أحدهما وهو أن المحدث يتعلق بوجود محدث فلا يجب عليه ذلك فانه قصد إلى الكلام في احدى المسالتين دون الاخرى
قال وقد يقضى القول في هذا الذي سامه هذا المقرض في إثبات الاعراض وحدوث الأجسام في كتاب غير بما لا يخفي على من
(8/105)
عرف من مذهبه القليل واطلع منه على اليسير
قلت ولقائل أن يقول ما ذكره القاضي ابو بكر ليس فيه جواب عن ألاشعري بلا كلام ألاشعري صحيح في نفسه لا يحتاج إلى ما ذكره
وبيان ذلك من وجهين
أحدهما أن كلام ألاشعري ليس فيه اقامة دليل على هذه المقدمة التي جعلها القاضي نظرية وهو تعلق الفعل بالفاعل وان المخلوق لا بد له من خالق بل الاشعري ذكر هذه المقدمة ذكرا مطلقا وجعلها مسلمة ولم ينازع فيها من يعبأ به ولهذا لا يعرف في اهل المقالات المعروفة من نازع فيها
وقول القاضي أن كثيرا من الدهرية والفلاسفة يقولون انه محدث من غير محدث فهذا القول إنما يحكي عن شرذمة لا يعرف من هم وقد تأول الشهرستاني وغيره ذلك بأنهم ارادوا به أن سبب حدوثه كان بالاتفاق لا انهم انكروا الصانع وحينئذ فيكونون قد اثبتوا فاعلا ولم يثبتوا سببا للحدوث
(8/106)
وهذا قول اكثر المعتزلة والاشعرية وغيرهم يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع وقال لهم الناس هذا ينقض الأصل الذي اثبتم به الصانع وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فإذا كانت الاوقات متماثلة والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلا وأبدا ثم اختص أحد الاوقات بالحدوث فيه كان ذلك ترجيحا بلا مرجح فقول اولئك الدهرية وقول محمد بن زكريا الرازي وامثاله في إحالة الحدوث على تعلق النفس بالهيولي وامثال ذلك كل ذلك ينزع إلى اصل واحد وهو إثبات حدوث حادث بلا سبب حادث
والفلاسفة القائلون بقدم العالم كأرسطو وابن سينا وامثالهما جعلوا هذا حجة على القائلين بحدوث العالم لكن قولهم تضمن هذا وما هو اقبح منه فانهم زعموا أن الحوادث كلها تحدث عن علة تامة قديمة مستلزمة لمعلولها لا يتأخر عنها شيء من معلولها كما يقوله ابن سينا وامثاله أن الأول يحرك المتحركات بمعنى انها تتحرك للتشبه به لا انه ابدع حركتها كما انها لم يدعها عندهم فلزم من
(8/107)
ذلك أن تكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث وذلك اعظم من كونها حدثت بلا سبب حادث وقد بسط هذا في موضعه
واما ما حكاه القاضي عن ثمامة فهو من لوازم قوله كما أن المعتزلة البصريين لما قالوا تحدث ارادة لا في محل بلا ارادة الزمهم الناس بحدوث الحوادث كلها بلا إرادة وهو ينفي عنها الفاعل الارادي لا ينفي سببا اقتضى حدوثها وهم مع هذا معترفون بأنه لا بد للحوادث من فاعل مختار ولكن لازم المذهب ليس بمذهب وليس كل من قال قولا التزم لوازمه التي صرح بفسادها بل قد يتفق العقلاء على مقدمة وان تناقض بعضهم في لوازمها ولهذا كانت الشبه الواردة على قول القائل أن التخصيص الحادث لا بد له من محدث مخصص أو أن الممكن لا بد له من مرجح اعظم مما يرد على أن المحدث لا بد له من محدث
والتناقض الذي يلزم أولئك اكثر ولهذا أورد ابو عبد الله الرازي في مسألة إثبات الصانع على طريقة اسولة لم يجب عنها بجواب صحيح فإنه يبني جميع ما يذكره من الطرق على أن الممكن
(8/108)
لا بد له من سبب فاعترض على ذلك بأنه لم قلتم أن الممكن لا بد له من سبب
ثم هنا نظران أحدهما أن نقول انتم في هذا المقام بين امرين إما أن تدعوا الضرورة فيه أو النظر
ودعوى الضرورة باطل لوجهين أحدهما انا إذا عرضنا على العقل أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح وعرضنا أيضا قولنا أن الواحد نصف الاثنين لم نجد القضية الأولى في قوة القضية الثانية
وثانيهما أن اكثر العقلاء جوزوا وقوع الممكن لا عن سبب ولو كان ذلك ضروريا لاستحال من العقلاء دفعه
بيان أن العقلاء جوزوا ذلك صور ست أحدهما أن القائلين بحدوث العالم وهم المسلمون يقولون أن الله فعل في
(8/109)
الوقت المعين دون سائر الاوقات لا لامر يختص به ذلك الوقت ومن علل منهم ذلك باختصاص ذلك الوقت بمصلحة خفية يحكم باختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة دون سائر الاوقات المذكورة مع تساويها بأسرها فيكون ذلك وقوعا للممكن بلا سبب
وثانيها أن الذين يحيلون الدواعى والأعراض على الله تعالى وينكرون كون الحسن والقبح صفة عائدة إلى الفعل يقولون أن الله تعالى حكم في الواقعة المعينة بحكم مخصوص من ايجاب أو ندب أو حظر أو اباحة مع كون سائر الوقائع مساويا لها فلا يكون على مذهبهم لتخصيص تلك الواقعة بذلك الحكم سبب مخصوص
وثالثها أن اكثر المعتزلة زعموا أن القادر مع تساوي دواعيه إلى الشيء وضده قد يفعل أحدهما دون الآخر لا لمرجح بل زعموا أن الهارب من السبع إذا اعترضه طريقان متساويان من جميع الوجوه فانه لا بد وان يختار أحدهما دون الآخر وزعموا أن العلم بذلك
(8/110)
ضروري وان الجائع إذا خير بين اكل رغيفين متساويين من كل الوجوه فانه لا بد وان يختار أحدهما بل يبتدئ بكسر أحد جوانب ذلك الرغيف من غير سبب يختص بهه ذلك الجانب وكذلك النائم ينقلب من أحد جنبيه على الأخرر لا لمرجح وادعوا الضرورة في هذه الصورة
روبعها أن أكثر المعتزلة زعموا أن الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في الصفات الذاتية وأنه ليس لاختصاصها بتلك الصفة علة
وخامسها زعمت الفلاسفة أن حركات الفلك لأجل التشبه مع أنها لو وقعت إلى الجهة المضادة لجهتها أو أسرع أو أبطأ مما وجدت لكان التشبه حاصلا لا عن مرجح
(8/111)
وسادسها انهم يقولون الكوكب المعين يختص بموضع معين من الفلك مع كونه ذلك الموضع مساويا لسائر المواضع في الحقيقة والماهية لكون الفلك عندهم بسيطا فثبت أن العقلاء حكموا في هذه الصور بوقوع الممكن لا عن سبب ولو كان العلم بذلك ضروريا لاستحال ذلك كما استحال أن يحكم بعضهم يكون الواحد اكثر من اثنين
فهذا البطلان قول من يدعي الضرورة في هذا المقام واما من يدعي الاستدلال فلا بد له من دليل وانتم ما ذكرتم ذلك الدليل ثم لو ذكرتموه فانه ينتقض بالصور التي عددناها
وذكر اسولة أخرى
ثم قال أبو عبد الله الرازي والجواب على منهجين الأول أجمالي وهو أن دليلنا بناء على مقدمتين إحداهما
(8/112)
أن المحدث لا بد وان يكون ممكنا لان الذي لا يقبل حقيقة العدم لا يكون معدوما فس شيء من الاوقات وثانيها أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وهاتان المقدمتان لا يشك فيهما عاقل وما ذكرتموه من الشكوك فهي جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في سائر العلوم الضرورية
وكما أن تلك الشبه مع قوتها لا تقدح في شيء من العلوم الضرورية وتلك لا تزيل عنا الجزم والوثوق بالمشاهدات فكذلك ما ذكرتموه
قال وهذا جواب قاطع للمنصف
قال والمنهج الثاني أن نجيب عن الشكوك المذكورة على التفصيل
إلى أن قال قوله إذا ثبت كون المحدثات ممكنة وجب
(8/113)
استنادها إلى مؤثر تدعون فيه الضرورة أو النظر قلنا بل ندعي فيه الضرورة فأنا إذا فرضنا انسانا سليم العقل لم يمارس هذه المجادلات ثم يعرض على عقله أن كفتي الميزان هل يمكن أن تترجح إحداهما على الاخرى لا لسبب أصلا فان صريح العقل يشهد له بإنكاره ذلك
وكذلك إذا دخل برية لم يجد فيها عمارة أصلا ثم دخلها فوجد فيها عمارة رفيعة وقصرا مشيدا فانه مضطر إلى العلم بوجود باني وصانع وكذلك إذا احس بصوت أو حركة اضطر إلى العلم بوجود مصوت أو متحرك بل الصبيان يضطرون إلى العلم بذلك لانهم إذا وجدوا في موضع شيئا لم يتوقعوا حصوله هناك حملتهم طباعهم السليمة على طلب من وضع ذلك الشيء في ذلك الموضع فدلنا هذا على أن ذلك من العلوم الضرورية قوله إذا عرضنا على العقل أن الواحد نصف الاثنين وعرضنا أيضا أن الممكن
(8/114)
لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح وجدنا الأول اظهر قلنا هذا ممنوع وبتقدير التسليم لا يلزم من كون الأول اجلى منه أن لا يكون هو جليا وذلك لان العلوم الضرورية متفاوته في الجلاء كما أن العلوم النظرية متفاوته في الخفاء وكما أن التفاوت في النظريات لا يخرجها عن كونها نظرية وكذلك التفاوت في الضروريات لا يخرجها عن أن تكون ضرورية قوله أن جمعا من العلماء التزموا وقوع الممكن لا عن سبب ولو كان فساد ذلك ضروريا لما قالوا به قلنا انهم لم يلتزموا ذلك بل غايته أن صار ذلك لازما على مذاهبهم وليس كل ما صار لازما وجب أن يلتزمه صاحب ذلك المذهب والاشكال إنما يجيء من التزامه ما يناقض هذه القضية لا من لزومه وكذلك فان أصحاب هذه المذهاب متى التزمتهم وقوع الممكن لا عن سبب فانهم يحتالون
(8/115)
في الجواب عن ذلك سواء كانت اجوبتهم عن ذلك قوية أو ضعيفة وذلك يدل على أن العلم بذلك ضروري وأما العذر عن كل واحد من الصور التي أوردناها فنحن بعد ذلك أن شاء الله تعالى في المواضع اللائقة بها نجيب عنها قال وبالجملة فكل مذهب يؤدي إلى القول بوقوع الممكن لا عن سبب فإحالة البطلان على ذلك المذهب أولى من احالته على هذا الأصل المعلوم بالضرورة
قلت فهو أن سلك مسلك هؤلاء في بيان أن افتقار المحدث إلى المحدث لأنه ممكن والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح فمسلكه اطول وأضعف بل هذا المسلك الذي سلكه باطل كما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر
وذلك أن كون تخصيص أحد الوقتين المتماثلين بالحدوث دون الآخر يفتقر إلى مخصص أبين من كون الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح فإن المعلوم لكل أحد أن الممكن الذي لا يوجد بنفسه لا بد له من غيره فلا يترجح وجوده إلا بمرجح
(8/116)
إما كون عدمه لا يترجح على وجوده إلا بمرجح فهذا محل نزاع وأكثر العقلاء على نقيض ذلك وعندهم أن العدم لا يعلل ولا يعلل به كما قال ذلك من قاله من متكلمة أهل الاثبات وغيرهم كالقاضي أبي بكر وأتباعه كأبي المعالي القاضي أبي يعلي وابن الزاغوني وغيرهم
فالجمهور يقولون عدم الممكن لا يفتقر إلى سبب بل ليس له من ذاته وجود فإذا لم يكن ثم سبب يقتضي وجوده بقي معدوما واذا قال القائل عدم وجوده لعدم علة وجوده كما أن وجوده لوجوده علة وجوده
قالوا له أتعني أن نفس عدم العلة هو الموجب لعدمه كما أن العلة المقتضية لوجوده كالفاعل هو المقتضى لوجوده أم تعني أن عدم العلة مستلزم لعدمه ودليل على عدمه
الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأن عدمه لا يفتقر إلى سبب منفصل أصلا وما لا يفتقر إلى سبب منفصل لا يعلل بسبب منفصل وذاته ليست مستلزمة للعدم لتكون ممتنعة بل ليست مقتضية للوجود فعدمه مستمر إذا لم يكن هناك سبب يقتضي وجوده ولكن يستدل بعدم الموجب على عدم الموجب لأن وجوده بدون سبب محال
فإذا علمنا أن لا سبب يقتضي وجوده علمنا عدم وجوده فهذا
(8/117)
من باب الاستدلال وقياس الدلالة لا من باب العلة التي هي المؤثرة في عدمه في الخارج والله أعلم
وأيضا فالمعلوم بالبديهة هو أن ترجيح أحد المتماثلين من كل وجه على نظيره لا يكون إلا بمرجح كما ذكره من أن كفتى الميزان لاتتراجح إحدهما على الأخرى إلا بمرجح وأن هذا معلوم بصريح العقل
وإذا كان كذلك فطريقة المتكلمين من الذين قالوا إن الحادث لا يختص بوقت دون الإ بخصص كما قاله القاضي أبو بكر والقاضى أبو يعلى وأبو الحسين البصري وأبو المعالى وابن عقيل وابن الزاغواني وأمثال هؤلاء من نظار المسلمين خير من طريقة الذين احتجوا بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح كما فعل ذلك ابن سينا والسهروردى المقتول والرازي والآمدي وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء بنوا ذلك على أن الممكن لا يترجع أحد طرفي وجوده وعدمه على الآخر إلا بمرجح
ومن المعلوم أن العلم بكون أحد الأمرين لا يترجح على الآخر إلا بمرجح يظهر في الأمرين المتماثلين من كل وجه كما ذكروه في كفتي الميزان فأما إذا قدرناهما متساويتين لم يترجح إحداهما على الآخر إلا بمرجح
(8/118)
وكذلك الاوقات المتماثلة إذا اختص وقت عن وقت بحدوث الحادث فيه كان ذلك التخصيص تخصيصا أحد المثلين على الآخر والتخصيص ترجيح له عليه فلا بد له من مخصص مرجح وأما الوجود والعدم فليسا متماثلين في أنفسهما وان كان الممكن يقبل الوجود ويقبل العدم فليس وجوده مماثلا لعدمه كتماثل الكفتين والوقتين ولكن هما بالنسبة اليه جائزان وهو قابل لهما
فغاية ما يقال انه باعتبار نفسه ليس هو بأحدهما أولى منه بالاخر فهما بالنسبة اليه متماثلان من هذا الوجه فيكون ترجيح أحدهما مفتقرا إلى مرجح ولكن عند التحقيق يظهر انهما بالنسبة اليه ليس متماثلين وانه ليس هنا حقيقتان ترجح إحداهما على الاخرى بل ليس له من نفسه وجود أصلا فهو باعتبار ذاته لا يستحق إلا العدم لا يقال انه لا يستحق لا الوجود ولا العدم بل إذا جردنا النظر إلى محض ذات الممكن الذي يقبل الوجود والعدم علمنا أن ذاته لا تكون موجودة بذاته
لسنا نقول أن ذاته تستلزم العدم بحيث يكون عدمها واجبا ووجودها ممتنعا فإن هذا حقيقة الممتنع لذاته لا حقيقة الممكن لذاته ولكن نقول أن ذاته هي باعتبار النظر اليها فقط معدومة عدما ليس واجبا بل عدما يمكن أن يتبدل بالوجود
(8/119)
ومما يوضح ذلك أن كل محدث فهو ممكن فإنه كان معدوما ثم صار موجودا فهو قابل للوجود والعدم ثم انه من المعلوم لكل أحد أن المحدث لا يقال أن عدمه يفتقر إلى سبب مرجح كما يفتقر وجوده إلى سبب مرجح بل المحدث ليس له من نفسه وجود أصلا ولا يستحق باعتبار ذاته إلا العدم أي لا يثبت له بذاته إلا العدم لا انه يجب له بذاته العدم فالعدم ليس واجبا بذاته بل هو ثابت بذاته
وقولي ثابت بذاته ليس هو اخبارا عن شيء ثابت في الخارج وذات فان المعدوم ليس له في الخارج ذات ثابتة بل حقيقة الأمر أنه ليس له في الخارج شيء موجود من ذاته ولكن هو ممكن الوجود من غيره فهو مفتقر إلى غيره في كونه موجودا لا في كونه معدوما وإذا قال قائل إن الممكن أو المحدث يفتقر في عدمه إلى عدم السبب الموجب قيل له وعدم ذلك السبب الموجب إما أن كان ممكنا فإن كان واجبا لزم أن يكون عدم كل ممكن واجبا فتكون جميع الممكنات ممتنعة لأن عدم كل ممكن على هذا التقدير معلول بعدم واجب وإذا كان معدوما لعدم علته وعدم علته واجبا كان عدمه واجبا وهذا معلوم الفساد بالبديهة
(8/120)
وان قيل أن عدم العلة ممكن فإن كان معدوما بنفسه أمكن أن يكون الممكن معدوما بنفسه لا بعلة وهو المطلوب وإن كان معدوما بعلة كان القول في تلك العلة كالقول في الاخرى ويلزم من هذا أن يكون عدم كل ممكن معللا بعدم ممكن آخر
وهذا باطل لوجوه منها أنه ليس تعليل عدم هذا بعدم هذا بأولى من العكس فإن كل ممكن مفتقر إلى المرجح المؤثر سواء سمي فاعلا أو علة أو موجبا أو سببا أو ما سمى به
فإذا قيل عدم هذا الممكن لعدم مؤثره وعدم ذلك المؤثر لعدم مؤثره كان كل منهما مساويا للآخر في الافتقار إلى المؤثر فليس أن يكون عدم أحدهما لعدم الآخر المفتقر عدما إلى المؤثر بأولى من أن يكون عدم ذاك لعدم هذا المفتقر عدمه إلى المؤثر مع استوائهما في ذلك
ومنها إذا كان عدم هذا لعدم ذاك وعدم ذاك لعدم آخر فالعدم الثالث أن كان هو الأول لزم الدور القبلي وان كان غيره لزم التسلسل في العلل والمعلولات وكلاهما ممتنع
فهذا كله مما يبين أن عدم الممكن ليس مفتقرا إلى المؤثر كافتقار
(8/121)
وجوده إلى المؤثر فليس ترجيح وجوده على عدمه كترجيح احدى كفتي الميزان وترجيح أحد الزمانين بالحدوث على الآخر فإنه هناك رجح الشيء على مثله بلا مرجح ونسبة الحادث إلى هذا الزمان كنسبته إلى هذا ونسبة الرجحان إلى هذه الكفة كنسبته إلى هذه بخلاف الوجود والعدم بالنسبة إلى الممكن فإنه ليس رجحان الوجود كرجحان العدم
ومما يبين هذا أن المرجح للوجود في الممكن ليس هو المرجح للعدم ولا مثله ولا من جنسه فإن المرجح للوجود مؤثر موجود والمرجح للعدم عدم المؤثر وليس الوجود هو العدم ولا مثله ولا من جنسه فليس المرجح أحد طرفي الممكن هو المرجح للآخر ولا مثله ولا من جنسه ولا يمكن ذلك فيه بخلاف المرجح لأحدى كفتي الميزان والمخصص لوقت دون وقت بالحدوث فإنه يمكن أن يكون هو الآخر لتغير صفته أو ما يكون من جنس الآخر
وأيضا فترجيح سائر صفات الحادث والممكن على الاخرى ليست كترجيح الوجود على العدم بل هي اقرب إلى ترجيح الوقت على الوقت كتخصيصه بقدر دون قدر ووصف دون وصف ومكان دون مكان ونحو ذلك فإن هذا إلى تخصيصه لوقت دون وقت أقرب منه إلى تخصيصه بالوجود دون العدم
(8/122)
فتبين بذلك أن طريقة أولئك النظار من متكلمة المسلمين مع كونهم سلكوا فيها من التطويل والتبعيد مالا يحتاج اليه بل ربما كان فيه مضرة خيرا من طريقه هؤلاء الذين استدلوا بترجيح أحد طرفي الممكن
ثم أن ابن سينا وأمثاله كانوا خيرا فيها من الرازي والآمدي وأمثالهما والرازي فيها خير من الآمدي كما قد ذكر في غير هذا الموضع وهذا لو قدر أن هذه الطريقة طريقة ابن سينا ومن اتبعه كالرازي ونحوه طريقة صحيحة فكيف إذا كانت باطلة كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وبينا أن هذه الطريقة لا تدل على إثبات وجود واجب ثابت في الخارج مغاير للممكن اصلا ولو دلت على ذلك لم تدل على أنه مغاير للأفلاك ونحوها
ولهذا كان من سلك هذه الطريقة لا يمكنه أن يثبت بها الصانع ولو اثبت بها الصانع لم يمكنه أن يجعله شيئا غير الافلاك فضلا عما يدعونه من نفي التركيب الذي جعلوه دليلا على نفي الصفات
وذلك أن هؤلاء بنوا هذه الطريقة على أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وان الممكن لا بد له من واجب فاحتاجوا إلى شيئين إلى حصر القسمة في الواجب والممكن وان الممكن يستلزم الواجب
ولفظ الواجب فيه اجمال قد يراد به الموجود بنفسه الذي
(8/123)
لا فاعل له فتدخل فيه إذا كان ذاتا موصوفة بالصفات ذاته وصفاته
ويراد به القائم بنفسه مع ذلك فتدخل فيه الذات دون الصفات
ويراد به المبدع للممكنات فلا تدخل فيه إلا الذات المتصفة بالصفات
ويراد به شيء منفرد ليس بصفة ولا موصوف فهذا يمتنع وجوده ولم يفهموا دليلا على وجوده فضلا عن أن يكون واجب الوجود
فإذا قالوا نعني بالواجب ما لا تقبل ذاته العدم وبالممكن ما تقبل ذاته العدم
قيل لهم اثبتوا وجود ممكن تقبل ذاته العدم لتحتاج إلى الواجب ولما قيل لهم ذلك لم يثبتوه إلا بإثبات الحوادث التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى
وهذا صحيح فإن الحوادث مشهودة وافتقارها إلى المحدث معلوم بالضرورة لكنهم لم يسلكوا هذا المسلك فإن هذا إنما يثبت وجود قديم احدث الحوادث والممكن عندهم يتناول ما يكون قديما ومحدثا فالقديم الازلي عندهم يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم
وهذا القول قاله ابن سينا واتبعه هؤلاء وخالفوا به جميع العقلاء حتى أرسطوا وأصحابه وحتى خالفوا أنفسهم وتناقضوا فإن ابن سينا وأتباعه صرحوا في غير موضع بأن الممكن الذي يقبل الوجود
(8/124)
والعدم لا يكون إلا محدثا لا يكون قديما أزليا وان ما كان قديما أزليا لم يكن إلا واجبا ضروريا يمتنع عدمه
فهذا القول باطل وان قدر صحته فلا يمكن اثباته إلا بكلفة ونظر دقيق ومعلوم أن العلم بواجب الوجود الصانع للممكنات لا يتوقف على العلم بكون القديم الازلي الذي يمتنع عدمه قد يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم فهم يقولون إذا اثبتنا قديما نحتاج بعد ذلك إلى أن نثبت انه واجب الوجود لا ممكن الوجود لأن القديم يحتمل الامرين
وهذه طريقة الرازي التي اعتمد عليها في عامة كتبه كالاربعين و نهاية العقول و المطالب العالية وغيرها من كتبه
فهؤلاء إذا قيل لهم اثبتوا واجب الوجود الذي هو قسيم الممكن عندهم والممكن عندهم يتناول القديم والحادث لم يمكنهم إثبات هذا الواجب إلا بإثبات ممكن يقبل الوجود والعدم وهذا لا يمكنهم اثباته إلا بإثبات الحادث الذي يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى والحادث يستلزم ثبوت القديم والقديم عندهم لا يجب أن يكون واجب الوجود بل قد يكون ممكن الوجود فهم لم يثبتوا لا واجب الوجود ولا ممكن الوجود الذي به يثبت واجب الوجود الذي ادعوه
ثم إذا قدر أنهم اثبتوا وجود واجبا فهم لم يقروا أنه واحد وأنه
(8/125)
مغاير للأفلاك إلا بدعوى أن الواجب لا يكون مركبا لأن المركب يفتقر إلى أجزائه وما افتقر إلى أجزائه لم يكن واجبا
ومعلوم أن هذا إنما ينفي وجوب واجب بمعنى انه منفرد ليس بصفة ولا موصوف وأن مثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا مع أن الغرض أنه ليس بموصوف ولكن هذا الواجب لم يقم دليل على وجوده بل ولا على امكانه وانما يقوم الدليل على امتناعه وألا فإذا قيل أن الموصوف مركب والمركب مفتقر إلى أجزائه فالافتقار هنا لا يجوز أن يراد به افتقار المفعول إلى فاعله والمعلول إلى علته الفاعله وانما يراد به انه يلزم من وجود المركب وجود أجزائه فيلزم من وجود الذات لمتصفه بصفات وجود الذات والصفات
وهذا لا محذور فيه وحقيقته انه يلزم من كون الشيء موصوفا كونه موصوفا ومن كونه مركبا كونه مركبا وهذا كلام صحيح وليس فيه ما يدل على امتناع ذلك وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
وقد تفطن الغزالي وغيره لبعض ما به يفسد كلامهم وقد تكلمنا على ذلك وعلى أنواع أخر مما يتبين به بطلان كلامهم
والمقصود هنا بيان أن طريقة أولئك خير من طريقة هؤلاء وهذا كله ما يبين أن كل من كان إلى الإسلام اقرب فإن عقلياته في الأمور الإلهية اصح من عقليات من كان على الإسلام ابعد منه إلا حيث يكون قد ابتع في عقلياته من هو عن الإسلام ابعد منه هذا كله بين
(8/126)
لمن تدبره ومن تدبر كلام هؤلاء وكلام هؤلاء وجد كلام متكلمي المسلمين خيرا من كلام متكلمي الفلسفة ومتبعيهم
وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا واتباعه لم يسلكها أرسطو وقدماء الفلاسفة
وقد قال ابن سينا في الاشارات ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجودا من ذاته فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن فإن صار أحدهما اولى فلحضور شيء أو غيبته فوجود كل ممكن الوجود من غيره
فقوله ما حقه الإمكان فليس يصير موجودا من ذاته قضية صحيحة وهي بينة بنفسها فإن الممكن هو الذي يكون وجوده بنفسه فإذا قيل مالا يكون وجوده بنفسه فوجوده من غيره كان هذا من القضايا البينة ولكن هذالا يعرف بل ولا يثبت إلا في الأمور الحادثة التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى كما اعترف هو وسلفه وسائر العقلاء بأن ما يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وقد ذكرنا ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع ولم يمكنهم اقامة دليل على الافتقار إلى الفاعل إلا في المحدث
واما استدلاله على ذلك بقوله فليس وجوده في ذاته أولى من
(8/127)
عدمه من حيث هو ممكن فهذا لا يحتاج اليه وهو متنازع فيه وهو لم يقم عليه دليلا بل يقال هو العدم باعتبار ذاته اولى به من الوجود بل هو باعتبار مجرد ذاته لا يستحق إلا العدم بل يقال هذا باطل فإن ما كان يفتقر إلى فاعل يفعله يعلم بالضرورة انه لا يوجد إلا بالفاعل الذي فعله واما عدمه فلا يفتقر فيه إلى شيء وكل ما كان يمكن وجوده وعدمه لا يكون وجوده إلا بموجد يوجده واما عدمه فلا يحتاج فيه إلى شيء
وقوله فإن صار أحدهما فلحضور شيء أو غيبته هو ايضا مما لا يحتاج اليه ولا بينه ولا هو مسلم بل هو باطل إذ كان الممكن إنما يفتقر إلى غيره إذا كان موجودا فأما ما كان مستمرا على العدم فلا يحتاج دوام عدمه إلى شيء وحقيقة كلامه انه أن صار الوجود فلحضور غيره وان صار العدم فلغيبة غيره فيكون إنما عدم لغيبة سببه وهذا كما قد عرف كلام ليس ببين وهو متنازع فيه بل هو باطل وعند التحقيق تبين أن عدم الغير مستلزم لعدمه ودليل على عدمه لا أنه الموجب لعدمه
وكلام القاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري وامثالهما في هذا
(8/128)
الباب هو أصرح في المعقول بل هو صواب وهذا خطأ وان كان أولئك مقصرين من وجه آخر حيث استدلوا على الواضح بالخفي
واما ابن سينا وأتباعه كالرازي وغيره فدليلهم باطل ولم يثبتوا وجودا واجبا بل تكلموا في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بكلام ابتدعوه خالفوا به سلفهم وسائر العقلاء ونقضوا به أصولهم التي قرروها بالعقل الصريح فإن ابا الحسين يقول الدليل على أن للمحدث محدثا هو أنه لا يخلو إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال اولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه
وان حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه
فقد بين أن الحادث أن كان واجب الحدوث بنفسه لم يختص بوقت دون وقت إذ الواجب بنفسه لا يختص بوقت دون وقت واذا لم يختص يجب أن لا يحدث في بعض الاوقات والتقدير انه حدث في بعض الاوقات
وأيضا فالتخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وان كان ممكن الحدوث بحيث يكون قد حدث وكان من الممكن أن لا
(8/129)
يحدث لم يكن بالحدوث اولى منه بعدم الحدوث لولا شيء اقتضى حدوثه
فقول أبي الحسين لم يكن وجود الحدوث أولى من عدم الحدوث لولا مقتض اقتضى الحدوث يبين أن رجحان وجود الحدوث على عدم الحدوث يفتقر إلى مقتض لترجيح الحدوث على عدم الحدوث
فكانت هذه الطريقة مع طولها خيرا من طريقة ابن سينا والرازي وأمثالهما لو كانت تلك صحيحة من وجهين أحدهما أن افتقار رجحان وجود المحدث على عدمه إلى مقتض أبين في المعقول من افتقار كل ممكن فإن الممكن الذي يقدر أنه ليس بمحدث قد نازع طوائف من الناس في ثبوته وفي إمكان كونه معلولا لغيره ونحو ذلك بل عامة العقلاء على امتناعه والذين يثبتونه يعترفون بامتناعه والعقل الصريح يدل على امتناعه ولم يقيموا دليلا على تحققه ولا على افتقاره إلى واجب ولا على إثبات واجب يكون قسيما له
(8/130)
وأما المحدث الذي كان بعد عدمه فلم ينازع هؤلاء ولا عامة العقلاء في أنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمقتض فكان الاستدلال بترجح وجود المحدث على عدمه أولى من الاستدلال برجحان وجود كل ممكن لو قدر أن الممكن أعم من المحدث فكيف إذا لم يكن الممكن إلا محدثا
الثاني انه قال لم يكن بالحدوث اولى منه بالعدم لولا شيء اقتضى حدوثه فبين أن رجحان الوجود على العدم لا يكون إلا بقتض لم يقل أن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يكون إلا بمرجح وهذا الذي قاله أبو الحسين متفق عليه بين الطوائف وهو بين في العقل ضروري فيه بخلاف ما قاله أولئك فإن فيه نزاعا واضطرابا وليس هو بينا في العقل بل الصواب يقتضيه
وكذلك أبو الحسين يقول دائما ما كان موجودا على طريق الجواز لم يكن بالوجود اولى منه بالعدم لولا فاعل وهذا كلام صحيح ولكن ابن سينا إنما اخذ هذه الطريق التي سلكها من كتب المعتزلة ونحوهم من متكلمي الإسلام وأراد تقريبها إلى مذهب سلفه الفلاسفة الدهرية ليصير كلامه في الالهيات مقاربا لجنس كلام متكلمي المسلمين ثم يأخذ المواضع التي خالف فيها المتكلمون للشرع
(8/131)
والعقل فيستدل بها على ما نازعوه فيه مما وافقوا فيه دين المسلمين وهذا كما فعلت اخوانه الباطنية مثل صاحب كتاب الاقاليد الملكوتية ونحوه فإنهم عمدوا إلى كل طائفة من طوائف القبلة فأخذوا منها ما وافقوهم فيه من المقدمات المسلمة التي غلط فيها أولئك فبنوا عليها لوازمها التي تخرج أولئك عن دين المسلمين وناظروا بذلك المعتزلة وأمثالهم كما قالوا للمعتزلة أنتم سلمتم لنا نفي التشبيه والتجسيم ونفيتم الصفات بناء على ذلك ثم أثبتم الاسماء الحسنى لله تعالى والتشبيه يلزم في الاسماء كما يلزم في الصفات فإذا قلتم انه حي عليم قدير لزم في ذلك من التجسيم والتشبيه نظير ما يلزم في إثبات الحياة والعلم والقدرة وأردتم إثبات اسماء بلا صفات وهذا ممتنع واذا كنتم قد وافقتم على نفي الصفات وهي لازمة للاسماء فنفي اللازم يقتضي نفي الملزوم فيلزمكم نفي الاسماء ولهذا نظائر في كلامهم
فابن سينا وجد في كتب متكلمي المسلمين من المعتزلة وأشباههم أن تخصيص أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمخصص كما في تخصيص الحدوث بوقت دون وقت وهذا مما جعله هؤلاء اصلا لهم في إثبات العلم بالصانع
(8/132)
فأخذ ابن سينا كلام هؤلاء ونقله إلى مادة الإمكان والوجوب وأن الممكن لا يترجح إلا بمرجح لئلا يناقض قوله في قدم العالم ويقول إنه معلول علة قديمة مستلزمة له ونسي ما قرره في المنطق هو وسلفه من أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثا وأن الدائم الأزلي والأبدي لا يكون إلا ضروريا واجبا لا يكون ممكن الوجود والعدم وهذا الذي ذكروه في المنطق متفق عليه بين العقلاء
وأخذ قولهم الضعيف في أن القادر المختار يحدث الحوادث بلا سبب حادث جعله له حجة على قدم العالم بناء على مطالبتهم بسبب الحدوث وكان ما يلزمه ويبين فساد قوله أعظم مما يلزمهم ويبين فساد قولهم فإنه إذا كان العالم صادرا عن علة مستلزمة له والعلة المستلزمة لا يتأخر عنها شيء من معلولها لزم أن لا يحدث في العالم شيء من الحوادث أو أن تكون الحوادث حدثت بلا محدث وفي ذلك من الترجيح بلا مرجح ما هو أعظم مما بنوا عليه وجود الواجب فيلزمهم على قولهم بطلان ما أثبتوا به واجب الوجود وبطلان الاستدلال بالحدوث على المحدث وبالممكن على الواجب وأن تكون الحوادث حدثت بلا محدث أصلا
(8/133)
وذلك أعظم من قول أولئك حدثت عن قادر مختار بدون سبب حادث وهؤلاء أصل قولهم إن العلة التامة يقارنها معلولها في الزمان كما جعلوا الفلك القديم الأزلي عندهم مقارنا لعلته في الزمان وقابلوا بذلك قول المتكلمين الذين قالوا بل المؤثر التام يتأخر عنه أثره
والصواب أن المؤثر التام يتعقبه أثره لا يقارنه ولا يتراخى عنه كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس 82
ولهذا يقال كسرته فانكسر وقطعته فانقطع وطلقت المرأة فطلقت وعتقت العبد فعتق وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب تعالى لأن ما كونه لا يكون إلا بعد تكوينه لا مع التكوين
وهم إذا قالوا إن المكون مع التكوين لزمهم أن لا يحدث شيء من العالم وهو خلاف المشاهدة فإن الأول إذا كان علة تامة والعلة التامة يقارنها معلولها وكل ما ساواه معلوله كان الجميع قديما
ولزمهم أيضا أن كل ما حدث يحدث عند حدوثه تمام علل لا نهاية لها وذلك في آن واحد وذلك ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء
(8/134)
وقد ذكر ابن سينا أن هذه الطريقة التي سلكها في إثبات واجب الوجود ولوازمه هي غير طريقة سلفه الفلاسفة بل هي طريقة محدثة وهذا مما يبين أنه ركبها مما أخذه عن المعتزلة ونحوهم من متكلمة الإسلام ومن أصول سلفه الفلاسفة والذي أخذه عن متكلمة الأسلام أقرب إلى الحق مما أخذه عن سلفه في ذلك لأنه أخذ عنهم أن تخصيص أحد الشيئين المتماثلين المحدثين دون الآخر لا بد له من مخصص وهذا حق
فأخذ من ذلك أن تخصيص الممكن بالوجود لا بد له من موجب وهذا حق لكن قد ينازعونه في أن الممكن هل يمكن أن يكون قديما أم لا فإنهم وعامة العقلاء يقولون الممكن لا يكون إلا محدثا وهو وسلفه يسلمون لهم ذلك
وأيضا فإن أبا الحسين وأمثاله يقولون الموجود على طريق الجواز ليس بالوجود أولى منه بالعدم لولا الفاعل ويقولون إنه يستحيل أن يوجد القديم بالفاعل لأن المعقول من الفاعل هو المحضل للشيء عن عدم وليس للقديم حال عدمية
ولهذا يقولون إن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فاستحال عدمه
(8/135)
وضم ابن سينا وأتباعه إلى ذلك أن الممكن لا يكون معدوما إلا بسبب وهذا مما نازعه فيه الجمهور حتى إخوانه الفلاسفة نازعوه في ذلك
وهذا الذي ذكرته من أن ابن سينا أخذ هذه الطريق عن المتكلمين رأيته بعد ذلك قد ذكره ابن رشد الحفيد ذكر في كتابه الذي سماه تهافت التهافت فإن أبا حامد الغزالي ذكر في كتابه المسمى بتهافت الفلاسفة مسألة في بيان عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم
قال فنقول الناس فرقتان فرقة أهل الحق وقد رأوا أن العالم حادث وعلموا ضرورة أن الحادث لا يوجد بنفسه فافتقر إلى صانع فعقل مذهبهم في القول بالصانع وفرقة أخرى هم الدهرية وقد رأوا العالم قديما ثم كما هو عليه ولم يثبتوا صانعه ومعتقدهم مفهوم وإن كان الدليل يدل على بطلانه
(8/136)
فأما الفلاسفة فقد رأوا العالم قديما ثم أثبتوا مع ذلك له صانعا
قال وهذا المذهب بوضعه متناقض لا يحتاج إلى إبطال
قال ابن رشد الحفيد بل مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد أكثر من المذهبين جميعا وذلك أن الفاعل قد يلفى صنفين صنف يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه وهذا إذا تم كونه استغنى عن الفاعل كوجود البيت عن البناء والصنف الثاني إنما يصدر عنه فعل فقط يتعلق بمفعول لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به وهذا الفاعل يخصه أن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول أعني أنه إذا عدم ذلك الفعل عدم المفعول وإذا وجد ذلك الفعل وجد المفعول أي هما معا وهذا الفاعل أشرف
(8/137)
وأدخل في باب الفاعلية من الأول لأنه يوجد مفعوله ويحفظه والفاعل الآخر يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد وهذه حال المحرك مع الحركة والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة والفلاسفة لما كانوا يعتقدون أن الحركة فعل الفاعل وأن العالم لا يتم وجوده إلا بالحركة قالوا إن الفاعل للحركة هو الفاعل للعالم وأنه لو كف فعله طرفة عين عن التحريك لبطل العالم فعملوا قياسهم هكذا العالم فعل أو شيء وجوده تابع لفعل وكل فعل لا بد له من فاعل موجود بوجوده فأنتجوا من ذلك أن العالم له فاعل موجود بوجوده فمن لزم عنده أن يكون الفعل الصادر عن فاعل العالم حادثا قال العالم حادث عن فاعل لم يزل قديما وفعله قديم أي لا أول له ولا آخر لا أنه موجود قديم بذاته كما تخيل لمن يصفه بالقدم
قلت ولقائل أن يقول هذا الذي ذكره ابن رشد عن الفلاسفة أراد به تقرير طريقة أرسطو وأتباعه الذين استدلوا بالحركة على وجود المحرك الذي لا يزال محركا غير متحرك ويسمونه الأول
(8/138)
وهو الواجب الوجود عند ابن سينا وأتباعه
وأما من قبل ابن سينا من الفلاسفة فلا يخصونه بواجب الوجود إذ كل قديم فهو عندهم واجب الوجود فلا يخصه بواجب الوجود إلا من يقول لا قديم إلا هو وليس هذا قول أرسطو وأتباعه وإن كان هو مذهب جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم
وكلام أرسطو وأتباعه باطل من وجوه أحدها أن هؤلاء لم يجعلوا الأول فاعلا للحركة الفلكية إلا من حيث هو محبوب معشوق يتشبه به الفلك لا من حيث هو مبدع محدث للحركة ومعلوم أن المحبوب المتحرك إليه غيره بالمحبة له والشوق لا سيما إذا كان محبا للتشبه به لا لذاته كما يتشبه المأموم بإمامه لا يكون هو المبدع المحدث للحركة بمجرد ذلك وإنما يكون علة غائية لا علة فاعلية فلم يثبتوا الواجب الوجود بنفسه فاعلا لشيء من الحوادث كما قد بسط في موضعه
وأرسطو وأتباعه معترفون بأن الأول عندهم لا يفعل شيئا ولا يعلم شيئا ولا يريد شيئا
الوجه الثاني أنه بتقدير أن يثبتوه محدثا مبدعا للحركة التي لا قوام
(8/139)
للفلك والعالم إلا بها كما قد يدعي ذلك ابن رشد وأمثاله فإنما يكون فاعلا لما هو شرط في وجود العالم لا يكون فاعلا لنفس جواهر العالم وسائر أعراضه بل هو فاعل لعرض واحد من أعراضه وهي الحركة التي زعموا أنه لا قوام له بدونها وهذا من أبعد الأشياء عن كونه مبدعا للعالم لا سيما إذا جعلوا فعله للحركة من جهة كونه محبوبا فهو بمنزلة كون كل محبوب يبدع المحب الذي لا يقوم بدون تلك المحبة بل بمنزلة كون الإمام المقتدى به مبدعا للمؤتم به من جهة كونه يحتاج إلى الائتمام به
ومعلوم أن هذا لا يقوله عاقل بل هذا يتضمن أن واجب الوجود كالفلك عند أرسطو وأتباعه يفتقر إلى شيء بائن عنه وذلك يدل على فساد قولهم فما قاله أرسطو وأتباعه من الحق يدل على فساد قول المتأخرين وما قاله المتأخرون من الحق في الواجب يدل على فساد قول أرسطو وأتباعه
الوجه الثالث أن كون العالم لا يمكن وجوده بدون الحركة أمر لا دليل عليه بل هو باطل وأقصى ما يمكن أن يقال يمكن وجوده لكن يكون ناقصا ومعلوم أن هذا حال سائر المخلوقات التي لها صفات كمال إذا عدم بعض صفاتها إنما يلزم نقصها لا يلزم عدمها
(8/140)
الوجه الرابع أنه ادعى أن هذا الفاعل أشرف من الفاعل الذي فعل البناء ونحوه
فيقال إن ادعيت أن ما يفعل حركة في غيره أشرف مما يفعل التأليف القائم به فهذا غير مسلم لا سيما إذا كان فعل ذلك بجهة كونه محبوبا أو مؤتما به وهذا مبدع لنفس التأليف القائم بغيره ومعلوم أن حاجة المؤلف إلى التأليف القائم به اعظم من حاجة المتحرك إلى الحركة القائمة به وان تغير ذات المؤلف إذا انتقض تأليفه ابين من انتقاض ذلك المتحرك إذا زالت حركته فإذا جعلتم فاعل الحركة فاعلا ففاعل التأليف اولى أن يكون فاعلا وهذا امر مشهود ليس من جمع الأجزاء المتفرقه وجعلها شيئا واحدا كمن حرك الشيء الساكن لاسيما إذا كان تحريكه كتحريك الخبز للجائع والماء للعطشان والمرأة للرجل والرجل للمرأة فكيف إذا كان كتحريك الأمام للمؤتم به
وان قال أن ذلك الفاعل للحركة يفعلها دائما وفاعل التأليف لا يفعله إلا حال إحداثه وهذا هو الوجه الذي قصده
فيقال له ليس في الشاهد امر يفعل الحركة التي لا قوام للمتحرك إلا بها دائما فقولك أن مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد اكثر من
(8/141)
المذهبين وذلك أن الفاعل قد يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه وقد يصدر عنه فعل يتعلق بمفعول لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به وهذا الفاعل يخصه أن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول وهذه حال المحرك مع الحركة والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة
فيقال لك ليس فيما نشاهده شيء من هذا الصنف الثاني وانما الفاعل المشاهد هو من النمط الأول
وان قلت أن النفس تحرك البدن بهذا الاعتبار
فيقال لك كون النفس وحدها هي المحركة للبدن دون أن يكون هناك سبب للحركة امر لو كان حقا لم يكن من المشاهدات
وأيضا فالنفس لا يقول عاقل انها هي الفاعله للبدن
وأيضا فكل من النفس والبدن شرط في حركة الآخر
الوجه الخامس أن يقال نحن نسلم أن الفاعل الذي الذي يفتقر اليه المفعول دائما اكمل ممن لا يفتقر اليه إلا حال حدوثه لكن إذا قيل أن المخلوقات مفتقرة إلى الخالق دائما كان هذا قولا صحيحا وليس هذا نظير ما ذكرته من الصنفين بل لو قيل أنه يفعل تأليف العالم دائما وان تأليفه لا يقوم إلا به كان هذا خيرا من قول سلفك انه يفعل حركة العالم دائما لو كانوا قائلين بذلك فكيف وحقيقة قولهم انه لا يفعل شيئا
(8/142)
فأنت لو جعلته من الصنف الأول من الفاعلين الذين يفعلون تأليف المؤلفات كان خيرا من أن تجعله فاعلا للحركات لكن الفاعل الدائم للفعل الذي يحتاج إليه المفعول دائما أكمل ممن لا يفتقر إليه المفعول إلا في حال حدوثه فإذا جعلته فاعلا للتأليف وهو محتاج إليه دائما كان خيرا من أن تجعله فاعلا للحركة فكيف ولم تجعلوه فاعلا إلا من جهة كونه متشبها به فقط
السادس أن يقال العالم ليس فيه مخلوق يشهد انه فاعل لشيء منفصل عنه من كل وجه لا عين ولا صفه فإن فاعل التأليف في غيره كالبناء والخياط و الكاتب ونحوهم غاية فعله تأليف تلك الأجسام مع أن كثيرا من متكلمة الاثبات كالأشعري ومن وافقه يقولون ليس فعله إلا ما قام به في محل قدرته وما خرج عنه ليس فعله
والقائلون بالتولد يقولون بل ذلك التأليف فعله والقول الوسط أن التأليف حادث بسبب فعله القائم به وبسبب ما في الأجزاء المؤلفة من قبول التأليف وحفظه ولهذا لم تكن الأجزاء محتاجة إلى الإنسان المحدث لتأليفها بعد التأليف لأنها تمسك التأليف بما فيها من اليبس
(8/143)
والقوة التي جعلها الله فيها وتلك لا حاجة إليه فيها فالذي احتيج إليه إنما هو مجرد فعله القائم به فقط
وأما مبدع العالم فهو المبدع لأعيانه وأعراضه وحركاته فليس له نظير إذ هو سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
وأما ما ذكره هو من إثبات مخلوق محدث لحركة تقوم بغيره لا يقوم إلا بها والمخلوق يحدثها دائما فليس هذا بمشاهد في الفاعلين والمثل الذي ضربه لقوله قولهم وإن لم يكن مطابقا وليس في المشاهدات ما يكون فعله كفعل الرب تعالى ولا فعل كفعله فقولهم أقرب من قوله لأنه موجود في العالم وهو أقرب إلى الفاعل المطلق
فقوله إن الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحفظه أشرف وأدخل في باب الفاعلية من الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد كلام صحيح لكن ليس هو مطابقا لقول إخوانه الفلاسفة فإنهم لم يثبتوا أنه فاعل لجواهر العالم ولأعراضه بل غاية ما جعلوه فاعلا للحركة ثم لم يجعلوه فاعلا لها إلا من جهة كونه
(8/144)
علة غائية لكون الفلك يقصد التشبه به وهذا القدر لا يوجب أن يكون هو الفاعل
وأما أولئك فأثبتوا أنه فاعل لجواهر العالم ثم من قال من المتكلمين المعتزلة ونحوهم أن المحدثات لا تحتاج إلى الفاعل المحدث إلا في حال الحدوث لا في حال البقاء فقوله مع فساده أرجح من قول الفلاسفة لكونهم أثبتوا فاعلا حقيقة
فأما قول أهل السنة وجماهير أهل الملة الذين يقولون أن المخلوقات محتاجة إلى الخالق في حال الحدوث وحال البقاء فهذا أكمل من قولهم من كل وجه واذا ضم إلى ذلك انه إلههم الذي يعبدونه يحبونه وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا تبين ذلك أن العالم محتاج اليه من جهة كونه ربا فاعلا ومن جهة كونه إلها محبوبا معبودا
وفي هذا من التفاضل بينه وبين قول سلفه الفلاسفة ما لا يخفي على أضعف الناس نظرا
(8/145)
قال الغزالي فإن قيل نحن إذا قلنا للعالم صانع لم نرد به فاعلا مختارا يفعل بعد أن لم يكن يفعل كما يشاهد في أصناف الفاعلين من الخياط والنساج والبناء بل نعني به علة العالم ونسميه المبدأ الأول على معنى أنه لا علة لوجوده وهو علة لوجود غيره فإن سميناه صانعا فبهذا التأويل وثبوت موجود لا علة لوجوده يقوم عليه البرهان القطعي على قرب فإنا نقول العالم موجود والموجود إما أن يكون له علة واما أن يكون لا علة له فإن كان له علة فتلك العلة لها علة ام لا علة لها
وهكذا القول في علة العلة فإما أن تتسلسل إلى غير نهاية وهو محال واما أن تنتهي بالاخر إلى علة اولى لا علة لوجودها فنسميه المبدأ الأول
(8/146)
وان كان العالم موجودا بنفسه لا علة له فقد ظهر المبدأ الأول فإنا نعن به إلا موجودا لا علة له هو ثابت بالضرورة
نعم لا يجوز أن يكون المبدأ الأول هو السموات لأنها عدد ودليل التوحيد يمنعه فيعرف بطلانه بنظر في صفة المبدأ ولا يجوز أن يقال انه سماء واحد أو جسم واحد أو شمس أو غيره لانه جسم والجسم مركب من الهيولي والصورة والمبدأ الأول لا يجوز أن يكون مركبا وذلك يعرف بنظر ثان
والمقصود أن موجودا لا علة لوجوده ثابت بالضرورة والاتفاق وانما الخلاف في الصفات وهو الذي نعنيه بالمبدأ الأول
قال الغزالي والجواب من وجهين أحدهما انه يلزم على مساق مذهبكم أن تكون اجسام العالم قديمة لذلك لا علة لها وقولكم أن بطلان ذلك يعلم بنظر ثان فيبطل ذلك عليكم في
(8/147)
مسألة التوحيد ونفي الصفات بعد هذه المسألة
الوجه الثاني وهو الخاص بهذه المسألة هو أن يقال نثبت تقديرا أن هذه الموجودات لها علة ولكن لعلتها علة ولعلبه العلة علة كذلك وهكذا إلى غير نهاية
وقولكم انه يستحيل إثبات علل لا نهاية لها لا يستقيم منكم فإنا نقول عرفتم ذلك ضرورة بغير واسطة أو عرفتموه بواسطة لا سبيل إلى دعوى الضرورة وكل مسلك ذكرتموه في النظر يبطل عليكم بتجويز حوادث لا أول لها واذا جاز أن يدخل في الوجود مالا نهاية له فلم يبعد أن يكون بعضها علة لبعض وينتهي من الطرف الآخر إلى معلول لا معلول له ولا ينتهي في الجانب الآخر إلى علة لا علة لها كما أن الزمان
(8/148)
السابق له آخر وهو الان ولا أول له
فإن زعمتم أن الحوادث الماضية ليست موجودة معا في الحال ولا في بعض الاحوال والمعدوم لا يوصف بالتناهي وعدم التناهي فيلزمكم النفوس البشرية المفارقة للأبدان فإنها لا تفنى عندكم والموجود المفارق للبدن من النفوس لا نهاية لأعدادها إذ لم تزل نطفة من انسان وانسان من نطفة إلى غير نهاية ثم كل انسان مات فقد بقى نفسه وهو بالعدد غير نفس من مات قبله ومعه وبعده وان كان الكل بالنوع واحدا فعندكم في الوجود في كل حال نفوس لا نهاية لأعدادها
قال فإن قيل ليس لبعضها ارتباط ببعض ولا ترتيب لها لا بالطبع ولا بالوضع وانما نحيل نحن موجودات لا نهاية لها إذا كان لها ترتيب بالطبع كالاجسام فإنا مرتبة بعضها فوق
(8/149)
بعض أو كان لها ترتيب بالطبع كالعلل والمعلولات وأما النفوس فليست كذلك
قلنا هذا تحكم في الوضع ليس طرده أولى من عكسه فلم احلتم أحد القسمين دون الآخر وما البرهان المفرق
وبم تنكرون على من يقول أن هذه النفوس التي لا نهاية لها لا تخلو عن ترتيب إذ وجود بعضها قبل البعض فإن الايام والليالي الماضية لا نهاية لها فإذا قدرنا وجود نفس واحدة في كل يوم وليلة كان الحاصل في الوجود الان خارجا عن النهاية واقعا على ترتيب في الوجود أي بعضها بعد البعض
والعلة غايتها أن يقال انها قبل المعلول بالطبع كما يقال انها فوق المعلول بالذات لا بالمكان فإذا لم يستحل ذلك في القبل الحقيقي الزماني فينبغي أن لا يستحيل في القبل الذاتي الطبيعي وما بالهم لم يجوزوا اجساما بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل البعض بالزمان إلى غير النهاية وهل هذا إلا تحكم بارد لا أصل له
(8/150)
قال فإن قيل البرهان القاطع على استحالة علل إلى غير النهاية أن يقال كل واحدة من آحاد العلل ممكنة في نفسها أو واجبة فإن كانت واجبة لم تفتقر إلى علة وان كانت ممكنة فالكل موصوف بالإمكان وكل ممكن فيفتقر إلى علة زائدة على ذاته فيفتقر الكل إلى علة زائدة على ذاته فيفتقر الكل إلى علة خارجة عنها
قلنا لفظ الممكن والواجب لفظ مبهم إلا أن يراد بالواجب ما لا علة لوجوده ويراد بالممكن ما لوجوده علة فإن كان المراد هذا فلنرجع إلى هذه اللفظة ونقول كل واحد ممكن على معنى أن له علة زائدة على ذاته والكل ليس بممكن على معنى انه ليس له علة زائدة على ذاته خارجة منه وان أريد بلفظ الممكن غير ما أردناه فهو ليس بمفهوم
(8/151)
قال فإن قيل فهذا يؤدي إلى أن يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود وهو محال
قلنا أن أردتم بالواجب والممكن ما ذكرناه فهو نفس المطلوب فلا نسلم انه محال وهو كقول القائل يستحيل أن يتقوم القديم بالحوادث والزمان عندهم قديم وآحاد الذوات حادثة وهي ذات أوائل والمجموع لا أول له فقد تقوم مالا أول له بذوات أوائل وصدق ذوات أوائل على الآحاد ولم يصدق على المجموع
وكذلك يقال على كل واحد أن له علة ولا يقال للمجموع علة وليس كل ما صدق على الآحاد يلزم أن يصدق على المجموع إذا يصدق على كل واحد انه واحد وأنه بعض وأنه
(8/152)
جزء ولا يصدق على المجموع وكل واحد حادث بعد أن لم يكن أي له أول والجموع عندهم ما ليس له أول
فتبين أن من يجوز حوادث لا أول لها وهي صور العناصر الاربعة والمتغيرات فلا يتمكن من انكار علل لا نهاية لها ويخرج من هذا انه لا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول لهذا الاشكال وخرج قولهم إلى التحكم المحض
