وذلك لأن الممكن بنفسه هو الذي يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد وذلك إنما يعقل فيما يكون معدوما ويمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد بل يستمر عدمه فأما ما لم يزل موجودا بغيره فكيف يقال فيه إنه يمكن وجوده وعدمه أو يقال فيه إنه يقبل الوجود والعدم
ومما يوضح ذلك أن القابل للموجود والعدم إما أن يكون هو الموجود في الخارج أو الماهية الموجودة في الخارج عند من يقول الوجود زائد على الماهية أو ما ليس موجودا في الخارج
فإن قيل بالأول فهو ممتنع لأن ما كان موجودا في الخارج أزلا وأبدا واجبا بغيره فإنه لا يقبل العدم أصلا فكيف يقال إنه يقبل الوجود والعدم
وإن قيل أمر آخر فذلك لا حقيقة له حتى يقبل وجودا أو عدما لأن وجود كل شيء عين ماهيته في الخارج ولكن الذهن قد يتصور ماهية غير الوجود الخارجي فإذا اعتبرت الماهية في الذهن والوجود في الخارج أو
(3/248)
بالعكس فأحدهما غير الآخر وأما إذا اعتبر ما في الخارج فقط أو ما في الذهن فقط فليس هناك وجود وماهية زائدة ومن تصور هذا تصورا تاما لم ينازع فيه وإنما ينازع من لم يميز بين الذهني والخارجي واشتبه عليه أحدهما بالآخر وأيضا فلو قدر أن في الخارج ماهية ووجودا لواجب قديم أزلي فهذه كما يقوله كثير من المتكلمين إن لواجب الوجود ماهية غير زائدة على وجوده وحينئذ فمثل وجود هذه الماهية لا يقبل العدم كما أن وجود الماهية الواجبة بنفسها لا تقبل العدم
وإن قيل نحن نريد بذلك أن ماهية الممكن الزائدة على وجوده القديم الأزلي كماهية الفلك هي من حيث هي هي مع قطع النظر عن وجودها وعدمها تقبل الوجود والعدم
قيل إثبات هذه الماهية زائدة على الوجود باطل كما قد بين في موضع آخر
(3/249)
وبتقدير التسليم فهذا كما يقدر أن وجود واجب الوجود زائد على ماهيته ومعلوم أنه لا يستلزم ذلك كون ماهيته قابلة للعدم
ثم يقال قول القائل الماهية من حيث هي هي تقدير للماهية مجردة عن الوجود والعدم وهذا تقدير ممتنع في نفسه فإن الماهية لو قدر تحققها فإما أن تكون موجودة أو معدومة فلا يمكن تقديرها مجردة في الخارج حتى يقال إن تلك الماهية تقبل الوجود والعدم
وأيضا فلو قيل إنه يمكن تقديرها مجردة فهذا إنما يمكن في الماهية إذا كانت يمكن أن تكون موجودة ويمكن أن تكون معدومة وأما ما كان الوجود لازما لها قديما أزليا يمتنع عدمه فكيف يتصور أن يقال إن هذه الماهية تقبل العدم وهي لم تزل واجبة الوجود فليس لها وقت من الأوقات تقبل فيه العدم وإذا قدرت مجردة في الذهن فليست هذه المقدرة في الذهن هي الموجودة في الخارج المستلزمة للوجود القديم الأزلي
فإن قيل هذا كما نقول في ماهية المحدث إنه يقبل الوجود والعدم
قيل إن سلم لكم أن ماهية المحدث زائدة على وجوده مع موافقتكم لسائر العقلاء على أنه يمتنع تحققها في الخارج إلا إذا كانت موجودة
(3/250)
وحين وجودها لا تكون معدومة بمعنى كونها تقبل الوجود والعدم قيل أحد أمرين إما ان يقال الماهية المقدرة في الذهن يمكن ان تكون موجودة في الخارج ويمكن ان تكون معدومة واما ان يقال هذه الحقيقة يمكن ان تكون في الخارج معدومة تارة وموجودة أخرى فإذا اخترنا من ذلك حال عدمها قيل يمكن وجودها بعد العدم وان كان حين وجودها قيل يمكن عدمها بعد الوجود ومثل هذا ممتنع في الماهية القديمة الأزلية التي يجب وجودها ويمتنع عدمها سواء قدر ان وجوبها بنفسها او بغيرها كما أن صفات الرب عند من قال ممكنة مع كونها قديمة أزلية واجبة بالذات فإنها عندهم لا يمكن عدمها ولا تقبله فإن ما وجب قدمه من الامور الوجودية امتنع عدمه باتفاق العقلاء فإن ما يجب قدمه لا يكون إلا واجبا بنفسه وان قدر أنه ليس واجبا بنفسه فلا بد ان يكون واجبا بغيره وما ليس واجبا بنفسه ولا بغيره ليس قديما باتفاق العقلاء
(3/251)
فإنه إذا قدر أنه ليس واجبا بنفسه فلا بد أن يكون من لوازم الواجب بنفسه فإنه إذا لم يكن من لوازمه بل جاز وجوده تارة وعدمه أخرى لم يكن هناك موجب لذاته ولا ذاته واجبة بنفسها فامتنع قدمه و اذا كان من لوازم الواجب بنفسه امتنع عدمه إلا إذا عدم الملزوم فإن اللازم لا ينتفي إلا إذا انتفى الملزوم والملزوم الواجب بنفسه يمتنع عدمه فيمتنع عدم لازمه وما امتنع عدمه لا يكون ممكن العدم
فإن قيل فالممكنات التي هي محدثة هي واجبة بغيرها إذا وجدت تجب بوجوب سببها فما شاء الله كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وهي ممتنعة حال عدمها ومع هذا فهي تقبل الوجود والعدم ولا يلزم من عدمها عدم الواجب
قيل الفرق بينهما من وجهين أحدهما ان تلك كانت معدومة تارة وموجودة أخرى فثبت قبولها للوجود والعدم فلا يمكن ان يقال انها لا تقبل
(3/252)
العدم بخلاف ما هو لم يعدم قط ولم يمكن عدمه في وقت من الاوقات
الثاني ان هذه لا يوجبها نفس الواجب إذ لو كان كذلك لكانت لازمة لذاته قديمة أزلية بل إنما توجبها الذات مع ما يحدث من الشروط التي بها تم حصول المقتضى التام فحينئذ ليست من لوازم الواجب بنفسه بل من لوازم مؤثرها التام ومن جملة ذلك الامور الحادثة التي هي شرط في حدوثها واذا عدمت فإنها تعدم لانتفاء بعض هذه الشروط الحادثة أو لحدوث مانع ضاد وجودها ومنع تمام علتها التامة فعدم لعدم بعض الحوادث او وجود بعض الحوادث كما وجدت لحدوث بعض الحوادث
(3/253)
وقدم بعضها ايضا فلهذا لم تكن من لوازم ذاته المجردة في الأزل بخلاف ما كان من لوازم ذاته في الأزل فإن هذا لازم ذاته يمتنع تحقق ذاته في الأزل بدونها فمتى قدر عدمه لزم عدم الذات الأزلية الواجبة الوجود وعدمها ممتنع فعدم لازمها الازلي ممتنع فلا يكون لازمه الازلي ممكنا البتة بل لا يكون إلا واجبا قديما ازليا لا تقبل ذاته العدم وهذا هو المطلوب فقد تبين ان ما كان ازليا فإنه واجب الوجود يمتنع عدمه لا يكون ممكنا البتة وهذا مما اتفق عليه العقلاء أولوهم وآخروهم حتى ارسطو وجميع أتباعه الفلاسفة إلى الفارابي وغيره وكذلك ابن سينا واتباعه
لكن هؤلاء تناقضوا فوافقوا سلفهم والجمهور في موضع وخالفوا العقلاء قاطبة مع مخالفتهم لأنفسهم في هذا الموضع حيث قضوا بوجود موجود ممكن يقبل الوجود والعدم مع كونه قديما ازليا واجبا وان قيل هو واجب بغيره
(3/254)
ولهذا لا يوجد هذا القول عن أحد من العقلاء قبل هؤلاء ولا نقله اهل المقالات عن أحد من الطوائف وانما يوجد في كلام هؤلاء واتباعهم واذا عرف هذا فإن قال هؤلاء نحن نريد به العدم الاستقبالي أي يقبل ان يعدم في المستقبل قيل فهذا يبطل قولكم لأن ما كان واجبا بغيره أزليا لم يقبل العدم لا في الماضي ولا في المستقبل وكذلك هو عندكم ما كان أزليا كان أبديا يمتنع عندكم عدمه
وان قيل نريد به أن ما تصور في الذهن يمكن وجوده في الخارج ويمكن أن لا يوجد
قيل إذا كان أزليا واجبا بغيره لم يمكن أن يقبل العدم بحال فلا يكون ممكنا أن لم يكن معدوما في الماضي أو المستقبل
واذا قيل ان الممكن يقبل الوجود والعدم لم نرد به أنه يقبلهما على سبيل الجمع فإن هذا جمع بين النقيضين بل المراد به أنه يقبل الوجود بدلا عن العدم و العدم بدلا عن الوجود فإذا كان معدوما كان قابلا لدوام العدم وقابلا لحدوث الوجود و اذا كان موجودا قبل دوام الوجود وقبل حدوث العدم هذا إذا اعتبر حاله وان اعتبر حاله في الذهن فالمراد
(3/255)
أن ما يتصوره في الذهن يمكن أن يوجد في الخارج ويمكن أن لا يوجد فبكل حال إذا اعتبر الممكن ذهنيا أو خارجيا لا يتحقق فيه الإمكان إلا مع إمكان العدم تارة و وجوده أخرى فما كان ضروري العدم كالجمع بين النقيضين لا يكون ممكنا وما كان ضروري الوجود وهو القديم الأزلي لا يكون ممكنا وقد وافق على هذا جميع الفلاسفة أرسطو وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين والعقلاء أما مع وجوب وجوده بنفسه أو بغيره دائما فليس هناك ممكن يحكم عليه بقبول الوجود والعدم
ولما سلك الرازي ونحوه مسلك ابن سينا في إثبات إمكان مثل هذا اضطربوا في الممكن و ورد عليهم فيه اشكالات كثيرة كما هو موجود في كتبهم كما أورده الرازي في محصله من الحجج الدالة على نفي هذا الممكن ولم يكن له عنها جواب إلا دعواه أن ما كان متغيرا فإنه يعلم امكانه بالضرورة
وهذه الدعوى يخالفه فيها جمهور العقلاء حتى ارسطو وأصحابه وهذا الذي نبهنا عليه هو أحد ما يستدل به على أن كل ممكن فهو مسبوق بالعدم وكل ما سوى الله ممكن فكل ما سوى الله حدث عن عدم كما قد بسط في موضعه
(3/256)
و المقصود هنا أن الذين استدلوا بهذه الأدلة على افتقار الممكنات إلى واجب خارج عنها فان مرادهم بقولهم جملة ما يفتقر اليه مجموع الممكنات هو المؤثر التام وهو المرجح التام الذي يلزم من وجوده بتأثيره التام وجودها كما ذكرناه من أن الفاعل باختياره إذا وجدت قدرته التامة و إرادته التامة وجب وجود المقدور وهي الممكنات
وأما قوله فلم قلتم انه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع فلما ذكرناه من أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره فإذا قدر أن المؤثر التام في المجموع هو بعض المجموع لزم أن يكون بعض أجزاء المجموع هو المؤثر في المجموع فيكون مؤثرا في نفسه و في غيره
وهذا ظاهر فإنه إذا قدر مجموع الممكنات وقدرنا ان واحدا منها مؤثر في المجموع أي في كل واحد واحد وفي الهيئة الاجتماعية لزم أن يكون مؤثرا في نفسه وفي غيره فيكون بعض اجزاء المجموع موجبا لحصول المجموع المذكور ومن المجموع نفسه وهذا ممتنع وأما المجموع المركب من الواجب والممكن فهناك ليس بعضه مؤثرا في كل واحد واحد وفي الهيئة الاجتماعية فإن من المجموع الواجب بنفسه لم يؤثر فيه شيء فظهر الفرق
وأيضا فالواجب مؤثر في الممكن وفي الهيئة الاجتماعية ليس مؤثرا في نفسه بخلاف مجموع الممكنات فإن كل واحد منها لا بد له من مؤثر والاجتماع لا بد له من مؤثر في نفسه بخلاف مجموع الممكنات فإن كل واحد منها لا بد له من مؤثر والاجتماع لا بد له من مؤثر فالمجموع مفتقر إلى المؤثر بأي تفسير
(3/257)
فسر فإن فسر بالهيئة الاجتماعية فهي متوقفة على الأفراد الممكنة والمتوقف على الممكن أول أن يكون ممكنا مع أن الهيئة الاجتماعية نسبة وإضافة متوقفة على غيرها فهي أدخل في الإمكان والافتقار من غيرها وهي من أضعف الاعراض المفتقرة إلى الاعيان ان قدر لها ثبوتا وجوديا وألا فلا وجود لها وان فسر المجموع بكل واحد واحد أو فسر بالأمرين بكل واحد واحد وبالاجتماع أو بغير ذلك بأي شيء فسر لم يكن إلا ممكنا مفتقرا إلى غيره وكلما كثرت الامكانات كثر الافتقار والحاجة
فإذا قيل المؤثر في ذلك واحد منها وهو ممكن لزم ان يكون الممكن الذي لم يوجد بعد فاعلا لجميع الممكنات ونفسه من الممكنات فإن نفسه لا بد له من فاعل أيضا
وهذا المعترض اخذ المجموع المركب من الواجب والممكن فعارض به المجموع من الممكنات ولفظ المجموع فيه اجمال يراد به الاجتماع ويراد به جميع الأفراد ويراد به الامران فكانت معارضته في غاية الفساد فإن ذلك المجموع فيه واجب بنفسه لا يحتاج إلى غيره وما سواه من الأفراد والهيئة الاجتماعية مفعول له فهذا معقول
(3/258)
فالله تعالى هو الموجود الواجب بنفسه خالق لكل ما سواه وأما الهيئة الاجتماعية ان قدر لها وجود في الخارج فهي حاصلة به أيضا سبحانه وتعالى وأما المجموع الذي كل منه مفتقر إلى من يبدعه وليس فيه موجود بنفسه فيمتنع ان يكون فاعلهم واحدا منهم لأنه لا بد له من فاعل فلو كان فاعلهم ما كان فاعل نفسه وغيره من الممكنات ولزم ان يكون بعض اجزاء الممكنات كافيا في مجموع الممكنات و اذا كان مجموع الممكنات يمتنع ان يكون فاعلها فلأن يمتنع ان يكون بعضها فاعلا لها بطريق الأولى فإن ما يتعذر على المجموع يتعذر على بعضه بطريق الأولى وما يفتقر اليه المجموع يفتقر اليه بعضه بطريق الأولى وهذا المعترض اخذ ما يفتقر اليه المجموع لفظا مجملا فالافتقار قد يكون افتقار المشروط إلى شرطه وقد يكون افتقار المفعول إلى فاعله ثم أخذ يورد على هذا وعلى هذا ونحن نجيب على كل تقدير
الوجه الرابع ان يقال أتعني بجملة ما يفتقر اليه المجموع ما إذا وجد وجد المجموع وما لا يوجد المجموع إلا بوجوده كله مع قطع النظر عن كونه شرطا او فاعلا فإن جملة ما يفتقر اليه الشيء هو الجملة التي تشتمل على كل ما يفتقر اليه الشيء مفتقرا اليه فهو
(3/259)
داخل في هذه الجملة و اذا حصل كل ما يحتاج اليه الشيء لم يبق الشيء محتاجا إلى شيء أصلا فيلزم وجوده حينئذ فإنه ما دام مفتقرا إلى شيء لم يوجد و اذا حصل كل ما يتوقف وجوده عليه ولم يبق وجوده موقوفا على شيء أصلا لزم وجوده فيعني بجملة ما يتوقف وجود الشيء عليه الامور التي إذا وجدت وجد المجموع وان لم توجد جميعها لم يوجد المجموع
ومعلوم أنه إذا عنى به ذلك لم يمكن ان يكون ذلك بعضها لأنه يلزم حينئذ ان يكون بعض الاجزاء كافيا في المجموع فإنه قد فسر الجملة بما إذا حصل وجب حصول المجموع وان لم يحصل لم يجز حصوله فلو كان بعض الاجزاء هو تلك الجملة لوجب ان يكون ذلك البعض كافيا في حصول المجموع سواء قدر فاعلا لنفسه ولباقي الجملة أو قدر أن حصوله هو حصول المجموع او قدر غير ذلك من التقديرات الممتنعة فأي تقدير قدر كان ممتنعا فإن جملة ما يفتقر اليه المجموع لا يكون بعض المجموع بأي تفسير فسر وهو المطلوب
ولكن لفظ المجموع فيه اجمال فإنه قد يعني به مجرد الهيئة الاجتماعية وقد يعني به كل من الأفراد أو كل من الأفراد مع الهيئة الاجتماعية فإن عني به الأول فلا ريب ان هذا قد يكون بعض الأفراد موجبا له كما في المجموع المركب من الواجب والممكن فإن
(3/260)
الواجب هو الموجب للممكنات وهو الموجب أيضا للهيئة الاجتماعية والهيئة الاجتماعية امر ممكن خارج عن الواجب ليس هو بعض الهيئة الاجتماعية لكنه بعض الأفراد والهيئة نسبة و اضافة وليس هو بعض النسبة و الاضافة ولكن هو بعض الأفراد المنسوب بعضها إلى بعض والنسبة وسائر الأفراد غير له وهو الموجب لكل ما هو غير له
و اما المجموع الذي هو الأفراد فلا يكون بعضه هو الموجب لكل من الأفراد فان هذا يقتضي ان يكون ذلك البعض موجبا لنفسه فاعلا لذاته وهذا ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء بل هو من ابلغ الامور امتناعا والعلم بذلك من اوضح المعارف و اجلاها ولهذا لم يقل هذا أحد من العقلاء
و اذا المجموع كلا من الأفراد مع الهيئة فهو ابعد عن ان يكون واحد من الأفراد موجبا لنفسه ولسائر الأفراد ومع الهيئة الاجتماعية وهذا بين ولله الحمد والمنة
واعلم ان مثل هذه الاعتراضات مع صحة الفطرة وحسن النظر يعلم فسادها ومثل هذه االخواطر الفاسدة التي تقدح في المعلومات
(3/261)
لا نهاية لها ولا يمكن استقصاء ما يرد على النفوس من وساوس الشيطان ولولا ان هذين الرجلين اللذين كان يقال انهما من افضل اهل زمانهما في المباحث العقلية كلاميها وفلسفيها أورد كل منها ما ذكرت وصار ذلك عنده مانعا من صحة الطريق المذكور في إثبات واجب الوجود لما ذكرت ذلك لظهور فساده عند من له تصور صحيح لما ذكروه فضلا عمن نور الله قلبه
ثم ان هؤلاء الفلاسفة يقولون كما زعم الامدى ان كمال النفس الانسانية هو الاحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وهم مع هذا لم يعرفوا الموجود الواجب فأي شيء عرفوه
وقد بلغني بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم وهو الخونجي صاحب كشف الاسرار في المنطق وهو عند كثير منهم غاية في هذا الفن انه قال عند الموت اموت وما علمت شيئا إلا ان الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف عدمى اموت وما علمت شيئا
وذكر الثقة عن هذا الامدى انه قال أمنعت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئا إلا ما عليه العوام او كلاما هذا معناه
(3/262)
وذلك ان هذا الامدى لم يقرر في كتبه لا التوحيد ولا حدوث العالم ولا إثبات واجب الوجود بل ذكر في التوحيد طرقا زيفها وذكر طريقة زعم انه ابتكرها وهي اضعف من غيرها
وكان ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات وغيرهما يعظم طريقته ويقول ان الطريقة التي ابتكرها في التوحيد طريقة عظيمة او ما هو نحو هذا حتى افضى الأمر ببعض اعيان القضاة الذين نظروا في كلامه إلى ان قال التوحيد لا يقوم عليه دليل عقلي وانما يعلم بالسمع فقام عليه اهل بلده وسعوا في عقوبته وجرت له قصة
وكذلك الاصبهاني اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوما فقال له بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم عن المعارض فما وجدته
وكذلك حدثني من قرا على ابن واصل الحموي انه قال ابيت بالليل واستلقى على ظهري واضع الملحفه على وجهي وابيت
(3/263)
أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس واصبح وما ترجح عندي شيء كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة
وقد بسطنا الكلام في التوحيد وأدلته في غير هذا الموضع وذكرنا ان الناس قبلنا قد ذكروا له من الأدلة العقلية اليقينية ما شاء الله ولكن الانسان يريد ان يعرف ما قاله الناس وما سبقوا اليه وبينا أيضا ان القران ذكر من ذلك ما هو خلاصة ما ذكره الناس وفيه من بيان توحيد الإلهية ما لم يهتد اليه كثير من النظار ولا العباد بل هو الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه
وهؤلاء كما ذكرت انقسموا إلى أصحاب نظر وفكر وبحث واستدلال واصحاب ارادة وعبادة وتأله وزهد فكان منتهى اولئك الشك ومنتهى هؤلاء الشطح فأولئك يشكون في ثبوت واجب الوجود او يعجزون عن اقامة الدلالة عليه
و اذا لم يكن في الوجود واجب لم يوجد شيء فتكون الموجودات كلها معدومات فيفضى بهم سوء النظر إلى جعل الموجودات معدومات او تجويز كونها معدومات وجعل الموجود الواجب ممكنا وجعل الواجب ممكنا غاية التعطيل
والآخرون يجعلون كل موجود واجب الوجود ويجعلون وجود كل موجود هو نفس وجود واجب الوجود فلا يكون في الوجود وجود هو
(3/264)
عندهم مخلوق ولا مصنوع ولا مفتقر إلى غيره ولا محتاج إلى سواه فلا يكون في الوجود ما وجد بعد عدمه ولا ما عدم بعد وجوده وهذا فيه من جعل المعدوم موجودا ومن جعل الممكن واجبا وجعل العبد ربا وجعل المحدث قديما ما هو غاية الكفر والشرك والضلال
هذا مع ان إثبات الموجود الواجب الغني الخالق واثبات الموجود الممكن المحدث الفقير المخلوق هو من اظهر المعارف وابين العلوم
واما ثبوت الموجود المفتقر المحدث الفقير فيما نشاهده من كون بعض الموجودات يوجد بعد عدمه ويعدم بعد وجوده من الحيوانات والنباتات والمعدن وما بين السماء والأرض من السحاب والمطر والرعد والبرق وغير ذلك وما نشاهده من حركات الكواكب وحودث الليل بعد النهار والنهار بعد الليل فهذا كله فيه من حدوث موجود بعد عدمه ومعدوم بعد وجوده ما هو مشهود لبني ادم يرونه بأبصارهم
ثم إذا شهدوا ذلك فنقول معلوم ان المحدثات لا بد لها من محدث والعلم بذلك ضروري كما قد بين ولا بد من محدث لا يكون
(3/265)
محدثا وكل محدث ممكن والممكنات لا لها من واجب وكل محدث وممكن فقير مربوب مصنوع والمفتقرات لا بد لها من غني و المربوبات لا بد لها من رب والمخلوقات لا بد له من خالق
وأيضا فإنه يقال هذا الموجود إما ان يكون واجبا بنفسه و اما ان لا يكون واجبا بنفسه بل ممكنا بنفسه واجبا بغيره والممكن بنفسه الواجب بغيره لا بد له من واجب بنفسه فلزم ثبوت الواجب بنفسه على التقديرين
وأيضا فالموجود إما ان يكون محدثا و اما ان يكون قديما والمحدث لا بد له من قديم فلزم وجود القديم على التقديرين
وأيضا فالموجود إما ان يكون مخلوقا و اما ان لا يكون والمخلوق لا بد له من خالق فيلزم ثبوت الموجود الذي ليس بمخلوق على التقديرين
وأيضا فإما ان يكون خالقا و اما ان لا يكون وقد علم فيما ليس بخالق كالموجودات التي علم حدوثها انها مخلوقة والمخلوق لا بد له من خالق فعلم ثبوت الخالق على التقديرين
أيضا فالموجود إما غني عن كل ما سواه و اما مفتقر إلى غيره والفقير إلى غيره لا بد له من غني بنفسه فعلم ثبوت الغني بنفسه على التقديرين
(3/266)
فهذه البراهين و امثالها كل منها يوجب العلم بوجود الرب سبحانه و تعالى الغني القديم الواجب بنفسه
وابن سينا واتباعه كالرازي و الامدى و السهورودي المتقول واتباعهم سلكوا في إثبات واجب الوجود طريقة الاستدلال بالوجود وعظموها وظن من ظن منهم انها اشرف الطرق وانه لا طريق إلا وهو يفتقر اليها حتى ظنوا ان طريقة الحدوث مفتقرة اليها
وكل ذلك غلط بل هي طريقة توجب إثبات واجب الوجود بلا ريب لو كانوا يفسرون الممكن بالممكن الذي هو ممكن عند العقلاء سلفهم وغير سلفهم وهو الذي يكون موجودا تارة ومعدوما اخرى
فأما إذا فسر الممكن بالممكن الذي ينقسم إلى قديم واجب بغيره والى محدث مسبوق بالعدم كما هو قول ابن سينا واتباعه فلا يصح لهم على هذا الأصل الفاسد لا إثبات واجب بنفسه ولا إثبات ممكن يدل على الواجب بنفسه
وهذه الطريقة هي في الحقيقة مأخوذة من طريقة الحدوث
(3/267)
وطريقة الحدوث اكمل وابين فإن الممكن الذي يعلم انه ممكن هو ما علم انه وجد بعد عدمه او عدم بعد وجوده
هذا الذي اتفق العقلاء على انه ممكن وهو الذي يتحق ان يسمى ممكنا بلا ريب وهذا محدث فإذا كل ممكن محدث
واما تقدير ممكن لم يزل واجبا بغيره فأكثر العقلاء دفعوا ذلك حتى القائلون بقدم العالم كأرسطوا واتباعه المتقدمين وحتى هؤلاء الذين قالوا ابن سينا واتباعه لا يجعلون هذا من الممكن بل الممكن عندهم ما امكن وجوده وعدمه فكان موجودا تارة ومعدوما اخرى
وانما جعل هذا من الممكن ابن سينا واتباعه مع تناقضه وتصريحه بخلاف ذلك لما سلكوا في إثبات واجب الوجود الاستدلال بالموجود على الواجب فقالوا كل ما سواه يكون ممكنا بنفسه واجبا بغيره وجعلوا العالم قديما أزليا مع كونه ممكنا بنفسه
وهذا خلاف قول سلفهم وقول ائمة الطوائف سواهم وخلاف ما صرحوا أيضا به وهذا مما انكره ابن رشد وغيره على ابن سينا وبسط الكلام فيه له موضع اخر
(3/268)
والمقصود هنا ان هؤلاء الذين يدعون ان كمال النفس هو الاحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات هذا اضطرابهم في اشرف المعلومات الموجودات بل فيما لا تنجو النفوس إلا بمعرفته وعبادته ولكن لما سلموا للفلاسفة اصولهم الفاسدة تورطوا معهم في محاراتهم وصاروا يجرونهم كما يجر الملاحدة الباطنية الناس صنفا صنفا
والفلسفة هي باطن الباطنية ولهذا صار في هؤلاء نوع من الالحاد فقل ان يسلم من دخل مع هؤلاء في نوع من الالحاد في اسماء الله واياته وتحريف الكلم عن مواضعه
ونفس المقدمة الهائلة التي جعلوها غاية مطلوبهم وهو ان كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات مقدمة باطلة قد بسطنا الكلام عليها في الكلام على معجزات الانبياء لما تكلمانا على قولهم انها قوي نفسانية وذكرنا قطعة من كلامهم على ذلك وبينا ان قولهم ان كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات خطأ وضلال ومن هنا جعلوا الشرائع مقصودها إما اصلاح الدنيا واما تهذيب النفس لتستعد للعلم او لتكون الشريعة امثالا لتفهيم المعاد في
(3/269)
العقليات كما قوله الملاحدة الباطنية مثل أبي يعقوب السبحستاني وامثاله ولهذا لا يوجبون العمل بالشرائع على من وصل إلى حقيقة العلم ويقولون انه لم يجب على الانبياء ذلك وانما كانوا يفعلونه لانه من تمام تبليغهم الامم ليقتدوا بهم في ذلك لا لانه واجب على الانبياء وكذلك لا يجب عندهم على الواصلين البالغين من الأمة والعلماء
ودخل في ذلك طائفة من ظلال المتصوفة ظنوا ان غاية العبادات هو حصول المعرفة فإذا حصلت سقطت العبادات وقد يحتج بعضهم بقوله { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } سورة الحجر 99 ويزعمون ان اليقين هو المعرفة وهذا خطأ باجماع المسلمين اهل التفسير وغيرهم فان المسلمين متفقون على ان وجوب العبادات كالصلوات الخمس ونحوها وتحريم المحرمات كالفواحش والمظالم لا يزال واجبا على كل أحدها دام عقله حاضرا ولو بلغ ما بلغ وان الصلوات لا تسقط عن أحد قط إلا عن الحائض والنفساء او من زال عقله مع ان من زال عقله بالنوم فإنه يقضيها بالسنة المستفيضة المتلقاه بالقبول واتفاق العلماء واما من زال عقله بالاغماء ونحوه مما يعذر فيه ففيه نزاع مشهور منهم من يوجب قضاءها مطلقا كأحمد ومنهم من لا يوجبه كالشافعي ومنهم من يوجب قضاء ما
(3/270)
قل وهو مادون اليوم والليلة او صلوات اليوم والليلة كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك والمجنون لا يقضي عند عامتهم وفيه نزاع شاذ
فالمقصود من هذا ان الصلوات الخمس لا تسقط عن أحد له عقل سواء كان كبيرا او صالحا او عالما وما يظنه طوائف من جهال العباد واتباعهم وجهال النظار واتباعهم وجهال الإسماعيلية والنصيرية او اهل الحضرة او عمن خرقت لهم العادات او عن الائمة الإسماعيلية او بعض اتباعهم او عمن عرف العلوم العقلية او عن المتكلم الماهر في النظر او الفيلسوف الكامل الفلسفة فكل ذلك باتفاق المسلمين وبما علم بالاضطرار من دين الإسلام
واتفق علماء المسلمين على ان الواحد من هؤلاء يستتاب فإن تاب واقر بوجوبها وألا قتل فإنه لا نزاع بينهم في قتل الجاحد لوجوبها وانما تنازعوا في قتل من اقر بوجوبها وامتنع من فعلها مع ان اكثرهم يوجب قتله
ثم الواحد من هؤلاء إذا عاد واعترف بالوجوب فهل عليه قضاء ما تركه فهذا على ثلاثة انواع أحدهما ان يكون قد صار مرتدا ممتنعا
(3/271)
عن الإقرار بما فرضه الرسول فهذا حكمه حكم المرتدين وفيه للعلماء ثلاثة اقوال أحدهما انه لا يقضي ما كركه في الردة ولا قبلها لا من صلاة ولا صيام ولا زكاة بناء على ان الردة احبطت عمله وانه إذا عاد بإسلام جديد فيستأنف العمل كما هو معروف في مذهب أبي حنيفية ومالك وقول في مذهب احمد والثاني انه يقضي ما تركه في الردة وقبلها وهذا قول الشافعي واحدى الرويات عن احمد والثالث انه لا يقضي ما تركه في الردة ويقضي ما تركه قبلها كالرواية المشهورة عن احمد
وان كان الواحد من هؤلاء جاهلا وهو مصدق للرسول لكن ظن ان من دينه سقوط هذه الواجبات عن بعض البالغين كما يظن ذلك طوائف ممن صحب الشيوخ الجهال وكما يظنه طائفة من الشيوخ الجهال ولهم مع ذلك احوال نفسانية وشيطانية
فهؤلاء مبنى امرهم على ان ما ترك الصلاة قبل العلم بوجوبها فهل يقضي وفيهة ثلاثة اقوال منها وجهان في مذهب احمد أحدهما انه لا قضاء عليه بحال بناء على ان حكم الخطاب لا يثبت
(3/272)
في حق العبد إلا بعد الخطاب اليه والثاني عليه القضاء بكل حال كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وغيره والثالث يفرق بين من أسلم في دار الحرب ومن أسلم في غيرها كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة والأول أظهر الأقوال
وأيضا فقد تنازع الناس فيمن فوت الصلاة عمدا بغير عذر والصوم هل يصح منه القضاء أم قد استقر عليه الذنب فلا يقبل منه القضاء على قولين معروفين وليس هذا موضع هذا
وإنما المقصود هنا أنه ليس في علماء المسلمين من يقول بسقوط الصلاة عمن هو عاقل على أي حال كان
فمن تأول قوله تعالى { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } سورة الحجر 99 على سقوط العبادة بحصول المعرفة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل والمراد بالآية اعبد ربك حتى تموت كما قال الحسن البصري لم يجعل الله لعبادة المؤمن أجلا دون الموت وقرأ الآية
واليقين هو ما يعاينه الميت فيوقن به كما قال تعالى عن أهل النار { وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين } سورة المدثر 46 47 وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون قال
أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة ومن شركهم في نوع من إلحادهم لما ظنوا أن كمال النفس في مجرد العلم وظنوا أن ذلك إذا حصل فلا
(3/273)
حاجة إلى العمل وظنوا أن ذلك حصل لهم ظنوا سقوط الواجبات العامة عنهم وحل المحرمات العامة لهم
وضلالهم من وجوه
منها ظنهم أن الكمال في مجرد العلم
والثاني ظنهم أن ما حصل لهم علم
والثالث ظنهم أن ذلك العلم هو الذي يكمل النفس
وكل من هذه المقدمات كاذبة فليس كمال النفس في مجرد العلم ولا في أن تصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بل لا بد لها من العمل وهو حب الله وعبادته فإن النفس لها قوتان علمية وعملية فلا تصلح إلا بصلاح الأمرين وهو أن تعرف الله وتعبده
والجهمية هم خير من هؤلاء بكثير ومع هذا فلما قال جهم ومن وافقه إن الإيمان مجرد المعرفة أنكر ذلك أئمة الإسلام حتى كفر من قال بهذا القول وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما
(3/274)
وهذا القول وإن كان قد تابعه عليه الصالحي والأشعري في كثير من كتبه وأكثر أصحابه فهو من أفسد الأقوال وأبعدها عن الصحة كما قد بيناه في غير هذا الموضع لما بينا الكلام في مسمى الإيمان وقبوله للزيادة والنقصان وما للناس في ذلك من النزاع
وأما المقدمة الثانية فلو كان كمال النفس في مجرد العلم فليس هو أي علم كان بأي معلوم كان بل هو العلم الذي لا بد منه العلم بالله وهؤلاء ظنوا أنه العلم بالوجود بما هو موجود وظنوا أن العالم أبدي أزلي فإذا حصل له العلم بالوجود الازلي الابدي كملت نفسه
وعلى هذا بنى أبو يعقوب السجستاني وغيره من شيوخ الفلسفة والباطنية أقوالهم وكذلك امثالهم من الفلاسفة كالفارابي وغيره وابن سينا وان كان أقرب إلى الإسلام منهم ففيه من الالحاد بحسبه وابو حامد وان سلك احيانا مسلكهم لكنه لا يجعل العلم بمجرد الوجود موجبا للسعادة بل يجعل ذلك في العلم بالله وقد يقول في بعض كتبه انه العلم بالأمور الباقية وهذا كلامهم
فمن قال ان العالم أزلي أبدي قال بقولهم ومن قال ان كل ما سوى الله كان معدوما ثم وجد لم يلزمه ذلك وابن عربي وابن
(3/275)
سبعين ونحوهما جمعوا بين المسلكين فصاروا يجعلون كمال النفس هو العلم بالوجود المطلق ويقولون ان الله هو الوجود المطلق فأخذوا من طريقة الصوفية أنه العلم بالله وأخذوا من كلام هؤلاء أنه العلم بالوجود المطلق وجمعوا بينهما فقالوا ان الله هو الوجود المطلق
وأما المقدمة الثالثة فزعمهم أنهم حصل لهم العلم بالوجود وهذا باطل فإن كلامهم في الالهيات مع قلته فالضلال أغلب عليه من الهدى والجهل أكثر فيه من العلم وهي العلوم التي تبقى معلوماتها تكمل النفوس بها عندهم
وأما الطبيعيات فهي مبدأ الحركة والتغير والاستحالة ولكن منها كليات لا تنتقض بزعمهم وهي منتقضة
وهذه الامور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليه هنا لأن مثل هذا الامدي وأمثاله الذين عظموا طريقهم وصدروا كتبهم التي صنفوها في أصول دين الإسلام بزعمهم بما هو أصل هؤلاء الجهال من أن كمال النفس الانسانية بحصول مالها من الكمالات وهي الاحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وسلكوا طرقهم وقعوا في الجهل والحيرة والشك بما لا تحصل النجاة إلا به ولا تنال السعادة إلا بمعرفته فضلا عن نيل الكمال الذي هو فوق ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال
كمل من الرجال كثير فالكاملون من الرجال
(3/276)
كثير ولكن الذين سلكوا طريق هؤلاء من أبعد الناس عن الكمال
والمقصود هنا الكلام على ما سلكه هؤلاء المتأخرون في تقرير واجب الوجود والآمدي قد قررها في أبكار الافكار وأورد سؤالا على بعض مقدماتها في رموز الكنوز قد ذكرنا سؤاله وجوابه
وأما تقريره لها فقال في تقرير هذه الحجة النظر إلى الجملة غير النظر إلى كل واحد واحد من آحادها فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد وعند ذلك فالجملة موجودة فإما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لا جائز أن تكون واجبة كما تقدم وإن كانت ممكنه فلا بد لها من مرجح والمرجح إما داخل فيها وإما خارج عنها فإن كان داخلا فيها فالمرجح للجملة مرجح لآحادها
(3/277)
فيلزم ان يكون مرجحا لنفسه لكونه من الآحاد فيلزم ان يكون علة لنفسه معلولا لها وان كان خارجا عنها لم يكن ممكنا لأنه من الجملة فيكون واجبا
ثم أورد على ذلك قول السائل لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهى ليصح ما ذكرتموه ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهى مع اشعاره بالحصر صحته في المتناهى سلمنا ان مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وانه ممكن لكن لا نسلم انه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية وحينئذ فلا يلزم ان يكون معللا بغير علة الآحاد سلمنا انه زائد على الآحاد ولكن ما المانع ان يكون مترجحا بآحاده الداخلة فيه لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه بل طريق ترجيحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من آحاده بالاخر إلى غير النهاية وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة ولا ان يكون المرجح للجملة مرجحا لنفسه ولا لعلته
(3/278)
ثم قال في الجواب قولهم لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهى قلنا مسمى الجملة هو ما وصفتموه بكونه غير متناه ولا شك انه غير كل واحد من الآحاد إذ كل واحد من الآحاد متناه والموصوف بما لا يتناهى هو الاعداد المفروضة بحيث لا يخرج عنها واحد قولهم لا نسلم ان مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية
قلنا ان أردتم ان مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الاحالة وان اردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الاعداد فلا خفاء بكونه زائدا على كل واحد من الآحاد وهو المطلوب
ولقائل ان يقول يريدون بالجملة كل الآحاد لا كل واحد منها ولا يسلمون ان كل الآحاد أمر مغاير للاحاد المتعاقبة
قولهم ما المانع من أن تكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه
(3/279)
قلنا إما ان يقال تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها او بواحد منها فإن كان يوجد منها فالمحال الذي ألزمناه حاصل وان كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال
قلت ولقائل ان يقول الحجة المذكورة لا تحتاج إلى إثبات كون الجملة غير الآحاد وان كان ذلك حقا فإنه يقال لمن قال لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهى لا يخلو إما ان يكون هنا جملة غير الآحاد واما ان لا يكون فإن كان بطل سؤاله وان لم يكن كان ذلك أبلغ في الحجة فإن كل واحد من الآحاد ممكن وليس هنا جملة يمكن ان تكون واجبة فكل من الممكنات يمتنع ان يوجد بنفسه او بممكن آخر كامتناع وجود الجملة الممكنة بكل من الممكنات
وقد أورد هو هذا السؤال فكان فيه كفاية من ان يقرر امورا إذا حذفها كان ابلغ في الحجة واقوى لها
وكذلك السؤال الثاني وهو قوله سلمنا ان مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وانه ممكن لكن لا نسلم انه زائد اعلى الآحاد المتعاقبة فلا يكون معللا بغير علة الآحاد فان هذا السؤال هو
(3/280)
نظير الأول بل هو مع تغير العبارة فإن من نفي وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي لم ينازع في وجود كل واحد واحد من الآحاد المتعاقبة فإذا سلم مفهوم الجملة فيما لا يتناهى وفسر ذلك بالآحاد المتعاقبة كان باقيا على منعه الأول لكن من الناس من يقول الجملة لا تعقل إلا في المتناهى ومنهم مند قد ينازع في الجملة هل لها الجملة هل لها حقيقة غير كل واحد من الآحاد فلهذا جعلهما سؤالين
وبكل حال فالسؤال ان كان متوجها كان ذلك اقوى في الحجة وان لم يكن متوجها لم يرد بحال وذلك انه إذا لم يكن للجملة حقيقة غير كل واحد واحد لم يكن هنا مجموع نحتاج ان نصفه بوجوب او إمكان غير كل واحد واحد وتلك كلها ممكنة فتكون الحجة على هذا التقدير اقل مقدمات فانه إذا كانت الجملة غير الآحاد احتيج إلى نفي وجوبها بنفسها او بالآحاد إما إذا قدر انتفاء ذلك لم يحتج إلى ذلك فلا يحتاج إلى نفي الوجوب عنها لا بنفسها ولا بالآحاد
ولهذا قال في الاعتراض إذا لم تكن الجملة غير الآحاد لم يلزم ان تكون معللة بغير علة الآحاد
وهذا مما يقوى الحجة فإنها إذ لم تكن معللة بغير علة الآحاد ومعلوم انه لا بد من إثبات علة الآحاد فذلك وحده كاف بخلاف ما إذا كانت غيلا الآحاد فإنه يحتاج إلى نفي وجوبها او بالآحاد
(3/281)
وهذا هو السؤال الثالث وهو قوله ما المانع ان يكون المجموع وهو الجملة مترجحا باحاده الداخلة فيه لا بواحد منها بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه بترجح كل واحد من احاده بالاخر إلى غير نهاية
وقد اجاب عن هذا بقوله مجموع الآحاد نفس الجملة المفورضة وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال
وهذا السؤال هوالذي ذكره في كتابه الآخر وذكر انه لايعرف له جوابا حيث قال ما المانع من ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير النهاية
قال وهذا اشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله والجواب الذي ذكر عنه إنما يستقيم إذا ارادوا بالجملة كل واحد واحد من الاجزاء ولم يجعلوا للاجتماع قدرا زائدا وجعلوا الاجتماع جزءا فانه حينئذ يقال الجملة هي الآحاد فأما إذا أريد بالجملة الاجتماع وهو الهيئة الاجتماعية وان ترجحها بالآحاد المتعاقبة لم يكن الجواب صحيحا
(3/282)
وهذا هو الذي استشكله في كتابه الآخر وحينئذ يكون السؤال لم لا يجوز ترجح الاجتماع بالآحاد المجتمعة وترجح كل واحد بالاخر وليس الجملة هو الآحاد المتعاقبة كما تقدم بل هو الهيئة الاجتماعية ولكن يمكن تقرير هذا الجواب إذا جعلت الهيئة الاجتماعية جزءا من اجزاء الجملة وهذا امر اصطلاحي فان المجموع المركب من اجزاء قد يجعل نفس الاجتماع ليس جزءا من المجموع وقد يجعل جزءا من المجموع فإذا جعل الاجتماع جزءا من المجموع كان تقرير السؤال ان هذا الجزء معلل بسائر الاجزاء وترجح كل جزء بالاخر وترجح جزء ممكن بجزء ممكن كترجح جزء ممكن باجزاء ممكنة وحينئذ فاجابته بقوله مجموع الآحاد نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه ليس بجواب مطابق فإنهم لم يدعوا ترجح المجموع بالمجموع بل ترجح الاجتماع بكل واحد من الاجزاء المتعاقبة والاجتماع وان كان جزءا فليس هو من الاجزاء المتعاقبة لكن هذا فيه ترجيح بعض الاجزاء ببعض فهو كتعليل بعض الممكنات ببعض فيعود الأمر ويقال فالمجموع هو واجب بنفسه او ممكن معلول لنفسه او معلول ببعضه او بخارج عنه كما تقدم تقرير ابن سينا لحجته
وقد تقدم ان المجموع إما ان لا يكون له علة بل هو واجب
(3/283)
بنفسه وهذا باطل كما تقدم واما ان يكون له علة وهو المجموع او بعضه او ما هو خارج عنه كما يقال نظير ذلك في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام
فلهذا قال في القسم الثاني واما ان يقتضي المجموع علة هي الآحاد بأسرها فتكون معلولة لذاتها فان تلك الجملة والكل شيء واحد واما الكل بمعنى كل واحد فليس تجب به الجلمة
يقول ان كان المقتضي للمجموع هي الآحاد بأسرها بحيث تدخل فيها الهيئة الاجتماعية لزم ان تكون الجملة الممكنة معلولة لذاتها فان الجملة والكل والمجموع شيء واحد بخلاف ما إذا أريد بالكل كل واحد واحد فان الجملة لا تجب بكل واحد واحد إنما تجب بمجموع الآحاد كالعشرة لا تحصل بكل فرد فرد من افرادها وكذلك سائر المركبات وانما يحصل المركب بمجموع اجزائه التي من جملتها الهيئة الاجتماعية ان جعلت الهيئة الاجتماعية امرا وجوديا وان لم تجعل كذلك لم يحتج إلى هذا بل يقال المجموع هو الآحاد بأسرها وليس هنا غير الآحاد
ولعل ابن سينا اراد هذا ولهذا اوردا عليه تلك الاسولة
(3/284)
وهو ان المجموع مغاير للاحاد وانه يجوز ان يجب المجموع بالآحاد المتعاقبة ونحو ذلك مما تقدم
وأما القسم الثالث وهو ان يكون للمجموع علة هي بعضه فهذا قد ابطله بقوله ليس بعض الآحاد اولى بذلك من بعض ان كان واحد منها معلولا ولان علته اولى بذلك
وهذان ان وجهان في تقرير ذلك أحدهما ان كل جزء من الاجزاء إذا كان ممكنا ومن ذلك الهيئة الاجتماعية فليس وجوب المجموع بهذا الجزء بأولى من هذا لانه متوقف على كل جزء جزء منها
والثاني ان كل واحد من تلك الاجزاء معلول لغيره فعلته اولى ان تكون هي الموجبة للجميع منه سواء قيل ان علة المجموع واحد معين او واحد منها غير معين واما إذا قيل كل واحد واحد فذلك ابعد لانه يقتضي اجتماع مؤثرين مستقلين على اثر واحد وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء
فإن قيل إذا كان المجموع هو الاجزاء ونفس الاجتماع فهذا لا يفتقر إلى شيء منفصل
قيل هذا هو القول بوجوب ذلك بنفسه وقد تقدم ابطاله فانه يكون كل جزء ممكنا بنفسه والاجتماع ممكن بنفسه ولم يكن هنا
(3/285)
ما يغاير ذلك حتى يقال هو واجب بنفسه فلا يمكن ان يكون هنا ما هو واجب بنفسه
وقد ابطل غيره هذا القسم بوجهين أحدهما ذكره الرازي والامدى ان ما كان سبب المجموع كان سبب كل واحد من اجزاء ذلك المجموع فلو قدر جزء من اجزاء المجموع سببا لزم كون ذلك الجزء سببا لنفسه فيلزم كون الممكن علة معلولا وأيضا فذلك الجزء معلول فإذا كان مرجحا للمجموع كان مرجحا لعلته فيكون علة لعلته فصل
ولم يذكر ابن سينا ولا غيره في إثبات واجب الوجود قطع الدور كما يذكر الجمهور قطع التسلسل لظهور فساده وقد ذكرنا غير مرة ان المقدمة إذا كانت معلومة مثل علمنا بأن المحدث لا بد له من محدث بل مثل علمنا ان هذا المحدث له محدث كان العلم بها كافيا في المطلوب وان ما يرد على الامور المعلومة هو من جنس شبه السوفسطائية التي لا نهاية لها فيجب الفرق بين ما يكون من المقدمات خفيا على أكثر الناس يحتاج إلى بيان وما يكون معلوما لاكثر الناس والشبه الواردة عليه من جنس شبه السوفسطائية
ولما كان اهل الكلام كثيرا ما يوردون ويورد عليهم ما هو من جنس شبه السوفسطائية كما يورده الكفار الذين يجادلون بالباطل ليد حضوا به
(3/286)
الحق لم يكن لهذا حد محدود ولا عد معدود بل هو بحسب ما يخطر للقلوب فلهذا صار كلما طال الزمان أورد المتاخرون اسولة سوفسطائية لم يذكرها المتقدمون
وزاد المتأخرون مقدمة في الدليل لدفع ذلك السؤال فزادوا اولا ان المحدث لا يختص بوقت دون وقت إلا بمخصص والاوقات متماثلة والامور المتماثلة يمتنع اختصاص بعضها دون بعض إلا بمخصص منفصل
ثم زادوا بعد هذا ان التخصيص ممكن والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إذ لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وزادوا ان المرجحات يمتنع تسلسلها كما تقدم ثم زادوا بعد هذا قطع الدور
وكذلك ابن سينا لم يذكر في برهانه ان الممكن لا يوجد من نفسه فلا بد ان يوجد بغيره فقال الرازي لا يلزم من صحة قولنا ليس الممكن موجودا من ذاته صحة قولنا إنه موجود بغيره لأن بين القسمين واسطة وهي ان لا يكون وجوده من شيء أصلا لا من ذاته ولا من غيره واذا كان كذلك لم يتم البرهان إلا بذكر هذا القسم وابطاله إما بادعاء الضرورة في فساده او بذكر البرهان على فساده
قال وهو لم يفعل شيئا من ذلك
(3/287)
فيقال له كون وجود الشيء لا من نفسه ولا من غيره هو مما يعلم فساده بالضرورة والامور المعلومة الفساد بالضرورة لا يجب على كل مستدل تقديرها ونفيها فان هذا لا غاية له وانما يذكر الانسان من ذلك ما قد قيل او خطر بالبال فأما الذهن الصحيح الذي يعلم بالضرورة فساد مثل هذا التقدير فهو لا يورده على نفسه ولا يورده عليه غيره وانما يقع الايراد عند الشك والاشتباه فإن قدر من الناس من يشك في هذا احتاج مثل هذا إلى البيان وقد قلنا ان الاسولة السوفسطائية ليس لها حد محدود ولا عد معدود وهذا نظير قول القائل ان المحدث الذي كان بعد ان لم يكن يحدث نفسه وهذا كله من العلوم البديهية الضوروية الفطرية التي هي من ابين الامور عند العقلاء
لو احتاج المستدل ان يذكر من الأقسام ما يخطر ببال كل أحد وان كان فساده معلوما بالضرورة لقال الممكن إذا لم يوجد بنفسه فإما ان يوجد بموجد او بغير موجد واذا وجد بموجد فذلك الموجد إما ان يوجده وهو معدوم أو يوجده وهو موجود
ثم يريد ان يبطل الثاني بأن الموجد لا يوجد وهو معدوم كما فعل ذلك طائفة من اهل الكلام واذا اراد ان يبطل ذلك قال والمعدوم لا يكون موجدا لان العدم لا يتميز فيه شيء عن شيء والموجد
(3/288)
لا بد ان يتميز عن غيره واذا قيل المعدوم يتميز فيه شيء عن شيء على قول من يقول المعدوم شيء تبين ان المعدوم ليس بشيء فيكون إثبات وجود الصانع موقوفا على ابطال قول هؤلاء كما فعل ذلك طائفة من اهل الكلام
ومن المعلوم ان ابطال هذا ادق من ابطال كون الشيء الذي لا يكون وجوده من نفسه يكون موجودا لا بنفسه ولا بغيره إذ كان من المعلوم البين لكل أحد ان مالم يوجد بنفسه فلا بد ان يكون وجوده بغيره واما تقدير موجود لم يوجد بنفسه ولا بغيره فهو ممتنع فإنه لا يعني بكونه موجودا بنفسه ان نفسه اوجدته إذ كان هاذ معلوم الامتناع بل يعني انه لا يحتاج في وجوده إلى غيره بل وجوده واجب بنفسه فهو موجود ازلا وابدا فظهور صحة هذا الكلام وبطلان نقيضه ابين مما يستدل به عليه بل يمكن هنا ايراد اسولة اخرى يطول بها الكلام
وقال الرازي أيضا قد كان الواجب على ابن سينا ان يتكلم قبل هذا الفصل في بيان ان سبب الممكن لا يكون مقدما عليه تقدما زمانيا فإنه لو جاز ذلك لما امتنع اسناد كل ممكن إلى اخر قبله لا إلى أول وذلك عنده غير ممتنع فكيف يمكن ابطاله لاثبات واجب الوجود واما إذا قامت الدلالة على ان السبب لابد من وجوده مع المسبب فحينئذ لو حصل التسلسل لكانت تلك الاسباب والمسببات بأسرها حاضرة معا وذلك عنده محال
(3/289)
والبرهان الذي ذكره في ابطال التسلسل أيضا مختص بهذه الصورة فكان الأولى اللاكم في هذه المسالة لكن لما كان في عزمه ان يذكره في موضع اخر وهو النمط الخامس من هذا الكتاب لا جرم تساهل فيه ههنا
قلت مثل هذا الكلام هو الذي اوجب ان يدخل هذا القسم من ادخله في هذا الدليل كالامدى وغيره ولا حاجة اليه بل ما ذكره ابن سينا كاف
والدليل الذي ذكره على إبطال التسلسل في العلل يوجب ابطال علل متسلسلة سواء قدرت مجتمعة أو لا كما قد تبين من كلامه وهو لا يجوز عللا متسلسلة لا متعاقبة ولا غير متعاقبة وإنما يجوز حوادث متسلسلة وتلك عنده شروط لحدوث الحوادث لا علل ولا أسباب بمعنى العلل ولا يجوز عنده إسناد كل ممكن إلى ممكن قبله أصلا ولكن يجوز أن يكون وجوده مشروطا بوجود ممكن قبله وبين العلة والشرط فرق معروف
ومن هنا دخل الغلط على الرازي في هذا الاعتراض ولهذا كان سائر من تكلم في إبطال العلل المتسلسلة لم يحتج إلى ذكر هذا القسم أصلا ولا يقولون إن الممكن أو الحادث الذي يوجد قبل الممكن أو الحادث هو علة أيضا ولا هو مستند وجوده وإنما يقولون هو شرط فيه
(3/290)
وأيضا فإسناد كل ممكن إلى آخر قبله إما أن يراد به أنه يستند إلى آخر موجود قبله فيستمر الوجود إلى حين وجود الممكن المفعول وإما أن يراد به إلى آخر يكون موجودا قبله ويعدم قبله
فإن أريد الأول فمعلوم أنه إذا بطل إسناده إلى ممكن موجود مع وجوده كان هذا متناولا لما يوجد مع ذلك قبل وجوده ولما لم يوجد إلا عند وجوده فلا حاجة إلى تخصيص ما وجد قبل وجوده بالذكر كما لا يحتاج إلى تخصيص ما يبقى بعد وجوده بالذكر إذ الدليل يتناول كل ما كان موجودا عند وجوده سواء وجد قبل ذلك أيضا أو بعد ذلك أيضا أو لم يكن موجودا إلا حين وجوده
وأما أن أريد استناده إلى آخر يكون موجودا قبله ويعدم أيضا قبله وهذا هو الذي أراده الرازي لم يحتج أيضا إلى هذا لوجوه
أحدها أنه إذا بطل إسناده إلى ممكن موجود حال وجوده فبطلان إسناده إلى ممكن يعدم حين وجوده أولى وأحرى فإذا قام الدليل على بطلان تسلسل العلل الممكنة مع كونها معا في الوجود فبطلان التسلسل مع تعاقبها أظهر وأجلى
الثاني أن الدليل الدال على بطلان التسلسل في العلل هو دليل مطلق عام سواء قدرت متقارنة أو متعاقبة فإن جميع ما ذكر من
(3/291)
الأدلة الدالة على أن مجموع الممكنات مفتقرة إلى أمر خارج عنها يتناول جميع الأنواع التي يقدرها سواء قدر أنها متسلسلة على سبيل الاقتران أو على سبيل التعاقب وسواء قدرت مع التعاقب بعدم الأول عند وجود الثاني أو يبقى بعد وجوده أو لا يكون وجوده إلا مع وجوده لا سابقا ولا لاحقا وكذلك إذا قدرت مع الاقتران لا يكون بعضها قبل بعض ولا بعده أو يوجد بعضها قبل بعض أو بعده فمهما قدر من التقديرات التي تخطر بالبال في تسلسل المؤثرات فما ذكر من الأدلة يبطل ذلك كله ويبين امتناعه فتبين أن ما ذكره ابن سينا كاف في ذلك لا يحتاج إلى الزيادة التي زادها الرازي والآمدي
الثالث أنه إذا كانت الممكنات محتاجة إلى خارج عنها ليس بممكن بل هو واجب الوجود بنفسه فذلك يمتنع عدمه ويجب وجوده فكان نفس إثبات واجب الوجود كافيا في أنه يستمر الوجود حال وجود الممكن لا يحتاج إلى ذلك الواجب
الرابع أن ما ذكروه من الممكن يفتقر إلى الواجب وإنما لا يكون افتقاره إليه مختصا ببعض الأزمنة أن الواجب
وقال الرازي أيضا لما شرح طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود
(3/292)
وأبطل التسلسل قد بقي هنا كلام آخر وهو إبطال الدور وهو أن يكون هذا يترجح بذاك وذاك يترجح بهذا
قال واعلم أن الدور باطل والمعتمد في إبطاله أن يقال العلة متقدمة على المعلول ولو كان كل منهما علة للآخر لكان كل منهما متقدما على الآخر فيكون كل منهما متقدما على المتقدم على نفسه فيلزم تقدم كل منهما على نفسه وهو محال
وأورد على هذا ما مضمونه أن التقدم إن كان غير كون أحدهما علة للآخر فلا نسلم الأولى وإن كان هو كون أحدهما علة للآخر كان اللازم هو الملزوم فيكون المعنى لو كان أحدهما علة للآخر لكان علة للآخر
ثم قال والإنصاف أن الدور معلوم البطلان بالضرورة ولعل الشيخ إنما تركه لذلك
قلت هذا هو الصواب فإن بطلان الدور معلوم بالضرورة ولأجل هذا لا يخطر لأكثر العقلاء حتى يحتاجوا إلى نفيه عن قلوبهم كما لا يخطر لهم أن الفاعل للموجودات يكون معدوما ولا يخطر لهم أن الشيء يحدث أو يكون لا بنفسه ولا بغيره بل ولا يخطر لهم أنه يمكن أن تكون مفعولات متعاقبة لا فاعل لها وهو تسلسل العلل فيكون معلول مفعول لمعلول مفعول والمعلول المفعول معلول لمفعول آخر لا إلى نهاية فأكثر الأذهان الصحيحة لا يخطر لها إمكان هذا
(3/293)
حتى تحتاج إلى نفيه وكذلك لا يخطر لها أنه يمكن وجود شيئين كل منهما فعل الآخر بل هم يعلمون أن الشيء لا يفعل نفسه فكيف يفعل فاعل نفسه
وقول القائل إنه لو كان كل منهما فاعلا للآخر أو مؤثرا في الآخر أو علة في الآخر لكان كل منهما قبل الآخر كلام صحيح
وأما قول المعترض إن أريد بالتقدم تقدم العلة على المعلول فاللازم هو الملزوم وإن أريد غيره فإنه ممنوع
فهذا عنه جوابان أحدهما أن يراد به التقدم المعقول في فطر الناس من تقدم الفاعل على المفعول وهو كونه قبله بالزمان أو تقدير الزمان وعلى هذا جمهور العقلاء
بل قد يقولون إن هذا معلول بالضرورة وهو كون الفاعل سابقا متقدما على مفعوله وإنه يمتنع أن يكونا متساويين في زمان الوجود
وهذ مما يستدل به على أن كل ما سوى الله حادث ليس في الموجودات ما يقارن الخالق ويكون معه بالزمان ولا يعرف في الوجود مفعول معين قارن فاعله في زمانه أصلا وإنما يعرف هذا في الشرط والمشروط فإن الشرط قد يقارن المشروط فلا يوجد قبله وقد يوجد قبله لكن لا بد من وجوده معه كما أن الحياة إذا كانت شرطا في العلم والإرادة أمكن أن تكون متقارنة في صفات الله تعالى فإن حياته
(3/294)
وعلمه معا لم يسبق الآخر والعلم مشروط بالحياة وكذلك الذات مع الصفات اللازمة لا يوجد أحدهما قبل الآخر بل هما متلازمان ولا يوجد أحدهما إلا مع الآخر
وقد يكون الشرط سابقا كالاعراض التي لا توجد إلا بمحل وقد يكون المحل موجودا قبل وجود الاعراض وكما في افعال الله الحادثة فإنها مشروطة بوجود ذاته وذاته متقدمة عليها
وما ذكره من ذكره من اهل الفلسفة والكلام في مسالة حدوث العالم وغيرها من ان التقدم ينقسم الى تقدم بالذات والعلية وقد يسمى الأول تقدما بالعلية والثاني تقدما بالذات كتفدم العلة على المعلول وتقدم بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين
وفرقوا بينهما بأنه في الأول يكون المتقدم فاعلا للمتاخر وفي الثاني يكون شرطا فيه ومثلوا الأول بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم والكم فإنك تقول تحركت يدي فتحرك الخاتم فيها فزمانهما واحد مع العلم بأن الأول متقدم على الثاني وينقسم إلى التقدم بالزمان وبالرتبنة الحسية او العقلية
وزاد طائفة منهم الشهرستاني والرازي ومن اتبعهما تقدما اخر بمطلق الوجود وجعلوا التقدم بعض اجزاء الزمان على بعض
(3/295)
منه فيجيب عنه من يوافق جمهور العقلاء بأن التقدم المعقول إنما هو التقدم بالزمان او تقدير الزمان على النزاع المعروف في هذا الموضع
واما التقدم بالمكان والمرتبة فهو تابع لهذا لما كان المتقدم في المكان يتحرك قبل حركة المتأخر كتحرك الامام قبل الماموم والامير قبل المأمور
واما التقدم بالعلية فان عني به هذا وألا فلا حقيقة له فلا تعقل علة تامة تكون هي بسائر اجزائها مقارنة لمعلولها أصلا
وقول القائل تحركت يدي فتحرك الخاتم ليس هو من تقدم الفاعل على المفعول فإن حركة اليد ليست هي الفاعل لحركة الخاتم لكن هي شرط فيها فلا توجد حركة الخاتم التابعة لحركة اليد إلا بشرط وجود حركة اليد التي هي متبوعة كما ان حركة الاصابع لا توجد إلا بحركة الكف
فإن قيل الحركتان معا في الزمان فالفاعل لهذه هو الفاعل للاخرى وهو متقدم عليهما جميعا
(3/296)
وان قيل بل أحداهما عقب الاخرى في الزمان كاجزاء الزمان المتلاحقة بطل قول القائل انهما معا في الزمان
وكثيرا ما يشتبه على الناس الوجود مع الشيء بالوجود عقبه بل يطلقون لفظ لمع على المعاقب له ويقولون جاءا معا وان كان مجيء أحدهما معاقبا للاخر إذا لم يكن بينهما فصل بل يطلقون ذلك مع قرب الآخر فالحادثان إذا كان زمانهما واحدا او حدث أحدهما عقب حدوث الآخر بلا فصل كاجزاء الحركة والزمان لم يميز اكثر الناس بين هذا وهذا بالحس
وحينئذ فقول القائل تحركت يدي فتحرك كمي
يقال له لم لا يجوز ان يكون هذا مع هذا كاجزاء الحركة والزمان بعضها مع بعض والحركة تحدث شيئا فشيئا من الفاعل والقابل فمن حرك سلسلة او حبلا معلق الطرفين فإنه إذا حرك أحد الطرفين تحرك شيئا فشيئا حتى تنتهي الحركة إلى الطرف الآخر وهي متعاقبة كتعاقب زمان تلك الحركة وليست اجزاء الحركة وزمانها متقارنة في الزمان وانما يتحرك معا في الزمان ما لاتكون الحركة في أحدهما اسبق من الآخر مثل البدن إذا تحرك منتقلا فان اجزاء البدن تتحرك في ان واحد لا يسبق بعضها بعضا إلا ما تقدم من الحركة كما تقدم احدى الرجلين على الاخرى بخلاف خرزات الظهر المتصلة تتصل
(3/297)
حركتها فإذا حركت يده تحركت جميع اجزائها وما فيها كالخاتم وما يتصل بها كالكم فيكون حكمها حكم الجسم المتصل إذا تحرك والحركة المنفصلة عن اخرى كحركة الرجل قبل الرجل يشهد فيها التقدم بالزمان لوجود المنفصل واما مع الاتصال فقد يشتبه المتصل بالمقارن وحينئذ فأي حركة كانت من قبل المتصل فهي متصلة بما قبلها كاتصال اجزاء زمان الحركة فليس هناك اقتران في الزمان
واذا قيل في حركة الكم ان زمانها زمان حركة اليد كما يقال مثل ذلك في سائر المتحركات معا بالزمان فهنا لا نسلم ان احدى الحركتين فاعلة للاخرى بل غايتها ان تكون شرطا فيها والشرط يجوز ان يقارن المشروط بخلاف الفاعل فإنه لا بد ان يتقدم على الفعل المعين والمفعول المعين وان قدر ان نوع الفعل لازم له كما إذا قدر قديم ازلى متحرك لم يزل متحركا فإنه سيتقدم على كل جزء من اجزاء الحركة لازما له فمن جوز وجود جسم قديم لم يزل متحركا لا يقول ان شيئا معينا من الحركة قديم ازلى بل يقول نوع من الحركة ازلى وان كان كل منها حادثا كائنا بعد ان لم يكن مسبوقا بالعدم
و المتفلسفة القائلون بقدم شيء من العالم لا دليل لهم على ذلك اصلا بل غايه ما عندهم إثبات قدم نوع الفعل وقدم نوع الفعل لا يستلزم قدم فعل معين ولا مفعول معين بل ذلك ممتنع
(3/298)
وقول القائل العلة متقدمة على المعلول وان قارنته بالزمان وجعله الباري مع العالم بهذه المنزلة
يقال له ان اردت بالعلة ماهو شرط في وجود المعلول لا مبدعا له كان حقيقة قولك ان واجب الوجود ليس هو مبدعا للممكنات ولا ربا لها بل وجوده شرط في وجودها وهذا حقيقة قول هؤلاء فالرب على اصلهم والعالم متلازمان كل منهما شرط في الآخر والرب محتاج إلى العالم كما ان العالم محتاج إلى الرب وهم يبالغون في إثبات غناه عن غيره وعلى اصلهم فقره إلى غيره كفقر بعض المخلوقات
وغاية المتحذلق منهم كأرسطو ان يجعل الفلك واجب الوجود لا يقبل العدم مع كونه مفتقرا إلى المبدا الأول لأجل التشبه به ويجعل المبدأ الأول غنيا عما سواه لكن من التناقص ان يقول ان واجب الوجود مفتقرالى غيره وأيضا فالأزلي الذي يثبته لا حقيقه له كما قد بسط في موضع اخر
وان اراد بالعلة ما هو مبدع للمعلول له فهذا لا يعقل مع كون زمانه المعلول لم يتقدم على المعلول تقدما حقيقيا وهو التقدم المعقول
(3/299)
واذا شبهوا وجود الفلك مع الرب بالصوت مع الحركه والضوء مع الشمس كان هذا ونحوه تشبيها باطلا لا يفيد إمكان صحة قولهم فضلا عن إثبات صحته فان هذه الامور وامثالها إما ان يقال فيها ان الثاني موجود متصل بالأول كأجزاء الزمان والحركة لا أنه معه في الزمان وإما أن يقال الثاني مشروط بالأول لا ان الأول مبدع للثاني فاعل له فلا يمكنهم ان يذكروا وجود فاعل لغيره مع ان زمانهما معا أصلا
ونحن ذكرنا هذا التقسيم لئلا يكون الجواب مبنيا على امور دقيقة يختص بفهمها بعض الناس فإن الجواب كلما كان اظهر واتفاق العقلاء عليه اكثر كان اولى بالذكر من غيره إذ المقصود بيان الحق وابطال الباطل وألا فيمكن بسط الكلام في هذا وان يقال السبب لابد ان يتقدم على مسببه بالزمان وان الفاء المستعمله في هذا هي فاء التعقيب
فقول القائل تحركت يدي فتحرك كمي يدل على ان الثاني عقب الأول ويقال إن فاء التسبب تتضمن التعقيب من غير عكس فكل مسبب فإنه يكون بعد سببه فليس كل ما كان عقب
(3/300)
غيره يكون مسببا عنه بل قد يكونان مسببين لسبب اخر وان كان شرطا فيه
ثم الكلام في هذا ينجر إلى الفرق بين السبب وجزئه والشرط وليس هذا موضع استقصائه فإن المقصود حاصل بدون ذلك وإنما المقصود هنا أن تقدم العلة الفاعلة على المعلول المفعول أمر معقول عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين وإنما يجوز كون المفعول المعلول مقارنا لفاعله طائفة قليلة من الناس كابن سينا والرازي ونحوهما
وقد زعم الرازي في محصله وغيره أن المتكلمين والفلاسفة يجوزون وجود الممكن القديم عن موجب بالذات وهي العلة القديمة
لكن المتكلمون يقولون إنه فاعل بالاختيار فلهذا يمنعون قدم شيء من الممكنات والمتفلسفة يقولون إنه غير فاعل بالاختيار فلهذا قالوا بقدم معلوله وهذا الذي قاله غلط على الطائفتين جميعا كما قد بسطناه في موضع آخر
فالمتكلمون الذين يقولون بامتناع مفعول قديم يقولون إن ذلك ممتنع على أي وجه قدر فاعله ويقولون كون الرب فاعلا بغير الاختيار ممتنع أيضا وليس امتناع أحدهما مشروطا بالعلم بامتناع الآخر
والفلاسفة القائلون بقدم الأفلاك لهم قولان في العلة الأولى هل هي فاعلة بالاختيار أو موجبة بلا اختيار
(3/301)
وقد ذكر القولين عنهم أبو البركات صاحب المعتبر وغيره وهو يختار أنه فاعل بالاختيار مع قوله بقدم الفعل وليست مسألة القدم ملازمة لمسألة الفاعل بالاختيار لا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء كما ادعاه الرازي على الطائفتين وكذلك القول بإمكان معلول مفعول مقارن لفاعله هو قول بعض القائلين بقدم العالم لا قولهم كلهم ولا قول واحد من أتباع الرسل ولا ممن يقول بأن الله خالق لما برأه محدث له وحينئذ فالقول بتقدم الفاعل على مفعوله تقدما معقولا زمانيا وإما مقدرا تقدير الزمان قول جمهور العقلاء فهذا أحد الجوابين
الوجه الثاني أن يقال هب أنهم أرادوا بالتقدم تقدم العلة على المعلول من غير تقدم بالزمان ولا تقدير الزمان وكان اللازم هو الملزوم لكن الشيء الواحد إذا عبر عنه بعبارتين تدل كل منهما على وصف غير الوصف الآخر كان تعدد المعاني نافعا وإن كانت الذات واحدة ولهذا قد تعلم الذات بوصف ولا تعلم بوصف آخر فإذا كان ذات التقدم ذات العلة فليس المفهوم من نفس العلة هو المفهوم من نفس التقدم وإن كانا متلازمين بل معنى العلة أنه اقتضاه وأوجبه ومعنى التقدم أنه قبله
وقد يفهم السبق والقبلية من لا يعلم أنه علة بعد فإذ قيل لو كان علة لكان قبله كان هذا صحيحا ثم العقل يجزم بأن الشيء لا يكون قبل نفسه فضلا عن أن يكون قبل ما هو قبل نفسه بأي وجه فسر معنى السبق والقبلية
(3/302)
وحينئذ فيستدل بهذا على ذاك من لم بفهم الامتناع من لفظ العلة وأما من فهم الامتناع من لفظ العلة كما عليه جمهور الفطر السليمة فلا يحتاج إلى هذا
ولكن كون الشيء دليلا على الشيء معناه أنه يلزم من ثبوته ثبوته
والشيئان المتلازمان كل منهم يصلح أن يكون دليلا على الآخر ثم من شأن الإنسان أن يستدل بالظاهر على الخفى لكن الظهور والخفاء من الأمور النسبية فقد يظهر لهذا ما لا يظهر لهذا وقد يظهر للإنسان في وقت ما يخفى عليه في وقت آخر فلهذا أمكن أن يستدل بهذا على ذاك وبذاك على هذا إذا قدر إن هذا أظهر من ذاك تارة وذاك أظهر من هذا أخرى وإما بحسب شخصين وإما بحسب حالين
وهذه المعاني من تفطن لها انجلت عنه شبه كثيرة فيما يورده الناس على الحدود والأدلة التي قد يقال إنه لا فائدة فيها ولا حاجة إليها وذاك صحيح وقد يقال بل ينتفع بها وهذا أيضا صحيح
لكن من حصر العلم بطريق عينه هو مثل حد معين ودليل معين أخطأ كثيرا كما أن من قال إن حد غيره ودليله لا يفيد بحال أخطأ كثيرا وهذا كما أن الذين أوجبوا النظر وقالوا لا يحصل العلم إلا به مطلقا أخطأوا والذين قالوا لا حاجة إليه بحال بل المعرفة دائما ضرورية لكل أحد في كل حال أخطأوا بل المعرفة
(3/303)
وإن كانت ضرورية في حق أهل الفطر السليمة فكثير من الناس يحتاج فيها إلى النظر والإنسان قد يستغني عنه في حال ويحتاج إليه في حال وكذلك الحدود قد يحتاج إليها تارة ويستغنى عنها أخرى كالحدود اللفظية والترجمة قد يحتاج إليها تارة وقد يستغنى عنها أخرى وهذا له نظائر
وكذلك كون العلم ضروريا ونظريا والاعتقاد قطعيا وظنيا أمور نسبية فقد يكون الشيء قطعيا عند شخص وفي حال وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول فضلا عن أن يكون مظنونا وقد يكون الشيء ضروريا لشخص وفي حال ونظريا لشخص آخر وفي حال أخرى
وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم فهو الحق الذي لا يقبل النقيض ولهذا كل ما عارضه فهو باطل مطلقا
ومن هنا يتبين لك أن الذين بنوا أمورهم على مقدمات إما ضرورية أو نظرية أو قطعية أو ظنية بنوها على أمور تقبل التغير والاستحالة فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وأما ما جاء به الرسول فهو حق لا يقبل النقيض بحال فهو صلى الله عليه وسلم يخبر بالحق كما قال أهل الجنة لما دخلوها { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق } سورة الأعراف 43 وقد قال تعالى { إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا } سورة البقرة 119 { وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } سورة الأحزاب 46 وقال تعالى { أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون }
(3/304)
سورة المؤمنون 69 71
وقال تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } سورة محمد 1 3 ومثل هذا كثير
فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بالحق ويقيم عليه الأدلة العقلية البرهانية الموصلة إلى معرفته كالأقيسة العقلية وهي الأمثال المضروبة
قال تعالى { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا } سورة الإسراء 89 وقال تعالى { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } سورة الكهف 54 إلى قوله تعالى { ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا } سورة الكهف 56 57
(3/305)
وقال تعالى { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } سورة الزمر 27
وهو سبحانه يجيب عن المعارضات كما قال تعالى { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } سورة الفرقان 23 وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هان ان الطريقة الشرعية تتضمن الخبر بالحق والتعريف بالطرق الموصلة اليه النافعة للخلق واما الكلام على كل ما يخطر ببال كل أحد من الناس من الشبهات السوفسطائية فهذا لا يمكن ان يبينه خطاب على وجه التفصيل
والعلوم الفطرية حاصلة مع صحة الفطرة وسلامتها وقد يعرض للفطرة ما يفسدها ويمرضها فترى الحق باطلا كما في البدن إذا فسد او مرض فإنه يجد الحلو مرا ويرى الواحد اثنين فهذا يعالج بما يزيل مرضه
والقرآن فيه شفاء لما في الصدور من الامراض والنبي صلى الله عليه وسلم علم ان وسواس التسلسل في الفاعل يقع في النفوس وانه معلوم الفساد بالضرورة فأمر عند ورود بالاستعاذة بالله منه والانتهاء عنه كما في الصحيحن واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس يتسائلون حتى يقال
(3/306)
هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك فليقل آمنت بالله
وفي لفظ اخر ياتي الشيطان احدكم فيقول من خلق السماء من خلق الارض فيقول الله وزاد فليقل امنت بالله ورسله وفي لفظ اخر يقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته هذا لفظ البخاري نحوه
وفي مسلم عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل ان امتك لا يزالون يقولون ما كذا ما كذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله سبحانه
وفي البخاري عن انس قال قال رسول اله صلى الله عليه وسلم لن يبرح الناس يتساءلون هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله
(3/307)
وقد سئل بعض السالكين طريقة هؤلاء كالرازي ونحوه فقيل له لم لم يامر النبي صلى اله عليه وسلم عند هذا الوسواس بالبرهان المبين لفساد التسلسل والدور بل امر بالاستعاذة فأجاب بان مثل هذا مثل من عرض له كلب يمبح عليه ليؤذيه ويقطع طريقه فتارة يضربه بعضا وتارة يطلب من صاحب الكلب ان يزجره قال فالبرهان هو الطريق الأول وفيه صعوبة والاستعاذة بالله هو الثاني وهو اسهل
واعترض بعضهم على هذا الجواب بان هذا يقتضي ان طريقة البرهان اقوى واكمل ولبس الأمر كذلك بل طريقة الاستعاذة اكمل واقوى فإن الله للوسواس عن القلب اكمل من دفع الانسان ذلك عن نفسه
فيقال السؤال باطل وكل من جوابيه مبنى على الباطل فهو باطل وذلك ان هذا الكلام مبناه على ان هذه الاسئلة الواردة على النفس تندفع بطريقين أحدهما البرهان والآخر الاستعاذة وان النبي صلى الله عليه وسلم امر بالاستعاذة وان المبين لفساد الدور والتسلسل قطعة بطريق البرهان وان طريقة البرهان تقطع الاسولة الواردة على النفس بدون ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بطريقة البرهان
وهذا خطأ من وجوه بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها ودل على مجاميع البراهين التي يرجع اليها غاية
(3/308)
نظر النظار ودل من البراهين على ما هو فوق استنباط النظار والذي امر به في دفع هذا الوسواس ليس هو الاستعاذة فقط بل امر بالايمان وامر بالاستعاذة وامر بالانتهاء ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما امر به لا طريق غير ذلك
وبيان ذلك من وجوه
أحدهما ان يقال البرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم لا بد ان ينتهي إلى مقدمات ضروية فطرية فإن كل علم ليس بضروري لا بد ان ينتهي إلى علم ضروري إذ المقدمات التظرية لو اثبتت بمقدمات نظرية دائما لزم الدور القبلى او التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء من وجه فان العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر إذ لو كانت تلك المقدمات أيضا نظرية لتوقف على غيرها فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الانسان والانسان حادث كائن بعد ان لم يكن والعلم الحاصل في قلبه حادث فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله للزم ان لا يحصل في قلبه علم ابتداء فلا بد من علوم بديهية أولية يبتدؤها الله في قلبه وغاية البرهان ان ينتهي اليها
(3/309)
ثم تلك العلوم الضرورية قد يعرض فيها شبهات ووساوس كالشبهات السوفسطائية مثل الشبهات التي يوردها على العلوم الحسية والبديهية كالشبهات التي اوردها الرازي في أول محصلة وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع
والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها البرهان لأن غاية البرهان ان ينتهي اليها فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث ولهذا كان من انكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر بل إذا كان جاحدا معاندا عوقب حتى يعترف بالحق وان كان غالطا إما لفساد عرض لحسه او عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم واما لنحو ذلك فانه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه فإن عجز عن ذلك لفساد في طبيعته عولج بالادوية الطبيعية او بالدعاء والرقى والتوجه ونحو ذلك وألا ترك
ولهذا اتفق العقلاء على ان كل شبهة تعرض لا يمكن ازالتها بالبرهان والنظر والاستدلال وانما يخاطب بالبرهان والنظر والاستدلال من كانت عنده مقدمات علمية وكان ممن يمكنه ان ينظر فيها نظرا يفيده العلم بغيرها فمن لم يكن عنده مقدمات علمية او لم يكن قادرا على النظر لم تتمكن مخاطبته بالنظر والاستدلال
(3/310)
واذا تبين هذا فالوسوسة والشبهة القادحة في العلوم الضرورية لا تزال بالبرهان بل متى فكر العبد ونظر ازداد ورودها على قلبه وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه كما يعجز عن حل الشبهة السوفسطائية
وهذا يزول بالاستعاذة بالله فان الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات والشهوات المغوية ولهذا امر العبد أن يستهدي ربه في كل صلاة فيقول { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } سورة الفاتحة 6 7
وفي الحديث الالهي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى
يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم
وقال تعلى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } سورة النحل 97
وقال تعالى { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } سورة الاعراف 200
(3/311)
وقال تعالى
{ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } سورة ( فصلت 36 )
وفي الصحيحين عن سليمان بن صرد قال استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم اني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فأمر الله تعالى العبد ان يستعيذ من الشيطان عند القراءة وعند الغضب ليصرف عنه شره عند وجود سبب الخير وهو القراءة ليصرف عنه ما يمنع الخير وعند وجود سبب الشر ليمنع ذلك السبب الذي يحدثه عند ذلك
وقدة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين اصبعين من أصابع الرحمن ان شاء أن يقيمه اقامه وان شاء ان يزيغه ازاغه
(3/312)
وكانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب
وكان كثيرا ما يقول والذي نفس محمد بيده
وفي الحديث للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمع غليانا
وشواهد هذا الأصل كثيرة مع ما يعرفه كل أحد من حال نفسه من كثرة تقلب قلبه من الخواطر التي هي من جنس الاعتقادات ومن جنس الارادات وفيها المحمود والمذموم والله هو القادر على صرف ذلك عنه فالاستعاذة بالله طريق مفضية إلى المقصود الذي لا يحصل بالنظر والاستدلال
والوجه الثاني أن يقال النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالاستعاذة وحدها بل أمر العبد ان ينتهي عن ذلك مع الاستعاذة اعلاما منه بأن هذا السؤال هو نهاية الوسواس فيجب الانتهاء عنه
(3/313)
ليس هو من البدايات التي يزيلها ما بعده فإن النفس تطلب سبب كل حادث وأول كل شيء حتى تنتهي إلى الغاية والمنتهى
وقد قال الله تعالى { وأن إلى ربك المنتهى } سورة النجم 42 وفي الدعاء المأثور الذي ذكره مالك في الموطأ حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وراء الله مرمى
وفي رواية ليس وراء الله منتهى
فإذا وصل العبد إلى غاية الغايات ونهاية النهايات وجب وقوفه فإذا طلب بعد ذلك شيئا آخر وجب أن ينتهي فأمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد أن ينتهي مع استجارته بالله من وسواس التسلسل كما يؤمر كل من حصل نهاية المطلوب وغاية المراد أن ينتهي إذ كل طالب ومريد فلا بد له من مطلوب ومراد ينتهي إليه وإنما وجب انتهاؤه لأنه من المعلوم بالعلم الضروري الفطري لكل من سلمت فطرته من بني آدم أنه سؤال فاسد وأنه يمتنع أن يكون لخالق كل مخلوق خالق فإنه لو كان له خالق لكان مخلوقا ولم يكن خالقا لكل مخلوق بل كان يكون من جملة المخلوقات والمخلوقات كلها لا بد لها من خالق وهذا معلوم بالضرورة والفطرة وإن لم يخطر ببال العبد قطع الدور والتسلسل فإن وجود المخلوقات كلها بدون خالق معلوم الامتناع بالضرورة
(3/314)
وإذا قلنا يمتنع وجود المحدثات كلها بدون محدث كان هذا متضمنا لذاك فإن كل مخلوق محدث فإذا كان كل محدث لا بد له من محدث فكل مخلوق لا بد له من خالق أولى وكذلك إذا قلنا كل ممكن لا بد له من واجب
فلما كان بطلان هذا السؤال معلوما بالفطرة والضرورة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتهى عنه كما يؤمر أن ينتهى عن كل ما يعلم فساده من الأسولة الفاسدة التي يعلم فسادها كما لو قيل متى حدث الله أو متى يموت ونحو ذلك
وهذا مما يبين أن سؤال السائل أين كان ربنا في حديث أبي رزين لم يكن هذا السؤال فاسدا عنده صلى الله عليه وسلم كسؤال السائل من خلق الله فإنه لم ينه السائل عن ذلك ولا أمره بالاستعاذة بل النبي صلى الله عليه وسلم سأل بذلك لغير واحد فقال له أين الله وهو منزه أن يسأل سؤالا فاسدا وسمع الجواب عن ذلك وهو منزه أن يقر على جواب فاسد ولما سئل عن ذلك أجاب فكان سائلا به تارة ومجيبا عنه أخرى
ولو كان المقصود مجرد التمييز بين الرب والصنم مع علم الرسول أن
(3/315)
السؤال والجواب فاسدان لكان في الأسولة الصحيحة ما يغني غير الرسول عن الأسولة الفاسدة فكيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فانه كان يمكن أن يقول من ربك من تعبدين كما قال لحصين الخزاعي يا حصين كم تعبد اليوم قال أعبد سبعة آلهة ستة في الارض وواحدا في السماء قال فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فقال أسلم حتى اعلمك كلمة ينفعك الله بها فلما أسلم سأله عن الدعوة فقال قل اللهم الهمني رشدي وقني شر نفسي رواه أحمد في المسند وغير أحمد
والثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العبد ان يقول آمنت بالله وفي رواية ورسوله فهذا من باب دفع الضد الضار بالضد النافع فإن قوله آمنت بالله يدفع عن قلبه الوسواس الفاسد
ولهذا كان الشيطان يخنس عند ذكر الله ويوسوس عند الغفلة عن ذكر الله ولهذا سمى الوسواس الخناس فإنه جاثم على فوائد ابن آدم فإن ذكر الله خنس والخنوس الاختفاء بانخفاض ولهذا سميت الكواكب الخنس
وقال أبو هريرة لقيت النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وأنا جنب فانخنست منه
(3/316)
ويقال انخنست من فلان وهو اختفاء بنوع من الانخفاض والذل له فالمختفي من عدو يقاتله لا يقال انخنس منه وانما ينخنس الانسان ممن يهابه ويعظمه فيذل له وينخفض منه في اختفائه فهكذا الشيطان في حال ذكر الله يذل ويخضع ويختفي واذا غفل العبد عن ذكر الله وسوس
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد ان يقول آمنت بالله او آمنت بالله ورسوله فإن هذا القول ايمان وذكر الله يدفع به ما يضاده من الوسوسة القادحة في العلوم الضرورية الفطرية ويشبه هذا الوسواس الذي يعرض لكثير من الناس في العبادات حتى يشككه هل كبر أو لم يكبر وهل قرأ الفاتحة أم لا وهل نوى العبادة أم لم ينوها وهل غسل عضوه في الطهارة او لم يغسله فيشككه في علومه الحسية الضرورية
وكونه غسل عضوا أمر يشهده ببصره وكونه تكلم بالتكبير او الفاتحة أمر يعلمه بقلبه ويسمعه بأذنه وكذلك كونه يقصد الصلاة مثل كونه يقصد الاكل والشرب والركوب والمشي وعلمه بذلك كله علم ضروري يقيني أولي لا يتوقف على النظر والاستدلال ولا يتوقف على البرهان بل هو مقدمات البرهان وأصوله التي يبنى عليها البرهان أعنى البرهان النظري المؤلف من المقدمات
(3/317)
وهذا الوسواس يزول بالاستعاذة وانتهاء العبد وأن يقول إذا قال لم تغسل وجهك بلى قد غسلت وجهي واذا خطر له أنه لم ينو ولم يكبر يقول بقلبه بلى قد نويت وكبرت فيثبت على الحق ويدفع ما يعارضه من الوسواس فيرى الشيطان قوته وثباته على الحق فيندفع عنه وألا فمتى رآه قابلا للشكوك والشبهات مستجيبا إلى الوساوس والخطرات أورد عليه من ذلك ما يعجز عن دفعه وصار قلبه موردا لما توحيه شياطين الانس والجن من زحرف القول وانتقل من ذلك إلى غيره إلى ان يسوقه الشيطان إلى الهلكة
فالله { ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } سورة البقرة 257 { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } سورة الاعراف 201 202 فصل
ومما ينبغي ان يعرف في هذا المقام وان كنا قد نبهنا عليه في
(3/318)
مواضع أن كثيرا من العلوم تكون ضرورة فطرية فإذا طلب المستدل ان يستدل عليها خفيت ووقع فيها شك إما لما في ذلك من تطويل المقدمات واما لما في ذلك من خفائها واما لما في ذلك من كلا الامرين
والمستدل قد يعجز عن نظم دليل على ذلك إما لعجزه عن تصوره واما لعجزه عن التعبير عنه فإنه ليس كل ما تصوره الانسان أمكن كل أحد أن يعبر عنه باللسان وقد يعجز المستمع عن فهمه ذلك الدليل وان أمكن نظم الدليل وفهمه فقد يحصل العجز عن إزالة الشبهات المعارضة إما من هذا وإما من هذا وإما منهما
وهذا يقع في التصورات أكثر مما يقع في التصديقات فكثير من الامور المعروفة إذا حدث بحدود تميز بينها وبين المحدودات زادت خفاء بعد الوضوح لكونها أظهر عند العقل بدون ذلك الحد منها بذلك الحد
ولكن قد يكون في الأدلة والحدود من المنفعة ما قد نبه عليه غير مرة ولهذا تنوعت طرق الناس في الحدود والادلة وتجد كثيرا من الناس يقدح في حدود غيره وأدلته ثم يذكر هو حدودا وأدلة يرد عليها ايرادات من جنس ما يرد على تلك او من جنس آخر وذلك لأن المقصود بالحدود ان كان التمييز بين المحدود وبين غيره كانت الحدود الجامعة المانعة على أي صورة كانت مشتركة في حصول التمييز بها وان لم تكن جامعة مانعة كانت مشتركة في عدم حصول التمييز بها وإن لم تكن جامعة مانعة كانت مشتركة في عدم حصول التمييز وان كان المطلوب بها تعريف المحدود فهذا لا يحصل بها مطلقا ولا يمتنع بها
(3/319)
مطلقا بل يحصل لبعض الناس وفي بعض الاوقات دون بعض كما يحصل بالاسماء فإن الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالاجمال فلا يمكن ان يقال الاسم لا يعرف المسمى بحال ولا يمكن ان يقال يعرف به كل أحد كذلك الحد
وان قيل ان المطلوب بالحد ان مجرد الحد يوجب ان المستمع له يتصور حقيقة المحدود التي لم يتصورها إلا بلفظ الحاد وانه يتصورها بمجرد قول الحاد كما يظنه من يظنه من الناس بعض أهل المنطق وغيرهم فهذا خطأ كخطأ من يظن ان الاسماء توجب معرفة المسمى لمن سمع تلك الاسماء بمجرد ذلك اللفظ
وقد بسط الكلام على هذا في موضعه وبينا ما عليه جمهور النظار من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين والمشركين من ان الحدود مقصودها التمييز بين المحدود وغيره وان ذلك يحصل بالوصف الملازم للمحدود طردا وعكسا الذي يلزم من ثبوته ثبوت المحدود ومن انتفائه انتفاؤه كما هو طريقة نظار المسلمين من جميع الطوائف مثل أبي علي وأبي هاشم وأمثالهما ومثل أبي الحسن الاشعري والقاضي أبي بكر وأبي المعالي الجويني والقاضي أبي يعلي وأبي الوفاء ابن عقيل وأمثالهم
(3/320)
وأما طريقة أهل المنطق ودعواهم ان الحد التام مقصوده التعريف بالحقيقة وان الحقيقة مؤلفة من الصفات الذاتية الداخلة في المحدود وهي الجنس والفصل وتقسيمهم الصفات اللازمة للموصوف إلى داخل في الحقيقة وخارج عنها عرضي وجعل العرضى الخارج عنها اللازم على نوعين لازم للماهية ولازم لوجود الماهية وبناءهم ذلك على ان ماهيات الاشياء التي هي حقائقها ثابتة في الخارج وهي مغايرة للموجودات المعينة الثابتة في الخارج وان الصفات الذاتية تكون متقدمة على الموصوف في الذهن والخارج وتكون أجزاء سابقة لحقيقة الموصوف في الوجودين الذهني والخارجي
فهذا ونحوه خطأ عند جماهير العقلاء من نظار الإسلام وغيرهم بل الذي عليه نظار الإسلام ان الصفات تنقسم إلى لازمة للموصوف لا تفارقه إلا بعدم ذاته والى عارضة له يمكن مفارقتها له مع بقاء ذاته وهذه اللازمة منها ما هو لازم للشخص دون نوعه
(3/321)
وجنسه ومنها ما هو لازم لنوعه او جنسه
واما تقسيم اللازمة إلى ذاتي وعرضي وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية ولازم للوجود وغير لازم بل عارض فهذا خطأ عند نظار الإسلام وغيرهم
بل طائفة من نظار الإسلام قسموا اللازم إلى ذاتي ومعنوي وعنوا بالصفات الذاتية ما لا يمكن تصور الذات مع عدمه وعنوا بالمعنوى ما يمكن تصور الذات بدون تصوره وان كان لازما للذات فلا يلزمها إلا إذا تصور معينا يقوم بالذات
فالأول عندهم مثل كونالرب قائما بنفسه وموجودا بل وكذلك كونه قديما عند أكثرهم فإن ابن كلاب يقول القديم بقدم والاشعري له قولان اشهرهما عند اصحابه انه قديم بغير قدم لكنه باق ببقاء وقد وافقه على ذلك ابن أبي موسى وغيره واما القاضي
(3/322)
ابو بكر فإنه يقول باق بغير بقاء ووافقه على ذلك ابو يعلي وابو المعالي وغيرهما
والثاني عندهم مثل كونه حيا وعليما وقديرا ونحو ذلك
وتقسيم هؤلاء اللازمة إلى ذاتي ومعنوى كلام ليس هذا موضع بسطه فإنهم لم يعنوا بالذاتي ما يلزم الذات إذ الجميع لازم للذات ولا عنوا بالذاتي المقوم للذات كاصطلاح المنطقيين فإن هؤلاء ليس عندهم في الذوات ما هو مركب من الصفات كالجنس والفصل ولا يقسمون الصفات إلى مقوم داخل في الماهية هو جزء منها والى عرضي خارج عنها ليس مقوما بل هذا التقسيم عندهم وعند جمهور العقلاء خطأ كما هو خطأ في نفس الأمر إذ التفريق بين الذاتي المقوم واللازم الخارج تفريق باطل لا يعود إلا إلى مجرد تحكم يتضمن التفريق بين المتماثلين كما قد بسط في موضعه
ولهذا يعترف حذاق أئمة أهل المنطق كابن سينا وأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهما بأنه لا يمكن ذكر فرق مطرد بين هذا وهذا وذكر ابن سينا ثلاثة فروق مع اعترافه بأنه ليس واحد منها
(3/323)
صحيحا اعترض أبو البركات على ما ذكره ابن سينا بما يبين فساد الفرق بين الذاتي المقوم والعرضي الازم
و أبو البركات لما كان معتبرا لما ذكره أئمة المشائين لا يقلدهم ولا يتعصب لهم كما يفعله غيره مثل ابن سينا وأمثاله نبه على أن ما ذكره ارسطو وأصحابه في هذا الموضع مما لم تعرف صحته ولا منفعته
وغير أبي البركات بين فساده وتناقضه وصنف الناس مصنفات في الرد على اهل المنطق كما صنف أبو هاشم و ابن النوبختي والقاضي ابو بكر بن الطيب وغيرهم
وهؤلاء الكلابية الذين يفرقون بين الصفات الذاتية والمعنوية هم أصح نظرا من هؤلاء المنطقيين وهم ينكرون ما ذكر المنطقيون من الفرق فلا يعود تفريقهم إلى تفريق المنطقيين بل تفريقهم يعود إلى ما ذكروه هم من أن الصفات الذاتية عندهم ما لا يمكن تصور الذات مع تصور عدمها والصفات المعنوية ما يمكن الذات مع تصور عدمها كالحياة والعلم والقدرة فإنه يمكن تصور الذات مع نفي كونها قائمة بالنفس وموجودة وكذلك لا يمكن ذلك مع نفي كونها قديمة عند أكثرهم
وأبن كلاب الاشعري في أحد قوليه جعل القدم كالعم والقدرة والبقاء فيه نزاع بين الاشعري ومن اتبعه كأبي علي بن
(3/324)
أبي موسى وأمثاله وبين القاضي أبي بكر ومن اتبعه كالقاضي أبي يعلى وأمثاله
وهؤلاء أيضا تفريقهم باطل فإن قولهم لا يمكن تصور الذات مع نفي تلك الصفة
يقال لهم لفظ التصور مجمل يراد به تصور ما وهو الشعور بالمتصور من طريق الوجود ويراد به التصور التام وما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه
ومن هذا دخل الداخل على هؤلاء المنطقيين الغالطين وعلى هؤلاء فإن عنوا به التصور التام للذات الثابتة في الخارج التي لها صفات لازمة لها فهذه لا يمكن تصورها كما هي عليه مع نفي هذه الصفات فإذا عنى بالماهية ما يتصوره المتصور في ذهنه فهذا يزيد وينقص بحسب تصور الأذهان
وإن عنوا به ما في الخارج فلا يوجد شيء بدون جميع لوازمه وإن عني بذلك أنه لا يمكن تصورها بوجه من الوجوه مع نفي هذه الصفات فهذا يرد عليهم فيما جعلوه ذاتيا مثل كونه قائما بنفسه وكونه قديما ونحو ذلك
فإنه قد يتصور الذات تصورا ما من لا يخطر بقلبه هذه المعاني بل
(3/325)
من ينفي هذه المعاني أيضا وإن كان ضالا في نفيها كما أن من نفى الحياة والعلم والقدرة كان ضالا في نفيها
وإذا قيل لا يمكن وجود الفعل إلا من ذات قائمة بنفسها قديمة
قيل ولا يمكن إلا من ذات حية عالمة قادرة
فإذا قيل هذه يمكن بعض العقلاء أن يتصور كونها فاعلا مع انتفاء هذه الصفات
قيل هذا تصور باطل والتصورات الباطلة لا ضابط لها فقد يمكن ضال آخر أن يتصور كونها فاعلة مع عدم القيام بالنفس فإن الفرق إذا عاد إلى اعتقاد المعتقدين لا إلى حقائق موجودة في الخارج كان فرقا ذهنيا اعتباريا لا فرقا حقيقيا من جنس فرق أهل المنطق بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم فإنه يعود إلى ذلك حيث جعلوا الذاتي ما لا تتصور الماهية بدون تصوره والعرضى ما يمكن تصورها بدون تصوره وليس هذا بفرق في نفس الأمر وإنما يعود إلى ما تقدره الأذهان فإنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه فإن أريد بالتصور مطلق الشعور بالشيء فيمكن الشعور به بدون الصفات التي جعلوها ذاتية فإنه قد يشعر بالإنسان من لا يخطر بباله أنه حيوان ناطق أو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق
وإن أرادوا التصور التام فقول القائل حيوان ناطق لا يوجب
(3/326)
التصور التام للموصوف بل ما من تصور إلا وفوقه تصور أكمل منه
فإن صفات الموصوف ليست منحصرة فيما ذكروه
وإن قالوا نريد به التصور التام للصفات الذاتية عادت المطالبة بالفرق فيبقى الكلام دورا
وهذا كما أنهم يقولون ماهية الشيء هي المركبة من الصفات الذاتية ثم يقولون الصفات الذاتية هي التي يتوقف تحقق الماهية عليها أو يقف تصور الماهية عليها فلا تعقل الصفة الذاتية حتى تعقل الماهية ولا تعقل الماهية حتى تعقل الصفة الذاتية لها فيبقى الكلام دورا
كما يجعلون الصفات الذاتية أجزاء للماهية مقومة لها سابقة لها في الحقيقة في الوجودين الذهني والخارجي مع العلم بأن الذات أحق بأن تكون سابقة من الصفات إن قدر أن هناك سبقا وإلا فهما متلازمان
وإذا قيل هي أجزاء
قيل إن كانت جواهر كان الجوهر الواحد جواهر كثيرة وإن كانت أعراضا فهي صفات
فإذا قيل الإنسان حيوان ناطق
(3/327)
قيل إن كانت الحيوانية والناطقية أعراضا فهي صفات الإنسان وإن كانت جواهر فهنا جوهر هو إنسان وجوهر هو حيوان وجوهر هو ناطق وجوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام ومعلوم فساد هذا
وحقيقة الأمر أنها صفات لما يتصور في الأذهان وصفات لما هو موجود في الأعيان وأن الذات هي أحق بتقويم الصفات من الصفات بتقويم الذات
وأيضا فإن أرادوا تصور الصفات مفصلة فمعلوم أن قولهم حيوان ناطق لا يوجب تصور سائر الذاتيات مفصلا فإن كونه جسما ناميا وحساسا ومتحركا بالإرادة لا يدل عليه اسم الحيوان دلالة مفصلة بل مجملة وإن أرادوا بالتصور التصور سواء كان مجملا أو مفصلا فمعلوم أن لفظ الإنسان يدل على الحيوان والناطق كما يدل لفظ الحيوان على الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة فيكون اسم الإنسان كافيا في تعريف صفات الإنسان مثل ما أن لفظ الحيوان كاف في تعريف صفات الحيوان
فإذا كانوا في تعريف الإنسان لا يأتون إلا بلفظ يدل على صفاته الذاتية دلالة مجملة وهذا القدر حاصل بلفظ الإنسان كان تعريفهم من جنس التعريف بالأسماء وكان ما جعلوه حدا من جنس ما جعلوه اسما
(3/328)
فإن كان أحدهما دالا على الذات فكذلك الآخر وإلا فلا فلا يجوز جعل أحدهما مصورا للحقيقة دون الآخر غاية ما يقال إن في هذا الكلام من تفصيل بعض ما ليس في الآخر
فإن قول القائل حيوان ناطق فيه من الدلالة على معنى النطق باللفظ الخاص ما ليس في لفظ الإنسان
فيقال وكذلك في لفظ النامي من الدلالة على النمو باللفظ الخاص ما ليس في لفظ الحيوان وأنتم لا توجبون ذلك
وكذلك لفظ الحساس والمتحرك بالإرادة فعلم ان كلامهم لا يرجع إلى حقيقة موجودة معقولة وإنما يرجع إلى مجرد وضع واصطلاح وتحكم واعتبارات ذهنية وهذا مبسوط في موضعه
وكذلك الذين فرقوا بين الصفات الذاتية وبين المعنوية اللازمة للذات من الكلابية وأتباعهم يعود تفريقهم إلى وضع واصطلاح وتحكم واعتبارات ذهنية لا إلى حقيقة ثابتة في الخارج ولهذا يضطربون في الفرق بين الصفات الذاتية والمعنوية
فهذا يقول إنه قديم بقدم باق ببقاء وهذا ينازع في هذا أو في هذا
والنافي يقول هو عالم بذاته قادر بذاته كما يقول هؤلاء إنه باق بذاته قديم بذاته
وإذا أراد بذلك أن علمه من لوازم ذاته لا يفتقر إلى شيء آخر فقد
(3/329)
أصاب وإن أراد أنه يمكن كونه حيا عالما قادرا بدون حياة وعلم وقدرة فقد اخطأ وذاته حقيقتها هي الذات المستلزمة لهذه المعاني فتقدير وجودها بدون هذه المعاني تقدير باطل لا حقيقة له ووجود ذات منفكة عن جميع الصفات إنما يمكن تقديره في الأذهان لا في الأعيان وهذه الأمور مبسوطة في موضعها
والمقصود هنا أن التعريف بالحدود والتعريف بالأدلة قد يتضمن إيضاح الشيء بما هو أخفى منه وقد يكون الخفاء والظهور من الأمور النسبية الإضافية فقد يتضح لبعض الناس أو للإنسان في بعض الأحوال ما لا يتضح لغيره أو له في وقت آخر فينتفع حينئذ بشيء من الحدود والأدلة لا ينتفع بها في وقت آخر
وكلما كانت حاجة الناس إلى معرفة الشيء وذكره أشد وأكثر كانت معرفتهم به وذكرهم له أعظم وأكثر وكانت طرق معرفته أكثر وأظهر وكانت الأسماء المعرفة له أكثر وكانت على معانيه أدل
فالمخلوق الذي يتصوره الناس ويعبرون عنه أكثر من غيره تجد له من الأسماء والصفات عندهم ما ليس لغيره كالأسد والداهية والخمر والسيف ونحو ذلك فلكل من هذه المسميات في اللغة من الأسماء أسماء كثيرة وهذا الاسم يدل على معنى لا يدل عليه
(3/330)
الاسم الآخر كما يقولون في السيف صارم ومهند وأبيض وبتار ومن ذلك أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن قال النبي صلى الله عليه وسلم
لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب وقال
أنا الضحوك القتال أنا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة
ومن أسمائه المزمل والمدثر والرسول والنبي
ومن أسماء القرآن الفرقان والتنزيل والكتاب والهدى والنور والشفاء والبيان وغير ذلك
ولما كانت حاجة النفوس إلى معرفة ربها أعظم الحاجات كانت طرق معرفتهم له أعظم من طرق معرفة سواه وكان ذكرهم لأسمائه أعظم من ذكرهم لأسماء ما سواه وله سبحانه في كل لغة أسماء وله في اللغة العربية أسماء كثيرة
(3/331)
والصواب الذي عليه جمهور العلماء أن قول النبي صلى الله عليه وسلم
إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة معناه أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون اسما فإنه في الحديث الآخر الذي رواه أحمد وأبو حاتم في صحيحه
أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب غمي وهمي
وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده
اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لا يحصى ثناء عليه ولو
(3/332)
أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها فكان يحصى الثناء عليه لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه فصل
ولما كانت طرق معرفة الله والإقرار به كثيرة متنوعة صار كل طائفة من النظار تسلك طريقا إلى إثبات معرفته ويظن أنه لا طريق إلا تلك وهذا غلط محض وهو قول بلا علم
فإنه من أين للإنسان أنه لا يمكن المعرفة إلا بهذا الطريق فإن هذا نفي عام لا يعلم بالضرورة فلا بد من دليل يدل عليه وليس مع النافى دليل يدل على هذا النفي بل الموجود يدل على أن للمعرفة طرقا أخرى وأن غالب العارفين بالله من الأنبياء وغير الأنبياء بل من عموم الخلق عرفوه بدون تلك الطريق المعينة
وقد نبهنا في هذا الكتاب على ما نبهنا عليه من طرق أهل النظر وتنوعها على ما يأتي وأن الطرق تتنوع تارة بتنوع أصل الدليل وتارة بزيادة مقدمات فيه يستغني عنها آخرون فهذا يستدل بالإمكان وهذا بالحدوث وهذا بالآيات وهذا يستدل بحدوث الذوات وهذا بحدوث الصفات وهذا بحدوث المعين كالإنسان وهذا
(3/333)
بحدوثه وحدوث غيره وآخرون غلطوا فظنوا أنه لا بد من العلم بحدوث كل موصوف تقوم به الصفات وقد يعبرون عنه بلفظ الجسم والجوهر والمحدود والمركب وغير ذلك من العبارات وآخرون يستدلون بحدوث ما قام به الحوادث ويقولون كل ما قامت به الحوادث فهو محدث وليس كل ما قامت به الصفات محدثا
والفلاسفة لم يسلكوا هذه الطريق لاعتقادهم أن من الأجسام ما هو قديم تحله الحوادث والصفات فكونه جسما ومتميزا وقديما وتحله الصفات والحوادث ليس هو عندهم مستلزما لكونه محدثا بل وليس ذلك مستلزما عند أرسطو كونه مممكنا يقبل الوجود والعدم
وكذلك لم يسلكها كثير من أهل الكلام كالهشامية والكرامية وغيرهم بل ولا سلكها سلف الأمة وأئمتها كما قد بسط في موضعه
ولم يسلكها متأخرو أهل الكلام الذين ركبوا طريقا من قول الفلاسفة وقول أسلافهم المتكلمين كالرازي والآمدي والطوسي ونحوهم بل سلكوا طريقة ابن سينا التي ذكرها في إثبات واجب الوجود
وطريقة ابن سينا لم يسلكها سلفه الفلاسفة كأرسطو وأصحابه
(3/334)
بل ولا سلكها جماهير الفلاسفة بل كثير من الفلاسفة ينازعونه في نفيه لقيام الحوادث والصفات بذات واجب الوجود ويقولون إنه تقوم به الصفات والإرادات وأن كونه واجبا بنفسه لا ينافي ذلك كما لا ينافي عندهم جميعا كونه قديما
ولكن ابن سينا وأتباعه لما شاركوا الجهمية في نفي الصفات وشاركوا سلفهم الدهرية في القول بقدم العالم سلكوا في إثبات رب العالمين طريقا غير طريقة سلفه المشائين كأرسطو وأتباعه الذين أثبتوا العلة الأولى بحركة الفلك الإرادية وأن لها محركا يحركها كحركة المعشوق لعاشقه وهو يحرك الفلك للتشبه بالعلة الأولى فعدل ابن سينا عن تلك الطريقة إلى هذه الطريقة التي سلخها من طريقة أهل الكلام الذين يحتجون بالمحدث على المحدث وهو لا يقول بحدوث العالم فجعل طريقته الاستدلال بالممكن على الواجب ورأى أولئك المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث فقسمه هو إلى واجب وممكن وأثبت الواجب بهذا الطريق ولكن هذا بناء على أن القديم ممكن وله ماهية تقبل الوجود والعدم
وهذا مما خالفه فيه جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم حتى أنه هو تناقض في ذلك فوافق سلفه وجميع العقلاء
(3/335)
وصرح بأن الممكن لا يكون إلا ما يقبل الوجود والعدم ثم تناقض هنا كما قد بسط في غير هذا الموضع
ونحن ننبه عليه هنا فقوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما أن يكون بحيث يجب له الوجود نفسه أو لا يكون فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب وجوده من ذاته وهو القيوم وإن لم يجب لم يجز أن يقال هو ممتنع بذاته بعد ما فرض موجودا بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل شرط عدم علته صار ممتنعا أو قرن شرط وجود علته صار واجبا وأما إن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع فكل موجود إما واجب الوجود بذاته وإما ممكن الوجود بحسب ذاته
فيقال أما كون الموجود ينقسم إلى واجب وهو الواجب بنفسه وإلى ممكن وموجود بغيره وأن الموجود بغيره لا بد له من موجود بنفسه فهذا كله حق وهي قضايا صادقة
(3/336)
وأما كون الممكن بنفسه له ذات يعتقب عليها الوجود والعدم وأنها مع ذلك قد تكون قديمة أزلية واجبة بغيرها كما يقوله ابن سينا وموافقوه فهذا باطل عند العقلاء قاطبة من الأولين والآخرين حتى عند ابن سينا مع تناقضه
والاعتراض على هذا من وجوه
أحدها قوله إن قرن باعتبار ذاته شرط صار ممتنعا أو واجبا وإن لم يقرن بها شرط بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان يقتضي إثبات ذات لهذا الممكن تكون تارة واجبة وتارة ممتنعة وهذا يقتضي أن لكل ممكن ذاتا مغايرة لوجوده وأن تلك الذات يمكن اتصافها بالوجود تارة وبالعدم أخرى وهذا باطل سواء أريد به قول من يجعل المعدوم شيئا من المعتزلة ونحوهم أو قول من يجعل الماهيات النوعية في الخارج مغايرة للوجود في الخارج كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والكلام على فساد هذين مبسوط في غير هذا الموضع
وهو لم يذكر هنا دليلا على صحة ذلك ومجرد ما ذكره من التقسيم لا يدل على وجود الأقسام الثلاثة في الخارج فيبقى دليله غير مقدر المقدمات
(3/337)
وهذا مما يسلكه أمثال هؤلاء يذكرون أقساما مقدرة تقديرا ذهنيا ولا يقيمون الدليل على إمكان كل من الأقسام ولا وجوده وإنما يذكرون مجرد تقدير ذلك ويبنون على ذلك التقدير بناء من قد أثبته في الخارج وهم لم يثبتوه في الخارج كما ذكرنا نظائر ذلك في مواضع
والمقصود هنا أن قول القائل كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما واجب وإما ممكن إنما يصح إذا علم أن الموجود في الخارج له ذات يمكن أن لا يلتفت معها إلى غيرها ليقال إن تلك الذات إما واجبة وإما أن يجب لها الوجود وإما أن لا يجب
وأما إذا كان لا شيء في الخارج إلا الموجود إما بنفسه وإما بغيره فالموجود بغيره إذا التفت إليه من غير التفات إلى غيره فلا ذات له يمكن الالتفات إليها حتى يقال إنها ممكنة قابلة للوجود والعدم بل هذا الذي قدر أنه موجود بغيره إذا لم يلتفت إلى غيره فلا حقيقة له أصلا لا وجود ولا غيره ولا هناك ما يكون ممكن الوجود أصلا
فهذا التفسير لا يصح الاستدلال به إلا بعد إثبات ذات محققة في الخارج مغايرة لما هو في الخارج من الوجود ولما لم يثبت هذا القسم كان الاستدلال باطلا
(3/338)
وإذا قيل قد قرر هذا في غير هذا الموضع
قيل الجواب من وجهين
أحدهما أنه قد بين أيضا في غير هذا الموضع فساد ما ذكره
الثاني أنه بتقدير أن يقرره فلا ريب أن هذه المقدمة مما ينازع فيه كثير من العقلاء بل أكثرهم وهي مقدمة خفية تحتاج إلى بيان
ومتفلسفة الأشعرية كالرازي والآمدي حائرون فيها فالرازي له فيها قولان والآمدي متوقف فيها وأهل الإثبات قاطبة كالأشعري وغيره متفقون على بطلانها فكيف تكون مثل هذه المقدمة في إثبات واجب الوجود الذي وجوده أظهر وأعرف من هذه المقدمة وهل الاستدلال على القوي بالضعيف إلا كتحديد الجلي بالخفي وهذا إذا كان في الحدود مردودا فهو في الأدلة أولى بالرد
الوجه الثاني أن هذا باطل على كل قول أما على قول نظار السنة الذين يقولون وجود كل شيء في الخارج عين حقيقته فظاهر وأما على قول القائلين بأن المعدوم شيء المفرقين بين الوجود والثبوت فإنهم لا يقولون ذلك إلا في المعدوم لا يقولون إن الموجود القديم ثبوته يقبل الوجود والعدم بل قد يقولون إن ماهية القديم مغايرة لوجوده لكن لا يقولون إنها تقبل الوجود والعدم ففي الجملة
(3/339)
لا يتصور عندهم ماهية مستلزمة للوجود تقبل الوجود والعدم
وأما على قول متأخري الفلاسفة الذين يجعلون وجود الممكنات زائدا على ماهيتها فتلك الماهيات إنما تتحقق في حال الوجود لا يمكن تجردها عن الوجود فلا يتصور أن يكون عندهم ماهية هي نفسها تقبل الوجود والعدم فإثبات ماهية تقبل الوجود والعدم وهي مع ذلك مستلزمة للوجود ليس قول أحد من الطوائف
الوجه الثالث أن هذا باطل فإنها إذا كانت مستلزمة للوجود امتنع أن تقبل العدم وإن كان عدمها ممكنا امتنع أن تستلزم الوجود فدعوى المدعي أنها يمكن وجودها وعدمها وأنها مع ذلك تستلزم الوجود لا يمكن عدمها جمع بين المتناقضين
وإذا قيل هي باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها وأما باعتبار سببها فإنه يجب وجودها
قيل قول القائل هي باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها ليس معناه أنه يجب وجودها أو عدمها بل معناه أنها باعتبار ذاتها لا تستحق وجودا ولا عدما بل لا بد لها من أحدهما باعتبار غيرها
والتقدير أنها موجودة فيكون الوجود لها من غيرها واجبا والوجود الواجب ولو بغيره لا يمكن عدمه فهذه الذات الواجبة بغيرها لا يمكن عدمها بوجه من الوجوه
(3/340)
وهب أنه لولا السبب الموجب لها لعدمت لكن هذا تقدير ممتنع فإن السبب واجب بذاته وهي من لوازمه ولازم الواجب بذاته يمتنع عدمه لان عدم اللازم يوجب عدم الملزوم فلو عدم لازم الواجب لعدم الواجب وعدمه ممتنع فعدم لازمه ممتنع فكان عدم هذه الذات ممتنعا فلا يكون عدمها ممكنا فإن الممكن نقيض الممتنع واذا كان عدمها لم يكن ممكنا
الوجه الرابع ان يقال معلوم انه لولا وجود الفاعل لكانت معدومة بنفسها ولم يكن عدمها معلول علة منفصلة عنها
وقوق القائل علة العدم عدم العلة ان اراد به ان عدم العلة يستلزم عدمها ويدل عليه فهذا صحيح وان اراد ان نفس عدم العلة هو الذي جعل المعلول معدوما فهذا معلوم البطلان بصريح العقل فإن العدم المحض لا يكون له تأثير في شيء أصلا ولان ما لا يوجد إلا بغيره إذا لم يوجد الغير فهو باق على العدم مستمر على ما كان عليه والعدم المستمر الباقي لا يكون له علة أصلا ولو قدر أن لكل معدوم علة لعدمه للزم تقدير علل لا تتناهى لان ما يقدر عدمه لا يتناهى وكل هذا باطل فإن العدم نفي محض ليس بشيء أصلا حتى يقدر فيه علل ومعلولات
واذا كان كذلك فالممكن لا يفتقر إلى المؤثر إلا إذا قدر وجوده وألا فمع تقدير عدمه لا يفتقر إلى شيء أصلا فإذا قدر وجوده واجبا بغيره وجوبا قديما أزليا لم يكن هناك ما يقبل العدم ولا يمكن ان يقرن بذاته شرط عدم علته
(3/341)
وهذا الاعتراض يمكن ايراده على قوله كل موجود إذا التفت اليه من حيث ذاته من غير التفاف إلى غيره فهو إما واجب واما ممكن
فيقال ان قيل بان الذات هي نفس الوجود المحقق في الخارج فذاك إذا قيل ليس له حقيقة بدون الوجود بنفسه فإذا نظر اليه مجردا عن غيره بطلت حقيقيته وكان نفيا محضا لم يكن له حقيقة يلتفت القلب اليها البته
وان قيل ان له ذاتا مغايرة للوجود فتلك الذات سوء قدر إمكان تحقيقها دون الوجود كما يقوله من يقول المعدوم شيء او فرض انه لا يمكن تحققها بدون الوجود فعلى التقديرين إذا التفت اليها من غير التفاف إلى غيرها لم تكن موجودة بل معدومة وانت قد فرضتها موجودة فهذا جمع النقيضين
وأيضا فهي عدم الالتفاف إلى غيرها ممتنعة الوجود لا جائزة الوجود فما يمكن وجوده إذا التفت اليه من غير التفاف إلى ما يقتضي وجوده كان ممتنع الوجود سواء فرض عدم ما يوجده او لم يفرض لا وجوده ولا عدمه فهو لا يكون موجودا إلا مع ما يوجده فإذا التفت اليه مجردا عما يوجده امتنع وجوده
وان قال القائل فرق بين التفات اليه بشرط لا او لا
(3/342)
بشرط او قال بشرط عدم الموجد او لا بشرط وجوده فانه ممتنع في الأول وممكن في الثاني
قيل له بل هو ممتنع في القسمين فإذا اخذ لا بشرط كان ممتنع الوجود وكذلك إذا اخذ لامع وجود الفاعل وذلك انه لا يمكن وجوده إلا بالفاعل ووجوده بدون الفاعل ممتنع فإذا التفت إليه لا مع لازم وجوده كان وجوده ممتنعا والممتنع أعم من أن يكون ممتنعا بنفسه او بغيره كما ان الموجود اعم من ان يكون موجودا بنفسه او بغيره والامتناع لا يفتقر إلى ان يقترن به شرط وهو عدم علته بل إذا لم يقترن به سبب وجوده كان ممتنعا والعقل يعقل امتناعه بدون ما يوجده وان لم يخطر له انه قرن به عدم علته فهو في تجرده عن الاقتران بما يوجده ممتنع كما هو في الاقتران فعدم العلة ممتنع
يبين ذلك ان عدم العلة لا شيء فاقترانه بعدم العلة اقتران بعدم محض فلم تختلف حاله بين تقدير عدم هذا الاقتران وانتفائه إلا إذا قرن به ما يقتضي وجوده وألا فهو بدون القرين المقتضي لوجوده ممتنع معدوم وسبب هذا ان هذا الاقتران ليس هو الموجب لعدمه في نفس الأمر بل هو دليل على العدم والادلة تتعدد والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول إلا إذا كان ملازما فالشيء إذا اخذ مع ضده كان ممتنعا ومع عدم فاعله كان ممتنعا وكل من الأمرين يدل على امتناعه وكذلك إذا اخذ بدون شرطه كان ممتنعا وبدون لازمه
(3/343)
كان ممتنعا والمقتضي الممكن الزم اللوازم له واعظم الشروط ولا فرق بين ان يقدر مع انتفاء اللازم او يقدر لا مع ثبوت اللازم فالامران سواء هو في كليهما ممتنع إلا مع اللازم فان وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع ولهذا كل ما يقدر في الخارج فأما واجب بنفسه او بغيره واما ممتنع بنفسه او بغيره
فإذا قيل هو باعتبار نفسه لا واجب ولا ممتنع
قيل ليس في الخارج شيء لا واجب ولا ممتنع وانما ذاك شيء يقدر في الذهن فيقدر في الذهن ذات يمكن وجودها وعدمها وانت لم تتكلم فيما يقدر في الاذهان بل قلت كل موجود فجعلت التقسيم واردا على الامور الموجودة في الخارج وتلك إما موجودة بنفسها واما بغيرها وليس فيها ما يمكن الالتفات اليه مع كونه غير موجود إلا إذا كان في الذهن مع انه في الذهن موجود وجودا ذهنيا
الوجه الخامس قوله ان قرن باعتبار ذاته شرط صار واجبا او ممتنعا وان لم يقترن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من
(3/344)
ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع
فيقال هذا التقسيم يتضمن رفع النقيضين فانه لا بد ان يقترن بها حصول العلة او عدمها لا يمكن رفع النقيضين جميعا وهو حصول العلة وعدمها معا فالتقدير المقابل لهذين وهو أن لا يقترن بها حصول العلة ولا عدمها فهو تقدير سلب النقيضين وهو رفع وجود العلة وعدمها معا وهذا ممتنع
وحينئذ فلا يثبت الإمكان إلا على تقدير ممتنع وما لا يثبت إلا على تقدير ممتنع فهو ممتنع فيكنو الإمكان الذي اثبتوه وهو أنه لا يجب ولا يمتنع لا يحصل إلا تقدير ممتنع وهو رفع النقيضين فيكون ممتنعا وهذا يوضح أن هذا الإمكان امر لا حقيقة له في الخارج ولا يعقل الإمكان إلا في شيء يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى وأما ما يكون موجودا لا يقبل العدم البتة فليس بممكن كما أن المعدوم الذي لا يقبل الوجود البتة ليس بممكن مثل نقيض صفات كمال الباري فإن العجز والجهل ونحوذلك أمور معدومة له لا تقبل الوجود البتة كما ان حياته وقدرته وعلمه من لوازم ذاته لا تقبل العدم البتة بل يجب وجودها ويمتنع عدمها وليست من الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يبين هذا
(3/345)
الوجه السادس وهو قوله وإن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث
يقتضي أن هذا الأمر الثالث إنما يكون له من ذاته إذا لم يقرن بها أحد الأمرين ومعلوم أنه لا بد أن يقرن بها أحد الأمرين فإذا لم يكن لها الإمكان إلا في حال تجردها عن الاقتران وهي لا تتجرد عن الاقتران لم يكن لها من ذاتها إمكان أصلا فإنه جعل ما لا يمكن عدمه واجبا سواء كان واجبا بنفسه أو بغيره وما كان واجبا لم يكن ممكنا وإنما يكون ممكنا إذا لم يقرن به لا سبب وجوده ولا سبب عدمه يقرر هذا
الوجه السابع وهو أن هذا الكلام يقتضي أنها في حال اقترانها بشرط حصول العلة واجبة ليس لها من ذاتها الإمكان والتقدير أنها موجودة وأن الموجود إما واجب وإما ممكن وفي حال وجودها قد
(3/346)
اقترن بها حصول العلة فلا يكون في حال وجودها لها من ذاتها الإمكان
وحينئذ فوصفها بالإمكان في حال الوجود الواجب ممتنع فبطل تقسيم الوجود الواجب إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار بخلاف تقسيم من قسمه إلى واجب وممكن وفسر الممكن بما يوصف بالوجود تارة والعدم أخرى فيكون تارة موجودا وتارة معدوما فإن تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار لا منافاة فيه فإنها توصف بالإمكان حال عدمها لأنه يمكن وجودها وتوصف به في حال وجودها لأنه أمكن وجودها كما أمكن عدمها
الوجه الثامن أن قول القائل له من ذاته الإمكان أو أن ذاته تقبل الوجود والعدم ونحو ذلك
يقال له هذه الذات هي من حيث هي ذات مع قطع النظر عن وجودها كما فرضتم ذلك هي واجبة أو ممكنة أو ممتنعة فإن كانت واجبة أو ممتنعة بطل كونها ممكنة وإن كانت ممكنة فلا تكون ذاتا إلا بأمر آخر يجعلها ذاتا كما أنها لا تكون موجودة إلا بأمر آخر يجعلها موجودة بل قياس ما ذكروه أنه لا يثبت كونها ذاتا إلا بسبب
(3/347)
ولا ينتفي كونها ذاتا إلا بسبب وهذا يفضي إلى التسلسل لأن القول فيما يوصف بكونه ذاتا كالقول فيما يوصف بكونه موجودا
الوجه التاسع أنه إذا كانت تلك الحقيقة والذات مفتقرة في كونها حقيقة وذاتا إلى سبب فلا سبب إلا واجب الوجود وواجب الوجود يمتنع أن يجعلها حقيقة مع كونها معدومة فلا يجعلها ذاتا وحقيقة إلا مع كونها موجودة وحينئذ فإذا كان وجودها واجبا به فحقيقتها واجبة به فلا تكون قابلة للعدم كما أن نفس الوجود لا يكون قابلا للعدم لما فيه من الجمع بين النقيضين
الوجه العاشر أنه إذا قدر أن واجب الوجود لم يجعل حقيقتها وهي لا تكون لها حقيقة إلا بسبب لم يكن هناك حقيقة تقبل الوجود والعدم
الوجه الحادي عشر قوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره الخ
يقال نحن إذا التفتنا إلى السماء أو غيرها من الموجودات من غير التفات إلى غيرها لم نعقل إلا تلك العين الموجودة فإذا قدرنا أنه لا يجب لها الوجود من نفسها لم تكن موجودة إلا بموجد يوجدها فنحن نعقل أن الشيء إما موجود بنفسه وإما موجود بغيره وإذا قسم الوجود إلى موجود بنفسه وموجود بغيره وسمى هذا ممكنا كان هذا تقسيما صحيحا وهو كتقسيمه إلى مفعول وغير مفعول ومخلوق وغير
(3/348)
مخلوق أما كون هذا الممكن له ذات وليس له من تلك الذات وجود ولا عدم فهذا غير معقول في شيء من الموجودات بل المعقول أنه ليس في الممكن من نفسه وجود أصلا ولا تحقق ولا ذات ولا شيء من الأشياء
وإذا قلنا ليس له من ذاته وجود فليس معناه أنه في الخارج له ذات ليس له منها وجود بل معناه أنا نتصور ذاتا في أنفسنا ونتصور أن تلك الذات لا توجد في الخارج إلا بمبدع يبدعها فالحقائق المتصورة في الأذهان لا توجد في الأعيان إلا بمبدع يبدعها في الخارج لا أنه في الخارج لها ذات ثابتة في الخارج تقبل الوجود في الخارج والعدم في الخارج فإن هذا باطل
وإذا كان كذلك وعلمنا أن كل موجود فإما موجود بنفسه وهو الخالق أو موجود بغيره وهو المصنوع المفعول والمصنوع المفعول لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم بل الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم عند عامة العقلاء ولو قدر أنا لم نعرف هذا فتسمية ما وجوده بنفسه ووجود غيره منه خالقا
(3/349)
وتسمية ما أبدعه مخلوقا أحسن وأبين من تسمية هذا ممكنا إذا الممكن لا يوصف به في العادة إلا المعدوم الذي يمكن أن يوجد وأن لا يوجد وأما ما وجد فقد خرج عن الإمكان إلى الوجوب بالغير فالمعروف في فطر الناس أن ما مضى من وجود وعدم لا يسمونه ممكنا وإنما يسمون بالممكن شيئا يمكن وجوده في المستقبل وعدمه في المستقبل
ثم إذا عرف أن كل ما سوى الموجود بنفسه فهو مفعول مصنوع له علم أن المصنوع المفعول لا يكون إلا محدثا كما قد بسط في موضعه وهذه الاعتراضات ليست اعتراضات على إثبات واجب الوجود فإنه حق لكن على هذا الطريق الذي سلكه حيث أثبت ذاتا ممكنة مع كونها عنده قديمة أزلية ولا يحتاج إثبات واجب الوجود إلى هذا في هذه الطريق
بل إذا قيل كل موجود فإما موجود بنفسه وإما موجود بغيره والموجود بغيره لا يوجد إلا بالموجود بنفسه ثبت وجود الموجود بنفسه وإذا سمي هذا واجبا وهذا ممكنا كان ذلك أمرا لفظيا لكن المقصود أنه لا يثبت واجب الوجود بما يدعي أنه ذات تقبل الوجود والعدم وهي مع ذلك قديمة أزلية واجبة فالواجب لا يقبل العدم بحال والله أعلم
(3/350)
وهذه الأمور التي ذكرناها في هذا الموضع عامة النفع يحتاج إليها في هذا الموضع وغيره لما في القلوب من الأمراض ولكن خرجنا إليها من الكلام على المسالك التي سلكها أبو عبد الله الرازي في حدوث العالم والأجسام وذكرنا كلام الآمدي على تلك المسالك فحصل هذا في الكلام على المسلك الأول فصل
وأما المسلك الثاني فمسلك افتقار الاختصاص إلى مخصص فقرره الآمدي من وجهين
أحدهما ما ذكره الرازي ثم زيفه
قال الآمدي المسلك الثاني هو أن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصصها بمالها من الصفات الجائزة لها وكل ما كان كذلك فهو محدث فالعالم محدث
أما المقدمة الأولى فقد انتهج الأصحاب فيها طريقين الأول أنهم قالوا كل جسم من أجسام العالم فهو متناه وكل متناه فله شكل معين ومقدار معين وحيز معين
أما المقدمة الأولى فلما سبق تقريره وأما المقدمة الثانية فلأن كل
(3/351)
جسم متناه فلا بد له من مقدار معين وأن يحيط به حد واحد كالكري أو حدود كالمضلع وهو المعني بالشكل وأن يكون في حيز بحيث يمكن أن يشار إليه بأنه ههنا أو هناك
وهذا كله معلوم بالضرورة وكل ماله شكل ومقدار وحيز معين فلا بد له من مخصص يخصصه به
وبرهانه أنه ما من جسم إلا ويعلم بالضرورة أنه يجوز أن يكون على مقدار أكبر أو أصغر مما هو عليه أو شكل غير شكله وحيز غير حيزه إما متيامنا عنه أو متياسرا وإذا كان كذلك فلا بد له من مخصص يخصصه بما يخصص به وإلا كان أحد الجائزين واقعا من غير مخصص وهو محال
الطريق الثاني أن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو متفرقة أو مجتمعة ومتفرقة معا أو لا مجتمعة ولا متفرقة أو البعض
(3/352)
مجتمعا والبعض متفرقا لاجائز أن يقال بالاجتماع والافتراق معا ولا أنها غير مجتمعة ولا متفرقة معا إذ هو ظاهر الإحالة فلم يبق إلا أحد الأقسام الأخر وأي قسم منها قدر أمكن في العقل فرض الأجسام على خلافه فيكون ذلك جائزا لها ولا بد لها من مخصص يخصصها به لما تقدم في الطريق الأول
وأما بيان المقدمة الثانية وهو أن كل مفتقر إلى المخصص محدث فهو أن المخصص لا بد أن يكون فاعلا مختارا وأن يكون ما يخصصه حادثا لما تقدم في المسلك الأول يعني مسلك الإمكان فإنه قدمه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره فيه وإذا ثبت أن أجزاء العالم من الجواهر والأجسام لا تخلو عن الحادث فتكون حادثة فإذا كانت أجزاء العالم من الجواهر
(3/353)
والأجسام حادثة فالأعراض كلها حادثة ضرورة عدم قيامها بغير الجواهر والأجسام والعالم لا يخرج عن الجواهر والأعراض فيكون حادثا
قال الآمدي وهذا المسلك ضعيف أيضا إذ لقائل أن يقول المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث ممنوعة وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق من المسلك الأول وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الجواهر والأجسام حادثة لجواز أن تكون هذه الصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق في بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهي إليه
قلت هذا المسلك أضعف من مسألة الحركة والسكون فإن هذا يفتقر إلى ما يفتقر إليه ذاك من غير عكس إذ كلاهما مفتقر إلى بيان
(3/354)
امتناع حوادث متعاقبة دائمة وقد عرف ما فيه وهذا يزيد باحتياجه إلى بيان أن الجسم لا يخلو عن صفات حادثة غير الحركة والسكون وهذا يخالف فيه جمهور العقلاء وهذا مبني على مقدمات على أنه لا بد من قدر أو اجتماع أو افتراق وأن ذلك لا يكون إلا بمخصص وأن كل ما لا بد له من مخصص فهو محدث
أما المقدمة الأولى فجمهور العقلاء سلموا أنه لا بد له من قدر وأما كونه لا بد له من اجتماع وافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد
وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد حتى الطوائف الكبار من أهل الكلام كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وكثير من الكرامية مع أكثر الفلاسفة وإن كان القول بتركيب الجسم من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أيضا أفسد من دعوى تركبه من الجواهر الفردة فكلا القولين ضعيف
ونحن في هذا المقام مقصودنا التنبيه على جوامع الطرق ومقاصدها وأما كون ما له قدر يفتقر إلى مخصص فهذا فيه نزاع مشهور وذلك أن القدر صفة من صفات ذى القدر كألوانه وأكوانه وسائر ما يمكن أن يتصف به الجسم من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر
(3/355)
وغير ذلك فإن صفاته نوعان منها ما يختص بالأحياء مثل هذه الصفات ومنها ما يشترك فيه الحي وغيره كالأكوان والقدر والطعم والريح
فإذا قال القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون قدره على خلاف ما هو عليه كان بمنزلة أن يقول كل موصوف يمكن أن يكون موصوفا بخلاف صفته فإذا عرضنا على عقولنا ما نعلمه من الموجودات التي لها أقدار وصفات كان تجويزنا لكونها على خلاف أقدارها كتجويزنا لها أن تكون على خلاف صفاتها بل القدر من الصفات
ولهذا لما تكلم الفقهاء في مفهوم الصفة كقوله صلى الله عليه وسلم في الإبل السائمة الزكاة تكلم بعضهم في مفهوم القدر كقوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث فقال آخرون القدر من جملة الصفات
ولهذا كان مما احتج به من احتج به من أهل الكلام على الفلاسفة في مسألة حدوث العالم أن العالم له صفات وأقدار يمكن أن يكون على خلافها فهو مفتقر إلى مخصص لأن العالم ممكن بالاتفاق والمخصص لا يكون موجبا بالذات
وقد سلك هذا الطريق أبو المعالي في النظامية فسالكو هذه الطريقة ومنازعوهم لم يفرقوا بين القدر وسائر الصفات في إمكان القبول وعدمه والقدر المعين أقرب إلى الذات المعينة من الصفات
(3/356)
المطلقة كما أن صفاته المخصوصة ألزم له من جنس القدر فإن نفس الجسم التعليمي الذي يقدر في الذهن لا يمكن فرضه إلا وله قدر يمكن فرضه خاليا عن جميع الصفات لأنه فرض جسم شامل لجميع الأجسام فلهذا قدر مجردا عن جميع الصفات كما يفرض عدد مجرد عن جميع المعدودات
وكذلك مايتخيله الانسان من الأجسام بعد رؤيته له كتخيله الانسان والفرس والشجر والدار والمدينة والجبل ونحو ذلك يمكنه تخيله مع عدم تخيل شيء من صفاته كألوانه وغيرها ولا يمكنه تخيله مع نفي قدره فاختصاص جنس الجسم بجنس القدر كاختصاص جنس الموصوفات بجنس الصفات واختصاص الجسم المعين بقدره كاختصاصه بصفته المعينه وحقيقته المخصوصة
وكل شيء له حقيقه تخصه وقدر وصفات تقوم به فهنا ثلاثة أشياء المقدار والحقيقة وصفات الحقيقة
فقول القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك القدر كقوله كل موصوف يمكن وجوده على خلاف تلك الصفات وهو أقرب من قوله كل ماله حقيقه فيمكن وجوده على خلاف تلك الحقيقة
ولكن في هذا المقام يكفي أن يجعل حكم المقدار حكم سائر
(3/357)
الصفات فلا ريب أن كيفية الموصوف وصفاته ألزم له من قدره فكيفيته أحق به من كميته فاختصاصه بقدر دون اختصاصه بصفة فالنار والماء والهواء يلزمها كيفياتها المخصوصة أعظم مما يلزمها المقدار المعين
فيقال إن أمكن أن يقرر أن كل جسم يقبل من الصفات خلاف ما هو عليه وما كان كذلك فهو ممكن أو محدث كان هذا دليلا عاما لا يختص بالمقدر وإن لم يمكن ذلك فلا فرق بين القدر وغيره
وأحد الطرق التي ذكرها الرازي وغيره في إثبات الصانع تعالى الاستدلال بإمكان صفات الجسم أو حدوثها لم يفرق السالكون فيه بين القدر وغيره
ثم لقائل أن يقول قول القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون أكبر أو أصغر أو كل ذي وصف يمكن أن يكون بخلاف ذلك الوصف ونحو ذلك أتريد به الإمكان الذهني أو الخارجي والفرق بينهما أن الإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع فليس في ذهنه ما يمنع ذلك والإمكان الخارجي معناه العلم بالإمكان في الخارج
(3/358)
والإنسان يقدر في نفسه أشياء كثيرة يجوزها ولا يعلم أنها ممتنعة ومع هذا فهي ممتنعة في الخارج لأمور أخر
فإن قال أريد به الإمكان الذهني لم ينفعه ذلك لأن غايته عدم العلم بامتناع كون تلك الصفة واجبة له
وإن قال أريد الإمكان الخارجي وهو أني أعلم أن كل موصوف بصفة أو كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك كان مجازفا في هذا الكلام لأن هذه قضية كلية تتناول من الأفراد ما لا يحصيه إلا الله تعالى وليس معه دليل يدل على إمكان ذلك في الخارج يتناول جميع هذه الأفراد غايته أنه رأى بعض الموصوفات والمقدرات يقبل خلاف ما هو عليه فإذا قاس الغائب على الشاهد كان هذا من أفسد القياس لاختلاف الحقائق ولأن هذا ينعكس عليه
فيقال له لم نر إلا ما له صفة وقدر فيقاس الغائب على الشاهد
ويقال كل قائم بنفسه فله صفة وقدر وهذا إلى المعقول أقرب من قياسهم فإن هذا لا يعلم انتقاضه
وأما قول القائل كل ما له صفة وقدر فيقبل خلاف ذلك فلا يعلم اطراده فأين القياس الذي لا يعلم انتقاضه من القياس الذي لا يعلم اطراده
والناس متفقون على أنهم لم يروا موجودا إلا له صفة وقدر وليسوا متفقين على ان كل ما رأوه يمكن وجوده على خلاف صفاته
(3/359)
وقدره مع بقاء حقيقته التي هو بها هو ولكن مع استحالة حقيقته فاستحالة قدره وصفاته أولى
ثم ان ما نشاهده من السموات إنما نعلم جواز كونها على خلاف هذه الصفات بأدلة منفصلة لا نعلم ذلك ضرورة ولا حسا ولهذا نازع في ذلك كثير من العقلاء الذين لا يجمعهم مذهب معين تلقاه بعضهم عن بعض ولو كان هذا الجواز معلوما بالضرورة لم ينازع فيه طوائف العقلاء الذين لم يتواطأوا على قول فإن هؤلاء لا يتفقون على جحد الضروريات
ثم يقال هذا بعينه معارض بالحقائق في نفسها وصفاتها اللازمة لها فإنه يمكن ان يقال كل موجود له حقيقة تخصه يمتاز بها عن غيره فاختصاص ذلك الموجود بتلك الحقيقة دون غيرها من الحقائق يفتقر إلى مخصص
ويقال أيضا كل موجود له صفات لازمة تخصه فاختصاصه بتلك الصفات دون غيرها يفتقر إلى مخصص
ومن المعلوم أنه قد علم بضرورة العقل واتفاق العقلاء انه لا بد من وجود واجب بنفسه قديم وموجود ممكن محدث فإنا نشاهد حدوث الحوادث والحادث ممكن وألا لما وجد وليس بواجب بنفسه وإلا لم
(3/360)
يعدم ويعلم بالضرورة ان طبيعة المحدث لا تكون إلا بقديم وطبيعة الممكن لا تكون إلا بواجب كما قد بسط في غير هذا الموضع
فإذا كانت الموجودات منقسمة إلى قديم ومحدث وواجب وممكن فمن المعلوم انهما يشتركان في مسمى الوجود والماهية والذات والحقيقة وغير ذلك ويختص الواجب بما لا يشركه فيه غيره
بل من المعلوم بالضرورة ان الواجب له حقيقة تخصه لا يشركه فيها غيره فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين له افتقرت حقيقة الواجب بنفسه إلى مخصص مابين له فلا يكون في الموجودات قديم ولا واجب فيلزم حدوث الحوادث بلا محدث ووجود الممكنات بلا واجب
وهذا كما أنه معلوم الفساد بالضرورة فلم يذهب اليه أحد من العقلاء بل غاية الدهري المعطل الكافر ان يقول العالم قديم وجب الوجود بنفسه لا يقول انه ممكن محدث ليس له مبدع واذا قال الدهري ان العالم واجب الوجود بنفسه لزمه ان الواجب بنفسه مختص عن غيره بصفات لا يشركه فيها غيره كالحادث من الحيوان والنبات والمعدن
ففي الجملة كل عاقل مضطر إلى إثبات موجود واجب بنفسه له
(3/361)
حقيقة يختص بها عما سواه من غير مخصص مباين له خصصه بتلك الحقيقة
ومن قال ان واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الاطلاق او لا بشرط
فيقال له هذا القول وان كان فساده معلوما بالاضطرار كما بين في موضعه قول متناقض وهو مستلزم انه مختص عن غيره بما يخصه
وذلك ان المطلق لا يوجد في الخارج مطلقا ولا يوجد إلا مقيدا بقيد من القيود
فإذا قيل موجود واجب قيده بالوجوب فلم يبق مطلقا
وان قال ليس بواجب قيده بسلب الوجوب فلم يكن مطلقا
وان ادعى وجود موجود لا واجب ولا غير واجب لزمه رفع النقيضين جميعا وهو أظهر الامور الممتنعة في بديهة العقل
ثم انه يقيده بكونه مبدأ لغيره وبكونه عاقلا ومعقولا وعقلا وعاشقا ومعشوقا وعشقا وغير ذلك من الامور المقيدة المخصصة التي يمتاز بها عن غيهر ولا يكون وجودا مطلقا
(3/362)
ثم ان قال هو مطلق لا بشرط لزمه ان يصدق حمله على كل موجود كما ان الحيوان المطلق لا بشرط يصدق عليه حمله على الانسان والفرس وغيرهما من الحيوانات وهذا متفق عليه بين العقلاء فيلزم حينئذ ان يكون كل موجود واجب الوجود ان كان واجب الوجود هو الوجود المطلق لا بشرط كما يقوله الصدر القونوي وأمثاله من الملاحدة الباطنية باطنية الرافضة وباطنية الصوفية
ومعلوم ان هذا مكابرة للحس والعقل وهو منتهى الالحاد في الدين وان قال هو مطلق بشرط الاطلاق كما يقوله طائفة من ملاحدة الطائفتين ممن يرفع عنه ا النقيضين فهم قد قرورا في منطقهم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الاذهان لا في الاعيان ثم يلزمهم ان لا يصفوه بالوجوب ولا بكونه علة ولا عاقلا ولا معقولا ولا عاشقا ولا معشوقا لأن هذا كلها تخرج الوجود عن أن يكون مطلقا بشرط الاطلاق وتميزه عما ليس كذلك والمطلق لا بشرط ليس فيه اختصاص ولا امتياز
وان قالوا مطلق بشرط سلب سائر الامور الثبوتية عنه وهو الموصوف بالسلوب والاضافات دون الاثبات كما يقوله ابن سينا
(3/363)
وطائفة فهذا مع انه باطل من وجوه كثيرة ليس هو مطلقا بل موجود مقيد بقيود سلبية واضافية وذلك تخصيص امتاز به عن سائر الموجودات فلا يمكن تقدير وجود واجب ولا ممكن إلا وهو مختص بما يميزه عن سائر الموجودات على أي وجه قدر
ثم يقال كل ما أشار اليه العقل من الامور فلا بد له من حقيقة تختص به تميزه عما سواه كيفما كان وكل ما هو موجود في الخارج فلا بد له من وجود يختص به يمتاز به عما سواه فإنن كان كل ما اختص بأمر يخصه يجب ان يكون له مخصص من خارج امتنع ان يكون في الوجود موجود بنفسه وان تكون حقيقة من الحقائق موجودة بنفسها وان يكون ثم وجود واجب
ثم يلزم التناقض والدور الممتنع والتسلسل الممتنع فإنه إذا افتقر كل مختص إلى مباين يخصه فذاك الثاني إما ان يفتقر إلى مخصص واما ان لا يفتقر فإن لم يفتقر انتقضت القضية الكلية وهو المطلوب
وان افتقر إلى الأول لزم الدور القبلي وان افتقر إلى غيره لزم التسلسل في العلل وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء
ولو قدر مقدر انه يلزم الدور المعي وهو ان يكون كل من المختصين موجودا مع الآخر
(3/364)
فيقال فكل منهما مختص بأمر فهو متوقف على ما اختصت به نفسه وعلى ما اختص به الآخر فيلزم ان يكون هناك اختصاصان فالقول في ذلك الاختصاص كالقول في الأول
وبالجملة اختصاص الشيء بما هو عليه من خصائصه كاختصاصه بنفسه ووجوده وصفاته كلها لازمها وعارضها فقول القائل كل مختص لا بد له من مخصص مباين له كقوله كل موجود فلا بد له من موجد مباين له وكل حقيقة فلا بد لها من محقق مباين لها وكل قائم بنفسه فلا بد له من مقوم مباين له وأمثال ذلك
فإنه ما من أمر من هذه الامور إلا ويمكن الذهن ان يقدره على خلاف ما هو عليه ومجرد تقدير إمكان ذلك في الذهن لا يوجب إمكان ذلك في الخارج ولكن طائفة من أهل الجدل والباطل والحكمة السوفسطائية يستدلون على إمكان الشيء في الخارج بإمكانه في الذهن كما يوجد مثل ذلك في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة
والرازي والامدي ونحوهما يستعملون ذلك كثيرا كاستدلال الرازي وغيره على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانب بأن يقولوا القسمة العقلية تقتضي ان كل موجود فإما مباين لغيره وإما مجانب له وإما لا مباين ولا مجانب أو كل موجود فإما داخل في غيره وإما خارج عنه وإما لا داخل ولا خارج
(3/365)
ويجعلون مثل هذه التقسيم دليلا على إمكان كل من الأقسام في الخارج وقد يسمون ذلك برهانا عقليا وهو من أفسد الكلام فإن هذا بمنزلة قول القائل كل موجود فإما ان يكون قائما بنفسه او قائما بغيره واما ان لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره فإن هذا لا يقتضي إمكان وجود موجود لا قائم بنفسه ولا بغيره بل هذا مما يعلم امتناعه بالضرورة واتفق العقلاء على امتناعه
ومثله ان يقال كل موجود إما قديم او محدث او لا قديم ولا محدث ومثله كل موجود إما واجب او ممكن او لا هذا ولا هذا وكل موجود إما خالق او مخلوق او لا خالق ولا مخلوق ومثله إما عالم او جاهل او لا عالم ولا جاهل ومثله إما حي وميت او لا حي ولا ميت
فهذه التقسيمات وامثالها لا تدل على إمكان كل قسم منها ولا على وجوده في الخارج باتفاق العقلاء بل العقلاء متفقون على ان الموجود إما واجب واما ممكن واما قديم واما محدث واما قائم بنفسه واما قائم بغيره
فأما تقسيم كل قائم بنفسه إلى الحي والميت والعالم والجاهل والقادر والعاجز فهو أيضا صحيح عند جماهير العقلاء وهو قول المثبة لاسماء الله الحسنى وهو أنه حي عالم قادر
(3/366)
وانما ينازع فيه النفاة من الجهمية والباطنية فلا يسمونه بشيء من الاسماء الحسنى التي سمى بها نفسه وسمته بها رسله حتى لا يقولون هو شيء ولا موجود لأن ذلك بزعمهم يستلزم التشبيه بغيره من الاشياء والموجودات
وللملاحدة الفلاسفة سؤال مشهور على قول القائل إما ان يكون حيا او ميتا او عالما او جاهلا وقادرا او عاجزا وسميعا بصيرا او اعمى وأصم فإن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والايجاب
والفرق بينهما ان الأول سلب الشيء عما من شأنه ان يكون متصفا به كسلب الحياة والسمع والبصر والعلم عن الحيوان فإنه قابل لذلك فإذا سلب عنه لزم ان يكون ميتا أعمى أصم جاهلا وأما الجماد فإنه لا يقبل الاتصاف بذلك فلا يقال فيه حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا سميع بصير ولا أعمى أصم
قلت وقد بسطنا الكلام على هذه الشبهة وان كان الامدي وأمثاله عجزوا عن حلها بل اعترفوا بورودها وبينا الجواب عن ذلك من وجوه
احدها ان مالا يقبل الاتصاف بصفات الكمال انقص مما يقبل الاتصاف بصفات الكمال والحي الجاهل الاعمى الاصم لقبوله للعلم
(3/367)
والسمع والبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك فإذا كان يمتنع كون الواجب يقبل صفات الكمال ولا يتصف بها فلأن يمتنع كونه لا يقبلها بطريق الأولى
والثاني ان كل صفة من صفات الكمال إذا لم تستلزم نقصا فالواجب اولى بها من الممكن واتصافه بها اولى من الممكن لأنه أكمل ولأن كل كمال حصل للممكن فهو من الواجب وهم يسلمون ان كل كمال حصل للمعلوم فهو من علته فالمعلول اولى بذلك
الثالث ان كل ما أمكن اتصاف الرب سبحانه به فهو واجب له لامتناع توقف شيء من صفاته على غيره
الرابع ان نفي هذه الصفات نقص وان لم يسم جهلا وصما بكما
الخامس ان ما ذكروه من التفريق بين السلب والايجاب والعدم والملكة بتسمية هذا ميتا دون هذا اصطلاح لهم لا يجب اتباعه والله قد سمى الجماد مواتا في مثل قوله تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء } سورة النحل 20 21 وفي قوله تعالى { وآية لهم الأرض الميتة } سورة يس 33 وأمثال ذلك
(3/368)
فإذا كان قد علم انه لا بد من موجود بنفسه مختص بخصائص لا يشركه فيها غيره ولا يحتاج فيها إلى مباين له كان توهم المتوهم ان كل مختص فلا بد له من مخصص مباين له توهما باطلا شيطانيا وهو من جنس ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما قال
يأتي الشيطان احدكم فيقول من خلق كذا فيقول الله فيقول من خلق الله فإذا وجد احدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته
وفي حديث آخر
لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله
وهذا لكون الوسواس الشيطاني الباطل لا يقف عند حد الموجود الواجب القديم الخالق وهذا المقام ضل فيه طوائف من الناس صاروا ينفون ما يجب اثباته لله تعالى من الصفات لعدم علمهم بما يوجب اختصاصه بذلك
ثم إنهم يتناقضون فالمعتزلة فرقوا بين كونه عالما وقادرا وكونه متكلما مريدا بأن العلم عام التعلق فإنه سبحانه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والكلام خاص فإنه يتكلم بشيء دون شيء فإنه لا يتكلم إلا بالصدق والارادة خاصة فإنه يريد شيئا دون شيء لا يريد إلا ما علم ان سيكون
فقال لهم الناس هب ان الأمر كذلك لكن ما الموجب للتكلم ببعض الكلام دون بعض ولارادة بعض الامور دون بعض فلا بد
(3/369)
من سبب يوجب التخصيص فلا بد حينئذ ان يكون هو المخصص فقالوا القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مخصص
فيقال لهم هذا مع بطلانه يوجب تناقضكم فإنكم قلتم لا بد للتخصيص من مخصص ثم قلتم كل الممكنات مخصصة ووجدت بدون مخصص بل رجح المرجح أحد المتماثلين على الآخر من غير مخصص واذا جوزتم في الممكنات وجود المخصصات بدون مخصص مع أن نسبة القادر اليها نسبة واحدة فالموجود بنفسه اولى ان يستغني عن مخصص مما اختص به من ذاته وصفاته وذلك انه من المعلوم ان وجود ذاته وصفاته اولى من وجود مفعولاته واذا جوزتم ان يكون مخصصا لمفعولاته المختصة بحقيقة وقدر وصفة بلا مخصص اصلا فتجويزكم ان تكون ذاته المختصة الواجبة بنفسها لا تفتقر إلى مخصص بطريق الأولى
وهذا لا ينعكس فإنه إذا قيل ان افعاله تفتقر إلى مخصص لم يلزم ان تكون ذاته مفتقرة إلى مخصص فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها فهي لا تفتقر إلى سبب اصلا بخلاف مفعولاته فإنها مفتقرة إلى سبب وما افتقر إلى فاعل جاز ان يقال هو مفتقر إلى مخصص بخلاف مالا يفتقر إلى فاعل فإنه لا يجب ان يفتقر إلى مخصص
فإذا قيل ما افتقر إلى سبب او ما افتقر إلى فاعل او ما افتقر إلى
(3/370)
علم افتقر إلى مخصص وما لم يفتقر إلى شيء من ذلك لم يفتقر كان هذا كلاما معقولا
بخلاف ما إذا قيل المفتقر إلى الفاعل لا يفتقر إلى مخصص والغنى عن الفاعل يفتقر إلى مخصص فإن هذا قلب للحقيقة كما قالته المعتزلة الجهمية القدرية من نفي افتقار الأفعال إلى مخصص واثبات افتقار الذات إلى مخصص قلب للحقائق
وأفسد منه قول الفلاسفة الذين يثبون مفعولات مختلفة مع حدوث كثير منها ويقولون ان مخصصها مجرد وجود بسيط ثم يصفونه بصفات تفيد اختصاصه بما يتميز به عن سائر الموجودات ويقولون مع ذلك الاختصاص لا بد له من مخصص مباين له ثم العلم فيه من العموم ما ليس في القدرة وفي القدرة من العموم ما ليس في الارادة
والمتفلسفة نفوا الاختصاص حتى اثبتوا وجودا مطلقا مجردا ثم اثبتوا له من اللوازم ما يوجب الاختصاص مثل كونه وجودا واجبا وذلك يميزه عن الوجود الممكن وجعلوه عاقلا ومعقولا وعقلا وعاشقا ومعشوقا وعشقا وملتذا ومتلذا به وأنواع ذلك مما يوجب اختصاصه بهذه الامور عمن ليس هو موصوفا بها من الجمادات
وقالوا صدر عنه العالم المختص بما له من الصفات والاقدار من غير موجب للتخصيص فهل في الوجود أعظم من هذا التناقض
(3/371)
وهو ان يكون وجود مطلق لا اختصاص فيه يوجب كل اختصاص في الوجود من غير سبب يوجب التخصيص
وهؤلاء ينكرون على من أثبت من أهل الكلام الحوادث بلا سبب حادث ثم يثبتون الحوادث بلا محدث ويثبتون التخصيصات في الموجودات بلا مخصص اصلا وهو شبيه بقول من يجعل الممكن الذي ليس له من نفسه وجود يوجد بلا واجب بنفسه
ومن وافق هؤلاء من الكلابيه في بعض الامور يثبت صفات معدودة يختص بها ويجعل لها خصائص ثم يطلب المخصص لغير تلك الصفات ولهذا كان منتهى من سلك هذه السبيل إلى ان يثبت وجودا مطلقا ثم يتناقض اعظم من تناقض غيره وذلك لأن كل موجود فمختص بما هو من خصائصه سواء كان واجبا او ممكنا فطلب الذهن شيئا مطلقا لا اختصاص له بشيء يميزه عن غيره طلب ما هو ممتنع لذاته فمن وصف الواجب بذلك فقد وصفه بصفة الممتنع لذاته وهذا نهاية هؤلاء وهو الجمع بين النقيضين
ثم يقول من يقول من متصوفتهم أنه يجوز الجمع بين النقيضين وأنه يثبت في الكشف ما يناقض صريح العقل
والشهرستاني لما اعتمد في مناظرته للقائلين بالعلو والمباينة والصفات الفعلية ونحو هؤلاء على هذه الطريقة أورد على نفسه من اللوازم ما
(3/372)
اعترف معه بالحيرة فلما احتج بأن الاختصاص بالقدر يقتضي مخصصا والاختصاص بالجهة يقتضي مخصصا قال فإن قيل بم تنكرون على من يقول القدر الذي اختص به نهاية وحدا واجب له لذاته فلا يحتاج إلى مخصص بخلاف مقادير الخلق فإنها احتاجت إلى ذلك لأنها جائزة وذلك لأن الجواز في الجائزات إنما يعرف بتقدير القدرة عليها فلما كانت المقادير المخلوقة مقدورة عرف جوازها واحتاج الجواز إلى مرجح فإذا لم يكن فوق الباري تعالى قادر يقدر عليه لم يمكن اضافة الجواز اليه واثبات الاحتياج له السنا اتفقنا على ان الصفات ثمان أفهي واجبة له على هذا العدد ام جائز ان توجد صفة أخرى فإن قلتم يجب الانحصار في هذا العدد كذلك نقول الاختصاص بالحد المذكور واجب له إذ لا فرق بين مقدار في الصفات عدا ومقدار في
(3/373)
الذات حدا وان قلتم جائز ان توجد صفة أخرى فما الموجب للانحصار في هذا العدد والحد فيحتاج إلى مخصص حاصر ثم قال قلنا المقادير من حيث انها مقادير طولا وعرضا وعمقا لا تختلف شاهدا ولا غائبا في تطرق الجواز العقلى اليها واستدعاء مخصص
فيقال له هذا الذي قلته هو أول المسألة فإن المقادير من حيث هي لا وجود لها في الخارج كما ان الصفات والذوات من حيث هي هي لا وجود لها في الخارج وانما يوجد في الخارج ذات مخصوصة بصفاتها المخصوصة فالقول فيما اختصت به من المقدار كالقول فيما اختصت به من سائر الصفات وما اختصت به من الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات
ثم قال وأما الصفات وانحصارها في ثمان فقد اختلف جواب الاصحاب عنه بوجوه منها انهم منعوا اطلاق لفظ
(3/374)
العدد عليها فضلا عن الثمانية وقالوا قد دل الفعل بوقوعه على كون الفاعل قادرا وباختصاصه ببعض الجائزات على كونه مريدا وبإحكامه على كونه عالما وعلم بالضرورة ان القضايا مختلفة وورد في الشرع اطلاق العلم والقدرة والارادة ولا مدلول سوى ما دل الفعل عليه او ورد في الشرع اطلاقه ولهذا اقتصرنا على ذلك فلو سئل هل يجوز ان يكون له صفة اخرى اختلف الجواب عنه فقيل لا يتطرق اليه الجواز فإنا لم نثبت الصفات إلا بدليل الفعل والفعل ما دل إلا على تلك وقيل يجوز عقلا إلا ان الشرع لم يرد به فنتوقف في ذلك ولا يضر الاعتقاد إذا لم يرد به تكليف
قال ومنها أنهم فرقوا في الشاهد بين الصفات الذاتية التي تلتئم منها حقيقة الشيء وبين المقادير العرضية التي لا مدخل لها في تحقيق حقيقة الشيء فإن الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى
(3/375)
الفاعل بل هي له من غير سبب والمقادير العرضية تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل فإن جعلها له بسبب
ومنها أنه لو قدر صفة زائدة على الثمان لم يخل إما ان تكون صفة مدح وكمال او صفة ذم ونقصان فإن كان صفة كمال فعدمها في الحال نقص وان كان صفة نقص فعدمها عنه واجب واذا بطل القسمان تعين انه لا يتصف بزيادة على الثمانية
قال ويترتب على ما ذكرناه هل يجوز ان يكون للباري تعالى اخص وصف لا ندركه وفرق بين هذا السؤال والسؤال الأول فإن السائل الأول سأل هل يجوز ان تزيد صفاته على الصفات الثمانية والسائل الثاني سأل هل له أخص وصف تميز
(3/376)
به عن المخلوقات واختلف جواب الاصحاب عنه ايضا فقال بعضهم ليس له اخص وصف ولا يجوز ان يكون لأنه بذاته وصفاته تميز عن ذوات المخلوقات وصفاتها من حيث ان ذاته لا حد لها زمانا ومكانا ولا تقبل الانقسام فعلا ووهما بخلاف ذوات المخلوقات وصفاته غير متناهية في التعلق بالمتعلقات ولو كان الغرض ان يتحقق اخص وصف به يقع التميز فقد وقع التميز بما ذكرناه فلا أخص سوى ما عرفناه وقال بعضهم لا بل له اخص وصف في الالهة لا ندركه وذلك ان كل شيئين لهما حقيقتان معقولتان فإنهما يتمايزان بأخص وصفيهما وجميع ما ذكرنا من أن لا حد ولا نهاية لا انقسام للذات ولا تناهي للتعلق في الصفات كل ذلك سلوب وصفات نفي وبالنفي لا يتميز الشي ءعن الشيء بل لا بد من صفة إثبات بها يقع التميز وإلا فترتفع الحقيقة رأسا ثم إذا ثبت
(3/377)
أخص الوصف هل يجوز ان يدرك قال امام الحرمين لا يجوز ان يدرك اصلا وقال بعضهم يجوز ان يدرك وقال ضرار بن عمرو يدرك ذلك عند الرؤية بحاسة سادسة ونفس المسألة من محارات العقول وتصور الاخص من محارات العقول
فيقال هذا وما أشبهه هو الذي يقال في هذا المقام من جهة من يفرق بين بعض الصفات وبعض كما يفرق بين الصفة والقدر من تدبره علم انه لا يمكن الفرق
وذلك من وجوه
احدها ان ما ذكره ليس فيه جواب عن الالزام والمعارضة فإنهم عارضوه بإثبات صفات متعددة سواء كانت ثمانيا أو أكثر أو اقل فإن اختصاص الصفات بعدد من الاعداد كاحتصاص الذات بقدر من الاقدار واذا كان المسمى لا يسمى ذلك عددا فمنازعه لا يسمى الآخر قدرا وليس الكلام في الاطلاقات اللفظية بل في المعاني العقلية وما زاد على ذلك سواء نفي ثبوته او نفي
(3/378)
العلم به لا يضر فإن السؤال قائم إلا أن يثبت المثبت صفات لا نهاية لعددها وهذا ينقض قاعدة من يقول إنه لا يوجد ما لا نهاية له وإلا فإذا أثبت الصفات متناهية كانت المعارضة متوجهة سواء عرف عددها أو لم يعرف وتفريق من فرق بين الصفات الذاتية والعرضية بأن هذه تفتقر إلى فاعل دون الأخرى لا يصح لأن هذا إنما يجيء على قول من يقول الماهيات غير مفعولة ولا مجعولة كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ونحوهم وإلا فأهل السنة ومتكلموهم متفقون على أن حقائق جميع المخلوقات مخلوقة مصنوعة بل ليس لها حقيقة في الخارج إلا ما هو موجود في الخارج وما سوى ذلك فإنما هو الصورة العلمية وما في الأذهان من ذلك فالله تعالى هو الذي جعله فيها والله سبحانه هو الذي خلق فسوى وهو الذي قدر فهدى وهو الذي خلق الإنسان من علق وهو الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وهو الذي خلق الإنسان علمه البيان
فقوله الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل قول باطل بل صفة كل موصوف مخلوق مضافة إلى الله تعالى فإنه خلق كل موصوف بصفاته وليس في المخلوق شيء لا من ذاته ولا من صفاته إلا والله تعالى خلقه وأبدعه
وأيضا فكل صفة لازمة لموصوفها لا يكون الموصوف إلا بها فإن كان مفتقرا إلى الفاعل فالفاعل فعله بصفاته وإن كان غنيا عن
(3/379)
الفاعل استغنى بصفاته عن الفاعل وتسمية أهل المنطق لبعضها ذاتيا ولبعضها عرضيا لا يمنع اشتراكها في هذا الحكم
وقول القائل لو قدر صفة زائدة على الثمان لكان صفة كمال او نقص إنما يفيده نفي ما زاد على الثمان وهذا لا يضر المعارض بل يقوي معارضته فإن تخصيص الصفات بإثبات ثمان دون ما زاد ونقص تخصيص بقدر وعدد فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين للموصوف فالسؤال قائم فإن قال القائل هذه الصفات على هذا الوجه من لوازم الذات لا تفتقر إلى موجب غير الذات قيل له فهكذا مورد النزاع وبطل ما ذكرته من اختصاص كل موصوف بصفات ومقدار يفتقر إلى مخصص منفصل عنه
الوجه الثاني ان ما ذكره من الكلام في أخص وصف هو أيضا لازم لهم كما أن ما ذكره في الصفات هو أيضا لازم لهم فإن هذا معارضة باختصاص الحقيقة في نفسها وذلك معارضة باختصاصها ببعض الصفات دون بعض وبعدد من الصفات دون ما زاد وسواء قيل بإثبات اخص وصف او لم يقل فإنه لا بد من ذات متميزة بنفسها عما سواها
الوجه الثالث ان يقال اهل الاثبات للصفات لهم فيما زاد على الثمانية ثلاثة أقوال معروفة احدها إثبات صفات أخرى كالرضى والغضب والوجه واليدين والاستواء وهذا قول ابن كلاب والحارث
(3/380)
المحاسبي وأبي العباس القلانسي والاشعري وقدماء اصحابه كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر بن الطيب وامثالهم وهو قول أبي بكر بن فورك وقد حكى إجماع اصحابه على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد وهو قول أبي القاسم القشيري وأبي بكر البيهقي كما هو قول القاضي أبي يعلي وابن عقيل والشريف أبي علي وابن الزاغوني وأبي الحسن التميمي واهل بيته كابنه أبي الفضل ورزق الله وغيرهم كما هو قول سائر المنتسبين إلى اهل السنة والحديث وليس للاشعري نفسه في إثبات صفة الوجه واليد والاستواء وتأويل نصوصها قولان بل لم يختلف قوله انه يثبتها ولا يقف فيها بل يبطل تأويلات من ينفيها ولكن ابو المعالي وأتباعه ينفونها ثم لهم في التأويل والتفويض قولان فأول قولي أبي المعالي التأويل كما ذكره في = الارشاد وآخرهما التفويض كما ذكره في الرسالة النظامية وذكر إجماع السلف على المنع من التأويل وأنه محرم
(3/381)
وأما ابو الحسن وقدماء اصحابه فهم من المثبتين لها وقد عد القاضي ابو بكر في التمهيد والابانة له الصفات القديمة خمس عشرة صفة ويسمون هذه الصفات الزائدة على الثمانية الصفات الخبرية وكذلك غيرهم من أهل العلم والسنة مثل محمد بن جرير الطبري وأمثاله وهو قول أئمة أهل السنة والحديث من السلف وأتباعهم وهو قول الكرامية والسالمية وغيرهم
وهذا القول هو القول المعروف عند متكلمة الصفاتية لم يكن يظهر بينهم غيره حتى جاء من وافق المتعتزلة على نفيها وفارق طريقة هؤلاء وأصل هؤلاء أنهم يثبتون الصفات بالسمع وبالعقل بخلاف من اقتصر على الثمانية فإنه لم يثبت صفة إلا بالعقل وقد أثبت طائفة منهم بعضها بالعقل كما أثبت ابو اسحق الاسفراييني صفة اليد بالعقل وكما يثبت كثير من المحققين صفة الحب والبغض والرضى والغضب بالعقل
(3/382)
القول الثاني قول من ينفي هذه الصفات كما ذكره الشهرستاني وغيره وهو أضعف الأقوال فإن عمدته انه لو كان لله صفة غير ذلك لوجب ان ينصب عليها دليلا نعلمه ولم ينصب فلا صفة له وكلتا المقدمتين باطلة فإن دعوى المدعي انه لابد ان ينصب الله تعالى على كل صفة من صفاته دليلا باطل ودعواه انه لم ينصب دليلا إلا نعلمه هو أيضا باطل كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع فإن هذه القاعدة إنما هي معدة لجمل المقاصد
والثالث قول الواقفة الذين يجوزون إثبات صفات زائدة لكن يقولون لم يقم عندنا دليل على نفي ذلك ولا اثباته وهذه طريقة محققي من لم يثبت الصفات الخبرية وهذا اختيار الرازي والامدي وغيرهما
وأئمة أهل السنة والحديث من أصحاب الائمة الاربعة وغيرهم يثبتون الصفات الخبرية لكن منهم من يقول لا نثبت إلا ما في القرآن والسنة المتواترة وما لم يقم دليل قاطع على اثباته نفيناه كما يقوله ابن عقيل وغيره احيانا ومنهم من يقول بل نثبتها بأخبار الآحاد المتلقاة بالقبول ومنهم من يقول نثبتها بالاخبار الصحيحة مطلقا ومنهم من يقول يعطي كل دليل حقه فما كان قاطعا في الاثبات قطعنا بموجبه وما كان راجحا لا قاطعا قلنا بموجبه فلا
(3/383)
نقطع في النفي والاثبات إلا بدليل يوجب القطع واذا قام دليل يرجح أحد الجانبين بينا رجحان أحد الجانبين وهذا أصح الطرق
وكثير من الناس قد يظن صحة أحاديث فإما ان يتأولها او يقول هي مثل غيرها من الأخبار وتكون باطلة عند أئمة الحديث
ومن الأخبار ما يكون ظاهره يبين المراد به لا يحتاج إلى دليل يصرفه عن ظاهره ولكن يظن قوم انه مما يفتقر إلى تأويل كقوله
الحجر الاسود يمين الله في الارض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه
فهذا الخبر لو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ظاهره ان الحجر صفة لله بل هو صريح في أنه ليس صفة لله لقوله يمين الله في الارض فقيده في الارض ولقوله فمن صافحه فكأنما صافح الله والمشبه ليس هو المشبه به واذا كان صريحا في انه ليس صفة الله لم يحتج إلى تأويل يخالف ظاهره ونظائر هذا كثيرة مما يكون في الاية
(3/384)
والحديث ما يبين انه لم يرد به المعنى الباطل فلا يحتاج نفي ذلك إلى دليل منفصل ولا تأويل يخرج اللفظ عن موجبه ومقتضاه
واذا كان كذلك فالمعارضة بالصفات ثابتة على كل قول من الأقوال الثلاثة إذ لا بد فيها من اختصاص فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين لزم افتقار صفات الله تعالى إلى مباين له
ثم رأيت ابا الحسن الامدي قد ذكر هذا الدليل الذي ذكره الشهرستاني وبين ضعفه في كتابه المسمى بغاية المرام في علم الكلام فقال في مسألة نفي العلو وتوابع ذلك وقد سلك بعض الاصحاب في الرد على هؤلاء طريقا شاملا فقال لو كان الباري مقدرا بقدر متصورا بصورة متناهيا بحد ونهاية مختصا بجهة متغيرا بصفة حادثة في ذاته لكان محدثا إذ العقل الصريح يقضي بأن المقادير في تجويز العقل متساوية فما من مقدار وشكل يقدر في العقل إلا ويجوز ان يكون مخصوصا بغيره فاختصاصه بما اختص به من مقدار او شكل او غيره يستدعي مخصصا ولو استدعى مخصصا لكان الباري محدثا
قال الامدي لكن هذا المسلك مما لا يقوى وذلك
(3/385)
انه وان سلم ان ما يفرض من المقادير والجهات وغيرها ممكنة في انفسها وان ما وقع منها لا بد له من مخصص لكن إنما يلزم ان يكون الباري حادثا أن لو كان المخصص خارجا عن ذاته ونفسه
ولعل صاحب هذا القول لا يقول به وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الباري تعالى حادثا ولا محوجا إلى غيره اصلا فإن قيل ان ما اقتضاه بذاته ليس هو أولى من غيره لتساوي الجميع بالنسبة اليه في جهة الاقتضاء فهو نحو الخلاف ولعل الخصم قد لا يسلم تساوي النسبة في جهة الاقتضاء إلا ان يقدر انه لا اختلاف بين هذه الممكنات ولا محالة ان بيان ذلك متعذر جدا كيف وأنه يحتمل ان ينتهج الخصم في تخصيص هذه الصفات الثابتة للذات منهج أهل الحق في تخصيص سائر الممكنات وبه درء الالزام
ثم استدل على هذه المسألة بما هو أضعف من هذا وهو ان البناء على ذلك مستلزم لكونه جوهرا والجواهر متماثلة وقد عرف ما في هذين الاصلين من المنازعات اللفظية والمعنوية في غير هذا الموضع
(3/386)
والامدى نفسه قد بين بطلان قول من جعل الجواهر متماثلة
وما ينبغي ان يعرف في مثل هذه المسائل المنازعات اللفظية فإن القائل إذا قال التخصيص يفتقر إلى محخصص والتقدير إلى مقدر كان بمنزلة من يقول التحريك يفتقر إلى محرك وامثال ذلك وهذا لا ريب فيه فإن التخصيص مصدر خصص يخصص تخصيصا وكذلك التقدير والتكليم ونحو ذلك ومصدر الفعل المتعدى لا بد له من فاعل يتعدى فعله فإذا قدر مصدر متعد بلا فاعل يتعدى فعله كان متناقضا بخلاف ما إذا قيل الاختصاص يفتقر إلى مخصص والمقدار إلى مقدر ونحو ذلك فان هذا ليس في الكلام ما يدل عليه لان المذكور إما مصدر فعل لازم كالاختصاص ونحوه او اسم ليس بمصدر كالمقدار وكل من هذين ليس في الكلام ما يوجب افتقاره إلى فاعل يتعداه فعله فإذا قيل الموصوف الذي له صفة وقدر قد اختص بصفة وقدر فلا بد له من مخصص لم يكن في هذا الكلام ما يدل على افتقاره إلى مخصص مباين له يخصصه بذلك بخلاف ما إذا قيل إذا خص بصفة او قدر فلا بد له من مخصص فإن هذا كلام صحيح
والناطقون من اهل النظر وغيرهم إذا قصدوا المعاني فقد لا يراعون مثل هذا بل يطلقون اسم المفعول على ما لم يعلم ان له فاعلا فيقول احدهم هذا مخصوص بهذه الصفة والقدر والمخصوص لا بد له من مخصص فإذا اخذ المخصوص على انه اسم مفعول فمعلوم انه
(3/387)
لا بد له من فاعل يتعدى فعله واذا اخذ على ان المقصود اختصاصه بذلك الوصف كان هذا مما يفتقر إلى دليل وهذا مثل الموجود فإنه لا يقصد به ان غيره اوجده بل يقصد به المحقق الذي هو بحيث يوجد فكثير من الأفعال التي بنيت للمفعول واسم المفعول التابع لها قد كثر في الاستعمال حتى بقي لا يقصد به قصد فعل حادث له فاعل أصلا بل يقصد إثبات ذلك الوصف من حيث الجملة
وكثير من الفاظ النظار من هذا الباب كلفظ الموجود والمخصوص والمؤلف والمركب والمحقق فإذا قالوا ان الرب تعالى مخصوص بخصائص لا يشركه فيها غيره او هو موجود لم يريدوا ان أحدا غيره خصه بتلك الخصائص ولا ان غيره جعله موجودا
وبسب ذلك تجد جماعات غلطوا في هذا الموضع في مثل هذه المسالة إذا قيل البارى تعالى مخصوص بكذا وكذا او مختص بكذا وكذا قالوا فالمخصوص لا بد له ممن خصه بذلك والمخصص لا بد له من مخصص خصصه بذلك
والناس قد يبحثون عن اختصاص الشيء بأمور قبل بحثهم هل هي من نفسه او من غيره ويعلمون ويقولون انه مخصوص بذلك وقد خص بهذا واختص به ونحو ذلك
(3/388)
ونظير ذلك ماذكره ابو حامد في تهافت الفلاسفة لما رد عليهم مذهبهم في نفي الصفات وبين انه لا دليل لهم على نفيها وتكلم في ذلك بكلام حسن بين فيه ما احتجوا به من الالفاظ المجملة المبهمة كلفظ التركيب فانهم جعلوا إثبات الصفات تركيبا وقالوا متى اثبتنا معنى يزيد على مطلق الوجود كان تركيبا وادخلوا في مسمى التركيب خمسة انواع
أحدها انه ليس له حقيقة إلا الوجود المطلق لئلا يكون مركبا من وجود وماهية
والثاني ليس له صفة لئلا يكون مركبا من ذات وصفات
والثالث ليس له وصف مختص ومشترك لئلا يكون مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز لتركب النوع من الجنس والفصل او من الخاصة والعرض العام
الرابع انه ليس فوق العالم لئلا يكون مركبا من الجواهر المفردة وكذلك لا يكون مركبا من المادة والصورة فلا يكون مركبا تركيبا حسيا كتركب الجسم من الجواهر المنفردة ولا عقليا كتركبه من المادة والصورة
وهذان نوعان بهما يصير خمسة وهذه الطريقة هي طريقة
(3/389)
ابن سينا فإنه زعم ان نفس الوجود إذا كان يستلزم وجودا واجبا فالوجود الواجب له هذه الخصائص النافية لهذه الصفات ويقول ليس له اجزاء حد ولا اجزاء كم وهذا مراده
واما قدماء الفلاسفة فلم يكونوا يثبتون واجب الوجود بهذه الطريقة بل بطريقة الحركة فلما جاء ابن رشد الحفيد يعترض على أبي حامد فيما ذكره لم يمكنه الانتصار لابن سينا بل بين ان هذه الطريقة التي سلكها ضعيفة كما ذكر ابو حامد واحتج هو بطريقة اخرى ظن انها قوية وهي اضعف من طريقة ابن سينا فان ابا حامد لما ذكر القول المضاف إلى الفلاسفة كابن سينا وامثاله وذكر انهم ينفون تلك الانواع الخمسة قال ومع هذا فانهم يقولون للبارى تعالى انه مبدأ واول وموجود وجوهر واحد وقديم وباق وعالم وعاقل وعقل ومعقول وفاعل وخالق ومريد وقادر وحي وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ وجواد وخير محض وزعموا ان كل ذلك عبارة عن معنى واحد لاكثرة فيه
(3/390)
قال وهذا من العجائب وهم يقولون ذات المبدأ الأول واحد وانما تكثر الاسماء باضافته إلى شيء او اضافة شيء اليه او سلب شيء عنه والسلب والاضافة لا يوجب كثرة في ذات المسلوب عنه ولكن الشأن في رد هذه كلها إلى السلوب والاضافات وذكر تمام قولهم
قال ابو حامد فيقال لهم بم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه وأنتم مخالفون من جميع المسلمين سوى المعتزلة فما البرهان عليه فان قول القائل الكثرة محال في واجب الوجود مع كون الصفات الموصوفة واحدة يرجع إلى انه يستحيل كثرة الصفات فيه وفيه النزاع وليس
(3/391)
استحالته معلوما بالضرورة ولهم مسلكان أحدهما ان كل واحد من الصفة والموصوف ان كان مستغنيا عن الآخر فهما واجبا الوجود وان كان مفتقرا اليه فلا يكون واحد منهما واجب الوجود وان احتاج أحدهما إلى الآخر فهو معلول والآخر هو الواجب وايهما كان معلولا افتقر إلى سبب فيؤدي إلى ان ترتبط ذات واجب الوجود بسبب
قال ابو حامد المختار من هذه الأقسام هو الاخير ولكن ابطالكم القسم الأول لا دليل لكم عليه فان برهانكم عليه إنما يتم بنفي الكثرة من هذه المسالة فكيف تنبنى هذه المسالة على تلك
قلت الجواب عن هذه الحجة يمكن بوجوه
أحدها ان يقال قولكم إما ان يكون أحدهما محتاجا إلى الآخر واما ان يكون مستغنيا عنه تريدون بالاحتياج حاجة المفعول إلى فاعله او مطلق التلازم وهو كون أحدهما لا يوجد إلا بالاخر ام قسم ثالث
(3/392)
فإن أردتم الأول لم يكن أحدهما محتاجا إلى الآخر بل غنيا عن كونه فاعلا له ولا يلزم أن يكونا واجبي الوجود بمعنى أن كلا منهما هو الواجب بنفسه المبدع للمكنات
وإن قيل إن كلا منهما واجب الوجود بمعنى أنه لا مبدع له
قيل نعم ولا نسلم امتناع تعدد مسمى واجب الوجود بهذا التفسير وإنما يمتنع تعدده بالتفسير الأول فإن الأدلة قامت على أن خالق الممكنات رب واحد لم تقم على نفي صفاته بل كل من صفاته اللازمة له قديم أزلي ممتنع عدمه ليس له فاعل فإذا عبر عن هذا المعنى بأنه واجب الوجود فهو حق وإن عني بواجب الوجود ما ليس ملازما لغيره فليست الذات وحدها واجبة الوجود ولا الصفات بل الواجب الوجود هو الذات المتصفة بصفاتها اللازمة لها لا سيما وهم يقولون إنها مستلزمة للمعلول فامتناع ذلك على أصلهم أبلغ وقد عرف أن كلا من الصفات الذاتية ملازمة للأخرى والصفات ملازمة للذات وليس كل منهما مبدعا للآخر
وإن قلتم كل منهما محتاج إلى الآخر بمعنى أنه ملازم له لم يلزم من كونه ملازما أن يكون معلولا
وهذا الجواب الثاني وهو أن يقال ما تعني بواجب الوجود
(3/393)
أتعني به ما لا فاعل له أو تعني به القائم بنفسه الذي لا فاعل له
فإن عنيت الأول لم يمتنع أن يكون كل من الصفات والذات واجب الوجود بهذا التفسير ولم يدل على امتناع تعدد الواجب بهذا التفسير دليل كما لم يدل على امتناع تعدد القديم بهذا التفسير دليل وإنما دل الدليل على أنه لا إله إلا الله وأن الله رب العالمين واحد لا شريك له وهو التوحيد الذي دل عليه الشرع والعقل
فأما نفي الصفات وتسمية ذلك توحيدا فهو مخالف للشرع والعقل
وإن أراد بواجب الوجود القائم بنفسه الذي لا فاعل له كانت الذات واجبة الوجود وهي بالصفة واجبة الوجود ولم تكن الصفة وحدها واجبة الوجود
وإن أريد بحاجة كل من الصفة والموصوف إلى الآخر التلازم اختير إثبات ذلك ولم يلزم من ذلك كون أحدهما معلول الآخر فإن المتضايفين متلازمان وليس أحدهما معلول الآخر وإن أريد بذلك كون أحدهما فاعلا اختير نفي الحاجة بهذا التفسير وهو القسم الأول وهو أنه ليس أحدهما محتاجا إلى الآخر
(3/394)
وإن أريد أن أحدهما محل للآخر اختير جواب الغزالي وهو أن الصفة محتاجة إلى الذات من غير عكس
وعلى هذا فقول القائل إن أحدهما معلول للآخر إن أراد به أن أحدهما فاعل للآخر فهو باطل فإنه لا يجب من قيام الصفة بالموصوف أن يكون الموصوف فاعلا للصفة بل الأمر بالعكس فإن المفعول يمتنع أن يكون من باب الصفات اللازمة للموصوف
وإن أريد يذلك أن يكون أحدهما قابلا للآخر فلا امتناع في ذلك وإن قيل بل إن المحل علة للحال
واعلم أن هذه الحجة وأمثالها إنما نشأت الشبهة فيها من جهة أن ألفاظها مجملة فلفظ العلة يراد به العلة الفاعلة والعلة القابلة ولفظ الحاجة إلى الغير يراد به الملازم للغير ويراد به حاجة المشروط إلى شرطه ويراد به حاجة المفعول إلى فاعله
وإذا عرف هذا فالصفات اللازمة مع الذات متلازمة وليس أحدهما فاعلا للآخر بل الذات محل للصفات وليس الواحد منهما علة فاعلة بل الموصوف قابل للصفات وهذا لا امتناع فيه بل هو الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول
لكن الغزالي لم يجب إلا بجواب واحد ومضمون كلامهم أنهم في جميع كلامهم في نفي الصفات ينتهي أمرهم إلى أن هذا
(3/395)
تركيب والمركب مفتقر إلى جزئه والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه لأنه محتاج
فقال لهم أبو حامد نحن نختار أن يقال الذات في قوامها غير محتاجة إلى الصفات والصفات محتاجة إلى الموصوف كما في حقنا فبقي قولكم إن المحتاج إلى غيره لا يكون واجب الوجود فيقال إن أردتم بواجب الوجود أنه ليس له علة فاعلية فلم قلتم ذلك ولم استحال أن يقال كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفته قديمة معه ولا فاعل لها وإن أردتم بواجب الوجود أن لا يكون له علة قابلية فهو ليس بواجب الوجود على هذا التأويل ولكنه قديم مع هذا ولا فاعل له فما المحيل لذلك فإن قيل واجب الوجود المطلق هو الذي ليس له علة فاعلية ولا قابلية فإذا سلم أن له علة قابلية فقد سلم كونه معلولا قلنا تسمية الذات القابلة علة قابلية من
(3/396)
اصطلاحكم والدليل لم يدل على ثبوت واجب الوجود بحكم اصطلاحكم إنما دل على إثبات طرف ينقطع به تسلسل العلل والمعلولات ولم يدل على هذا القدر وقطع التسلسل يمكن بواحد له صفات قديمة لا فاعل لها كما أنه لا فاعل لذاته ولكنها تكون متقررة في ذاته
قال ابن رشد يريد أنه إذا وضع لهم هذا القسم من الأقسام التي استعملوا في إبطال الكثرة آل الأمر معهم إلى أن يثبتوا أن واجب الوجود ليس يمكن أن يكون مركبا من صفة وموصوف ولا أن تكون ذاته ذات صفات كثيرة وهذا شيء ليس يقدرون عليه بحسب أصولهم ثم أخذ يبين أن المحال الذي راموا أن يلزموه على تقدير هذا القسم ليس بلازم قال فيقال لهم إن أردتم بواجب الوجود أنه ليس له علة فاعلية فلم قلتم ذلك أي فلم قلتم بامتناع كونه موصوفا بالصفات ولم استحال
(3/397)
أن يقال كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفاته قديمة لا فاعل لها
قال ابن رشد وهذا كله معاندة لمن سلك في نفي الصفات طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود بذاته وذلك أنهم يفهمون في الممكن الوجود الممكن الحقيقي ويرون أن كل ما دون المبدأ الأول هو بهذه الصفة وخصومهم من الأشعرية يسلمون هذا ويرون أن كل ممكن فله فاعل وأن التسلسل ينقطع بالانتهاء إلى ما ليس ممكنا في نفسه فإذا سلم لهم هذه ظن بها أنه يلزم عنها أن يكون الأول الذي انقطع عنده الإمكان ليس ممكنا فوجب أن يكون بسيطا غير مركب لكن للأشعرية أن يقولوا إن الذي ينتفي عنه الإمكان الحقيقي ليس يلزم أن يكون بسيطا وإنما يلزم أن يكون قديما فقط لا علة فاعلية له فلذلك ليس عند هؤلاء برهان على ان الأول بسيط من طريقة واجب الوجود
(3/398)
قال أبو حامد فإن قيل فإذا أثبتم ذاتا وصفة وحلولا للصفة بالذات فهو مركب وكل تركيب يحتاج إلى مركب ولذلك لم يجز أن يكون الأول جسما لأنه مركب قلنا قول القائل كل مركب يحتاج إلى مركب كقوله كل موجود يحتاج إلى موجد فيقال له الأول قديم موجود لا علة له ولا موجد
فكذلك يقال موصوف قديم ولا علة لذاته ولا لصفته ولا لقيام صفاته بذاته بل الكل قديم بلا علة وأما الجسم فإنما لم يجز أن يكون هو الأول لأنه حادث من حيث أنه لا يخلو عن الحوادث ومن لم يثبت له حدوث الجسم يلزمه أن تكون العلة الأولى جسما كما سنلزمه عليكم فيما بعد
قال ابن رشد معترضا على أبي حامد التركيب ليس هو
(3/399)
مثل الوجود لأن التركيب هو مثل التحريك أعني صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب والوجود هو صفة هذه الذات بعينها وأيضا المركب ليس ينقسم إلى مركب من ذاته ومركب من غيره فيلزم أن ينتهي الأمر إلى مركب قديم كما ينتهي الأمر في الموجودات إلى موجود قديم وأيضا فإذا كان الأمر كما قلنا من أن التركيب أمر زائد على الوجود فلقائل أن يقول إن كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد متحرك من ذاته وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من ذاته لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك
قال والفصل في هذه المسألة أن المركب لا يخلو من أن يكون كل واحد من جزأيه أو أجزائه التي تركب منها شرطا في وجود صاحبه بجهتين مختلفتين أو لا يكون شرطا أو يكون أحدهما
(3/400)
شرطا في وجود الثاني والثاني ليس شرطا في وجود الأول فأما الأول فلا يمكن أن يكون قديما لأن التركيب نفسه شرط في وجود الأجزاء فلا يمكن أن تكون الأجزاء علة التركيب ولا التركيب علة نفسه إلا لو كان الشيء علة نفسه وأما الثاني إذا لم يكن واحد منهما شرطا في وجود صاحبه فإن أمثال هذه إذا لم يكن في طباع أحدهما أن يلازم الآخر فإنها ليست تتركب إلا بمركب خارج عنها وإن كان أحدهما شرطا في وجود الآخر من غير عكس كالحال في الصفة والموصوف الغير جوهرية فإن كان الموصوف قديما ومن شأنه أن لا تفارقه الصفة فالمركب قديم وإذا كان هذا هكذا فليس يصح إن جوز مجوز وجود مركب قديم أن يبين على طريق الأشعرية أن كل جسم محدث لأنه إن وجد مركب
(3/401)
قديم وجدت أعراض قديمة أحدها التركيب لأن أصل ما يبنون عليه وجوب حدوث الأعراض أنه لا تكون الأجزاء التي تركب منها الجسم إلا بعد الافتراق فإذا جوزوا مركبا قديما أمكن أن يوجد اجتماع لم يتقدمه افتراق وحركة لم يتقدمها سكون وإذا جاز هذا أمكن أن يوجد جسم ذو أعراض قديمة ولم يصح لهم أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث
قلت ما ذكره أبو حامد مستقيم مبطل لقول الفلاسفة وما ذكره ابن رشد إنما نشأ من جهة ما في اللفظ من الإجمال والاشتراك وكلامه في ذلك أكثر مغلطة من كلام ابن سينا الذي أقر بفساده وضعفه
وذلك أن هؤلاء قالوا لأبي حامد والمثبتين إذا أثبتم ذاتا وصفة وحلولا للصفة بالذات فهو مركب وكل مركب يحتاج إلى مركب
قال لهم قول القائل كل مركب يحتاج إلى مركب كقول القائل كل موجود يحتاج إلى موجد
ومقصوده بذلك أن هذا المعنى الذي سميتموه تركيبا ليس معنى كونه مركبا إلا كون الذات موصوفة بصفات قائمة بها ليس معناه أنه كان هناك شيء متفرق فركبه مركب بل ولا هناك شيء يقبل التفريق فإن الكلام إنما هو في إثبات صفات واجب الوجود اللازمة له كالحياة والعلم
(3/402)
والقدرة وإذا كانت هذه الصفات لازمة للموصوف القديم الواجب الوجود بنفسه لم يمكن أن تفارقه ولا أن توجد دونه ولا يوجد إلا بها فليس هناك شيئان كانا مفترقين فركبهما فركب
ولفظ المركب في الأصل اسم مفعول لقول القائل ركبته فهو مركب كما تقول فرقته فهو مفرق وجمعته فهو مجمع وألفته فهو مؤلف وحركته فهو محرك
قال الله تعالى { في أي صورة ما شاء ركبك } سورة الانفطار 8 يقال ركبت الباب في موضعه
هذا هو المركب في اللغة لكن صار في اصطلاح المتكلمين والفلاسفة يقع على عدة معان غير ما كان مفترقا فاجتمع كما يقول أحدهم الجسم إما بسيط وإما مركب يعنون بالبسيط الذي تشتبه أجزاؤه كالماء والهواء وبالمركب ما اختلفت كالإنسان وقد يقولون كل جسم مركب من أجزائه لأن هذا الجزء غير هذا الجزء وإن كانوا يعتقدون أنه لم يتفرق قط وأنه لم يزل كذلك ويتنازعون هل الجسم مركب من الجواهر المنفردة أو من الهيولى والصورة أم ليس مركبا من واحد منهما مع اتفاقهم على أنه من الأجسام ما لم
(3/403)
تكن أجزاؤه مفترقة فتركبت وقد يعنون بالمركب المركب من الصفات كما يقولون الإنسان مركب من الجنس والفصل وهو الحيوان الناطق وهاتان الصفتان لم تفارق إحداهما الأخرى ولا يمكن وجود الناطق إلا مع الحيوان ولا يمكن وجود حيوان إلا مع ناطق أو ما يقوم مقامه كالصاهل ونحوه
فأبو حامد وأمثاله خاطبوا هؤلاء بلغتهم في أن الموصوف بصفة لازمة له يسمى مركبا وقالوا لهم قلتم إن مثل هذا المعنى الذي سميتموه تركيبا يمتنع في الواجب الوجود فقولهم إن كل مركب مفتقر إلى مركب مغلطة نشأت من الإجمال في لفظ مركب فإنهم لم يسلموا لهم أن هناك تركيبا هو فعل مركب حتى يقال إن المركب يفتقر إلى مركب بل هناك ذات موصوفة بصفات لازمة له فإذا قال القائل كل موصوف بصفات لازمة له يفتقر إلى مركب ومؤلف يجمع بين الذات والصفات كان قوله باطلا فقولهم في هذا الموضع كل مركب يفتقر إلى مركب من هذا الباب
وكذلك إذا قيل كل مؤلف يفتقر إلى مؤلف كما يستعمل مثل هذا الكلام غير واحد من الناس في نفي معان سماها مسم تأليفا وتركيبا فجعل المستدل يستدل بمجرد إطلاق اللفظ من غير نظر إلى
(3/404)
المعنى العقلي فيقال لمن سمى مثل هذا تركيبا وتأليفا أتعني بذلك أن هنا شيئا فعله مركب ومؤلف أو أن هنا ذاتا موصوفة بصفات
أما الأول فممنوع فإنه ليس في خلق الله من يقول إن صفات الله اللازمة له متوقفة على فاعل يؤلف ويركب بين الذات والصفات
وإن عنيت الثاني فمسلم ولا دليل لك على ان الذات القديمة الواجبة المستلزمة للصفات تفتقر إلى من يركب صفاتها فيها فلهذا قال أبو حامد هذا كقول القائل كل موجود يفتقر إلى موجد ولو قال إلى واجد لكان أقرب إلى مطابقة اللفظ
وهذا صحيح فإن الموجود اسم مفعول من وجد يجد فهو واجد فإذا قال القائل كل موجود يفتقر إلى واجد أو موجد نظرا إلى اللفظ كان كقوله كل مركب يفتقر إلى مركب نظرا إلى اللفظ ولكن لفظ الموجود إنما يراد به ما كان متحققا في نفسه لا يعنى به ما وجده أو أوجده غيره كما أنهم يعنون بالمركب هنا ما كان متصفا بصفة قائمة به أو كان فيه معان متعددة وكثرة لا يعنون به ما ركبه غيره فالذي جرى لهؤلاء المغالطين في لفظ التأليف والتركيب كما جرى لأشباههم في لفظ التخصيص والتقدير فإن الباب واحد فليتفطن اللبيب لهذا فإنه يحل عنه شبهات كثيرة
(3/405)
وأما اعتراض ابن رشد على أبي حامد بقوله ليس المركب مثل الموجود بل مثل التحريك
فجوابه من وجوه
أحدها أن يقال ليس الكلام في الموازنات اللفظية بل في المعاني العقلية والمقصود هنا أن الذات القديمة الواجبة الموصوفة بصفات لا يجب أن يكون لها جامع منفصل جمع بين الذات والصفات كما أن الموجود المحقق لا يفتقر إلى موجود غير نفسه بل قد يكون موجودا بنفسه لا يفتقر إلى فاعل كذلك اتصافها بالصفات لا يفتقر إلى فاعل
الثاني أن يقال وهب أن هذا مثل التحريك في اللفظ فقولك هي صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب إن عنيت أنها زائدة على الذات والصفة وقيام الصفة بالذات فهذا باطل وإن عنيت أنها هي قيام الصفة بالذات أو هي الصفة القائمة بالذات فليس في ذلك ما يوجب كونها انفعالية لها فاعل مباين للموصوف
الثالث أن التحريك إن عني به تحريك الشيء لغيره فليس هذا نظير مورد النزاع فإن أحدا لم يسلم أن في الذات القديمة الموصوفة بصفاتها اللازمة شيئا ركبه أحد وإن عني به مطلق الحركة صار معنى
(3/406)
الكلام أن اتصاف الذات بالصفات كاتصافها بالحركات وليس في واحد منهما ما يقتضي احتياج الموصوف إلى مباين له
وأما قوله ليس ينقسم الأمر إلى مركب من ذاته ومركب من غيره حتى ينتهي الأمر إلى مركب قديم كما ينتهي الأمر في الموجودات إلى موجود قديم
فيقال له بل هؤلاء المسلمون كأبي حامد وأمثاله لما خاطبوكم باصطلاحهم وأنتم جعلتم قيام الصفة بالموصوف تركيبا فإنهم يقولون بحسب اصطلاحكم إنه ينقسم إلى مركب من ذاته ومركب من غيره
وحقيقة الأمر أن ثبوت الصفات إن سميتموه تركيبا لم نسلم لكم عدم انقسام المركب إلى قديم واجب ومحدث ممكن وإن لم تسموه تركيبا بطل أصل كلامكم ولكن أنتم سميتم هذا تركيبا ونفيتموه فلهذا قلتم لا ينقسم المركب فكان كلامكم ممنوعا بل باطلا
وأما قوله إن لقائل أن يقول إن كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد متحرك من ذاته وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد معدوم من ذاته
(3/407)
فجوابه من وجوه
أحدها منع المقدمة الأولى فما الدليل على أنه إذا وجدت ذات موصوفة بصفات لازمة له يلزم أن توجد ذات متحركة بحركة منها ليس معه في ذلك إلا مجرد الموازنة اللفظية
الثاني أن حقيقة قوله إن افتقار التركيب إلى مركب كافتقار التحريك إلى المحرك فإن أخذ ذلك على أن له فاعلا فلكل منهما فاعل وإن أخذ مجرد التركيب أخذ مجرد التحرك قيل فعلى هذا يكون المعنى إذا وجد متصف بصفة بنفسه يوجد فاعل متحرك بنفسه وإذا كان حقيقة كلامه أنه إذا كان متصفا بالصفات من ذاته فسيوجد متصفا بالأفعال من ذاته فيقال له إما أن تكون هذه الملازمة صحيحة وإما أن لا تكون فإن لم تكن صحيحة فليست بحجة وإن كانت صحيحة كانت دليلا على ثبوت إفعال الله تعالى وكان حقيقتها أنه يلزم من ثبوت الصفات القائمة به ثبوت الأفعال القائمة به فأي محذور في هذا إذا كانت الملازمة صحيحة
الثالث قوله وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من ذاته لأن وجود المعدوم هو خروج ما هو بالقوة إلى الفعل
(3/408)
وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك وليس كذلك الوجود لأنه ليس صفة زائدة على الذات فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا موجودا بالفعل فهو موجود بذاته والمتحرك وجوده إنما هو مع القوة المحركة فلذلك احتاج كل متحرك إلى محرك
فيقال القني بقولك فسيوجد المعدوم من ذاته أي نفس ما كان معدوما يوجد من الذات المعدومة ام تعني به ان الحركة توجد من الذات المتحركة
إما الأول فغير معقول فان المعدوم ليس له وجود أصلا حتى يعقل ان يوجد منه ذاته او غير ذاته ووجوده موجود من غير موجود ممتنع بضرورة العقل وكون المعدوم يوجد بنفسه معلوم البطلان بالبديهة وإن عنيت الثاني فاللازم والملزوم واحد فإن المتحرك من ذاته توجد حركته المعدومة من ذاته
وقول القائل انه إذا جاز هذا جاز وجود المعدوم من الذات المعدومة ممنوع بل باطل معلوم البطلان
وقوله لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك فيقال له غاية هذا انهما يشتركان في امر من الامور فمن أين يلزم إذا اشتركا في امر ما ان يشتركا في غيره مع ظهور الفرق فان قوله
(3/409)
وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل لا يجوز ان يراد به ان نفس المعدوم كان فيه قوة هي مبدأ وجوده فإن المعدوم ليس في شيء ولا فيه شيء
وانما يقال ان ما منه وجد المعدوم كان فيه قوة وجوده كما في النطفة قوة ان تصير علقة وفي الحبة قوة أن تصير سنبلة وفي النواة قوة أن تصير نخلة فالذي فيه القوة ليس هو المعدوم واما الحركة والمتحرك فنفس المتحرك فيه قوة هي مبدأ الحركة فنظير المتحرك المحل الذي وجد فيه ما كان معدوما من الاعراض كما يوجد اللون في المتلونات والطعم في المطعومات والحياة في الاحياء فكذلك الحركة في المتحركات فمحل هذه الصفات والحركات كان قابلا لها وفيه قوة القبول والاستعداد لها واما نفس هذه الامور التي كانت معدومة فوجدت فليس فيها من القوة ولا غيرها شيء
فقياس القائس وجود المعدوم من ذاته بوجود الحركة من المتحرك في غاية الفساد والعلة تكون فاعلة وتكون قابلة فلو قال القائل الموجود او الجسم او القائم بنفسه او نحو ذلك يقبل الصفات والأعراض كالحركات ونحوها وفيه قوة لذلك فيجب ان يكون المعدوم فيه قبول لقيام الصفات والحركات به لكان قوله في غاية
(3/410)
الفساد فكيف إذا قال إذا كان المتحرك فاعلا بنفسه لحركته وجب ان يكون المعدوم فاعلا لذاته بل يقال الفاعل يمكن ان يفعل غيره واما فعله لنفسه فممتنع فلو قال إذ كان المتحرك يفعل حركة وجب ان يفعل المعدوم حركة لكان باطلا فكيف إذا قال وجب ان يفعل نفسه
وقوله فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا بالفعل فهو موجود بذاته والمتحرك وجوده إنما هو مع القوة المحركة فلهذا احتاج كل كتحرك إلى محرك
فيقال له وهب انه سلم لك ان المتحرك وجوده مع القوة المحركة فلم قلت ان الحركة تحتاج إلى محرك منفصل عنه
ثم يقال لك هل يجوز ان يتحرك المتحرك بنفسه بعد ان لم يكن متحركا ام لا
فان اجزت هذا بطل قولك وجاز وجود المتحرك بنفسه قبل الحركة وقبل القوة المحركة
وان قلت لا يجوز قيل فحركته حينئذ إما ان تكون من نفسه واما من غيره فان كانت من نفسه كانت الحركة من نفس المتحرك وبطل قولك وان كانت من غيره وكان ذلك الغير متحركا فالقول
(3/411)
فيه كالقول في الأول وان كان غير متحرك لزم وجود حركات غير متوالية عن غير متحرك وهذا قولهم وهو باطل
وذلك ان اجزاء الحركات متعاقبة شيئا بعد شئ فالمقتضى لكل من تلك آلاجزاء يمتنع ان يكون موجبا تاما في الأزل لانه لو كان كذلك للزم ان يقارنه موجبا فان العلة التامة لا يتأخر عنها معلوها وحينئذ يلزم كون المحدث قديما وهو ممتنع او يقال ان كانت العلة التامة تستلزم مقارنة معلوها لزم ذلك وان لم تسلزم ذلك جاز حدوث الحركات المتأخرة عن موجب قديم فيجوز أن يتحرك الشيء بعد أن لم يكن متحركا بدون سبب حادث وهذا يبطل قولكم وإذا لم يكن الموجب التام لها ثابتا في الأزل لزم أن يكون حادثا والقول في حدوثه كالقول في حدوث غيره فيمتنع أن يحدث هو أو غيره عن علة تامة قديمة فإذا لم يكن في الفاعل فعل حادث امتنع أن يصدر عنه شيء حادث فامتنع صدور الحركات عن غير متحرك
ومما اعترف به ابن رشد وغيره من الفلاسفة والمتكلمين وقال عن إخوانه الفلاسفة إن الذي يتمسكون به سببان
أحدهما أن فعل الفاعل يلزمه التغير وإن كل متغير فله مغير
والثاني أن القديم لا يتغير بضروب من ضروب التغير
قال وهذا كله عسير البيان
قلت وهذا المقام وهو حدوث الحوادث عن ذات لا
(3/412)
يقوم بها حادث مما اعترف حذاقهم بصعوبته وبعده عن المعقول كما ذكر ذلك ابن رشد والرازي وغيرهما وهؤلاء المتفلسفة يقولون إن النفس المحركة للأفلاك يحدث لها تصورات وإرادات هي مبدأ الحركة وأن محركها العقل الذي يريد التشبه به أو واجب الوجود الذي يطلب الفلك التشبه به بإخراج ما فيه من الأيون والأوضاع وتحريك الواجب أو العقل للفلك أو لنفس الفلك كتحريك المحبوب للمحب والمشتهى للمشتهي والمعشوق للعاشق ليس من جهة المحرك فعل أصلا بل ذلك يحبه فيتحرك تشبها به
وبهذا أثبت أرسطو وأتباعه العلة الأولى وأن فوق الأفلاك ما يوجب تحريك الأفلاك
والكلام على هذا من وجوه ليس هذا موضع بسطها لكن يقال كون الفلك يتحرك للتشبه بالواجب أو إخراج ما فيه الأيون والأوضاع كلام لا دليل عليه بل الأدلة الدالة على فساده كثيرة ليس هذا موضعها
(3/413)
فنقول هب أن الأمر كذلك فهذا إنما فيه أنه أثبت العلة الغائية للحركة
فيقال أين السبب الفاعل لحركة الفلك فإن الحركة وإن افتقرت إلى غاية مقصودة فتفتقر إلى مبدأ فاعل بالضرورة
فإذا قالوا نفسه تحركه
قيل لهم فما الفاعل لما يحدث في النفس من أسباب الحركة كالتصورات والإرادات فإن هذه كانت معدومة ثم وجدت بعد العدم فما السبب الفاعل لهذه الحركة
فإن قالوا النفس هي الفاعلة لهذه الحركة فقد جعلوها متحركة من نفسها وهذا خلاف ما قالوه
وإن قالوا شيئا غيرها قيل لهم الكلام فيه كالكلام في النفس فإنه إن حدث فيه ما لم يحدث سئل عن سبب ذلك
وإن قيل بل المحدث لحركة النفس على حال واحدة أزلا وأبدا
قيل لهم فقد لزمكم حدوث حادث بلا سبب وقيل لكم ذلك المحرك للنفس إن كان علة تامة في الأزل وجب وجود معلوله في الأزل فيجب وجود ما حدث للنفس من التصورات والإرادات في الأزل وهذا جمع بين النقيضين
(3/414)
وإن قيل بل حدث له أمر به صار فاعلا لما يحدث في النفس سئل عن سبب حدوث ذلك
وإذا قيل الحادث استعداد النفس لأن يفيض عليها من الفعل ما تتصور به وتريد
قيل فذلك الاستعداد حادث والقول في سبب حدوثه كالقول في سبب حدوث غيره فلا بد من أحد امرين إما حدوث الحوادث بلاسبب حادث واما حدوث الحوادث عن متحرك وايهما كان بطل قولهم والاول يقولون انه معلوم البطلان بالضرورة فيلزمهم الثاني فقد الزم مناظريه ما يلزمه هو اشد منه وتبين به ان قول اوخوانه اشد فسادا فانه قال والذي لا ملخص للاشعرية منه هو انزال فاعل أول وانزال فعل له أول لانهم لا يمكنهم ان يضعوا ان حالة الفاعل من المفعول المحدث تكون في وقت الفعل هي بعينها حالته في وقت عدم الفعل فهنالك ولا بد حالة متجددة ونسبة
(3/415)
لم تكن وذلك ضرورة إما في الفاعل او في المفعول او في كليهما واذا كان كذلك فتلك الحال المتجددة إذا اوجبنا ان لكل حال متجددة فاعلا لا بد ان الفاعل لها إما فاعلا اخر فلا يكون ذلك الفاعل هو الأول ولا يكون بنفسه بل بغيره واما ان يكون الفاعل لتلك الحال التي هي شرط في فعله هو نفسه فلا يكون ذلك الفعل الذي فرض صادرا عنه اولا أولا بل يكون فعله لتلك الحال التي هي شرط في المفعول قبل فعله المفعول
قال وهذا لازم كما ترى ضرورة إلا ان يجوز مجوز ان من الاحوال الحادثة في الفاعلين ما لا يحتاج إلى محدث وهذا بعيد إلا على قول من يجوز ان ههنا اشياء تحدث من تلقائها وهو قول الاوائل من القدماء الذين انكروا الفاعل وهو قول بين سقوط بنفسه
فيقال له انت الزمت مناظريك من اهل الكلام حدوث حادث بلا سبب حادث وذكرت ان هذا ممتنع بالضرورة وهذا هو المقام المعروف الذي استطالت به المتفلسفة الدهرية على مناظريهم من اهل
(3/416)
الكلام الماخوذ في الأصل عن الجهيمة والقدرية فيقال له انت يلزمك ما هو اشد من هذا وهو حدوث الحوادث بلا فاعل وهو الذي ذكرت انه ساقط بين سقوط وذلك ان الحوادث المشهودة إن قلت لا فاعل لها فقد لزمك هذا القول وان قلت لها فاعل قيل لك افعلها بعد ان لم تكن من غير حدوث شيء في ذاته ام لم يفعلها حتى حدث شيء في ذاته
فان قلت بالأول قيل لك فهي دائمة اولها ابتداء فان قلت لها ابتداء فهذا قول منازعيك وان قلت لا ابتداء لها فقد صارت الحوادث كلها تحدث عن فاعل من غير حدوث شيء فيه وقد قلت انه لا يمكن ان يكون حال الفاعل في المفعول المحدث وقت الفعل هي بعينها حاله وقت عدم الفعل فيلزمك ان لا يكون حاله عند وجود حوادث الطوفان هي حالة عند وجود الحوادث التي قبله فإن الحوادث مختلفة فإن أمكن أن يكون حاله واحدا مع حدوث الحوادث المختلفة أمكن ان يكون حاله واحدا مع تجدد الحوادث لان الحادث الثاني كالطوفان فيه من الامور ما لم يكن له قبل ذلك نظير فتلك حوادث لا نظير لها ولا فرق بين احداث هذا و احداث غيره و اذا جعل المقتضي لذلك تغيرات تحدث في الفلك كان الكلام في حدوث تلك التغيرات العلوية كالكلام في حدوث التغيرات السفلية
(3/417)
وان قلت بل حدث اوجب هذه الحوادث
قيل لك الفاعل له ان كان هو الأول الالزام جذعا وان كان غيره لزمك حدوث الحوادث بلا فاعل وان التزمت انه ما فعلها حتى حدث فيه شيء فقد تركت قولك
وأيضا فالفاعل المستكمل لشروط الفعل إما ان يجوز حدوث المفعول عنه بعد ان لم يكن بلا سبب حادث واما ان لا يجوز فإن جاز فهو قول منازعك الذي ادعيت انه فاسد بالضرورة وان لم يجز لزم ان يكون مفعوله مقارنا له لا يتأخر عنه منه شيء فلا يجوز ان يحدث عن الفاعل شيء كما تقوله انت واخوانك انه علة تامة وموجب تام والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء من معلولها فإذا كل ما تأخر عن الأول ليس معلولا للعلة التامة ولا مفعولا للفاعل الأول ولا يجوز ان يكون فعلا لغيره إذ القول في ذلك الغير كالقول فيه فيلزم ان تكون الحوادث كلها حادثة بلا محدث
وهذا لازم لهؤلاء الفلاسفة الالهيين كما يلزم اخوانهم الطبيعيين وهو القول الذي هو من اظهر المعارف الضرورية فسادا وقد بسط الكلام على هذه المواضع في غير هذا الموضع وانما كان المقصود هنا التنبيه على جنس ما يغالط به هؤلاء وامثالهم من الالفاظ المجملة كلفظ المركب ونحوه كما يغالطون بلفظ التخصيص والمخصص وان كلام أبي حامد وامثاله في مناظريهم خير من كلامهم واقوم
(3/418)
واما قول ابن رشد لا يخلو إما ان يكون كل من جزأيه شرطا في وجود الآخر او لا يكون او يكون الواحد شرطا في الآخر من غير عكس
وقوله القسم الأول لا يكون قديما وذلك ان التركيب نفسه هو شرط في وجود الآخر فليس يمكن ان تكون الاجزاء هي علة التركيب ولا التركيب علة النفس إلا لو كان الشيء علة نفسه
فيقال له اولا تسمية هذا تركيبا واجزاء ليس هو من لغات بني ادم المعروفة التي يتخاطبون بها فإنه ليس في لغة من لغات الادميين أن الموصوف بصفات يقال انه مركب منها وانها اجزاء له واذا خاطبناكم باصطلاحكم فقد علمتم انه ليس المراد بالمركب إلا اتصاف الذات بصفات لازمة لها او وجود معان فيها او اجتماع معان وامور ونحو ذلك ليس المراد ان هناك مركبا ركبه غيره حتى يقال ان المركب مفتقر إلى مركب فإن من وافقكم على اصطلاحكم في تسمية الذات الواجبة الموصوفة بصفاتها اللازمة تركيبا لم يرد بذلك ان هناك مركبا ركبها فان هذا المعنى يقتضي ان يكون له فاعل ولكن تدعون
(3/419)
ثبوت ذلك إما بطريقة ابن سينا ونحوه الذي قد تقدم إبطالها وإما بطريقة المعتزلة التي اختارها ابن رشد واعترف بفساد طريقة ابن سينا
وإذا كان المراد بلفظ التركيب ما قد عرف فمن المعلوم أن الذات الموصوفة بصفات لازمة لها أو التي فيها معان لازمة لها لا يقال فيها إن اتصاف الذات بالصفات أمر معلول مفتقر إلى فاعل حتى يقال إن الأجزاء هي علة التركيب أو يقال التركيب علة نفسه بل هذا المعنى الذي سميته تركيبا هو من لوازم الواجب بنفسه لا يمكن أن يكون الواجب إلا موصوفا بالصفات اللازمة له ثابتة له المعاني اللازمة له وليس لذلك علة فاعلة كما تقدم
وأما قوله إن التركيب شرط في وجود الأجزاء
فيقال له لا ريب أنه لا يمكن وجود الذات إلا موصوفة بلوازمها ولا يمكن أن توجد صفاتها إلا بوجودها فاجتماع الذات بالصفات واجتماع الأمور المتلازمة شرط في وجود كل منها وهي أيضا شرط في وجود ذلك الاجتماع وليس شيء من ذلك معلولا لفاعل ولا مفتقرا إلى مباين وتوقف أحدهما على الآخر هو من باب الدور الاقتراني المعي لا من باب الدور السبقي القبلي والأول جائز والثاني ممتنع فإن الأمور المتلازمة لا يوجد بعضها إلا مع بعض وليس بعضها فاعلا لبعض بل إن كانت واجبة الوجود بنفسها وإلا افتقرت كلها إلى فاعل
(3/420)
والذات التي لا تقبل العدم بما هي عليه من الصفات اللازمة هي الحق الواجب الوجود بنفسه وأما مجرد وجود مطلق في الخارج وذات لا صفة لها فذلك ممتنع لنفسه فضلا عن أن يكون واجب الوجود
واتصاف الذات الواجبة بصفاتها اللازمة سواء سمي تركيبا أو لم يسم لا يوجب افتقاره ولا افتقار الذات ولا شيء من صفاته إلى فاعل ولا علة فاعلة ولا ما يشبه ذلك وأما كون بعضها مستلزما لبعض ومشروطا به ولا يوجد إلا معه وثبوته متوقف عليه ونحو ذلك فليس في هذا ما يقتضي افتقار ذلك إلى فاعل مبدع لكن يعلم أن الذات لا تكون إلا بصفاتها اللازمة وصفاتها لا تكون إلا بها
وإذا سمى المسمى هذا افتقارا وسمى هذه أجزاء وسمى هذا الاجتماع تركيبا لم يكن في هذه التسمية ما يوجب أن يكون هذا الموصوف مفتقرا إلى فاعل وما جعله افتقارا ليس هو افتقار المفعول إلى الفاعل والمعلول إلى العلة الفاعلة وإنما هو تلازم ومن سماه افتقارا لا يمكنه أن يفسره إلا بافتقار المشروط إلى الشرط والشرط إلى المشروط
ومثل هذا المعنى لازم للوجود الواجب لا ممتنع عليه وإنما الممتنع أن يفتقر إلى مباين له فيكون وجود الواجب متوقفا على وجود
(3/421)
مباين فإن كان المباين علة له لم يكن موجودا بنفسه بل ممكنا له فاعل وعلة وإن قدر أنه شرط فيه وهو غني عنه وما كان وجوده مشروطا بما هو غني عنه لم يكن موجودا بنفسه فلا يجوز أن يكون الرب الخالق تعالى الذي له الذات الموصوفة بصفات الكمال متوقفا على شيء مباين له بل ولا على شيء غني عنه بوجه من الوجوه لا على فاعل ولا شرط
وهذا هو الذي يقوم عليه الدليل فإن الممكنات التي لا وجود لها من نفسها لا توجد إلا بغيرها وما كان خارجا عنها لم يكن وجوده إلا بنفسه ونفسه هي الذات الموصوفة بصفاتها اللازمة ليست نفسه مجرد وجود مطلق ولا ذات مجردة
ومن ادعى أن ما كان وجوده بنفسه لا يكون إلا وجودا مجردا وذاتا مجردة لأن الذات الموصوفة مفتقرة إلى الصفة فلا تكون موجودة بنفسها
قيل له الممكنات والمحدثات لم تفتقر إلى ذات مجردة حتى يقال إذا قيل إنها موصوفة لزم الافتقار بل افتقرت إلى ما هو خارج عنها كلها
والتعبير عن هذا المعنى يكون بعبارات فإذا قيل ما لا يقبل العدم أو قيل موجود بنفسه أو واجب بنفسه ونحو ذلك كان المقصود واحدا ومن المعلوم أن ما لا يقبل العدم إذا كان ذاتا
(3/422)
موصوفة بصفات الكمال لم يجز ان يقال اتصافها بصفات الكمال يوجب افتقارها إلى الصفات فتقبل العدم فان فساد هذا الكلام ظاهر وهو بمنزلة ان يقال قولكم موجود بنفسه او واجب الوجود بنفسه يقتضي افتقاره إلى نفسه والمفتقر لا يكون واجب الوجود بنفسه بل يكون قابلا للعدم واذا كان هذا فاسدا فالأول افسد فان صفات كماله داخلة في مسمى نفسه فإذا كان قول القائل هو مفتقر إلى نفسه لا يمنع وجوب وجوده فقوله انه مفتقر إلى صفاته اولى ان لا يمنع وجوب وجوده
وكذلك إذا سمى ذلك اجزاء وقال هو مفتقر إلى اجزائه فان جزء الشيء وبعضه وصفته ونحو ذلك داخل في مسمى نفسه فإذا لم يكن قول القائل هو مفتقر إلى نفسه مانعا من وجوب وجوده فقوله هو مفتقر إلى جزئه وصفته ونحو ذلك اولى وتسميه مثل هذا افتقارا لفظ فيه تلبيس وتدليس يشعر الجاهل بفقره وهذا كما لو قيل هو غنى بنفسه فانه قد يقول القائل فهو فقير إلى نفسه فصفاته داخلة في ] مسمى [ نفسه وهو غنى سبحانه بنفسه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير اليه
وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع وقد قال ابن رشد هذا الذي يعير على من قال بنفى تعدد الصفات هو ان تكون
(3/423)
الصفات المختلفة ترجع إلى ذات واحدة حتى يكون مفهوم العلم مثلا و الارادة والقدرة مفهوما واحدا و انها ذات واحدة وان يكون ايضا العلم والعالم والقدرة والقادر والارادة والمريد معنى واحدا والذي يعير على من قال ان ههنا ذاتا وصفات زائدة على الذات أن تكون الذات شرطا في وجود الصفات والصفات شرطا في كمال الذات ويكون المجموع من ذلك شيءا واجب الوجود أي موجودا واحدا ليس فيه علة ولا معلول
قال ( لكن هذا لا جواب عنه في الحقيقة إذا وضع ان ههنا شيئا واجب الوجود بذاته فإنه يجب ان يكون واحدا من جميع الوجوه وغير مركب اصلا لا من شرط ومشروط ولا من علة ومعلول لان كل موجود بهذه الصفة فإما ان يكون تركيبه واجبا واما ان يكون ممكنا فان كان واجبا كان واجبا بغيره لا بذاته لانه يعسر انزال مركب قديم من ذاته اعنى من غير ان يكون له مركب وبخاصة على قول من انزل ان كل عرض حادث لان التركيب فيه يكون عرضا قديما وان كان ممكنا فهو محتاج إلى ما يوجب اقتران العلة بالمعلول )
(3/424)
قال ( و اما هل يوجد شيء مركب من ذاته على اصول الفلاسفة وان جوزوا اعراضا قديمة فغير ممكن وذلك ان التركيب شرط في ] وجوده وليس يمكن ان تكون الاجزاء هي فاعلة للتركيب لان التركيب شرط في [ وجودها وكذلك اجزاء كل مركب من الامور الطبيعية إذا انحلت لم يكن الاسم المقول عليها إلا بالاشتراك مثل اسم ( اليد ) المقولة على التي هي جزء من الانسان الحي واليد المقطوعة بل كل تركيب عند ارسطو طاليس فهو كائن فاسد فضلا عن ان يكون لا علة له و اما هل تفضى الطريقة التي سلكها ابن سينا في واجب الوجود إلى نفي مركب قديم فليس تفضى إلى ذلك لانه إذا فرضنا ان الممكن ينتهي إلى علة ضرورية والضرورية لا يخلو إما ان يكون لها علة او لا علة لها وانها ان كانت لها علة فإنها تنتهي إلى ضرورة لا علة لها ] فان هذا القول إنما يؤدي من جهة امتناع التسلسل إلى وجود ضروري لا علة له [ فاعلة لا إلى موجود
(3/425)
ليس له علة اصلا لانه يمكن ان يكون له علة صورية ومادية إلا ان يوضع ان كل ما له صورة ومادة وبالجملة كل مركب فواجب ان يكون له فاعل خارج عنه وهذا يحتاج إلى بيان ولم يتضمنه القول المسلوك في شان واجب الوجود مع ما ذكرنا ان فيه من الاختلال ولهذا بعينه لا يفضى دليل الاشعرية وهو ان كل حادث له محدث إلى أول قديم ليس بمركب وانما يفضى إلى أول ليس بحادث )
قال ( واما ان يكون العالم والعلم شيئا واحدا فليس ممتنعا بل واجب ان ينتهي الأمر في امثال هذه الاشياء إلى ان يتحد المفهوم فيها وذلك ان العالم ان كان عالما بعلم فالذي به العالم عالم احرى ان يكون عالما وذلك ان كل ما استفاده صفة من غيره فتلك الصفة اولى بذلك المعنى المستفاد مثال ذلك ان هذه الأجسام الحية التي لدينا ليست حية من ذاتها بل من قبل حياة تحلها فواجب ان تكون تلك الحياة التي استفاد منها ما ليس بحي الحياة حية بذاتها او يفضى الأمر فيها إلى غير نهاية وكذلك يعرض في العلم وسائر الصفات )
(3/426)
قلت ليتامل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل كيف يتكلمون في غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردودا والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولا بكلام فيه تلبيس وتدليس فإنه ذكر ما يلزم مثبة الصفات وما يلزم نفاتها فقال يلزم النفاة أن تكون الصفات المختلفة ترجع إلى ذات واحدة فيكون مفهوم العلم والقدرة والإرادة مفهوما واحدا وأنها ذات واحدة وأن يكون العلم والعالم والقدرة والقادر والإرادة والمريد واحدا وقد قال إن هذا عسير
قلت بل الواجب أن يقال إن هذا مما يعلم فساده بضرورة العقل فمن جعل العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة وجعل الإرادة هي المريد والعلم هو العالم والقدرة هي القادر كان مخالفته للعلوم الضرورية وسفسطته أعظم من سفسطة كثير من السوفسطائية وقود هذه المقالة أنه يمكن أن يكون المتكلم هو الكلام والمتحرك هو الحركة والمصلي هو الصلاة والصائم هو الصوم وأمثال ذلك وإن فرق بين الصفات اللازمة وغيرها فلا فرق في الحقيقة بل هذا تحكم ويلزمه أن يكون الإنسان الناطق نفس النطق والفرس الصاهل نفس الصهيل والحمار الناهق نفس النهيق والجسم الحساس المتحرك بالإرادة نفس الإحساس والحركة الإرادية ويلزمه أيضا أن
(3/427)
يجعل نفس الحس نفس الحركة ونفس الحيوانية نفس الناطقية ونفس الصاهلية نفس الناهقية
وما أحق هؤلاء بدخولهم في قول الله تعالى { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } سورة الأنعام 39
وبقوله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } سورة الأعراف 179
وبقوله تعالى { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } سورة الملك 10
وقول ابن رشد كون العالم والعلم شيئا واحدا ليس ممتنعا بل واجب أن ينتهي الأمر في أمثال هذه الأشياء إلى أن يتحد المفهوم فيها
فيقال له هذا من أعظم المكابرة والسفسطة والبهتان وقوله إن العالم إذا كان عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالما إلى آخر كلامه كلام في غاية الفساد كما أنه إذا قيل إذا كان الضارب ضاربا بضرب فالضرب أولى أن يكون ضاربا والقائم إذا
(3/428)
كان قائما بقيام فالقيام اولى ان يكون قائما والناطق إذا كان ناطقا بنطق فالنطق اولى ان يكون ناطقا والقاتل إذا كان قاتلا بقتل فالقتل اولى ان يكون قاتلا والماشي إذا كان ماشيا بمشي فالمشي اولى ان يكون ماشيا والخالق إذا كان خالقا بخلق فالخلق اولى ان يكون خالقا والرازق إذا كان رازقا برزق فالرزق اولى ان يكون رازقا والمحيي المميت إذا كان محييا مميتا باحياء واماتة فالاحياء والاماتة اولى ان يكون محييا مميتا
وبالجملة فهذا يلزم نظيره في عامة اسماء الله الحسنى وفي اسماء نبيه صلى الله عليه وسلم وأسماء سائر الموجودات المشتقة يلزم ان يكون المصدر الذي اشتق منه الاسم احق بالاسم من الفاعل ويكون مسمى المصدر الذي هو الحدث احق بأسماء الفاعلين والصفات المشبهة بها من نفس الفاعل الموصوف
وتصور هذا الكلام كاف في معرفة فساده وانما دخلت الشبهة على من قاله لأن قوله إذا كان العالم عالما بعلم فالذي به العالم عالم احرى ان يكون عالما كلام اشتبهبت فيه باء الاستعانة بباء المصاحبة فظن انه إذا قيل هذا عالم بعلم ان العلم هو الذي أفاده العالم والعلم هو الذي اعطاه العالم كأنه معلمه فكأنه قال إذا كان المتعلم عالما فمعلمه اولى ان يكون عالما وليس الأمر كذلك بل قولنا هذا عالم بعلم أي انه موصوف بالعلم أي ليس مجردا عن العلم ولا معرى منه بل هو متصف به والعلم نفسه لا يعطيه العلم بل نفس العلم هو
(3/429)
العلم وان كان العلم قديما من لوازم ذاته فلم يستفده من أحد وان كان محدثا فقد استفاده من غيره ولم يستفد العلم من العلم لكن هل له حال وهو كونه عالما معللة بالعلم ام كونه عالما نفس سالعلم هذا فيه نزاع بين مثبتة الحال ونفاتها ومن اثبتها لم يقل انها صفة موجودة
وقوله ما استفاد صفة من غيره فتلك الصفة يعني المستفاد منها اولى بذلك المعنى المستفاد كما مثل به من الحياة كلام فاسد فإن العالم لم يستفد الصفة التي هي العلم من الصفة التي هي العلم بل نفس علمه هو نفس الصفة ليس هنا صفة مفيدة وصفة مستفادة إلا ان يقال العلم اثبت العالمية على رأي مثبتة الحال وعلى هذا التقدير فالعالمية ليست صفة وجودية وهو إنما كان عالما بالعلم الموجب للحال لا بالحال الموجبة للعلم واذا كان عالما بالعلم لم يكن العلم حصل من علم آخر وانما العلم عند هؤلاء اوجب كونه عالما والذي عليه الجمهور ان نفس العلم هو نفس كونه عالما فليس هنا شيئان وعلى القولين فإذا استحق الموصوف بالعلم أن يسمى عالما لم يكن العلم احق بأن يكون عالما فإن هذا لا يقوله عاقل
وقوله ان الجسم إذا كانت حياته من قبل حياة تحله فواجب
(3/430)
ان تكون تلك الحياة التي استفاد منها ما ليس بحي الحياة حية بذاتها
فيقال هذا باطل من وجهين
أحدهما ان الحياة التي حلتة هي الحياة التي صار بها حيا ليس هنا حياة اخرى صار بها حيا حتى يقال هنا حياة حلته وحياة جعلته حيا
الثاني ان حياته إذا قدر انها مستفادة من حياة اخرى فتلك الحياة الاخرى قائمة بحي هو حي بها لا ان تلك الحياة هي الحية بل الحي الموصوف بالحياة لا نفس الحياة فلينظر العاقل نهايات مباحث هؤلاء الفلاسفة في العلم الالهي العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته ولينظر هذا المعقول الذي يعارضون به الرسول صلى الله عليه وسلم مع ان هذا مبسوط من غير هذا الموضع وليس هذا موضع بسطه
والناس شنعوا على أبي الهذيل العلاف لما قال ان الله عالم بعلم وعلمه نفسه ونسبوه إلى الخروج من العقل مع ان كلامه اقل تناقضا من كلام هؤلاء
واما زعمه ان ما يلزم مثبتة الصفات لا جواب عنه لأن واجب
(3/431)
الوجود يجب ان يكون غير مركب من شرط ومشروط
فيقال له قد تقدم انكم انتم سميتم هذا تركيبا وهو لا يسمى تركيبا في لغه من اللغات المعروفة لبني آدم بل إنما سماه تركيبا متأخروكم كابن سينا وأمثاله واما قدماؤكم فقد ذكرتم عن ارسطو طاليس ان كل تركيب فهو كائن عنده فاسد والسماء عنده ليست كائنة فاسدة فهو لا يسمى السموات وما فيها من الكواكب مركبة مع انها اجسام متحيزة متحركة تقوم بها الاعراض فكيف يسمى ما كان حيا عالما قادرا مركبا واذا خاطبناكم باصطلاحكم المبتدع لنقطع شغبكم بحثنا معكم بحثا عقليا فإنكم تدعون ان هذه الامور معلومة بالعقل لا بالسمع واطلاق الالفاظ ونفيها لا تقفون انتم فيه عند الشرع فالواجب على اصولكم ان ما علم بالعقل ثبوته او انتفاؤه اتبع من غير مراعاة للفظ
ونحن نبين فساد ما ذكرتموه من المعنى بالعقل الصريح مع مخاطبتكم بلغتكم فيقال له لم قلت ان ما كان مركبا من شرط لا يكون واجب الوجود
و اما قوله لأن تركيبه إذا كان واجبا كان واجبا بغيره لا بذاته لأنه يعد تقدير مركب قديم من غير ان يكون له مركب
فيقال له هذا هو البحث اللفظي الذي ذكرناه هذا لأجله
(3/432)
والمركب الذي يفتقر إلى مركب هو ما ركبه غيره كما ان المحرك الذي يفتقر إلى محرك ما حركه غيره ولم يقل أحد من العقلاء ان واجب الوجود مركب ركبه غيره وانتم إذا سميتم اجتماع الذات والصفات تركيبا لم تريدوا بذلك إلا الاجتماع والتعدد والتألف وكثرة المعاني ونحو ذلك لم تقصدوا بذلك ان هناك فاعلا لذلك وان اردتم ذلك كان باطلا وبطل اللفظ والمعنى جميعا فإن أصل الكلام ان الواجب إذا كان ذاتا موصوفة بصفات كان مركبا فإن أراد المريد كان له من ركبه من الذات والصفات كان التلازم ممنوعا بل هو باطل ضرورة فإنا إذا قدرنا واجب الوجود بنفسه الغنى عن الفاعل موصوفا بصفات لازمة له امتنع ان يكون للواجب بنفسه المستلزم لصفاته من ركب بينه وبين صفاته فإن كونه واجبا بنفسه يمنع ان يكون له فاعل وكون صفاته لازمة له يمنع جواز مفارقتها له ويمنع افتقارها إلى من يجعلها فيه فكيف يقال ان له مركبا ركبه حتى يقال ان هذا تركيب يفتقر إلى مركب ويقال يمتنع ثبوت مركب قديم أي من ذاته ومن سمى هذا تركيبا وقال انه قديم فإنه يقول هو تركب وتألف واجتماع ومثل هذا لا يفتقر إلى مركب مؤلف جامع ولو قيل
(3/433)
على سبيل الفرض ان الذات المستلزمة للصفات هي الموصوفة بذلك فليس هنا ما يقتضى افتقارها إلى غيرها
و اما قوله خاصة على قول من يقول كل عرض حادث لأن التركيب يكون فيه عرضا قديما فهذا باطل من وجوه
احدها ان القائلين بأن كل عرض حادث من الاشعرية ومن وافقهم لا يسمون صفات الله اعراضا فإذا قالوا هو عالم وله علم وهو متصف بالعلم لم يقولوا ان علمه واتصافه بالعلم عرض ومن سمى صفاته اعراضا كالكرامية ونحوهم لم يلزمهم ان يقولوا كل عرض حادث وما أعلم احدا من نظار المسلمين يقول كل عرض حادث وصفات الله القديمة عرض فإن هذا تناقض بين فما ذكره لا يلزم احدا من المسلمين فلم يقل أحد من المسلمين فلم يقل أحد ان كل عرض حادث مع قوله ان صفات الله اللازمة له أعراض
الوجه الثاني ان يقال على سبيل التقدير من قال كل عرض حادث فإنه يقول في الاعراض الباقية انها تحدث شيئا بعد شيء فإذا قدر موصوف قديم بصفات وقيل انها اعراض والعرض لا يبقى زمانين لزم ان يقال انها تحدث شيئا بعد شيء وحينئذ فإذا قدر اجتماع أو تألف أو تعدد في الصفات ونحو ذلك مما سميته تركيبا
(3/434)
وقيل انه قديم وانه عرض وان كل عرض فهو حادث لا يبقى زمانين كان أولى بتجدد امثاله من سائر الاعراض فثبوت المعنى الذي سماه تركيبا وجعله عرضا قديما كسائر الصفات القديمة
الثالث ان يقال هذا الذي سميته عرضا قديما حكمه عندهم حكم سائر الصفات فإن أقمت دليلا على انتفاء الصفات أمكن نفي هذا وإلا فالقول فيه كالقول في أمثاله وأنت لا دليل لك على انتفاء الصفات إلا انتفاء الاجتماع والتعدد الذي سميته تركيبا فإذا لم يمكنك نفي هذا إلا بنفي غيره نم الصفات ولا يمكنك نفي الصفات إلا نفي هذا كان هذا دورا قبليا باطلا وقد تبين انه لا يمكنك لا نفي هذا ولا نفي هذا وان ما ذكرته من لفظ التركيب كلام فيه تلبيس توهم به من لا يفهم حقيقة المقصود أن مثبته الصفات أثبتوا لله تعالى ما يفتقر فيه إلى مركب يركبه معه وكل عاقل يعلم ان مذهب المسلمين المثبتين للصفات ان صفاته القديمة لازمة لذاته لا يفتقر فيها إلى أحد سواه ومن جعل اتصافه بها مفتقرا إلى مركب غيره فهو كافر عندهم فضلا عن أن يقولوا انه مفتقر إلى مركب جمع بينه وبينها
الرابع ان يقال على سبيل الفرض لو نازعك بعض اخوانك الفلاسفة في امتناع مركب قديم من ذاته لم يكن لك عليه حجة فلو قدر ان ذلك يستلزم مركبا قديما من ذاته لم يكن لك عل اصول
(3/435)
اخوانك الفلاسفة حجة على ابطال هذا فإن الفلك عندكم جسم قديم وهو مركب بهذا الاصطلاح
واما قولك الفلاسفة وان جوزوا اعراضا قديمة فغير ممكن وجود مركب قديم من ذاته عندهم لأن التركيب شرط في وجوده ولا يمكن ان تكون الاجزاء هي فاعلة للتركيب لأن التركيب شرط في وجودها
فيقال لك إذا كان التركيب شرطا في وجودها وهي شرط في وجود التركيب لم يكن أحدهما فاعلا للاخر بل ان كانا مفتقرين إلى الفاعل ففاعل الاجزاء هو فاعل التركيب وان كانا غنيين عن الفاعل لم يفتقر أحدهما إلى الفاعل والكلام على تقدير ان يكون المركب قديما تركيبه بنفسه وقولك مركب من نفسه لا تعني به ان اجزاءه فعلت التركيب وانما تعني به ان نفس الاجزاء والتركيب متلازمان وهما مستغنيان عن غيرهما
الخامس ان يقال انت قد اعترفت بفساد طريقة ابن سينا وانها لا تتضمن ان كل مركب فلا بد له من فاعل خارج عنه
وهذا الذي قلته في طريقة ابن سينا يلزمك بطريق الأولى فإنه ليس فيما ذكرته ان كل مركب فلا بد له من فاعل خارج عنه إلا ما أخذته من لفظ مركب وهذا تدليس قد عرف حاله
(3/436)
واما قولك ان دليل الاشعرية ايضا لا يفضي إلى إثبات أول قديم ليس بمركب وانما يفضى إلى إثبات أول ليس بحادث
فهذا ايضا توكيد لاثبات الصفات فإن مرادك بالمركب ما كان موصوفا بالصفات ولا ريب ان الأدلة الدالة على إثبات الصانع ليس فيها والحمد لله ما ينفي إثبات الصفات
فإن قلت فهم ينفون التجسيم بناء على انتفاء التركيب ولا دليل لهم على ذلك
قيل لك هذه حجة جدلية وغايته ان تلزمهم التناقض وذلك لا يقتضي صحة قولك الذي نازعوك فيه وهم نازعوك في إثبات الصفات فقلت ان إثبات الصفات يستلزم التركيب وانت لم تقم دليلا على نفي هذا التركيب فلم تقدم دليلا على نفي الصفات وقالوا لك ايضا لا دليل لك على نفي التجسيم فإن عمدتك هو نفي الصفات العائد إلى نفي التركيب وقد ظهر ذلك
فإذا قلت لهم وأنتم أيضا لا دليل لكم على ذلك فإن دليل الحدوث لا يقتضى ذلك
قالوا لك نحن اثبتنا الحدوث بحدوث الجسم وهو المراد بقولنا مركب فإن صح دليلهم ثبت نفي ما سموه تركيبا وان لم يصح دليلهم لم يكن في هذا منفعة لك
(3/437)
وهذه الطريق هي التي سلكها ابو حامد في مناظرته اخوانك وهي طريق صحيحة وقد تبين ان ما ذكره ابو حامد عن احتجاجهم بلفظ المركب جواب صحيح وان احتجاجهم بهذا نظير احتجاج اولئك بلفظ التخصيص حيث قالوا ان المختص بشيء لا بد له من مخصص وهذا هو الذي سلكه نفاة الصفات ويسمون نفي الصفات توحيدا وهذا هو الذي سلكه نفاة الصفات ويسمون نفي الصفات توحيدا وهذا هو الذي سلكه أبو عبد الله محمد بن تومرت الملقب عند اصحابه بالمهدى وامثاله من نفاة الصفات المسمين ذلك توحيدا
ولقب ابن التومرت اصحابه بذلك إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفاة جهم وابن سينا ويقال انه تلقى ذلك عمن يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم اخرى
قلت ولهذا رأيت لابن التومرت كتابا في التوحيد صرح فيه بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته سيئا من إثبات الصفات ولا إثبات الرؤية ولا قال ان كلام الله غير مخلوق ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها ولهذا كان حقيقة قوله موافقا لحقيقة قول ابن سبعين والقائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وقد ذكر ابن التومرت في فوائده المشرقية ان الوجود مشترك بين
(3/438)
الخالق والمخلوق فوجود الخالق يكون مجردا ووجود المخلوق يكون مقيدا
وقال ابن التومرت في كتاب الدليل والعلم فقال المعلومات على ضربين معدوم وموجود والموجود على ضربين مطلق ومقيد فالمقيد هو المخصص والاختصاص على ثلاثة اضرب الاختصاص بزمان دون زمان سواه والثاني الاختصاص بجهة دون جهة غيرها والثالث الاختصاص بخاصة دون خاصة غيرها والموجود المطلق هو الذي ليس بمقيد ولا بمخصص فلا يختص بزمان دون غيره ولا بجهة دون غيرها ولا بخاصة دون غيرها فلو اختص بشيء لكان من جنسه فلما انتفت عنه الخواص على الاطلاق وجب له الوجود المطلق
قال والموجود المطلق هو القديم الازلي الذي استحالت عليه القيود والخواص المختص بمطلق الوجود من غير تقييد ولا تخصيص وذكر كلاما كثيرا في نفي الاختصاص إلى ان قال و اذا تساوت المتناهيات في الاختصاص بجهة مقدرة امتنع عليها التخصيص من جهتها ومن مخصص من جنسها و اذا بطل التخصيص من جنسها
(3/439)
بطل التخصيص من جميع المخصصات إلى الاطلاق ثم قال بعد هذا انفرد بالعلم والكمال والحكم والاختيار وانفرد بالقهر والاقتدار وانفرد بالخلق والاختراع وقال مع هذه المخصصات بأسرها يستحيل الكمال عليها وان تكاملت صفاتها
قلت ومعلوم ان هذا تناقض فإن نفي الاختصاص بخاصة من الخواص ودعوى انه وجود مطلق لا يختص بوجه من الوجوه يمنع ان يختص بعلم او قدرة او مشيئة ونحو ذلك من الصفات فإن العالم مختص بعلمه متميز به عن الجاهل والقادر مختص بقدرته متميز بها عن العاجز والمختار مختص بالاختيار متميز به عن المستكره فإن أثبت شيئا من صفات الكمال فقد أثبت اختصاصه بذلك وان نفي جميع الصفات ولم يثبت إلا وجودا مطلقا تناقض كلامه
وقيل له المطلق لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج فلا يتصور ان يكون في الخارج شيء مطلق لا حيوان مطلق ولا انسان مطلق ولا جسم مطلق ولا موجود مطلق بل كل موجود فله حقيقة يختص بها لا يشركه فيها غيره
وقيل له هذا الوجود المطلق اهو وجود المخلوقات ام غيره فإن قال هو هو بطل إثبات الخالق وان قال هو غيره قيل له
(3/440)
فوجوده مثل وجود المخلوقات او ليس مثله فإن كان الأول لزم ان يكون الخالق مثل المخلوق والمثلان يجوز ويجب ويمتنع على أحدهما ما يجوز ويجب ويمتنع على الآخر فيلزم ان يكون الشيء الواحد واجبا غير واجب محدثا غير محدث وهو جمع بين النقيضين
وان قال وجوده مخالف لوجود المخلوقات فقد اثبت له وجودا يختص به لا يشركه فيه غيره فلا يماثله غيره وهذا وجود مخصوص مقيد لا وجود مطلق وقد بسط الكلام على هذه الامور في غير هذا الموضع
والمقصود هنا الكلام في ان كل مختص بأمر هل يفتقر إلى مخصص منفصل عنه لان الكلام كان في المسلك الثاني في حدوث الأجسام الذي بين فساده الامدي والارموي وغيرهما فإنه مبنى على مقدمتين احداهما انها مفتقرة إلى ما يخصصها بصفاتها والثانية ان ما كان كذلك فهو محدث وقد بينوا فساد المقدمة الثانية كما تقدم
(3/441)
وأما الأولى فقررت بوجهين
أحدهما أن المختص بمقدار لا بد له من مخصص وقد تبين فساده أيضا
الثاني أن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو البعض مجتمعا والبعض مفترقا وخلوها عنهما وأيضا الجمع بينهما ممتنع وأما بقية الأقسام فهي ممكنة ومهما قدر أمكن تقدير خلافه فيكون جائزا والجائز يفتقر إلى مخصص
وهذا أضعف لوجهين
أحدهما أنه مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة وأن كل جسم يقبل الاجتماع والافتراق وأكثر عقلاء الناس على خلاف ذلك فإن للناس في هذا المقام أقوالا أحدها قول من يقول إنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة كما هو قول أكثر المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وموافقيهم
والثاني قول من يقول إنها مركبة من جواهر لا نهاية لها كما هو قول النظام ومتبعيه
والثالث قول من يقول إنها مركبة من المادة والصورة وإنها تقبل الانقسام إلى غير نهاية كما هو قول ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة
(3/442)
والرابع قول من يقول إنها ليست مركبة من هذا ولا هذا لكن تقبل الانقسام إلى جوهر لا يتجزأ كما هو قول الشهرستاني وغيره
والخامس قول من يقول إنها ليست مركبة لا من هذا ولا هذا ولا تقبل الانقسام إلى جزء لا يتجزأ ولا إلى غير غاية لكن كل جزء موجود فإنه يقبل الانقسام العقلي ولا يقبل الانقسام الفعلي ولكنه يستحيل إذا تصغر كما تفسد وتستحيل أجزاء المادة إذا صغرت فتصير هواء فلا يكون في الأجزاء ما لا يتميز يمينه عن شماله ولا يكون فيها ما يقبل الانقسام إلى غير غاية
وهؤلاء تخلصوا من هذا المحذور وهذا المحذور فإن مثبتة الجزء الذي لا ينقسم الزمهم الناس بأنه لا بد ان يتميز أحد جانبيه عن الآخر وما كان كذلك فهو يقبل الانقسام المتنازع فيه
والزموهم انه إذا وضع بين جوهرين فإن لاقى هذا بعين مالا قى به هذا امتنع كونه بينهما وان لاقى هذا بغير ما لاقى به هذا لزم انقسامه
والزموهم من هذا الجنس الزامات لا محيد لهم عنها
ومن نفاه وقال بأنه يمكن انقسام الأجسام إلى غير نهاية الزمهم الناس ان يكون الجسم الصغير كالكبير وان يكون مالا يتناهى محصورا بين حاصرين
(3/443)
ثم إما ان يقول هي غير متناهية مع وجودها كما يقوله النظام والتزم على ذلك ان الظافر لا يحاذى ما تحته من الاجزاء لئلا يقع مالا يتناهى تحت ما يتناهى وصار الناس يقولون عجائب الكلام طفرة النظام و احوال أبي هاشم وكسب الاشعري ولهم في ذلك من الكلام ما يطول وصفه
او يقول ان الانقسام إلى غير غاية ممكن فيها كما يقوله المتفلسفة كابن سينا وامثاله
ولما كان كل من القولين معلوم الفساد بالضرورة قول من أثبت مالا يتميز بعضه عن بعض ومن أثبت ما ينقسم إلى غير نهاية توقف من توقف من أفاضل النظار فيه فتوقف فيه ابو الحسين البصري و ابو المعالي الجويني في بعض كتبه و ابو عبد الله الرازي في نهايته
فهؤلاء الذين لم يثبتوا إمكان الانقسام إلى غير غاية ولا اثبتوا مالا يقبل امتياز بعضه عن بعض خلصوا من هذا وهذا وقالوا انه إذا صغر استحال إلى غيره مع امتياز بعضه عن بعض لو بقي موجودا
وبالجملة نفي هذا وهذا قول طوائف كثيرة من أهل النظر من الكلابية والكرامية بل والهاشمية والنجارية والضرارية وغيرهم
ومازال السلف و الائمة وغيره من عقلاء الناس ينكرون على هؤلاء ما تكلموا به في الجوهر والجسم ويعدون هذا من الكلام الباطل
(3/444)
والمقصود هنا ان هؤلاء الذين يقولون ان جواهر العالم إما ان تكون مجتمعة او مفترقة إلى آخرها قولهم مبني على هذا الأصل والتزموا على ذلك ان جميع ما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن وما يفسد من ذلك إنما هو لاجتماع الجواهر وافتراقها فالحادث صفات الجواهر لا ان عينا من الاعيان يحدث وانكروا استحالة الأجسام بعضها إلى بعض وقالوا ان اجزاء المني باقية في الانسان وكذلك اجزاء النواة في الشجرة ولكن زادت اجزاء بما انضم اليها من اجزاء الغذاء كأجزاء الماء والهواء وان تلك الاجزاء ايضا باقية لم تستحل ولم تعدم بل تجتمع تارة وتفترق اخرى
وجماهير العقلاء على مخالفة هؤلاء وقائلون باستحالة الأجسام بعضها إلى بعض كما اطبق على ذلك علماء الشريعة وعلماء الطبيعة وغيرهم من اصناف الناس
ولهذا يقولون النجاسة هل تطهر بالاستحالة ام لا تطهر فإذا صارت الميتة والدم ولحم الخنزير رمادا او ترابا او ملحا ونحو ذلك ففي طهارة ذلك قولان مشهوران للعلماء والقول بطهارته قول اكثر الفقهاء فإنه قول أصحاب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد بن حنبل واتفقوا على ان الخمر إذا استحالت وانقلبت بغير قصد الانسان انها تطهر
و الاطباء مع سائر الناس يعلمون ان الماء يستحيل هواء والهواء يستحيل ماء والنار تستحيل هواء والهواء يستحيل ماء كما
(3/445)
هو مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على اصول هذه الحجة
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين ما يقوله هؤلاء وهؤلاء من التركيب وان هؤلاء يدعون التركيب من جواهر محسوسة لا تنقسم وهي الجواهر المنفردة وهؤلاء يدعون التركيب من جواهر معقولة لا تنقسم كما يقولون في تركب الانواع من الاجناس والفصول وفي تركب الأجسام من المادة والصورة والمركب لا بد له من واحد لا تركيب فيه ولا تقسيم
وقد بين ان ما يدعيه هؤلاء وهؤلاء من هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج وانما تقديره في الذهن وكذلك ما يدعيه هؤلاء من الجواهر العقلية المجردة التي لا تنقسم كالعقول العشرة فقد بين في غير هذا الموضع انها لا تتحقق إلا في الاذهان لا في الاعيان
وتوحيد القديم الازلي واجب الوجود الذي مضمونه نفي الصفات عند الفريقين ينزه عن مثل هذه الآحاد والوحدات التي يثبتونها في الخارج ولا حقيقة لها إلا في الذهن ولهذا كان منتهى تحقيقهم القول بوحدة الوجود وأن الوجود واحد لا يميزون بين الواحد بالنوع والواحد بالشخص فإن الواحد بالنوع كما يقال الموجودات تشترك في مسمى الوجود و الاناسي تشترك في مسمى الانسان والحيوانات تشترك في مسمى الحيوان و الاجسام تشترك في مسمى الجسم ونحو ذلك
(3/446)
وهذا المشترك هو الكلي الذي لا يوجد في الخارج كليا ولا يكون كليا إلا في الاذهان لا في الاعيان