فإن قيل الدورات ليست موجودة في الحال ولا صور العناصر وانما الموجود منها صورة واحدة بالفعل ومالا وجود له لا يوصل بالتناهي وعدم التناهي إلا إذا قدر في الوهم وجودها ولا يتعذر ما يقدر في الوهم فإن كانت المقدرات بعضها علل لبعض فالإنسان قد يفرض ذلك في وهمه وانما الكلام في الموجود في الاعيان لا في الاذهان لا يبقى إلا نفوس الاموات وقد ذهب
(8/153)
بعض الفلاسفة إلى انها كانت واحدة أزلية قبل التعلق بالابدان وعند مفارقة الابدان تتحد فلا يكون فيه عدد فضلا عن أن يوصف بأنه لا نهاية لها وقال آخرون النفس تابع للمزاج وانما معنى الموت عدمها ولا قوام لها بجوهرها دون الجسم فإذن لا وجود في النفوس إلا في الاحياء والاحياء الموجودن محصورون ولا تنتهي النهاية عنهم والمعدومون لا يوصفون اصلا بوجود النهاية ولا بعدمها إلا في الوهم إذا فرضوا موجودين
قال والجواب أن هذا الاشكال في النفوس اوردناه على ابن سينا والفاربي والمحققين منهم إذا حكموا بأن النفس جوهر قائم بنفسه وهو اختيار أرسطاليس والمعتبرين من الاوائل ومن عدل
(8/154)
عن هذا المسلك فيقول هل يتصور أن يحدث شيء يبقى ام لا فإن قالوا لا فهو محال وان قالوا نعم قلنا إذا قدرنا كل يوم حدوث شيء وبقاءه اجتمع إلى الان لا محالة موجودات لا نهاية لها فالدورة وان كانت منقضية فحصول موجود فيها يبقى ولا ينقضى غير مستحيل وبهذا التقدير يتقرر الاشكال ولا غرض في أن يكون ذلك الباقي نفس آدمي أو جني أو شيطان أو ملك أو ما شئت من الموجودات وهو لازم على كل مذهب لهم إذا اثبتوا دورات لا نهاية لها
قلت أبو حامد جعل الطريقة الصحيحة في إثبات الصانع الاستدلال بالحدوث على المحدث وقال آنا نعلم بالضرورة أن الحادث لا يوجد بنفسه فافتقر إلى صانع وهذا موافق لما ذكره حذاق آهل النظر بخلاف ما ذهب أليه من ذهب من المعتزلة ومن وافقهم كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما ممن جعل هذه المقدمة نظرية
(8/155)
وأخذ أبو حامد يطعن على طريقة ابن سينا وامثاله في إثبات واجب الوجود بوجهين
أحدهما أن غاية هذه الطريقة إثبات موجود واجب ولكن لا يمكن نفي كونه جسما من الأجسام إلا بطريقهم في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات وتلك مبانها على نفي التركيب وقد بين أبو حامد فساد كلامهم في هذا
وهذا الوجه الذي ذكره أبو حامد أحسن فيه وكنت قد كتبت على توحيد الفلاسفة ونفيهم الصفات كلاما بينت فيه فساد كلامهم في طريقة التركيب قبل أن أقف على كلام أبي حامد ثم رأيت أبا حامد قد تكلم بما يوافق ذلك الذي كتبته
ومن هنا يعلم أن ابن سينا لا يمكنه بهذه الطريقة افساد مذهب الفلاسفة الطبيعيين الذين يقولون بأن الفلك واجب الوجود بنفسه وان كان يمكن افساد قولهم بطرق أخرى
ولهذا ظن كثير من المتأخرين أن ابن سينا موافق للدهرية
(8/156)
المحضة الذين يقولون أن العالم واجب الوجود بذاته وسيأتي ذكر ذلك أن شاء الله تعالى
الوجه الثاني الذي أبطل به أبو حامد طريقهم انها مبنية على ابطال علل ومعلولات لا نهاية لها وقد ألزمهم انهم لا يمكنهم ابطال ذلك مع قولهم بثبوت حوادث لا تتناهى كما قد ذكره
وابن سينا والرازي والآمدي إنما اثبتوا واجب الوجود بناءا على هذه المقدمة فكان ما ذكره أبو حامد ابطالا لطريق هؤلاء كلهم والآمدي وافق أبا حامد على ضعف الحجة في نفي النهاية عن العلل فلا جرم لم يقرر في كلامه إثبات واجب الوجود بل قرره في كتاب الافكار بطريق افسدها في كتاب رموز الكنوز وقد بينا بطلان اعتراضه في غير هذا الموضع
وليس فيما ذكره أبو حامد والامدي ابطال لطريقة المعتزلة ومن وافقهم على أن تخصيص الحدوث بأحد الزمانين لا بد له من مخصص فإن تلك لا تفتقر إلى ابطال التسلسل في العلل والمعلولات
ومدار كلام أبي حامد على أنه لا فرق بين نفي النهاية في الحوادث ونفيها في العلل وأنتم تجوزونها في الحوادث فجوزوها في العلل
والناس لهم في هذا المقام قولان أحدها قول من يبطل عدم
(8/157)
النهاية فيهما جميعا مثل كثير من أهل الكلام المعتزلة ومن وافقهم ثم من هؤلاء من يبطل عدم النهاية في الأزل والابد كقول جهم العلاف وأكثرهم يبطلونها في الأزل دون الابد لأن من دين المسلمين دوام نعيم الجنة لا إلى نهاية ولهذا قال جهم بانقاطع نعيم الجنة وقال العلاف ببطلان حركاتهم
والثاني قول من يبطل عدم النهاية في الفاعلين والعلل دون الحوادث والاثار كما هو قول جمهور الفلاسفة من القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه وهو قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والاشعرية وهو قول جمهور أهل الحديث وأئمة السنة
وما ذكره أبو حامد من الكلام على بطلان حجة من ينفي عدم النهاية وهو انه لا يلزم أن ما صدق على الآحاد صدق على الجميع كما قاله هؤلاء في الحوادث بخلاف ما قاله أبو الحسين البصري وغيره من أهل الكلام من أنه ما صدق على الآحاد صدق على الجميع ثم سوى أبو حامد بين الامرين
وقد تكلمنا في غير هذا الموضع على الفرق بين الامرين وهو أن الوصف إذا ثبت للجميع كثبوته للأفراد كان حكم الجميع حكم أفراده وان لم يكن ثبوته للجميع كثبوته للأفراد لم يلزم أن يكون
(8/158)
حكمها حكمه فالأول مثل وصفها بالوجود أو العدم أو الوجوب أو الإمكان أو الامتناع فإذا قدر اشياء لا تتناهى كل منها موجود فالكل ايضا موجود
ثم أن قدر وجود كل منها مقارنا للاخر كان وجود الجميع مقارنا وان قدر وجودها متعاقبة كان وجود الجملة متعاقبا واذا قدرت كل منها معدوما فالكل ايضا معدوم واذا قدرت عدم كل منها مع عدم الآخر كانت معدومه معا واذا قدرت عدم كل منها بعد الآخر كانت متعاقبة في العدم
فالحوادث المتعاقبة التي تعدم بعد وجودها كالحركات وجودها متعاقب وعدمها متعاقب فالجملة ايضا موجودة على التعاقب معدومة على التعاقب واذا قدر اشياء لا تتناهى ممتنعة فالجملة ممتنعة ولو قدر اشياء لا تتناهى واجبة فالجملة ايضا واجبة فكذلك إذا قدر امور لا تتناهى ليس لشيء منها وجود من نفسه بل كل منها مفتقر إلى غيره فوصف الافتقار والحاجة والامكان يجب تناوله للجملة كتناوله لكل من أفرادها كما يتناول وصف الوجود والعدم والوجوب والامتناع للجملة بحسب تناوله للافراد فلا تكون الجملة إلا مفتقرة محتاجة ممكنة لا تكون معدومة مع وجود كل منها
(8/159)
ولا تكون واجبة بنفسها مع إمكان كل منها فإن اجتماعها عرض مفتقر إلى الممكنات فهو أولى بالإمكان منها
ولو قال قائل فكيف تصفونها بالامتناع مع كون كل منها ممكنا أليس في هذا وصف بالامتناع للجملة دون الأفراد
قيل له نحن لا نقدر وجود علل ومعلولات لا تتناهى في الخارج ثم نحكم عليها بالامتناع فإن هذا جمع بين النقيضين فإن كونها موجودة في الخارج ينافي امتناعها ولكن نقدر ذلك في الذهن ثم نحكم على هذا المقدر في الذهن بامتناعه في الخارج كالجمع بين النقيضين وأمثاله من الممتنعات بخلاف ما إذا قدر وجودها في الخارج وكل منها ممكن
وقيل أن الجملة واجبة بنفسها فهذا هو الممتنع كما أو وصفها مع ذلك بالامتناع ممتنع وتقديرها في الذهن لا يكفي في وجود الممكنات لأن الممكن لا يوجد إلا بما هو موجود في الخارج لا مقدر في الذهن وهذا بخلاف ما إذا قدر أشياء لا تتناهى كل منها بعد الآخر لم يلزم أن تكون الجملة بعد غيرها كالحوادث المستقبلة في الجنة فإن كلا منها بعد غيره وليست الجملة بعد غيرها بل لا تزال
(8/160)
إلى غير نهاية وهذا لأن تقديرها غير متناهية يستلزم أن لا يكون بعدها شيء
فحينئذ إذا قيل بعد كل واحد غيره كان التقدير أن الجملة ليس لها بعد ولكل واحد من أجزائها بعد
ومعلوم أن مثل هذا حكم الجملة فيه ليس حكم الأفراد وكذلك إذا قدر انه لا أول للجملة ولكل منها أول
وكذلك إذا قيل أن الجملة كل وجميع مجموع أو مستدير أو مربع أو مثلث أو حيوان أو انسان لم يلزم أن يكون كل من أجزائها كلا ولا مدورا ولا حيوانا
ولكن الذي يبين فساد مذهب هؤلاء الفلاسفة أن يقال قد علم بصريح العقل واتفاق العقلاء امتناع التسلسل في العلل واما وجود حوادث لا تتناهى فلا ننازعهم فيه مطلقا إذ كان أئمة السنة يقولون بذلك في أفعال الرب وأقواله
لكن تبين خطؤهم من وجوه
أحدها أن قولهم يتضمن وجود حوادث لا تتناهى في آن واحد وهذا محال باتفاقهم مع جماهير العقلاء بل يتضمن وجود تمام علل
(8/161)
ومعلولات لا تتناهى في آن واحد ووجود ممكنات لا تتناهى في آن واحد وهذا مما يصرحون بامتناعه مع قيام الدليل على امتناعه ويتضمن امتناع وجود حادث ووجود الحوادث بلا مؤثر تام وكل هذا ممتنع
وذلك أن أصلهم أن المعلول يجب مقارنته لعلته التامة في الزمان لا يتعقبها ولا يتراخى عنها فيكون الاثر مع التأثير التام
وكثير من المتكلمين يقولون يجوز أن يتراخى والصحيح قول ثالث وهو أن يتعقبه لا يكون معه ولا متراخيا عنه وذلك يستلزم حدوث كل ما سوى الله تعالى
وأما على قولهم فيلزم أن لا يحدث شيء في الوجود بل يكون كل ممكن قديما أزليا لوجود علته التامة في الأزل ويلزم أن لا يحدث شيء لامتناع حدوث الحادث بدون سبب حادث والاول يمتنع عندهم أن يحدث عنه شيء ويلزم انه كلما حدث حادث حدثت حوادث لا نهاية لها فإنهم يقولون لا يحدث حادث حتى تحدث تمام علته
فيقال وذلك التمام حادث فيحتاج أن يحدث معه تمام علته وهلم جرا فيلزم وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد وهذا ممتنع كامتناع علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد إذ لا فرق بين امتناع التسلسل في ذات العلة وفي تمامها إذ كانت لا تصير علة بالفعل إلا إذا كانت تامة
(8/162)
ولهذا قالوا لا يحدث حادث إلا بسبب حادث فلو حدث عن القديم حادث لافتقر إلى حادث والقول في الثاني كالقول في الأول فيلزم أن لا يحدث شيء
وهذا بعينه يلزمهم في كل حادث فإنه لا يحدث حتى يحدث حادث هو تمام مؤثره وذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث حادث معه فيلزم أن لا يحدث شيء
فالمتكلمون قالوا القادر يفعل بدون سبب حادث فقالوا هذا محال وقالوا تحدث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا فاعل محدث لها فكان قولهم أشد بطلانا
الوجه الثاني أن وجود حوادث لا أول لها إنما يمكن في القديم الواحد فإذل قدر قديمان كل منهما تقوم به حوادث لا تتناهى كما يقولونه في الافلاك فهذا ممتنع لأن كلا منهما لا بداية لحركاته ولا نهاية مع أن أحدهما أكثر من الآخر وما كان أكثر من غيره كان ما دونه أقل منه فيلزم أن يكون مالا أول له ولا آخر يقبل أن يزاد عليه ويكون شيء آخر أكثر منه وهذا ممتنع كما امتنع مثل ذلك في الابعاد
الثالث أن قولهم يقتضي أن يكون فعل الفاعل مقارنا له أزلا وأبدا وأن يكون القديم الازلي مفعولا ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مما يعلم فساده بصريح العقل واتفاق العقلاء
وقد أورد ابن رشد على أبي حامد في هذا كلاما بعضه من باب
(8/163)
الاسولة اللفظية وبعضه من باب الاسولة المعنوية فقال عن الدليل الذي ذكره لهم في إثبات العلة الأولى هذا كلام مقنع غير صحيح فإن اسم العلة يقال باشتراك الاسم على العلل الاربع اعني الفاعل والصورة والهيولي والغاية وكذلك لو كان هذا جواب الفلاسفة لكان جوابا مختلا فإنهم كانوا يسألون عن أي علة ارادوا بقولهم أن العالم له علة اولى فإن قالوا أردنا بذلك السبب الفاعل الذي فعله لم يزل ولا يزال ومفعوله هو فعله لكان جوابا صحيحا على مذهبهم على ما قلناه غير معترض عليه ولو قالوا أردنا به السبب المادي لكان قولهم معترضا
وكذلك لو قالوا أردنا به السبب الصوري لكان معترضا أن فرضوا صورة العالم قائمة به
وان قالوا أردنا به صورة مقارنة للمادة جرى قولهم على مذهبهم
(8/164)
وان قالوا صورة هيولانية لم يكن المبدأ عندهم شيئا غير جسم من الأجسام وهذا لا يقولون به
وكذلك أن قالوا هو سبب على طريق الغاية كان جاريا أيضا على أصولهم
واذا كان هذا الكلام فيه من الاحتمال ما ترى فكيف يصح أن يجعل جوابا للفلاسفة
وبسط الكلام بسطا لا يرد على أبي حامد فإنه قد علم انه اراد بالعلة هنا العلة الفاعلة لا الأقسام الثلاثة وهم يسمون المبدأ الأول العلة الأولى ويقولون كل ما سواه صادر عنه فالذي ذكره تقرير مذهبهم كما يقولون على أحسن وجه فلا حاجة إلى مؤاخذة لفظية وهو كون العلة لفظا مشتركا فإن هذا من باب الاعنات في الخطاب والخروج عن المقصود
والاستفسار مع ظهور المقصود نوع من اللدد في الكلام وأبغض الرجال إلى الله الالد الخصم
ثم اعترض ابن رشد على الوجهين اللذين ذكرهما أبو حامد فقال على الوجه الأول وانه يلزمهم على مساق مذهبهم أن يكون المبدع جسما قديما لا علة له وأنهم لم يبطلوا ذلك إلا بقولهم في التوحيد ونفي الصفات وقد أبطله أبو حامد
(8/165)
قال ابن رشد يريد انهم إذا لم يقدروا على نفي الصفات كان ذلك الأول عندهم ذاتا بصفات وما كان على هذه الصفة فهو جسم أو قوة في جسم ولزمهم أن يكون الأول الذي لا علة له الاجرام السماوية
قال ابن رشد وهذا القول لازم لمن يقول بالقول الذي حكاه عن الفلاسفة يعني طريقة ابن سينا والفلاسفة يعني الاوائل لا يحتجون على وجود الأول الذي لا علة له بما نسه اليهم من الاحتجاج ولا يزعمون ايضا انهم يعجزون عن دليل التوحيد ولا عن دليل نفي الجسمية عن المبدأ الأول وستأتي هذه المسألة فيما بعد
قلت ابن رشد لما رأى ضعف الطريقة المنسوبة إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في نفي الصفات ونفي التجسيم وانها ليست طريقة
(8/166)
اوليهم بني نفي الصفات ونفي التجسيم تارة على إثبات النفس وانها ليست بجسم واستدل بأضعف من دليلهم وتارة يستدل بطريقة كلامية لفظية وهي أن المركب لا بد له من مركب والمؤلف لا بد له من مؤلف وهذا إنما يكون إذا اطلق هذا اللفظ على مسماه باعتبار أن هناك مؤلفا فعل التأليف ومركبا فعل التركيب
ومن لا يطلق هذا اللفظ بحال أو اراد به ما فيه اجتماع وقال أن ذلك واجب بنفسه لم يكن مثل هذا الكلام حجة عليه وهذا مبسوط في موضعه
والمقصود تبين ما أخذه ابن سينا عن أسلافه وما أخذه عن المتكلمين وكيف خلط أحدهما بالاخر
قال ابن رشد قول أبي حامد ولكن لعلتها علة ولعلة العلة علة وهكذا إلى غير نهاية إلى قوله وكل مسلك ذكرتموه في النظر يبطل عليكم بتجويز دورات لا أول لها شك تقدم الجواب عنه حين قلنا أن الفلاسفة لا تجوز عللا ومعلولات لا نهاية
(8/167)
لها لأنه يؤدي إلى معلول لا علة له ويوجبونها بالعرض من قبل علة قديمة لكن لا إذا كانت مستقيمة ومعا وفي مواد لا نهاية لها بل إذا كانت دورا
قال وأما ما يحكيه عن ابن سينا انه يجوز نفوسا لا نهاية لها وان ذلك إنما يمتنع فيما له وضع فكلام غير صحيح ولا يقول به أحد من الفلاسفة وامتناعه يظهر من البرهان العام الذي ذكرناه عنهم فلا يلزم الفلاسفة شيء مما ألزمهم من قبل هذا الوضع أعنى القول بوجود نفوس لا نهاية لها بالفعل ومن أجل هذا قال بالتناسخ من قال أن النفوس متعددة بتعدد الاشخاص وأنها باقية
قال وأما قوله وما بالهم لم يجوزوا أجساما بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية وجوزوا موجودات بعضها قبل بعض بالزمان إلى غير نهاية وهل هذا إلا تحكم بارد
فإن الفرق بينهما عند الفلاسفة ظاهر جدا وذلك أن وضع
(8/168)
الأجسام لا نهاية لها معا يلزم عنه أن يوجد لما لا نهاية له كل وان يكون بالفعل وذلك مستحيل والزمان ليس بذي وضع فليس يلزم من وجود اجسام بعضها فوق بعض إلى غير نهاية وجود مالا نهاية له بالفعل وهو الذي امتنع عندهم
ثم لما ذكر ابن رشد البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها قال ابن رشد وهذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة أول من نقله إلى الفلسفة ابن سينا على انها طريق خير من طريق القدماء لأنه زعم أنه من جوهر الموجود وأن طرق القوم من اعراض تابعة للمبدأ الأول وهو طريق اخذه ابن سينا من المتكلمين وذلك أن المتكلمين ترى أن المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل وان العالم بأسره لما كان ممكنا وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود وهذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الاشعرية وهو قول جيد ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره ممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه
(8/169)
القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة كما ذكر أبو حامد واذا سومح في هذه القضية لم تنته به القسمة إلى ما أراد لأن قسمة الموجود اولا إلى ماله علة إلى مالا علة له ليس معروفا بنفسه ثم ماله علة ينقسم إلى مم والى ضروري فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي افضى إلى ممكن ضروري ولم يفض إلى ضروري لا علة له وان فهمنا من الممكن ماله علة وهو ضروري لم يلزم عن ذلك إلا أن ماله علة فله علة وامكن أن نضع أن تلك لها علة وأن يمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهى الامر إلى موجود لا علة له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية وأما أن عنى بالممكن ما له علة من الاشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا يتبين بعد أن ههنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى
(8/170)
ضروري بغير علة إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالامر في الجملة الممكنة
قلت فقد ذكر ابن رشد لما ذكر البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها أن هذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة أول من نقله إلى الفلسفة ابن سينا على انها طريق خير من طريق القدماء لانه زعم انه من جوهر الوجود وان طرق القوم من أعراض تابعة للمبدأ الأول
قال وهو طريق اخذه ابن سينا من المتكلمين وذلك أن المتكلم يرى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل وان العالم بأسره لما كان ممكنا وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود هذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الاشعرية
قال وهو قول جيد ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره ممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن
(8/171)
سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة كما ذكره أبو حامد
قلت فقد بين أن كون الممكن يجب أن يكون له فاعل قول جيد إذ كان الممكن هو المحدث عند عامة العقلاء من الفلاسفة وغيرهم والمحدث لا بد له من فاعل هذا ايضا معلوم بين مسلم عند عامة العقلاء
واما قوله ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره ممكن فإن هذا ليس معروفا بنفسه فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة
فإنه يقول أولئك ارادوا بالممكن المحدث وليس من المعروف بنفسه أن العالم كله محدث فاراد ابن سينا أن يجعل معنى الممكن هو ما له علة حتى يبني على ذلك أن العالم كله ممكن وله علة قديمة أزلية وهذا القول الذي ذكره ابن سينا يظن من أخذ الفلسفة من كلامه انه قول أرسطو واتباعه وليس كذلك وانما يذكر هذا عن برقلس ولهذا قال الباري جواد وعلة جوده هو ذاته فيكون جوده دائما وهذا يوافق قول ابن سينا لا يوافق قول أرسطوا فإن الأول عنده لا فعل له لا جودا ولا غير جود ولا إرادة بل ولا يعلم ما سواه
وقول ابن رشد أن كون العالم بأسره ممكن ليس معروفا بنفسه
(8/172)
فيقال له أن سلم انه ليس معروفا بنفسه هو معروف بالأدلة الكثيرة الدالة على أن كل ما سوى الله ممكن يقبل الوجود والعدم بل انه محدث وكل ما سواه فقير اليه وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن وأنه ليس شيئا موجودا بنفسه غنيا عما سواه قديما أزليا إلا واحد وأدلة ذلك مذكورة في مواضع وحينئذ فيحصل بذلك المقصود
لكن المتكلمون من الجهمية والمعتزلة من وافقهم من الاشعرية والكرامية ونحوهم سلكوا في ذلك الاستدلال بأن ذلك لا يخلو من الاعراض الحادثة وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فلزم بذلك أن الأول لم يزل غير متكلم بمشيئته وقدرته ولا فاعل لشيء بل ولا كان يمكنه أن يكون متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء بل هذا ممتنع فلا يكون مقدورا فيلزم أنه صار قادرا بعد أن لم يكن وفاعلا بل ومتكلما بمشيئته بعد أن لم يكن وان الفعل صار ممكنا بعد أن كان ممتنعا من غير تجدد شيء اوجب انقلابه من الامتناع إلى الإمكان إلى غير ذلك من اللوازم كما قد بسط في موضعه
والسلف والائمة كلهم ذموا الكلام المحدث واهله واخبروا انهم يتكلمون بالجهل ويخالفون الكتاب والسنة واجماع السلف مع أن كلامهم جهل وضلال مخالف للعقل كما هو مخالف للشرع كما قد بسط في موضعه
(8/173)
والمقصود ذكر كلام ابن رشد على طريقة ابن سينا قال ابن رشد واذا سومح ابن سينا في هذه القضية وهو أن الممكن ما له علة لم تنته به القسمة إلى ما أراد لأن قسمة الوجود أولا إلى ما له علة والى مالا علة له ليس معروفا بنفسه ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري
قلت إما تقسيم الوجود إلى ما له علة والى مالا علة له فهذا تقسيم دائر بين النفي والاثبات لا يمكن المنازعة فيه كما إذا قيل الموجود ينقسم إلى ما يقوم بنفسه والى مالا يقوم بنفسه والى ما هو موجود بنفسه وما ليس موجودا بنفسه ونحو ذلك من التقسيمات الدائرة بين النفي والاثبات فهذا تقسيم حاصر إذ لا واسطة بين النفي والاثبات وهما النقيضان والنقيضان كما انهما لا يجتمعان فلا يرتفعان ايضا
لكن دعوى ابن سينا وأتباعه المقسمون هذا التقسيم ان ما له علة ينقسم إلى ممكن حقيقي وهو الحادث والى ضروري هو الذي ليس بينا بنفسه ولم يقيموا عليه دليلا ولا يمكنهم اقامة دليل عليه بل
(8/174)
الدليل يدل على بطلانه ولهذا ظهر ما ذكره ابن رشد من فساد كلامهم
قال ابن رشد ثم إذا قسم ما له علة إلى ممكن وضروري فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي افضى إلى ممكن ضروري ولم يفض إلى ضروري لا علة له وان فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة وأمكن أن نضع أن تلك العلة لها علة وأن يمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهى الأمر إلى موجود لا علة له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية
فقد بين ابن رشد انه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما ليس له علة ثم قسم ما له علة إلى ممكن وضروري فإن أراد بالممكن الممكن الحقيقي وهو الحادث وهو قد جعل الممكن ما له علة افضى ذلك إلى ما له علة ينقسم إلى ممكن ضروري وهو القديم والى ممكن حقيقي وهو الحادث ولم يكن في هذا إثبات ضروري لا علة له وهو واجب الوجود لأن مجرد تقسيم الوجود إلى قسمين لا يستلزم ثبوت كل من القسمين بل لا بد من دليل يدل على ثبوتهما
(8/175)
وإلا فمجرد التقسيم دعوى مجردة كما لو قيل الوجود ينقسم إلى ما هو ثابت وإلى ما ليس بثابت أو ينقسم إلى قديم وحادث وما ليس بقديم ولا حادث أو ينقسم إلى واجب وممكن وما ليس بواجب ولا ممكن
فهذا تقسيم دائر بين النفي والإثبات لكن لا يستلزم ثبوت كل من الأقسام
وإذا قيل ينقسم إلى معلول وغير معلول وقيل المعلول ينقسم إلى ممكن حقيقي وهو الحادث وإلى ممكن باصطلاح ابن سينا وهو المعلول مع كونه ضروريا كان غايته إذا أثبت انقسام المعلول إلى ضروري وحادث إثبات القسمين الضروري والحادث أو إثبات ضروري معلول ليس فيه إثبات ضروري ليس بمعلول وهو واجب الوجود بنفسه فلم يكن فيما ذكره إثبات واجب الوجود بنفسه فكيف وليس فيه أيضا إثبات ضروري معلول وإنما فيه تقسيم المعلول إلى ضروري وغير ضروري
ومجرد التقسيم لا يدل على ثبوت كل من القسمين فلم يكن فيما ذكره لا إثبات ضروري معلول ولا غير معلول إن لم يبين أن المحدث يدل على ذلك ولا استدل بالحدوث البتة وهو الممكن الحقيقي وإنما استدل بالممكن الذي ابتدعه وجعله يتناول القديم الضروري والمحدث ولو استدل بالمحدث لدل على إثبات قديم وثبوت قديم لا يدل على واجب الوجود باصطلاحهم لأن القديم عندهم ينقسم إلى واجب وممكن
(8/176)
فإن أرادوا أن يثبتوا الواجب بنفسه قالوا والقديم الذي سموه ممكنا يفتقر إلى واجب بنفسه وهذا ليس بينا وعامة العقلاء ينازعونهم فيه ولا يمكنهم إقامة دليل عليه
فهذا الذي سموه ممكنا هو قديم أزلي ضروري الوجود ومثل هذا لا يدل على واجب بنفسه وهو أيضا ليس بثابت فلم يثبتوا هذا الممكن ولم يثبتوا الواجب الذي يستدل عليه بهذا الممكن فلم يثبتوا ما ادعوه من الممكن ولا ما ادعوه من الواجب
قال ابن رشد وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة
قلت وذلك لأنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما لا علة له وسمى هذا الأول ممكنا ثم قسم هذا الممكن إلى الممكن الحقيقي وهو الحادث وإلى الضروري وهو القديم المعلول لم يلزم من ذلك إلا إثبات قديم معلول وهو أن هذا الضروري الذي له علة هو ضروري له علة
وهذا إذا قدر أنه أثبت هذا القسم وحينئذ فيكون قد أثبت ضروريا واجب الوجود معلولا
قال وإذا أمكن أن يكون الضروري الواجب الوجود معلولا لعلة أمكن أيضا أن تكون تلك العلة وإن كانت ضرورية واجبة
(8/177)
الوجوب معلولة لعلة أخرى وهلم جرا ولم يكن على هذا التقدير معنا ما يدل على امتناع هذا التسلسل لأن مضمونه إثبات أمور واجبة ضرورية كل منها له علة والجملة كلها واجبة ضرورية مع كونها وكون كل منها معلولا وهو الممكن بهذا الاصطلاح المتأخر إذ الممكن عندهم يكون ضروريا واجب الوجود ممتنع العدم مع كونه معلولا لغيره فلا يمتنع على هذا التقدير وجود علل ومعلولات كل منها واجب ضروري ويسمى ممكنا باعتبار أنه معلول وإن كان ضروريا واجب الوجود لا باعتبار أنه محدث مفتقر إلى فاعل
وحقيقة الأمر أنهم قدروا أمورا متسلسلة كل منها واجب الوجود ضروري يمتنع عدمه وكل منها معلول وسموه باعتبار ذلك ممكنا وقالوا إنه يقبل الوجود والعدم وحينئذ فلا يمكنهم إثبات افتقار واحد منها إلى علة فضلا عن افتقارها كلها لأن التقدير أنها جميعها ضرورية الوجود لا تقبل العدم ومثل هذا يعقل افتقاره إلى فاعل ويعود الأمر إلى الممكن الذي أثبتوه وهو الضروري الواجب الوجود القديم الأزلي هل يفتقر إلى فاعل ومرجح يرجح وجوده على عدمه
وقد عرف أنه ليس لهم على ذلك دليل بل جميع العقلاء يقولون إن هذا لا يفتقر إلى فاعل ولهذا لما بنوا إثبات واجب الوجود على إثبات هذا الممكن كما فعله ابن سينا والرازي والآمدي وغيرهم لم يمكنهم إقامة دليل على أن هذا الممكن بهذا التفسير يفتقر إلى فاعل وورد على هذا الممكن من الأسولة ما لم يمكنهم الجواب عنه كما قد ذكر بعض ذلك في غير هذا الموضع
(8/178)
وقد ذكر بعض ذلك الرازي في الأربعين و نهاية العقول و المطالب العالية و = المحصل وغير ذلك من كتبه
وهؤلاء قسموا الوجود إلى واجب وممكن وعنوا بالممكن ما له علة وأدخلوا في الممكن القديم الأزلي الضروري الواجب الذي يمتنع عدمه فلزمهم بيان أن هذا الممكن لا بد له من واجب فلم يثبتوا ذلك إلا بأن المحدث يفتقر إلى فاعل
هذا حق لكنه يدل على إثبات قديم أزلي لا يدل على أن القديم الأزلي ينقسم إلى واجب وممكن كما ادعوه ولما لم يثبتوا هذا الممكن والواجب لا يثبت إلا بثبوته لم يثبتوا لا واجبا ولا ممكنا ولا عرف انقسام الوجود إلى واجب وممكن على اصطلاحهم بل غايتهم ثبوت الواجب على التقديرين
وإن لم يثبت الممكن فإنه إن كان الممكن ثابتا فقد ثبت الواجب وإن لم يكن ثابتا فقد بقي القسم الآخر وهو الواجب لأنه لا واسطة بين النفي والإثبات
ونحن قلنا الموجود إما أن يكون له علة وإما أن يكون لا علة له والمعلول لا بد له من علة فلزم ثبوت ما لا علة له على التقديرين وهو المطلوب
قيل لهم هذا لا ينفعكم لوجهين
أحدهما أنكم لم تثبتوا وجودا لا علة له ومجرد التقسيم لا يدل عليه بل جوزتم أن يكون موجود قديم أزلي معلول وعلى هذا التقدير
(8/179)
فيجوز وجود علل ومعلولات لا تتناهى فلا ثبت لكم وجود لا علة له
الثاني أن يقال هذا غايته أن يدل على ثبوت وجود واجب فمن قال الوجود كله واحد وهو واجب لا ينقسم إلى واجب وممكن ولا قديم ومحدث فقد وفى بموجب دليلكم وهذا مما يبين به غاية كلام هؤلاء
ولما كان هذا منتهى كلامهم صار السالكون لطريقتهم نوعين نوعا يقول لم يثبت واجب الوجود لإمكان علل ومعلولات لا تتناهى ويوردون على إبطال التسلسل ما يقولون لا جواب عنه كالآمدي وغيره
ونوعا يقول الوجود كله واجب قديمه ومحدثه وليس في الوجود موجودان أحدهما قديم والآخر محدث وأحدهما واجب والآخر ممكن بل عين وجود المحدث الممكن هو عين وجود الواجب القديم كما يقوله ابن عربي وأتباعه كابن سبعين والقونوي
فليتدبر من هداه الله هذا التناقض العظيم الذي أفضى إليه هذا الطريق الفاسد الذي سلكه ابن سينا وأتباعه في إثبات واجب الوجود فنظارهم يعترفون بأنه لم يقم دليل على إثبات وجود واجب بل ولا على ممكن بالمعنى الذي قدره
ومعلوم أن هذا في غاية السفسطة فإن انقسام الموجود إلى
(8/180)
واجب هو قديم أزلي وإلى ممكن هو محدث وجد بعد أن لم يوجد معلوم بالضرورة لجميع العقلاء وعوامهم
وصوفيتهم يقولون الوجود الواجب القديم الأزلي هو عين الوجود المحدث ليس هنا وجودان أحدهما واجب قديم والآخر ممكن محدث فهؤلاء يجمعون بين النقيضين حيث يجعلون الوجود الواحد قديما حادثا ممكنا معلولا مفعولا واجبا وغير مفعول ولا معلول
وأولئك لم يثبت عندهم أحد النقيضين بل يشكون في رفع النقيضين فلم يثبت عندهم وجود واجب بل ولا ممكن بالمعنى الذي قرره
ومعلوم أن الموجود مشهود وأنه إما ممكن وإما واجب فمن رفع النوعين أو شك في ثبوتهما أو ثبوت أحدهما فهو في غاية السفسطة كما أن من لم يثبتهما بل جعل الجميع واجبا بنفسه قديما أزليا وأنكر وجود الحوادث فهو في غاية السفسطة والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر
وإنما المقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد فإنه مع تعظيمه للفلاسفة وغلوه في تعظيمهم وقوله إنهم وقفوا على أسرار العلوم الإلهية قد تفطن لفساد ما ذكره أفضل متأخريهم وأتباعه وهو عند التحقيق خير مما ذكره أرسطو وأتباعه فإذا كان هذا فاسدا فذاك بطريق الأولى
(8/181)
وقد تبين ما ذكره ابن رشد حيث قال وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة فله علة وأمكن أن نضع أن تلك لها علة وأن نمر ذلك إلى غير نهاية فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له وهو الذي يعنونه بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية
قال ابن رشد إنه إذا أريد بالممكن ما يعقل العقلاء أنه ممكن وهو المحدث بعد أن لم يكن الذي يمكن أن يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى فإن هذا هو الممكن الحقيقي فإذا أريد بالممكن هذا وقيل الوجود ينقسم إلى ممكن وغير ممكن والممكن ما له علة وهو الممكن الحقيقي وهو الحادث كان حقيقة الكلام أنه ينقسم إلى قديم وحادث كما قاله المتكلمون
وحينئذ فهذه الممكنات التي هي المحدثات هي التي يستحيل فيها وجود علل لا تتناهى فإن المحدث يعلم بالضرورة أنه لا بد له من محدث فإذا قدرنا وجود ما لا يتناهى من المحدثات كان كل منها لا بد له من محدث وكان مجموع المحدثات أعظم افتقارا إلى محدث فإنه كلما كثرت المحدثات كان افتقارها إلى محدث لها أعظم من افتقار واحد
(8/182)
منها وتسلسل المحدثات إذا قدر إلى ما لا يتناهى لا يخرجها عن كونها جميعها محدثة وأن جميعها مفتقر إلى محدث خارج عنها والمحدث الخارج عن جميع المحدثات لا يكون إلا قديما وعلى هذا التقدير فليس فيها معلول قديم أزلي ولا معلول ضروري كما قدره أولئك حيث قدروا عللا ومعلولات لا تتناهى كل منها محدث وكل منها ممكن مع أن الممكن قد يكون ضروريا ممتنع العدم واجب الوجود فكانوا محتاجين إلى بيان أن الضروري الوجود القديم الأزلي يكون معلولا حتى يكون المجموع من ذلك معلولا وهذا ممتنع عليهم حيث جمعوا بين النقيضين
قال ابن رشد وأما إن عنى بالممكن ما له علته من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين من الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن يتبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة
قلت فابن رشد ذكر أولا أن الممكن إن فهمنا منه الممكن
(8/183)
الحقيقي وهو المحدث فقد تبين فساد كلامهم على هذا التقدير وإن عني بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية كما يقوله ابن سينا وأتباعه إن الأفلاك ضرورية واجبة الوجود يمتنع عدمها أزلا وأبدا ويقول مع ذلك إنها ممكنة بمعنى أنها معلولة قال ابن رشد فلا يمكن إثبات واجب الوجود على هذا التقدير كما لا يمكنهم إثباته بطريقتهم على التقدير الأول
وذلك أن مقدمة الدليل لا بد أن تكون معلومة قبل النتيجة فيستدل على ما لا يعلم بما يعلم ويستدل بالبين على الخفي
وحينئذ فما ذكروه فاسد من وجهين أحدهما أنه لم يتبين بعد أنه يستحيل وجود التسلسل في هذه الممكنات بالوجه الذي تبين في الممكنات الحقيقية وهي المحدثات
ودليلهم في إثبات واجب الوجود موقوف على إبطال التسلسل وإبطال التسلسل إنما يمكن في المحدثات لا في الأمور الضرورية التي لا تقبل العدم إذا قدر تسلسلها
الوجه الثاني قال ولا تبين بعد أن ههنا ضروريا يحتاج إلى علة فيجب عن وضع هذا أي عن تقدير هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن يتبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة
ومعنى كلامه أن مقدمة الدليل يجب أن تكون معلومة قبل النتيجة فإذا كانوا يثبتون واجب الوجود بما جعلوه ممكنا وإن كان
(8/184)
ضروريا واجب الوجود لكنه واجب بغيره فيجب أولا أن يثبتوا أن ههنا ضروريا يحتاج إلى علة وهو الواجب بغيره الذي قالوا إنه واجب أزلا وأبدا ضروري الوجود لكنه واجب بغيره لا بنفسه فلهذا سموه ممكنا
قال ولم يبين بعد أن ههنا ضروريا يحتاج إلى علة حتى يلزم عن تقدير ذلك أن يكون هنا ضروريا بغير علة وهو الواجب بنفسه ولو بين هذا أولا كان يحتاج بعد ذلك أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة
يقول لو تبين أولا أنه يمكن أن يكون ضروري الوجود واجب الوجود أزلا وأبدا وهو مع ذلك معلول لغيره
لقيل هذا يدل على ضروري آخر يكون واجب الوجود ويكون علة له وحينئذ فنحتاج أن نقول إنه يمتنع وجود علل ومعلولات كل منها ضروري واجب الوجود قديم يمتنع عدمه أزلا وأبدا فيكون التسلسل فيها باطلا كما كان التسلسل باطلا في الممكن الحقيقي وهو المحدث
فإنه قد علم بالعقل واتفاق العقلاء أنه يمتنع وجود محدثات متسلسلة كل منها محدث الآخر ليس فيها قديم فلو ثبت إمكان معلول قديم أزلي لوجب بعد هذا أن ينظر في امتناع التسلسل وقد تقدم أن التسلسل في ذلك على هذا التقدير لا يمكن إقامة الدليل على امتناعه فكيف إذا لم يثبت الأصل الذي بنوا عليه كلامهم
(8/185)
وهذا الأصل الذي بنوا عليه كلامهم وهو أن الممكن قد يكون قديما أزليا ضروريا واجبا بغيره وأن الواجب الضروري القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه أزلا وأبدا ينقسم إلى واجب بنفسه وإلى ممكن بنفسه واجب بغيره هو مما ابتدعه ابن سينا وخالف فيه عامة العقلاء من سلفه ومن غير سلفه
وقد صرح أرسطو وسائر الفلاسفة أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وأن الدائم القديم الأزلي لا يكون إلا ضروريا لا يكون محدثا
وابن سينا واتباعه وافقوهم على ذلك كما ذكروا ذلك في المنطق في غير موضع كما قد ذكرت ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع من كتابه المسمى بالشفاء وغيره
لكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا بسبب أنهم لما وجدوا المتكلمين قد قسموا الموجود إلى واجب وممكن والممكن عندهم هو الحادث سلكوا سبيلهم في هذا التقسيم وأدخلوا في الممكن ما هو قديم أزلي ونسوا ما ذكروه في غير هذا الموضع من أن الممكن لا يكون إلا محدثا
وكان ما ذكره هؤلاء وسائر العقلاء دليلا على أن ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن لما ثبت أنه ليس واجب الوجود موجودا بنفسه إلا الله وحده وأن ما سواه مفتقر إليه
وكان ما ذكره أرسطو وسائر العقلاء مبطلا لما ذكره ابن سينا وأتباعه في الممكن وتناقضوا فيه وكان ما ذكره ابن سينا وأتباعه من العقلاء في الواجب بنفسه مبطلا لما ذكره أرسطو وأتباعه وابن رشد أيضا من
(8/186)
أن الفلك ضروري الوجود واجب الوجود لا يقبل العدم فإنه محتاج إلى غيره وهم يسلمون أنه محتاج إلى الأول لأنه لا قوام له إلا بحركته ولا قوام لحركته إلا بالأول فكان لا وجود له إلا بالأول فامتنع أن يكون وجوده بنفسه بل كان معلولا بغيره وما كان معلولا بغيره لم يكن موجودا بنفسه بل كان ذلك الأول علة في وجوده وما كان له علة في وجوده ثابتة عنه علم بصريح العقل أنه ليس موجودا بنفسه فلا يكون واجبا بنفسه وما لم يكن واجبا بنفسه كان ممكنا وكان محدثا كما قد بسط في مواضع
إذ المقصود هنا ذكر كلام ابن رشد وابن رشد يقول إن لفظ الممكن في اصطلاح الفلاسفة ليس هو لفظ الممكن في اصطلاح ابن سينا وأتباعه وما كان أزليا واجبا بغيره دائما بحيث لا يقبل العدم لا يسمى ممكنا بل الممكن ما كان معدوما يقبل الوجود وأما ما لم يزل واجبا بغيره فليس هو بممكن
وقد ذكر هذا في غير موضع من كتابه وذكر أن ما ذكره ابن سينا خروج عن طريقة الفلاسفة القدماء وأن طريقه التي أثبت بها
(8/187)
واجب الوجود بناء على هذا الأصل إنما هو إقناعي لا برهاني كقوله في الكلام في مسألة الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وما وضع في هذا القول من أن كل معلول فهو ممكن الوجود فإن هذا إنما هو صادق في المعلول المركب وليس يمكن أن يوجد شيء مركب وهو أزلي فكل ممكن الوجود عند الفلاسفة فهو محدث
قال وهذا شيء قد صرح به أرسطاطاليس في غير ما موضع من كتبه
قال وأما هذا الذي يسميه ابن سينا ممكن الوجود فهذا والممكن الوجود مقول باشتراك الاسم وكذلك ليس كونه محتاجا إلى الفاعل ظاهرا من الجهة التي منها تظهر حاجة الممكن
(8/188)
قلت وهذا الذي حكاه عنهم من أن الممكن عندهم لا يكون إلا محدثا مركبا قد ذكره في غير موضع وذكر عنهم أن الأفلاك عندهم ليست مركبة من المادة والصورة كالأجسام العنصرية والمولدات وأن القول بان كل جسم مركب من المادة والصورة إنما هو قول ابن سينا دون القدماء وكذلك ذكر عنهم أن القول بأن الأول صدر عنه عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك وهلم جرا إلى العقل الفعال ليس هو قول القدماء بل هو قول ابن سينا وأمثاله
وكذلك ذكر فيما ذكره ابن سينا وأتباعه في الوحي والمنامات أن سببها كون النفس الفلكية عالمة بحوادث العالم فإذا اتصلت بها نفوس البشر فاض عليها العلم منها ذكر أنه ليس قول القدماء بل هو قول ابن سينا وأمثاله وهو مع هذا فالذي يذكر عن القدماء وطرقهم هو أضعف من قول ابن سينا بكثير
وعامة ما يذكره في واجب الوجود أن يكون شرطا في وجود غيره وأما كونه علة تامة لغيره وربا ومبدعا كما يقوله ابن سينا وأمثاله فهذا لا يوجد تقريره فيما ذكره عن الأوائل فإذا كانت طريقة ابن سينا يلزمها أن تكون الحوادث حدثت بغير محدث فطريقة أولئك تستلزم أن تكون
(8/189)
الممكنات وجدت بغير واجب أو أن يكون كل من الواجبين بأنفسهما لا يتم وجوده إلا بالآخر إلى غير ذلك مما في كلامهم من الفساد
والمقصود هنا أن نبين أن خيار ما يوجد في كلام ابن سينا فإنما تلقاه عن مبتدعة متكلمة أهل الإسلام مع ما فيهم من البدعة والتقصير
ولما أورد عليهم الغزالي في قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد عدة أدلة بين بها فساد قولهم قال ابن رشد إذا اعتقدت الفلاسفة أن في المعلول الأول كثرة لزمهم ضرورة أن يقال لهم من أين كان في المعلول الأول كثرة وكما يقولون إن الواحد لا يصدر عنه كثير كذلك يلزمهم أن الكثير لا يصدر عن الواحد فقولهم إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد يناقض قولهم إن الذي صدر عن الواحد الأول شيء فيه كثرة إلا أن يقولوا إن
(8/190)
الكثرة في المعلول الأول كل واحد منها أول فيلزمهم أن تكون الأوائل كثيرة
قال والعجب كل العجب كيف خفى هذا على أبي نصر وابن سينا لأنهما أول من قال هذه الخرافات فقلدهما الناس ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة لأنهم إذا قالوا إن الكثرة التي في المبدأ الثاني إنما هي مما يعقل من ذاته ومما يعقل من غيره لزم عندهم أن تكون ذاته ذات طبيعتين أعني صورتين فليت شعري أيتهما الصادرة عن المبدأ الأول وأيتهما التي ليست الصادرة
قال وكذلك إذا قالوا فيه إنه ممكن من ذاته واجب من غيره لأن الطبيعة الممكنة يلزم ضرورة أن تكون غير الطبيعة الواجبة التي استفادها من واجب الوجود فإن الطبيعة الممكنة ليس يمكن أن تعود
(8/191)
واجبة إلا لو أمكن أن تنقلب طبيعة الممكن ضروريا وكذلك ليس في الطبائع الضرورية إمكان أصلا كانت الضرورة بذاتها أو بغيرها
قال وهذه كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين وهي كلها أمور دخيلة في الفلسفة ليست جارية على أصولهم وكلها أقاويل ليست تبلغ مرتبة الإقناع الخطبي فضلا عن الجدلي ولذلك يحق ما يقول أبو حامد في غير موضع من كتبه إن علومهم الإلهية ظنية
وقال أيضا لما أراد أن يقرر قول أرسطو إن كل حادث فهو مسبوق بإمكان العدم والإمكان لا بد له من محل وقد رد ذلك أبو حامد بأن الإمكان الذي ذكروه يرجع إلى قضاء العقل فكل
(8/192)
ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع تقديره سميناه ممكنا فإن امتنع سميناه مستحيلا وإن لم يقدر على تقدير عدمه سميناه واجبا فهذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود حتى نجعل وصفا له لأن الإمكان كالامتناع وليس للامتناع محل في الخارج ولأن السواد والبياض يقضي العقل فيهما قبل وجودهما بكونهما ممكنين
فقال ابن رشد هذه مغلطة فإن الممكن يقال على القابل وعلى المقبول والذي يقال على الموضوع القابل يقابله الممتنع والذي يقال على المقبول يقابله الضروري والذي يتصف بالإمكان الذي يقابله الممتنع ليس هو الذي يخرج من الإمكان إلى الفعل من جهة ما يخرج إلى الفعل لأنه إذا خرج ارتفع عنه الإمكان وإنما يتصف بالإمكان من جهة ما هو بالقوة والحامل لهذا الإمكان هو الموضوع الذي ينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل وذلك بين من حد الممكن فإن الممكن هو المعدوم الذي يتهيأ أن يوجد وأن لا يوجد
(8/193)
وهذا المعدوم الممكن ليس هو ممكنا من جهة ما هو معلوم ولا من جهة ما هو موجود بالفعل وإنما هو ممكن من جهة ما هو بالقوة
ولذلك قالت المعتزلة إن المعدوم ذات ما وذلك أن العدم يضاد الوجود وكل واحد منهما يخلف صاحبه فإذا ارتفع عدم شيء ما خلفه وجوده وإذا ارتفع وجوده خلفه عدمه
ولما كان نفس العدم ليس يمكن فيه أن ينقلب وجودا ولا نفس الوجود أن ينقلب عدما وجب أن يكون القابل لهما شيئا ثالثا غيرهما وهو الذي يتصف بالإمكان والتكون والانتقال من صفة العدم إلى صفة الوجود فإن العدم لا يتصف بالتكون والتغير ولا الشيء الكائن بالفعل يتصف أيضا وبسط الكلام في هذا
وقال أيضا في دليلهم المشهور على قدم العالم وهو قولهم يستحيل صدور حادث من قديم مطلق لأنا إذا فرضنا القديم ولم
(8/194)
يصدر منه العالم مثلا فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح بل كان وجود العالم ممكنا عنه إمكانا صرفا فإذا حدث لم يخل إما أن يتجدد مرجح أو لا يتجدد فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما كان قبل ذلك فإن تجدد مرجح انتقل الكلام إلى ذلك المرجح لم رجح الآن ولم يرجح قبل فإما أن يمر الأمر إلى غير نهاية أو ينتهي الأمر فيه إلى مرجح لم يزل مرجحا
قال ابن رشد هذا القول هو قول في أعلى مراتب الجدل وليس هو واصلا موصل البراهين لأن مقدماته هي عامة والعامة قريبة من المشتركة ومقدمات البراهين هي من الأمور الجوهرية المناسبة وذلك أن الممكن يقال باشتراك على الممكن الأكثري والممكن الأقلي والذي على التساوي وليس ظهور الحاجة فيها إلى المرجح على التساوي وذلك أن الممكن الأكثري قد يظن به أنه يترجح من ذاته لا من مرجح خارج عنه بخلاف الممكن على التساوي
(8/195)
والإمكان أيضا منه ما هو من الفاعل وهو إمكان الفعل ومنه ما هو من المنفعل وهو إمكان القبول وليس ظهور الحاجة فيهما إلى المرجح على السواء وذلك أن الإمكان الذي في المنفعل مشهور حاجته إلى المرجح من خارج لأنه يدرك حسا في الأمور الصناعية وكثير من الأمور الطبيعية وقد يلحق فيه شك في الأمور الطبيعية لأن أكثر الأمور الطبيعية مبدأ تغيرها منها ولذلك يظن في كثير منها أن المحرك هو المتحرك وأنه ليس معروفا بنفسه أن كل متحرك فله محرك وأنه ليس ها هنا شيء يحرك ذاته فإن هذا كله يحتاج إلى بيان فلذلك فحص عنه القدماء
وأما الإمكان الذي في الفاعل فقد يظن في كثير منه أنه لا يحتاج في خروجه إلى الفعل إلى مرجح من خارج لأن انتقال الفاعل من أن لا يفعل إلى أن يفعل قد يظن بكثير منه أنه ليس تغيرا يحتاج إلى مغير مثل انتقال المهندس من أن لا يهندس إلى أن يهندس وانتقال المعلم من أن لا يعلم إلى أن يعلم
(8/196)
قال والتغير أيضا الذي يقال إنه يحتاج إلى مغير منه ما هو في الجوهر ومنه ما هو في الكيف ومنه ما هو في الكم ومنه ما هو في الأين والقديم أيضا يقال على ما هو قديم بذاته وقديم بغيره عند كثير من الناس والتغيرات منها ما يجوز عند قوم على القديم مثل جواز كون الإرادة الحادثة على القديم عند الكرامية وجواز الكون والفساد على المادة الأولى عند القدماء وهي قديمة وكذلك المعقولات على العقل الذي بالقوة وهو قديم عند أكثرهم ومنها ما لا يجوز وبخاصة عند بعض القدماء دون بعض
قال وكذلك الفاعل أيضا منه ما يفعل بإرادة ومنه ما يفعل بطبيعة وليس الأمر في كيفية صدور الفعل الممكن الصدور عنهما واحدا أعني في الحاجة إلى المرجح وهل هذه القسمة في الفاعل حاصرة أو يؤدي البرهان إلى فاعل لا يشبه الفاعلين بالطبيعة ولا الذي بالإرادة التي في الشاهد
(8/197)
قال وهذه كلها مسائل كثيرة عظيمة يحتاج كل واحد منها إلى أن يفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين والغلط في واحد من هذه المبادئ هو سبب لغلط عظيم آخر في الفحص عن الموجودات
قلت المقصود هنا أن نبين اختلاف اصطلاحهم في مسمى الممكن وأن الطريقة المشهورة عند المتأخرين في الفلسفة هي الطريقة المضافة إلى أفضل متأخريهم ابن سينا والفارابي قبله
وهذا ابن رشد مع عنايته التامة بكتب أرسطو والقدماء واختصاره لكلامهم وعنايته بالانتصار لهم والذب عنهم يذكر أن كثيرا من ذلك إنما هو من قول هؤلاء المتأخرين ليس هو من قول قدمائهم
ولما ذكر عن ابن سينا أنه استعمل لفظ الممكن في أعم مما هو عند الفلاسفة قال إنه جعل المفهوم من لفظ الممكن ما له علة
(8/198)
قال وحينئذ فقول القائل إن الموجود ينقسم إلى ما له علة وإلى ما لا علة له يحتاج إلى دليل
قال ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه بل هو واجب دائما بعلته والممكن الحقيقي ما كان يمكن وجوده وعدمه وهو ما كان معدوما وحينئذ فالممكن الحقيقي لا يكون إلا حادثا وذلك يستلزم وجود واجب وهو الضروري ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل
قال وإذا جعلنا الممكن ما له علة كان التقدير أن ما له علة فله علة ويمكن حينئذ تقدير ممكنات لا تنتهي فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له وهو المسمى عندهم بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية وأما إن عني بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا تبين بعد أن ههنا ضروريا يحتاج إلى علة حتى يقال إنه لا بد أن ينتهي
(8/199)
الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة
قلت ولفظ الممكن إذا قيل فيه يمكن أن يوجد ويمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد فهذا لا يكون إلا إذا كان معدوما كما ذكر ابن رشد انه اصطلاح الفلاسفة فأما كل ما يمتنع عدمه فليس بممكن بهذا الاعتبار أن يكون ممكن الوجود والعدم بل هذا واجب الوجود سواء قيل انه واجب بنفسه أو واجب بغيره ما هو واجب بغيره أزلا وأبدا فكونه ممكنا يفتقر إلى دليل فتقسيم الموجود إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار لا بد له من دليل كما ذكر ابن رشد بخلاف المعدوم الذي يمكن وجوده فهذا يعلم انه ممكن ولهذا كان ابن سينا ومن سلك طريقته محتاجين إلى إثبات كون الافلاك ممكنة بنفسها لا واجبة بنفسها
وهذا وان كان حقا لكن دليلهم عليه في غاية الضعف فانه مبنى على أن كل جسم ممكن ودليلهم عليه ضعيف جدا كما قد بين في غير هذا الموضع وقد بين ضعفه أبو حامد ووافقه ابن رشد مع عنايته بالرد عليه على ضعف هذه الطريق
والتحقيق أن هذا يسوغ تسميته ممكنا في اللغة باعتبار انه بنفسه لا
(8/200)
يوجد لكن ما كان كذلك لا يكون إلا محدثا فيسمى ممكنا باعتبار ويسمى محدثا باعتبار والامكان والحدوث متلازمان واما تسمية ما هو قديم ازلى يمتنع عدمه ممكنا يمكن وجوده وعدمه فهذا لا يعرف في عقل ولا لغة وإن قدر أنه حق فالنزاع هنا لفظى لكن إذا عرفت الاصطلاحات زالت اشكالات كثيرة تولدت من الاجمال الذي في لفظ الممكن كما قد بسط في غير هذا الموضع
واختلاف الاصطلاح في لفظ الممكن هنا غير اختلاف الاصطلاح في الممكن العام الذي هو قسيم الممتنع والممكن الخاص الذى هو قسيم الواجب والممتنع بل نفس الممكن الخاص على هذا الاصطلاح المذكور عن القدماء إنما هو في المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه
واما ما يقدر واجبا بغيره دائما فذاك لا يسمى ممكنا بهذا الاصطلاح
واما على اصطلاح ابن سينا واتباعه وهو كون الممكن ما له علة قال ابن رشد فما له علة ينقسم إلى ممكن وضوري فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه بل هو واجب دائما بعلة وهذا مما يقوله الفلاسفة في الافلاك والممكن الحقيقي هو الحادث
(8/201)
قال وذلك يستلزم وجود واجب وهو الضروري ولكن لا يستلزم انه لا علة له إلا بدليل منفصل
وهذا الذي قاله ابن رشد بناء على أن افتقار المحدث إلى المحدث امر ضروري كما هو قول الجمهور فإذا كان المراد بالممكن الحقيقي هو الحادث فلا بد به له من فاعل ليس بحادث وهو الضروري في اصطلاح عامة العقلاء فان كل قديم هو ضروري عند عامة العقلاء وكل ممكن الإمكان الخاص هو محدث عندهم ثم بعد هذا كونه لا علة له
والعلم بامتناع التسلسل في مثل هذا بأن يكون للمحدث محدث إلى غير نهاية ممتنع عند جميع العقلاء وقد بين ذلك في موضعه
واما كون الممكن الذي هو قديم ازلى ضروري الوجود هو معلول لغيره فهذا ليس يبين أيضا امتناع التسلسل فيه على هذا التقدير كما تقدم وعلى هذا التقدير فيمكن تقرير ما ذكره الغزالى من أن ما قالوه في امتناع التسلسل باطل على اصلهم فان كل ممكن إذا قدر انه معلول مع كونه واجبا قديما أزليا فالقول في علته كالقول فيه فإذا قدر علل ومعلولات كل منها واجب قديم ازلى لا نهاية لها لم يظهر امتناع هذا على هذا التقدير ولم يظهر افتقار مجموعها إلى واجب خارج عنها إذ كان كل منها واجب له علة فإذا قيل المجموع لا علة له لم يظهر امتناع ذلك كما يظهر امتناعه في المحدثات ولكن كونه له
(8/202)
علة أو لا علة له يفتقر إلى دليل آخر
وقد تكلم ابن رشد على القول المنسوب إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في صدور العالم عن الله وانه صدر عنه عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك إلى العقل العاشر كما هو معروف من مذهبهم وتقريره
قال ابن رشد لما حكاه أبو حامد عنهم وهذا كله تخرص على الفلاسفة من ابن سينا وأبي نصر وغيرهما ومذهب القوم القديم هو أن هاهنا مبادئ هي الاجرام السماوية ومبادئ الموجودات السماوية موجودات مفارقة للمواد هي المحركة للأجرام السماوية والأجرام السماوية تتحرك اليها على جهة الطاعة لها والمحبة فيها والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها وانها إنما خلقت من اجل الحركة
وذلك انه لما صح أن المبادئ التي تحرك الأجسام السماوية هي
(8/203)
مفارقة للمواد وانها ليست بأجسام لم يبق وجه به تحرك الأجسام ما هذا شانه إلا من جهة أن المحرك امر بالحركة ولذلك لزم عندهم أن تكون الأجسام السماوية حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها على جهة الأمر لها ولما تقرر انه لا فرق بين العلم والمعلوم إلا أن المعلوم في مادة والعلم ليس في مادة وذلك في كتاب النفس فإذا وجدت موجودات ليست في مادة وجب أن يكون جوهرها علما أو عقلا أو كيف شئت أن تسميها وصح عندهم أن هذه المبادئ مفارقة للمواد من قبل انها التي أفادت الاجرام السماوية الحركة الدائمة التي لا يلحقها فيها كلال ولا تعب وان كل ما يفيد حركة دائمة بهذه الصفة فإنه ليس جسما ولا قوة في جسم وان الجسم السماوي إنما استفاد البقاء من قبل المفارقات وصح عندهم أن هذه المبادئ المفارقة وجودها
(8/204)
مرتبط بمبدأ أول فيها ولولا ذلك لم يكن هنا نظام موجود وأقاويلهم مسطورة في ذلك فينبغي لمن أراد معرفة الحق أن يقف عليها من عنده
وما يظهر أيضا من كون جميع الأفلاك تتحرك الحركة اليومية مع أنها تتحرك بها الحركات التي تخصها مما صح عندهم أن الآمر بهذه الحركة هو المبدأ الأول وهو الله سبحانه وتعالى وأنه أمر ساير المبادئ أن تأمر ساير الأفلاك بساير الحركات وأن بهذا الأمر قامت السماوات والأرض كما أن بأمر الملك الأول في المدينة قامت جميع الأوامر الصادرة ممن جعل الملك له ولاية أمر من الأمور من المدينة إلى جميع من فيها من أصناف الناس
كما قال سبحانه { وأوحى في كل سماء أمرها } سورة فصلت 12 وهذا التكليف والطاعة هي الأصل في التكليف والطاعة التي وجبت على الإنسان لكونه حيوانا ناطقا
قال وأما ما حكاه ابن سينا من صدور هذه المبادئ بعضها
(8/205)
عن بعض فهو شيء لا يعرفه القوم وإنما الذي عندهم أن لها من المبدأ الأول مقامات معلومة لا يتم لها وجود إلا بذلك المقام منه كما قال تعالى { وما منا إلا له مقام معلوم } سورة الصافات 164 وأن الارتباط الذي بينها هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض وجميعها عن المبدأ الأول وأنه ليس يفهم من الفاعل والمفعول والخالق والمخلوق في ذلك الوجود إلا هذا المعنى فقط وما قلناه من ارتباط وجود كل موجود بالواحد وذلك خلاف ما يفهم هاهنا من الفاعل والمفعول والصانع والمصنوع فلو تخيلت آمرا له مأمورون كثيرون وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي به صارت موجودة وأنه إن كان شيء وجوده في أنه مأمور فلا وجود له إلا من قبل الآمر الأول وهذا المعنى هو الذي ترى الفلاسفة أنه عبرت عنه الشرائع بالخلق والاختراع والتكليف
(8/206)
قال فهذا هو أقرب تعليم يمكن أن يفهم به مذهب هؤلاء القوم من غير أن يلحق ذلك الشنعة التي تلحق من سمع مذاهب القوم على التفصيل الذي ذكره أبو حامد ها هنا يعني ما ذكره ابن سينا
قال وهذا كله يزعمون أنه قد بين في كتبهم فمن أمكن أن ينظر في كتبهم على الشروط التي ذكروها فهو الذي يقف على صحة ما يدعون أو ضده
قال وليس يفهم من مذهب أرسطاطاليس غير هذا ولا من مذهب أفلاطن وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية وقد يمكن الإنسان أن يقف على هذه المعاني من أقاويل عرض لها إن كانت مشهورة مع أنها معقولة وذلك أن ما شأنه هذا الشأن من التعليم فهو لذيذ محبوب عند الجميع
قال وأحد المقامات التي يظهر منها هذا المعنى هو أن
(8/207)
الإنسان إذا تأمل ما ههنا ظهر له أن الأشياء التي تسمى حية عالمة هي الأشياء المتحركة من ذاتها بحركات محدودة بجواهر وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة ولذلك قال المتكلمون إن كل فعل فإنما يصدر عن حي عالم فإذا حصل له هذا الأصل وهو أن كل ما يتحرك حركات محدودة يلزم عنها أفعال محدودة منتظمة فهو حيوان عالم وأضاف إلى ذلك ما هو مشاهد بالحس وهو أن السماوات تتحرك من ذاتها حركات محدودة يلزم عند ذلك في الموجودات التي دونها أفعال محدودة ونظام وترتيب به قوام ما دونها من الموجودات تولد أصل ثالث لا شك فيه وهو أن السماوات أجسام حية مدركة فأما أن حركاتها يلزم عنها أفعال محدودة بها قوام ما هاهنا وحفظه من الحيوان والنبات والجمادات فذلك معروف بنفسه عند التأمل فإنه لولا قرب الشمس وبعدها في فلكها المائل لم يكن هاهنا فصول أربعة ولو لم يكن ههنا فصول أربعة لما كان نبات ولا
(8/208)
حيوان ولا جرى الكون على نظام في كون إلاستقصات بعضها من بعض على السواء لينحفظ بها الموجود مثال ذلك أنه إذا بعدت الشمس إلى جهة الجنوب برد الهواء في جهة الشمال فكانت الأمطار وكثر كون الاسطقس المائي وكثر في جهة الجنوب تولد الاسطقس الهوائي وفي الصيف بالعكس أعني إذا صارت الشمس فوق سمت رؤوسنا وهذه الأفعال التي تلفي للشمس من قبل القرب والبعد الذي لها دائما من موجود موجود من المكان الواحد بعينه تلفي للقمر ولجميع الكواكب فإن لكلها أفلاكا مائلة وهي تفعل فصولا أربعة في حركاتها الدورية وأعظم من هذه كلها في ضرورة وجود المخلوقات وحفظها الحركة العظمى اليومية الفاعلة لليل والنهار
وقد نبه الكتاب العزيز على العناية بالإنسان لتسخير جميع السماوات له في غير ما آية مثل قوله سبحانه { وسخر لكم الليل والنهار }
(8/209)
سورة إبراهيم 33 الآية
فإذا تأمل الإنسان هذه الأفعال والتدبيرات اللازمة المتقنة عن حركات الكواكب ورأى الكواكب تتحرك هذه الحركات وهي ذوات أشكال محدودة ومن جهات محدودة ونحو حركات محدودة وحركات متضادة علم أن هذه الأفعال المحدودة إنما هي عن موجودات مدركة حية ذوات اختيار وإرادة ويزيده إقناعا في ذلك أن يرى أن كثيرا من الأجسام الصغيرة الحقيرة الخسيسة المظلمة الأجساد التي هاهنا لم تعدم الحياة بالجملة على صغر أجرامها وخساسة أقدارها وقصر أعمارها وإظلام أجسادها وأن الجود الإلهي أفاض عليها الحياة والإدراك التي بها دبرت ذاتها وحفظت وجودها علم على القطع أن الأجسام السماوية أحرى أن تكون حية مدركة من هذه الأجسام لعظم أجرامها وشرف وجودها وكثرة أنوارها
(8/210)
كما قال سبحانه { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } الآية سورة غافر 57 وبخاصة إذا اعتبر تدبيرها الأجسام الحية التي هاهنا علم على القطع أنها حية فإن الحي لا يدبره إلا حي أكمل حياة منه فإذا تأمل الإنسان هذه الأجسام العظيمة الحية الناطقة المختارة المحيطة بنا ونظر إلى أصل ثالث وهو أن عنايتها بما هاهنا هي غير محتاجة إليها في وجودها علم أنها مأمورة بهذه الحركات ومسخرة لما دونها من الحيوانات والنباتات والجمادات وأن الآمر لها غيرها وهو غير جسم ضرورة لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها وكل واحد منها مسخر لما دونه ههنا من الموجودات وخادم لما ليس يحتاج إلى خدمته في وجود ذاته وأنه لولا مكان هذا الآمر لها لما اعتنت بما ههنا على الدوام والاتصال لأنها مدبرة ولا منفعة لها خاصة في هذا الفعل فإذن إنما تتحرك من قبل الأمر والتكليف للجرم المتوجه
(8/211)
إليها لحفظ ما هاهنا وإقامة وجوده والآمر هو الله تعالى وهذا كله معنى قوله تعالى { أتينا طائعين }
قال ومثال هذا في الاستدلال لو أن إنسانا رأى جمعا عظيما من الناس ذوي نطق وفضل مكبين على أفعال محدودة لا يخلون بها طرفة عين مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجودهم وهم غير محتاجين إليها لأيقن على القطع أنهم مكلفون ومأمورون بتلك الأفعال وأن لهم آمرا هو الذي أوجب لهم تلك الخدمة الدائمة للعناية بغيرهم المستمرة هو أعلى قدرا منهم وأرفع مرتبة وأنهم كالعبيد المسخرين له
وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الكتاب العزيز في قوله سبحانه { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } سورة الأنعام 75
وإذا اعتبر الإنسان أمرا آخر أن كل واحد من الكواكب السبعة
(8/212)
له حركات خادمة لحركته الكلية ذوات أجسام تخدم جسمه الكلي كأنها خدمة يعتنون بخادم واحد علم أيضا على القطع أن لجماعة كل كوكب منها آمرا خاصا بهم رقيبا عليهم من قبل الآمر الأول مثل ما يعرض عند تدبير الجيوش أن يكون منها جماعة جماعة كل واحد منها تحت آمر واحد وأولئك الآمرون وهم المسمون العرفاء يرجعون إلى أمير واحد وهو أمير الجيش
كذلك الأمر في حركات الأجرام السماوية التي أدرك القدماء من هذه الحركات وهي نيف على الأربعين ترجع كلها إلى سبعة آمرين وترجع السبعة أو الثمانية على اختلاف بين القدماء في عدد الحركات إلى الآمر الأول
وهذه المعرفة تحصل للإنسان بهذا الوجه سواء علم كيف مبدأ خلقة هذه الأجسام أعني السماوية أو لم يعلم وكيف ارتباط وجود سائر
(8/213)
الآمرين بالآمر الأول أو لم يعلم فإنه لا شك أنها لو كانت موجودة من ذاتها أعني قديمة من غير علة ولا موجد لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير وألا تطيعه وكذلك حال الآمرين مع الآمر الأول
وإذا لم يجز ذلك عليها فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها لا في عرض من أعراضها كحال السيد مع عبيده بل في نفس وجودها فإنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية
وهذا هو معنى قوله تعالى { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } سورة مريم 93 وهذا الملك هو ملكوت السماوات والأرض الذي أطلع الله إبراهيم عليه في قوله تعالى { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين }
(8/214)
وأنت تعلم أنه إذا كان الآمر هكذا فإنه يجب ألا تكون خلقة هذه الأجسام ومبدأ كونها على نحو كون الأجسام التي ههنا وأن العقل الإنساني يقصر عن إدراك كيفية ذلك الفعل وإن كان يعترف بالوجود فمن رام أن يشبه الوجودين أحدهما بالفاعل وأن الفاعل لها فاعل بالنحو الذي توجد الفاعلات ههنا فهو شديد الغفلة عظيم الزلة كثير الوهلة
قال فهذا هو أقصى ما تفهم به مذاهب القدماء في الأجرام السماوية وفي إثبات الخالق لها وفي أنه ليس بجسم وإثبات ما دونه من الموجودات التي ليست بأجسام واحدها هي النفس
قال وأما إثبات وجوده من كونها محدثة على نحو حدوث الأجسام التي نشاهدها كما رام المتكلمون فعسير جدا والمقدمات المستعملة في ذلك غير مفضية بهم إلى ما قصدوا بيانه
(8/215)
قلت فهذا الكلام لا ريب أنه إلى الكلام الذي نقله الناس عن أرسطو وأصحابه في إثبات واجب الوجود أقرب من كلام ابن سينا وأمثاله
بل هذا خير من الكلام المنقول عن أرسطو من وجوه متعددة فإن المنقول عن أرسطو إنما فيه أنه جعل الأول محركا لها من حيث هو محبوب معشوق لها للتشبه به يحركها تحريك المحبوب لمحبه بل تحريك المتشبه به للمتشبه كتحريك الإمام للمؤتم فإن هذا أضعف من تحريك المحبوب لمحبه كتحريك الطعام للآكل والمرأة للجماع وأما هذا فقد جعله آمرا لها بالحركة مسخرا لها بذلك مكلفا لها بذلك
لكن أرسطو أثبت قوله بأن الحركة الإرادية الشوقية لا بد فيها من عقل يتشبه به الفلك كما يتشبه المؤتم بالإمام
قال والشيء المتشوق إليه علة لحركة المتحرك إليه بالشوق
(8/216)
والشيء المشتاق إليه معلول له من جهة تلك العلة وفي تلك الحركة وحركة كل واحد من الأجسام فتشتاق كلها وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك
وهذا لم يذكر حجة على أن المبدأ الأول هو الآمر بالحركات فإن كان قصد أن أمره لها بمعنى كونه متشبها به محبوبا لها كما ذكر أرسطو فقد ذكر طريقة أرسطو بعينها وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع وبينا ما فيها من النقض والتقصير عن إثبات واجب الوجود وأنها تدل على أن هؤلاء القوم من أبعد الخلق عن معرفة الله تعالى
وكذلك كلام هذا الرجل ليس فيه إثبات الصانع كما ليس ذلك في كلام أرسطو وفيه باطل وتناقض من وجوه
أحدهما أنه جعل الحركة تارة لا قوام للسماوات إلا بها كما ذكر ذلك أرسطو حيث قال إنه لا وجود لها إلا في قبول الأمر وطاعة
(8/217)
الآمر يعني الحركة كما ذكر أرسطو وجعلها تارة مستغنية عنها ولكنها كلفت بها لأجل السفليات وأن حالها حال المكبين على أفعال لا يخلون منها طرفة عين مع أن تلك الأفعال غير ضرورة في وجودهم وهم غير محتاجين إليها
الثاني أن غاية ما في هذا أن يكون آمرا لها بالحركة وليس في مجرد الأمر بالفعل ما يوجب أن يكون الفعل القائم بالفاعل من إبداع الآمر ومن خلقه ولا أنه محتاج إلى الآمر في نفس إحداث الفعل كما ذكره في أمر الملك لنوابه وأمر القائد لجيشه وأمر السيد لعبيده
الثالث أنه لم يذكر حجة على أنه لا قوام لها إلا بالحركة التي أمرت بها فمن أين يعلم أن قوام ذاتها بتلك الحركة
الرابع أنه لو قدر أنه أبدع الحركة التي قامت بها وأنه لا قوام لها إلا بالحركة فغاية ما في ذلك أن يكون ذلك شرطا في قوامها ويكون فاعلا لشرط من شروط وجودها ليس في هذا ما يقتضي أنه أبدع سائر أعراضها ولا أبدع أعيانها
الخامس أن هذا مبني على إثبات عقول مفارقة وراء الأفلاك وأن فيها عقلا هو فوقها في الرتبة والدليل الذي ذكره هذا وابن سينا وغيرهما من الفلاسفة في إثبات العقول إنما يدل على إثبات عقول
(8/218)
هي أعراض تفتقر إلى أعيان تقوم بها من جنس العقل الموجود في نفوسنا فأما إثبات عقول هي جواهر قائمة بنفسها فلا دليل لهم على ذلك أصلا
ولولا أن هذا ليس موضع بسط ذلك لذكرت ألفاظهم بأعيانها ليتبين لك ما ذكرته ولكن هؤلاء القوم يجعلون الأعراض جواهر والجواهر أعراضا والصفة هي الموصوف والموصوف هو الصفة وعلى هذا بنوا كلامهم كما صرحوا به في غير موضع ومن هنا يظهر
الوجه السادس وهو أن هذا وأمثاله جعلوا نفس العلم هو العالم وجعلوا نفس العلم هو جوهرا قائما بنفسه واجب الوجود وهذا من أعظم سفسطة في الوجود وهو شر من كلام النصارى بكثير
وغاية ما ينتهي إليه ما يدعونه من المفارقات المجردات عن المادة وهي العقول التي جعلوها مبادئ أنها علوم كلية كالعلوم الكلية التي لنا ومن المعلوم أن العلوم الكلية لا تقوم إلا بعالم لكن هؤلاء غلطوا حيث أثبت قدماؤهم كأصحاب أفلاطن كليات مجردة عن الأعيان وهي المثل الأفلاطونية وجعلوها أزلية أبدية وإنما التغير والتحول في أعيانها فلما تبين لأرسطو وأتباعه فساد هذا أبطلوه وقالوا الكليات لا يكون
(8/219)
وجودها منفكة عن الأعيان وهؤلاء ظنوا أيضا أن الأعيان الموجودة تقارنها كليات مغايرة للأعيان وهو أيضا غلط فإن كل هذه الأمور الكلية إنما ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن العقول المفارقات التي أثبتوها هي من جنس هذه الكليات ولهذا يصرحون بأن العلم هو العالم حتى في واجب الوجود قالوا إنه هو العلم وإنه العالم وإن العلم هو القدرة فجعلوا نفس الذات الموصوفة هي الصفة وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع
ثم إنهم أثبتوا واجب الوجود بطريق الحركة وأنه لا بد لها من محرك والمحرك هو المحبوب عندهم الذي يحب التشبه به لا تحب ذاته لأن الحركة الإرادية لا بد لها من ذلك وادعوا أنه لا بد من محرك لا يتحرك وقد بين فساد هذا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب
(8/220)
وابن رشد قرر طريقتهم على غاية ما أمكنه من الحسن والبيان وهي كما ترى غايتها أن تكون الأجسام المتحركة محتاجة إلى آمر يحركها والمراد بأمره بالحركة كونه محبوبا لها أي تحب أن تتشبه به لا إنها تحب ذاته كما ذكره سلفه الفلاسفة الذين بين طريقهم وشبهه بالملك الآمر لمن دونه من نوابه في مملكته بأوامر وكل واحد يأمر من دونه وكلها ترجع إلى الآمر الأول
ومعلوم أن الآمر لم يبدع شيئا من أعيان المأمورين لا صفاتهم ولا أفعالهم بل الملك الآمر له شعور بأمره وطلب من المأمور وأما كون الشيء محبوبا مشتاقا إليه أو للتشبه به فليس في هذا صدور أمر من آمره ولا شعور بالمحب المشتاق ولا طلب لفعل منه
وابن رشد قرر بأن الآمر لها هو المبدع لها بانها لو كانت موجودة من ذاتها أي قديمة من غير علة ولا موجد لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير وألا تطيعه وكذلك حال الآمرين مع الآمر الأول وإذا لم يجز ذلك عليها فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها لا في عرض من أعراضها
(8/221)
فيقال له أنت لم تقرر أنه آمر لها وسلفك إنما ذكروا أنه محبوب لها أي تحب التشبه به وهب أنه آمر لها فأنت لم تذكر دليلا على انها إذا كانت مأمورة كانت مملوكة إلا قولك إنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية وهذه دعوى مجردة
فلم لا يجوز أن يقال تلك العبودية زائدة على الذات
وقولك إنها تقومت بالعبودية إن أردت تقومت بتعبدها الذي هو طاعتها وحركتها فهذه دعوى أرسطو وقد علم ما فيها وبتقدير صحتها فتقومها بذلك لا يقتضي أن تكون حقيقتها هي تلك الحركة بل يقتضي أن تكون الحركة شرطا في وجودها
وإن أردت بتقومها بالعبودية تقومها بأن خلقها الله تعالى فهذا هو المطلوب ولم تذكر عليه حجة
وأيضا فقولك علم أن الآمر لها غيرها وهو غير جسم لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها كلام لا حجة فيه لوجهين
أحدهما أنه مسخر للعقول ولم يلزم أن يكون من العقول المسخرة فلماذا يلزم إذا كان مسخرا للأجسام أن يكون من الأجسام
(8/222)
المسخرة فهو عندهم عقل وليس من العقول المسخرة فلا يلزم أيضا إذا قيل هو قائم بنفسه أو هو حي عليم قدير أو هو جوهر أو جسم أو ذات أو غير ذلك أن يكون من جملة المسخرات من هذا الجنس
الثاني أنه لم لا يجوز أن يكون خارجا عن جملة المسخرات المأمورة كما أنه قائم بنفسه وهو آمر لأعيان قائمة بنفسها وهو موصوف وهو آمر لموصوفات وأمثال ذلك وإذا كانت الأعيان أو الأجسام أو الموصوفات مختلفة الحقائق لم يلزم أن يكون الآمر لها مماثلا للمأمور
وأيضا فإنك قلت لو تخيلت آمرا له مأمورون كثيرون وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي به صارت موجودة
وهذا الكلام فيه تفريق بين المأمور الذي لا وجود له إلا في قبول الأمر كما يقولون لا توجد الأفلاك إلا بلحركة وهي قبول الأمر أو أن العقول لا توجد إلا بما فيها من قبول الأمر وبين ما صدر عن الأفلاك أو العقول من المولدات التي لا وجود لها إلا بالعقول أو الأفلاك
(8/223)
ومن المعلوم أن احتياج العقول والافلاك إلى الواجب بذاته أعظم من حاجة ما دونها اليها فكيف يقال في هذا لا يوجد إلا به ويقال في ذلك لا يوجد إلا بقبول الأمر
ومن المعلوم أن ما يظهر من تأثير الافلاك في الأرض إنما هو في بعض احوالها كما ذكره من تأثير قرب الشمس وبعدها والليل والنهار
ومن المعلوم بالحس أن هذا ليس وحده مستقلا بإبداع ما في الأرض وانما هو من جملة الاسباب التي بها يتم كما يفتقر الحيوان والنبات إلى الريح وافتقارها إلى ذلك اعظم من افتقارها إلى الشمس وكما تفتقر إلى الأرض والتراب وغير ذلك من الاسباب
وبالجملة هذه الطريق التي سلكها هؤلاء مبنية على ثلاث مقدمات أن الافلاك لا تقوم إلا بالحركة وان الحركة لا تقوم إلا بآمر منفصل أو محبوب منفصل يحب التشبه به فالافلاك لا تقوم إلا بذلك ثم إذا كانت لا تقوم إلا بذلك لزم أن تكون جميع اعيانها وصفاتها صادرة عنه وهم لم يقرروا ذلك
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع لكن يمكن تقريره بأن يقال إذا كان قوامها بحركتها وقوام حركتها به فقوامها به واذا كان قوامها
(8/224)
به امتنع أن تكون واجبة الوجود بنفسها لأن ما كان اجب الوجود بنفسه لا يكون قوامه بغيره
واذا كان الفلك متحركا بغيره امتنع أن يكون واجب الوجود فيكون ممكن الوجود بنفسه وممكن الوجود بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه فيجب أن يكون مفتقرا إلى مبدع فاعل كما كان مفتقرا إلى محبوب مشتاق اليه للتشبه به
فهذه الطريق يمكن أن يقرر بها إثبات واجب الوجود لكن هم لم يذكروا هذا وهم في اصطلاحهم لا يسمون الواجب بغيره ممكنا
وانما سلك هذه الطريقة متأخروهم لكن متأخروهم لم يثبتوا كون الفلك ممكنا لا واجبا بنفسه بهذه الطريق فظهر في كلام قدمائهم التقصير من وجه وفي كلام متأخريهم التقصير من وجه آخر
ولهذا لما صاروا مقصرين في إثبات كون الفلك ممكنا مصنوعا صار الدهرية منهم إلى انه واجب بنفسه
ولهذا لما ناظرهم أبو حامد الغزالي وبين عجزهم عن إثبات كون كل جسم ممكنا كما اعترفوا بأنه ليس كل جسم محدثا قال فإن قيل أن الدليل على أن الجسم لا يكون واجب الوجود انه أن كان واجب الوجود
(8/225)
لم يكن له علة لا خارجة عنه ولا داخلة فيه فإن كانت له علة لكونه مركبا كان باعتبار ذاته ممكنا وكل ممكن مفتقر إلى واجب الوجود
اجاب بأن البرهان لم يقم على إثبات واجب الوجود بالتفسير الذي ادعيتموه وانما قام بمعنى انه ليس له علة فاعلة واما كونه ليس له علة مادية أو صورية فلم يقم دليل على واجب الوجود بهذا الاعتبار
قال وكل تلبيساتهم في هاتين اللفظتين واجب الوجود ممكن الوجود فلنعد إلى المفهوم وهو نفي العلة يعني العلة الفاعلة واثباتها فكأنهم يقولون أن هذه الأجسام لها علة ام لا علة لها فيقول الدهري لا علة لها فما المستنكر واذا عنى بالإمكان والوجوب هذا فنقول انه واجب وليس ممكنا وقولهم
(8/226)
الجسم لا يكون واجبا تحكم لا أصل له
قال ابن رشد قد تقدم من قولنا انه إذا فهم من واجب الوجود ما ليس له علة وفهم من ممكن الوجود ما له علة لم تكن قسمة الموجود بهذين الفصلين معترفا بها فإن للخصم أن يقول ليس كما ذكر بل كان موجود لا علة له لكن إذا فهم من واجب الوجود الموجود الضروري ومن الممكن الممكن الحقيقي أفضى الأمر ولا بد إلى موجود لا علة له وهو أن يقال كل موجود فإما أن يكون ممكنا أو ضروريا فان كان ممكنا فله علة فإن كانت تلك العلة من طبيعة الممكن تسلسل الأمر فيقطع التسلسل بعلة ضرورية ثم يسأل في تلك العلة الضرورية إذا جوز ايضا أن يكون من الضروري ما له علة وما ليس له علة فإن وضعت العلة من طبيعة الضروري الذي له علة لزم التسلسل وانتهى الأمر إلى علة ضرورية ليس لها علة
قال وانما اراد ابن سينا أن يطابق بهذه القسمة رأى الفلاسفة في الموجودات وذلك أن الجرم السماوي عند الجميع من الفلاسفة هو
(8/227)
ضروري بغيره وأما هل الضروري بغيره فيه إمكان بالاضافة إلى ذاته ففيه نظر ولهذا كانت هذه الطريقة مختلة إذا سلك فيها هذا المسلك فأما مسلكه فهو مختل ضرورة لأنه لم يقسم الموجود اولا إلى الممكن الحقيقي والضروري وهي القسمة الموجودة بالطبع للموجودات
قال ثم قال أبو حامد مجيبا للفلاسفة في قولهم أن الجسم ليس بواجب الوجود بذاته لكونه له أجزاء هي علته فإن قيل لا ينكر أن يكون الجسم له أجزاء وان الجملة إنما تتقوم بالاجزاء وان الأجزاء تكون سابقة في الذات على الجملة قلنا ليكن كذلك فإن الجملة تقومت بالاجزاء واجتماعها ولا علة للاجزاء ولا اجتماعها بل هي قديمة كذلك بلا علة فاعلية فلا يمكنهم رد هذا إلا بما ذكروه من لزوم نفي الكثرة عن الموجود الأول وقد أبطلناه عليهم ولا سبيل لهم سواه
قال فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام فلا يصل
(8/228)
لاعتقاد في الصانع اصلا
قال ابن رشد هذا القول لازم لزوم لا شك فيه لمن سلك طريقة واجب الوجود في إثبات موجود ليس بجسم وذلك أن هذه الطريقة لم يسلكها القدماء وانما أول من سلكها فيما وصلنا ابن سينا وقد قال انها اشرف من طريقة القدماء وذلك أن القدماء إنما صاروا إلى إثبات موجود ليس بجسم هو مبدأ للكل من امور متأخرة وهي الحركة والزمان وهذه الطريقة تفضي اليه زعم اعني إلى إثبات مبدأ بالصفة التي أثبتها القدماء من النظر في طبيعة الوجود بما هو موجود ولو أفضت لكان ما قال صحيحا لكنها ليس تفضي وذلك أن واجب الوجود بذاته إذا وضع موجودا فغاية ما ينتفي عنه أن يكون مركبا من مادة وصورة وبالجملة أن يكون له جزء فإذا وضع موجودا مركبا من أجزاء قديمة من شأنها أن يتصل بعضها ببعض كالحال في العالم وأجزائه صدق على العالم أو على اجزائه انه واجب الوجود
(8/229)
قال هذا كله إذا سلمنا أن ها هنا موجودا هو واجب الوجود وقد قلنا نحن أن الطريقة التي سلكها في إثبات موجود بهذه الصفة ليست برهانية ولا تفضى بالطبع اليه إلا على النحو الذي قلنا واكثر ما يلزم هذا القول اعني ضعف هذه الطريقة عند من يضع ها هنا جسما بسيطا غير مركب من مادة وصورة وهو مذهب المشائين لأن من يضع مركبا قديما من أجزاء بالفعل فلا بد أن يكون واحدا بالذات وكل وحدة في شيء مركب فهي من قبل واحد هو واحد بنفسه اعني بسيطا ومن قبل هذا الواحد صار العالم واحدا وكذلك يقول الاسكندر انه لا بد أن تكون ها هنا قوة روحانية سارية في جميع اجزاء العالم كما يوجد في جميع اجزاء الحيوان الواحد قوة تربط اجزاءه بعضها ببعض والفرق الذي بينهما أن الرباط الذي في العالم قديم من قبل أن الرابط قديم والرباط الذي بين أجزاء
(8/230)
الحيوان ها هنا كائن فاسد بالشخص غير كائن ولا فاسد بالنوع من قبل الرباط القديم من قبل أنه لم يمكن فيه أن يكون غير كائن ولا فاسد بالشخص كالحال في العالم فتدارك الخالق سبحانه هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لم يكن فيه غيره كما يقوله أرسطوا في كتاب الحيوان
قال وقد رأينا في هذا الوقت كثيرا من أصحاب ابن سينا لموضع هذا الشك تأولوا على ابن سينا هذا الرأي وقالوا انه ليس يرى أن ها هنا مفارقا وقالوا أن ذلك يظهر من قوله في واجب الوجود في مواضع وانه المعنى الذي أودعه في فلسفته المشرقية قالوا وانما سماها فلسفة مشرقية لانها مذهب اهل المشرق ويرون أن الالهة عندهم هي الاجرام السماوية على ما كان يذهب اليه وهم مع هذا يضعفون طريق ارسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة
قال ونحن قد تكلمنا على هذه الطريقة غير ما مرة
(8/231)
وبينا الجهة التي منها يقع اليقين بها وحللنا جميع الشكوك الواردة عليها وتكلمنا ايضا على طريقة الاسكندر في ذلك أعني الذي اختاره في كتابه الملقب بالمبادئ وذلك انه يظن انه عدل عن طريقة ارسطو إلى طريقة أخرى لكنها مأخوذة من المبادئ التي بينها ارسطو وكلا الطريقين صحيحة لكن الطبيعة اكثر ذلك هي طريقة ارسطو
قال ولكن إذا حققت طريقة واجب الوجود عندي على ما أصف كانت حقا وان كان فيها اجمال يحتاج إلى تفصيل وهو أن يتقدمها العلم بأصناف الممكنات الوجود في الجوهر والعلم بأصناف الواجبة الوجود في الجوهر وهذه الطريقة هي أن نقول أن الممكن الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود في الجوهر الجسماني وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق وهو الذي لا قوة فيه اصلا لا في الجوهر ولا في غير ذلك من انواع الحركات وما هو هكذا فليس بجسم مثال ذلك أن الجرم السماوي قد يظهر من أمره انه واجب الوجود في الجوهر الجسماني وألا لزم أن يكون هنالك جسم اقدم منه وظهر منه أنه
(8/232)
ممكن الوجود في الحركة التي في المكان فوجب أن يكون المحرك له واجب الوجود في الجوهر وألا يكون فيه قوة اصلا لا علة حركة ولا على غيرها فلا يوصف بحركة ولا سكون ولا بغير ذلك من انواع التغيرات وما هو بهذه الصفة فليس بجسم اصلا ولا قوة في جسم واجزاء العالم الأزلية إنما هي واجبة الوجود في الجوهر إما في الكلية كالحال في الاسطقسات الاربع واما بالشخص كالحال في الاجرام السماوية
قلت المقصود ذكر طرق هؤلاء ومنتهى نظرهم ومعرفتهم وان خيار ما في كلام ابن سينا وامثاله وانما تلقاه من طرق المتكلمين كالمعتزلة ونحوهم مع ما فيهم من البدعة واما ما ذكره هذا من طريقة الفقهاء فهي أضعف وأقل فائدة في العلوم الإلهية من طريقة ابن سينا بكثير فإن ابن سينا أدخل في الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق المتكلمين وطرق الفلاسفة والصوفية ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقا حتى نفقت على كثير أهل الملل بخلاف فلسفة القدماء فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإلهية ما لا يخفي على أحد
وانما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية والطبيعية وكل فاضل يعلم أن كلام ارسطو وامثاله في الالهيات قليل نزر جدا قليل
(8/233)
الفائدة إذا كان صحيحا مع أنه لا يوصل اليه إلا بتعب كثير مع انه يقول هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا
وهو كما قيل لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل
وهذا الذي ذكره ابن رشد في إثبات واجب الوجود مضمونة أن ممكن الوجود وهو في اصطلاحه الذي ذكره عن القدماء المحدث بعد عدم يجب أن يتقدمه واجب الوجود وهو القديم الذي لم يسبقه عدم
وهذا هو بعينه قول المتكلم أن المحدث مفتقر إلى قديم
ثم قال وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق وهو الذي لا قوة فيه اصلا وليس بجسم
وهذا لم يذكر عليه دليلا صحيحا
وقوله أن الفلك يظهر من أمره انه واجب الوجود أي قديم في جوهره وانه ممكن الوجود في الحركة هو قول الفلاسفة الدهرية الذين يقولون أن الافلاك قديمة وحركتها دائمة
وهذا لا دليل لهم عليه اصلا بل جميع ما يذكرونه من الأدلة في
(8/234)
قدم العالم لا يدل شيء منها على قدم الافلاك بل غاية ما يدل على أن الله لم يزل فاعلا وأنه لا بد قبل الافلاك من شيء آخر موجود ونحو ذلك مما لا يدل على قدم الافلاك
ثم إذا قدر ثبوت ذلك فقوله يجب أن يكون المحرك للفلك واجب الوجود في الجوهر وألا يكون فيه قوة أصلا لا على حركة ولا غيرها فلا يكون جسما أي لا يقوم به فعل من الأفعال دعوى مجردة
ثم لو قدر انه لا يقوم به فعل فلم قال أن ما لا يقوم به فعل لا يكون جسما ويقال غاية ما ذكره أن يكون ما قاله ممكنا فيقال كما انه يمكن ذلك فيمكن نقيضه فإنه كما يجوز أن يكون المحرك له غير متحرك فالمحرك المتحرك اولى بالجواز والامكان
ثم يقال بل ما ذكرته هو على نقيض قولكم أدل منه على قولكم وذلك لأن الفلك إذا كان دائم الحركة وقد قررت أن المحرك له غيره فالمحرك له إما أن يكون متحركا واما أن لا يكون فإن لم يكن متحركا كان محركا لغيره بدون حركة فيه
وهذا إما أن يكون ممكنا واما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا بطل مذهبهم وان أمكن فالفلك نفسه إما أن يكون واجبا بنفسه واما أن يكون ممكنا فإن كان واجبا بنفسه وحركته ممكنة وهو محتاج في حركته
(8/235)
إلى محرك منفصل كان واجب الوجود بنفسه جسما متحركا بحركة تقوم به يفتقر فيها إلى غيره
وحينئذ فيمكن أن يقال المحرك للفلك هو ايضا جسم متحرك بحركة فيه سواء احتاج فيها إلى غيره أو لم يحتج واذا لم يحتج إلى غيره كان اولى وان قيل أن الفلك ممكن الوجود فلا بد له من الواجب فيكون الواجب علة موجبة له فلا بد أن يكون علة تامة في الأزل له لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن كذلك
والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها فإن كان علة تامة لحركة الفلك لزم وجودها في الأزل وهو ممتنع وإن لم يكن علة تامة له لم يكن بد من أمر يتجدد يصير به علة تامة لحدوث ما يحدث من الحركة وذلك المتجدد إن كان منه فقد بطل قولهم وإن كان من الممكن كان قولهم أبطل وأبطل فإن من الممكن لابد أن يكون له من الواجب إذ لا شىء له من نفسه
وهذا يصلح أن يكون حجة في هذه المسألة وهو أن الحركة الدائمة في الفلك إذا كانت صادرة عن موجب فالموجب لها إن كان علة تامة لها في الأزل لم يتأخر عنها شىء من معلولها وان لم تكن تامة في الأزل صار موجبا بعد أن لم يكن
وذلك التمام أن كان له من نفسه كان متحركا وهو خلاف ما زعموه وان كان من غيره كان واجب الوجود بنفسه مفتقرا في تمام فعله إلى غيره
(8/236)
وهذا أعظم عليهم وهو أن يكون متحركا بحركة من غيره
واذا قيل نقول في صدور الفعل الدائم الذي في الفلك عن الواجب ما يقال لو كان ذلك الفعل في الواجب
قيل الفعل إذا كان قائما في الواجب بنفسه لم يكن على هذا القول يمتنع أن تقوم به الأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته ولا يكون مفتقرا في شيء بن ذلك إلى شيء من مخلوقاته بل كل ما سواه فقير اليه
واما على قولهم فهم يقولون انه يمتنع أن يقوم بالمبدأ الأول شيء من الأفعال ويقولون أن الفعل الدائم القائم بالفلك صادر عنه شيئا بعد شيء
فيقال لهم الفلك أن كان واجبا بنفسه فقد قام بالواجب بنفسه حركات شيئا بعد شيء فامتنع أن يقولوا أن الواجب بنفسه لا تقوم به الأفعال وان كان الفلك ليس واجبا بنفسه بل ممكن بنفسه فهو صادر عن الأول ذاته وصفاته وأفعاله
فإذا قدر قديما لزم أن يكون المقتضي التام له قديما والفلك الممكن قابل للحركة شيئا بعد شيء فلا بد له من واجب والحركة ممكنة لا واجبة بنفسها فلا بد لها من فاعل يفعلها شيئا بعد شيء فإذا قدر الفاعل الفلك ففاعلية الفلك ممكنة فإذا حدثت شيئا بعد شيء لم يكن
(8/237)
لها بد من فاعل وحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من موجبها ممتنع فوجب أن يكون الموجب لحدوث تلك الحوادث امرا يتعلق بالواجب وذلك من لوازم الواجب لا يفتقر إلى غير الواجب وما منه بخلاف ما يقوم بالممكن فإن الممكن نفسه مفتقر إلى غيره فما فيه اولى أن يفتقر إلى غيره
وهذا قد بسط في موضع آخر وبين انهم يلزمهم التناقض وفساد قولهم سواء قدر الفلك واجبا بنفسه أو قدر ممكنا واجبا بغيره
والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طريق الطوائف في إثبات الصانع وان ما يذكره اهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة فإما أن يكون طويلا لا يحتاج اليه أو ناقصا لا يحصل المقصود وان الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها وان ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة وان سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما ينقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل وألا كانوا من المستحقين للعذاب إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة فهم بين محروم ومأثوم
(8/238)
وهذه الطرق التي أخذها ابن سينا عن المتكلمين من المعتزلة ونحوهم وخلطها بكلام سلفه الفلاسفة صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة يستطيل بها على المسلمين ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين وليس الأمر كذلك وانما هو قول مبتدعتهم وهكذا عمل اخوانه القرامطة الباطنية صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقوهم عليه مما هو مخالف للنصوص ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين الذين قال الله تعالى فيهم { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } سورة المائدة 54 ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الاوثان والشرك بالرحمن مثل دعوة الكواكب والسجود لها أو التصنيف في ذلك كما صنفه الرازي وغيره في ذلك
والذي أحدثه الفلاسفة كابن سينا وامثاله عن المعتزلة منه ما هو صحيح ومنه ما هو باطل فالصحيح كقولهم أن تخصيص شيء دون
(8/239)
شيء بالحدوث في وقت دون وقت لا بد له من مخصص والباطل نفى الصفات
وركب ابن سينا من الامرين ما دار به على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين ولم يقتصر على مجرد ما قالوه بل وسع القول فيه حتى وصله بكلام سلفه الدهرية
فالأول وهو أن تخصيص الحدوث بوقت لا بد له من مخصص ضم اليه أن كل ممكن وان كان قديما لا يترجح إلا بمرجح وبنى على ذلك إثبات واجب الوجود
وهي الطريقة التي أحدثها في الفلسفة وهي مركبة من كلام الفلاسفة والمعتزلة والمعتزلة لا تقتصر في أن التخصيص لا بد له من مخصص على تخصيص الحدوث بل تقول ذلك فيما هو أعم من ذلك ولا تفرق بين الاختصاص الواجب والاختصاص الممكن
وابن سينا وافقهم على ذلك فتناقضت عليه اصوله واما الأصل الفاسد الذي اخذه عنهم فهو نفي الصفات ولما كانت المعتزلة تنفي الصفات وتسمي اثباتها تجسيما والتجسيم تركيبا ويقولون أن المركب لا بد له من مركب فلا يكون مركبا فلا يكون
(8/240)
جسما لأن الجسم مركب فلا يقوم به صفة لان الصفة لا تقوم إلا بجسم ولا يكون فوق العالم لانه لا يكون فوق العالم إلا جسم
ولا يرى في الآخرة لأن الرؤية إنما تقع على جسم أو عرض في جسم
وكلامه مخلوق لانه لو قام به الكلام لكان جسما
اخذ ابن سينا وامثاله هذه الاصول وألزموهم ما هو ابلغ من ذلك فزاد في نفي الصفات عليهم حتى كان أظهر تعطيلا منهم بل ابلغ تعطيلا من الجهم رأس نفاة الصفات وخالف ابن سينا وامثاله المعتزلة في امور بعضها اصابوا في مخالفتهم وبعضها اخطأوا في مخالفتهم لكن الذي اصابوا فيه منه ما صاروا يحتجون به على باطلهم لضعف طريق المعتزلة الذي به يردون باطلهم
وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا كالاشارات وغيرها ويتبين للفاضل انه إنما بنى الحاده في قدم العالم على نفي الصفات فإنهم لما نفوا الصفات والافعال القائمة بذاته وسموا ذلك توحيدا ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل واظهر تناقضهم
(8/241)
ولكن قوله في قدم العالم افسد من قولهم ويمكن اظهار تناقض قوله اكثر من اظهار تناقض اقوالهم فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم
وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه فإنهم يوافقون عليها وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم وبها تمكن من انكار المعاد وتحريف الكلم عن مواضعه وقال نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات وقال كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في امر المعاد وبنى ذلك على أن الافصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به وانما
(8/242)
يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه كما تقدم كلامه
وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين الحدوا في اسماء الله واياته وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وابطال دنيه ودخل في ذلك باطنية الصوفية اهل الحلول والاتحاد وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا ومنتهى أمرهم هو الحاد باطنية الشيعة وهو انه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء
وكلام ابن عربي صاحب فصوص الحكم وامثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود يدور على ذلك لمن فهمه ولكن يسمون هذا العالم الله فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة كفرعون وأمثاله ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم بخلاف أولئك وايضا فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون انهم يثبتون خالقا مباينا للمخلوق مع قولهم بالوحدة والاتحاد كما رأينا منهم طوائف مع ما دخلا فيه من العلم والدين لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه وإنما يعرف ذلك من كان ذكيا خبيرا بحقيقة مذهبهم ومن كان كذلك فهو أحد رجلين إما مؤمن عليم أن هذا يناقض الحق وينافى دين الإسلام فذمهم وعاداهم وإما ذنديق منافق علم حقيقة
(8/243)
أمرهم وأظهر ما يظهرون وكان من أئمتهم فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون الذين جعلوا ائمة يدعون إلى النار
والاول من اتباع الرسل والانبياء كآل إبراهيم الذين جعلهم الله ائمة يهدون بأمره
وهذا الذي ذكرته لك من حال هؤلاء يتبين لكل مؤمن ذكي رأى كتبهم وتبني له مقصودهم فما ذكرته عن ابن سينا مذكور في كتابه الاشارات الذي هو زبدة الفلسفة عندهم الذي قال في خاتمته ايها الاخ اني مخضت لك في هذه الاشارات عن زبد الحق وألقمتك نقي الحكم في لطائف الكلم فصنه عن المبتذلين والجاهلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة والروية والسعادة وكان صغاه مع الغاغة أو كان من ملاحدة هؤلاء المتفلسفة ومن
(8/244)
هجمهم فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته أو بتوقفه عما يفزع اليه الوسواس وينظر إلى الحق بعين الرضا والصدق فآته ما يسألك منه مدرجا مجزأ مفرقا تستفرس ما تسلفه لما تستأنفه وعاهده بالله وبالايمان التي لا مخرج له منها أن يجري فيما تؤتيه مجراك متأسيا بك فإن أذعت هذا العلم وأضعته فالله بيني وبينك
وبهذه الوصية اوصى الرازي في شرحه له كما وصى بذلك في كلامه على حديث المعراج لما شرحه بنظير شرح هؤلاء له وهذا من جنس وصايا القرامطة الملاحدة في البلاغ الاكبر والناموس الاعظم
والمقصود هنا أن ابن سينا في هذا الكتاب الذي عظمه لما تكلم على افعال الرب تعالى وصفاته سلك ما ذكرته لك عنه كما قد ذكرنا في
(8/245)
غير هذا الموضع لما ذكر النزاع في مسألة الصنع والابداع وحدوث العالم
قال في آخره فهذه هي المذاهب واليك الاعتبار بعقلك دون هواك بعد أن تجعل واجب الوجود واحدا
والرازي لم يعرف وجه وصيته فقال أن كان المقصود منه الأمر بالثبات على التوحيد فإنه يكون كلاما أجنبيا عن مسألة الحدوث والقدم وان كان المقصود منه إنما هي المقدمة التي يظهر منها الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلا لأن القائلين بالقدم يقولون ثبت اسناد الممكنات بأسرها إلى واجب الوجود لذاته فسواء كان الواجب وحدا أو أكثر من واحد لزم من كونه واجبا دوام آثاره وأفعاله وأما القائلون بالحدوث فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتثنية فثبت انه لا تتعلق مسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد
قلت ليس مراد ابن سينا بالتوحيد التوحيد الذي جاءت به الرسل وهو عبادة الله وحده لا شريك له مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من الممكنات سواه فإن اخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا
(8/246)
التوحيد إذ فيهم من الاشراك بالله تعالى وعبادة ما سواه واضافة التأثيرات إلى غيره بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم ولازم قولهم اخراج الحوادث كلها عن فعله وانما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه وهو نفي الصفات وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه ايضا توحيدا
وهذا النفي الذي سموه توحيدا لم ينزل به كتاب ولا بعث به رسول ولا كان عليه أحد من سلف الأمة وائمتها بل هو مخالف لصريح المعقول مع مخالفته لصحيح المنقول
والمقصود منه وجه ارتباطه بمسألة الحدوث والقدم وذلك أن الأصل الذي بنى عليه حجته في مسألة القدم أنه كيف تحدث السموات بعد أن لم تكن محدثة من غير حدوث أمر وهذا إنما يكون على قول نفاة الصفات والافعال القائمة به الذين يقولون انه لا يقوم به فعل يتعلق بمشيته ومقدرته وألا فعلى قول اهل الاثبات تبطل حجته
وأيضا فمقصوده تمهيد اصله في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا إنما يتم إذا اثبت موجودا مجردا لا صفة له ولا نعت وألا فإذا كان الخالق موصوفا بصفات متنوعة كالعلم والقدرة والكلام والمشيئة
(8/247)
والرحمة وبأفعال متنوعة كالخلق والاستواء ونحو ذلك لم يكن واحدا عندهم بل كان مركبا وجسما