وبين ما دخل على المنطقيين من الغلط في دعواهم تركب الحقائق من هذه الكليات وما دخل عليهم من الفساد في العلم الالهي والطبيعي وانهم يجعلون الواحد اثنين كالجسم والاثنين واحدا كالعلم والعالم و الارادة والقدرة ويجعلون الموجود معدوما كالحقيقة الإلهية وصفاتها وأفعالها والمعدوم موجودا كالوجود المطلق ويجعلون ما في الذهن في الخارج كالمجردات والكليات وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه
الوجه الثاني انه لو سلم أن الجسم مؤلف من الجواهر المجتمعة فالقول في الاجتماع كالقول في المقدار وقوله ان اختصاصه بذلك الاجتماع يفتقر إلى مخصص قد بين فساده ( كقوله ان اختصاصه بالمقدار يفتقر إلى مخصص وهو مبني على ان كل مختص يفتقر إلى مخصص )
و اما المقدمة الثانية فانها قررت بأن المخصص لا بد ان يكون فاعلا مختارا وأن يكون ما خصصه به حادثا وقد أبطل الآمدي وغيره كلا المقدمتين
(3/447)
وغاية هذا المسلك أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث
قال الآمدي وبتقدير تسليم حدوث ما أشير اليه من الصفات فلا يلزم ان تكون الجواهر والاجسام حادثة لجواز ان تكون هذه الصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها ينتهي اليه
قلت وهذا الذي اعتمده الآمدي في هذه المسألة فانه ذكر في حدوث الأجسام سبعة مالك وزيف ستة منها
الأول مسلك الإمكان وأنه ممكن وكل ممكن محدث
والثاني مسلك الاختصاص
الثالث مسلك الحيز المعين
الرابع مسلك القدم أنه قديم
والخامس مسلك الإمكان [ ايضا ] لكن فيه تقدير الحدوث بطريقة أخرى
والسادس مسلك الحركة والسكون الذي قدمه الرازي
(3/448)
وقد تقدم ما اعترض به هو والأرموي وغيرهما على هذه المسالك وبينوا به فسادها
قال الآمدي والمسلك السابع المسلك المشهور للأصحاب
(3/449)
وعليه الاعتماد وذكر ان المسلك المشهور للأشعرية والرازي ونحوه لم يعتمد على هذا المسلك لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وقدح الآمدي في الطرق التي اعتمد عليها الرازي
قال الآمدي وهو أنا نقول العالم مؤلف من أجزاء حادثه والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث فالعالم حادث بيان الأول ان اجزاء العالم منحصرة في الجواهر والأعراض والجواهر والأعراض حادثة فأجزاء العالم حادثة وبيان الأول ما سبق في الوجود والممكن بيان الثانية إما بيان ان الاعراض حادثة فلأنا بينا ان الاعراض ممتنعة البقاء وكل ممتنع البقاء فهو حادث مسبوق بعدم نفسه فكل واحد من الاعراض حادث مسبوق بعدم نفسه وعند ذلك فإما ان تكون متعاقبة في وجودها إلى غير النهاية او هي منتهية إلى عرض ليس وراءه عرض آخر الأول محال لما بيناه من بيان امتناع حوادث لا أول لها ينتهي اليه في إثبات واجب الوجود فلم يبق إلا الثاني وهو ان تكون جملتها متناهية
(3/450)
ومسبوقة بالعدم فتكون حادثة وأما الجواهر فلأنا بينا فيما تقدم امتناع عرو الجواهر عن الاعراض واذا كانت الاعراض التي لا عرو للجواهر عنها حادثة ومسبوقة بالعدم فالجواهر كذلك لأن مالا يعرى عما له أول فله أول وهو حادث وإلا فلو كان قديما للزم منه إما عروه عن العرض في حال قدمه واما ان تكون الاعراض لا أول لها وكل واحد من الامرين محال لما تقدم
إما بيان المقدمة الثانية من أصل الدليل فهو أن ما كانت اجزاؤه حادثة ولها أول تنتهي اليه فالهيئة الاجتماعية الكائنة عنها تكون حادثة مسبوقة بالعدم وهو معلوم بالضرورة
فهذا تمام تقريره لهذا المسلك الذي ارتضاه
ولقائل ان يقول هذا الدليل اضعف بكثير مما ذكره الرازي ولهذا لم يعرف الرازي على هذا لضعفه واستدل بدليل الحركة والسكون كما استدل به من استدل من المعتزلة فإن هذا الدليل مبنى على مقدمتين احداهما ان الاعراض جميعها ممتنعة البقاء وجمهور
(3/451)
العقلاء من أهل الكلام وغيرهم من أصناف الناس ينكرون ذلك بل يقولون ان هذا خلاف الحس والضرورة ويجعلونه جنس قول النظام ان الأجسام ايضا لا تبقى
وعمدة من قال بامتناع بقائها ان العرض لو جاز بقاؤه لامتنع عدمه لان العدم لا يجوز ان يكون بحدوث ضد فإن الحادث إنما يحدث في حالة عدم الثاني لامتناع اجتماع الضدين لأنه ليس عدم الثاني لطريان الحادث بأولى من العكس ولا يجوز ان يكون بفعل القادر المختار لأن العدم نفي محض وفعل الفاعل لا يكون نفيا محضا
ومعلوم ان هذا كلام ضعيف فإنه يمكن عدمه بالاعدام وفعل الإعدام ليس فعلا لعدم مستمر بل هو احداث لعدم ما كان موجودا كما أن احداث الوجود احداث لوجود ما كان معدوما وهذا امر متجدد يعقل كونه مفعولا للفاعل
و ايضا فالضد الحادث إذا قدر انه أقوى من الباقي كان ازالته له لفضل قوته فإن كون العرضين متضادين لا يستلزم تساويهما وتماثلهما في القوة والضعف
وأيضا فإن الفاعل المحدث للعرض الحادث يجعله مزيلا لذلك الباقي دون العكس
ولولا ان هذا ليس موضع بسط الكلام في مثل هذه الامور وألا لكان ينبغي ان نبين ان مثل هذا الكلام من أسخف الكلام الذي ذمه
(3/452)
السلف و الائمة وغيرهم من العقلاء فإن هؤلاء يقولون ان الله لا يمكن ان يفنى شيئا من الأجسام والأعراض بل طريق فنائها انه لا يخلق الاعراض التي تحتاج إلى تجديد و احداث دائما فإذا لم يحدثها عدمت الأجسام وفنيت بأنفسها لأنه لا وجود لها إلا بالاعراض ومثل هذا الكلام لو قاله الصبيان لضحك منهم
وأما المقدمة الثانية فهو وجوب تناهي الحوادث وقد تقدم كلامهم في افساد جميع ما استدل به على ذلك والطريقة التي قررها الامدي قد تقدم اعتراض الارموي وغيره عليها وبيان فسادها
فهذا جملة ما احتج به هؤلاء الذين هم فحول النظر وأئمة الكلام والفلسفة في هذه المسائل وقد تبين بكلام بعضهم في بعض افساد هذه الدلائل وهذا جملة ما يعارضون به الكتاب والسنة ويسمونه قواطع عقلية ويقولون انه يجب تقديم مثل هذا الكلام على نصوص التنزيل والثابت من أخبار الرسول وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها
فلو لم يكن في المعقول ما يوافق قول الرسول لم تجز معارضته
(3/453)
بمثل هذا الكلام فضلا عن تقديمه عليه فكيف والمعقول الصريح موافق لما جاء به الرسول كما بين في موضعه بل لا يجوز ان تعارض بمثل هذا الكلام الاحكام الثابتة بالعمومات والاقيسة والظواهر واخبار الآحاد فكيف تعارض بذلك النصوص الثابتة عن المعصوم
بل مثل هذا الكلام لا يصلح لافادة ظن ولا يقين وانما هو كلام طويل بعبارات طويلة وتقسيمات متنوعة يهابه من لم يفهمه وعامة من وافق عليه وافق عليه تقليدا لمن قاله قبله لا عن تحقيق عقلي قام في نفسه
وكلام السلف و الائمة في ذم مثل هذا الكلام الذي احتجوا فيه بطريقة الاعراض والجواهر على حدوث الأجسام واثبات الصانع كثير منتشر قد كتب في غير هذا الموضع وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم ان السلف كانوا أعمق من هؤلاء علما وأبر قلوبا وأقل تكلفا وأنهم فهموا من حقائق الامور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم وقبلوا الحق وردوا الباطل والله أعلم
(3/454)
فصل
وإذ قد عرف ما قاله الناس من جميع الطوائف فى مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى وضعف أدلة النفاة واعتراف أبى عبد الله الرازى وغيره بذلك وأنه اعتمد على حجة الكمال والنقصان وهى ضعيفة أيضا كما تقدم وذكر هو وأبو الحسن الآمدى ومن اتبعهما أدلة نفاة ذلك وأبطلوها كلها ولم يستدلوا على نفى ذلك إلا بأن ما يقوم به إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثه نقصا وإن كان نقصا لزم اتصافه بالنقص والله منزه عن ذلك
وهذه الحجة ضعيفة ولعلها أضعف مما ضعفوه فإن لقائل أن يبطلها من وجوه كثيرة
أحدها أن يقال القول فى أفعاله القائمة به الحادثة بمشيئته وقدرته كالقول فى أفعاله التى هى المفعولات المنفصلة التى يحدثها بمشيئته وقدرته فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال فقالوا الفعل إن كان صفة كمال لزم عدم الكمال له فى الأزل وإن كان صفة نقص لزم اتصافه بالنقائص فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال
وهذا كما أن من حجج النفاة أنه لو كان قابلا لقيام الحادث به لكان القبول من لوازم ذاته ووجود المقبول في الأزل محال
(4/3)
فأجيبوا بأنه لا فرق بين حدوث ما يقوم به أو بغيره
فإذا قيل لو كان قادرا على فعل الحوادث لكان ذلك من لوازم ذاته وذلك فى الأزل محال فما كان جوابا عن هذا كان جوابا عن هذا
وقد أورد الرازى على ذلك فى بعض كتبه أن القادر يتقدم المقدور والقابل لا يجب أن يتقدم المقبول وهذا فرق فى غاية الضعف لوجوه
أحدها أن الكلام إنما هو مقبول مقدور لا فى مقبول غير مقدور فإن ما كان حادثا فالرب قادر عليه وهو قادر على أفعاله القائمة به كما هو قادر على مفعولاته المنفصلة
قال تعالى { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } [ سورة القيامة 40 ] وقال تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } الآية ] سورة الانعام 65 ] وقال تعالى { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } [ سورة يس 81 ] وقال تعالى { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } [ سورة الشورى 29 ] فبين أنه قادر على الإحياء والبعث والخلق والجمع وهذه أفعال وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبى مسعود البدرى لما
(4/4)
رآه يضرب عبدا له لله أقدر عليك منك عليه فتعين أنه قادر عليه نفسه
والمقصود هنا أن الكلام إنما هو فى الحوادث التى هى مقدورة ليس فى كل مقبول فإذا كان المقدور لا يوجد فى الأزل امتنع وجود الحوادث كذلك فلا يصح أن يفرق بين مقبول مقدور ومقبول غير مقدور إذ كلاهما مقدور
الوجه الثانى أن يقال إما أن يكون وجود الحادث فى الأزل ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا أمكن وجود المقدور في الأزل وإن كان ممتنعا امتنع وجوده مقبولا ومقدورا
الثالث أن يقال إثبات المقدور حال امتناع المقدور جمع بين المتناقضين فلا يعقل إثبات القدرة فى حال امتناع المقدور بل فى حال إمكانه ولهذا أنكر المسلمون وغيرهم على من قال من أهل الكلام إنه قادر فى الأزل مع امتناع المقدور فى الأزل وقالوا هذا جمع بين المتناقضين وقالوا إنه يستلزم انتقال المقدور من الإمكان إلى الامتناع بدون سبب يوجب هذا الانتقال ويوجب أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن قادرا بدون سبب يوجب ذلك وقد بسط الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع
(4/5)
الوجه الثاني أن يقال كونه بحيث يتكلم ويفعل ما يشاء صفة كمال وهو لم يزل متصفا بذلك وأما الشىء المعين فحدوثه لا نقص ولا كمال
الوجه الثالث أن يقال ما تعنى بقولك عدم ذلك نقص أتعنى به أن ذاته ناقصة وانها ليست متصفة بصفات الكمال الواجبة لها أم تعنى به عدم ما سيوجد لها أما الأول فباطل وأما الثانى فلم قلت إن هذا ممتنع
الرابع أن يقال أنتم قلتم ما ذكره أبو المعالى والرازى وغيرهما من أن تنزيهه عن النقائص إنما علم بالسمع لا بالعقل فإذا قلتم إنه ليس فى العقل ما ينفى ذلك لم يبق نفى ذلك إلا بالسمع الذى هو الإجماع عند كم ومعلوم أن السمع الذى هو الإجماع والإجماع وغيره لم ينف هذه الأمور وإنما نفى ما يناقض صفات الكمال كالموت المنافى للحياة والسنة والنوم المنافى للقيومية اللغوب المنافى لكمال القدرة
ولهذا كان الصواب أن الله منزه عن النقائص شرعا وعقلا فإن
(4/6)
العقل كما دل على اتصافه بصفات الكمال من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام دل أيضا على نفى أضداد هذه فإن إثبات الشىء يستلزم نفى ضده ولا معنى للنقائص إلا ما ينافى صفات الكمال
وأيضا فكل كمال اتصف به المخلوق إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أحق به لأنه هو الذى خلقه وكل كمال اتصف به موجود ممكن وحادث فالموجود الواجب القديم أولى به وكل نقص تنزه عنه مخلوق موجود حادث إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أولى بتنزيهه عنه
الخامس أن يقال إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا علم لها ولا قدرة ولا حياة ولا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر أولا تقبل الاتصاف بهذه الصفات وذاتا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والكلام والمشيئة كان صريح العقل قاضيا بأن المتصفة بهذه الصفات التى هى صفات الكمال بل القابلة للاتصاف بها أكمل من ذات لا تتصف بهذه أو لا تقبل الاتصاف بها
(4/7)
ومعلوم بصريح العقل أن الخالق المبدع لجميع الذوات وكمالاتها أحق بكل كمال وأحق بالكمال الذى باين به جميع الموجودات وهذا الطريق ونحوه مما سلكه أهل الإثبات للصفات
فيقال وإذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا فعل لها ولا حركة ولا تقدر أن تصعد ولا تنزل ولا تأتى ولا تجىء ولا تقرب ولا تقبض ولا تطوى ولا تحدث شيئا بفعل يقوم بها وذاتا تقدر على هذه الأفعال وتحدث الأشياء بفعل لها كانت هذه الذات أكمل فإن تلك كالجماد أو الحى الزمن المجدع والحى أكمل من الجماد والحى القادر على العمل أكمل من العاجز عنه كما أن ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم كالجماد أو كالأعمى الأصم الأخرس والحى أكمل من الجماد والحى الذى يسمع ويبصر ويتكلم أكمل من الأصم الأعمى الأخرس
وإذا كان كذلك فإذا أراد نافى الفعل أن ينفيه لئلا يصفه فى الأزل بالنقص فقال لو كان فعالا بنفسه لكان الفعل المتأخر
(4/8)
معدوما فى الأزل وعدمه صفة نقص فكان متصفا بالنقص كان بمنزلة من يقول إنه لا يقدر ان يحدث الحوادث ولا بفعل ذلك لأنه لو قدر على ذلك وفعله لكان إحداثه للحادث الثانى معدوما قبل إحداثه وذلك نقص فيكون متصفا بالنقص
فيقال أنت وصفته بالكمال عن النقص حذرا من أن تصفه بما هو عندك نوع نقص فإن من لا يفعل قط ولا يقدر أن يفعل هو أعظم نقصا ممن يقدر على الفعل ويفعله والفعل لا يكون إلا حادثا شيئا بعد شىء
وهذه عادة النفاة لا ينفون شيئا من الصفات فرارا من محذور إلا لزمهم فى النفى أعظم من ذلك المحذور كنفاة الصفات من الباطنية من المتفلسفة وغيرهم لما قيل لهم إذا لم يوصف بالعلم والقدرة والحياة لزم أن يتصف بما يقابل ذلك كالعجز والجهل والموت
فقالوا إنما يلزم ذلك لو كان قابلا للاتصاف بذلك فإن المتقابلين تقابل السلب والايجاب كالوجود والعدم إذا عدم أحدهما ثبت الآخر وأما المتقابلان تقابل العدم والملكة كالحياة والموت والعمى والبصر فقد يخلو المحل عنهما كالجماد فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا
(4/9)
فيقال لهم فررتم عن تشبيه بالحيوان الناقص الذي لا يسمع ولا يبصر مع إمكان ذلك منه فشبهتموه بالجماد الذي لا يقبل الإتصاف لا بهذا ولا بهذا فكان ما فررتم إليه شرا مما فررتم منه ولهذا نظائر مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن من نفى الأفعال الإختيارية القائمة به لئلا يكون قبل وجود الحادث منها ناقصا كان قد وصفه بالنقص التام فرارا بزعمه مما يظنه نقصا
الوجه السادس أن يقال الأفعال التي حدثت بعد أن لم تكن لم يكن وجودها قبل وجودها كمالا ولا عدمها نقصا فإن النقص إنما يكون إذا عدم ما يصلح وجوده وما به يحصل الكمال وما ينبغى وجوده ونحو ذلك والرب تعالى حكيم في أفعاله وهو المقدم والمؤخر فما قدمه كان الكمال في تقديمه وما أخره كان الكمال في تأخيره كما أن ما خصصه بما خصصه به من الصفات فقد فعله على وجه الحكمة وإن لم نعلم نحن تفاصيل ذلك واعتبر ذلك بما يحدثه من المحدثات
الوجه السابع أن يقال الحوادث يمتنع قدمها ويمتنع أن توجد معا ولو وجدت معا لم تكن حوادث ومعلوم أنه إذا دار الأمر بين
(4/10)
إحداث الحوادث وعدم إحداثها كان إحداثها أكمل ولا يكون إحداثها إلا مع عدم الحادث منها في الأزل
وإذا كان كذلك صار هذا بمنزلة جعل الشيء موجودا معدوما فلا يقال عدم فعل هذا أو عدم تعلق القدرة به صفة نقص بل النقص عدم القدرة على جعله موجودا فإذا كان قادرا على ذلك كان موصوفا بصفة الكمال التي لا يمكن غيرها فكذلك المحدث للأمور المتعاقبة هو موصوف بالكمال الذي لا يمكن في الحدوث غيره
الوجه الثامن أن يقال لا ريب أن الحوادث مشهودة وأن لها محدثا أحداثها فالمحدث لها إما أن يحدثها بفعل اختياري يقوم به وإما أن تحدث عنه شيئا بعد شيء من غير فعل يقوم به ولا حدوث شيء منه ومعلوم أن اتصافه بالاول أولى لو كان الثاني ممكنا فإن الاول فيه وصفه بصفة الكمال بخلاف الثاني فكيف والثاني ممتنع لأن حدوث الحوادث من غير سبب حادث ممتنع
وإذا كان حال الفاعل قبل حدوثها كحاله مع حدوثها وبعد حدوثها وهي في الحالين حادثة لم يكن الفاعل قد فعل شيئا ولا أحدث شيئا بل حدثت بذاتها
وهذا الدليل قد بسط في غير هذا الموضع وبين فساد قول
(4/11)
الفلاسفة الدهرية القائلين بأن حركات الأفلاك تصدر عن قديم أزلي لا يحدث منه شيء وأن قولهم أفسد من قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام فإن هؤلاء الفلاسفة استدلوا على قدم العالم بحجتهم العظمى وهو أنه لو حدث بعد أن لم يكن لاحتاج إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب كالقول فيه فيلزم التسلسل أو الترجيح بلا مرجح
فيقال لهم أنتم تقولون بحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن فاعل قائم بنفسه لا تقوم به صفة ولا فعل ولا يحدث له فعل ولا غير فعل فقولكم بصدور الحوادث المختلفة الدائمة عمن لا فعل له ولا صفة ولا يحدث منه شيء أعظم فسادا من قول من يقول إنه تارة تصدر عنه الحوادث وتارة لا تصدر فإنه إن كان صدور الحوادث عنه من غير حدوث شيء فيه محالا فصدورها دائما عنه من غير حدوث شيء فيه أشد إحالة
الوجه التاسع أن يقال أفعال الله تعالى إما أن يكون لها حكمة هي غايتها المطلوبة وإما أن لا يكون والناس لهم في هذا المقام قولان مشهوران أحدهما قول من لا يثبت إلا المشيئة والثاني قول من يثبت حكمة قائمة بالمخلوق أو حكمة قائمة بالخالق والأقوال الثلاثة معروفة في الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم
(4/12)
فإن نفيتم الحكمة جوزتم أن يفعل أفعالا لا يحصل له بها كمال فيقال لهم قولوا في أفعاله القائمة بنفسه الإختيارية ما تقولونه في حدوث المفعولات عنه وهو الفاعل عندكم
وإن أثبتم الحكمة قيل لكم الحكمة الحاصلة بالفعل الحادث حادثة بعده فحدوث هذه الحكمة بعد أن لم تكن سواء كانت قائمة بنفسه أو بغيره أهي صفة كمال أم لا
فإن قلتم صفة كمال فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة به
وإن قلتم ليست صفة كمال فقولوا أيضا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة
فقد لزمكم في الحكمة إن أثبتموها أو نفيتموها ما يلزمكم في نفس الفعل سواء بسواء وهذا بين واضح
الوجه العاشر أ ن يقول من يثبت الفعل القائم به والحكمة القائمة به معلوم بصريح العقل أن هذا صفة كمال وأن من يكون كذلك أكمل ممن لا يفعل أو يفعل لا لحكمة فلم قلتم إن هذا ممتنع
فإذا قيل لئلا يلزم الكمال بعد النقص
قيل لهم لم قلتم وجود مثل هذا الكمال ممتنع
(4/13)
ولفظ النقص [ لفظ ] مجمل كما تقدم فإن غايته أن يفسر بعدم ما وجد قبل أن يوجد فيعود الأمر إلى أن هذا الموجود إذا وجد بعد أن لم يكن لزم أن يكون معدوما قبل وجوده
فيقال ومن أين علمتم أن وجود هذا بعد عدمه محال وليس في ذلك افتقار الرب إلى غيره ولا إستكماله بفعل غيره بل هو الحي الفعال لما يشاء العليم القدير الحكيم الخبير الرحيم الودود لا إله إلا هو وكل ما سواه فقير إليه وهو غنى عما سواه لا يكمل بغيره ولا يحتاج إلى سواه ولا يستعين بغيره في فعل ولا يبلغ العباد نفعه فينفعوه ولا ضره فيضروه بل هو خالق الأسباب والمسببات وهو الذي يلهم عبده الدعاء ثم يجيبه وييسر عليه العمل ثم يشبه ويلهمه التوبة ويحبه ويفرح بتوبته وهو الذي استعمل المؤمنين فيما يرضيه ورضى عنهم فلم يحتج في فعله لما يحبه ويرضاه إلى سواه بل هو الذي خلق حركات العباد التي يحبها ويرضاها وهوالذي خلق ما لا يحبه ولا يرضاه من أعمالهم لما له في ذلك من الحكمة التي يحبها ويرضاها { وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون } [ سورة القصص 70 ] فلا إله إلا هو { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ سورة الأنبياء 22 ] إذ كان هو الذى يستحق أن تكون العبادة له وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل لا منفعة فيه
(4/14)
فما لا يكون به لا يكون فإن لا حول ولا قوة إلا به وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم كما قال تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } [ سورة الفرقان 23 ] وقال { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء } [ سورة إبراهيم 18 ] وهو سبحانه يحب عباده الذي يحبونه والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوبا
فإذا كنا إذا أحببنا شيئا لله كان الله هو المحبوب في الحقيقة وحبنا لذلك بطريق التبع وكنا نحب من يحب الله لأنه يحب الله فالله تعالى يحب الذي يحبونه فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود وأن يكون غاية كل حب كيف وهو سبحانه الذى يحمد المعبود ويثنى على نفسه ويحب الحمد من خلقه
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لا أحد أحب إليه المدح من الله وقال له الأسود بن سريع يا رسول
(4/15)
الله إنى حمدت ربى بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقد روى أنه كان يقول ذلك في آخر الوتر
فهو المثنى على نفسه وهو كما أثنى على نفسه إذ أفضل خلقه لا يحصى ثناء عليه
والثناء تكرير المحامد وتثنيتها كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شىء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا
(4/16)
معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد فذكر الحمد والثناء والمجد هنا كما ذكره فى أول الفاتحة فالحمد يتناول جنس المحامد والثناء يقتضى تكريرها وتعديدها والزيادة فى عددها والمجد يقتضى تعظيمها وتوسيعها والزيادة فى قدرها وصفتها
فهو سبحانه مستحق للحمد والثناء والمجد ولا أحد يحسن أن يحمده كما يحمد نفسه ولا يثنى عليه كما يثنى على نفسه ولا يمجده كما يمجد نفسه
كما فى حديث ابن عمر الذى فى الصحيح لما قرأ النبى صلى الله عليه وسلم على المنبر { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } [ سورة الزمر 67 ] قال يقبض الله سمواته بيده والأرضون بيده الأخرى ثم يمجد نفسه فيقول أنا الملك أنا القدوس أنا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا العزيز أنا الجبار أنا المتكبر أنا الذى بدأت الدنيا ولم تك شيئا أنا الذى أعدتها أين الملوك أين الجبارون أين المتكبرون أو كما قال
(4/17)
وفى الحديث الآخر يقول الله تعالى إنى جواد ماجد واجد إنما أمرى إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون & فصل
ونحن نذكر ما ذكره أبو الحسن الآمدى فى هذا الأصل ونتكلم عليه قال فى كتابة الكبير المسمى أبكار الأفكار المسألة الرابعة من النوع الرابع الذى سماه إبطال التشبيه فى بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى
قال وقبل الخوض فى الحجاج لابد من تلخيص محل
(4/18)
النزاع فنقول المراد بالحادث المتنازع فيه الموجود بعد العدم كان ذاتا قائمة بنفسها أو صفة لغيره كالأعراض وأما ما لا وجود له كالعدم أو الأحوال عند القائلين بها فإنها غير موصوفة بالوجود ولا بالعدم كالعالمية والقادرية والمريدية ونحو ذلك أو النسب والإضافات فإنها عند المتكلم أمور وهمية لا وجود لها فما تحقق من ذلك بعد أن لم يكن فيقال له متجدد ولا يقال له حادث
قال وعند هذا فنقول العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى [ غير المجوس والكرامية فإنهم اتفقوا على جواز ذلك ]
غير أن الكرامية لم يجوزوا قيام كل حادث بذات الرب تعالى بل قال أكثرهم هو ما يفتقر إليه فى الإيجاد والخلق ثم اختلفوا فى هذا الحادث فمنهم من قال هو قوله كن ومنهم من قال هو
(4/19)
الإرادة فخلق الإرادة أو القول في ذاته يستند إلى القدرة القديمة لا أنه حادث بإحداث وأما خلق باقى المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول على إختلاف مذهبهم فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه بالحادث والخارج عن ذاته يعبرون عنه بالمحدث ومنهم من زاد على ذلك حادثين آخرين وهما السمع والبصر
قال وأجمعت الكرامية على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة لا يتجدد له منها اسم ولا يعود إليه منها حكم حتى لا يقال إنه قائل بقول ولا مريد بإرادة بل قائل بالقائلية ومريد بالمريدية ولم يجوزوا عليه إطلاق اسم متجدد لم يكن فيما لا يزال بل قالوا أسماؤه كلها أزلية حتى في الخلق والرازق وإن لم يكن في الأزل خلق ولا رزق
(4/20)
قال وأما ما كان من الصفات المتجددة التي لا وجود لها في الاعيان فما كان منها حالا فقد اتفق المتكلمون على امتناع اتصاف الرب به غير أبى الحسين البصرى فإنه قال تتجدد عالميات لله تعالى بتجدد المعلومات وما كان من النسب والإضافات والتعلقات فمتفق بين أرباب العقول على جواز اتصاف الرب تعالى بها حتى يقال إنه موجود مع العالم بعد أن لم يكن وإنه خالق العالم بعد أن لم يكن وما كان من الأعدام والسلوب فإن كان سلب أمر يستحيل تقدير وجوده لله تعالى فلا يكون متجددا بالإجماع مثل كونه غير مجسم ولا جوهر ولا عرض إلى غير ذلك وإن كان سلب أمر لا يستحيل تقدير اتصاف الرب به كالنسب والإضافات فغير ممتنع أن يتصف به الرب تعالى بعد أن
(4/21)
لم يكن بالاتفاق فإنه إذا كان الحادث موجودا صح أن يقال الرب تعالى موجود مع وجوده وتنعدم هذه المعية عند فرض عدم ذلك الحادث فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن
قلت قد ذكر أن لفظ الحادث مرادهم به الموجود بعد العدم سواء كان قائما بنفسه كالجوهر او صفة لغيره كالأعراض وسمى ما ليس بموجود كالاحوال والسلوب والإضافات متجددات وهذا الفرق أمر اصطلاحي وإلا فلا فرق بين معنى المتجدد ومعنى الحادث
وأيضا فإن الاحوال عند القائلين بها منهم من يقول بوجودها وقالوا يصح أن تكون معلومة تبعا لغيرها وأن يكون وجودها تبعا لغيرها
وخالفوا أبا هاشم في قوله ليست معلومة ولا مجهولة ولا موجودة ولا معدومة
وأيضا فالنسب والإضافات عند الفلاسفة قد تكون وجودية وأما المذاهب فيقال لفظ الحوادث والمتجددات في لغة العرب يتناول أشياء كثيرة وربما أفهم أو أوهم في العرف
(4/22)
استحالات كالأمراض والغموم والأحزان ونحوها إذا قيل فلان حدث به حادث وكثير منهم يعبر بالاحداث عن المعاصى والذنوب ونحو ذلك كما قد عرف هذا
وأما مورد النزاع أنه هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته إما من باب الأفعال كالاستواء إلى غيره والإستواء عليه والإتيان والمجىء والنزول ونحو ذلك وإما من باب الأقوال والكلمات وإما من باب الأحوال كالفرح والغضب والإرادات والرضا والضحك ونحو ذلك وإما من باب العلوم والإدراكات كالسمع والبصر والعلم بالموجود بعد العلم بأنه سيوجد وإذا كان كذلك فقوله إن العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة ذلك غير أن الكرامية إلى آخره ليس بنقل مطابق
وأما أهل الملل فلا يضاف إليهم من حيث هم أرباب ملة إلا ما ثبت عن صاحب الملة صلوات الله عليه وسلامه أو ما أجمع عليه أهل العلم وأما ما قاله بعض أهل الملة برأيه أو استنباطه مع منازعة غيره له فلا يجوز إضافته إلى الملة
ومن المعلوم أنه لا يمكن أحد أن ينقل عن محمد صلى الله عليه وسلم ولا عن إخوانه المرسلين كموسى وعيسى صلوات الله عليهما ما يدل على قول النفاة لا نصا ولا ظاهرا بل الكتب الإلهية
(4/23)
المتواترة عنهم والأحاديث المتواترة عنهم تدل على نقيض قول النفاة وتوافق قول أهل الإثبات
وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين أرباب المذاهب المشهورة وشيوخ المسلمين المتقدمين لا يمكن أحد أن ينقل نقلا صحيحا عن أحد منهم بما يوافق قول النفاة بل المنقول المستفيض عنهم يوافق قول أهل الإثبات فنقل مثل هذا عن أهل الملة خطأ ظاهر
ولكن اهل الكلام والنظر من أهل الملة تنازعوا في هذا الأصل لما حدث في أهل الملة مذهب الجهمية نفاة الصفات وذلك بعد المائة الاولى في آواخر عصر التابعين ولم يكن قبل هذا يعرف في أهل الملة من يقول بنفى الصفات ولا بنفى الامور الإختيارية القائمة بذاته
فلما حدث هذا القول وقالت به المعتزلة وقالوا لا تحل به الأعراض والحوادث وأرادوا بذلك أنه لا تقوم به صفة كالعلم والقدرة ولا فعل كالخلق والإستواء أنكر ائمة السلف ذلك عليهم كما هو متواتر معروف
وعن هذا قالت العتزلة إن القرآن مخلوق لأنه لو قام بذاته للزم أن تقوم به الأفعال والصفات وأطبق السلف والأئمة على إنكار هذا عليهم
(4/24)
وكل من خالفهم قبل ابن كلاب كان يقول بقيام الصفات والأقوال والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته به لكن ابن كلاب ومتبعوه فرقوا بين ما يلزم الذات من أعيان الصفات كالحياة والعلم وبين ما يتعلق بالمشيئة والقدرة فقالوا هذا لا يقوم بذاته لأن ذلك يستلزم تعاقب الحوادث عليه كما سيأتي
وابن كرام كان متأخرا بعد محنة الإمام أحمد بن حنبل وتوفى ابن كرام في حدود ستين ومائتين فكان بعد ابن كلاب بمدة وكان أكثر أهل القبلة قبله على مخالفة المعتزلة والكلابية حتى طوائف اهل الكلام من الشيعة والمرجئة كالهشامية وأصحاب ابى معاذ التومنى وزهير الاثرى وغيرهما كما ذكر ذلك عنهم الأشعري في المقالات
وأمثال هؤلاء كانوا يقولون بقيام الحوادث به حتى صرح طوائف منهم بالحركة كما صرح بذلك طوائف من أئمة الحديث والسنة وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء وأن الحركة من لوازم الحياة وأمثال ذلك بل هم يقولون إنه إنما ابتدع من ابتدع من أهل الكلام البدع المخالفة للنصوص وللمعقول لقولهم بهذا الأصل كقول من قال إن الكلام معنى واحد قديم وقول من قال إن المعدوم يرى ويسمع وقول من قال بقدم صوت معين
وأما غير أهل الملل فالفلاسفة متنازعون في هذا الاصل والمحكى عن كثير من اساطينهم القدماء أنه كان يقول بذلك كما تقدم نقل المقالات عنهم حتى صرح بالحركة من صرح منهم بل الذين
(4/25)
كانوا قبل أرسطوا من الأساطين كانوا يقولون بحدوث العالم عن أسباب حادثة وهم يقولون بهذا الأصل إما تصريحا وإما لزوما وكذلك غير واحد من متأخريهم كأبى البركات البغدادي صاحب المعتبر وهذا اختيار طائفة من النظار كالأثير الأبهرى وغيره
وما حكاه عن أبى الحسين البصرى فهو قول غير واحد قبل أبى الحسين وبعده كهشام [ ونحوه ] وغيره وابن عقيل يختار قول أبى الحسين وهو معنى قول السلف والرازى يميل إلى قول إبى الحسين بل وإلى زيادة على قوله كما ذكره في المطالب العالية بل ينصره وقوله عن الكرامية إنهم قالوا أسماؤه كلها أزلية أى معانى اسمائه أى ما لأجله استحق تلك الأسماء كالخالقية والرازقية
وأما نفس الإسم فهومن كلامه وكلامه عندهم حادث قائم بذاته ويمتنع عندهم أن يكون في الأزل كلام أو أسماء لأن ذلك يقتضى حوادث لا أول لها أو يقتضى قدم القول المعين وكلاهما باطل عندهم
وحكايته عن الكرامية أنهم يقولون خلق الإرادة والقول في ذاته مستند إلى القدرة القديمة وخلق ما في المخلوقات يستند إلى
(4/26)
الإرادة والقول تعبير عن مذهبهم بعبارته وإلا فهم لا يسمون شيئا مما يقدم بذات الرب لا مخلوقا ولا محدثا وإنما يقولون حادث ولا يقولون إن إرادته وكلامه لا مخلوق ولا محدث
قال وقد إحتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث به بحجج ضعيفة
الأولى قالوا لو كان البارى تعلى قابلا لحلول الحوادث بذاته لما خلا عنها أو عن أضدادها وضد الحادث حادث وما لا يخلو عن الحوادث فيجب ان يكون حادثا والرب تعالى ليس بحادث
قال وهذه الحجة مبنية على خمس مقدمات الأولى أن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد والثانية أن ضد الصفة الحادثة لا بد وأن يكون حادثا
والثالثة وأن ما قبل حادثا فلا يخلو عنه وعن ضده والرابعة أن مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث والخامسة أن الحدوث
(4/27)
على الله تعالى محال أما أن الرب تعالى ليس بحادث فقد سبق تقريره
قلت هذا معلوم باتفاق أهل الملل وسائر العقلاء ممن اثبت الصانع ومعلوم بالأدلة اليقينية بل معلوم بالضرورة وقد ذكر أنه قرر ذلك وهو لم يقرره فإنه إنما قرره بناء على إثبات واجب الوجود وبنى ذلك على نفى التسلسل في العلل وإبطال حوادث لا أول لها وحجته على ذلك ضعيفة
وقد أورد في كتابه المسمى بدقائق الحقائق على إبطال تسلسل العلل سؤالا زعم أنه لا يعرف عنه جوابا فبطل بقوله ما ذكره من تقريره لكن هذا بحمد الله أجل من أن يحتاج إلى مثل هذا التقرير
وقال وأما أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فسيأتي تقريره في حدوث الجواهر
قلت لم يقرر ذلك إلا بدليل حدوث الأعراض وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها وإنما قرر ذلك بإبطال التسلسل في الآثار وقرر ذلك بأن الحادث يمتنع أن يكون أزليا
وقد تقدم فساد ذلك بان لفظ الحادث يراد به النوع الدائم ويراد به الحادث المعين والمعلوم امتناعه إنما هو النوع الثاني والنزاع إنما هو في الأول
(4/28)
وأيضا فإن الذى قرر به إمتناع تسلسل العلل في دقائق الحقائق أورد عليه سؤالا واعترف بأنه لا جواب له عنه وإذا كان تقريره لنفى تسلسل العلل قد بين أنه ورد عليه سؤال لا يعرف جوابه فكيف بتقرير نفى تسلسل الحوادث
ومن المعلوم ان العقلاء اتفقوا على نفى تسلسل العلل وتنازعوا فى نفى تسلسل الحوادث فإن كان لم يقم على نفى ذاك عنده دليل عقلى فهذا أولى
والسؤال الذى أورده يرد على النوعين وقد [ ذكرناه ] وذكرنا الجواب عنه فيما تقدم ومضمونه أنه لم لا يجوز أن يكون مجموع المعلولات التي لا تتناهى وإن كان ممكنا في نفسه لكنه واجب بوجوب آحاده المتعاقبة وكل واحد واجب بما قبله وهذا وإن كان باطلا لكن المقصود التنبيه على أن من خالف الكتاب والسنة وقال إنه ينصر بالمعقول اصول الدين يخل بمثل هذا الواجب في اعظم أصول الدين مع أنه يقرر ما لا يحتاج إليه فى الدين أو ما يعارض مايثبت انه من الدين
وكذلك من قال مثل هذا وأمثاله أنه يتكلم بالعقليات يظهر منه في أعظم المعقولات التقصير والتوقف والخيرة فيها ويحقق من المعقولات ما تقل الحاجة إليه أو ما يكون وسيلة إلى غيره مع أن المقصود بالوسيلة لم يحققه
(4/29)
وقد احتج على إبطال حوادث لا أول لها بعد أن أبطل حجج موافقيه بان ذلك يستلزم كون الحادث أزليا وهذا الوجه ضعيف
فإن المنازع يقول أشخاص الحوادث ليست أزلية وإنما الازلى النوع فالموصوف بأنه أزلى ليس هو الموصوف بأنه حادث ثم يقال إذا لم تقدر أن تقيم حجة على امتناع تسلسل المعلولات وإثبات الصانع عندك موقوف على هذا فأى شيء ينفعك نفى حلول الحوادث عما لم تقم حجة على إثباته فضلا عن قدمه
قال وإنما الإشكال في المقدمات الثلاثة الأول
قال وذلك أن لقائل أن يقول قولكم إن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد فإما أن يراد بالضد معنى وجودى يستحيل اجتماعه مع تلك الصفة لذاتيهما وأما أن يراد به ما هو أعم من ذلك وهو ما لا يتصور اجتماعه مع وجود الصفة لذاتيهما وإن كان عدما حتى يقال فإن عدم الصفة يكون ضدا لوجودها فإن كان الأول فلا نسلم انه لا بد وأن يكون للصفة ضد بذلك الإعتبار والاستدلال على موقع المنع عسير جدا وإن كان الثانى فلا نسلم أنه
(4/30)
يلزم ان يكون ضد الحادث حادثا وإلا كان عدم العالم السابق على وجوده حادثا ولو كان عدمه حادثا كان وجوده سابقا على عدمه وهو محال
قال وإن سلمنا أنه لابد ان يكون ضد الحادث معنى وجوديا ولكن لا نسلم امتناع خلو المحل عن الصفة وضدها بهذا الإعتبار وحيث قررنا في مسألة الكلام والإدراكات أن القابل لصفة لا يخلو عنها وعن ضدها إنما كان بالمعنى الأعم لا بالمعنى الأخص فلا مناقضة
قلت هذا كلام حسن جيد لو كان قد وفى بموجبه فإن هذه الطريقة مما كان يحتج بها السلف والأئمة في إثبات صفات الكمال كالكلام والسمع والبصر وقد اتبعهم في ذلك متكلمة الصفاتية من أصحاب ابن كلاب وابن كرام والأشعرى وغيرهم بل أثبتوا بها عامة صفات الكمال
وقد أورد عليها ما يورده نفاة الصفات وزعم أن ذلك قادح فيها
(4/31)
فقال أما أهل الإثبات يعنى للصفات فقد سلك بعضهم في الإثبات مسلكا ضعيفا وهو أنهم تعرضوا لإثبات أحكام الصفات ثم توصلوا منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانيا فقالوا إن العالم لا محالة على غاية من الحكمة والإتقان وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه كما سيأتي وهو مستند في التخصيص والإيجاد إلى واجب الوجود كما سيأتي أيضا فيجب ان يكون قادرا عليه مريدا له عالما به كما وقع [ به ] الاستقراء في الشاهد فإن من لم يكن قادرا لا يصح صدور شيء عنه ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات عنه دون بعض بأولى من العكس إذ نسبتها إليه واحدة ومن لم يكن عالما بالشيء لا يتصور منه القصد إلى إيجاده
(4/32)
قالوا وإذا ثبت كونه قادرا مريدا عالما وجب أن يكون حيا إذ الحياة شرط في هذه الصفات على ما عرف في الشاهد وما كان له في وجوده أو عدمه شرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا ويلزم من كونه حيا ان يكون سميعا بصيرا متكلما فإن من لم تثبت له هذه الصفات من الأحياء فهو متصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد أيضا والإله تعالى يتقدس عن الإتصاف بهذه الصفات
قالوا وإذا ثبت له هذه الأحكام فهي في الشاهد معللة بالصفات فالعلم في الشاهد علة كون العالم عالما والقدرة علة كون القادر قادرا وعلى هذا النحو باقي الصفات و العلة لا تختلف لا شاهدا ولا غائبا
وأيضا فإن حد العالم في الشاهد من قام به العلم والقادر من قامت به القدرة وعلى هذا النحو والحد لا يختلف شاهدا ولا غائبا
(4/33)
وأيضا فإن شرط العالم فى الشاهد قيام العلم به وكذلك فى القدرة وغيرها والشرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا
قلت وهذه الطريقة مع إمكان تقريرها على هذا الوجه فإنه يمكن تقريرها على وجه أكمل منه ومع هذا فقد قال هذه الحجة مما يضعف التمسك بها جدا وأورد عليها أنها مبنية على الجمع بين الشاهد والغائب
وقد تكلمنا على ما ذكره هو وغيره فى هذا الموضوع وبينا أن الحجة لا يحتاج فيها إلى هذا الجمع [ ولو احتيج فيها إلى هذا الجمع ] فهو صحيح فإنه من باب قياس الأولى وهو أن ما كان من لوازم الكمال فثبوته للخالق أولى منه للمخلوق كما ذكر فى غير هذا الموضع
لكن المقصود هنا أنه اعترض على قولهم لو لم يتصف بهذا لا تصف بضده العام الذى يتضمن النفى وهو ذكر هنا أنه قرره
قال وأما قولهم إنه لو لم يتصف بهذه الصفات مع كونه
(4/34)
حيا لكان متصفا بما يقابلها فالتحقيق فيه موقوف على بيان حقيقة المتقابلين يعنى المتنافيين
وذكر التقسيم المشهور فيه للفلاسفة وأنه أربعة أقسام تقابل السلب والإيجاب والعدم والملكة والتضايف والتضاد وأن تقابل العلم والجهل والعمى والبصر هو عندهم من باب تقابل العدم والملكة
والملكة على اصطلاحهم كل معنى وجودى أمكن أن يكون ثابتا للشىء إما بحق جنسه كالبصر للإنسان فإن البصر يمكن ثبوته لجنسه وهو الحيوان أو بحق نوعه ككتابة زيد فإن هذا ممكن لنوع الإنسان أو بحق شخصه كاللحية للرجل فإنها ممكنة فى حق الرجل
قال والعدم المقابل لها ارتفاع هذه الملكة
(4/35)
قال فإن أريد بتقابل الإدراك ونفيه تقابل التناقض بالسلب والإيجاب وهو أنه لا يخلو من كونه سميعا وبصيرا ومتكلما أو ليس فهو ما يقوله الخصم ولا يقبل نفيه من غير دليل
وإن أريد بالتقابل تقابل العدم والملكة فلا يلزم من نفى الملكة تحقق العدم ولا بالعكس إلا فى محل يكون قابلا لها ولهذا يصح لأن يقال الحجر لا أعمى ولا بصير والقول بكون البارى تعالى قابلا للبصر والعمى دعوى محل النزاع والمصادرة على المطلوب وعلى هذا فقد امتنع نفى لزوم العمى والخرس والطرش فى حق الله تعالى من ضرورة نفى البصر والسمع والكلام عنه
[ قلت وقد أشكل هذا على كثير من النظار حتى ضل به لاعتقادهم صحته حتى على الآمدى ] فهذا كلامه فى الخلو عن الضدين بالمعنى العام [ قد ] أورد عليه ما ذكر فكيف يدعى أنه
(4/36)
قرره وهذا الإيراد إيراد معروف للمعطلة نفاة الصفات وهو ايراد فاسد من وجوه
أحدهما أن يقال نحن نريد بالتقابل السلب والإيجاب ونفى هذه الصفات يتضمن النقص لكل من نفيت عنه سواء قيل إنه قابل لها أو لم يقل فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المتصف بالحياة والعلم والكلام والسمع والبصر أكمل ممن لم يتصف بذلك وما قدر انتفاء ذلك عنه كالجماد فهو أنقص بالنسبة إلى من اتصف بذلك
وهو قد سلك فى إثبات الصفات طريقة الكمال وهى فى الحقيقة من جنس هذه فقال واعلم أن ههنا طريقة رشيقة سهلة المعرك قريبة المدرك يعسر على المنصف المتبحر الخروج عنها والقدح فى دلالتها يمكن طردها فى إثبات جميع الصفات النفسانية وهى مما ألهمنى الله إياها ولم أجدها على صورتها وتحريرها لأحد غيرى وهو أن يقال المفهوم من كل واحد من هذه الصفات المذكورة مع قطع النظر عما يتصف به صفة كمال أو صفة كمال لا جائز أن تكون لا صفة كمال وغل كان حال من اتصف بها فى الشاهد أنقص من حال من اتصف بها إن كان عدمها فى نفس الأمر كمالا أو مساويا لحال من لم يتصف بها إن لم يكن عدمها فى نفس الأمر كمالا وهو خلاف ما نعلمه بالضرورة فى الشاهد فلم يبق إلا القسم الأول وهو أنه فى
(4/37)
نفسها وذواتها كمال وعند ذلك فلو قدر عدم اتصاف البارى تعالى بها لكان ناقصا بالنسبة إلى من اتصف بها من مخلوقاته ومحال الخالق أنقص من المخلوق
قلت هذه الحجة مادتها صحيحة وقد استدل بها ما شاء الله من السلف والخلف وإن كان تصويرها والتعبير عنها يتنوع وهذه المادة بعينها يمكن نقلها إلى الحجة الأولى التى زيفها بأن يقال لو لم يتصف بصفات الكمال لاتصف بنقائضها وهى صفات نقص فيكون أنقص من بعض مخلوقاته
الوجه الثانى أن يقال هب أنهما متقابلان تقابل العدم والملكة فقولكم لا يلزم من نفى أحدهما ثبوت الآخر إلا إذا كان المحل قابلا
جوابه أن يقال الموجودات نوعان نوع يقبل الاتصاف بأحد هذين كالحيوان وصنف لا يقبل ذلك كالجماد ومن المعلوم أن ما قبل أحدهما أكمل ممن لا يقبل واحدا منهما وإن كان موصوفا بالعمى والصمم والخرس فإن الحيوان الذى هو كذلك أقرب إلى الكمال ممن لا يقبل لا هذا ولا هذا أذ الحيوان الأبكم الأعمى الأصم يمكن أن يتصف بصفات الكمال وما يقبل الاتصاف بصفات الكمال أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال
فإذا كان قد علم أن الرب تعالى مقدس عن أن يتصف بهذه النقائص مع قبوله للاتصاف بصفات الكمال فلأن يقدس عن كونه لا يقبل
(4/38)
الاتصاف بصفات الكمال أولى وأحرى وهذا معلوم ببداهة العقول
الوجه الثالث أن نقول لا نسلم أن فى الأعيان ما لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات فإن الله قادر على أن يخلق الحياة فى كل جسم وأن ينطقه كما أنطق ما شاء من الجمادات [ وقد ] قال تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء } [ سورة النحل 20 21 ]
وإذا كان كذلك فدعواهم أن من الأعيان ما لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات رجوع منهم إلى مجرد ما شهدوه من العادة والإ فمن كان مصدقا بأن الله قلب عصا موسى وهى جماد ثعبانا عظيما ابتلعت الحبال والعصى لم يمكنه أن يطرد هذه الدعوى
وإذا كان سبحانه قادرا على أن يثبت هذه الصفات صفات الكمال لما كان جمادا من مخلوقاته وكان كل مخلوق يقبل ذلك بقدرة الله تعالى فهو أحق بقبول ذلك بل بوجوبه له إذ ما كان ممكنا فى حقه من صفات الكمال كان واجبا له فإنه لا يستفيد صفات الكمال من غيره بل هو مستحق لها بذاته فهى من لوازم ذاته
وهذا فصل معترض ذكرناه تنبيها على تقصير من يقصر فى الاستدلال على الحق الذى قامت عليه الدلائل اليقينية العقلية مع
(4/39)
السمعية مع مدافعتهم لما دلت عليه دلائل السمع والعقل وإن كنا لا نظن بمسلم بل بعاقل أن يتكلم فى جهة الربوبية بما يراه تقصيرا ولكن لا يخلو صاحب هذه الطريق من عجز أو تفريط وكلاهما يظهر به نقصه عن حال السلف والأئمة الموافقين للشرع والعقل وأنهم كانوا فوق المخالفين لهم فى هذه المطالب الإلهية والمعارف الربانية
وهذه الحجة التى صدر بها الآمدى وزيفها هى الحجة التى اعتمد عليها الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من السالمية والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضى أبى يعلى وابن عقيل وابن الزاغونى وغيرهم وهى مبنية على مقدمتين أن القابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده وأكثر الناس ينازعونهم فى ذلك بل جميع الطوائف من أهل النظر والأثر ينازعونهم كالمعتزلة والكرامية والشيعة والمرجئة وأهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة
والثانية على امتناع تسلسل الحوادث والنزاع فيها مشهور بين جميع الطوائف قال الآمدى الحجة الثانية أنه لو قامت الحوادث بذات الرب تعالى لكان لها سبب والسبب إما الذات وإما خارج عنها فإن كان هو الذات وجب دوامها بدوام
(4/40)
الذات وخرجت عن أن تكون حادثة وإن كان خارجا عن الذات فإما أن يكون معلولا للإله تعالى أو لا يكون معلولا له فإن كان الأول لزم الدور وإن كان الثاني فذلك الخارج يكون واجب الوجود بذاته مفيدا للإله تعالى صفاته فكان أولى أن يكون هو الإله
وهذه المحالات إنما لزمت من قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى فتكون محالا
قال الآمدى ولقائل أن يقول وإن افتقرت الصفات الحادثة إلى سبب فالسبب إنما هو القدرة القديمة والمشيئة الأزلية القائمة بذات الرب كما هو مذهب الكرامية على ما أوضحناه فليس السبب هو المسبب ولا خارجا ولا يلزم من دوام القدرة دوام المقدور وإلا كان العلم قديما وهو محال
قال فإن قيل إذا كان المرجح للصفة الحادثة هو القدرة القديمة والاختيار فلا بد وأن يكون الرب تعالى قاصدا لمحل
(4/41)
حدوثها ومحل حدوثها ليس إلا ذاته فيجب أن يكون قاصدا لذاته والقصد إلى الشىء يستدعى كونه فى الجهة وهو محال ثم ولجاز قيام كل حادث به وهو محال
وأيضا فإن الصفة الحادثة عند الكرامية إنما هو قوله كن والإرادة هى مستند المحدثات وعند ذلك فلا حاجة إلى الحادث الذى هو القول والإرادة لأمكان إسناد جميع المحدثات إلى القدرة القديمة
قلنا أما الأول فمندفع فإن القصد إلى إيجاد الصفة وإن استدعى القصد إلى محل حدوثها أن لو كان القصد بمعنى الإشارة إلى الجهة وليس كذلك بل بمعنى إرادة أحداث الصفة فيه وذلك غير موجب للجهة
ثم وإن كان القصد إلى إيجاد الصفة فى المحل يوجب كون المحل فى الجهة فيلزم من ذلك امتناع القصد من الله تعالى إلى إيجاد الأعراض لأن القصد ألى إيجادها يكون قصدا لمحالها ويلزم من ذلك أن تكون محالها فى الجهات والقصد إلى ما هو فى جهة ممن ليس
(4/42)
فى الجهة محال وذلك يفضى إلى أن يكون الرب فى الجهة عند قصد خلق الأعراض وهو محال
والقول بأنه إذا جاز بعض الحوادث فى ذاته جاز خلق كل حادث فدعوى مجردة وقياس من غير جامع وهو باطل على ما أسلفناه فى تحقيق الدليل
وأما الثانى فحاصله يرجع إلى لزوم رعاية الغرض والحكمة فى أفعال الله تعالى وهو غير موافق لأصولنا وإن كان ذلك بطريق الإلزام للخصم فلعله لا يقول به وإن كان قائلا به فليس القول بتخطئته فى القول بحلول الحوادث بذات الرب تعالى ضرورة تصويبه فى رعاية الحكمة أولى من العكس
قلت هذه الحجة مادتها من الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله الذين يقولون إن الرب لا يحدث عنه شىء بعد أن لم يكن حادثا ولهذا يستدل بهذه الحجة على نفى الحوادث المنفصلة كما يستدل بها على نفى الحوادث المتصلة وهو أن الموجب لحدوث
(4/43)
الحادث مطلقا من الذات إن كان الذات لزم دوامه وإن كان خارجا عنها فإن كان معلولا للذات لزم الدور لأن ذلك الحادث موقوف على ذلك المعلول الخارج وذلك المعلول الخارج لابد أن يكون حادثا وإلا لو كان قديما لكان كمال المقتضى لذلك الحادث قديما وهو الذات ومعلولها القديم وإذا كان المعلول الخارج حادثا فلا يحدث إلا بسبب حادث فى الذات وإلا لزم حدوث الحادث بلا سبب فيلزم أن يكون ما حدث فى الذات من الذات موقوفا على الحادث الخارج وما حدث فى الخارج موقوفا على الحادث فيهافيلزم الدور وإن كان الخارج ليس من مقتضيات الذات لزم أن يكون واجبا بنفسه فيكون ما يقوم بالرب من الحوادث موقوفا على ذلك الواجب بنفسه ثم قال فيكون أولى بالإلهية فهذه عمدة هؤلاء الدهرية فى نفى فعله للحوادث سواء كانت قائمة به أو بغيره
ولهذا بين الآمدى ضعفها بين المتكلمين المنازعين للكرامية فإنه قال الكرامية يقولون فى الحوادث بذاته كما تقولون أنتم فى الحوادث المنفصلة عنه فكما أن تلك الحوادث تحدث عندكم بكونه قادرا أو بالقدرة أو المشيئة القديمة فهكذا نقول فيما يقوم بذاته
ولا ريب أن ما ذكره جواب تنقطع به عنهم مطالبة إخوانهم المتكلمين من المعتزلة والأشعرية ولكن لا تنقطع عنهم مطالبة
(4/44)
الفلاسفة إلا بما يقوله الجميع من أن القادر المختار يرجح أحد المتساويين لا لمرجح أو أن الإرادة الأزلية ترجح أحد المتساويين لمرجح
والمنازعون فى هذا من أهل الحديث والكلام والفلسفة يقولون إن هذا جحد للضرورة وإن هذا يقدح فيما به أثبتوا وجود الصانع فإنهم أثبتوا الصانع بأن ترجيح أحد المتساويين لا بد له من مرجح وقد عرف كلام الناس فى هذا المقام
ونحن نذكر ما تجاب به الفلاسفة عن أهل الملل جميعا وذلك من وجوه
الأول أن يقال الحوادث إما أن يجب تناهيها أو لا يجب بل يجوز أن لا يكون لها نهاية فإن وجب تناهيها لزم أن يكون للحوادث أول ولزم جواز حدوث الحوادث بدون سبب حادث وبطلت حجتكم وقولكم بدوام حركات الفلك وأنها أزلية وإن جاز دوام الحوادث فحينئذ ما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث وحينئذ فالأفلاك إذا كانت حادثة لزم أن يكون قبلها حادث آخر وحينئذ فيمكن أن تكون تلك الإردات المتعاقبة القائمة بذات الواجب أو غيرها من الحوادث هى الشرط فى حدوث الأفلاك كما تقولون أنتم كل حادث فهو مشروط بحادث قبله
فإن قالوا ذاته لا تحلها الحوادث
(4/45)
قيل لهم دليلكم على نفى قيام الحوادث به إما أن يكون نافيا لقيام الصفات به مطلقا وإما أن يخص الحوادث فإن كان الأول فقد عرف فساد قولكم فيه ببيان فساد حجتكم على نفى الصفات وإبطال ما تذكرونه فى التوحيد الذى مضمونه نفى الصفات كما بسط فى موضعه
وإن كان مختصا فدليكم على النفى هو هذا الدليل على امتناع حدوث الحوادث عنه فليس لكم أن تثبتوا هذا بهذا وهذا بهذا فإنه يكون دورا وهذا من المصادرة على المطلوب فإن نفيكم لحدوث الحوادث بذاته وبغيره سواء فإذا لم يمكنكم نفى ذلك إلا بنفى حلولها بذاته كنتم قد صادرتم على المطلوب
الوجه الثانى أن يقال لهم قول القائل سبب الحوادث إما الذات أو خارج عنها أتريدون به سبب كل حادث أو سبب نوع الحوادث فإن أردتم الأول منعوكم الحصر وقالوا لكم بل سبب كل حادث الذات بما قام بها من الحوادث المتعاقبة
فإن قلتم هذا يستدعى تعاقب الحوادث بذاته وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث
قالوا لكم فهذا يبطل قولكم بقدم الأفلاك ويوجب حدوثها
(4/46)
وأيضا فيقال لكم مالا يخلو من جنس الحوادث إن لم يجب حدوثه بطلت هذه الحجة وإن وجب حدوثه لزم حدوث الأفلاك وحينئذ فالموجب لحدوث الأفلاك إن كان قديما لم يحدث به حادث جاز حدوث الحادث بدون سبب الحادث ولا فرق حينئذ بين أن يكون الحادث بذاته أو منفصلا عنه فيلزم قول الكرامية وإن كانت الحوادث لا تحدث إلا بحوادث متعاقبة لزم تسلسل الحوادث وبطل قول القائل فما لا ينفك عن جنس الحوادث فهو حادث وحينئذ فتبطل هذه الحجة
فتبين أنه يلزمكم إما بطلان هذه الحجة وإما تصحيح قول الكرامية وذلك يستلزم بطلان الحجة فثبت بطلانها على كل تقدير
وإن أردتم سبب نوع الحوادث فيقال لكم سبب نوع الحادث المتصل كسبب نوع الحادث المنفصل عندكم واذا جاز عندكم أن تكون الذات سبب الحوادث التى لا أول لها مع انفصاله عنها فمع قيامها به بطريق الأولى فإن اقتضاء المقتضى لما قام به أولى من اقتضائه لما باينه ولا محيص لهم عن هذا إلا بما ينفون به الصفات مطلقا
وقد عرف فساد قولهم فى ذلك وأن حجتهم عليه من أسقط الحجج وحينئذ فيكون جماهير الناس خصومهم فى ذلك الأصل
الوجه الثالث أن يقال هب أن سبب الحادث خارج عن الذات وهو معلوم الذات قولهم يلزم الدور فيقال له إنما
(4/47)
يلزم الدور اذا كان ذلك الخارج موقوفا على الحادث المتصل والمتصل موقوفا على الخارج و اما اذا كان الخارج موقوفا على متصل وذلك المتصل موقوف على خارج و الخارج الاخر موقوف على متصل اخر فانما يلزم التسلسل في الاثار وفي تمام التأثيرات المعينة لا يلزم الدور على هذا التقدير
واذا كان اللازم هو التسلسل في الاثار والتاثيرات المعينة فذلك لا يلزم منة الدور و التسلسل جائز عند هولاء الفلاسفة و كثير من اهل الكلام والحديث وغيرهم وليس هذا تسلسلا ولا دورا في اصل التأثير فان هذا باطل باتفاق العقلاء كالدور والتسلسل في نفس المؤثر فان الدور والتسلسل في تمام اصل التاثير كالتسلسل فى أصل الآثار
ثم يقال أن كان هذا التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول وأن تصدر الحوادث كلها عن قديم بلا سبب حادث من غير أن يجب دوام الحوادث وحينئذ فيلزم صحة قول الكرامية كما يلزم صحة قول غيرهم من أهل الكلام الجهمية والقدرية وأتباعهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث بدون سبب حادث وإنما النزاع بينهم فى المتصل والمنفصل
الوجه الرابع فى الجواب أن يقال هب أن ذلك الخارج إذا
(4/48)
كان ليس معلوم الذات يلزم أن يكون مفيدا للأله صفاته فيكون أولى بالإلهية
يقال لهم هذا وإن كان باطلا عند المسلمين وغيرهم من أهل الملل ولكن على أصولكم لا يمتنع بطلانه وذلك أن هذا لا ينافى وجوب وجوده بذاته بمعنى أنه لا فاعل له فإن ما كان لا فاعل له لم يمتنع من هذه الجهة أن يقوم به أمر بسبب منه ومن أمر مباين له وإنما ينتفى ذلك بنفى واجب بذاته مباين له وذلك مبنى على نفى واجبين بالذات
وأنتم ادعيتم ذلك وأدرجتم فى ذلك نفى الصفات كما ادعت الجهمية أن القديم واحد وأدرجوا فى ذلك نفى الصفات فقلتم أنتم لو كان له صفات لتعدد الواجب بذاته كما قال أولئك لو كان له صفات لتعدد القديم وحجتكم على ذلك ضعيفة جدا حتى إن منكم من قال بقدم الأفلاك ووجودها بذاتها لضعف ذلك
وهذا حقيقة قول أرسطو وأصحابه فى الأفلاك وهو قول أهل وحدة الوجود فى كل موجود الذين أظهروا التصوف والتحقيق وحقيقة قولهم قول هؤلاء الدهرية المعطلة
وحينئذ فنخاطب الجميع خطابا يتناول الطوائف كلها ونقول إما أن تكون الأفلاك واجبة الوجود بذاتها وإما أن لا تكون
(4/49)
فإن قيل إنها واجبة بذاتها مع أن الحوادث تقوم بها بطل قولكم إن الواجب أو القديم لا تقوم به الحوادث
وإن قلتم إنها معلولة مفعولة لغيرها فالموجب لها إن كان علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله فلا تصدر عنه الحركات والحوادث فتفتقر الحوادث المشاهدة إلى واجب آخر والقول فيه كالقول فيه وإن لم يكن علة تامة فلا بد لما يتأخر حدوثه أن يكون موقوفا على شرط حادث والقول فيه كالقول في الذى قبله فيلزم التسلسل وإذا لزم لزم دوام الحوادث المتسلسلة ويمتنع صدورها عن علة تامة أزلية لا يقوم بها حادث فإن ذلك يقتضى مقارنة جميع معلولها لها لوجوب مقارنة جميع معلول العلة التامة لها وامتناع أن يصير علة لشيء ما بعد أن لم يكن علة بدون سبب منها وإذا جاز أن تقوم به الحوادث المتعاقبة فيلزم قيام الحوادث المتعلقة بالقديم على كل تقدير فبطلت هذه الحجة
وأيضا فقدماؤهم يقولون إن الأول يحرك الأفلاك حركة شوقية مثل حركة المحبوب لمحبه ولم يذكروا ان الأفلاك مبدعة [ له ] ولا معلولة لعلة فاعلة
وحينئذ فلا بد أن يقال هى واجبة بنفسها وهى مفتقرة فى حركتها إلى المحرك المنفصل عنها فلا يمكن من قال هذا أن يقول إن الواجب
(4/50)
بنفسه لا يقوم به حادث بسبب مباين له كما لا يمكنه أن ينفى شيئين واجبين بأنفسهما كل منهما متوقف على الآخر
إذ حقيقة قول هؤلاء أن الفلك والعلة الأولى كل منهما محتاج إلى الآخر حاجة المشروط إلى شرطه لا حاجة المصنوع إلى مبدعه
الوجه الخامس أن يقال غاية ما ذكرتموه فى الحوادث منقوص بالمتجددات كالأضافات والعدميات فإنهم سلموا حدوثها وهذه الحجة تتناول هذا كما تتناول هذا فما كان جوابكم عن هذا كان جواب منازعيكم عن هذا
فإنه يقال تلك الأمور الإضافية والعدمية إذا تجددت فلا بد لها من سبب متجدد والسبب إما الذات وإما خارج عنها فإن كان الأول لزم دوام الإضافات والعدميات وإن كان الثانى لزم الدور أو التسلسل وإن كان الثالث فالأمر الخارجى الذى أوجب تجدد تلك الإضافات والأعدام يجب أن يكون واجب الوجود
وأما الأسولة التى ذكر أبو الحسن الآمدى أنهم أوردوها على هذه الحجة فهى ضعيفة كما ذكر ضعفها ويمكن الجواب عنها بغير ما ذكر أيضا
أما قول القائل القاصد إلى الحدوث فى محل يستدعى كون المحل فى جهة فإن أراد به ما يقصد حدوثه فى محل مباين له فالكرامية
(4/51)
تقول بموجب ذلك وليس هذا النزاع هنا ثم القائل لهذا إما أن يجوز كون الأمور المباينة للرب فى جهة منه أو لا يجوز ذلك
فإن جوزه قال بموجبه مع بقاء محل النزاع وإن لم يجوزه كان ذلك دليلا على فساد قوله فى مسألة الجهة وحينئذ فيكون ذلك أقوى لقول الكرامية ومن وافقهم
وإن أراد أن ما يقصد حدوثه في محل هو ذاته يوجب أن تكون ذاته في جهة من ذاته
فيقال له هل يعقل كون الشيء في جهة من نفسه أم لا فإن عقل ذلك قالوا بموجب التلازم وإن لم يعقل ذلك منعوا التلازم
يبين ذلك أن الانسان يحدث حوادث في نفسه بقصده وإراداته وهذا السؤال يرد عليها فإن عقل كون نفسه في جهة من نفسه أمكن للمنازعين أن يقولوا بموجب ذلك في كل شيء وإلا فلا
وأيضا فيقال قصد الشيء إما أن يستلزم كونه بجهة من المقاصد وإما أن لا يستلزم ذلك فإن استلزم ذلك لزم كون جميع الأجسام بجهة من الرب فإنه إذا أحدث فيها الأعراض الحادثة كان قاصدا لها على ما ذكروه فيلزم ان يكون بجهة منه على هذا التقدير وحينئذ فيكون هو أيضا بجهة منها لامتناع كون أحد الشيئين بجهة من الآخر من غير عكس كما ذكروه وإذا كان كذلك لزم أن يكون البارى في جهة
(4/52)
وإذا كان كذلك بطلت حجتهم لأن غايتها أن قصده للحوادث في ذاته يستلزم كون ذاته في جهة وهذا محال فإذا كان على هذا التقدير لزم أن تكون ذاته في جهة بطل نفى هذا اللازم
وإما أن يقال قصد الشيء لا يستلزم كونه بجهة من المقاصد وحينئذ فبطلت هذه الحجة فثبت بطلانها على التقديرين
وإيضاح فسادها أنها مبنية على مقدمتين وصحة إحداهما تستلزم بطلان الأخرى وبطلانها يتضمن إحدى المقدمتين فثبت بطلان إحداهما على كل تقدير وإذا بطلت إحدى المقدمتين بطلت الحجة فإن إحدى المقدمتين أن القاصد لا يقصد إلا ما هو في جهة والثانية أن كون البارى في الجهة محال فإن كانت المقدمة الأولى صحيحة لزم أن يكون في الجهة لأنه يقصد حدوث حوادث قطعا فبطلت الثانية وإن كانت الأولى باطلة بطلت الحجة أيضا لبطلان إحدى مقدمتيها
وكما أن فساد هذه الحجة ظاهر على أصول أهل الملل وغيرهم ممن يقول بحدوث العالم فبطلانها على رأى الفلاسفة الدهرية أظهر فإن هؤلاء لا ينكرون حدوث الحوادث فإن قالوا إنها حادثة عن علة أزلية موجبة بنفسها كما يقوله ابن سينا وأمثاله فهؤلاء يقولون بأن الحوادث تحدث عنه بوسائط
(4/53)
وحينئذ فيقال إما أن ذلك يستلزم كونها منه في جهة أو لا يستلزم وتبطل الحجة على التقديرين كما تقدم
وإن قالوا بل العالم واجب الوجود بنفسه فقد قالوا بحدوث الحوادث عن القديم الواجب بنفسه وقيامها به فإن الحوادث قائمة بذات الأفلاك وحينئذ فكل ما يحتج به على نقيض ذلك فهو باطل فإن صحة أحد النقيضين تستلزم بطلان الآخر وبطلان اللازم يقتضي بطلان الملزوم والدليل مستلزم للمدلول والمدلول لازم للدليل فإذا بطل اللازم الذى هو المدلول كانت أدلته المستلزمة له كلها باطلة
وهذا الجواب خير من جواب الآمدى بقوله القصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال فإن جميع نفاة الجهة من أهل الكلام يقولون إن الرب تعالى يقصد إلى ما هو في جهة من المخلوقات والقصد منه وليس هو في جهة عندهم
بل يقال جوابا قاطعا القصد في الجهة ممن ليس في الجهة إن كان ممكنا بطلت المقدمة الأولى من الاعتراض وإن كان ممتنعا بطلت المقدمة الثانية
(4/54)
وأما الاعتراض الثاني وهو قولهم لجاز قيام كل حادث به فظاهر الفساد فإنا إذا جوزنا قيام صفة به لم يلزم قيام كل صفة به فإذا جوزنا أن تقوم به صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام لم يلزم أن تقوم صفات النقص به كالجهل المركب والمرض والسنة والنوم وغير ذلك من النقائص الوجودية وإذا جوزنا أ ن يقوم به كلام لم نجوز قيام كل كلام به وإذا جاز قيام إرادة به لم يجز قيام إرادة كل شيء به وإنما يقوم به ما يليق بجلاله وما يناسب كبرياءه إذ هو موصوف بصفات الكمال ولا يوصف بنقائضها بحال
وذلك لأن كونه سبحانه قابلا لأن تقوم به الصفات أوالحوادث لم يكن لمجرد كون ذلك صفة أوحادثا فيلزم طرد ذلك في كل صفة وحادث كما أنه إذا قيل تقوم به أمور وجودية لم يلزم ان يقوم به كل موجود لأن قيام الصفات الوجوديه به لم يكن لمجرد كونها موجودة حتى يقوم به كل موجود وهذا كما إذا قلنا إن رب العالمين قائم بنفسه وهو موجود وهو ذات متصفة بالصفات ان يكون رب العالمين
والناس متنازعون في صفاته هل تسمى أعراضا أولا تسمى مع تنازعهم في ثبوتها ونفيها ففي مثبتة الصفات ونفاتها من يسميها أعراضا
(4/55)
فإذا قيل لو جاز أن يقوم به عرض للزم أن يقوم به كل عرض لكان هذا أيضا باطلا فإن ذلك لم يكن لكونه عرضا فيلزم قيام كل عرض به
والمسلمون متفقون على أن الله خالق كل موجود سواه فلو قيل لو جاز أن يخلق موجودا للزم أن يخلق كل موجود فيلزم أن يكون خالقا لنفسه وهو محال أو لو قيل لو جاز أن يخلق عالما قادرا حيا للزم أن يخلق كل حى عالم قادر وهو حى عالم قادر فيلزم أن يكون خالقا لنفسه وهو محال لكان هذا كلاما باطلا
وأصل هذا أن السالب النافى لما نفى نفيا عاما أن يقوم بالله صفة أو أن يقوم به ما يريده ويقدر عليه لكونه حادثا فنفى نفيا عاما أن يقوم به حادث ونحو ذلك قابله المثبت فناقض هذا الخبر العام وهذه القضية السالبة الكلية وكذبها يحصل بإثبات خاص وهو القضية الجزئية الموجبة فيجوز قيام صفة ما من الصفات وحادث ما من الحوادث وذلك الجائز لم يجز قيامه للمعنى المشترك بينه وبين سائر الصفات والحوادث وإنما قام لمعنى يختص به وبأمثاله لا يشاركه فيه جميع الصفات والحوادث
لكن المشترك كما أنه ليس هو المقتضى له للقيام بالذات فليس هو مانعا فكون القائم به صفة أو حادثا ليس أمرا موجبا للقيام به حتى يقوم كل صفة وحادث ولا مانعا من القيام به حتى يمنع كل صفة وحادث
(4/56)
فمن نفى نفيا عاما لأجل ذلك فهو معارض بمن أثبت إثباتا عاما لأجل ذلك وكلاهما باطل بل هو المستحق لصفات الكمال العارية عن النقص وهو على كل شىء قدير ولم يزل قادرا على أن يتكلم ويفعل بمشيئه واختياره سبحانه وتعالى
وإذا قال القائل هذا يقتضى قيام الصفات أو الحوادث به
قيل هذا المعنى عديم التأثير لا موجب للامتناع ولا للجواز
والمثبتون يقولون كونه قادرا على الفعل والكلام بنفسه صفة كمال وكونه لا يقدر على ذلك صفة نقص فإن القدرة على الفعل والكلام مما يعلم بصريح العقل أنه صفة كمال وأن من يقدر أن يخلق ويتكلم أكمل ممن لا يقدر أن يخلق ويتكلم فإنه يكون بمنزلة الزمن ويقولون بالطريق التى تثبت له صفات الكمال يثبت هذا فإن الفاعل بنفسه الذى يقدر بنفسه على الفعل من حيث هو كذلك أكمل ممن لا يمكنه ذلك كما قد بسط كلامهم فى غير هذا الموضع
وأيضا فإن أراد المريد بقوله تقوم به الحوادث كلها أنه قادر على أن يمسك العالم كله فى قبضته كما جاءت به الأخبار الإلهية فهم يجوزون ذلك بل هذا عندهم من أعظم أنواع الكمال كما قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } [ سورة الزمر 67 ]
(4/57)
وقد ثبت فى الصحاح عن النبى صلى الله عليه وسلم من حديث أبى هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس ما يوافق مضمون هذه الآية وأن الله تعالى يقبض العالم العلوى والسفلى ويمسكه ويهزه ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض
وفى بعض الآثار ويدحوها كما يدحو أحدكم الكرة
وقال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن فى يد الرحمن إلا كخردلة فى يد أحدكم
فإن اراد مريد بقوله إن الحوادث كلها تقوم بذاته المعنى الذى دلت عليه النصوص فهو حق وهو من أعظم الأدلة على عظمة الله وعظم قدره وقدرته وعلى فعله القائم بنفسه وفى مخلوقاته
وإن أراد بذلك أنه يتصف بكل حادث فهذا يستلزم أن يتصف بالنقائص الوجودية مثل أن يتصف بالجهل المركب الحادث ونحو
(4/58)
ذلك وهذا ممتنع لكونه نقصا لا لكونه حادثا فالموت والسنة والنوم والعجز واللغوب والجهل وغير ذلك من النقائص هو منزه عنها ومقدس أزلا وأبدا فلا يجوز ان تقوم به لا قديمة ولا حادثة لكونها نقائص تناقض ما وجب له من الكمال اللازم لذاته
وإذا كان أحد النقيضين لازما للذات لزم انتفاء النقيض الآخر فكل ما تنزه الرب عنه من الحوادث والصفات فهو منزه عنه لما أوجب ذلك لا للقدر المشترك بينه وبين ما قام به من الكمالات
وأما السؤال الثالث وهو قوله أنه لا حاجة إلى ذلك فيقال ليس كل ما لا تعلم الحاجة إليه يجزم بنفيه فإن الله أخبر أنه كتب مقادير الخلائق قبل خلقهم ولا يعلم إلى ذلك حاجة وكذلك قد خلق آدم بيده عند أهل الإثبات مع قدرته على أن يخلقه كما خلق غيره
وأيضا فإن عدم الحاجة إلى الشىء أوجبت نفيه فينبغى أن تنفى جميع المخلوقات فإن الله لا يحتاج إلى شىء
وأما ما يقوم بذاته فما كان الخلق محتاجا إليه وجب إثباته وما لم يكن الخلق محتاجا إليه كان قد انتفى هذا الدليل المعين الدال على إثباته وعدم الدليل مطلقا لا يستلزم عدم المدلول عليه فى نفس الأمر وإن استلزم عدم علم المستدل به فضلا عن عدم الدليل المعين
وأيضا فإن الرب تعالى يمكن أن يكون له من صفات الكمال ما لا يعلمه العباد ولا يمكنهم نفيه لانتفاء الحاجة إليه
(4/59)
ولكن هذا السؤال يمكن تحريره على وجه آخر وهو أن يقال الكرامية إنما أثبتوا ما أثبتوه لاحتياج الخلق إليه والقدرة والمشيئة الأزلية كافية فى حدوث المخلوقات المنفصلة كما هى كافية فى حدوث ما قام بالذات فيكون دليلهم على ذلك باطلا
وهذا الكلام إنما يفيد إن أفاد إبطال هذا الدليل المعين ولا يبطل دليلا آخر ولا يبطل ثبوت المدلول فلا يجوز أن ينفى قيام الحوادث بذاته لعدم ما يثبت ذلك بل الواجب فيما لا يعرف دليل ثبوته وانتفائه الوقف فيه
ثم هم قد يقولون صدور المفعولات المنفصلة من غير سبب حادث يقوم بالفاعل أمر ممتنع كصدور المفعولات بدون قدرة وإرادة للفاعل
ويقولون أيضا قد علم أن الله خالق للعالم والخلق ليس هو المخلوق إذ هذا مصدر وهذا مفعول به والمصدر ليس هو المفعول به فلا بد من إثبات خلق قائم به ومن إثبات مخلوق منفصل عنه
وهذا قول جمهور الناس وهو أشهر القولين عند أصحاب الأئمة الأربعة [ أصحاب ] أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد وهو قول جمهور الناس أهل الحديث والصوفية وكثير من أهل الكلام أو أكثرهم وكثير من أساطين الفلاسفة أو أكثرهم
(4/60)
لكن النزاع بينهم فى الخلق المغاير للمخلوق هل هو قديم قائم بذاته أو هو منفصل عنه أو هو حادث قائم بذاته وإذا كان حادثا فهل الحادث نوعه أو أن الحوادث هى الأعيان الحادثة ونوع الحوادث قديم لتكون صفات الكمال قديمة لله لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال
هذه الأقوال الأربعة قد قال كل قول طائفة ويقولون أيضا إن قيام هذه الأمور بذاته من صفات الكمال وذلك أنا قد علمنا أن الله متكلم لا يكون متكلما إلا بكلام قائم بذاته وأنه مريد ولا يكون مريدا إلا بإرادة قائمة بذاته إذ ما قام بغيره من الكلام والإرادة لا يكون كلاما له ولا إرادة إذ الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره ويقولون قد أخبر الله أنه ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) و أن تدل على أن الفعل مستقبل فوجب أن يكون القول والإرادة حادثين بالسمع
وبالجملة عامة ما يذكر فى هذا الباب يعود إلى نوع تناقض من الكرامية وهو عمدة منازعيهم ليس معهم ما يعتمدون عليه إلا تناقضهم وتناقض أحد المتنازعين لا يستلزم صحة قول الآخر لجواز أن يكون الحق فى قول ثالث لا قول هذا ولا قول هذا لا سيما إذا عرف أن هناك قولا ثالثا وذلك القول يتضمن زوال الشبه القادحة فى كل من القولين الضعيفين
(4/61)
قال الآمدى الحجة الثالثة انه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته لكان قابلا لها فى الأزل والإ كانت القابلية عارضة لذاته واستدعت قابلية أخرى وهو تسلسل ممتنع وكون الشىء قابلا للشىء فرع إمكان وجود المقبول فيستدعى تحقق كل واحد منهما ويلزم من ذلك إمكان حدوث الحوادث فى الأزل وحدوث الحادث فى الأزل ممتنع للتناقض بين كون الشىء أزليا وبين كونه حادثا
قال الآمدى ولقائل أن يقول لا نسلم أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته لكان قابلا لها فى الأزل فإنه لا يلزم من القبول للحادث فيما لا يزال مع إمكانية القبول له أزلا مع كونه غير ممكن أزلا والقول بأنه يلزم منه التسلسل يلزم عليه الإيجاد
(4/62)
بالقدرة للمقدور وكون الرب خالقا للحوادث فإنه نسبة متجددة بعد أن لم يكن فما هو الجواب ههنا به يكون الجواب ثم [ وإن ] سلمنا أنه يلزم من القبول فيما لا يزال القبول أزلا فلا نسلم أن ذلك يوجب إمكان وجود المقبول أزلا ولهذا على أصلنا البارى موصوف في الأزل بكونه قادرا على خلق العالم ولا يلزم [ منه ] إمكان وجود العالم أزلا
قلت قد ذكر في إفساد هذه الحجة وجهين هما منع لكلتا مقدمتيها فإن مبناها على مقدمتين إحداهما أنه لو كان قابلا لكان القبول أزليا
والثانية أنه يمكن وجود المقبول مع القبول
فيقال في الأولى لا نسلم أنه إذا كان قابلا للحوادث في الأبد يلزم قبولها في الأزل لأن وجودها فيما لا يزال ممكن ووجودها فى الأزل ممتنع فلا يلزم من قبول الممكن قبول الممتنع وهذا كما يقال إذا أمكن حدوث الحوادث فيما لا يزال أمكن حدوثها فى الأزل
وقد احتجوا على ذلك بأنه يجب أن يكون القبول من لوازم الذات إذ لو كان من عوارضها لكان للقبول قبول آخر ولزم التسلسل
(4/63)
فأجاب عن هذه الحجة بالمعارضة بالإيجاد والإحداث فإنه عند من يمنع تسلسل الآثار من عوارض الذات لا من لوازمها فالقول فى قبولها كالقول فى فعلة لها إذ التسلسل فى القابل كالتسلسل فى الفاعل
وهذا الجواب من جنس جوابه عن الحجة الأولى وهو جواب صحيح على أصل من وافق الكرامية من المعتزلة والأشعرية والسالمية وغيرهم وهؤلاء أخذوا هذا الأصل عن الجهمية والقدرية من المعتزلة ونحوهم
وأما المقدمة الثانية فيقال لا نسلم أنه يلزم من ثبوت القبول فى الأزل إمكان وجود المقبول فى الأزل بدليل أن القدرة ثابتة فى الأزل ولا يمكن وجود المقدور فى الأزل عند هذه الطوائف
وهذا الجواب أيضا جواب لمن وافقه على ذلك والنكته فى الجوابين أن ما ذكروه فى المقبول ينتقض عليهم بالمقدور فإن المقبول من الحوادث هو نوع من المقدورات لكن فارق غيره فى المحل فهذا مقدور فى الذات وهذا مقدور منفصل عن الذات فإن قدرته قائمة بذاته ومقدور القدرة هو فعله القائم بذاته وإن كانت المخلوقات أيضا مقدورة عندهم فهذا المنفصل عندهم
(4/64)
مقدور وفعله القائم بذاته مقدور وقدرته قائمة بمحل هذا المقدور المتصل دون المنفصل
والناس لهم فى وجود المقدور بمحل القدرة وخارجا عنها أقوال منهم من يقول القدرة القديمة والمحدثة توجد فى محل المقدور كأئمة [ أهل ] الحديث والكرامية وغيرهم
ومنهم من يقول القدرتان توجدان فى غير محل المقدور كالجهمية والمعتزلة وغيرهم
ومنهم من يقول المحدثة لا تكون إلا فى محل المقدور والقديمة لا تكون تكون فى محل المقدور وهم الكلابية ومن وافقهم
ومتنازعون أيضا هل يمكن أن تكون القدرتان أو إحداهما متعلقة بالمقدور فى محلها وخارجة عن محلها جميعا
والمقصود هنا أن ما عارضهم به معارضة صحيحة ولكن كثير من الناس من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم يقولون فى المقدور ما يقولون فى المقبول ويقولون بجواز حوادث لا تتناهى ومنهم من يخص ذلك بالمقدورات
(4/65)
فيقال لهؤلاء حينئذ فيجوز حوادث لا تتناهى فى المقبولات والمقدورات كما فى المقدورات المنفصلة لا فرق بينهما
والجواب القاطع المركب أن يقال إما أن يكون وجود حوادث لا تتناهى ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان الأول كان وجود نوع الحوداث فى الأزل ممكنا وحينئذ فلا يكون اللازم منتفيا فتبطل المقدمة الثانية
وإن كان ممتنعا لم يجز أن يقال إنه قابل لها فى الأزل قبولا يستلزم إمكان وجود المقبول وحينئذ فلا يلزم وجودها فى الأزل فتبطل المقدمة الأولى
فتبين أنه لا بد من بطلان إحدى المقدمتين وأيهما بطلت بطلت الحجة فهذا جواب ليس بإلزامي بل هو علمى يبطل الحجة قطعا
وهنا طريقة ثالثة فى الجواب على قول من قال إنه لم يزل متكلما إذا شاء وإن الحركة من لوازم الحياة من أهل السنة والحديث وغيرهم فإن هؤلاء يقولون إنه قابل لها فى الأزل وإنها موجودة فى الأزل
وما ذكره من الحجة يستلزم صحة قول هؤلاء فى المقدور والمقبول فإنهم يقولون هو قادر عليها فيما لا يزال وهى ممكنة فيما لا يزال فوجب أنه لم يزل قادرا وأنها ممكنة فإن هذه القدرة والإمكان
(4/66)
إما أن تكون قديمة وإما أن تكون حادثة فإن كانت قديمة حصل المطلوب وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث وذلك يستلزم التسلسل والتسلسل يتضمن دوام القدرة وإمكان الفعل فثبت أنه لم يزل قادرا على الفعل والفعل ممكن له وهو المطلوب
وإيضاح ذلك أنه إذا كان قادرا على الفعل وجب أن يكون قادرا عليه فى الأزل وإلا كانت القادرية عارضة لذاته واستدعت القادرية قادرية أخرى وذلك يقتضى التسلسل فإن كان التسلسل باطلا لزم دوام نوع القادرية لأنه يمتنع أن تكون عارضة إذ كانت العارضة تستلزم التسلسل الباطل على هذا التقدير وما استلزم الباطل فهو باطل وإذا امتنع كونها عارضة ثبت كونها لازمة لأنه متصف بها قطعا وإن كان ممكنا لزم إمكان دوام قادريات لا تتناهى لأنه يتصف بها ويمتنع تجددها له إذ كانت قدرته من لوازم ذاته لامتناع أن يكون غير القادر يجعل نفسه قادرا بعد أن لم يكن وذلك يقتضى دوام نوع القادرية فلا بد فى الأزل من ثبوت القادرية على التقديرين وهو المطلوب
وإذا كان كذلك فالقدرة على الشىء فرع إمكان المقدور إذ القادرية نسبة بين القادر والمقدور فتستدعى تحقق كل منهما وإلا فما لا يكون ممكنا لا يكون مقدورا فلا تكون القادرية عليه ثابتة فى
(4/67)
الأزل فدل على أنه يلزم من ثبوت القدرة في الأزل إمكان وجود المقدور في الأزل
وحينئذ فذلك يدل على إمكان الفعل في الأزل فلا يكون هنا ما يمنع وجود المقدور المقبول في الأزل فصار ما ذكروه حجة على النفى هو حجة على الإثبات لكن هذا حجة لإمكان وجود المقبول في الأزل ويمكن أن يحتجوا على وجود المقبول في الأزل بأن يقولوا لو لم يقم بذاته ما هو مقدور مراد له دائما للزم أن لا يحدث شيئا لكنه قد أحدث الحوادث فثبت دوام فاعليته وقابليته لما يقوم بذاته من مقدورات ومرادات
وبيان التلازم أن الحادث بعد أن لم يكن إن حدث بغير سبب لزم ترجيح الممكن بلا مرجح وتخصيص أحد المثلين من الوقتين وغيرهما بلا مخصص وهذا ممتنع
وإن حدث بالسبب فالقول في ذلك السبب كالقول في غيره فيلزم تسلسل الحوادث
ثم تلك الحوادث الدائمة إما أن تحدث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها وهو ممتنع لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شىء منه وإما أن تحدث عن غير علة تامة وما ليس بعلة تامة ففعله للحادث موقوف على الشرط الذى به يتم فاعليته لذلك الحادث
(4/68)
وذلك الشرط إما منه وإما من غيره فإن كان من غيره لزم أن يكون رب العالمين محتاجا في أفعاله إلى غيره وإن كان منه لزم أن يكون دائما فاعلا للحوادث
وتلك الحوادث إما أن تحدث بغي أحوال تقوم به وإما أنه لا بد من أحوال تقوم به والثاني يستلزم أنه لم يزل قادرا قابلا فاعلا تقوم به الأفعال والأول باطل لأنه إذا كان في نفسه أزلا وأبدا على حال واحدة لم يقم به حال من الأحوال أصلا كانت نسبة الأزمان والكائنات إليه واحدة فلم يكن تخصيص أحد الزمانين بحوادث تخالف الحوادث في الزمان الآخر أولى من العكس
وتخصيص الأزمنة بالحوادث المختلفة أمر مشهود ولأن الفاعل الذى يحدث ما يحدثه من غير فعل يقوم بنفسه غير معقول بل ذلك يقتضى أن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق وأن مسمى المصدر هو مسمى المفعول به وأن التأثير هو الأثر
ونحن نعلم بالاضطرار أن التأثير أمر وجودي وإذا كان دائما لزم قيامه بذاته دائما وأن تكون ذاته دائما موصوفة بالتأثير والتأثير صفة كمال فهو لم يزل متصفا بالكمال قابلا للكمال مستوجبا للكمال وهذا اعظم في إجلاله وإكرامه سبحانه وتعالى
وبهذه الطريق وأمثالها يتبين أن الحجة العقلية التي يحتج بها
(4/69)
أهل الضلال فإنه يحتج بها على نقيض مطلوبهم كما أن الحجج السمعية التي يحتجون بها حالها كذلك
وذلك مثل احتجاجهم على قدر الأفلاك بأنه إذا كان مؤثرا في العالم فإما أن يكون التأثير وجوديا أو عدميا والثاني معلوم الفساد بالضرورة
لكن هذا قول كثير من المعتزلة والأشعرية وهو قول من يقول الخلق هو المخلوق وإن كان وجوديا فإن كان حادثا لزم التسلسل ولزم كونه محلا للحوادث فيجب أن لا يكون قديما وإن كان قديما لزم قدم مقتضاة فيلزم قدم الأثر
فيقال أولا هذا يقتضى أن لا يكون شىء من آثاره محدثا وهذا خلاف المشاهدة
وموجب هذه الحجة أن الأثر يقترن بالمؤثر التام التأثير وإذا كان كذلك فكلما حدث من الحوادث شىء كان التأثير التام له منتفيا في الأزل وكذلك أيضا كلما تجدد شىءمن المتجددات وحينئذ فيلزم أنه لم يكن في الأزل تأثير يستلزم آثاره وهذا نقيض قولهم
وحينئذ فيلزم حدوث التأثير وتسلسله وإذا كان التأثير وجوديا
(4/70)
وجب أن يكون قائما بالمؤثر وهذا يقتضى دوام ما يقوم بذاته من أحواله وشئونه التي هى [ من ] آثار قدرته ومشيئه
وهذه الحجج الثلاث المذكورة مبناها على جواز التسلسل في الآثار والكرامية لا تقول بذلك لكن يقول به غيرهم من المسلمين وأهل الملل وغير أهل الملل
والكرامية تجيب من يوافقها على التسلسل بما تقدم من المعارضات أو الممانعات
قال الآمدي الحجة الرابعة أنه لو قامت الحوادث بذاته لكان متغيرا والتغيرعلى الله محال ولهذا قال الخليل عليه السلام { لا أحب الآفلين } [ سورة الأنعام 76 ] أى المتغيرين
قال ولقائل أن يقول إن أردتم بالتغير حلول الحوادث بذاته فقد اتحد اللازم والملزوم وصار حاصل المقدمة الشرطية لو قامت الحوادث بذاته لقامت الحوادث بذاته وهو غير مفيد ويكون القول بأن التغير على الله بهذا الاعتبار محال دعوى محل
(4/71)
النزاع فلا يقبل وإن أردتم بالتغير معنى آخر وراء قيام الحوادث بذات الله تعالى فهو غير مسلم ولا سبيل إلى إقامة الدلالة عليه
قلت لفظ التغير في كلام الناس المعروف هو يتضمن استحالة الشىء كالإنسان إذا مرض يقال غيره المرض ويقال في الشمس إذا اصفرت تغيرت والأطعمة إذا استحالت يقال لها تغيرت قال تعالى { فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين } [ سورة محمد 15 ] فتغير الطعم استحالته من الحلاوة إلى الحموضة ونحو ذلك
ومنه قول الفقهاء إذا وقعت النجاسة في الماء الكثير لم ينجس إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه وقولهم إذا نجس الماء بالتغير زال بزوال التغير ولا يقولون إن الماء إذا جرى مع بقاء صفائه أنه تغير ولا يقال عند الإطلاق للفاكهة والطعام إذا حول من مكان إلى مكان أنه تغير ولا يقال للإنسان إذا مشى أو قام أو قعد قد تغير اللهم إلا مع قرينه ولا يقولون للشمس والكواكب إذا كانت
(4/72)
ذاهبة من المشرق إلى المغرب إنها متغيرة بل يقولون إذا إصفر لون الشمس إنها تغيرت ويقال وقت العصر ما لم يتغير لون الشمس [ ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة ولا يكادون يسمون مجرد هبوبة تغيرا وإن سمى بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا ] ويقال قد أمر أهل الذمة بلباس الغيار أي اللباس الذى يخالف [ لونه ] لون لباس المسلمين وتقول العرب تغايرت الأشياء إذا اختلفت والغيار البدال
قال الشاعر % فلا تحسبنى لكم كافرا % ولا تحسبنى أريد الغيارا
ويقولون % نزل القوم يغيرون أى يصلحون الرحال
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى بأبى قحافة ورأسه ولحيته كالثغامة فقال غيروا الشيب وجنبوه السواد أى غيروا لونه ألى لون آخر أحمر أو أصفر وتقول العرب غيرت الشىء فتغير غيرا
(4/73)
ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره أى قرب تغيره من الجدب إلى الخصب
وغار الرجل على أهله يغار إذا حصل له غضب أحال صفته من حال إلى حال
وقال النبى صلى الله عليه وسلم من رأى منكرا فلغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان
وقال إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه
(4/74)
وتغيير المنكر تبديل صفته حتى يزول المنكر بحسب الإمكان وإن لم يكن إلا بتغير الإنسان في نفسه غضبا لله
ولهذا لم يطلق على الصفة الملازمة للموصوف أنها مغايرة له لأنه لا يمكن أن يستحيل عنها ولا يزايل
والغير والتغير من مادة واحدة فإذا تغير الشيء صار الثاني غير ما كان فما لم يزل على صفة واحدة لم يتغير ولا تكون صفاته مغايرة له
والناس إذا قيل لهم التغير على الله ممتنع فهموا من ذلك الإستحالة والفساد مثل إنقلاب صفات الكمال إلى صفات نقص أو تفرق الذات ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه
وأما كونه سبحانه يتصرف بقدرته فيخلق ويستوى ويفعل ما يشاء بنفسه ويتكلم إذا شاء ونحو هذا فهذا لا يسمونه تغيرا
ولكن حجج النفاة مبناها على ألفاظ مجملة موهمة كما قال الإمام أحمد يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم حتى يتوهم الجاهل انهم يعظمون الله وهم إنما يقودون قولهم إلى فرية على الله
ومن أعجب الأشياء احتجاجهم بقصة إبراهيم الخليل وهم مع افترائهم فيها على التفسير واللغة إنما هي حجة عليهم لا لهم كما قال
(4/75)
بعضهم في قوله { لا أحب الآفلين } [ سورة الأنعام 76 ] أى المتغيرين وربما قال غيره المتحركين أو المنتقلين وقال بعض المتفلسفة المتأخرين الممكنين وأراد بالممكن ما يتناول القديم الأزلى الذى يمتنع عدمه
وزعم بعضهم كالرازى في تفسيره أن هذا قول المحققين وهؤلاء من أعظم الناس تحريفا للفظ الافول ولفظ الإمكان فإنهم وسائر العقلاء يسلمون ان الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا ما كان معدوما فأما القديم الأزلى الذي لم يزل فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم
ولكن ينتاقضون تناقضا بينا فقالوا الفلك ممكن يقبل الوجود والعدم وهو مع ذلك قدم أزلى
ثم استعمال لفظ الأفول في الممكن الذى يقبل الوجود والعدم من أعظم الكذب على اللغة والتفسير فإن المخلوقات الموجودة كالشمس والقمر والكواكب والآدميين وغيرهم لا يسمون في حال حضورهم آفلين
وهؤلاء اجتراوا على ذلك لما جعلت الجهمية وأهل الكلام المحدث المتحرك آفلا فجعلوا كل متحرك آفلا وزعموا أن إبراهيم عليه السلام احتج بالحركة على امتناع كون المتحرك رب العالمين فلما قال هؤلاء هذا قال أولئك نحن نجعل كل ما سوى الرب آفلا فجعلوا السموات والأرض وكل ما سواه آفلا وفسروا بذلك القرآن
(4/76)
وهذا لا يعرف في لغة العرب أن الافول بمعنى التحرك والانتقال ولا بمعنى التغير الذى هو استحالة من صفة إلى صفة دع ما هو من باب التصرف الذى لا تستحيل فيه الصفات
وإبراهيم إنما قال { لا أحب الآفلين } [ سورة الأنعام 76 ] ردا لمن كان يتخذ كوكبا يعبده من دون الله كما يفعله أهل دعوة الكواكب كما كان قومه يفعلون ذلك لا ردا على من قال إن الكوكب هو رب العالمين فإن هذا لم يقله احد لكن قومه كانوا مشركين ولو كان إبراهيم مقصوده نفى كون الكوكب رب العالمين واحتج على ذلك بالأفول لكانت حجة عليهم لأنه لما رأى الكوكب والقمر والشمس بازغة كانت متحركة من حين بزوغها إلى حين غروبها وهو في تلك الحال لا ينفى عنها المحبة كما نفاها حين غابت
فعلم بذلك أن ما ذكر من التغير والحركة والانتقال لم يناف مقصود إبراهيم عليه السلام وإنما نافاه التغيب والاحتجاب فإن كان مقصوده نفى كونه رب العالمين كان ذلك حجة عليهم لا لهم وكانوا قد حكوا عن إبراهيم أنه لم يجعل التغير والحركة والانتقال مانعة من كون الموصوف بذلك رب العالمين فما ذكروه لوصح كان حجة عليهم لا لهم
(4/77)
وبكل حال فإبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من حب المتصف بذلك كما جعل الأفول مانعا فعلم أن ذلك ليس من صفات النقص التى تنافى كون المتصف بها معبودا عند إبراهيم ذ
قال الآمدى وأما المعتزلة فمنهم من قال المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها فى الحيز تبعا لحصول محلها فيه والبارى ليس بمتحيز فلا تقوم بذاته الصفة ومنهم من قال الجوهر إنما صح قيام الصفات به لكونه متحيزا ولهذا فإن الأعراض لما لم تكن متحيزة لم يصح قيام المعانى بها والبارى ليس بمتحيز فلا يكون محلا للصفات
قال وهذه الشبهة تدل على انتفاء الصفة عن الله تعالى مطلقا قديمة كانت أو حادثة وهى ضعيفة جدا أما الشبهة الأولى فلقائل أن يقول لا نسلم أنه لا معنى لقيام الصفة بالموصوف إلا ما ذكروه بل معنى قيام الصفة بالموصوف تقوم الصفة بالموصوف فى الوجود وعلى هذا فلا يلزم أن يكون المعلول قائما
(4/78)
بالعلة لكونه متقوما بها فى الوجوه إذ ليس المعلوم صفة ولا العلة موصوفة به
وأما الشبهة الثانية فلقائل أن يقول لا نسلم أن قيام الصفات بالجوهر لكونه متحيزا بل أمكن أن يكون ذلك لمعنى مشترك بينه وبين البارى تعالى وإن كان ذلك لكونه متحيزا فلا يلزم من انتقاء الدليل فى حق الله تعالى انتفاء المدلول كما تقدم تحقيقه وقد أمكن أن يكون ذلك لمعنى اختص به البارى تعالى ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين فى صورتين
قلت أما الحجة الأولى فيقال قيام الصفة بالموصوف معروف يتصور بالبديهة وهو أوضح مما حدوه به حيث قالوا إن ذلك هو حصول الصفة فى الحيز تبعا لحصول محلها فيه فإن الناس يفهمون قيام اللون والطعم والريح بالموصوف بذلك وإن لم يخطر بقلوبهم هذا الحصول
فإن ادعى مدع أن كل موصوف متحيز وأن قيام الصفة بدون المتحيز ممتنع
(4/79)
فيقال من الناس من ينازعك فى هذا ومنهم من يوافقك عليه والموافقون لك منهم من يقول كل قائم بنفسه متحيز ولا أعلم قائما بنفسه إلا المتحيز ومنهم من يقول بل أعلم قائما بنفسه غير المتحيز فقولك لا يصح إلا إذا ثبت لك أن كل موصوف متحيز وثبت لك وجود موجود ليس بمتحيز حتى يستلزم ثبوت موجود ليس بموصوف
وجمهور الخلق ينكرون هذه الدعوى بل يقولون إثبات موجود لا يوصف بشىء من الصفات بل هو ذات مجردة كإثبات وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص وهذا كله ممتنع لمن تصوره بضرورة العقل ويقولون هذا إنما يعقل تصوره فى الأذهان لا فى الأعيان والذهن يقدر فيه الممتنعات كالجمع بين الضدين والنقيضين
والجواب المركب أن يقال ما تعنى بقولك متحيزا أتعنى به ما كان له حيز موجود يحيط به أم تعنى به ما يقدر المقدر له حيزا عدمياأو ما كان منحازا عن غيره
فإن عنيت الأول كان باطلا متناقضا فإن الأجسام إن كانت متناهية لم تكن فى حيز وجودى فإنها إذا كانت متناهية لو كانت فى حيز وجودى لزم أن يكون الجسم فى جسم آخر إلى ما لا يتناهى ولزم وجود أبعاد لا تتناهى وإن كانت غير متناهية امتنع كون ما لا يتناهى فى حيز وجودي لأن ذلك الحيز هو أيضا داخل فيما لا يتناهى
(4/80)
فهذا جواب برهانى والجواب الإلزامى أن قولك كل موصوف يحيط به حيز وجودى يستلزم وجود أجسام لاتتناهى وهذا باطل عندك فإن العالم متحيز موصوف وليس فى حيز وجودى
وإن قلت أعنى به أمرا عدميا
قيل لك العدم لاشىء وما جعل فى لاشىء لم يجعل فى شىء
فكأنك قلت المتحيز ليس فى غيره وحينئذ فلا نسلم لك امتناع كون الرب متحيزا بهذا الاعتبار
وكذلك إن فسرته بالمنحاز المباين لغيره كان نفى اللازم ممتنعا
فإن قلت قد قام الدليل على حدوث ما كان كذلك لأن ما كان كذلك لم يخل من الحوادث والأعراض أو كان مختصا بقدر أو صفة أو تميز منه شىء عن شىء وهذا تركيب عاد الكلام إلى هذه المواد الثلاثة وقد علم أنها مادة الكلام الباطل
وقد بين فساد ذلك بوجوه وحينئذ فلا يمكنك نفى شىء من موارد النزاع إلا بنفى ذلك فيعود الكلام إلى نفى ذلك
وأما الحجة الثانية فقول القائل إن الجوهر إنما صح قيام الصفة له لكونه متحيزا
(4/81)
فيقال أولا لا نسلم أن قيام الصفة بمحلها يحتاج إلى علة أعم من المحل بل كل صفة لازمة لمحلها وهى محتاجة إلى ذلك المحل المعين لمعنى يخص ذلك المعين لا يعلل كونها فيه بأعم منه لأنه العلة إذا كانت أعم من المعلول كانت منتقضة
وإن قيل نحن نعلل جنس قيام الصفات بجنس التحيز
قيل وجنس قيام الصفات لا يحتاج إلى غير محل يقوم به وإن لم يخطر بالقلب كونه متحيزا
وإن قيل إن التحيز لازم للمحل الذى تقوم به الصفات
قيل وقيام الموصوف بنفسه لازم أيضا وغير ذلك
ثم الكلام فى التحيز على ما تقدم وبالجملة فهذا كلام فى جنس الصفات لا فى خصوص الحوادث ولا ريب أن نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة كلامهم فى الموضعين [ واحد ] وفساد أصولهم مبين فى غير هذا الموضع
قال الآمدى والمعتمد فى المسألة حجتان تقريرية وإلزامية
(4/82)
أما التقريرية فهو أن يقال لو جاز قيام الصفات الحادثة بذات الرب تعالى فإما أن يوجب نقصا فى ذاته أو صفة من صفاته أو لا يوجب شيئا من ذلك فإن كان الأول فهو محال باتفاق العقلاء وأهل الملل وإن كان الثانى فإما أن تكون فى نفسها صفة كمال أولاصفة كمال لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان الرب تعالى ناقصا قبل اتصافه بها وهو محال أيضا بالاتفاق ولا جائز أن يقال بالثانى لوجهين اتفاق الأمة وأهل الملل قبل الكرامية على امتناع اتصاف الرب بغير صفات الكمال ونعوت الجلال والثانى أن وجود كل شىء أشرف من عدمه فوجود الصفة فى نفسها أشرف من عدمها فإذا كان اتصاف الرب بها لا يوجب نقصا في ذاته ولا فى صفة
(4/83)
من صفاته على ما وقع به الفرض فاتصافه إذا بما هو فى نفسه كمال لا عدم كمال ولو كان كذلك لكان ناقصا قبل اتصافه بها وهو محال كما سبق
قلت فهذا عمدته وهو من أفضل هؤلاء المتأخرين وهى من أضعف الحجج كما قد بسط فى غيرهذا الموضع
وبيان ذلك من وجوه أحدها أن عمدته فى ذلك على مقدمة زعم أنها إجماعية فلا تكون المسألة عقلية ولا ثابتة بنص بل بالإجماع المدعى ومثل هذا الإجماع عنده من الأدلة الظنية فكيف يصلح أن يثبت بها مثل هذا الأصل
وإذا كانت هذه المسألة مبينة على مقدمة إجماعية لم يمكن العلم بها قبل العلم بالسمع لأن الأجماع دليل سمعى وهم بنوا عليها كون القرآن غير مخلوق
قالوا لأنه لو خلقه فى ذاته لكان محلا للحوادث وحينئذ فقبل العلم بهذا الإجماع يمكن تقدير قيام كلام حادث بذاته وإرادات حادثة بذاته وغير ذلك فلا يكون شىء من هذه المسائل من المسائل العقلية وإذا لم تكن من العقلية لم تكن من العقليات التى يتوقف
(4/84)
صحة السمع عليها بطريق الأولى وحينئذ فلا يجوز معارضة نصوص الكتاب والسنة بها ويقال قد عارض الظواهر النقلية قواطع عقيلة فليس هنا عقلى لا قاطع ولا غير قاطع بل غاية ما هنا دعوى المرعى للإجماع
وهؤلاء إذا احتج عليهم المحتج فى إثبات الاستواء والنزول والمجىء والإتيان وغير ذلك بنصوص الكتاب والسنة ادعوا أن هذه المسائل لا يحتج فيها بالسمع وأن الأدلة السمعية قد عارضها العقل
فإذا اعترفوا بأنه لم يعارضها إلا ما ادعوه من الدليل المبنى على مقدمة زعموا أنها معلومة بالإجماع كان عليهم أن يسمعوا من الأدلة السمعية ما هو أقوى من هذا ويذكروا من الإجماعات ماهو أبين من هذا الإجماع لاسيما والأدلة السمعية المثبتة للصفات الخبرية ولقيام الحوادث به أضعاف أضعاف ما يدل على كون الإجماع حجة من السمع وهى أقوى دلالة
فإذا كانت الأدلة السمعية المثبتة لهذه الصفات أقوى مما يدل على كون الإجماع حجة امتنع أن تعارض هذه النصوص بنصوص الإجماع فضلا عن نفس الإجماع فضلا عما هو مبنى على مقدمه
(4/85)
مبنية على الإجماع لو كان البناء حقا فكيف إذا كان باطلا
الوجه الثاني أن يقال هذا الإجماع لم ينقل بهذا اللفظ عن السلف والأئمة لكن لعلمنا بعظمة الله فى قلوبهم نعلم أنهم كانوا ينزهونه عن النقائص والعيوب
وهذا كلام مجمل فكل من رأى شيئا عيبا أو نقصا نزه الله عنه بلا ريب وإن كان من هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إنه موصوف بكل النقائص والعيوب كما هو موصوف عنده بكل المدائح إذ لا موجود عنده إلا هو فله جميع النعوت محمودها ومذمومها
وهذا القائل يدعى أن هذا غاية الكمال المطلق كما قال ابن عربى وغيره العلى لذاته هو الذى يكون له الكمال المطلق الذى يتضمن جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عقلا وشرعا وعرفا أو مذمومة عقلا وشرعا وعرفا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة
(4/86)
وجمهور العقلاء الذين يتصورون هذا القول يقولون هذا معلوم الفساد بالحس والعقل كما هو كفر باتفاق أهل الملل
ومن المعلوم أن كل متنازعين فى هذا الباب فإن أحدهما يزعم أنه وصف الحق تعالى بصفة نقص لكن منازعة لا يسلم له ذلك
فإذا قال أنت وافقتنى على تنزيهه عن النقص والعيب
قال له هذا الذى نازعتك فيه ليس هو عندى نقصا ولا عيبا فإى شىء تنفعك موافقتى لك على لفظ أنازعك فى معناه
وإن قال بل اتفقنا على أن كل ما هو نقص فى نفس الأمر فالله منزه عنه وهذا نقص فى نفس الأمر فيجب تنزيه الله عنه
قال له أنا وافقتك على أن كل ما هو نقص فى نفس الأمر فالله منزه عنه ولم أوافقك على أن كل ما أثبت أنت أنه نقص بدليل تدعى صحته فإنه منزه عنه
وحاصلة أن الإجماع لم يقع بلفظ يعلم به دخول مورد النزاع فيه ولكن يعلم أن كل ما اعتقده الرجل نقصا فإنه ينزه الله عنه وما تنازعا فى ثبوته يقول المثبت أنا لم أوافقك على انتفاء هذا ولكن أنت تقول هذا نقص فعليك أن تنفيه كما نفيت ذلك النقص الآخر وأنا أقول ليس هذا بنقص وذلك الأمر الآخر الذى نفيته نفيته
(4/87)
لمعنى منتف فيما أثبته وأنا ما نفيت ذاك إلا لمعنى يختص به فإن كان ذلك المأخذ صحيحا لم تجب التسوية وإن كان باطلا لزم خطىء فى نفى ذاك وحينئذ فإن كانا مستويين لزم خطىء فى الفرق بينهما وليس خطىء فى إثبات ما أثبته بأولى من خطىء فى نفى ما نفيته فإنما يفيدك هذا تناقضى إن صح التسوية لا يفيدك صحة مذهبك وإن ثبت الفرق بطل قولك
فتبين أن هذا الإجماع هو من الإجماعات المركبة التى ترجع إلى حجة جدلية ولو كانت صحيحة لم تفد إلا تناقض الخصم
الوجه الثالث أن يقال ما ذكرته من الحجة معارض بتجويزك على الله إحداث الحوادث بعد أن لم تكن وهو كونه فاعلا فالفاعلية إما أن تكون صفة كمال وإما أن لا تكون صفة كمال فإن كانت كمالا كان قد فاته الكمال قبل الفعل وإن لم تكن كمالا لزم اتصافه بغير صفات الكمال وهذا محال لهذين الوجهين
وإذا قلت إن الفعل نسبة وإضافة
قيل لك وإضافة هذا الحادث إليه نسبة وإضافة ولا فرق بينهما إلا كون أحدهما متصلا والآخر منفصلا
(4/88)
ومعلوم أن الإجماع على تنزيه الله تعالى عن صفات النقص متناول لتنزيهه عن كل نقص من صفاته الفعلية وغير الفعلية وأنت وجميع الطوائف تقسمون الصفات إلى صفات ذاتية وصفات فعلية ومتفقون على تنزيهه عن النقص فى هذا وفى هذا
وأيضا فهذا منقوض بسائر ما جوزوه من تجدد الإضافات والسلوب فإن الرب منزه عن الاتصاف بالنقائص فى الثبوت والسلب والإضافة فما كان جوابهم فى المتجددات كان جوابا لمنازعيهم فى المحدثات
وهم يجيبون فى المتجددات بأنه لا يمكن ثبوتها فى الأزل
فيقال لهم وكذلك الحوادث المتعاقبة لا يمكن ثبوتها فى الأزل وهو وأمثاله يجيبون الدهرية بمثل ذلك فى مسألة حدوث العالم
فإن من حججهم شبهة برقلس قالوا إن الجود صفة كمال وعدمه صفة نقص فلو كان العالم قديما لكان الرب تعالى فى الأزل جوادا ولو كان حادثا لما كان الرب تعالى فى الأزل جوادا لعدم صدور العالم عنه وهو محال
ثم قال فى الجواب وأما الشبهة الرابعة فحاصل لفظ
(4/89)
الجود فيها يرجع إلى صفة فعلية وهو كون الرب تعالى موجدا وفاعلا لا لغرض يعود إليه من جلب نفع أو دفع ضر وعلى هذا فلا نسلم أن صفات الأفعال من كمالاته تعالى وليس ذلك من الضروريات فلا بد له من دليل كيف وأنه لو كان ذلك من الكمالات لقد كان كمال واجب الوجود متوقفا على وجود معلوله عنه ومحال أن يستفيد الأشرف كماله من معلوله كما قرروه فى كونه موجودا بالإرادة وإن سلمنا أنه كمال لكن إنما يكون عدمه فى الأزل نقصا بالإرادة وإن سلمنا أنه كمال لكن إنما عدمه فى الأزل نقصا أن لو كان وجود العالم فى الأزل ممكنا وهو غير مسلم وهو على نحو قولهم فى نفى النقص عنه بعدم إيجاده للكائنات الفاسدات كالصور الجوهرية العنصرية والأنفس الإنسانية لتعذر وجودها أزلا من غير توسط ولا يلزم من كون العالم غير ممكن الوجود أزلا أن لا يكون ممكن الحدوث لما حققناه
فهذا الجواب الذى أجاب به فى هذا الموضع إذا أجابته به الكرامية كان جوابهم له أحسن من جوابه لأولئك وأدنى أحواله
(4/90)
أن يكون مثله فإنه قال صفة الإحداث والفعل مطلقا ليست بصفة كمال مع كونه اتصف بها بعد أن لم يكن
فيقال له لا فرق بينهما إلا من جهة أن أحدهما بنفسه [ والآخر ] مباين عنه ومن المعلوم أن ما يتصرف بنفسه أكمل ممن لا يتصرف بنفسه
الوجه الرابع أن يقال قول القائل إما أن تكون فى نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال
قلنا ليست فى نفسها صفة كمال [ قوله ] فيلزم اتصاف الرب بما ليس من صفات الكمال وذلك ممتنع
قلنا متى يكون الممتنع إذا كان ذلك مع غيره صفة كمال أو إذا لم يكن مع غيره صفة كمال وذلك أن الشىء وحده قد لا يكون صفة كمال لكن هو مع غيره صفة كمال وما كان كهذا لم يجز اتصاف الرب به وحده لكن يجوز اتصافه به مع غيره ولا يلزم من كونه ليس صفة كمال منع قيامه بالرب مطلقا
(4/91)
وهذا كالإرادة للفعل الخالية عن القدرة على المراد ليست صفة كمال فإن من أراد شيئا وهو عاجز عنه كان ناقصا ولكن إذا كان قادرا على ما أراد كانت الإرادة مع القدرة صفة كمال
فلو قال قائل مجرد الإرادة هل هو كمال أم لا
فإن قيل هو كمال انتقص بإرادة العاجز المتمنى المتحسر
وإن قيل ليس بكمال لزم اتصافه بما ليس بكمال
قيل له الإرادة مع القدرة كمال
وكذلك قوله كن إما أن يكون صفة كمال أو لا فإن كان صفة كمال فينبغى أن يكون كمالا للعبد ومعلوم أن العبد لو قال للمعدوم كن كان هاذيا لا كاملا وإن لم يكن كمالا فلا يوصف به الرب
فيقال له كن من القادر على التكوين الذى إذا قال للشىء كن فيكون كمال ومن غيره نقص وكذلك الغضب إما أن يكون صفة كمال أو لا فإن كان كمالا فيحمد كل غضبان وإن كان نقصا فكيف اتصف الرب به
فيقال الغضب على من يستحق الغضب عليه من القادر على عقوبته صفة كمال وأما غضب العاجز أو غضب الظالم فلا يقال إنه كمال ونظائر هذا كثيرة
وإذا كان كذلك فكونه قادرا على الأفعال المتعاقبة وفعله لها شيئا بعد شيء صفة كمال وكل منها بشرط غيره كمال وأما الواحد منها
(4/92)
مع عدم غيره فليس بكمال فإنه من المعلوم أنا إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا تقدر أن تتصرف بنفسها وذاتا تتصرف دائما شيئا بعد شىء كانت هذه الذات أكمل من تلك وكان الكمال قدم هذا النوع
وكذلك إذا قدرنا شيئا يتكلم إذا شاء بما شاء وهو لم يزل كذلك وآخر لا يمكنه الكلام إلا بعض الأحيان أو حدث له الكلام بعد أن لم يكن كان الأول أكمل
ونكتة الجواب أن الواحد منها إذا لم يكن وحده كمالا لا يلزم أن [ لا ] يكون مع سائر النوع كمالا
لكن هذا الجواب إنما يناسب قول من يقول لم يزل متصفا بهذا النوع
والكرامية لا تقول بذلك بل تقول حدث له النوع بعد أن لم يكن لكن الكرامية تقول قولنا فى هذا النوع كقول غيرنا فى الحوادث المنفصلة وهو أن دوام هذا لما كان ممتنعا لامتناع الحوادث فى الأزل لم يلزم أن لا يكون متصفا بصفات الكمال لأن عدم الممتنع ليس بنقص
وتحقيق هذا الجواب الخامس أن يقال قول القائل إذا كان هذا كمالا كان الرب ناقصا قبل اتصافه به
(4/93)
يقال له متى يكون ناقصا إذا كان وجوده قبل ذلك ممكنا أو لم يكن ممكنا والأول ممتنع فإن عدم الممتنعات لا يكون نقصا والحوادث عندهم يستحيل وجودها فى الأزل فلا يكون عدمها نقصا
الجواب السادس أن يقال متى يكون عدم الشىء نقصا إذا عدم فى الحال التى يصلح ثبوته فيها أو إذا عدم فى حال لا يصلح ثبوته فيها الأول مسلم والثانى ممنوع
وهم يقولون كل حادث فإنما حدث فى الوقت الذى كانت الحكمة مقتضية له وحينئذ فوجوده ذلك الوقت صفة كمال وقبل ذلك صفة نقص مثال ذلك تكليم الله لموسى صفة كمال لما أتى وقبل أن يتمكن من سماع كلام الله فصفة نقص
السابع أن يقال الأمور التى لا يمكن وجودها إلا حادثة أو متعاقبة أيما أكمل عدمها بالكلية أو وجودها على الوجه الممكن
ومعلوم أن وجودها على الوجه الممكن أكمل من عدمها وهكذا يقولون فى الحوادث
(4/94)
الوجه الثامن أن يقال قول القائل اتفاق الملل قبل الكرامية على امتناع اتصاف الرب بغير صفات الكمال كلام مجمل
فإن أريد بذلك أن الناس ما زالوا يقولون إن الله موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائص فالكرامية تقول بذلك وإن أرادت أن الناس قبل الكرامية كانوا يقولون إن الله لا يقوم به شىء من مقدوراته ومراداته فهذا غلط
فإن جمهور الخلائق على جواز ذلك قبل الإسلام وبعد الإسلام فالتوراة مملوءة من وصف الله بمثل ذلك وكذلك الإنجيل وسائر نبوات الأنبياء مثل الزبور ونبوة أشعيا وأرميا وأساطين الفلاسفة كانوا يقولون بذلك والسلف من الصحابة والتابعين وأهل الحديث متواتر عنهم ذلك
ثم هذا الرجل لما أوردت عليه الدهرية هذا فى صفة الخالقية قال صفة الخالقية لا صفة نقص ولا صفة كمال
الوجه التاسع قوله إن وجود الشىء أشرف من عدمه
يقال له وجوده أشرف مطلقا أم فى الوقت الذى يمكن وجوده فيه ويصلح وجوده فيه
أما الأول فممنوع فإن وجود الجهل المركب ليس أشرف من
(4/95)
عدمه ولا وجود تكذيب الرسول أشرف من عدمه ولا وجود الممتنع أشرف من عدمه
وإن أريد وجود الممكن الصالح
قيل فلا نسلم أن ما حدث كان يمكن حدوثه ويصلح حدوثه قبل وقت حدوثه وحينئذ فلا يلزم من كونه وقت وجوده كمالا أن يكون قبل وجوده نقصا
ومدار الدليل على مقدمتين مغلطتين إحداهما أن ما وجد من الكمال كان عدمه قبل ذلك نقصا وهذا فيه تفصيل كما تبين والثانى أن ما لا يكون وحده كمالا يجب نفيه عن الرب مطلقا وهذا فيه تفصيل كما سبق فإنه يقال إن كان الحادث كمالا فعدمه قبل ذلك نقص وإن لم يكن كمالا لم يتصف الرب بما ليس بكمال وكلا المقدمتين فيها من التمويه والإجمال ما قد بين ويحتمل من البسط أكثر من هذا
قال الآمدى الحجة الثانية من جهة المناقضة للخصم والإلزام وذلك من ثمانية أوجه الأول أن [ من ] مذهب الكرامية أنهم لا يجوزون إطلاق اسم متجدد على الله تعالى فيما لا يزال كما بيناه من قبل فلو قامت بذاته صفات حادثة لاتصف بها وتعدى إليه حكمها كالعلم فإنه إذا قام بمحل وجب اتصافه بكونه عالما
(4/96)
وكذا فى سائر الصفات القائمة بمحالها وسواء كان المحل قديما أو حادثا وسواء كانت الصفة قديمة أو حادثة إذ لا فرق بين القديم والحادث من حيث انه محل قامت به صفة إلا فيما يرجع إلى أمر خارج فلا أثر له وإذا ثبت ذلك فيلزم [ أن يقال إنه قائل بقول ومريد بإرادة ويلزم من ذلك تجدد اسم لم يكن له قبل قيام الصفة الحادثة به وهو مناقض لمذهبهم
قلت ولقائل أن يقول هذا أمر اصطلاحى لفظى ليس بحثا عقليا فإن كونهم لا يسمونه إلا بما هو لازم لذاته دون ما يعرض لها أمر اصطلحوا عليه ولا يرد عليهم العلم والقدرة ونحوهما فإنه من لوازم ذاته ولعلهم يدعون فى ذلك توقيفا كما يدعى غيرهم فى كثير مما لا يطلقه من الأسماء
وأيضا فيقال هذا إما أن يكون لازما لهم وإما ان لا يكون لازما فإن لم يكن لازما بطل النقص به وإن كان لازما أمكن التزامه وليس فيه إلا تجدد أسماء له مما تجدد من أفعاله
والمنازع يقول بمثل ذلك فى جميع الأفعال فإنه تجدد استحقاقه لأسمائها عند تجدد الأفعال كالخالق والرازق ونحو ذلك
وحينئذ فيمكن إذا كان صوابا أن يجمع بين الصوابين فيقال بتجدد الحادث وتجدد الاسم أيضا
(4/97)
وأيضا فيقال الكرامية قالوا هذا لكونه عندهم متصفا فى الأزل بصفات الكمال وكون أسمائه كلها الأسماء الحسنى التى تتضمن مدحا له وثناء عليه وكون ذلك الحادث لا يمكن أن يكون أزليا فلا يكون مما يوجب اسما
وحينئذ فيقال إما أن يمكن دوام نوع ذلك الحادث وإما أن لا يمكن فإن أمكن كانوا قد أخطأوا فى نفى دوامه وإن لم يمكن فإما أن يكون تجدد اسم له ممكنا أو لا يكون فإن كان ممكنا أخطأوا فى نفى ذلك الاسم وإن لم يكن ممكنا كانوا مصيبين فبتقدير خطئهم على بعض التقديرات لا يلزم صواب قول منازعيهم
قال الآمدى الوجه الثانى أن الكرامية موافقون على أن القول والإرادة لا يقومان إلا بحى كالسمع والبصر وقد وافقوا على أن الحى إذا خلا عن السمع والبصر لايخلو عن ضده وعند ذلك فإما أن يقولوا بأن الله يخلو عن القول الحادث والإرادة الحادثة وعن ضده فلا يجدون إلى الفرق بينه وبين السمع والبصر سبيلا
(4/98)
وإن قالوا بأنه لا يخلو الرب عن القول والإرادة وعن ضده فلا يخلو ذلك الضد إما أن يكون قديما أو حادثا فإن كان الأول فيلزم من ذلك عدم الموجود القديم ضرورة حدوث ضده وهو محال بالاتفاق وبالدليل على ما سيأتى وإن كان الثانى فالكلام فى ذلك الضد كالكلام فى الأول ويلزم من ذلك تعاقب الحوادث على الرب تعالى على وجه لا يتصور خلوه عن واحد منها والحوادث المتعاقبة لابد وأن تكون متناهية على ما سبق فى إثبات واجب الوجود وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ضرورة
فيقال ولقائل أن يقول نظير الحادث والإرادة الحادثة عندهم التسمع الحادث والتبصر الحادث فإنهم يقولون إنه عند وجود المسموعات والمرئيات تجدد ما يسمونه التسمع والتبصر فهذا الحادث نظير ذلك الحادث وعندهم أنه يخلو من وجود مثل هذا وضده العام بخلاف نفس السمع والبصر فإن ذاك عندهم بمنزلة القائلية والمريدية وعندهم أنه لا يخلو عن القائلية
(4/99)
والمريدية وضدها العام كما لا يخلو عن نفس السمع والبصر وضده العام
فإن قيل منهم من يفرق بين القول والإرادة وبين التسمع والتبصر