وحينئذ فيقال لهم هذا الذي تسمونه واحدا لا حقيقة له في الخارج وانما هو أمر يقدر في الاذهان لا يوجد في الاعيان وهو نظير الواحد البسيط الذي يجعلون منه تتركب الانواع فإن هذا الواحد الذي يثبتونه في الكليات ويقولون انه منه تتركب الانواع الموجودة هو نظير الواحد الذي يثبتونه في الالهيات ويقولون هو مبدأ الوجود وكلاهما لا حقيقة له في الخارج وانما هو يقدره الذهن كما يقدر الكليات المجردة عن الأعيان وكما يقدر بعدا مجردا ودهرا مجردا ومادة مجردة كما يقوله شيعة أفلاطن ومن وافقهم
بل هذه الأمور اقرب إلى وجودها في الخارج من ذلك الواحد الذي يقدرونه إما الواحد الكلي البسيط الذي تتركب منه الانواع في حدودها وحقائقها واما الواحد المعين الذي تصدر عنه الموجودات ومتى بطل واحدهم هذا بطل توحيدهم فبطل نفيهم للصفات وبطل قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فبطل قولهم في الأفعال فبطل ما قرروه في قدم العالم وبطل ما احتجوا به على ذلك من الحجة حيث قالوا كيف يصدر عنه ما لم يكن صادرا من غير قيام امر متجدد
(8/248)
به فكان ابطال ما الحدوا به في توحيد الله تعالى يهدم اصول ضلالهم
وايضا فالمقالات التي أبطلها ابن سينا في مسألة حدوث العالم وقدمه بنى ابطالها على هذا التوحيد الذي هو نفي الصفات فكان هذا عصمته التي لا بد له منها
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ابن سينا ذكر مقالات الناس في مسألة الحدوث والقدم ولم يذكر مقالة اساطين الفلاسفة المتقدمين كما لم يذكر مقالة الأنبياء والمرسلين والمقالات التي حكاها من الباطل إنما احتج على ابطالها بما لا حجة له فيه فقال اوهام وتنبيهات قال قوم أن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنه إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى { لا أحب الآفلين } سورة الانعام 76 فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما
(8/249)
قلت وهذا القول هو قول القائلين بقدم العالم وأنه واجب بنفسه ليس له موجب آخر هو الظاهر المشهور من مذاهب الدهرية واليه يعود كلام محققيهم ولهذا كان أئمة الكلام القدماء من المعتزلة والاشعرية وغيرهم كأبي على الجبائي وأمثاله وكالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلي وأمثالهما لا يذكرون عن الدهرية إلا هذا القول
واما القول الذي ذكره ابن سينا وهو أنه معلول علة واجبة ابدعته فهذا قوله وقول امثاله من الفلاسفة وقد حكى هذا القول عن برقلس وقد نازعه فيه اخوانه الفلاسفة وهو لم يذكر له عليهم حجة مستقيمة وانما احتج عليهم بما ذكره في توحيد واجب الوجود وانه لا يكون موصوفا بصفات فتكون فيه كثرة ولا يكون جسما فتكون فيه كثرة ونفي الانواع الخمسة التي سماها تركيبا كتركيب الجسم من اجزائه الحسية الجواهر المفردة ومن أجزائه العقلية وهي المادة والصورة ومن الذات والصفات ومن العام والخاص ومن الوجود والماهية
(8/250)
ولهذا بين أبو حامد الغزالي وغيره من المسلمين بل وابن رشد وامثاله من الفلاسفة فساد ما ذكروه في هذا التوحيد وبطلان ما نفوه من هذه المعاني التي سموها تركيبا وأنه لا حجة لهم على ذلك أصلا إلا ما توهموه من مدلول لفظ واجب الوجود بالمعنى الذي تصوروه لا بالمعنى الذي قام عليه الدليل فكان مبنى حجتهم على ألفاظ مجملة إذا بينت ظهر فساد كلامهم
ولهذا احتاج ابن سينا في مسألة إثبات الصانع إلى توحيده فضلا عن إثبات افعاله قال وقال آخرون بل هذا الوجود المحسوس معلول ثم افترقوا فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين لكن صنعته معلولة وهؤلاء قد جعلوا في الوجود واجبين وأنت خبير باستحالة ذلك ومنهم من جعل وجوب الوجود لشيئين أو لعدة اشياء وجعل غير ذلك من ذلك وهؤلاء في حكم الذين من قبلهم
فيقال له الذين جعلوا الوجود لشيئين أو عدة اشياء يدخل فيهم من جعل أصله وطينته غير معلومين فإن ما لم يكن معلولا كان واجبا لنفسه فهؤلاء جنس واحد حيث جعلوا واجب الوجود أكثر من
(8/251)
واحد ومع هذا فحجتك على ابطال قولهم قد عرف ضعفها ولكن الفرق بين هؤلاء وهؤلاء أن هؤلاء يجعلون الصانع اكثر من واحد فيقولون بالتعدد في الصانع وأولئك إذا اثبتوا اصلا وطينة غير معلولة فلا يجعلونها فاعلة صانعة بل قابلة للفاعل فهؤلاء يقولون أن الفاعل للعالم واجب بنفسه وهؤلاء يدخل فيهم من قال بقولهم كابن زكريا المتطبب حيث قالوا القدماء خمسة وسبب حدوث العالم عشق النفس للهيولي فإن هؤلاء يقولون بقدم مادة العالم ومكانه وزمانه والنفس
وكان ابن سينا ذكر هذا القول وذكر قول المجوس الذين يقولون بقدم النور والظلمة فهذان القولان متشابهان من بعض الوجوه فإن هذا يقول سبب حدوث العالم اختلاط النور والظلمة وهذا يقول سببه عشق النفس للهيولي ثم ذكر قول المتكلمين وقول اصحابه فلم يذكر إلا هذه الأقوال الاربعة واما قول ائمة الفلاسفة واساطينهم القدماء فلم يذكره كما لم يذكر قول الأنبياء وسلف الأمة
وحينئذ فيقال مذهب جمهور الفلاسفة أن اصل العالم معلول عن الواجب بنفسه والعالم مع ذلك محدث الصورة فهؤلاء لا يقولون بتعدد الواجب ولا يقولون بقدم العالم ولا يقولون بأن طينته غير
(8/252)
معلولة وهذا القول لم يذكره في نقله للمقالات مع أنه من أشهر الأقوال عن أساطين الفلسفة وهو أظهر اقوالهم في الحجة والدليل فإنه لا يرد عليه ما يرد على غيره ولا يمكنه أن يحتج على فساد قول هؤلاء بما احتج به على فساد قول غيرهم بل حجته الصحيحة لا تدل إلا على قول هؤلاء فإنهم يمكنهم أن يثبتوا للحوادث سببا حادثا ولا يجعلون الفاعل معطلا عن الفعل ولا يقولون بقدم الافلاك وحدوث حوادثها من غير سبب حادث ولا يخالفون النصوص المشهورة عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فكان قولهم اقرب إلى العقل والنقل من الأقوال التي ذكرها
قال ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد ثم افترقوا فقال فريق منهم انه لم يزل ولا وجود لشيء عنه ثم ابتدأ وأراد وجود شيء عنه ولولا هذا لكانت احوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها موجودة بالفعل لأن كل واحد منها وجد فالكل وجد فيكون لما لا نهاية له من امور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود قالوا وذلك محال وان لم تكن كلية حاصرة لاجزائها معا فإنها في حكم ذلك وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الاحوال
(8/253)
توصف بأنها لا تكون إلا بعد مالا نهاية له فتكون موقوفة على مالا نهاية له فيقطع اليها ما لا نهاية له ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الاحوال وكيف يزداد عدد مالا نهاية له ومن هؤلاء من قال أن العالم يوجد حين كان اصلح لوجوده ومنهم من قال لم يمكن وجوده إلا حين وجد ومنهم من قال لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر بل بالفاعل ولا يسأل عن لم فهؤلاء هؤلاء
قال وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول يقولون أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته وأحواله الأزلية وانه ليس يتميز في العدم الصريح حال الأولى به فيها أن لا يوجد شيئا أو بالاشياء أن لا توجد عنه أصلا وحال بخلافها ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع وان
(8/254)
تسنح جزافا وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال وكيف تسنح إرادة لحال تجددت وحال حال ما يتجدد كحال ما يمهد له التجدد فيتجدد واذا لم يكن تجدد كانت حاله ما لم يتجدد شيء حالا واحدة مستمرة على نهج واحد وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر أو لأمر زال مثلا لحسن من الفعل وقتا ما أو تيسر أو وقت معين أو غير ذلك مما عد أو لقبح كان بكون له قد زال أو عائق أو غير ذلك كان فزال
قالوا فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن افاضة الخير والجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة فهذا الداعي
(8/255)
ضعيف قد انكشف لذوي الأبصار ضعفه على أنه قائم في كل حال وليس في حال بأولى بإيجاب السبق من حال وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه واجب الوجود بغيره فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره كما نبهت عليه
وأما كون غير المتناهي كلا موجودا ككون كل واحد وقتا ما موجودا فهو توهم خطأ فليس إذا صح على كل واحد حكمه صح على كل محصل وألا لكان يصح أن يقال الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود فيحمل الإمكان على الكل كما حمل على كل واحد
قالوا ولم يزل غير المتناهي من الاحوال التي يذكرونها معدوما إلا شيئا بعد شيء وغير المتناهي المعدوم قد يكون فيه اكثر وأقل ولا يثلم ذلك كونها غير متناهية في العدم
وأما توقف الواحد منها على أن يوجد قبله مالا نهاية له أو احتياج شيء منها إلى أن ينقطع اليه ما لا نهاية له فهو قول كاذب فإن معنى قولنا كذا توقف على كذا هو أن الشيئين وصفا معا بالعدم
(8/256)
والثاني لم يكن يصح وجوده إلا بعد وجود المعلول الأول وكذلك الاحتياج ثم لم يكن البتة ولا في وقت من الاوقات يصح أن يقال أن الاخير كان متوقفا على وجود ما لا نهاية له أو محتاجا إلى أن يقطع اليه ما لا نهاية له بل أي وقت فرضت وجدت بينه وبني كون الاخير اشياء متناهية ففي جميع الاوقات هذه صفته لا سيما والجميع عندكم وكل واحد واحد فإن عنيتم بهذا التوقف أن هذا لم يوجد إلا بعد وجود أشياء كل واحد منها في وقت آخر لا يمكن أن يحصى عددها وذلك محال فهذا نفس المتنازع فيه انه ممكن أو غير ممكن فكيف يكون مقدمة في ابطال نفسه أبأن يغير لفظها بتغيير لا يتغير به المعنى قالوا فيجب من اعتبار ما نبهنا عليه أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الاوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أوليا وما يلزم من ذلك الاعتبار لزوما ذاتيا إلا ما يلزم من اختلافات يلزم عندها فيتبعها التغير
(8/257)
قال فهذه هي المذاهب واليك الاعتبار بعقلك دون هواك
هذا جملة كلامه فهذا الكلام قد ذكر فيه قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وقوله وقول امثاله من الفلاسفة وذكر حجة المعتزلة المعروفة عندهم وهو دليل الاعراض المبني على ابطال حوادث لا تتناهى وذكر حجته في أن تخصيص حال دون حال بالفعل لا بد له من مخصص فإذا كانت الاحوال متساوية لزم انتفاء المخصص فينتفي التخصيص فينتفي ما ذكروه من الحدوث
وهذه الحجة مادتها من كلام المعتزلة الصحيح حيث أخذ عنهم أن التخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وهم بنوا على ذلك إثبات الصانع وهو على ذلك بنى إثبات واجب الوجود لكن نقل ذلك إلى الممكن الذي ليس له من نفسه وجود فتخصيصه بالوجود دون العدم وبالعدم دون الوجود كتخصيص الحدوث بوقت دون وقت
وقد عرف أن هذا الكلام مادته من كلام المعتزلة والفلاسفة
(8/258)
جميعا وأن الصواب الذي فيه وهو امتناع تخصيص المحدث أو الممكن بلا مخصص هو من كلام المعتزلة الذي وافقهم عليه والخطأ الذي فيه بعضه منهم وأكثره منه فإنه ألزم المعتزلة بطرد هذا الأصل فلما لم يطردوه نقض قولهم
وحينئذ فيقال له بطلان قول المعتزلة لا يستلزم صحة قولك إلا لو لم يمكن قول إلا قولك وقولهم فكيف وأقاويل ائمة الفلاسفة ليست من القولين وكذلك الأقوال التي عليها ائمة السنة والحديث ليست من القولين
والاقوال الموجودة في الكتب الإلهية التوراة والقرآن اللذين لم يأت من عند الله تعالى كتاب أهدى منهما ليست واحدا من القولين فإذا قدر بطلان قول معين لم يلزم صحة قولك فكيف إذا كان ما أفسدت به قول المعتزلة يبطل أيضا قولك فقولك أفسد من قولهم إن كان قولهم فاسدا وكذلك أن كان صحيحا فهو فاسد على كل تقدير
وذلك أن عمدتك على بطلان قولهم انه يمتنع أن يختص وقت دون وقت بالحدوث بلا سبب مخصص حادث
(8/259)
فيقال لك وأنت تقول أن الحوادث كلها تحدث بلا سبب حادث وعلى قولك فكل حادث حادث في وقت من الاوقات فإن ذلك الوقت اختص بالحدوث بلا سبب مخصص حادث فألزمهم اختصاص وقت من الاوقات بالحدوث دون سائر الاوقات بلا مخصص وأنت يلزمك اختصاص كل وقت بما يحدث فيه من الحوادث بلا سبب مخصص واختصاص كل حادث بصفته وقدره بلا سبب مخصص واختصاص كل حادث بوقته بلا سبب مخصص وحدوث جميع الحوادث بلا سبب مقتض للحدوث فهم أن كان ما التزموه باطلا فقد التزمت اضعافه فيكون قولك أفسد وان لم يكن باطلا بطلت حجتك على ابطال قولهم فتبين أن ابطالك لقولهم مع اعتقادك لما تعتقده باطل على كل تقدير وعلم أن الاصول الصحيحة التي وافقتهم عليها هي على بطلان قولك ادل منها على بطلان قولهم والاصول الفاسدة التي وافقوك عليها إذا كانوا قد تناقضوا فيها ولم يطردوها فأنت أعظم تناقضا في عدم طردك لأصولك مطلقا صحيحها وفاسدها
وبيان ذلك انه قد قال يجب أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الاوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أزليا وما يلزم من ذلك لزوما ذاتيا إلا ما يلزم من اختلافات يلزم عندها فيتبعها التغير يعني حركة الفلك وما يتبعها من التغير
(8/260)
فيقال له إذا لم يكن مختلف النسب إلى الاوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أزليا واللازمة من ذلك لزوما ذاتيا كما يقوله في لزوم الفلك عنه وما يقدره علة للفلك من العقول أو غيرها فاللازم لهذه اللوازم إما أن يكون لازما لها لا ينفك عنها في وقت من الاوقات أو لازما لها في حال دون حال
فإن كان لازما لها في كل الاوقات وجب أن لا يحدث شيء وان لا يكون تغير اصلا
وان كان لازما لها في وقت دون وقت فقد اختلفت نسبة لوازمه إلى الاوقات والامور الحادثة في الاوقات حيث حدث عن لوازمه في هذا الوقت ما لم يحدث في هذا الوقت واذا اختلفت نسبة اللوازم إلى الاوقات والحوادث لزم أن تختلف نسبته إلى الاوقات والحوادث لأن الأمور الكائنة عنه كونا أزليا وما يلزمها لزوما ذاتيا نسبتها إلى جميع الاوقات والحوادث كنسبته لأنه لو كانت نسبتها إلى الاوقات والحوادث تخالف نسبته لكانت حالها في بعض الاوقات والحوادث مخالفا لحاله ولكانت مختصة في بعض الأوقات بمعنى منتف عنها في اوقات اخر
وذلك تخصيص لبعض الاوقات دون وقت آخر بحدوث حادث فيه
(8/261)
فإن جاز تخصيص وقت دون وقت بحدوث من غير سبب حادث بطل أصل الكلام
وان لم يجز ذلك لزم أن يكون اختصاص لوازمه بحدوث حادث فيها أو منها بوقت دون وقت إنما كان لاختصاصه هو بحدوث حادث فيه أو منه لوقت دون وقت وألا لم تكن تلك اللوازم لوازم له
فلا بد من أحد أمرين
إما أن تكون تلك الأمور اللازمة له ليست لازمة فتكون الحوادث حدثت عنه ابتداء بدون وسائط وهذا أشد ابطالا لقولهم
واما أن تكون تلك الأمور اللازمة له لا تختص في وقت دون وقت بحدوث حادث فيها أو منها إلا لتخصيصه لها بذلك إذ لو اختصت بدون تخصيصه للزم الحدوث بلا محدث وهو ممتنع
ومتى كان تخصيص اللوازم بحدوث حادث فيها أو منها إنما هو لتخصيصها لها بذلك كانت نسبته إلى الاوقات والحوادث نسبة مختلفة كنسبة اللوازم
وهذا أمر لا محيد لهم عنه وهو يبين بطلان قولهم بيانا ضروريا لمن فهمه إذ اصل قولهم حدوث التغير عما لا يتغير وهذا يناقض ما قالوه
فهم بين امرين أن جوزوا حدوث متغير عن غير متغير لم يمكنهم
(8/262)
إبطال قول المعتزلة ونحوهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث من غير حدوث سبب بل بمجرد القدرة أو القدرة والإرادة التي لم تزل ولا تزال على حال واحدة
وإن لم يجوزوا حدوث متغير عن غير متغير بطل قولهم كله فإن الفلك متغير مختلف هو في نفسه مختلف القدر والصفات وهو متغير عندهم بما يحدث فيه من الحركات وهذا التغير صادر عما لا يتغير عندهم سواء قالوا هو صادر عن العقل الذي لا يتغير كما يقوله ابن سينا وأمثاله أو صادر عن الواجب بنفسه الذي لا يتغير كما يقوله ابن رشد وأمثاله أو صادر عن الواجب بتوسط العقل كما يقوله النصير الطوسي وأمثاله أو مهما قالوه من جنس هذه المقالات فلا بد على كل تقدير أن يلزمهم حدوث متغير عن غير متغير
وحينئذ فبطلت حجتهم على المعتزلة وكانوا أكثر التزاما للباطل الذي قرروا أنه باطل وأبطلوا به قول المعتزلة وذلك أنهم يجعلون جنس الحركات والحوادث كلها حدثت بلا محدث أصلا لأن العلة القديمة الأزلية لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها ولوازمها فكل ما تأخر عنها فليس من موجبها لا بوسط ولا بغير وسط وتلك الحوادث لم تحدث
(8/263)
عن واجب آخر بالاتفاق والضرورة فيلزم أن لا يكون للحوادث كلها محدث وأن لا يكون الرب تعالى محدثا لشيء من الحوادث
وفي هذا من تعطيل الصنع عن الصانع وتعطيل الصانع عن الصنع ما هو أعظم من كل قول قاله غيرهم فإنهم يشنعون على المعتزلة ونحوهم بأنكم إذا قلتم بحدوث العالم عطلتم الصانع في أزله عن الصنع
فيقال لهم أنتم عطلتم الصانع دائما عن صنع شيء من الحوادث على ما هو بين ظاهر لكل من تدبر هذا فقد عطلتموه عن أن يحدث شيئا من الخير والإحسان أزلا وأبدا
وأما صنعة اللوازم وجوده فهذا أنتم منازعون فيه وقد بين غير واحد بطلان قولكم فيه وحينئذ فتكونون قد عطلتموه عن كل فعل وصنع وإفاضة وإيجاب واقتضاء أزلا وأبدا
وأما تعطيل الصنعة عن الصانع فهذا ليس قولا معروفا لطائفة معروفة بل الأمم المعروفون متفقون على أن الصنعة لا بد لها من صانع هذا ضروري في العقل
وعلى قولكم الحوادث دائما تحدث وليس لها صانع فإن العلة التامة في الأزل لا يحدث عنها أصلا وأيضا فإن الحوادث مختلفة في
(8/264)
صفاتها ومقاديرها كما أن الفلك مختلف في صفته وقدره
والواحد البسيط من كل جهة يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره وإن جاز ذلك بطل قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإذا بطل هذا القول بطل قولهم في صدور العالم عنه سواء كان صادرا عنه بوسائط لازمة له بسيطة كالعقول أو بغير وسائط أو بوسائط مختلفة فكيف ما قدروه فلا بد لهم من لزوم أجسام مختلفة في القدر والصفات عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل فيه
وأيضا فما من زمان من الأزمنة إلا وتحدث فيه حوادث مختلفة وقد يختص بعض الأزمنة بحوادث ليست من جنس حوادث بقية الأزمنة كحادث الطوفان وأمثاله بل إرسال موسى عليه السلام وما تبع رسالته من الحوادث وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم وما تبع رسالته من الحوادث وأمثال ذلك هي من الحوادث المختصة بزمان دون زمان فإذا كان لا سبب للحوادث إلا ذات نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء ولوازمها التي نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء وقد قالوا لأجل هذا يمتنع تخصيص زمان دون زمان بحدوث العالم وقالوا العالم قديم لذلك ففي هذا القول من تخصيص بعض الأزمنة بحادث دون حادث ما في ذلك القول وزيادات فإن المعتزلة يقولون التخصيص إنما وقع
(8/265)
وقت إحداث العالم فقط ثم التخصيص في سائر الأوقات كان عن أسباب حادثة في العالم
وهؤلاء يقولون لا تزال الأوقات تختص بالحوادث من غير سبب مع أن نسبته إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة والأشعرية ونحوهم وإن قالوا إنه لا يزال يخص وقتا دون وقت بحدوث الحوادث من غير سبب يقتضي التخصيص سوى محض الإرادة التي نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة فهم أطرد لقولهم من قولكم إن نسبته إلى الأوقات واحدة مع أنه لم يزل ولا يزال يخص كل وقت بحادث دون الآخر مع استواء نسبته إلى الأوقات
فأنتم مع قولكم بدوام الفعل وأزليته في قولكم من مخالفة أصلكم أكثر مما في قول المعتزلة وقول الأشعرية
وأيضا فمعلوم أن الحركات مختلفة والمتحركات مختلفة وليست الحركات كلها صادرة عن حركة الفلك الأطلس بل لكل فلك أو لكواكب كل فلك حركة تخصه فإن الناس يشاهدون بعيونهم حركات الخمسة على خلاف حركات الثوابت ويشهدون حركة الشمس والقمر والكواكب من المشرق إلى المغرب على خلاف حركة الخمسة وحركة الثوابت
والجمهور من أهل الهيئة يقولون المتحرك هو الأفلاك وإن
(8/266)
الحركة المشرقية هي حركة المحيط بما فيه وسواء كان الأمر كذلك أو لم يكن فليست حركة كل كوكب وفلك تابعة لحركة المحيط بل الحركات مختلفات وإذا كان كذلك امتنع أن تصدر هذه الحركات المختلفة عن واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد سواء صدرت بواسطة أو بغير واسطة
وأما صدور المختلفات عن ما لا يصدر عنه إلا واحد بلا واسطة فهو جمع بين النقيضين وقول متناقض
وأما الصدور بواسطة فتلك الواسطة يجب أن لا تكون إلا واحد عن واحد إذا قدر أن الأول واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد وإلا كان قولا متناقضا فإنه إذا صدر عنه ما فيه كثرة فقد صدر عنه أكثر من واحد وإن لم يكن في الصادر كثرة وجب أن لا يصدر عن الصادر الأول إلا واحد وهلم جرا وهذا خلاف المشهود
وما يلفقونه في هذا المقام من قولهم إن الأول يعقل مبدعه ويعقل نفسه وأنه باعتبار عقله للأول صدر عنه عقل وباعتبار عقله لنفسه صدر عنه نفس أو فلك أو باعتبار وجوبه بالأول صدر عنه عقل وباعتبار إمكانه صدر عنه نفس أو فلك أو باعتبار عقله صدر كذا أو كذا وباعتبار وجوبه أو إمكانه صدر كذا أو كذا أو مهما قالوه
(8/267)
من الأقوال التي يقدرها الذهن في هذا المقام فهي مع كونها أقوالا لا دليل عليها وإنما هي تحكمات ورجم بالغيب بل والدليل يقوم على فسادها فلا يحصل بها جواب عما يدل على فساد أصلهم فإن تلك الوجوه إما أن تكون أمورا وجودية أو عدمية فإن كانت وجودية فقد صدرت عن الأول فقد صدر عنه أمور متعددة أكثر من واحد بلا واسطة وإن كانت عدمية فلا يخرج الصادر الأول عن أن يكون واحدا بسيطا وحينئذ فلا يصدر عنه إلا واحد
يبين ذلك أن كثرة السلوب العدمية إن أوجبت كثرة فالأول فيه كثرة لكثرة ما يسلب عنه وإن لم توجب كثرة فلا كثرة في الصادر الأول بأمور عدمية فلا يصدر عنه إلا واحد وهلم جرا
وأيضا فهذا الواحد الذي يقدرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان كالواحد الذي يجعلونه مبدأ المركبات العقلية كما بسط هذا في موضع آخر
وإذا كان كذلك فما يقولونه في هذا المقام من أن حركة الفلك واحدة أزلية أبدية وهي فعل الرب الدائم فعله قول باطل لوجوه
أحدها أن الحركات ليست واحدة بل حركات مختلفات وليس بعضها صادرا عن بعض فقول القائل إنها واحدة قول باطل
الثاني أن الحركة الدائمة سواء كانت واحدة أو متعددة وسواء
(8/268)
كانت نوعا واحدا أو أنواعا مختلفة تحدث شيئا بعد شيء وإذا كان الأول علة تامة أزلية كان مستلزما لمعلوله فلا يتأخر عنه شيء من معلوله بل يكون معلوله كله أزليا أبديا دائما بدوامه إن أمكن مقارنة المعلول لعلته لا يحدث منه شيء بعد شيء فإن الحادث في الزمن الثاني يمتنع أن تكون علته تامة أزلية لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها وهو لا يكون بينه وبينها فصل فكيف وأجزاء الحركة الحادثة شيئا بعد شيء كلها منفصلة عن الأزل فامتنع أن يكون معلول علة تامة أزلية
الثالث أن يقال كون المفعول المعين يقارن فاعله في الزمان أمر لا يعقل وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن كما يقدر الممتنعات وسواء سمي الفاعل علة أو لم يسم فإنه لا تعقل علة صدر عنها معلول هو مفعول لها وكان زمانهما واحدا ولكن قد يكون الشيء مستلزما لغيره ومقارنا له في الزمان كاستلزام الذات لصفاتها اللازمة واستلزام حركة أحد الجسمين المتلازمين لحركة الآخر كحركة الخاتم واليد لكن لا يكون الملزوم فاعلا للازم فإنه لا يعقل مفعول معين لازم لفاعله البتة
ولكن لفظ العلة فيه إجمال واشتباه واشتراك فقد يراد بها الملزوم الموجب وقد يراد بها الفاعل والملزوم الموجب الذي ليس بفاعل يعقل أن يقارنه لازمه وموجبه الذي ليس بمفعول له لكن موجبه الذي هو
(8/269)
مفعول له لا يعقل مقارنته له لكن يعقل صدور الفعل عنه شيئا بعد شيء فتكون المفعولات صادرة عنه شيئا بعد شيء
وهؤلاء أصلوا أصلا فاسدا ظهر به فساد قولهم وهو أن العلة التامة التي تسمى المؤثر التام يجب أن يقارنه معلوله في الزمان بحيث لا يتأخر عنه ولا يكون معلول إلا لعلة تامة وهذا ناقضوا به المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم في قولهم إن المؤثر التام يجوز بل قد يجب أن يتراخى عنه أثره فقالوا الباري كان في الأزل مؤثرا تاما وتراخى عنه أثره فقال أولئك بل يجب أن يقارنه أثره
والصواب قول ثالث وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر فيكون الأثر عقبه لا مقارنا له ولا متراخيا عنه كما يقال كسرت الإناء فانكسر وقطعت الحبل فانقطع وطلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق
قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس 82 فإذا كون شيئا كان عقب تكوين الرب له لا يكون مع تكوينه ولا متراخيا عنه وقد يقال يكون مع تكوينه بمعنى أنه يتعقبه لا يتراخى عنه وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم فإنه إنما يكون عقب تكوينه له
(8/270)
فهو مسبوق بغيره سبقا زمانيا وما كان كذلك لا يكون إلا محدثا والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام
وأما على قول هؤلاء فيلزمهم أمور باطلة تستلزم فساد قولهم
منها أنه لا يحدث في العالم شيء فإنه إذا كانت العلة تامة أزلية ومعلولها معها في الزمان وكل ما سواه معلول له بوسط أو بغير وسط لزم أن يكون كل ما سوى الله قديما أزليا
ومنها أنه يلزم أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناهى في آن واحد وهذا متفق على استحالته عندهم وعند سائر العقلاء وهو تسلسل علل ومعلولات أو تمام علل ومعلولات حادثة لا نهاية لها فإنه كلما حدث حادث فإنه لا يحدث حتى تحدث علته التامة أو تمام علته التامة وتكون حادثة معه وتلك لا تحدث حتى يحدث معها ما هو كذلك فلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى أو تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد
وإذا قالوا كل حادث مشروط بعدم ما قبله لم يصح على قولهم لأن عدم الحادث الأول سابق للحادث الثاني وعندهم العلة التامة يجب مقارنتها للمعلول ولا تتقدم عليه
ولكن هذا يصح على قول أهل السنة الذين يقولون المعلول يحصل عقب تمام العلة التامة لا معها فيكون حدوث الثاني عقب عدم الأول
(8/271)
وعلى هذا القول فيلزم حدوث كل ما سوى الله تعالى
وبهذا يظهر بطلان قولهم وصحة قول المسلمين فإنهم قد يشبهون قولهم بما يحدث شيئا فشيئا عن الفاعل بالاختيار أو الطبع كالحجر الهابط وكالمسافر إلى بلد فإنه يقطع المسافة شيئا فشيئا والمقتضي لقطعه المسافة وهو قصده تلك المدينة قائم لكن قطعه للجزء الثاني منها مشروط بعدم الأول
فيقال لهم هذا يدل على فساد قولكم فإنه ليس هنا مؤثر تام قارنه أثره ولم يوجد الأثر إلا عقب التأثير التام لا معه فليس هذا نظير قولكم بل هو نظير قول من يقول لم يزل يحدث شيئا بعد شيء وإحداثه للثاني مشروط بعدم الأول
وهذا نظير قول من يقول لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء فوجود الثاني كالإرادة الثانية والكلمة الثانية والفعل الثاني مشروط بانقضاء الأول وبانقضاء الأول الأول تم المؤثر التام المقتضي لوجود الثاني
وعلى هذا فكل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية فليس في مفعولاته قديم وإن قدر أنه لم يزل فاعلا وليس معه شيء قديم بقدمه بل ليس في المفعولات قديم
(8/272)
البتة بل لا قديم إلا هو سبحانه وهو وحده الخالق لكل ما سواه وكل ما سواه مخلوق كما قال تعالى { الله خالق كل شيء } سورة الزمر 62
وهؤلاء لما كانت مناظرتهم مع المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم على أصلهم في الاستدلال على حدوث الأجسام أو حدوث العالم بامتناع حوادث لا أول لها ورأى هؤلاء أن هذه قضية كاذبة ولهذا كان أئمة أهل الكلام كالرازي وغيره يوافقونهم على فسادها فإن الرازي وإن قرر في كتبه الكلامية كالأربعين و نهاية العقول وغيرهما امتناع حوادث لا أول لها كما تقدم تقريره واعتراض إخوانه عليه فهو نفسه في كتب أخرى يقدح في هذه الأدلة ويقرر وجوب دوام الفاعلية وامتناع حدوث الحوادث بلا سبب وامتناع حدوثها في غير زمان ويجيب عن كل ما يحتج به في هذه الكتب كما فعل ذلك في كتاب المباحث المشرقية وغيره
ولعل الذين قدحوا في أدلته هذه كالآمدي والأبهري والأرموي صاحب لباب الأربعين وغيرهم أخذوا ذلك أو بعضه من كلامه أو أخذوه هم من حيث أخذه هو
وهذا قد رأيته فإني كنت قد أرى اعتراض هؤلاء عليه أو بعض أجوبته ثم انظر بعد ذلك في كلام آخر له فأجدهم قد أخذوا ذلك
(8/273)
الاعتراض أو الجواب أخذوه من كلامه كما في الجواب الباهر الذي ذكره الأرموي فإنه أخذه من المطالب العالية
والاعتراضات التي ذكرها هو وغيره على تقريره لامتناع حوادث لا أول لها قد ذكرها الرازي في المباحث المشرقية وذكرها الآمدي أيضا ولهذا أرأيت من يغتر بكلام هؤلاء من طلبة العلم حقيقة أمرهم وأن هذا التقرير الذي وافقوا فيه شيوخهم المتكلمين من المعتزلة والأشعرية هم بعينهم قد قدحوا فيه في موضع آخر قدحا لم يجيبوا عنه
فلا يظن الظان أن ما ذكروه مما ينصر دين الإسلام بل هذا مما يقوي معرفة المسلمين بذم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وأنه جهل لا علم
ولا يغتر المغتر بما يجده من كثرة ذكر المصنفين في الكلام لذلك واتباع آخرين مقلدين لهم في ذلك فإن الناظر إما أن يكون ناظرا بنفسه حتى يتبين له الحق أو يقلد المعصوم فهذان طريقان علميان وإما أن يكون محسنا للظن بشيوخ تقدموا من شيوخ هذا الكلام المحدث فهؤلاء قد عارضهم من هو أعلم منهم فالسلف والأئمة عارضوهم وأتباعهم الحذاق الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم وأتباعهم الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم والفلاسفة أيضا عارضوهم وناقضوهم
(8/274)
وإذا قال القائل هذا الأصل قد قرره مثل أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام ومثل الجهم بن صفوان واتبعهم عليه مثل أبي علي وأبي هاشم وعبد الجبار بن أحمد وأبي الحسين البصري وغيرهم ووافقهم على صحة هذه الطريقة وهو امتناع حوادث لا أول لها مثل محمد بن كرام وابن الهيصم وغيرهما ومثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي المعالي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وأبي عبد الله المازري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم بل ومثل الشريف المرتضى وأمثاله من شيوخ الشيعة فهؤلاء وأضعافهم يحتج بهذه الطريقة وإن كان أصلها مأخوذا من الجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف وغيرهما
قيل لمن قال هذا القول الواحد من هؤلاء لم يعظمه من يعظمه من المسلمين إلا لما قام به من دين الإسلام الذي كان فيه موافقا لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السعي الداخل في طاعة الله ورسوله وإظهار العلم الصحيح الموافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والمظهر لباطل من خالف الرسول وما من أحد من هؤلاء ومن هو أفضل منهم إلا وله غلط في مواضع
(8/275)
وإذا كان كذلك فانظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا وهل هي موافقة للشرع أم لا فاعرضها على الكتاب والميزان فإن الله تعالى يقول { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } سورة الحديد 25 فاعرض عما يذكرونه بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله وما ثبت عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وزنه أيضا بالميزان الصحيحة العادلة العقلية واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ولا تتبع الظن فإنه لا يغني من الحق شيئا وسل الله أن يلهمك ويهديك
فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح الإلهي أن الله تعالى قال
يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام
(8/276)
من الليل يصلي يقول
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم
والله تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم قالوا { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } سورة الملك 10 فالضلال وقع في السمع والعقل فإن أقواما نصروا الإسلام أو السنة في ظنهم وصاروا يدخلون في الإسلام أو السنة ما ليس منه ولم يكن لهم من الخبرة بالكتاب وتفسير السلف له والسنة وأقوال سلف الأمة ما يعرفون به ما بعث الله به رسوله مما عرف بالنص والإجماع
ولهذا نجد جمهور أهل الكلام من أبعد الناس عن معرفة الحديث وأقوال الصحابة ويذكرون أحاديث يظنونها صحيحة وتكون من الموضوعات المكذوبات وأحاديث تكون صحيحة متلقاة بالقبول بل مجمع على تلقيها بالقبول وصحتها عند علماء أهل الحديث وهم يكذبون بها أو يرتابون فيها وكذلك نجدهم وغيرهم في العقليات قد
(8/277)
أحسنوا الظن بطريقة دون طريقة وفي كل من الطريقين ما يؤخذ ويترك وأهم الأمور ما جاء به الرسول وفهم ذلك
فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وأول الفقه فهم خطاب الله ورسوله بعد معرفة ثبوت ذلك عن الرسول ولو كان في نفس الأمر أن السمعيات لا يجب قبولها حتى يقوم الدليل على صدق المبلغ وهو بعد في قطع هذه المسافة فينبغي له أن لا ينظر في مسألة مما تكلم فيها الناس حتى يعرف ما قاله هذا الرسول وما ثبت عنه فإنه لو قدر واحد من العلماء النظار لكان ينبغي أن يعرف ما قاله في مسائل النزاع لينظر في قوله وقول غيره كما يفعل من نظر في أقوال النظار فكيف إذا كان في نفس الأمر هو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى
ومعلوم أن الرجل لو تكلم في مسألة طب تنازع فيها الناس وقد بلغه أن لبقراط وجالينوس وأمثالهما فيها نصا لم ينبغ له أن يثبت القول فيها
(8/278)
حتى يعرف ما قاله هؤلاء مع جواز غلطهم في نفس الأمر فكيف بنصوص الأنبياء في الأمور الإلهية
وإذا وقع في قلبه شبهة الباطنية من الفلاسفة وغيرهم أنهم تكلموا بالتخييل والتمثيل لا بإظهار الحقائق إذ لم يمكن إلا ذلك فليس لأحد أن يقبل هذا القول منهم تقليدا لهم بل ينظر في أقواله وأحواله وسائر أموره وأحوال أصحابه هل يطابق قول هؤلاء أم يورث علما ضروريا بأن هؤلاء كاذبون عليهم عمدا أو خطأ إما عنادا وإما ضلالا وهذا مبسوط في موضعه
والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وباطل وقابلوا الباطل بباطل وردوا البدعة ببدعة لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل وقد اعترف حذاق النظار بفسادها فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول لها وأقاموا الدليل على دوام الفعل لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء
وهذا جهل عظيم فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئا من نصوص الأنبياء وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلا على قدم الأفلاك أصلا
(8/279)
وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل وأن الفاعل لم يزل فاعلا وأن الحوادث لا أول لها ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء بل يوافقها
وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء فكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن فلا يمكن أحدا أن يذكر دليلا عقليا يناقض هذا وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
وهذه مسألة حدوث العالم أعظم عمد الفلاسفة فيها التي عجز المتكلمون عن حلها ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم أصلا ولهذا كان ما أقامه الناس من الأدلة على أن كل مفعول فهو محدث كائن بعد أن لم يكن وكل ما سوى الله مفعول فيكون محدثا لا يناقض ذلك وإنما يناقض ذلك أصل الجهمية والمعتزلة حيث قالوا إن الله كان ولا يتكلم بشيء ولا يفعل شيئا بل كان الكلام والفعل عليه ممتنعا لا مقدورا له في الأزل ثم إنه صار ذلك ممكنا مقدورا بدون تجدد شيء فحدث الكلام والفعل بدون سبب أوجب حدوث ذلك أصلا
ثم قال أئمة هذه الطريقة وهو الجهم وأبو الهذيل بأنه لا بد من فناء الفعل وفناء الحركات كلها زاد الجهم وبفناء العالم كله الجنة
(8/280)
والنار فيكون الرب مازال معطلا من الكلام والفعال ثم لا يزال معطلا من الكلام والفعال وإنما حدث ما حدث من الكلام والفعال في مدة قليلة جدا بالنسبة إلى الأزل والأبد فبهذا القول وما يترتب عليه أقام على هؤلاء الشناعة أئمة الشرع والعقل ورأى الناس أن في ذلك من مخالفة الشرع والعقل ما لا يجوز السكوت عن رده لكن هؤلاء وإن كانوا ابتدعوا مخالفة للشرع والعقل بحسب نظرهم واستدلالهم فالمتفلسفة المنازعون لهم أبعد عن العقل والشرع وهؤلاء يردون صريح ما تواتر عن الرسل ويزعمون أنهم خيلوا ومثلوا وأما أولئك فقد يتأولون النصوص أو يقولون لها معنى لا نفهمه ولا يقولون إن الرسل قصدت أن تخبر بالأمور على خلاف ما هي عليه بطريق التخييل والتمثيل بل كثير مما ينصرونه من بدعهم يظنون أن الرسل قالوه فخطؤهم تارة في تكذيب الناقل وتارة في تأويل المنقول
وأولئك يعلمون صدق الناقل وصدق المنقول عنه ولكن يقولون كلاما مضمونه أنه كذب للمصلحة ولهذا سماهم المسلمون ملحدين فإنهم يلحدون في آيات الله ولهذا يفضي بهم تأويل
(8/281)
النصوص إلى ما يعلم العامة والخاصة أنه افتراء على الرسول وإلحاد محض مثل تأويلات الباطنية للعبادات وللقرآن وغير ذلك
وكان مما سلط هؤلاء على الإلحاد إدخال أولئك في الشريعة ما ليس منها وإن كانوا متأولين في ذلك فلما جعلوا من دين الإسلام القول بأن الخالق لم يكن يمكنه أن يتكلم ويفعل ثم أمكنه ذلك بلا سبب وأن ذلك يتضمن ترجيح الممكن بلا مرجح وأن الممكن انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب حادث والفاعل أمكنه الفعل والكلام بعد أن لم يكن ممكنا بلا سبب أخذ ذلك المتفلسفة وناقضوه واستدلوا بحجتهم المشهورة على قدم العالم بأن كل ما يعتبر في كون الباري مؤثرا إما أن يكون موجودا في الأزل وإما أن لا يكون فإن كان موجودا لزم القول بأنه لم يزل فاعلا لأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره وإن لم يكن موجودا امتنع وجوده بعد هذا لأن القول في ذلك الحادث كالقول في غيره فإذا لم يحصل المرجح التام امتنع الفعل وإذا حصل وجب وجود الفعل
وهذه الحجة لما ذكروها صار أولئك يجيبون عنها بما لا يفسدها بأن
(8/282)
يقولوا المرجح هو علم الفاعل وإرادته أو قدرته أو إمكان الفعل وانتفاء المانع وهو الأزل أو حصول المصلحة
وكل ما قالوه من هذا وغيره إذا نظر فيه بعينه لم يكن جوابا صحيحا فإن العلم يتبع المعلوم على ما هو به والمعلوم يتبع الإرادة فإن لم يكن المرجح ثابتا في نفس الأمر لم يكن العلم مرجحا وأما الإرادة فادعى كثير منهم أنها بذاتها توجب تخصيص أحد المتماثلين وهذا القدر خلاف ما يعقل من الإرادة فإنه لا تعرف الإرادة ترجح أحد المتماثلين من كل وجه بل لا بد من اختصاص أحدهما بما يوجب الترجيح
وإثبات إرادة كما ذكروه لا يعرف بشرع ولا عقل بل هو مخالف للشرع والعقل فإنه ليس في الكتاب والسنة وما يقتضي أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له وكذلك سائر ما ذكروه
ثم إن هذه الأمور إن كانت قديمة فلم يحدث مرجح وإن حدث بعد أن لم يحدث شيء منها أو تعلق بها فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه وترجح أحد المتماثلين بلا مرجح والمرجح قبل وجوده كما هو بعد وجوده لم يكن ناقصا فتم
والرازي تارة يجيب بأن الإرادة مرجحة كجواب أصحابه ثم يضعف هذا الجواب وتارة يقول بل العقول والنفوس أزلية فحدث تصور من
(8/283)
التصورات للنفس أوجب حدوث الأجسام وهو باطل في نفسه مخالف للعقل والنقل كما تقدم وأجود أجوبته المعارضة والنقض وهو أنه يقول هذه الحجة تستلزم أن لا يحدث شيء من العالم وهو خلاف المشاهدة
وهذه المعارضة جيدة إذا ادعى المدعي أن المرجح التام لكل ممكن ثابت في الأزل فإن الحس والمشاهدة يناقض ذلك ودليلهم لا يدل على ذلك بل يدل على حصوله مطلق الترجيح لا على حصول ترجيح لممكنات معينة ولا لكل ممكن
فهذا يبين أنه ليس في دليلهم حصول مطلوبهم فإن مطلوبهم حصول المؤثر التام في الأزل لأثر معين كالعقول والنفوس والأفلاك ومعلوم أن دليلهم لا يدل على ذلك بل إنما يدل على أنه لم يزل يفعل شيئا فإذا قدر أن ذلك الفعل هو قائم بنفسه لا مفعول له في الخارج كان ذلك وفاء بموجب دليلهم وإذا فدر أن ذلك كونه لم يزل متكلما إذا شاء كان وفاء بموجب دليلهم
وإذا قيل إنه قامت به إرادات متعاقبة كما قاله الأبهري وأن بسبب بعض تلك الإرادات حدثت الحوادث كان ذلك وفاء بموجب دليلهم إذ موجبه أنه يمتنع كونه يصير فاعلا بعد أن لم يكن والمثبت لمطلق الفعل لا يثبت فعلا معينا ولا مفعولا معينا فضلا عن أن يثبت عموم الفعل والمفعول
(8/284)
بل الذي يدل على فساد قولهم أنا قد علمنا بالمشاهدة والإحساس تجدد الحوادث في العالم وقد امتنع أن يكون في الأزل مؤثرا تاما فيها فلا بد من حدوث تمام المؤثرية لكل واحد واحد منها والإحداث من غيره ممتنع بوسط أو بغير وسط فلا يحدث حادث إلا منه سواء كان بوسط كالعقول أو بغير وسط فلو كان المؤثر كما زعموه من أنه واحد بسيط لا تقوم به صفة ولا أمر اختياري لكان حاله عند هذه الحوادث كحاله قبلها وبعدها
وهكذا الأمر في كل حال وهو قبل حدوث الحادث المعين لم يكن علة تامة فعنده يجب أن لا يكون علة تامة فلا يجوز أن يحدث شيء على موجب أصولهم
وإذا قالوا حدث من الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ما أعدت القوابل لقبول فيضه
قيل لهم هذا إنما يصح إذا كانت القوابل والاستعدادات من غير الفاعل الممد كما في الشمس وكما يقولونه في العقل الفعال فأما الباري تعالى فمنه الإعداد والإمداد وكل ما سواه من القوابل والمقبولات والاستعدادات والإمدادات فمنه لا من غيره سواء كان بوسط أو بغير وسط
(8/285)
وإذا كان كذلك وكان حاله قبل إحداث كل حادث كحاله قبل ذلك الحادث امتنع أن يحدث منه شيء أصلا لا قابل ولا مقبول ولا استعداد ولا إمداد فهم وإن أثبتوا أنه لم يزل فاعلا فقولهم يوجب أنه لم يحدث شيئا قط بل ولا فعل شيئا قط بل حدثت الحوادث بلا محدث فعلم أنه باطل
وليس في قولهم ما يوجب قدم شيء من العالم فقولهم بقدمه باطل ولهذا لم يحفظ القول بقدم الأفلاك عن أساطين الفلاسفة بل أول من حفظ ذلك عنه أرسطو وأتباعه وأما أساطين القدماء فالمنقول عنهم حدوث الأفلاك فهم قائلون بحدوث صورة العالم ولهم في المادة كلام فيه اضطراب فالنقل الثابت عن أعيانهم بحدوث العالم موافق لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم
ونقل أصحاب المقالات عن غير واحد من أئمتهم القول بإثبات الصفات لله وبإثبات الأمور الاختيارية القائمة بذاته وهذا قول من يقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من الأوائل والأواخر كأبي البركات وغيره
وهؤلاء لم يوافقوا أرسطو وأتباعه ولا ابن سينا وأمثاله على أن
(8/286)
الرب وجود بسيط لا صفة له ولا فعل بل أثبتوا له الصفات القائمة بذاته وأنه يفعل بإرادات تقوم بذاته إرادة بعد إرادة
وهؤلاء أبعدوا أن يمكنهم إقامة الدليل على قدم شيء من العالم فإن الفاعل الذي يفعل بإرادات قائمة به بذاته شيئا بعد شيء لا يقوم لهم دليل على أن شيئا من مفعولاته لم يزل مقارنا له إذ يمكن أنه فعل مفعولا بعد مفعول وأن هذا العالم خلقه من مادة كانت قبله كما أخبرت بذلك الرسل فأخبر الله تعالى في القرآن أنه { خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } وأخبر أنه سبحانه { استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم } سورة فصلت 11 12
وقال في الآية الأخرى { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } سورة البقرة 29
فأخبر أنه سواهن سبع سماوات في يومين وأن السماء كانت دخانا وهو بخار الماء كما جاء تفسيره في عدة آثار أنه خلق السماء من
(8/287)
بخار الماء والبخار دخان الماء كما أن دخان الأرض دخان
وإن أريد بالدخان دخان التراب فقط أو دخان التراب والماء فكل ذلك فيه إخبار الله أنه خلق السماوات السبع من مادة أخرى كما أخبر أنه خلق الإنسان من مادة وأنه خلق الجان من مادة
وثبت في الصحيح صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم
وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض وفي رواية صحيحة
ثم خلق
(8/288)
السماوات والأرض فأخبر أنه كان بين تقديره وبين خلقه للسماوات والأرض خمسين ألف سنة وهذه أزمنة مقدرة بحركات موجودة قبل وجود الأفلاك والشمس والقمر وأخبر أنه كان عرش الرب إذ ذاك على الماء
وقد جاءت الآثار المشهورة بأن الماء كان على وجه الأرض وأنه خلق السماء من دخان ذلك الماء
وكذلك في أول التوراة مثل هذا سواء أنه في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء وكانت الريح تهب على الماء وذكر تفصيل خلق هذا العالم
ففي هذه الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجودا قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام
(8/289)
أخر فان العرش أيضا مخلوق كما أخبرت بذلك النصوص وأتفق على ذلك المسلمون فأساطين الفلاسفة المتقدمون كانوا فيما نقل الناقلون عنهم قولهم يوافق هذا لم يكونوا يقولون بقدم العالم فإن هذا قول ليس عليه دليل أصلا مع أنه في غاية الفساد
وحقيقته أن الصانع لم يصنع شيئا وأن الحوادث تحدث بلا محدث بل حقيقته أن هذا العالم واجب الوجود وأنه ليس له مبدع
وأرسطو إنما أثبت له علة غائية يتشبه الفلك بها واستدل عليه بكون حركة الفلك عنده اختيارية فلا بد لها من غاية وقال إن العلة الأولى تحرك الفلك كما يحرك المعشوق عاشقه والمعشوق في الحقيقة ليس له قصد ولا علم ولا فعل في تحريك العاشق بل ذاك لمحبته يتحرك إليه فكيف وحقيقة قولهم أنه يتحرك للتشبه به كما يتحرك المأموم للتشبه بإمامه فهكذا يقولون إن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى
وقد بينا فساد قوله وحكينا ما ذكره أصحابه من أقواله وما فيها من الفساد في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يعلم العقلاء أنه مخالف لصريح العقل ليس من دين المسلمين كما أنه من خالف كتاب الله وسنة رسوله أو إجماع السابقين ليس من دين المسلمين فليس في دينهم الصحيح لا ما يخالف صحيح المنقول ولا ما يخالف صريح المعقول ولا ما يناقض صحيح المنقول وصريح المعقول
(8/290)
والمقصود هنا أن الممكن لا يترجخ إلا بمرجح وان هذا متفق عليه بين العقلاء والله أعلم فصل
ثم أن الرازي مع سلوكه المسلك المتقدم ذكر أن هذه المقدمة أعني أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح هي مقدمة ضرورية وان من لزمه ما يناقضها فهو لم يلتزم ذلك فليس من العقلاء من يلتزم نقيضها والاقوال المستلزمة نقيض هذه القضية باطلة قطعا
وهذا الذي قاله صحيح في الممكن المعلوم انه ممكن وهو المحدث فإن وجود المحدث بلا محدث مما يعلم بضرورة العقل امتناعه واما الممكن بالمعنى الذي قالوه وهو ما يتناول القديم فهو يبين انه باطل وانهم لم يثبتوا بهذه الطريق لا إثبات ممكن ولا إثبات واجب ولكن قد ذكر ايضا أنه من المعلوم بضرورة العقل أن المتساوي الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وهذا صحيح يوافقه عليه عامة العقلاء
(8/291)