فيقال قد قيل إن هذا ليس هو المشهور عنهم وسواء كان هو المشهور أو لم يكن فإنه يقال إن كانت صورة الإلزام كصورة الوفاق لزم خطأ من فرق بين الصورتين منهم وإن كان بينهما فرق مؤثر فى الحكم لزم خطأ المسوى منهم وعلى التقديرين لا يلزم صواب المنازع لهما
وأيضا فإنه يقول إما أن يكون تعاقب الحوادث ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا كانوا أخطأوا فى قولهم يخلو عن القول والإرادة وعن ضدهما إذ يمكن تعاقب ذلك عليه دائما وإن كان ممتنعا كان هذا الامتناع هو الفرق بين ذلك وبين السمع والبصر فإنه يمكن اتصافه فى الأزل بالسمع والبصر دون اتصافه بالحادث من القول والإرادة
لكن على هذا لا يلزم تناقضهم فى أن القابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده فإنهم يقولون ليس هو قابلا فى الأزل للاتصاف بالحوادث
لكن يقال لهم هذا فرع إمكان اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممكن
(4/100)
فيقولون وهذا الإلزام والمعارضة فرع امتناع اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممتنع
فعلم أن مثل هذا الإلزام لا ينقطع به لا هم ولاخصومهم المسلمون لهم امتناع تسلسل الحوادث
وأما من يقول أنه يمكن تسلسل الحوادث فإنه يبين خطأهم فى هذا التفريق ويقول إذا كان الحى لا يخلو عما يقبله وعن ضده والرب تعالى قابل للاتصاف بالقول والإرادة لزم أن لا يخلو عن ذلك وعن ضده لكن ضده صفة نقص كضد السمع والبصر فيلزم أنه ما زال متصفا بالقول والإرادة والاتصاف بنوع ذلك ممكن
ولهم جواب ثالث عما ذكره من الإلزام وهو أن يقال نحن قلنا الحى القابل لهذا لا يخلو عنه وعن ضده العام الذى يدخل فيه عدم هذه الصفات لم نقل إنه لا يخلو عنه وعن ضد وجودى فإن هذا ليس قولنا فإن القابل للشىء ولضده الوجودى قد يخلو عنهما عندنا
ولكن الأشعرية يقولون إن القابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده الوجودى وإذا كان كذلك فضد القول والإرادة عدم ذلك فلا يقال القول فى ضد ذلك كالقول فيه ويلزم تسلسل الحوادث لأن ضد ذلك عدم والعدم لا يفتقر إلى فاعل عندنا
(4/101)
ولا يضر عدم الشىء فى الأزل ووجوده فيما لا يزال كالأفعال المحدثة
وهذا جواب محقق لهم لكنه لا يتم إلا بأن يكون عدم القول والإرادة فى الأزل ليس صفة نقص
وقولهم فى ذلك كقول المعتزلة وهم خير من المعتزلة من وجهين
من جهة أنهم يجعلون القول والإرادة قائمة بذاته وهذا بحث آخر لا يختص بهذه المسألة
ومن جهة أنهم يثبتون مشيئة أزلية وقابلية أزلية
وأيضا فما ادعاه من أنه أثبت أن الحوادث لا بد وأن تكون متناهية ليس كما ذكر وقد عرف الكلام فيما ذكر هو وغيره وضعف ذلك
قال أبو الحسن الآمدى الوجه الثالث يعنى فى بيان تناقضهم أن [ من ] مذهبهم أن القول الحادث والإرادة الحادثة عرض كاللون والطعم والرائحة وأنه يجوز فى الشاهد تعرى
(4/102)
الجواهر عن الأقوال والإرادات والطعوم والروائح والإلوان مع جواز اتصافها بها وقد أحالوا قيام الألوان والطعوم والروائح بذات الله تعالى وجوزوا ذلك في القول والإرادة ولو قيل لهم لم قضيتم بجواز قيام الطعوم والألوان والروائح بذات الله تعالى من غير أن يلزم استحالة التعرى عنها كما فى القول الحادث والإرادة الحادثة لم يجدوا إلى الفرق سبيلا
فيقال ولقائل أن يقول جوابهم فى هذا كجواب الأشعرية والسالمية إذا قيل لهم لم وصفتم الرب بالقول والإرادة ولم تصفوه بالطعم واللون والريح
فإذا قالوا لأن القول والإرادة من الصفات المشروطة بالحياة وهى صفة كمال بخلاف الطعم واللون والريح أو غير هذا من الفرق قالت الكرامية نظير ذلك فالفرق بين هذا وهذا ليس من خصائص مسألة حلول الحوادث فإن نفى ذلك عند من ينفيه واجب سواء قال بحلول الحوادث أو لم يقل وإنما يفترقان فى أن هذا يجوز حدوث ذلك بخلاف الآخر فحاصله أنهم لم ينفوا الطعم واللون والريح لكونه لو قبلها لم يخل منها فإن هذا الأصل عندهم
(4/103)
فاسد بل نفوها لما فارقت به صفات الحى
وأيضا فيقال الفرق الذى فرقوا به بين اللون والريح وبين القول والإرادة إما أن يكون مؤثرا وإما أن لا يكون فإن كان مؤثرا بطل الإلزام وإن لم يكن مؤثرا لزم خطؤهم فى إحدى الصورتين لا بعينها فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه فلا يدل على صحة قول المنازع لهم فيما أثبتوه فإن أقام المنازع لهم دليلا عقليا أو سمعيا على نفى اللون والريح دون القول والإرادة كان ذلك فرقا مؤثرا وإن أقام دليلا على نفى حلول الجميع كان ذلك حجة كافية دون الإلزام
قال الآمدى الوجه الرابع هو أن من مذهبهم أن الرب متحيز وأنه مقابل للعرش وأكبر منه وليس مقابلا لجوهر فرد من العرش وقد قالوا بأن العرض الواحد لا يقوم بجوهرين والصفة الحادثة فى ذات الله تعالى وهى القول أو
(4/104)
الإرادة كما هو مذهبهم يوجب قيامها مع اتحادها بجزئين فصاعدا وهو مناقض لمذهبهم
قلت ولقائل أن يقول قولهم إن العرض لا يقوم بجوهرين مع قولهم بقيام القول والإرادة بالله تعالى أمر لا يختص بمسألة حلول الحوادث فإن العلم والقدرة والمشيئة القديمة قائمة عندهم بذات الله تعالى فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديما أو حادثا من جهة كونه صفة واحدة قامت بجزأين بل هذا بحث يتعلق بمسألة الصفات مطلقا ولها موضع آخر
وأيضافيقال إذا كان من مذهبهم أن الرب متحيز كما حكاه عنهم مع أن ابن الهيصم وغيره منهم ينكر أن يكون متحيزا فما ذكر من حجة المعتزلة عليهم غايتها إلزامهم إذا قامت به الصفات والحوادث أن يكون متحيزا فإذا كانوا ملتزمين لذلك كان هذا طرد قولهم ويبقى البحث ليس هو فى هذه المسألة بل يبقى الكلام مع المعتزلة يعود إلى مسألة التحيز
والكلام إذا عاد إلى أصل واحد كان الكلام فيه أخف مع
(4/105)
أنهم يمكنهم أن يلزموا المعتزلة بقيام الحوادث به وإن لم يكن متحيزا إذ كان لكل من المسألتين مأخذ يخصه وبينهما اتفاق وافتراق
وأيضا فإن ذكر قولهم فى العرش ههنا لا يظهر له وجه إلا أن يقال هم يقولون بالتحيز والمتحيز مركب من الجواهر المنفردة والعرض الواحد لا يقوم بجوهرين فلا تقوم به إرادة ولا قول
وهذا القول إن توجه كان سؤالا عليهم فى أصل إثبات الصفات لله سواء كانت قديمة أو حادثة لا يختص هذا بمسألة حلول الحوادث
والكرامية لهم فى إثبات الجوهر الفرد قولان فمن نفى ذلك لم يلزمه هذا الإلزام ومن أثبته كان جوابه عن هذا كجواب غيره من الصفاتية فى الصفات القائمة بالملائكة والآدميين وغيرهم وكان لهم أيضا أجوبة أخرى كما قد بسط الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع
قال الآمدى الخامس هو أن من مذهبهم أن مستند المحدثات إنما هو القول الحادث أو الإرادة الحادثة ومستند القول
(4/106)
والإرادة القدرة القديمة والمشيئة الأزلية ولا فرق بين الحادث والمحدث من جهة تجدده وهو إنما كان مفتقرا إلى المرجح من جهة تجدده وقد استويا فى التجدد فلو قيل لهم لم لا أكتفى بالقدرة القديمة والمشيئة الأزلية فى حدوث المحدثات من غير توسط القول والإرادة كما اكتفى بها فى القول والإرادة لم يجدوا إلى الفرق سبيلا
فيقال ولقائل أن يقول من الصفات ما يثبت بالسمع وقد يكونون أثبتوا ذلك بالسمع كما أثبت أئمة الصفاتية من السلف والخلف كابن كلاب والأشعرى والقاضى أبى بكر والقشيرى والبيهقى تكوين آدم باليدين بالسمع مع أن غيره لم يحتج إلى ذلك كما أثبت أيضا الأشعرى وغيره التكوين بكن سمعا مع أن العقل يكتفى بالقدرة
ونقل ذلك عن أهل السنة والحديث وقال عنهم إن الله لم يخلق شيئا إلا قال له كن وذكر أنه بقولهم يقول
والقرآن قد أخبر أنه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون و أن تخلص الفعل المضارع للاستقبال وكذلك إذا ظرف لما يستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالبا
(4/107)
فلما رأوا السمع دل على أن المحدث يتعلق بقول وإرادة يكون المحدث عقبه مع علمهم بأن قول الرب وإرادته لا يقوم إلا بذاته قالوا كذلك
وأيضا فجميع الطوائف فرقوا بين حادث وحادث وشرطوا فى هذا ما لم يشرطوه فى الآخر
فالفلاسفة يقولون كل حادث مشروط بما قبله من الحوادث ولا يسوون بين الحوادث
والمعتزلة البصريون يقولون كل المحدثات لا تحدث إلا بإرادة ولا تقوم الصفات إلا بمحل
وقالوا إن الإرادة حدثت بلا إرادة وقامت فى غير محل وكذلك الفناء عندهم
والأشعرية فرقوا بين خلق آدم وغيره
وأيضافلا يخلو إما أن يكون بين هذين الحادثين فرق مؤثر وإما أن لا يكون فإن كان بينهما فرق مؤثر بطل الإلزام وإن لم يكن فرق مؤثر لزم خطؤهم فى أحد القولين إما فى الاكتفاء فى الحدوث بالقدرة القديمة وإما فى إثبات شىء حادث للمحدثات المنفصلة
(4/108)
وحينئذ فقد يكونون إنما أخطأوا فى الاكتفاء بمجرد القدرة والإرادة القديمة كما يقوله من يقول إن الحوادث لا بد لها من سبب حادث وحينئذ فيلزمهم القول بدوام الحوادث كما هو قول من قاله من السلف وأهل الحديث والكلام والفلسفة
وفى الجملة هذا الإلزام إذا صح يلزم الخطأ فى أحد الموضعين لا يلزم صحة قول المنازع
قال الآمدى الوجه السادس يخص القائلين بحدوث القول وذلك أنهم وافقوا على أن القول مركب من حروف منتظمة والحروف متضادة فإنا كما نعلم استحالة الجمع بين السواد والبياض نعلم استحالة الجمع بين الحروف وأنه يتعذر الجمع بين الكاف والنون من قوله ( كن ) وقد وافقوا على استحالة تعرى البارى عن الأقوال الحادثة فى ذاته بعد قيامها به وعند ذلك فإما أن يقال باجتماع حروف القول فى ذات البارى تعالى أولا
(4/109)
يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها فإما أن يقال بتجزى ذات البارى تعالى وقيام كل حرف بجزء منه وإما أن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات فإن كان الأول فهو محال لوجهين الأول أنه يلزم منه التركيب فى ذات الله تعالى وقد أبطلناه فى إبطال القول بالتجسيم الثانى أنه ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس وإن كان الثانى فيلزم منه اجتماع المتضادات فى شىء واحد وهو محال وإن لم نقل باجتماع حروف القول فى ذاته فيلزم منه مناقضة أصلهم فى أن ما اتصف به الرب تعالى يستحيل عروه عنه بعد اتصافه به والحرف السابق الذى عدم عند وجود اللاحق قد كان صفة للرب وقد زال بعد وجوده له
قلت ولقائل أن يقول هذا غايته أن يستلزم خطأهم فى قولهم إن ما يقوم به من الحوادث لا يخلو منه
(4/110)
ولا ريب أن أكثر الناس يخالفون فى هذا ولا يقولون بدوام الحادث المعين
فمن قال بإثبات الاستواء والنزول وغيرهما من الأفعال القائمة بذاته المتعلقة بمشيئته وقدرته لا يقول إن ذلك يدوم
وكذلك أكثر القائلين بأن الله كلم موسى بنداء بصوت سمعه موسى والنداء بالصوت قائم بذات الله تعالى لايقولون إن ذلك النداء بالصوت قائم بذات الله تعالى لا يقولون إن ذلك النداء بعينه دائم أبدا ونظائره كثيرة
وإذا كان كذلك فيقال إما أن يكون بقاء الحادث الذى هو الحروف والأصوات ممكنا أو ممتنعا
فإن كان ممكنا صح قول الكرامية وإن كان ممتنعا صح قول من ينازعهم فى دوام الحادث ويقول إنه لا يبقى مع اتفاق الجميع على قيام الحوادث به
وحينئذ فعلى التقديرين لا يلزم صحة قول المنازع النافى لقيام الحوادث به
وأيضا فيقال قول القائل إنه يستحيل الجمع بين الحروف هو من موارد النزاع فذهب طوائف إلى إمكان اجتماعها من القائلين بقدم الحروف والقائلين بحدوثها
وهذا قول السالمية وغيرهم من القائلين باجتماعها مع قدمها وقول من قال باجتماعها مع حدوثها كالكرامية
(4/111)
وقدقال بالأول طوائف من أهل الحديث والفقه والكلام من أصحاب مالك والشافعى وأحمد وغيرهم
وإذا كان هذا من موارد النزاع فإذا قال مثل هذا القائل نحن نعلم استحالة اجتماع الحروف كما نعلم استحالة اجتماع الضدين كالسواد والبياض
قيل له فالذى تنصرهم أنت من الكلابية والأشعرية قالوا بأن المعانى التى هى معانى الحروف المنظمة هى معنى واحد فى نفسه والأمر والنهى والخبر صفات لموصوف واحد فالذى هو الأمر هو الخبر والذى هو الخبر هو النهى وقالوا إن ذلك الواحد إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا
ولا ريب أن جمهور العقلاء من الأولين والآخرين القائلين بأن القرآن غير مخلوق والقائلين بأنه مخلوق يقولون إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة من عدة أوجه
منها كون الأمر هو عين الخبر
ومنها كون الخبر عن الخالق بمثل آية الكرسى هو الخبر عن المخلوق بمثل تبت يدا أبى لهب
(4/112)
ومنها كون معانى التوراة إذا عربت تكون معانى القرآن إلى أمثال ذلك
ولهذا لم يقل هذا القول من طوائف المسلمين ولا غير المسلمين إلا ابن كلاب ومن اتبعه
وهذا القول يتضمن أن تكون المعانى المتنوعة معنى واحدا ولو قال إن المعانى التى للحروف يمكن اجتماعها فى زمن واحد كان أقرب إلى المعقول من كونها معنى واحدا
ولو قال قائل إن الحروف المجتمعة هى حرف واحد فى الحقيقة وإنما الحروف المتفرقة صفات للحرف لا أقسام له كان هذا شبيها بقول من يقول إن تلك المعانى المتنوعة معنى واحد
وذلك أنه من المعلوم بالاضطرار أن الحروف المنتظمة مطابقة لمعانيها المدلول عليها بها تحدث بحدوثها فى نفس المتكلم
وإذا قال القائل إن الحروف متضادة يمتنع اجتماع اثنين [ منها ] فى محل واحد أمكن أن يقال إن المعانى متضادة يمتنع اجتماع اثنين فى محل واحد
فإن غاية ما يقال إن محل المعانى واحد بخلاف محل الحروف
(4/113)
فإنه متعدد لكن المحل واتحاده لا ينفى التضاد فإن المثلين متضادان وإن كانا متماثلين فى الحقيقة والمحل فالباء والتاء تتضادان أعظم من تضاد الباء والحاء إذ الحرفان اللذان يتعدد محلهما يمكن اجتماعهما بخلاف ما يتحد محلهما والضدان إنما يمتنع اجتماعهما فى محل واحد لا فى محلين
فإذا قدر أن الحروف لا تكون إلا فى محل واحد كانت بمنزلة معانيها التى تكون لا إلا فى محل واحد وإذا قدر أن لها محلين أمكن اجتماعها كما تجتمع أصوات المتكلمين جميعا
لكن الواحد منا لا يقدر على ذلك لكونه حركة بعض آلاته مستلزما لحركة الآخر وإلا فلو قدر أنا يمكننا تحريك الجميع كالذى ينفخ بيديه فى هذه نفاخة وفى هذه نفاخة أمكن اجتماع الحروف واجتماع الأصوات فى زمن واحد مع تعدد المحل وإنما الذى يظهر امتناعه اجتماع حرفين فى محل واحد فى زمن واحد
ولكن هذا قد يقال فيه إنه بمنزلة معانى الكلام فإن الواحد منا يجد من نفسه أنه لا يمكنه جمع معانى الكلام فى زمن واحد فى قلبه
وإذا كان كذلك فمن قال باجتماع المعانى لزمه ما يلزم من قال
(4/114)
باجتماع الحروف فكيف من قال إن المعانى تكون معنى واحدا والفضلاء من أصحاب الأشعرى يعترفون بضعف لوازم هذا القول مع نصرهم لكثير من أقواله الضعيفة
حتى الآمدى لما تكلم فى مسألة الكلام قال فإن قيل وإذا ثبت أنه متصف بصفة الكلام وأن كلامه قديم وأنه ليس بحرف ولا صوت فهو متحد لا كثرة فيه فى نفسه بل التكثر إنما هو فى تعلقاته ومتعلقاته فإن قيل عاقل ما لا يمارى نفسه فى انقسام الكلام إلى أمر ونهى وغيره من أقسام الكلام وأن ما انقسم إليه حقائق مختلفة وأمور متمايزة وأنها من أخص أوصاف الكلام لا أن الاختلاف عائد إلى نفس العبارات والتعلقات والمتعلقات ولهذا فإنا لو قطعنا النظر عن العبارات والتعلقات والمتعلقات ورفعناها وهما لم يخرج الكلام عن كونه منقسما وأيضا فإن ما أخبر به عن القصص الماضية والأمور السالفة
(4/115)
مختلفة متمايزة وكذلك المأمورات والمنهيات مختلفة أيضا فلا يتصور أن يكون الخبر عما جرى لموسى هو نفس الخبر عما جرى لعيسى ولا الأمر بالصلاة هو نفس الأمر بالزكاة وغيرها ولا أن ما تعلق بزيد هو نفس ما تعلق بعمرو ولا ما سمى خبرا هو عين ما سمى أمرا إذا الأمر طلب والخبر لا طلب فيه بل هو حكم بنسبة مفرد إيجابا أو سلبا فثبت أن الكلام أنواع مختلفة والكلام عام للكل فيكون كالجنس لها
قلنا قد بينا فيما تقدم أن الكلام قضية واحدة ومعلوم واحد قائم بالنفس وأن اختلاف العبارات عنه بسبب اختلاف التعلقات والمتعلقات وهذا النوع من الاختلافات ليس راجعا إلى أخص صفة الكلام بل إلى أمر خارج عنه وعلى هذا نقول إنه لو قطع النظر عن التعلقات والمتعلقات الخارجة فلا سبيل إلى توهم اختلاف فى الكلام النفسانى أصلا ولا يلزم منه رفع الكلام فى نفسه وزوال حقيقته
(4/116)
قال وعلى هذا فلا يخفى اندفاع ما استبعدوه من اتحاد الخبر واختلاف المخبر واتحاد الأمر واختلاف المأمور وكذلك اختلاف الأمر والخبر مع اتحاد صفة الكلام
قال فإن قيل إذا قلتم بأن الكلام قضية واحدة وأن اختلاف العبارات عنها بسبب المتعلقات الخارجة فلم لا جوزتم أن تكون الإرادة والقدرة والعلم وباقى الصفات راجعة إلى معنى واحد ويكون اختلاف التعبيرات عنه بسبب المتعلقات لا بسبب اختلافه فى ذاته وذلك بأن تسمى إرادة عند تعلقه بالتخصيص وقدرة عند تعلقه بالإيجاد وهكذا سائر الصفات وإن جاز ذلك فلم لا يجوز أن يعود ذلك كله إلى نفس الذات من غير احتياج إلى الصفات
وقال أجاب الأصحاب عن ذلك بانه يمتنع أن يكون الاختلاف بين القدرة والإرادة بسبب التعلقات والمتعلقات إذ
(4/117)
القدرة معنى من شأنه تأتى الإيجاد به والإرادة معنى من شأنه تأتى تخصيص الحادث بحال دون حال وعند اختلاف التأثيرات لابد من الاختلاف فى نفس المؤثر وهذا بخلاف الكلام فإن تعلقاته بمتعلقاته لا توجب أثرا فضلا عن كونه مختلفا
قال وفيه نظر وذلك أنه وإن سلم امتناع صدور الآثار المختلفة عن المؤثر الواحد مع إمكان النزاع فيه فهو موجب للاختلاف فى نفس القدرة وذلك لأن القدرة مؤثرة فى الوجود والوجود عند أصحابنا نفس الذات لا أنه زائد عليها وإلا كانت الذوات ثابتة فى العدم وذلك مما لا نقول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات فالذوات مختلفة فتأثير القدرة فى آثار مختلفة فيلزم أن تكون مختلفة كما قرروه وليس كذلك وأيضا فإن ما ذكره من الفرق وإن استمر فى القدرة والإرادة فغير
(4/118)
مستمر فى باقى الصفات كالعلم والحياة والسمع والبصر لعدم كونها مؤثرة فى أثر ما
قال والحق أن ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل وعسى أن يكون عند غيرى حله ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بان كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة وهى الأمر والنهى والخبر والاستخبار والنداء
هذا كلامه فيقال قول القائل إن الكلام خمس صفات أو سبع أو تسع أو غير ذلك من العدد لا يزيل ما تقدم من الأمور الموجبة تعدد الكلام
وقد رأيت أنه يلزم من قال باتحاد معنى الكلام اتحاد الصفات كلها ثم رفعها بالكلية وجعلها نفس الذات وهذا يعود إلى قول القائلين بأن الوجود واحد ولا يميزون بين الواحد بالعين والواحد بالنوع وذلك لأنه من جوز على الحقائق المتنوعة أن تكون شيئا واحدا فلا فرق بين هذا وهذا وذلك من جنس من يقول إن العالم هو العلم والعلم هو القدرة
(4/119)
ولهذا كان منتهى هؤلاء النفاة إلى أن يجعلوا الوجود الذى هو نوع واحد واحدا بالعين فيجعلون وجود الخالق هو عين وجود المخلوقات ووجود زيد هو عين وجود عمرو ووجود الجنة هو عين وجود النار ووجود الماء هو عين وجود النار
ومنشأ ضلال هؤلاء كلهم انهم يأخذون القدر المشترك بين الأعيان وهو الجنس اللغوى فيجدونه واحدا فى الذهن فيظنون أن ذلك هو وحدة عينية ولا يميزون بين الواحد بالجنس والواحد بالعين وأن الجنس العام المشترك لا وجود له فى الخارج وإنما يوجد فى الأعيان المتميزة
ولهذا شبه بعض أهل زماننا الكلام فى أنه جنس واحد مع تعدد أنواعه بالنوع الواحد وعلى قوله لا يبقى فى الخارج كلام أصلا ولو اهتدى لعلم أن هذا الكلام ليس هذا الكلام كما أن هذه الحركة ليست هذه الحركة وأن اشتراك أنواع الكلام فى الكلام كاشتراك أنواع الحركة فى الحركة بل اختلاف معانى الكلام أعظم من اختلاف انواع الحركات من بعض الوجوه والكلام على هذا مبسوط فى غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يقال من جوز أن تكون القدرة والإرادة
(4/120)
والعلم حقيقة واحدة كما أن الطلب والخبر حقيقة واحدة فلماذا لا يجوز أن تكون حقيقة الحروف المختلفة حقيقة واحدة وكذلك حقيقة الأصوات لست أعنى واحدة بالنوع بل واحدة بالعين كما جعل الكلام واحدا بالعين وكما سوغ أن تكون الصفات المتنوعة واحدة بالعين
والذين قالوا إن الكلام حروف وأصوات متقارنة قديمة لا يسبق بعضها بعضا وهو مع ذلك واحد إنما قالوه تبعا لأولئك وجريا على قياس قولهم وهو لازم لهم مع ظهور فساده وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم
ويلزم من قال ذلك أن يجعل الطعم واللون والريح شيئا واحدا
وإذا قيل هذا كالسواد والبياض
قيل له ويلزمك أن تجعل السواد والبياض شيئا واحدا كما جعلت العلم والقدرة والحياة شيئا واحدا
فإذا قال نحن تكلمنا فيما يمكن اجتماعه من المعانى والسواد والبياض متضادان
قيل الجواب من وجهين
(4/121)
أحدهما أنه يلزمك هذا فى المعانى المختلفة التى يمكن اجتماعها كالطعم واللون والريح فقل إنها شىء واحد كما أن العلم والإرادة والقدرة والطلب والخبر والأمر والنهي شيء واحد الثانى أن يقال تضاد الحروف كتضاد معانى الكلام أو تضاد الحركات لا كتضاد السواد والبياض فإن المحل الواحد لا يتسع لحركتين ولا لمعنيين فلا يتسع لحرفين وصوتين وفرق بين ما يتضادان لأنفسهما وما يتضادان لضيق المحل
وإذا كان كذلك كان تضاد الحروف والحركات كتضاد معانى الكلام
فإن قلب الإنسان يعجز فى الساعة الواحدة عن جمع جميع معانى الكلام 2 فإلحاق حروف الكلام بأسبابها وهى الحركات ومضموناتها ومدلولاتها وهى المعانى أولى من إلحاقها بالمتضادات لنفسها كالسواد والبياض
وحينئذ فإذا جعلت معانى الكلام شيئا واحدا فاجعل حروف الكلام شيئا واحدا وإلا فما الفرق
وقد يقال فى الفرق إن الحروف مقاطع الأصوات والأصوات تابعة لأسبابها وهى الحركات والحركات إما متماثلة وإما مختلفة وكل من الحركات المختلفة والمتماثلة متضادة لا يمكن اجتماع
(4/122)
حركتين فى محل واحد فى زمن واحد فلا يجتمع صوتان فلا يجتمع حرفان
والحركات هى من الأكوان والأكوان كالألوان فكما لا يجتمع لونان مختلفان فى محل واحد فى وقت واحد فلا يجتمع كونان [ مختلفان ] فى محل واحد فى وقت واحد
بخلاف معانى الكلام كالطلب الذى يتضمن الحب للمأمور به والبغض للمنهى عنه والخبر الذى يتضمن العلم والاعتقاد للمخبر عنه فإنها وإن كانت حقائق متنوعة لكن لا يمتنع اجتماعها فإن الأمر بالشىء لا يضاد النهى عن غيره ولا العلم بثالث فلم تتضاد لأنفسها ولكن لعجز العبد عن جمعها
فالأمور ثلاثة أنواع ما امتنع اجتماعها لنفسها كالألوان المختلفة وما أمكن اجتماعها وقد تجتمع كالعلم والإرادة والقدرة والطعم واللون والريح وما يعجز بعض الأحياء عن جمعها كجمع الإرادات الكثيرة والاعتقادات الكثيرة فى زمن واحد فهذه ليس بين حقائقها منافاة تمنع اجتماعها ولكن العبد يعجز عن جمعها كما أنه لا يمتنع أن يعمل بلسانه عملا وبيده
(4/123)
عملا وبرجله عملا وأن يسمع كلام هذا القارىء وهذا القارىء وهذا القارىء فالجمع بين هذه الأمور قد يتعذر لعجز العبد لا لامتناع اجتماعها فى نفسه فإن سمع هذا لا ينافى سمع هذا لذاته ولا هذه الحركة تنافى هذه الحركة لذاتها ولهذا يعقل اجتماع هذه بخلاف اجتماع الضدين
وكذلك رؤية المرئيات المختلفة لا تتضاد ولكن يتضاد تحريك الأجفان إلى جهتين مختلفتين فنفس الحركات متضادة وأما ما يحصل عنها من إدراك فليس هو نفسه متضادا
فإذا قدر إدراك لا يفتقر إلى حركة أو يحصل بحركة واحدة كمن ينظر إلى السماء بتحديق واحد لم يكن إدراكه لهذه المدركات فى آن واحد متضادا فهل يمكن أن يقال فى الصوت مثل ذلك وأنه يمكن حصول أصوات بلا حركات وحينئذ فلا تتضاد تلك الأصوات المجتمعة فى محل واحد فى زمن واحد
فيه نزاع وجمهور العقلاء على امتناعه فإن كان هذا مما يمكن اجتماعه صار كمعانى الكلام والصفات وإن لم يمكن اجتماعه صار كالمتضادات
وعلى هذا التقدير فمن قال بإمكان اجتماع هذه الأمور لم يكن فى قوله من الاستبعاد أعظم من قول من يقول تكون تلك الحقائق المختلفة شيئا واحدا
(4/124)
وليس اجتماع ما يظهر تضاده بأعظم من اتحاد ما يعلم اختلافه
وإذا قال القائل الأمور الإلهية لا تشبه بأحوال العباد بل العبد يختلف علمه باختلاف المعلومات وإرادته باختلاف المرادات ويتعدد ذلك فيه والبارى ليس كذلك
قيل فإذا جوزتم أن يكون ما يعلم تعدده واختلافه فى المخلوقين واحدا لا تعدد فيه ولا تنوع فى حق الخالق أمكن منازعكم أن يقول كذلك فيقول ما يمتنع اجتماعه فى حقنا لا يمتنع اجتماعه فى حقه لأنه واسع لا يقاس بالمخلوقين بل اجتماع الأمور التى يظهر تضادها فينا أقرب من اتحاد الأمور التى نعلم اختلافها فإن كون الشىء هو نفس ما يخالفه أمر في قلب الحقائق
وأما اجتماع الشىء وغيره فى حق الخالق مع امتناع اجتماعهما فى حق المخلوق فيدل على أنه يمكن فى حقه ما لا يمكن فى حق الخلق وذلك يدل على عظمته وقدرته
وأيضا فقد يقول الكرامية وأمثالهم إن محل هذه الحروف والأصوات ليس هو بعينه محل الأخرى والله واسع عظيم لا يحيط العباد به علما ولا تدركه أبصارهم
وبالجملة فالناس متنازعون فى إمكان اجتماع الحروف وإمكان
(4/125)
قدمها والنزاع فى ذلك قديم ذكره الأشعرى فى المقالات وأصحاب أحمد متنازعون فى ذلك وكذلك أصحاب مالك وأبى حنيفة والشافعى وغيرهم من الطوائف وكذلك أهل الحديث والصوفية
وحينئذ فيقال إما أن يكون ذلك ممتنعا وإما أن يكون ممكنا
فإن كان ممتنعا لم يكن ظهور امتناعه أعظم من ظهور امتناع قول الكلابية الذى يوجب قدم المعانى المتنوعة التى هى مدلول العبارات المنتظمة ويجعلها مع ذلك معنى واحدا فإن الألفاظ قوالب المعانى ونحن كما لا نعقل الحروف إلا متوالية متعاقبة فلا تعقل معانيها إلا كذلك وبتقدير أن نعقل اجتماع معانيها فهى معان متنوعة ليست شيئا واحدا
ولهذا لما قالت الكلابية لهؤلاء الحروف متعاقبة والسين بعد الباء وذلك يمنع قدمها
أجابوهم بثلاثة أجوبة كما ذكر ابن الزاغونى وقالوا هذا معارض بمعانى الحروف فإنها متعاقبة عندنا وأنتم تقولون بقدمها
الثانى أن التعاقب والترتيب نوعان أحدهما ترتيب فى نفس الحقيقة والثانى ترتيب فى وجودها فإذا كانت موجودة شيئا بعد شىء كان الثانى حادثا وأما الترتيب الذاتى العقلى فهو بمنزلة كون
(4/126)
الصفات تابعة للذات وكون الإرادة مشروطة بالعلم والعلم مشروطا بالحياة
وادعوا أن تقدم الحروف من هذا الباب وهذا الذى يقال له تقدم بالطبع وهو تقدم الشرط على المشروط كتقدم الواحد على الإثنين وجزء المركب على جملته ومثل هذا الترتيب لا يستلزم عدم الثاني عند وجود الأول
فقول هؤلاء إن كان باطلا فكون العلم هو الحياة والحياة هى الإرادة ومعنى القرآن هو معنى التوراة ومعنى آية الكرسى وقل هو الله أحد هو معنى آية الدين وتبت يدا أبى لهب هو باطل أيضا سواء كان مثله فى البطلان أو أخفى بطلانا منه أو أظهر بطلانا منه
وحينئذ فيقال هب أن قول السالمية والكرامية باجتماع الحروف محال فقول الكلابية أيضا محال فلا يلزم من بطلان ذاك صحة هذا وقول المعتزلة والفلاسفة أبطل من الكل
وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر وهو أنه لم يزل متكلما بحروف متعاقبة لا مجتمعة وهذا يستلزم قيام الحوادث به فمن قال بهذا لم يكن تناقض الكرامية حجة عليه ولم يلزم من بطلان قولهم بطلان هذا الأصل وإن كان اجتماع الحروف ممكنا بطل أصل الاعتراض
(4/127)
ومعلوم أن القسمة العقلية أربعة لأن الحروف إما أن يمكن قدم أعيانها حينئذ يلزم إمكان اجتماعها إما أن لا يمكن قدم أعيانها بل قدم أنواعها وإما أن لا يمكن قدم أعيانها ولا أنواعها
وأما القسم الرابع وهو قدم أعيانها لا أنواعها فهذا لا يقوله عاقل وعلى التقديرين فإما أن يمكن اجتماعها وإما أن لا يمكن فهذه خمسة أقسام
وأيضا فإذا أمكن الاجتماع فإما أن يكون بقاؤها ممكنا وإما أن لا يكون فالقول المذكور عن الكرامية يتضمن حدوث أعيانها وأنواعها لكن مع إمكان اجتماعها وبقائها بعد الحدوث وهذا قول من أقوال متعددة
وبإزاء ذلك من يقول يجب حدوثها ويمتنع بقاؤها إما مع إمكان الإجتماع وإما مع عدم إمكان الاجتماع
ومن يقول يجب قدم نوعها لا قدم أعيانها قد يقول بإمكان الاجتماع وقد لا يقول
والناس متنازعون في تكليم الله لعباده هل هو مجرد خلق إدراك لهم من غير تجدد تكليم من جهته أم لا بد من تجدد تكليم من جهته على قولين للمنتسبين إلى السنة وغيرهم من أصحاب أبى حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم
(4/128)
فالأول قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم من أصحاب هؤلاء الأئمة القائلين بأن الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته بل هو بمنزلة الحياة
والثاني قول الأكثرين من أهل الحديث والسنة من أصحاب هؤلاء الأئمة وغيرهم وهو قول أكثر أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية والمعتزلة وغيرهم
قالوا ونصوص الكتاب والسنة تدل على هذا القول ولهذا فرق الله بين إيحائه وتكليمه كما ذكر في سورة النساء وسورة الشورى
والأحاديث التي جاءت بأنه يكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم وأنه إذا قضى أمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان إلى غير ذلك مما يطول ذكره
وإذا كان كذلك امتنع أن لا يقوم كلام الله به فإنه يلزم أن لا يكون كلامه بل كلام من قام به كما قد قرر في موضعه
والله سبحانه يحاسب الخلق في ساعة واحدة لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا وكذلك إذا ناجوه ودعوه أجابهم كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال [ العبد ] الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي فإذا
(4/129)
قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول هذا لكل مصل والناس يصلون في ساعة واحدة والله تعالى يقول لكل منهم هذا وقد روي أن ابن عباس قيل له كيف يحاسب الله الخلق في ساعة واحدة فقال كما يرزقهم في ساعة واحدة وأمثال ذلك كثير
وحينئذ فمن قال إن هذه أقوال قائمة بنفسه تتعلق بمشيئته وقدرته يلزمه أحد أمرين إما أن يقول باجتماعها في محل واحد وإما أن يقول إن ذاته واسعة تسع هذه الأقوال كلها
ونحن نعقل أن نقوم بالذات الواحدة حروف كثيرة في آن واحد وأصوات مجتمعة في آن واحد لكن لا يكون هذا حيث هذا إذ لا يعقل في الشاهد أنهما يجتمعان في محل واحد
وقد يقال إن مثل هذا يجيء على قول من يقول إنه يقوم بذاته علوم لا نهاية لها وإرادات لا نهاية لها وقدر لا نهاية لها فإن ذلك كقيام أفعال وأقوال لا نهاية لها وهذا على وجهين فمن قال
(4/130)
إنذلك يقوم به على سبيل التعاقب فهو كمن يقول إنه تقوم به الكلمات والأفعال على سبيل التعاقب
ومن قال إنها كلها أزلية كما تقوله طائفة يقولون إنه تقوم به علوم لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله أبو سهل الصعلوكي وغيره فإن هذا يشبه قول من يقول تقوم به حروف لا نهاية لها في آن واحد
لكن قد يقال اجتماع العلوم بمعلومات والإرادات بمرادات قد يقال إنه لا يتضاد كاجتماع معاني الكلام بخلاف اجتماع حروف فإنه كاجتماع أصوات واجتماع أصوات كاجتماع حركات
وجماع ذلك أن الحقائق إما أن تكون متماثلة وإما أن لا تكون وإذا لم تكن متماثلة فإما أن يمكن اجتماعها في محل واحد في زمن واحد وإما أن يمكن فالأولى المختلفة التي ليست بمتضادة كالعلم والقدرة وكالطعم واللون والثاني المتضادة كالسواد والبياض وكالعجز مع القدرة كالعلم بمعلومات والقدرة على مقدورات والإرادة لمرادات ليست هي متضادة بل يمكن اجتماع
(4/131)
ذلك لكن قد يضيق عنه المحل كما يضيق قلب العبد عن اجتماع أمور كثيرة من ذلك [ وإن كان قد يجتمع في قلبه من ذلك ]
والقلوب تختلف أيضا بذاتها ولهذا يمكن بعض الناس أن يقرأ ويفعل بيده ورجله وآخر لا يمكنه ذلك كما يمكن هذا الحركة القوية الشديدة والآخر لا يمكنه ذلك ويمكن أن يرى ويسمع من المختلفات ما لا يمكن الآخر رؤيته أوسماعه
وإذا كان كذلك فالكلام في الصوت في شيئين أحدهما [ في بقائه وقدمه كما ] في بقاء الحركة وقدمها ولا ريب في إمكان بقاء نوع الصوت والحركة بمعنى حدوث الحركة شيئا فشيئا كحركة الفلك والكواكب
وأما إمكان قدم نوع الصوت والحركة ففيه قولان مشهوران للنظار فالجمهية والمعتزلة ومن اتبعهم تنكر إمكان قدم ذلك وكثير من أئمة أهل الحديث والفقه والتصوف والفلاسفة يجوزون قدم ذلك ومنهم من يجوز قدم نوع الصوت لا نوع الحركة
وأما بقاء الصوت المعين والحركة فجمهور العقلاء يحيلون بقاء ذلك وقدمه بل امتناع قدم ما يمتنع بقاؤه أولى فإن ما وجب قدمه
(4/132)
وجب بقاؤه وامتنع عدمه ومن الناس من جوز بقاء الصوت المعين والحركة المعينة وبعض هؤلاء جوز قدم الصوت المعين
ولا فرق بين الحركة والصوت وأما الحروف المنطوق بها فالناس متنازعون هل هي طرف للصوت أم يمكن وجود حروف منظومة بلا صوت على قولين
وإذا قيل لا يمكن وجود حرف منطوق به إلا بصوت فالحرف قد يعبر به عن نهاية الصوت وتقطيعه وقد يعبر به عن نفس الصوت المقطع كما يعبر بلفظ الحرف عن الحرف المكتوب ويراد به [ مجرد ] الشكل تارة مجردا عن المادة ويراد به مجموع المادة والشكل وهو المداد المصور
والمسألة الثانية أن الأصوات المتنوعة سواء قيل بوجوب تعاقبها شيئا بعد شيء أو قيل بإمكان بقاء الصوت المعين هل تقوم بالصائت الواحد إذا كان محل هذا الصوت ليس هو بعينه محل هذا الصوت وإن كان الصائت واحدا
ولا ريب أن هذا أولى من قيام الحركات المتنوعة بالمتحرك الواحد
وأما اجتماع الصوتين والحركتين في محل واحد فهو متعذر للتضاد عند أكثر العقلاء أو لضيق المحل عند بعضهم كاجتماع العلمين
(4/133)
والقدرتين والإرداتين المختلفتين والإدراكين ثم إذا قدر أن محل هذه الصفات لا يكون إلا جسما فيبقى الكلام في الجسم هل هو مركب من الجواهر المنفردة او من المادة والصورة أولا من هذا ولا من هذا
وفي ذلك للنظار ثلاثة أقوال فمن قال بالمركب من الجواهر المنفردة اضطربوا في محل العلم ونحوه من العبد هل هو جزء مفرد في القلب كما يذكر عن ابن الرواندي أو أن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء من الجملة اتصف بها سائر الجملة كما يقوله المعتزلة أو حكم العرض لا يتعدى محله بل يقوم بكل جوهر فرد عرض يخصه من العلم والقدرة ونحو ذلك كما يقول الأشعري على ثلاثة أقوال
ومن لم يقل بالجوهر الفردلم يلزمه ذلك بل يقول إن العرض القائم بالجسم ليس بمنقسم في نفسه كما أن الجسم ليس بمنقسم وأما قبوله للقسمة فهو كقبول الجسم للقسمة وهؤلاء يقولون إن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس بجميع بدنه و ويقولون إن بدن الإنسان ليس مركبا من الجواهر المنفردة فلا يرد عليهم ما ورد على أولئك
(4/134)
وأما الأعراض القائمة بروحه من العلم والإرادة ونحو ذلك فهي أبعد عن الانقسام من الأعراض القائمة ببدنه وروحه أبعد عن كونها مركبة من الجواهر المنفردة من بدنه وإن قيل إنها جسم
وعلى هذا فإذا قيل يقوم بها علم واحد بمعلوم واحد كان هذا بمنزلة أن يقال يقوم بالعين إدراك واحد لمدرك واحد وبمنزلة أن يقوم بداخل الأذن سمع واحد لمسموع واحد
وهذا وغيره مما يجيبون به المتفلسفة الذين قالوا إن النفس الناطقة لا تتحرك ولا تسكن ولا تصعد ولا تنزل وليست بجسم فإن عمدتهم على ذلك كونها يقوم بها ما لا ينقسم كالعلم بما لا ينقسم [ فيجب أن لا ينقسم ] وإذا لم تنقسم امتنع كونها جسما وكلا المقدمتين ممنوعة كما قد بسط الجواب عن هذه الحجة التي هي عمدتهم في غير هذا الموضع
ولما عسر الجواب هذه على الرازي ونحوه من اهل الكلام اعتقدوا ان القول بالمعاد مبني على إثبات الجوهر الفرد لظنهم أنه لا يمكن الجواب عن هذه إلا بإثبات الجوهر الفرد وأن القول بالمعاد يفتقر إلى القول بان أجزاء البدن تفرقت ثم اجتمعت
وليس الأمر كذلك فإن إثبات الجوهر الفرد مما أنكره أئمة السلف والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وجمهور العقلاء وكثير من
(4/135)
طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية
والقول بمعاد الأبدان مما اتفق عليه أهل الملل فكيف يكون القول بمعاد الأبدان مستلزما للقول بالجوهر الفرد وبسط هذه الأمور له موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على ما ذكره من البحث مع الكرامية وحينئذ فيقال قول الكرامية الذي حكاه عنهم من انه يستحيل تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها قول لا يوافقهم عليه كل من وافقهم على أصل هذه المسألة فإن الموافقين لهم على أصل المسألة هم أكثر الناس وأئمتهم من الطوائف كلها حتى من ائمة أهل السنة والحديث وأئمة الفلاسفة أهل الشرع وأهل الرأي واماهذا القول فمواقفهم عليه قليل
قال وعند ذلك فإما أن يقال باجتماع حروف القول في ذاته تعالى أو لا يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها فإما أن يقال بتجزى ذات الباري وقيام كل حرف بجزء منه وإما أن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات فإن كان الأول فهو محال لوجهين
(4/136)
أحدهما أنه يلزم منه التركيب في ذات الله وقد أبطلناه في إبطال لقول بالتجسيم
قلت ولقائل أن يقول قول القائل إما أن يتجزأ ويلزم منه التركيب لفظ مجمل كما قد عرف غير مرة فإن هذا يفهم منه إما جواز الافتراق عليه او أنه كان مفترقا فاجتمع أو ركبه مركب ونحو هذه المعاني التي لا يقولونها
فإن أراد المريد بقوله إما أن يقال بتجزى ذات الباري تعالى هذا المعنى فهم لا يقولون بتجزئة ولكن لا يلزم من رفع هذا امتناع كون الذات واسعة تسع هذا وهذا وهذا وأن كل واحد يقوم حيث لا يقوم الآخر وهذا هو الذي عناه بلفظ التجزي والتركيب
وقوله إنه أبطل هذا في إبطال القول التجسيم فهو يقولون ليس فيما ذكرته في نفي التجسيم حجة على نفي قولهم وذلك أنه قال و المعتمد في نفي التجسيم أن يقال لو كان
(4/137)
الباري جسما فإما أن يكون كالأجسام وإما أن لا يكون كالأجسام فإن قيل إنه لا كالأجسام كان االنزاع في اللفظ دون المعنى والطريق في الرد ما أسلفناه في كونه جوهرا وإن قيل إنه كالأجسام فهو ممتنع لثمانية اوجه منها أربعة وهي ما ذكرناها في استحالة كونه جوهرا وهي الأول والثالث والرابع والخامس ويختص الجسم بأربعة أخرى
قلت والذي ذكره في إبطال كونه جوهرا هو أن المعتمد [ هو ] أنا نقول لو كان الباري جوهرا لم يخل إما أن يكون جوهرا كالجواهر أو لا كالجواهر والأول باطل لم يخل إما أن يكون جوهرا لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب فإنا إنما ننكر كونه جوهرا كالجواهر وإذا عاد الأمر إلى الإطلاق اللفظي فالنزاع لفظي ولا مشاحة فيه إلا من جهة ورود التعبد من الشارع به ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته
(4/138)
قال وعلى هذا فمن قال إنه جوهر بمعنى أنه موجود لا في موضوع والموضوع هو المحل المقوم ذاته المقوم لما يحل فيه كما قاله الفلاسفة أو أنه الجوهر بمعنى أنه قائم بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى أحكام الجواهر فقد وافق في المعنى وأخطأ في الإطلاق من حيث أنه لم ينقل عن العرب إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه ولا ورد فيه إذن من الشرع
فيقال إذا كان قول القائل إنه جوهر لا كالجواهر وجسم لا كالأجسام موافقا لقولك في المعنى وإنما النزاع بينك وبينهم في اللفظ قامت حجته عليك لفظا ومعنى أما اللفظ فمن وجهين احدهما أنه كما أن الشارع لم يأذن في إثبات هذه الألفاظ له فلم يأذن في نفيها عنه وأنت إذا لم تسمه سخيا لعدم إذن الشرع فليس لك أن تقول ليس بسخي لعدم إذن الشرع ف هذا النفي بل إذا لم يطلق إلا ما أذن فيه الشرع لا يطلق لا هذا ولا هذا
(4/139)
ثم أنت تسميه قديما وواجب الوجود وذاتا ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع والشارع يفرق بين ما يدعى به من الأسماء لإثبات معنى يستحقه نفاه عنه ناف لما يستحقه من الصفات كما أنه من نازعك في قدمه أو وجوب وجود وجوده قلت مخبرا عنه بما يستحقه إنه قديم وواجب الوجود فإن كان النزاع مع من يقول هو جوهر و جسم في اللفظ فعذرهم في الإطلاق أن النافي نفى ما يستحقه الرب من الصفات في ضمن نفي هذا الاسم فأثبتنا له ما يستحقه من الصفات بإثبات مسمى هذا الاسم كما فعلت أنت وغيرك ف اسم قديم و ذات و وواجب الوجود ونحو ذلك
الثاني أنك احتججت على نفي ذاك بأن العرب لم ينقل عنها إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه
فيقال لك ولم ينقل عنها إطلاقة بإزاء كل متحيز حامل للأعراض ولا نقل عنها إطلاق لفظ ذات بإزاء نفسه وإنما لفظ الذات عندهم تأنيث ذو فلا تستعمل إلا مضافة كقوله تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } [ سورة الأنفال 1 ] وقوله { إنه عليم بذات الصدور } [ سورة الأنفال 43 ] وقول النبي
(4/140)
صلى الله عليه وسلم لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله وقول خبيب % وذلك في ذات الإله وإن يشأ % % يبارك على أوصال شلو ممزع %
وأمثال ذلك أي في جهة الله أي الله تعالى ولهذا أنكر ابن برهان وغيره على المتكلمين إطلاق لفظ ذات الله
وإذا كان كذلك فأنت أطلقت لفظ الذات على ما لم تطلقه العرب بغير إذن من الشرع ولو قال لك قائل إن الله ليس بذات نازعته فهكذا يقول منازعك في اسم الجوهر والجسم إذا كان موافقا لك على معناهما
وأيضا فإن لفظ الجوهر والجسم قد صار في اصطلاحكم جميعا اعم مما استعملت فيه العرب فإن العرب لا تسمي كل متحيز
(4/141)
جوهرا ولا تسمي كل مشار إليه جسما فلا تسمي الهواء جسما
وفي اصطلاحكم سميتم هذا جسما كما سميتم في اصطلاحكم باسم الذات كل موصوف أو كل قائم بنفسه أو كل شيء فلستم متوقفين في الاستعمال لا على حد اللغة العربية ولا على إذن الشارع لا في النفي ولا في الإثبات
فإن لم يكن لك حجة على منازعك إلا هذا كان خاصما لك وكان حكمه فيما تنازعتما فيه كحكمكما فيم ااتفقتما عليه أو انفردت به دونه من هذا الباب
وأيضا فحكايتك عن الفلاسفة أنهم يسمونه جوهرا والجوهر عندهم الموجود لا في موضوع إنما قاله ابن سينا ومن تبعه
وأما آرسطو وأتباعه وغيرهم من الفلاسفة فسيمونه جوهرا فالوجود كله ينقسم عندهم إلى جوهر وعرض والمبدأ الأول داخل عندهم في مقولة الجوهر
والأظهر أن النصارى إنما اخذوا تسميته جوهرا عن الفلاسفة فإنهم ركبوا قولا من دين المسيح ودين المشركين الصابئين
وأما النزاع المعنوي فيقال قول القائل إنه جوهر كالجواهر أو جسم كالأجسام لفظ مجمل فإنه قد يراد به أنه مماثل لكل جوهر وكل
(4/142)
جسم فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه وقد يريد به أنه مماثل لها في القدر المشترك بينها كلها بحيث يجب ويجوز ويمتنع عليه ما يجب ويجوز ويمتنع على ما حصل فيه القدر المشترك منها ولو أنه واحد
فأما الأول فإنه إما أن يقول مع ذلك بتماثل الأجسام والجواهر وإما أن يقول باختلافها فإن قال بتماثلها كان قوله هو القول الثاني إذ كان يجوز على كل منها ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه باعتبار ذاته
وإن قال باختلافها امتنع مع ذلك أن يقول إنه كالأجسام فإنه من المعلوم على هذا التقدير أن كل جسم ليس هو مثل الآخر ولا يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فكيف يقال في الخالق سبحانه إنه يجوز عليه ما يجوز على كل مخلوق قائم بنفسه حتى في الجماد والنبات والحيوان
هذا لا يقوله عاقل حتى القائلون بوحدة الوجود فهؤلاء عندهم هو نفس وجود الأجسام المخلوقة ولكن هم مع هذا لا يقولون إنه يجوز على وجود جميع الموجودات ما يجوز على وجود هذا
وهذا وإن قال إنه كالأجسام المخلوقة في القدر المشترك بينها بحيث يجوز عليه ما يجوز على المجموع لا على كل واحد واحد فهذا
(4/143)
أيضا قول معلوم الفساد ولا نعرف قائلا معروفا يقول به فإن هذا هو التشبيه والتمثيل الذي يعلم تنزه الله عنه إذ كان كل ما سواه مخلوقا والمخلوقات تشترك في هذا المسمى فيجوز على المجموع من العدم والحدوث والافتقار ما يجب تنزيه الله عنه بل لو جاز ووجب وامتنع عليه ما يجوز ويجب ويمتنع على الممكنات والمحدثات لزم الجمع بين النقيضين فإنه يجب له الوجود والقدم فلو وجب ذلك للمحدث مع أنه لا يجب له ذلك لزم أن يكون ذلك واجبا للمحدث غير واجب له ولو جاز عليه الإمكان والعدم مع أن الواجب بنفسه القديم الذي لا يقبل العدم لا يجوز عليه الإمكان والعدم للزم ان يمتنع عليه العدم لا يمتنع عليه وأن يجب له الوجود لا يجب له وذلك جمع بين النقيضين
فتنزيه الله عما يستحق التنزيه عنه من مماثلة المخلوقين يمنع أن يشاركها في شيء من خصائصها سواء كانت تلك الخاصة شاملة لجميع المخلوقات أو مختصة ببعضها
فعلم أن القول بأنه جوهر كالجواهر او جسم كالأجسام سواء جعل التشبيه لكل منها أو بالقدر المشترك بينها لم تقل به طائفة معروفة أصلا فإن كان النزاع ليس إلا مع هؤلاء فلا نزاع في المسألة فتبقى بحوثه المعنوية في ذلك ضائعة وبحوثه اللفظية غير نافعة مع أني إلى ساعتي هذه لم أقف على قول لطائفة ولا نقل عن طائفة أنهم قالوا
(4/144)
جسم كالأجسام مع ان مقالة المشبهة الذين يقولون يد كيدي وقدم كقدمي وبصر كبصري مقالة معروفة وقد ذكرها الأئمة كيزيد ابن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم وأنكروها وذموها ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله
ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الأجسام بل ببعضها ولا بد مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه والاختلاف من وجه لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات كانوا مبطلين على كل حال
وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه وفيه عن الله مقام والكلام في التجسيم وفيه مقام آخر فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والإئمة واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون يد كيدي وبصر كبصري وقدم كقدمي
وقد قال الله تعالى { ليس كمثله شيء } [ سورة الشورى 11 ]
(4/145)
وقال تعالى { ولم يكن له كفوا أحد } [ سورة الإخلاص ] وقال { هل تعلم له سميا } سورة مريم 65 وقال تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا } سورة البقرة 22 وأيضا فنفى ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض كما قد بسط الكلام على ذلك في غير موضع وأفردنا الكلام على قوله تعالى { ليس كمثله شيء } [ سورة الشورى آية 11 ] في مصنف مفرد
وأما الكلام في الجسم والجوهر ونفيهما أو إثباتهما فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك لا نفيا ولا إثباتا
والنزاع بين المتنازعين في ذلك بعضه لفظي وبعضه معنوي أخطأ هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه فإن كان النزاع مع من يقول هو جسم أو جوهر إذ قال لا كالأجسام ولا كالجواهر إنما هو في اللفظ فمن قال هو كالأجسام والجواهر يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى
فإن فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى كان قوله مردودا وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله فكل قول تضمن هذا فهو باطل
(4/146)
وإن فسر قوله جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه
فلا بد أن يلحظ في هذا المقام إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا وذلك مثل أن يقول أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات وبين كل حي عليم سميع بصير وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات وإلا فلو قال الرجل هو حي لا كالأحياء وقادر لا كالقادرين وعليم لا كالعلماء وسميع لا كالسمعاء وبصير لا كالبصراء ونحو ذلك وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين فقد أصاب
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه وهو من صفات كماله فقد أخطأ
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته يقع من جهة المعنى في شيئين أحدهما انهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين
فمن قال بتماثلها قال كل من قال إنه جسم لزمه التمثيل ومن قال إنها لا تتماثل قال إنه لا يلزمه التمثيل
(4/147)
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة بحسب ما ظنوه لازما لهم كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها ومجسمة حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة ومجسمة وحشوية وغثاء وغثراء ونحو ذلك بحسب ما ظنوه لازما لهم
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة بل إن كانت لازمة مع فسادها دل على فساد قوله
وعلى هذا فالنزاع بين هؤلاء وهؤلاء في تماثل الأجسام وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبين الكلام على جميع حججهم
والثاني أن مسمى الجسم في اصطلاحهم قد تنازعوا فيه هل هو مركب من أجزاء منفردة او من الهيولي والصورة أو لا مركب لا من هذا ولا من هذا
وإذا كان مركبا فهل هو جزآن او ستة أجزاء أو ثمانية اجزاء أو ستة عشر جزءا أو اثنان وثلاثون
هذا كله مما تنازع فيه هؤلاء فمثبتو التركيب المتنازع فيه في الجسم يقولون لأولئك إنه لازم لكم إذا قالوا هو جسم وأولئك ينفون هذا اللزوم
(4/148)
وقد يكون في المجسمة من يقول إنه جسم مركب من الجواهر المنفردة وينازعهم في امتناع مثل هذا التركيب عليه ويقول لا حجة لكم على نفي ذلك إلا ما أقمتموه من الأدلة على كون الأجسام محدثة أو ممكنة وكلها ادلة باطلة كما بسط في موضعه
وبينهم نزاع في أمور أخرى ينازعهم فيها من لا يقول هو جسم مثل كونه فوق العالم أو كونه ذا قدر أو كونه متصفا بصفات قائمة به فالنفاة يقولون هذا لا تقوم إلا بجسم وأولئك قد ينازعونهم في هذا أو بعضه وينازعونهم في إنتفاء هذا المعنى الذي سموه جسما فهم ينازعون إما في التلازم وإما في انتفاء اللازم إذا تبين أن هذه الأمور كلها ترجع إلى هذه الأمور الثلاثة فإن الحجج الثمانية التي ذكرها الآمدي أربعة على نفي الجوهر وأربعة مختصة بالجسم
الأولى قوله لو كان جوهرا كالجواهرفإما أن يكون واجبا لذاته وإما أن لا يكون فإن كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود لذاتها ضرورة اشتراكها في معنى
(4/149)
الجوهرية وإن كان ممكنا لزم أن لا يكون واجبا لذاته وإن كان لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب
فيقال لا نسلم أنه إذا كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود ولا يلزم أن الاشتراك في الجوهرية يقتضي الاشتراك في جميع الصفات التي تجب لكل منها وتمتنع عليه وتجوز له
وكذلك يقال لا نسلم أنه إذا لم يكن كالجواهر كان تسليما للمطلوب وذلك أنه إذا قيل حي لا كالأحياء وعالم لا كالعلماء وقادر لا كالقادرين لا يلزم من ذلك نفي هذه الصفات ولا إثبات خصائص المخلوقات
فمن قال هو جوهر وفسره إما بالمتحيز وإما بالقائم بذاته وأما بما هو موجود في موضوع لم يسلم أن الجواهر متماثلة بل يقول تنقسم إلى واجب وممكن كما ينقسم الحي والعليم إلى هذا وهذا
(4/150)
فإن قال إذا كان متحيزا فالمتحيزات مماثلة له كان هذا مصادرة على المطلوب لأنه نفى كونه جسما بناء على نفي الجوهرونفي الجوهر بناء على نفي المتحيز والمتحيز هو الجسم أو الجوهر والجسم فيكون قد جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه وهذه هي المصادرة
قال الآمدي الوجه الثاني أنه إما أن يكون قابلا للتحيزية أو لا يكون فإن كان الأول لزم أن يكون جسما مركبا وهو محال كما يأتي وإن كان الثاني لزم أن يكون بمنزلة الجوهر الفرد
ولقائل أن يقول إن عنيت بالتحيزية تفرقته بعد الاجتماع أو اجتماعه بعد الإفتراق فلا نسلم أن ما لا يكون كذلك يلزم أن يكون حقيرا
وإن عنيت به ما يشار إليه أو يتميز منه شيء عن شيء لم نسلم أن مثل هذا ممتنع بل نقول إن كل موجود قائم بنفسه فإنه كذلك
(4/151)
وأما ما لا يكون كذلك فلا يكون إلا عرضا قائما بغيره وأنه لا يعقل موجود إلا ما يشار إليه أو ما يقوم بما يشار إليه كما قد بسط في موضعه وسيأتي الكلام على نفي حجته
قال والثالثة لا يخلو إما أن يكون لذاته قابلا لحلول الأعراض المتعاقية أولا فإن كان الأول فيلزم أن يكون محلا للحوادث وهو محال كما يأتي فإن كان الأول فيلزم امتناع ذلك على كل الجواهر ضرورة الاشتراك بينها في المعنى وهو محال خلاف المحسوس
ولقائل أن يقول الجواب من وجوه أحدها أنا لا نسلم امتناع حلول الأعراض المتعاقبة وأنت قد اعتمدت في هذا الوجه الذي ذكرته من تناقض أهل هذا القول على نفي الجسم والجوهر فلو جعلت جحة في ذلك لزم المصادرة على المطلوب إذ كنت في كل من المسألتين تعتمد على الأخرى وإن اعتمدت على نفيه بالوجوه الأخرفقد عرف فساد كلامك وكلام غيرك
(4/152)
الثاني ان يقال ولم قلت إنه إذا امتنع حلول الحوادث على بعض الجواهر يمتنع على سائرها ألست تقول إن ذلك يمتنع على بعض الذوات دون بعض وبعض القائمين بأنفسهم دون بعض وبعض الموصوفات دون بعض فلو قال لك قائل الاشتراك في كون كل من الشيئين ذاتا قائمة بنفسها موصوفة بالصفات يوجب اشتراكها في حلول الحوادث لكان هذا القول إما أن يلزمك وإما ان لا يلزمك فإن لزمك كان هذا لازما لك ولمنازعك فليس لك أن تنفيه وإن لم يلزمك فما كان جوابك عن إلزام من يلزمك به فهو جواب منازعك
فإن قلت الاشتراك في الجوهرية اشتراك في المعنى الذي لأجله جاز قيام الحوادث به
قال لك كل من الخصمين والاشتراك في الذاتية والموصوفية والقيام بالنفس اشتراك في المعنى الذي لأجله جاز قيام الحوادث به وأنت إذا أنصفت علمت أن البابين واحد الثالث ان يقال ما تعني بقولك الأعراض المتعاقية اتعني به أحواله التي دلت النصوص علي قيامها به أم غير ذلك
الأول مسلم لكن لا نسلم مساواة المخلوقات له في خصائصه والثاني ممنوع
(4/153)
قال الرابع أنه لا يخلو إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها هنا أو هناك أو لا تكون قابلة لذلك فإن كان الأول فيكون متحيزا إذ لا معنى للتحيز إلا هذا على الله محال لوجهين
الأول أنه إما أن يكون منتقلا عن حيزه أو لا يكون منتقلا عنه فإن كان منتقلا عنه فيكون متحركا وإن لم يكن منتقلا عنه فيكون ساكنا والحركة والسكون حادثان على ما يأتي وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
الوجه الثاني ان اختصاصه بحيزه إما ان يكون لذاته أو لمخصص من خارج فإن كان الأول فليس هو اولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى وإن كان لغيره وجب أن يكون الرب مفتقرا إلى غيره في وجوده فلا يكون واجب
(4/154)
الوجودوإن كان غير متحيز لزم في كل جوهر أن يكون غير متحيز ضرورة المساواة في المعنى وهو محال وكيف وأنه لا معنى للجوهر غير المتحيز بذاته فما لا يكون كذلك لا يكون جوهرا
قلت ولقائل أن يقول لا نسلم أنه إذا كان قابلا للإشارة كان متحيزا وقوله لا معنى لمتحيز إلا هذا إن أراد به أن المفهوم من كونه مشارا إليه هو المفهوم من كونه متحيزا كان قوله فاسدا بالضرورة وإن أراد أن ما صدق عليه هذا صدق عليه هذا
قيل له من الناس من ينازعك في هذا ويقول إنه سبحانه فوق العالم ويشار إليه وليس بمتحيز فإن قال هذا فساده معلوم بالضرورة قيل له ليس هذا بأبعد من قولك إنه موجود قائم بنفسه متصف بالصفات مرئي بالأبصار وهو مع هذا لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا مداخل له
فإن قلت إحالة هذا من حكم الوهم
قيل لك وإحالة موجود قائم بنفسه يشار إليه ولا يكون متحيزا من حكم الوهم بل تصديق العقول بموجود يشار إليه ولا يكون متحيزا
(4/155)
أعظم من تصديقها بموجود قائم بنفسه متصف بالصفات لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه
ثم يقال ثانيا لم قلتم إنه يمتنع أن يكون متحيزا قولك إما أن يكون متحركا أو ساكنا يقال لك فلم لا يجوز أن لا يكون قابلا للحركة والسكون وثبوت أحدهما فرع قبوله له
فإن قلت كل متحيز فهو قابل لهما
قيل لك علمنا بهذا كعلمنا بأن كل موجود قائم بنفسه موصوف بالصفات إما مباين لغيره وإما محايث له فإن جوزت موجودا قائما بنفسه لا مباين ولا محايث فجوز وجود موجود متحيز ليس بمتحرك ولا ساكن
فإن قلت المتحيز إما ان يكون منتقلا عن حيزه او لا يكون منتقلا عنه والأول هو الحركة والثاني هو السكون
قيل لك ليس كل متحيز أمر وجوديا فإن العالم متحيز وليس له حيز وجودي ومن قال إن الباري وحده فوق العالم أو سلم لك إنه متحيز لم يقل إنه في حيز وجودي وحينئذ فالحيز أمر عدمي فقولك إما أن يكون منتقلا عنه أولا كقولك إما أن يكون منتقلا بنفسه أولا وهو معنى قولك إما أن يكون متحركا أو ساكنا وهذا إ ثبات الشيءبنفسه
(4/156)
فإن قلت هذا بين مستقر في الفطرة والعلم به بديهي
قيل لك ليس هذا بأبين من قول القائل إما أن يكون صانع العالم حيث العالم وإما أن لا يكون حيث العالم والأول هو المحايثة والدخول فيه والثاني هو المباينة والخروج عنه
فإن قلت يمكن ان لا يكون داخلا فيه ولا خارجا عنه
قيل لك ويمكن ان لا يكون المتحيز منتقلا ولا يكون ساكنا كما تقوله انت فيما تقول إنه قائم بنفسه لا منتقل ولا ساكن فإن قلت أنا أعقل هذا فيما ليس بمتحيز ولا أعقله في المتحيز
قيل وكيف عقلت أولا ثبوت ما ليس بمتحيز بهذا التفسير والمنازع يقول أنا لا أعقل إلا ما هو داخل أو خارج
فإذا قلت أنت هذا فرع ثبوت قبول ذلك وقابل ذلك هو المتحيز فما لا يكون كذلك لا يكون قابلا للمباينة والمحايثة والدخول والخروج
قال لك نحن لا نعقل موجودا إلا هذا
فإن قلت بل هذا ممكن في العقل وثابت أيضا قال
قال لك وكذلك متحيز لا يقبل الحركة والسكون هو أيضا ممكن في العقل وثابت
(4/157)
فإن قلت الفطرة تدفع هذا
قيل لك وهي لدفع ذاك اعظم
فإن قلت ذاك حكم الوهم
قيل وهذا حكم الوهم
فإن قلت العقل أثبت موجودا ليس بمتحيز
قيل لك إنما أثبت ذاك بمثل هذه الأدلة التي تتكلم على مقدماتها فإن أثبت مقدمات النتيجة بالنتيجة كنت مصادرا على المطلوب فأنت لا يمكنك إثبات موجود ليس بمتحيز إلا بمثل هذا الدليل وهذا الدليل لا يثبت إلا ببيان إمكان وجود موجود ليس بمتحيز فلا يجوز أن تجعله مقدمة حجة في إثبات نفسه
ويقول له الخصم ثالثا هب أنك تقول لا بد إذا كان متحيزا من الحركة والسكون فنحن نقول إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون فإنه إما أن يكون منتقلا أو لا يكون منتقلا فإن كان منتقلا فهو متحرك وإلا فهو ساكن
فإن قلت ثبوت الانتقال وسلبه فرع قبوله
(4/158)
قيل لك هذا التقسيم معلوم بالضرورة في كل قائم بنفسه كما ذكرت أنه معلوم بالضرورة في كل ما سميته متحيزا وحيزه عدم محض فإنه إذا لم يكن إلا الانتقال وعدم الانتقال فالانتقال هو الحركة وعدمه هو السكون
وإذا قلت هذا متقابلان تقابل العدم والملكة فلا بد من ثبوت القبول
كان الجواب من وجوه
أحدها أن يقال لك مثل هذا فيما سميته متحيزا
الثاني ان يقال هذا اصطلاح اصطلحته وإلا فكل ما ليس بمتحرك وهو قائم بنفسه فهو ساكن كما أن كل ما ليس بحي فهو ميت
الثالث ان يقال هب أن الأمر كذلك ولكن إذا اعتبرنا الموجودات فما يقبل الحركة أكمل مما لا يقبلها فإذا كان عدم الحركة عما من شأنه ان يقبلها صفة نقص فكونه لا يقبل الحركة اعظم نقصا كما ذكرنا مثل ذلك في الصفات
(4/159)
ونقول رابعا الحركة الاختيارية للشيء كمال له كالحياة ونحوها فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى تتحرك أصلا كانت الأولى أكمل
ويقول الخصم رابعا قوله لم لا يجوز أن يكون متحركا قولك الحركة حادثة
قلت حادثة النوع أو الشخص الأول ممنوع والثاني مسلم
وقولك ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث إن أريد به ما لا يخلو عن نوعها فممنوع والثاني لا يضر وأنت لم تذكر حجة على حدوث نوع الحركة إلا حجة واحدة وهو قولك الحادث لا يكون أزليا وهي ضعيفة كما عرف
إذا لفظ الحادث يراد به النوع ويراد به الشخص فاللفظ مجمل كما أن قول القائل الفاني لا يكون باقيا لفظ مجمل فإن أراد به أن القائم بنفسه لا يكون باقيا فهو حق وإن أراد به ما كان فاني الأعيان لا يكون نوعه باقيا فهو باطل فإن نعيم الجنة دائم باق مع أن كل أكل وشرب ونكاح وغير ذلك من الحركات تفنى شيئا بعد شيء وإن كان نوعه لا يفنى
وأما قوله في الوجه الثاني إن اختصاصه بحيزه إما أن يكون لذاته أو لمخصص من خارج
(4/160)
فيقال أتعني بالحيز شيئا معينا موجودا أو شيئا معينا سواء كان موجودا أو معدوما أو شيئا مطلقا فإن عنيت الأول فالرب سبحانه لا يجب أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار عند المنازع بل ولا عند طائفة معروفة وإن عنيت الثاني لم يسلم المنازع كونه متحيزا بهذا الاعتبار وإن عنيت الثالث فيقال لك حينئذ فليس اختصاصه بحيز معين من لوازم ذاته بل هو باختياره وإذا كان يخصص بعض الأحياز بما شاء من مخلوقاته فتصرفه بنفسه أعظم من تصرفه بمخلوقاته
وأما قولك ليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى
فكلام ساقط لوجوه
أحدها أن الله يخص ما شاء من الأحياز بما شاء من الجواهر ولا يقال ليس هذا أولى من هذا فكيف يقال إنه ليس أولى من بعض مخلوقاته بما هو قادر عليه مختار له
والثاني أن يقال فما من جوهرإلا وله حيز يختص به دون غيره من الجواهر سواء قيل إنه حيزه الطبيعي أو لا فعلم أن مجرد الاشتراك في الجوهرية لا يستلزم الاشتراك في كل حيز
(4/161)
الثالث أن كل جوهر مختص عن غيره بصفة تقوم به ومقدار يخصه مع اشتراكها في الجوهرية فكيف لا يختص بحيزه
الرابع أن الحيز ليس أمرا وجوديا وإنما هو امر عدمي والجواهر الموجودة لا بد أن يكون لبعضها نسبة إلى بعض بالعلو والسفول والتيامن والتياسر والملاقاة والمباينة ونحو ذلك وكل منها مختص من ذلك بما هو مختص به لا تشاركه فيه سائر الجواهر فكيف يجب أن يشارك المخلوق لخالقه
الخامس أن هذا مبني على تماثل الجواهر وهو ممنوع بل هو مخالف للحس وسيأتي كلامه في إبطاله
السادس أنا لو فرضنا الجواهر متماثلة فالمخصص لكل منها بما يختص به هو مشيئة الرب وقدرته وإذا كان بقدرته ومشيئته يصرف مخلوقاته فكيف لا يتصرف هو بقدرته ومشيئته كماأخبرت عنه رسله وكما أنزل بذلك كتبه حيث أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وأمثال ذلك من النصوص
وأما قوله إن كان غير متحيز أن يكون كل جوهر غير متحيز
فعنه جوابان
أحدهما أن يقال له ولأمثاله كالرازي والشهرستاني ونحوهما من
(4/162)
المتأخرين الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية أو قالوا إنه دليل على نفي ذلك أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين للرسل فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم فقلتم لا نعلم دليلا على نفيها أو قلتم بإثباتها وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها والدلائل العقلية السليمة عن المعارض وقالوا إن الخالق تعالى فوق خلقه سعيتم في نفي لوازم هذا القول وموجباته وقلتم لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته فإن كان هذا القول حقا فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة وإن كان باطلا فلا تعارضوا به المسلمين أما كونه يكون حقا إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمون ويكون باطلا إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين وحسن النظر والمناظرة عقلاوشرعا
والجواب الثاني انك قلت في أول هذا الوجه إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها ههنا أو هناك أو لاتكون قابلة ثم قلت فإن كان الأول فيكون متحيزا فكان حقك ان تقول وإن لم تكن ذاته قابلة
(4/163)
للإشارة إليه إذا لزم في كل جوهر أن لا يكون مشارا إليه وأن لا يكون متحيزا
وإذا قلت ذلك قيل لك إثبات هؤلاء جوهرا لا يشار إليه هو قول المتفلسفة الذين يثبتون جواهر لا يشار إليها وقول النصارى الذين ينفون العلو وحينئذ فيقولون لا نسلم أن كل جوهر فإنه يجب ان [ يكون ] مشارا إليه وأنت قد اعترفت في بحثك مع الفلاسفة بهذا وهذا القول وإن كان باطلا لكن المقصود تبيين ضعف حجج هؤلاء النفاة نفيا يستلزم نفي الصفات
ويقال لك إثبات جوهر لا يشار إليه كإثبات قائم بنفسه لا يشار إليه
وإن قال انا ذكرت هذا لنفي كونه جوهرا كالجواهر
فيقال من قال هذا يقول هو جوهر كالجواهر التي يدعي إثباتها من يقول بإثبات الجواهر العقلية المجردة فإنه هو جوهر كالجواهر العقلية المجردة فمن نفى هذه الجواهر أبطل قولهم وإلا فلا
(4/164)
قال الآمدي الخامس أنه لو كان جوهرا كالجواهر لما كان مفيدا لوجود غيره من الجواهرفإنه لا أولوية لبعض الجواهر بالعلية دون بعض ويلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الجواهر معلولا أو [ أن يكون ] كل جوهر معلولا للآخر والكل محال فإن قيل الجواهر وإن تماثلت في الجوهرية إلا أنها متمايزة ومتغايرة بامور موجبة لتعين كل واحد منها عن الآخر وعند ذلك فلا مانع من اختصاص بعضها بامور واحكام لا وجود لها في البعض الاخر ويكون ذلك باعتبار ما به التعين لا باعتبار ما به الاشتراك فنقول والكلام في اختصاص كل واحد بما به التعين كالكلام في الأول فهو تسلسل ممتنع فلم يبق إلا أن يكون اختصاص كل واحد من المتماثلات بما اختص به لمخصص من خارج وذلك على الله محال
(4/165)
قلت ولقائل أن يقول قوله لو كان جوهرا كالجواهر إن عني به أنه لو كان جوهرا مماثلا للجواهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم ينفعه هذا لوجوه
أحدها أن هذا لا يقوله عاقل يتصور ما يقول لما فيه من الجمع بين النقيضين كما تقدم
الثاني أنه إذا كان يقتضي هذا أنه يماثل كل جوهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم يلزم انتفاء مشابهته له من بعض الوجوه فإن نفى التماثل في مجموع هذه الأمور يكون بانتفاء التماثل في واحد من أفرادها فإذا قدر أنه خالف غيره في فرد من أفراد هذه الأمور لم يكن مثله في مجموعها ولكن ذلك لا ينفى مماثلته في فرد آخر وحينئذ فلا يكون قول القائل هو جوهر لا كالجواهر صحيحا ولا يكون النزاع معه في اللفظ بل لا بد أن ينفى عنه مماثلة المخلوقات في كل ما هو من خصائصها
الثالث أنه على هذا التقدير يكون مشابها لها من وجه مخالفا من وجه وليس في كلامه ما يبطل ذلك بل قد صرح في غير هذا الموضع بأن هذا هو الحق
فقال في مسألة حدوث الأجسام لما ذكر حجة القائلين
(4/166)
بالقدم قال الوجه العاشر أنه لو كان العالم محدثا فمحدثه إما أن يكون مساويا له من كل وجه او مخالفا له من كل وجه فإن كان الأول فهو حادث والكلام فيه كالكلام في الأول ويلزم التسلسل الممتنع وإن كان الثاني فالمحدث ليس بموجود وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه وهو خلاف الفرض وإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون موجبا للموجودكما سبق وإن كان الثالث فمن جهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا والكلام فيه كالأول وهو تسلسل محال وهذه المحالات إنما لزمت من القول بحدوث العالم فلا حدوث
ثم قال في الجواب وأما الشبهة العاشرة فالمختار من أقسامها
(4/167)
إنما هو القسم الأخير ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحوادث من وجه أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا بل لا مانع من الاختلاف بينهما في صفة القدم والحدوث وإن تماثلا بأمر آخر وهذا كما أن السواد والبياض مختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه وإلا لما اشتركا في العرضية واللونية والحدوث واستحالة تماثلهما من كل وجه وإلا كان السواد بياضا ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة البياضية
وإن عني به أنه لو كان جوهرا مماثلا في مسمى الجوهرية فهذا مثل أن يقال لو كان حيا مماثلا للأحياء في مسمى الحيية او عالما مماثلا للعلماء في مسمى العالمية أو قادرا مماثلا للقادرين في مسمى القادرية أو موجودا مماثلا للموجودات في مسمى الموجودية وحينئذ فموافقته في ذلك لا تستلزم أن يكون مماثلا لها فيما يجب ويجوز ويمتنع إلا أن تكون الجواهر كلها كذلك
ومعلوم أن من يقول هو جوهرلا يقول إن الجواهر متماثلة بل يقول إنه مخالف لغيره بل جمهور العقلاء يقولون إن
(4/168)
الجواهر مختلفة في الحقائق وحينئذ فتبقى هذه الوجوه موقوفة على القول بتماثل الجواهر والمنازع يمنع ذلك بل ربما قال العلم باختلافها ضروري
ودعوى تماثلها مخالف للحس والعلم الضروري فإنا نعلم أن حقيقة الماء مخالفة لحقيقة النار وأن حقيقة الذهب مخالفة لحقيقة الخبز وأن حقيقة الدم مخالفة لحقيقة التراب وأمثال ذلك وأن اشتراكهما في كونها جوهرين هو اشتراكهما في كونهما قائمين بأنفسهما أو متحيزين أو قابلين للصفات وهذا اشتراك في بعض صفاتهما لا في الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات
الثالث إنه إن أراد بقوله إنه جوهر كالجواهر أنه مماثل لكل جوهر في حقيقته ويجوز عليه ما يجوز على كل جوهر فهذا لا يقوله عاقل وإنما أراد المنازع انه إما قائم بنفسه وإما متحيز وإما نحو ذلك من المعاني التي يقول إن الاشتراك فيه كالاشتراك في كون كل منها حيا عالما قائما بنفسه ونحو ذلك فيبقى النزاع في أن مسمى الجوهر عند هؤلاء يقتضي تماثل أفراده
وهؤلاء يقولون لا بل هو اسم لما تختلف أفراده وفي أن هؤلاء يقولون الاشتراك في التحيز الاصطلاحي يقتضي التماثل في الحقيقة وهؤلاء ينفون ذلك
(4/169)
ومعلوم عند التحقيق أن قول النفاة للتماثل هو الحق كما قد بسط في موضعه
وهؤلاء يقولون قولنا جوهر كقولكم ذات قائمة بنفسها ونحو ذلك
فتبين أن ما ذكره من الدليل على نفي الجوهر هو دليل على نفي ما اتفقت الطوائف على نفيه فإن أحدا من العقلاء لا يقول إنه جوهر بمعنى مماثلته لكل قائم بنفسه فيما يجب ويجوز ويمتنع وما قاله المثبتة منه ما سلم لهم معناه ومنه ما لا حجة له على نفيه إلا حجته على نفي الجسم وحينئذ فيكون الكلام في نفي الجوهر مفرعا على الكلام في نفي الجسم
وقوله إن الوجوه الأربعة التي نفي بها الجوهر ينفي [ بها ] الجسم لا يستقيم فإنه إنما نفى بها الجوهر بمعنى أنه مماثل لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا مما يسلمه له من يقول إنه جوهر وجسم فإقامة الدليل عليه نصب للدليل في غير محل النزاع لم ينف بها الجوهر بالمعنى الذي يثبته من قاله
وحرف المسألة أن كلامه مبني على تماثل الجواهر ومن يقول ذلك لا يقول إنه جوهر ولا جسم فالكلام في هذا الباب فرع
(4/170)
على تلك المسألة ولو كان هذا صحيحا لكان العلم بحدوث الأجسام وإمكانها من أسهل الأمور فإن بعضها محدث بالمشاهدة والمحدث ممكن فإذا كانت متماثلة جاز على كل واحد منها ما جاز على الآخر فيلزم إما حدوثها وإما إمكان حدوثها وعلى التقديرين يحصل المقصود
والنافي لتماثلها لا يقول السؤال الذي أورده إنها متماثلة في الجوهرية لكنها متمايزة ومتغايرة بأمور موجبة للتعين هو الموجب للاختصاص بل يقول إنها مختلفة بحقائقها وأنفسها لكنها تشابهت في كونها قائمة بأنفسها أو كونها متحيزة قابلة للصفات وهذا معنى اتفاقها في الجوهرية كما ذكره هو في الاعتراض على دليل القائلين بتماثلها
ويقول أيضا إن الأمور المتماثلة من كل وجه لا يجوز تخصيص أحدها بما يتميز به عن الآخر إلا لمخصص وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح ومشيئة الله تعالى ترجح أحد الأمرين لحكمة تقتضي ذلك وتلك الحكمة مقصودة لنفسها وإلا فنسبة الإرادة إلى المتماثلين سواء وتلك الحكمة المرادة تنتهي إلى حكمة تراد لنفسها كما بسط في موضعه
(4/171)
وأيضا فإن قول القائل إن هذه الجواهر المشهودة متماثلة في الحقيقة ولكن الفاعل المختار خص كلا منها بصفات تخالف بها الآخر يقتضي أن لها حقيقة مجردة عن جميع الصفات التي اختلفت فيها فيكون الماء المشهود له حقيقة غير هذا الماء المشهود والنار المشهودة لها حقيقة غير هذه النار المشهودة ويكون مخالفا ما خالف به هذا لهذا في الماء والنار أمرا عارضا لتلك الحقيقة لا صفة ذاتية لها ولا لازمة
وهذا مكابرة للحس [ وأيضا ] فعلى هذا القول لا يكون لشيء من الموجودات صفة ذاتية ولا صفة لازمة لذاته أصلا بل كل صفة يوصف بها عارضة له يمكن زوالها مع بقاء حقيقته لأن كل ما اختلفت به الأعيان أمر عارض لها ليس بداخل في حقيقتها عند من يقول بتماثل الجواهر والأجسام وحينئذ فيكون الإنسان الذي هو حيوان ناطق يمكن زوال كونه حيوانا وكونه ناطقا مع بقاء حقيقته وذاته وكذلك الفرس يمكن زوال حيوانيته وصاهليته مع بقاء حيقته وذاته وهكذا كل الأعيان
ثم يقال إذا قدرنا عدم هذه الصفات التي هي لازمة للأنواع وذاتية لها لم يبق ما يعقل كونه جوهرا لا مماثلا ولا مخالفا فإنا إذا نظرنا إلى هذا الإنسان وقدرنا انه ليس بحي ولا ناطق ولا ضاحك
(4/172)
ولا حساس ولا متحرك بالإرادة لم يعقل هنالك جوهر قائم بنفسه غيره تعرض له هذه الصفات بل إثبات ذلك النوع من الخيال الذي لا حقيقة له وهذا الخيال في الجواهر المحسوسة نظير خيال من أثبت الجواهر المعقولة لكن تلك محلها العقل وهذه محلها الخيال فإنا يمكننا تقدير هذا الشكل مع عدم كونه حيوانا ناطقا لكن حينئذ يكون المقدر شكلا مجردا هو عرض من الأعراض وهو الذي يسمى الجسم التعليمي كما نقدر أعدادا مجردة عن المعدودات وهذه المقادير المجردة والأعداد المجردة لا وجود لها إلا في الأذهان واللسان وكل جسم موجود له قدر يخصه وهذه هي الجسمية والجوهرية التي يثبتها من يقول بعدم تماثل الجواهر وهي نظير الصورة الجسمية التي هي عرض من أعراض الجسم التي يثبتها من يقول بالمادة والصورة فدعوى أولئك أن الصورة الجسمية جوهر وأن المادة جوهر آخر هو نظير دعوى هؤلاء أن الصور الجسمية جواهر متماثلة وليس هنا إلا هذه الأعيان القائمة بأنفسها وما قام بها من الصفات والمقادير التي هي أشكالها وصورها ثم من العجيب أن هؤلاء المتكلمين المتأخرين كأبي حامد
(4/173)
والشهرستاني والرازي والآمدي وأمثالهم ممن يوافق أهل المنطق على صحة المنطق يوافقون أهل المنطق فيما يدعونه من انقسام صفات الجواهر والأجسام إلى ذاتي وعرضي وانقسام العرضي إلى لازم للماهية وعارض لها وانقسام العارض إلى لازم ومفارق مع ما في هذا الكلام من الخطأ فإن الصفات في الحقيقة إنما تنقسم إلى لازم للماهية وعارض لها
وأما تقسيم اللازم إلى ذاتي وعرضي وإثبات شيئين في هذه الأعيان أحدهما الذات والثاني هذا الموجود المشاهد فكلام باطل كما قد بسط في موضعه
ثم إنهم في قولهم بتماثل الجواهر والأجسام يدعون أن جميع صفات الأجسام التي تختلف بها إنما هي عارضة لها قابلة لزوالها ليس منها شيء لازم للحقيقة ولا هو من موجبات الذات ومقتضياتها فيا سبحان الله أين ذلك التلازم الذي غلوتم فيه حتى تجعلون الحقيقة مؤلفة من صفاتها الذاتية وتقولون إن الذات هي المقتضية للوازم ولوازم اللوازم
وهنا يقولون ليس لهذه الأعيان حقيقة قائمة بنفسها إلا ما تشترك فيه وليس لشيء منها لازم يخصه ولا لازم يفارق
(4/174)
به غيره بل ليست اللوازم إلا ما لزم جميع ما يسمى جوهرا وجسما
وهذا المعنى قد رأيت منه عجائب لهؤلاء النظار يتكلم كل منهم مع كل قوم على طريقتهم بكلام يناقض ما تكلم به على طريقة أولئك مع تناقض كل من القولين في نفس الأمر وهذا إما أن يكون لكونه لم يفهم أن هذا المعنى الذي أثبته بهذه العبارة هو الذي نفاه بتلك فلا يكون قد تصور حقيقة ما يقول بل تصور ما يتقيد باللفظ بحيث إذا خرج المعنى عن ذلك اللفظ لم يعرف أنه هو وهذا قبيح بمن يدعي النظر في العقليات المحضة التي لا تتقيد بلغة ولا لفظ وإما أن يكون مع نسيانه وذهوله في كل مقام لما قاله في المقام الآخر وهذا أشبه أن يظن بمن له عقل وتصور صحيح لكنه يدل على أن له في المسألة قولين وأنه يقول في كل مقام ما ترجح عنده في ذلك المقام لا يمشي مع الدليل مطلقا بل يتناقض وإما ان يكون مع فهمه التناقض وحينئذ فإما لا يبالي بتناقض كلامه وإما أن يرجح هذا في هذا الموطن وهذا في هذا الموطن
(4/175)
فصل
ومن العجب ان كلامه وكلام أمثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام وقد ذكر النزاع فيتماثل الأجسام وأن القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على أنه مركبة من الجواهر لمنفردة وأن الجواهر متماثلة ثم إنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر أنه لا دليل على تماثلها فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاما بلا علم بل بخلاف الحق مع أنه كلام في الله تعالى
وقد قال الله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ سورة الأعراف 33 ] وقال تعالى عن الشيطان { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ سورة البقرة 169 ] قال في كتابه هذا الكبير الفصل الرابع في أن الجواهر متجانسة غير متحدة اتفقت الأشاعرة وأكثر المعتزلة على أن الجواهر متماثلة متجانسة وذهب النظام والنجار من المعتزلة بناء على قولهما
(4/176)
بتركب الجواهر من الأعراض إلى ان الجواهر إن تركبت من الأعراض المختلفة فهي مختلفة ولهذا فإنا ندرك الاختلاف بين بعض الجواهر كالاختلاف الواقع بين النار والهواء والماء والتراب ضرورة كما يدرك الاختلاف بين السواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وسائر الأعراض المختلفة
قال وهو باطل اما كون الجواهر مركبة من الأعراض فيما سبق وأما ما ندركه من الاختلاف بين الجواهر كالأمثلة المضروبة فلا نسلم أنه عائد إلى اختلاف الجواهر في أنفسها بل هو عائد إلى الأعراض القائمة واختلاف الأعراض لا يدل على اختلاف المعروض له في نفسه
قلت النجار ليس هو من المعتزلة بل هو رأس مقالة وهو يخالف المعتزلة في القدر فيثبته وفي غير ذلك من أصول المعتزلة لكنه
(4/177)
يوافقهم على نفي الصفات ويخالفهم أيضا في تماثل الأسماء والأحكام والوعيد
وجمهور الناس على أن الأجسام مختلفة من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم وقد ذكر الأشعري في مقالاته النزاع في ذلك
والمقصود هنا اعترافه بأنه لا حجة للقائلين بالتماثل فإنه قال فإن قيل ما ذكرتموه وإن دل على إبطال ماخذ القائلين بالاختلاف فما دليلكم في التماثل والتجانس فلئن قلتم دليل التماثل اشتراك جميع الجواهر في صفات نفس الجوهر وهي التحيز وقبول الأعراض والقيام بنفسه فنقول وما المانع من كون الجواهر مختلفة بذواتها وإن اشتركت فيما ذكرتموه من الصفات فإنه لا مانع من اشتراك المختلفات في عوارض عامة لها وإنما يثبت كون ما ذكرتموه صفات نفس الجوهر أن لو لم يكن الجواهر مختلفة وهذه أعراض عامة لها وإنما يمتنع كون الجواهر مختلفة وأن هذه اعراض
(4/178)
عامة لها أن لو كانت هذه الصفات صفات نفس الجوهر وهو دور ممتنع قال واعلم أن طرق أهل الحق في إثبات المجانسة وإن اختلفت عباراتها فكلها آيلة إلى ما ذكر وما قيل عليه من الإشكال فلازم لا مخلص منه إلا بأن يقال نحن لا نعني بتجانس الجواهر غير كونها مشتركة فيما ذكرناه من الصفات وعند ذلك فحاصل النزاع يرجع إلى التسمية لا إلى نفس المعنى
قلت فهذا قوله مع اطلاعه على طرق القائلين بالتجانس ورغبته في نصرهم لو امكنه فذكر ان جميع ما ذكروه من الطرق يرجع إلى ما ذكره وهو مما يعلم بالاضطرار أن لا يدل على تماثلها بل يدل على اشتراكها في معنى من المعاني وليس جعل ما به من الاشتراك هو الذات وما به الاختلاف من الصفات بأولى من العكس وهذا على سبيل التنزل وإلا فنحن نعلم بالضرورة والحس واختلاف الأجسام المختلفة كما نعلم اختلاف الأعراض المختلفة وما ذكره من أن الاختلاف عائد إلى الأعراض لا إلى المعروض فمخالفة للحس فإن نفس النار مخالفة للماء ليس مجرد حرارة النار هي المخالفة لبرودة الماء بل
(4/179)
نحن نعلم أن النار تخالف الماء أعظم مما نعلم أن الحرارة تخالف البرودة وذلك أن الحرارة والبرودة بينهما من الاشتراك في الكيفيات مثل كون كل منهما عرضا قائما بغيره وهو صفة محسوسة باللمس وكذلك بين السواد والبياض من الاشتراك في العرضية واللونية والقيام بالغير والرؤية بالبصر وغير ذلك من الصفات اعظم من الاشتراك بين الماء والنار فإن الاشتراك بينهما هو في القدر ونحو ذلك من الكميات والاشتراك في الكيفية أعظم من الاشتراك في الكمية فإذا كان ذلك لا يوجب التماثل فذاك بطريق الأولى
وأيضا فالحرارة قد تنكسر بالبرودة فيمثل الفاتر فإنه لا يبقى حارا كحرارة النار ولا باردا برودة الماء المحض وأما نفس الماء والنار فلا يجتمعان وأيضا فالآعراض المختلفة تشترك في محل واحد واما نفس الأقسام فلا تشترك في محل واحد وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان اعتراف هؤلاء بفساد الأصول التي بنوا عليها ما خالفوه من النصوص وبيان تناقضهم في ذلك وأنهم يقولون إذا تكلموا في المنطق وغيره بما يناقض كلامهم هنا ويبعد أو يمتنع في العادة أن يكون هذا لمجرد اختلاف الاجتهاد مع الفهم التام في الموضعين بل يكون لنقص كمال الفهم والتصور وخوفا أن لا يكون القولان متنافيين فلا يهجم بإثبات التناقض أو لنوع من الهوى
(4/180)
والغرض ولو لم يكن إلا مراعاة الطائفة التي يتكلم باصطلاحها أن لا يخالفها فيما هو من مشهورات أقوالها ولعل كلا الأمرين موجود في مثل هذه المعاني التي تعبر عنها العبارات الهائلة ولها عند أصحابها هيبة ووهم عظيم والكلام على هذه الأمور مبسوط فيغير هذا الموضع
والمقصود هنا نوع تنبيه على ان ما يدعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح وإنما هي من باب القعقعة بالشنان لمن يفزعه ذلك من الصبيان ومن هو شبيه بالصبيان وإذا أعطى النظر في المعقولات حقه من التمام وجدها براهين ناطقة بصدق ما أخبر به الرسول وأن لوازم ما اخبر به لازم صحيح وأن ما نفاه نفاه لجهله بحقيقة الأمر وفزعا باطنا وظاهرا كالذي يفزع من الآلهة المعبودة من دون الله أن تضره ويفزع من عدو الإسلام لما عنده من ضعف الإيمان
قال تعالى عن الخليل صلوات الله عليه { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } [ سورة الأنعام 80 )
(4/181)
81 ] قال الله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } [ سورة الأنعام 82 ]
ومن خالف الرسل لا يسلم من الشرك والإفك { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين } [ سورة الصافات 180 182 ] { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } [ سورة الأعراف 152 ] قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة
وما أشبه هؤلاء في رعبهم من الألفاظ الهائلة التي لم يعلموا حقيقتها بمن رأى العدو المخذول فلما رأى لباسهم رعب منهم قبل تحقق حالهم ومن كشف حالهم وجدهم في غاية الضعف والعجز ولكن قال تعالى { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } [ سور ة آل عمران 151 ]
وبسط هذا يطول والمقصود التنبيه فهذا ما ذكره في الجوهر وأما الجسم فإنه اعتمد في نفيه على هذه الوجوه الأربعة في الجوهر وقد عرف حالها
وقال ويختص الجسم بأربعة أوجه الأول أنه إذا ثبت أن
(4/182)
الرب غير متصف بكونه جوهر امتنع أن يكون متصفا بكونه جسما لأن الجسم مركب من الجواهر ومفتقر إليها ويلزم من انتفاء ما لابد منه في كونه جسما أن لا يكون جسما
قلت هذا الوجه بين الضعف وذلك أنه لو قدر انتفاء كون الشيء جوهرا منفردا لم يلزم أن لا يكون جسما مؤلفا من الجواهر فإن الأجسام جميعها كل ما عنده ليس جوهرا منفردا مع كونها مؤلفة من الجواهر وهو لم يقم دليلا على نفي كونه جوهرا ولا نفى ما يستلزم الجوهر
وهذا كما لو أقام دليلا على أنه ليس بعلم أو قدرة أو كلام أو مشيئة لم يستلزم ذلك أن لا تكون هذه من لوازمه فنفى كون الشيء أمرا من الأمور غير نفى كونه ملزوما لذلك الأمر
وأيضا فيقال أنت لم تقم دليلا على كون الجواهر متماثلة بل صرحت بأنه لا دليل على ذلك فبطل ما ذكرته في نفى الجوهر وأيضا فيقال لفظ الجوهر فيه إجمال وله عدة معان
(4/183)
أحدها الجوهر الفرد وعلى هذا فالجسم ليس بجوهر وفي كونه مركبا منه نزاع والثاني المتحيز وعلى هذا فالجسم جوهر ومن نفى الجوهر الفرد قال كل جسم جوهر وكل جوهر جسم ومن أثبته قال الجوهر أعم من الجسم
والثالث الجواهر العقلية عند من يثبت جوهرا ليس بمتحيز كالعقول والنفوس والمادة والصورة فإن هؤلاء المتفلسفة المشائين يدعون أن الجواهر خمسة أقسام وجمهور العقلاء يدفعون هذا ويقولون هذه الأمور التي سميتموها جواهر عقلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان
وقد يراد بالجوهرما هو قائم بنفسه فمن كان الجوهر أعم عنده من الجسم فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص وكذلك من كان الجوهر عنده مرادفا للجسم وأما من كان الجوهر عنده لا يتناول معنى الجسم مثل أن يقدر أنه لايستعمل لفظ الجوهر إلا في الفرد فهذا لا يلزم من نفى كونه جوهرا نفى كونه جسما إلا بالحجة التي ذكرها وهو أن يقال الجسم مركب من الجواهر فالحجة لا تستقيم إلا على تقدير ثبوت هذا الاصطلاح مع أني لا أعرفه اصطلاحا لأحد مطلقا
(4/184)
ولكن بعض الناس قد يخص به الفرد مع أنه هو وغيره دائما يسمون الجسم جوهر
ولهذا قال الآمدي وغيره في نفي كونه جوهرا إما أن يكون قابلا للتحيزية فيكون جسما مركبا وإما أن لا يكون قابلا للتحيزية فيكون في غاية الصغر والحقارة وكثيرا ما يقع في كلامهم لفظ الجوهر متناولا للجسم وكثيرا ما يقع مختصا بالفرد فما ذكره أولا في نفي الجوهر بالمعنى العام فالجسم يدخل فيه فإن صح ما ذكره صح نفي الجسم لكن قد عرف ضعفه
وأما إذا كان المنفى هو الجوهر الفرد فقط فيحتاج أن يقول إن الجسم مركب منه لينفى الجسم لكن هذا فيه نزاع معروف وأكثر الناس على أنه ليس بمركب من الجواهر المنفردة وهو الصواب كما قد بسط في موضعه
فمن الناس من يقول إنه مركب من جواهر متناهية لا تقبل القسمة بوجه من الوجوه حتى ولا بالوهم ومنهم من يقول هو مركب من جواهر غير متناهية كذلك ومنهم من يقول هو مركب من الهيولي والصورة لكنه يقبل القسمة إلى غير نهاية ومنهم من يقول ليس بمركب لكنه يقبل التقسيم إلى الجواهر المنفردة التي لا تتجزأ
(4/185)
ومنهم من يقول بل كل موجود فلا بد أن يتميز منه شيء عن شيء فلا يتصور وجود جوهر لا يتميز منه شيء عن شيء لكن إذا تصغرت الأجزاء استحالت وقد لا تقبل القسمة الفعلية بل إذا قسمت استحالت كما في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تصير هواء فهي وإن كان يتميز منها شيء عن شيء لكن ليس لها من القوة ما يحتمل الانقسام الفعلي بل تستحيل إذا أريد بها ذلك وعلى هذا القول فلا نثبت شيئا لا يتميز منه جانب عن جانب ولا يثبت ما لا نهاية له في ضمن ما لا يتناهى ولا انقسام إلى غير نهاية بل كل موجود فإنه يتميز منه شيء عن شيء وهو قد يستحيل قبل وجود الانقسامات التى لا تتناهى فتزول بهذا القول الإشكالات الواردة على غيره مع أنه مطابق للواقع فتبين ضعف هذا الوجه
قال الآمدى الثاني أنه قد ثبت أن الرب متصف بالعلم والقدرة وغيرهما من الصفات فلو كان جسما كالأجسام لزم من اتصافه بهذه الصفات المحال وذلك من وجهين الأول أنه لو
(4/186)
اتصف بهذه الصفات فإما أن يكون كل جزء من أجزائه متصفا بجميع الصفات وإما أن يكون المتصف بجملتها بعض الأجزاء وإما أن يكون كل جزء مختصا بصفة وإما أن تقوم كل صفة من هذه الصفات مع اتحادها بجملة الأجزاء فإن كان الأول يلزم منه تعدد الآلهة وأما الثاني فهو ممتنع لأنه لا أولويه لبعض تلك الأجزاء بأن يكون هو المتصف دون الباقي ولأنه يلزم أن يكون الإله هو ذلك الجزء دون غيره لأن حكم العلة لا يتعدى محلها وإن كان الثالث فلا أولوية أيضا وإن كان الرابع فهو محال لما فيه من قيام المتحد بالمتعدد
ولقائل أن يقول الاعتراض على هذا من وجوه الأول قولك لو اتصف بكل واحدة من هذه الصفات فإما أن يكون كل جزء من أجزائه متصفا بجميع هذه الصفات إلى آخره فرع على ثبوت الأجزاء وذلك ممنوع فلم قلت إن كل ما هو جسم فهو مركب من الأجزاء فإن هذا مبنى على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة وهذا ممنوع
(4/187)
وجمهور العقلاء على خلافه وهولم يثبته هنا بالدليل فيكفي مجرد المنع وبسط ذلك في موضعه وكل من أمعن في معرفة هذا المقام علم أن ما ذكروه من أن الجسم مركب من جواهر مننفردة متشابهة عرض لها التركيب أو من مادة وصورة وهما جوهران من أفسد الكلام وإذا كان كذلك أمكن أن يكون كل من الصفات القائمة بجميع المحل شائعة في جميع الموصوف ولا يلزم أن يكون الواحد قام بأجزاء بل القول في الصفة الحالة كالقول في المحل الذى هو الموصوف
الوجة الثاني أن يقال القول في وحدة الصفة وتعددها وانقسامها وعدم انقسامها كالقول في الموصوف وسواء في ذلك الصفات المشروطة بالحياة كالقدرة والحس بل والحياة نفسها أو التي لا تشترط بالحياة كالطعم واللون والريح فإن طعم التفاحة مثلا شائع فيها كلها فإذا بعضت تبعض ولا يقال إنها قام طعم واحد بجملة التفاحة بل إن قيل إن التفاحة أجزاء كثيرة قيل قام بها طعوم كثيرة وإن قيل هي شيء واحد قيل قام بها طعم واحد فإن
(4/188)
قيل فهذا هو التقدير الأول وهو اتصاف كل جزء من هذه الأجزاء بجميع هذه الصفات قيل ليس كذلك أما أولا فلمنع التجزى وأما ثانيا فلأنه لم يقم بكل جزء إلا جزء من الصفة القائمة بالجميع لم تقم جميع الصفة بكل جزء وحينئذ فيبطل التلازم المذكور وهو كون كل جزء إلها فإن الإله سبحانه هو المتصف بأنه بكل شيء عليم وهو على كل شيء قدير أما إذا قدر موصوف قام به جزء من هذه القدرة لا تنقسم هي ولا محلها لم يلزم أن يكون ذلك الجزء قادرا فضلا عن أن يكون ربا إذ القادر لا يجب أن يكون من قام به جزء من القدرة ولا الحى من قام به جزء من الحياة ولا العالم من قام به جزء من العلم فإن قيل كيف يعقل انقسام القدرة والحياة والعلم قيل كما يقعل انقسام محل هذه الصفات فإن الإنسان تقوم حياته بجميع بدنه وكذلك الحس والقدرة تقوم ببدنه وغيرهما من صفاته فكما أن بدنه ينقسم فالقائم ببدنه ينقسم
فإن قيل إذا انقسم لم يبق قدرة ولا علما ولا حياة
(4/189)
قيل وكذلك المحل لا يبقى يدا ولا عضوا لا قادرا ولا حيا ولا عالما ولا حساسا فإن الجزء المنفرد بتقدير وجوده هو أحقر من أن يقال إنه يد أو عضو أو بدن حى عالم قادر فكيف يقال فيه إنه إله
الوجه الثالث أن ما ذكروه معارض بقيام هذه الصفات في الأنسان فإن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس ولم نذكر العلم ولا نحتاج أن نقول كما قالت المعتزلة إن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء في الجملة عاد حكمها إلى جميع الجملة بل نذكر من الأعراض ما يعلم قيامه بالبدن الظاهر كالحياة والحس والحركة والقدرة فإن هذا التقسم الذى ذكروه يرد عليه فإنه إن قيل إن كل جزء من أجزائه متصف بهذه الصفات لزم تعدد الإنسان وإن كان المتصف بجملتها بعض الأجزاء فلا أولوية ولزم أن لا يتعدى حكم الصفة محلها
والتقدير أن ظاهر البدن كله حى حساس وإن قيل إن كل واحد يختص بصفة فهو معلوم الفساد بالضرورة مع أنه لا أولوية
(4/190)
وإن قيل تقوم الصفة الواحدة بالجملة لزم قيام الواحد بالمتعدد فإذا كان هذا التقسيم واردا على ما يعلم قيام الصفات به ولم ينف قيامها به علم أنها حجة باطلة
الوجة الرابع قوله والرابع محال لأنه يلزم ( منه ) قيام المتحد بالمتعدد
فيقال لا نسلم التلازم فإن هذا القيام مبناه على أنه حينئذ يقوم الواحد بالمتعدد فإنه فرض قيام علم واحد وقدرة واحدة وحياة واحدة بجملة أجزاء وهذا الأصل فاسد فإن المعلوم من وحدة الصفة الحالية وتعددها هو المعلوم من وحدة المحل وتعدده فالحياة القائمة بجسم حى إذا قيل هي حياة واحدة قيل هو حى واحد وإذا قيل الحى أجزاء متعددة قيل الحياة أجزاء متعددة فالحال ومحله سواء في الاتحاد والتعدد وحينئذ فقولهم إنه قام المتحد بالمتعدد كلام باطل بل ما
(4/191)
فسروا به الاتحاد في أحدهما كان موجودا في الآخر وما فسروا به تعدد أحدهما كان موجودا في الآخر
الوجة الخامس أنا لا نسلم الحصر فيما ذكروه من الأقسام بتقدير انقسام الجسم بل من الممكن أن يقال قام كل جزء من أجزاء هذه الصفات بجزء من أجزاء الموصوف وكل جزء منه متصف بجزء من الصفة
وهذا التقسيم غير ما ذكره من الأقسام ليس فيه اتصاف كل جزء بجميع الصفة ولا المتصف بجميعها بعض الجملة ولا كل جزء مختصا بجميع صفته ولا قيام واحد بمتعدد
فإن قال الصفة لا تنقسم ومحلها ينقسم
قيل هذه مكابرة للحس والعقل بل انقسامها بانقسام محلها يبين هذا أن من أعظم عمد مثبتى الجوهر الفرد قولهم إن الحركة قائمة بالجسم والزمان مقدار الحركة والزمان فيه الآن الذى لا ينقسم فلا ينقسم قدره من الحركة فلا ينقسم الجزء الذى يحلها فإنما استدلوا على وجود الجزء الذى لا ينقسم ( إلا ) بوجود جزء من الحركة لا ينقسم فعلم أن انقسام الحال عندهم كانقسام محله مع هذا معلوم بالحس والعقل
(4/192)
وكذلك المتفلسفة القائلون بأن النفس الناطقة ليست جسما عمدتهم أنه يقوم بها ما لا ينقسم وما لا ينقسم لا يقوم إلا بما لا ينقسم فقداتفقت الطوائف على أن الصفة إذا لم تنقسم كان محلها لا ينقسم
الوجه السادس أن قوله إما أن يكون كل جزء من الأجزاء متصفا بهذه الصفات
يقال له إن أردت أنه يتصف به كما تتصف به الجملة فهذا لا يقوله عاقل فإنه ليس في الأجسام ما يكون صفة جميعه صفة للجوهر الفرد منه على الوجه الذى هي به صفة لجمعيه وإن أردت أنه متصف به كما يليق بذلك الجزء فلم قلت إن ما اتصف به بالصفة على هذا الوجه يمكن انفراده عن غيره فضلا عن كونه إلها
وهذا لأنه ليس في جميع ما يعلم من الموصوفين المنفردين بأنفسهم ما هو جوهر فرد ولا في شيء مما يشاهد من الموصوفين ما هو جوهر فرد بل والجوهر الفرد بتقدير وجوده لا يحس به ولا يوجد منفردا فما كان لا يوجد وحده حتى ينضم إليه أمثاله كيف يكون حيا فضلا عن أن يكون فرسا أو بعيرا فضلا عن أن يكون إنسانا أو ملكا أو جنيا فضلا عن أن يكون إلها
(4/193)
وهل ذكر مثل هذا في حق الله إلا من أعظم الدليل على جهل قائله فإنهم لا يعلمون شيئا من الجواهر المنفردة يسمى باسم جملته لقيام الصفة بالجملة فيكف يجب في حق الله إذا قامت به صفات الكمال أن يكون بتقدير ما ذكروه يجب فيه مثل ذلك
( الوجه ) السابع أن يقال كما أنه لا يجب في كل جزء من الإنسان أن يكون إنسانا لأنه قام به من الصفات ما يقوم بالإنسان ولا في كل جزء من أجزاء الفرس وسائر الحيوان أن يكون فرسا لكونه من الجملة التي قامت بها الصفة فلماذا يجب في كل ما كان من الإله أن يكون إلها لقيام صفة الإله بالإله الموصوف كله مع أن كل واحد من الموجودات لا يكون حكم جزئه حكم كله لقيام الصفة بالجميع وهل هذا إلا من أفسد الحجج وإن كان هو من أعظم عمد النفاة
قال الوجة الثاني في بيان لزوم المحال من اتصافه بهذه الصفات هو أنه لا يخلو إما أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته أو
(4/194)
لغيره لا جائز أن يقال بالأول وإلا لزم اتصاف كل جسم بها وجوبا لذاته للتساوى في الحقيقة على ما وقع به الفرض وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا إلى ما يخصصه بصفاته والمحتاج إلى غيره في إفادة صفاته له لا يكون إليها
قلت ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته
قوله يلزم اتصاف كل جسم بها للتساوي في الحقيقة علي ما وقع به الفرض
قيل الذي وقع به الفرض أنه جسم كالأجسام وذلك يقتضى الإشتراك في مسمى الجسمية فلم قلت إن ذلك يستلزم التساوي في الحقيقة فإن هذا مبنى على تماثل الأجسام وهو ممنوع وهو باطل
وإن قيل إنه يقتضي مماثلة كل جسم في حقيقته بحيث يجوز عليه ما يجوز على كل جسم ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له فهذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول ولا يعرف هذا قولا لطائفة معروفة وفساده ظاهر لا يحتاج إلى إطناب ولكن لا يلزم من فساده أن
(4/195)
لا يكون النزاع إلا لفظا فإن المنازع يقول ليس هو مثل كل جسم من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع ولكن شاركها في مسمى الجسمية كما إذا قيل هو حي وغيره حي شاركه في مسمى الحي وكذلك شارك غيره في مسمى العالم والقادر والموجود والذات والحقيقة فما كان من لوازم القدر المشترك ثبت لهما وما اختص بأحدهما لم يثبت للآخر
ومعلوم أن مسمى الجسمية إن قيل إنه يستلزم أن يجوز على كل جسم ما جاز على الآخر فلا يقول عاقل إن الله جسم بهذا التفسير ومن قال إنه جسم لم يقل إن القدر المشترك إلا كالقدر المشترك في الذات والقائم بالنفس ومسمى التحيز ويقول مع ذلك إن هذا المسمى وقع على أمور مختلفة الحقائق كالموصوف والقائم بالنفس ونحو ذلك
وبالجملة إن ثبت تماثل الأجسام في كل ما يجب ويجوز ويمتنع أغناه عن هذا الكلام وإن لم يثبت لم ينفعه هذا الكلام فهذا الكلام لا يحتاج إليه على التقديرين فالمنازع يقول مسمى الجسم كمسمى الموصوف والقائم بنفسه والذات والماهية والوجود ينقسم إلى واجب بنفسه وواجب بغيره وإذا كان أحد النوعين واجبا بنفسه لم يجب أن يكون كل موصوف قائما بنفسه ولا كل موجود وكذلك لا يكون
(4/196)
كل جسم فتبين أن كل ما ذكره مغلطة لأنه قال إما أن يقال إنه جسم كالأجسام وإما أن يقال جسم لا كالأجسام فإن قيل بالثاني كان النزاع في اللفظ لا في المعنى فدل ذلك على أن قوله في المعنى موافق لقول من يقول جسم لا كالأجسام ثم جعل القسم الأول هو القول بتماثل الأجسام فكان حقيقة قوله إنه إما أن يقال إنه مماثل للأجسام في حقيقتها بحيث يتصف بما تتصف به من الوجوب والجواز والامتناع وإما إن لا يقال بذلك فمن لم يقل بذلك لم ينازعه في المعنى ومن قال بالأول فقوله باطل
ومعلوم أن أحدا من الطوائف المعروفة وأهل الأقوال المنقولة لم يقل إنه جسم مماثل للأجسام كما ذكر ومعلوم أيضا أن فساد هذا أبين من أن يحتاج إلى ما ذكره من الأدلة فإن فساد هذا معلوم بالأدلة اليقينية لما في ذلك من الجمع بين النقيضين إذ كان كل منهما يلزم أن يكون واجبا بنفسه لا واجبا بنفسه محدثا لا محدثا ممكنا لا ممكنا قديما لا قديما إذ المتماثلان يجب اشتراكهما في هذه الصفات
وإذا كان القول الذي نفاه لم يقله أحد ولم ينازعه فيه أحد والقول الذي ادعى انه موافق لقائله في المعنى لا يخالف فيه قائلة بقي مورد النزاع لم يذكره ولم يقم دليلا على نفيه وهو قول من يقول هو
(4/197)
جسم كالأجسام بمعنى أنه مشارك لغيره في مسمى الجسمية كما يشاركه في مسمى الموصوفية والقيام بالنفس وأنه لم يثبت له لوازم القدر المشترك ولا يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يكون مماثلا لشيء من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه لأن الأجسام المخلوقة لها خصائص تختص باعتبارها ثبت لها ما يجب ويجوز ويمتنع عليه
والقدر المشترك عند هؤلاء لا يستلزم شيئا من خصائص المخلوقين وهذا القدر لم يتعرض له هنا بنفي ولا إثبات لكنه يقول إن القدر المشترك يستلزم التماثل في الحقيقة وإن ما لزم كلا من الأجسام لزم الآخر وإنما يفترقان فيما يعرض لهما بمشيئة الخالق
لكن هذا القول لم يقرر هنا فبقي كلامه هنا بلا حجة مع أن هذا القول فاسد في نفسه كما قد عرف وهو لما قرره في موضع آخر بناه على أصلين على إثباب الجوهر الفرد وتماثل الجواهر وكلاهما ممنوع باطل قد قرر هو أنه لا حجة عليه مع أن القول بأنه جسم كالأجسام ما علمت أنه قال أحد ولا نقله أحد عن أحد وهو مع هذا لم
(4/198)
يذكر دليلا على نفيه فكيف يكون قد أقام دليلا على نفي قول من يقول هو جسم لا كالأجسام
قال الثالث هو أنه لو كان جسما لكان له بعد وامتداد وذلك إما أن يكون غير متناه أو متناهيا فإن كان غير متناه فإما أن يكون غير متناه من جميع الجهات أو من بعض الجهات دون بعض فإن كان الأول فهو محال لوجهين الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى والثاني يلزم منه أن لا يوجد جسم غيره أو أن تتداخل الأجسام وهو يخالط القاذورات وهو محال وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لوجهين الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهي والثاني أنه إما أن يكون اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر لذاته أو لمخصص من خارج فإن كان الأول فهو محال لعدم الأولوية وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء على
(4/199)
ما تقدم فيكون الرب معلول الوجود وهو محال وإن كان متناهيا من جميع الجهات فله شكل ومقدار وهو أما أن يكون مختصا بذلك الشكل والقدر لذاته أو لأمر خارج فأن كان الأول لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة وإن كان الثاني فالرب محتاج في وجوده إلى غيره وهو محال
قلت ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون مختصا بالشكل والمقدار لذاته قوله إن ذلك يستلزم اشتراك جميع الأجسام كلها متحدة وهذا ممنوع بل باطل بل معلوم الفساد بالضرورة والحس فإن طبيعة النار ليست طبيعة الماء ولا طبيعة الحيوان طبيعة النبات وهذا مبنى على القول بأن الأجسام متماثلة في الحقيقة وهذا لو صح لأغنى عن هذه الوجوه كلها وهو في كتابه لما ذكر قول من يقول بتجانس
(4/200)
الأجسام من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية قال إنهم بنوا ذلك على أصلهم أن الجسم هو الجوهر المؤلف أو الجواهر المؤتلفة وأن الجواهر متجانسة وأن التأليف من حيث هو تأليف غير مختلف فالأجسام الحاصلة منها غير مختلفة
ومعلوم أن هذين الأصلين اللذين بنوا عليهما تماثل الأجسام قد أبطلهما هو وغيره وهي مما يخالفهم فيها جمهور العقلاء فأكثر العقلاء لا يقولون إن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة لا جمهور أهل الملل ولا جمهور الفلاسفة بل جمهور أهل الكلام من الهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والكرامية لا يقولون بذلك فكيف بمن عدا أهل الكلام من سائر أنواع أهل العلم فإنهم من أعظم الناس إنكارا لذلك
وكذلك القول بتماثل الجواهر قول لا دليل عليه إذ المتازعون في الجواهر المنفردة منهم من يقول باختلافها ومنهم من يقول بتماثلها
وأيضا فقول القائل إما أن يكون مختصا بذلك المقدار لذاته أو لأمر خارج
يقال له أتريد بذاته مجرد الجسمية المشتركة أم ذاته الذي يختص بها ويمتاز بها عن غيره
أما الأول فلا يقوله عاقل فإن عاقلا لا يعلل الحكم المختص بالأمر
(4/201)
المشترك فلا يقول عاقل إن ما اختص به أحد الشيئين عن الآخر كان للقدر المشترك بينهما فإن القدر المشترك بين الشيئين لا يستلزم المختص فضلا عن أن يكون علة للمختص والعلة مستلزمة للمعلول والملزوم أعم من العلة فإذا لم يكن المشترك ملزوما للمختص كان أن لا يكون علة أولى وأحرى فإن الملزوم حيث وجد وجد اللازم
ومعلوم انه ليس حيث وجد المشترك يوجد المختص إذ المشترك يوجد في هذا والمختص بالآخر منتف
وفي الجملة فهذا مما لا يتنازع فيه العقلاء فلا يكون اختصاص أحد الجسمين ( عن الأخر ) بخصائصه لمجرد الجسمية المشتركة بل تلك الخصائص مما يمتنع ثبوتها لسائر الأجسام
وحينئذ فيقال معلوم أن كل جسم مختص بخصائص وخصائصه لا تكون لأجل الجسمية المشتركة وذلك يمنع تماثل الأجسام لأنها لو كانت متماثلة للزم أن يكون اختصاص بعضها بخصائصه لمخصص والمخصص إما الرب وإما غيره وتخصيص غيره ممتنع لأنه جسم من الأجسام فالكلام فيه كالكلام في غيره ولأن التقدير أنها متماثلة فليس هذا بالتخصيص أولى من هذا وتخصيصة أيضا ممتنع
(4/202)
لانه يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بغير مرجح وذلك ممتنع
وإذا قيل المرحج هو القدرة والمشيئة
قيل نسبة القدرة والمشيئة إلى جميع المتماثلات سواء فيمتنع الترجيح بمجرد ذلك فلا بد أن يكون المرجح ما لله تعالى في ذلك من الحكمة والحكمة تستلزم علم الحكيم بأن أحد الأمرين أولى من الآخر وأن يكون ذلك الراجح أحب إليه من الآخر وحينئذ فذلك يستلزم تفاضل المعلومات المرادات وذلك يمنع تساويها وهو المطلوب
وهذا الكلام يتعلق بمسألة حكمة الله في خلقة وأمره وهو مبسوط في غير هذا الموضع ونفاة ذلك غاية ما عندهم أنهم يزعمون أن ذلك يقتضي افتقاره إلى الغير لأن من فعل شيئا لمراد كان مفتقرا إلى ذلك المراد مستكملا به والمستكمل بغيره ناقص بنفسه
وهذه الحجة باطلة كبطلان حجتهم في نفي الصفات وذلك أن لفظ الغير مجمل فإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى شيء مباين منفصل عنه فهذا ممنوع فإن مفعولاته ومراداته هو الفاعل لها كلها لا يحتاج في شئ منها إلى غيره وإن إريد بذلك أنه يفتقر إلى ما هو مقدور له مفعول له كان حقيقة ذلك أنه مفتقر إلى نفسه أو لوازم نفسه
ومعلوم أنه سبحانه موجود بنفسه لا يفتقر إلى ما هو غير له مباين
(4/203)
له وأنه مستوجب لصفات الكمال التي هي من لوازم ذاته فإذا قال القائل إنه مفتقر إلى نفسه كان حقيقته أنه لا يكون موجودا إلا بنفسه وهذا المعنى حق
وإذا قيل هو مفتقر إلى صفاته اللازمة أو جزئه أو لوازم ذاته أو نحو ذلك كان حقيقة ذلك أنه لا يكون موجودا إلا بصفات الكمال وأنه يمتنع وجوده دون صفات الكمال التي هي من لوازم ذاته وهذا حق ومعلوم أن الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة متعاقبة ليس الكمال في أن يكون كل منها أزليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون فإن ذلك نقص وعدم بل في أن تكون بحسب إمكانها على ما تقتضية الحكمة فيكون وجود تلك المرادات الحادثة من الكمالات التي يستحقها ولا يحتاج فيها إلى غيره فيكون فعله ما يفعله للحكمة من أعظم نعوت الكمال التي يجب أن يوصف بها ونفيها عنه يقتضى وصفه بالنقائص وإن كل كمال يوصف به فليس مفتقرا فيه إلى غيره أصلا بل هو من لوازم ذاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذين يصفونه بالنقائص ويسلبونه الحكمة التي هي من أعظم نعوت الكمال توهما أن إثباتها يقتضي الحاجة
(4/204)
إلى غيره وذلك غلط محض بل لا يقتضي إثباتها إلا استلزام ذاته لنعوت كماله وكمال نعوته لا افتقار إلى شيء مباين لنفسه المقدسة
وأيضا فيقال القول في استلزام الذات لقدرها الذي لم يقدره المشركون كما قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } سورة الزمر 67 كاستلزام الذات لسائر صفاتها من العلم والقدرة والحياة فإنه لو كان كل مختص يحتاج إلى مخصص لزم الدور أو التسلسل الباطلان فلا بد من مختص بما يختص به يختص بذلك لنفسه وذاته لا لأمر مباين له
وهذا هو حقيقة الواجب لنفسه المستلزم لجميع نعوته من غير افتقار إلى غير نفسه مع أن ماذكره في وجوب تناهي الأبعاد قد أبطل فيه مسالك الناس كلها وأنشأ مسلكا ذكر أنه لم يسبقه إليه أحد وإذا حرر الأمر عليه وعليهم في تلك المسالك كان القدح فيها أقوى من مسالكهم ( في النفي ) فلو قدر أن اثنين أثبت أحدهما موجودا قائما بنفسه لا يتناهي وأثبت الآخر موجودا لا يكون متناهيا ولا غير
(4/205)
متناه كان قول الثاني أفسد والأول أقرب إلى الصواب وما من مقدمة يدعون بها إفساد قول الأول وفي أقوالهم ما هو أفسد منها
والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل وتارة بين القولين الباطلين لتبيين بطلانهما أو بطلان أحدهما أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعة فاسدا لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله
وقد حكى الأشعرى وغيره عن طوائف أنهم يقولون إنه لا يتناهي وهؤلاء نوعان نوع يقول هو جسم ونوع يقول ليس بجسم فإذا أراد النفاة أن يبطلوا قول هؤلاء لم يمكنهم ذلك فإنهم إذا قالوا يلزم أن يخالط القاذورات والأجسام قالوا كما أثبتم موجودا لا يشار إليه ولا هو داخل ولا خارج فنحن نثبت موجودا هو داخل
(4/206)
ولا يخالط غيره فإذا قالوا هذا لا يعقل قالوا وذلك لا يعقل
ومذهب النفاة أبعد في العقل من مذهب الحلولية ولهذا إذا ذكر القولان لأهل الفطر السليمة نفروا عن قول النفاة أعظم من نفورهم عن قول الحلولية وكذلك ما ذكره من امتناع النهاية من بعض الجوانب دون بعض فإن هذا قاله طائفة ممن يقول إنه على العرش
وقول هؤلاء وإن قيل إنه باطل فقول النفاة أبطل منه أما احتجاجه على هؤلاء بأن اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر محال لعدم الأولوية أو لافتقاره إلى مخصص من خارج فيقولون له أنت دائما تثبت تخصيصا من هذا الجنس كما تقول إن الإرداة تخصص أحد المثلين لا لموجب فإذا قيل لك هذا يستلزم ترجيح أحد المتامثلين بلا مرجح قلت هذا شأن الإرداة والإرادة صفة من صفاته فإذا كانت ذاته مستلزمة لما من شأنه ترجيح أحد المثلين لذاته بلا مرجح فلأن تكون ذاته تقتضي ترجيح أحد المثلين بلا مرجح أولى
وهذا للمعتزله والفلاسفة ألزم فإن المعتزلة يقولون إن القادر المختار يرجح بلا مرجح والفلاسفة يقولون مجرد الذات اقتضت ترجيح الممكنات بلا مرحج آخر فقد اتفقوا كلهم على أن الذات توجب الترجيح لأحد المتماثلين بلا مرجح فكيف يمكنهم مع هذا أن يمنعوا كونها تستلزم تخصيص احد الجانبين بلا مخصص
(4/207)
ولو قال لهم منازعهم الموجودان القائمان بأنفسهما لابد أن يكون بينهما حد وانفصال فعلمنا التناهي من جانب هذا الموجود وأما الجانب الآخر فلا نعلم امتناعه إلا إذا علمنا امتناع وجود ابعاد لا تتناهي وهذا غير معلوم لنا أو هو باطل لكان قولهم أقوى من قولهم
والمقصود هنا أن غايتهم في إبطال قول هؤلاء أن ينتهوا إلى إبطال بعد لا يتناهي أو إلى عدم الأولوية أو وجوب المخالطة
وهذه المقدمات يمكن منازعوهم أن ينازعوهم فيها أعظم مما يمكنهم هم منازعة أولئك في مقدمات حجتهم ويرد عليهم من المناقضات والمعارضات أعظم مما يرد على أولئك وهذا مبسوط في موضعه
فهذه الحجة وأمثالها من حجج النفاة يمكن إبطالها من وجوه كثيرة بعضها من جهة المعارضة بأقوال أهل باطل آخر وبيان أنه ليس قول أولئك بأبطل من قول هؤلاء فإذا لم يمكن الاستدلال على نفي أحد القولين إلا بالمقدمة التي بها نفي القول الآخر لم يكن نفي أحدهما أولى من نفي الآخر بل إن كانت المقدمة صحيحة لزم نفيها جميعا وإن كانت باطلة لم تدل على نفي واحد منهما فكيف إذا كانت
(4/208)
المقدمة التي استدل بها المستدل على نفي قول منازعه قد قال بها وبما هو أبلغ منها وبعض ما تبطل به هذه الحجة يكون من جهة أهل الحق الذين لم يقولوا باطلا
ونحن نذكر ما يحضر من إبطالها بالكلام على مقدماتها والمواضع التي ينازعه فيها الناس
الأول قوله لو كان جسما لكان له بعد وامتداد فإن هذا مما نازعه فيه طائفة ممن يقول هو جسم وهو مع ذلك واحد لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه فلا يشار إلى شيء منه دون شيء فإن هذا معروف عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم والرازي قد ذكر عن بعضهم لكنه ادعى أن هذا القول لا يعقل وأن فساده معلوم بالضرورة
وكذلك قول من قال إنه فوق العرش وإنه مع ذلك ليس بجسم كما يذكر ذلك عن الأشعري وكثير من أهل الكلام والحديث والفقة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم وهو قول القاضي أبي يعلى وأبي الحسن الزاغوني وقول أبي الوفاء بن عقيل في كثير من كلامه وهو قول أبي العباس القلانسي وقبله ابو محمد بن كلاب وطوائف غير هؤلاء
فإذا قال القائل كونه جسما مع كون غير منقسم او كونه فوق العرش مع كونه غير جسم مما يعلم فساده بضرورة العقل
(4/209)
فيقال ليس العلم بفساد هذا بأظهر من العلم بفساد قول من قال إنه موجود قائم بنفسه فاعل لجميع العالم وأنه مع ذلك لا داخل في العالم ولا خارج عنه ولا حال فيه ولا مباين له لا سيما إذا قيل مع ذلك إنه حي عالم قادر وقيل مع ذلك ليس له حياة ولا علم ولا قدرة أو قيل هو عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق وأن العلم والحب نفس العالم المحب ونفس الحب هو نفس العلم أو قيل مع ذلك إنه حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام وقيل مع ذلك إنه لا داخل في مخلوقاته ولا خارج عنها ولا حال فيها ولا مباين لها وأن إرادته لهذا المراد هو إرادته لهذا المراد ونفس رؤيته لهذا هو نفس رؤيته لهذا ونفس علمه بهذا هونفس علمه بهذا وأن الكلام معنى واحد بالعين فمعنى أية الكرسى وآية الدين وسائرالقرآن والتوارة والإنجيل وسائر ما تلكم به هو شيء واحد فإن كانت هذه الأقوال مما يمكن صحتها في العقل فصحة قول من قال هو فوق العرش وليس بجسم أو هو جسم وليس بمنقسم أقرب إلى العقل
وإن قيل بل هذا القول باطل في العقل فيقال تلك أبطل في العقل ومتى بطلت تلك صح هذا
وإذا قيل النافي لإمكان تلك الأمور هو الوهم ( لا العقل )
(4/210)
وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر قيل والنافي لإمكان هذا هو الوهم وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر وإذا قيل البرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم هنا
ومن تأمل هذا وجده من أصح المعارضة وأبين التناقض في كلام هؤلاء النفاة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
الوجة الثاني قوله وإذا كان له بعد وامتداد فإما أن يكون غير متناه وإما أن يكون متناهيا
فيقال من الناس من يقول إنه غير متناه وهؤلاء منهم من يقول جسم ومنهم من يقول غير جسم وقد حكى القولين أبو الحسن الاشعري في المقالات وحكاهما غيره أيضا ومن الناس من قال هو متناه من بعض الجهات وهذا مذكور عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم وقد قاله بعض المنتسبين إلى الطوائف الأربعة من الفقهاء كما ذكره القاضي أبو يعلى في عيون المسائل فإن هذه الأقوال يوجد عامتها في بعض أتباع الأئمة منها ما يوجد في بعض أصحاب أبي حنيفة ومنها ما يوجد في بعض أصحاب مالك ومنها ما يوجد في بعض أصحاب الشافعي ومنها ما يوجد في بعض أصحاب أحمد ومنها ما يوجد في بعض أصحاب اثنين أو ثلاثة أو الأربعة
(4/211)
قوله إن كان غير متناه من جميع الجهات فهو محال لوجوه الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهي
فيقال له أنت قد أبطلت أدلة نفاة ذلك ولم تذكر إلا دليلا هو أضعف من أدلة غيرك فبقيت الدعوى بلا دليل
قوله الثاني أنه يلزم منه نفي الأجسام أو تداخلها ومداخلة القاذورات
فيقال هؤلاء يقولون لا يلزم منه شيء من ذلك بل هو غير متناه مع كونه جسما أو مع كونه غير جسم ويقولون لا يلزم نفي سائر الأجسام ولا مداخلتها فإذا قيل لهم هذا ينفيه العقل قالوا نفى العقل لهذا كنفيه وجوده قائما بنفسه فاعلا للعالم وهو مع ذلك لا حال في العالم ولا بائن من العالم بل نفي العقل لهذا أعظم من نفيه لهذا وما قيل من الاعتذار عن ذلك بالفرق بين الوهم والعقل يمكن في هذا بطريق الأولى كما قد بسط في موضعه
فإن هؤلاء ادعوا أن ( قول ) القائل كل موجودين إما أن يكونا متحايثين أو متباينين أو كل موجودين قائمين بأنفسهما فإما أن يكونا متباينين أو متلاصقين أو كل موجود قائم بنفسه فلا بد أن يكون
(4/212)
مشارا إليه وأن قول القائل بإثبات موجود لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا حال فيه ولا مباين له ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يبعد من شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء وأمثال ذلك من الصفات السالبة النافية هو محال في العقل
قالوا إن هذا الموجب لذلك التقسيم والمحيل لوجود هذا إنما هو الوهم دون العقل وأن الوهم يحكم غير المحسوس بحكم المحسوس وهذا باطل
فقيل لهم فأنتم لم تثبتوا بعد وجود ما لا يمكن الإحساس به وحكم الفطرة أولى بديهي والوهم عندكم إنما يدرك الأشياء المعينة كإدراك العداوة والصداقة كإدراك الشاة عداوة الذئب وصداقة الكبش وهذه أحكام كلية والكليات من حكم العقل لا من حكم الوهم
فهذا وأمثاله مما أبطل به ما ذكروه من الاعتذار بأن هذا حكم الوهم لكن المقصود هنا أن ذلك العذر إن كان صحيحا فلمنازعيهم أن يعتذروا به ههنا فيقولون ما ذكرتموه من كونه لو كان فوق العرش أو لو كان جسما لكان ممتدا متناهيا أو غير متناه هو من حكم الوهم وهو فرع كونه قابلا لثبوت الامتداد ونفيه أو لثبوت النهاية ونفيها ونحن نقول هو فوق العرش أو هو ( فوق العرش ) وهو مع ذلك لا يقبل أن يكون ممتدا ولا غير
(4/213)
ممتد ولا أن يكون متناهيا ولا غير متناه كما قلتم أنتم إنه موجود قائم بنفسه مبدع للعالم مسمى بالأسماء الحسنى وأنه مع ذلك لا يقبل أن يقال هو متناه ولا غير متناه بل ذاته لا تقبل إثبات ذلك ولا نفيه ولا تقبل أن يقال هو حال في العالم ولا خارج عنه فلا توصف ذاته بالدخول ولا بالخروج فإن ذاته لا تقبل الإتصاف لا بإثبات ذلك ولا بنفيه
فهذا ونحوه قولكم فإن كان هذا القول صحيحا أمكن من أثبت العلو دون التجسيم أو العلو والتجسيم ونفي ما يذكر من لوازمه أن يقول فيه ما تقولونه أنتم حيث أثبتم موجودا قائما بنفسه مبدعا للعالم ونفيتم ما يذكر من لوازمه أن يقول فيه ما تقولونه أنتم حيث أثبتم موجودا قائما بنفسه مبدعا للعالم ونفيتم ما يذكر من لوازمه فإن لزوم تلك اللوازم لما أثبتوه أظهر في صريح العقل من لزوم هذه اللوازم لما أثبته هؤلاء فإن أمكنكم نفي اللزوم وادعيتم أن القول باللزوم وإحالة ما أثبتموه من حكم الوهم دون العقل أمكن خصومكم أن يقولوا مثل ذلك بمثل ما قلتموه بطريق الأولى
وهذا يفهمه من تصور حقيقة قول الطائفتين وأدلتهم العقلية فإنه إذا قابل بين قول هؤلاء وقول هؤلاء تبين له صحة الموازنة وأن الإثبات
(4/214)
أقرب إلى صريح المعقول وأبعد عن التناقض كما أنه أقرب إلى صحيح المنقول
وكذلك يقال في الوجه الثالث فإن إثبات النهاية من أحد الطرفين دون الآخر أبعد عن الإحالة من إثبات موجود قائم بنفسه لا يمكن أن يقال فيه هو متناه ولا أن يقال غير متناه
وكذلك إثبات موجود لا نهاية له من الطرفين أقرب إلى المعقول من كونه لا يقبل إثبات النهاية ولا نفيها
قوله فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء فيكون الرب معلولا لغيره
يقال ما من أحد من النفاة إلا وقد قال نظير هذا فالكلابية والأشعرية يقولون الذات اقتضت صفات معدودة دون غيرها من الصفات فإنهم وإن تنازعوا في كون صفاته كلها معلومة للبشر فإنهم لم يتنازعوا في إثبات صفات لا تتناهى بل لابد أن تكون صفاته متناهية فجعلوا الذات مقتضية لعدد معين دون غيره من الأعداد ولصفات معينة دون غيرها من الصفات بل واقتضت الأمر بشيء دون غيره من المأمورات وبإرادة شيء دون غيره من المرادات مع أن نسبتها إلى جميع المرادات والمأمورات نسبة واحدة
(4/215)
وأصلهم أنه يجوز تخصيص أحد المثلين دون الآخر بغير مخصص بل بمحض الإرادة وأن الذات اقتضت تلك الإرادة على ذلك الوجه دون غيرها لا لأمر آخر
فإذا قيل الذات اقتضت تناهيا من جانب دون جانب أو قدرا مخصوصا لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك لا سيما وهم مع ذلك يقولون إن هذه الإرادة اقتضت أن تكون الحوادث متناهية من أحد الطرفين دون الآخر فالحوادث عندهم لا تتناهى من جانب المستقبل مع تناهيها من جانب الماضي ومع إمكان تقدم الحوادث على مبدأ حدوثها وتأخرها عن ذلك المبدأ ولكن الإرادة هي المخصصة لأحد المثلين والذات هي المخصصة لتلك الإرادة المعينة دون غيرها من الإرادات وهي المخصصة للكلام المعين الذي هو أمر بشيء معين دون غيره من الكلام والأوامر
والمعتزلة يقولون إن تلك الذات هي المخصصة لأحد المقدورين دون أمثاله من المقدورات وكذلك هي المخصصة لكونها آمرة ومتكلمة وفاعلة بالأمر المعين والكلام المعين والفعل المعين دون غيره من الأنوامر والكلام والفعل وهي المخصصة للإرادة أو لكونه مريدا دو غير تلك الإرادة أو غير تلك المريدية
والفلاسفة يقولون إن الذات أو الوجود الذي لا اختصاص له
(4/216)
بحقيقة من الحقائق ولا صفة من الصفات هو المخصص للعالم كله بما هو عليه من الحقائق والصفات والمقادير وأنه علة تامة موجبة للمعلول مع أن الحوادث من المعلولات ليست أعيانها أزلية ولم يكن فيه ما يوجب تأخر شيء من المعلولات ولا قام به صفة ولا معنى ولا فعل يوجب التخصيص لا بحقيقة دون حقيقة ولا بصفة دون صفة ولا لحادث دو حادث ولا لتأخير ما يتأخر
والعالم يشهد فيه من الحقائق المختلفة والحوادث الحادثة ما يعلم معه بالضرورة أنه لا بد له من مخصص وهم لا يثبتون إلا وجودا مطلقا ليس فيه اختصاص وجودي بوجه من الوجوه فضلا عن أن يكون مقتضيا لتخصيص حقيقة دون حقيقة وصفة دون صفة والحدوث من غير سبب يقتضي الحدوث وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود أن هؤلاء القائلين بعدم التناهي أو بالتناهي من جانب دون جانب مع كون قولهم فاسدا فنفاة كون الرب على العرش الذين يحتجون على نفي ذلك بنفي الجسم وعلى نفي الجسم بهذه الحجج يلزمهم من التناقض أعظم مما يلزم المثبتين والمقدمات التي
(4/217)
يحتجون بها هي أنفسها وما هو أقوى منها من جنسها تدل على فساد أقوالهم بطريق الأولى فإن كانت صحيحة دلت على فساد قولهم ومتى فسد قولهم صح قول المثبتة لامتناع رفع النقيضين وإن كانت باطلة لم تدل على فساد قول المثبته فدل ذلك على أن هذه المقدمات مستلزمة فساد قول النفاة دون قول أهل الإثبات
وهذه الطريق هي ثابته في الأدلة الشرعية والعقلية فإنا قد بينا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس وغيره أن عامة ما يحتج به النفاة للرؤية والنفاة لكونه فرق العرش ونحوهم من الأدلة الشرعية الكتاب والسنة هي أنفسها تدل على نقيض قولهم ولا تدل على قولهم فضلا عما يعترفون هم دلالته على نقيض قولهم وهكذا أيضا عامة ما يحتجون به من الأدلة العقلية إذا وصلت معهم فيها إلى آخر كلامهم وما يجيبون به معارضهم وجدت كلامهم في ذلك يدل على نقيض قولهم وأن ما يذكرونه من المناظرات العقلية هو على قول أهل الإثبات أدل منه على قولهم
(4/218)
الجواب الرابع قوله إذا كان متناهيا من جميع الجهات فاختصاصه بالشكل والمقدار إن كان لذاته لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة
فيقال له لا نسلم اشتراك جميع الأجسام في ذلك ولا نسلم أن الأجسام متحدة في الطبيعة وقد عرف أن النزاع في هذه المسألة من النظار من أشهر الأمور وهذا المصنف نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج القائلين بالاتحاد في الطبيعة كان قد أفسد حجته بما ذكره هو من الأدلة العقلية على فسادها فضلا عما يذكره غيره من العقلاء وقد بسط هذا في موضعه وإنما المقصود هنا التنبية على أن كل مقدمة في هذه الحجة يمكن منعها ويكون قول المانع فيها أقوى من قول المحتج
قال الرابع أنه لو كان جسما لكان مركبا من الأجزاء وهو محال لوجهين الأول أنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير
(4/219)
مفتقر إليه وما افتقر إلى غيره كا ممكنا لا واجبا لذاته وقد قيل إ نه واجب لذاته
قلت ولقائل أن يقول هذا باطل من وجوه أحدها أن الذين قالوا إنه جسم لا يقول أكثرهم إنه مركب من الأجزاء بل ولا يقولون إن كل جسم مركب من الأجزء فالدليل على امتناع ما هو مركب من الأجزاء فقط لا يكون حجة على من قال إنه ليس بمركب وإن كان بناء على أن كل جسم مركب فهذا ممنوع
وإن قيل لا نعنى بالأجزاء أجزاء كانت موجودة بدونه وإنما نعني بها أنه لا بد أن يتميز منه شيء عن شيء
قيل فحينئذ لا يلزم أن يكون ذلك الذي يمكن أن يصير جزءا غير مفتقر إليه إذ هو لابد منه في وجود الجملة وليس موجودا دونها فالجملة لا تستغنى عنه وهو أيضا لا يستغنى عنها فتكون الحجة باطلة
الثاني أن يقال ما تعنى بقولك إنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء أتعنى أنه يكون مفعولا للجزء أو معلولا لعلة فاعلة أو تعنى أنه يكون وجوده مشروطا بوجود الجزء
(4/220)
بحيث لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر فإن ادعيت الأول كان التلازم باطلا فإن من المعلوم أن الأجسام التي خلقها الله تعالى ليس شيء من أجزائها فاعلا لها ولا علة فاعلة لها فإذا لم يكن شيء من المركبات المخلوقة جزؤه فاعلا له ولا علة فاعلة له كان دعوى أن ذلك قضية كلية من أفسد الكلام فإنه لا يعلم ثبوتها في شيء من الجزئيات المشهودة فضلا عن أن تكون كلية
وإن قيل نعنى بالإفتقار أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا
قيل ولم قلتم إن مثل هذا ممتنع على الواجب بنفسه فإن الممتنع عليه أن يكون فاعلا أو علة فاعلة إذا قيل بإمكان علة فاعلة لا تفعل بالاختيار فأما كونه لا يكون وجوده مستلزما للوازم لا يكون موجودا إلا بها فالواجب بنفسه لا ينافي ذلك سواء سميت صفات أو أجزاء أو ما سميت
ويظهر هذا بالوجه الثالث وهو أن النافي لمثل هذا التلازم إن كان متفلسفا فهو يقول إن ذاته مستلزمة للممكنات المنفصلة عنه فكيف يمتنع أن تكون مستلزمة لصفاته اللازمة له أو لما هو داخل في مسمى اسمه وهو أيضا يسلم أن ذاته تستلزم كونه واجبا وموجودا
(4/221)
وعاقلا ( ومعقولا ) وعقلا ولذيذا وملتذا به ومحبا لذاته ومحبوبا لها وأمثال ذلك من المعاني المتعدده
فإذا قيل هذه كلها شيء واحد
قيل هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة لكونه تضمن أن العلم هو الحب وأن العالم المحب هو العلم والحب فإن قدر إمكانه فقول القائل إن الجسم ليس بمركب من الهيولي والصورة ولا من الجواهر المنفردة بل هو واحد بسيط أقرب إلى العقل من دعوى اتحاد هذه الحقائق
وإن كان من المعتزلة وامثالهم فهم يسلمون أن ذاته تستلزم أنه حي عالم قادر وإن كان من الصفاتية فهم يسلمون استلزام ذاته للعلم والقدرة والحياة وغير ذلك من الصفات فما من طائفة من الطوائف إلا وهي تضطر إلى أن تجعل ذاته مستلزمة للوازم وحينئذ فنفي هذا التلازم لا سبيل لأحد إليه سواء سمى افتقارا أو لم يسم وسواء قيل إن هذا يقتضي التركيب أو لم يقل
الوجه الرابع أن يقال قول القائل إن المركب مفتقر إلى كل
(4/222)
واحد من تلك الأجزاء أتعنى بالمركب تلك الأجزاء أو تعنى به اجتماعها أو الأمرين أو شيئا رابعا فإن عنيت الأول كان المعنى أن تلك الأجزاء مفتقرة إلى تلك الأجزاء وكان حاصله أن الشيء المركب مفتقر إلى المركب وأن الشيء مفتقر إلى نفسه وأن الواجب بنفسه مفتقر إلى الواجب بنفسه
ومعلوم أن الواجب بنفسه لا يكون مستغنيا عن نفسه بل وجوبه بنفسه يستلزم أن نفسه لا تستغنى عن نفسه فما ذكرتموه من الافتقار هو تحقيق لكونه واجبا بنفسه لا مانع لكونه واجبا بنفسه
وإن قيل إن المركب هو الإجتماع الذي هو اجتماع الأجزاء وتركيبها
قيل فهذا الاجتماع هو صفة وعرض للأجزاء لا يقول عاقل إنه واجب بنفسه دون الأجزاء بل إنما يقال هو لازم للأجزاء والواجب لنفسه هو الذات القائمة بنفسها وهي الأجزاء لا مجرد الصفة التي هي نسبة بين الأجزاء وإذا لم يكن هذا هو نفس الذات الواجبة بنفسها وإنما هو صفة لها فالقول فيه كالقول في غيره مما سميتموه أنتم أجزاء وغايته أن تكون بعض الأجزاء
(4/223)
مفتقرة إلى سائرها وليس هذا هو افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه
وإن قيل إن المركب هو المجموع أي الأجزاء واجتماعها فهذا من جنس أن يقال المركب هو الأجزاء لكن على هذا التقدير صار الإجتماع جزءا من الأجزاء
وحينئذ فإذا قيل هو مفتقر إلى الأجزاء كان حقيقته أنه مفتقرا إلى نفسه أي لا يستغى عن نفسه وهذا حقيقة وجوبه بنفسه لا مناف لوجوبه بنفسه وإن عنيت به شيئا رابعا فلا يعقل هنا شيء رابع فلا بد من تصويره
ثم هذا الكلام عليه وإن قال بل المجموع يقتضى افتقاره إلى كل جزء من الأجزاء
قيل افتقار المجموع إلى ذلك الجزء كافتقاره إلى سائر الأجزاء ذلك ( الجزء ) وسائر الأجزاء هي المجموع فعاد ( الأمر ) إلى أنه مفتقر إلى نفسه
فإن قيل فاحد الجزأين مفتقر إلى الآخر أو قيل الجملة مفتقرة إلى كل جزء إلى آخره
قيل أولا ليس هذا هو حجتكم فإنما ادعيتم افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه
(4/224)
وقيل ثانيا إن عنيت بكون الجزأين مفتقرا إلى الآخر أن أحدهما فاعل للآخر أو علة فاعلة له فهذا باطل بالضرورة فإن المركبات الممكنة ليس أحد أجزائها علة فاعلة للآخر ولا فاعلا له باختياره فلو قدر أن في المركبات ما يكون جزؤه فاعلا لجزئه لم يكن كل مركب كذلك فلا تكون القضية كلية فلا يجب أن يكون مورد النزاع داخلا فيما جزؤه مفتقر إلى جزئه فكيف إذا لم يكن في الممكنات شئ من ذلك فكيف يدعى في الواجب بنفسه إذا قدر مركبا أن يكون بعض أجزاءه علة فاعلة للجزء الآخر
وإن عنيت أن أحد الجزأين لا يوجد إلا مع الجزء الأخر فهذا إنما فيه تلازمهما وكون أحدهما مشروطا بالأخر وذلك دور معي اقتراني وهو ممكن صحيح لابد منه في كل متلازمين وهذا لا ينافي كون المجموع واجبا بالمجموع
وإذا قيل في كل من الأجزاء هل هو واجب بنفسه أم لا
قيل إن أردت هل هو مفعول معلول لعلة فاعلة أم لا فليس في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها ما يوجد بدون وجود الآخر
(4/225)
فليس فيها ما هو مستقل دون الآخر ولا هو واجب بنفسه بهذا الاعتبار والدليل دل على إثبات واجب بنفسه غنى عن الفاعل والعلة الفاعلة لا على أنه لا يكون شئ غنى عن الفاعل مستلزما للوازم
فلفظ الواجب بنفسه فيه إجمال واشتباه دخل بسببه غلط كثير فما قام عليه البرهان من إثبات الواجب بنفسه ليس هو ما فرضه هؤلاء النفاة فإن الممكن هو الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده والواجب هو الذي يكون وجوده بنفسه لا بموجد يوجده فكونه موجودا بنفسه مستلزما للوازم لا ينافي أن يكون ذاتا متصفة بصفات الكمال وكل من الذات والصفات ملازم للآخر وكل من الصفات ملازمة للأخرى وكل ما يسمى جزءا فهو ملازم للآخر
وإذا قيل هذا فيه تعدد الواجب
قيل إن أردتم تعدد الإله الموجود بنفسه الخالق للممكنات فليس كذلك وإن أردتم تعدد معان وصفات له أو تعدد ما سميتموه أجزاء له فلم قلتم إنه إذا كان كل من هذه واجبا بنفسه أي هو موجود بنفسه لا بموجد يوجده مع أن وجوده ملزوم لوجود
(4/226)
الآخر يكون ممتنعا ولم قلتم إن ثبوت معنيين أو شيئين واجبين متلازمين يكون ممتنعا
وهذا كما تقوله المعتزله إنكم إذا أثبتم الصفات قلتم بتعدد القديم
فيقال لهم إن قلتم أن ذلك يتضمن تعدد آلهة قديمة خالقة للمخلوقات فهذا التلازم باطل
وإن قلتم يستلزم تعدد صفات قديمة للإله القديم
فلم قلتم إن هذا محال
فعامة ما يلبس به هؤلاء النفاة ألفاظ مجملة متشابهة إذا فسرت معانيها وفصل بين ما هو حق منها وبين ما هو باطل زالت الشبهة وتبين أن الحق الذي لا محيد عنه هو قول أهل الإثبات للمعاني والصفات
الوجه الخامس أن يقال قولك إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه ليس في ما يدل على افتقار المركب إلى أجزائه فإن كونه يستحيل
(4/227)
وجوده دون الأجزاء يقتضي أنه لا يوجد بدونها بل لا يوجد إلا وهي موجودة
وكون الشيء لا يوجد إلا مع الشيء لا يقتضى افتقاره إليه بل إنما يكون مفتقرا إليه إذا كان لا يوجد إلا به ألا ترى أن المتضايفين لا يوجد أحدهما دون الآخر ولا يقال إن أحدهما مفتقر إلى الآخر كالبنوة والأبوة بل كلاهما معلول علة منفصلة فمعلولا العلة لا يوجد أحدهما دون الآخر وهما جميعا مفتقران إلى العلة ليس أحدهما مفتقرا إلى الأخر فإذا قدر أنه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقرا إلى الآخر ولا إلى علة
الوجه السادس أن يقال قولك وكل منهما غير مفتقر إليه خطأ ظاهر فإنه ليس من ضرورة كون المركب متوقفا على كل من أجزائه أن لا يكون شئ من تلك الأجزاء متوقفا عليه وذلك أن المركب إن أريد به نفس الأجزاء المجتمعة كان المعنى أن المجتمع متوقف على المجتمع أو أن كل جزء متوقف على سائر الأجزاء أو على جزء آخر أو على نفسه وأي شيء فرض من ذلك لم يلزم أن يكون أحد الجزأين هو المفتقر دون الآخر وإن قدر أن المركب هو الإجتماع أو الاجتماع مع الأجزاء فغنه إذا قدر أنها متلازمة لم يكن
(4/228)
أحد الأجزاء واجبا بنفسه بمعنى أمكان وجوده دون سائر الأجزاء لا الإجتماع ولا غيره بل لا يوجد شيء منها إلا بالآخر فلا يكون شيء من الأجزاء غير مفتقر إلا المركب بل كل منها مفتقر إليه
وهذا لا يقاس بالواحد مع العشرة الذي يمكن وجوده دون وجود العشرة فإن أجزاء العشرة ليست متلازمة وإنما الكلام في أمور متلازمة لا يمكن وجود بعضها دون بعض كالصفات اللازمة للرب تعالى
وما سماه النفاة أجزاء فإنه لا يمكن وجود صفة من تلك الصفات دون الذات بل ولا دون الصفة الأخرى وكذلك ما سموه جزءا لا يمكن وجوده دون الجميع ولا دون جزء آخر فامتنع أن يقال إن كل جزء من الأجزاء غير مفتقر إلى المجموع المركب مع أن المجموع المركب مفتقر إليه بل إذا سمى هذا التلازم افتقارا فافتقار الصفة وما سموه جزءا إلى المجموع أعظم من افتقار الذات الواجبة بنفسها أو ما سموه المجموع المركب الواجب بنفسه إلى الصفة أوالجزء فإن المجموع هو الواجب بنفسه الذي لا يقبل العدم أصلا وكل جزء من أجزائه فلا يتصور وجوده بدون وجود الآخر وهذا كما يقولون إن الحيوانية والناطقية جزء من الإنسانية ومع هذا يمتنع وجود الجزء دون هذه الماهية المركبة وكذلك يقولون إن الجسم مركب من المادة والصورة
(4/229)
ويمتنع وجود أحدهما بدون الجسم بل والجوهر عند عامة القائلين به يمتنع وجوده بدون وجود الجسم
الوجه السابع أن يقال قولك إن المركب الواجب بنفسه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ضروره استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير مفتقر إليه كلام باطل وهو بالعكس أولى
وذلك أن ما قدر أنه جزء إذا كان غير مفتقر إليه لزم أن يكون واجبا بنفسه وإذا كان واجبا بنفسه فإما أن يكون مستقلا لا يتوقف على وجود الجزء الآخر ولا الجملة أو لا بد له من ذلك فإن كان مستقلا بنفسه لا يتوقف على جزء آخر ولا على المجموع لزم تعدد الأمور الواجبة بنفسها المستقلة التي يستغنى بعضها عن بعض ولا يتوقف واحد منها على الآخر ( ولا على الجملة )
ومعلوم أنه إذا كان هذا جائزا لزم أن يكون هناك مجموع كل منه واجب بنفسه والمجموع واجب بتلك الواجبات فإذا قدر تعدد الواجب بنفسه كان هذا مبطلا لأصل هذا الكلام فضلا عن فروعه
(4/230)
ومع تقدير تعدده يمتنع عدم تعدده فيكون الدليل الذي استدل به على نفي التركيب مستلزما لثبوت التركيب فيكون دليله يدل على نقيض مطلوبه وهذا أبلغ ما يكون في بطلان قوله
وإن قدر أن للمجموع حقيقة غير تلك الأفراد فإن ما لزم الواجب كان واجبا ويبيقى حينئذ الكلام في أن المجموع إن كان زائدا على العدد إنما وجوبه بالعدد نزاع لا فائدة فيه فإنه إذا قدر عشرة كل منهم واجب بنفسه لزم أن تكون العشرة واجبة قطعا وإذا كان كل من العشرة لا يقبل العدم لنفسه فالعشرة لا تقبل العدم بطريق الأولى والأحرى
وانضمام الواجب بنفسه إلى الواجب بنفسه إذا قدر ذلك لا يوجب ضعفا لأحدهما بل نفس ذلك الاجتماع هو من لوازم وجودهما بطريق الأولى والأحرى وإذا قدر أن اتصال بعضها ببعض من لوازم وجودها الواجب بنفسه لم يكن ممتنعا فإن الواجب بنفسه على هذا التقدير لا يمتنع أن يكون له لوازم وملزومات واجبة
(4/231)
ومن العجب أن هؤلاء القوم كهذا وأمثاله من الخائضين في واجب الوجود على طريقة ابن سينا وأمثاله الذين جعلوا التركيب عمدتهم في نفي ما ينفونه يوردون في طريق إثبات واجب أسولة تفسد ما ذكروه في انتقاء التركيب بالضرورة وهي لا تفسد امتناع التسلسل وهم مع ذلك يوردونها في طريق إثباته إشكالا على إبطال القول بالتسلسل الذي جعلوه مقدمة من مقدمات إثباته حتى يبقوا دائما في نصرة التعطيل بالباطل وهم إذا نصروا الإثبات ببعض ما نصروا به التعطيل كان فيه كفاية وبيان لفساد التعطيل
وبيان ذلك أنهم لم أثبتوا واجب الوجود جعلوا إثباته موقوفا على إبطال التسلسل لما قالوا إن الممكن لا بد له من مرجح مؤثر ثم إما أن يتسلسل ثم إما أن يتسلسل الأمر حتى يكون لكل ممكن مرجح ممكن فتتسلسل العلل والمعلولات الممكنة أو ينتهي الأمر إلى واجب لنفسه ثم قالوا لم لا يجوز أن يكون التسلسل جائزا كما قد تكلم على هذا في غير هذا الموضع
ومن أعظم أسولتهم قولهم لم لا يكون المجموع واجبا بأجزائه المتسلسلة وكل منها واجب بالآخر وهذا السؤال ذكره الآمدى
(4/232)
وذكر أنه لا يستطيع أن يجيب عنه ومضمونه وجوب وجود أمور ممكنه بنفسها ليس فيها ما هو موجود واجب بنفسه لكن كل منها معلول للآخر والمجموع معلول بالأجزاء
ومن المعلوم أنا إذا فرضنا مجموعا واجبا بأجزائه الواجبة التي لا تقبل العدم كان أولى في العقل من مجموع يجب باجزاء كل منها ممكن لا يوجد بنفسه فإن المحتاج إلى الممكنات أولى بالإمكان أما الذي يكون وجوده لازما للواجبات فلا يمكن عدمه
والعقل الصريح الذي لم يكذب قط يعلم أن المركب المجموع من أجزاء كل منها ممكن لا وجود له بنفسه هو أيضا ممكن لا وجود له وأما المركب من أجزاء كل منها واجب بنفسه فإنه لا يمتنع كونه واجبا بنفسه أي بتلك الأجزاء التي كل منها واجب
وإذا قيل الإجتماع نفسه مفتقر إلى تلك الأجزاء التي كل منها واجب بنفسه كان ذلك نزاعا لفظيا
والمقصود أن العقل يصدق بإمكان هذا ولا يصدق بإمكان أجزاء كل منها ممكن والمجموع واجب بها وهؤلاء قلبوا الحقائق العقلية
(4/233)
فقالوا إذا اجتمعت واجبات بأنفسها صارت ممكنه وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت واجبة فإذا تكلموا في نفي الصفات الواجبة لله جعلوا كون المركب يستلزم أجزاءه موجبا لامتناع المركب الذي جعلوه مانعا من العلو والتجسيم ومن ثبوت الصفات ولا يوردون على أنفسهم ما أوردوه في إثبات واجب والوجود وإيراده هنا أولى لأن فيه مطابقة لسائر أدله العقل مع تصديق ما جاءت به الرسل وما في ذلك من إثبات صفات الكمال لله تعالى بل وإثبات حقيقته التي لا يكون موجودا إلا بها فكان يمكنهم ا يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الواجب أو المركب الواجب أو الجملة الواجبة واجبة بوجوب كل جزء من أجزائها التي هي واجبة بنفسها لا تقبل العدم
وكان هذا خيرا من أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الذي كل من أجزائه ممكن بنفسه هو واجبا بنفسه أو واجبا بأجزائه وهذا الأمدي مع أنه من أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور وأعرفهم بالكلام والفلسفة اضطرب وعجز عن الجواب عن
(4/234)
الشبهة الداحضة القادحة في إثبات واجب الوجود وهو دائما يحتج بنظيرها الذي هو أضعف منها على نفي العلو وغيره من الأمور الثابته بالشرع والعقل ويقول إن ذلك يستلزم التجسيم وأن المخالفين في الجسم جهال
ولو أعطى النظر حقه لعلم أن الجهل المركب فضلا عن البسيط أجدر بمن سلك مثل تلك الطريق فإن من شك في اوضح الأمرين وأبينهما في العقل وفي أمر لم يشك أحد من الأولين والآخرين فيه كان أولى بالجهل ممن قال بما قالت به الأنبياء والرسل وأتباعهم وسائر عقلاء بني آدم من الأولين والآخرين وعلم ثبوته بالبراهين اليقينية
وذلك أنه لم يجوز أحد من بنى آدم وجود فاعل للعالم ولذلك الفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له من غير أن يكون هناك فاعل موجود
(4/235)
بنفسه فمن شك في جواز هذا أو عجز عن جواب شبهة مجوزة كان جهله بينا وكان أجهل من أفحش الناس قولا بالباطل المحض من التشبية والتجسيم حتى لو فرض القول الذي يحكى عن غالية المنتقصة لله من اليهود وغيرهم مثل الذين يصفونه بالبكاء والحزن وعض اليد حتى جرى الدم ورمد العين وباللغوب والفقر والبخل وغير ذلك من النقائص التي يجب تنزه الله تعالى عنها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فإذا قدر واجب بنفسه موصوف بهذه النقائص لم يكن هذا ابعد في العقل من وجود فاعل موجودا بنفسه له فاعل ليس موجودا بنفسه إلى ما لا يتناهي فإن هذا وصف لجميع الفاعلين بالعدم الذي هو غاية النقص فإن غاية النقص أنه يرجع إلى أمور عدمية فكيف عدم كل ما يقدر فاعلا للعالم
فتبين أن هؤلاء الذين يدعون العقليات التي تعارض السمعيات هم من أبعد الناس عن موجب العقل ومقتضاه كما هم من أبعد الناس عن متابعة الكتاب المنزل والنبي المرسل وأن نفس ما به يقدحون في أدلة الحق التي توافق ما جاء به الرسول لو قدحوا به فيما يعارض ما جاء به الرسول لسلموا عن التناقض وصح نظرهم وعقلهم واستدلالهم ومعارضتهم صحيح المنقول وصريح المعقول بالشبهات الفاسدة
(4/236)
ومن أعجب الأشياء أن هذا الآمدى لما تكلم على مسألة هل وجوده زائد على ذاته أم لا ذكر حجة من قال لا يزد وجوده على ذاته فقال احتجوا بأنه لو كان زائدا على ذاته لم يخل إما أن يكون واجبا أو ممكنا لا جائز أن يكون واجبا لأنه مفتقر إلى الذات ضرورة كونه صفة لها ولا شيء من المفتقر إلى غيره يكون واجبا فإذا وجوده لو كان زائدا على ذاته لما كان واجبا فلم يبق إلا أن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا فلابد له من مؤثر والمؤثر فيه إما الذات أو خارج عنها والأول ممتنع لأنه يستلزم كون الذات قابلة وفاعلة ولأن المؤثر في الوجود لا بد أن يكون موجودا فتأثيرها في وجودها يفتقر إلى وجودها فالوجوه مفتقر إلى
(4/237)
نفسه وهو محال وإن كان المؤثر غيرها كان الوجود الواجب مستفادا له من غيره فلا يكون الوجود واجبا بنفسه
ثم قال وهذه الحجة ضعيفة إذ لقائل أن يقول ما المانع من كون الوجود الزائد على الماهية واجبا لنفسه قولكم لأنه مفتقر إلى الماهية والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا لنفسه قلنا لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقر إلى مؤثر فاعل ولا يمتنع أن يكون موجبا بنفسه وإن كان مفتقرا إلى القابل فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقوله الفيلسوف في
(4/238)
العقل الفعال بأنه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الأنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة
قال وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون ممكنا ولكن لا نسلم أن حقيقة الممكن هو المفتقر إلى المؤثر بل الممكن هو المفتقر إلى الغير الافتقار إلى الغير أعم من الافتقار إلى المؤثر وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة
فيقال ففي هذا الكلام جوز أن يكون الوجود الواجب مفتقرا إلى الماهية وذكر أن الواجب بنفسه هو الذي لا يفتقر إلى المؤثر ليس هو الذي لا يفتقر إلى الغير وأن كونه ممكنا بمعنى افتقاره إلى الغير لا إلى المؤثر هو الإمكان الذي يوصف به الوجود الواجب المفتقر إلى الماهية
وهذا الذى قاله هو بعينه يقال له فيما ذكره هنا حيث قال إن المجموع مفتقر إلى كل من أجزائه والمفتقر إلى الغير لا يكون واجبا بنفسه لأنه ممكن
(4/239)
فيقال له لا نسلم أن المفتقر إلى الغير على الإطلاق لا يكون واجبا بنفسه بل المفتقر إلى المؤثر لا يكون واجبا لنفسه وافتقار المجموع إلى كل من أجزائه ليس افتقارا إلى مؤثر بل إلى الغير كافتقار الوجود إلى الماهية اذا فرض تعددها
ويقال قولك إن المجموع يكون ممكنا أتعنى بالممكن ما يفتقر إلى مؤثر أم ما يفتقر إلى الغير
فإن قلت الأول كان باطلا وإن قلت الثاني فلم قلت إن الواجب بنفسه الذى لا يفتقر إلى فاعل لا يكون ممكنا بمعنى أنه يفتقر إلى غير لا إلى فاعل
فهذا الكلام الذى ذكره هو بعينه يجيب به نفسه عما ذكره هنا بطريق الأولى والأحرى فإن توقف المجموع الواجب لأجزائه على كل من أجزائه لا ينفى وجوبه بنفسه التي هي المجموع مع الأجزاء أما توقف الوجود على الماهية المغايرة له فإنه يقتضى توقف الوجود الواجب على ما ليس داخلا فيه
(4/240)
ومعلوم أن افتقار الشيء إلى جزئه ليس هو كافتقاره إلى ما ليس جزأه بل الأول لا ينفى كمال وجوبه إذ كان افتقاره إلى جزئه ليس أعظم من افتقاره إلى نفسه والواجب بنفسه لا يستغنى عن نفسه فلا يستغنى عما وهو داخل في مسمى نفسه أما إذا قدر وجود واجب وماهية مغايرة له كان الواجب مفتقرا إلى ما ليس داخلا في مسمى اسمه فمن جوز ذاك كيف يمنع هذا
ولهذا كان قول مثبتة الصفات خيرا من قول أبي هاشم وأمثاله من المعتزلة وأتباعهم الذين قالوا إن وجود كل موجود في الخارج مغاير لذاته الموجودة في الخارج وأن وجود واجب الوجود زائد على ماهيته وإن كان قد وافقه على ذلك طائفة من أهل الإثبات في أثناء كلامهم حتى من أصحاب الأئمة الأربعة ( أحمد ) وغيره كابن الزغواني وهو أحد قولي الرازي بل هو الذى رجحه في أكثر كتبه وكذلك أبو حامد فإبطال مثل هذا التركيب أولى من إبطال ذاك وأدنى الأحوال أن يكون مثله فإن من قال إن الوجود زائد على الماهية
(4/241)
لزمه أن يجعل الماهية قابلة للوجود والوجود صفة لها فيجعل الوجود الواجب صفة لغيره والصفة مفتقرة إلى محلها وهذا الافتقار أقرب إلى أن تكون الصفة ممكنة من افتقار الجميع إلى جزئه فإن افتقار الجميع إلى نفسه لا ينافى وجوبه بنفسه فكيف افتقاره إلى صفته اللازمة له وإلى ما يقدر أنه جزؤه الذى لا يوجد إلا في ضمن نفسه وأما افتقار الصفة إلى الموصوف فأدل على إمكان الصفة بنفسها فإذا كان الوجود الواجب لا يمتنع أن يكون صفة لماهية فكيف يمتنع أن يكون مجموعا
وغاية ما يقال إن الاجتماع صفة للأجزاء المجتمعة الموجودة الواجبة ومعلوم أن صفة الأجزاء بنفسها أولى أن تكون موجودة واجبة من صفة الماهية التي هي في نفسها ليست وجودا
فهذا الذى ذكره هناك حجة عليه هنا مع أنه يمكن تقريره بخير مما قرره به فإنه قد يقال إن هذا تقرير ضعيف وذلك أنه قال لا نسلم ان الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره فإن الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقرا إلى مؤثر فاعل ولا يمتنع أن يكون موجبا بنفسه وإن كان مفتقرا إلى القابل فإن
(4/242)
الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقول الفيلسوف في العقل الفعال بأنه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة
فقد يقال إن هذا التقرير ضعيف لوجوه
أحدها أن الكلام فيما هو واجب بنفسه لا فيما هو موجب لغيره أو فاعل له وإذا قدر أن الموجب الفاعل يقف على غيره لم يلزم أن يكون الواجب بنفسه يقف على غيره
الثاني أن الموجب الفاعل لا تقف نفسه على غيره وإنما يقف تأثيره ولا يلزم من توقف تأثيره على غيره توقفه وهذا كما ذكره من التمثيل بالعقل الفعال فإن أحدا لا يقول إن نفسه تتوقف على غيره الذى يقف عليه تأثيره فإذا كان هذا في الموجب فكيف بالواجب
بل هم يقولون إن نفس إيجابه يتوقف على غيره بل وصول الأثر إلى المحل يتوقف على استعداد المحل
(4/243)
الثالث أن هذا التمثيل يمكن في غير الواجب بنفسه أما هو سبحانه وتعالى فلا يتصور أن تقف ذاته على غيره ولا فعله على غيره فإن القوابل هي أيضا من فعله فالكلام في فعله للمقبول لها كالكلام في فعله للقابل فكل ما سواه فقير إليه مفعول له وهو مستغن عن كل ما سواه من كل وجه بخلاف الفاعل المخلوق الذى يتوقف فعله على قابل فإنه فعل مفتقر إلى شئ منفصل عنه لكن يمكن أن يجاب عنه بأن يقال إذا كان الموجب لغيره المتوقف إيجابه على غيره لا يمنع أن يكون موجبا بنفسه كما قالوا في العقل الفعال فأن يكون توقف إيجابه على غيره لا يمنع أن يكون واجبا بنفسه أولى وأحرى فإن الموجب لغيره واجب وزيادة إذ لا يوجد إلا ما هو موجود ولا يوجب إلا ما هو واجب
والعقل الفعال يقولون هو واجب بغيره وهو موجب بغيره لا واجب بنفسه ومقصوده أن الوجوب والإيجاب بالذات لا يمنع توقف ذلك على غيره وإنما يمنع كونه مفعولا للغير
وتلخيص الكلام أنه إذا قيل إن الوجود زائد على الماهية كانت الماهية محلا للوجود الواجب فيكون الواجب لنفسه مفتقرا إلى قابل لا إلى فاعل فنقول الواجب هو الذي لا يكون مفتقرا إلى فاعل ليس هو الذى لا يكون مفتقرا إلى قابل فإن الذى قام عليه قطع التسلسل أن الواجب لا فاعل له ولا علة
(4/244)
أما كون الوجود الواجب له محل هو موصوف به أم لا فذاك كلام آخر لكنه عضد ذلك بأن الإيجاب بالذات لا ينافي كون الموجب له محل يقبله فكذلك الوجوب بالذات لاينفي أن يكون له محل يقبله واستشهد بالعقل الفعال لكنهم يقولون العقل الفعال ليس بموجب بالذات وأما الرب الموجب بالذات فليس له محل يقبله فتبين أن الاستشهاد بهذا لا يصح وليس التمثيل به مطابقا
والمقصود هنا أن الذى يعتمد عليه هو وأمثاله في نفي ما يسمونه التركيب هم أنفسهم قد أبطلوه في مواضع أخر واحتجوا به في موضع آخر وهو حيث احتجوا به أضعف منه حيث أبطلوه
وكذلك ما ذكره من الوجه الثاني على إبطال التركيب فإنه قال الوجه الثاني في امتناع كونه مركبا من الأجزاء أن تلك الأجزاء إما أن تكون واجبة الوجود لذاتها أو ممكنة أو البعض واجبا والبعض ممكنا لا جائز أن يقال بالأول على ما سيأتي تحقيقة في إثبات الوحدانية وإن كان الثاني أو الثالث فلا يخفى أن المفتقر إلى الممكن المحتاج إلى الغير أولى بالإمكان والاحتياج والممكن المحتاج لا يكون واجبا لذاته وما لا يكون واجبا لذاته لا يكون إلها
(4/245)
قلت ولقائل أن يقول هذا الوجه أيضا فاسد من وجوه
أحدها أن يقال لم لا يجوز أن تكون تلك الأجزاء كلها واجبة
قوله على ما سيأتي تحقيقة في مسألة التوحيد
يقال له الذى ذكرتة فيما بعد في مسألة التوحيد هي الطريقة المعروفة لابن سينا وأتباعه أن الفلاسفة وهي وجهان أحدهما مبناه على أن المركب يفتقر إلى أجزائه وها هو الوجه ( الأول ) الذى ذكرته هنا فصار مدار هذا الوجه الثانى على الأول فلم يذكر إلا الأول وقد تبين فساده
الوجه الثاي الذى ذكرته في التوحيد مبناه على كون الوجوب يصير معلولا وهذا هو الذى ذكرته في كون الوجود الواجب لا يزيد على الماهية لئلا يكون معلولا للماهية وأنت قد أفسدت هذا الوجه وبا أفسدته به يفسد الآخر أيضا
فتبين أن ما ذكرته في مسألة التوحيد يعود إلى وجه واحد وأنت قد قدمت فساده فالحوالة على ما سيأتى وما سيأتي منه ما هو مكرر فكلاهما فاسد
وهو دائما في كلامه يذكر فساد هذه الطريقة حتى أنه لما استدلت الفلاسفة أتباع ابن سينا وغيرهم على أن الأجسام ممكنة بهذه
(4/246)
الطريقة واستدل بها طائفة على حدوث العالم وهذا أول طريقة ذكرها في حدوث العالم فقال قد احتج الأصحاب بمسالك الأول قولهم العالم ممكن بذاته وكل ممكن بذاته فهو محدث وقرر الإمكان بأن قال أجسام العالم مؤلفة ومركبة لما سبق بيانه في الأجسام وكل ما كان مؤلفا مركبا فهو مفتقر إلى أجزائه وكل مفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بذاته فالأجسام ممكنة لذواتها والأعراض قائمة بالأجسام ومفتقرة إليها والمفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا
ثم ضعف هذا المسلك قال وقولهم إن العالم مركب مسلم ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة وما ذكروه من
(4/247)
الدلالة فقد بينا ضعفها في مسألة الوحدانية فهنا لما احتجوا بهذه الدلالة على حدوث العالم ذكر ضعفها وأحال على ما ذكره في الوحدانية فكيف يحتج بها بعينها في مثل هذا المطلوب بعينه وهو كون الأجسام ممكنة لأنها مركبة ويحيل على ما ذكره في التوحيد
ومعلوم أنه لو أبطلها حيث تعارض نصوص الكتاب والسنة واعتمد عليها حيث لا تناقض ذلك لكان مع مافيه من التاقض أقرب إلى العقل والدين من أن يحتج بها في نفى لوازم نصوص الكتاب والسنة ويبطلها حيث لا تخالف نصوص الأنبياء
الوجة الثاني أن يقال أنت أيضا قد بينت في الكلام على إثبات وحدانية الله تعالى فساد هذه الطريقة التى سلكها ابن سينا وغيره من الفلاسفة التى أحلت عليها هنا وذلك أنه قال الفصل الثاني في امتناع وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات الإلهية ما للآخر وقد احتج النافون للشركة بمسالك ضعيفة المسلك الأول وهو ما ذكره الفلاسفة وذلك أنهم قالوا لو قدر وجود واجبين كل
(4/248)
واحد منهما واجب لذاته فلا يخلو إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو باختلافهما من كل وجه أو باتفاقهما من وجه دون وجه فإن كان الأول فلا تعدد في مسمى واجب الوجود إذ التعدد والتغاير دون مميز محال وإن كان الثاني فما اشتركا في وجوب الوجود وإن كان الثالث فما به الاشتراك غير ما به الافتراق وما به الاشتراك إن لم يكن هو وجوب الوجود فليسا بواجبين بل أحدهما دون الآخر وإن كان الاشتراك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين الأول هو أن ما به الاشتراك من وجوب الوجود إما أن يتم تحققه في كل واحد من الواجبين بدون ما به الافتراق أو لا يتم دونه فإن كان الأول فهو محال وإلا كان المعنى المشترك المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وهو محال وإن كان الثاني كان وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره فالموصوف به وهو ما قيل بوجوب وجوده به أولى أن يكون ممكنا الوجه الثاني أن مسمى واجب الوجود إذا كان مركبا من أمرين وهو وجوب الوجود المشترك وما به الافتراق فيكون مفتقرا في وجوده إلى كل واحد من مفرديه وكل
(4/249)
واحد من المفردين مغاير للجملة المركبة منهما ولهذا يتصور تعقل كل أحد من الأفراد مع الجهل بالمركب منها والمعلوم غير المجهول وكل ما كان مفتقرا إلى غيره في وجوده كان ممكنا لا واجبا لذاته إذ لا معنى لواجب الوجود لذاته إلا مالا يفتقر في وجوده إلى غيره وهذه المحالات إنما لزمت من القول بتعدد واجب الوجود لذاته فيكون محالا
قال وربما استروح بعض الأصحاب في إثبات الوحدانية إلى هذا المسلك أيضا وهو ضعيف إذ لقائل أن يقول وإن سلمنا الاتفاق بينهما من وجه والافتراق من وجه وأن ما به الاتفاق هو وجوب الوجود ولكن لم قلتم بالامتناع وما ذكرتموه في الوجه الأول إنما يلزم أن لو كان مسمى وجوب الوجود معنى وجوديا وأما بتقدير أن يكون أمرا سلبيا ومعنى عدميا وهو عدم افتقار الوجود إلى علة خارجة فلا فلم قلتم بكونه أمرا وجوديا
ثم بسط الكلام في كونه عدميا بما ليس هذا موضع الكلام فيه
(4/250)
قال وعلى هذا فقد بطل القول بالوجه الثاني فإنه إذا كان حاصل الوجوب يرجع إلى صفة سلب فلا يوجب ذلك التركيب من ذات واجب الوجود وإلا لما وجد بسيط أصلا فإنه ما من بسيط إلا ويتصف بسلب غيره عنه وإن سلمنا أن وجوب الوجود أمر وجودى ولكن ما ذكرتموه من لزوم التركيب فهو لازم وإن كان واجب الوجود واحدا من حيث أن مسمى واجب الوجود مركب من الذات المتصفة بالوجوب ومن الوجوب الذاتي فما هو العذر عنه مع اتحاد واجب الوجود فهو العذر مع تعدده
قلت الوجه الأول ذكره الرازي قبله في إبطال هذا والوجه الثاني ذكره الرازي كما ذكره الشهرستاني قبله وهو أن هذا منقوض بمشاركة واجب الوجود لسائر الموجودات في مسمى الوجود وامتيازه عنها بوجوب الوجود فقد صار فيه على أصلكم ما به الاشتراك وما به الامتياز
(4/251)
والأمدى يقول إن وجوب الوجود بالاشتراك اللفظي وقاله قبله الشهرستاني والرازي مع تناقضهما في ذلك وقولهما في موضع آخر خلاف ذلك
والمقصود هنا أن ما ذكروه في إبطال تعدد واجب الوجود وإفساد طرق ابن سينا وأتباعه في ذلك يبين بطلان ما أحال عليه في قوله لا يجوز أن تكون الأجزاء كلها واجبة على ما سيأتي تحقيقة في مسألة التوحيد
ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق وتقويتها إذا نصر بها باطل أن حجة الفلاسفة على التوحيد قد أبطلها لاما استدلوا بها على أن الإله واحد والمدلول حق لا ريب فيه وإن قدر ضعف الحجة ثم إنه يحتج بها بعينا على نفي لوازم علو الله على خلقه بل ما يستلزم تعطيل ذاته فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل ويبطلها إذا احتج بها على التوحيد
وأيضا فما ذكره في إبطال هذه الحجة يبطل الوجه الأول أيضا فإنه إذا لم يمتنع واجبان بأنفسهما فأن لا يمتنع جزءان كل منهما واجب بنفسه بطريق الأولى والأحرى
واعلم أن الوجهين اللذين أبطلا بهما الحجة أحدهما منع كون الوجوب أمرا ثبوتيا والثاني المعارضة أما المعارضة فواردة على هؤلاء الفلاسفة لا مندوحة لهم عنها ومعارضة الشهرستاني والرازي وأظن
(4/252)
الغزالى أجود من معارضة الآمدى ومن اعتذر عن ذلك بأن الواجب لفظ مشترك لزم بطلان توحيد الفلاسفة بطريق الأولى فإنه لا محذور حينئذ في إثبات أمور متعددة كل منها يقال له واجب الوجود بمعنى غير ما يقال للآخر
فبكل حال يلزم إما لزوم التركيب وإما بطلان توحديهم وأيهما كان لازما لزم الآخر فإنه إذا لزم التركيب بطل توحيدهم وإذا بطل توحيدهم أمكن تعدد الواجب وهذا يبطل امتناع التركيب
ولا ريب أن أصل كلامهم بل وكلام نفاة العلو الصفات مبنى على إبطال التركيب وإثبات بسيط كلى مطلق مثل الكليات وهذا الذى يثبتونه لا يوجد إلا في الأذهان والذى أبطلوه هو لازم لكل الأعيان فأثبتوا ممتنع الوجود في الخارج وأبطلوا واجب الوجود في الخارج
ونحن نبين بطلان ذلك بغير ما ذكره هؤلاء فنقول قول القائل إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو اختلافهما من كل وجه أو اتفاقها من وجه دون وجه إن أريد به أنهما يتفقان في شيء بعينه موجود في الخارج فليس في الموجودات شيئان ما يتفقان في شيء بعينه موجود في الخارج ولكن يشتبهان من بعض الوجوه مع أن كلا منهما مختص بما قام به نفسه كالبياضين أو الأبيضين المشتبهين مع أنه
(4/253)
ليس في أحدهما شئ مما في الآخر وإن أراد بقوله أو اختلافهما من كل وجه أنهما لا يشتبهان في شئ ما ولا يشتركان في شئ ما فليس في الوجود شيئان إلا بينهما اشتراك في شئ وتشابه في شئ ما ولو أنه مسمى الوجود وإن أراد امتياز أحدهما عن الآخر فكل منهما ممتاز عن الآخر من ( كل ) وجه وإن كانا مشتركين في أشياء بمعنى اشتباههما لا بمعنى أن في الخارج شيئا بعينه اشتركا فيه كما يشترك الشركاء في العقار
وإذا عرف أن هذه الألفاظ مجملة فنقول هما مشتبهان مشتركان في وجوب الوجود كما أن كل متفقين في اسم متواطئ بالمعنى العام سواء كان متماثلا وهو التواطؤ الخاص أو مشككا وهو المقابل للتواطؤ الخاص كالموجودين والحيوانين والإنسانين والسوادين اشتركا في مسمى اللفظ الشامل لهما مع أن كلا منهما متميز في الخارج عن الآخر من كل وجه فهما لم يشتركا في أمر يختص بأحدهما بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه وإنما اشتركا في مطلق الوجود
(4/254)
والوجود المطلق المشترك الكلى لا يكون كليا لا في هذا ولا في هذا بل هو كلى في الأذهان مختص في الأعيان وإذا قيل الكلى الطبيعي موجود فمعناه أن ما كان كليا في الذهن يوجد في الخارج لكن لا يتصور إذا وجد ان يكون كليا كما يقال العام موجود في الخارج وهو لا يوجد عاما
وقوله إما أن يختلفا من كل وجه أو يتفقا من كل وجه
قلنا إذا أريد بالاختلاف ضد الاشتباه فقد يقال ليسا مختلفين من كل وجه وإن أريد الإمتياز فهما مختلفان من كل وجه
وقوله إذا كانا متفقين من كل وجه زال الامتياز يصح إذا أريد بالاختلاف ضد الامتياز فإنهما إذا لم يتميز أحدهما عن الآخر بوجه بطل الامتياز وأما إذا أريد بالاتفاق التشابه والتماثل فقد يكونان متماثلان من كل وجه كتماثل أجزاء الماء الواحد
والتماثل لا يوجب أن يكون أحد المثلين هو الأخر بل لا بد ان يكون غيره
(4/255)
وحينئذ فقوله ما به الاشتراك غير ما به الامتياز
قلنا لم يشتركا في شيء خارجي حتى يحوجهما اشتراكهما فيه إلى الامتياز بل هما ممتازان بانفسهما وإنما تشابها أنو تماثلا في شئ والمتماثلان لا يحوجهما التماثل إلى مميز بين عينيهما بل كل منهما ممتاز عن الآخر بنفسه
وقوله ما به الاشتراك إما وجوب الوجود أو غيره
قلنا كل منهما مختص بوجوب وجوده الذى يخصه كما هو مختص بسائر صفاته التى تخص نفسه وهو أيضا مشابه الآخر في وجوب الوجود فما اشتركا فيه من الكلى لا يقبل الاختصاص وما اختص به كل منهما عن الآخر لا يقبل الاشتراك فضلا عن أن يكون ما اشتركا فيه محتاجا إلى مخصص وما اختص به كل منهما يقارنه فيه مشترك وحينئذ فالاشتراك في وجوب الوجود المشترك والامتياز بوجوب الوجود المختص والاشتراك أيضا في كل مشترك والامتياز بكل مختص
وقوله وإن كان الاشتراك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين أحدهما أن المشترك إما أن يتم بدون ما به الافتراق وذلك محال وإلا كان المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وإن لم يتم إلا بما به الافتراق كان وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره
قلنا إن أريد بالمشترك بينهما المعنى المطلق الكلى فذاك لا يفتقر إلى ما به الامتياز وليس له ثبوت في الأعيان حتى يقال إنه يلزم أن يكون
(4/256)
المطلق في الأعيان من غير مخصص وإن أريد به ما يقوم بكل منهما من المشترك وهو ما يوجد في الأعيان من الكلى فذاك لا اشتراك فيه في الأعيان فإن كل ما لأحدهما فهو مختص به لا اشتراك فيه وحينئذ فالموجود من الوجوب هو مختص بأحدهما بنفسه لا يفتقر إلى مخصص فلا يكون الوجوب الذى لكل منهما في الخارج مفتقرا إلى مخصص واذا لم يكن ذلك بطل ما احتجوا به على كونه ممكنا وأما المشترك الكلى المطلق من الوجوب فذاك ليس موجودا لهذا ولا لهذا ولا متحققا في الأعيان وحينئذ فلا يلزم أن الكلى يتحقق في الأعيان بلا مخصص
وأيضا فيقال هب أن المشترك لا يتحقق في الأعيان إلا بالمختص فهذا لا يمنع وجوب وجوده إذ الواجب هو مالا فاعل له ليس هو ما لا لازم ولا ملزوم له
وهذا الآمدى ذكر هذا فيما تقدم وبين أن الوجود الواجب لا يمتنع توقفه على القابل وإنما يمتنع توقفه على الفاعل
وبهذا يبطل الوجه الثاني وهو كون الوجود الواجب مركبا مما به
(4/257)
الاشتراك وما به الامتياز ( فإن ما به الاشتراك لم يوجد في الخارج وما به الامتياز لم يقع فيه اشتراك فليس في أحدهما ما به الاشتراك وما به الامتياز ) ولكن كل منهما موصوف بصفة يشابه بها الآخر وهو الوجوب واتصاف الموصوف بصفة يشابه بها غيره من وجه وامر يختص به إنما يوجب ثبوت معان تقوم به وأن ذاته مستلزمة لتلك المعاني وهذا لا ينافي وجوب الوجود بل لا يتم وجوب الوجود إلا به ولو سلم أن مثل هذا تركيب فلا نسلم أن مثل هذا التركيب ممتنع كما تقدم بيانه
فقد تبين بطلان الوجه الأول من وجهين وبطلان الوجه الثاني من وجهين غير ما ذكروه والله أعلم
والوجه الأول من الوجهين هو الذي اعتمده ابن سينا في إشاراته وقد بسطنا الكلام عليه في جزء مفرد شرحنا فيه أصول هذه الحجة التي دخل منها عليهم التلبيس في منطقهم وإلهياتهم وعلى من اتبعهم كالرازي والسهروردى والطوسى وغيرهم
وقد ذكرنا عنه هناك جوابين
أحدهما أن هؤلاء عمدوا إلى الصفات المتلازمة في العموم والخصوص ففرضوا بعضها مختصا وبعضها عاما بمجرد التحكم كالوجود والثبوت والحقيقة والماهية ونحو ذلك
(4/258)
فإذا قيل الواجب والممكن كل منهما يشارك الأخر في الوجود ويفارقه بحقيقه أو ما هيته
قيل لهم معنى الوجود يعمهما ومعنى الحقيقة يعمهما وكل منهما يمتاز عن الآخربوجوده المختص به كما يمتاز عنه بحقيقته التى تختص به فليس جعل هذا مشتركا وهذا مختصا بأولى من العكس
وهكذا إذا قدر واجبان لكل منهما حقيقة فهما مشتركان في مطلق الوجوب ومطلق الحقيقة وكل منهما يمتاز عن الآخر بما يخصه من الوجوب والحقيقة فما قلتم به الامتياز متلازم وما قلتم به الاشتراك متلازم ولا يفتقر ما جعلتم به الاشتراك إلى ما جعلتم به الامتياز ولا ما جعلتم به الامتياز إلى ما جعلتم به الاشتراك بل كل منها موصوف بما به الامتياز وهو ما يخصه وتلك الخصائص تشابه خصائص الآخر من بعض الوجوه فذلك القدر المشترك الذى لا يختص بأحدهما هو ما به الاشتراك
فإذا قيل هذا لون وهذا لون كانت لونية كل منهما مختصة به واللونية العامة مشتركة بينهما
وكذلك إذا قيل هذا حيوان وهذا حيوان وهذا إنسان وهذا إنسان وهذا أسود وهذا أسود وامثال ذلك فليس شيء من
(4/259)
الموجودات في الخارج مركبا من نفس ما به الاشتراك وما به الامتياز بل هو مختص بوصف وذلك الوصف يشابه غيره لكن هو مشتمل على صفات بعضها أعم من بعض أى بعضها يوجد نظيره في غيره اكثر مما يوجد نظير الآخر وأما هو نفسه فلا يوجد في غيره
وأما الجواب الثاني فلا ريب أن كلا منهما فيه وجوب وفيه معنى آخر غير الوجوب بل نفس الواجب الواحد فيه الوجوب وفيه ذاته وهذا هو النقض الذى عارضهم به الآمدى
لكن قول القائل وجوب الوجود حينئذ يكون ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره فالموصوف به أولى أن يكون ممكنا كلام مجمل
فإنه يقال ما تعنى بكون الوجوب مفتقرا إلى غيره أتعنى به أنه مفتقر إلى مؤثر أم مستلزم لغيره
فإن عنيت الأول فهو باطل فإنه لا يحتاج الوجوب سواء فرض مختصا أو مشتركا إلى فاعل ولكن لا بد له من محل يتصف به فإن الوجوب لا يكون إلا لواجب وافتقار الوجوب إلى محله الموصوف به لا يمنع المحل أن يكون واجبا بل ذلك يستلزم كونه واجبا
وقول القائل إن الوجوب يكون ممكنا إن أراد به افتقاره إلى
(4/260)
محل فهذا حق لكن هذا لا يستلزم كونه مفتقرا إلى فاعل ولا كون المحل مفتقرا إلى فاعل
فقوله وإن كان الثاني كان الوجوب ممكنا فالموصوف به أولى مغلطة فإن الإمكان الذى يوصف به الوجوب إنما هو افتقاره إلى محل لا إلى فاعل ومعلوم أنه إذا كانت صفة الموصوف تفتقر إليه لكونه محلا لها لا فاعلا لم يلزم ان يكون الموصوف أولى بأن يكون محلا ولو قدر أن الوجوب يفتقر إلى مميز غير المحل فهو من افتقار الشرط إلى المشروط واللازم إلى الملازم ليس هو من باب افتقار المعلول إلى العلة الفاعلة
ومثل هذا لا يمتنع على وجوب الوجود بل لابد لوجوب الوجود من ذلك إذ وجوب الوجود ليس هو الواجب الوجود بل هو صفة له مع أن الواجب الوجود له لوازم وملزومات وذلك لا يوجب افتقاره إلى المؤثر فالوجوب أولى أن لا يفتقر إلى مؤثر لأجل ما له من اللوازم والملزومات فهذان وجهان غير ما ذكره هو وأمثاله هنا
(4/261)
الوجه الرابع أن يقال لم لا يجوز ان يكون بعض تلك الأجزاء واجبا وبعضها ممكنا
قوله الموقوف على الممكن أولى بالأمكان
قيل متى إذا كان الجزء الممكن من مقتضيات الجزء الواجب أو بالعكس وهذا كما أن مجموع الوجود بعضه واجب لنفسه وبعضه ممكن والممكن منه من مفعولات الواجب لنفسه ولا يلزم من ذلك أن يكون مجموع الموجودات أولى بالإمكان من الموجودات الممكنة
وهذا الجواب يقوله من يقوله في مواضع أحدها في الذات مع الصفات
فإذا قيل له الذات والصفات مجموع مركب من أجزاء فإما أن تكون واجبة كلها أو بعضها واجب وبعضها ممكن أمكنه أن يقول الذات واجبة والصفات ممكنة بنفسها وهي واجبة بالذات كمايجيب بمثل ذلك طائفة من الناس
(4/262)
فإذا قيل المجموع متوقف على ة الممكن
قال إن ذلك الممكن من مقتضيات الواجب بنفسه
وهذا يقوله هؤلاء إذا فسر إمكان الصفات بأنها تفتقر إلى محل فالذات لا تفتقر إلى محل فالذات لا تفتقر إلى فاعل ولا محل والصفات لابد لها من محل وإن فسر الواجب بما لا يفتقر إلى موجب فالصفات أيضا لا تفتقر إلى موجب لكنه قد يسلم له هؤلاء أن الصفات لها موجب وهو الذات
وقولهم إن الشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا من أفسد الكلام كما قد بسط في موضعه فيقول هؤلاء الذات موجبة للصفات ومحل لها والذات واجبة بنفسها والصفات واجبة بها والمجموع واجب وإن توقف على الممكن بنفسه الواجب بغيره لأن الواجب بنفسه مستلزم للصفات ولاجتماع المجموع
وأيضا فيقوله من يقول إنه يقوم بذاته أمور متعلقة بمشيئته وقدرته فإن تلك ( أيضا ) ممكنة بنفسها وقد تدخل في مسمى أسمائه ففي الجملة ليس معهم حجة تمنع كون المجموع فيه ما هو واجب موجب لغيره وإذا قيل المحتاج إلى الغير أولى بالاحتياج
(4/263)
قيل هب أن الأمر كذلك لكن إذا كان الغير من لوازم الجزء الواجب بنفسه كان المجموع من لوازم الجزء الواجب بنفسه وحاصله أن في الأمور المجتمعة ما هو مستلزم لسائرها
وإذا قيل فحينئذ لا يكون الواجب بنفسه إلا ذلك الملزوم
قيل هذا نزاع لفظي فإن الممكنات لا بد لها من فاعل غنى عن الفاعل والدليل دل على هذا وليس فيما ذكرتموه ما ينفى أن تكون ذاته مستلزمة لأمور لازمة له واسمه يتناول الملزوم واللازم جميعا وإن سمى الملزوم واجبا بنفسه والالزم واجبا بغيره كما قاله من قاله في الذات والصفات
فيقول المنازع له فهذه مجموع الأدلة التي ذكرها هو وغيره على نفي كون الواجب بنفسه جسما أو جوهرا قد تبين أنه لا دلالة في شيء منها بل هي على نقيض مطلوبهم أدل منها على المطلوب
وهذا ذكرناه لما أحال عليه قوله إن الحروف إذا قام كل منها بمحل غير ( محل ) الآخر يلزم التركيب وقد أبطلناه في إبطال التجسيم
ثم قال الوجه الثاني أنه قال ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس
(4/264)
ولقائل أن يقول هذا الوجه في غاية الضعف وذلك أنه إذا كانت الحروف مقدورة له حادثة بمشيئته كما ذكرته عن منازعيك فتخصيص كل منها بمحلة كتخصيص جميع الحوادث بما اختصت به من الصفات والمقادير والأمكنة والأزمنة
وهذا إما أن يرد إلى محض المشيئة وإما إلى حكمة جلية أو خفية وقد تنازع الناس في الحروف التي في كلام الآدميين هل بينها وبين المعاني مناسبة تقتضي الاختصاص على قولين مشهورين وأما اختصاصها بمحالها في حق الآدميين بسبب يقتضى الاختصاص فهذا لا نزاع فيه فعلم أن الاختصاص منه بالمحل أولى منه بالمعنى
وأما قوله إن قالوا باجتماع الحروف بذاته مع اتحاد الذات فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد فهذا قد تقدم أن للناس فيه قولين وأن القائلين باجتماع ذلك إن كان قولهم فاسدا فقول من يقول باجتماع المعانى المتعاقبة وأنها شيء واحد وأن الصفات المتنوعة شيء واحد أعظم فسادا
وأما قوله وإن لم يقولوا باجتماع حروف القول في ذاته فيلزم منه مناقضة اصلهم في أن ما اتصف به الرب يستحيل عروه عنه فكلام صحيح ولكن تناقضهم لا يستلزم صحة قول منازعيهم إذا كان ثم قول ثالث وهذا اللازم فيه نزاع معروف وقد حكى النزاع عنهم أنفسهم
(4/265)
فمن قال إن ما اتصف به من الأصوات والأفعال ونحو ذلك يجوز عروه عنه لم يكن مناقضا
والذين قالوا منهم إنه لا يجوز عروه عما اتصف به عمدتهم أنه لو جاز عروه عنه لم يمكن ذلك إلا بحدوث ضد ثم ذلك الضد الحادث لا يزول إلا بضد حادث فيلزم تسلسل الحوادث بذاته وهذا يجيب عنه بعضهم بأنه يجوز عدمه بدون حدوث ضد ويجيب عنه بعضهم بالتزام التسلسل في مثل ذلك في المستقبل
قال الآمدي السابع في تناقض الكرامية أنهم جوزوا اجتماع الإرادة الحادثة مع الإرادة القديمة ومنعوا ذلك في العلم والقدرة ولو سئلوا عن الفرق لكان متعذرا
قلت ولقائل أن يقول إن كانوا هم فرقوا فغيرهم لم يفرق بل جوز تجدد علوم وقدر وحينئذ فهم اعتمدوا في الفراق على ما اعتمدت عليه المعتزلة في الفرق بين كونه عالما قادرا وبين كونه متكلما مريدا
(4/266)
حيث قالوا العلم والقدرة عام في كل معلوم ومقدور فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والإرادة والكلام ليسا عامين في كل مراد ومقول بل لا يقول إلا الصدق ولا يأمر إلا بالخير ولا يريد إلا ما وجد ولا يريد إرادة محبة إلا لما أمر
فهذا مما احتجوا به على حدوث كونه مريدا متكلما دونه كونه عالما قادرا قالوا لأن الاختصاص يتعلق بالمحدثات بخلاف العموم فإنه يكون للقديم ( فصل )
ومما يبين الأمر في ذلك وأن الأدلة التي يحتج بها هؤلاء على نفي لوازم علو الله على خلقه هم يقدحون فيها ويبينون فسادها في موضع آخر أن عامة هذه الحجج التي احتج بها الآمدي وغيره على نفي كونه جسما هم أنفسهم أبطلوها في موضع آخر
والمقصود هنا ذكر ما قاله الآمدي وذلك أنه لما ذكر مسالك الناس في إثبات حدوث الأجسام أبطل عامتها واختار الطريقة المبنية على أن الجسم لا يخلو من الأعراض وأن العرض لا يبقى زمانين فتكون الأعراض حادثة ويمتنع حدوث ما لا نهاية له وما لا يخلو عن الحوادث التى لها أول فله أول وذكر أن هذه الطريقة هي المسلك
(4/267)
المشهور للأشعرية وعليه اعتماده
والرازي وأمثاله لم يعتمدوا على هذا المسلك لأنه مبنى على أن الأعراض ممتنعة البقاء وهذه مقدمة خالف فيها جمهور العقلاء وقالوا إن قائليها مخالفون للحس ولضرورة العقل فرأى أن الاعتماد عليها في حدوث الأجسام في غاية الضعف
والآمدى قدح في الطرق التى اعتمد عليها الرازي كلها والمقصود هنا ذكر طعن الآمدي في حجج نفسه التى احتج بها على نفي كونه جسما ونفي قيام الحوادث به وقد تقدم أن حججه المبنية على تماثل الجواهر والأجسام قد قدح فيها وبين أنه لا دليل لمن أثبت ذلك وحجته المبنية على التركيب قد قدح هو فيها في غير موضع كما ذكر بعضه
(4/268)
وأما حجته المبنية على نفي المقدار اوالشكل وأنه لا بد له من مخصص وكل ما له مخصص فهو محدث فإنه قال المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق في المسلك الأول
قال وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الأجسام حادثه لجواز أن تكون هذه الصفات المتعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهى إليه فقد ذكر هنا أنه وإن كان لابد للمختص من مخصص فلا يلزم أن يكون حادثا بل جاز أن يكون قديما في ذاته وصفاته أو قديما في الذات مع تعاقب الصفات المحدثه من المقادير وغيرها عليه إلا إذا قيل ببطلان حوادث لا تتناهى
وحينئذ فيقال القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره فإن كان واجبا بنفسه بطلت حجته وإن كان واجبا بغيره لزم من كون المعلول مختصا أن تكون علته مختصة أيضا وإلا فبتقدير أن تكون العلة الموجبة وجودا مطلقا لا تختص بشيء من الأشياء كما يقوله من يقول هو وجود مطلق تكون نسبته إلى جميع أجناس الموجودات ومقاديرها وصفاتها نسبة واحدة وحينئذ فلا يخص مقدارا دون مقدار بالاقتضاء والإيجاب إلا أن يقال لا يمكن غير ذلك المقدار
(4/269)
وإذا قيل ذلك لزم أن يكون من المقادير ما هو واجب لا يمكن غيره فإذا قيل هذا في الممكن ففي الواجب بنفسه أولى فإن تطرق الجواز إلى الممكن بنفسه أولى من تطرقه إلى الواجب بنفسه فإذا قدر في الممكن مقدار لا يمكن وجود ما هو أكبر منه فتقدير ذلك في الواجب بنفسه أولى
ونكته الجواب أن الموجب الذى يسمونه علة إن كان له مقدار بطل أصل قولهم وإن لم يكن له مقدار فإما أن تكون جميع المقادير ممكنة بالنسبة إليه وإما أن لا يكون كذلك فإن كان الأول لم يخص بعضها دون بعض بلا مخصص لما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وإن لم يمكن إلا بعضها كما يقوله من يقوله من المتفلسفة فحينئذ لزم أن يكون من المقادير ما هو ممتنع لنفسه بل منها ما هو متعين لا يمكن وجود غيره
وإذا جاز أن يمتنع بعضها لنفسه فوجوب بعضها لنفسه أولى وأحرى وإذا جاز أن يتعين ممكن من المقادير دون غيره لنفسه فتعين مقدار واجب لنفسه أولى وأحرى
وهذا كلام لا محيص لهم عنه فإن العالم إن كان واجبا بنفسه فقد ثبت أن الواجب بنفسه يختص بمقدار وإن كان ممكنا فوجد ما هو أكبر منه أو أصغر إما أن يكون في نفسه ممكنا وإما أن لا يكون فإن
(4/270)
لم يكن ممكنا ثبت امتناع بعض المقادير لنفسه دون بعض في الممكنات ففي الواجب أولى
وحينئذ فبطل قول القائل ( إنه ) ما من مقدار إلا ويمكن ما هو أكبر منه وأصغر وإن كان غير هذا المقدار ممكنا فتخصيص أحد الممكنين بالوجود يفتقر إلى مخصص والوجود المطلق لا اختصاص له بممكن دون ممكن فلا بد أن يكون المخصص أمرا فيه اختصاص وذلك الاختصاص واجب بنفسه وإذا كان الواجب لنفسه فيه اختصاص واجب لم يمكن أن يقال كل اختصاص فلا بد له من مخصص إذ الاختصاص ينقسم إلى واجب لنفسه وممكن
يوضح هذا إن المتفلسف إذا قال إن الموجب لتخصيص الفلك بمقدار دون مقدار كون الهيولى لا تقبل إلا ذلك المقدار مثلا أو امتناع بعد وراء العالم أو ما قيل من الأسباب
قيل له ما ذكرته من الهيولى وامتناع وجود موجود وراء العالم وإن كان باطلا فيقال ما الموجب لكون الهيولى لا تكون على غير تلك الصفة ولم لا كانت الهيولى غير هذه بحيث تقبل شكلا أكبر من هذا ثم إذا زعمت ان الممكن له مقدار لا يمكن أن يكون اكبر منه لعدم القابل مع أنه لا يعلم وجود مخصص لمقدار دون مقدار ولا
(4/271)
لكون حيز هذا المقدار يقبل الوجود دون الحيز الذي يجاوره فإن الأحياز المجردة المحضة متشابهة أبلغ من تشابه المقادير
فإذا ادعيت التخصيص في هذا ففي الواجب بنفسه أولى وأحرى ثم بتقدير أن تكون المقادير والصفات حادثه فالحجة المبنية على نفي حوادث لا تتناهى قد عرف ضعفها
وقد أبطل هو جميع أدلة الناس التى ذكرها إلا حجة واحدة اختارها وهي أضعف من غيرها كما قد ذكر غيره مرة
وإذا كانت هذه الحجة لا تمنع جواز تعاقب الحوادث على القديم لم يمنتع كون القديم محلا للحوادث فبطل استدلالهم على نفي ذلك بمثل هذه الحجة
فهذه الحجج الثلاث قد قدح هو فيها وأما الرابعة وهي تعدد الصفات فالقدح فيها تبع للقدح في هذه الثلاث فإنها مبنية عليها إذ عمدة النفاة هي هذه الثلاث وكلامهم كله يدور عليها حجة التركيب وحجة الأعراض بأن ما لا يخلو عن الحادث فهو حادث وحجة الاختصاص
وحججه الأولى على نفى الجوهر مبنية على نفي تماثل الجواهر وهو قد بين أن جميع ما ذكروه فإنه يرجع إلى ما قاله وقال إنه لا دليل فيه على نفى تماثلها
(4/272)
وأما الثانية وهي قوله إما أن يكون مركبا فيكون جسما أو لا يكون فيكون جوهرا فردا فمبنية على نفي التركيب وهو قد أفسد أدلة ذلك أو على نفي الجسم وقد عرف كلامه وقدحه في حجج نفى ذلك
وأما حجته الثالثة فإنها مبنية على تماثل الجواهر أيضا وهو قد أبطل أدلة ذلك ومبنية على امتناع حلول الحوادث به أيضا وقد أبطل هو أيضا جميع حجج ذلك واستدل بحجة الكمال والنقصان كما احتج بها الرازي وهو أيضا قد أبطل هذه الحجة لما استدل بها الفلاسفة على قدم العالم كما ذكر عنه
وأما حجته الرابعة على نفى الجوهر فبناها على نفى التحيز وبنى نفى التحيز على حجتين على حجة الحركة والسكون وعلى تماثل الجواهر
وهو قد بين أنه لا دليل على تماثل الجواهر وأبطل أيضا حجة الحركة والسكون لما احتج بها من احتج على حدوث الأجسام فإنه قال المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا يعنى به الرازي وهذا المسلك أخذه الرازي عن المعتزلة ذكره أبو الحسين وغيره أنه لو كانت الأجسام أزلية لكانت ( في الأزل ) إما أن
(4/273)
تكون متحركة أو ساكنة والقسمان باطلان فالقول بأزليتها باطل
ثم اعترض عليه بوجوه متعددة
قال ولقائل أن يقول إما أن تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه فإنه ليس متحركا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان فيه وإن كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون أمرا وجوديا ولا مخلص عنه قلت هذه مسألة نزاع بين أهل النظر أن الجسم في أول أوقات حدوثه هل يوصف بأحدهم أو يخلو عنهما والذى قاله الرازى هو قول
(4/274)
أبى هاشم وغيره من المعتزله ومضمونه أنه في أول أوقات حدوثه ليس متحركا ولا ساكنا
واعترض عليه بتقسيم حاصر فقال إن كانت الحركة عبارة عن الانتقال من حيز إلى حيز والسكون البقاء في حيز بعد حيز فالجسم في أول أوقات حدوثه لا متحرك ولا ساكن وإن لم يكن الأمر كذلك فقد بطل ما ذكره من كون السكون أمرا وجوديا فإنه اعتمد في ذلك على أن السكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز
قال الآمدي فإن قيل الكلام إنما هو في الجسم في الزمان الثاني والجسم في الزمان الثاني لا يخلو عن الحركة والسكون بالتفسير المذكور فهذا قول ظاهر الإحالة فإنه إذا كان الكلام في الجسم إنما هو في الزمان الثاني فوجود الجسم بالزمان الثاني ليس هو حالة الأولية وعند ذلك فلا يلزم أن
(4/275)
يكون الجسم أزلا لا يخلو عن الحركة والسكون قلت بل بتقدير قدمه لا يخلو عن الحركة والسكون لأنه حينئذ إما أن يبقى في حيز أو ينتقل عنه والأول السكون والثاني الحركة
وما ذكره الآمدى من جواز خلوه عنهما على أحد التقديرين فإنما هو بتقدير حدوثه ومعلوم أنه إذا كان بتقدير قدمه لا يخلو عنهما وكلاهما ممتنع كان بتقدير قدمه
مستلزما لأمر ممتنع وهو الجمع بين النقيضين فإنه إذا صحت المقدمتان لزم أن يكون حادثا بتقدير قدمه وهو أنه لو كان قديما لم يخل من حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
وما ذكره الآمدى إنما يتوجه إذا قيل الجسم مطلقا لا يخلو عن الحركة والسكون وحينئذ فإما أن يخلو عنهما أو لا يخلو فإن خلا عنهما لم يكن ذلك إلا حال حدوثه فكيون حادثا وإن لم يخل عنهما لزم أن يكون حادثا فيلزم حدوثه على كل تقدير
ونحن نذكر ما يقدح به الآمدي وامثاله في حججهم التى احتجوا بها في موضع آخر وإن كان بعض ذلك القدح ليس بحق ولكن يعطى كل ذى حق حقه قولا بالحق واتباعا للعدل
(4/276)
وقد ذكرنا كلام الأمدى على سائر ما ذكره في امتناع كون الحركة أزلية مثل قوله لم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية وما ذكروه من الوجه الأول فإنما يلزم أن لو قيل بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية وليس كذلك بل المعنى بكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحد من آحاد الحركات الشخصية حادثة ومسبوقة بالغير وبين كون جملة آحادها أزلية بمعنى أنها متعاقبة إلى غير نهاية إلى آخر كلامه
والمقصود هنا التنبيه على أنه نقض في موضع آخر عامة ما احتج به هنا ( فصل )
ومما ينبغي معرفته في هذا الباب أن القائلين بنفى علو الله على خلقه الذين يستدلون على ذلك أو عليه وعلى غيره بنفى التجسيم ( فإنهم ) ينقضون الحجج التى يحتجون بها فتارة ينقض أحدهم الحجج التى يحتج ( كما ذكرناه ) عن الرازى والأمدى
(4/277)
( وأمثالهما ) من حذاق النظار الذين جمعوا خلاصة ما ذكره النفاة من أهل الفلسفة والكلام بل يعارضون ( ما يجب تصديقه ) بما يعلم بصريح العقل أنه خطأ بل يعارضون السمعيات التى يعلم أن العقل الصريح ( موافق لها بما يعلم العقل الصريح أنه باطل ) ( وتارة ) كل طائفة تبطل الطريقة العقلية التى اعتمدت عليها الأخرى بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح وليسوا متفقين على طريقة واحدة
وهذا يبين خطأهم كلهم من وجهين من جهة العقل الصريح الذى بين به كل قوم فساد ما قاله الآخرون ومن جهة أنه ليس معهم معقول اشتركوا فيه فضلا عن أن يكون من صريح المعقول
بل المقدمة التي تدعى طائفة من النظار صحتها تقول الأخرى هي باطلة وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها من العقليات التى اتفقت عليها فطر العقلاء السليمى الفطرة التى لا ينازع فيها إلا من تلقى النزاع تعليما من غيره لا من موجب فطرته فإنما يقدح فيها بمقدمة تقليدية أو نظرية
(4/278)
لا ترجع إلى ( العقل الصريح ) وهو يدعى أنها عقلية فطرية
ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى فطرة فهم يعارضون ما قامت الأدلة العقلية على وجوب تصديقه وسلامته من الخطأ بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه بل قد علم جواز الخطأ عليه وعلم وقوع الخطأ منه فيما هو دون الإلهيات فضلا عن الإلهيات التى يتيقن خطأ من خالف الرسل فيها بالأدلة المجملة والمفصلة
والمقصود هنا التنبيه على جوامع قدح كل طائفة في طريق الطائفة الأخرى من نفاة العلو أو العلووغيره من الصفات بناء على نفى التجسيم ففحول أهل الكلام كأبي على وأبى هاشم والقاضي
(4/279)
عبد الجبار وأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصرى ومحمد بن الهيصم وأبي المعالى الجوينى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزال وغيرهم يبطلون طرق الفلاسفة التى بنوا عليها النفى منهم من يبطل أصلوهم المنطقية وتقسيمهم الصفات إلى ذاتي وعرضى وتقسيم العرضى إلى لازم للماهية وعارض لها ودعواهم أن الصفات اللازمة للموصوف منها ما هو ذاتي داخل في الماهية ومنها ما هو عرضى خارج عن الماهية وبناءهم توحيد واجب الوجود الذى مضمونه نفى الصفات على هذه الأصول وهم في هذا التقسيم جعلوا الماهيات النوعية زائدا في الخارج على الموجودات العينية وليس هذا قول من قال المعدوم شيء فإن أولئك يثبتون ذواتا معينة ثابتة في العدم تقبل الوجود المعين وهؤلاء يثبتون ماهيات كلية لا معينة وأرسطو وأتباعه إنما يثبتونها مقارنة للموجودات المعينة لا مفارفة لها واما شيعة أفلاطن فيثبتونها مفارقة ويدعون أنها أزلية أبدية وشيعة فيثاغورس تثبت أعدادا مجردة
وما يثبته هؤلاء إنما هو في الأذهان ظنوا ثبوته في الخارج وتقسيمهم الحد إلى حقيقى ذاتي ورسمى أو لفظي أو تقسيم المعرف إلى حد ورسم هو بناء على هذا التقسيم
وعامة نظار أهل الإسلام وغيرهم ردوا ذلك عليهم وبينوا فساد
(4/280)
كلامهم وأن الحد إنما يراد به التمييز بين المحدود وغيره وأنه يحصل بالخواص التى هي لازمة ملزومة لا يحتاج إلى ذكر الصفات العامة بل منعوا أن يذكر في الحد الصفات المشتركة بينه وبين غيره بل وأكثرهم منعوا تركيب الحد كما هو مبسوط في موضعه وقد صنف في ذلك متكلموا الطوائف كأبي هاشم وغيره من المعتزلة وابن النوبخت وغيره من الشيعة والقاضى أبى بكر وغيره من مثبتة الصفات
وأما أبو حامد الغزالى فإنه وإن وافقهم على صحة الأصول المنطقية وخالف بذلك فحول النظار الذين هم أقعد بتحقيق النظر في الإلهيات ونحوها من أهل المنطق واتبعه على ذلك من سلك سبيله كالرازي وذويه وأبي محمد بن البغدادي صاحب ابن المثنى وذويه فقد بين في كتابه تهافت الفلاسفة وغيره من كتبه فسادقولهم في الإلهيات مع وزنه لهم بموازينهم المنطقية حتى ( أنه ) بين أنه لا حجة لهم على نفى التجسيم بمقتضى أصولهم المنطقية فضلا عن أن يكون لهم حجة على نفيى الصفات مطلقا وإن كان أبو حامد قد يوجد في كلامه ما يوافقهم عليه تارة أخرى وبهذا
(4/281)
تسلط عليه طوائف من علماء الإسلام ومن الفلاسفة أيضا كابن رشد وغيره حتى أنشد فيه % يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن % وإن لقيت معديا فعدناني %
فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يقوم عليه الدليل وليس ذلك إلا فيما وافق فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقوم دليل صحيح على مخالفة الرسول ألبته
وهذا كما أن ابن عقيل يوجد في كلامه ما يوافق المعتزلة والجهمية تارة وما يوافق به المثبتة للصفات بل للصفات الخبرية أخرى فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يوافق الدليل وهو الموافق لما جاء به الرسول
والمقصود هنا أن نبين أن فحول النظار بينوا فساد طرق من نفى الصفات أو العلو بناء على نفيى التجسيم وكذلك فحول الفلاسفة كابن سينا و أبى البركات وابن رشد وغيرهم بينوا فساد طرق أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية التى نفوا بها التجسيم حتى ( أن ) ابن رشد في تهافت التهافت بين فساد ما اعتمد عليه هؤلاء كما بين أبو حامد في التهافت فساد ما اعتمد عليه الفلاسفة
(4/282)
ولهذا كان في عامة طوائف النظار من يوافق أهل الإثبات على إثبات الصفات بل وعلى قيام الأمور الاختيارية في ذاته وعلى العلو كما يوجد فيهم من يوافقهم على أن الله خالق أفعال العباد فأحذق متأخرى المعتزلة هو أبو الحسين البصرى ومن عرف حقيقة كلامه علم أنه يوافق على إثبات كونه حيا عالما قادرا وعلى أن كونه حيا ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس كونه قادرا لكنه ينازع مثبتة الأحوال الذين يقولون ليست موجودة ولا معدومة
وهذا الذى اختاره هو قول أكثر مثبتة الصفات فنزاعه معهم نزاع لفظى كما أنه يوافق على أن الله يخلق الداعى في العبد وعند وجود الداعى والقدرة يجب وجود المقدور
وهذا قول أئمة أهل الإثبات وحذاقهم الذين يقولون إن الله خالق أفعال العباد وهو أيضا يقول إنه سبحانه مع علمه بما سيكون فإنه إذا كان يعلمه كائنا فعالميته متجدده
وابن عقيل يوافق على ذلك وكذلك الرازي وغيره وهذا موافق لقول من يقول بقيام الحوادث به
وبعض حذاق المعتزلة نصر القول بعلو الله ومباينته لخلقه بالأدلة العقلية وأظنه من أصحاب أبى الحسين
(4/283)
وقد حكى ابن رشد ذلك عن أئمة الفلاسفة وأبو البركات وغيره من الفلاسفة يختارون قيام الحوادث به كإرادات وعلوم متعاقبة وقد ذكروا ذلك وما هو أبلغ منه عن متقدمى الفلاسفة كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع ( وتقدم بعضها ) والمقصود هنا أن جميع ما احتج به النفاة قدح فيه بعض النفاة قدحا يبين بطلانه كما بين غير واحد فساد طرق الفلاسفة
قال أبو حامد مسألة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم فنقول هذا إنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث وكل حادث فيفتقر إلى محدث فأما أنتم إذا عقلتم جسما قديما لا أول لوجوده مع أنه لا يخلو عن الحوادث فلم يمتنع أن يكون الأول جسما إما الشمس وإما الفلك الأقصى وإما غيره فإن قيل لأن الجسم لا يكون إلا مركبا منقسما إلى جزأين بالكمية وإلى الهيولى والصورة بالقسمة المعنوية وإلى أوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر
(4/284)
الأجسام وإلا فالأجسام متاسوية في أنها أجسام وواجب الوجود واحد لا يقبل القسمة بهذه الوجوه
قلنا وقد أبطلنا هذا عليكم وبينا أنه لا دليل لكم عليه سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معولا وقد تكلمنا عليه وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجود له لم يبعد تقدير مركب لا مركب له وتقدير موجودات لا موجود لها إذ نفى العدد والتثنية بنيتموه على نفى التركيب ونفى التركيب على نفى الماهية سوى الوجود وما هو الأساس الأخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه
فإن قيل الجسم إن لم يكن له نفس لا يكون فاعلا وإن كان له نفس فنفسه علة له فلا يكون الجسم أولا
قلنا أنفسنا ليست علة لوجود أجسامنا ولا نفس الفلك بمجردها علة لوجود جسمة عندكم بل هما يوجدان بعلة سواهما فإذا جاز وجودهما قديما جاز أن لا يكون لهما علة
(4/285)
فإن قيل كيف اتفق اجتماع النفس والجسم
قلنا هو كقول القائل كيف اتفق وجود الأول فيقال هذا سؤال عن حادث فأما ما لم يزل موجودا فلا يقال كيف اتفق فكذلك الجسم ونفسه إذا لم يزل كل واحد منهما موجودا لم يبعد أن يكون صانعا
فإن قيل لأن الجسم من حيث إنه جسم لا يخلق غيره والنفس المتعلقة بالجسم لا تفعل إلا بواسطة الجسم ولا يكون الجسم واسطة للنفس في خلق الأجسام ولا في إبداع النفوس والأشيائ لا تناسب الأجسام
قلنا ولم لا يجوز أن يكون في النفوس نفس تختص بخاصية تتهيأ بها لأن توجد الأجسام وغير الأجسام منها فاستحالة ذلك لا تعرف ضرورة ولا برهان يدل عليه إلا أنه لم يشاهد من هذه الأجسام المشاهدة وعدم المشاهدة لا يدل على الاستحالة فقد
(4/286)
أضافوا إلى الموجود الأول ما لا يضاف إلى موجود أصلا ولم يشاهد من غيره وعدم المشاهدة من غيره لا يدل على استحالته منه فكذا في نفس الجسم والجسم
فإن قيل الفلك الأقصى أو الشمس أو ما قدر من الأجسام فهو متقدر بمقدار يجوز أن يزيد عليه وينقص منه فيفتقر اختصاصه بذلك المقدار الجائز إلى مخصص فلا يكون أولا
قلنا بما تنكرون على من يقول إن ذلك الجسم يكون على مقدار يجب أن يكون عليه لنظام الكل ولو كان أصغر منه أو أكبر لم يجز كما أنكم قلتم إن المعلول الأول يفيض الجرم الأقصى منه متقدرا بمقدار وسائر المقادير بالنسبة إلى ذات المعلول الأول متساوية ولكن يعين بعض المقادير ليكون النظام متعلقا به فيوجب المقدار الذى وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول الأول الذى هو علة الجرم الأقصى عندهم
(4/287)
مبدأ للتخصيص مثل إرادة مثلا لم ينقطع السؤال إذ يقال ولم أراد هذا المقدار دون غيره كما ألزموه على المسلمين في إضافته الأشياء إلى الإرادة القديمة وقد قلبنا عليهم ذلك في تعين جهة حركة السماء وفي تعيين نقطتي القطبين فإذا ظهر أنهم مضطرون إلى تجويز تمييز الشيء عن مثله في الوقوع بعلة فتجويزه بغير علة كتجويزه بعلة إذ لا فرق بين أن يتوجه السؤال في نفس الشيء فيقال لم اختص بهذا القدر وبين أن يتوجه في العلة فيقال ولم خصص هذا القدر عن مثله فإن أمكن دفع السؤال عن العلة بأن هذا المقدار ليس مثل غيره إذ النظام مرتبط به دون غيره أمكن دفع السؤال عن نفس الشئ ولم يفتقر إلى علة وهذا لا مخرج عنه فإن هذا المقدار المعين الواقع إن كان مثل الذى لم يقع فالسؤال متوجه أنه كيف ميز الشيء عن مثله خصوصا على أصلهم وهم ينكرون الإرادة المميزة وإن لم تكن مثلا له فلا
(4/288)
يثبت الجواز بل يقال وقع كذلك قديما كما وقعت العلة القديمة بزعمهم
قال وليستمد الناظر في هذا الكتاب مما أوردناه لهم من توجيه السؤال في الإرادة القديمة وقلبنا ذلك عليهم في نقطة القطب وجهة حركة الفلك وتبين بهذا أن من لا يصدق بحدوث الأجسام فلا يقدر على إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم ( أصلا )
فهذا أبو حامد هو وغيره يبينون فساد ما ذكروه من نفى كون الأول جسما ويقولون لا طريق إلى ذلك إلا الاستدلال على حدوث الجسم ثم أبو حامد وغيره من النظار يبينون أيضافساد ما احتج به على حدوث الجسم وقد سبقهم الأشعري إلى بيان فساد ما احتجت به المعتزلة على حدوث الجسم
(4/289)
والرازي وأتباعه يبينون حدوث الجسم في كتبه الكلامية كالأربعين و نهاية العقول و المحصل وغير ذلك ثم يبينون فساد كل ما يحتج به على حدوث الأجسام في مواضع أخر مثل المباحث المشرقية وكذلك في المطالب العالية التى هي آخر كتبه بين فساد حجج من يقول بحدوثها وأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا ويذكر حججا كثيرة على دوام الفاعلية ويورد عليها مع ذلك ما يدل على فسادها ويعترف بالحيرة في هذه المواضع العظيمة مسائل الصفات وحدوث العالم ونحو ذلك
وسبب ذلك أنهم يقولون أقوالا تستلزم الجمع بين النقيضين تارة ورفع النقيضين تارة بل تستلزم كليهما والأصل العظيم الذى هو من أعظم أصول العلم والدين لا يذكرون فيه إلا أقوالا ضعيفة
والقول الصواب الموافق للميزان والكتاب لا يعرفونه كما في مسألة حدوث العالم فإنهم لا يذكرون إلا ( قولين ) قول من يقول
(4/290)
بقدم الأفلاك وإن كانت صادرة عن علة توجبها فالمعلول مقارن لعلته أزلا وأبداوقول من يقول بل تراخي المفعول عن المؤثر التام وأنه يمتنع أنه لم يزل متكلما إذا شاء ويفعل ما يشاء
والقول الصواب الذى هو قول السلف والأئمة لا يعرفونه وهو القول بأن الأثر يتعقب التأثير التام فهو سبحانه إذا كون شيئا كان عقب تكوينه له كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس 82 وهذا هو المعقول كما يكون الطلاق والعتاق عقب الطليق والاعتاق والانكسار والانقطاع عقب الكسر والقطع فهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويذكرون في كونه موجبا بذاته وفاعلا بشميئته وقدرته قولين فاسدين أحدهما قول من يقول من المتفلسفة هو موجب بذاته في الأزل وأنه علة تامة في الأزل فيجب أن يستلزم معلولة وأن معلوله يجب أن يكون مقارنا له في الزمان أزلا وأبدا
(4/291)
وهذا القول من أفسد أقوال بنى آدم فإنه يستلزم أن لا يحدث في العالم حادث فإنه إذا كانت علة تامة أزلية ومعلولها معها والعالم كله معلوله إما بواسطة وإما بغير وسط لزم أن لا يكون في العالم شيء إلاأزليا فلا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة
ثم إنهم لما أثبتوا الواجب بالممكن إنما استدلوا على الممكن بالحادث الذى يفتقر إلى محدث فإن لم يكن في العالم حادث بطل الإمكان الذى به أثبتوا الواجب ولزم إما أن لا يكون في العالم واجب الوجود ولا ممكن الوجود وهو إخلاء للوجود عن النقيضين وإما أن يكون جميعه واجب الوجود فيكون الحادث الذى كان بعد أن لم يكن واجب الوجود
وأيضا فإذا كان المعلول لا يكون إلا مع علته التامة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث إلا مع تمام علته ولم يحدث حين حدوثه ما يوجب حدوث علة تامة له وإن قدر حدوث ذلك لزم حدوث تمام علل ومعلولات في آن واحد وهو تسلسل في العلل وذلك معلوم الفساد بصريح العقل واتفاق العقلاء بخلاف تسلسل الحوادث المتعاقبة وهو أنه لا يكون حادث إلا بعد حادث فهذا فيه نزاع مشهور
(4/292)
والناس فيه على أربعة أقوال قيل يمتنع في الماضي والمستقبل كقول جهم وأبي الهذيل ولهذا قال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما
وقيل يمتنع في الماضي دون المستقبل وهو قول كثير من طوائف أهل الكلام كأكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم
وقيل يجوز فيهما فيما هو مفتقر إلى غيره كالفلك سواء قيل إنه محتاج إلى مبدع كقول ابن سينا وأتباعه أو قيل إنه محتاج إلى ما يتشبه به كقول أرسطو وأتباعه
وقيل يجوز فيهما لكن لا يجوز ذلك فيما سوى الرب فإنه مخلوق مفعول وحوادثه القائمة به لا تحصل إلا من غيره فهو محتاج في نفسه وحوادثه إلى غيره والمحتاج لا يكون إلا مربوبا والمربوب لا يكون إلا مخلوقا محدثا والمحدث لا يقوم به حوادث لا أول لها فإن ما لم يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة فهو محدث مثلها باتفاق العقلاء إذ لو كان لم يسبقها فإما أن يكون معها أو بعدها وعلى التقديرين فهو حادث بخلاف الرب القديم الأزلى الواجب بنفسه فإنه إذا كان لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء كان ذلك من كماله وكان هذا كما قاله أئمة السنة والحديث
(4/293)
والثاني قول من يقول إنه فاعل مختار لكنه يفعل بوصف الجواز فيرجح أحد المتماثلين على الأخر بلام مرجح إما بمجرد كونه قادرا أو لمجرد كونه قادرا عالما أو لمجرد إرادته القديمة التى ترجح مثلا على مثل بلا مرجح ويقولون إن الحوادث تحدث بعد أن تكن حادثة من غير سبب يوجب الحدوث فيقولون بتراخي الأثر عن المؤثر التام
وهذا وإن كان خيرا من الذى قبله ولهذا ذهب إليه طوائف من أهل الكلام ففساده أيضا بين فإنه إذا قيل إن المؤثر التام حصل مع تراخي الأثر عنه وعند حصول الأثر لم يحصل ما يوجب الحصول كان حاله بعد حصول الأثر وقبله ( حالا ) واحدة متشابهة ثم اختص أحدالحالين بالأثر من غير ترجيح ( مرجح وحدوث ) الحادث بلا سبب حادث وهذا معلوم الفساد بصريح العقل
والقول الثالث قول أئمة ( السنة إنه ما شاء الله ) كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته وما لم يشأه امتنع
(4/294)
لعدم ( مشيئته له فهو ) موجب بمشيئته وقدرته لا بذات خالية عن الصفات وهو موجب له إذا شاءه لا موجب ( له في الأزل كما ) قال { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس 82 وهذا الإيجاب مستلزم لمشيئته وقدرته لا مناف لذلك بل هو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار فهو فاعل لما يشاؤه إذا شاء وهو موجب له بمشيئته وقدرته والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(4/295)
الوجه العشرون
أن نقول ما سلكه هؤلاء نفاة الصفات من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هو بعينه الذي احتج به الملاحدة الدهرية عليهم في إنكار ما أخبر الله به عباده من أمور اليوم الآخر حتى جعلوا ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا يستفاد منه علم ثم نقلوا ذلك إلى ما أمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج فجعلوها للعامة دون الخاصة فآل الأمر بهم إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل كما قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
(5/3)
فأفضى الأمر بمن سلك سبيل هؤلاء إلى الإلحاد في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وسرى ذلك في كثير من الخائضين في الحقائق من أهل النظر والتأله من أهل الكلام والتصوف حتى آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحدا وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وهذا تعطيل للخالق
وحقيقة قولهم فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن وهو قول فرعون ولهذا كانوا معظمين لفرعون ثم إنهم جعلوا أهل النار يتنعمون فيها كما يتنعم أهل الجنة في الجنة فكفروا بحقيقة اليوم الآخر ثم ادعوا أن الولاية أفضل من النبوة وأن خاتم الأولياء وهو شئ لا حقيقة له زعموا أنه أفضل من خاتم الأنبياء بل ومن جميع الأنبياء وأنهم كلهم يستفيدون من مشكاته العلم بالله الذي حقيقته عندهم أن وجود المخلوق هو وجود الخالق
وكان قولهم كما يقال لمن قال فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن فإن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس والأنبياء أفضل من غيرهم فخالفوا الحس والعقل مع كفرهم بالشرع
وآخر تحقيقهم استحلال المحرمات وترك الواجبات كما كان يفعل أبرع محققيهم التلمساني وأمثاله
هذا وشيوخ التصوف المشهورون من أبرأ الناس من هذا المذهب وأبعدهم عنه وأعظمهم نكيرا عليه وعلى أهله وللشيوخ المشهورين بالخير كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني والجنيد بن محمد
(5/4)
وسهل بن عبد اله التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبي عثمان النيسابوري وأبي عبد الله بن خفيف الشيرازي ويحيى بن معاذ الرازي وأمثالهم من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية ما لا يتسع هذا الموضع لعشرة
بل قد قيل للشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله روحه هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل فقال لا كان ولا يكون
والاعتقاد إنما أضيف إلى أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع وإلا فهو كتاب الله وسنة رسوله حظ أحمد منه كحظ غيره من السلف معرفته والإيمان به وتبليغه والذب عنه كما قال بعض أكابر الشيوخ الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة والظهور لأحمد ابن حنبل
وذلك لأنه كان بعد القرون الثلاثة لما ظهرت بدعة الجهمية ومحنتهم المشهورة وأرادوا إظهار مذهب النفاة وتعطيل حقائق الأسماء والصفات ولبسوا على من لبسوا عليه من الخلفاء ثبت الله الإسلام والسنة بأحمد بن حنبل وغيره من أئمة الدين فظهرت بهم السنة وطفئت بهم نار المحنة فصاروا علما لأهل الإسلام وأئمة لمن بعده من علماء المسلمين أهل السنة والجماعة وصار كل منتسب إلى السنة لابد أن يواليه وإياهم ويوافقهم في جمل الاعتقاد إذ كان ذلك اعتقاد أهل الهدى والرشاد المعتصمين بالكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان
وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة فإن أئمة السنة تضاف السنة
(5/5)
إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت ولهذا كان جمل الاعتقاد الذي يذكره أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة هو قول أحمد وأمثاله من أئمة السنة
ولهذا قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة فإن [ قال ] قائل قد أنكرتم قول الجهمية والقدرية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا وبما روي عن الصحابة والتابعين وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون ولما خالف قوله مجانبون فإنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان
(5/6)
الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام معظم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين
والمقصود هنا أن صفوة أولياء الله تعالى الذين لهم في الأمة لسان صدق من سلف الأمة وخلفها هم على مذهب أهل السنة والجماعة أهل الإثبات للأسماء والصفات وهم من أبعد الناس عن مذاهب أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد وإن كان كثير من متأخري الصوفية دخلوا في مذاهب الإباحة والحلولية وخلطوا التصوف بالفلسفة اليونانية كما خلطه بعضهم بشيء من أقوال أهل الكلام الجهمية ومبدأ هذا من أقوال الذين يعارضون النصوص بآرائهم كما ذكر الشهرستاني في أول كتابه في الملل والنحل أن مبدأ أنواع كل الضلالات هو من تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على الشرع فسرى في المنتسبين إلى العلم والدين من أهل الفقه والكلام والتصوف من أقوال الملاحدة بسبب هذا الأصل ما لا
(5/7)
يعلمه إلا الله وأما ملاحدة الشيعة من القرامطة الباطنية والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم فأولئك أمرهم أظهر من أن يخفى على من عرف حالهم ممن فيه نوع إيمان بالله ورسوله ولهذا كثر الكاشفون لأسرارهم الهاتكون لأستارهم من جميع أصناف أهل القبلة حتى الشيعة والمعتزلة ونحوهم فإنهم متفقون على تكفيرهم كما اتفق على تكفيرهم أئمة السنة ومن انتسب إليهم من متكلمة الإثبات وغيرهم
وصنف القاضي أبو بكر كتابه المشهور فيهم ووصف فضائحهم القاضي عبد الجبار والقاضي أبو يعلى وأبو الوفا بن عقيل وأبو حامد الغزالي والشهرستاني والخبوشاني وغير واحد من العلماء وتكلموا في العبيديين الذين كانوا بالمغرب ومصر الذين ادعوا النسب العلوي وأضمروا مذهبهم تكلموا فيهم بما بينوا فيه
(5/8)
بطلان نسبهم كما عرفوا بطلان مذهبهم وأن باطن مذهبهم أعظم كفرا من أقوال كفار أهل الكتاب ومن أقوال الغالية الذين يدعون نبوة علي أو إلهيته ونحوهم إذ كان مضمون مذهبهم تعطيل الخالق وتكذيب رسله والتكذيب باليوم الآخر وإبطال دينه
وقد ذكروا منتهى دعوتهم في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي لهم وأن أقرب الطوائف إليهم الفلاسفة [ مع أنهم ] خالفوا الفلاسفة في إثبات واجب الوجود فإن الفلاسفة الإلهيين [ يثبتونه ] وهؤلاء أصحاب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم أنكروه كما فعلت الدهرية الطبيعية
وقول الاتحادية كصاحب الفصوص وأمثاله يؤول إلى قول هؤلاء وهو القول الذي أظهره فرعون وأما المشاؤون أرسطو وأتباعه ومن اتبعهم من المتأخرين كالفارابي وابن سينا وأمثالهم فهم يقرون بالعلة الأولى المغايرة لوجود الأفلاك لكن دليلهم الذي احتجوا به على الطبيعيين منهم هو دليل الحركة الذي احتج به أرسطو وقدماؤهم أو دليل الوجود الذي احتج به ابن سينا ومتأخروهم وهو منهم دليل ضعيف إذ مبناه على حجة التركيب وهي حجة ضعيفة كما قد بين في غير هذا الموضع
(5/9)
وكان أهل بيت ابن سينا من أتباع هؤلاء القرامطة من المستجيبين للحاكم الذي كان بمصر قال ابن سينا وبسبب ذلك دخلت في الفلسفة
كما كان أصحاب رسائل إخوان الصفا من الموافقين لهم وصنفت الرسائل على طريقتهم في الزمان الذي بنيت فيه القاهرة في أثناء المائة الرابعة وكان أمر المسلمين قد اضطرب في تلك المدة اضطرابا عظيما
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة يحتجون على النفاة بما وافقوهم عليه من نفي الصفات والإعراض عن دلالة الآيات كما ذكر ذلك ابن سينا في الرسالة الأضحوية التي صنفها في المعاد لبعض الرؤساء الذين طلب تقربه إليهم ليعطوه مطلوبه منهم من الجاه والمال وصرح بذلك في أول هذه الرسالة قال فيها لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن وأن الداعى لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات فقال وأما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد وهو أن
(5/10)
الشرع والملة الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصانع موحدا مقدسا عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع أو يكون لها جزء وجودي كمى أو معنوي ولا يمكن أن تكون خارجة عن العالم ولا داخلة فيه ولا حيث تصح الإشارة إليه أنه هنا أو هناك ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور ولو ألقى هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف لتسارعوا إلى العناد واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمان بمعدوم أصلا ولهذا ورد ما في التوراة تشبيها كله ثم إنه لم يرد في الفرقان من الإشارة إلى
(5/11)
هذا الأمر الأهم شيء ولا إلى صريح ما يحتاج إليه في التوحيد بيان مفصل بل إلى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر وبعضه جاء تنزيها مطلقا عاما جدا لا تخصيص ولا تفسير له وأما الأخبار التشبيهية فأكثر من أن تحصى ولكن لقوم أن لا يقبلوه فإذا كان الأمر في التوحيد هذا فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية ولبعض الناس أن يقولوا إن للعرب توسعا في الكلام ومجازا وأن الألفاظ التشبيهية مثل اليد والوجه والإتيان في ظلل من الغمام والمجيء والذهاب والضحك والحياء والغضب صحيحة ولكن نحو الاستعمال وجهة العبارة يدل على استعمالها مستعارة مجازا
قال ويدل على استعمالها غير مجازية ولا مستعارة بل
(5/12)
محققة أن المواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارة والمجاز على غير معانيها الظاهرة مواضع في مثلها يصلح أن تستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس وأما قوله { في ظلل من الغمام } وقوله { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } على القسمة المذكورة وما جرى مجراه فليس تذهب الأوهام فيه ألبتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد فيها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحا وأما قوله { يد الله فوق أيديهم } وقوله { ما فرطت في جنب الله }
(5/13)
فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام ولا يشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب ولا يلتبس على ذي معرفة في لغتهم كما يلتبس في تلك الأمثلة فإن هذه الأمثلة لا يقع شبهة في أنها مستعارة مجازية كذلك في تلك لا يقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مرادا فيها شيء غير الظاهر ثم هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد والعبارة المشيرة بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين [ القيم ] المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة
وقد قال في ضمن كلامه إن الشريعة الجائية على لسان نبينا
(5/14)
محمد صلى الله عليه وسلم جاءت أفضل ما يمكن أن تجئ عليه الشرائع وأكمله ولهذا صلح أن تكون خاتمة الشرائع وآخر الملل
قال وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد مثل أنه عالم بالذات أو عالم بعلم قادر بالذات أو قادر بقدرة واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة تعالى عنها بوجه من الوجوه متحيز الذات أو منزهها عن الجهات فإنه لا يخلو إما ان تكون هذه المعاني واجبا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجعل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر
(5/15)
فيه بالإشارة والإيماء بل التصريح المستقصى فيه والمنبه عليه والموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف على معانيه فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتذكية أفهامهم وترشيح نفوسهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل إيضاح وشرح عبارة فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب ولعمري لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم ثم سامه أن يتنجز منهم الإيمان والإجابة غير ممهل فيه ثم سامه أن يتولى رياضة نفوس الناس قاطبة حتى تستعد للوقوف عليها لكلفه شططا وأن يفعل ما ليس في قوة البشر اللهم إلا أن تدركهم خاصة إلهية وقوة علوية وإلهام سماوي فتكون
(5/16)
حينئذ وساطة الرسول مستغنى عنها وتبليغه غير محتاج إليه ثم هبك الكتاب العزيز جائيا على لغة العرب وعادة لسانهم في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني وكله من أوله إلى آخره تشبيه صرف وليس لقائل أن يقول إن ذلك الكتاب محرف كله وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في أمم لا يطاق تعديدهم وبلادهم متنائية وأوهامهم متباينة منهم يهود ونصارى وهم أمتان متعاديتان فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون مقربا ما لا يفهمون إلى أوهامهم بالتمثيل والتشبيه ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع ألبتة
قال فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب يعني أمر المعاد ولو فرضنا الأمور الأخروية روحانية غير مجسمة
(5/17)
بعيدة عن إدراك بدائه الأذهان لحقيقتها لم يكن سبيل الشرائع في الدعوة إليها والتحذير عنها منبها بالدلالة عليها بل بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الإفهام فكيف يكون وجود شيء حجة على وجود شيء آخر لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته فهذا كله هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصا من الناس لا عاما أن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب
قلت فهذا كلام ابن سينا وهو نحوه كلام أمثاله من القرامطة الباطنية مثل صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله من الملاحدة
والكلام على هذا من فنين
أحدهما بيان لزوم ما ألزمه لنفاة الصفات الذين سموا نفيها توحيدا من الجهمية المعزلة وغيرهم
(5/18)
والثاني بيان بطلان كلامه وكلامهم الذي وافقوهم عليه
أما الأول فإن هؤلاء وافقوه على نفي الصفات وأن التوحيد الحق هو توحيد الجهمية المتضمن أن الله لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا رحمة ولا يرى في الآخرة ولا هو فوق العالم فليس فوق العرش إله ولا على السموات رب ومحمد لم يعرج به إلى ربه والقرآن أحسن أحواله عندهم أن يكون مخلوقا خلقه في غيره إن لم يكن فيضا فاض على نفس الرسول وأنه سبحانه لا ترفع الأيدي إليه بالدعاء ولم يعرج شيء إليه ولم ينزل شيء منه لا ملك ولا غيره ولا يقرب أحد إليه ولا يدنو منه شيء ولا يتقرب هو من أحد ولا يتجلى لشيء وليس بينه وبين خلقه حجاب وأنه لا يحب ولا يبغض ولا يرضى ولا يغضب وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا مباينا للعالم ولا حالا فيه وأنه لا يختص شيء من المخلوقات بكونه عنده بل كل الخلق عنده بخلاف قوله تعالى { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } وأنه إذا سمي حيا عالما قادرا سميعا بصيرا فهو حي بلا حياة عالم بلا علم قادر بلا قدرة سميع بلا سمع بصير بلا بصر إلى أمثال هذه الأمور التي يسمى نفيها الجهمية توحيدا ويلقبون أنفسهم بأهل التوحيد كما يلقب الجهمية من المعتزلة وغيرهم أنفسهم بذلك وكما لقب ابن
(5/19)
التومرت أصحابه بذلك إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات جهم وابن سينا وأمثالهما
ويقال إنه تلقى ذلك عن من يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى ولهذا رأيت لابن التومرت كتابا في التوحيد صرح فيه بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئا من إثبات الصفات ولا أثبت الرؤية ولا قال إن القرآن كلام الله غير مخلوق ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها في عقائدهم المختصرة ولهذا كان حقيقة قوله موافقا لحقيقة قول ابن سبعين وأمثاله من القائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وأمثاله من أهل الإلحاد كما يقال إن ابن التومرت ذكره في فوائده المشرقية إن الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق فوجود الخالق يكون مجردا ووجود المخلوق يكون مقيدا
(5/20)
والمقصود أن هؤلاء لما سموا هذا النفي توحيدا وهي تسمية ابتدعها الجهمية النفاة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا أحد من السلف والأئمة بل أهل الإثبات قد بينوا أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات وعبادة الله وحده لا شريك له كما ذكر الله ذلك في سورتي الإخلاص وعامة آيات القرآن فلما وافقه هؤلاء الجهمية من المعتزلة وغيرهم على نفي الصفات وأن هذا هو التوحيد الحق احتج عليهم بهذه المقدمة الجدلية على أن الرسل لم يبينوا ما هو الحق في نفسه من معرفة توحيد الله تعالى ومعرفة اليوم الآخر ولم يذكروا ما هو الذي يصلح أو يجب على خاصة بني آدم وأولو الألباب منهم أن يفهموه ويعقلوه ويعلموه من هذا الباب وأن الكتاب والسنة والإجماع لا يحتج بها في باب الإيمان بالله واليوم الآخر لا في الخلق ولا البعث لا المبدأ ولا المعاد وأن الكتب الإلهية إنما أفادت تخييلا تنتفع به العامة لا تحقيقا يفيد العلم والمعرفة وأن أعظم العلوم وأجلها وأشرفها وهو العلم بالله لم تبينه الرسل أصلا ولم تنطق به ولم تهد إليه الخلق بل ما بينت لا معرفة الله ولا معرفة المعاد لا ما هو الحق في الإيمان بالله ولا ما هو الحق في الإيمان باليوم الآخر بل ليس عندهم في كلام الله ورسوله من هذا الباب علم ينتفع به أولو الألباب وإنما فيه تخييل وإيهام ينتفع به جهال العوام
ولماكان هذا حقيقة قول الملاحدة القرامطة الباطنية صاروا يجعلون أحد رؤوسهم مثل الرسول أو أعظم من الرسول ويسوغون له نسخ
(5/21)
شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما زعموا أن محمد بن إسماعيل بن جعفر نسخ شريعته
وصار كل من هؤلاء يدعي النبوة والرسالة أو يريد أن يفصح بذلك لولا السيف كما فعل السهروردي المقتول فإنه كان يقول لا أموت حتى يقال لي قم فأنذر وكان ابن سبعين يقول لقد زرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدي ويقال إنه كان يتحرى غار حراء لينزل عليه فيه الوحي
وابن عربي ادعى ما هو أعظم من النبوة عنده وهو ختم الولاية
(5/22)
وخاتم الأولياء عنده أفضل من خاتم الأنبياء في العلم بالله وهو يقول إن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون من مشكاة هذا الخاتم المدعي معرفة الله التي حقيقتها وحدة الوجود وهي تعطيل الصانع سبحانه التي هي سر قول فرعون
وأما أئمة القرامطة والإسماعيلية كابن الصباح الذين تلقوا أركان الدعوة عن المستنصر أطول خلفائهم مدة وفي زمنه كانت فتنة البساسيري وأمثاله وأما سنان وأمثاله من الملاحدة فتظاهروا بإظهار الكفر بين أصحابهم وقالوا قد أبحنا لكم كل ما تشتهونه من فرج ولحم وشراب ونسخنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة
(5/23)
وهذه الحجة التي احتج بها هؤلاء الملاحدة على نفاة الصفاة لإثبات إلحادهم هي من حجج أهل الإثبات عليهم لإثبات إيمانهم فإن الله سبحانه أخبر أنه { أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } وقال تعالى { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } وقال تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } وقال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } وقال تعالى { الم } ذلك الكتاب لا ريب فيه { هدى للمتقين } وقال تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } وقال تعالى { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء } وقال تعالى { قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا } وقال تعالى { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }
(5/24)
وقال تعالى { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } وقال تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } وقال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون }
وأمثال هذه النصوص التي تبين أن الرسول هدى الخلق وبين لهم وأنه أخرجهم من الظلمات إلى النور لا أنه لبس عليهم وخيل وكتم الحق فلم يبينه ولم يهد إليه لا للخاصة ولا للعامة فإنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهره للناس ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان أعظم موافقة له وتصديقا له على ما أظهره وبينه فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره للزم إما أن يكون جاهلا به أو كاتما له عن الخاصة والعامة ومظهرا خلافه للخاصة والعامة
وكل من كان عارفا بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب مثل ما يذكره بعض الرافضة عن علي أنه كان عنده علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر
(5/25)
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة التي لا يتنازع أهل المعرفة في صحتها عن علي رضي الله عنه أنه لما قيل له هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كتمه عن غيرنا إلا فهما يؤتيه الله لعبد في كتابه وما في هذه الصحيفة وفيها عقول الديات وفكاك الأسير أن لا يقتل مسلم بكافر وفي لفظ في الصحيح هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة الحديث
وقد أجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق ولهذا كانت ملاحدة الشيعة والصوفية ينسبون إلحادهم إلى علي وهو برئ من ذلك فأهل البطاقة من أهل الإلحاد ينسبون ذلك إلى علي وكذلك باطنية الشيعة من الإسماعيلية والنصيرية وكذلك جعفر الصادق نسبوا إليه من الكلام في النجوم واختلاج الأعضاء والتفاسير المحرفة وأنواع الباطل ما برأه الله منه حتى رسائل إخوان الصفا زعم بعض رؤوسهم أنها كلامه وهذه إنما صنفت بعد المائة الثالثة لما بنيت
(5/26)
القاهرة وصنفها جماعة من الفلاسفة وقد ذكروا فيها من حوادث الإسلام التي حدثت بعد المائة الثالثة مثل دخول النصارى بلاد الإسلام ونحو ذلك ما يبين أنها صنفت بعد جعفر بنحو مائتي سنة
ومن هذا الباب ما ينقله آخرون عن عمر رضي الله عنه أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما فهذا وأمثاله من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة
وملاحدة الزهاد والعباد وجهالهم يرون من هذه الأمور فنونا مثل روايتهم أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يكن النصر معه ليحتجوا بذلك على أن العارف يكون مع من غلب وإن كان كافرا ويروون أن أهل الصفة عرفهم الله تعالى بالسر الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم صبيحة المعراج بدون إخبار الرسول وأن لله صفوة يصلون إليه من غير طريق الرسول والذين كذبوا هذه الأباطيل لم يكونوا خبيرين بالكذب فإن الصفة إنما كانت بالمدينة والمعراج كان بمكة بالنص والإجماع وقد علم كل عالم يعلم سيرة النبي
(5/27)
صلى الله عليه وسلم بالاضطرار أن أهل الصفة كانوا كسائر المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن لأحد من الصحابة إلى الله طريق إلا متابعة رسوله وان أفضل الصحابة كان أقومهم بالمتابعة كأبي بكر وعمر وأبو بكر أفضل من عمر رضي الله عنهما وهو أفضل الصديقين
وقد ثبت في الصحيحين أنه قال إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر
فعمر وإن كان محدثا فالصديق الذي يأخذ من مشكاة النبوة أفضل منه وأكمل منه لأن ما استقر مجيء الرسول به فهو معصوم لا يتطرق إليه الخطأ وما يلقى إلى المحدث يقع فيه خطأ يحتاج إلى تقويمه بنور النبوة ولهذا كان أبو بكر يقوم عمر كما قومه يوم الحديبية ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم وفي قتال أهل الردة وغير ذلك وكان عمر يرى أشياء ثم يتبين له الحق بخلافها كما جرى له هذا في عدة مواطن
(5/28)
وهذا وأمثاله مما يبين حاجة أفضل الخلق بعد الرسول وأكملهم إلى الاهتداء بالرسول والتعلم منه ومعرفة الحق مما جاء به فكيف بمن يقول ليس في كلامه في معرفة الله واليوم الآخر علم ولا هدى ولا معرفة ينتفع بها أولو الألباب الذين هم دون عمر وأمثال عمر
وقد قال الله تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } وقال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }
وكيف يحكم بين الناس في مواطن الخلاف والنزاع كلام وخطاب ليس فيه علم ولا هدى ينتفع به أولو الألباب
كما زعم هؤلاء الملاحدة من الفلاسفة المشائين المتأخرين وأتباعهم أن الشرائع لا يحتج بها في مثل هذه الأبواب فما لا يحتج به كيف يحتج به الناس فيما اختلفوا فيه
وأي اختلاف أعظم من اختلافهم في أعظم الأمور وهي معرفة الله تعالى واليوم الآخر لا سيما ومن المعلوم أن الخلاف الحقيقي إنما يكون في الأمور العلمية والقضايا الخبرية التي لا تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ فتلك تتنوع في الشريعة الواحدة فكيف بالشرائع المتنوعة
(5/29)
وما جاز تنوعه لم يكن الخلاف فيه له حقيقة فإنه إن كانا مشروعين في وقتين أو رسولين فكلاهما حق وإن كان الخلاف في المشروع منهما أيهما هو فهذا يعلم بالخبر المنقول عن الكتاب المنزل والكتاب المنزل هو نفس الأمر والنهي والخبر وفيه الشرع الذي لا يكون خلافه شرعا
وحينئذ فما ذكره ابن سينا وأمثاله من أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيدهم شيء فكلام صحيح وهذا دليل على أنه باطل لا حقيقة له وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال
وكذلك ما ذكره من أن من المواضع ما لا يحتمل اللفظ فيها إلا معنى واحدا لا يحتمل ما يدعونه من الاستعارة والمجاز كما ذكر في قوله تعالى { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } وقال تعالى { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } على القسمة المذكورة وأنه ليس تذهب الأوهام فيه ألبتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد بها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة فهذا حجة على من [ نفى مضمون ] ذلك من نفاة الصفات وهو حجة عليه وعليهم جميعا وموافقتهم له لا
(5/30)
تنفعه فإن ذلك حجة جدلية لا علمية إذ تسليمهم له ذلك لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له فإذا بين بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دل ذلك على فساد قوله وقولهم جميعا
وكذلك قوله ثم هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد والدلالة بالتصريح على التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان الحكماء قاطبة كلام صحيح لو كان ما قاله النفاة حقا فإنه حينئذ على قولهم لا يكون التوحيد الحق قد بين أصلا وهذا ممتنع وهو أصل منهم حيث زعم أن الرسل أيضا لم تبين التوحيد بل ذكروا ما يناقض التوحيد لينقاد لهم الجمهور في صلاح دنياهم
وقد بينا في غير موضع توحيد ابن سينا وأمثاله وبينا أنه من أفسد الأقوال التي يعلم بصريح العقل فساده ولنا في ذلك كلام مفرد مكتوب في غير هذا الموضع
(5/31)
واما قوله وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد مثل أنه عالم بالذات أو عالم بعلم أو قادر بالذات أو قادر بقدرة إلى آخره
فهو خطاب لمن وافقه على ضلاله وإلحاده حيث ظن أن التعطيل هو التوحيد وأن الباري تعالى لا علم له ولا قدرة ولا صفات
فأما من لم يوافقه على خطئه فإنه يعلم أن الكتاب بين دقائق التوحيد الحق الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب على أحسن وجه
فإن الله تعالى أخبر عن صفاته وأسمائه بما لا يكاد يعد من آياته وذكر علمه في غير موضع
كقوله تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء }
وقوله تعالى { أنزله بعلمه }
وقوله تعالى { وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } وغير ذلك
(5/32)
وقد قال تعالى { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }
وقال تعالى { والسماء بنيناها بأيد } أي بقوة وقال تعالى { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة }
وفي الحديث الصحيح حديث الاستخارة اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك فأي بيان لعلم الله وقدرته أبين من هذا
واما قول القائل هنا هو عالم بالذات أو عالم بعلم فإن كان يظن أن الذات التي لا تكون إلا عالمة قادرة يمكن وجودها مجردة عن العلم والقدرة كما يقوله النفاة فهو كلام ضال متناقض فإن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة وحي بلا حياة وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر مما يعلم فساده بالضرورة عقلا وسمعا
(5/33)
وهذا بمنزلة متكلم بلا كلام ومريد بلا إرادة ومتحرك بلا حركة ومحب بلا محبة ومصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وحاج بلا حج وأبيض بلا بياض وأسود بلا سواد وحلو بلا حلاوة ومر بلا مرارة وطويل بلا طول وقصير بلا قصر ونحو ذلك من الألفاظ المشتقة كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المعدولة عنهما
فإن لم يكن هذا باطلا في بدائه العقول عقلا وسمعا لم يكن لنا طريق إلى معرفة الحق من الباطل ولهذا كان هؤلاء النفاة يعودون في آخر الأمر إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
وإن كان معنى قوله هل هو عالم بالذات أو بعلم أن هنا ذاتا مجردة موجودة بدون العلم وأن العلم زائد عليها فهذا تصور فاسد فإن الذات المجردة عن العلم اللازم لها إنما تقدر في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان
ولفظ الذات يراد به الذات الموصوفة بالعلم وحينئذ فقولنا هل هو عالم بالذات أو بالعلم كلام واحد لأن لفظ الذات متضمن للعلم على هذا التفسير فلا يكون قولنا أو بالعلم قسما آخر
ويراد بالذات المجردة عن العلم فهذه لا حقيقة لها إذا كانت الذات لا تكون إلا عالمة كما أن ما لا يكون إلا حيا لا يمكن وجوده
(5/34)
منفكا عن كونه حيا وما لا يكون إلا متحيزا لا يمكن وجوده منفكا عن التحيز فما لا يمكن وجوده إلا عالما وقادرا ويمتنع وجوده غير عالم قادر كيف يكون تقديره غير عالم ولا قادر ممكنا في الخارج
ونفس العلم والقدرة هو نفس كونه عالما قادرا على قول الجمهور الذين ينفون أن تكون الأحوال [ زائدة في الخارج على الصفات ومن أثبت الأحوال زائدة على الصفات كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وأبي المعالي في أول قوليه فهؤلاء يقولون ثبوت الصفات يستلزم ثبوت الأحوال وإثبات الملزوم يقتضي ثبوت اللازم مع أن الصواب أن الأحوال كالكليات لها وجود في الأذهان لا في الأعيان
ومما يبين ذلك أن النزاع في كون الرب تعالى عالما لذاته أو بالعلم أو قادرا لذاته أو بالقدرة كثير منه نزاع لفظي بل عامة المتنازعين فيه إذا حرر عليهم الكلام لم يتلخص بينهم نزاع وإنما يحصل النزاع بين مثبتة الأحوال ونفاتها فإن أهل الإثبات متفقون على أن علمه وقدرته من لوازم ذاته وأنه لا يمكن وجوده غير عالم ولا قادر وينكرون وجود
(5/35)
ذات مجردة عن العلم والقدرة وإذا قالوا هي زائدة على الذات فلا يعنون أنها زائدة على الذات العالمة القادرة بل هي زائدة على ذات مجردة عن العلم والقدرة إلا من يقول منهم إن له صفة هي العلم أو جبت كونه عالما فهؤلاء مثبتو الحال وأكثر الصفاتية هم من نفاة الأحوال
وأما النفاة فيسلمون ثبوت الأحكام وهي أنه عالم قادر وينازعون في ثبوت الصفات ويتنازعون بينهم في ثبوت الأحوال ثم الأحكام التي يثبتونها لا يجوز أن يراد بها مجرد حكمنا بأنه عالم قادر واعتقادنا لذلك وخبرنا عنه وهو الوصف بالقول فإن هذا الوصف والحكم إن لم يكن مطابقا لمضمونه كان باطلا فكونه حيا عالما قادرا ليس هو مجرد الحكم بذلك والخبر عنه ووصفه بالقول ولا هو نفس الذات التي هي العالمة القادرة فإن كون الذات حية عالمة قادرة ليس هو نفس الذات فتعين أن يكون هو الصفة
وأئمة المعتزلة يعترفون بذلك لكن يشنعون على الصفاتية بكلام لم يحققوا قولهم فيه بل ذكروا عنهم ما يفهم منه معنى فاسد إما لكونهم لم يفهموا قول أولئك أو لكونهم ألزموهم ما ظنوه لازما لهم أو لنوع من الهوى الموجب للافتراق الذي ذمه الله ورسوله
واعتبر ذلك بما ذكره أبو الحسين البصري أفضل متأخري المعتزلة فإنه قال في كتاب عيون الأدلة قال باب القول في أن الله قديم وحده عندنا أنه لا قديم إلا الله وذهب قوم إلى إثبات قديم أكثر من
(5/36)
قديم واحد فالكلابية والأشعرية أثبتوا ذواتا قديمة قائمة بذات الباري تعالى منها ذات توجب أن يكون عالما ولولاها لم يكن عالما وذات توجب كونه قادرا ولولاها لم يكن قادرا وذات توجب كونه حيا ولولاها لم يكن حيا وكذلك القول في السمع والبصر والإرادة
وأثبتت كلامه قديما وقالوا هذه المعاني لا هي الله ولا غيره ولا بعضه وكل منها ليس هو الآخر ولا غيره ولا بعضه وقالوا لو لم يكن في الوجود إلا ذات الباري تعالى وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي وعندنا أن الله تعالى قادر عالم حي لذاته ونعني بذلك أن ذاته متميزة عن سائر الذوات تمييزا يجب معه أن يعلم الأشياء ويقدر على ما لا نهاية له ويحيا ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم وإلى معنى به يحيا ولو لم يكن في الوجود إلا ذات الله تعالى فقط لكان عندنا عالما حيا قادرا سميعا بصيرا
قال فإن قالوا لله علم وقدرة وحياة قيل لهم إن أردتم بذلك أنه قادر عالم حي فنعم لله علم بكل شيء وقدرة على كل شيء مما لا نهاية له وحياة بمعنى أنه عالم قادر حي وإن أردتم بالعلم ذاتا كان بها عالما ولولاها ما كان عالما تسمونها علما وأردتم بالقدرة ذاتا بها كان قادرا تسمونها قدرة وأردتم بالحياة ذاتا بها كان حيا تسمونها حياة فالله تعالى مستغن عن ذلك
قال وذهبت الثنوية إلى إثبات قديمين لا يقوم أحدهما بذات الآخر نور وظلمة ونسبوا الخير كله إلى النور ونسبوا الشر كله إلى
(5/37)
الظلمة وقالوا إنهما لم يزالا متباينين ثم امتزجا فحدث من امتزاجهما العالم فكل خير في العالم فمن النور وكل شر فيه فمن الظلمة ولم يقل أحد بإثبات قديمين مثلين حكيمين ونحن نفسد ذلك وإن لم يذهب إليه ذاهب ومن المجوس من يقول بحدوث الشيطان وقدم الله تعالى وأما النصارى فإنها تقول إن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم [ وذهبوا ] بذلك إلى قريب من مذهب الكلابية ونسخة أمانتهم يعني النصارى تدل على أنهم أثبتوا ذواتا فاعلة
قال ونحن نفسد هذه المذاهب كلها ليصح ما ذهب إليه ] شيوخنا من أنه لا قديم إلا الله
فيقال هذا الكلام يقتضي أنه ليس بينه وبين أئمة الكلابية والأشعرية وسائر الصفاتية خلاف معنوي فأما نقله عنهم أنهم أثبتوا أكثر من قديم واحد وأنهم أثبتوا ذاتا قديمة قائمة بذات الله تعالى فيقال له أما الكلابية ومن سلك سبيلهم من أهل الحديث والفقه كأبي الحسن التميمي وأبي سليمان الخطابي وغيرهما من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم فإنهم لا يقولون عن الصفات وحدها إنها قديمة فلا يقولون العلم قديم ولكن يقولون الرب بعلمه قديم ومن أطلق منهم على الصفات أنها قديمة فلا يقول إن الذات
(5/38)
والصفات قديمان ومن أطلق القدم على الصفات فإنهم لا يطلقون عليها لفظ الذوات فإن الذات إذا أطلقت يفهم منها أنها الذات القائمة بنفسها الموصوفة بالصفات ولهذا يفرق بين الذات والصفات
وأصل الذات تأنيث ذو ومعناه الصاحبة أي صاحبة الصفة فهم لا يسمون الصفات ذوات بهذا الاعتبار وإنما يسمونها معاني
وإذا قال بعضهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما إن العلة ذات من الذوات موجودة لا يصح أن يوجب الحكم إلا لذات موجودة فمرادهم بذلك أنها شيء موجود كما بينوه بقولهم إن العلة لا يجوز أن تكون معدومة ولا حكمها معدوما مع أن هذا ينازعهم فيه نفاة الحال
لكن المقصود أن مرادهم بهذا اللفظ ليس هو أنها ذات قائمة بنفسها بل معنى من المعاني وأما نقلك عنهم أنهم يثبتون ذاتا توجب أن يكون عالما ولولاها لما كان عالما فهذا أولا ليس هو قول أئمتهم ولا جمهورهم بل هذا قول من يثبت الحال منهم وأما جمهورهم فعندهم العلم هو نفس كونه عالما لا يثبتون هناك ذاتا أوجبت كونه عالما
وأنت قد اعترفت بأن له علما وقدرة وحياة بمعنى أنه عالم قادر
(5/39)
حي لا بمعنى أن له ذاتا بها كان عالما فقولك موافق لقول جمهورهم ثم مثبتة الحالة تقول قام به معنى هو العلم أوجب كونه عالما وأما نقلك عنهم أنهم يقولون لو لم يكن في الوجود إلا ذات الباري وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي فليس الأمر على ما يفهم من هذه الشناعة فإنهم متفقون على أنه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حيا قادرا عالما وإنما نقلت قولهم بلفظ الذات ولفظ الذات مجمل فإن أردت أنهم يقولون لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بهذه الصفات فإنه من المعلوم أنه لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بالعلم والقدرة لكانت عالمة قادرة وإن أردت أنهم يقولون لو لم يكن إلا الذات المجردة عن الصفات فعندهم أن وجود ذات الرب مجردة عن هذه الصفات ممتنع فهو كما تقول أنت لو قدر أنه ليس في الوجود إلا هو مع كونه غير عالم ولا قادر ومعلوم أنه إذا قدر هذا التقدير الممتنع لذاته لزمه حكم ممتنع
ويقال له أنت قد قلت إن الله عندكم قادر حي لذاته
قلت ويعني بذلك أن ذاته متميزة من سائر الذوات تميزا يجب معه أن يعلم الأشياء كلها ويقدر على ما لا نهاية له فيقال له قولكم إن ذاته متميزة تميزا يجب معه أن يعلم ويقدر هل نفس أن يعلم ويقدر هو الذات المتميزة أو نفس أن يعلم الذات ويقدر ليس هو نفس الذات
(5/40)
فإن قلت إن نفس الذات هو نفس أن يعلم ويقدر فهذه مكابرة للضرورة فإن العلم ليس هو نفس العالم ولا القدرة نفس القادر وهذا أيضا متفق عليه بين المعتزلة وأهل الإثبات
وأيضا فيكون حقيقة قولك إن الذات متميزة تميزا تجب معه الذات وأنت لو قلت الذات أوجبت الذات لم يصح فكيف إذا كان تميزها هو الموجب لها وإن قلت ليس هذا هو هذا فهذا قول الصفاتية والعلم الذي يثبتونه هو قولك أن تعلم فإن أن والفعل هو بتأويل المصدر فقول القائل علم علما وله علم كقوله هو موصوف بأن يعلم وإذا قالوا عالم بالعلم لا بذاته لم يرد جمهورهم بذلك أن العلم هو أوجب صفة غيرالعلم وهو كونه عالما بل نفس علمه هو كونه عالما فيقولون عالم بصفة له هي العلم لا بذات مجردة عن العلم ومعلوم أن ذاته هي الموجبة لكونه عالما فلا ينازعون في أنه عالم بالذات بمعنى أن ذاته أوجبت كونه عالما وأنه [ نفسه مستغن عما يجعله عالما وليس هناك شيء غيره جعله عالما
وأما قولك ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم فهذا لفظ مجمل فإن هذا إنما يصلح أن يكون حجة على مثبتة الأحوال الذين يقولون هناك معنى هو العلم أوجب كونه عالما فقولك هذا كقول القائل لا يحتاج إلى كونه عالما قادرا ولا يحتاج إلى أن يعلم ويقدر وأنتم تسلمون لهم أنه لابد أن يعلم ويقدر وهذا هو عندهم العلم والقدرة فقول القائل بعد هذا يحتاج إلى هذا أو لا يحتاج
(5/41)
سؤال لا يرد عليهم ولا على أحد وذلك أن معنى الحاجة إن أريد به أن اتصافه بصفات الكمال لا يستلزم كونه عالما قادرا فهذا باطل وإذا قيل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى صفة فهو كقول القائل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى ذاته وهو غني بنفسه عن كل ما سواه ولا يقال هو غنى عن نفسه فإن نفسه المقدسة الموصوفة بصفة الكمال المستلزمة لذلك هي الغنية فإذا قيل هو غني عن ذلك كان مثل قول القائل هو غني عن نفسه أو غني عن غناه أو غني عما لا يكون غنيا إلا به وكقوله الحي الذي تجب الحياة له غني عن حياته أو واجب الوجود غنى عن وجوده والقديم غنى عن قدمه ونحو ذلك
فإن قال هم يقولون عالم بعلم ولا يقولون موجود بوجود ولا باق ببقاء ولا قديم بقدم
قيل منهم من يقول ذلك ومنهم من لا يقول به ويفرق بأن نفس الذات القديمة الباقية إذا قدرت غير قديمة ولا باقية لم يرجع الخلاف في ذلك إلى معنى ثبوتي قام بها فإن البقاء هو الدوام والشيء الباقي إذا قدر أنه لم يتغير فحاله مع البقاء ودونه سواء بخلاف العلم والقدرة فإن الذات العالمة القادرة إذا قدر أنها غير عالمة ولا قادرة علم بذلك اختلاف حالها في نفسها فدل ذلك على أن العلم والقدرة معنى يقوم بها تتصف به يختلف حالها في نفسها بتقدير عدمه ليس هو مجرد نسبة وإضافة كالبقاء ونحوه
وأيضا فجمعك بين هؤلاء الصفاتية وبين المجوس والنصارى فيه من التحامل ما لا يخفى على منصف
(5/42)
وقولك عن النصارى إنهم ربما أومأوا إلى مذهب الكلابية فيقال له لو كان قول النصارى ليس فيه إلا إثبات أن الله حي بحياة عالم بعلم لكان قولهم وقولك وقول الكلابية سواء والنصارى لم يكفرهم الله بهذا وإنما كفرهم الله بما ذكره عنهم في كتابه مما لا يقول به أحد من الصفاتية المسلمين وقول النصارى فيه من التناقض والاضطراب ما يتبين لكل عاقل فساده حيث يثبتون الابن صفة أقنوما ويجعلونه مع ذلك إلها فاعلا ويجعلون مع ذلك الإله واحدا ويقولون إن المتحد بالمسيح هو الابن وهو الكلمة دون الأب فهو مذهب متناقض كتناقض الفلاسفة بل والمعتزلة متناقضون أيضا في نفي الصفات وإثباتها كما تراه وهذا كلام أفضل متأخريهم
ثم إنه لم يحتج على الصفاتية إلى بحجتين إحداهما أنه لو كان له علم لكان علمه مثل علمنا والمثلان لا يكون أحدهما محدثا والآخر قديما
والثانية أن كونه عالما قادرا واجب والصفة إذا كانت واجبة استغنت بوجوبها عن معنى يوجبها فقد سمى ذلك صفة وهذه الحجة إنما تلزم مثبتة الحال وهم يقولون يعلل الواجب بالواجب وأما الأولى ففسادها ظاهر جدا لا سيما وأبو الحسين لا يسلم لهم أن الواحد منا عالم لمعنى ولهذا عدل عن طريقتي شيوخه المذكورتين في نفى الصفات إلى طريقة ثالثة أضعف منهما فقال إنه لا طريق إلى إثبات هذه المعاني
(5/43)
وما لا طريق إليه لا يجوز إثباته فكان مضمون كلامه نفي الشيء لانتفاء دليله وهذا في غاية الفساد فإن الدليل لا ينعكس ولا يلزم متى انتفى الدليل على الشيء انتفاؤه في نفس الأمر بل النافي عليه الدليل على نفي ما نفاه ] كما على المثبت الدليل على ثبوت ما أثبته ومن ليس عنده دليل على النفي والإثبات فعليه أن لا ينفى ولا يثبت فغاية ما عنده التوقف في نفي ذلك وإثباته يبين ذلك أنه ذكر في حجة أهل الإثبات أن الواحد منا عالم لمعنى لا يكون عالما إلا به فوجب مثل ذلك للباري سبحانه وتعالى
قال والجواب يقال لهم ولم وجب أن يكون حكم الباري حكمنا في ذلك أو ليس الواحد منا عالما بقلب وبعلم محدث وليس كذلك الباري سبحانه وتعالى فما أنكرتم أن يكون الواحد منا عالما لمعنى ويكون الباري عالما لذاته على أن الواحد منا عالم لا لمعنى وإن لم يكن ذلك مذهب أصحاب أبي هاشم وقد فرق أصحاب أبي هاشم بين الواحد منا وبين الباري تعالى في ذلك فقالوا الواحد منا علم مع جواز أن لا يعلم فلم يجز أن يكون عالما إلا لمعنى
(5/44)
يرجح به كونه عالما على كونه غير عالم والباري تعالى علم الأشياء ويستحيل أن لا يعلمها فلم يحتج إلى معنى يترجح به كونه عالما على كونه غير عالم
فيقال لأبي الحسين إذا كان مذهبك ومذهب نفاة الأحوال أن الواحد منا عالم لا لمعنى والباري عالم لا لمعنى فقد صحت حجة الصفاتية وتبين أن إثبات الصفة لأحد العالمين دون الآخر باطل وأما ما ذكرته من قول أبي هاشم فهو قول مثبتة الحال وحينئذ فيخاطبه مثبتة الحال من الصفاتية كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ومن تبعهما فيقولون كونه علم مع وجوب أن يعلم لا يمنع استلزام ذلك علما به صار عالما بل الحال الواجبة تستلزم علة واجبة والحال الجائزة تستلزم علة جائزة وإنما الفرق بينهما أن الواحد منا علم مع جواز أن لا يكون له علم وأن لا يكون عالما والباري علم مع وجوب أن يكون له علم وأن يكون عالما فالفرق بينهما من جهة وجوب الصفة والحال وجواز الصفة والحال أما ثبوت الصفة والحال في أحدهما وثبوت الحال دون الصفة في الآخر ففرق فاسد كفرق النفاة بين إثبات الصفة لأحدهما دون الآخر وهذا كله مما تبين لمن علم وأنصف أنه لا يمكن أبا الحسين وأمثاله من المعتزلة أن يذكروا فرقا معقولا بين قولهم وقول أئمة الصفاتية وإذا قدر أنهم يذكرون فرقا فحجتهم على
(5/45)
النفي في غاية الفساد والتناقض فهم يتناقضون لا محالة في نفس المذهب أو في حجته ونقلهم عن منازعيهم فيه من التحريف والمجازفة والشناعة بغير حق ما يتبين لمن تأمله مثل تشنيعهم على أهل الإثبات بأنكم تقولون بتعدد القديم والقديم لفظ مجمل يوهمون به بعض الناس أنهم يقولون بتعدد الآلهة لا سيما مع قول أكثر شيوخهم كالجبائي ومن قبله إن أخص وصف الرب هو القدم وإن الاشتراك فيه يوجب التماثل فلو شاركت الصفة الموصوف في القدم لكانت مثله وهذا وإن كان في غاية الفساد فإن خصائص الرب التي لا يوصف بها غيره كثيرة مثل كونه رب العالمين وأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم القائم بنفسه القديم الواجب الوجود المقيم لكل ما سواه ونحو ذلك من الخصائص التي لا تشركه فيها صفة ولا غيرها
فيقال القدم الذي هو من خصائصه هو قدم القائم بنفسه وكذلك وجوبه الذي هو وجوب وجود القائم بنفسه ونحو ذلك
وأما الصفات التي لا تقوم إلا به فإن قيل بقدمها أو وجوبها فلا ريب أنها ليست قائمة بنفسها بل لا تقوم إلا بالموصوف وحقيقة الأمر أن القديم الواجب بنفسه هو الذات المستلزمة لصفات الكمال وأما ذات مجردة عن هذه الصفات أو صفات مجردة عنها فلا وجود لها فضلا عن أن تكون واجبة بنفسها أو قديمة فقولهم مع فساده
(5/46)
أوجب أن صار كثير من الناس يحترزون عن إطلاق لفظ القديم على الصفة وكذلك لفظ الواجب بنفسه أو يحترزون من إطلاق لفظ القديم على الموصوف والصفة جميعا وإن كانوا يطلقون ذلك على أحدهما عند الانفراد وهذه طريقة ابن كلاب وأكثر أئمة متكلمي الصفاتية وعلى هذا جرى كلام أبي الحسن التميمي والخطابي وغيرهما ممن سلك هذا المسلك
كما قال أبو الحسن في كتاب الإشارة له في جامع الأصول قال مسألة إن سأل سائل فقال هل يقال إن الصفات قديمة قيل له هذا سؤال ضعيف لا يسأل عنه من عرف حقائق الكلام لأن القديم الأزلي لم يكن قديما بغير صفة وإنما كان قديما بصفاته التي هي مضافة إليه في نفسه فإثبات القديم قديما بصفاته يسقط المسألة عن قدم الصفات لإضافة الصفة إلى الموصوف فكل صفة للقديم في نفسه لم يزل بها ألا ترى أن المحدث جميعه محدث فإذا سألت عنه مفرقا مبعضا كانت كل طائفة منه محدثه وكل شيء منه محدث لأنه كله محدث بكماله أو لا ترى أن الإنسان محدث بجميع جوارحه وآلته فيقال هو محدث عند المسألة عنه في الجملة ويقال يده محدثة عند المسألة عنها في التفسير ولا يقال إن الإنسان ويده محدثان ولا أن الإنسان ورأسه محدثان فكذلك أيضا يقال القديم بجميع صفاته قديم وكل شيء من القديم فهو قديم غير محدث
(5/47)
فإن قال قائل يقولون إن الموصوف قديم وصفته القديمة قديمان قيل له هذا خطأ لا يجوز أن يقال كما انه لما لم يجز حين كان المحدث محدثا بجميع صفاته أن أجبت من سألني عنه منفردا وعن صفاته مفردة أن أقول إنه وصفته محدثان لأنه واحد هو وصفاته فهو كله محدث وهي على حالها محدثة ولا يجوز أن أقول هما جميعا محدثان لأن في قولنا إنهما جميعا محدثان فسادا لإثبات الواحد المحدث وإيهام أنه اثنان وليس بواحد فكذلك في قولي في الأول الواحد القديم الذي له صفات إنه قديم وصفاته قديمة فإذا قلت هو وصفاته قديمان ففيه إثبات تعطيل لتوحيده وقدمه وإيجاب أنه اثنان دون واحد ففسد من ذلك أن يقال هو وصفته قديمان كما فسد أن يقال للمحدث هو وصفته محدثان وكان الواجب أن يقال إن القديم الأزلي لم يزل موصوفا فمن سأل عن صفة صفة مفردة جاز أن يقال له هي قديمة صفة لقديم لم يزل بها ولم تزل به كما لا تكون صفة المحدث إلا محدثة فما جرى على القديم في شرط القدم فهو واقع عليه بصفاته وليس بواقع عليه دون صفاته
فإذا قال القائل الموصوف قديم فقد قال إن صفاته قديمة كما إذا قال الموصوف محدث فقد أوجب أن صفاته محدثة
(5/48)
قلت فهذه الطريقة التي سلكها هؤلاء في أنهم يقولون عن الذات إنها قديمة وعن الصفات إنها قديمة ولا يقولون عن الذات والصفات إنهما قديمان لما في العطف من الإشعار بالتغاير وهم لا يطلقون على الصفات إنها غير الذات
ولهم في لفظ المغايرة ثلاث طرق أحدها وهي طريق الأئمة كالإمام أحمد وغيره وأظنها قول ابن كلاب وغيره وقد ذكرها أبو إسحاق الإسفرايينى أنهم لا يقولون عن الصفة إنها الموصوف ولا يقولون إنها غيره ولا يقولون ليست هي الموصوف ولا غيره لأن لفظ الغير مجمل فلا ينفونه عند الإطلاق ولا يثبتونه
والطريقة الثانية وهي المحكية عن الأشعري نفسه أنه قال أقول مفرقا إن الصفة ليست هي الموصوف وأقول إنها ليست غير الموصوف لكن لا أجمع بين السلبين فأقول ليست الموصوف ولا غيره وهكذا أبو الحسن التميمي ومن سلك هذه الطريقة يقولون في العلم ونحوه من الصفات إنه ليس غير الله وأن الصفات ليست متغايرة كما يقولون إنها ليست هي الله كما يقولون إن الموصوف قديم والصفة قديمة ولا يقولون عند الجمع قديمان كما لا يقال عند الجمع لا هو الموصوف ولا غيره
والثالثة قول من يجمع بين السلبين كما هي طريقة ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلى وغيرهما وهؤلاء قد يطلقون القول بإثبات قديمين أحدهما الصفة والآخر الموصوف كما ذكروا ذلك في كتبهم وإذا احتج عليم المعتزلة بأنه إذا كانت صفاته قديمة وجب إثبات قديمين
(5/49)
ولو كان علمه قديما لكان إلها أجابوهم بأن كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما كالسواد والبياض اشتركا في كونهما مخالفين للجوهر ومع هذا لا يجب تماثلهما وأنه ليس معنى القديم معنى الإله لأنه القديم هو ما بولغ له في الوصف بالتقدم ومنه بناء قديم ودار قديمة إذا بولغ له في الوصف بالتقدم وليس معنى الإله مأخوذا من هذا ولأن النبي محدث وصفاته محدثة وليس إذا كان الموصوف نبيا وجب أن يكون صفاته أنبياء لكونها محدثة كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة والموصوف بها قديما أن تكون إلهة لكونها قديمة وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر
وأما قول ابن سينا وهل هو واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة تعالى عنها بوجه من الوجوه
فيقال له الكتاب الإلهي مملوء بإثبات الصفات لله تعالى كالعلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك ولم يتنازع اثنان من العقلاء أن النصوص ليست دالة على نفي الصفات بل إنما هي دالة على قول أهل الإثبات لكن غاية ما تدعيه النفاة أن ظاهرها دال على ذلك وأنه يمكن تأويله للدليل المعارض
ولا ريب أن ما ذكره لازم لنفاة الصفات إذ لو كان قولهم هو الحق لكان الواجب بيان ذلك وإن لم يبين فلا أقل من السكوت عن
(5/50)
الحق ونقيضه فأما ذكر ما يدل ظاهره على نقيض الحق من غير ذكر للحق فهذا ممتنع في حق من قصده هدى الخلق وإن كان هذا جائزا فهو حجة لهؤلاء الملاحدة عليهم في المعاد بل وفي الشرائع أيضا فإن أجابوا الملاحدة في المعاد بأنا نعلم بالاضطرار معاد الأبدان من أخبار الرسول فلا يحتاج أن نتلقاه من ألفاظ السمع لئلا يقدح في دلالة السمع بالتأويل كان هذا جوابا بعينه لأهل الإثبات فإنهم يقولون إنا نعلم بالاضطرار أن إثبات الصفات مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه أخبر الأمة أن ربهم الذي يعبدونه فوق العالم وأنه عليم قدير رحيم له العلم والقدرة والرحمة إلى أمثال ذلك من الصفات
والعلم بإثبات الصفات من قول الله ورسوله بعد تدبر النصوص الإلهية علم ضروري لا يرتاب فيه وهو أبلغ من العلم بثبوت الشفعة وميراث الجدة وتحريم المرأة على عمتها وخالتها وسجود السهو في الصلاة ونحو ذلك من الأحكام المعلومة عند الخاصة دون العامة فإن ما في الكتب الإلهية من إثبات علو الله تعالى وإثبات صفاته وأسمائه هو من العلم العام الذي علمته الخاصة والعامة كعلمهم بعدد الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وغير ذلك من الشرائع الظاهرة المتواترة ولا تجد أحدا من نفاة الصفات يعتمد في ذلك على الشرع ولا يدعي أن أصل اعتقاده لذلك من جهة الكتاب والسنة ولا ينقل قوله عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين وإنما ينقل قوله في النفي
(5/51)
عمن هو معروف بتقليد أو بدعة أو إلحاد وعلى قدر بدعته وإلحاده يكون إيغاله في النفي وبعده عن الإثبات
وقوله أو قابل لكثرة تعالى عنها لفظ مموه فإنه إن عني كثرة الآلهة وهو لم يعن ذلك فقد علم أن الله سبحانه قد بين أن الإله إله واحد في غير موضع والقرآن ملآن من نفى تعدد الآلهة ونفى الشرك بكل طريق وإن عني كثرة صفاته التي دلت عليها أسماؤه وآياته فتعليته الرب عنها كتعلية المشركين له أن يدعى ويعبد بلا واسطة وتعليتهم له عن أن يرسل رسولا من البشر فتنزيهه له عن صفاته كتنزيه المشركين له عن أن يكون إلها واحدا وأن يكون له رسول من البشر
وقد أنكر الله تعالى على المشركين نفيهم اسم الرحمن كما قال تعالى { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } وقوله تعالى { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن }
ومعلوم أن الاسم العلم لا ينكره أحد ولو كانت أسماؤه أعلاما لم يكن فرق بين الرحمن والجبار كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم في
(5/52)
الحديث المعروف في السنن يقول الله أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته
فإذا كانت الرحم مشتقة من اسم الرحمن امتنع أن يكون علما لا معنى فيه
وفي الصحيح عنه الرحم شجنة من الرحمن
فإذا كان هذا قوله سبحانه فيمن ينكر الرحمن فما الظن بمن ينكر جميع معاني أسمائه وصفاته وحمية هذا الملحد وأمثاله أن يكون له صفات حمية جاهلية شر من حمية الذين قال الله فيهم { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اصطلح هو والمشركون عام الحديبية أمر عليا أن يكتب في أول كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو وكان إذ ذاك مشركا لا نعرف الرحمن ولكن اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم فأمر عليا فكتب باسمك اللهم ثم قال اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقالوا لو علمنا
(5/53)
أنك رسول الله ما قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله
فهؤلاء أخذتهم حمية جاهلية في إثبات أسماء الله ونبوة رسوله والملاحدة شاركوهم في ذلك من وجوه كثيرة فإنهم ينفون حقائق أسماء الله وحقيقة رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وغايتهم أن يؤمنوا بها من وجه ويكفروا من وجه كالذين قالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض
ويقال له ذات لا صفة لها لا وجود لها إلا في الذهن بل لفظ ذات تأنيث ذو ولا تستعمل إلا مضافا و ذات معناه صاحبة كقوله تعالى { عليم بذات الصدور } وقوله تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } وقول خبيب
وذلك في ذات الإله
أي في سبيل الإله وجهته
ثم استعملها أهل الكلام بالتعريف فقالوا الذات أي الصاحبة والمعنى صاحبة الصفات
فتقدير المستلزم للإضافة بدون الإضافة ممتنع وهذا كما أثبته ابن سينا وأمثاله من هؤلاء الملحدة حيث جعلوه وجودا مطلقا إما بشرط
(5/54)
النفي وإما بشرط الإطلاق وهم قد قرروا في منطقهم ما لم ينازعهم فيه أحد من أهل الملل أن المطلق بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان فكيف بالمطلق المشروط بالنفي فإنه أبعد عن الوجود من المشروط بالإطلاق وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
وقوله أهو متحيز الذات أم منزهها عن الجهات
هو أيضا من حججهم على نفاة الصفات فإن الكتب الإلهية وصفته بالعلو والفوقية ولم تنف أن يكون فوق العالم كما تقوله النفاة
وإذا كانت النصوص الإلهية قد بينت أنه العلي الأعلى الذي يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه الذي تعرج الملائكة والروح إليه الذي نزل منه القرآن والملائكة تنزل من عنده الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ونحو ذلك من النصوص المبينة لمباينته لخلقه وعلوه عليهم فأي بيان للمقصود أعظم من هذا
وأما لفظ التحيز و الجهة فلفظان مجملان ومراد النفاة منهما غير المراد في اللغة المعروفة فإن المتحيز اسم فاعل من تحيز يتحيز فهو متحيز مثل تعوذ وتكبر وتجبر ونحو ذلك والحيز ما يحوز
(5/55)
الشيء ويحوطه والمفهوم من ذلك في اللغة الظاهرة أن يكون هناك شيء موجود يحوز غيره
ولا ريب أن الخالق مباين للمخلوقات عال عليها كما دلت عليه النصوص الإلهية واتفق عليه السلف والأئمة وفطر الله تعالى على ذلك خلقه ودلت عليه الدلائل العقلية
وإذا كان كذلك وليس ثم موجود إلا خالق ومخلوق فليس وراء المخلوقات شيء موجود يكون حيزا لله تعالى فلا يجوز أن يقال هو متحيز بهذا الاعتبار
وهم قد يريدون بالحيز أمرا عدميا حتى يسموا العالم متحيزا وإن لم يكن في شيء آخر موجود غير العالم وإذا كان كذلك فكونه متحيزا بهذا الاعتبار معناه أنه في حيز عدمي والعدم ليس بشيء وما ليس بشيء فليس في كونه فيه أكثر من كونه وحده لا موجود معه وأنه منحاز عن الخلق متميز عنهم بائن عنهم ليست ذاته مختلطة بذات المخلوق فإذا أريد بالمتحيز المباين لغيره وقد دلت النصوص على أن الله تعالى عال على الخلق بائن عنهم ليس مختلطا بهم فقد دلت على هذا المعنى فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع
(5/56)
الناس فيها دقيقها وجليلها كما قال الشعبي ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها وقال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه
ولما كان لفظ المتحيز فيه إجمال وإبهام امتنع طوائف من أهل الإثبات عن إطلاق القول بنفيه أو إثباته ولا ريب أنه لا يوجد عن أحد من السلف والأئمة لا إثباته ولا نفيه كما لا يوجد مثل ذلك في لفظ الجسم و الجوهر ونحوهما
وذلك لأنها ألفاظ مجملة يراد بها حق وباطل وعامة من أطلقها في النفي أو الإثبات أراد بها ما هو باطل لا سيما النفاة فإن نفاة الصفات كلهم ينفون الجسم والجوهر والمتحيز ونحو ذلك ويدخلون في نفي ذلك نفي صفات الله وحقائق أسمائه ومباينته لمخلوقاته بل إذا حقق الأمر عليهم وجد نفيهم متضمنا لحقيقة نفي ذاته إذ يعود الأمر إلى وجود مطلق لا حقيقة له إلا في الذهن والخيال أو ذات مجردة لا توجد إلا في الذهن والخيال أو إلى الجمع بين المتناقضين بإثبات صفات ونفي لوازمها
(5/57)
فعامة من يطلق ذلك إما متناقض في نفيه وإثباته يثبت الشيء بعبارة وينفيه بأخرى أو يثبته وينفي نظيره أو ينفيه مفصلا ويثبته مجملا أو بالعكس أو يتكلم في النفي والإثبات بعبارات لا يحصل مضمونها ولا يحقق معناها
وهذا كثير في الكبار فضلا عن الصغار وكثير منهم لا يفهم مراد أكابرهم بهذه العبارات وهم يعلمون أن عامتهم لا يفهمون مرادهم وإنما يظنونه تعطيما وتسبيحا من حيث الجملة والواجب على المسلمين أن يتلقوا الأقوال الثابتة عن الرسول بالتصديق والقبول مطلقا في النفي والإثبات
وأما الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام فلا تتلقى بتصديق ولا تكذيب حتى يعرف مراد المتكلم بها فإن وافق ما قاله الرسول كان من القول المقبول وإلا كان من المردود ولا يكون ما وافق قول الرسول مخالفا للعقل الصريح أبدا كما لا يكون ما خالف قوله مؤيدا ببرهان العقل أبدا كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع
وكذلك لفظ الجهة لفظ مجمل فإن الناطقين به من أهل الكلام والفلسفة قد يريدون بلفظ الجهة أمرا وجوديا إما جسما وإما عرضا في جسم
وقد يريدون بلفظ الجهة ما يكون معدوما كما وراء الموجودات
(5/58)
فقول القائل إن الحق في جهة
إن أراد به ما هو موجود مباين له فلا موجود مباين له إلا مخلوقاته فإذا كان مباينا لمخلوقاته فكيف تكون محتوية عليه
وإن أراد بالجهة ما فوق العالم فلا ريب أن الله فوق العالم وليس هناك إلا هو وحده وليس فوق المخلوقات إلا خالقها هو العلي الأعلى
فصل
وقول ابن سينا فإنه لا يخلو إما أن تكون هذه المعاني واجبا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفات وهم المخاطبون بهذه الجملة وأما أهل الإثبات فهم يقولون إن ذلك كله مما صرح به في الشريعة
وكذلك قوله وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر
(5/59)
فيه بالإشارة والإيماء بل بالتصريح المستقصى فيه والموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفات الجهمية وأما أهل الإثبات فيقولون إنه قد صرح بالتوحيد الحق التصريح المستقصى فيه الموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف وهذه نصوص القرآن والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف فيها من البيان للإثبات ما لا يحصيه إلا رب السموات
وقوله فإن المبرزين المنفقين أيامهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل إيضاح وشرح وعبارة فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب
فهذا الكلام حجة له على إخوانه الجهمية من المعتزلة وأتباعهم نفاة الصفات الذين يقولون إن التوحيد الحق هو قول أهل السلب نفاة الصفات الذين يقولون إن التوحيد الحق هو قول أهل السلب نفاة الصفات الذين يقولون إن التوحيد الحق هو قول السلب نفاة الصفات ولا ريب أن فهم قولهم فيه غموض ودقة لأنه قول متناقض فاسد أعظم تناقضا من قول النصارى كما قد بين في
(5/60)
موضعه فما يفهمه إلا الذكي الذي مرن ذهنه على تسليم المقدمات التي بها يفسدون ذهنه أو على تصور أقوالهم المتناقضة فإن كان من متابعيهم نقلوه من درجة إلى درجة كما تفعل القرامطة بنقل المستجيبين لهم من درجة إلى درجة وكذلك هؤلاء الجهمية النفاة لا يمكنهم أن يخاطبوا ذكيا ولا بليدا بحقيقة قولهم إن لم يتقدم قبل ذلك منه تسليم لمقدمات وضعوها تتضمن ألفاظا مجملة يلبسون بها عليه الحق بالباطل فيبقى ما سلمه لهم من المقدمات مع ما فيه من التلبيس والإبهام حجة لهم عليه فيما ينازعهم فيه إلى أن يخرجوه إن تمكنوا من العقل والدين كما تخرج الشعرة من العجين فإن من درجات دعوتهم الخلع و السلخ وأمثال هذه العبارات
وقد رايت كتبهم فرأيتهم يحتجون على طوائف المسلمين الذين فيهم بدعة بما وافقوهم عليه من البدعة كما احتج ابن سينا على المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات بما وافقوه عليه من هذه الأقوال المبتدعات وإلا فالفطر السليمة تنكر أقوال النفاة إذ قد توافق على إنكارها الفطر والمعقول والسمع المنقول وإنما يخالف بنوع من الشبه الدقيقة التي هي من أبطل الباطل في الحقيقة
ولقد حدثني بعض أصحابنا أن بعض الفضلاء الذين فيهم نوع
(5/61)
من التجهم عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة لما ظهر قول الإثبات في بلدهم بعد أن كان خفيا واستجاب له الناس بعد أن كان المتكلم به عندهم قد جاء شيئا فريا فقال هذا إذا سمعه الناس قبلوه وتلقوه بالقبول وظهر لهم أنه الحق الذي جاء به الرسول ونحن إذا أخذنا الشخص فربيناه وغذيناه ودهناه ثلاثين سنة ثم أردنا أن ننزل قولنا في حلقه لم ينزل في حلقه إلا بكلفة
وهو كما قال فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها ولولا ما في القلوب من الإستعداد لمعرفة الحقائق لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها وكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافى ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك
وهذا كما أن لأرباب السحر والنيرنجيات وعمل الكيمياء وأمثالهم ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق يحتاج إلى أعمال
(5/62)
عظيمة وأفكار عميقة وأنواع من العبادات والزهادات والرياضيات ومفارقة الشهوات والعادات ثم آخر أمرهم الشك بالرحمن وعبادة الطاغوت والشيطان وعمل الذهب المغشوش والفساد في الأرض والقليل منهم من ينال بعض غرضه الذي لا يزيده من الله إلا بعدا وغالبهم محروم مأثوم يتمنى الكفر والفسوق والعصيان وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمنى الطغيان سماعون للكذب أكالون للسحت عليهم ذلة المفترين
كما قال تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين }
ولهذا تجد أهل هذه الأباطيل الصعبة الشديدة في الغالب إما ملحدا من أهل النفي والتكذيب وإما جاهلا قد أضلوه ببعض شبهاتهم
وأما قوله فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب فيقال له نحن لا ننكر أن في العبرانيين والعرب من يكون ذهنه مقصرا عن بعض دقيق العلم لكن إذا وازنت من كان مع محمد صلى الله عليه وسلم من العرب الخاصة والعامة ومن كان مع موسى عليه الصلاة والسلام أيضا بمن فرضته من الأمم وجدتهم أكمل منهم في كل
(5/63)
سبب ينال به دقيق العلم وجليله فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية وعوام الفلاسفة الدهرية وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم فإنك نجد بين أدنى أولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين حتى اعتقدوا فيمن هو من أكفر الناس وأكذبهم أنه إمام معصوم يعلم علم الأولين والآخرين بل عوام النصارى مع فرط جهلهم وضلالهم أحذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم
وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤوسها فلاسفة أو لم تكن أئمتكم اليونان كأرسطو
(5/64)
وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان ويشركون بالرحمن ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان
أو ليس من أعظم علومهم السحر الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين ويصوم له ويصلي ويقرب له القرابين حتى ينال بذلك عرضا من الدنيا فساده أعظم من صلاحه وإثمه أكبر من نفعه
أو ليس أضل الشرك في العالم هو من بعض هؤلاء المتفلسفة أو ليس كل من كان أقرب إلى الشرائع ولو بدقيقة كان أقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة وهل رأيت فيلسوفا أقام مصلحة قرية من القرى فضلا عن مدينة من المدائن وهل يصلح دينه ودنياه إلا بأن يكون من غمار أهل الشرائع
ثم يقال له أنت وأمثالك أئمة أتباعكم وهذا قولك وقول أرسطو وأمثالكم من أئمة الفلاسفة في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواكم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان قول لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم وأشبههم بالبهائم من الحيوان
وكون الواحد منكم حاذقا في طب أو نجوم أو غرس أو بناء هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب الذي هو أجل المطالب وأرفع المواهب
(5/65)
فاعتضم بالأدنى عن الأعلى إما عجزا وإما تفريطا
ولا ريب أن أئمة اليهود والنصارى بعد أن بدلوا الكتاب ودخلوا فيما نهوا عنه أحذق وأعرف بالله من أئمتكم وعوام اليهود والنصارى الذين هم ضالون ومغضوب عليهم أصح عقلا وإدراكا وأصوب كلاما في هذا الباب من عوام أصحابكم وهذا مما لا يشك فيه من له عقل وإنصاف
واعتبر ذلك بعوام النصيرية والإسماعيلية والدرزية والطرقية
(5/66)
والعرباء وعوام التتر المشركين الذين كان علماؤهم المشركون السحرة من البخشية والطوينية وأمثالهم وكان خيار علمائهم رؤوس الملاحدة مثل النصير الطوسي وأمثاله وكذلك عوام أتباع سنان رأس الملاحدة وأمثاله فاعتبر عوام هؤلاء مع عوام اليهود والنصارى تجد عوام اليهود والنصارى أقل فسادا في الدنيا والدين من أولئك وتجد أولئك أفسد عقلا ودينا
وأما متوسطوكم كالمنجمين والمعزمين وأمثالهم ففيهم من الجهل [ والضلال ] والكذب والمحال مالا يحصيه إلا ذو الجلال وهل كان
(5/67)
الطوسي وأمثاله ينفقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين ومكايد المحتالين المنافية للعقل والدين
وأما أئمتكم البارعون كأرسطو وذويه فغايته أن يكون مشركا سحارا وزيرا لملك مشرك سحار كالإسكندر بن فيلبس وأمثاله من ملوك اليونان الذين كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وإنما [ صار ] فيهم ما صار من الهدى والفلاح لما دخلت فيهم النصرانية بعد أرسطو [ بنحو ] ثلاثمائة سنة وتسع عشرة سنة أو أكثر منها وقد قيل إن ذلك كان على عهد آخر [ ملوكهم ] بطليموس صاحب المجسطي فناهيك ممن تكون النصارى أعقل منهم وأعلم وأهدى إلى الدين الأقوم
ومن الضلال أن من يظن ذا القرنين المذكور في القرآن العزيز هو الإسكندر بن فيلبس الذي يقال إن أرسطو كان وزيره وهذا
(5/68)
جهل فإن ذا القرنين قديم متقدم على هذا بكثير وكان مسلما موحدا حنيفا وقد قيل إن اسمه الإسكندر بن دارا وأما اليوناني فهو ابن فيلبس الذي يؤرخ الروم به وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة أو ما يقارب ذلك
وهذا الكلام وأمثاله إنما قيل للمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفضلاء الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولا وأكمل أذهانا وأصح معرفة وأحسن علما من هؤلاء
فهم كما قال فيهم عبد الله بن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع كالرافضة والمتكلمين [ من ] المعتزلة ونحوهم
(5/69)
وابن سينا وأمثاله من ملاحدة الفلاسفة لما كانوا إنما يخاطبون من المسلمين من هو ناقص في العلم والدين إما رافضي وإما معتزلي وإما غيرهما صاروا يتكلمون في خيار القرون بمثل هذا الكلام
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ثم يقال لهذا الأحمق لا ريب أن كل أمة فيها ذكي وبليد
(5/70)
بالنسبة إليها لكن هل رأى في أجناس الأمم أمة أذكى من العرب
واعتبر ذلك باللسان العام وما فيه من تفصيل المعاني والتمييز بين دقيقها وجليلها بالألفاظ الخاصة الناصة [ على ] الحقيقة ويليه في الكمال اللسان العبراني فأين هذا من لسان أصحابك الطماطم الذين يسردون ألفاظا طويلة والمعنى خفيف ولولا أن مثلك وأمثالك ممن شملته بعض سعادة المسلمين والعرب فصار فيكم بعض كمال الإنسان في العقل واللسان فعربتم تلك الكتب وهذبتموها وقربتموها إلى العقول وإلا لكان فيها من التطويل والهذيان ما يشح بمثله على الزمان وهي كما قال فيها أبو حامد الغزالي هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن إثم فإن ما يقوم عليه الدليل من الرياضي ونحوه كثير التعب قليل الفائدة لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل
ثم يقال له هب أن ما ذكرته من غتم العبرانيين والعرب أهل الوبر لا يمكنهم معرفة الدقيق فهل يمكنك أن تقول ذلك في أذكياء
(5/71)
العرب والعبرانيين وكل أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس
واعتبر ذلك بأتباعهم فإن كنت تشك في ذكاء مثل مالك والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد وإبراهيم الحربي وعبد الملك بن حبيب الأندلسي والبخاري ومسلم وأبي دواد وعثمان بن سعيد الدارمي بل ومثل أبي العباس بن سريج وأبي جعفر الطحاوي وأبي القاسم الخرقي وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهم من أمثالهم فإن شككت في ذلك فأنت مفرط في الجهل أو مكابر فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم وعملهم حتى أنه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة [ إلا ] أن يكون قد خالفه صاحب آخر
(5/72)
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في الرسالة إنهم فوقنا في كل عقل وعلم وفضل وسبب ينال به علم أو يدرك به صواب ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا أو كما قال رحمة الله عليه
وأما قوله لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أذهانهم إلى آخر كلامه
فيقال لا ريب أن فيما غاب عن المشاهدة أمورا من الغيب بعضها يمكن التعريف به مطلقا وبعضها لا يمكن التعريف به إلا بعد شروط واستعداد وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا إلا على وجه مجمل وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا بحال وبعضها لا يمكن مخلوقا أني علمه ولهذا قال تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين }
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فما لا يخطر بالقلوب إذا عرفت به لم تعرفه إلا إذا كان له نظير وإلا لم يمكن التعريف على وجهه
(5/73)
وفي الدعاء المشهور اللهم إني أسألك بكل اسم [ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت [ به ] في علم الغيب عندك فإذا كان من أسمائه ما استأثر بعلمه لم يعلمه غيره ذلك وما خص به بعض عباده لم يعلمه غيره
وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وفي حديث الشفاعة ينفتح علي محامد أحمده بها لا أحسنها الآن
(5/74)
فإذا كان أعلم الخلق بالله لا يحصى ثناء عليه فكيف غيره وإذا كان يفتح عليه في الآخرة بمحامد لم يعرفها في الدنيا فكيف حال غيره
ونذكر في هذا قصة موسى والخضر عليهما السلام ونقر العصفور من البحر
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ذكره البخاري حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
(5/75)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأله رجل عن تفسير آية فقال ما يؤمنك أني لو أخبرتك بها لكفرت بها وكفرك بها تكذيبك بها فتبين أنه ليس كل أحد يليق بمعرفة جميع العلوم
ولهذا قال تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } إلى قوله { يضرب الله الأمثال } فإن هذا مثل ضربه الله فشبه فيه ما ينزله من السماء من العلم والإيمان بالمطر وشبه القلوب بالأودية والأودية منها صغار وكبار فكل واد يسيل بقدره
فهذا ونحوه حق ولكن حقائق الأمور التي يدعيها هؤلاء الملاحدة هي في الحقيقة نفي وتعطيل تنكرها القلوب العارفة الذكية أعظم مما تنكرها قلوب العامة وكلما قوى عقل الرجل وعلمه زاد معرفة بفسادها ولهذا لا يستجيب لهم الرجل إلا بقدر نقص عقله ودينه
وقوله هبك الكتاب العزيز جاء على لغة العرب في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني وهو من أوله إلى آخره تشبيه صرف إلى آخر كلامه
فيقال هذا من أعظم حجج أهل الإثبات على نفاة الصفات
(5/76)
ومن أعظم الحجج على صدق الرسولين العظيمين وصدق الكتابين الكريمين اللذين لم يأت من عند الله كتاب أهدى منهما
قال تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } إلى قوله { قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا } إلى قوله { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين }
وقال تعالى حكاية عن الجن { قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم }
وقال تعالى { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها }
وقال تعالى { ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } وهذا
(5/77)
{ كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } فقد قرن الله تعالى بين الكتابين العربي والعبري في غير موضع
ومن المعلوم أن موسى كان قبل محمد صلوات الله عليهما وسلامه ولم يأخذ عنه شيئا وكل من عرف حال محمد صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا فإذا أخبر هذا بمثل ما أخبر به هذا عن مرسل واحد من غير تواطؤ ولا تشاعر فيما يمتنع في العادة التوافق فيه من غير تواطؤ كان هذا مما يدل على صدق كل من الرسولين في أصل الرسالة وعلى صدق خبر كل من الرسولين فيما أخبر به من صفات ربه إذ كان كل منهما أخبر بمثل ما أخبر به الآخر وهب أن بعض ألفاظ أحد الكتابين قد يحرفها المحرف فالكتاب الآخر المصدق له يبطل ذلك التحريف ويبين أن المقصود واحد
وما ذكره من امتناع التحريف على كلية الكتاب العبري حق كما قال ويبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين من تحريف أهل الكتاب ما شاء الله وذمهم على ما وصفوا الله تعالى به من النقائص كقولهم إن الله فقير وإن الله بخيل وإنه تعب لما خلق
(5/78)
السموات والأرض فاستراح فقال تعالى { وما مسنا من لغوب }
فلو كان ما في التوراة من إثبات الصفات مما بدلوه وافتروه لكان إنكار هذا من أعظم الواجبات ولكان الرسول يعيبهم بما ينكره النفاة من التشبيه والتجسيم وأمثال هذه العبارات فلما كان الرسول العربي مقررا لما في التوراة من الصفات ومخبرا بمثل ما في التوراة كان ذلك من أعظم دليل على أن ما في التوراة من الصفات التي أخبر بها الرسول العربي أيضا ليس مما كذبه أهل الكتاب
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن حبرا من اليهود لما أخبر النبي صلى اله عليه وسلم أن الله يوم القيامة يمسك السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك أنا الملك ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا لقول الحبر ثم قرأ فوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه }
وهذا الحديث رواه من هو من أعلم الصحابة وأعظمهم اختصاصا
(5/79)
بالنبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود ورواه عنه وعن أصحابه من هو من أجل التابعين وأتباع التابعين قدرا ورواه أيضا عبد الله بن عباس الذي هو أعلم الصحابة في زمانه وأصحاب ابن مسعود وابن عباس من أعظم التابعين علما وقدرا عند الأمة
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيهما أيضا من حديث ابن عمر في تفسير هذه الآية { وما قدروا الله حق قدره } ما يناسب هذا الحديث
(5/80)
ويوافق قول أهل الإثبات ويبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينكر على أهل الكتاب ما يحبرون به من الصفات التي تسميها النفاة تجسيما وتشبيها وإنما أنكر عليهم ما وصفوا الله تعالى به من النقائص والعيوب
ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين أنهم ذموا أهل الكتاب بما يذمهم به نفاة الصفات ولا يذكرون لفظ التجسيم ونحوه من الألفاظ التي أحدثها المحدثون لا بمدح ولا ذم ولا يقولون ما تقوله النفاة إن التوراة فيها تشبيه كما قال ابن سينا الكتاب العبراني كله من أوله إلى آخره تشبيه صرف
فإنه يقال له ما تعني بقولك إنه تشبيه أتعني أنه متضمن الإخبار بأن صفات الرب مثل صفات العباد أو متضمن لإثبات الصفات التي يوصف الحلق بما هو بالنسبة إليهم كتلك الصفات بالنسبة إلى الله
فإن أردت الأول فهذا كذب على التوراة فليس فيها الإخبار بأن صفات الله كصفات عباده بل فيها نفي التمثيل بالله
وإن أردت الثاني فهذا أمر لابد منه لك ولكل أحد فإنك وأمثالك تقولون إن الله موجود مع قولكم إن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وتقولون إنه عقل وعاقل ومعقول مع قولكم إن اسم العقل يقع على العقول العشرة وتقولون إنه علة للعالم مع
(5/81)
قولكم إن العلة تنقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وتقولون إن له عناية مع أن لفظ العناية يقال على صفات العباد وتقولون إنه مبدأ ومبدع ونحو ذلك من العبارات التي تسمون بها غيره فإنكم تطلقون اسم المبادئ على العقول وتطلقون الإبداع على العقول وتقولون إن كل عقل أبدع ما دونه والعقل العاشر أبدع ما تحت فلك القمر وتقولون إنه موجب بالذات مع أن لفظ الإيجاب يطلق على غيره
ويقولون إنه عاشق ومعشوق وعشق مع أن لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفي على عاقل وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل ولا عاشق ولا معقول ولا معشوق
ويقولون أيضا إنه يلتذ ويبتهج ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل ويقولون إنه مدرك وأن اللذة أفضل إدراك لأفضل مدرك فيسمونه مدركا ومدركا
ثم أعجب من هذا كله أنكم تقولون الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة ومن هنا دخل من وافقكم في إثبات تشبه العبد بالرب في الذات والصفات والأفعال كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن مشى خلفه من القائلين بالوحدة المطلقة
(5/82)
والاتحاد وقالوا إن الإنسان مثل الله وأن قوله { ليس كمثله شيء } المراد أنه ليس كالإنسان الذي هو مثل الله شئ ويقولون إن الفلك إنما يتحرك تشبها بما فوقه فيجعلون العبد قادرا على أن يتشبه بالله وأن الفلك يتشبه بالله أو يتشبه بالعقل المشبه لله
فإذا كان في التوراة إنا سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا أو نحو هذا فغايته أن يكون الله خالقا لمن يشبهه بوجه وأنتم فد جعلتم العبد قادرا على أن يتشبه بالله بوجه فإن كان التشبه بالله باطلا من كل وجه ولا يمكن الموجود أن يشبهه بوجه من الوجوه فتشبيهكم أنكر من تشبيه أهل الكتاب لأنكم جعلتم العبد قادرا على أن يتشبه بالرب وأولئك أخبروا عن الرب أنه قادر على أن يخلق ما يشبهه
فكان في قولكم إثبات التشبيه وجعله مقدورا للعبد وأولئك مع إثبات التشبيه إنما جعلوه مقدورا للرب فأي الفريقين أحق بالذم والملام أنتم أم أهل الكتاب إن كان مثل هذا التشبيه منكرا من القول وزورا وإن لم يكن منكرا من القول وزورا فأهل الكتاب أقوم منكم لأنهم تبعوا ألفاظ النصوص الإلهية التي أثبتت ما أثبتت مقدورا لرب البرية وأنتم ابتدعتم ما ابتدعتم بغير سلطان من الله
وأيضا فيقال إنه ما من موجودين إلا بينهما فدر مشترك وقدر مميز فإنهما لا بد أن يشتركا في أنهما موجودان ثابتان حاصلان وأن
(5/83)
كلا منهما له حقيقة هي ذاته ونفسه وماهيته حتى لو كان الموجودان مختلفين اختلافا ظاهرا كالسواد والبياض فلا بد أن يشتركا في مسمى الوجود والحقيقة ونحو ذلك بل وفيما هو أخص من ذلك مثل كون كل منهما لونا وعرضا وقائما بغيره ونحو ذلك وهما مع هذا مختلفان
وإذا كان بين كل موجودين جامع وفارق فمعلوم أن الله تعالى ليس كمثله شئ لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فلا يجوز أن يثبت له شئ من خصائص المخلوقين ولا يمثل بها ولا أن يثبت لشئ من الموجودات مثل شئ من صفاته ولا مشابهة في شئ من خصائصه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وإذا كان المثل هو الموافق لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع فهو سبحانه لا يشاركه شيء فيما يجب له ويمتنع عليه ويجوز له وإذا أخذ القدر المطلق الذي يتفق فيه الخالق والمخلوق مثل مسمى الوجود والحقيقة والعالم والقادر ونحو ذلك فهذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمخلوق لا يشارك مخلوقا في شئ من صفاته فكيف يكون للخالق شريك في ذلك لكن المخلوق قد يكون له من يماثله في صفاته والله تعالى لا مثل له أصلا والقدر المشترك المطلق كالوجود والعلم والحقيقة ونحو ذلك لا يلزمه شئ من صفات النقص الممتنعة على الله تعالى فما وجب للقدر المطلق المشترك لا نقص فيه ولا عيب وما نفى عنه فلا كمال فيه وما جاز له فلا محذور في جوازه
(5/84)
وأما ما يتقدس الرب تعالى ويتنزه عنه من النقائص والآفات فهي ليست من لوازم ما نختص به ولا من لوازم القدر المشترك الكلى المطلق أصلا بل هي من خصائص المخلوقات الناقصة والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب وهذه معاني شريفة بسطت في غير هذا الموضع
وما يذكره هؤلاء من تعظيم علوم الأسرار والأمر بكتمانها عن الجمهور وقصور الجمهور عن إدراك حقائقها هو كلام مجمل يقوله الصديق والزنديق
والمخالفون من نفاه الصفات الخبرية أو نفي الأوامر الشرعية من المتفلسفة ومن دخل معهم من متصوفة النفاه ونحوهم يشيرون إلى ذلك ويحملون ما يروى من الآثار الصحيحة والسقيمة على ذلك فالأثر المروى إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله تعالى وهذا الحديث وإن لم يكن له إسناد صحيح فقد ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروى وأبو حامد الغزالي وغيرهما
(5/85)
لكن ذكر شيخ الإسلام عن شيخه يحيى بن عمار أن من هذا أحاديث الصفات الموافقة لقول أهل الإثبات
وأبو حامد قد يحمل هذا إذا تفلسف على ما يوافق أقول الفلاسفة النفاة
وكذلك ما في البخاري عن علي حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقد حمله ابن رشد الحفيد على أقوال الفلاسفة الباطنية النفاة ومن المعلوم أن أقوال النفاة لا توجد في كلام الله ورسوله وإنما الموجود في كلام الله ورسوله أقوال أهل الإثبات فإذا حدث المحدث بها من لا يحملها عقله أفضى إلى تكذيب الله ورسوله
والأمور الباطنة فيها إجمال فالملاحدة يدعون الباطن المخالف للظاهر وأما أهل الإيمان فالباطن الحق عندهم موافق للظاهر الحق فما في بواطنهم من المعارف والأحوال وتحقيق التوحيد ومقامات أهل العرفان موافق لما جاء به الكتاب والرسول يزداد صاحبها بأخبار الأنبياء إيمانا بخلاف الملاحدة كلما أمعن الواحد منهم فيه بعد عن الله ورسوله
(5/86)
وقول ابن سينا هو الإقرار بالصانع مقدسا عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون له شريك في النوع أو يكون له جزء وجودي كمي أو معنوي إلى آخره
فكلامه هذا يتوهم الجاهل أنه تعظيم لله تعالى ومراده أنه ليس لله علم ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام ولا محبة وأنه لايرى ولا يباين المخلوقات
قلت وقد تكلمنا على هذا وعلى ثبوت الكليات في الخارج التي ذكرها في إشاراته وشرحها شارحو إشاراته كالرازي والطوسي وابن كمونه اليهودي وأمثالهم فإنه ذكر دليل توحيدهم وقدم قبله مقدمات
قال في الإشارات كل أشياء تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها فإما أن يكون ما تتفق فيه لازما من لوازم ما تختلف فيه
(5/87)
فيكون للمختلفات لازم واحد وهذا غير منكر وإما أن يكون ما تختلف فيه لازما لما تتفق فيه فيكون الذي يلزم الواحد مختلفا متقابلا وهذا منكر وإما أن يكون ما تتفق فيه عارضا عرض لما تختلف فيه وهذا غير منكر وإما أن يكون ما تختلف فيه عارضا عرض لما تتفق فيه وهذا أيضا غير منكر
قال الشارحون لكلامه كل شيئين فلا بد أن يكونا متخالفين في هويتهما وتشخصهما لأن تشخص هذا لو كان حاصلا لذاك لكان هذا ذاك لاغيره والأشياء قد تكون متوافقة في شئ من المقومات كالأشخاص الداخلة تحت نوع واحد والأنواع الداخلة تحت جنس وقد لا تكون متوافقة في شئ من المقومات كالأجناس العالية فإنها لا تكون متوافقة في شيء من المقومات وإن كانت ربما توافقت في شيء من الصفات العرضية
وإذا كان كذلك فإذا اتفقت في أمر مقوم لها كان ما به الاختلاف مغايرا لما به الاشتراك لا محالة فتكون هوية كل واحد منهما مركبة مما به شارك الآخر ومما به امتاز عن الآخر وعند ذلك فإما أن يكون ما به الاشتراك لازما لما به الاختلاف أو بالعكس أو يكون ما به الاشتراك غارضا لما به الاختلاف أو بالعكس
فأما الأول فهو غير منكر كفصول الأنواع الداخلة تحت جنس فإن طبيعة ذلك الجنس لازمة لطبائع تلك الفصول وكالوجود
(5/88)
والوحدة اللازمين للمقولات والتماثل والاختلاف والتضاد والتغاير اللوازم للحقائق الكثيرة المختلفة فإن السواد والبياض وإن كانا مختلفين لكنهما مشتركان في كون كل منهما ضد الآخر
وأما الثاني وهو كون ما به الاختلاف لازما لما به الاشتراك فهو محال كالناطق مع الحيوان لو كان لازما له لكان كل حيوان ناطقا
وأما الثالث والرابع فهما جائزان
قلت وهذا الكلام مبني على أصول سلمها لهم من لم يفهمها مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات المقومة والعرضية اللازمة وكلامهم في تركب الأنواع من الأجناس والفصول ونحو ذلك
ونحن نبين ما يعرف الحق به فنقول معلوم أن هذا الإنسان يشابه غيره في الإنسانية ويشابه سائر الحيوانات في الحيواينة وهذا معنى قولهم متفقان في مسمى الإنسانية أو الحيوانية أو يشتركان في ذلك لكن نفس إنسانيته التي تخصه وحيوانيتة التي تخصه لم يشركه فيها غيره أصلا وإن كان قد ماثله فيها وشابهه فمشابهة الشيء الشيء ومماثلته لا تقتضي أن يكون عين أحدهما يشاركه الآخر فيها أو في شئ من صفاتها القائمة بها فزيد المعين ليس فيه شيء من غيره أصلا ولا في شئ من صفاته القائمة به
فقول القائل اشتركا في الإنسانية أو اتفقا فيها ونحو ذلك فيه إجمال فإن الاشتراك يراد به الاشتراك في الأمور الموجودة في الخارج
(5/89)
كاشتراك الشركاء في العقار بحيث يكون لهذا بعضه ولهذا بعضه مشاعا أو مقسوما وإذا اقتسما ذلك كان لهذا بعضه ولهذا بعضه والمقسوم لا يصدق على كل من القسمين ولا يعمهما فهذا اشتراك في الكل وقسمة للكل إلى أجزائه كالقسمة التي ذكرها الفقهاء في كتبهم وقسمة النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم والمواريث ومنه انقسام الكلام إلى اسم وفعل وحرف
ومعلوم أن اشتراك الأعيان في النوع أو الجنس وانقسام الأجناس إلى الأنواع والأشخاص ليس من هذا فإن هذا قسمة الكلى إلى جزيئاته واشتراك الجزئيات في كلى يتناولها فالكليات لا توجد في الخارج كليات فلا توجد إلا مشخصة معينة
وإذا قال القائل الكلى الطبيعي موجود في الخارج وهو المطلق لا بشرط كالإنسان من حيث هو هو والحيوان من حيث هو هو فإن أراد بذلك أنه يوجد ما يصدق عليه المعنى الذي يقال له إذا كان في الذهن كليا مثل أن يوجد الشخص الذي يقال له إنسان وحيوان وجسم ونحو ذلك فقد صدق وإن أراد أنه يوجد الكلى كليا فقد أخطأ فإن الكلى لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه والمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فكيف يكون ذاك جزءا من هذا منحصرا في هذا وهو يصلح لأن يدخل فيه من الأعيان أضعاف هذا وكيف يكون الكبير جزءا من القليل والعظيم جزءا من الصغير
ولا ريب أن الذهن يتصور إنسانا مطلقا لا يمنع تصوره من وقوع
(5/90)
الشركة فيه فيكون كليا في التصور والذهن فإذا وجد فلا يوجد إلا معينا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
فمن أراد بقوله الكلى يوجد في الأعيان ما يراد بوجود الصور الذهنية في الخارج مثل قول القائل ما كان في نفسي فقد حصل ولله الحمد وما كان في نفسي فقد فعله زيد ونحو ذلك فإن أول الفكرة آخر العمل والإنسان يتصور في نفسه أشياء ثم يفعل ما تصوره ولا يريد بذلك أن نفس الصورة الذهنية التي تصورها وقصدها وجدت في الخارج بعينها ولكن وجد في الخارج ما هو مطابق لها موافق لها
وقد يقال إن هذا هو هذا كما يقال للمكتوب إنه الملفوظ وللملفوظ إنه المعلوم وللمعلوم إنه الموجود فإن الأشياء لها وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البيان وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي فإذا كتب اسم زيد وقيل إن هذا هو زيد لم يرد بذلك أن الخط هو الصوت ولا أن الصوت هو العلم ولا أن العلم هو الشخص المعين بل الناس يعلمون أن القائل إذا قال هذا هو زيد فالمراد هذا المكتوب اسمه زيد ونظائر هذا كثيرة
فإذا قيل إن الكلى وجد في الخارج بهذا الاعتبار فهو صحيح لأن الكلى يتصوره الذهن مطلقا غير مشروط بشرط فيوجد في الخارج ما يطابقه بمعنى أنه يصدق عليه المطلق الذي لا يشترط فيه شرط إذا قيل هذا حيوان هذا إنسان لكن إذا صدق عليه المطلق لا بشرط لم يلزم أن يكون قد وجد المطلق مطلقا لا بشرط فإن صدقه عليه
(5/91)
يقتضي أن يكون صفة له ومحمولا عليه وهذا عين التقييد والتخصيص
وهذا كما إذا قلنا هذا حيوان هذا جسم لم يلزم من ذلك أن يكون قد وجد حيوان مطلق فضلا عن أن يكون إنسانا أو فرسا أو نحو ذلك من الأنواع أو جسم معين مجرد عن أن يكون معينا من الأجسام المعينة
وقول القائل المطلق لا بشرط ينفي اشتراط الإطلاق فإن ذلك هو المطلق بشرط الإطلاق وذاك ليس بموجود في الخارج بلا نزاع من هؤلاء المنطقيين أتباع أرسطو فإن المنطق اليوناني يضاف إليه ولهذا لا يذكرون فيه نزاعا وإنما يثبته في الخارج أصحاب أفلاطون وإذا لم يكن الإطلاق شرطا فيه لم يمتنع اقتران القيد به فيكون وجوده مقيدا وإذا كان وجوده مقيدا امتنع أن يكون مطلقا فإن الإطلاق ينافي التقييد
وإن قلت المقيد يدخل في المطلق بلا شرط
قلت وإذا دخل فيه كان هو إياه في الذات مغايرا له في الصفات
كما إذا قلت الناطق حيوان لم يكن هناك جوهران أحدهما مطلق والآخر مقيد
وهذا أمر يشهد به الحس ولا ينازع فيه من تصوره فليس في الموجودات المعينة إلا صفاتها المعينة القائمة بها وكل ذلك مشخص
(5/92)
معين وما ثم إلا عين قائمة بنفسها سواء سميت جوهرا أو جسما أو غير ذلك أو صفة لها سواء سميت عرضا أو لم تسم بذلك
والمقصود أن الشيئين إذا اتفقا واشتركا في شئ كالإنسانية والحيوانية واختلفا وامتاز كل منهما عن الآخر بشيء كتعينه وتخصصه فكل ما اتفقا فيه واختلفا فيه يمكن أخذه مطلقا ومعينا فإذا أخذ معينا لم يكن واحد منهما شارك الآخر ووافقه في ما تعين فيه وإذا أخذ مطلقا أو كليا كان كل منهما قد شارك الآخر ووافقه في الكلى المطلق الذي يصدق عليهما ولكن الكليات في الأذهان وليس في الأعيان إلا ما هو معين مختص
لكن بين المعينات تشابه واختلاف وتضاد فإذا قيل هذا الإنسان يشارك هذا في الإنسانية ويمتاز عنه بالتعين
قيل له يشاركه في إنسانيته التي تخصه أو في مطلق الإنسانية فالأول باطل ومخالف لقوله ويمتاز عنه بالتعيين وإن أراد الثاني قيل له وكذلك التعين فإنه يشاركه في مطلق التعين فلكل منهما تعين بخصة ويشتركان في مطلق التعين كما قلنا في الإنسانية
فقول هؤلاء كل أشياء تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها فإما أن يكون ما تتفق فيه لازما لما تختلف فيه أو ملزوما له أو عارضا له أو معروضا له فالأول والثالث والرابع جائز والثاني يمتنع
(5/93)
يقال لهم الأشياء المعينة كالإنسانين والموجودين سواء قدرا واجبين أو ممكنين أو قدر أحدهما كذلك لم تتفق في أمر هو بعينه في هذا وفي هذا سواء سمي مقوما أو لم يسم فهذا الإنسان لم يوافق هذا في نفس إنسانيته وإنما وافقه [ في ] إنسانية مطلقة وتلك المطلقة يمتنع أن تقوم بالمعين فالتي وافقه فيها يمتنع أن تكون بعينها موجودة في الخارج فضلا عن أن تكون مقومة لشيء من الأشياء والأشياء المعينة لا تقوم بها ولا يقومها إلا ما هو مختص بها لا يشركها [ فيه ] غيره
فهذا الإنسان المعين لا يقومه ولا يقوم به ولا يلزمه ولا يعرض له قط إلا ما هو مختص به سواء كان جوهرا [ أو ] عرضا كما أن يده ورجله وروحه ورأسه مختصة به فما يقوم ببدنه ونفسه من الحياة والنطق والحس والحركة والجسمية وغير ذلك كل ذلك مختص به ليس بقائم بغيره
فليتدبر العاقل اللبيب هذا المكان الذي حصل بسبب الضلال فيه من فساد العقول والأديان ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى
وباشتباه هذا اشتبه الأمر على هؤلاء المنطقيين وعلى من قلدهم واتبعهم فضلوا في العقليات المنطقيات والإلهيات ضلالا بعيدا
(5/94)
وجعلوا الصور الذهنية الخيالية حقائق موجودة في الخارج حتى [ آل بهم ] الأمر إلى أن جعلوا لواجب الوجود الخالق للسموات والأرض رب [ العالمين ] وجودا في أذهانهم وعرضا [ ثابتا ] في نفوسهم [ ليس له حقيقة ] في الخارج ولا وجود ولا ثبوت ويقولون وجوده [ معقول لا محسوس ] وإنما هو معقول في عقولهم كما يعقلون الكليات الثابتة في العقول فالوجود المطلق كالحيوان المطلق والإنسان المطلق والجسم المطلق والشمس المطلقة والقمر المطلق والفلك المطلق ونحو ذلك مما لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان
وهذا هو نهاية التوحيد الذي زعموا أن [ الرسل جاءت به ] ولا ريب أن أقل أتباع الرسل أصح وأكمل عقلا من أن يجعل هذا ثابتا في الوجود الخارج فضلا عن أن يجعله رب العالمين مالك يوم الدين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وقوله إما أن يكون المتفق لازما أو ملزوما أو عارضا أو معروضا
فيقال ما سميته متفقا ومشتركا هو وما جعلته مختلفا مميزا لازما له
(5/95)
وملزوما يشتركان في العموم والخصوص والإطلاق والتعيين فالاشتراك والامتياز والاتفاق والاختلاف إذا أخذته باعتبار الذهن والخارج فكل شيئين اشتركا في أمر فذلك المشترك هو في الذهن وكل منهما هو في الخارج متميز فالحيوانان المشتركان في الحيوانية هما مشتركان في الحيوانية المطلقة [ ويمتاز ] أحدهما عن الآخر بالحيوانية الموجودة التي تخصه كما يشترك الناطقان [ في ] الناطقية المطلقة ويمتاز أحدهما عن الآخر بالناطقية التي تخصه
وأما الأمور الموجودة في الخارج فبينها تشابه وتماثل واختلاف وتضاد ليس فيها شيء يشارك شيئا لا في ذاته ولا [ في ] صفة من صفاته
فقولهم في [ القسم ] الأول هو مثل فصول الأنواع الداخلة تحت جنس واحد فإن طبيعة ذلك الجنس لازمة لطبائع الفصول كالوجود والوحدة والتماثل والاختلاف والتضاد والتغاير اللوازم للحقائق الكثيرة
يقال لهم فصول الأنواع كالناطقية والصاهلية ونحوهما التي هي فصول أنواع الحيوان كالفرس والإنسان وغيرهما مما يدخل تحت جنس الحيوان إذا قيل طبيعة الجنس وهو الحيوان لازمة
(5/96)
لطبائع هذه الفصول كما هو لازم لهذه الأنواع فإذا أخذت عين اللازم والملزوم في الخارج كان التلازم من الطرفين يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه فلا يقال [ إن أحدهما أعم من الآخر ولا أخص
وإذا قيل ] إنهما يشتركان في الحيوانية وكل منهما متميز عن الآخر بالناطقية والصاهلية فكل من هذه الموجودات متميز عن غيره بحيوانيته كما هو متميز بناطقيته وصاهليته ونوع الناطقية لا يميز [ معينا عن معين ] وإنما يميز نوعا عن نوع والأنواع إنما هي في الأذهان لا في الأعيان فإن الحيوان إذا لزم الناطق والصاهل فنفس الحيوان الذي يقال إنه في الصاهل ليس هو نفس الحيوان الذي في الناطق ولكن يشابهه بل الحيوان هو نفس الصاهل ونفس الناطق ليس الحيوان فيه
وهم قد يقولون إن في الناطق والصاهل حيوانا وهذا غلط فإن الحيوان هو الموصوف بأنه صاهل وأنه ناطق وليس في [ الجوهر ] المعين جوهر آخر لا مطلقا ولا معينا بل هو جوهر واحد موصوف بهذا وبهذا بل وهذا الصاهل المعين هو حيوان وليس هو هذا الصاهل المعين الذي هو حيوان فضلا عن أن يكون هذا الناطق المعين
(5/97)
ولو قيل إن هذا الصاهل المعين فيه حيوان فليس الحيوان الذي فيه هو الحيوان الذي فيه الصاهل المعين فكيف بما في الناطق وأمثاله
وإذا أراد أن الطبيعة العامة أو المطلقة أو الكلية [ لازمة ] لهذه الطبائع الخاصة فالمعنى الصحيح أن هذا المعنى الذي يوجد في الذهن [ عاما ] مطلقا كليا والذي يوجد أعيانه في الخارج أكثر من أعيان الطبيعة [ الخاصة ] هو لازم للطبيعة الخاصة فحيث كان ناطق أو صاهل كان هناك [ ما ] هو حيوان وليس إذا كان حيوان يلزم أن يكون هناك ناطق أو صاهل
وهنا كلام ليس هذا موضعه وهو أن الحيوانية التي للإنسان مثلا هي مماثلة للتي للفرس مخالفة لها فهؤلاء يقولون هي مماثلة والمختلفات يلزمها أمور متماثلة وغيرهم يقولون بل لوازم المختلفات مختلفة وليست الحيوانية التي في هذا النوع مثل الحيوانية التي في النوع الآخر
وهذا نظير اختلافهم في الحكم الواحد بالنوع هل يجوز تعليله بعلتين مختلفتين
فمن قال بالأول جوز ذلك
ومن قال بالثاني منع ذلك وقال اختلاف العلل يقتضي
(5/98)
اختلاف الأحكام ويجيبون عن قول من يقول إن الملك نوع واحد وهو يستفاد بالبيع والإرث والاتهاب ونحو ذلك بأن الملك أنواع مختلفة وليس هذا مثل هذا وإن اشتركا [ في ] كثير من الأحكام وكذلك حل الدم الثابت بالردة والقتل والزنا
وقد عورضوا بنقض الوضوء الثابت بأسباب مختلفة فأجابوا بأنه قد يختلف الحكم بالقوة والضعف
وهذا الآن كلام في تماثل الأحكام والعلل المختلفة وتماثل لوازم الأنواع المختلفة وأما كون هذا المعين ليس هو هذا المعين فهذا مما لا نزاع فيه
والمقصود هنا أن المتفقات في أمر من الأمور إذا قيل إن ما به الاشتراك لازم لما به الامتياز فما اشتركا فيه لا يفارق ما به الامتياز [ من جهة ] كونه مشتركا ولا يوجد معه فضلا عن أن يلزمه إذ الاشتراك إنما هو فيه إذا كان في الذهن وهو من هذه الجهة لا يوجد في الخارج ولكن الوصف الذي يقال إنهما تشاركا فيه معناه أنه يوجد لهذا معينا ويوجد لهذا من نوعه آخر معين والمعين لا اشتراك فيه فلا يظن أنه وجد في الخارج ما اشتركا فيه في الخارج وإن كان مشتركا فيه في الذهن
(5/99)
واعتبر عموم المعاني والاشتراك فيهما بعموم الألفاظ والاشتراك فيهما فإذا قلت لفظ إنسان يشترك فيه هذا وهذا وهذا ويعمها ولفظ حيوان يشترك فيه أكثر مما يشترك في لفظ إنسان لم يكن بين المسميات في الخارج شيء اشتركت فيه فليس بين هذا الإنسان وهذا الإنسان ولا بينهما وبين الفرس في الخارج شيء مشترك بينهما لأجل الاشتراك والاتفاق في لفظ إنسان ولفظ حيوان فكذلك اتفاقهما واشتراكهما في المعنى المدلول عليه بهذا اللفظ
وكذلك اتفاقهم واشتراكهم في الخط المرقوم المطابق لهذا اللفظ فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى والثلاثة تتناول الأفراد الموجودة في الخارج وتعمها والأعيان متفقة فيها مشتركة من غير أن يكون بين الأعيان في الخارج شيء اشتركت فيه لكن بينها تشابه بحسب ذلك المعنى الشامل لها واللفظ المطابق له والخط المطابق للفظ
وبذلك يتبين الكلام في القسم الثاني وهو أن ما به الاختلاف لازم لما به الاشتراك أنه قسم ممتنع فإنه ليس في الخارج إلا ما به الاختلاف الذي هو ضد الاشتراك إذ ليس في الخارج مشترك بل كل شيء فهو نفسه ليس مشاركا لغيره في شيء فيكون مخالفا له إذا جعل الاختلاف قسيم الاشتراك وأما الاختلاف الذي هو قسيم التشابه فهذا قد يكون في الخارج وقد لا يكون فالبياضان المتماثلان هما غير مختلفين بهذا الاصطلاح وهما مختلفان بالاصطلاح
(5/100)
الأول الذي هو بمعنى الامتياز فإذا كان كل من البياضين ممتازا عن الآخر ببياضه الذي يخصه فهو ممتاز عنه أيضا بلونيته [ وعرضيته ] التي تخصه وكذلك الإنسانان فما امتاز به كل منهما عن الآخر لازم للمشترك الموجود معه فإن وجود المشترك المعين بدون المعين ممتنع وأما المشترك الكلي الذي في الذهن فذاك ليس بلازم ولا ملزوم إذ يمكن تقدير حيوان ولون مجردا في الذهن ليس له لازم ولا ملزوم وأما الحيوان الموجود في الخارج فهو حيوان معين يلزمه معين إما إنسان معين وإما فرس معين وإما نحو ذلك وهذا المعين حاصل مع هذا المعين [ أبدا ] ولكن ليس لازما لحيوان آخر فإذا عدم هذا الإنسان المعين عدم هذا الحيوان المعين فإذا وجد حيوان آخر لم يكن هو المستلزم لهذا المعين فالحاصل أن كل موجود في الخارج بعينه فجميع صفاته اللازمة متلازمة يلزم من وجود إنسانيته وجود حيوانيته ويلزم من وجود حيوانيته وجود إنسانيته
وأما المقدمة الثانية فإنه قال قد يجوز أن تكون ماهية الشيء سببا لصفة من صفاته وأن تكون صفة له سببا لصفة أخرى مثل الفصل للخاصة ولكن لا يجوز أن تكون الصفة التي هي الوجود للشيء إنما هي بسبب ماهيته التي ليست هي الوجود أو بسبب
(5/101)
صفة أخرى لأن السبب متقدم في الوجود ولا متقدم بالوجود قبل الوجود
فيقال له هذه مبنية على أن ماهية الشيء مباينة لوجوده فنقول إما أن تعني بالماهية والوجود الماهية العلمية الذهنية والوجود العلمي الذهني وإما أن تعني بهما الماهية الموجودة في الخارج والوجود الثابت في الخارج وإما أن تعني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج وإما بالعكس
فإن عني الثاني فلا ريب أن الذي في الخارج هو الموجود المعين وهو الحقيقة المعينة والماهية المعينة ليس هناك شيئان ثابتان أحدهما هو الموجود والآخر ماهيته
ومن قال إن المعدوم شيء في الخارج أو أن الماهية مباينة للموجود الخارج كما قال هذا طائفة من المعتزلة وقال هذا طائفة من الفلاسفة فقوله في غاية الفساد كما هو مبسوط في موضعه
وإن عنى بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فلا ريب أن أحدهما مغاير للآخر وكذلك بالعكس وليس هذا مما يتنازع فيه العقلاء لكن لما غلب على مسمى الماهية الوجود الذهني وعلى مسمى الوجود الثبوت في الخارج وأحدهما غير الآخر توهم من توهم أن للموجود في الخارج ماهية مغايرة للموجود المعين وهو غلط محض
(5/102)
وإذا كان كذلك فقول القائل يجوز أن تكون ماهية الشيء أو بعض صفاته سببا لصفة أخرى ولا يجوز أن تكون الماهية سببا للصفة التي هي الوجود لأن السبب متقدم على الوجود ولا يتقدم بالوجود على الوجود
كلام مبني على أصول فاسدة
أحدها كون الموجود الثابت في الخارج صفة لماهية ثابتة في الخارج وهذا غلط بل نفس ما في الخارج هو الموجود الذي هو ماهيته والوجود إن عنى به المصدر فذاك قائم بالواحد وإن عني به الموجود فهو الموجود فليس في الموجود وجود يزيد على حقيقته الموجودة
والثاني قوله إن الماهية أو صفتها تكون سببا لصفة أخرى مثل الفصل للخاصة
فإن عنى بالماهية ما في النفس فليس هناك مسبب ولا سبب بل الذهن هو الذي يصور الجميع وإن عني بها ما في الخارج فالفاعل المعين مبدع لصفاتها اللازمة وصفاتها العارضة قد تكون موقوفة على شرط آخر وليست إحدى الصفتين اللازمتين سببا لها وإن كان قد يكون شرطا
الثالث أن لفظ السبب إن عنى به الفاعل فالصفة لا تفعل الصفة ولا الماهية تفعل صفاتها اللازمة لا سيما عندهم حيث يقولون الواحد لا يكون فاعلا وقابلا وإن عنى به ما يقف المسبب
(5/103)
عليه ولو كان شرطا فالمحل حينئذ سبب وهم يزعمون أن الماهية قابلة لوجودها فتكون سببا لوجودها فتناقض قولهم
وأما عند التحقيق فيجوز أن تكون الماهية أو شيء من صفاتها شرطا في صفة أخرى ولو كنا ممن يقول إن في الخارج [ ماهية مغايرة لوجوده لجوزنا أن تكون الماهية شرطا لوجودها لأن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط بخلاف العلة فإنها تتقدم المعلول ولكن لما لم يكن في الخارج إلا الوجود الذي هو ماهية نفسه امتنع أن تكون هناك ماهية تكون شرطا لوجود نفسها أو لا تكون شرطا لوجود نفسها
ثم قال ابن سينا في تقرير توحيدهم واجب الوجود المتعين إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره وإن لم يكن تعينه لذلك بل لأمر [ آخر ] فهو معلول لأنه إن كان وجوب الوجود لازما لتعينه كان الوجوب لازما لماهية غيره أو صفة وذلك محال وإن كان عارضا فهو أولى أن يكون لعلة وإن كان ما تعين به عارضا لذلك فهو لعلة فإن كان ذلك ما
(5/104)
تعين به ماهيته واحدا فتلك العلة علة لخصوصية ما لذاته يجب وجوده هذا محال وإن كان عروضه بعد تعين أول سابق فكلامنا في ذلك وباقي أقسامه محال
قلت وإيضاح هذا الكلام أنه إذا قدر واجبان كان قد اشتركا في مسمى الوجوب وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه فإما أن يكون ما به الاشتراك لازما لما به الامتياز أو ملزوما أو عارضا أو معروضا فإن كان المشترك لازما كلزوم الحيوانية للإنسانية مثلا فهذا لا يجوز في هذا الموضع كما قال لأنه إن كان واجب الوجود لازما لتعينه كان الوجود الواجب لازما لماهية غيره وصفة وذلك محال
وإن كان المشترك وهو الوجوب عارضا للمختص وهو التعين الذي هو الماهية فهو أولى أن يكون لعلة والوجود الواجب لا يكون لعلة
وإن كان التعين عارضا للوجوب المشترك فهو لعلة كتعين آحاد النوع
ولهذا قال بعد هذا اعلم أن الأشياء التي لها حد نوعي واحد فإنما تختلف بعلل أخرى وأنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة
(5/105)
القابلة لتأثير العلل وهي المادة لم يتعين إلا أن يكون [ في طبيعة ] من حق نوعها أن توجد شخصا واحدا وأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل على كثيرين فتعين كل واحد بعلة فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إلا إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري مجراه
قال فإذا كان ما تعين به عارضا للوجوب المشترك بالعروض لعلة فإن كانت تلك العلة وما به تعين الماهية واحدا بحيث تكون علة العروض هي علة التعين كانت تلك العلة علة لخصوص ما لذاته يجب وجوده فيكون لذات واجب الوجود علة وهو ممتنع وإن كان عروضه للوجوب المشترك بعد تعين أول سابق فالكلام في ذلك التعين السابق
وبقي من الأقسام الأربعة قسم رابع وهو أن يكون ما به التعين الذي امتاز به كل منهما عن الآخر لازما للمشترك بينهما وهذا ممتنع في جميع المواد كما تقدم بتعين امتناع واجبي وجود ووجب أن يكون وجوب الوجود مستلزما للتعين فيكون تعينه لأنه واجب الوجود
(5/106)
والمعلول لازم لعلته فلا يكون وجوب الوجود لغير المعين فهذا مراده بهذه الحجة
وقد ظن أبو عبد الله الرازي أن مراده بقوله إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره هو القسم الأول من الأقسام الأربعة التي جعل فيها الوجوب بلزوم التعين على تقدير ثبوت واجبين
قال وأما قوله إن لم يكن تعينه لذلك بل لأمر آخر فهو معلول هو القسم الذي جعل الوجوب فيه معروض ذلك التعين قال وقوله وإن كان ما تعين به عارضا لذلك فهو لعلة هو هذا القسم وأنه لم يذكر في إبطاله إلا قوله لو كان تعينه لا لكونه واجبا بل لأمر آخر فهو معلول وأنه أعاد هذا الكلام مرة أخرى وزاد في بيان بطلانه ما ذكره آخرا وأنه لو ذكر هذا الكلام حينما تعرض لإبطال القسم الثاني كان أقرب إلى الضبط
قلت وليس الأمر على ما ظنه بل الرجل ذكر أولا التقدير المستلزم لوحدة الواجب ثم ذكر أربعة أقسام على تقدير تعدده وأبطلها بقوله واجب الوجود المتعين إن كان تعينه أي ذلك
(5/107)
التعين الخاص لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره لأنه يكون وجوب الوجود يستلزم التعين الخاص فلا يوجد الملزوم بدون لازمه فلا يتحقق الوجوب إلا في ذلك المعين وهو المطلوب وإن لم يكن ذلك التعين لأجل وجوب الوجود فهو معلول وكون واجب الوجود معلولا ممتنع وهذا يعم الأقسام الأربعة لأنه حينئذ يكون المتعين علة غير وجوب الوجود كما ذكر بعد هذا أن الأشياء التي لها حد نوعي إنما تتعدد لعلل وتتعين بعلل أخرى إلا أن يكون من حق نوعها أن توجد شخصا واحدا وإذا كان للتعين علة غير وجوب الوجود فهو معلول كما أن تعين الإنسان معلول لغير الإنسانية ثم بين أنه يكون معلولا على التقديرات الأربعة فقال إن كان وجوب الوجود المشترك لازما للتعين أي لهذا التعين وهذا التعين الذي في الواجبين كما تلزم الإنسانية لهذا الإنسان وهذا الإنسان كان الوجود الواجب لازما أو صفة لماهية غيره وقد قال إن هذا محال في المقدمة الثانية وإن كان عارضا فهو أولى وإن كان معروضا فقد بين بطلانه وباقي أقسامه وهو كون التعين المتعدد لازما للمشترك فهو ممتنع في جميع المواد كما يمتنع أن يكون تعين الإنسان لازما للإنسانية لا يلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المعين وهذا محال
وإذا عرف أن هذا مقصوده فاعلم أن هذه الحجة يصوغها بعبارات متنوعة والمعنى واحد كما صاغها الآمدي في دقائق الحقائق في
(5/108)
الفلسفة فقال الفصل الثاني في وحدانية واجب الوجود وأنه لا ضد له ولا ند وأنه قديم أزلي أما أن واجب الوجود واحد لا تعدد فيه ولا اشتراك فذلك لأن مسمى واجب الوجود لو كان مشتركا بين شيئين فالشيئان إما متفقان من كل وجه أو مختلفان من كل وجه أو متفقان من وجه دون وجه فإن اتفقا من كل وجه فلا تعدد إذ التعدد دون مميز محال وإن اختلفا من كل وجه فمسمى
(5/109)
واجب الوجود لا اشتراك فيه وهو خلاف الفرض وإن اتفقا من وجه دون وجه فما به وقع الافتراق إن كان هو مسمى واجب الوجود فلا اشتراك فيه أيضا وإن كان غيره فمسمى واجب الوجود يكون مشتركا بينهما وعند ذلك فإما أن يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصص والتمايز أو لا يتم دونه الأول محال وإلا كان الأمر المطلق المشترك متخصصا في الأعيان بدون ما به التخصص وهو محال والثاني يتوجب أن يكون مسمى واجب الوجود مفتقرا إلى أمر خارج عن المفهوم من اسمه فلا يكون واجبا لذاته وقد قيل إنه واجب لذاته وهذه المحالات إنما لزمت من القول بالاشتراك في مسمى واجب الوجود فلا اشتراك فيه فإذا واجب الوجود لا تعدد فيه بل نوعه منحصر في شخصه
قال والناظر المتبحر يزداد بإمعان النظر في هذه الحجة المحررة والبحث فيها مع نفسه وضوحا وجلاء فإن ما طول به من التشكيكات وأنواع التخيلات على غيرها من الحجج المذكورة في هذا الباب فلا اتجاه له ههنا
هذا قوله هنا وهذه الحجة هي [ التي ] ذكرها الآمدي عنهم وعن بعض أصحابه في كتاب أبكار الأفكار واعترض عليها باعتراضين سبقه إلى أحدهما الرازي في شرح الإشارات وهو أن
(5/110)
الوجوب أمر سلبي لا ثبوتي فلا يتم الدليل حينئذ والثاني أن هذه الحجة منتقضة بوجود الله سبحانه مع وجود الممكنات فإنهما اتفقا في مسمى الوجود وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه فإما أن يكون المطلق مع المعين لازما أو ملزوما أو عارضا أو معروضا واعترض الرازي باعتراض ثالث وهو أنه منع كون التعين وصفا ثبوتيا كما منع كون الوجوب وصفا ثبوتيا
قلت أما إلزامهم لهم الوجود الممكن مع الواجب فهذا إلزام لازم لا محيد للفلاسفة عنه ولكن ليس فيه حل الشبهة وأما منع كون الوجوب أمرا ثبوتيا فهو من نوع السفسطة فإن الوجود إذا كان ثبوتيا فوجوبه الذي هو توكده المانع من إمكان نقيضه كيف يكون عدميا ومعلوم أن اسم الوجود هو بالواجب أحق منه بالممكن
وأيضا فإن ما ذكره من التقسيم وارد سواء قيل إن المفهوم ثبوتي أو سلبي فإنه إذا كان سلبيا مشتركا امتنع أن يكون ملزوما للمختص فإن المشترك سواء كان وجوديا أو عدميا لا يستلزم المختص فإنه يقتضى أنه حيث وجد المشترك المطلق العام وجد كل واحد من أفراده الخاصة وامتنع أيضا أن يكون لازما للمختص إلا إذا كان الوجوب معلولا ولازما لغيره وهو قد ذكر إبطال هذا
وقد اعترض الرازي باعتراض آخر على أحد قوليه في أن الوجود زائد على الماهية بأن الماهية تكون علة للوجود وذكر أنه لا محذور في أن
(5/111)
تكون الماهية إذا أخذت مطلقة لا بشرط وجود ولا عدم علة لوجود نفسها والماهية من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة
قلت الحجة مدارها على أن المطلق المشترك الكلي موجود في الخارج وهذا هو الموضع الذي ضلت فيه عقول هؤلاء حيث اعتقدوا أن الأمور الموجودة المعينة اشتركت في الخارج في شيء وامتاز كل منها عن الآخر بشيء وهذا عين الغلط
قلت والشخص المعين ليس له تعين غير هذا الشخص المعين لا ثبوتي ولا عدمي فإنه لم يكن مشاركا لغيره في أمر خارجي حتى يحتاج تعينه وتميزه عنه إلى وصف آخر ثبوتي أو سلبي وقولهم في القاعدة الكلية إن الأشياء التي لها حد نوعي إنما تختلف بعلل أخرى وأنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير العلل وهي المادة لم يتعين إلا أن يكون من حق نوعها أن توجد شخصا واحدا فأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل على كثيرين فيعين كل واحد بعلة فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إلا إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري مجراه هو قول باطل وذلك أن الأشياء التي لها حد واحد نوعي لا وجود لها في الخارج مطلقة ولا عامة أصلا وإنما وجودها كذلك في الذهن فالسبب الفاعل للواحد منها هو الفاعل لذاته ولصفاته وهو الفاعل لذلك الواحد المعين وليس هنا شيئان أحدهما لنوعها والآخر لتشخصها بل ولا وجودان أحدهما لنوعها
(5/112)
والآخر لتشخصها بل ولا قابلان بل الموجود هو الأعيان المشهودة والفاعل إنما فعل تلك الأعيان لم يفعل أنواعا مطلقة كلية وإن كانت تلك تتصور في العلم فالكلام في الوجود الخارجي
وهذا مما يبين لك أن من قال من المتفلسفة إنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي فحقيقة قوله إنه لم يعلم شيئا من الموجودات فإنه ليس في الموجودات إلا ما هو معين جزئي والكليات إنما تكون في العلم لا سيما وهم يقولون إنما علم الأشياء لأنه مبدؤها وسببها والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب ومن المعلوم أنه مبدع للأمور المعينة المشخصة الجزئية كالأفلاك المعينة والعقول المعينة وأول الصادرات عنه على أصلهم العقل الأول وهو معين فهل يكون من التناقض وفساد العقل في الإلهيات أعظم من هذا
وقولهم إنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير العلل وهي المادة لم يتعين كقول القائل إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة وهي المادة لم توجد فإن وجودها هو بعينها لم يكن لها تحقق في الخارج غير وجودها المعين
وقولهم فأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل على كثيرين فتعين كل واحد بعلة كقول القائل فموجود كل واحد بعلة ومعلوم أن الممكن وجوده بعلة سواء كان قد انحصر نوعه في شخصه كالشمس أو كان مما لم ينحصر نوعه في شخصه كالإنسان
(5/113)
فليس للمعين علتان إحداهما لنوعه والأخرى لشخصه بل العلة الموجبة لشخصه كافية في وجوده كوجود ما انحصر نوعه في شخصه
وقوله فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إلا إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري مجراه كقول القائل لا يكون سوادان إلا إذا كان كل منهما قائما في محل وكذلك السواد الواحد لا يوجد إلا في محل يقوم به وإذا قيل السوادان يفتقران إلى محلين بخلاف السواد الواحد فذلك لأجل كون السواد لابد له ] من محل ولا يعقل تعدد السوادين بدون تعدد المحل كما لا يعقل وجوده بدون وجود المحل وما لا يفتقر إلى محل فتعدده لا يفتقر إلى محل كما أن واحدة لا يفتقر إلى محل والتعين كالوحدة والتكثر كالتعدد وليس للعدد والوحدة في الخارج وجود غير المعدودات والمتوحدات وإنما وجود العدد المطلق والوحدة المطلقة والتعين المطلق في الأذهان لا في الأعيان كسائر المطلقات
وعلى هذا التقدير فواجب الوجود المتعين ليس لتعينه علة ولا سبب كما أنه ليس لوجوده علة ولا سبب وليس هناك في الخارج تعين زائد على نفسه المعينة لا ثبوتي ولا سلبي حتى يقال إن ذلك
(5/114)
له علة وإن علته إما وجوب الوجود فلا يتعدد وإما أمر [ آخر ] فيكون وجوب الوجود معلولا
وإذا قدر واجبا وجود وقال القائل [ إنهما ] اشتركا في وجوب الوجود وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه
قيل له اشتركا في وجوب الوجود المطلق أو شارك كل منهما الآخر فيما يخصه من وجوب وجوده فأي شيء قال في ذلك قيل له وكذلك التعين فإنهما اشتركا في التعين المطلق وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه الذي يخصه فإذا قدرت وجوبا مطلقا فخذ معه تعينا مطلقا وإذا قدرت وجوبا معينا فخذ معه تعينا معينا وإذا قلت التعين المطلق لا يكون إلا في الذهن لا في الخارج قيل لك والوجوب المطلق لا يكون إلا في الذهن لا في الخارج
وحينئذ فقولك ما به الاشتراك يكون لازما لما به الامتياز أو ملزوما أو عارضا أو معروضا
جوابه أن ليس في الخارج ما به الاشتراك وإنما في الخارج ما به الامتياز فقط وما جعلته مشتركا هو نظير ما جعلته مميزا يمكن فرض كل منهما مطلقا ومعينا
فإذا قلت اشتركا في الوجوب وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه
قيل لك اشتركا في وجوب مطلق كلي لا وجود له في الخارج كما
(5/115)
اشتركا في تعين مطلق كلي وماهية مطلقة كلية وحقيقة مطلقة كلية وكل منهما ممتاز عن الآخر بما هو به موجود فهو ممتاز عنه بوجوده الذي يخصه وهو حقيقته التي تخصه وهو نفسه وذاته وماهيته التي تخصه فما اشتركا فيه من الأمر الكلي الذهني لا يكون في الخارج فضلا عن أن يحتاج إلى مميز [ وما وجد ] في الخارج هو [ مميز ] عن غيره بنفسه المتناولة لذاته وصفاته المختصة به لا يحتاج إلى مميز آخر [ ولا هو ] يشركه فيه بوجه من الوجوه ولا ما وجد بأحدهما هو بعينه الموجود في الآخر وإن شابهه أو ماثله
وإذا قيل هو هو فهو هو باعتبار النوع لا باعتبار الشخص ومعنى ذلك أن الموجود في الخارج من هذا هو مثل الموجود في الخارج من هذا
فإذا قلت هذان إنسانان اشتركا في الإنسانية وامتاز أحدهما عن الآخر بعينه أو بشخصه أو ما قلت من العبارات التي تؤدي هذا المعنى أمكن أن يقال هذان الإنسانان اشتركا في أن كلا منهما له عين تخصه وله شخص ونحو ذلك فاشتركا في التعين والتشخص وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه من الإنسانية
(5/116)
وحقيقة الأمر أن كلا منهما ماثل الآخر ووافقه في أنه إنسان معين مشخص وكل منهما ممتاز عن الآخر بنفس عينه المشخصة المتناولة لإنسانيته المعينة المشخصة وكذلك إذا قدرنا موجودين واجبا وممكنا أو موجودين واجبين أو ممكنين فهذا الموجود وافق هذا الموجود في الوجود المطلق المشترك بمعنى أنه شابهه في ذلك فهذا موجود أي ثابت متحقق في الخارج وهذا موجود أي ثابت متحقق في الخارج وكل منهما يفارق الآخر في نفس وجوده الذي يختص به وهو ذاته الموجودة في الخارج وليس بينهما اشتراك [ إلا ] في الخارج سواء كانا متماثلين كالسوادين وحبتي الحنطة أو كانا مختلفين كالسواد مع البياض والفرس مع الإنسان
فإذا قيل إن السواد والبياض أو السوادين اشتركا في الوجود فهو كقولنا اشتركا في التحقق والثبوت وأن لكل واحد ماهية ولا يقتضي هذا تماثلهما في شيء من الأشياء فإن ما وجد في الخارج لكل منهما أمر يخصه فإذا لم يكن الموجود في الخارج منهما متماثلا كالسواد مع البياض لم يكونا متماثلين
وكذلك إذا قدر واجبان وقيل اشتركا في الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بالتعين
قيل ما في الخارج ليس فيه اشتراك وإنما اشتركا في وجوب
(5/117)
مطلق كلي كما اشتركا في تعين مطلق كلي وهذا الواجب المعين لم يشركه غيره في وجوبه المعين كما لم يشركه في تعينه المعين بل كل منهما حقيقته الموجودة في الخارج هي الشيء الموجود في الخارج كما أن حقيقة الممكن المحدث الموجودة في الخارج هي نفس الموجود في الخارج وليس في الخارج حقيقة سوى الشيء المعين الموجود حتى يقال إن الوجود عارض لها أو لازم بل إن كان الشيء الموجود في الخارج من المحدثات كان موجودا تارة ومعدوما أخرى والموجود هي حقيقته الثابتة في الخارج والمعدوم تلك الحقيقة وهي مجعولة مفعولة مصنوعة وأما الحقيقة المتصورة في الذهن فتلك هي وجوده الذهني العلمي وتلك تحصل بالأسباب المحصلة للعلم كما تحصل الخارجة بالأسباب المحصلة للوجود وما ثم إلا هذا أو هذا فتقدير حقيقة لا في العلم ولا في الوجود تقدير ما لا حقيقة له بل هو فرض ممتنع يتصوره الذهن كما يتصور ما لا يمكن وجوده لا في العلم ولا في الخارج فإن تصور ما لا يمكن وجوده أعظم من تصور ما لا يوجد وهو متصور من هذه الجهة العامة حتى يحكم عليه بنفي التصور الخاص ولولا تميزه في الذهن مجملا لما أمكن الحكم على أفراده بالامتناع
ويبين هذا بالكلام على النظم الذي ذكره لهم الآمدي وجعله الغاية التي لا يرد عليها شيء وهو قوله لو كان وجوب الوجود
(5/118)
مشتركا بين شيئين فالشيئان إما متفقان من كل وجه أو مختلفان من كل وجه أو متفقان من وجه دون وجه إلى قوله وإن اتفقا من وجه دون وجه ومسمى واجب الوجود هو ما اشتركا فيه فمسمى واجب الوجود يكون مشتركا فإما أن يتم تحقق مسمى ] واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصيص والتمايز أو لا يتم بدونه والأول محال وإلا كان الأمر المطلق المشترك مشخصا في الأعيان بدون ما به التخصيص وهو محال والثاني يوجب افتقار مسمى واجب الوجود إلى أمر خارج عن المفهوم من اسمه فلا يكون واجبا بذاته