وقد ذكر أن كثيرا من الطوائف يتناقضون فيقولون بما يناقض هذه القضية ونحن ليس بنا حاجة أن نجيب عن أهل الباطل بل نقول أن قولهم بترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح له يدل على فساد قولهم كما يدل على فساد قول المتفلسفة الدهرية وفساد قول الجهمية والقدرية
وحينئذ فليس في تلك اللوازم ما نحتاج أن نجيب عنه إلا ما ذكره عن المسلمين من قولهم أن الله فعل العالم في الوقت المعين دون سائر الاوقات لا لأمر يختص به ذلك الوقت فإن القول المحكي عن المسلمين لا بد أن يكون موجودا في كتاب الله أو سنة رسوله أو هو ما انعقد عليه إجماع المسلمين ولو لم يكن إلا إجماع الصحابة وحدهم فلو كان فيه نزاع بين المسلمين لما جاز أن يحكى عنهم كلهم
فكيف وهذا القول ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من سلف الأمة وائمتها ولا هو متفق عليه بين أهل الكلام منهم بل هو قول طوائف من أهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والائمة
وطوائف منهم ينازعون في ذلك ويقولون أن الحادث إنما حدث لسبب اقتضى حدوثه واختصاصه بذلك الوقت مع قولهم أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش كما ثبت ذلك بالنصوص المتواترة وقد علم النزاع في تسلسل الاثار بل فيما
(8/292)
يقوم بذات الله تعالى من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته مع عدم تناهيها وثبوت تسلسلها
والمقصود هنا أن القول بترجيح الممكن الذي هو الحادث بلا مرجح ممتنع عند عامة العقلاء فإن كان الممكن هو الحادث كان كلاهما دليلا على مدلول واحد
وان قدر عن الممكن أعم من المحدث فنقول إذا كان ذلك ممتنعا فالقول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع ايضا بل هو أعظم امتناعا لوجوه
أحدها انه يتضمن رجحان الممكن بلا مرجح لأن كل محدث فهو يمكن وجوده وعدمه إذ لولا إمكان وجوده لما وجد ولولا إمكان عدمه لما كان معدوما قبل حدوثه فوجوده يقتضي ترجيح وجوده على عدمه وذلك يفتقر إلى مرجح
الثاني أن ذلك يتضمن تخصيص حدوثه بوقت دون وقت وصفة دون صفة وتخصيص أحد المثلين بما يختص به عن الآخر لا بد له من مخصص
الثالث أن نفس العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين وأقوى وأظهر في العقل من كون الممكن لا يترجح إلا بمرجح ولهذا يتصور هذا من العقلاء ويعلمون بطلانه بالضرورة من لا يتصور الممكن ويعلم افتقاره إلى
(8/293)
المرجح إلا بنوع من التكلف الذي لا يتصور به ذلك
وقد تبين أن الناس في هذا المقام على درجات وكل من كان إلى الفطرة العقلية والشريعة النبوية اقرب كانت طريقته اقوم فالمستدل بان الموجود على سبيل الجواز وهو الموجود الممكن لا يكون بالوجود اولى منه بالعدم إلا بالفاعل وان ما حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث اولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه كما سلك ذلك كثير من أهل الكلام من المعتزلة والاشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الاربعة وغيرهم خير من المستدل بأن الموجود الممكن مطلقا لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وهذا المستدل بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح خير من المستدل بأنه لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بمرجح كما سلك ذلك ابن سينا وأتباعه كالسهروردي والرازي والآمدي وغيرهم مع تناقض هؤلاء حيث قالوا في موضع آخر أن العدم المستمر لا يحتاج إلى سبب كما قاله نظار المسلمين من جميع الطوائف
ثم الذين استدلوا وبذلك ولم يحتاجوا إلى قطع التسلسل كما فعل الجمهور اقرب من الذين احتاجوا إلى قطع التسلسل كما فعل ابن سينا ونحوه
(8/294)
ثم هؤلاء الذين لم يحتاجوا إلا إلى ابطال التسلسل دون ابطال الدور اقرب من الذين احتاجوا إلى ابطال التسلسل والدور جميعا كما فعل الرازي ونحوه وظنوا أن الدليل لا يتم إلا بذلك
ثم هؤلاء الذين ابطلوا التسلسل خير من الذين اقروا بعجزهم عن ذلك كما فعل الآمدي
ثم أن أبا الحسين مع أن طريقه اصح وأبين وأقرب من طرق هؤلاء فطريقة القاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلي وأبي المعالي الجويني وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهم خير من طريقته
وذلك أنه قال فإذا ثبت أن العالم محدث فالدلالة على أن له محدثا هي انه لا يخلو إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن أن يحدث في تلك الحال اولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه وان حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث اولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه وسندل على انه عالم قادر فصح قولنا
قال واستدل شيوخنا رحمهم الله على أن الأجسام تحتاج إلى محدث بأن تصرفنا يحتاج إلى محدث لأجل أنه محدث فكان حدوث
(8/295)
كل محدث يحوجه إلى محدث فإذا كانت الأجسام محدثة احتاجت إلى محدث
قال والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث هو انه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث وان كرهناه وكنا ممنوعين منه فلما وقع بحسب قصدنا وانتفى بحسب كراهتنا علمنا انه يحتاج الينا
والدليل على انه يحتاج الينا لأجل حدوثه انه إما أن يحتاج الينا لأجل حدوثه أو لبقائه أو لعدمه فلو احتاج الينا لأجل بقائه لوجب أن لا يبقى البناء إذا مات الباني ولا يجوز أن يحتاج الينا لعدمه لان تصرفنا كان معدوما قبل وجودنا وقبل كوننا قادرين فصح أنه احتاج الينا ليحدث ولأن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وارادتنا وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه فعلمنا انه إنما يحتاج الينا لأجل حدوثه
قلت فطريقة شيوخه الذين اشار اليهم من المعتزلة هي الاستدلال على افتقار المحدث إلى المحدث بالقياس على تصرفاتنا وانها تحتاج إلى محدث لأجل كونها محدثة
وقد سلك هذه الطريقة غير المعتزلة من أصحاب ألاشعري وغيرهم حتى مثل أبي القاسم القشيري وأبي الوفاء بن عقيل وبنوا ذلك على هذه
واما الطريقة التي ذكرها هو وبناها على التقسيم الذي ذكره وهو أن
(8/296)
المحدث لا يخلو من أن يحدث مع وجوب حدوثه أو مع جواز حدوثه وجواز أن لا يحدث
وأبطل الأول بأنه لو كان حدوثه واجبا لم يكن حدوثه في حال بأولى من حدوثه قبل تلك الحال فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه وقد قال قبل هذا أن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال اولى من حال فصح انه واجب الوجود في كل حال واستحال عدمه
وهذا التقسيم لا يحتاج اليه ولا إلى ابطال هذا القسم بما ذكره
وذلك أن قول القائل إما أن يحدث مع وجوب حدوثه أو مع جواز حدوثه
إما أن يريد به وجوب حدوثه بنفسه أو وجوبه بغيره فإن أراد به الثاني فهذا لا يمتنع بل يجوز أن يقال المحدث حدث مع وجوب حدوثه بالمقتضى لحدوثه لا بنفسه أي وجد المقتضى التام لحدوثه الذي يمتنع معه أن لا يحدث وهذا إذا قيل فإنه يدل على ثبوت الصانع المحدث أيضا لا ينفي ذلك فليس في إثبات هذا القسم ما ينفي ثبوت الصانع
ولكن هؤلاء المعتزلة قد ينازعون في كون الممكن عند وجود المقتضى التام يكون واجبا ويقولون لا يقع شيء من الممكنات والحوادث إلا على وجه الجواز أو أن يكون بالوجود اولى منه بالعدم لا على وجه الوجوب
(8/297)
ويقولون أن القادر المختار سواء كان قديما أو محدثا لا يفعل إلا مع جواز أن لا يفعل وانه يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وهذا مما نازعهم فيه جمهور العقلاء
وليس المقصود هنا بيان صحة قول الجمهور وفساد قولهم لكن المقصود أن قولهم سواء كان صحيحا أو فاسدا فهم يستغنون عن جعله مقدمة في إثبات الصانع
واذا امكن إثبات العلم بالصانع على كل تقدير كان خيرا من اثباته على تقدير قول تنازع فيه كثير من العقلاء وهم يمكنهم اثباته بأن المحدث لا بد له من محدث سواء قيل انه يجب بمحدثه أو لم يقل ذلك فلا حاجة بهم في إثبات إلى ذلك
واما أن اراد القائل بقوله إما أن يحدث مع وجوب أن يحدث أو مع جواز أنه يحدث مع وجوب أن يحدث بنفسه بدون مقتض لحدوثه فلا ريب أن هذا فاسد معلوم فساده بضرورة العقل
والعلم بفساده أبين من العلم بكون حدوثه ليس في حال بأولى منه في حال أخرى وذلك أن ما حدث يعلم أنه ليس واجبا بنسفه فإن الواجب بنفسه لا يقبل العدم والمحدث كان معدوما فيمتنع أن يقال انه حادث وهو واجب بنفسه
(8/298)
ومن المعلوم أن المحدث يمتنع أن يكون قديما فإن هذا نقيض هذا أذ المعنى بكونه محدثا أنه ليس بقديم
ومن المعلوم أن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديما والعلم بأن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديما أبين من العلم بكون القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه
فإن الأول لم يتنازع فيه طائفة معروفة والثاني قد نازع فيه طائفة معروفة
وايضا فإن أبا الحسين استدل على أن القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه بأنه ليس وجوده في حال بأولى من وجوده في حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فامتنع عدمه
وأما كون واجب الوجود بنفسه يكون قديما فهو أبين من هذا
وحينئذ فالمحدث لا يمكن أن يقال إنه حدث وهو أنه حدث وهو واجب الوجود بنفسه وايضا فالعلم بأن المحدث لا يكون واجبا بنفسه ابين من كونه ليس وجوده في حال أولى منه في حال
وابو الحسين بني كلامه على نفي هذه الاولوية التي مضمونها أن الوقتين متساويان فلا يجوز تخصيص أحد الوقتين عن الآخر بالحدوث إلا بمخصص وهذا يكفيه في الاستدلال ابتداء فإن المحدث اختص حدوثه بوقت وتخصيص أحد الوقتين لا بد له من مخصص
(8/299)
وهذه هي الطريقة التي سلكها القاضي أبو بكر ومن وافقه وهي خير وأقرب وأصح من طريقة أبي الحسين
إما كونها خيرا وأقرب فظاهر واما كونها اصح فلأن ابا الحسين جعل من مقدمات حجته أنه إذا حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال اولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال
وهذا كما تقدم فيه اجمال يحتاج إلى استفصال يترتب عليه نزاع
فإذا قال له القائل بل حدث مع وجوب أن يحدث لمقتض اقتضى وجوب حدوثه في تلك الحال لم يمكنه أن يقول ليس ايجاب المقتضى لحدوثه في تلك الحال بأولى من اقتضائه لوجوب حدوثه في غير تلك الحال لأنه يقول له كما قلت أن المقتضى لحدوثه مع جواز حدوثه يخصص الحدوث بحال دون حال كذلك يقول أن المقتضى لوجوب حدوثه يخصص الحدوث بحال دون حال
فإن قال المقتضى الموجب لا يخص بحال دون حال بخلاف المقتضى مع عدم وجوب الاقتضاء
كان الجواب من وجوه
أحدها المنع فإن هذه دعوى مجردة
الثاني أن يقال لا نسلم انه يمكن أن يكون شيء مقتضيا للحدوث إلا مع الوجوب وانه ما دام اقتضاؤه جائزا فإنه يمتنع الاقتضاء وذلك
(8/300)
لأنه إذا جاز أن يقتضى وجاز أن لا يقتضى كان كل من الامرين ممكنا جائزا واذا كان كل منهما جائزا لم يكن ثبوت الاقتضاء اولى من انتفائه لولا امر أخر اقتضى ذلك الاقتضاء ثم القول في اقتضاء ذلك الاقتضاء كالاول ويلزم منه توقف حدوث الحوادث على اقتضاءات متسلسلة لا نهاية لها ولا وجود لشيء منها وما توقف على ما لا وجود له فلا وجود له وهو يبطل التسلسل فيما هو دون هذا
وهذا المقام مقام معروف للمعتزلة في فعل الرب وفعل العبد يذكرونه في مسألة حدوث العالم ومسألة القدر وهو مما استطالت عليهم به اهل السنة والفلاسفة وغيرهم
لا سيما وابو الحسين يقول انه مع فعل القادر يتوقف على الداعي وانه عند وجود الداعي التام يجب وجود المقدور فيكون اصل قوله موافق لقول من قال من أهل السنة ومن الفلاسفة أن الحادث يحدث مع وجوب أن يحدث وهذا يناقض قوله بأنه لا يحدث إلا مع جواز الحدوث لا مع وجوبه
الثالث أن يقال هب انا سلمنا إمكان ثبوت المقتضى وانه يقتضى مع جواز أن لا يقتضى وانه يخص الحدوث بحال دون حال فإذا أمكن الحدوث والتخصيص بما هو مقتض مع جواز أن لا يقتضى فالحدوث والتخصيص بمقتض واجب الاقتضاء اولى واحرى
فإن قيل ما كان واجب الاقتضاء لم يتخلف عنه مقتضاه فيلزم قدم الحوادث بخلاف ما كان جائز الاقتضاء
(8/301)
قيل هذا إنما يصح لو كان اقتضاؤه لكل ما يقتضيه لازما له وكان مجرد ذاته علة موجبة لمعلولاته كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة كبرقلس وابن سينا وابتاعهما
فإنهم يقولون أن الأول علة بمجرد ذاته لجميع المعلولات وما سواه معلول له فيلزمهم أن لا يتخلف عنه شيء من الحوادث وهذا باطل قطعا
وأما إذا كان اقتضاؤه وفعله لما يفعله إنما هو أنه مقتض لوجود كل حادث في الوقت الذي حدث فيه لا سيما إذا قيل مع ذلك بأنه مقتض لما يقتضيه كمشيئته وقدرته كما هو قول المسلمين وجماهير العقلاء
فيقال إذا قدر انه قادر مختار وهو يحدث الحوادث مع جواز أن لا تكون مشيئته وقدرته مستلزمة لحدوثها فلأن يحدثها مع كون مشيئته وقدرته مستلزمة لها أولى وأحرى وحينئذ فيحدث مع وجوب حدوثها بقدرته ومشيئته
ولا يمكنهم أن يقولوا القدرة والمشيئة لا تخص وقتا دون وقت لأن هذا ينقض قولهم فإنهم يقولون انه لمجرد قدرته يخص بعض الاحوال دون بعض
(8/302)
ولو قال قائل ذلك من غيرهم لقيل له تخصيص القدرة والمشيئة للحوادث بحال دون حال هو بحسب ما يعلمه من الاسباب المقتضية للتخصيص
وغاية ذلك أن يستلزم أن تقوم بذاته اسباب تقتضى التخصيص متعلقة بمشيئته وقدرته أو يقال أن هذا يستلزم مالا نهاية له على سبيل التعاقب ونحو ذلك من المقامات المعروفة التي يوردها أحد إلا وهو يلزمه بترك التزامها من التناقض اعظم مما يلزم به منازعه وأما منازعه فيمكنه التزامها ولا يتناقض قوله لا عقلا ولا شرعا
ولكن من حسن المناظرة والتعليم أن يبين لمن يرد قولا ما يلزمه هو على تقدير رده ومن أراد تصحيح الحق بقول باطل يمكن استغناؤه عن ذلك القول وان الحق يمكن تصحيحه بدونه وانه إذا صححه بذلك الطريق كان ما يلزمه من اللوازم التي تناقض قوله وتفسده اعظم مما يلزمه إذا اعرض عن ذلك
وبهذا وامثاله يتبين انه لم يسلك أحد طريقا مخالفة للسنة في اثبات شيء من اصول الإيمان إلا والله قد اغنى عنها بما هو سليم من عيوبها وان تلك الطريق وان غمض على اكثر الناس معرفة فسادها لدقته فلا يخفى عليهم إمكان الاستغناء عنها
ونحن كثيرا ما نقصد بيان أن الطرق التي خالف سالكها شيئا من النصوص غير محتاج اليها بل مستغن عنها ليتبين أن العلم بصدق
(8/303)
الرسول وصحة ما جاء به من الكتاب والسنة ليس موقوفا على شيء من الطرق التي تناقض شيئا مما جاء به مع أنا نبين ايضا أن تلك الطرق فاسدة لكن بيان الاستغناء عنها في مقام وبيان فسادها في مقام
وأهل البدع يدعون الحاجة اليها اولا ثم يعارضون بها النصوص ثانيا فنحن نبين الغنى عنها ثم نبين فسادها ثانيا ثم نبين ثالثا أن الطرق العقلية الصحيحة هي والادلة السمعية متلازمان فيلزم من صحة أحدهما صحة الآخر
وهذا قدر زائد على عدم تنافيهما وعدم تنافيهما وحده كاف في بطلان قول من يزعم تنافيهما
وايضا فلو قدر أن فيها ما ينافي السمع فذلك المنافي ليس هو الأدلة العقلية التي بها نعلم صحة السمع
وذلك كله مما تبين به بطلان قول من يقول أن تقديم الكتاب والسنة على ما يعارض ذلك يستلزم قدح الشرع في اصله
وطريقة القاضي أبي بكر وأمثاله ليس فيها هذا التقسيم الذي ذكره أبو الحسين بل ذكر اولا أن تخصيص المحدث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وان ما قدم من الحوادث وأخر لا بد له من مقدم ومؤخر من غير أن يحتاج أن يقول أن الحدوث إما أن يكون واجبا وأما أن يكون غير واجب وهذا اصح واقرب وأبين
ثم أن طريقة أبي الحسن ألاشعري التي في اللمع خير من
(8/304)
طريقة القاضي فإنه بناها على أن المحدث لا بد له من محدث ولم يحتج أن يستدل على ذلك بأن الحدوث تخصيص بوقت دون وقت والتخصيص لا بد له من مخصص فإن هذا وان كان صحيحا فالعلم بافتقار المحدث إلى المحدث ابين واقوى من هذا
وكل ما يذكر في تخصيص أحد الوقتين أو تخصيصه بصفة دون صفة هو موجود في نفس الحدوث فإن تخصيص هذا الحادث بالحدوث دون غيره من الممكنات لا بد له من مخصص ونفس الحدوث مستلزم للمحدث الفاعل ولو قدر انه لم يحدث غيره ولا يمكن حدوث غيره وانه ليس هناك حال أخرى تصلح للحدوث فإن كون الحادث يحدث نفسه من غير محدث يحدثه من أبين الأمور استحالة في فطر جميع الناس
والعلم بذلك مستقر في فطر جميع الناس حتى الصبيان حتى أن الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه قال من ضربني من ضربني وبكى حتى يعلم من ضربه واذا قيل له ما ضربك أحد أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد لم يقبل عقله ذلك وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوثه هذه الضربة في هذه الحال دون ما قبلها وما بعدها لا بد له من مخصص بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء وبيان
(8/305)
ذاك بهذا من باب بيان الاجلي بالاخفى
ثم الطرق التي جاء بها القرآن خير من طريقة ألاشعري وغيره فإن فيها إثبات الصانع بنفس ما يشاهده الناس من حدوث الاعيان المحدث وحدوث الاعيان مشهود معلوم لا يحتاج أن يستدل على حدوثها بحدوث صفاتها وان ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث بل سالكو هذه السبيل ظنوا أن الاعيان لا تحدث وانما تحدث صفاتها وانهم لم يشهدوا حدوث جسم ولا جوهر قائم بنفسه وانما شهدوا حدوث صفات الأجسام وان الأجسام متماثلة مركبة من جواهر متماثلة وهي تنقلب فيها من وصف إلى وصف
قالوا فهذا هو الذي يشهد حدوثه ثم بهذا يعلم حدوث ما قامت به هذه الحوادث فأنكروا ما يعلمه الناس بحسهم ومعاينتهم من حدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام ثم احتاجوا مع ذلك إلى أن يثبتوا حدوث هذه الاعيان بالاستدلال الذي ذكروه من انها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
وهذه الطريق يظهر لاستغناء عنها لكل أحد بما يشهده من حدوث الاعيان واصحابها يسلمون الاستغناء عنها بما يشهدونه من حدوث الصفات كما ذكره الرازي وغيره وعلى التقديرين فقد ثبت الاستغناء عنها
(8/306)
فمن قال أن العلم باثبات الصانع وتصديق رسله موقوف عليها فقد ظهر خطؤه عقلا لكل أحد كما علم مخالفته لدين الإسلام بالضرورة
فإنه من المعلوم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ما دعوا احدا من الناس إلى الإقرار بالخالق وبرسله بهذه الطريق ولا استدلوا على أحد بهذه الحجة بل ولا سلكوا هم في معرفتهم هذه الطريق ولا حصلوا العلم بهذا النوع من النظر والاستدلال المبتدع المحدث الذي قد اغنى الله عنه وظهر الغنى عنه لكل عاقل
ثم معرفة فساد هذه الطريق عقلا هو ألطف من العلم بالغنى عنها ولهذا يظهر الغنى عنها لخلق كثير قبل أن يظهر لهم فسادها
وقد ذكر من الكلام على مقدماتها وفسادها وطعن بعض اهلها في بعض وافسادهم لمقدماتها وبيان فسادها بصريح العقل في غير هذا الموضع ما ينبه على المقصود
والمقصود هنا التنبيه على أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث والمفعول إلى الفاعل هو من العلوم الضرورية البديهية وهو أظهر وأقوى مما استدل به عليه القاضي وأمثاله من كون تخصيص الحدوث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص
(8/307)
وهذا الذي ذكره القاضي أبو بكر وأمثاله أظهر مما استدل به عليه أبو الحسين وامثاله من أن الحدوث إما أن يكون على وجه الوجوب أو على وجه الجواز
وهذا الذي ذكره أبو الحسين واتباعه من أن الجائز الممكن ليس وجوده اولى من عدمه لولا المقتضى لحدثه اظهر مما ذكره ابن سينا والرازي امثالهما من أن الجائز الممكن ليس وجوده اولى من عدمه ولا عدمه اولى من وجوده إلا لمرجح منفصل عنه
وطريق هؤلاء بعضها اصح واقرب من طريق بعض
وقد ظهر بما ذكرنا فساد قول القاضي أبي بكر انه لم يخالف في أن افتقار المحدث إلى محدث مما لا يعلم بالاضطرار وانما يتطرق اليه بالفحص والبحث إلا شرذمة لا يعتد بقولها ادعت في هذا المذهب البديهة
ثم يقال له أن كان هذا حقا فالاشعري لم يذكر في اللمع دليلا على ذلك بل جعل ذلك مسلما وانما اثبت حدوث الانسان وانه
(8/308)
لم يحدث نفسه
ثم قال فدل ما وصفناه على انه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الاحوال وان له ناقلا نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه لانه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر
فذكر هذه المقدمة مجردة عن الاستدلال فإن كان العالم انتقاله من حال إلى حال لا يعلم به أن له ناقلا مدبرا إلا بأدلة تذكر فهو لم يذكر تلك الأدلة بل ادعى دعوى نظرية تقبل النزاع بلا دليل
وحينئذ فيكون طعن من طعن من المعتزلة في كلامه أوجه فإنه لم يقم دليلا لا على حدوث الجسم ولا على أن المحدث لا بد له من محدث
ثم يقال من العجائب أن يكون القول بأن العالم حدث من غير محدث أحدثه وان بعض الحوادث حدث من غير محدث إحدثه قول قاله كثير من الفلاسفة والدهرية أو طوائف من نظار المسلمين
والقول بأن العلم بأن الأفعال تتعلق بفاعل وان المخلوقات تتعلق بفاعل وان المخلوقات تتعلق بخالق علم ضروري إنما قاله شرذمة لا
(8/309)
يعتد بقولها وان الجميع من العقلاء إنما يعلم هذا الفحص والبحث مع انه لا يعلم أن أحدا من المشهورين بالعلم طلب على هذا دليلا ولم يذكر عن أحد من الكفار مطالبة أحد من المؤمنين بدليل على هذا ولا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا كلام أحد من السلف والائمة ذكر حاجة هذا إلى الاستدلال أو الاستدلال عليه بما ذكرتموه من أن ذلك يتضمن التقدم والتأخير فلا بد له من مرجح فصل
ومن هنا يظهر الوجه الثاني الذي تبين به أن ما ذكره ألاشعري لا يحتاج إلى ما ذكره القاضي
وذلك أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث هو ابده للعقل وارسخ في القلب وأظهر عند الخاصة والعامة مما قرره به وهو أن ذلك يتضمن تخصيص بعض الازمان بالحدوث دون بعض والتخصيص لا بد له من مخصص
فالأول أن لم يكن اقوى منه واجلى فليس هو دونه وغاية هذا الثاني أن يكون مثله أو داخلا في أفراده
لا سيما على اصل القاضي وموافقيه من المعتزلة والاشعرية فإنهم يجوزون اختصاص بعض الازمنة بالحوادث دون بعض بدون سبب اقتضى ذلك التخصيص واذا اضافوا التخصيص إلى المشيئة القديمة فنسبة المشيئة إلى جميع الحوادث والازمنة سواء
(8/310)
وإذا كانت النسبة مستوية فثبوت هذه النسبة مع أحد المتماثلين دون الآخر تخصيص بلا مخصص
وإذا قالوا الإرادة لذاتها تخصص مثلا عن مثل بلا سبب مع تضمن ذلك ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح أصلا أمكن منازعهم أن يقول بتخصيص أحد الزمانين المتماثلين بالحوادث دون الآخر بلا مخصص أصلا وقال من شأن الأوقات التخصيص بلا مخصص
وإذا قالت المعتزلة القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كان ما يلزمهم كما يلزم أولئك وأشد
فمن كانت هذه الأقوال أقواله وكان غاية ما يثبت به الصانع وافتقار المحدث إلى محدث أن الحوادث مختصة بزمان دون زمان فلا بد للتخصيص من مخصص وأن التخصيص بلا مخصص ممتنع ويجعل ذلك بديهيا ضروري
كيف يمكنه أن يقول إن وجود الحوادث بلا محدث والفعل بلا فاعل والصنعة بلا صانع ليس امتناعه بديهيا ضروريا
فمن جعل العلوم البديهية الضرورية ليست بديهية ضرورية وجعل ما هو دونها بديهيا ضروريا تناقضت أقواله وكان فيها من مخالفة العقل والسمع ما لا يحصيه إلا الله
وهذا بخلاف الطرق المذكورة في القرآن فإنها في غاية السداد والاستقامة
(8/311)
ومن أقرب ذلك أن إثبات الفاعل مبني على مقدمتين ضروريتين إحداهما أن الإنسان محدث والثانية أن المحدث لا بد له من محدث
فأبو الحسن مع جماهير العقلاء جعلوا المقدمة الثانية ضرورية بخلاف ما ذكره القاضي ومن وافقه حيث أثبتوها بما هي أقوى منه وأجلى
وإن كانت هذه الطرق الخفية البعيدة وأمثالها ينتفع بها في حق من لم ينفذ للطرق الجلية القريبة أو عرضت له فيها شبهة كما تقدم
وأما المقدمة الأولى وهو أن الإنسان والثمار والمطر والسحاب ونحو ذلك محدث فهذه مقدمة معلومة بالمشاهدة والضرورة فإن حدوث الحوادث مشهود
ثم من قال من أهل الجوهر الفرد والهيولي إن الحادث إنما هو صفات الأجسام لا أعيانها أو صورتها لا مادتها أمكنهم إثبات المحدث بناء على ذلك وهذه الطريقة التي ذكرها الرازي وغيره وهي الاستدلال بحدوث صفات الأجسام
وأما من أنكر ذلك وهم جمهور العقلاء فإن الحادث عندهم هو نفس الأعيان المحسوسة وأبو الحسن ممن يثبت الجوهر الفرد ولم يكتف بالاستدلال على حدوث الصفات بل أراد إثبات حدوث نفس النطفة فاثبت ذلك بطريقة استلزامها للحوادث وما لا ينفك عن الحوادث فهو
(8/312)
حادث وهي الطريقة التي سلكتها المعتزلة في حدوث الأجسام ابتداء وعلى هذه الطريقة فحدوث الإنسان نظري لا ضروري
وإذا ضم إلى ذلك أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث نظري كما قاله من قاله من المعتزلة ومن وافقهم كالقاضي أبي بكر وأتباعه صار كل من المقدمتين في إثبات الصانع نظريا
وهذا أضعف هذه الطرق وأطولها لكن مبناها على أن التخصيص الحادث لا بد له من مخصص وهذا عند هؤلاء ضروري كافتقار الممكن إلى الواجب
ثم الذين سلكوا طريقة ابن سينا جعلوا هذا نظريا وأثبتوا منع التسلسل بطريقة ابن سينا وهي أقرب مما بعده
فجاء من بعدهم كالرازي ضم إلى ذلك نفي الدور أيضا ثم هو والآمدي ونحوهما أثبتوا بطلان التسلسل بطرق طويلة واستصعب ذلك على الآمدي حتى قال إنه عاجز عن تمشيها وحل ما يرد عليها كما ذكرناه
ولا ريب أن تمشيها مع تفسيرهم الممكن بالتفسير الذي أحدثه ابن سينا ممتنع وأما تمشيتها إذا جعل الممكن هو الذي يوجد تارة ويعدم أخرى فهو سهل متيسر معلوم ببدائه العقول
فانظر من عدل عن الطرق المستقيمة شرعا وعقلا كلما أمعن في العدول أمعن في البعد عن الحق وتطويل الطريق وتصعيبها حتى آل الأمر
(8/313)
بهم إلى الجهل العظيم وإلى العجز عن الاستدلال على ما هو أعظم الأشياء ثبوتا ووجودا وأكثرها وأقواها أدلة وأولاها بالعلم من كل معلوم وأحقها بأن يكون مستقرا في الفطرة دائم الحصول في القلوب حاصلا بأكمل الأسباب التي يمكن بها حصول العلم
والمقصود هنا الكلام على الطريقة التي ذكرها أبو الحسن وأنها أقرب وأصح من الطريقة التي سلكها من سلكها من المعتزلة ومن وافقهم كالقاضي أبي بكر وأمثاله وأنها طريقة صحيحة لم ينازع فيها طائفة مشهورة إذا اكتفي فيها بحدوث ما يعلم حدوثه كالإنسان والنبات وغيرهما من الحوادث وأما إذا احتيج فيها إلى إثبات حدوث الأجسام كلها بطريقة الأعراض أو قيل إن حدوث الإنسان ونحوه لا يثبت إلا بمثل تلك الطريق كان المنازع في صحة هذه الطريق جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة وكان هذا من الكلام الذي ذمه السلف والأئمة
فالمخالفون للطرق الفطرية العقلية الشرعية القريبة الصحيحة كلما أبعدوا عنها مدحوا من يوافقهم في البعد ولهذا عكس هؤلاء الكلام على المقدمتين فأخذوا يوافقون أبا الحسن على المقدمة المبتدعة الباطلة ويذمونه أو يعتذرون عنه على المقدمة البديهية الصحيحة الشرعية
قال أبو الحسن فإن قال قائل ما أتكرم من أن تكون النطفة
(8/314)
قديمة لم تزل قيل له لو كان ذلك كما ادعيتم لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثر والانقلاب والتغير لأن القديم لا يجوز انقلابه وتغييره وأن يجرى عليه سمات الحدث لأن ما جرى عليه ذلك ولزمته الصنعة لم ينفك عن سمات الحدث وما لم يسبق المحدث كان محدثا مصنوعا فبطل لذلك قدم النطفة وغيرها من الأجسام
قال القاضي أبو بكر اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث سائر الأجسام وذلك أن الذي عناه بقوله لو كانت قديمة لم يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير وخروجها من صفة كانت عليها إلى صفة لم تكن عليها كنحو خروجها عن السكون إلى الحركة وعن الحركة إلى السكون وكاستصلابها بعد لينها وافتراقها بعد اجتماعها وما يلحقها من تعاقب الأكوان وغير ذلك من التغيرات لأن القديم الحاصل على صفة من الصفات لا يجوز خروجه عنها على ما ذكره أصلا وذلك أن القديم إذا لم يزل مجتمعا مثلا أو مفترقا أو متحركا أو ساكنا أو على بعض هذه الصفات لم يجز خروجه عنه لأنه لا يخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله لنفسه أو لعلة أو لا لنفسه ولا
(8/315)
لعلة أو لبطلان نفسه أو لبطلان معنى فيستحيل أن يكون على ما هو عليه لا لنفسه ولا لمعنى لأن هذا يوجب خروج الإثبات عن تعلقه بمثبت والخبر عن تعلقه بمخبر وغير ذلك من وجوه الفساد ليس بشيء يحصل على صفة من الصفات ولأنه ليس عدم نفسه إن جاز عدمها بأن يكون تحصيله ساكنا أولى من تحصيله له متحركا ويستحيل أن يكون ذلك لبطلان معنى كان موجودا به لأن القديم لا يجوز عدمه ولأنه ليس بأن يكون متحركا لعدم سكونه أولى من غيره ممن يصح أن يكون متحركا
وهذا يوجب أن يكون الجسم إنما تحرك لعدم سكونه إلى محاذاة بعينها ولو كان ذلك كذلك لم يكن تحركه لعدم ذلك السكون إلى تلك المحاذاة بعينها أولى من تحركه إلى غيرها من الجهات وإلى ما هو أبعد منها
وفي تحركه إلى جهة مخصوصة ومحاذاة معينة دليل على أن ذلك إنما وجب له لمعنى سوى عدم سكونه ولأنه ليس بأن يتحرك هو لأجل عدم السكون أولى من غيره من الأجسام لأن عدم السكون ليس هو بأكثر من خلوه منه وأنه ليس فيه وغيره من الأجسام حال من ذلك السكون ايضا فكيف صار خلوه منه يوجب له التحرك اولى من كل من خلا من الأجسام وفي فساد ذلك دليل على أنه لا يجوز أن يكون المتحرك تحرك لعدم معنى
(8/316)
وجملة هذا أن القديم لا يجوز عدمه ولا يجوز لمثل ذلك أن يكون القديم إنما يتحرك فيما لم يزل لعدم نفسه ولا لعدم معنى قديم
فلم يبق إلا وجهان أحدهما أن يكون فيما لم يزل على ما هو عليه لنفسه أو لمعنى قديم فإن كان لم يزل ساكنا لنفسه استحال تحركه بعد سكونه لوجود نفسه في كلا الحالين ويستحيل خروج الشيء عن الوصف المستحق لنفسه مع وجود نفسه التي بها كان كذلك
وان كان لم يزل ساكنا لأجل معنى قديم استحال أن يتحرك إلا عند عدم سكونه القديم وألا وجب تحركه وسكونه معا فإذا استحال ذلك واستحال عدم سكونه إذا كان قديما واستحال أن يخرج القديم عن الصفة التي هو فيها لم يزل عليها لم يجز أن يلحقه لما وصفناه انقلاب ولا تغيير ولا اعتمال ولا تأثير فصح ما قاله شيخنا أبو الحسن من هذا الوجه
قلت ولقائل أن يقول هذا الكلام مضمونه أن ما به يعلم حدوث النطفة به يعلم حدوث سائر الأجسام وان المنكر لحدوث سائر الأجسام يمكنه انكار حدوث النطفة وليس الأمر كذلك بل حدوث الحيوان والنبات والمعدن ونحو ذلك وحدوث اوائل ذلك كالنطفة والبيضة وطاقة الزرع ونحو ذلك امر مشهود معلوم بالحس والضرورة
(8/317)
واتفاق العقلاء وهذا بخلاف الفلك فإنه ليس شهود حدوثه كشهود حدوث الحيوان والنبات والمعدن
وكذلك من ينازعهم في الواجب وفي تسميته جسما كالهشامية والكرامية وغيرهم أو من لا يطلق الاسم ولكن يقولون له ما أثبته نسميه نحن جسما أو يجب أن يكون جسما والجسم حادث فإنه على هذا التقدير لا يعلم حدوث ما جعلوه من الغائب جسما كما يعلم حدوث هذه الحوادث المشهودة
فإن قال بهذا فالمفرق يقول حدوث النطفة مشهود معلوم مسلم وكذلك حدوث ما أشبهها
وأما حدوث كل ما سميته جسما فإنما اثبته بما ذكرته من الدليل وهو ضعيف على ما سنذكره
فإن قال أعنى بالنزاع في حدوث النطفة النزاع في حدوث الجواهر المفردة التي منها تركبت النطفة وتألفت أو في حدوث مادتها التي لبستها صورة النطفة
قيل له الجواب من طريقين
أحدهما أن يقال هذا لا حاجة لك به
الثاني أن يقال ما ذكرته ليس بصحيح
(8/318)
فأما الطريق الأول ففيه وجوه
أحدها أن العلم بحدوث ما يحدث والاستدلال به على ثبوت الصانع ليس مفتقرا إلى أن يعلم هل في النطفة جواهر منفردة أو مادة وهل ذلك قديم أو حادث بل مجرد حدوث ما شهد حدوثه يدل على أن له محدثا كما يدل حدوث سائر الحوادث على أن لها محدثا
وان قال قصدي تعميم حدوث سائر الأجسام
قيل له فحينئذ لم يكن بك حاجة إلى ذكر حدوث الانسان وحده من النطفة بل كان هذا تطويلا إذ كان ما به يثبت حدوث النطفة به يثبت حدوث الانسان ابتداء
وحينئذ فيكون كلام ألاشعري كلام من لا يعرف الاستدلال والنظر كما قاله من اعترض عليه من المعتزلة فإنه إذا كان لا بد في الاستدلال بالاجسام المخصوصة في آخر الأمر من دليل يتناول جميع الأجسام كان ذكر هذا ابتداء اولى من التطويل لا سيما في مثل المختصر الذي يطلب فيه التقريب والتسهيل
وايضا فإن العلم بحدوث الحوادث المشهودة أظهر وأبين من العلم بحدوث جميع الأجسام وذلك كاف في إثبات العلم بالصانع فلماذا تجعل موقوفة على مقدمات لو كانت صحيحة كان فيها من التطويل والغموض ما يوجب هذا كثيرا إما عدم العلم أو حصول ضده
(8/319)
من اعتقاد الباطل فيكون ما جعل طريقا إلى العلم والايمان موجبا لضده من الجهل والكفر
والوجه الثاني أن يقال فحينئذ يكون الشك في حدوث الحيوان والنبات ونحو ذلك مبنيا على كونها مركبة من الجواهر المنفردة أو المادة والصورة وامكان قدم الجواهر المنفردة أو المادة ومعلوم أن هذا لو كان صحيحا لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان وهم لم يبينوا ذلك
ومن المعلوم أن هذا موضع اضطرب فيه أهل الكلام والفلسفة اضطرابا لا يتسع هذا الموضع لاستقصائه
فقالت طائفة إن الأجسام مركبة من أجزاء لا تتجزأ وهي الجواهر المنفردة وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية
وقالت طائفة بل فيها اجزاء لا نهاية لها وهو المذكور عن النظام وعليه انبنى القول بطفرة النظام ولهذا يقال ثلاثة لا يعلم لها حقيقة طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الاشعري
وقالت طائفة بل هي مركبة من المادة والصورة وهي تقبل الانقسام إلى غير نهاية لكن ليس فيها اجزاء لا نهاية لها
(8/320)
وقالت طائفة ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا بل تقبل التجزؤ إلى اجزاء لا تتجزأ
وقالت طائفة ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا ولا تتجزأ إلى غير غاية بل إذا صغرت الأجزاء انقلبت إلى اجسام اخر مع كونها في نفسها يتميز منها جانب عن جانب
فهؤلاء لا يقولون بقبول الانقسام إلى غير نهاية ولا بوجود مالا يقبل الانقسام بل كل ما وجد يقبل الانقسام لكنه يستحيل إلى جسم آخر في حال تميز جانب منه عن جانب فلا يوجد فيه انقسام إلى غير نهاية وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع
وأذكياء المتأخرين مثل أبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني وأبي عبد الله الرازي كانوا متوقفين في آخر أمرهم في إثبات الجوهر الفرد فإذا كان الأمر هكذا لم يمكن احدا أن يطالب بدليل على حدوث الحيوان باعتبار تركبه من الجواهر أو المادة والصورة حتى يثبت ذلك اولا
ومن المعلوم لكل عاقل أن علم الناس بحدوث ما يشهدون حدوثه من
(8/321)
الأجسام ليس موقوفا على العلم بأنها مركبة هذا التركيب الذي كلت فيه أذهان هؤلاء الاذكياء
الوجه الثالث أن يقال حدوث ما يشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك امر مشهود فإن الانسان إذا تأمل خشب الشجرة وما يخرجه الله منها من الانوار والثمار وما يخرجه من الأرض من الزروع وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض أيقن بحدوث هذه الاعيان
فإذا قيل له هذا لم يحدث ولكن كانت اجزاؤه مفرقة فاجتمعت وجعل لها صفة غير تلك الصفة
قال أما ما تغيرت صفاته كتغير الابيض إلى السواد والساكن إلى الحركة والحامض إلى الحلاوة والمفرق إلى الاجتماع وتغير الجسم من شكل إلى شكل كتغير الشمعة والفضة نحو ذلك من صورة إلى صورة فهذا كله وما يشبهه يشهد فيه أن العين باقية وانما تغيرت صفاتها التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والالوان والطعوم والاشكال بخلاف الثمرة التي تخرج من الشجرة والجنين الذي يخرج نم بطن أمه والفروج الذي يخرج من البيضة فإن
(8/322)
عاقلا لا يقول أن نفس الرطبة فيها جرم الخشب باقيا ولا اجزاء الجنين كعظمه وبصره فيها اجزاء النطفة باقية ولا نفس الفروج فيه بياض البيض باقيا
ومن قال أن هذا باق في هذا كما أن الجسم الذي اسود بعد بياضه وحلا بعض حموضته وصار مدورا بعد أن كان مسطحا باق فهو لا يتصور ما يقول أو هو معاند مسفسط فالامر ينتهي إلى عدم التصور التام أو العناد المحض وهذا اصل كل ضلال وهو الجهل أو العناد والعناد وصف المغضوب عليهم والجهل وصف الضالين
والفرق بين استحالة العين وبين تبدل الصفات معلوم للعامة والخاصة وقد ذكر الفقهاء ذلك في غير موضع
ثم كلامهم في النجاسة إذا استحالت مثل أن تصير رمادا أو ملحا ونحو ذلك ومثل كلامهم في باب الإيمان فيما إذا حلف على فعل في جسم معين فتغير ذلك الجسم المعين فإن كان التغيير لم يزل الاسم فاليمين باقية بلا نزاع بينهم كما لو حلف لا يكلم هذا الرجل فمرض أو صار شيخا أو لا يأكل هذا الخبز فصار كسرا ونحو ذلك
وان كانت قد استحالت اجزاؤه وتغير اسمه مثل أن يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فروجا أولا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعا
(8/323)
قالوا فهنا لا يحنث لأنه زال اسمه وزالت اجزاؤه
وان تغيرت الصفة مع زوال الاسم كما إذا حلف لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا أو لا كلت لحم هذا الحمل فصار كبشا فإنه يحنث عند جمهورهم كأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور من مذهبه وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وكذلك لو حلف لا اكلت من هذا الرطب فصار تمرا
وتنازعوا فيما إذا اكل مما يصنع من الرطب والعنب من الدبس والخل فمنهم من قال يحنث وهو مذهب مالك وهو المشهور من مذهب احمد ومنهم من قال لا يحنث كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وطائفة من أصحاب احمد قالوا لان اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما في مسألة البيضة والفروج
فقال لهم الاولون عين المحلوف عليه باقية فصار كمسألة الحمل بخلاف البيضة إذا صارت فرخا فإن اجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى ولم يبق عينها
مع أن في هذه المسائل كلاما ليس هذا موضعه إذ كان منهم من يرى اليمين باقية مع استحالة العين لأجل التغيير ومنهم من يرى انه بمجرد زوال الاسم تزول اليمين
(8/324)
ولكن المقصود هنا أنه من المستقر في عقول الناس الفرق بين استحالة الاعيان وانقلابها وبين تغير صفاتها مع بقاء عينها وذاتها ولهذا اتفقوا كلهم على أن العين الخبيثة لا تطهر بمجرد تغير الصفة فالدم والميتة ولحم الخنزير والخمر إذا تغيرت صفاته مثل أن يجمد الدم والخمر أو يسيل شحم الميتة والخنزير ونحو ذلك فإنه لا يزول التحريم باتفاقهم
واما إذا استحالت العين مثل أن يصير ذلك ملحا أو رمادا أو نحو ذلك ففيه نزاع مشهور والجمهور على انه يطهر بالاستحالة كما هو مذهب اكثر اهل الرأي وأهل الظاهر واحد القولين في مذهب مالك واحمد واتفقوا على أن الخمر المنقلبة بفعل الله تعالى خلا انها تطهر
وأما الطريق الثاني وهو بيان أن ما ذكره ليس بدليل صحيح على حدوث الأجسام فإن المعترض يقول قوله أن القديم إذا حصل على صفة من الصفات لم يجز خروجه عنها كلام مجمل قد يراد به انه إذا حصل على صفة لازمة لذاته لم يجز خروجه عنها وقد يريد به إذا حصل على حال عارضة له سواء كان نوعها لازما له اولم يكن لازما لذاته مثل الفعل والعمل سواء سمى حركة أو لم يسم كالاتيان
(8/325)
والمجيء والنزول والمناداة والمناجاة وأمثال ذلك مما تنازع فيه الناس هل يقوم بالقديم ام لا
فجمهور اهل السنة والحديث المتبعون للسف والائمة من السلف والخلف مع كثير من طوائف الكلام وأكثر الفلاسفة يجوزون أن يقوم بالقديم ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال فيقول هؤلاء قول القائل أن القديم الحاصل على صفة لا يجوز خروجه عنها أن اراد به مواقع الإجماع مثل صفات الكمال اللازمة لذات الله أو نوع الصفات اللازم لذات الله تعالى فهذا لا نزاع فيه
وإن اراد به اعيان الحوادث فما الدليل على أن القديم إذا قام به حال من غير هذه الاحوال المعينة لم يجز خروجه عنها
واما استدلال المستدل بقوله لا يخلو أن يكون على ما هو عليه في ازله لنفسه أو لعلة إلى اخر الكلام
فيقال له ذلك الأمر الذي قام هو به هو معنى من المعاني فإن جعلت الموجب لذلك المعنى أمرا آخر على قول مثبتي الاحوال القائلين بأن كونه عالما ومتحركا معنى أوجبه العلم والحركة خوطبت على هذا الاصطلاح وقيل لك قام به ذلك لمعنى
قوله واذا كان لمعنى استحال أن يزول إلا عند عدم ذلك المعنى والقديم يستحيل عدمه
يقال له قول القائل القديم يستحيل عدمه لفظ مجمل أتريد
(8/326)
به أن العين القديمة أو صفتها اللازمة لها يستحيل عدمه أو النوع الذي لا يزال يستحيل عدمه فإن أراد شيئا من هذه المعاني لم يكن له فيه حجة وان اراد أن النوع القديم يستحيل عدم فرد من أفراده المتعاقبة فهذا محل نزاع ولا دليل له على امتناع عدمه ولم يعدم القديم هنا بل النوع القديم لم يزل ولكن عدم فرد من أفراده بمعاقبة فرد آخر له كالافعال المتعاقبة شيئا بعد شيء
فإذا كان القائم بالقديم نوع لم يزل مع تعاقب أفراده لم يكن قد عدم النوع بل كان الكلام في كونه ازليا كالكلام في كونه ابديا وكما انه لا يزال فلا يعدم النوع وان عدم ما يعدم من أعيانه فكذلك القول في كونه لم يزل
وايضا فيقال له القديم إذا فعل بعد أن لم يكن فاعلا فكونه فعل امر موجود أو معدوم
فإن قال انه معدوم فهذا مكابرة للحس والعقل فإن الفعل إذا كان امرا عدميا فلا فرق بين حال أن يفعل وحال إلا يفعل لأن العدم المحض لا يكون فعلا
واذا لم يكن فرق بين الحالين وهو في حال إلا يفعل لا فعل فيجب في الحال التي زعم انه فعل إلا يكون له فعل لتساوي الحالين فيجب إلا يفعل مع كونه فعل وهذا جمع بين النقيضين
(8/327)
وان قال كونه فعل امر موجود فالقديم قبل أن يفعل كان على صفة فإما أن يتجدد ما يوجب خروجه عن تلك الصفة أو لا يتجدد فإن لم يتجدد وجب إلا يفعل وان تجدد شيء انتقض قوله انه إذا كان على صفة من الصفات لم يجز خروجه عنها
فإن قال إنما اعنى بالصفة المعنى القائم بذاته وذاك لم يزل
قيل هب انك عنيت هذا لكن دليلك يتناول هذا وغيره ويوجب أن الأمر الازلي لا يجوز تحوله من حال إلى حال بوجه من الوجوه لأن ما كان قديما كان لمعنى والقديم لا يزول
فالامر المتجدد المتحول الحادث سواء سميته صفة أو حالا أو حادثا أو فعلا وسواء كان قائما به أو بغيره بموجب دليلك أنه لا يجوز بغير الأمور القديمة الأزلية فإن كان هذا حقا وجب إلا يحدث شيء من الحوادث فإن جوز أن تحدث عن قديم من غير حدوث أمر وجودي يكون شرطا في وجودها فقد جوز تغير الأمور الأزلية بلا سبب وان قال لا بد من تجدد امر به يحصل حدوثها واذا تجدد امر فقد حصل تغير لم يكن في الأزل فانتقضت حجته
وايضاح هذا أن يذكر نظير حجته فيقال له القديم الذي لم يزل غير فاعل لا يجوز كونه فاعلا فإنه إذا كان غير فاعل فإما أن يكون ذلك لنفسه أو لعلة إلى آخر الكلام
(8/328)
وان قال فعله بعد أن لم يكن فاعلا ليس مجرد وجود المفعولات والفعل حدوث نسبة واضافة بينهما وهي عدمية
فيقال له فالمتجدد القائم به يقال فيه كذلك ليس هو إلا مجرد وجود ذلك المتجدد وهو حدوث نسبة واضافة عدمية والفعل حدوث نسبة واضافة بينهما وهي عدمية
فان قال هذا يلزم منه قيام المتجددات والحوادث به وهذا لا يجوز
قيل له هذه مصادرة على المطلوب فإنك انت لم تقم دليلا على أن القديم لا تقوم المتجددات والحوادث به بل ما ذكرته هوالدليل على ذلك فإن كان استدلالك على هذا لا يتم إلا بأن تجعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه لم يكن لك عليه دليل إلا مجرد الدعوى وصار هذا بمنزلة أن يقول القائل القديم لا تقوم به الاحوال المتجددة لأن القديم لا تقوم به الاحوال المتجددة
واذا كان العلم بالصانع موقوفا على هذا الدليل لم يكن هناك علم بالصانع بل صار حقيقة الكلام الدليل على ثبوت الصانع حدوث النطفة وغيرها من الأجسام والدليل على حدوث ذلك انه تقوم به المتجددات والحوادث وما قام به المتجددات والحوادث كان حادثا لأن ما قام به المتجددات والحوادث كان حادثا
فيكون منتهى الكلام مجرد الدعوى التي نوزع فيها والاستدلال عليها
(8/329)
بنفسها مع ترك الدليل الواضع البين الذي يشهد به الحس ويعلمه الخلق ولا ينازع فيه عاقل وهو حدوث المحدثات التي يشهد حدوثها ثم افتقار المحدثات إلى فاعل ليس بمحدث بل قديم من الأمور المعلومة بالضرورة لعامة العقلاء لا ينازع فيه إلا من هو من شر الناس سفسطة
فهذا وأمثاله مما يقوله جمهور الانام في مثل هذا المقام ويقولون انا نعلم بالاضطرار أن ما ذكره الله تعالى في القرآن ليس فهي إثبات الصانع بهذه الطريق بل ما في القرآن من الأخبار عن الله بما أخبر عنه من افعاله وأحواله يناقض هذه الطريق ويقولون أن العقل الصريح مطابق لما في القرآن فإن حدوث المحدثات مشاهد معلوم بالحس والعقل وكون المحدث لا بد له من محدث امر يعلم بصريح العقل وايضا فحدوث الحادث بدون سبب حادث ممتنع في العقل
قال القاضي أبو بكر واما قول أبي الحسن أن الانقلاب والتغير والاعتمال والتأثير من سمات الحدث وما لم يسبق المحدثات كان محدثا مثلها ففيه وجهان من الكلام
أحدهما أن نقول أن التغييرات من سمات الحدوث بدلالة أن التغير هو خروج الشيء من صفة إلى صفة فلا يخلو إما أن يكون
(8/330)
خروجا من صفة قدم إلى صفة قدم أو من صفة حدث إلى صفة حدث أو من صفة قدم إلى صفة حدث أو من صفة حدث إلى صفة قدم
والاول باطل لوجهين
أحدهما أن المنتقل انتقل إلى امر مستأنف لم يكن عليه وذلك لا يكون قديما
الثاني أن ذلك يقتضي عدم القديم كما تقدم والقديم لا يجوز عدمه
قال ويستحيل أن يكون التغيير خروجا من حال حدث لأن ذلك لا يثبت إلا بأحد وجهين
إما بحدوث تغيير القديم أو ببطلان معنى منه قد ثبت قدمه ووجوب حدوث ما اكتسبه وصفا بعد أن لم يكن مستحقا له وما قبل الحوادث لم يخل منها أو من اضدادها وما لم يوجد قبل أول الحوادث ولم يعر منها كان محدثا مثلها
قال ولا خلاف بيننا وبينهم يعني المعتزلة في هذا القسم لنطنب فيه
(8/331)
قال واما الوجه الآخر فهو أن نقول إنما اراد بقوله انها من سمات الحدث ودلائله انها إذا ثبت حدوثها وان الجسم لم يخل منها ولم يوجد قبل اولها وجب له من الحدث ما وجب لها إذ لا يخلو أن يكون وجد مع وجودها أو بعد وجودها إذ قد فسد أن يكون موجودا قبلها
فإن كان وجد مع وجودها وجب له من الحدث ما وجب لها وان كان وجد بعد وجودها كان اولى بالحدوث لان ما وجد بعد المحدث كان اولى أن يكون محدثا
قال القاضي أبو بكر واعلم أن هذا الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة وسلك فيها هذا الضرب من الاستدلال فلا بد فيه من مقدمات اربع
اولها الدلالة على إثبات الاعراض
والثانية الدلالة على حدوثها وأن لها اولا تنتهي اليه
والثالثة أن الجسم لا يخلو منها ولا يوجد قبل اولها
والرابعة أن ما لم يسبق المحدثات فواجب أن يكون محدثا مثلها
ثم تكلم على إثبات هذه المقدمات بالكلام المعروف لهم في ذلك
ولما قيل له لم قلتم أن الجسم لا ينفك من هذه الحوادث ولا يوجد قبل اولها
(8/332)
قال لأدلة منها انا نعلم بالاضطرار وببدائه العقول ومقدماتها أن الأجسام إذا كانت موجودة فلا تخلو من الاجتماع والافتراق وذلك لأنها لا تعدو إذا كانت موجودات من أن تكون متماسة متلاصفة كل شيء منها إلى جنب صاحبه أو تكون متباينة متباعدة كل شيء منها لا إلى جنب صاحبه وليس بين هذين منزلة