قلت فيقال لهم قولكم إما أن يتم تحقيق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصص أتعنون بذلك المسمى المطلق الكلي الذي لا يوجد إلا في الذهن أم تعنون به المسمى الثابت في الخارج
أما الأول فلا يوجد في الخارج لا فيهما ولا في أحدهما كما لا يوجد الحيوان المطلق الكلي ثابتا في الخارج لا في هذا الحيوان ولا هذا الحيوان بل لا يوجد في الخارج إلا ما هو حيوان معين جزئي وإنسان معين جزئي وكذلك الإنسان المطلق الكلي وكذلك سائر المطلقات
(5/119)
الكلية كالحيوان المطلق وهم يسلمون أنها لا توجد في الخارج كلية مطلقة وإنما يظنون أنها توجد جزءا من المعين وهذا أيضا غلط بل لا توجد إلا معينة مشخصة وليس في المعين المشخص ما هو مطلق ولا في الجزئي ما هو كلي فإن كون الكلي ينحصر في الجزئي والمطلق في المعين ممتنع
والآمدي قد بين فساد هذا في غير موضع من كتبه مثل كلامه على الفرق بين المطلق والمقيد والكلي والجزئي وغير ذلك وزيف ظن من يظن أن الكلي يكون جزءا من المعين وبين خطأ من يقول ذلك كالرازي وغيره فلو رجع إلى اصله الصحيح الذي ذكره في الكلي والجزئي والمطلق والمعين لعلم فساد هذه الحجة ولكن لفرط التباس أقوالهم وما دخلها من الباطل الذي اشتبه عليهم وعلى غيرهم تزلق أذهان كثير من الأذكياء في حججهم ويدخلون في ضلالهم من غير تفطن لبيان فسادها كالرازي والآمدي ونحوهما تارة يمنعون وجود الصور الذهنية حتى يمنعوا ثبوت الكلي في الذهن وتارة يجعلون ذلك ثابتا في الخارج
ففي هذا الموضع أثبت الآمدي المسمى المشترك الكلي في الخارج وفي موضع آخر ينفيه مطلقا كما قال في إحكامه لما أراد الرد على الرازي في الأمر بالماهية الكلية هل يكون أمرا بشيء من جزئياتها أم
(5/120)
لا فإن الرازي ذكر أن الأمر بالماهية الكلية لا يكون أمرا بشيء من جزئياتها وهذا صحيح لكن لا يلزم إذا لم يكن أمرا بشيء من المعينات أن لا يكون فاعل المعين ممتثلا بل الأمر بجميع الأفعال كالأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج والعتق وإعطاء الفقراء فإنه أمر بشيء مطلق ومع هذا فإذا أعتق رقبة مما أمر به أجزأه ولو صام شهرين متتابعين في أول العام أو أوسطه أجزأه بخلاف آخره فإن فيه نزاعا لتخلل الفطر الواجب ومثل هذا كثير
وزعم الآمدي أن الأمر لا يكون بالماهية الكلية بل لا يكون إلا أمرا بالجزئيات وهذا صحيح باعتبار دون اعتبار فإذا أريد به أنه لا يمكنه فعل المطلق إلا معينا فيكون مأمورا بأحد الجزئيات لا بعينه بطريق اللزوم كان صحيحا وأما إن أريد أنه لم يؤمر إلا بمعين لا بمطلق فليس بصحيح
قال الآمدي إذا أمر بفعل من الأفعال مطلقا غير مقيد في اللفظ بقيد خاص قال بعض أصحابنا الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة ولا تعلق له بشيء من جزئياتها وذلك كالأمر بالبيع فإنه لا يكون أمرا بالبيع بالغبن الفاحش ولا ثمن المثل إذ هما متفقان في مسمى البيع ومختلفان بصفتهما والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك وهو غير مستلزم لما يخصص به كل واحد من الأمرين فلا يكون
(5/121)
الأمر المتعلق بالأعم متعلقا بالأخص إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد الأمرين
قال ولذلك قلنا إن الوكيل في البيع المطلق لا يمكن البيع بالغبن الفاحش
قال الآمدي وهذا غير صحيح وذلك لأن ما به الاشتراك في الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجودا في جزئياته فيلزم من ذلك انحصار ما يصلح لاشتراك كثيرين فيه مما لا يصلح لذلك وهو محال
قال وعلى هذا فليس معنى اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي سوى أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة الجزئية بل إن تصور وجوده فليس في غير الأذهان وإذا كان كذلك فالأمر طلب إيقاع الفعل على ما تقدم وطلب الشيء يستدعي كونه متصورا في نفس الطالب وإيقاع المعني الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه فلا يكون متصورا في نفس الطالب فإذا الأمر لا
(5/122)
يكون بغير الجزئيات الواقعة في الأعيان لا بالأمر الكلي
قال وإن سلم أن الأمر يتعلق بالمعنى الكلي المشترك وهو المسمى بالبيع فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به
قلت هذا الثاني صحيح فإن الآتي ببعض المعينات قد أتى بما أمر به لكن الجمهور الذين يقولون لا يصح بيعه بالغبن الفاحش يقولون لم يدخل هذا البيع المعين في المسمى المطلق في عرف الناس كما لم يدخل البيع بثمن مؤجل وثمن محرم ونحو ذلك
وأما قوله إنه لم يؤمر بكلي وإنه لا معنى لاشتراك الجزئيات في المعنى الكلي إلا مطابقة حد الكلي لحد جزئياته فهذا إسراف في النفي فإن الجزئيات تطابق حد بعضها بعضا وليس بعضها عاما مشتركا لسائرها
وقوله إيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه
(5/123)
صحيح إذا أريد به أن يجعل ذلك المعنى الذي في نفسه كليا هو نفسه موجودا في الخارج وهذا غير مراد فإن ما في النفس صفة قائمة بها لا يكون في الخارج وإنما المراد أن يوجد في الخارج ما يطابقه بحيث يكون ذلك المعنى الكلي الذهني متناولا له كما يقال فعلت ما في نفسي كما قال تعالى { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } فالحاجة التي في نفسه إنما في نفسه تصورها وقصدها وقضاؤها له فعل ذلك المراد المتصور وهو أمره لهم بما أمرهم به من الدخول من أبواب متفرقة ومثل هذا كثير في كلام سائر الناس
ومنه قول عمر بن الخطاب زورت في نفسي مقالة أردت أن قولها
ويقال كان في نفسي أن أحج وقد فعلت ما كان في نفسي والمقصود هنا أن الآمدي هنا معترف بأن المعنى الكلي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجودا في جزئياته
قال ويلزم من ذلك انحصار ما يصلح لاشتراك كثيرين فيه مما لا يصلح له وهو محال وهو كما قال فإنه إذا قال إن المطلق جزء من المعين والكلي موجود في الجزئي فقد جعل الكلي بعض الجزئي وبعض الشيء ينحصر فيه ثم إنهم يقولون هو جزء من هذا
(5/124)
المعين وهذا المعين وسائر الجزئيات فيلزم انحصاره في كل جزئي من جزئياته وانحصاره في واحد يمنع وجوده في غيره كما يمتنع وجود الجزئي في جزئي آخر فكيف يكون منحصرا في جزئي مع انحصاره في جزئي آخر فإن هذا جمع بين النقيضين مرات متعددة بل لا ينحصر كثرة
فلو كان الآمدي ذكر هذا في هذا الموضع لعلم بطلان هذه الحجة التي حررها لأتباع ابن سينا في كتابيه الكبيرين ولم يبن علتها ولعرف حلها ولم يقتصر على معارضتها
وكذلك الرازي يحتج بمثل هذه كثيرا مع أنه ينقضها كثيرا كما قال في ملخصه حكاية عن المتفلسفة أما الكلي العقلي فالمشهور أن الصورة الذهنية أي وجوده بما هو هو في الذهن فقط لا في الخارج قالوا في بيان ذلك إن الأمر الموصوف بالكلية موجود إما في الذهن وإما في الخارج وإلا لكان عدما صرفا ولو كان كذلك لاستحال أن يكون مشتركا فيه بين كثيرين ومحال أن يكون موجودا في الخارج لأن كل موجود في الخارج فهو مشخص معين ولا شيء من المشخص المعين بمشترك فيه بين كثيرين ينتج لا شيء من الموجود في الخارج بمشترك فيه بين كثيرين وكل كلي مشترك [ فيه ] بين
(5/125)
كثيرين فلا شيء من الموجود في الخارج بكلي ولما بطل كون الكلي موجودا في الخارج تعين كونه موجودا في الذهن فهذا الكلام الذي ذكره الرازي وحكاه عن الحكماء هنا كلام صحيح ولو التزموا موجبه لم يقولوا إن في الخارج شيئا مشتركا كليا ولا أن الإنسانية الكلية موجودة في الخارج ولا أن الواجبين أو الموجودين إذا اشتركا في مسمى الوجود والوجوب كان ذلك المشترك [ الكلي ] متحققا في الخارج واحتاج حينئذ إلى ما به الامتياز
وتناقض القوم أكثر من أن يمكن ذكره هنا ومن تصور هذا المعنى علم بالاضرار أن هذا الإنسان المعين هو حيوان معين وجسم معين وناطق معين وأنه ليس فيه شيء كلي مطلق مشترك بينه وبين غيره ولا الكلي المطلق المشترك بين الأعيان جزء منه ثابت فيه في الخارج ومن جعل المطلقات الكلية ثابتة في الخارج وجزءا من المعينات وأثبت في المعينات أمورا مطلقة فلا ريب أنه لم يتصور ما قال أو هو فاسد العقل بأي عبارة عبر عن ذلك مثل أن يقول الماهية الكلية يعرض لها التعين أو هي معروضة التعين أو هي غير مانعة من التعين أو جعلوا الكلية عارضة للتعين كقولهم معروض الكلي في الخارج فإنهم لما ظنوا أن في الخارج كليا ومعينا صاروا تارة
(5/126)
يجعلون هذا عارضا لذاك وتارة يجعلون ذاك عارضا لهذا ويقولون الماهية يعرض لها أن تكون كلية وجزئية
وحقيقة الأمر أن الماهية الكلية إنما تكون كذلك في الذهن وما في الذهن لا يوجد في الخارج إلا معينا ومعنى وجوده وجود ما يطابقه مطابقة العلم للمعلوم والاسم للمسمى والإرادة للمراد وإلا فعاقل يتصور ما يقول لا يقول إن الكليات توجد في الخارج إلا إذا أراد به أن ما هو كلي في الأذهان يكون ثابتا في الأعيان لكن معينا وهؤلاء ينكرون على من يقول المعدوم شيء ثابت في الخارج
وقوله وإن كان باطلا فقولهم أفسد منه وإن كانا يشربان من عين واحدة وهو اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان وكذلك الذين أثبتوا الأحوال في الخارج وقالوا هي لا موجودة ولا معدومة شربوا أيضا من هذه العين وكذلك من ظن اتحاد العالم بالمعلوم والمحب بالمحبوب والعابد بالمعبود كما وقع لأهل الاتحاد المعين قد شرب من هذه العين المرة المالحة أيضا وكذلك من قال بالاتحاد المطلق تصور وجودا مطلقا في نفسه فظن أنه في الخارج فهؤلاء كلهم شربوا من عين الوهم والخيال فظنوا أن ما يكون في وهمهم وخيالهم هو ثابت في الخارج
هذا وهم ينكرون على أهل العقول السليمة والفطر المستقيمة إذا
(5/127)
أنكروا وجود قائم بنفسه موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ويزعمون أن نفي هذا من حكم الوهم والخيال التابع للحس فإذا طولبوا بدليل يدل على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه كان ملجؤهم وغياثهم هي هذه الكليات كما فزع إليها ابن سينا ومن أخذ ذلك عنه كالرازي وأتباعه مثل الأصبهاني وغيره
قال ابن سينا في أول النمط الرابع الذي هو في الوجود وعلله اعلم أنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأن ما لا يناله الحس بجوهره ففرض وجوده محال وأن ما لا يتخصص بمكان أو بوضع بذاته كالجسم أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم فلا حظ له في الوجود وأنت يتأتى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بطلان قول هؤلاء إنك ومن يستحق أن يخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها
(5/128)
اسم واحد لا على [ سبيل ] الاشتراك الصرف بل بحسب معنى واحد مثل اسم الإنسان فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود فذلك المعنى الموجود لا يخلو إما أن يكون بحيث يناله الحس أو لا يكون فإن كان بعيدا من أن يناله الحس فقد أخرج التفتيش من المحسوسات ما ليس بمحسوس وهذا أعجب وإن كان محسوسا فله لا محالة وضع وأين ومقدار معين وكيف معين لا يتأتى أن يحس بل ولا أن يتخيل إلا كذلك فإن كل محسوس وكل متخيل فإنه يتخصص لا محالة بشيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك لم يكن ملائما لما ليس بتلك الحال فلم يكن مقولا على كثيرين يختلفون في تلك الحال فإذا الإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل هو من حيث حقيقته الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة غير محسوس بل معقول صرف وكذلك الحال في كل كلي
قال ولعل قائلا منهم يقول إن الإنسان مثلا إنما هو إنسان من حيث له أعضاء من يد ورجل وعين وحاجب ومن حيث هو كذلك فهو محسوس فننبهه ونقول إن الحال في كل
(5/129)
عضو مما ذكرته أو تركته كالحال في الإنسان نفسه
قلت يقال له قولك قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس إما أن تريد أن الموجود هو ما أحسه الشخص المعين أو ما يمكن إحساسه في الدنيا أو ما يمكن الإحساس به ولو بعد الموت فأما الأول فلا يقوله عاقل فإنه ما من عاقل إلا ويعلم إما بخبر غيره وإما بنظره وقياسه ما لم يعلمه بحسه ومن حكى عن البراهمة أو غيرهم من الأمم أنهم حصروا الموجودات في المحسوسات بمعنى أنه ما لم يحسه الشخص المعين لا يصدق به وأنه لا يصدق بالأخبار المتواترة وغيرها فلم يفهم مرادهم فإن أمة من الأمم لها بلاد يعيشون فيها لابد أن يميز الرجل بين أمه وأبيه وأن يعرف من حوادث بلده وسير ملوكهم وعاداتهم ما لا يعرفه إلا بالخبر وهذا نظير حكاية من حكى أن أمة من الأمم يقال لهم السوفسطائية ينسبون إلى رجل يقال له سوفسطا يجحدون الحقائق أو علمهم بجميع الحقائق أو يقفون أو يجعلون الحقائق مطلقا تابعة للعقائد فإن هذا لا يتصور أن تكون عليه أمة من الأمم لهم بقاء في الدنيا وإنما السفسطة كلمة معربة أصلها سوفسقيا وهي كلمة يونانية أي حكمة مموهة بالسفسطة [ أي ] الكلام الباطل المشبه للحق وهذا يعرض لكثير من الناس أو لأكثرهم في كثير من الأمور لا في جميعها فإنه كما تعرض الأمراض
(5/130)
للأبدان كذلك تعرض الأمراض للنفوس مرض الشبهات والشهوات
وفي الحديث المأثور إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات رواه البيهقي مرسلا وزاد فيه بعضهم ويحب السماحة ولو بكف من تمرات ويجب الشجاعة ولو على قتل الحيات
ولكن البراهمة أنكرت ما سوى هذا الموجود المحسوس كما هو قول الطبيعية من الفلاسفة وقول الفرعونية ونحوهم وهذا هو المردود عليهم وسيأتي بيان ذلك في حكاية الإمام أحمد مناظرتهم لجهم ويمكن أن البراهمة أو بعضهم قال ما لا يمكن معرفته بالحس ألبتة فهو ممتنع وهذا قول أكثر أهل الأرض من أهل الملل وغيرهم وهو القول الذي أنكره ابن سينا وأراد إبطاله
لكن هؤلاء نوعان منهم من أنكر ما لا يحسه عموم الناس في الدنيا حتى أنكر الملائكة والجن بل وجحد رب العالمين سبحانه فهؤلاء هم الكفار الدهرية المعطلة المحضة
وابن سينا وأمثاله يردون على هؤلاء لكن يردون عليهم أحيانا بحجج فاسدة
وهذا هو القسم الثاني وهو إنكار الإنسان ما لا يحس في الدنيا
وأما القسم الثالث وهو أن الموجود هو ما يمكن الإحساس به ولو في الآخرة وأن ما أخبرت به الرسل من الغيب كما أخبرت به عن الجنة والنار وعن الملائكة بل وإخبارهم عن الله تعالى هو مما يمكن معرفته بالحس كالرؤية
(5/131)
فهذا قول جماهير أهل الإيمان بالرسل وسلف الأمة وأئمتها فإنهم متفقون على أن الله يرى في الآخرة عيانا كما يرى الشمس والقمر وأنه لا يلزم من تعذر رؤية الشيء في حال تعذر رؤيته في حال أخرى بل قد يرى الشيء في حال دون حال كما أن الأنبياء يرون ما [ لا ] يراه غيرهم من الملائكة وغيرها بل والجن يراهم كثير من الناس
وإن ادعى أن من الموجودات القائمة بأنفسها ما لا يمكن أن يعرف بالإحساس في حال من الأحوال فهذا قول باطل ولا دليل له عليه وهذا قول الجهمية الذين ينكرون رؤية الله تعالى
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلان قولهم وفساد قولهم يعلم بالعقل الصريح كما يعلم بالنقل الصحيح وهؤلاء في نفس الأمر من أجهل الناس وأضلهم وإن كانوا عند أنفسهم من أعقل الناس وأعرفهم فهم كما قال تعالى { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه }
وكما قال تعالى { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون }
وقوله { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون }
(5/132)
وأما حجته على إثبات وجود ما ليس بمحسوس فقد احتج بالكليات
فيقال له قولك إن هذه المحسوسات يقع عليها اسم واحد بحسب معنى واحد مثل اسم الإنسان فإن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود
فيقال له أتعني أن هذا المعنى الواحد الذي يشترك فيه زيد وعمرو هو معنى واحد قائم بالعالم كالإنسان كما أن لفظ إنسان قائم بالناطق وكما أن خط زيد قائم باللوح الذي فيه الخط
أم تعني أن ذلك المعنى الواحد هو موجود في الخارج في زيد وعمرو أو في غيرهما
أما الأول فصحيح ولا حجة لك فيه
وأما الثاني فقولك في المعنى كقول من يطرد قولك ويجعل لفظ الإنسان الواقع على زيد وعمرو موجودا في الخارج قائما بزيد وعمرو ويجعل الخط المطابق للفظ ثابتا في الخارج عن اللوح قائما بزيد وعمرو إذ كل عاقل يعلم أن الخط مطابق للفظ وأن اللفظ مطابق للمعنى وأن عموم المعنى الواحد كعموم اللفظ الواحد المطابق له
فإذا قال القائل إنسان كان للفظه وجود في لسانه وللمعنى وجود في ذهنه ووقوع هذا على زيد وعمرو كوقوع هذا على زيد وعمرو وهذا هو المعنى الذي سميته معقولا وجعلته معقولا صرفا
(5/133)
وهل يكون المعقول الصرف إلا في الحي العاقل فإن المعقول الصرف الذي لا يتصور وجوده في الحس هو ما لا يوجد إلا في العقل وما لا يوجد إلا في العقل لم يكن موجودا في الخارج عن العقل فالتفتيش الذي أخرج من المحسوس ما ليس بمحسوس أخرج منه المعقولات المحضة التي يختص بها العقلاء وهي الكليات الثابتة في عقول العقلاء فإن الإنسان إذا تصور زيدا أو عمرا ورأى ما بينهما من التشابه انتزع عقله من ذلك معنى عاما كليا معقولا لا يتصور أن يكون موجودا في الخارج عن العقل
فهذا هو وجود الكليات وهذه الكليات المعقولة أعراض قائمة بالذات العاقلة لا توجد إلا بوجودها وتعدم بعدمها وليس بينها وبين الموجودات الخارجية تلازم بل يمكن وجود أعيان في الخارج من غير أن يعقل الإنسان كلياتها ويمكن وجود كليات معقولة في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج كما يعقل الأنواع الممتنعة لذاتها وغير ذلك فمن استدل على إمكان الشيء ووجوده في الأعيان بإمكان تصوره في الأذهان كان في هذا المقام أضل من بهيم الحيوان
قال تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل } وقال تعالى { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات }
(5/134)
وقال تعالى { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }
وقال تعالى { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }
وقال تعالى { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون }
وقولهم فالإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا يختلف فيها الكثرة غير محسوس بل معقول صرف وكذلك الحال في كل كلى هو من الأقوال الملبسة فإن هذه الحقيقة إما أن تعني بها ما يتصوره المعقول من الإنسان أو ما يوجد منه أو شيء ثالث
فأما شيء [ ثالث فلا حقيقة له فإن كان له حقيقة فبينوها فإنا نعلم بالاضطرار أنه ما في الوجود إلا ما هو موجود في نفسه أو ما هو متصور في الذهن إذ العقل أو العلم ونحو هذه الأمور مما ليس
(5/135)
بحاصل في العلوم والأذهان ليس بموجود في الأعيان فلا حقيقة له البتة ولكن الناطق بهذه العبارة يتصور في نفسه ما لا حقيقة له كتصور إنسان ليس بموجود في الخارج
فإذا قلت الإنسان من حيث هو هو مع قطع النظر عن ثبوته في العلم أو العين
قلت لك تقديره مطلقا لا بشرط من حيث هو هو هو أيضا من تقديرات الأذهان فإذا كان ما لا يوجد إلا مقدرا في الأذهان وفرضته غير مقدر في الأذهان جمعت بين النقيضين
فإن قلت أنا يمكنني أن أتصور إنسانا مطلقا مع قطع النظر عن وجوده في الذهن والخارج
قلت تصوره مطلقا غير مقيد بالذهن ولا بالخارج شيء وتصوره مقيدا بسلب الذهن والخارج شيء آخر فأما الأول فأنت لم تتصور معه سائر لوازمه وتصور الملزوم دون لوازمه ممكن كما تتصور إنسانا مع قطع النظر عن وجوده وعدمه وإن كان لا يخلو عن واحد منهما فهذا تصور للشيء دون لوازمه
وأما تصوره مقيدا بسلب الوجود الذهني والخارجي فهو من باب تصور الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين وهو كتصور إنسان مقيد بكونه لا موجودا ولا معدوما ومجرد فرض هذا في الذهن يوجب العلم بامتناعه
وأما الأول فلا يوجب تصور الملزوم بدون لازمة إمكان وجوده في
(5/136)
الخارج بدون لازمة فكونه إما في الذهن وإما في الخارج هو من لوازمه ويمكن تصور الملزوم بدون لازمة ولا يمكن وجوده دون لوازمه وعدم شعور النفس بلازم لا يوجب عدم اللازم فإن عدم العلم بالشيء ليس علما بعدمه وهذا كما يمكنك تصور إنسان مع قطع النظر عن وجوده وعدمه وإن كان لابد له إما أن يكون موجودا أو معدوما لامتناع الخلو عن النقيضين
وهؤلاء يجعلون تقدير الذهن للمتنعات حجة على ثبوتها ويشبهون الوجود الواجب بالوجود الممتنع وهذا كما أن الإنسان يتصور علما مطلقا وقدرة مطلقة مع علمه بأن ذلك لا يكون إلا بذات حية عالمة قادرة
وكذلك يتصور الإنسان حيوانا مطلقا ولا يتصور مع ذلك أنه ناطق أو بهيم ولا يخلد ولا يموت ولا يعلم ولا يجهل ولا يعجز ولا يقدر ولا يسكن ولا يتحرك فهل يستدل بتصوره ذلك في عقله على أنه يوجد أو يمكن أن يوجد في الخارج حيوان مطلق يخلو عن هذه المتقابلات كلها فلا يموت ولا يخلد ولا يقدر ولا يعجز
ومن المعلوم أن مقدرات الأذهان ومتصورات العقول يحصل فيها ما لا وجود له في الخارج تارة بأن لا يوجد ما يطابقه وهو الوهم وتارة مع وجود ما يطابقه كمطابقة الاسم للمسمى والعلم للمعلوم
(5/137)
وهو مطابقة ما في الذهن لما في الخارج ومطابقة الصورة العلمية لمعلوماتها الخارجية
وإذا قيل في هذه الصورة إنها كلية فهو كقولنا في الاسم إنه عام والمراد بذلك أنها مطابقة لأفرادها مطابقة اللفظ العام والمعنى العام لأفراده وهي مطابقة معلومة متصورة لكل عاقل لا تحتاج إلى نظير وإذا شبهت بمطابقة الصورة التي في المرآة للمرآة أو مطابقة نقش الخاتم للشمع ونحو ذلك كان ذلك تقريبا وتمثيلا وإلا فالحقيقة معلومة وكل عاقل يعلم مثل هذا من نفسه
واعلم أنه بالكلام على هذه الحجة التي لهؤلاء المتفلسفة في التوحيد بتبين الكلام على حجتهم الثانية وهي قولهم لو كان واجبان لا يشتركان في مسمى الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه فكان كل منهما مركبا مما به الاشتراك ومما به الامتياز والمركب مفتقر إلى جزئه فلا يكون واجبا
فإنه يقال لهم إنما اشتركا في المطلق الذهني لم يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود في الخارج حتى يكون في ذلك الموجود تركيب وكل منهما يمتاز عن الآخر بالوجوب الذي يخصه كما امتاز عنه بحقيقته التي تخصه والوجود الذي يخصه
(5/138)
ويقال لهم هذا كاشتراك الموجود الواجب والموجود الممكن في مسمى الوجود مع امتياز هذا بما يخصه وهذا بما يخصه فإن الوجود المشترك الكلي ليس هو ثابتا في الخارج بل للواجب وجود يخصه وللممكن وجود يخصه كما أن لهذا حقيقة تخصه ولهذا حقيقة تخصه
وكذلك إذا قيل لهذا ماهية تخصه ولهذا ماهية تخصه فإنهما يشتركان في مسمى الماهية ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يختص به وإنما اشتركا في المسمى المطلق الكلي وامتاز كل منهما عن الآخر بالوجود الذي في الخارج وذلك الموجود في الخارج لا اشتراك فيه وذلك المطلق الكلي لا امتياز فيه فما اشتركا فيه لا يكون إلا في الذهن وما امتازا به هو موجود في الخارج وقد يتصور في الذهن فإن ما في الخارج يتصور في الذهن وليس كل ما يتصور في الذهن يكون في الخارج فلم يكن ما به الاشتراك مفتقرا إلى ما به الامتياز ولا ما به الامتياز مفتقرا إلى ما به الاشتراك بل لا شركة في الأعيان الموجودة الجزئيات ولا امتياز في الكليات المطلقة المعقولات أعني من حيث تناولها وشمولها لأفرادها بل تناولها لأفرادها تناول واحد وشمولها شمول واحد
وهذا المعنى الواحد الشامل هو كاللفظ الواحد الشامل العام واشتراك الموجودين في الوجود أو الواجبين في الوجوب مع ما بينهما في الخارج من الامتياز والاختصاص كاشتراك اللونين في اللونية مع أن هذا في الخارج سواد وهذا بياض
(5/139)
فإذا قلت السواد مركب من اللونية والسوادية كما تقول الموجود مركب من الحيوانية والناطقية
قيل لك أتعني أنه مركب من لونية مطلقة لا تخصه ومن السوادية التي تخصه ومن الوجود المطلق الذي لا يخصه والوجوب الذي يخصه ومن الحيوانية المطلقة التي لا تخصه والناطقية التي تخصه أم مركب من نفس لونيته الخاصة وسواديته ومن نفس وجوده الخاص ووجوبه ومن الحيوانية التي تخصه وناطقيته
فأما الأول فباطل فإنه ليس فيه شيء مطلق لا لونية مطلقة ولا حيوانية مطلقة ولا وجودية مطلقة
وإن عنيت الثاني فلونيته الخاصة وسواديته متلازمان وكذلك حيوانيته الخاصة وناطقيته وكذلك وجوده الخاص ووجوبه فكما لا يمكن تقدير هذا اللون المعين الذي هو سواد بدون السواد فلا يمكن تقدير هذا الحيوان المعين الذي هو ناطق بدون النطق ] [ ولا يمكن تقدير هذا الموجود المعين الذي هو واجب بدون الوجود فإن هذا الحيوان ] هو الحيوان المعين والواجب هو الموجود المعين ولا يتميز في الخارج سواد من لون كما لا يتميز ناطق عن حيوان ولا
(5/140)
وجود عن وجوب بل الذهن يعقل ما بين هذا السواد وسائر الألوان من المشابهة في اللونية ويميز بين ذلك وبين ما يعقله بينه وبين سائر السوادات من المشابهة في السوادية ويضم هذا إلى هذا وهو تركيب عقلي اعتباري وكذلك يعقل ما بين هذا الإنسان وغيره من الحيوان من المشابهة في الحيوانية وما بينه وما بين سائر الأناسي من المشابهة في الإنسانية ويضم هذا إلى هذا وهو تركيب عقلي اعتباري
ومن قال إن الإنسان مركب من الحيوان والناطق وهو يعقل ما يقول فإنما يعني هذا التركيب ونحوه وليس ذلك تركيبا في الوجود الخارجي ولا في الوجود الخارجي جزء لهذا المركب متميز عن كله ولا جزء سابق لكل بل هذه الأمور إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان فهذه التركيبات مركبة من تلك الكليات والكليات الخمسة الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان
كذلك التركيب الذي يوجد في بعض هذه مع بعض فإن أجزاء المركب التي هي الكليات لا تكون إلا في الذهن فالمركب من الكليات الذهنية أولى أن لا يكون إلا ذهنيا
وهؤلاء المتفلسفة المنطقيون نفوا حقيقة واجب الوجود وصفاته معتقدين أنهم موحدون لذاته وقالوا هو منزه عن التركيب لافتقار المركب إلى جزئيه
(5/141)
والتركيب يقع عندهم كما ذكره ابن سينا وغيره وذكره الغزالي عنهم في تهافت الفلاسفة وغيره على خمسة أنواع أحدها تركب الموجود من الوجود والماهية
والثاني تركب الحقيقة من الأمور العامة والخاصة كالوجود العام والوجود الخاص
والثالث تركب الذات الموصوفة من الذات والصفات
والرابع تركب الذات القائمة بنفسها المباينة لغيرها المشار إليها من الجواهر المنفردة التي يقال إنها مركبة منها
والخامس تركبها من المادة والصورة التي يقال إنها مركبة منها
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا أنه يمتنع وجود موجود قائم بنفسه سواء كان واجبا أو ممكنا بدون ثبوت هذه المعاني التي سموها تركيبا وأن تسميتهم لذلك تركيبا غلط منهم
وإن قالوا هو اصطلاح اصطلحنا عليه فلا ترتفع بسبب غلط الغالطين وأوضاعهم اللفظية الحقائق الموجودة والمعاني العقلية وأنه ليس في العقل ما يمنع ذلك بل العقل يصدق السمع الدال على إثبات صفات الله تعالى ومباينته لمخلوقاته وأن العقل أثبت موجودا واجبا بنفسه غنيا عما سواه
وأما كون ذلك الموجود لا يكون إلا حيا عالما قادرا أو لا يكون إلا
(5/142)
موصوفا بصفات لازمة لذاته ولا يكون إلا مباينا لمخلوقاته فالعقل يوجب ذلك لواجب الوجود لا نحيله عليه وأن ما ذكروه من إثبات وجود مطلق بشرط الإطلاق أو بسلب الأمور الثبوتية عنه ليس له حقيقة ولا ماهية سواء مطلق الوجود أو الوجود المسلوب عنه الأمور الثبوتية وهو أمر يمتنع تحققه في الخارج وإنما يكون في الأذهان لا في الأعيان
وهذا هو الواحد الذي قالوا لا يصدر عنه إلا واحد فإنه يمتنع تحققه في الخارج وكذلك الواحد البسيط الذي يتركب منه الأنواع هو أيضا مما لا يتحقق إلا في الأذهان
ومتكلموا أهل الإثبات إذا قالوا وجوده عين حقيقته أو ماهيته أو ليس وجوده زائدا على ماهيته فليس مرادهم بذلك مراد المتفلسف الجهمي الذي يقول إنه وجود مطلق فإن الوجود المطلق لا حقيقة له في الخارج ولكن مرادهم بذلك ما يريدونه بقولهم إن حقيقة الإنسان هي وجوده الموجود في الخارج وحقيقة السواد هو السواد الموجود في الخارج ونحو ذلك
ومرادهم بذلك أن الشيء الموجود في الخارج الذي له حقيقة تخصه وجوده الثابت في الخارج هو تلك الحقيقة الخاصة فوجوده المختص به هو حقيقته المختصة كما أن الوجود المطلق كلي عام والحقيقة المطلقة كلية عامة ونفس حقيقة الإنسان والجسم وغيرهما ليست
(5/143)
هي وجودا مطلقا وإن كانت حقيقته نفس وجوده فكيف يكون رب العالمين حقيقته وجود مطلق لا يتصور إلا في الذهن
بل هو سبحانه وتعالى مختص بحقيقته التي لا يشركه فيها غيره ولا يعلم كنهها إلا هو وتلك هي وجوده الذي لا يشركه فيه غيره ولا يعلم كنهه إلا هو
والناس إذا علموا وجودا مطلقا أو حقيقة مطلقة فذاك هو الكلي العام الشامل ليس هو نفس الحقيقة الموجودة في الخارج
وكذلك تركب الحقيقة من الصفات العامة والخاصة إنما هو تركيب في الذهن تركيب ذهني عقلي اعتباري
وكذلك تركب الموصوف من الذات والصفات إنما يكون تركيبا لو كان هناك ذات مجردة عن تلك الصفات أو لو أمكن وجود ذلك فأما الذات التي لا تكون إلا حية عالمة فلا يتصور انفكاكها عن الحياة والعلم حتى نقول إن الذات تركيب مع الصفات
وكذلك أيضا الماهية المشار إليها القائمة بنفسها المباينة لغيرها إنما يقال هي مركبة من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة ولو كان لهذا التركيب حقيقة فأما إذا كان الجوهر الفرد باطلا وتركب الجسم من الجوهرين المادة والصورة باطلا والأمور المشار إليها المباينة لغيرها من المخلوقات كالشمس والقمر ليس هو مركبا من أجزاء منفردة ولا من جوهرين مادة وصورة فكيف يظن برب العالمين أنه مركب من ذلك
(5/144)
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن الأعيان القائمة بأنفسها خلقها الله تعالى كذلك ليس فيها أجزاء تركبت منها لكن يمكن أن يفرقها الله ويجزئها إلى أن يتصاغر جدا ثم يستحيل إلى نوع آخر مع أن ذلك الجزء الصغير يتميز منه شيء عن شيء وليس في الوجود عين قائمة لا يتميز منها شيء عن شيء
والصورة إما صورة عرضية كشكل الجسم فالمادة هنا هو الجسم نفسه وإما الصورة التي هي المصور كالإنسان نفسه والمادة فيها ليس لها جوهر يحملها بل مادتها ما منه خلقت وتلك المادة استحالت إلى صورة أخرى وفني الأول وعدم كما يفنى المني إذا صار إنسانا وليس بين ما استحال منه واستحال إليه شيء باق بعينه وإنما يشتركان في أمور نوعية كالمقدار ونحوه
والمركب المعقول هو ما كان مفترقا فركبه غيره كما تركب المصنوعات من الأطعمة والثياب والأبنية ونحو ذلك من أجزائها المفترقة
والله تعالى أجل وأعظم من أن يوصف بذلك بل من مخلوقاته ما لا يوصف بذلك ومن قال ذلك فكفره وبطلان قوله واضح
وقد يقال المركب على ما له أبعاض مختلفة كأعضاء الإنسان
(5/145)
وأخلاطه وإن كان خلق كذلك مجتمعا لكنه يقبل التفريق والانفصال والانقسام والله مقدس عن ذلك
وقد يقال المركب على ما يقبل التفريق والانفصال وإن كان شيئا بسيطا كالماء والله مقدس عن ذلك
فهذا هو التركيب المعقول في اللغة والاصطلاح فأما المركب في اللغة فهو الأول خاصة ولكن هذا المعنى لم يريدوه بلفظ المركب
والثاني والثالث قد يسميه طائفة من أهل العلم مركبا فأما الذات [ المتصفة ] بصفات لازمة لها التي لها حقيقة تمتاز بها عن سائر الحقائق وتباين غيرها من الموجودات من غير أن يجوز عليها تفريق وتبعيض وتجزئة وتقسيم فهذه لو قدر أنها مخلوقة لم تكن مما يسمى مركبا في اللغة المعروفة والاصطلاح
وإذا سمى مسم هذه مركبا كان إما غالطا في عقله لاعتقاده اشتمالها على حقيقتين وجودها وحقيقتها المغايرة لوجودها أو على حقيقتين ذات قائمة بنفسها معقولة مستغنية عن صفاتها وصفات زائدة عليها قائمة بها أو على جواهر منفردة أو معقولة أو نحو ذلك من الأمور التي يثبتها طائفة من الناس ويسمونها تركيبا
(5/146)
وجمهور العقلاء يخالفونهم في إثبات ذلك فضلا عن تسميته تركيبا ولو سلم لهم ثبوت ما يدعونه لم تكن تسميته مركبا من اللغة المعروفة بل هو وضع اصطلحوا عليه فإن الجسم الذي له صفات كالتفاحة التي لها لون وطعم وريح لا يعرف في اللغة المعروفة إطلاق كونها مركبة من لونها وطعمها وريحها ولا تسمية ذلك أجزاء لها ولا يعرف في اللغة أن يقال إن الإنسان مركب من الطول والعرض والعمق بل ولا أنه مركب من حياته ونطقه إلى أمثال ذلك من الأمور التي يسميها من يسميها من أهل الفلسفة والكلام تركيتا إما غلطا في المعقولات وإما اصطلاحا انفردوا به عن أهل اللغات
فليس لهؤلاء أن ينفوا ما علم ثبوته بالشرع والدعاء ومضاهاة للمشركين والنصارى والصابئين الذين { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }
وهذه الشفاعة التي أثبتها المشركون وأبطلها القرآن رأيت من هؤلاء المتفلسفة نفاة الصفات كابن سينا ومن ضاهاهم في بعض الأمور
(5/147)
التي يجعلونها علوما مضنونا بها على غير أهلها قد أثبتوا هذه الشفاعة الشركية وهذه الوسائط الإفكية مع أن القرآن العزيز مملوء من ذم أهلها
قال تعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } { قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون }
وقال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون }
وقال تعالى { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون }
وقال تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }
وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم
(5/148)
{ الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }
وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له }
فنفي أن يكون لغيره معه ملك أو شريك في الملك أو مظاهرة له ولم يثبت من الشفاعة النافعة إلا ما كان بإذنه وهذه الشفاعة التي يؤمن بها المؤمنون كشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فإنه باتفاق أهل السنة والجماعة له شفاعات في القيامة حتى يشفع في أهل الكبائر من أمته كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة كما كان يدعو لهم ويشفع لهم في حياته وكذالك يشفع غيره ممن يأذن الله له في الشفاعة لكن ليست هي الشفاعة التي يثبتها أصناف المشركين من غير أهل الكتاب والصابئين ومن ضاهاهم من أهل الكتاب كالنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة كالمتفلسفة الملاحدة والإسماعيلية وكأهل المضنون به وغيرهم فإنهم جعلوا الشفاعة تنفع بدون دعاء الشافع لله وبدون إذن الرب له في الشفاعة كما تقدم
(5/149)
والله تعالى يقول { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }
وقال تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وأمثال ذلك في كتاب الله عز وجل
وهنا جواب آخر عن أصل الحجة وهو أن يقال هب أن الشيئين يشتركان في شيء موجود في الخارج ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وأن الكلى المشترك بينهما ثابت في الخارج وأن أحدهما إما أن يكون لازما للآخر أو ملزوما أو عارضا أو معروضا فلم لا يجوز أن يكون المشترك لازما للمعين بل وملزوما أو عارضا يأو معروضا فلم لا يجوز أن يكون المشترك لازما للمعين بل وملزوما له بحيث يكون كل من المشترك والمختص مشروطا بالآخر والشرط لا يجب تقدمه على المشروط
وهذا كما أن الحيوانية مع الناطقية والصاهلية كل منهما مشروط بالآخر فلا يوجد المختص الذي هو الناطقية والصاهلية إلا مع الحيوانية ولا توجد حيوانية إلا مع بعض ذلك
وليس المراد بكون المشترك مشروطا بالمختص أنه مشروط بهذا المعين بل مشروط إما بهذا وإما بهذا فالمشترك من حيث هو مشترك مشروط بأحدهما لا بعينه ومن حيث تشخصه وتعينه مشروط بما اقترن به من التعين
(5/150)
وهذا ثابت في كل شيئين اتفقا في شيء وافترقا في شيء ولا حيلة لهم فيه وذلك أن كون الشيء لازما للآخر أعم من كونه علة أو معلولا أولا علة ولا معلولا فليس كل لازم معلولا فإذا كان كل من الوجوبين لازما لمعينه لم يجب أن يكون الواجب معلولا ولا يكون الملزوم علة
وبهذا يتبين فساد مقدمته الثانية التي قال فيها يجوز أن تكون ماهية الشيء سببا لصفة من صفاته وأن تكون الصفة سببا لصفة أخرى ولكن لا يجوز أن يكون الوجود بسبب ماهيته التي ليست من الوجود أو بسبب صفة أخرى لأن السبب يتقدم في الوجود ولا يتقدم بالوجود قبل الوجود
فإنه يقال له لفظ السبب قد تعني به العلة الموجبة وقد تعنى به الشرط فإن عنيت به الأول لم يجعل الوجود مسببا عن غيره لئلا يلزم تقدم غير الوجود الواجب عليه
وإن عنيت بالسبب الشرط فالشرط لا يجب تقدمه على مشروط بل يجوز مقارنته للمشروط فالأمور المتلازمة كالمتضايفات كل منها لا يوجد إلا مع الآخر فوجوده مشروط به من غير تقدم أحدهما على الآخر
وكذلك أنتم تقولون إن المادة مع الصورة كل منهما شرط في
(5/151)
الآخر من غير تقدمه عليه والمسلمون يقولون إن العلم والقدرة مشروط بالحياة وكلاهما صفة لازمة لله تعالى لا يجوز تقدمها على الأخرى بالوجود
وإذا كان كذلك وقدر أن للواجب حقيقة مغايرة للوجوب فلم لا يجوز أن يكون وجوده الواجب مشروطا بتلك الحقيقة التي هي أيضا مشروطة به من غير أن يكون الوجود الواجب مسبوقا بوجود غيره كما يقولون في وجود الممكن إذا قلتم إنه زائد على ماهيته إن ماهيته لا تنفك عن وجوده كما لا ينفك وجوده عن ماهيته
وهذا جواب لا حيلة لهم فيه وهو جواب عن تلازم الذات مع الصفات إذا قدر أحدهما مغايرا للآخر
وأبو عبد الله الرازي أجاب بجواب لم يفصل فيه العلة من الشرط فقال قولكم لو كانت الماهية علة لوجود نفسها لكانت متقدمة بالوجود على نفسها فإن العلة متقدمة بالوجود على المعلول ممنوع فإما لا نسلم وجوب تقدم العلة على المعلول بالوجود وقول القائل هي متقدمة عليه بالذات إن أريد به كونها مؤثرة فمسلم وإن أريد به أنها لا تؤثر فيه إلا بعد وجودها فهذا ممنوع ونحن ندعي أن المؤثر في وجود الله تعالى هو نفس ماهيته لا باعتبار وجود سابق وإن أريد بالتقدم أمر وراء التأثير فذلك غير منصور
(5/152)
ثم منع عموم الدعوى فقال نزلنا عن هذا المقام فلم قلتم إن كل علة فهي متقدمة بالوجود على المعلول ألا ترى أن ماهيات الممكنات قابلة لوجود ذاتها فماهياتها علل قابلية لوجود ذاتها ففي هذا الموضع العلل القابلية لا يجب تقدمها على المعلول بالوجود وإذا كان كذلك فلم لا يجوز مثله في العلة الفاعلية
وقال لا نقول المؤثر هو الماهية المعدومة بل الماهية من حيث هي هي مغايرة لوجودها وعدمها ونحن إنما نجعل المؤثر في الوجود تلك الماهية فقط
قال فإن قيل كما جوزتم أن تؤثر ماهيته قبل الوجود في وجود نفسها فلم لا يجوز أن تؤثر تلك الماهية قبل وجودها في وجود العالم وحينئذ لا يمكن الاستدلال بوجود الأفعال على وجود الفاعل قلنا البديهة فرقت بين الموضعين فإنا بالبديهة نعلم أن الشيء ما لم يوجد لا يكون سيئا لوجود غيره ونعلم أن لا استبعاد في أن يكون الشيء موجودا
(5/153)
من ذاته والمعلوم من قولنا إنه موجود لذاته أن ذاته تقتضي وجود نفسه وإذا جزمت بالبديهة بالفرق صح كلامنا في هذه المسألة
وقد مانعه بعض أصحابه في هذا الموضع وقال العلم بأن العلة لو كانت موجبة للوجود لكانت موجودة علم ضروري لأن المفيد للوجود لابد أن يكون له وجود بحلاف القابل فإنه مستفيد للوجود والمستفيد للوجود يمتنع أن يكون موجودا
قلت هذا الاضطراب إنما نشأ من قولهم كون ذات الواجب فاعلة لوجوده أو علة مقتضية لوجوده إذا قدر أن وجوده مغاير لذاته وهذا لا يحتاج إليه بل إذا قيل ذاته مشروطة بوجوده كما أن وجوده مشروط بذاته وقيل إنهما متلازمان من غير أن يكون أحدهما هو الموجب للآخر كما قالوا مثل ذلك في ذات الممكن ووجوده زالت هذه الشبهة
وهؤلاء كثيرا ما تشتبه عليهم العلل بالشروط في مسائل الدور والتسلسل وغير ذلك ويجعلون الملزوم علة كما يقولون إن ماهية الثلاثة والأربعة علة للفردية والزوجية فيجعلون ذات الشيء علة لصفته اللازمة له وأن فاعل الذات فاعل صفتها فإن الدور في الشروط بمعنى توقف كل من الأمرين على وجود الآخر معه ممكن واقع وهو الدور المعى الاقتراني وأما الدور في العلل وهو أن يكون كل من الأمرين علة للآخر ومبدعا له فهذا ممتنع باتفاق العقلاء
(5/154)
وكذلك التقدم فإن تقدم الشرط على المشروط غير واجب وأما تقدم الموجب على الموجب والفاعل على المفعول والعلة على المعلول فلا ريب فيه عند جماهير العقلاء
ومعارضة الرازي لهم بالماهية الممكنة القابلة لوجودها إذا قيل بتعددهما معارضة صحيحة وأما فرق المعارض له بأن الماهية في الواجب فاعلة للوجود فغلط فإن ماهية الواجب إذا قيل بمغايرتها لوجوده ليست فاعلة لوجوده بل هي أيضا قابلة لوجوده كالممكن لكن وجوده واجب مع هذا القبول
والقابل والمقبول كلاهما واجب بنفسه يمتنع عدمه بخلاف الممكن كما تقوله الصفاتية في الذات والصفات وكما تقوله الفلاسفة فيما يدعون قدم ذاته ووجوده من الممكنات كالفلك فإن ابن سينا وأتباعه يقولون إن ماهيته محل لوجوده وكلاهما قديم يمتنع عدمه لكن وجوده بغيره فإذا عقل هذا في الواجب بغيره ففي الواجب بنفسه أولى إذا قيل إن نفسه محل لوجوده وكلاهما واجب بماهيته ووجوده يمتنع نفي واحد منهما
وبهذا يظهر الجواب عن النظم الذي حرره لهم الآمدي فإن قوله إذا لم يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل من الشيئين إلا بما به التخصيص والامتياز وجب افتقار مسمى واجب الوجود إلى أمر خارج عن المفهوم من اسمه فلا يكون واجبا بذاته
(5/155)
جوابه على تقدير كون الوجود مغايرا للذات أن يقال لفظ الافتقار يراد به افتقار المعلول إلى العلة ويراد به افتقار المشروط إلى الشرط وإن قيل يراد به معنى ثالث له فإن قلت يجب افتقار مسماه إلى علة فاعلة لم يسلم لك ذلك فإن تحقق المشترك في المميز لا يستلزم كون المميز هو الفاعل المبدع لمشترك وإن أردت بأنه لا يوجد إلا بما هو شرط في وجوده فلم قلت إن هذا محال
وقوله لا يكون واجبا بذاته باطل حينئذ لأنه إذا قدر أن الذات غير الوجود فلا بد في قوله واجب بذاته من تحقق الوجود والذات معا فلا يتقدم أحدهما على الآخر ولا يستغني أحدهما عن الآخر فصار معنى وجوب الوجود بالذات إذا قدر أن الذات عين الوجود أمرا متضمنا لتلازم الوجود الواجب والذات الموصوفة بذلك فلا يكون موجود بذاته إلا كذلك وهذا كله بتقدير ثبوت شيئين
ثم على هذا التقدير فيها قولان إما أن يقال الوجود الملازم للماهية هو أيضا مختص كما أن الماهية مختصة به وهذا هو القول المأثور عن أبي هاشم ونحوه وقد تقوله طائفة من أهل الإثبات كما يوجد في كلام أبي حامد وابن الزاغوني
وإما إن يقال الوجود مشترك في الخارج ولكن الماهية هي المختصة التي تميز وجودا عن غيره وهذا هو الذي يحكيه الرازي عن أبي هاشم وغيره وهو غلط عليهم كما غلط على الأشعري وأبي الحسين
(5/156)
حيث حكى عنهم أن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي وهذا لغلط منه حيث ظن أن الكلى الذي هو مورد التقسيم يكون ثابتا مشتركا في الخارج وهذا أصل للمنطقيين يخالفهم فيه أئمة الكلام بحسب ما فهمه من كلام أهل المنطق فغلط
والمقصود هنا أن قول أبي هاشم وأتباعه خير من قول ابن سينا وأما إذا كان الوجود هو الماهية ولا مشترك في الخارج كما هو قول الأشعري وعامة المثبتة للصفات وهو الصواب فلا يحتاج إلى هذا الجواب
وليس المراد أن ماهيته وجود مطلق مجرد كما يقوله ابن سينا وابن التومرت وغيرهما من الجهمية ولكن المراد أن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به وليس ذلك وجودا مطلقا ولا مجردا وكذلك يقول في كل موجود إن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به وقد ذكرنا هذا الجواب على تقدير مغايرة وجوده لماهيته لأنه نافع في عامة ما يوردونه لنفي الصفات
قال الإمام أحمد باب بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى فقلنا لم أنكرتم ذلك قالوا إن الله لم
(5/157)
يتكلم ولا يتكلم إنما كون شيئا يعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وشفتين ولسان
فقلنا هل يجوز لمكون أو غير الله أن يقول { يا موسى إني أنا ربك } أو يقول { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } فمن قال ذلك زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئا كان يقول ذلك المكون يا موسى إن الله رب العالمين
إلى أن قال فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه الحديث وأما
(5/158)
قوله إن الكلام لا يكون إلا من جوف وشفتين ولسان
أليس الله قد قال للسموات والأرض { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } أتراها قالت بجوف وفم وشفتين وأدوات
وقال تعالى { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أتراها أنها تسبحن بجوف وفم وشفتين ولسان والجوارح إذا شهدت على الكفار فقالوا { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أتراها نطقت بجوف وفم وشفتين ولكن الله انطقها كيف شاء
إلى أن قال فلما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره فقلنا وغيره مخلوق قالوا نعم قفلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة وحديث
(5/159)
الزهري قال لما سمع موسى كلام ربه قال يارب هذا الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت قال فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه قال هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله
وقلنا للجهمية من القائل للناس يوم القيامة { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين } أليس الله هو القائل قالوا يكون الله شيئا فيعبر عن الله كما كون شيئا فعبر لموسى قلنا فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم } أليس هو الله تعالى قالوا هذا كله إنما يكون شيء فيعبر عن الله فقلنا قد أعظمتم
(5/160)
على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان
فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق قلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة بل نقول إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق [ الكلام ] ولا نقول إنه كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم
(5/161)
قال الإمام أحمد قالت الجهمية إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره بل نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلاها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد
إلى أن قال وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد فقال { ذرني ومن خلقت وحيدا } وكان له
(5/162)
عينان وأذنان ولسان وجوارح فسماه وحيدا بجميع صفاته
قلت فلا يوجد في كلام الله ورسوله واللغة اسم الواحد على ما لا صفة له فإن ما لا صفة له لا وجود له في الوجود
وما ذكره أحمد عن الجهمية أنهم يتأولون كلام الله لموسى بأنه خلق من عبر عنه تأوله جماعة من أتباعه في هذا أو في قوله تعالى كل ليلة من يدعوني فأستجيب له ولو كان كذلك لكان الملك يقول إن الله رب العالمين كما في الصحيحين إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء الحديث
وقد مثلوا ذلك بأن السلطان يأمر مناديا فيقول نادى السلطان وهذا حجة عليهم فإن المنادى يقول أمر السلطان أو إن المرسوم ونحو ذلك من الألفاظ التي تبين أن القائل غيره لا هو ولو قال المنادى قد أمرتكم فإن لم تقبلوا وإلا عاقبتكم ونحو ذلك لم يكن مناديا عن السلطان ولو قال ذلك عاقبه السلطان فصل
أخبر الله تعالى في كتابه بإثبات مفصل ونفى مجمل والمعطلة الجهمية متكلمهم ومتفلسفهم أخبروا بإثبات مجمل ونفي مفصل
(5/163)
فأخبر في كتابه بأنه حي قيوم عليم قدير سميع بصير عزيز حكيم ونحو ذلك يرضى ويغضب ويحب ويسخط وخلق واستوى على العرش ونحو ذلك وقال في النفي { ليس كمثله شيء } { ولم يكن له كفوا أحد } { هل تعلم له سميا } فلهذا مذهب السلف والأئمة إثبات صفاته بلا تمثيل لا ينفون عنه الصفات ولا يمثلونها بصفات المخلوقات ]
قال الإمام أحمد الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون ] بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائة قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل
(5/164)
الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتنة المضلين
فالمتشابه من الكلام يتكلمون به ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم هو كقولهم مقدس عن الكم والكيف والأين والوضع ومن مقصودهم بذلك أنه لا علم له ولا قدرة ولا رحمة ولا غير ذلك من الصفات وأنه ليس فوق السموات رب ولا على العرش إله ولا هو مباين لمخلوقاته ولا منفصل عنهم
وكذلك قولهم ليس بداخل العالم ولا خارجه وأمثال هذه العبارات السالبة
وكذلك وصف الإمام أحمد وأمثاله قول الجهمية النفاة قال أحمد وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا فكان مما بلغنا
(5/165)
من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقى أناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلها قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسا قال لا قالوا فوجدت له مجسا قال لا قالوا فما يدريك أنه إلاه قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائبة عن الأبصار
(5/166)
فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فسمعت كلامه قال لا قال فشممت له رياحا قال لا قال فوجدت له حسا أو مجسا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا تشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان
ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله { ليس كمثله شيء } { وهو الله في السماوات وفي الأرض } { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحايث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئا مما يصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا وكان من المشبهة
(5/167)
فأضل بكلامه بشرا كثيرا واتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية
قلت فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من مناظرة جهم لأولئك السمنية هم الذين يحكى أهل المقالات عنهم أنهم أنكروا من العلم ما سوى الحسيات ولهذا سألوا جهما هل عرفه بشيء من الحواس الخمس فقال لا قالوا فما يدريك أنه إلاه فإنهم لا يعرفون إلا المحسوس وليس مرادهم أن الرجل لا يعلم إلا ما أحسه بل لا يثبتون إلا ما هو محسوس للناس في الدنيا
وهؤلاء كالمعطلة الدهرية الطبائعية من فلاسفة اليونان ونحوهم الذين ينكرون ما سوى هذا الوجود الذي يشاهده الناس ويحسونه وهو وجود الأفلاك وما فيها
وهؤلاء الذين ذكر ابن سينا قولهم في إشاراته حيث قال قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنك إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وهذا هو القول الذي أظهره فرعون وإليه يعود عند التحقيق قول أهل الوحدة لكن هؤلاء يعتقدون أنهم يثبتون الخالق وأن وجوده
(5/168)
وجود المخلوق فهم متناقضون ثم إن جهم بن صفوان رد عليهم كرد أرسطو وابن سينا وأمثالهم من المشائين على الطبيعيين منهم وهؤلاء يثبتون وجودا عقليا غير الوجود المحسوس ويعتقدون أنهم بهذا الرد أبطلوا قول أولئك كما تقدم حكاية قول ابن سينا لما تكلم على الوجود وعلله وقال قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأبطل هذا القول بإثبات الكليات وقد تقدم التنبيه على فساد هذه الحجة وأن الكليات تكون في الأذهان لا في الأعيان
ومن لم يقر إلا بالمحسوس إنما نازع في الموجودات الخارجية لم ينازع في المعقولات الذهنية وإن نازع في ذلك حصلت الحجة عليه بإثبات المعقولات الذهنية فتبقى الموجودات الخارجية وهي الأصل
والحجة التي ذكرها أحمد عن الجهم أنه احتج بها على السمنية هي من أعظم حجج هؤلاء النفاة الحلولية منهم ونفاة الحلول والمباينة جميعا فإن النفاة تارة يقولون بالحلول والاتحاد أو نحو ذلك وتارة يقولون لا مباين للعالم ولا داخل فيه
والشخص الواحد منهم يقول هذا تارة وهذا تارة فإنهم في حيرة والغالب على متكلميهم نفي الأمرين والغالب على عبادهم وفقهائهم وصوفيتهم وعامتهم الحلول فمتكلموهم لا يعبدون شيئا ومتصوفتهم يعبدون كل شيء
(5/169)
والحلول نوعان حلول مقيد وحلول مطلق فالحلول المقيد هو قول النصارى ونحوهم من غلاة الرافضة وغلاة العباد وغيرهم يقولون إنه حل في المسيح أو اتحد به وحل بعلي أو اتحد به وأنه يتحد بالعارفين حتى يصير الموحد هو الموحد ويقولون % ما وحد الواحد من واحد % إذ كل من وحده جاحد % % توحيد من يخبر عن نعته % عارية أبطلها الواحد % % توحيده إياه توحيد % ونعت من ينعته لأحد %
وهؤلاء الذين حكى أحمد قولهم أنهم يقولون إذا أراد الله أن يحدث أمر دخل فيه بعض خلقه فتكلم على لسانه وقد رأيت من هؤلاء غير واحد ممن خاطبني وتكلم معي في هذا المذهب وبينت له فساده
وأما أهل الحلول المطلق الذين يقولون إنه حال في كل شيء أو متحد بكل شيء أو الوجود واحد كأصحاب فصوص الحكم وأمثالهم فؤهلاء يقولون أخطأ النصارى من جهة أنهم خصصوا وكذلك يقولون في عباد الأصنام خطاؤهم من جهة أنهم خصصوا بعض الأشياء فعبدوها
وقد رأيت من هؤلاء أيضا غير واحد وجرت بيننا وبينهم محنة معروفة
(5/170)
وجعل الإمام أحمد حجة جهم من جنس حجة أولئك الذين يقولون بالحلول المقيد لأن هؤلاء يقولون إنه حل في بعض خلقه
وهؤلاء الجهمية فيهم من يقول إن اللاهوت في الناسوت من غير حلول فيه وهكذا الجهم وأتباعه جعلوا وجود الخالق في المخلوقات من جنس اللاهوت في الناسوت ويجمعون بين القولين المتناقضين كما جمعت النصارى
واحتجاج الجهم بهذا على السمنية كاحتجاج نفاة الصفات بذلك على أهل الإثبات فإن الرازي وأمثاله احتجوا على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا داخل فيه بالنفس الناطقة على قول هؤلاء المتفلسفة الذين يقولون إنها لا داخلة في هذا العالم ولا خارجة من هذا العالم إنها تشبه الإله وإن الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة
ومقصود الجهم بهذه الحجة بيان إمكان وجود موجود لا سبيل إلى إحساسه فاحتج عليهم بالنفس الناطقة إذ لا سبيل إلى إحساسها وهذه حجة المشائين من المتفلسفة على الطبيعيين منهم وهؤلاء يجعلون ما يثبتونه من الأمور المعقولة حجة على إثبات موجود ليس بمحسوس ثم يزعمون أن ما أخبرت به الرسل من الغيب هو الوجود العقلي الذي يثبتونه
وهذا الموضع حارت فيه أحلام وضلت فيه أفهام وهم
(5/171)
مخطئون شرعا وعقلا أما الشرع فإن الرسل أخبرت عما لم نشهده ولم نحسه في الدنيا وسمت ذلك غيبا لمغيبه عن الشهادة كقوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } ومنه قوله تعالى { عالم الغيب والشهادة } فالغيب ما غاب عن شهود العباد والشهادة ما شهدوها
وهذا الفرق لا يوجب أن الغيب ليس مما يمكن إحساسه بل من المعلوم بالاضطرار أن ما أخبرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الثواب والعقاب كله مما يمكن إحساسه بل وكذلك ما أخبرت به عن الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار وغير ذلك لكنا لم نشهده الآن
ولهذا عظم ما أخبرت به من الغيب هو الله سبحانه وتعالى مع إخبار الرسول لنا أنا نراه كما نرى الشمس والقمر فأي الإحساس أعظم من إحساسنا بالشمس والقمر
وما أخبرت به من الغيب كالجنة والنار والملائكة والعرش والكرسي وغير ذلك مما يمكن إحساسه فليس الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس والمعقول
فهذا أصل ينبغي معرفته فإنه بسبب هذا وقع من الخلل في كلام طوائف ما لا يحصيه إلا الله تعالى كصاحب الكتب المضنون بها وصاحب الملل والنحل وطوائف غيرهم
(5/172)
ولهذا وقع في كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وصاحب نهاية الإقدام ونحوهما من كلام هؤلاء الذين يجعلون الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس وبين المعقول أنواع من جنس كلام الملاحدة الباطنية إما ملاحدة الشيعة كما يوجد في كلام صاحب الملل والنحل و نهاية الإقدام وقد قيل إنه صنف تفسيره سورة يوسف على مذهب الإسماعيلية ملاحدة الشيعة وإما ملاحدة الباطنية المنسوبين إلى الصوفية
ومن هنا دخل أهل وحدة الوجود وأمثالهم من ملاحدة النساك المنتسبين إلى التصوف وكل من هؤلاء وهؤلاء يؤول به الأمر إلى مخالفة صريح العقل والنقل
لكن هذا يحيل على علم الإمام المعصوم وهذا يحيل على معرفة الشيخ المحفوظ حتى يدعي كل منهما فيمن يحيل عليه ما هو أعظم من مقام الأنبياء مع أن الذي يحيل عليه لابد أن يكون فيه من الكذب والجهل والظلم ما لا يعلمه إلا الله وأحسن أحواله أن يكون كثير من كذبه جهلا منه وضلالا لم يعتمد فيه خلاف ما يعلمه من الحق كضلال كثير من النصارى أهل الأهواء
والمقصود أنه بهذا يتبين أن خطأهم في العقل وما يسمونه معقولات ودعواهم وجود أمور معقولات خارجة عن العاقل لا
(5/173)
يمكن الإشارة إليها ولا الإحساس بها بوجه من الوجوه وليست داخل شيء من العالم ولا خارجه ولا مباينة له ولا حالة فيه فإنه من المعلوم أن المعقولات ما عقلها الإنسان فهي معقولة العقل وأظهر ذلك الكليات المجردة كالإنسانية المطلقة والحيوانية المطلقة والجسم المطلق والوجود المطلق ونحو ذلك فإن هذه من وجوده في العقل وليس في الخارج شيء مطلق غير معين بل لا يوجد إلا وهو معين مشخص وهو المحسوس وإنما يثبت العقليات المجردة في الخارج الغالطون من المتفلسفة كالفيثاغورية الذين يثبتون العدد المجرد والأفلاطونية الذين يثبتون المثل الأفلاطونية وهي الماهيات المجردة والهيولي المجردة والمدة المجردة والخلاء المجرد
وأما أرسطو وأصحابه كالفارابي وابن سينا فأبطلوا قول سلفهم في إثباتها مجردة عن الأعيان ولكن أثبتوها مقارنة للأعيان فجعلوا مع الأجسام المحسوسة جواهر معقولة كالمادة والصورة وإذا حقق الأمر عليهم لم يوجد في الخارج إلا الجسم وأعراضه وأثبتوا في الخارج أيضا الكليات مقارنة للأعيان وإذا حقق الأمر عليهم لم يوجد في الخارج إلا الأعيان بصفاتها القائمة بها
وكذلك ما أثبتوه من العقول العشرة المفارقات إذا حقق الأمر عليهم لم يوجد لها وجود إلا في العقل لا في الخارج كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع
فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من احتجاج جهم على السمنية الطبيعية بإثبات موجود عقلي هو كحجة المشائين على الطبيعية وما في
(5/174)
قوله من الحلول الذي ضاهى به النصارى من جنس كلام الحلولية
والمقصود هنا أن نشير إلى جنس كلام السلف والأئمة مع جنس هؤلاء النفاة وأن الجميع يشربون من عين واحدة وأن كلام هؤلاء النفاة للصفات مع معطلة الصانع كلام قاصر من جنس كلام جهم مع السمنية المشركين وكلام المشائين الإلهيين من المتفلسفة مع الطبيعيين منهم
وذكر أحمد أن الجهم اعتمد من القرآن على ثلاث آيات تشتبه معانيها على من لا يفهمها آية نفي الإدراك لينفى بها الرؤية والمباينة وآية نفي المثل لينفى بها الصفات ويجعل من أثبتها مشبها وقوله { وهو الله في السماوات وفي الأرض } لينفي بها علوه على العرش أو ليثبت بها مع ذلك الحلول والاتحاد وعدم مباينته للمخلوقات
وهذه أصول الجهمية من المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد ومن دخل في التجهم أو الاعتزال أو بعض فروع ذلك من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد مع أن هؤلاء الأئمة من أبعد الناس عن أصول الجهمية والمعتزلة
قال الإمام أحمد عن الجهمية فإذا سألهم الناس عن قوله
(5/175)
تعالى { ليس كمثله شيء } يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو فوق العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بعقل ولا غاية ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل هو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون شيئين مختلفين وفي نسخة ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون ولا له جسم وليس هو معقولا وكل ما خطر على قلبك أنه
(5/176)
شيء تعرفه فهو خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتون بشيء وفي نسخة لا يثبتون شيئا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى فقالوا لم يتكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح على الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله
(5/177)
فهذا الذي وصفه الإمام أحمد وغيره من علماء السلف من كلام الجهمية هو كلام من وافقهم من القرامطة الباطنية والمتفلسفة المتبعين لأرسطو كابن سينا وأمثاله ممن يقول إنه الوجود المطلق أو المقيد بالقيود السلبية ونحو ذلك وهو حقيقة كلام القائلين بوحدة الوجود
ولهذا ذكر عنهم أنهم سلبوه كل ما يتميز به موجود عن موجود فسلبوه الصفات والأفعال وسائر ما يختص بموجود
ولما قالوا هو شيء لا كالأشياء علم الأئمة مقصودهم فإن الموجودين لابد أن يتفقا في مسمى الوجود والشيئين لابد أن يتفقا في مسمى الشيء فإذا لم يكن هناك قدر اتفقا فيه أصلا لزم أن لا يكونا جميعا موجودين وهذا مما يعرف بالعقل
ولهذا قال الإمام أحمد فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل إنه لا شيء فبين أن هذا مما يعرف بالعقل وهذا مما يعلم بصريح المعقولات
ولهذا كان قول جهم المشهور عنه الذي نقله عنه عامة الناس أنه لا يسمى الله شيئا لأن ذلك بزعمه يقتضي التشبيه لأن اسم الشيء إذا قيل على الخالق والمخلوق لزم اشتراكهما في مسمى الشيء وهذا تشبيه بزعمه
(5/178)
وقوله باطل فإنه سبحانه وإن كان لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من الأشياء فمن المعلوم بالعقل أن كل شيئين فهما متفقان في مسمى الشيء وكل موجودين فيها متفقان في مسمى الوجود وكل ذاتين فهما متفقان في مسمى الذات فإنك تقول الشيء والموجود والذات ينقسم إلى قديم ومحدث وواجب وممكن وخالق ومخلوق ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام
وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع وبينا غلط من جعل اللفظ مشتركا اشتراكا لفظيا
وهذا الذي نبه عليه الإمام أحمد من أن مسمى الشيء والوجود ونحو ذلك معنى عام كلي تشترك فيه الأشياء كلها والموجودات كلها هو المعلوم بصريح العقل الذي عليه عامة العقلاء
ومن نازع فيه فلابد أن يقول به أيضا فيتناقض كلامه في ذلك كما تناقض فيه كلام الشهرستاني والرازي والآمدي وغيرهم إذ يجعلونه تارة عاما مقسوما مشتركا اشتراكا لفظيا ومعنويا بين الأشياء الموجودات ويجعلونه تارة مشتركا اشتراكا لفظيا فقط كلفظ المشتري المشترك بين المبتاع والكوكب ولفظ سهيل المشترك بين الكوكب وبين الرجل المسمى بسهيل ولفظ الثريا المشترك بين الكوكب وبين المرأة المسماة ثريا
كما قيل % أيها المنكح الثريا سهيلا % عمرك الله كيف يلتقيان % % هي شامية إذا ما استقلت % وسهيل إذا استقل يمان %
(5/179)
ولما كان هذا مما يعرف بالعقل قال أحمد فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتمون بشيء أي لا يقصدون شيئا فإن المؤتم بالشيء يؤمه ويقصده والإمام الطريق لأن السالك يأتم به وهو أيضا الكتاب الذي يأتم به القارئ وهو الإمام الذي يأتم به المصلى والأمة القدوة الذي يؤتم به أي يقتدا والأمة أيضا الدين يقال فلان [ لا ] أمة له أي لا دين له ولا نحلة له
قال الشاعر % وهل يستوي ذو أمة وكفور %
وقول النابغة % حلفت فلم أترك لنفسك ريبة % وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع %
فقول أحمد لا يأتمون بشيء أي لا يدينون بدين ومن روى أنه قال إنكم لا تثبتون شيئا فقوله ظاهر فإن قول الجهمية يتضمن أنهم لا يثبتون في الخارج ربا خالقا للعالم
ثم قال فإذا قيل للجهمية من تعبدون قالوا نعبد من يدبر
(5/180)
أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء
فقال أحمد في هذا الموضع قد عرف المسلمون وقال هناك قد عرف الناس لأنه هنا تكلم في كونه معبودا وأنهم يعبدون وهناك تكلم في كونه موجودا فلما وصفوه بالسلب المحض أخبر أن أهل العقل يعلمون أن الموصوف بالسلب المحض هو العدم فعرف الناس أنهم لا يثبتون شيئا
وهنا لما سألهم من يعبدون فأخبروا أنهم يعبدون مدبر الخلق وقالوا إنه مجهول لا يعرف بصفة عرف المسلمون أنهم لا يعبدون شيئا لأن العبادة أصلها قصد المعبود وإرادته والقصد والإرادة مستلزمة للعلم بالمراد المقصود
فما يكون مجهولا لا يعرف بصفة يمتنع أن يكون مقصودا فيمتنع أن يكون معبودا والعبادة هي أمر ديني أمر الله بها ورسوله وهي أصل دين المسلمين
فلهذا قال هنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فبين أن الناس يعلمون
(5/181)
بعقلهم أنهم لا يثبتون شيئا وأن المسلمين يعرفون أنهم لا يعبدون شيئا وبين أن الجاهل إذا سمع قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله
وهذا الذي ذكره الإمام أحمد أصل قول هؤلاء النفاة الجهمية وسر مذهبهم وكلما كان الرجل أعقل وأعرف وأعلم وأفضل وأخبر بحقيقة الأمر في نفسه وبقول هؤلاء النفاة ازداد في ذلك بصيرة وإيمانا ويقينا وعرفانا
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه نسخة الكتاب الذي أرسل في المحنة المشهورة لما كان المأمون قد ذهب إلى ناحية طرسوس وأرسل كتابا إلى الناس ببغداد وأمر نائبه إسحاق بن إبراهيم أن يقرأه على الناس ويدعوهم إلى موافقته فامتنع العلماء عن الإجابة حتى أرسل كتابا يهدد به الناس وأمر بقتل القاضيين إذا لم يجيبا قاضي الشرقية والغربية وهما بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق فأجاب الناس كرها واعترفوا بذلك وامتنع عن الإجابة سبعة فقيدوهم فأجاب منهم خمسة وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح النيسابوري فأرسلوهما مقيدين فمات محمد بن نوح في الطريق فبقي أحمد بن حنبل ومات المأمون قبل أن يصير إليه أحمد
(5/182)
والمقصود أنه ذكر في كتابه لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فوافقه من لم يعرف حقيقة هذه الكلمة وذكر عن أحمد أنه قال لا يشبه الأشياء وليس كمثله شيء ونحو ذلك أو كما قال
وأما قوله بوجه من الوجوه فامتنع منها وذلك لأنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ولا شيء ولا حي ولا عليم ولا قدير ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى
وهذا النفي حقيقة قول القرامطة والله تعالى ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه بل هو سبحانه في كل ما هو موصوف به مختص بما لا يماثله فيه غيره وله المثل الأعلى
ولكن لفظ الشبه فيه إجمال وإبهام فما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور ولو أنه في كونهما موجودين وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل منهما فإذا قيل هذا لا يوافق هذا بوجه من الوجوه ولا يواطئه بوجه من الوجوه كان هذا ممتنعا
وكذلك إذا أريد بقول القائل لا يشبهه بوجه من الوجوه هذا المعني بخلاف ما إذا أراد بذلك المماثلة والمساواة والمكافأة أو أراد ذلك بلفظ المشاركة والموافقة والمواطأة فإنه سبحانه لا يماثله شيء بوجه من الوجوه ولا شريك له بوجه من الوجوه لا سيما والكليات التي يتفق فيها الشيئان إنما هي في الأذهان لا في الأعيان فليس في
(5/183)
الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى
والقرامطة الباطنية كالجهمية الذين ينفون أن يسمى الله بشيء من الأسماء التي يسمى بها مخلوق لبسوا على الناس بلفظ التشبيه و التركيب ولهذا أنكر جماهير الطوائف عليهم من المعتزلة والنجارية والضرارية ومتكملة الصفاتية وغيرهم بل أنكر عليهم من أنكر من الفلاسفة مع تناقض كثير من الناس معهم
ولهذا زعم أبو العباس الناشئ أن الأسماء التي يسمى بها الله ويسمى بعض عباده بها هي حقيقة في الله مجاز في عباده نقيض قول القرامطة الباطنية والجهمية
(5/184)
ولهذا كان السلف يجعلون الجهمية زنادقة ولم يكن إذ ذاك ظهرت ملاحدة الشيعة بل في عصر محنة الجهمية في خلافة المأمون والمعتصم ونحوهما شرعت طوائف الملاحدة الباطنية تظهر مع ظهور الجهمية كما ظهرت الخرمية أصحاب بابك الخرمي وهذا أحد ألقاب الباطنية
ويقال إنه سنة عشرين وهي السنة التي ضرب فيها أحمد ظهرت أوائل القرامطة الذين ظهروا بالعراق ثم صارت لهم شوكة بهجر مع الجنابي وأتباعه ثم ظهرت دعوتهم الكبرى بأرض المغرب ثم مصر إلى أن فتحها أهل السنة بعد ذلك وبقاياهم في الأرض متفرقون
وهؤلاء لهم أنواع من الإلحاد في غير الأسماء والصفات وإنما
(5/185)
المقصود هنا بيان إلحاد الجهمية نفاة الأسماء والصفات فهؤلاء الذين ينفون حقائق أسماء الله الحسنى ويقولون إنما يسمى بها مجازا أو المقصود بها غيره أو لا يعرف معناها أصل تلبيسهم هو ما في إطلاق هذه الأسماء مما يظنونه من التشبيه الذي يجب نفيه ولهذا عظم كلام المسلمين في هذا الباب وقد بسط في غير هذا الموضع
وتحقيق هذا الموضع من أعظم أصول الدين كما قال أبو المعالي الجويني في الإرشاد من صفات القديم مخالفته للحوادث فالرب لا يشبه شيئا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها
قال والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين فقد غلت طائفة في النفي فعطلت وغلت طائفة في الإثبات فشبهت فأما الغلاة في النفي فقالوا الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه وقالوا على هذا القديم سبحانه لا يوصف بالوجود بل
(5/186)
يقال ليس بمعدوم وكذلك لا يوصف بأنه قادر عالم حي بل يقال ليس بعاجز ولا جاهل ولا ميت
قال وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية وأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم الحوادث
قلت وهذا الذي قاله أبو المعالي من الاعتناء بهذا الأصل متفق عليه بين الطوائف والذي ذكره عن النفاة هو قول الجهمية الذي ذكره الإمام أحمد ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمى الله بشيء ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمى بها الخلق كالحي والعالم والسميع والبصير بل يسميه قادرا خالقا لأن العبد عنده ليس بقادر إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية
ولما كان كل موجودين لابد أن يكون بينهما اتفاق من بعض
(5/187)
الوجوه واختلاف من بعض الوجوه وقد أنكر طائفة من الناس ذلك وقالوا المتماثلان لا يختلفان بحال والمختلفان لا يشتبهان في شيء البتة
واضطرب من خالف شيئا من السنة في الأصل الذي يضبطه في نفي التشبيه إذ جعل مسمى التشبيه والتمثيل واحدا فقالت الباطنية وبعض الفلاسفة إن الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه والتماثل
وقال النجار والقلانسي المثلان هما المجتمعان في صفة من صفات الإثبات إذا لم يكن أحدهما بالثاني ليحترز بهذا القيد عن القديم والحادث
قال أبو المعالي فأما الرد على الفلاسفة فمن أوجه أحدها الاتفاق على أن السواد يشارك البياض في بعض صفات الإثبات من الوجود والعرضية واللونية ثم هما مختفان وكذلك الجوهر والعرض والقديم والحادث لا يمتنع اشتراكهما في صفة واحدة مع اختلافهما في سائر الصفات ويقال لهم أتثبتون الصانع المدبر أم لا
(5/188)
تثبتونه فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه فإن الحادث ثابت فاستويا في الثبوت ولا واسطة بين الإثبات والنفي فإن قالوا ليس بمنفى قيل لهم نفي النفي إثبات كما أن نفي الإثبات نفي وإذا لزم الثبوت من نفي النفي حصلت المماثلة فإن قالوا نحن لا نطلق الإثبات على صفاته ولا ننطق به قلنا قد نطقتم في صفات الرب بالإثبات أو بصيغة تتضمنه والمقصود من العبارات معناها ثم نقول أتعتقدون ثبوت الإله سبحانه فإن قالوا لا نعتقده قطع الكلام عنهم فيما هو فرع له على أنهم راغموا البديهة لعلمنا بأن نفي النفي إثبات وإن قالوا نعتقد الثبوت ولا ننطق به قلنا كلامنا في الحقائق لا في الإطلاقات فإن قالوا فصفوا الإله بالثبوت والوجود ولا تنطقوا به واعتقدوا وجود الحادث ولا تنطقوا به لتنتفي المماثلة لفظا فإن المماثلة لفظا مما يتوقى في العقائد قلنا يتوقى اللفظ لأدائه إلى الحدوث أو إلى النقص فكل ما لا يؤدي إلى الحدوث وإلى النقص لا نكترث به ثم محاذرة التعطيل أولى من محاذرة التشبيه
(5/189)
قال ومما يتمسك به أن نقول هلا قلتم الاشتراك في صفة النفي يوجب الاشتباه وما الفرق بين صفة الإثبات والنفي في هذا الباب ثم نقول الرب سبحانه معقول ومذكور كالحادث وهو سبحانه مخالف للحادث ولا مخالفة إلا بين اثنين
قال فأما ما قيد النجار به كلامه فليس بعاصم فإن التماثل يتلقى من الاجتماع في الصفة فأما كون أحدهما بالثاني أو المصير إلى أنه ليس به فلا أثر له في التشابه والتماثل
(5/190)
واختار أبو المعالي ما اختاره القاضي أبو بكر وأمثاله ويشاركهم في ذلك طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وقالوا إن المثلين كل موجودين ثبت لكل واحد منهما من صفات النفس ما ثبت للآخر ولا يجوز أن ينفرد أحد المثلين عن الآخر بصفة نفس ويجوز أن ينفرد بصفة معنى وقوعا يجوز مثلها على مماثلة وبيان ذلك أن الجواهر متماثلة لتساويها في صفات الأنفس إذ لا يستبد جوهر عن جوهر بالتحيز وقبول العرض والقيام بالنفس وقد يختص بعض الجواهر بضروب من الأعراض يجوز أمثالها في سائر الجواهر ويجوز أن يشارك الشيء ما يخالفه في الوجود مثل كونهما عرضين لونين خلافا للباطنية قالوا ولا يجوز أن يتماثل الشيئان من وجه ويختلفا من وجه لأنه إذا قلنا المثلان
(5/191)
هما المتساويان في جميع صفات النفس فإذا اختلف الشيئان من وجه فليسا متماثلين من كل وجه إذ يستحيل التماثل في جميع الوجوه مع الاختلاف في وجه من الوجوه
قلت هذا بناء على اصل تلقوه من المعتزلة وهو أن الجواهر والأجسام متماثلة بخلاف الأعراض فإنها قد تختلف وقد تتماثل
وحقيقة هذا القول أن الأجسام متماثلة من كل وجه لا تختلف من وجه دون وجه بل الثلج مماثل للنار من كل وجه والتراب مماثل للذهب من كل وجه والخبز مماثل للحديد من كل وجه إذ كانا متماثلين في صفات النفس عندهم
وهذا القول فيه [ من ] مخالفة الحس والعقل ما يستغنى به عن بسط الرد على صاحبه بل أصل دعوى تماثل الأجسام من أفسد الأقوال بل القول في تماثلها واختلافها كالقول في تماثل الأعراض واختلافها فإنها تتماثل تارة وتختلف أخرى وتفريقهم بين الصفات النفسية والمعنوية اللازمة للمعين يشبه تفريق أهل المنطق بين الصفات الذاتية واللازمة للماهية وكلاهما قول فاسد لا حقيقة له بل قول هؤلاء أفسد من قول أهل المنطق
وإذا وقع الكلام في جسم مطلق وجوهر مطلق فهذا لا وجود له في الخارج وإن وقع في الوجود من الأجسام كالنار والماء
(5/192)
والتراب والإنسان والفرس والذهب والبر والتمر فكل جسم من هذه الأجسام له صفات نفسية لازمة له لا تزول إلا باستحالة نفسه فدعوى المدعى أنه ليس له من الصفات النفسية إلا التحيز وقبول العرض والقيام بالنفس أفسد من قول أهل المنطق فإن أولئك جعلوا مثلا كون الحيوان حساسا متحركا بالإرادة من الصفات الذاتية وهؤلاء لم يجعلوا له صفة نفسية إلا كونه جسما
والتحيز وقبول العرض والقيام بالنفس أمر تشترك فيه الأجسام كلها والأمور المختلفة تشترك في لوازم كثيرة كاشتراك الألوان المختلفة في اللونية والعرضية ليس حقيقة النار مجرد كونها متحيزة قابلة للعرض قائمة بالنفس بل هذا من لوازمها
وايضا فقد يسلم هؤلاء القائلون بامتناع التشابه من وجه دون وجه كأبي المعالي وغيره أن الأعراض المختلفة تشترك في أمور وقد صرحوا بأن القديم والحادث يستويان في الثبوت وأنه يشارك المحدث في أمور
والاشتراك في بعض صفات الإثبات لا يكون تماثلا وهذا تصريح بأن المختلفين يستويان ويشتركان في بعض الصفات فكيف يمكن أن يقال مع هذا إن المختلفين لا يشتبهان من بعض الوجوه وقد صرح بتساويهما في بعض الأشياء وغاية هذا أن يقال إنهما لا يختلفان بوجه من الوجوه في الصفات النفسية وإن اشتبها في الصفات المعنوية
وهذا مع أن اللفظ لا يدل فيعود إلى ما ذكر وقد أخبر الله
(5/193)
تعالى في كتابه بنفي تساوي بعض الأجسام وتماثلها كما أخبر بنفي ذلك عن بعض الأعراض فقال الله تعالى { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات }
وقال تعالى { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }
وقال تعالى { ليسوا سواء }
وقال تعالى { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } وقال تعالى { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } فنفى أن يكون بعض الأجسام مثلا أو مساويا لغيره
وإذا قيل إن الأجسام اختلفت بما عرض لها من الأعراض
قيل من الأعراض ما يكون لازما لنوع الجسم أو للجسم المعين كما يلزم الحيوان أنه حساس متحرك بالإرادة ويلزم الإنسان أنه ناطق وكما يلزم الإنسان المعين ما يخصه من إحساسه وقوة تحركه بالإرادة ونطقه وغير ذلك من الأمور المعينة التي لا يشركه في عينها غيره فهذا لا يجوز أن يكون عارضا له إذ هو لازم له
وما يعقل جسم مجرد عن جميع هذه الصفات عرضت له بعد
(5/194)
ذلك فإذا كانت الأجسام تختلف بالأعراض وهي لازمة لها كان من لوازمها أن تكون مختلفة
وتمام هذا أن الأشياء تتماثل وتختلف بذواتها لا نحتاج أن نقول تتماثل في ذواتها والذات تختلف بصفاتها
ولهذا كان الصواب أن الرب سبحانه غير مماثل لخلقه بل هو مخالف لهم بذاته لا نقول إنه مساو لهم بذاته وإنما خالفهم بصفاته
ودعوى من ادعى أن الأجسام مركبة من جواهر لا تنقسم قائمة بأنفسها ليس لها شيء من هذه الأعراض ولكن لما تركبت صارت متصفة بهذه الصفات كاتصاف النار بالحرارة والماء بالرطوبة دعوى باطلة بالعقل والحس فإن الجسم المعين كهذه النار لم تكن أجزاؤه قط عارية عن كونها نارا بل النار لازمة لها
وإذا قيل قد كان هواء فصار نارا
قيل نعم وتلك الأجزاء الهوائية لم تكن قط إلا هواء واستحالة الجسم إلى جسم آخر مشهود معروف عند العامة والخاصة كما يقول الفقهاء إذا استحال الخمر خلا أو العذرة رمادا والخنزير ملحا ونحو ذلك وكما يكون الإنسان منيا ثم يصير علقة ثم مضغة
فإما أن يقال إن أجزاء العذرة تفرقت وهي بعينها باقية حين صارت رمادا وإنما تغيرت صفاتها كما يتغير اللون والشكل بمنزلة
(5/195)
الثوب المصبوغ وبمنزلة الخاتم إذا عمل درهما فهذا مكابرة للحس لأن الفضة التي كانت خاتما هي بعينها التي جعلت درهما أو سوارا وإنما تغير شكلها كالشمعة إذا غير شكلها
وكذلك إذا صبغ الجسم أو تحرك فهنا اختلفت صفاته التي هي أعراضه وأما المني إذا صار آدميا والهواء إذا صار نارا والنار إذا طفئت صارت هواء فهنا نفس حقيقة الشيء استحالت فخلق من الأولى ما هو مخالف لها وفنيت الأولى ولم يبق من نفس حقيقتها شيء ولكن بقي ما خلق منها كما يبقى الإنسان الذي خلق من أبيه بعد موت أبيه ولا يقول عاقل إنه عبارة عن أجزاء كانت في أبيه فتفرقت فيه
وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا فساد قول من يقول الأجسام مركبة من الجواهر التي لا تنقسم أو مركبة من جوهرين قائمين بأنفسهما مادة وصورة
ومن عرف هذا زاحت عنه شبهات كثيرة في الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر في الخلق وفي البعث وفي إحياء الأموات وإعادة الأبدان وغير ذلك مما هو مذكور في غير هذا الموضع
فهذا الموضع يحتاج إلى تحقيقه كل من نظر في هذه الأمور فإنه بمعرفته تزول كثير من الشبهات المتعلقة بالله واليوم الآخر ويعرف من
(5/196)
الكلام الذي ذمه السلف والمعقول الذي يقال إنه معارض للرسول ما يتبين به أن هؤلاء خالفوا الحس والعقل
وذلك أنا نشهد هذه الأعيان المرئية تتحول من حال إلى حال كما نشهد أن الشمس والقمر والكواكب تتحرك وتبزغ تارة وتأفل أخرى ونشهد أيضا أن السحاب والرياح تتحرك لكن السحاب نشهد اجتماعه وتفرقه وخروج الودق من خلاله ونشهد الماء يتحرك ويجتمع ويفترق ونشهد النبات والحيوان ينمى ويغتذى ومثل هذا منتف في الماء والهواء والأفلاك وحركته بالنمو والاغتذاء ليست من جنس حركة الماء والهواء والنجوم فإن هذه توجب من تغير النامي المغتذي واستحالته ما لا توجبه تلك فإن الكواكب هي في نفسها لم تستحل وتتغير بالحركة بخلاف الطفل إذا كبر بعد صفره والزرع إذا استغلظ واستوى على سوقه
ونشهد مع ذلك أن الحطب يصير رمادا ودخانا وكذلك الدهن يصير دخانا والماء يصير بخارا وليس هذا مثل كبر الصغير بل هذا فيه من الإستحالة والإنقلاب من حقيقة إلى حقيقة ما ليس في نبات الزرع والحيوان
ونشهد إخراج الله من الأرض والشجر الزرع والثمر وإخراج الحيوان من الحيوان
(5/197)
كما قال تعالى { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء } وقال تعالى { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي }
وقال تعالى { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا }
وقال { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وقال { الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار } { وسخر لكم الشمس والقمر }
فنحن نشهد الثمر يخرج من الخشب وليست حقيقة الخشب حقيقة الرطب والعنب والرمان ثم إذا أخرج الثمرة تكون خضراء ثم تصير صفراء ثم تصير حمراء فتختلف ألوانها وتكبر بعد صغرها
ونرى الألوان المختلفة التي يخلقها الله للحيوان والنبات وغير ذلك من أسود وأحمر وأصفر وأبيض ونفرق بين اختلاف ألوانها وحركاتها وطعومها بالحلاوة والحموضة وغير ذلك وبين اختلافها بالنمو والاغتذاء وكبرها بعد الصغر وبين خروج السنبلة من الحبة
(5/198)
والشجرة من النواة وخروج الثمرة من الشجرة فاختلافها بالحركة والسكون والاجتماع والافتراق كتفريق الماء وجمعه وتفريق التراب وجمعه ليس يوجب اختلاف شيء من حقيقة الجسم وبعد ذلك اختلاف ألوانه وطعومه فإن كونه أحمر وأخضر وأصفر وحلوا وحامضا هو اختلاف يزيد على مجرد الحركة كحركة الكواكب والرياح
ثم اختلافه بالنمو والإغتذاء مثل كبر الصغير من الحيوان والنبات اختلاف آخر فيه من التغير والزيادة وغير ذلك ما ليس في مجرد تغير اللون والحركة
ثم يصير الماء بخارا والحطب دخانا أو رمادا نوع آخر فيه انقلاب الحقيقة واستحالتها ما ليس في ذلك
ثم إخراج الثمرات من الشجر والإنسان من المنى والزرع من النبات أمر آخر غير هذا كله فإن الشجرة لم تنقص بخروج الثمرة منها ولا استحالت حقيقتها وكذلك الأرض لم تنقص بخروج الزرع منها ولا استحالت حقيقتها
وكذلك خروج الإنسان من أمه وخروج البيضة من الدجاجة ولكن خلق الفروج من البيضة من جنس خلق الإنسان من المنى
(5/199)
والذي يعقل من اجتماع الأجزاء وافتراقها أن تفترق مع بقاء حقيقتها مثل الماء تفرق حتى تصير أجزاؤه في غاية الصغر وهو ماء وكذلك الزئبق ونحوه فإذا استحالت بعد هواء لم يبق ماء ولا زئبق ومن قال إنه بعد انقلابه بقيت الأجزاء كما تبقى إذا تصغرت أجزاؤه فقد خالف الحس والعقل ولا يعقل الماء ونحوه جزءا إلا وهو ماء فإذا صار هواء لم يكن في الهواء جزء هو ماء بل جزء الهواء هواء
وكذلك الحطب تكسر أجزاؤه إلى أن تتصاغر فإذا صار رمادا فأجزاء الرماد مخالفة لأجزاء الحطب ليست هذه الأجزاء تلك فبقاء الشيء مع تغير أعراضه شيء وانقلاب حقيقته شيء آخر
ولهذا تفرق اللغة والشرع بين هذا وهذا وتجعل هذا جنسا مخالفا لهذا في جميع الأحكام بخلاف ما إذا كانت حقيقته باقية وقد تبدلت أعراضها فالحكم المعلق بالذهب والفضة إذا تعلق بعينه كالربا مثلا هو ثابت فيه وإن تغيرت صوره وأشكاله فسواء كان مجتمعا
(5/200)
مضروبا أو مصوغا على أي صورة كان أو مفترقا بالانكسار بخلاف حكمه لما كان ترابا في المعدن قبل أن يصير ذهبا وفضة
وكذلك النوى حكمه وحقيقته غير حكم النخلة وحقيقتها وأما الشجر والثمر فأبعد من هذا كله لأنه لا نشهد هناك من انقلاب أجزاء الشجرة واستحالتها ما نشهد من هذه المنقلبات وإنما نشهد خروج ثمرة لها طعم ولون وريح من خشبة مخالفة لها غاية المخالفة مع أن تلك الخشبة قد تزيد وتنمي مع خروج الثمرة منها وإن كان في ذلك استحالة لطينتها من الماء والهواء والتراب لكن خلق الحيوان والنبات والمعدن من العناصر ليس هو من جنس استحالة هذه المولدات بعضها إلى بعض لا سيما إذا كان بأفعالنا بل كلما بعد التسبب بأفعالنا يكون خلقه أعجب والإبداع للأعيان فيه أعظم
وما كان أقرب إلى مفعولاتنا يكون أبعد عن إبداع الأعيان بل وعن انقلاب الحقائق إلى تغير الصفات إلى أن تنتهي إلى مطلق الحركة التي ليس فيها من تغيير الذات شيء كحركة أحدنا بالمشي والقيام والقعود وحركة الكواكب فإن جنس الحركة هو المقدور للآدميين ابتداء وهو أبعد الأعراض والأحوال عن تغير الأعيان والحقائق ولهذا لا يسمى هذا في اللغة المعروفة تغيرا أصلا ولا يقول أحد عند الإطلاق للكواكب إذا كانت سائرة وللإنسان إذا كان ماشيا متغيرا اللهم إلا مع قرينة تبين المراد بخلاف ما إذا تغير لونه بحمرة أو
(5/201)
صفرة فإنهم قد يقولون قد تغير ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيرا وإن سمي بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا
والمقصود أن قول من يقول إن هذه المخلوقات التي يخلقها الله بعضها من بعض ليس خلقه لها إلا تغيير صفتها وأن حقيقة كل شيء جواهر أصلية متماثلة باقية لا تتغير حقيقتها أصلا ولكن تكثر تلك الأجزاء وتقل كلام لا حقيقة له وهو متضمن أمورا باطلة إثبات جواهر قائمة بانفسها مخلوقة وراء هذه الأعيان المشهودة وذاك باطل لا حقيقة له
وإثبات هؤلاء لهذه الجواهر الحسية من جنس إثبات آخرين لجواهر عقلية قائمة بأنفسها وراء هذه الأعيان المشهودة يسمونها المادة والصورة وإثبات أن هذه الجواهر متماثلة والأعيان المشهودة متماثلة وهو أمر لا حقيقة له
فدعوى أن خلق الله لمخلوقاته من الحيوان والنبات والمعدن ليس إلا إحداث أعراض وصفات ليس فيه خلق لعيان قائمة بنفسها ولا إحداث لأجسام وجواهر قائمة بنفسها كما تحرك الرياح والمياه وتفرق الماء في مجاريه وهو أيضا من أبطل الباطل
وهذا من أعظم ضلال هؤلاء حيث عمدوا إلى ما هو من أعظم آيات الرب الدالة الشاهدة بوجوده وقدرته ومشيئته وعلمه
(5/202)
وحكمته ورحمته أنكروا وجودها بالكلية وادعوا أنه ليس في ذلك إبداع عين ولا خلق شيء قائم بنفسه وإنما هو إحداث أعراض والواحد منا يقدر على إحداث بعض الأعراض ثم اقتصروا في ذلك على مجرد إحداث أعراض وصفات
ثم أرادوا أن يثبتوا إبداعه لجميع الأعيان بأن ادعوا وجود جواهر منفردة لا حقيقة لها وادعوا في الأعيان المختلفات تماثلا لا حقيقة له
ثم أرادوا أن يثبتوا حدوث هذه الجواهر بمجرد قيام الأعراض أو الحركات بها وذلك من أبعد الأشياء عن الدلالة على المطلوب فاحتاجوا إلى تلك المقدمات الباطلة التي ناقضوا بها عقول العقلاء وكذبوا بها ما جاءت به الرسل من الأنبياء واحتاجوا أن ينفوا حقيقة الرب بعد أن نفوا حقيقة مخلوقاته وآل الأمر بهم إما إلى نفى صفاته أيضا وإما إلى إثبات صفات لا موصوف لها كما لم يثبتوا من آياته إلا ما يحدث من صفات الأشياء
ومن تدبر هذا كله وتأمله تبين له أن ما جاء به القرآن من بيان آيات الرب ودلائل توحيده وصفاته هو الحق المعلوم بصريح المعقول وأن هؤلاء خالفوا القرآن في أصول الدين في دلائل المسائل وفي نفس المسائل خلافا خالفوا به القرآن والإيمان وخالفوا به صريح عقل الإنسان وكانوا في قضاياهم التي يذكرونها في خلاف ذلك أهل كذب وبهتان وإن لم يكونوا متعمدين الكذب بل التبس عليهم ما ابتدعوه من الهذيان
(5/203)
الوجه الحادي والعشرون
أن يقال معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين للرسل بل هو جماع كل كفر كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بالملل والنحل ما معناه أصل كل شر هو من معارضة النص بالرأي وتقديم الهوى على الشرع
وهو كما قال فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه وبين أن المتبعين لما انزله هم أهل الهدى والفلاح والمعرضين عن ذلك هم أهل الشقاء والضلال
كما قال تعالى { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى }
وقال تعالى { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } والذين
(5/204)
{ كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
وقد أخبر عن أهل النار أنهم إنما دخلوها لمخالفة الرسل قال تعالى { ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } إلى قوله { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }
وقال تعالى { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين }
وقال تعالى { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير }
ومعلوم أن الكلام الذي جاءت به الرسل عن الله نوعان إما إنشاء وإما إخبار والإنشاء يتضمن الأمر والنهي والإباحة فأصل السعادة تصديق خبره وطاعة أمره وأصل الشقاوة معارضة خبره وأمره بالرأي والهوى وهذا هو معارضة النص بالرأي وتقديم الهوى على الشرع
(5/205)
ولهذا كان ضلال من ضل من أهل الكلام والنظر في النوع الخبري بمعارضة خبر الله عن نفسه وعن خلقه بعقلهم ورأيهم وضلال من ضل من أهل العبادة والفقه في النوع الطلبي بمعارضة أمر الله الذي هو شرعه بأهوائهم وآرائهم
والمقصود هنا أن معارضة أقوال الرسل بأقوال غيرهم من فعل الكفار كما قال تعالى { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } إلى قوله { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب }
وقال تعالى { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق }
وقوله تعالى { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } مصدق لقول النبي صلى الله عليه وسلم مراء في القرآن كفر
ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن وجادل في ذلك بعقله ورأيه فهو داخل في ذلك وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله فقد دخل في ذلك فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدم على نصوص الكتاب والسنة
(5/206)
وقال تعالى { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه }
وقال { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار }
والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين
وشواهده كثيرة كقوله تعالى { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون }
وقوله { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } في سورة الأعراف ويوسف
(5/207)
والنجم فمن عارض آيات الله المنزلة برأيه وعقله من غير سلطان أتاه دخل في معنى هذه الآية
وهذا مما يبين أنه لا يجوز معارضة كتاب الله إلا بكتاب الله لا يجوز معارضته بغير ذلك
وكتاب الله نوعان خبر وأمر كما تقدم أما الخبر فلا يجوز أن يتناقض ولكن قد يفسر أحد الخبرين الآخر ويبين معناه وأما الأمر فيدخله النسخ ولا ينسخ ما أنزل الله إلا بما أنزله الله فمن أراد أن ينسخ شرع الله الذي أنزله برأيه وهواه كان ملحدا وكذلك من دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحدا
والقرامطة جمعوا هذا وهذا وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو السابع الذي نسخ دين محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك تعرض لدعوى النبوة غير واحد من الملاحدة
وآخرون يدعون ما هو عندهم أعلى من النبوة إما ختم الولاية عند من يزعم أن الولاية أفضل من النبوة كمذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله وإما دعوى الفلسفة والحكمة والتي هي في زعم كثير منهم أعلى من النبوة
وهؤلاء الملاحدة نوعان نوع يزعم أنه نزل عليه كما يدعي ذلك من يدعيه من ملاحدة أهل النسك والتصوف
ثم من هؤلاء من يقول إن الله أنزل عليه ذلك ومنهم من يقول ألقي إلي أوحي إلي ولا يسمي الموحي
(5/208)
وقوم يزعمون أنهم يقولون ذلك بعقلهم ورأيهم
وقد جمع الله هؤلاء في قوله { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } فذكر سبحانه من يفتري الكذب على الله ومن يقول أنه يوحى إليه ومن يزعم أنه يقول كلاما مثل الكلام الذي أنزله الله
وهذا الأصل هو مما يعلم بالضرورة من دين الرسل من حيث الجملة يعلم أن الله إذا أرسل رسولا فإنما يقول ما يناقض كلامه ويعارضه من هو كافر فكيف بمن يقدم كلامه على كلام الرسول
وأما المؤمنون بما جاء به فلا يتصور أن يقدموا أقوالهم على قوله بل قد أدبهم الله بقوله { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله }
ولكن البدع مشتقة من الكفر فلهذا كانت معارضة النصوص الثابتة عن الأنبياء بآراء الرجال هي من شعب الكفر وإن كان المعارض لهذا بهذا يكون مؤمنا بما جاء به الرسول في غير محل التعارض
وإذا كان أصل معارضة الكتب الإلهية بقول فلان وفلان من أصول الكفر علم أن ذلك كله باطل وهذا مما ينبغي للمؤمن تدبره فإنه إذا حاسب نفسه على ذلك علم تصديق ذلك ومما بين هذا
(5/209)
الوجه الثاني والعشرون
وهو أن يقال إن الله سبحانه ذم من ذمه من أهل الكفر على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا
كما قال تعالى { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون }
وقال تعالى { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم }
وقال { ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا }
وقال { وويل للكافرين من عذاب شديد } الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله
ومعلوم أن سبيل الله هو ما بعث به رسله مما أمر به وأخبر عنه فمن نهى الناس نهيا مجردا عن تصديق رسل الله وطاعتهم فقد صدهم عن سبيل الله فكيف إذا نهاهم عن التصديق بما أخبرت به الرسل وبين أن العقل يناقض ذلك وأنه يجب تقديمه على ما أخبرت به الرسل
(5/210)
ومعلوم أن من زعم أن العقل الصريح الذي يجب اتباعه يناقض ما جاء به الرسل وذلك هو سبيل الله فقد بغى سبيل الله عوجا أي طلب لها العوج فإنه طلب أن يبين اعوجاج ذلك وميله عن الحق وأن تلك السبيل الشرعية السمعية المروية عن الأنبياء عوجا لا مستقيمة وأن المستقيم هو السبيل التي ابتدعها من خالف سبيل الأنبياء ويوضح هذا الوجه الثالث والعشرون
وهو أن يقال من المعلوم أن الله أخبر أنه أرسل رسله بالهدى والبيان لترج الناس من الظلمات إلى النور فقال تعالى { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق }
وقال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض }
وقال تعالى { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } إلى قوله { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }
(5/211)
وقد قال تعالى { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين }
وقال { وما على الرسول إلا البلاغ المبين }
وقال { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }
وقال تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم }
وقال تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }
وقال تعالى { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون }
وقال تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين }
وقال تعالى { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }
(5/212)
ونظائر هذا في القرآن كثيرة
وإذا كان كذلك فيقال أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أو بما يدل على الباطل أو لم يتكلم لا بما يدل على حق ولا بما يدل على باطل
ومعلوم أنه إذا قدر في شخص من الأشخاص أنه لم يتكلم في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر لا بحق ولا بباطل ولا هدى ولا ضلال بل سكت عن ذلك لم يكن قد هدى الناس ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور ولا بين لهم ولا كان معه [ ما ] يستضيء به السالك المستدل
فإن قدر أن هذا الشخص تكلم بما يفهم منه نقيض الحق وبما يدل على ضد الصواب وكان مدلول كلامه في ذلك معلوم الفساد بصريح العقل لكان هذا الشخص قد أضل بكلامه وما هدى وكان مخرجا لمن اتبعه بكلامه من النور إلى الظلمات كحال الطاغوت الذين قال الله فيهم { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات }
ومن زعم أن ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة قد عارضه صريح المعقول الذي يجب تقدمه عليه فقد جعل الرسول شبيها بالشخص الثاني الذي أضل بكلامه من وجه ويجعله بمنزلة من جعله كالساكت الذي لم يضل ولم يهد من وجه آخر
(5/213)
فإنه إذا زعم أن الحق والهدى هو قول نفاة الصفات الذي يعلم بالعقل عنده فمعلوم أن كلام الله ورسوله لم يدل على قول النفاة دلالة يحصل بها الهدى والبيان للمخاطبين بالقرآن إن كان قول النفاة هو الحق
ومعلوم أن كلام الله ورسوله دل على إثبات الصفات المناقض لقول النفاة دلالة بينة بقول جمهور الناس إنها دلالة قطعية على ذلك
والمعتزلة ونحوهم من النفاة معترفون بأنها دلالة ظاهرة فإذا كان الرسول لم يظهر للناس إلا إثبات الصفات دون نفيها وكان الحق في نفس الأمر نفيها لكان بمنزلة الشخص الذي كتم الحق وذكر نقيضه
وهذا خلاف ما نعته الله في كتابه فدل على أن هذه الطريق التي يسوغ فيها تقديم عقول الرجال في أصول التوحيد والإيمان على كلام الله ورسوله تناقض دين الرسول مناقضة بينة بل مناقضة معلومة بالاضطرار من دين الإسلام لمن تدبر حقيقة هذا القول وعرف غائلته ووباله
وحينئذ فنقول الوجه الرابع والعشرون
إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول هذا القرآن أو الحكمة الذي بلغته إلينا قد تضمن أشياء كثيرة تناقض ما علمنا بعقولنا ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا فلو قبلنا جميع ما تقوله
(5/214)
مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان ذلك قدحا فيما علمنا به صدقك فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك وكلامك نعرض عنه لا نتلقى منه هدى ولا علم لم يكن مثل هذا الرجل مؤمنا بما جاء به الرسول ولم يرض الرسول منه بهذا بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول إذ العقول متفاوتة والشبهات كثيرة والشيطان لا يزال يلقي الوساوس في النفوس فيمكن حينئذ أن يلقى في قلب غير واحد من الأشخاص ما يناقض عامة ما أخبر به الرسول وما أمر به
وقد ظهر ذلك في القرامطة الباطنية الذين ردوا عامة الظاهر الذي جاء به من الأمر والخبر وزعموا أن العقل ينافي هذا الظاهر الذي بينه الرسول
ثم قد يقولون الظاهر خطاب الجمهور والعامة حتى يصل الشخص إلى معرفة الحقيقة التي يزعمون أنها تناقض ما بينه الرسول وحينئذ فتسقط عنه طاعة أمره ويسوغ له تكذيب خبره
ومن المعلوم لعامة المسلمين أن قول الباطنية الذي يتضمن مخالفة الرسول معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام
وكذلك ما أخبر به في المعاد قد قال متكلمة المسلمين إن قول الفلاسفة المناقض لذلك معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام
وهكذا ما أخبر به الرسول من أسماء الله وصفاته يعلم أهل الإثبات أن قول النفاة فيه معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام
(5/215)
وأصل هذا الإلحاد جواز معارضة ما جاءت به الأنبياء بالعقول والآراء
يبين ذلك الوجه الخامس والعشرون
وهو أن الله سبحانه وتعالى قد بين في كتابه أن معارضة مثل هذا فعل الشياطين المعادين للأنبياء
قال تعالى { اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين } ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } أي وما يشعركم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون وأنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة فقوله { ونقلب أفئدتهم } معطوف على قوله { لا يؤمنون } وكلاهما داخل في معنى قوله { وما يشعركم }
(5/216)
وبهذا تزول شبهة من لم يفهم الآية فظن أن أن بمعنى لعل لتوهمه أن قوله { ونقلب } فعل مبتدأ إلى قوله { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم }
ومن تدبر هؤلاء الآيات علم أنها منطبقة على من يعارض كلام الأنبياء بكلام غيرهم بحسب حاله فإن هؤلاء هم أعداء ما جاءت به الأنبياء
وأصل العداوة البغض كما ان أصل الولاية [ الحب ] ومن المعلوم أنك لا تجد أحدا ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت وأن ذلك الحديث لم يرد ولو أمكنه كشط ذلك من المصحف لفعله
قال بعض السلف ما ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه
وقيل عن بعض رؤوس الجهمية إما بشر المريسي أو غيره
(5/217)
أنه قال ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن فأقروا به في الظاهر ثم صرفوه بالتأويل ويقال إنه قال إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية بل قد يختار كتمان ذلك والنهي عن إشاعته وتبليغه خلافا لما أمر الله به ورسوله من التبليغ عنه
كما قال ليبلغ الشاهد الغائب
وقال بلغوا عني ولو آية
وقال نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه
(5/218)
فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
وقد ذم الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزله الله لأنه معارض لما يقولونه وفيهم جاء الأثر المعروف عن عمر قال إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم السنن أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها وسئلوا فقالوا في الدين برأيهم فذكر أنهم أعداء السنن
وبالجملة فكل من أبغض شيئا من الكتاب والسنة ففيه من عداوة النبي بحسب ذلك وكذلك من أحب ذلك ففيه من الولاية بحسب ذلك
(5/219)
قال عبد الله بن مسعود لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله
وعدو الأنبياء هم شياطين الإنس والجن
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن فقال أو للإنس شياطين فقال نعم شر من شياطين الجن وهؤلاء يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا
والزخرف هو الكلام المزين كما يزين الشيء بالزخرف وهو المذهب وذلك غرور لأنه يغر المستمع والشبهات المعارضة لما جاءت به الرسل هي كلام مرخرف يغر المستمع
ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة فهؤلاء المعارضون لما جاءت به الرسل تصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة كما رأيناه وجربناه
ثم قال { أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } وهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله تعالى بما أنزله من الكتاب المفصل
(5/220)
كما قال تعالى في الآية الأخرى { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله }
وقال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه }
وقوله تعالى { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } جملة في موضع الحال
وقوله { أفغير الله أبتغي حكما } استفهام إنكار يقول كيف أطلب حكما غير الله وقد أنزل كتابا مفصلا يحكم بيننا
وقوله مفصلا يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين بخلاف ما يزعمه من يعارضه بآراء الرجال ويقول إنه لا يفهم معناه ولا يدل على مورد النزاع فيجعله إما مجملا لا ظاهر له أو مؤولا لا يعلم عين معناه ولا دليل يدل على عين المعنى المراد به
ولهذا كان المعرضون عن النصوص المعارضون لها كالمتفقين على أنه لا يعلم عين المراد [ به ] وإنما غايتهم أن يذكروا احتمالات كثيرة ويقولون يجوز أن يكون المراد واحدا منها ولهذا أمسك من أمسك منهم عن التأويل لعدم العلم بعين المراد
(5/221)
فعلى التقديرين لا يكون عندهم الكتاب الحاكم مفصلا بل مجملا ملتبسا أو مؤولا بتأويل لا دليل على إرادته
ثم قال { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن فمن نظر فيما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل علم علما يقينا لا يحتمل النقيض أن هذا وهذا جاءا من مشكاة واحدة لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات فإن التوراة مطابقة للقرآن موافقة له موافقة لا ريب فيها
وهذا مما يبين أن ما في التوراة من ذلك ليس هو من المبدل الذي أنكره عليهم القرآن بل هو من الحق الذي صدقهم عليه ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينكرون ما في التوراة من الصفات ولا يجعلون ذلك مما بدله اليهود ولا يعيبونهم بذلك ويقولون هذا تشبيه وتجسيم كما يعيبهم بذلك كثير من النفاة ويقولون إن هذا مما حرفوه بل كان الرسول إذا ذكروا له شيئا من ذلك صدقهم عليه كما صدقهم في خبر الحبر كما هو في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود وفي غير ذلك
ثم قال { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } فقرر أن ما أخبر الله به فهو صدق وما أمر به فهو عدل وهذا يقرر أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق علينا أن نصدق
(5/222)
به لا نعرض عنه ولا نعارضه ومن دفعه فإنه لم يصدق به وإن قال أنا أصدق الرسول تصديقا مجملا فإن نفس الخبر الذي أخبر به الرسول وعارضه هو بعقله ودفعه لم يصدق به تصديقا مفصلا ولو صدق الرجل الرسول تصديقا مجملا ولم يصدقه تصديقا مفصلا فيما علم أنه أخبر به لم يكن مؤمنا له ولو أقر بلفظه مع إعراضه عن معناه الذي بينه الرسول أو صرفه إلى معان لا يدل عليها مجرى الخطاب بفنون التحريف بل لم يردها الرسول فهذا ليس بتصديق في الحقيقة بل هو إلى التكذيب أقرب
يحقق هذا الوجه السادس والعشرون
وهو أن يقال إن الله ذم أهل الكتاب على كتمان ما أنزل الله وعلى الكذب فيه وعلى تحريفه وعلى عدم فهمه
قال تعالى { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون { أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا
(5/223)
أماني وإن هم إلا يظنون { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون }
فذم المحرفين له والأميين الذين لا يعلمونه إلا أماني والذين يكذبون فيقولون لما يكتبونه هو من عند الله وما هو من عند الله كما ذم الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب وقد ذم الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في غير هذا الموضع
وهذه الأنواع الأربعة موجودة في الذين يعرضون عن كتاب الله ويعارضونه بآرائهم وأهوائهم فإنهم تارة يكتمون الأحاديث المخالفة لأقوالهم ومنهم طوائف يضعون أحاديث نبوية توافق بدعهم كالحديث الذي تحتج به الفلاسفة أول ما خلق الله العقل
والحديث الذي يحتج به الجهمية كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان
(5/224)
والحديث الذي يحتجون به في نفي الرؤية لا ينبغي لأحد أن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة
والحديث الذي يحتجون به في نفي العلو كالحديث الذي رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيخه ابن عبد الله العوسجي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الذي أين الأين فلا يقال له أين وعارض به حديث ابن إسحاق الذي رواه أبو داود وغيره الذي قال فيه يستشفع بك على الله ويستشفع بالله عليك وأكثر فيه في القدح في ابن إسحاق مع احتجاجه بحديث أجمع العلماء على أنه من أكذب الحديث وغاية ما قالوا فيه إنه غريب
والأحاديث التي تحتج بها الإتحادية من هؤلاء وغيرهم مثل قولهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رب زدني فيك تحيرا
ومثل الأحاديث التي يحتج بها الواصفون بالنقائص كحديث الجمل الأورق ونزوله عشية عرفة إلى الأرض يصافح الركبان ويعانق
(5/225)
المشاة ونزوله إلى بطحاء مكة وقعوده على كرسي بين السماء والأرض ونزوله على صخرة بيت المقدس وأمثال ذلك