فإن كانت متماسة فذلك معنى الاجتماع وان كانت متباينة فذلك هو معنى الافتراق
قال ومما يبين ذلك ايضا انا لو جاز لنا وجود جسم خاليا من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والحياة والموت والسواد والبياض وغيرهما من الالوان ومن سائر الهيئات لم نجد إلى ذلك سبيلا ولكان ذلك ممتنعا لأنا وجدنا هذه الاعراض متعاقبة على الأجسام وتفسير التعاقب أن الشيء منها يوجد بعقب غيره
قلت إما الاجتماع والافتراق فإذا قدر وجود جسمين فلا بد من أن يجتمعا أو يفترقا واما الجسم الواحد الذي ليس معه غيره فلا يوصف بمجامعة غيره ولا مفارقته وانما يصفه بالاجتماع والافتراق من يقول بأنه مركب من الأجزاء المفردة فيقول تلك الأجزاء إما مجتمعة واما مفترقة وهذا ليس معلولا بالبديهة ولا الحس ولا يسلمه جمهور الناس
(8/333)
واما الحياة والموت فقد ينازعه من ينازعه من النظار في ذلك فإن نظار المسلمين وغيرهم متنازعون في الموت هل هو وجودي أو عدمي ثم من قال انه عدمي يقول كثير منهم أن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة وما لا يقبل الحياة والموت كالجماد لا يوصف بواحد منهما
لكن القاضي وجمهور الناس يردون على هؤلاء بأن هذا اصطلاح منكم لا يلزمنا ويقولون انا نفسر الموت بما يكون النزاع معه لفظيا
ويقول القاضي واكثر الناس أن كل جسم فإنه يقبل الحياة
لكن الذي يقال له الجسم لا يخلو من أن يكون حيا أو ميتا كما لا يخلو من أن يكون متحركا أو ساكنا واتصافه بالحياة لا يستلزم إمكان اتصافه بالموت فإن القديم سبحانه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ولا يمكن اتصافه بضد ذلك
وحينئذ فلا يمكن أن يقال أن كل جسم يقبل الحياة والموت إلا بدليل يدل على ذلك والحياة لا يجب أن تكون حادثة لا نوعا ولا شخصا كما قد يقال مثل ذلك في الحركة
ثم قال القاضي أبو بكر فإن قال قائل فما الدليل على أن ما لم يسبق المحدثات محدث وانه واجب لا محالة القضاء على حدوث الجسم متى لم يوجد قبل أول الحوادث ولم زعمتم ذلك
(8/334)
قيل له الدليل على هذا قريب واضح وذلك انه لا حال للجسم مع الحوادث إلا بثلاثة احوال
إما أن يكون موجودا قبل اولها أو يكون موجودا مع وجودها أو يكون موجودا بعدها
فإذا بطل أن يكون الجسم عاريا عن الحوادث ومنفكا من سائرها وجب انه ليس له معها إلا حالان إما أن يكون موجودا مع وجودها أو بعدها
فإن كان موجودا مع وجودها ولوجودها أول فواجب أن يكون حكمه في الوجود عن أول وحصوله عن عدم حكمها وذلك يوجب حدوثه من حيث شركها في علة الحدوث متى لم يكن سابقا لها
وان كان موجودا بعدها كان اولى بالحدوث منها لوجوده بعدها
فهذا منتهى كلام القاضي وأبي الحسن في إثبات الصانع وكلام أبي الحسن اجود فإنه بناه على التغير المحسوس في النطفة لم يحتج مع ذلك إلى إثبات جنس الاعراض لكل جسم
وقول القاضي أن الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة فلا بد فيه من إثبات الاعراض اولا وعلى حدوثها ثانيا فليس كما قال بل ألاشعري عدل عن هذه الطريق
(8/335)
قصدا كما ذكره في رسالة الثغر وذم هذه الطريق وعابها وذلك أن ما ذكره من تحول النطفة وانقلابها امر مشهود محسوس لا ينازع فيه عاقل سليم سواء سمى ذلك التحول عرضا أو لم يسم وسواء قيل أن ذلك العرض مغاير للجسم أو قيل ليس بمغاير له وتحولها مشهود حدوثه لا يحتاج مع ذلك إلى ابطال كمون الاعراض ولا انتقالها
لكن منتهى الدليل إلى مقدمة واحدة وهو أن ما قامت به الحوادث فهو حادث بناء على أن ما قامت به لم ينفك عنها وما لم يسبق الحوادث فهو حادث وهذه المقدمات فيها نزاع مشهور
وجمهور الناس من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصائبين والمشركين يخالفون في ذلك حتى جمهور الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون القائلون بقدم العالم وحدوثه يخالفون في ذلك
والجمهور القائلون بأن الله خلق السموات و الأرض بعد أن لم تكونا مخلوقتين لا يتوقف إثبات ذلك عندهم على هذه المقدمة بل يقولون أن إثبات خلقهما لا يثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة بل وكذلك القول بأن الله خالق كل شيء وانه هو القديم وحده وما سواه محدث مسبوق بالعدم كما هو مذهب اهل الملل
وجمهور العقلاء يقول ائمتهم انها لا تحتاج إلى هذه المقدمة بل لا تثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة ومع القول بإبطالها ويقولون أن
(8/336)
موجب هذه المقدمة أن كل موجود محدث وانه ليس في الوجود قديم مع أن هذا معلوم الفساد بالضرورة
واما الكلام في أن ما قبل الحوادث لم يخل منها ففيها نزاع مشهور بين اهل الكلام وكذلك قوله ما لم يسبق الحوادث فهو حادث فيها من منازعة اهل الحديث والكلام والفلسفة ما هو معروف
وقد يسلم هذه من ينازع في الأولى من الكرامية ونحوهم وقد ينازع في هذه من لا ينازع في الأولى من اهل الحديث والفلسفة والكلام وغيرهم
وهذه المقدمة هي التي جعلها الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم عليها من الاشعرية والكرامية واتباع الأئمة الاربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد اصل الدين
ثم أن قدماءهم كانوا يأخذونها مسلمة ويظنونها ضرورية ولا يميزون بين ما لا يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة التي لها مبدأ وما لا يسبق جنس الحوادث فإن ما لا يسبق الحادث المعين أو الحوادث المحدودة التي لها مبدأ فهو محدث بالضرورة ولا ينازع في هذا عاقل
فإن ما كان عينه حادثا فما لم يكن قبله فإنه محدث مثله بالضرورة كما قرره لأنه إما معه واما بعده وما كان مع الحادث أو بعده فهو
(8/337)
حادث بالضرورة
وأما ما لا يسبق جنس الحوادث وهو ما قدر انه لم يزل يقارنه حادث بعد حادث وهلم جرا كما انه يقارنه حادث بعد حادث وفان بعد فان في الابد فيقدر ليس متقدما على جنس الحوادث ولا متأخرا عن جنس الحوادث والفانيات فهذا محل نزاع نزاعهم فيه جمهور الناس من اهل الملل والفلاسفة القائلين بحدوث العالم وبقدمه
وقد رأيت في كتب كثير من المتكلمين من المعتزلة والاشعرية وغيرهم انهم اخذوا هذه المقدمة مسلمة وجعلوها ضرورية واشتبه عليهم ما لم يسبق عين الحادث بما لم يسبق نوع الحادث
والاول ظاهر معلوم لكل أحد
وما الثاني فليس كذلك فصاروا ينتهون في أصل اصول دينهم الذي زعموا انه ثابت بصريح المعقول وانهم به عرفوا وجود الخالق وصدق رسله وانه به يردون على من خالف الملة وبه خالفوا ما خالفوه من نصوص الكتاب والسنة واقوال السلف والائمة واهل الحديث إلى هذه المقدمة وهي لفظ مجمل فيه عموم واطلاق أحد نوعيه بين
(8/338)
فإذا ذكروا ذلك النوع البين ظنوا أن المقدمة صارت معلومة ضرورية والمطلوب لا يتم إلا ببيان النوع الآخر وهم لم يبينوه
وهذا مما يبين للفاضل المعتبر كيف تدخل الشبهات والبدع على كثير من الناس وان كانوا من أعقل الناس واذكاهم وافضلهم وان كانوا لم يعتمدوا التلبيس على أنفسهم ولا على من يعلمونه ويخاطبونه لكن اشتبه الأمر عليهم فوقعوا في شبهات ظنوها بينات
وهذا مما يعتبر به المسلم فلا يعدل عن كلام الله وكلام رسوله المعصوم الذي عرف انه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلى كلام من يروج عليهم مثل هذه الشبهات ويغرقون في مثل هذه المجملات ولا يتبين لهم ما فيها من فصل الخطاب والتقسيم المميز للصحيح من السقيم
ويعرف بهذا حذق السلف والائمة الذين ذموا مثل هذا الكلام وجعلوه من الجهل الذي يستحق اهله العقوبة والانتقام
لكن هؤلاء ذكروا في موضع آخر الكلام مع من يدعي وجود ما لا يتناهى وبحثوا معه وان كانوا لم يجعلوا ذلك من المقدمات التي لا بد منها في هذه المسألة
وقد ذكر ذلك القاضي أبو بكر بعد هذا فقال فصل فإن قال قائل من أهل الدهر الذاهبين إلى انه لا حركة إلا وقبلها
(8/339)
حركة ولا حادث إلا وقبله حادث لا إلى غاية فما أنكرتم من إلا تدل الحوادث على حدوث الجسم اصلا إذ كان لا أول لوجودها ولا شيء منها إلا وقبله شيء لا إلى غاية
يقال له انكرنا ذلك لامور اقربها أن هذا الذي قلته محال متناقض وذلك انه لا يخلو ما مضى من الحوادث وانقضى أن يكون محدثا موجودا عن أول وان يكون الفعل والفراغ قد اتيا عليه أو أن يكون منها ما هو غير موجود عن أول ولا كائن عن حدوث فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى عليه الفراغ استحال قولكم انها لم تزل موجودات شيئا قبل شيء لان ما لم يزل موجودا فقديم غير مستفتح
وقولنا انها حوادث وجب لها الاستفتاح والوجود عن أول والجمع بين ذلك متناقض محال
وان كان فيما اوقعنا عليه هذه التسمية وهو قولنا حوادث ما هو موجود لا عن أول وكائن لا عن عدم فالموجود لا بحدوث والكائن لا عن عدم واجب أن يكون قديما لا محالة كما أن الفلك عندكم وعناصر الاشياء التي هي الماء والأرض والنار والهواء قديمة عندكم إذ كان موجودة لا عند عدم وكانت لا بحدوث فواجب أن يكون الفلك قديما لا أول لوجوده
(8/340)
ولو امكن أن يكون فيما اوقعنا عليه قولنا حوادث ما هو كائن لا بحدوث موجود لا عن عدم وهو مع ذلك محدث في الحقيقة لوجب أن يكون الفلك ايضا وهذه الاعراض موجودة لا بحدوث كائنا لا عن عدم وهو مع ذلك محدث غير قديم
وكذلك القول في سائر اجسام العالم المركبة من هذه الاصول ولو جاز ذلك جاز في جميع اجسام العالم فإن لم يجز هذا ووجب قدم الفلك الكائن لا عن عدم الموجود بغير حدوث وجب قدم ما كان من الحوادث لا عن عدم وما هو موجود فيها بغير حدوث
وهذا يوجب أن من الحوادث ما هو قديم وذلك غاية التناقض والجهل لمن بلغه لان هذين الوصفين متناقضان
واذا كان كذلك استحال ما قلتموه من أن الحوادث لم تزل شيئا قبل شيء لا إلى أول
قال وتحرير ذلك أن هذا قول يوجب أن منها ما هو قديم لا محالة والقديم لا يكون محدثا ولا مجموعا من الحوادث لان قولنا محدث جمع مبنى من لفظ واحد ومن المحال أن يكون القديم من جملة الحوادث
فوجب أن للحوادث كلا وجميعا وان ما انقضى منها ومضى قد لقي الفراغ على جميعه وان ما لم يسبقه ولم يكن قبله فوجب أن يكون محدثا مثله
(8/341)
فدل ما ذكره أبو الحسن في حال النطفة وما يلحقها من التغييرات والانقلاب والتأثيرات على انها محدثة هي وسائر الأجسام إذ سائر الأجسام هي كالنطفة فيما استدل به على حدوثها من الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغيير
قال وهذا الطريق من الكلام في حدوث الأجسام هو المعتمد في هذا الباب
قلت هذاالقاضي هو المقدم على ابناء جنسه وهذا منتهى كلامه في هذا الموضع الذي هو عندهم اصل اصول الدين الذي جعلوه اصلا لرد ما خالفه من النصوص النبوية ولما خالفه من مذاهب الدهرية
والمنازعون من ائمة السنة وائمة الفلسفة يقولون لهم ما ذكرتموه ليس فيه إلا مجرد الدعوى المبنية على عدم تصور محل النزاع فإن قولكم لا يخلو ما مضى من الحوادث أن يكون موجودا عن أول أو يكون فيها ما هو غير موجود عن أول جوابه أن ما مضى من الحوادث يراد به كل فرد فرد بعينه ويراد به النوع المتعاقب شيئا بعد شيء
فإن كان المراد كل واحد واحد من الحوادث فليس فيها شيء قديم بل كل منها كائن بعد أن لم يكن
(8/342)
وان كان مرادك النوع المتعاقب شيئا بعد شيء فليس له أول وليس هو حادثا بل النوع قديم مع أن كل فرد من أفراده حادث وانت لم تذكر دليلاص على امتناع هذا البتة وانما ذكرت انه ليس فيها شيء قديم وهذا مسلم لا نزاع فيه
وقلت فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى الفراغ علبه استحال قولكم انها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح
فيقال لك كل واحد منها مستفتح مبتدأ ولكن لم قلت انه إذا كان كذلك استحال قول القائل انها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح
فإن هذا القائل يقول أن الذي لم يزل إنما هو الجنس المتعاقب شيئا بعد شيء واما كل واحد واحد من الحوادث فلا يقول عاقل إنه لم يزل
فقول القاتل فإن كان الماضى من الحوادث مستفتحا مبتدأ قدأتى الفراغ عليه استحال قولكم انها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء
يقال له هم لا يقولون أن جنس الماضي مستفتح مبتدأ فإن ما لم يزل موجودا شيئا قبل شيء لا يكون إلا قديما لم يزل ولكن يقولون أن كل واحد من تلك الحوادث مستفتح مبتدأ وهذا لا يقولون فيه انه لم يزل موجودا
فالذي يقولون انه لم يزل ليس هو الذي يقولون انه مستفتح
(8/343)
مبتدأ وهذا كما يقولون في المستقبلات الفانية المنقضية المتصرمة كالحركات أن كل واحد منها فان منقض والجنس ليس بفان منصرم بل هو دائم كما قال تعالى { أكلها دائم } سورة الرعد 35 وقال { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } سورة ص 54 فالجنس دائم لا نفاد له وكل واحد واحد من افراد الرزق المأكول ينفد لا يدوم
ولما تفطن كثير من اهل الكلام لما في هذه المقدمة من الاجمال والابهام وانه لا بد من بيان هذه المقدمة في هذا الموضع ميزوا بين النوعين كما فعل ذلك أبو الحسين البصري وابو المعالي الجويني والشهرستاني والرازي وغيرهم فعرفوا أن المراد انه ما لم يسبق جنس الحوادث لا عين الحوادث وان ذلك لا يتم إلا ببيان أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء وانه يمتنع وجود حوادث لا يتناهى نوعها فأخذوا يحتجون على ذلك بما ذكرناه اعتراض الناس عليه في غير هذا الموضع
ولهذا جعل أبو الحسين وابو المعالي ونحوهما هذا الدليل مبنيا على اربع مقدمات إثبات الاعراض واثبات حدوثها واثبات استلزام الجسم لها واستحالة حوادث لا أول لها
وجعلوا النتيجة أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث فإن ذلك حينئذ يكون معلوما بالضرورة بخلاف ما فعله كثير من اهل الكلام من
(8/344)
الجهمية والمعتزلة والاشعرية والشيعة وغيرهم حيث جعلوا المقدمات اربعا إثبات الاعراض واثبات حدوثها واثبات استلزام الجسم لها والرابعة أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث وهذه هي النتيجة وتصلح أن تكون مقدمة إذا تبين أن ما لم يسبق جنس الحوادث فهو محدث لكن هم لم يثبتوا ذلك هنا واللفظ مجمع كما ترى
لكن قد بين هؤلاء كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلي وغيرهما الكلام على هذا الأصل وهو امتناع وجود مالا يتناهى في موضع اخر فجعلوا الكلام في ابطال مالا يتناهى من الحوادث والاجزاء التي هي الجواهر المفردة ونحو ذلك جنسا
ومنهم من يجعل ذلك دليلا ثابتا في المسألة كما فعله ابن عقيل والقشيري وغيرهما
وقد ذكرنا أن الناس لهم في وجود مالا يتناهى في الماضي والمستقبل ثلاثة اقوال قال بكل قول طائفة من نظار المسلمين وغيرهم
أحدها امتناع وجود مالا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا قول أبي الهذيل والجهم بن صفوان وعن هذا الأصل قال الجهم بفناء الجنة والنار واشتد انكار سلف الأمة عليه ذلك
وليس هذا قول من يقول بأنهما ليستا مخلوقتين ولو كانتا مخلوقتين لفنيتا كما قال ذلك طائفة من الجهمية والمعتزلة فإن هؤلاء يقولون أن
(8/345)
العالم كله لا بد أن يفنى جميعه ثم يعاد فلو كانت الجنة مخلوقة لفنيت فيما يفنى ثم تعاد فلا تفنى والجهم يقول تفنى فناء لا تعاد بعده وابو الهذيل يقول تفنى حركات اهل الجنة والنار
والقول الثاني قول من يقول بامتناع مالا يتناهى في الماضي دون المستقبل لان الماضي قد وجد والمستقبل لم يوجد بعد وهو قول اكثر المعتزلة والاشعرية والكرامية ومن وافقهم
والثالث قول من يقول بإمكان وجود مالا يتناهى في الماضي والمستقبل كما هو قول ائمة اهل الملل وائمة الفلاسفة
لكن ائمة اهل الملل وغيرهم ممن يقر بان الله خالق كل شيء وان كل ما سواه محدث مسبوق بعدم يقولون لا يجوز وجود حوادث لا تتناهى إلا من قديم وحد واما من يقول بوجود قديمين متحركين كمن يقول بقدم الافلاك فإن هؤلاء كأرسطوا وأتباعه لا يجوزون أن يوجد بكل من القديمين بل والقدماء حوادث لا بداية لها ولا نهاية مع أن إحداهما اكثر من الاخرى فيجوزن فيما لا أول له ولا آخر أن يكون غيره أكثر منه وأن يكون قابلا للزيادة بخلاف الدين قبلهم فإنهم إنما يجوزون ذلك في قديم واحد فإذا كان ما يفعله لا بداية له ولا نهاية لم يلزم أن يكون قابلا للزيادة
(8/346)
وعلى هذا فللناس في أن مالا يسبق جنس الحوادث هل هو حادث اقوال
أحدها انه يجب أن يكون حادثا مطلقا
والثاني لا يجب أن يكون حادثا
والثالث انه أن كان محتاجا إلى غيره وجب أن يكون حادثا وان كان غنيا عن غيره لم يجب أن يكون حادثا
وايضا فإن ما لم يسبق حوادث نفسه لم يجب أن يكون حادثا وان لم يسبق حوادث غيره كان حادثا وقد قرر هذا في موضع آخر
ومن فهم ما ذكرناه ونظر فيما صنفه الناس في هذا الباب من الاستدلال على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث وما لم يسبق الحوادث فهو حادث تبين له تقصير كثير منهم في استيفاء مقدمات الدليل ثم الذين استوفوا مقدماته يبقى الكلام معهم في صحة تلك المقدمة وقد عرف منازعة اكثر اهل الملل واكثر الفلاسفة أو كثير من الطائفتين فيها وابطالهم لها
ولما كان هؤلاء وامثالهم يدعون أن معرفة الله لا تحصل إلا بالمعقول ويفسرون المعقول بمثل هذا الدليل الذي هو باطل وغايته إذا قيل انه صحيح انه لا يصل به إلى المطلوب إلا قليل من الناس بعد كلفة شديدة ومخاطرة عظيمة ويريدون أن يردوا بمثل هذا ما دل عليه الكتاب
(8/347)
والسنة واتفق عليه سلف الأمة بل ما علم بفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ودلت عليه العقليات الصريحة قابلهم من قال أن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع وهؤلاء في الغالب لا يريدون بذلك المعرفة الحاصلة لعموم الخلق من الكفار وغيرهم فإن هذه عندهم فطرية ضرورية أو مكتسبة بنوع من نظر العقل
وقد تقدم كلام الناس في أن اصل الإقرار بالصانع فطري ضروري أو قد يكون ضروريا خلافا لمن قال انه لا يحصل إلا بالنظر
وكلام السلف والائمة في ذلك كثير ولهذا كان كثير من أتباعهم ممن يقول أن أول الواجبات هو النظر وان المعرفة لا تحصل إلا به قد يقول خلاف ذلك في موضع آخر
وقد تقدم أن القاضي ابا يعلي وغيره كانوا يقولون بوجوب النظر في هذه الطريقة طريقة الاعراض ثم رجعوا عن ذلك ويقولون أن المعرفة نظرية وانها حاصلة بالنظر في الأدلة المذكورة في القرآن
وكثير من الناس كانوا يقولون اولا بوجوب النظر المعين الذي توجبه الجهمية والمعتزلة وهو النظر في حدوث الاعراض ولزومها للاجسام وان مالا يخلو عن الحوادث فهوحادث وانه أول واجب على العباد ثم رجعوا عن ذلك لما تبين له فساد القول بوجود ذلك
ومن هؤلاء القاضي أبو يعلي وابن عقيل وابو المعالي الجويني
(8/348)
والغزالي والرازي وغيرهم فإن هؤلاء وأمثالهم سلكوا اولا الطريقة التي وجدوها للمتكلمين الذين سلكوا مسلك الجهمية والمعتزلة
فقالوا وهذا لفظ القاضي أبي يعلي في المعتمد إذا ثبت صحة النظر ووجوبه فإن أول ما أوجب الله على خلقه العقلاء النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله تعالى
قال وقد قيل أن أول الوجبات إرادة النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله تعالى
قلت هذا الثاني قول أبي المعالي في ارشاده وذكر ذلك القاضي أبو بكر وغيره
واختار القاضي أبو يعلي هذا في موضع آخر فقال أول ما انعم الله على المؤمنين بعد الحياة من النعم الدينية خلق القدرة على الارادة للنظر والاستدلال المؤديين إلى إثبات المعاني وحدوثها وان الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها في الوجود الموصل له إلى معرفة الله تعالى
قال وقد قيل أول نعمة دينية خلق القدرة على الإيمان
(8/349)
قال وجه الأول أول طاعة واجبة لله على الخلق اكتساب الارادة للنظر المؤدي إلى إثبات المعاني وحدوثها وان الجواهر لم تسبقها واذا كان ذلك أول الواجبات وجب أن يكون أول النعم عليه من النعم الدينية
قال واعظم نعمة الله على المؤمنين من النعم الدينية واجلها كتب الإيمان في قلوب المؤمنين
قال وقد قيل اعظم النعم الدينية هي خلق القدرة على الإيمان والاول اشبه فإن أعظم الطاعات هو الإيمان فإنه بوجوده والموافاة به يحصل الثواب الدائم في الاخرة واذا لم يوجد لا يحصل ذلك ثم قالوا وهذا لفظ القاضي أبي يعلي خلافا لمن قال أن أول الواجبات المعرفة بالله وخلافا لمن قال معرفة الله غير واجبة وان الواجب الإقرار به والتصديق له
قال والدلالة عل ما ذكرنا انه قد ثبت أن من لا يعرف الله لا يمكنه أن يتقرب اليه كما أن من لا يعرف زيدا لا يمكنه أن يتقرب اليه
لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب اليه وليس بمشاهد لنا ولا معلوم لنا ضرورة فوجب إلا نعلمه إلا بالنظر والاستدلال في الطريق الموصل اليه فلما لم تتم المعرفة إلا به وجب أن يكون واجبا واذا وجب علم انه أول الواجبات
ثم قال فصل واذا ثبت أن النظر أول الواجبات فإنما يجب النظر في الطريق الموصل إلى معرفة الله وهو حدوث الاشياء من الجواهر
(8/350)
والاجسام واذا كانت محدثة وجب أن يكون لها محدث لأن المحدث لو لم يتعلق بمحدث لم تتعلق الكتابة بكاتب ولا الضرب بضارب لان ذلك كله يبعد إذ استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها فلو جاز محدث لا محدث له لجاز محدث لا احداث له وذلك محال
وأيضا فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض فلولا أن مقدما قدم منها ما قدم واخر منها ما أخر لم يكن ما تقدم منها اولى من أن يكون متأخرا وما تأخر منها اولى من أن يكون متقدما فدل ذلك على أن لها مقدما محدثا لها قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر
وكان القاضي قد سمع رسالة الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله على مسعود السجزي عن علي بن سري السجستاني عن الخطابي وذكر أن بعض الناس اعترض عليها
فإن الخطابي ذكر الغنية عن الاستدلال بحدوث الجواهر والاجسام لكونها لا تنفك عن الحوادث كما تقدم وقال فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك
(8/351)
وهذه طريقة السلف من ائمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع وحدوث العالم لأنه إذا ثبتت نبوته بقيام المعجز وجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم اليه من امر وحدانية الله تعالى وصفاته وكلامه وقد نبههم في كتابه على الاستدلال به على ربوبيته فقال { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } سورة الذاريات 21 وقال { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت } سوة الغاشية 17 20 وقوله { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات } سورة آل عمران 190 وما أشبه ذلك مما يدل على إثبات الصانع إلى آخر كلامه
(8/352)
قال القاضي وقد اعترض على هذا بعضهم فقال هذا رجوع منهم ومناف لما ذكره لأنه حث على الاعتبار بانفسنا وبالسموات والأرض وليس ذلك بمعجزات الأنبياء وانما هي الأجسام والأعراض
قال وانما احتج المتكلمون بالاعراض لان الجسم لا ينفك منها وهي محدثة في أنفسها لعلمنا بان العرض يعدم في حال ويوجد في حال أخرى وهذا شاهد على حدوثها وعلى حدوث مالا ينفك منها
قال ومعنى قوله انقلابها فيها انقلاب الجواهر في الاعراض ومعناه تغيره من سواد إلى بياض ومن حركة إلى سكون
قلت قد يراد بانقلابها فيها انقلاب الاعراض في الجواهر فإنها تنقلب من عدم إلى وجود ومن وجود إلى عدم ومن نوع إلى نوع كالبياض والسواد والحركة والسكون
وهذا المعترض على الخطابي أخطأ فإن الخطابي ذكر طريقين كما ذكرنا
(8/353)
أحدهما المعجزات بناء على أن الإقرار بالصانع فطري أو على أن المعجزات يستدل بها على الخالق وعلى صدق أنبيائه كما ذكرنا في عصا موسى
والطريق الثاني أن القرآن نبه على الأدلة العقلية الصحيحة كما اعترف أئمة النظار بأن القرآن دل على الطريق دل على الطريق العقلية
فقال وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة
وقد نبههم الكتاب على ذلك ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز وجل { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } سورة الذاريات 21 إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على وجود الصانع الحكيم
ثم تكلم في خلق الإنسان بما تقدم ذكره قال وكقوله { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت } سورة
(8/354)
الغاشية 17 20 وبقوله تعالى { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } سورة آل عمران 190 وما أشبه ذلك من خلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه
قال فبهذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه
فقد بين الخطابي بعض ما نبه عليه القرآن من الاستدلال بالآيات النفسية والأفقية وهي أدلة عقليه
والخطابي ذم طريقة الاستدلال بالأعراض وأنها لازمة للأجسام
وهذه الطريقة لم ينبه القرآن عليها ولكن بعض الناس ذكروا أن هذه طريقة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في قوله { لا أحب الآفلين } سورة الأنعام 76 قالوا لأن الأفول هو الحركة التي لم يخل الجسم منها
وهذا باطل لوجوه
أحدها أن الأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب
(8/355)
والثاني أنه لو استدل بالحركة لكان من حين بزغت استدل بذلك لم يؤخر الدلالة إلى حين الغروب
الثالث أن قصة إبراهيم هي على نقيض مطلوبهم أدل فإنه لم يجعل الحركة منافية لما قصده بل المنافي هو الأفول
الرابع أن إبراهيم لم يكن معنيا بقوله { هذا ربي } سورة الأنعام 76 أنه رب العالمين على أي وجه قاله ولا أعتقد ذلك قومه ولا غيرهم وإنما كان الذي يقول ذلك يتخذه ربا يعبده لينال بذلك أغراضه كما كان عباد الكواكب والشمس والقمر يفعلون ذلك وكان قومه من هؤلاء لم يكونوا جاحدين للصانع بل مشركين به
ولهذا قال لهم { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } سورة الشعراء 75 77
وقال في آخر قوله { إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } سورة الأنعام 78 81 وقد بسط هذا في موضع آخر
(8/356)
والمقصود هنا أن القاضي كان أولا يقول بطريقة من يقول إن أول الواجبات هو النظر في حدوث الأجسام ثم رجع القاضي عن ذلك ووافق الخطابي وغيره ممن سلك مسلك السلف والأئمة وقالوا إن هذه الطريق ليست واجبة بل هي عند محققيهم باطلة وإن كان النظر واجبا في غيرها من الطرق الصحيحة
وقد افتتح القاضي كتابه بقوله الحمد لله مبتدئ الأشياء ومخترعها من غير شيء العالم بها قبل تكوينها والقادر عليها قبل إنشائها جاعل العلامات وناصب الدلالات ومبين الآيات الآمر أولي الأبصار بالأفكار وأولي الألباب بالاعتبار أرسل الرسل بالإنذار وأنزل الكتب بالأنوار وباعث النبيين ومنقذ العمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وأمينه المرتضى أنزل عليه كتابه الهدى نورا لمن التمسه وضياء لمن اقتبسه ودليلا لمن طلبه دلهم فيه على معاني حكمته ولطيف صنعته وبيان جلاله أثبت الحجة به على أوليائه وأعدائه وهو كلامه الذي يعجز الخلق أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا معقب لأمره ولا راد لفضله تعالى عما يقول الجاحدون علوا كبيرا
(8/357)
ثم قال وهذه خطبة شيخنا أبي بكر عبد العزيز بن جعفر أحمد ذكرها في أول كتابه الشافي قصدت أن أفتتح كتابي بها تبركا به ولأنه قد صرح فيها بالقول بالنظر والاستدلال بقوله الآمر أولي الأبصار بالأفكار وأولي الألباب بالاعتبار
قال وفي هذا بيان لوجوب النظر وصحته وإزالة الإشكال عمن توهم غير هذا في المذهب
قلت وإيجاب النظر مطلقا غير إيجاب النظر في الطريق المعين طريقة كون الأعراض حادثة وهي لازمة للأجسام فإن هذه لا يقول بوجوبها على المسلمين أحد من أئمة المسلمين الذين يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويتبعونه إذ كان معلوما بالاضطرار لكل من عرف ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجب النظر في هذه الطريقة بل ولا دل على صحتها بل ما أخبرته يناقض موجبها وهى وإن جعلها من جعلها من أهل الكلام المحدث أصلا في معرفة الصانع وصفاته وصدق رسله فهي عند التحقيق تناقض معرفة الصانع ومعرفة صفاته وصدق رسله كما قد بسط في مواضع والمقصود هنا أن القاضي أبا يعلى ونحوه ممن كان يقول أولا إن المعرفة
(8/358)
لا تحصل إلا بالنظر في هذه الطريقة وهو أول الواجبات لما ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم
كل مولود يولد على الفطرة قالوا واللفظ للقاضي في الفطرة ما الفطرة هنا على روايتين عن أحمد
إحداهما الإقرار بمعرفة الله تعالى وهي العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم حين مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه
قال تعالى { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } سورة الزخرف 87 فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول
قال وليس الفطرة ههنا الإسلام لأمرين
أحدهما أن معنى الفطرة ابتداء الخلقة ومنه قوله تعالى { فاطر السماوات والأرض } سورة فاطر 1 أي مبتدئهما وإذا كانت الفطرة هي الابتداء وجب أن تكون تلك هي التي وقعت لأول الخلق وجرت في فطرة المعقول وهو استخراجهم ذرية لأن تلك حالة ابتدائهم ولأنها لو كانت الفطرة هنا الإسلام لوجب إذا ولد من بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه مادام طفلا لأنه مسلم واختلاف
(8/359)
الدين يمنع الإرث ولوجب ألا يصح استرقاقه ولا يصح إسلامه بإسلام أبيه لأنه مسلم
قال وهذا تأويل ابن قتيبة ذكره في إصلاح الغلط على أبي عبيد وذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة
قال وليس كل من ثبتت له المعرفة حكم بإسلامه كالبالغين من الكفار فإن المعرفة حاصلة لهم وليسوا بمسلمين
قال وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل في رواية الميموني فقال الفطرة الأولى التي فطر الله عليها فقال له الميموني الفطرة الدين قال نعم
قال القاضي وأراد أحمد بالدين المعرفة التي ذكرناها
قال والرواية الثانية الفطرة هنا ابتداء خلقه في بطن أمه
قال لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم وهو الإقرار بمعرفة الله تعالى حمل للفطرة على الإسلام لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان والمؤمن مسلم
قال ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه لأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقا لله وقد ثبت من أصولنا أن أفعال العباد خلق لله من طاعة ومعصية
(8/360)
قال وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن كل مولود يولد على الفطرة فقال على الشقاوة والسعادة
وكذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله عن كل مولود يولد على الفطرة قال هي التي فطر الناس عليها شقي أو سعيد
وكذلك نقل حنبل عنه قال الفطرة التي فطر الله العباد من الشقاء والسعادة
قال وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ههنا ابتداء خلقه في بطن أمه
قلت أحمد لم يذكر العهد الأول وإنما قال الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها وهي الدين وقد قال في غير موضع إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه واستدل بهذا الحديث
كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فدل على أنه فسر الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث ولو لم يكن كذلك لما صح استدلاله بالحديث
وقوله في موضع آخر يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك فإن الله تعالى قدر الشقاوة والسعادة وكتبها وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله تعالى
والمولود ولد على الفطرة سليما وولد على أن هذه الفطرة السليمة
(8/361)
يغيرها الأبوان كما قدر الله تعالى ذلك وكتبه كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله
كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الناس وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما ثم يفسده أبواه وذلك أيضا بقضاء الله وقدره
وإنما قال الأئمة ولد على ما فطر عليه من شقاء وسعادة لأن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقدر الله بل مما فعله الناس لأن كل مولود يولد خلقه الله على الفطرة وكفره بعد ذلك من الناس
ولهذا قالوا لمالك بن أنس إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث فقال احتجوا عليهم بآخره وهو قوله الله أعلم بما كانوا عاملين
فبين الأئمة أنه لا حجة فيه للقدرية فإنهم لا يقولون إن نفس الأبوين خلقا تهوده وتنصره بل هو تهود وتنصر باختياره لكن كانا سببا في ذلك بالتعليم والتلقين فإذا أضيف إليهما بهذا الاعتبار فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى لأن الله وإن خلقه مولودا على الفطرة سليما فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك
كما في الحديث الصحيح
إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع
(8/362)
كافرا ولو بلغ لرهق أبويه طغيانا وكفرا
فقوله طبع أي طبع في الكتاب أي قدر وقضي لا أنه كان كفره موجودا قبل أن يولد فهو مولود على الفطرة السليمة وعلى أنه بعد ذلك يتغير فيكفر كما طبع كتابه يوم طبع
ومن ظن أن المراد به الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار فهو غالط فإن ذلك لا يقال فيه طبع يوم طبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى أنه قال
خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك
وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه أحمد وغيره قال
بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما حملكم على قتل الذرية قالوا يا رسول الله أليسوا أولاد المشركين قال أو ليس خياركم أولاد
(8/363)
المشركين ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيب فقال ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فخطبته لهم بهذا الحديث عقب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين وقوله لهم أو ليس خياركم أولاد المشركين يبين أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك ولو كان أراد أن المولود حين يولد يكون إما كافرا وإما مسلما على ما سبق له القدر لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده صلى الله عليه وسلم من نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين
وقد ظن بعضهم أم معنى قوله
أو ليس خياركم أولاد المشركين معناه لعله أنه قد يكون سبق في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز وليس هذا معنى الحديث ولكن معناه إن خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وهؤلاء من أولاد المشركين فإن آباءهم كانوا كفارا ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنا فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن
(8/364)
وهذا الحديث قد روي بألفاظ يفسر بعضها بعضا ففي الصحيحين واللفظ للبخاري عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة اقرأوا { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } سورة الروم 30 قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيرا قال الله أعلم بما كانوا عاملين
وفي الصحيح قال الزهري يصلي على كل مولود متوفى وإن كان لغية من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل صارخا ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط وإن أبا هريرة كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة { فطرة الله التي فطر الناس عليها } سورة الروم 30
وفي الصحيح من رواية الأعمش
ما من مولود يولد إلا وهو على
(8/365)
الملة وفي رواية أبي معاوية عنه إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك
قال ابن عبد البر في التمهيد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره فممن رواه عن أبي هريرة سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وحميد بن عبد الرحمن وأبو صالح السمان وعبد الرحمن الأعرج وسعيد بن أبي سعيد ومحمد بن سيرين
قال ورواه ابن شهاب واختلف أصحابه في إسناده منهم من رواه عن سعيد عن أبي هريرة ومنهم من رواه عن أبي سلمة عن
(8/366)
أبي هريرة ومنهم من رواه عن حميد عن أبي هريرة قال محمد بن يحيى الذهلي كل هذه صحاح عن ابن شهاب محفوظة
قال ابن عبد البر وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزئ الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع قال نعم لأنه ولد على الفطرة
قال ابن عبد البر لما ذكر النزاع في تفسير هذا الحديث وقال آخرون الفطرة ها هنا الإسلام قالوا وهو المعروف عند عامة السلف أهل التأويل وقد أجمعوا في تأويل قوله عز وجل { فطرة الله التي فطر الناس عليها } سورة الروم 30 على أن قالوا فطرة الله دين الله الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث اقرأوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها }
وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قول الله عز وجل { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قالوا فطرة
(8/367)
الله دين الله الإسلام لا تبديل لخلق الله قالوا لدين اله
واحتجوا بحديث محمد بن اسحاق عن ثور ين يزيد عن يحي بن جابر عن عبد الرحمن بن عائذ الازدى عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال للناس يوما
إلا احدثكم بما حدثني الله في الكتاب أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين واعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا ما اعطاهم الله حلالا وحراما الحديث
قال وكذلك روى بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد باسناده مثله في هذا الحديث حنفاء مسلمين
قال أبو عمر روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عياض بن حمار ولم يسمعه قتادة من مطرف ولكن
(8/368)
قال حدثني ثلاثة عقبة بن عبد الغافر ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن زياد كلهم يقول حدثني مطرف عن عياض عن النبي صلى اله عليه وسلم فقال فيه
واني خلقت عبادي حنفاء كلهم لم يقل مسلمين وكذلك رواه الجسن عن مطرف عن عياض ورواه ابن اسحاق عمن لا يهتم عن قتادة باسناده وقال فيه
واني خلقت عبادي حنفاء كلهم ولم يقل مسلمين
قال فدل هذا على حفظ محمد بن اسحاق واتقانه وضبطه لانه ذكر مسلمين في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث واسقطه من رواية قتادة وكذلك رواه الناس عن قتادة قصر فيه عن قوله مسلمين وزاد ثور باسناده والله اعلم
قال والحنيف في كلام العرب المستقيم المخلص ولا استقامة اكثر من الإسلام
(8/369)
قال وقد روى عن الحسن قال الحنيفية حج البيت وهذا يدلك على انه اراد الإسلام وكذلك روى عن الضحاك والسدى حنفاء قال حجاجا وعن مجاهد حنفاء قال متبعين
قال وهذا كله يدلك عن الحنيفية الإسلام
قال وقال اكثر العلماء الحنيف المخلص وقال الله عز وجل { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما } سورة آل عمران 67 وقال { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } سورة الحج 78 فلا وجه لانكار من انكر رواية من روى حنفاء مسلمين قال الشاعر وهو الراعى
(8/370)
% اخلفية الرحمن انا معشر % حنفاء نسجد بكرة واصيلا % % عرب نرى لله في اموالنا % حق الزكاة منزلا تنزيلا % فهذا وصف الحنيفية بالاسلام وهو امر واضح لاخفاء به
قال ومما احتج به من ذهب إلى أن الفطرة في هذا الحديث الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم
خمس من الفطرة ويروي
عشر من الفطرة يعني فطرة الإسلام
قلت الدلائل الدالة على انه اراد على فطرة الإسلام كثيرة كالفاظ الحديث التي في الصحيح مثل قوله على الملة
وعلى هذه الملة ومثل قوله في حديث عياض بن حمار
خلقت عبادي حنفاء كلهم وفي لفظ
حنفاء مسلمين ومثل تفسير أبي هريرة وغيره من رواة الحديث ذلك وهم اعلم بما سمعوا
وأيضا فانه لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقب ذلك ارايت من يموت من اطفال المشركين وهو صغير لانه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما سألوا والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير
(8/371)
وكذلك قوله فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه بين فيه انهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها
وأيضا فانه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيه ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها
وأيضا فان الحديث مطابق للقرآن لقوله تعالى { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهذا يعم جميع الناس فعلم أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة وفطرة الله اضافها اليه اضافة مدح لا اضافة ذم فعلم انها فطرة محمودة لا مذمومة
يبين ذلك انه قال { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبوبة واصحابة فدل على أن اقامة الوجه للدين حنيفا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها كما في نظائره مثل قوله { كتاب الله عليكم } سورة النساء 24 وقوله { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } سورة الفتح 23 فهذا عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم اضماره دل عليه الفعل المتقدم كأنه قال كتب الله ذلك عليكم وسن الله ذلك وكذلك هنا فطر الله الناس على ذلك على اقامة الدين لله حنيفا وكذلك فسره السلف كما تقدم النقل عنهم
(8/372)
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره المشهور يقول فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد لطاعته وهي الدين حنيفا يقول مستقيما لدينه وطاعته فطرة الله التي فطر الناس عليها يقول صنعة الله التي خلق الناس عليها ونصب فطرة على المصدر من معنى قوله { فأقم وجهك للدين حنيفا } وذلك أن معنى ذلك فطر الله الناس على ذلك فطرة
قال وبنجو الذي قلنا في ذلك قال اهل التأويل وروى عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن ابن زيد بن اسلم في قوله { فطرة الله التي فطر الناس عليها } سورة الروم 30 الإسلام فمنذ خلقهم الله بني آدم من ظهورهم ذرياتهم واشهدهم على أنفسهم الست بربكم قالوا من آدم جميعا يقرون بذلك وقرأ { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } سورة الاعراف 172 فهذا قول الله كان الناس امة واحدة يومئذ فبعث الله النبيين بعد
(8/373)
وروى باسناده الصحيح عن ابن أبي نجيح عن مجاهد فطرة الله قال الدين الإسلام وقال ثنا ابن حميد ثنا يحي بن واضح ثنا يونس بن أبي اسحق عن يزيد بن أبي مريم قال مر عمر بمعاذ بن جبل فقال ما قوام هذه الأمة قال معاذ ثلاث وهن المنجيات الاخلاص وهو الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها والصلاة وهي الملة والطاعة وهي العصمة فقال عمر صدقت
وقال حدثني يعقوب يعني الدورقي ثنا ابن عليه ثنا ايوب عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ ما قوام هذه الأمة فذكر نحوه
قال وقوله لا تبديل لخلق الله يقول لا تغيير لدين الله أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل
ثم ذكر باسناده الصحيح عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال لا
(8/374)
تبديل لخلق الله قال لدين الله
وروى عن عبد الله بن ادريس عن ليث قال ارسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يساله عن قول الله { لا تبديل لخلق الله } فقال عكرمة هو الخصاء فرجع إلى مجاهد فقال اخطأ لا تبديل لخلق الله إنما هو الدين ثم قرأ { لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }
وروى عن وكيع عن نضر بن عربي عن عكرمة لا تبديل لخلق الله لدين الله
وروى أيضا عن حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة فطرة الله التي فطر الناس عليها قال الإسلام وكذلك روى عن وكيع عن سفيان الثورى عن ليث عن مجاهد قال لدين الله وروى عن سعيد عن قتادة { لا تبديل لخلق الله } أي لدين الله
(8/375)
وكذلك روى عن ابن عيينة عن حميد الاعرج قال قال سعيد ين جبير { لا تبديل لخلق الله } قال لدين الله
وكذلك عن المحاربي عن جويبر عن الضحاك في قوله { لا تبديل لخلق الله } قال دين الله
وكذلك عن وكيع عن سفيان الثورى ومسعر عن قيس بن مسلم عن إبراهيم النخعى { لا تبديل لخلق الله } قال دين الله
وكذلك عن مغيرة عن إبراهيم قال لدين الله
وعن عمرو بن أبي سلمة سالت عبد الرحمن بن يزيد بن اسلم عن قوله تعالى { لا تبديل لخلق الله } قال لدين الله
وروى أيضا عن ابن عباس انه سئل عن اخصاء البهائم فكرهه
(8/376)
وقال لا تبديل لخلق الله وعن حميد الاعرج قال قال عكرمة الاخصاء وعن حفص بن غياث عن ليث عن مجاهد قال الإحصاء
قلت مجاهد وعكرمة روى عنهما القولان إذ لا منافاة بينهما كما قال تعالى { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } سورة النساء 119 فتغيير ما خلق الله عليه عباده من الدين تغيير لخلقه والخصاء وقطع الآذن أيضا تغيير لخلقه
ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم احدهما بالآخر في قوله
كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء
فأولئك يغيرون الدين وهؤلاء يغيرون الصورة بالجدع والخصاء هذا تغيير لما خلقت عليه نفسه وهذا تغيير ما خلق عليه بدونه
واعلم أن هذا الحديث لما صارت القدرية يحتجون به على قولهم الفاسد صار الناس يتأولونه تأويلات يخرحونه بها عن مقتضاه
فالقدرية من المعتزلة وغيرهم يقولون كل مولد يولد على الإسلام والله لا يضل أحدا ولكن ابواه يضلانه
والحديث حجة عليهم من وجهين
(8/377)
احدهما انه عند المعتزلة ونحوهم من المتكلمين لم يولد أحد على الإسلام أصلا ولا جعل الله أحدا مسلما ولا كافرا ولكن هذا احدث لنفسه الكفر وهذا احدث لنفسه الإسلام والله لم يفعل واحدا منهما عندهم بلا نزاع بين القدرية ولكن هو دعاهما إلى الإسلام وازح علتهما واعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للايمان والكفر ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان فان ذلك عندهم غير مقدور ولو كان مقدورا لكان ظلما وهذا قول عامة المعتزلة وان كان بعض متأخريهم كأبي الحسين يقول انه خص المؤمن بداعي الإيمان ويقول عند الداعى والقدرة يجب وجود الإيمان فهذا في الحقيقة موافق لاهل السنة فهذا أحد الوجهين
والثاني انهم يقولون أن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية أو تكون من فعل الله تعالى
واما اخر الحديث فهو دليل على أن الله تعالى يعلم ما يصيرون اليه بعد ولادتهم على الفطرة هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين أو يغيرونها فيصيرون كفارا
وان احتجت القدرية بقوله فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه من جهة كونه اضاف التغيير إلى الابوبن فيقال لهم انتم
(8/378)
تقولون إنه لا يقدر لا الله ولا أحد من مخلوقاته على أن يجعلها يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين بل هما فعلا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما ولا فعل من غيرهما فحينئذ لا حجة لكم في قوله ? < فأبواه يهودنه > ?
وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك دعوة الأبوين لهما إلى ذلك لهما إلى ذلك وترغيبهما فيه وترتيبهما عليه ونحو ذلك مما يفعل المعلم والمربي مع من يعلمه ويربيه وذكر الأبوين بناء على الغالب إذ لكل طفل ابوان وإلا فقد يقع ذلك من أحد الأبوين وقد يقع من غير الأبوين حقيقة وحكما
وأما غير القدرية فقال أبو عمر بن عبد البر اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافا كثيرا وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة فذكر ما ذكره أبو عبيد القاسم سلام في غربيه المشهور قال قال ابن المبارك يفسره آخر الحديث قوله صلى الله عليه الله اعلم بما كانوا عاملين
قال ابن عبد البر هكذا ذكر عن ابن المبارك لم يزد شيئا
(8/379)
وذكر عن محمد بن الحسن انه سأله عن تاويل هذا الحديث فقال كان هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد هذا ما ذكره أبو عبيد
قال ابن عبد البر إما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روى عن مالك نحوه وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في امر الاطفال ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو ايمان أو جنة أو نار مالم يبلغوا العمل
قال واما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه إما لاشكاله عليه أو لجهله به أو لما شاءالله واما قوله أن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد فلا ادرى ما هذا فإن كان اراد أن ذلك
(8/380)
منسوخ فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في إخبار الله تعالى واخبار رسوله لان المخبر بشيء كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه أو غلطه فيما اخبر به أو نسيانه وقد جل الله وعصم رسوله في الشريعة والرسالة منه وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد له ادنى فهم فقف عليه فأنه أمر جسيم من اصول الدين
وقول محمد بن الحسن أن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال لان في حديث الاسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد
وروى باسناده عن الحسن عن الاسود بن سريع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما بال اقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان فقال رجل أو ليس إنما هم اولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليس خياركم اولاد المشركين انه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه لسانه ويهوده ابواه أو ينصرانه
(8/381)
قال وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة منهم بكر المزنى والعلاء بن زياد والسرى بن يحي وقد روى عن الاحنف عن الاسود ابن سريع قال وهو حديث بصرى صحيح قال وروى عوف الاعرابي عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسبم قال
كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين
قلت إما ما ذكره عن ابن المبارك ومالك فيمكن أن يقال أن المقصود أن اخر الحديث يبين أن الاولاد قد سبق في علم الله ما يعلمون إذا بلغوا وان منهم من يؤمن فيدخل الجنة ومنهم من يكفر فيدخل النار فلا يحتج بقوله
كل مولود يولد على الفطرة على نفي القدر كما احتجت به القدرية ولا على أن اطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة فيكون مقصود الأئمة أن يستقر الاطفال على ما في اخر الحديث
واما قول محمد فانه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع ابويه في الدين في احكام الدنيا فيحكم له بحكم الكفر في
(8/382)
انه لا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه المسلمون ويجوز استرقاقهم ونحو ذلك فلم يجز أحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الاطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم وهذا حق لكن ظن أن الحديث اقتضى أن يحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين فقال هذا منسوخ كان قبل الجهاد لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال والمؤمن لا يسترق ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال مشروعا ومازال الأطفال تبعا لأبويهم في الأمور الدنيوية
والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام وإنما قصد ما ولد عليه من الفطرة وإذا قيل إنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفا ونحو ذلك فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده
فإن الله تعالى يقول { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } سورة النحل 78 ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام لمعرفته ومحبته
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض
(8/383)
وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه
وهذا من قوله تعالى { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } سورة طه 50 وقوله { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } سورة الأعلى 2 3 فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى طلب ما ينفعه ودفع ما يضره ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة
قال ابن عبد البر وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث وما كان مثله فقالت فرقة الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال كل مولود يولد على خلقه يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك
(8/384)
قالوا لأن الفاطر هو الخالق
قال وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار
قلت صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها فهذا ضعيف فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا ولا أن يكون على الملة ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته حتى يسأل عمن مات صغيرا ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير
وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا إنهم أولاد المشركين قال أليس خياركم أولاد المشركين ما من مولود إلا يولد على الفطرة
ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل
وإن أراد بالفطرة على المعرفة مع إرادتها فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان
(8/385)
قال وقال آخرون معنى قوله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة يعني البدأة التي ابتدأهم عليها يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم
قالوا والفطرة في كلام العرب البداءة والفاطر المبدئ والمبتدئ فكأنه قال صلى الله عليه وسلم يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطره عليه واحتجوا بقوله تعالى { كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } سورة الأعراف 29 30
وروى بإسناده إلى ابن عباس قال لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا
(8/386)
فطرتها أى ابتدأتها وذكروا ما يروي عن علي رضي الله عنه في دعائه اللهم جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها
قلت حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة فجميع البهائم هي مولودة على ما سبق في علم الله لها والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله لها وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقا على الفطرة
وأيضا فإنه لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله
فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه معنى فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها على هذا القول فلا فرق بين التهويد والتنصير حينئذ وبين تلقين الإسلام وتعليمه وبين تعليم سائر الصنائع فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم
وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه
وأيضا فقوله على هذه الملة وقوله إني خلقت
(8/387)
عبادي حنفاء يخالف هذا
وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص
وقد ثبت في الصحيح أنه قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فلو قيل كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة لكان أشبه بهذا المعنى مع أن النفخ هو بعد الكتابة
قال ابن عبد البر قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن ابن المبارك أنه سئل عن هذا الحديث فقال يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين الله أعلم بما كانوا عاملين
(8/388)
قال المروزي وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه
قال ابن عبد البر ما رسمه مالك في موطأه وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا
قلت أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر كما في الحديث الآخر
إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا والطبع الكتاب أي كتب كافرا كما قال فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد وليس إذا كان الله قد كتبه كافرا يقتضي أنه حين الولادة كافر بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر وذلك الكفر هو التغيير كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء وقد سبق في علمه أنها تجدع كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة لا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة
وكلام أحمد في أجوبة أخرى له يدل على أن الفطرة عنده
(8/389)
الإسلام كما ذكر محمد بن نصر عنه آخر أنه آخر قوليه فإنه كان يقول إن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين وإن كانوا معهما فهم على دينهما وإن سبوا مع أحدهما فعنه روايتان وكان يحتج بالحديث
قال أبو بكر الخلال في الجامع في كتاب أحكام أهل الملل أنبأ أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله قال في سبي أهل الحرب إنهم مسلمون إذا كانوا صغارا وإن كانوا مع أحد الأبوين وكان يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأبواه يهودانه وينصرانه
قال وأما أهل الثغر فيقولون إذا كان مع أبويه إنهم يجبرونه على الإسلام
قال ونحن لا نذهب إلى هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
فأبواه يهودانه
(8/390)
قال الخلال أنبأ عبد الملك الميموني قال سألت أبا عبد الله قبل الحبس أي قبل أن يحبس أحمد في محنة الجهمية عن الصغير يخرج من أرض الروم وليس معه أبواه قال إذا مات صلى عليه المسلمون قلت يكره على الإسلام
قال إذا كانوا صغارا يصلون عليه أكره من يليه إلا هم وحكمه حكمهم
قلت فإن كان معه أبواه قال إذا كان معه أبواه أو أحدهما لم يكره ودينه على دين أبويه
قلت إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه قال نعم
قال وعمر بن عبد العزيز نادى به قال فرده إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم
قلت في الحديث كان معه أبواه قال لا وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه
(8/391)
قال الخلال ما رواه الميموني قول أول لأبي عبد الله ولذلك نقل إسحاق بن منصور أن أبا عبد الله قال إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم قلت لا يجبرون على الإسلام إذا كان معه أبواه أو أحدهما قال نعم
قال الخلال وقد روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خلق كلهم قال إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس وبعضهم قبل وبعد والذي أذهب إليه ما رواه الجماعة
وقال الخلال ثنا أبو بكر المروزي قال قلت لأبي عبد الله إني كنت بواسط فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته ويدعا طفلين ولهما عم ما تقول فيهما فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها وقالوا
(8/392)
إنهم قد كتبوا إليك فقال أكره أن أقول فيها برأي دع حتى أنظر لعل فيها عمن تقدم فلما كان بعد شهر عاودته فقال قد نظرت فيها فإذا قول النبي صلى الله عليه وسلم
فأبواه يهودانه وينصرانه وهذا ليس له أبوان قلت يجبر على الإسلام قال نعم هؤلاء مسلمون لقول النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك نقل يعقوب بن بختان قال أبو عبد الله الذمي إذا مات أبواه وهو صغير جبر على الإسلام وذكر الحديث
فأبواه يهودانه وينصرانه
ونقل عن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين يولد لهما ولد فيقولان هذا مسلم فيمكث خمس سنين ثم يتوفى قال ذاك يدفنه المسلمون قال النبي صلى الله عليه وسلم
فأبواه يهودانه وينصرانه
وقال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من
(8/393)
قوم على أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم وما كان من أنثى فهي مشركة يهودية أو نصرانية أو مجوسية فقال يجبر هؤلاء من أبى منهم على الإسلام لأن آباءهم مسلمون حديث النبي صلى الله عليه وسلم
فأبواه يهودانه وينصرانه يردون كلهم إلى الإسلام
ومثل هذا كثير في أجوبته يحتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافرا بأبويه فإذا لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم فلو لم تكن الفطرة الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلما فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين وهي الفطرة الأولى
قال الخلال أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه معناه أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغار فقال لي نعم ولكن يدخل عليك في هذا فتناظرنا بما يدخل علي من هذا القول وبما يكون بقوله قلت لأبي عبد الله فما تقول أنت فيها وإلى أي شيء تذهب قال إيش أقول
(8/394)
أنا ما أدري أخبرك هي مسلمة كما ترى ثم قال لي والذي يقول كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضا إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها قلت له فما الفطرة الأولى هي الدين قال لي نعم
فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي صلى الله عليه وسلم
كل مولود يولد على الفطرة قلت لأبي عبد الله فما تقول لأعرف قولك قال أقول إنه على الفطرة الأولى
فجوابه أنه على الفطرة الأولى وقوله إنها الدين يوافق بأنه على دين الإسلام
وأما جواب أحمد أنه على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان يقول به ثم تركه فقال الخلال أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله كل مولود يولد على الفطرة ما تفسيرها قال هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد
(8/395)
وكذلك نقل عنه الفضل بن زياد وحنبل وأبو الحارث أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة
وكذلك نقل عن علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد الله عن كل مولود يولد على الفطرة قال على الشقاء والسعادة فإليه يرجع على ما خلق
وعن الحسن بن ثواب قال سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين قلت إن ابن أبي شيبة أبا بكر قال هو على الفطرة حتى يهوده أبواه أو ينصراه فلم يعجبه شيء من هذا القول وقال كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة يولد على الفطرة التي خلقوا عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أم الكتاب ارفع ذلك إلى الأصل هذا معناه كل مولود يولد على الفطرة
(8/396)
قلت وأما ثبوت حكم الكفر في الآخرة للأطفال فكان أحمد يقف فيه تارة يقف عن الجواب وتارة يردهم إلى العلم كقوله الله أعلم بما كانوا عاملين وهذا أحسن جوابيه كما نقل محمد بن الحكم عنه وسأله عن أولاد المشركين فقال أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم
الله أعلم بما كانوا عاملين
ونقل عنه أبو طالب أن أبا عبد الله سئل عن أطفال المشركين
فقال كان ابن عباس يقول فأبواه يهودانه وينصرانه حتى سمع الله أعلم بما كانوا عاملين فترك قوله
قال أحمد وهي صحاح ومخرجها كلها صحاح وكان الزهري يقول من الحديث ما يحدث بها على وجوهها
وأما توقف أحمد في الجواب فنقل عنه علي بن سعيد أنه سأله عن قوله فأبواه يهودانه وينصرانه قال الشأن في هذا وقد اختلف الناس ولم نقف منها على شيء أعرفه
وقال الخلال رأيت في كتاب لهارون المستملي قال أبو عبد الله إذا سأل الرجل عن أولاد المشركين مع آبائهم فإنه أصل كل
(8/397)
خصومة ولا يسأل عنه إلا رجل الله أعلم به قال ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت ونسكت لا نقول شيئا
وقال المروزي قال أبو عبد الله سأل بشر بن السري سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال يا صبي أنت تسأل عن هذا
وكذلك نقل خطاب بن بشر وحنبل أن أبا عبد الرحمن بن الشافعي سأل أحمد عن هذا فنهاه ولم ينقل أحد قط عن أحمد أنه قال هم في النار ولكن طائفة من أتباعه كالقاضي أبي يعلى وغيره لما سمعوا جوابه بأنه قال الله أعلم بما كانوا عاملين ظنوا أن هذا من تمام حديث مروي عن خديجة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أولادها من غيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم
هم في النار فقالت بلا عمل فقال الله أعلم بما كانوا عاملين فظن هؤلاء أن أحمد أجاب بحديث خديجة وهذا غلط على أحمد فإن حديث خديجة هذا حديث موضوع كذب لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد فضلا عن الإمام أحمد
(8/398)
وأحمد إنما اعتمد على الحديث الصحيح حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة وهو في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها }
وكذلك في الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أطفال المشركين فقال
الله أعلم بما كانوا عاملين
وقد ذكر أحمد أن ابن عباس رجع إلى هذا بعد أن كان يقول هم مع آبائهم فدل على أن هذا جواب من لا يقطع بأنهم مع آبائهم
وأبو هريرة نفسه الذي روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه ما رواه غير واحد منهم عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره وغيره من حديث عبد الرازق أنبا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال
إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فيقولون كيف ولم يأتنا رسل قال وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل
(8/399)
إليهم رسولا فيطيعه من كان يريد أن يطيعه ثم قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } سورة الإسراء 15
وروى هذا الأثر عن أبي هريرة أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره من رواية محمد بن عبد الأعلى عن محمد بن ثور عن معمر ومن رواية القاسم عن الحسين عن أبي سفيان عن معمر وقال فيه
والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا فبين أبو هريرة أن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا وأنه في الآخرة يمتحن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأسود بن سريع أيضا قال أحمد في المسند حدثنا علي بن عبد الله ثنا معاذ بن هشام ثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال
أربعة يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما
(8/400)
أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار قال فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما
وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره
فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها
وقد جاءت بذلك عدة آثار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين بأنه في الآخرة يمتحن أطفال المشركين وغيرهم ممن لم تبلغه الرسالة في الدنيا وهذا تفسير قوله الله أعلم بما كانوا عاملين
وهذا هو الذي ذكره الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث وذكر أنه يذهب إليه
وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه فإن من قطع لهم بالنار كلهم جاءت نصوص تدفع قوله ومن قطع لهم بالجنة كلهم جاءت نصوص تدفع قوله ثم إذا قيل هم مع آبائهم لزم تعذيب من لم يذنب وانفتح باب الخوض في الأمر والنهي
(8/401)
والوعد والوعيد والقدر والشرع والمحبة والحكمة والرحمة فلهذا كان أحمد يقول هو أصل كل خصومة
فأما جواب النبي صلى الله عليه وسلم الذي اجاب به احمد اخرا وهو قوله
الله اعلم بما كانوا عاملين فانه فصل الخطاب في هذا الباب وهذا العلم يظهر حكمه في الاخرة والله تعالى اعلم
واحمد رحمه الله كان متبعا في هذا الباب وغيره لمن قبله من ائمة السنة كما روينا عن طريق اسحاق بن راهوية فيما ذكره ابن عبد البر وغيره
ثنا يحيى بن آدم ثنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردى سمعت ابن عباس يقول لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا أو كلمة تشبه هاتين حتى يتكلموا أو ينظروا في الاطفال والقدر
قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال افيسكت الانسان على الجهل قلت فتامر بالكلام فسكت
وذكر محمد بن نصر المروزي ثنا شيبان بن شيبة ثنا جرير
(8/402)
ابن حازم باسناده وقال لا يزال أمر هذه الأمة مقاربا أو مواتيا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر
وذكر المروزى أيضا ثنا عمرو بن زرارة أنبا اسماعيل بن عليه عن ابن عون قال كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمر في اولاد المشركين قال وتكلم ربيعة الرأي في ذلك فقال القاسم إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده قال فكأنما كانت نارا فطفئت
قلت ابن عباس رضي الله عنه خطب بهذه الخطبة بالبصرة وكان عنده وعند غيره من الصحابة من العلم بما يحدث في هذه الأمة والتحذير من اسباب الفتن ما قد نقل الينا كما في الحديث الذي ذكره احمد في رسالته للمتوكل في قصة ابن عباس مع عمر بن الخطاب لما كثر القراء وخوفهما من اختلاف الأمة وافتراقها والمسائل المشكلة إذا خاض فيها اكثر الناس لم يفهموا حقيقتها واذا تنازعوا فيها صار بينهم أصواء وظنون وافضى ذلك إلى الفرقة والفتنة
(8/403)
ومن ذلك الحديث الذي رواه احمد وغيره عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على اصحابه وهم يتنازعون في القدر وقائل يقول
الم يقل الله كذا واخر يقول الم يقل الله كذا فقال
ابهذا امرتم ام إلى هذا دعيتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا ما امرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاتركوه
فهذا الحديث ونحوه ما ينهي فيه عن معارضة حق بحق فان ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين أو الاشتباه والحيرة والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق فعلى الانسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره كما يصدق بالحق الذي يقوله هو ليس له أن يؤمن بمعنى اية استدل بها ويرد معنى اية استدل بها مناظره ولا أن يقبل الحق من طائفة ويرده من طائفة أخرى
ولهذا قال تعالى { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } سورة الزمر 32 33 فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق فلو صدق الانسان فيما يقوله ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره لم يكن ممدوحا حتى يكون ممن يجئ بالصدق ويصدق به فاؤلئك هم المتقون
(8/404)
ومسالة القدر يحتاج فيها إلى الإيمان بقدر الله والى الإيمان بشرع الله فطائفة غلب عليهم التصديق بالأمر والنهي والوعد والوعيد فظنوا أن هذا لا يتم إلا بالتكذيب بالقدر فاخطاوا في التكذيب به وطائفة ظنت أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بان يقول أن الرب تعالى يخلق ويامر لا لحكمه ولا لرحمة ولا يسوي بين المتماثلين بل بإرادة ترجح أحد المتماثلين لا لمرجح واشتركت الطائفتان في أن القادر المختار يرجح أحد مقدورية على الآخر بلا مرجح
وهذا اصل مذهب القدرية النفاة ولهذا قالوا أن العبد لا يحتاج في ترجيح أحد مقدوريه على الآخر إلى مرجح يفتقر فيه إلى الله تعالى وان الله لا يمتن على المطيع بنعمة انعم بها عليه دون العاصى صار بها مطيعا وتوهموا أن هذا من الظلم الذي يجب نفية وظن أولئك انه لا يمكن ابطال قولهم إلا بان يقال الظلم ممتنع لذاته وانه مهما قدر من الممكنات فهو عدل حتى تعذيب الأنبياء والصالحين وتنعيم الكفار والفاسقين إلى امثال هذه الأمور التي خاض فيها الناس في القدر وكانت من اعظم اسباب الجهل والظلم
وكان اعظم ظهور ذلك من اهل البصرة الذين خطبهم ابن عباس وكذلك أمر اطفال المشركين طائفة يقولون يعذبهم كلهم أو يمكن تعذيبهم كلهم بناء على المشيئة المرجحة بلا سبب ولا حكمة ولا رحمة
(8/405)
وطائفة تقول بل يدخلون الجنة مع من امن وعمل صالحا بناء على رحمة بلا حكمة وتسوية بين وأولاد المؤمنين الكفار وبين من امن وعمل صالحا ومن لم يؤمن ويعمل صالحا من غير اعتبار التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين فيقع الاختلاف والاشتباه والتفرق
وهذه المسائل وغيرها قد قال بين الله ورسوله امرها فان الله اكمل الدين واتم النعمة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها بعدى إلا هالك
وفي الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما
وقد انزل الله كتابه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمه للمؤمنين
وقال تعالى { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } سورة طه 123 قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القران وعمل بما فيه أن لا يضل في الدينا ولا يشقي في الاخرة
وقد قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } سورة البقرة 213 فحكم الله بكتابه بين الناس فيما اختلفوا فيه
(8/406)
وقال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } سورة النساء 59
فهذه النصوص وامثالها مما يبين أن ما بعث الله به رسله يبين للناس ما يحتاجون اليه من أمر دينهم في هذه المسائل وغيرها لكن ليس كل واحد قد بلغته النصوص كلها ولا كل أحد يفهم ما دلت عليه النصوص فان الله يختص من يشاء من عباده من العلم والفهم بما يشاء فمن اشتبه عليه الأمور فتوقف لئلا يتكلم بلا علم أو لئلا يتكلم بكلام يضر ولا ينفع فقد احسن ومن علم الحق فبينه لمن يحتاج اليه وينتفع به فهو احسن واحسن
ولهذا لما روي يحيى بن آدم لابن المبارك هذا الاثر عن ابن عباس وهو قوله انه لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا شك الراوي حتى يتكلموا في الولدان والقدر وكأن قائل هذا يطلب من الناس السكوت مطلقا قال له ابن المبارك أفيسكت الإنسان على الجهل وقد صدق ابن المبارك فقال له يحيى بن آدم أفتأمر بالكلام فسكت ابن المبارك لان امره بالكلام مطلقا يتضمن يتضمن الإذن
(8/407)
بالكلام الذي وقع من الناس وفيه من الجهل والكذب ما ينهي عنه
وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بينه الله ورسوله مأمور به وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه واما الكلام بلا علم فيذم ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم وقد تكلم بما يظنه علما إما برأى رآه واما بنقل بلغه ويكون كلاما بلا علم وهذا قد يعذر صاحبه تارة وان لم يتبع وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ورد الحق الذي معه بغيا
كما ذم الله ذلك بقوله { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } سورة آل عمران 19 فالبغي مذموم مطلقا سواء كان في أن يلزم الانسان الناس بما لا يلزمهم ويذمهم على تركه أو بأن يذمهم على ما هم معذورون فيه والله يغفر لهم خطأهم فيه فمن ذم الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى ويعاقبهم عليه فقد بغي عليهم لا سيما إذا كان ذلك أجل هواه
وقد قال تعالى { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } سورة ص 26 والله تعالى قد قال { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } سورة الاحزاب 72 73
(8/408)
فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه وألا فالانسان ظلوم جهول واذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار اوجبت بين الناس العداوة والبغضاء فعلى الانسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك اولى منه في الأمور الصغار
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب فكيف بمن يقضي في الاصول المتضمنة للكلام في رب العالمين وخلقه وأمره ووعده ووعيده
ولهذا لما اشترك هؤلاء القدرية القائلون بأن القادر المختار يرجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح في هذا الأصل وناظروا به الملاحدة القائلين بقدم العالم من الدهرية الفلاسفة وغيرهم ورأى أولئك أن هذا ليس بعلم ولا عدل طمعوا في هؤلاء القدرية
فإن الانسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه واذا خرج عنه طمع
(8/409)
فيه خصمه فصار بين الفلاسفة الدهرية والمتكلمين القدرية في هذا الباب من النزاع ما استطار شرره وان كانت القدرية اقرب إلى العلم والعدل ومن الناس من يحار ومنهم من يوافق هؤلاء تارة وهؤلاء تارة تناقضا منه في حالين أو جمعا بين النقيضين في حال واحدة
ولو اتبعوا ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق لحصل لهم من العلم والعدل ما يرفع النزاع ويدخلهم في اتباع النص والإجماع والكلام على هذه المسألة له موضع آخر
والمقصود هنا تفسير قوله
كل مولود يولد على الفطرة وان من قال بإثبات القدر وان الله كتب الشقي والسعيد لم يمنع ذلك أن يكون ولد على الإسلام ثم تغير بعد ذلك كما تولد البهيمة جمعاء ثم تغير بعد ذلك فإن الله تعالى يعلم الاشياء على ما هي عليه فيعلم انه يولد سليما ثم يتغير
والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على هذا القول الذي رجحناه وهو أنهم ولدوا على الفطرة ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة لا تدل على انه حين الولادة لم يكن على فطرة سليمة مقتضية للايمان مستلزمة له لولا المعارض
(8/410)
فروى ابن عبد البر في ضمن هذا المنقول بإسناده عن موسى بن عبيدة سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله { كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } سورة الاعراف 29 30 قال من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة وان عمل بعمل اهل الهدى ومن ابتدأ خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وان عمل بعمل اهل الضلالة ابتدأ خلق ابليس على الضلالة وعمل بعمل السعادة مع الملائكة ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة قال وكان من الكافرين وابتدأ خلق السحرة عل الهدى وعملوا بعمل الضلالة ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة وتوفاهم عليها مسلمين
وبهذا الاسناد عن محمد بن كعب في قوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } سورة الاعراف 172 يقول فاقروا له بالايمان والمعرفة الارواح قبل أن تخلق اجسادها
فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي ابتدأهم عليه وهو
(8/411)
ما كتبه انهم صائرون اليه قد يعملون قبل ذلك غيره وان من ابتدأه على الضلالة أي كتبه انه يموت ضالا فقد يكون قبل ذلك عاملا بعمل اهل الهدى وحينئذ من ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى لا يمتنع أن يعرض لها ما يغيرها فيصير إلى ما سبق به القدر لها
كما في الحديث الصحيح أن احدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخل النار وان احدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخل الجنة
ولهذا قال محمد بن كعب أن جميع الذرية اقروا له بالايمان والمعرفة فأثبت هذا وهذا إذ لا منافاة بينهما
ثم روى ابن عبد البر بإسناده عن سعيد بن جبير في قوله { كما بدأكم تعودون } سورة الاعراف 29 قال كما كتب عليكم تكونون
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد { كما بدأكم تعودون } قال شقيا وسعيدا وقال غيره عن مجاهد { كما بدأكم تعودون } قال يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا
(8/412)
وقال الربيع بن انس عن أبي العالية { كما بدأكم تعودون } قال عادوا إلى علمه فيهم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة
قلت ما في هذه الأقوال من إثبات علم الله وقدره السابق وان الخلق يصيرون إلى ذلك حق لا محالة كما دل عليه الكتاب والسنة واجماع سلف الأمة واما كون ذلك تفسير الاية فهذا مقام اخر ليس هذا موضعه
ولفظ بدأ الله الخلق يراد به ابتداء تكوينهم وهو ظاهر القرآن وقد يراد به ابتداء اسباب خلقهم وعلامات ذلك كما في قول السائل للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان أول امرك قال
دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا امي رأت أنني حين ولدتني كأنه خرج منها نور اضاءت له قصور الشام
قال وقال آخرون معنى قوله
كل مولود يولد على الفطرة أن الله فطرهم على الانكار والمعرفة وعلى الكفر والايمان فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال ألست بربكم قالوا جميعا
(8/413)
بلى فأما اهل السعادة فقالوا بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم وأما أهل الشقاء فقالوا بلى كرها غير طوع
قالوا ويصدق ذلك قوله { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } سورة آل عمران 83 قالوا وكذلك قوله { كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } سورة الاعراف 29 30 قال محمد بن نصر المروزي وسمعت اسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه يذهب إلى هذا المعنى واحتج بقول أبي هريرة اقرؤا أن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } سورة الروم 30 قال اسحاق يقول لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والايمان والمعرفة والانكار واحتج اسحاق بقول الله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الاية سورة الاعراف 172 قال اسحاق اجمع اهل العلم انها الارواح قبل الاجساد استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم قالوا بلى فقال انظروا إلا تقولوا انا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما اشرك به اباؤنا من قبل
وذكر حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر
(8/414)
قال وكان الظاهر ما قال موسى اقتلت نفسا زاكية بغير نفس فعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها وانه لا تبديل لخلق الله فأمر بقتله لأنه كان قد طبع يوم طبع كافرا
وروى اسحاق حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا وهذا الحديث رواه مسلم
وروى البخاري وغيره عن ابن عباس انه كان يقرأها واما الغلام فكان كافرا وكان ابواه مؤمنين قال اسحاق فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولم يبين لهم حكم الاطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين اخرج من ظهر آدم فبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم
(8/415)
الطفل في الدنيا فقال
ابواه يهودانه ينصرانه ويمجسانه يقول انتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه فاعرفوا ذلك بالابوين فمن كان صغيرا بين أبوين كافرين ألحق بحكم الكفار ومن كان صغيرا بين أبوين مسلمين الحق بحكم الإسلام واما ايمان ذلك وكفره ومما يصير اليه فعلم ذلك إلى الله ويعلم ذلك فضل الخضر موسى إذا اطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم
قال ولقد سئل ابن عباس عن الولدان ولدان المسلمين والمشركين فقال ابن عباس حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر قال اسحاق إلا ترى إلى قول عائشة حين مات صبي من الانصار بين ابوين مسلمين
(8/416)
فقالت عائشة طوبى له عصفور من عصافير الجنة فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال
مه يا عائشة وما يدريك أن الله خلق الجنة وخلق لها اهلها وخلق النار وخلق لها اهلها قال اسحاق فهذا الأصل الذي يعتمد عليه اهل العلم
وسئل حماد بن سلمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم
كل مولود يولد على الفطرة فقال هذا عندنا حيث اخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم
قال ابن عبد البر وقال ابن قتيبة يريد حين مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة امثال الذر واشهدهم على أنفسهم الست بربكم قالوا بلى
قلت مقصود حماد واسحاق ومالك وابن المبارك ومن اتبعهم كابن قتيبة وابن بطة والقاضي أبي يعلي وغيرهم هو منه احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر وهذا مقصود صحيح ولكن سلكوا في حصوله طرقا بعضها صحيح وبعضها ضعيف
(8/417)
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنه انه قال
احتج آدم وموسى فقال موسى ربنا أرنا أبانا آدم الذي أخرجنا من الجنة فقال له انت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال له آدم انت موسى الذي كلمك الله تكليما وخط لك التوارة بيده فبكم تجد علي مكتوبا قبل أن أخلق { وعصى آدم ربه فغوى } سورة طه 121 قال بأربعين خريفا قال فحج آدم موسى فهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة وهو مروى بإسناد جيد من حديث عمر
فلما توهم من توهم أن ظاهره أن المذنب يحتج بالقدر على من لامه على الذنب اضطربوا فيه فكذب به طائفة من القدرية كالجبائي وتأوله طائفة من أهل السنة تأويلات ضعيفة قصدا لتصحيح الحديث ومقصودهم صحيح لكن طريقهم في رد قول القدرية وتفسير الحديث ضعيفة كقول بعضهم إنما حجة لكونه أباه وقول الآخر لكونه كان قد تاب وقول الآخر لكون الذنب كان في شريعة والملام في أخرى وقول الآخر حجة لأن الاحتجاج به كان في الاخرة
(8/418)
دون الدنيا وقول الآخر الاحتجاج بالقدر ينفع الخاصة المشاهدين لجريان القدر عليهم دون العامة فإن الحديث صريح بأن آدم احتج بالقدر وحج به موسى
وايضا فموسى اعلم من أن يلوم تائبا وموسى وآدم اعلم من أن يظنا أن القدر حجة لأحد في ذنب فإن هذا لو كان حقا لكان حجة لإبليس وفرعون وكل كافر وفاسق
وكذلك قول من قال أن الاحتجاج بالقدر لا يجوز في الدنيا بل بعد الموت قول باطل أو احتجاج الخاصة به سائغ فإنه قول باطل فإن الأنبياء جميعهم تابوا من ذنوبهم ولم يحتج أحد منهم بالقدر ووقع العتب والملام بسبب الذنب كما حقق الله ذلك في القرآن ولكن موسى لام آدم لما حصل له وللذرية من الشقاء بالخروج من الجنة كما في الحديث لماذا اخرجتنا ونفسك من الجنة فلامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بسببه لا من جهة كونه عصى الأمر أو لم يعصه فإن هذا أمر قد تاب الله عليه منه واجتباه ربه وهداه فأخبره آدم بأن القدر قد سبق بذلك فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه
كما قال تعالى { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها }
(8/419)
سورة الحديد 22 وقال { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } سورة التغابن 11
قال طائفة من السلف هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم انها من عند الله فيرضى ويسلم فالعبد مأمور بالصبر عند المصائب نظرا إلى القدر وأما عند الذنوب فمأمور بالاستغفار
فحج آدم موسى لأن ما أصابهم من المصيبة كانت مقدرة هي وسببها فلا بد أن يصيبهم ذلك فلا فائدة في ملام لا يدفع المصيبة المقدرة بعد وقوعها وانما الفائدة في الرجوع إلى الله
ومثل هذا قول أنس في الحديث الصحيح خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لما فعلته ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول دعوه فلو قضى شيء لكان
ومن هذا قوله في الحديث الصحيح
احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وان اصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت
(8/420)
لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان
والمقصود هنا انهم تشعبوا في حديث الفطرة كتشعبهم في حديث الحجة وأصل مقصودهم من الإيمان بالقدر صحيح لكن لا يجب مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل
وكثيرا ما يقع لمن هو من أهل الحق في أصل مقصوده وقد أخطأ في بعض الأمور هذا المجرى مثل أن يتكلموا في مسألة فإذا أرادوا أن يجيبوا عن حجج المنازعين ردوها ردا غير مستقيم
وما ذكروه من أن الله فطرهم على الكفر والايمان والمعرفة والنكرة أن ارادوا به أن الله سبق علمه وقدره بانهم سيؤمنون ويكفرون ويعرفون وينكرون وان ذلك كان بمشيئة الله وقدرته وخلقه فهذا حق يرده القدرية فغلاتهم ينكرون العلم وجمهورهم ينكرون عموم خلقه ومشيئته وقدرته وان ارادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين اخذ الميثاق كما في ظاهر المنقول عن اسحاق فهذا يتضمن شيئين أحدهما انهم حينئذ كانت المعرفة والايمان موجودا فيهم كما قال ذلك
(8/421)
طوائف من السلف وهو الذي حكى اسحاق الإجماع عليه والاية في تفسيرها نزاع ليس هذا موضعه وكذلك في وجود الارواح قبل الاجساد قولان معروفان
لكن المقصود هنا أن هذا أن كان حقا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والاقرار فهذا لا يخالف ما دلت عليه الاحاديث من انه يولد على الملة وان الله خلق خلقه حنفاء بل هو مؤيد لذلك
وأما قول القائل انهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى طائع وكاره فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما اعلم إلا عن السدى في تفسيره
قال السدي في قول الله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } سورة الاعراف 172 قالوا لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال ادخلوا النار ولا أبالي
(8/422)
فذلك قوله وأصحاب اليمين واصحاب الشمال ثم اخذ منهم الميثاق فقال { ألست بربكم قالوا بلى } سورة الاعراف 172 فأطاعه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة { شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } سورة الاعراف 172 173 فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله انه ربه وذلك قوله عز وجل { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } سورة آل عمران 83 وذلك قوله { فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } سورة الأنعام 149 يعني يوم اخذ الميثاق
فهذا الاثر أن كان حقا ففيه أن كل ولد آدم يعرف الله فإذا كانوا ولدوا على هذه الفطرة فقد ولدوا على المعرفة ولكن فيه أن بعضهم اقر كارها مع المعرفة بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره ولا يقر به إلا مكرها وهذا لا يقدح في كون المعرفة فطرية مع أن هذا لم يبلغنا إلا في هذا الاثر ومثل هذا لا يوثق به فإن هذا في مثل تفسير السدي وفيه اشياء قد عرف بطلان بعضها إذ كان السدي وان كان ثقة في نفسه فهذه الاشياء احسن احوالها أن تكون كالمراسيل أن كانت أخذت عن النبي صلى الله علهي وسلم فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرا وقد عرف أن فيها شيئا كثيرا مما يعلم انه باطل لا
(8/423)
سيما ولو لم يكن في هذا إلا معارضته لسائر الاثار التي تسوى بين جميع الناس في ذلك الإقرار
وقول الله تعالى { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } سورة آل عمران 83 إنما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم لم يقل انهم حين العهد الأول اسلموا طوعا وكرها يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله حجة عليهم عند من يثبته ولو كان فيهم كاره لقال لم أقل ذلك طوعا بل كرها فلا تقوم عليه به حجة
واما احتجاج اسحاق رحمه الله بقول أبي هريرة اقرأوا أن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } سورة الروم 30 قال اسحاق نقول لا تبديل للخلقة التي جبل عليها فهذه الاية فيها قولان
أحدهما أن معناها النهي كما تقدم عن ابن جرير انه فسرها بالنهي أي لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده وهذا قول غير واحد من المفسرين الذين لم يذكروا غيره كالثعلبي والزمخشري
والثاني ما قاله اسحاق وهو انها خبر على ظاهرها وان خلق الله
(8/424)
لا يبدله أحد وظاهر اللفظ انه خبر فلا يجعل نهيا بغير حجة وهذا أصح
وحينئذ فيقال المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تبدل فلا يخلقون على غير الفطرة لا يقع هذا قط والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق بل نفس الحديث يبين انها تتغير ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع ولا تولد بهيمة قط مخصية ولا مجدوعة
وقد قال تعالى عن الشيطان { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } سورة النساء 119 فالله اقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيته
واما تبديل الخلق بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة فهذا لا يقدر عليه إلا الله والله لا يفعله كماقال { لا تبديل لخلق الله } سورة الروم 30 ولم يقل لا تغيير فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله فلا يكون خلق بدل هذا الخلق ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة قد حصل بدله
واما قول القائل لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم من كفر وايمان فإن عنى بها أن ما سبق به القدر من الكفر والايمان لا يقع خلافه فهذا حق ولكن ذلك لا يقتضى أن تبديل الكفر بالايمان وبالعكس ممتنع ولا انه غير مقدور بل العبد قادر على ما أمره الله به
(8/425)
من الإيمان وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر وعلى أن يبدل حسناته بالسيئات بالتوبة كما قال تعالى { إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم } سورة النمل 10 11
و { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } سورة الفرقان 70
وهذا التبديل كله هو بقضاء الله وقدره وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة فإن ذاك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره وهو سبحانه لا يبدله قط بخلاف تبديل الكفر بالأيمان وبالعكس فإنه يبدله دائما والعبد قادر على تبديله بإقدار الله له على ذلك
ومما يبين ذلك انه قال تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } سورة الروم 30 فهذه فطرة محمودة أمر الله بها نبيه فكيف يكون فيها كفر وايمان مع أمر الله تعالى بها وهل يأمر الله تعالى قط بالكفر
وقد تقدم تفسير السلف لا تبديل لخلق الله تعالى بأنه دين الله أو تبديل خلق الحيوان بالخصاء ونحوه ولم يقل أحد منهم أن المراد لا تبديل لاحوال العباد من ايمان إلى كفر ولا من كفر إلى ايمان إذ تبديل ذلك موجود ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر والله تعالى عالم بما
(8/426)
سيكون لا يقع خلاف معلومه لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي علمه وان لم يقع كان عالما بأنه لا يقع
وأما قوله الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا فالمراد به كتب وختم وهذا من طبع الكتاب وألا فاستنطاقهم بقوله { ألست بربكم قالوا بلى } سورة الاعراف 172 ليس هو طبعا لهم فإنه ليس بتقدير ولا خلق
ولفظ الطبع لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجبلة والخليقة ظن الظان أن هذا مراد الحديث
وهذا الغلام الذي قتله الخضر قد يقال فيه انه ليس في القرآن ما يبين انه كان غير مكلف بل ولا ما يبين انه كان غير بالغ ولكن قال في الحديث الصحيح
الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو ادرك لأرهق ابويه طغيانا وكفرا وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد فإن كان بالغا وقد كفر فقد صار كافرا بلا نزاع وان كان مكلفا قبل الاحتلام في تلك الشريعة أو على قول من يقول أن المميزين مكلفون بالايمان قبل الاحتلام كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة واحمد وغيرهم امكن أن يكون
(8/427)
مكلفا بالايمان قبل البلوغ ولو لم يكن مكلفا فكفر الصبي المميز صحيح عند أكثر العلماء فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتدا وان كان ابواه مؤمنين ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء اعظم مما يؤدب على ترك الصلاة لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ
فالغلام الذي قتله الخضر إما أن يكون كافرا بالغا كفر بعد البلوغ فيجوز قتله واما أن يكون كافرا قبل البلوغ وجاز قتله في تلك الشريعة وقتل لئلا يفتن ابويه عن دينهما كما يقتل الصبي الكافر في ديننا إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل
بل الصبي الذي يقاتل المسلمين يقتل فقتل الصبي الكافر المميز يجوز لدفع صياله الذي لا يندفع إلا بالقتل واما قتل صبي لم يكفر بعد بين ابوين مؤمنين للعلم بأنه إذا بلغ كفر وفتن فقد يقال انه ليس في القرآن ما يدل عليه ولا في السنة
وقد يقال بل في السنة ما يدل عليه ومنه قول ابن عباس لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان
أن علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتله وألا فلا رواه مسلم
(8/428)
والمعلوم من الكتاب والسنة لا يعارض إلا بما يصلح أن يعارض به ومن قال بالأول يقول أن الله تعالى لم يأمر أن يعاقب أحد بما يعلم انه يكون منه قبل أن يكون منه ولا هو سبحانه يعاقب العباد بما يعلم انهم سيعملونه حتى يفعلوه
ويقول قائل هذا القائل انه ليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس وانما فيها علمه باسباب لم يكن علم بها موسى مثل علمه بأن السفينة لمساكين ووراءهم ملك ظالم وهذا أمر يعلمه غيره وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين وان اباهما كان رجلا صالحا هذا مما قد يعلمه كثير من الناس فكذلك كفر الصبي مما يمكن انه كان يعلمه كثير من الناس حتى ابواه لكن لحبهما له لا ينكران عليه أو لا يقبل منهما الانكار عليه
فإن كان الأمر على ذلك فليس في الاية حجة اصلا وان كان ذلك الغلام لم يكفر بعد اصلا ولكن سبق في العلم انه إذا بلغ كفر فهذا ايضا يبين انه قتل قبل أن يصير كافرا ومن قال هذا يقول انه قتل دفعا لشره
كما قال نوح { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } سورة نوح 26 27
(8/429)
فقد دعا نوح عليه السلام بهلاكهم لدفع شرهم في المستقبل وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافرا
وقول ابن عباس واما الغلام فكان كافرا وكان ابواه مؤمنين ظاهره انه كان حينئذ كافرا وأما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم
فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه انه اراد به مجرد الالحاق في احكام الدنيا دون أن يكون اراد انهما يغيران الفطرة فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث فإنه شبه تكفير الاطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير
وأيضا فإنه ذكر هذا الحديث لما قتلوا اولاد المشركين ونهاهم عن قتلهم وقال
اليس خياركم اولاد المشركين كل مولود يولد على الفطرة فلو اراد انه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم يقولون هم كفار كآبائهم فنقتلهم
وكون الصغير يتبع اباه في احكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا فإنه لا بد له من مرب يربيه وانما يربيه ابواه فكان تابعا لهما ضرورة ولهذا متى سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي واحمد والاوزاعي وغيرهم لكونه هو الذي يربيه واذا سبى منفردا عن احدهما أو معهما ففيه نزاع للعلماء
(8/430)
واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيره بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن ابويه يصير مسلما لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الابوين مجرد لحاقه بهما في الدين ولكن وجه الحجة انه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الابوان اللذان يغيرانه عن الفطرة فمتى سباه المسلمون منفردا عنهما لم يكن هناك من يغير دينه وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما بالمقتضى السالم عن المعارض ولو كان الابوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين لكان الصبي المسبى بمنزلة البالغ الكافر
ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما لأنه صار كافرا حقيقة فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسباء فعلم انه كان يجرى عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لأبويه لا لأنه صار كافرا في نفس الأمر
يبين ذلك انه لو سباه كفار لم يكن معه ابواه ولم يصر مسلما فهو هنا كافر في حكم الدنيا وان لم يكن ابواه هوداه ونصراه ومجساه
فعلم أن المراد بالحديث أن الابوين يلقنانه الكفر ويعلمانه اياه وذكر صلى الله عليه وسلم الابوين لانهما الأصل العام الغالب في تربية الاطفال فإن كل طفل غير فلا بد له من ابوين وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لسبي الولد عنهما أو غير ذلك
(8/431)
ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر
كل مولود يولد على الفطر حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز فحينئذ يثبت له أحد الامرين ولو كان كافرا في الباطن بكفر الابوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يعرب عنه لسانه
وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه
اني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم انزل به سلطانا صريح في انهم خلقوا على الحنيفية وان الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وامرتهم بالشرك فلو كان الطفل يصير كافرا في نفس الأمر من حين يولد لكونه يتبع ابويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه اياه لم يكن الشياطين هم الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعا لآبائهم
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه احكام الكفر في الدنيا باحكام الكفر في الاخرة فإن اولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم احكام الكفر في امور الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانة ابائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم والموارثة بينهم وبني آبائهم واسترقاقهم إذا كان آباؤهم محاربين وغير ذلك صار يظن من يظن انهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به
(8/432)
ومن هنا قال من قال أن هذا الحديث وهو قوله
كل مولود يولد على الفطرة كان قبل أن تنزل الأحكام كما ذكره أبو عبيد عن محمد بن الحسن فأما إذا عرف أن كونهم ولدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونا تبعا لآبائهم في احكام الدنيا زالت الشبهة وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم ايمانه من لا يعلم المسلمون حاله إذا قاتلوا الكفار فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين وهو في الاخرة من المؤمنين اهل الجنة كما أن المنافقين تجرى عليهم في الدنيا احكام المسلمين وهم في الاخرة في الدرك الاسفل من النار فحكم الدار الاخرة غير حكم الدار الدنيا
وقوله
كل مولود يولد على الفطرة إنما اراد به الأخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها وعليها الثواب والعقاب في الاخرة إذا غمل بموجبها وسلمت عن المعارض لم يرد به الأخبار باحكام الدنيا فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن اولاد الكفار يكونون تبعا لآبائهم في احكام الدنيا وان اولادهم لا ينتزعون منهم إذا كان للآباء ذمة وان كانوا محاربين استرقت اولادهم ولم يكونوا كاولاد المسلمين
ولا نزاع بين المسلمين أو اولاد الكفار الاحياء مع آبائهم لكن تنازعوا في الطفل إذا مات ابواه أو أحدهما هل يحكم بإسلامه فعن
(8/433)
احمد رواية انه يحكم باسلامه لقوله
فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإذا مات ابواه بقي على الفطرة
والرواية الاخرى كقول الجمهور انه لا يحكم بإسلامه
وهذا القول هو الصواب بل هو إجماع قديم من السلف والخلف بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها
فقد علم أن اهل الذمة كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ووادي القرى وخيبر ونجران وارض اليمن وغير ذلك وكان فيهم من يموت وله ولد صغير ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام يتامى اهل الذمة وكذلك خلفاؤه كان اهل الذمة في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان وفيهم من يتامى اهل الذمة عدد كثير ولم يحكموا بإسلام احد منهم فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضا فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الابوان يتولون حضانة اولادهما
واحمد رضي الله عنه يقول أن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل مع قوله في احدى الراويتين انه يصير مسلما لأن أهل الذمة ما زال اولادهم يرثونهم ولأن الإسلام حصل مع استحقاق الارث لم يحصل قبله والقول الآخر هو الصواب كما تقدم
(8/434)
والمقصود هنا أن قوله
كل مولود يولد على الفطرة لم يرد به في احكام الدنيا بل في نفس الأمر وهو ما ترتب عليه الثواب والعقاب ولهذا لما قال هذا سألوه فقالوا يا رسول الله ارأيت من يموت من أطفال المشركين فقال
الله اعلم بما كانوا عاملين فإن من بلغ منهم فهو مسلم أو كافر بخلاف من مات
وقد تنازع الناس في اطفال المشركين على اقوال
فقال طائفة انهم كلهم في النار وقالت طائفة كلهم في الجنة وكل واحد من القولين اختاره طائفة من أصحاب احمد الأول اختاره القاضي أبو يعلي وغيره وحكوه عن احمد وهو غلط على احمد كما اشرنا اليه
والثاني اختاره أبو الفرج بن الجوزي وغيره ومن هؤلاء من يقول هم خدم اهل الجنة ومنهم من قال هم من اهل الاعراف
والقول الثالث الوقف فيهم وهذا هو الصواب الذي دلت عليه الاحاديث الصحيحة وهو منصوص احمد وغيره من الأئمة
وذكره ابن عبد البر عن حماد بن سلمة وحماد بن زيد وابن المبارك واسحاق بن راهويه قال وعلى ذلك اكثر أصحاب مالك وذكر ايضا في اطفال المسلمين نزاعا ليس هذا موضعه
(8/435)
لكن الوقف قد يفسر بثلاثة امور أحدها انه لا يعلم حكمهم فلا يتكلم فيهم بشيء وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة وقد يقال أن كلام احمد يدل عليه
والثاني انه يجوز أن يدخل جميعهم الجنة ويجوز أن يدخل جميعهم النار وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أهل الكلام وغيرهم من أصحاب أبي الحسن ألاشعري وغيرهم
والثالث التفصيل كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم
الله اعلم بما كانوا عاملين فمن علم الله منه انه إذا بلغ اطاع ادخله الجنة ومن علم منه أنه يعصى ادخله النار
ثم من هؤلاء من يقول انه يجزيهم بمجرد علمه فيهم كما يحكى عن أبي العلاء القشيري المالكي
والاكثرون يقولون لا يجزى على علمه بما سيكون حتى يكون فيمتحنهم يوم القيامة ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا فمن اطاع حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار
(8/436)
وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم
وقد روى به آثار متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم حسان يصدق بعضها بعضا وهو الذي حكاه ألاشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث وذكر انه يذهب اليه وعلى هذا القول تدل الاصول المعلومة بالكتاب والسنة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن الله لا يعذب احدا حتى يبعث اليه رسولا
والمقصود هنا الكلام على الأقوال المذكورة في تفسير هذا الحديث وقد تبين ضعف قول من قال الفطرة الكفر والايمان وان الإقرار كان من هؤلاء طوعا ومن هؤلاء كرها
ومما يضعف هذا القول قول طائفة أخرى بأن جميع أولئك كان اقرارهم جميعهم له بالربوبية من غير تفصيل بطوع وكره
قال ابن عبد البر وقال آخرون معنى الفطرة المذكورة في المولودين ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره فخاطبهم
ألست بربكم قالوا بلى فأقروا جميعا له بالربوبية عن معرفة منهم به ثم اخرجهم من اصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة وذلك الإقرار
(8/437)
قالوا وليست تلك المعرفة بايمان ولا ذلك الإقرار بإيمان ولكنه إقرار من الطبيعة للرب فطرة الزمها قلوبهم ثم أرسل اليهم الرسل يدعوهم إلى الاعتراب له بالربوبية والخضوع تصديقاص بما جاءت به الرسل فمنهم من أنكر وجحد بعد المعرفة وهو به عارف لأنه لم يكن الله يدعو خلقه إلى الإيمان به وهو لم يعرفهم نفسه لأنه كان حينئذ يكون قد كلفهم الإيمان بما لا يعرفون
قالوا وتصديق ذلك قول الله عز وجل { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } سورة لقمان 25 وذكروا ما ذكره السدي عن اصحابه كما تقدم
وروى بإسناده في التفسير المعروف عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن انس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله عز وجل { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } إلى قوله { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } سورة الاعراف 172 173
(8/438)
قال فجعلهم جميعا أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم فقال الست بربكم قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا قالوا نشهد انك ربنا والهنا لا رب لنا غيرك ولا اله لنا غيرك
قال فإني أرسل اليكم رسلي وانزل عليكم كتبي فلا تكذبوا رسلي وصدقوا بوعدي واني سأنتقم ممن اشرك بي ولم يؤمن بي
قال فأخذ عهدهم وميثاقهم ورفع اباهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال يا رب لو سويت بين عبادك قال احببت أن اشكر
قال والانبياء يومئذ بينهم مثل السرج
قال وخصوا بميثاق اخر للرسالة أن يبلغوها
قال فهو قوله { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } سورة الاحزاب 7
قال وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها
قال وذلك قوله { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين }
(8/439)
سورة الاعراف 102
قال فكان في علم الله من يكذب به ومن يصدق قال وكان روح الله عيسى من تلك الارواح التي اخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم
فهذا القول يحقق القول الأول في أن كل مولود يولد على الفطرة التي هي المعرفة بالله والاقرار به وفيه زيادة أن ذلك كان قد حصل لهم قبل الولادة حين استخرجوا من صلب آدم وقد فسر فطرة الله في الحديث بذلك
وأما قول صاحب هذا القول أن هذا الإقرار ليس هو بإيمان يستحق عليه الثواب فهذا لا يضر فإنه قد بين فيه أن المعرفة بالله ضرورية وانه بذلك صح أن يأمرهم فإن المأمور أن لم يعرف الأمر امتنع أن يعرف انه امره ولو لم تكن المعرفة ثابتة في الفطرة لكان الرسول إذا قال لقومه ادعوكم إلى الله لقالوا مثل ما قال فرعون وما رب العالمين انكارا له وجحدا كأن يكون قولهم متوجها
وفرعون لم يقل هذا لعدم معرفته في الباطن بالخالق لكن اظهر خلاف ما في نفسه كما قال تعالى { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } سورة النمل 14 وكما قال له موسى { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر }
(8/440)
سورة الاسراء 102
ولهذا قال تعالى { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } سورة إبراهيم 9 10 فأخبر تعالى أن أولئك المكذبين لما قالوا { وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك } الاية سورة إبراهيم 9 10
وهذا استفهام انكار بمعنى النفي والانكار على من لم يقر بهذا النفي والمعنى ما في الله شك وأنتم تعلمون انه ليس في الله شك ولكن تجحدون انتفاء الشك جحودا تستحقون أن ينكر عليكم هذا الجحد فدل ذلك على انه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين وهذا يبين انهم مفطورون على الإقرار وألا فالامر النظري مستلزم للشك قبل العلم لا سيما إذا كانت طرقه خفية طويلة فكل من لم يعرف تلك الطرق يشك فيه فإن كان لا طريق للمعرفة إلا طريقة الاعراض وطريقة الوجود ونحو ذلك فالشك في الله حاصل لمن لم يعرف هذه الطرق وهم
(8/441)
جمهور الخلق بل ولأكثر من سلك هذه الطرق ايضا إذا عرف حقيقتها
قال ابن عبد البر وقال آخرون في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم
كل مولود يولد على الفطرة لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الفطرة ها هنا كفرا ولا ايمانا ولا معرفة ولا انكار وانما اراد أن كل مولود يولد على السلامة خلقة وطبعا وبنية ليس معها كفر ولا ايمان ولا معرفة ولا انكار ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا
واحتجوا بقوله في الحديث كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء يعني سالمة هل تحسون فيها من جدعاء يعني مقطوعة الأذن فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق لا يتبين فيها نقصان ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها فيقال هذه بحاير وهذه سوايب يقول فكذلك قلوب الاطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر حينئذ ولا ايمان ولا معرفة ولا انكار كالبهائم السالمة فلما بلغوا
(8/442)
استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم وعصم الله اقلهم وعصم الله اقلهم قالوا ولو كان الاطفال قد فطروا على شيء من الكفر والايمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا وقد تجدهم يؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون قالوا ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرا أو ايمانا لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون فيها شيئا
قال تعالى { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } سورة النحل 78 فمن لم يعلم شيئا استحال منه كفر أو ايمان أو معرفة أو انكار
قال أبو عمر هذا القول اصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الولدان عليها وذلك ان الفطرة السلامة والاستقامة بدليل قوله في حديث عياض بن حمار
اني خلقت عبادي حنفاء يعني على استقامة وسلامة فكأنه والله اعلم اراد الذين خلصوا من الافات
(8/443)
كلها والزيادات ومن المعاصي و الطاعات فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما
ومن الحجة ايضا في هذا قول الله تعالى { إنما تجزون ما كنتم تعملون } سورة التحريم 7 و { كل نفس بما كسبت رهينة } سورة المدثر 38 ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء قال الله تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } سورة الاسراء 15
قلت هذا القائل أن اراد بهذا القول انهم خلقوا خالين من المعرفة والانكار من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدا منهما بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر وليس هو لأحدهما اقبل منه للآخر وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام فهذا قول فاسد لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والانكار والتهويد والتنصير والاسلام وانما ذلك بحسب الاسباب فكان ينبغي أن يقال فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ويمجسانه فلما ذكر أن ابويه يكفرانه وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر
وايضا فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عطب ولا استقامة ولا زيغ إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة وليس هو بأحدهما
(8/444)
اولى منه بالآخر كما أن الرق قبل الكتابة فيه لا يثبت له حكم مدح كالمصحف ولا حكم ذم كقرآن مسيلمة والتراب قبل أن يبنى مسجدا أو كنيسة لا يثبت له حكم واحد منهما
ففي الجملة كل ما كان قابلا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحق مدحا ولا ذما والله تعالى يقول { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } سورة الروم 30 فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها فكيف لا يكون فيها مدح ولا ذم
وايضا فالنبي صلى الله عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجدع الانف والاذن ومعلوم أن كمالها محمود ونقصها مذموم فكيف تكون قبل النقص لا محمودة ولا مذمومة
وان كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من الناس من أن المراد انهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الانكار والايمان على الكفر ولكن بما عرض من الفساد خرجت عن هذه الفطرة فهذا القول قد يقال انه لا يرد عليه ما يرد على ما قبله فإن صاحبه يقول في الفطرة قوة يميل بها إلى المعرفة والايمان كما
(8/445)
في البدن السليم قوة يحب بها الاغذية النافعة وبهذا كانت محمودة وذم من افسدها لكن يقال فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية هل هي كافية في حصول المعرفة أو تقف المعرفة على أدلة يتعلمها من خارج
فإن كانت المعرفة تقف على أدلة يتعلمها من خارج امكن أن توجد تارة وتعدم أخرى ثم ذلك السبب الخارج يمتنع أن يكون موجبا للمعرفة بنفسه بل غايته أن يكون معرفا ومذكرا فعند ذلك أن وجب حصول المعرفة كانت المعرفة واجبة الحصول عند وجود تلك الاسباب وألا فلا وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والايمان إذا وجدت من يعلمها اسباب ذلك
ومعلوم أن فيها قبول الانكار والكفر إذا وجدت من يعلمها اسباب ذلك وهو التهويد والتنصير والتمجيس وحينئذ فلا فرق فيها بين الإيمان والكفر والمعرفة والانكار إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج
وهذا هوالقسم الأول الذي ابطلناه وبينا انه ليس في ذلك مدح للفطرة وان كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها وان لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة لزم حصول المعرفة فيها بدون ما نسمعه من أدلة المعرفة سواء قيل أن المعرفة ضرورية فيها أو قيل انها تحصل بأسباب كالادلة التي تنتظم في النفس من غير أن يسمع كلام مستدل فإن النفس
(8/446)
بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج معه إلى كلام أحد فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة لزم أن يكون المقتضى للمعرفة حاصلا لكل مولود وهو المطلوب
والمقتضى التام يستلزم مقتضاه فتبين أن أحد الامرين لازم إما لكون الفطرة مستلزمة للمعرفة وإلا استوى الكفر والإيمان بالنسبة اليها وذلك ينفي مدحها
وتلخيص النكتة أن يقال المعرفة والايمان بالنسبة اليها ممكن بلا ريب فإما أن تكون هي موجبة مستلزمة له واما أن يكون ممكنا بالنسبة اليها ليس بوجب لازم لها فإن كان الثاني لم يكن فرق بني الكفر والايمان إذ كلاهما ممكن بالنسبة اليها فتبين أن المعرفة لازمة واجبة لها إلا أن يعارضها معارض
فإن قيل ليست موجبة مستلزمة للمعرفة ولكنها اليها اميل مع قبولها للنكرة
قيل فحينئذ إذا لم تستلزم المعرفة وجبت تارة وعدمت أخرى وهي وحدها لا تحصلها فلا تحصل إلا بشخص آخر كالابوين فيكون الإسلام كالتهويد والتنصير والتمجيس
ومعلوم أن هذه الانواع بعضها ابعد عن الفطرة من بعض كالتمجيس
(8/447)
ولكن مع ذلك لما لم تكن الفطرة مقتضية لشيء منها اضيفت إلى السبب فإن لم تكن الفطرة مقتضية للاسلام صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس فوجب أن تذكر كما ذكر ذلك وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتض الاكل عند الجوع مع القدرة عليه لم يوجد الاكل إلا بسبب منفصل
والنبي صلى الله عليه وسلم شبه اللبن بالفطرة لما عرض عليه الخمر واللبن واختار اللبن فقال له جبريل اصبت الفطرة ولو اخذت الخمر لغوت امتك
والطفل مفطور على انه يختار شرب اللبن بنفسه فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض وهو مولود على أن يرتضع فكذلك هو مولود على أن يعرف الله والمعرفة ضرورية له لا محال إذا لم يوجد معارض
وايضا فإن حب النفس وخضوعها لله واخلاص الدين له مع
(8/448)
الكبر والشرك والنفور إما أن يكون نسبتها إلى الفطرة سواء أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني فإن كانا سواء لزم انتفاء المدح كما تقدم لم يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان ويكون تمجيسها كتحنيفها وقد عرف بطلان هذا
وان كان فيها مقتض لهذا فإما أن يكون المقتضي مستلزما لمقتضاه عند عدم المعارض واما أن يكون متوقفا على شخص خارج عنها فإن كان الأول ثبت أن ذلك من لوازمها وانها مفطورة عليه لا تفقد إلا إذا فسدت الفطرة
وان قيل انه متوقف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا
واذا قيل هي إلى الحنيفية اميل كان كما يقال هي إلى النصرانية اميل
فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله والذل له واخلاص الدين له وانها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض كما فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه
ومما يبين هذا أن كل حركة ارادية فإن الموجب لها قوة في المريد فإذا امكن في الانسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك إذ الأفعال الارادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل ولا يشترط في ارادته إلا مجرد الشعور بالمراد فما في النفوس من
(8/449)
قوة المحبة له إذا شعرت به يقتضي حبه إذا لم يحصل معارض
وهذا موجود في محبة الاطعمة والاشربة والنكاح ومحبة العلم وغير ذلك واذا كان كذلك وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والذل له واخلاص الدين له وان فيها قوة الشعور به لزم قطعا وجود المحبة فيها والذل بالفعل لوجود المقتضى الموجب إذا سلم عن المعارض وعلم أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل يكلمها بكلام وان كان وجود هذا قد يذكر ويحرك كما لو خوطب الجائع بوصف طعام أو خوطب المغتلم بوصف النساء فإن هذا مما يذكر ويحرك لكن لا يجب ذلك في وجود الشهوة للطعام ووجود الاكل
فكذلك الاسباب الخارجة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذل له ومحبته وان كان ذلك مذكرا ومحركا أو مزيلا للمعارض المانع لكن المقصود انه لا يحتاج حصول ذلك في الفطرة اليه مطلقا
وايضا فالاقرار بالصانع بدون عبادته بالمحبة له والذل له واخلاص الدين له لا يكون نافعا بل الإقرار مع البعض اعظم استحقاقا للعذاب فلا بد أن يكون في الفطرة مقتض للعلم ومقتض للمحبة والمحبة مشروطة بالعلم فإن ما لا يشعر به الانسان لا يحبه والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج بل هو جبلي فطري واذا كانت
(8/450)
المحبة جبلية فطرية فشرطها وهو المعرفة أيضا جبلي فطري فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به
وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها وهو فطرة الله التي أمر الله بها
وأيضا فإذا كانت المحبة فطرية وهي مشروطة بالشعور لزم أن يكون الشعور أيضا فطريا والمحبة له أيضا فطرية لأنها لو لم تكن فطرية لكانت النفس قابلة لها ولضدها على السواء وهذا ممتنع كما تقدم وإذا كانت في الفطرة أرجح لزم وجودها في الفطرة وإلا كانت ممكنة الحصول وعدمه كما في المجوسية وغيرها من الكفر فتبقى الحنيفية مع المجوسية كاليهودية مع المجوسية وهذا باطل كما تقدم
فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية وذلك مستلزم للإقرار والمعرفة ولازم اللازم لازم وملزوم الملزوم ملزوم فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال وهذه الأحوال لازمة لها وهو المطلوب قال أبو عمر قد مضى في الفطرة ومعناها عند العلماء ما بلغنا عنهم والحمد لله وأما أهل البدع فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل
(8/451)
قوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } سورة الأعراف 172 الآية قالوا ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقا قط قبل خلقه إياهم وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم وما استخرج قط من ظهر آدم ذرية تخاطب ولو كان ذلك لأحياهم ثلاث مرات
والقرآن قد نطق عن أهل النار { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } سورة غافر 11 من غير إنكار عليهم
وقال تعالى تصديقا لذلك { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } سورة البقرة 28 قالوا وكيف يخاطب الله عز وجل من لا يعقل وكيف يجيب من لا عقل له أم كيف يحتج عليهم بميثاق لا يذكرونه أم كيف يؤاخذون بما قد نسوه ولم يذكروه ولا يذكر أحد أن ذلك عرض له أو كان منه
(8/452)
قالوا وإنما أراد الله بقوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآية سورة الأعراف 172 إخراجه إياهم في الدنيا وخلقه لهم وإقامة الحجة عليهم بأن فطرهم ونبأهم فطرة إذا بلغوا وعقلوا علموا أن الله ربهم ثم اختلف القائلون بهذا كله في المعرفة هل تقع ضرورة أو اكتسابا على ما قد ذكرنا في غير هذا المكان
قلت ليس المقصود هنا الكلام على هذه الآية وتفسيرها والكلام في معرفة حاصلة قبل الولادة أو نفيها بل المقصود إثبات المعرفة الفطرية الحاصلة بعد الولادة وإذا كان من نفاة الأول من يقول إن هذه ضرورية فكيف بمن أثبت الثنتين وهذه الأقوال التي ذكرها منها اثنان من جنس وهو قول من يقول ولدوا على ما سبق به القدر أو على ذلك وكانوا مفطورين عليه من حين الميثاق الأول منهم مقر طوعا وكرها أو اثنان من جنس وهو قول من يقول ولدوا
(8/453)
قادرين على المعرفة وقول من يقول ولدوا قابلين لها وللتهود والتنصر إما مع التساوي وإما مع رجحان القبول للإسلام
وأما قول من يقول ولدوا على فطرة الإسلام أو على الإقرار بالصانع وإن لم يكن ذلك وحده إيمانا أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق عليهم فهذه الثلاثة لا منافاة بينها بل يحصل بها المقصود
والكتاب والسنة دل على ما اتفقت عليه من كون الخلق مفطورين على دين الله الذي هو معرفة الله والإقرار به بمعنى أن ذلك موجب فطرتهم وبمقتضاها يجب حصوله فيها إذا لم يحصل ما يعوقها فحصوله فيها لا يقف على وجود شرط بل على انتفاء مانع
ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لموجب الفطرة شرطا بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال
كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما قال تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } سورة الروم 30 32 فأخبر أن المشركين مفترقون
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح
إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه لا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا
(8/454)
ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم
وقد قال تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } سورة الشورى 13 وقال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } سورة البقرة 13
وقال تعالى { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } سورة المؤمنون 51 53
وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده كما قال خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا فهو يجمع أصلين
أحدهما عبادة الله وحده لا شريك له وإنما يعبد بما أحبه وأمر به وهذا هو المقصود الذي خلق الله له الخلق وضده الشرك والبدع
والثاني حل الطيبات التي يستعان بها على المقصود وهو الوسيلة
وضدها تحريم الحلال والأول كثير في النصارى والثاني وهو تحريم الطيبات كثير في اليهود وهما جميعا في المشركين
(8/455)
ولهذا ذم الله تعالى المشركين على هذين النوعين في غير موضع من كتابه كسورة الأنعام والأعراف يذكر فيها ذممهم على ما حرموه من المطاعم والملابس وغير ذلك وذممهم على ما ابتدعوه من العبادات التي لم يشرعها الله تعالى
وفي الحديث أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة فنعبده وحده بفعل ما أحبه ونستعين على ذلك بما أحله
كما قال تعالى { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } سورة المؤمنون 51
وهذا هو الدين الذي فطر الله عليه خلقه فإنه محبوب لكل أحد فإنه يتضمن الأمر بالمعروف الذي تحبه القلوب والنهي عن المنكر الذي تبغضه وتحليل الطيبات النافعة وتحريم الخبائث الضارة
وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن كل مولود يولد على الفطرة مما تقوم الأدلة العقلية على صدقه كما أخبر الصادق المصدوق وتبين أن من خالف مدلول هذا الحديث فإنه مخطئ في ذلك
وبيان ذلك من وجوه
أحدها أن يقال لا ريب أن الإنسان قد يحصل له تارة من
(8/456)
الاعتقادات والارادات ما يكون حقا وتارة ما يكون باطلا فإن اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهو الحق وقد تكون غير مطابقة وهو الباطل والخبر عن هذا صدق وعن هذا كذب والإرادات تنقسم إلى ما يوافق مصلحته وهو جلب المنفعة له وإلى ما لا يوافق مصلحته بل يضره
فإن الإنسان حساس متحرك بالإرادة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم أصدق الأسماء الحارث وهمام وأحبها إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأقبحها حرب ومرة فإن الإنسان لابد له من حرث وهو العمل والحركة الإرادية ولا بد له من أن يهم بالأمور منها ما يهم به ويفعله ومنها ما يهم به ولا يفعله فإن كان المراد موافقا لمصلحته كانت الإرادة حسنة محمودة وإن كان مخالفا لمصلحته كانت الإرادة سيئة مذمومة كمن يريد ما يضر عقله ونفسه وبدنه
وإذا كان الإنسان تارة تكون تصديقاته وإراداته حسنة محمودة وتارة تكون سيئة فلا يخلو إما أن تكون نسبة نفسه إلى النوعين نسبة
(8/457)
واحدة بحيث لا يترجح أحد الصنفين على الآخر بمرجح من نفسه أو لا بد أن تكون نفسه مرجحة لأحد النوعين
فإن كان الأول لزم أن لا يوجد أحد الصنفين إلا بمرجح منفصل عنه ثم ذلك المرجح المنفصل إذا قدر مرجحان أحدهما يرجح الصدق الذي ينفعه والآخر يرجح الكذب الذي يضره فإما أن يتكافأ المرجحان أو يترجح أحدهما فإن تكافأ المرجحان لزم أن لا يحصل واحد منهما وهو خلاف المعلوم بالضرورة فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وأن ينتفع وأن يكذب ويتضرر مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع وإذا كان لا بد من ترجيح لأحدهما فترجح الكذب الضار مع فرض تساوي المرجحين أولى بالامتناع من تكافيهما فتعين أنه إذا تكافأ المرجحان فلا بد أن يترجح عنده الصدق والنفع وهو المراد باعتقاد الحق وإرادة الخير
فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والإيمان به هو الحق أو نقيضه والثاني معلوم الفساد قطعا فتعين الأول وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به
وأيضا فإنه مع الإقرار به إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته والثاني معلوم الفساد وإذا كان الأول أنفع له كان في فطرته محبة ما ينفعه
(8/458)
وأيضا فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له أكمل للناس علما وقصدا أو الإشراك به والثاني معلوم الفساد فوجب أن يكون في فطرته مقتض يقتضي توحيده
وأيضا فإما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين أو الإسلام مرجوحا أو راجحا والأول والثاني باطلان باتفاق المسلمين وبأدلة كثيرة فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة سواء كانت نسبة قدرة أو نسبة قبول
وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته وإخلاص الدين له فإما أن يكون مع ذلك لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل مثل من يعلمه ويدعوه أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل
فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفا على مخاطب منفصل دائما فلا يحصل بدونه البتة ثم القول في حصول موجبها لذلك المخاطب المنفصل كالقول في الأول وحينئذ فيلزم التسلسل في المخاطبين ووجود مخاطبين لا يتناهون وهم أيضا مخاطبون وهذا تسلسل في الفاعلين وهو ممتنع
وإن كان في المخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل دل على إمكان ذلك في الفطرة فبطل هذا التقدير وهو كون
(8/459)
موجب الفطرة لا يحصل قط إلا لمخاطب منفصل وإذا أمكن حصول موجب الفطرة بدون مخاطب منفصل علم أن في الفطرة قوة تقتضي ذلك وأن ذلك ليس موقوفا على مخاطب منفصل لكن قد يكون لذلك المقتضي معارض مانع وهذا هو الفطرة
وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد في الفطر ما يكون مستغنيا عن مخاطب منفصل في حصول موجب الفطرة لكن لا يقتضي أن كل واحد كذلك لكن إذا عرف أن ما جاز على أحد الإنسانين يجوز على الآخر لتماثلهما في النوع أمكن ذلك في حق كل شخص وهو المطلوب
الوجه الثاني أن يقال إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته حصل المقصود بذلك وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة كالتعليم والتخصيص فإن الله قد بعث الرسل وأنزل الكتب ودعوا الناس إلى موجب الفطرة من معرفة الله وتوحيده فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة وإلا استجابت لله ورسله لما فيها من المقتضي لذلك
ومعلوم أن قول
كل مولود يولد على الفطرة ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفا بالله موحدا له بحيث يعقل ذلك فإن
(8/460)
الله يقول { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } سورة النحل 78
ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضى ذلك وتستوجبه بحسبها
فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل من معرفتها بربها ومحبتها له ما يناسب ذلك كما أنه ولد على أنه يحب جلب المنافع ودفع المضار بحسبه وحينئذ فحصول موجب الفطرة سواء توقف على سبب وذلك السبب موجود من خارج أو لم يتوقف على التقديرين يحصل المقصود
ولكن قد يتفق لبعضها فوات الشرط أو وجود مانع فلا يحصل مقصود الفطرة
الوجه الثالث أن يقال من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلم ومخصص حصل لها من العلم والإرادة بحسب ذلك ومن المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق ومعلوم أن مجرد التعليم والتخصيص لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك وإلا فلو علم البهائم والجمادات وحضضها لم يحصل لها ما يحصل لبني آدم والسبب في الموضعين واحد فعلم أن ذلك لاختلاف القوابل
ولهذا يشترك الناس في سماع القرآن ويتفاوتون في آثاره فيهم من العلم والحال وهكذا في سائر الكلام وإذا كان كذلك علم أن في النفوس قوة تقتضي العلم والإرادة
(8/461)
يبين ذلك أن ذلك المرجح إذا حصل من خارج فمعلوم أنه نفسه لا يوجب بنفسه حصول العلم والإرادة في النفس إلا بقوة منها تقبل ذلك وتلك القوة لا تتوقف على أخرى وإلا لزم التسلسل الذي لا يتناهى بين طرفين متناهين أو الدور القبلي وكلاهما ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء
فهذا يدل على أن في النفس قوة ترجح الدين الحق على غيره وحينئذ فالمخاطب إنما عنده تنبيهها على ما لا تعلمه لتعلمه أو تذكيرها بما كانت ناسية لتذكره أو تحضيضها على ما لا تريده لتريده ونحو ذلك
وكل هذه الأمور يمكن أن تحصل بخواطر في النفس تقتضي تنبيهها وتذكيرها وتخضيضها واعتبار الإنسان ذلك من نفسه يوجب علمه بذلك فإن ما يسمعه الإنسان من كلام البشر يمكن أن يخطر له مثله في قلبه فعلم أن الفطرة يمكن حصول إقرارها بالصانع والمحبة والإخلاص له بدون سبب منفصل وأنه يمكن أن تكون الذات كافية في ذلك
ومن المعلوم أنه إذا كان المقتضي لذلك قائما في النفس وقدر عدم المعارض فالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم يوجب مقتضاه فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها من يفسدها كانت مقرة بالصانع عابدة له
فإن قيل هذه الخواطر التي تخطر للإنسان قد تحصل لبعض الناس دون بعض بحسب ما يتفق من الأسباب كما أن بعض الناس يحصل له
(8/462)
من يخاطبه دون بعض فليسوا مشتركين في أسباب الخواطر والخطاب
قيل إذا لم تكن الخواطر متوقفة على مخاطب من خارج كانت الفطرة الإنسانية هي المقتضية لذلك وإن كان ذلك بأسباب يحدثها الله من إلهام ملك أو غيره لكن المقصود أنه لا يحصل لها ذلك بواسطة تعلم إنسان ودعائه وهذا هو المقصود بيانه من كونها ولدت على الفطرة ليس المراد أنه يجب وجود الهدى لكل إنسان فإن هذا خلاف الواقع والحديث قد بين أن المولود يعرض له من يغير فطرته
الوجه الرابع أن يقال هب انه لا بد من الداعى المعلم من خارج لكن في النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل في الاعتقادات والارادات وهذا كاف في كونها ولدت على الفطرة
الوجه الخامس أن يقال المقصود انه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح لأن المقتضي فيها للعلم والارادة النافعة قائم والمانع زائل إذ ليس في الفطرة نفسها مانع من ذلك ومع وجود المقتضي السالم عن المعارض المقاوم يجب وجود مقتضاه
والاول استدلال بوقوع الإقرار بدون سبب منفصل على وجود المقتضي التام في الفطرة وهذا استدلال بوجود المقتضي التام على حصول مقتضاة
وليس المقصود هنا أن المقتضي التام يجب وجوده لكل أحد فان هذا
(8/463)
ممتنع بل أن الفطرة تقتضي وجوده كما تقتضي فطرة الصبي شرب لبن امه فلو لم يعرض له مانع للزم وجود الشرب لكن قد يعرض له مرض فيه أو في امه أو غير ذلك يوجب نفوره عن شرب لبنها وحب العبد لربه هو مفطور فيه اعظم مما فطر فيه حبه للبن امه
قال الله تعالى { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } سورة البقرة 200 فلو لم يكن المقتضي التام ممكن وجوده في الفطرة لم يحصل موجبها إلا بمرجح من خارج وهو خلاف الواقع ولانها إذا خلت عن الاسباب الخارجة لم يكن بد من وجود صلاحها أو فسادها والثاني ممتنع فتعين الأول
الوجه السادس أن السبب الذي في الفطرة إما أن يكون مستلزما للمعرفة والمحبة واما أن يكون مقتضيا لها بدون استلزام وعلى التقديرين يحصل المقصود
الوجه السابع أن النفس لا تخلو عن الشعور والارادة بل هذا الخلو ممتنع فيها فان الشعور والارداة من لوازم حقيقتها ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرة مريدة ولا يجوز أن يقال انها قد تخلو في حق الخالق تعالى عن الشعور بوجوده وعدمه وعن محبته وعدم محبته وحينئذ فلا يكون الإقرار به ومحبته من لوازم وجودها ولولم يكن لها معارض بل هذا باطل
(8/464)
وذلك أن النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها وكونها مريدة من لوزام ذاتها لا يتصور أن تكون نفس الانسان غير مريدة
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اصدق الاسماء الحارث وهمام وهي حيوان وكل حيوان متحرك بالارادة فلابد لها من حركة ارادية واذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره والمراد لغيره لابد أن ينتهي إلى مراد لنفسه فيمتنع أن تكون جميع المرادات مرادات لغيرها فان هذا تسلسل في العلل الغائية وهو ممتنع كامتناع التسلسل في العلل الفاعلية بل اولى
واذا كان لابد للإنسان من مراد لنفسه فهذا هو الإله الذي يالهه القلب فإذا لابد لكل عبد من اله فعلم أن العبد مفطور على أن يحب الهه
ومن الممتنع أن يكون مفطورا على أن يأله غير الله لوجوه
منها أن هذا خلاف الواقع
ومنها انه ليس هذا المخلوق بان يكون الها لكل الخلق باولى من هذا
ومنها أن المشركين لم يتفقوا على اله واحد بل عبد كل قوم ما استحسنوه
ومنها أن ذلك المخلوق أن كان ميتا فالحى اكمل من الميت فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة ميت وان كان حيا فهو أيضا مريد فله إله يألهه فلو كان هذا يأله هذا وهذا يأله هذا لزم الدور الممتنع أو التسلسل الممتنع فلا بد لهم كلهم من اله يألهونه
(8/465)
فان قلت ما ذكرته يستلزم انه لا بد لكل حي من اله أو لكل انسان من اله لكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس مطلق المالوه لا مالوها معينا وجنس المراد لا مرادا معينا
قيل هذا ممتنع فان المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه فالاول مثل كون العطشان يريد ماء والسغبان يريد طعاما فارادته هنا لم تتعلق بشيء معين فإذا حصل عين من النوع حصل مقصوده
والمراد لذاته لا يكون نوعا لان أحد المعنين ليس هو الآخر فلو كان هذا مرادا لذاته للزم أن لا يكون الآخر مرادا لذاته وإذا كان المراد لذاته هو القدر المشترك بينهما لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مرادا لذاته وإذا لم يكن مرادا لذاته لزم أن يكون مايختص به كل منهما ليس مرادا لذاته
والكلى لا وجود في الاعيان إلا معينا فإذا لم يكن في المعينات ما هو مراد لذاته لم يكن في الموجودات الخارجية ما هو لذاته فلا يكون فيها ما يجب أن يالهه أحد فضلا عما يجب أن يالهه كل أحد
فتبين انه لا بد من اله معين هو المحبوب لذاته من كل حي ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله فلزم أن يكون هو الله وعلم انه لو كان فيهما إلا الله لفسدتا وان كل مولود ولد على محبة هذا الإله ومحبته
(8/466)
مستلزمة لمعرفته فعلم أن كل مولود ولد على محبته ومعرفته وهو المطلوب
وهذا الدليل يصلح أن يكون مستقلا وهذا بخلاف ما يراد جنسه كالطعام والشراب فانه ليس في ذلك ما هو مراد لذاته بل المراد دفع الم الجوع والعطش أو طلب لذة الاكل والشرب وهذا حاصل بنوع الطعام والشراب لا يتوقف على معين بخلاف ما هو مراد ومحبوب لذاته فإنه لا يكون إلا معينا
الوجه الثامن أن يقال اليهود عندهم نوع من المعرفة بالحق لكن بلا عمل به بل مع بغض له ونفور عنه واستكبار والنصارى معهم نوع من المحبة والطلب والارادة لكن بلا علم بل مع ضلال وجهل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون رواه الترمذي وصححه
وامرنا الله أن نقول في صلاتنا { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } سورة الفاتحة 6 7 امين فان النعمة المطلقة لا تحصل إلا بمعرفة الحق واتباعه واذا كان كذلك والانسان يحتاج إلى هذا وهذا ففطرته السليمة إما أن تكون مقتضية لمعرفة الحق دون العمل به أو للعمل به دون معرفته أو لهما أو لا لواحد منهما
(8/467)
فإن كان الرابع فيلزم أن يستوي عندها الصدق والكذب والاعتقاد المطابق والفاسد وارادة ما ينفعها وارادة ما يضرها وهذا خلاف ما يعلم بالحس الباطن والظاهر وبالضرورة
وان كان الثالث فيلزم أن يستوي عندها مع العمل أن تعلم وان تجهل وان تهتدي وان تضل وان لا يكون فيها مع استواء الدواعي الظاهرة ميل إلى أحدهما وهو أيضا خلاف المعلوم بالحس والضرورة
وان كان الثاني فيلزم أن يستوي عندها إرادة الخير النافع والشر الضار دائما إذا استوت الدواعي الخارجة وهو أيضا خلاف الحس الباطن والظاهر وخلاف الضرورة فتبين انه لا يستوي عندها هذان بل يترجح عندها هذا وهذا جميعا
وحينئذ فلا تكون مفطورة لا على يهودية ولا على نصرانية فعلى المجوسة اولى ويلزم أن تكون مفطورة على الحنيفية المتضمنة لمعرفة الحق والعمل به وهو المطلوب فصل
قال الله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } سورة الذريات 56 وللناس في هذه العبادة التى خلقوا لها قولان أحدهما انها وقعت منهم ثم هؤلاء منهم من يقول جميعهم خلقوا لها ومنهم من يقول إنما خلق لها بعضهم
(8/468)
والقول الثاني انهم كلهم خلقوا لها ومع ذلك فلم تقع إلا من بعضهم وهؤلاء حزبان
حزب يقولون أن الله لم يشأ إلا العبادة لكنهم فعلوا ما لا يشاؤه بغير قدرته ولا مشيئته وهم القدرية المنكرون لعموم قدرته ومشيئته وخلقه
والثاني يقولون بل كل ما وقع فهو بمشيئته وقدرته وخلقه لكن هو لا يحب إلا العبادة التي خلقهم لها ولا يأمر إلا بذلك فمنهم من اعانه ففعل المأمور به ومنهم من لم يفعله
واللام عند هؤلاء كاللام في قوله { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } سورة البقرة 185 وفي قوله { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين } سورة الحج 34
وقوله تعالى { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } سورة البقرة 21 على قول الاكثرين الذين يجعلون لعل متعلقة بقوله خلقكم كما قال { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } سورة الذريات 56
(8/469)
وقوله { كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين } سورة الحج 37
وقوله { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } سورة الطلاق 12
وقوله { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم } سورة المائدة 97
وقوله { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } سورة النساء 64
ومنه قوله { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } سورة المائدة 6
وقوله { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } سورة النساء 26 28 ونحو ذلك مما فيه أن الله يفعل فعلا لغاية يحبها ويرضاها ويأمر بها عباده وإذا حصلت لهم كان فيها نجاتهم وسعادتهم ثم منهم من يعينه على فعلها ومنهم من لا يفعلها فإن هذا قد أشكل على طائفة من الناس وقالوا كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل
(8/470)
فيقال الغاية التي يراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل ومراد الفاعل نوعان فإنه تارة يفعل فعلا ليحصل بفعله مراده فهذا لا يفعله وهو يعلم أنه لا يكون والله تعالى يفعل ما يريد فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولكن الله يفعل ما يريد
وتارة يريد من غيره أن يفعل فعلا باختياره لينتفع ذلك الفاعل بفعله ويكون ذلك محبوبا للفاعل الأول كمن يبني مسجدا ليصلي فيه الناس ويعطيهم مالا ليحجوا به ويجاهدوا به وسلاحا ليجاهدوا به ويأمرهم بالمعروف ليفعلوه وينهاهم عن المنكر ليتركوه وهم إذا فعلوا ما أراده لهم ومنهم كان صلاحا لهم وكان ذلك محبوبا له وإن لم يفعلوا ذلك لم يكن صلاحا لهم ولا حصل محبوبه منهم ثم هذا قد لا يكون قادرا على فعل ما أمروا به اختيارا
ولهذا زعمت القدرية النافية أن الرب ليس قادرا على هدي العباد وهو خطأ عند أهل السنة وقد يكون قادرا فإنه سبحانه لو شاء لآتى كل نفس هداها { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } سورة يونس 99
لكن المخلوق قد يعين بعض من أمره لمصلحة له في إعانته ولا يعين آخر والرب تعالى قد يعين المؤمنين فيفعلوا ما أمروا به وأحبه الله منهم ولا يعين آخرين لما له في ذلك من الحكمة فإن الفعل لا يوجد إلا بلوازمه وانتفاء أضداده
(8/471)
وقد يكون في وجود ذلك فوات حكمة له هي أحب إليه من طاعة أولئك أو وجود شيء دفعه أحب إليه من حصول معصية أولئك
وحينئذ فإذا أمر العباد ونهاهم ليطيعوه ويعبدوه ويفعلوا ما أحبه وينالوا كمالهم الذي هو غايتهم التي خلقوا لها جاز أن يقال { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } سورة النساء 64
وأن يقال { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } سورة البقرة 185
وأن يقال { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم } سورة النساء 26
وأن يقال { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } سورة المائدة 6 ونحو ذلك
وإن كان هو لم يخلق ما أمر به وإذا خلقهم خلق لهم ما ينتفعون به ليعبدوه ويطيعوه ويشكروه ويذكروه ويبلغوا الغاية المحمودة في حقهم التي يحبها ويرضاها لهم صح أن يقال إنما خلقهم ليعبدوه وإن كان هو لم يخلق لكل منهم ما به يصير عابدا له كما جاز أن يقال إنما بنيت المسجد ليصلوا فيه وإنما أعطيتهم المال ليحجوا ويجاهدوا ونحو ذلك فإنه ليس من شرط من فعل فعلا لغاية يفعلها غيره أن يكون هو فاعلا لتلك الغاية
ثم إذا علم أن كثيرا من هؤلاء لا يصلي ولا يحج ولا يجاهد وأن من
(8/472)
يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لا يطيعه لم يمنع ذلك أن يفعل ما يفعل ويأمر بما يأمر به لأن نفس ذلك الفعل وذلك الأمر مصلحة له وهذا موجود في المخلوق والخالق فإن المخلوق كالرسول وغيره يأمر وينهى وإن كان يعلم أنه لا يطاع لأن نفس أمره لهم له فيه مصلحة ومنفعة وثواب وفيه حكمة في حق المأمور والمنهي
وكذلك يفعل ما يفعل لمصالح الناس وإن علم أنهم لا يفعلون ذلك إذا كان له في ذلك أجر ومثوبة ومصالح أخرى فإنه إذا كان بعض الناس يصلي في المسجد وبعضهم لا يصلي فيه قامت حجته على من لم يصل واستحق العقوبة وكان قد أزاح عن نفسه العلة بأن يقال لم يبن لهم مسجدا يصلون فيه
والخالق تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وأنذر العباد وأزاح عللهم وفعل بهم من الأسباب التي بها يتمكنون من الطاعة أعظم مما يفعله كل آمر غيره بالمأمورين فليس أحد أزاح علل المأمورين أعظم من الله فلا تقوم حجة آمر على مأمور إلا وحجة الله على عباده أقوم ولا يستحق مأمور من آمره ذما ولا عقابا لمعصيته إلا واستحقاق عصاة الله لأمره أعظم استحقاقا وذما ولا عقابا لمعصيته إلا واستحقاق عصاة الله لأمره أعظم استحقاقا وذما ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا ييسر أمر على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه إلا والله تعالى أعظم تيسيرا على مأموريه وأعظم رفعا لما لا يطيقونه عنهم
(8/473)