وكذلك ما يضعونه من الكتب بآرائهم وأذواقهم ويدعون أن هذا هو دين الله الذي يجب اتباعه وأما تحريفهم للنصوص بأنواع التأويلات الفاسدة التي يحرفون بها الكلم عن مواضعه فأكثر من أن يذكر كتأويلات القرامطة الباطنية والجهمية والقدرية وغيرهم
وأما عدم الفهم فإن النصوص التي يخالفونها تارة يحرفونها بالتأويل وتارة يعرضون عن تدبرها وفهم معانيها فيصيرون كالأميين
(5/226)
الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ولهذا تجد هؤلاء معرضين عن القرآن والحديث فمنهم طوائف لا يقرون القرآن مثل كثير من الرافضة والجهمية لا تحفظ أئمتهم القرآن وسواء حفظوه أو لم يحفظوه لا يطلبون الهدى منه بل إما أن يعرضوا عن فهمه وتدبره كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإما أن يحرفوه بالتأويلات الفاسدة
وأما الحديث فمنهم من لا يعرفه ولم يسمعه وكثير منهم لا يصدق به ثم إذا صدقوا به كان تحريفهم له وإعراضهم عنه أعظم من تحريف القرآن والإعراض عنه حتى أن منهم طوائف يقرون بما أخبر به القرآن من الصفات وأما الحديث إذا صدقوا به فهم لا يقرون بما أخبر به
وإذا تبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بالمعقولات لابد له من كتمان أو كذب أو تحريف أو أمية مع عدم علم وهذه الأمور كلها مذمومة دل ذلك على أن هؤلاء مذمومون في كتاب الله كما ذم الله أشباههم من أهل الكتاب وأن هؤلاء وأمثالهم دخلوا في قوله صلى الله عليه وسلم الذي ثبت عنه في الصحيح الذي قال فيه لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن
(5/227)
فإن قيل فما ذكرتموه قد يشعر بأنه ليس لأحد أن يعارض حديثا ولا يستشكل معناه وقد كان الصحابة يفعلون ذلك
حتى قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال من نوقش الحساب عذب قالت عائشة يا رسول الله أليس الله يقول { فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا } فقال ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب
ولما قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة قالت له حفصة أليس الله يقول { وإن منكم إلا واردها } فقال ألم تسمعي قوله { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا }
وقال له عمر عام الحديبية ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف
(5/228)
به فقال هل قلت لك إنك تدخله هذا العام قال لا قال فإنك آتيه ومطوف به
قيل لم يكن في الصحابة من يقول إن عقله مقدم على نص الرسول وإنما كان يشكل على أحدهم قوله فيسأل عما يزيل شبهته فيتبين له أن النص لا شبهة فيه
فلما نفى النبي صلى الله عليه وسلم مناقشة الحساب عن الناجين لم ينف كل ما يسمى حسابا والحساب يراد به الموازنة بين الحسنات والسيئات وهذا يتضمن المناقشة ويراد به عرض الأعمال على العامل وتعريفه بها
ولهذا لما تنازع أهل السنة في الكفار هل يحاسبون أم لا كان فصل الخطاب إثبات الحساب بمعنى عد الأعمال وإحصائها وعرضها عليهم لا بمعنى إثبات حسنات نافعة لهم في ثواب يوم القيامة تقابل سيئاتهم
وكذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة لم يرد به المرور على الصراط فإن ذاك لا يسمى دخولا ولكن سماه الله ورودا بقوله { وإن منكم إلا واردها }
(5/229)
ولفظ الورود يحتمل العبور والدخول وأيضا فالورود والدخول قد يراد ورود أعلاها
وقد ثبت في الصحيح أنهم إذا عبروا على الصراط منهم من يمر كالطرف ومنه من يمر كالريح ومنهم من يمر كأجاويد الخيل
وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الورود بهذا وهذا عام لجميع الخلق فلما قالت حفصة أليس الله يقول { وإن منكم إلا واردها } لم تكن هذه معارضة صحيحة لما أخبر به فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن زبرها أن الله قال { ثم ننجي الذين اتقوا } فتلك النجاة هي المعنى الذي أراده بقوله لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة
فإن قيل فعائشة قد عارضت ما رواه عمر وغيره عن النبي صلى الله
(5/230)
عليه وسلم من قوله إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه بقول الله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وعارضت ما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم من مخاطبة أهل القليب يوم بدر بقوله { إنك لا تسمع الموتى }
قيل الجواب من وجهين
أحدهما أنا لم ننكر أنهم كانوا يعارضون نصا بنص آخر وإنما أنكرنا معارضة النصوص بمجرد عقلهم والنصوص لا تتعارض في نفس الأمر إلا في الأمر والنهي إذا كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا وأما الأخبار فلا يجوز تعارضها
وأما إذا قدر أن الإنسان تعارض عنده خبران أو أمران عام وخاص وقدم الخاص على العام فإنه يعلم أن ذلك ليس بتعارض في
(5/231)
نفس الأمر وأن المعنى الخاص لم يدخل في إرادة المتكلم باللفظ العام فالدليل الخاص يبين ما لم يرد باللفظ العام كما في قوله { يوصيكم الله في أولادكم } فالسنة بينت أن الكافر والعبد والقاتل لم يدخل في ذلك
هذا عند من يجعل اللفظ عاما لهؤلاء وأما من قال العام في الأشخاص مطلق في الأحوال فإنه يقول إن الآية تعم كل ولد ولكن لم يبين فيها الحال الذي يرث فيها الولد والحال التي لم يرث فيها ولكن هذا مبين في نصوص أخرى
وهؤلاء يقولون لفظ القرآن باق على عمومه ولكن ما سكت عنه لفظ القرآن من الشروط والموانع بين في نصوص أخرى
وهكذا يقولون في قوله { والسارق والسارقة } وأمثال ذلك من عمومات القرآن وظواهره لا يقولون إن ظاهر اللفظ متروك ولكن يقولون ما سكت عنه اللفظ يبين في نصوص أخرى ويقولون فرق بين ما يعمه اللفظ وبين ما سكت عنه من أحوال ما عمه فإن اللفظ مطلق في ذاك لا عام له
وإذا كان في كلام الله ورسوله كلام مجمل أو ظاهر قد فسر معناه وبينه كلام آخر متصل به أو منفصل عنه لم يكن في هذا خروج عن كلام الله ورسوله ولا عيب في ذلك ولا نقص كما في الحديث
(5/232)
الصحيح يقول الله عبدي جعت فلم تطعمني فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي عبدي عطشت فلم تسقني فيقول كيف أسقيك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا عطش فلو أسقيته لوجدت ذلك عندي عبدي مرضت فلم تعدني فيقول كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده
فهذا الحديث قد قرن به الرسول بيانه وفسر معناه فلم يبق في ظاهره ما يدل على باطل ولا يحتاج إلى معارضة بعقل ولا تأويل يصرف فيه ظاهره إلى باطنه بغير دليل شرعي
فأما أن يقال إن في كلام الله ورسوله ما ظاهره كفر وإلحاد من غير بيان من الله ورسوله لما يزيل الفساد ويبين المراد فهذا هو الذي تقول أعداء الرسل الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب وهو الذي لا يوجد في كلام الله أبدا
وإيضاح ذلك في
(5/233)
الوجه السابع والعشرون
وهو أن نقول الذين يعارضون كلام الله وكلام رسوله بعقولهم إن كانوا من ملاحدة الفلاسفة والقرامطة قالوا إن الرسل أبطنت خلاف ما أظهرت لأجل مصلحة الجمهور حتى يؤول الأمر بهم إلى إسقاط الواجبات واستحلال المحرمات إما للعامة وإما للخاصة دون العامة ونحو ذلك مما يعلم كل مؤمن أنه فاسد مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام وإن كانوا من أهل الفقه والكلام والتصوف الذين لا يقولون ذلك فلابد لهم من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح
ولفظ التأويل يراد به التفسير كما يوجد في كلام المفسرين ابن جرير وغيره ويراد به حقيقة ما يؤول إليه الكلام وهو المراد بلفظ التأويل في القرآن
وهذان الوجهان لا ريب فيهما والتأويل بمعنى التفسير والبيان كان السلف يعلمونه ويتكلمون فيه
وأما بالمعنى الثاني فمنه ما لا يعلمه إلا الله ولهذا كانوا يثبتون العلم بمعاني القرآن وينفون العلم بالكيفية كقول مالك وغيره الاستواء معلوم والكيف مجهول
(5/234)
فالعلم بالاستواء من باب التفسير وهو التأويل الذي نعلمه وأما الكيف فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وهو المجهول لنا
ويراد بالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح وهذا هو الذي تدعيه نفاة الصفات والقدر ونحو ذلك من نصوص الكتاب والسنة
وهؤلاء قولهم متناقض فإنهم بنوه على أصلين فاسدين فإنهم يقولون لابد من تأويل بعض الظواهر كما في قوله جعت فلم تطعمني وقوله الحجر الأسود يمين الله في الأرض ونحو ذلك ثم أي نص خالف رأيهم جعلوه من هذا الباب فيجعلون تارة المعنى الفاسد هو الظاهر ليجعلوا في موضع آخر المعنى الظاهر فاسدا وهم مخطئون في هذا وهذا
ومضمون كلامهم أن كلام الله ورسوله في ظاهره كفر وإلحاد من غير بيان من الله ورسوله للمراد
وهذا قول ظاهر الفساد وهو أصل قول أهل الكفر والإلحاد
أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بينت المراد وأزالت الشبهة فإن الحديث الصحيح لفظه عبدي مرضت فلم تعدني فيقول كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده
فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض وإنما الذي مرض عبده المؤمن
(5/235)
ومثل هذا لا يقال ظاهره أن الله يمرض فيحتاج إلى تأويل لأن اللفظ إذا قرن به ما يبين معناه كان ذلك هو ظاهره كاللفظ العام إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة كقوله { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } وقوله { فصيام شهرين متتابعين } ونحو ذلك فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفا كاملة ولا شهرين سواء كانا متفرقين أو متتابعين
وأما قوله الحجر الأسود يمين الله في الأرض فهو أولا ليس من الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحتاج أن ندخل في هذا الباب ولكن هؤلاء يقرنون بالأحاديث الصحيحة أحاديث كثيرة موضوعة ويقولون بتأول الجميع كما فعل بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأبو بكر بن فورك في كتاب مشكل الحديث حتى أنهم يتأولون حديث عرق الخيل وأمثاله من الموضوعات
(5/236)
هذا مع أن عامة ما فيه من تأويل الأحاديث الصحيحة هي تأويلات المريسي وأمثاله من الجهمية وقد يكون الحديث مناما كحديث رؤية ربه في أحسن صورة فيجعلونه يقظة ويجعلونه ليلة المعراج ثم يتأولونه
وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في إبطال التأويل ردا لكتاب ابن فورك وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عيانا ليلة المعراج ونحوه وفيها اشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة كحديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة وهي كلها موضوعة وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول
(5/237)
وقد يقال إن مثل هذا لا يقال إلا توقيفا لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول وما ثبت من كلام غيره سواء كان من المقبول أو المردود
ولهذا وغيره تكلم رزق الله التميمي وغيره من أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لهذا الكتاب بكلام غليظ وشنع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب
وما نقله عنه أبو بكر بن العربي في العواصم كذب عليه عن مجهول لم يذكره أبو بكر وهو من الكذب عليه مع أن هؤلاء وإن كانوا نقلوا عنه ما هو كذب عليه ففي كلامه ما هو مردود نقلا وتوجيها وفي كلامه من التناقض من جنس ما يوجد في كلام الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي المعالي وأمثالهم ممن يوافق النفاة على نفيهم ويشارك أهل الإثبات على وجه يقول الجمهور إنه جمع بين النقيضين
ويقال إن أبا جعفر السمناني شيخ أبي الوليد الباجي قاضي
(5/238)
الموصل كان يقول عليه ما لم يقله ويقال عن السمناني إنه كان مسمحا في حكمه وقوله
والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتا عن الرسول لا نحتاج أن ندخله في هذا الباب سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج
وحديث الحجر الأسود يمين الله في الأرض هو معروف من كلام ابن عباس وروي مرفوعا وفي رفعه نظر ولفظ الحديث الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه ففي لفظ هذا الحديث أنه يمين الله في الأرض وأن المصافح له كأنما صافح الله وقبل يمينه ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به فهذا صريح في أنه ليس هو نفس صفة الله فلا يمكن أحد أن يأتي بنص صحيح صريح يدل على معنى فاسد من غير بيان للنص أصلا فالحمد لله الذي سلم كلامه وكلام رسوله من كل نقص وعيب وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب والحمد لله رب العالمين
وأما الخطأ الثاني فيأتون إلى نصوص صحيحة دالة على معان دلالة بينة بل صريحة قطعية كأحاديث الرؤية ونحوها مما فيه إثبات الصفات فيقولون هذه تحتاج إلى التأويل كتلك وقد تبين استغناء كل من الصنفين عن التحريف وأن التفسير الذي به يعرف الصواب
(5/239)
قد ذكر ما يدل عليه في نفس الخطاب إما مقرونا به وإما في نص آخر
ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم وصراط مستقيم في النصوص لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب فنجد من ظهر له تناقض أقوال أهل الكلام والفلاسفة كأبي حامد وأمثاله ممن يظنون أن في طريقة التصفية نيل مطلوبهم يعولون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم فيقولون إن ما عرفته بنور بصيرتك فقرره وما لم تعرفه فأوله
ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق يقول ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله وإلا فلا
ثم المعتزلي والمتفلسف الذي يوافقه يقول إن العقل يمنع إثبات الصفات وإمكان الرؤية
ويقول المتفلسف الدهري إنه يمنع إثبات معاد الأبدان وإثبات أكل وشرب في الآخرة ونحو ذلك
فهؤلاء مع تناقضهم لا يجعلون الرسول نفسه نصيب في خطابه
(5/240)
دليلا يفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم
ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئا من معرفة صفات الله تعالى بل الرسول معزول عندهم عن الإخبرا بصفات الله تعالى نفيا وإثباتا وإنما ولايته عندهم في العمليات أو بعضها مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم
ثم يقولون مع ذلك إنه أخبرهم بكلام عن الله وعن اليوم الآخر صار ذلك الكلام سببا للشر بينهم والفتن والعداوة والبغضاء مع ما فيه عندهم من فساد العقل والدين فحقيقة أمرهم أنه أفسد دينهم ودنياهم وهذا مناقض لقولهم إنه أعقل الخلق وأكملهم أو من أعقلهم وأكملهم وأنه قصد العدل ومصلحة دنياهم
فهم مع قولهم المتضمن للكفر والإلحاد يقولون قولا مختلفا يؤفك عنه من أفك متناقض غاية التناقض فاسد غاية الفساد
وهذا ينكشف
(5/241)
الوجه الثامن والعشرين
وهو أن يقال حقيقة قول هؤلاء الذين يجوزون أن تعارض النصوص الإلهية النبوية بما يناقضها من آراء الرجال أن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية بل ولا يستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل فالإنسان لا يخلو من حالين وذلك لأن الإنسان إذا سمع خطاب الله ورسوله الذي يخبر فيه عن الغيب فإما أن يقدر أن له رأيا مخالفا للنص أو ليس له رأي يخالفه فإن كان عنده مما يسميه معقولا ما يناقض خبر الله ورسوله وكان معقوله هو المقدم قدم معقوله وألغى خبر الله ورسوله وكان حينئذ كل من اقتضى عقله مناقضة خبر من أخبار الله ورسوله قدم عقله على خبر الله ورسوله ولم يكن مستدلا بما أخبر الله به ورسوله على ثبوت مخبره بل ولم يستفد من خبر الله ورسوله فائدة علمية بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب إلا دلالة بعيدة ليصرف إليها اللفظ
(5/242)
ومعلوم أن المقصود بالخطاب الإفهام وهذا لم يستفد من الخطاب الإفهام فإن الحق لم يستفده من الخطاب بل من عقله والمعنى الذي دل عليه الخطاب الدلالة المعروفة لم يكن المقصود الخطاب إفهامه وذلك المعنى البعيد الذي صرف الخطاب إليه قد كان عالما بثبوته بدون الخطاب ولم يدله عليه الخطاب الدلالة المعروفة بل تعب تعبا عظيما حتى أمكنه احتمال الخطاب له مع أنه لا يعلم أن المخاطب أفاده بالخطاب فلم يكن في خطاب الله ورسوله على قول هؤلاء لا إفهام ولا بيان بل قولهم يقتضي أن خطاب الله ورسوله إنما أفاد تضليل الإنسان وإتعاب الأذهان والتفريق بين أهل الإيمان وحصول العداوة بينهم والشنآن وتمكين أهل الإلحاد والطغيان من الطعن في القرآن والإيمان
وأما إن لم يكن عنده ما يعارض النص مما يسمى رأيا ومعقولا وبرهانا ونحو ذلك فإنه لا يجزم بأنه ليس في عقول جميع الناس ما يناقض ذلك الخبر الذي أخبر الله به ورسوله
ومن المعلوم أن الدلالات التي تسمى عقليات ليس لها ضابط ولا هي منحصرة في نوع معين بل ما من أمة إلا ولهم ما يسمونه معقولات
واعتبر ذلك بأمتنا فإنه ما من مدة إلا وقد يبتدع بعض الناس بدعا يزعم أنها معقولات
(5/243)
ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم لا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص
ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم ومع هذا فكانوا قليلين مقموعين في الأمة
وأولهم الجعد بن درهم ضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط وقال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه
وإنما صار لهم ظهور وشوكة في أوائل المائة الثالثة لما قواهم من
(5/244)
قواهم من الخلفاء فامتحن الناس ودعاهم إلى قولهم ونصر الله الإيمان والسنة بمن أقامه من أئمة الهدى الذين جعلهم الله أئمة في الدين بما آتاهم الله من الصبر واليقين كما قال الله تعالى { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }
والمقصود هنا أن ما تذكره الجهمية نفاة الصفات من العقليات المناقضة للنصوص لم يكن معروفا عند الأمة إذ ذاك ولما ابتدعوه لم يسمعه أكثر الأمة
ثم قد وضعت الجهمية من المعتزلة وغيرهم من ذلك في الكتب ما شاء الله وأكثر المؤمنين لا يعلمون ذلك وما من أحد من النفاة إلا وقد يذكر على النفي من حججه العقلية ما لا يذكره الآخر ولا تجد طائفتين يتفقان على طريقة واحدة عقلية بل المعتزلة عمدتهم في النفي أن الصفات أعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم وعمدتهم في نفي الجسم كونه لا ينفك من الحوادث أو كونه مركبا من الأجزاء المفردة فهم يستدلون بالأكوان الأربعة التي للجسم وهي الإجتماع والإفتراق والحركة والسكون على حدوثه
وأما ابن كلاب وأتباعه فينازعونهم في أن الصفات لا تقوم إلا بمحدث ويسلمون لهم أن الأفعال ونحوها من الأمور الاختيارية لا
(5/245)
تقوم إلا بمحدث وكذلك الأشعري وأتباعه ينازعونهم في أن الصفات لا تقوم إلا بجسم وتوافقهم على أن الأفعال لا تقوم إلا بجسم
ومن أتباعهم المتفلسفة من نازعهم في أن الأفعال لا تقوم إلا بجسم
وطوائف غير هؤلاء من الهشامية والكرامية وغيرهم يسلمون لهم أن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم وينازعونهم في كون الجسم لا يخلو من الحوادث ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك وقد ينازعونهم في كون كل جسم مركبا من الأجزاء المنفردة
وهذه الطوائف وأمثالها من طوائف أهل الكلام من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم كلهم متفقون على أن الممكن لا يكون إلا جسما أو قائما بجسم ومتنازعون في الواجب
والمتفلسفة المشاءون الذين يثبتون ممكنا ليس بجسم ولا قائم بجسم يقولون إن الجسم الممكن قد يكون قديما أزليا أبديا تحله الحوادث والأعراض وأن الجسم الممكن لا ينفك من الحوادث وليس هو عندهم بمحدث وهو مركب كتركيب الأجسام وهو عندهم قديم أزلي فهذا عندهم لا ينافي القدم والأزلية وإنما ينفون ذلك عن واجب الوجود بناء على أن إثبات الصفات تركيب وواجب الوجود ليس بمركب
(5/246)
والتركيب الذي يعنيه هؤلاء أعم من التركيب الذي يعنيه أولئك فإن هؤلاء يزعمون أن هنا خمسة أنواع من التركيب يجب نفيها عن الواجب فيقولون ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق إذ لو كان له حقيقة سوى ذلك لكان مركبا من تلك الحقيقة
والوجود يثبتونه وجودا مطلقا بشرط الإطلاق أو بشرط النفي أو لا بشرط مع علم كل عاقل أن هذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان ويقولون ليس له صفة ثبوتية لا علم ولا قدرة إذ لو كان كذلك لكان مركبا من ذات وصفات
ثم يقولون هو عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق وهو ملتذ ومبتهج وملتذ به مبتهج به وذلك كله شيء واحد فيجعلون الصفة هي الموصوف وهذه الصفة هي الأخرى
ومعلوم أن هذا أكثر تناقضا من قول النصارى ويقولون لا يدخل هو وغيره تحت عموم لئلا يكون مركبا من صفة عامة وخاصة كتركيب النوع من الجنس والفصل أو من الخاصة والعرض العام مع أنهم يقولون الموجود ينقسم إلى واجب وممكن والواجب يتميز عن الممكن بما يختص به ويقولون ليس فوق العالم لأنه لو كان كذلك لكان له جانبان فيكون جسما مركبا من الأجزاء المفردة أو المادة والصورة
ثم أتباع هذه الطوائف يحدثون من الحجج العقلية على قول متبوعهم
(5/247)
ما لم تكن عند متبوعهم فيكونون بزعمهم قد تبين لهم من العقليات النافية ما لم يتبين لمتبوعهم
واعتبر ذلك بما تجده من الحجج لأبي الحسين البصري وأمثاله مما لم يسبقه إليها شيوخه وما تجده لأبي هاشم ولأبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد مما لم يسبقهم إليها شيوخهم
بل أبو المعالي الجويني ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد والاستواء
وليس للأشعري في ذلك قولان بل لم يتنازع الناقلون لمذهبه نفسه في أنه يثبت الصفات الخبرية التي في القرآن وليس في كتبه المعروفة إلا إثبات هذه الصفات وإبطال قول من نفاها وتأول النصوص وقد رد في كتبه على المعتزلة الذين ينفون صفة اليد والوجه والاستواء ويتأولون ذلك بالاستيلاء ما هو معروف في كتبه لمن يتبعه ولم ينقل عنه أحد نقيض ذلك ولا نقل أحد عنه في تأويل هذه الصفات قولين
ولكن لأتباعه فيها قولان فأما هو وأئمة أصحابه فمذهبهم إثبات هذه الصفات الخبرية وإبطال ما ينفيها من الحجج العقلية وإبطال تأويل نصوصها
(5/248)
وابو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات موافقة للمعتزلة والجهمية ثم لهم قولان أحدهما تأويل نصوصها وهو أول قولي أبي المعالي كما ذكره في الإرشاد والثاني تفويض معانيها إلى الرب وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في الرسالة النظامية وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب
ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول إن العقل الصريح نفى هذه الصفات ومنهم من يقف ويقول ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي لا على إثباتها ولا على نفيها وهي طريقة الرازي والآمدي
وابو حامد تارة يثبت الصفات العقلية متابعة للأشعري وأصحابه وتارة ينفيها أو يردها إلى العلم موافقة للمتفلسفة وتارة يقف وهو آخر أحواله ثم يعتصم بالسنة ويشتغل بالحديث وعلى ذلك مات
وكذلك أبو محمد بن حزم مع معرفته بالحديث وانتصاره
(5/249)
لطريقة داود وأمثاله من نفاة القياس أصحاب الظاهر قد بالغ في نفي الصفات وردها إلى العلم مع أنه لا يثبت علما هو صفة ويزعم أن أسماء الله كالعليم والقدير ونحوهما لا تدل على العلم والقدرة وينتسب إلى الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة ويدعي أن قوله هو قول أهل السنة والحديث ويذم الأشعري وأصحابه ذما عظيما ويدعي أنهم خرجوا عن مذهب السنة والحديث في الصفات
ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم وأمثاله في ذلك
ثم المتفلسفة الدهرية كالفارابي وابن سينا يزعمون أن العقل يحيل معاد الأبدان فيجب تقديم العقليات على دلالة السمع ويخاطبون من أقر بالمعاد من المعتزلة وموافقيهم في نفي ذلك بما تخاطب به المعتزلة المثبتة الصفات ويقولون لهم قولنا في نصوص المعاد كقولكم في نصوص الصفات
(5/250)
وهكذا خاطبت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرها لمتكلمة الإثبات في مسألة القدر وقالت القول في النصوص المثبتة للقدر وأن الله خالق أفعال العباد كالقول في نصوص الصفات
وبهذا أجاب من أجاب من المعتزلة والشيعة لهؤلاء فقالوا في الجواب عما يحتج به هؤلاء من الحجج السمعية على أن الله خالق أفعال العباد من جهة الجملة ومن جهة التفصيل
أما من جهة الجملة فمن وجوه
أحدها أنه إذا ثبت كونه تعالى عادلا لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب في حكمته وجب أن يكون للآيات التي يتعلقون بها وجوه لا تنافي ما ثبت من الدلالة وإن لم تعلم الوجوه على سبيل التفصيل
وقالوا هذا كما نقول نحن وهم في الآيات التي تتعلق بها المشبهة في كون الله تعالى جسما نحو قوله تعالى { بل يداه مبسوطتان } وما يجري مجري ذلك من الآيات التي يفيد ظاهرها التشبيه من أنه إذا ثبت أنه تعالى لا يشبه الأشياء وجب أن يكون لهذه الآيات وجوه تطابق أدلة العقول وإن لم نعلمها على سبيل التفصيل
فهذه الطريق التي سلكها هؤلاء القدرية هي الطريق التي سلكها من وافقهم على نفي الصفات أو بعضها من الجهمية كجهم بن
(5/251)
صفوان وحسين النجار وضرار بن عمرو وغيرهم فإن هؤلاء يثبتون القدر ويوافقون المعتزلة على نفي الصفات
ومن المعلوم أن الحجج العقلية التي يحتج بها المعتزلة والشيعة ليس لها ضابط بل قد سلك أبو الحسين البصري مسلكا خالف فيه شيوخه وادعى أن العلم بإحداثها ضروري
فهذا وأضعافه مما يبين أنه ليس لما يدعى من العقليات التي يقال إنها تناقض النصوص ضابط بل ذلك من باب الوساوس والخطرات التي لا تزال تحدث في النفوس
فإذا جوز المجوز أن يكون لبعض ما أخبر الله به ورسوله معقول صريح يناقضه ويقدم عليه لم يأمن أن يكون كل ما يسمعه من أخبار الله ورسوله من هذا الباب غيته أن يقول ليس عندي من العقليات ما يناقض ذلك أو لم أسمع أو لم أجد ونحو ذلك
وهذا القدر لا ينفي أن يكون في نفس الأمر قضايا عقلية لم تصل إليه بعد وإذا قال العقل لا ينفي ما أقر به
قيل له أتريد بذلك أنك لم تعلم معقولا ينافي ذلك أو تعلم أنه ليس يمكن أن يكون في المعقول ما ينافي ذلك إذا جوزت أن يكون في المعقول ما يناقض أخبار الرسول
فإن قلت بالأول لم ينفعك ذلك
وإن قلت بالثاني لم يكن كلامك صحيحا لأنك جوزت أن يكون في المعقول ما يناقض أخبار الرسول
(5/252)
ومع هذا فالجزم ينفي كل معقول جزم بلا علم بخلاف المؤمن بجميع ما أخبر الله به الذي يجزم بأنه ليس في المعقول ما يناقض منصوص الرسول فإن هذا قد علم ذلك علما يقينا عاما مطلقا
وإذا قال الذي يقر ببعض النصوص دون بعض المضاهي لمن آمن ببعض الكتاب دون بعض الذي نفيته يحيله العقل والذي أقررته لا يحيله العقل بل هو ممكن في العقل
قيل له أتعني بقولك لا يحيله العقل وهو ممكن في العقل الإمكان الذهني أو الخارجي
فإن عنيت الإمكان الذهني بمعنى أنه لم يقم دليل عقلي يحيله فهذا لا ينفي أن يكون في نفس الأمر ما يحيله ولم تعلمه
وإن عنيت به الإمكان الخارجي وهو أنك علمت بعقلك أنه يمكن ذلك في الخارج فهذا لا يتأتى لك في كثير من الأخبار
وهؤلاء الذين يدعون أنهم يقررون إمكان ذلك بالعقل يقول أحدهم هذا لو فرضناه لم يلزم منه محال كما يقول ذلك الآمدي ونحوه أو يقول هذا لا يفضي إلى قلب الأجناس ولا تجوير الرب ولا كذا ولا كذا فيعددون أنواعا محصورة من الممتناعات
ومعلوم أن نفي محالات معدودة لا يستلزم نفي كل محال
وقول القائل لو فرضناه لم يلزم منه محال إن أراد به لآ أعلم أنه يلزم منه محال لم ينفعه
(5/253)
وإن قال أعلم أنه لا يلزم منه محال فهو لم يذكر دليلا على هذا العلم فما الدليل على أنه علم أنه لا يلزم منه محال
فتبين أن من جوز على خبر الله أو خبر رسوله أن يناقضه شيء من المعقول الصريح لم يمكنه أن يصدق بعامة ما أخبر الله به ورسوله من الغيب لا سيما والأمور الغائبة ليس للمخبرين بها خبرة يمكنهم أن يعلموا بعقولهم ثبوت ما أخبر به أو انتقاء جميع ما تتخيله النفوس من المعارضات له
بل إذا كانت الأمور المشاهدة الحسية وما يبني عليها من العلوم العقلية قد وقع فيها شبهات كثيرة عقلية تعارض ما علم بالحس أو العقل وكثير من هذه الشبه السوفسطائية يعسر على كثير من الناس أو أكثرهم حلها وبيان وجه فسادها وإنما يعتصمون في ردها بأن هذا قدح فيما علم بالحس أو الضرورة فلا يستحق الجواب فيكون جوابهم عنها أنها معارضة للأمر المعلوم الذي لا ريب فيه فيعلم أنها باطلة من حيث الجملة وإن لم يذكر بطلانها على وجه التفصيل
ولو قال قائل هذه الأمور المعلومة لا تثبت إلا بالجواب عما يعارضها من الحجج السوفسطائية لم يثبت لأحد علم بشيء من الأشياء إذ لا نهاية لما يقوم بنفوس بعض الناس من الحجج السوفسطائية
فهكذا تصديق خبر الله ورسوله قد علم علما يقينيا أنه صدق
(5/254)
مطابق لمخبره وعلمنا بثبوت جميع ما أخبر به أعظم من علمنا بكل فرد فرد من علومنا الحسية والعقلية وإن كنا جازمين بجنس ذلك فإن حسنا وعقلنا قد يعرض له من الغلط ما يقدح في بعض إدراكاته كالشبه السوفسطائية
وأما خبر الله ورسوله فهو صدق موافق لما الأمر عليه في نفسه لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلا ولا مخالفا لما هو الأمر عليه في نفسه ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئا من أخباره وناقضه فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية وإن كان العالم بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره
وهذه حال المؤمنين للرسول الذين علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح لا عقلي ولا سمعي وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها عقليات أو برهانيات أو وجديات أو ذوقيات أو مخاطبات أو مكاشفات أو مشاهدات أو نحو ذلك من الأمور الدهاشات أو يسمون ذلك تحقيقا أو توحيدا أو عرفانا أو حكمة حقيقية أو فلسفة أو معارف يقينية ونحو ذلك من الأسماء التي يسميها بها أصحابها فنحن نعلم علما يقينيا لا يحتمل النقيض أن تلك جهليات
(5/255)
وضلالات وخيالات وشبهات مكذوبات وحجج سوفسطائية وأوهام فاسدة وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسماها بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأربابا وتسمية مسيلمة الكذاب وأمثاله أنبياء { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى }
والمقصود أنه من جوز أن يكون فيما علمه بحسه وعقله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من علمه ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من ذلك
فهكذا من جوز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من خبر الله ورسوله ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله
ولهذا كان هؤلاء المعرضين عن الكتاب المعارضين له سوفسطائية منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه وينتهون في أدلتهم العقلية إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية
ثم إن فضلاءهم يتفطنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب
(5/256)
وإذا كان قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التصديق الجازم بما أخبر به الرسول حق واجب وطريق هؤلاء تناقضه علم بالضرورة من دين الإسلام أن طريق هؤلاء فاسدة في دين الإسلام وهذه هي طريقة أهل الإلحاد في أسماء الله وآياته
وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين بل يفيد الشك والحيرة علم أنها فاسدة في العقل كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع
وهذا كله بين لمن تدبره والأمر فوق ما أصفه وأبينه وهذا الموضع لا يحتمل البسط والإطناب ولا ريب أن موجب الشرع أن من سلك هذه السبيل فإنه بعد قيام الحجة عليه كافر بما جاء به الرسول
ولهذا كان السلف والأئمة يتكلمون في تكفير الجهمية النفاة بما لا يتكلمون به في تكفير غيرهم من أهل الأهواء والبدع وذلك لأن الإيمان إيمان بالله وإيمان للرسول فإن الرسول أخبر عن الله بما أخبر به من أسماء الله وصفاته ففي الإيمان خبر ومخبر به فالإيمان للرسول تصديق خبره والإيمان بما أخبر به والإقرار بذلك والتصديق به
ولهذا كان من الناس من يجعل الكفر بإزاء المخبر به كجحد الخالق وصفاته ومنهم من يجعله بإزاء الخبر وهو تكذيب الرسول
وكلا الأمرين حق فإن الإيمان والكفر يتعلق بهذا وبهذا وكلام
(5/257)
الجهمية نفاة الصفات مناقض لحبر الرسول الصادق ونفي لما هو ثابت لله من صفات كماله
ومما يوضح الأمر في ذلك أنك لا تجد من سلك هذه السبيل وجوز على الأدلة السمعية أن يعارضها معقول صريح ينافيها إلا وعنده ريب في جنس خبر الله ورسوله وليس لكلام الله ورسوله في قلبه من الحرمة ما يوجب تحقيق مضمون ذلك فعلم أن هذا طريق إلحاد ونفاق لا طريق علم وإيمان
ونحن نبين فساد طريق هؤلاء بالطرق الإيمانية والقرآنية تارة وبالأدلة التي يمكن أن يعقلها من لا يستدل بالقرآن والإيمان
وذلك لأنا في مقام المخاطبة لمن يقر بأن ما أخبر به الرسول حق ولكن قد يعارض ما جاء عنه عقليات يجب بقديمها عليه وإذا كنا في مقام بيان فساد ما يعارضون به من العقليات على وجه التفصيل فذلك ولله الحمد هو عينا من أيسر الأمور
ونحن ولله الحمد قد تبين لنا بيانا لا يحتمل النقيض فساد الحجج المعروفة للفلاسفة والجهمية والقدرية ونحوهم التي يعارضون بها كتاب الله وعلمنا بالعقل الصريح فساد أعظم ما يعتمدون عليه من ذلك وهذا ولله الحمد مما زادنا الله به هدى وإيمانا فإن فساد المعارض مما يؤيد معرفة الحق ويقويه وكل من كان أعرف بفساد الباطل كان أعرف بصحة الحق
(5/258)
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف يالجاهلية
وهذا حال كثير ممن نشأ في عافية الإسلام وما عرف ما يعارضه ليتبين له فساده فإنه لا يكون في قلبه من تعظيم الإسلام مثل ما في قلب من عرف الضدين
ومن الكلام السائر الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتبين الأشياء
والاعتبار والقياس نوعان قياس الطرد وقياس العكس فقياس الطرد اعتبار الشيء بنظيره حتى يجعل حكمه مثل حكمه وقياس العكس اعتبار الشيء بنقيضه حتى يعلم أن حكمه نقيض حكمه
وقوله تعالى { فاعتبروا يا أولي الأبصار } يتناول الأمرين فيعتبر العاقل بتعذيب الله لمن كذب رسله كما فعل ببني النضير حتى يرغب في نقيض ذلك ويرهب من نظير ذلك فيستعمل قياس الطرد في الرهبة وقياس العكس في الرغبة
ومن أمثلة قياس العكس قياس من يحتج على أن الوتر ليس بواجب فإنه يفعل على الراحلة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم
(5/259)
والواجبات لا تفعل على الراحلة والنوافل تفعل على الراحلة فلما كان مفعولا على الراحلة كان حكمه عكس حكم الفرائض ونقيض حكم الفرائض ومثل حكم النوافل فيقاس بالواجبات قياس العكس وبالنوافل قياس الطرد
وكذلك إذا قيل دم السمك طاهر لأنه لو كان نجسا لوجب سفحه بالتذكية لأن الدماء النجسة يجب سفحها بالتذكية فلما لم يجب سفحه كان حكمه نقيض حكمها وكان ملحقا بالرطوبات الطاهرة التي لا تسفح
وفي الحقيقة فكل قياس يجتمع فيه قياس الطرد والعكس فقياس الطرد هو الجمع والتسوية بينه وبين نظيره وقياس العكس هو الفرق والمخالفة بينه وبين مخالفة فالقايس المعتبر ينظر في الشيء فيلحقه بما يماثله لا بما يخالفه ويبين له حكمه في اعتباره بهذا وهذا
والمقصود هنا أن معرفة ما يعارض الكتاب والمرسلين كنبوة مسيلمة ونحوه من الكذابين وأقاويل أهل الإلحاد الذين يعارضون بعقولهم وذوقهم ما جاء به الرسول كلما ازداد العارف معرفة بها وبما جاء به الرسول تبين له صدق ما جاء به الرسول وبيانه وبرهانه وبطلان هذه وفسادها وكذبها كما إذا قدر مفتيان أو قاضيان أو محدثان أحدهما يتكلم بعلم وعدل والآخر بجهل وظلم فإنه كلما اعتبرت أحدهما بالآخر ظهرت
(5/260)
الحقيقة الفارقة بينهما وكذلك الصانعان اللذان أحدهما قادر ناصح والآخر عاجز غاش وكذلك التاجران اللذان أحدهما صادق أمين والآخر كاذب خؤون وكذلك المتوليان اللذان أحدهما قوى أمين والآخر عاجز خائن وأمثال ذلك
فنحن ولله الحمد قد تبين لنا من فساد الأقاويل المعارضة لقول الرسول ما ليس هذا المقام مقام تفصيله فإنه يحتاج أن نتكلم في كل مسألة من مسائل الدين ونستوفي حجج المبطلين فيها ونتبين فسادها وليس هذا موضع استيفاء ذلك
وإنما المقصود بيان فساد القانون الزائغ الذي يقدمون به مذاهبهم المبتدعة على المنصوص من كلام الله ورسوله وهم قد وضعوا عبارات مجملة مشتبهة لبسوا بها على كثير ممن عنده إيمان بالله ورسوله من كبار أهل العلم والدين وأولئك لم يعرفوا حقيقة ما في تلك الأقوال من الإلحاد فقبلوها ممن ابتدعها من أهل النفاق
كما قال الله تعالى عن المنافقين { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } بين سبحانه أن المنافقين لو خرجوا في غزوة ما زادوا المؤمنين إلا خبالا ولأوضعوا أي أسرعوا خلالهم أي بينهم يطلبون لهم الفتنة وفي المؤمنين من يقبل منهم وهم السماعون لهم أي يستجيبون لهم ليس المراد من ينقل الأخبار إليهم كما يظنه بعض الناس
بل هذا نظير قوله { سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك }
(5/261)
أي يسمعون الكذب فيقبلونه ويصدقونه ويسمعون لقوم آخرين لم يأتوك فيستجيبون لهم فبين أنهم يصدقون الكذب ويستجيبون لمن يخالف الرسول
وأما من ظن أن المراد بقوله { سماعون لهم } أنهم جواسيس لمن غاب وأخذ حكم الجاسوس من هذه الآية فقد غلط فإن ما كان يظهره النبي صلى الله عليه وسلم حتى يسمعه المنافقون واليهود لم يكن مما يكتمه حتى يكون نقله جسا عليه وإنما المراد أنهم سماعون الكذب أي يصدقون به سماعون أي مستجيبون لقوم آخرين مخالفين للرسول وهذه حالة كل من خرج عن الكتاب والسنة فإنه لابد أن يصدق الكذب فيكون من السماعين للكذب ولابد أن يستجيب لغير الله والرسول فيكون سماعا لقوم آخرين لم يتبعوا الرسول
وهؤلاء لهم نصيب من قوله تعالى { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا { لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } وقوله { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } فتبين أن أصل طريق من يعارض [ النصوص ] النبوية برأيه
(5/262)
وعقله هي طريق أهل النفاق والإلحاد وطريق أهل الجهل والارتياب لا طريق ذي عقل ولا ذي دين
كما قال تعالى { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير }
وقال تعالى { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير }
فإنه قد يقال هذه حال كل من عارض آيات الله بمعقوله فإنه لا علم عنده إذ ذلك المعارض وإن سماه معقولا فإنه جهل وضلال فليس بعلم ولا عقل ولا هدى إذ لا إيمان عنده ليكون مهتديا فإن المهتدين الذين على هدى من ربهم هم مؤمنون بما جاء به الرسول ولا كتاب منير فإن الكتاب المنير لا يناقض كتاب الله
وهؤلاء المعارضون ليس عندهم لا علم ولا إيمان ولا قرآن فهم يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
واسم العلم يتناول هذا وهذا لكن هو من باب عطف الخاص على العام ولهذا ذكر تارة وحذف أخرى
وذلك أنه قد يقال إنه سبحانه ذكر ثلاثة أصناف صنف يجادل
(5/263)
في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد مكتوب عليه إضلال من تولاه وهذه حال المتبع لمن يضله
وصنف يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله وهذه حال المتبوع المستكبر الضال عن سبيل الله
ثم ذكر حال من يعبد الله على حرف وهذه حال المتبع لهواه الذي إن حصل له ما يهواه من الدنيا عبد الله وإن أصابه ما يمتحن به في دنياه ارتد عن دينه فهذه حال من كان مريضا في إرادته وقصده وهي حال أهل الشهوات والأهواء
ولهذا ذكر الله ذلك في العبادة التي أصلها القصد والإرادة وأما الأولان فحال الضال والمضل وذلك مرض في العلم والمعرفة وهي حال أهل الشبهات والنظر الفاسد والجدال بالباطل فإنه تعالى يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ولا بد للعبد من معرفة الحق وقصده
كما قال { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فمن لم يعرفه كان ضالا ومن علم ولم يتبعه كان مغضوبا عليه
كما أن أول الخير الهدى ومنتهاه الرحمة والرضوان فذكر سبحانه ما
(5/264)
يعرض في العلم من الضلال والإضلال وما يعرض في الإرادة من اتباع الأهواء كما جمع بينهما في قوله { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى }
فقال أولا { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } وكل من جادل في الله بغير هدى ولا كتاب منير فقد جادل بغير علم أيضا فنفي العلم يقتضي نفي كل ما يكون علما بأي طريق حصل وذلك ينفي أن يكون مجادلا بهدي أو كتاب منير لكن هذه حال الضال المتبع لمن يضله فلم يحتج إلى تفصيل فبين أنه يجادل بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب على ذلك الشيطان أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير
وهذه حال مقلد أئمة الضلال بين [ أهل ] الكتاب وأهل البدع فإنهم يجادلون في الله بغير علم ويتبعون من شياطين الجن والإنس من يضلهم
ثم ذكر حال المتبوع الذي يثنى عطفيه تكبرا كما قال { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها } وقال { فلا صدق ولا صلى } ولكن كذب وتولى { ثم ذهب إلى أهله يتمطى }
وهذا النوع يجادل ليضل عن سبيل الله وجداله بغير علم أيضا ولكن فصل حاله فبين أنه لا يجادل بهدى كإيمان المؤمن ولا بكتاب
(5/265)
منير كالجدال بكتاب منزل من السماء فليس معه علم من هذا الطريق ولا من غيرها
كما قال تعالى { فلا صدق ولا صلى } وكل من لم يصدق لم يصل
وقال تعالى { لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين }
وقال تعالى { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين }
ومثل هذا كثير قد ينفى الشيء الذي نفيه يستلزم نفي غيره لكن تذكر تلك اللوازم على سبيل التصريح للفرق بين دلالة اللوازم ودلالة المطابقة كما قد ذكرنا نحو ذلك في قوله { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق } وأن كل من لبس بالباطل فلا بد أن يكتم بعض الحق وبينا أن هذا ليس من باب النهي عن المجموع المقتضى لجواز أحدهما ولا من باب النهي عن فعلين متباينين حتى لا يعاد فيه حرف النفي بل هو من باب النهي عن المتلازمات كما يقال لا تكفر وتكذب بالرسول ولا تجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
والمقصود أن كل من عارض كتاب الله بمعقوله أو وجده أو ذوقه
(5/266)
وناظر على ذلك فقد جادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ليضل عن سبيل الله فإن كتاب الله هو سبيل الله
ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الصراط المستقيم بكتاب الله وفسره بالإسلام كلاهما مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع من فوق الصراط وداع على رأس الصراط فالصراط المستقيم هو الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم فإذا أراد العبد أن يفتح بابا من تلك الأبواب دعاه الداعي يا عبد الله لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه
ومن المعلوم أن من أعظم المحارم معارضة كتاب الله بما يناقضه ويقدم ذلك عليه
وفي حديث علي رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وأبو نعيم من عدة
(5/267)
طرق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها ستكون فتن قلت فما المخرج منها يا رسول [ الله ] فقال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيع به الأهواء ولا تختلف به الآراء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا تشبع منه العلماء من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم
وبسط الكلام على مثل هذا يطول جدا وإنما نبهنا هنا على أصله الوجه التاسع والعشرون
أن يقال العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين لزم من وجود الملزوم وجود اللازم ومن نفي اللازم نفى الملزوم فكيف إذا كان التلازم من الجانبين
(5/268)
فإن هذا التلازم يستلزم أربع نتائج فيلزم من ثبوت هذا اللازم ثبوت هذا ومن نفيه نفيه ومن ثبوت الملازم الآخر ثبوت ذلك ومن نفيه نفيه
وهذا هو الذي يسميه المنطقيون الشرطي المتصل ويقولون استثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم فإذا كان التلازم من الجانبين كان استثناء عين كل من المتلازمين ينتج عين الآخر واستثناء نقيض كل منهما ينتج نقيض الآخر
وبيان ذلك هاهنا أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عرف صحة الشرع كما قد ذكروا هم ذلك وقد تقدم أنه ليس المراد بكونه أصلا له أنه أصل في ثبوته في نفسه وصدقه في ذاته بل هو أصل في علمنا به أي دليل لنا على صحته
فإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده وهو ملزوم للمدلول عليه فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه ولا يجب عكسه فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه
وهذا كالمخلوقات فإنها آية للخالق فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق ولا يلزم من وجود الخالق وجودها
(5/269)
وكذلك الآيات الدالات على نبوة النبي وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالة على بعض الأحكام يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم ولا يلزم من عدمها عدمه إذ قد يكون الحكم معلوما بدليل آخر اللهم إلا أن يكون الدليل لازما للمدلول عليه فيلزم من عدم اللازم عدم الملزوم وإذا كان لازما له أمكن أن يكون مدلولا له إذ المتلازمان يمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلا بدليل شرعي فإنه يلزم من عدم دليله عدمه
وكذلك ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله إذا لم ينقل لزم من عدم نقله عدمه ونقله دليل عليه وإذا كان من المعقول ما هو دليل على صحة الشرع لزم من ثبوت ذلك المعقول ثبوت الشرع ولم يلزم من ثبوت الشرع ثبوته في نفس الأمر
لكن نحن إذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بصحة الشرع إلا ذلك العقل لزم من علمنا بالشرع علمنا بدليله العقلي الدال عليه ولزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا به فإن العلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول عليه
وهذا هو معنى كون النظر يفيد العلم وهذا التلازم فيه قولان قيل إنه بطريق العادة التي يمكن خرقها وقيل بطريق اللزوم الذاتي الذي لا يمكن انفصاله كاستلزام العلم للحياة والصفة لموصوف ما وكاستلزام جنس العرض لجنس الجوهر لامتناع ثبوت صفة وعرض بدون موصوف وجوهر
والمقصود هنا أنه إذا كان صحة الشرع لا تعلم إلا بدليل عقلي فإنه
(5/270)
يلزم من علمنا بصحة الشرع علمنا بالدليل العقلي الدال عليه ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا بصحة الشرع
وهكذا الأمر في كل ما لا يعلم إلا بالدليل ويلزم أيضا من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر ثبوت الشرع ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل
وإذا كان العلم بصحة الشرع لازما للعلم بالمعقول الدال عليه وملزوما له ولازما لثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر كما أن ثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر مستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر فمن الممتنع تناقض اللازم والملزوم فضلا عن تعارض المتلازمين فإن المتعارضين هما المتنافيان اللذان يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر كالضدين والنقيضين
والمتلازمان يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه فكيف يمكن أن يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين أو متضادين
ولفظ التنافي والتضاد والتناقض والتعارض ألفاظ متقاربة في أصل اللغة وإن كانت تختلف فيها الاصطلاحات فكل مضاد فهو مستلزم للتناقض اللغوي
ولهذا يسمى أهل اللغة أحد الضدين نقيض الآخر وكل تعارض فهو
(5/271)
مستلزم للتناقض اللغوي لأن أحد الضدين ينقض الآخر أي يلزم من ثبوته عدم الآخر كما يلزم من ثبوت السواد انتفاء البياض
والنقيضان في اصطلاح كثير من أهل النظر هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان والضدان لا يجتمعان لكن قد يرتفعان
وفي اصطلاح آخرين منهم هما النفي والإثبات فقط كقولك إما أن يكون وإما أن لا يكون
ولهذا يقولون التناقض اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى فالتناقض في عرف أولئك أعم منه في عرف هؤلاء فان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان قد يكونان ثبوتيين وقد يكونان عدميين وقد يكونان ثبوتا وانتفاء ولو كان أحدهما وجودا والآخر عدما فقد يعبر عنهما بصيغة الإثبات التي لا تدل بنفسها على التناقض الخاص كما إذا قيل للموجود إما أن يكون قائما بنفسه وإما أن يكون قائما بغيره وإما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا بنفسه وإما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا ونحو ذلك فمن المعلوم أن تقسيم الموجود إلى قائم بنفسه وغيره وواجب وممكن وقديم ومحدث تقسيم حاصر كتقسيم المعلوم إلى الثابت والمنفي
(5/272)
وهذان القسمان لا يجتمعان ولا يرتفعان كما أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان وأما أهل اللغة فالنقيضان عندهم أعم من هذا كله كالمتنافيين فكل ما نفى أحدهما الآخر فقد نقضه وأزاله وأبطله فيسمونه نقيضه
وللمتفلسفة المشائين اصطلاح أخر في المتقابلين في السلب و الايجاب يسمونه تقابل العدم والملكة وهو نفي الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كنفي السمع والبصر والكلام عن الحيوان فإنه يسمى عمى وصمما وبكما لأن الحيوان يقبل هذا وهذا بخلاف 0 نفى ذلك عن الجماد كالجدار فانه لا يسمى في اصطلاحهم عمى ولا صمما ولا بكما لأن الجدار لا يقبل ذلك
ثم إنهم تذرعوا بذلك إلى سلب النقيضين عن الخالق تعالى فاحتج السلف والأئمة وأهل الإثبات بأن الخالق سبحانه لو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام ونحو ذلك من صفات الكمال لوجب أن يوصف بما يقابل ذلك من الصمم والعمى والبكم ونحو ذلك من صفات النقص
فقال لهم هؤلاء العمى والبصر والبكم ( والكلام ) متقابلان تقابل العدم والملكه مهم وهو سلب الشيء عما من شأنه أن ( يكون ) قابلا له كالحيوان فأما مالا يقبل ذلك كالجماد فلا يوصف بعمى ولا ( بصر ولا كلام ) ولا بكم ولا سمع ولا صمم ولا حياة ولا موت والجواب عن هذا من وجوه
(5/273)
أحدها أن يقال هذا اصطلاح لكم وإلا فما ليس بحي يسمى ميتا كما قال تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء } وقال تعالى { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } وقال { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } والثاني أن مالا يقبل صفات الكمال أنقص مما يقبلها ولم يتصف بها فان الجماد أنقص من الحيوان الأعمى الأصم الأبكم فإذا كان اتصافه بصفات النقص مع إمكان اتصافه بصفات الكمال نقصا وعيبا يجب تنزيهه عنه فعدم قبوله لصفات الكمال أعظم نقصا وعيبا ولهذا كان منتهى أمر هؤلاء تشبيهه بالجمادات ثم بالمعدومات ثم بالممتنعات
الثالث أن النفس عدم الحياة والعلم والقدرة نقص لكل ما عدم عنه ذلك سواء فرض قابلا أو غير قابل بل ما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله كما أن نفس الحياة والعلم والقدرة صفات كمال فنفس وجود هذه الصفات كمال ونفس عدمها نقص سواء سمى موتا وجهلا وعجزا أو لم يسم وكذلك السمع والبصر والكلام كمال وعدم ذلك نقص وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع بسطا لا يليق بهذا الموضع
(5/274)
وإذا تبين أن الدليل العقلي الذي به يعلم صحة الشرع مستلزم للعلم بصحة الشرع ومستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر وعلمنا الشرع يستلزم العلم بالدليل العقلي الذي قيل إنه أصل للشرع وإن العلم بصحة الشرع موقوف عليه وليس ثبوت الشرع في نفسه مستلزما لثبوت ذلك الدليل العقلي في نفس الأمر علم أن ثبوت الشرع في نفس الأمر أقوى من ثبوت دليله العقلي في نفس الأمر وأن ثبوت الشرع في علمنا أقوى من ثبوت دليله العقلي إن قيل إنه ممكن أن تعلم صحته بغير ذلك الدليل وإلا كان العلم بهذا والعلم بهذا متلازمين
وإذا كان كذلك كان القدح في الشرع قدحا في دليله العقلي الدال على صحته بخلاف العكس فكان القدح في الشرع قدحا في هذا العقل وليس القدح في هذا العقل مستلزما للقدح في الشرع مطلقا وأما ما سوى المعقول الدال على صحة الشرع فذلك لا يلزم من بطلانه بطلان الشرع كما لا يلزم من صحته صحة الشرع
فتبين أنه ليس في المعقولات ما يجب تقديمه على الشرع لكونه أصلا للشرع لأن المقدم عليه ان لم يكن هو المعقول الدال عليه فليس هو أصلا له فلا يجب تقديمه عليه بهذا الاعتبار وان كان هو المعقول الدال عليه امتنع أن يكون صحيحا مع بطلان الشرع لأن صحته مستلزمة لصحة الشرع وإلا لم يكن دليلا عليه
وثبوت الملزوم بدون اللازم محال فمن قدم العقل على الشرع فقد
(5/275)
قدح في العقل والشرع جميعا وهو حال الذين قالوا ( لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير )
وإذا قال القائل ونحن إنما قدحنا في القدر الذي خالف العقل من الشرع لم نقدح في كل الشرع
قيل ومن قدم الشرع إنما قدح في ذلك القدر مما يقال إنه عقل لم يقدح في كل عقل ولا في العقل الذي هو أصل يعلم به صحة الشرع وإنما قلنا مما يقال إنه عقل لأنه ليس بمعقول صحيح وإن سماه أصحابه معقولا
فإن من خالف الرسل عليهم الصلاة والسلام ليس معه لا عقل صريح ولا نقل صحيح وإنما غايته أن يتمسك بشبهات عقلية أو نقلية كما يتمسك المشركون والصابئون من الفلاسفة وغيرهم بشبهات عقلية فاسدة وكما يتمسك أهل الكتاب المبدل المنسوخ بشبهات نقلية فاسدة
قال الله تعالى { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات }
وقال تعالى { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }
ولهذا كان من قدم العقل على الشرع لزمه بطلان العقل والشرع ومن قدم الشرع لم يلزمه بطلان الشرع بل سلم له الشرع
(5/276)
ومعلوم أن سلامة الشرع للإنسان خير له من أن يبطل عليه العقل والشرع جميعا وذلك لأن القائل الذي قال العقل أصل الشرع به علمت صحته فلو قدمنا عليه الشرع للزم القدح في أصل الشرع يقال له ليس المراد بكونه أصلا له أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر بل هو أصل في علمنا به لكونه دليلا لنا على صحة الشرع
ومعلوم أن الدليل مستلزم لصحة المدلول عليه فإذا قدر بطلان المدلول عليه لزم بطلان الدليل فإذا قدر عند التعارض أن يكون العقل راجحا والشرع مرجوحا بحيث لا يكون خبره مطابقا لمخبره لزم أن يكون الشرع باطلا فيكون العقل الذي دل عليه باطلا لأن الدليل مستلزم للمدلول عليه فإذا انتفى المدلول اللازم وجب انتفاء الدليل الملزوم قطعا ولهذا يمتنع أن يقوم دليل صحيح على باطل بل حيث كان المدلول باطلا لم يكن الدليل عليه إلا باطلا
أما إذا قدم الشرع كان المقدم له قد ظفر بالشرع ولو قدر مع ذلك بطلان الدليل العقلي لكان غايته أن يكون الإنسان قد صدق بالشرع بلا دليل عقلي وهذا مما ينتفع به الإنسان بخلاف من لم يبق عنده لا عقل ولا شرع فإن هذا قد خسر الدنيا والآخرة فكيف والشرع يمتنع أن يتناقض العقل المستلزم لصحته وإنما يتناقض شيئا آخر ليس هو دليل صحته بل ولا يكون صحيحا في نفس الأمر
(5/277)
وأيضا فلو قدر أنه ناقض دليلا خاصا عقليا يدل على صحته فالأدلة العقلية الدالة على صحة الشرع متنوعة متعددة فلا يلزم من بطلان واحد منها بطلان غيره بخلاف الشرع المدلول عليه فانه إذا قدر بطلانه لزم بطلان جميع ما يدل عليه من المعقولات
وأيضا فإن هؤلاء المعارضين للشرع بالعقل هم يدعون في معقولات معينة أنهم عرفوا بها الشرع كدعوى الجهمية و المعتزلة ومن وافقهم أن الشرع إنما تعلم صحته بالدليل الدال على حدوث الأجسام المبني على أن الأجسام مستلزمة للأعراض والأعراض حادثة لامتناع حوادث لا أول لها
وهذا الدليل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العلم بصدق الرسول ليس موقوفا عليه لأن الذين آمنوا بالله ورسوله وشهد لهم القرآن بالايمان من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم باحسان لم يستدلوا على صدق الرسول بهذا الدليل
وحينئذ فلو قدر أن هذا الدليل صحيح لم يلزم من عدم الاستدلال به بطلان الإيمان بالرسول بل يمكن الاستدلال على صدق الرسول بالأدلة الأخرى كالأدلة التي استدل بها السلف وجماهير الأمة
وحينئذ فإذا قدر أن هذا المعقول المعين مناقض لخبر الرسول لم يلزم من تقديم خبر الرسول عليه القدح في أصل السمع الذي لا يعلم إلا به فكيف إذا كان هذا الدليل باطلا
(5/278)
فإنه حينئذ لا يجوز أن يعتمد عليه في إثبات شيء ولا نفيه فثبت أنه على كل تقدير لا يجب تقديمه على الشرع
ومن زعم من أهل الكلام أنه لا طريق إلى معرفة الصانع وصدق رسوله إلا هذا فإنه من أجهل الناس شرعا وعقلا
وأما الشرع فقد علم أن السابقين الأولين لم يستدلوا به وأما العقل فإن قول القائل إنه لا دليل إلا هذا قضية كلية سالبة وشهادة على النفي العام وأنه ليس لأحد من بني آدم علم يعلم به صدق الرسول إلا هذا وهذا مما لم يقيموا عليه دليلا بل لا يمكن أحد العلم بهذا النفي لو كان حقا فكيف إذا كان باطلا
وكذلك جميع ما يعارضون به الشرع من العقليات فإنها لا تخلو من أمرين إن كانت صحيحة فلم ( تصح ) الدلالة في ذلك المسلك العقلي ولا يلزم من بطلانه بطلان دليل الشرع إذا كان للشرع أدلة عقلية تدل عليه غير ذلك المعين العقلي وان كانت باطلة فهي من العقليات الباطلة وليست أصلا للشرع فيجب أن يعرف معنى كون العقل أصلا للشرع أن المراد به أنه دليل
ونحن قد بينا أن كل ما عارض الشرع من العقليات فليس هو دليلا صحيحا فضلا عن أن يكون هو الدليل على صحة الشرع ولكن قبل أن نبين ذلك نقول معلوم أنه لا ينحصر الدال على صحة الشرع
(5/279)
في دليل عقلي خاص بل غيره من الأدلة العقلية يدل على الشرع وحينئذ فلا يلزم من بطلان ذلك الدليل العقلي بطلان أصل الشرع فكيف إذا كان ذلك الدليل باطلا فإن قيل نحن إذا قدمنا العقل لم يبطل الشرع بل نفوضه أو نتأوله
قيل إن لم يكن الشرع دالا على نقيض ما سميتموه معقولا فليس هو محل النزاع وإن كان الشرع دالا فتفويضه تعطيل لدلالة الشرع وذلك إبطال له وإذا دل الشرع على شيء فالإعراض عن دلالته كالإعراض عن دلالة العقل
فلو قال القائل أنا قد علمت مراد الشارع وأما المعقول فأفوضه لأني لم أفهم صحته ولا بطلانه فما أنا جازم بمخالفته لما دل عليه الشرع وقد رأيت المدعين للمعقولات مختلفين فما أنا واثق بهذا المعقول المناقض للشرع كان هذا أقرب من قول من يقول إن الله ورسوله لم يبين الحق بل تكلم بباطل يدل على الكفر ولم يبين مراده فان المقدم للمعقول عند التعارض لا بد أن يقول إن الشرع يدل على خلاف العقل إما نصا وإما ظاهرا
وإلا فإذا لم يكن له دلالة بحال تخالف العقل امتنعت المعارضة وحينئذ فحقيقة قوله إن الله ورسوله أظهر ما هو باطل وضلال
(5/280)
وكفر ومحال ولم يبين الحق ولا هدى الخلق وإنما الخلق عرفوا الحق بعقولهم
والمقدم للشرع يقول إن الله ورسوله بين المراد وهدي العباد وأظهر سبيل الرشاد ولكن هؤلاء المخالفون له ضلوا وأضلوا وهم الذين قال الله فيهم { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } فأنا أطعن فيما خالفوا به الرسول ونبذوا به كتاب الله وراء ظهورهم وخالفوا به الكتاب والسنة والإجماع لا أطعن في العقليات الصحيحة الصريحة الدالة على أن الرسول صادق بلغ البلاغ المبين فإن هذه المعقولات يمتنع معها أن يكون الرسول هو الرسول الذي وصفوه
فهذا القائل قد صدق بالمعقول الصريح والمنقول الصحيح وصدق بموجب الأدلة العقلية والنقلية
وأما ذاك القائل فإنه لم يتقبل بموجب الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وتبليغه وبيانه وهداه للخلق ولا قام بموجب الدليل الشرعي الذي دل عليه ما دل عليه نصا أو ظاهرا بل طعن في دلالة الشرع وفي دلالة العقل الذي يدل على صحة الشرع
فتبين أن ذلك المقدم للشرع هو المتبع للشرع وللعقل الصحيح دون هذا الذي ليس معه لا سمع ولا عقل
ومما يوضح هذا أن ما به عرف صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى وأنه لا يكون فيه كذب ولا خطأ يدل على
(5/281)
ثبوت ذلك كله لا يميز بين خبر وخبر بل الدليل الدال على صدقه يقتضي ثبوت جميع ما أخبر به وإذا كان ذلك الدليل عقليا فهذا الدليل العقلي يمنع ثبوت بعض أخباره دون بعض فمن أقر ببعض ما أخبر به الرسول دون بعض فقد أبطل الدليل العقلي الدال على صدق [ الرسول وقد ] أبطل الشرع فلم يبق معه لا عقل ولا شرع
وهذا حال من آمن ببعض الكتاب دون بعض قال تعالى { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا }
ولا ريب أن [ من ] قدم على كلام الله ورسوله ما يعارضه من معقول أو غيره وترك ما يلزمه من الإيمان به كما آمن بما يناقضه فقد آمن ببعض وكفر ببعض
وهذا حقيقة حال أهل البدع كما في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية لأحمد بن حنبل وغيره من وصفهم بأنهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب
وقوله مختلفون في الكتاب يتضمن الاختلاف المذموم
(5/282)
المذكور في قوله تعالى { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد }
وأما الاختلاف المذكور في قوله تعالى { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } فهذا الاختلاف يحمد فيه المؤمنون ويذم فيه الكافرون
وأما الاختلاف في الكتاب الذي يذم فيه المختلفون كلهم فمثل أن يؤمن هؤلاء ببعض دون [ بعض ] وهؤلاء ببعض دون بعض كاختلاف اليهود والنصارى وكاختلاف الثنتين وسبعين فرقة
وهذا هو الاختلاف المذكور في قوله تعالى { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } وفي قوله تعالى { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء } فأغرى بينهم العداوة والبغض بسبب ما تركوه من الإيمان بما أنزل عليهم
(5/283)
وهذا هو الوصف الثاني فيما تقدم من قول أحمد مخالفون للكتاب فإن كلا منهم يخالف الكتاب
وأما قوله بأنهم متفقون على مخالفة الكتاب فهذا إشارة إلى تقديم غير الكتاب على الكتاب كتقديم معقولهم وأذواقهم وآرائهم ونحو ذلك على الكتاب فإن هذا اتفاق منهم على مخالفة الكتاب
ومتى تركوا الاعتصام بالكتاب والسنة فلابد أن يختلفوا فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزل من السماء كما قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
وكما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها }
(5/284)
ومن العجائب أنك تجد أكثر الغلاة في عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم أبعد الطوائف عن تصديق خبره وطاعة مره وذلك مثل الرافضة والجهمية ونحوهم ممن يغلون في عصمتهم وهم مع ذلك يردون أخباره وقد اجتمع كل من آمن بالرسول على أنه معصوم فيما يبلغه عن الله فلا يستقر في خبره خطأ كما لا يكون فيه كذب فإن وجود هذا وهذا في خبره يناقض مقصود الرسالة ويناقض الدليل الدال على أنه رسول الله
وأما ما لا يتعلق بالتبليغ عن الله من أفعاله فللناس في العصمة منه نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه ومتنازعون في أن العصمة من ذلك هل تعلم بالعقل أو بالسمع بخلاف العصمة في التبليغ فإنه متفق عليه معلوم بالسمع والعقل ومقصود التبليغ تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فمن كان من أصله أن الدلالة السمعية لا تفيد اليقين أو أنه يقدم رأيه وذوقه على خبر الرسول لم ينتفع بإثبات عصمته المتفق عليها فضلا عن موارد النزاع من العصمة بل هم معظمون للرسول في غير مقصود الرسالة وأما مقصود الرسالة فلم يأخذوه عنه وصاروا في ذلك كالنصارى مع المسيح عليه السلام الذي أرسل إليهم فلم يتلقوا عنه الدين الذي بعث به بل غلوا فيه غلوا صاروا مشركين به لا مؤمنين به
وكذلك الغالية في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ تجدهم مشركين بهم لا متبعين لهم في خبرهم وأمرهم فخرجوا عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
(5/285)
وهؤلاء يعزلون الأنبياء والرسل في أنفسهم عن الولاية التي ولاهم الله إياها باتفاق المسلمين ويعتقدون أنه ولاهم ولاية لو كانت حقا لم ينفعهم ذلك فكيف إذا كانوا كاذبين مشركين
ولهذا تجد فيهم من تحريف نصوص الأنبياء التي أخبروا بها عن الله وملائكته وكتبه ورسله ما يناقض مقصود أخبارهم الوجه الثلاثون
أن هذا الذي ذكرناه يفيد أن الشرع لا يمكن أن يخالفه العقل الدال على صحته بل هما متلازمان في الصحة وهذا القدر لا يمكن مؤمن بالله ورسوله أن ينازع فيه بل لا ينازع مؤمن بالله ورسوله أن العقل لا يناقض في نفس الأمر لكن الذي تقوله الجهمية والقدرية وغيرهم من أهل البدع أن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم مبني على الأدلة النافية للصفات والقدر كما يقولونه من أن صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه وقيام المعجزة موقوف على أن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة وذلك موقوف على أن فعل الله قبيح والله لا يفعل القبيح وتنزيهه عن فعل القبيح موقوف على أنه غني عنه عالم بقبحه والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله
(5/286)
وغناه عنه موقوف على أنه ليس بجسم وكونه ليس بجسم موقوف على نفي صفاته وأفعاله لأن الموصوف بالصفات والأفعال جسم ونفى ذلك موقوف على ما دل على حدوث الجسم فلو بطل الدال على حدوث الجسم بطل ما دل على صدق الرسول
وأيضا فالدال على حدوث الجسم هو الدال على حدوث العالم وإثبات الصانع تعالى فإذا بطل ذلك بطل الدليل الدال على إثبات الصانع فصار العلم بإثبات الصانع وتصديق الرسول موقوفا على نفي الصفات والأفعال فإذا جاء في الشرع ما يدل على إثبات الصفات والأفعال لم يمكن القول بموجبه لأن ذلك ينافي دليل الصدق بل يعلم من حيث الجملة أن الرسول لم يرد به إثبات الصفات والأفعال إما لكذب الناقل عنه أو لعدم دلالة اللفظ على الإثبات أو لعدم قصده الإثبات
ثم إما أن نقدر احتمالات يمكن حمل اللفظ عليها وإن لم يعين المراد وإما أن نعرض عن هذا ونقول لا نعلم المراد
فهذا أصل قولهم ومن وافقهم في نفي بعض الصفات أو الأفعال قال بما يناسب مطلوبة من هذا الكلام فحقيقة قولهم إنه لا يمكن التصديق بكل ما في الشرع بل لا يمكن تصديق البعض إلا بعدم تصديق البعض الآخر
وحينئذ فدليلهم العقلي ليس دالا على صدق الرسول إلا على هذا الوجه فلا يمكنهم قبول ما يناقضه من نصوص الكتاب والسنة
(5/287)
وحينئذ فيقال لهم لا نسلم أن مثل هذا هو الأصل الذي به علم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بل هذا معارضة لقول الرسول بما لا يدل على صدقه فبطل قول من يقول إنا إذا قدمنا الشرع كان ذلك طعنا في أصله
وهذه المقدمات التي ذكروها عامتها ممنوعة ويتبين فسادها بما هو مبسوط في مواضع آخر
وإذا قال أحدهم نحن لا نعلم صدق الرسول إلا بهذا أو لا نعلم دليلا يدل على صدق الرسول إلا هذا
قيل لا نسلم صحة هذا النفي وعدم العلم ليس علما بالمعدوم وأنتم مكذبون لبعض ما جاء به الشرع وتدعون أنه لا دليل على صدق الرسول سوى طريقكم فقد جمعتم بين تكذيب ببعض الشرع وبين نفي لا دليل عليه فخالفتم الشرع بغير حجة عقلية أصلا
وإذا قال أحدهم فما الدليل على صدق الرسول غير هذا
قيل في هذا المقام لا يجب بيانه وإن كنا نبينه في موضع آخر بل يكفينا رد المنع ونحن نعلم بالاضطرار أن سلف الأمة وأئمتها كانوا مصدقين للرسول بدون هذا الطريق
يوضح هذا أن المعارضين الذين يقولون بتقديم العقل على الشرع قد اعترف حذاقهم بما يبين أن الشرع ليس مبنيا على معقول يعارض شيئا منه وبيان ذلك في
(5/288)
الوجه الواحد والثلاثون
وهو أن نقول قد ذكر أبو عبد الله الرازي في أجل كتبه نهاية العقول ما ذكره غيره من أهل الكلام فقال الرازي المطالب على ثلاثة أقسام منها ما يستحيل العلم بها بواسطة السمع ومنها ما يستحيل العلم بها إلا من السمع ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع مثل العلم بوجود الصانع وكونه مختارا وعالما بكل المعلومات وصدق الرسول
(5/289)
أما العلم بحدوث العالم فذلك ما لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته لأنه يمكننا أن نثبت الصانع المختار بواسطة حدوث الأعراض أو بواسطة إمكان الأعراض على ما سيأتي تفصيل القول فيه ثم نثبت كونه عالما بكل المعلومات ومرسلا للرسل ثم نثبت بأخبار الرسول حدوث العالم
قال وبهذا يتبين خطأ قول من زعم أن أول الواجبات القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم
قلت هذا القول الذي خطأه الرازي هو الذي ذكره أبو المعالي في أول الإرشاد كما ذكره طوائف من أهل الكلام المعتزلة وغيرهم وهو قول من وافقه على هذا من المنتسبين إلى الأشعري وقالوا إن العلم بحدوث العالم لا يمكن إلا بالعلم بحدوث الأجسام ولا يمكن ذلك إلا بحدوث الأعراض وليس هذا قول الأشعري وأئمة أصحابه فإن
(5/290)
إثبات الصانع عندهم لا يتوقف على هذه الطريق بل قد صرح الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر هو وغيره بأن هذا الطريق ليس هو طريق الأنبياء وأتباع الأنبياء بل هي محرمة في دينهم ولكن الأشعري لا يبطل هذه الطريق بل يقول هي مذمومة في الشرع وإن كانت صحيحه في العقل وسلك هو طريقه مختصر من هذا وهو إثبات حدوث الإنسان بأنه مستلزم للحواذث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ووافقهم على أن المعلوم حدوثه هو الأعراض كالاجتماع والافتراق وأن ما يخلق من الحيوان والنبات والمعادن إنما تحدث أعراضه لا جواهره
وكذلك الخطابي وطائفة معه ممن يذم هذه الطريقة الكلامية التي ذمها الأشعري يوافقون على صحتها مع ذمهم لها
وأما جمهور الأئمة والعقلاء فهي عندهم باطلة وهذا مما يعلم معناه كل من له نظر واستدلال إذا تأمل حال سلف الأمة وأئمتها وجمهورها فإنهم كلهم مؤمنون بالله ورسوله ولم يكونوا يبنون الإيمان على إثبات حدوث الأجسام بل كل من له أدنى علم بأحوال الرسول والصحابة يعلم أنهم لم يجعلوا العلم بتصديقه مبنيا على القول بحدوث الأجسام بل ليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من السلف والأئمة ذكر القول بحدوث الأجسام ولا إمكانها فضلا عن أن يكون فيها أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بذلك وقد بسط الكلام على هذا في مواضع
والمقصود هنا أن القول بأن أول الواجبات هو سلوك النظر في
(5/291)
هذه الطريقة هو في الأصل قول الجهمية والمعتزلة وإن وافقهم عليه طائفة غيرهم وهذه طريقة المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وأمثالهم
وهم متنازعون في أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم بحدوث العالم أو القصد إلى النظر أو الشك السابق على القصد على ثلاثة أقوال لهم معروفة
وقد اعترف الجمهور الذين خالفوا هؤلاء بأن إثبات الصانع لا يتوقف على هذه الطريق بل ولا حدوث العالم
وقد ذكر الرازي أن الطرق التي بها يثبت العلم بالصانع خمس طرق الأول الاستدلال بحدوث الذوات كالاستدلال بحدوث الأجسام المبني على حدوث الأعراض كالحركة والسكون وامتناع ما لا نهاية له وهذا طريق أكثر المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية كابي المعالي وأمثاله
الثاني الاستدلال بإمكان الأجسام وهذه عمدة الفلاسفة وهو مبني على أن الأجسام ممكنة لكونها مركب
(5/292)
قلت وهذا مبني على توحيد ابن سينا ومن وافقه من الفلاسفة المتضمن نفي الصفات
وجماهير العقلاء من المسلمين واليهود والنصارى والفلاسفة القدماء والمتأخرين يقدحون في موجب هذا الدليل وليس هو طريقة أرسطو وقدماء الفلاسفة ولا طريقة ابن رشد وأمثاله من المتأخرين بل هذا المسلك عند جمهور العالم من أعظم الأقوال فسادا في الشرع والعقل وأما المسلك الأول فهو أيضا عند جمهور أهل الملل وجمهور الفلاسفة باطل مخالف للشرع والعقل
والمسلك الثالث الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة أو قديمة أو ممكنة وحادثه وهو مبني على تماثل الأجسام وهو باطل عند أكثر العقلاء وهو مبني على مقدمتين إحداهما أن اختصاص كل جسم بما له من الصفات لا يكون إلا لسبب منفصل
والثانية أن ذلك السبب لا يكون إلا مخصصا ليس بجسم قلت وهاتان المقدمتان قد عرف نزاع العقلاء فيهما وما يرد عليهما من النقض والفساد ومخالفة أكثر الناس لموجبهما
(5/293)
قال المسلك الرابع الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع كصيرورة النطفة إنسانا فهذا حادث والعبد غير قادر عليه فلا بد له من فاعل آخر لافتقار المحدث إلى المحدث إما لأن ذلك معلوم بالضرورة كما يقوله جمهور العقلاء وإما لإثبات ذلك بالإمكان وإما لإثباته بالقياس على ما يحدثه العباد
قال والفرق بين الإستدلال بإمكان الصفات وبين الإستدلال بحدوثها أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسما والثاني لا يقتضي ذلك
قال والطريق الخامسة وهي عائدة إلى الأربعة الاستدلال بما في العالم من الإحكام والإتقان على علم الفاعل والذي يدل على علمه هو بالدلالة على ذاته أولى
قلت طريقة الاستدلال بما يشاهد حدوثه جاء بها القرآن واتفق عليها السلف والأئمة وقد اعترفوا بأن هذه الطريق تفضى إلى العلم
(5/294)
بإثبات الفاعل ولا تقتضي كون الفاعل ليس بجسم وكذلك طريقة العلم لا تقتضي ذلك بخلاف الطرق الثلاثة المتقدمة
وإذا تبين ذلك فيقول القائل إذا علمنا إثبات الصانع بهذه الطريق التي اعترفتم بأنه يمكن العلم بإثبات الصانع وصدق رسله بها وليس فيها ما يقتضي أن الفاعل ليس بجسم لم يكن في الأدلة الشرعية المثبتة لصفات الله تعالى وأفعاله ما يناقض هذه الطريق لأن غاية ما يقوله النفاة أن إثبات الأفعال والصفات أو بعض ذلك يقتضي كون الموصوف الفاعل جسما وإثبات الصانع مبني على الدليل النافي لكونه جسما فلو قلنا بموجب النصوص تقديما لها على الدليل العقلي النافي للجسم لكنا قد قدمنا الشرع على أصله العقلي
فإذا كان قد تبين أن إثبات الشرع المبني على إثبات الصانع وصدق الرسول لا يتوقف على نفي الجسم علم بالضرورة أن الشرع المثبت للصفات والأفعال لا ينافي الدليل العقلي الذي به عرف إثبات ذلك فبطل قول من يدعي أنه قد يتعارض الدليل الشرعي المثبت لذلك وأصله العقلي النافي لذلك وهذا بين واضح ولله الحمد
فإن قالوا هب أن هذا الدليل العقلي الذي به يعرف صحة الشرع لا يعارضه الدليل الشرعي المثبت للصفات والأفعال لكن غيره من الأدلة العقلية ينافي ذلك كان الجواب عنه من وجوه
(5/295)
أحدها أن المقصود بيان أن الشرع يمكن معرفة صدقه بدليل عقلي لا يعارض موجب الشرع وأما ما سوى ذلك من الأدلة فليس على الرجل أن يستدل بها والشيء إذا علمت صحته بدليل عقلي لم يجب أن تعلم صحته بكل دليل فقد تبين أنه يمكن الرجل أن يصدق بما أخبر به الشارع من أسماء الله وصفاته وأفعاله كإثبات العلو لله والصفات الخبرية من غير أن يعارض ذلك ما يكون أصلا للعلم بصحة السمع من الأدلة العقلية فتكون المعارضة بتلك الطريق التي يقال إنها عقلية معارضة بطرق لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها فلا يلزم من تقديم الشرع عليها القدح في الأصل الذي به عرفت صحة الشرع وهذا هو المطلوب
الوجه الثاني أن يقال تلك الطرق لم تدل على صحة الشرع مطلقا وإنما دلت على صدق الشارع فيما يخبر عنه من غير الصفات والأفعال التي تنفيها تلك الطرق وحينئذ فلا تكون دالة على صدق الرسول مطلقا
ومعلوم أن دليل الإيمان لابد أن يدل على أن الرسول صادق في كل ما يخبر به مطلقا من غير تقييد بقيد فمتى كان الدليل إنما دل على صدقه بشرط أن لا يعارضه موجب ذلك الدليل صار مضمونه أن الرسول مصدق فيما لا يخالفني فيه وليس مصدقا فيما يخالفني فيه
ومعلوم أن هذا ليس إقرارا بصحة الرسالة فإن الرسول لا يجوز عليه أن يخالف شيئا من الحق ولا يخبر بما تحيله العقول وتنفيه
(5/296)
لكن يخبر بما تعجز العقول عن معرفته فيخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول
ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته في السنة التي رواها عبدوس ابن مالك العطار قال ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول
هذا قوله وقول سائر أئمة المسلمين فإنهم متفقون على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا تدركه كل الناس بعقولهم ولو أدركوه بعقولهم لاستغنوا عن الرسول ولا يجوز أن يعارض بالأمثال المضروبة له فلا يجوز أن يعارضه الناس بعقولهم ولا يدركونه بعقولهم فمن قال للرسول أنا أصدقك إذا لم تخالف عقلي أو أنت صادق فيما لم تخالف فيه الدليل العقلي فإن كان يجوز على الرسول أن يخالف دليلا عقليا صحيحا لم يكن مؤمنا به وإن قدم على كلامه دليلا عقليا ليس
(5/297)
بصحيح لم يكن مؤمنا به فامتنع أن يصح الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الشرط
الوجه الثالث أن تلك الطرق إذا أمكن العلم بصدق الرسول بدونها لم يكن العلم بالشرع محتاجا إليها وحينئذ فإذا عارضت الشرع كان المعارض له دليلا أجنبيا كما لو عارضه من كذبه واحتج على أنه كاذب
ولا ريب أن هذا من باب المعارضة للرسول والقدح فيما جاء به كمعارضة المكذبين للرسل وحينئذ فيكون جوابه بما يجاب به أمثاله من الكفار الملحدين الطاعنين فيما جاء به الرسول أو في بعضه لا يكون جوابه ما يجاب به المؤمنون بالرسول الذي يقرون أنه لا يقول على الله إلا الحق
الوجه الرابع أنا لا نسلم صحة شيء من تلك الطرق حتى تكون دليلا يصلح أن يعارض به شيء من الأدلة لا العلمية ولا الظنية ولا العقلية ولا غيرها فضلا عن أن يعارض بها كلام المعصوم الذي لا يقول إلا حقا وبيان فساد تلك الوجوه العقلية النافية للصفات والأفعال أو بعض ذلك مذكور بتفصيله في غير هذا الموضع
الوجه الخامس أن يقال لا ريب أن النصوص دلت على إثبات الصفات والأفعال لله تعالى ولم تتعرض للجسم بنفي ولا إثبات والنفاة إنما ينفون ما ينفونه بناء على أن الإثبات يستلزم كون الموصوف جسما والعقل ينفي أن يكون جسما وأدلتهم على نفي الجسم إما دليل الإمكان وإما دليل الحدوث فليس لهم ما يخرج عن هذا
(5/298)
وحينئذ فيقال إما أن يقال وهذا إثبات ما أثبته الدليل الشرعي من الصفات والأفعال موجب لكون الموصوف بذلك ممكنا وحادثا وأن استلزام ذلك للحدوث أو الإمكان معلوم بالأدلة العقلية كما يقوله النفاة وإما أن لا يقال ذلك
فإن لم يقل ذاك أو قيل ليس في الأدلة العقلية ما يدل على ذلك لم يكن معارضا
وإن قيل بل ذلك يدل في العقل على أن الموصوف ممكن أو حادث فحينئذ إما أن نفسد ذلك الدليل المعارض على وجه التفصيل وإما أن يقال قد علم بالعقل صدق الرسول وعلم أنه أثبت هذه الصفات والأفعال فالنافي لها لا يجوز أن يكون دليلا صحيحا لأن تعارض الأدلة الصحيحة ممتنع وحينئذ فكل من كان أعلم بدلالة الشرع على الإثبات وبضعف أدلة النفاة كان أعلم بهذا الكلام فيكون العلم بفساد هذه المعارضات تارة بطريق إجمالي وتارة بطريق تفصيلي كما يعلم فساد الحجج السوفسطائية فإن من علم الشيء علما يقينيا علم قطعا فساد ما يناقضه وإن لم يعلم تفصيل فساد تلك الحجج فمن علم صدق الرسول وأنه أخبر بأمر علم قطعا أنه لا يقوم دليل قطعي على نفيه
الوجه السادس أن هؤلاء الذين يرون تقديم عقولهم على كلام الله ورسوله عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو والصفات الخبرية ونحو ذلك مما جاء به الكتاب والسنة
(5/299)
وهؤلاء يقولون علمنا بأن الرسول أخبر بالعلو وبهذه الصفات علم ضروري من دينه أبلغ من علمنا بثبوت اللعان والشفعة وحد القذف وسجود التلاوة والسهو ونحو ذلك
وإذا كان ذلك معلوما بالاضطرار من دين الإسلام لم يمكن أن يقال إن الرسول لم يخبر به بل لا يمكن إلا أحد أمرين إما تكذيب الرسول وإما رد هذه المعارضات المبتدعة
قالوا وعلمنا بصدق الرسول علم يقيني لا ريب يتخلله فالشبه القادحة في ذلك كالشبه القادحة في العلوم العقلية اليقينية وهذه من جنس شبه السوفسطائية فنحن نعلم فسادها من حيث الجملة من غير خوض في التفصيل
ولا ريب أن هذا الأصل مستقر في قلب كل مؤمن بالله ورسوله فإن أهل الإلحاد قد يذكرون له شبهات يقدحون بها فيما جاء به الرسول في مواضع كثيرة وقد لا يكون للمؤمن خبرة بالمناظرة في ذلك لعدم العلم بعباراتهم ومقاصدهم في كلامهم كمن يتكلم بلفظ الجسم و الجوهر و الحيز والهيولي و المادة و الصورة و الكلي و الجزئي و الماهية ونحو ذلك عند من ليس له خبرة بهذه الأوضاع والاصطلاحات ويؤلفها تأليفا يتضمن القدح فيما أخبر الله به ورسوله فإن المؤمن يعلم فساد ذلك مجملا وإن لم يعرف وجه فسادها لا سيما إذا لم يكن خبيرا بطرق
(5/300)
المناظرة وترتيب الأدلة وكيف يفسد المتعارض بالممانعة في موضعها والمعارضة في موضعها ونحو ذلك مما يبين به فساد الأقوال الباطلة المعارضة للحق
وقول هؤلاء لنفاة الصفات نظير قول كل من آمن باليوم الآخر للملاحدة النفاة إذا قالوا قد قام الدليل العقلي على نفي المعاد مطلقا أو نفي الأكل والشرب والنكاح ونحو ذلك في الجنة أو على نفي معاد البدن والنصوص المعارضة لذلك إما أن تأول وإما أن تفوض فإن المؤمنين بالآخرة من أهل الكلام وغيرهم قالوا لهم نحن نعلم ثبوت المعاد بالاضطرار من دين الإسلام فلا يمكن دفع العلوم الضرورية فلو لم يكن المعاد حقا لزم إما جحد كون الرسول أخبر به وإما جحد صدقه فيما أخبر وكلاهما ممتنع وإلا فمن علم أن الرسول أخبر به وعلم أنه لا يخبر إلا بحق علم بالضرورة أن المعاد حق
وهذا بعينه يقوله مثبتو الصفات والأفعال للنفاة حذو القذة بالقذة فإن هؤلاء النفاة للصفات المثبتين للمعاد هم بين المؤمنين بالجميع كالسلف والأئمة وبين الملاحدة المنكرين للصفات والمعاد فالملاحدة تقول لهم قولنا في نفي المعاد كقولكم في نفي الصفات فلا يستدل بالشرع على هذا ولا على هذا لمعارضة العقل له والمؤمنون بالله ورسوله يقولون لهم قولنا لكم في الصفات كقولكم للملاحدة في المعاد
(5/301)
فإذا قلتم للملاحدة إثبات المعاد معلوم بالاضطرار من دين الرسول
قلنا لكم وإثبات الصفات والعلو والأفعال معلوم بالاضطرار من دين الرسول
وقد تقدم من كلام الملاحدة كابن سينا ونحوه ما يبين ذلك وكل من تدبر كلام السلف والأئمة في هذا الباب علم أن الجهمية النفاة للصفات كانوا عند السلف والأئمة من جملة الملاحدة الزنادقة
ولهذا لما صنف الإمام أحمد ما صنفه في ذلك سماه الرد على الزنادقة والجهمية وكذلك ترجم البخاري آخر كتاب الصحيح بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية
وقال عبد الله بن المبارك إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وقال يوسف بن أسباط وابن المبارك أصول البدع أربعة الشيعة والخوارج والمرجئة والقدرية قيل والجهمية فقالا ليست الجهمية من أمة محمد ونقل مثل ذلك عن الزهري أنه قال ليس الجعدي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على الجهمية
(5/302)
ما الجهمية عندنا من أهل القبلة بل هؤلاء الجهمية أفحش زندقة وأظهر كفرا وأقبح تأويلا لكتاب الله ورد صفاته من الزنادقة الذين قتلهم علي وحرقهم بالنار
قال والزنادقة والجهمية أمرهما واحد ويرجعان إلى معنى واحد ومراد واحد وليس قوم أشبه بقوم منهم بعضهم ببعض
قال ولو كان جهم وأصحابه في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار التابعين لقتلوهم كما قتل علي الزنادقة التي ظهرت في عصره ولقتلوا كما قتل أهل الردة ألا ترى أن الجعد بن درهم أظهر بعض رأيه في زمن خالد بن عبد الله القسري فزعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا فذبحه خالد بواسط
(5/303)
يوم عيد الأضحى على رؤوس من حضره من المسلمين لم يعبه به عائب ولم يطعن عليه طاعن بل استحسنوا ذلك من فعله وصوبوه
وكذلك لو ظهر هؤلاء في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان سبيلهم عند القوم إلا القتل كسبيل أهل الردة وكما قتل علي من ظهر منهم في عصره وأحرقه وظهر بعضهم بالمدينة في عهد سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فأشار على والى المدينة يومئذ بقتله
قال ويكفي العاقل من الحجج في إكفارهم ما تأولنا فيه من كتاب الله وروينا فيه عن علي وابن عباس وما فسرنا من واضح كفرهم وفاحش مذهبهم وسنروي عن بعض من ظهر ذلك بين أظهرهم من العلماء
ثنا محمد بن المعتمر السجستاني وكان من أوثق أهل
(5/304)
سجستان وأصدقهم عن زهير بن نعيم البابي أنه سمع سلام بن أبي مطيع يقول الجهمية كفار
وسمعت محمد بن المعتمر يقول سمعت زهير بن نعيم يقول سئل حماد بن زيد وأنا معه في سوق البصرة عن بشر المريسي فقال ذلك كافر
قال عثمان بن سعيد وبلغني عن يزيد بن هارون أنه قال الجهمية كفار وقال حرضت أهل بغداد غير مرة على قتل المريسي ثنا يحيى الحماني ثنا الحسن بن الربيع سمعت ابن المبارك يقول من زعم أن قوله { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } مخلوق فهو كافر سمعت محبوب بن موسى الأنطاكي يذكر أنه سمع وكيعا يكفر الجهمية قال وحدثت عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان أنه أكفر من زعم أن القرآن مخلوق وسمعت الربيع بن نافع أبا توبة يكفر الجهمية
(5/305)
وحدثنا الزهراني أبو الربيع قال كان من هؤلاء الجهمية رجل وكان الذي يظهر من حاله الترفض وانتحال حب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال رجل ممن خالطه ويعرف مذهبه قد علمت أنكم لا ترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه فما الذي حملكم على الترفض وانتحال حب علي قال إذا أصدقك إنا إن أظهرنا رأينا الذي نعتقده رمينا بالكفر والزندقة وقد وجدنا أقواما ينتحلون حب علي ويظهرونه ثم يقعون بمن شاءوا ويعتقدون ما شاءوا فيقولون ما شاءوا فنسبوا بذاك إلى الترفض والتشيع فلم نر لمذهبنا أمرا ألطف من انتحال حب هذا الرجل ثم نقول ما شئنا ونعتقد ما شئنا ونقع بمن شئنا فلأن يقال إنا رافضه وشيعة أحب إلينا من أن يقال زنادقة وكفار وما علي عندنا بأحسن حالا من غيره ممن نقع بهم
قال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي وصدق هذا الرجل فيما
(5/306)
عبر عن نفسه ولم يراوغ وقد استبان لي ذلك من بعض كبرائهم ونظرائهم أنهم يستترون بالتشيع يجعلونه تسبيبا لكلامهم وخطائهم وسلما وذريعة لاصطياد الضعفاء وأهل الغفلة ثم يبذرون بين ظهراني خطئهم بذر كفرهم وزندقتهم ليكون أنجع في قلوب الجهال وأبلغ فيهم ولئن كان أهل الجهل في شك من أمرهم إن أهل العلم منهم على يقين
قلت قد قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره من أئمة السنة هما صنفان فاحذورهما الجهمية والرافضة
وهذا الذي حكاه عثمان بن سعيد عن هذا الرجل هو لسان حال أئمة الجهمية المتشيعة كالقرامطة الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم وهم رؤوس الملاحدة وأئمتهم وقد دخل كثير من إلحادهم على كثير من الشيعة والمتكلمين من المعتزلة والنجارية والضرارية والأشعرية والكرامية ومن أهل التصوف والفقه والحديث والتفسير والعامة
لكن عامة هؤلاء لا يعتقدون الزندقة بل يقرون بنبوة النبي صلى الله
(5/307)
عليه وسلم لكن دخل فيهم نوع من الإلحاد وشعبة من شعب النفاق والزندقة أضعف إيمانهم وحصل في قلوبهم نوع شك وشبهة في كثير مما جاء به الرسول مع تصديقهم للرسول
وتجدهم في هذا الباب في حيرة واضطراب وشك وارتياب لم يحققوا ما ذكره الله تعالى في قوله { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } ولكن ليس كل من دخل عليه شعبة من شعب النفاق والزندقة فقبلها جهلا أو ظلما يكون كافرا منافقا في الباطن بل قد يكون معه من الإيمان بالله ورسوله ما يجزيه الله عليه ولا يظلم ربك أحدا
قال أبو سعيد عثمان بن سعيد والزندقة أكبر في نفوس أهل العلم من الإرتداد ومن كفر اليهود والنصارى ولذلك قال ابن المبارك لأن أحكي كلام اليهود والنصارى أحب إلي من أن أحكي كلام الجهمية حدثناه الحسن بن الصباح البغدادي عن علي بن شقيق عن ابن المبارك قال أبو سعيد وصدق ابن المبارك إن في كلامهم ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى
(5/308)
قال أبو سعيد وذهبت يوما أحكي ليحيى بن يحيى كلام الجهمية لأستخرج منه نقضا عليهم وفي مجلسه يومئذ الحسين بن عيسى البسطامي وأحمد بن حريش القاضي ومحمد بن رافع وأبو قدامة السرخسي فيما أحسب وغيرهم من المشايخ فزبرني بغصب وقال اسكت وأنكر علي المشايخ الذين في مجلسه استعظاما أن أحكي كلام الجهمية وتشنيعا عليهم فكيف بمن يحكي كلامهم ديانة ثم قال يحيى القرآن كلام الله فمن شك فيه أو زعم أنه مخلوق فهو كافر
قلت وكلام السلف والأئمة في تكفير الجهمية وبيان أن قولهم يتضمن التعطيل والإلحاد كثير ليس هذا موضع بسطه
وقد سئل عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط عنهم فأجابا بما تقدم
وقد تبين أن الجهمية عندهم من نوع الملاحدة الذين يعلم بالاضطرار أن قولهم مخالف لما جاءت به الرسل بل إنكار صفات الله أعظم إلحادا في دين الرسل من إنكار معاد الأبدان فإن إثبات الصفات لله أخبرت به الرسل أعظم مما أخبرت بمعاد الأبدان
(5/309)
ولهذا كانت التوراة مملوءة من إثبات صفات الله وأما ذكر المعاد فليس هو فيها كذلك حتى قد قيل إنه ليس فيها ذكر المعاد
والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدرا من آيات المعاد فأعظم آية في القرآن آية الكرسي المتضمنة لذلك
كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بن كعب أتدري أي آية في كتاب الله أعظم قال { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فضرب بيده في صدره وقال ليهنك العلم أبا المنذر
وأفضل سورة سورة أم القرآن كما ثبت ذلك في حديث أبي سعيد بن المعلي في الصحيح قال له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها
(5/310)
وهي السبع المثانى والقرآن العظيم الذي أوتيته وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن
(5/311)
وثبت في الصحيح أنه بشر الذي كان يقرأها ويقول إني لأحبها لأنها صفة الرحمن بأن الله يحبه فبين أن الله يحب من يحب ذكر صفاته سبحانه وتعالى وهذا باب واسع
الوجه السابع أن يبين أن الفطرة التي فطر الله عليها عباده والعلوم الضرورية التي جعلها في قلوبهم توافق ما أخبر به الرسول من علو الله على خلقه ونحو ذلك فالمعقول الضروري الذي هو أصل العلوم النظرية موافق للأدلة الشرعية مصدق لها لا مناقض معارض لها
الوجه الثامن أن يقال الإرادات والقصود الضرورية التي تضطر العباد عندما يضطرون إلى أن يطلبوا من الله قضاء الحاجات وتفريج الكربات موافقة لما أخبر به الرسول لا معارضة لذلك
الوجه التاسع أن يقال الأدلة العقلية البرهانية المؤلفة من المقدمات اليقينية هي موافقة لخبر الرسول لا معارضة له ومن كان له خبرة بالأدلة العقلية وتأليفها وتأمل أدلة المثبتة والنفاة رأى بينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق فإن أدلة الإثبات أدلة صحيحة مبنية على مقدمات يقينية خالصة من الشبهة وأما حجج
(5/312)
النفاة فجميعها مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة ومعان مشتابهة ولهذا متى وقع الاستفسار والتفصيل لمجمل كلامهم ووقع البيان والتفصيل لمشتبه معانيهم تبين لكل عاقل فاهم أن النفاة جمعوا بين المختلفات وفرقوا بين المتماثلات وسووا بين الشيئين اللذين هما في غاية التباين لاشتراكهما في بعض الصفات
ولهذا كان مآل أمرهم إلى أن جلعوا الوجود واحدا فجعلوا وجود الخالق رب العالمين الذي لا يماثله شيء من الموجودات بوجه من الوجوه ومباينته لكل موجود أعظم من مباينة كل موجود لكل موجود 0 هو وجود أحقر المخلوقات وأصغر المخلوقات أو مماثلا له لاتفاقهما في مسمى الوجود أو مسمى الذات أو الحقيقة وصار أئمتهم النظار في هذه المسألة التي هي أول ما ينبغي لذى النظر أن يعرفه في حيرة عظيمة فهذا يقول الوجود واحد لاشتراك الموجودات في مسمى الوجود ولا يميز بين الواحد بالعين والواحد بالنوع أو الجنس اللغوي
وهذا يقول وجوده وجود مطلق إما بشرط الإطلاق وإما مطلقا لا بشرط وإما بشرط سلب جميع الأمور الثبوتية عنه وهذا يمتنع ثبوته في الموجودات وإنما يكون مثل هذا فيما تقدره الأذهان لا فيما يوجد في الأعيان
وغاية من يجعل ذلك ثابتا في الخارج أن يجعل وجود الخالق هو وجود المخلوقات أو جزءا منها فيجعل افتقاره إلى المخلوقات كافتقار المخلوقات إليه كما يقوله من يفرق بين الوجود والثبوت
(5/313)
وهذا يقول لفظ الوجود و الذات وغيرهما مقول عليه وعلى الموجودات بالإشتراك اللفظي المجرد كاشتراك المشتري و سهيل فتخرج الأسماء العامة الكلية كاسم الوجود و الذات و النفس و الحقيقة و الحي و العالم و القادر ونحو ذلك عن مسمياتها وتسلبه العقول ما جعله الله فيها من المعاني والقضايا العامة الكلية وهذه خاصة العقل التي تميز بها عن الحس إلى أمثال هذه المقالات التي هي عند من فهمها وعرف حقيقة قول أصحابها ضحكة للعاقل من وجه وأعجوبة له من وجه ومسخطة له من وجه
ومثل هذه المعقولات لو تصرف بها في تجارة أو صناعة من الصناعات لأفسدت التجارة والصناعة فكيف يتصرف بها في الأمور الإلهية وفي صفات رب البرية ثم يعارض بها كلام الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه
فمن تبحر في المعقولات وميز بين البينات والشبهات تبين له أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول وكلما عظمت معرفة الرجل بذلك عظمت موافقته للرسول
ولكن دخلت الشبهة في ذلك بأن قوما كان لهم ذكاء تميزوا به في أنواع من العلوم إما طبيعية كالحساب والطب وإما شرعية كالفقه مثلا وأما الأمور الإلهية فلم يكن لهم بها خبرة كخبرتهم بذلك وهي أعظم المطالب وأجل المقاصد فخاضوا فيها بحسب أحوالهم وقالوا
(5/314)
فيها مقالات بعبارات طويلة مشتبهة لعل كثيرا من أئمة المتكلمين بها لا يحصلون حقائق تلك الكلمات ولو طالبتهم بتحقيقها لم يكن عندهم إلا الرجوع إلى تقليد أسلافهم فيها
وهذا موجود في منطق اليونان وإلهياتهم وكلام أهل الكلام من هذه الأمة وغيرهم يتكلم رأس الطائفة كأرسطو مثلا بكلام وأمثاله من اليونان بكلام وابي الهذيل والنظام وأمثالهما من متكلمة أهل الإسلام بكلام ويبقى ذلك الكلام دائرا في الأتباع يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله وأكثر من يتكلم به لا يفهمه
وكلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما وهذا حال الأمم الضالة كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما كما يعظم الرافضة المنتظر الذي ليس لهم منه حس ولا خبر ولا وقعوا له على عين ولا أثر
وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة
(5/315)
وكذلك النصارى تعظم ما هو من هذا الباب وهكذا الفلاسفة تجد أحدهم إذا سمع أئمته يقولون الصفات الذاتية والعرضية والمقوم والمقسم والمادة والهيولي والتركيب من الكم ومن الكيف وأنواع ذلك من العبارات عظمها قبل أن يتصور معانيها ثم إذا طلب معرفتها لم يكن عنه في كثير منها إلا التقليد لهم
ولهذا كان فيها من الكلام الباطل المقرون بالحق ما شاء الله ويسمونها عقليات وإنما هي عندهم تقليديات قلدوا فيها ناسا يعلمون أنهم ليسوا معصومين وإذا بين لأحدهم فسادها لم يكن عنده ما يدفع ذلك بل ينفي تعظيمه المطلق لرؤوس تلك المقالة [ ثم ] يعارض ما تبين لعقله فيقول كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل أو أبي علي الجبائي ونحو هؤلاء أن يخفى عليه مثل هذا أو أن يقول مثل هذا
وهو مع هذا يرى أن الذين قلدوا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى { إن هو إلا وحي يوحى } قد بخسوا أنفسهم حظها من العقل والمعرفة والتمييز ورضوا بقبول قول لا يعلمون
(5/316)
حقيقته وهو مع هذا يقبل أقوالا لا يعلم حقيقتها وقائلين يعلم أنهم يخطئون ويصيبون
وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم وممن خاطبتهم وممن بلغني أخبارهم إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها ولم يجد له ما يدفعها به فر إلى التقليد ولجأ إلى قول شيوخه وقد كان في أول الأمر يدعو إلى النظر والمناظرة والاعتصام بالعقليات والإعراض عن الشرعيات
ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات بل هو كما قال الله { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد }
وكما قال تعالى { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير }
وكما قال تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون }
وكما قال { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }
وكما قال تعالى { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا }
(5/317)
يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا { لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا }
وكما قال { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا }
وهذه النصوص فيها نصيب لكل من اتبع أحدا من الرؤوس فيما يخالف الكتاب والسنة سواء كانوا من رؤوس أهل النظر والكلام والمعقول والفلسفة أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشرعية أو من رؤوس أهل العبادة والزهادة والتأله والتصوف أو من رؤوس أهل الملك والإمارة والحكم والولاية والقضاء
ولست تجد أحدا من هؤلاء إلا متناقضا وهونفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر إذ لا يصلح أمر دنياه ودينه بموافقة ذلك المتبوع لتناقض أوامره
بخلاف ما جاء من عند الله فإنه متفق مؤتلف فيه صلاح أحوال العباد في المعاش والمعاد
قال تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وهذه الجمل مبسوطة في مواضع غير هذا
(5/318)
والمقصود هنا أن ننبه المسلم على أن العقل الصريح كلما أمعن في تحقيقه لا يكون إلا موافقا للشرع الذي جاءت به الرسل حتى تتبين لك صحة ما جاء به بالأدلة العقلية التي لا يحتاج فيها إلى خبر مخبر ولو كان معصوما لكن تتعاضد الأدلة السمعية والعقلية الخبرية والنظرية
كما قال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد }
ولكن الناس متفاوتون في هذا بحسب ما يؤتيهم الله من العقل والمعرفة والنظر والإستدلال والتمييز فكل من كان أكمل في معرفة الصواب من هذا كان أكمل في معرفة الموافقة والمطابقة
وهذا أمر يخبر به من خبره فقد يكون الرجل قبل أن يستيقن ما جاءت به السنة عنده شبهة ووهم لظنه أنه قد عارضها ما يعارضها به المعارض إما من عقلياته وإما من ذوقياته وإما من سياساته فإذا هداه الله وأرشده تبين له في آخر الأمر أن ما وافق الشرع هو المعقول الصريح وهو الذوق الصحيح وهو السياسة الكاملة العادلة وأن ما خالف ذلك هو من أمور أهل الجهل والظلم
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
الوجه العاشر أنه ما من قول موافق للسنة إلا وتجد العقلاء الذين يقرون به أكثر وأعظم من العقلاء الذين ينكرونه بل تجد الموافقين له
(5/319)
من العقلاء قد اتفقوا على ذلك بغير مواطأة من بعضهم لبعض وذلك يبين أنه موجب العقل الصريح بخلاف الأقوال المخالفة فإنك لا تجد من يقولها من طوائف العقلاء إلا من تواطأ على تلك المقالة التي تلقاها بعضهم عن بعض وما تواطأ عليه الناس يجوز فيه من الغلط والكذب ما لا يجوز فيما اتفق عليه العقلاء من غير مواطأة ولا تشاعر والله أعلم الدليل الثاني والثلاثون
أن يقال القول بتقديم غير النصوص النبوية عليها من عقل أو كشف أو غير ذلك يوجب أن لا يستدل بكلام الله ورسوله على شيء من المسائل العلمية ولا يصدق بشيء من أخبار الرسول لكون الرسول أخبر به ولا يستفاد من أخبار الله ورسوله هدى ولا معرفة بشيء من الحقائق بل ذلك مستلزم لعدم الإيمان بالله ورسوله وذلك متضمن للكفر والنفاق والزندقة والإلحاد وهو معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام كما أنه في نفسه قول فاسد متناقض في صريح العقل
وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق كما يجد ذلك من اعتبره وذلك لأنه إذا جوز أن يكون ما أخبر الله به ورسوله وبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمته من القرآن والحديث وما فيه من ذكر صفات الله تعالى وصفات ملائكته وعرشه والجنة والنار والأنبياء وأممهم وغير ذلك مما قصه الله في كتابه أو أمر به من التوحيد
(5/320)
والعبادات والأخلاق ونهى عنه من الشرك والظلم والفواحش وغير ذلك إذا جوز المجوز أن يكون في الأدلة العقلية القطعية التي يجب اتباعها وتقديمها عليه عند التعارض ما يناقض مدلول ذلك ومفهومه ومقتضاه لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء مما أخبر به الرسول إن لم يعلم انتفاء المعارض المذكور وهو لا يمكنه العلم بانتفاء هذا المعارض إن لم يعلم بدليل آخر عقلي ثبوت ما أخبر به الرسول وإلا فإذا لم يعلم بدليل عقلي ثبوته وليس معه ما يدله على ثبوته إلا إخبار الله ورسوله وهذا عنده مما يجوز أن يعارضه عقلي تقدم عليه فلا طريق له إلى العلم بانتفاء المعارضات العقلية إلا أن يحيط علما بكل ما يخطر ببال بني آدم مما يظن أنه دليل عقلي
وهذا أمر لا ينضبط وليس له حد فإنه لا يزال يخطر لبني آدم من الخواطر ويقع لهم من الآراء والإعتقادات ما يظنونه دلائل عقلية وهذه تتولد مع بني آدم كما يتولد الوسواس وحديث النفس فإذا جوز أن يكون فيها ما هو قاطع عقلي معارض للنصوص مستحق للتقديم عليها لم يمكنه الجزم بانتفاء هذا المعارض أبدا فلا يمكنه الجزم بشيء مما أخبر به الرسول بمجرد إخباره أبدا فلا يؤمن بشيء مما أخبر به الرسول لكون الرسول أخبر به أبدا ولا يستفيد من خبر الله ورسوله علما ولا هدى بل ولا يؤمن بشيء من الغيب الذي أخبر به الرسول إذا لم يعلم ثبوته بعقله أبدا
وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه ثم إن لم يقم عنده المعارض المقدم بقي لا مصدقا بما جاء به الرسول ولا مكذبا به
(5/321)
وهذا كفر باتفاق أهل الملل وبالاضطرار من دين الإسلام وإن قام عنده المعارض المقدم كان مكذبا للرسول فهذا في الكفر الذي هو جهل مركب وذلك في الكفر الذي هو جهل بسيط
ويتناول كلا منهما قوله تعالى { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا { لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا }
وقال تعالى { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } وأمثال ذلك
ولهذا كان هذا الأصل الفاسد مستلزما للزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه فمن طرده أداه إلى الكفر والنفاق والإلحاد ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح وظهر ما في قوله من التناقض والفساد
ومن هذا الباب دخلت الملاحدة والقرامطة الباطنية على كل فرقة من
(5/322)
الطوائف الذين وافقوهم على بعض هذا الأصل حتى صار من استجاب لهم إلى بعضه دعوة إلى الباقي إن أمكنت الدعوة وإلا رضوا منه بما أدخلوه فيه من الإلحاد فإن هذا الأصل مناقض معارض لدين جميع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه
وقد رأيت كتابا لبعض أئمة الباطنية سماه الأقاليد الملكوتية سلك فيه هذا السبيل وصار يناظر كل فريق بنحو من هذا الدليل فإنهم وافقوه على تأويل السمعيات ووافقوه على نفي ما يسمى تشبيها بوجه من الوجوه فصار من أثبت شيئا من الأسماء والصفات كاسم الموجود و الحي و العليم و القدير ونحو ذلك يقول له هذا فيه تشبيه لأن الحي ينقسم إلى قديم ومحدث والموجود ينقسم إلى قديم ومحدث ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فيلزم التركيب وهو التجسيم ويلزم التشبيه فإنه إذا كان هذا موجودا [ وهذا موجودا ] اشتبها واشتركا في مسمى الوجود وهذا تشبيه وإذا كان أحد الموجودين واجبا بنفسه صار مشاركا لغيره في مسمى الوجود ومتميزا عنه بالوجوب وما به الامتياز غير ما به الاشتراك فيكون الواجب بنفسه مركبا مما به الإشتراك وما به الإمتياز والمركب محدث أو ممكن لأنه مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه فساق من سلم له الأصول الفاسدة إلى نفي الوجود الواجب الذي يعلم ثبوته بضرورة عقل كل عاقل فأورد على نفسه أنك إذا قلت ليس بموجود ولا حي ولا ميت كان هذا تشبيها بالمعدوم أيضا فقال لا أقول لا هذا ولا هذا فأورد على
(5/323)
نفسه أنك قد قررت في المنطق أنه إذا اختلفت قضيتان بالسلب والإيجاب لزم من صدق إحداهما كذب الأخرى فإن صدق أنه موجود كذب أنه ليس بموجود وإن صدق أنه ليس بموجود كذب أنه موجود ولابد لك بذلك من إحداهما فأجاب بأني لا أقول لا هذا ولا هذا فلا أقول موجود ولا ليس بموجود ولا معدوم ولا ليس بمعدوم
فهذا منتهى كلام الملاحدة وقد حكوا مثل هذا عن الحلاج وأشباهه من أهل الحلول والإتحاد وأنهم لا يثبتونه ولا ينفونه ولا يحبونه ولا يبغضونه
فيقال لهذا الضال كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع فرفع النقيضين أيضا ممتنع فإذا امتنع أن يكون موجودا ليس بموجود امتنع أن لا يكون موجودا ولا غير موجود فقد وقعت في شر مما فررت منه
وأما التشبيه فإنك فررت من تشبيه بموجود أو معدوم فشبهته بالممتنع الذي لا حقيقة له فإن ما ليس بموجود ولا معدوم لا حقيقة له أصلا وهذا شر مما يقال فيه إنه موجود أو معدوم
وقد رام طائفة من المتأخرين كالشهر ستاني والآمدي والرازي في بعض كلامه ونحوهم أن يجيبوا هؤلاء عن هذا بأن لفظ الموجود و الحي و العليم و القدير ونحوها من الأسماء تقال على الواجب والممكن بطريق الإشتراك اللفظي كما يقال لفظ
(5/324)
المشتري على الكوكب والمبتاع وكما يقال لفظ سهيل على الكوكب والرجل المسمى بسهيل وكذلك لفظ الثريا على النجم والمرأة المسماه بالثريا ومن هنا قال الشاعر % أيها المنكح الثريا سهيلا % % عمرك الله كيف يلتقيان % % هي شامية إذا ما استقلت % % وسهيل إذا استقل يمان %
وهؤلاء متناقضون في هذا الجواب فإنهم وسائر العقلاء يقسمون الوجود إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وأمثال ذلك مع علمهم بأن التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة إن لم يكن المعنى مشتركا سواء كان متماثلا أو متفاضلا ومنهم من يخص المتفاضل بتسميته مشككا فالتقسيم لا يكون إلا في الألفاظ المتواطئة التواطؤ العام الذي يدخل فيه المشككة أو في المتواطئة التواطؤ الخاص وفي المشككة أيضا
فأما مثل سهيل فلا يقال سهيل ينقسم إلى الكوكب والرجل إلا أن يراد أن لفظ سهيل يطلق على هذا وهذا
ومعلوم أن مثل [ هذا ] التقسيم لا يراد به الإخبار عن الإطلاق في اللغة وإنما يراد به تقسيم المعنى المدلول عليه باللفظ ولهذا كان تقسيم المعاني العامة صحيحا ولو عبر عن تلك المعاني بعبارات متنوعة في اللغات فإن المقسوم هو المعنى الذي لا يختلف باختلاف اللغات
(5/325)
وأيضا فلو لم تكن هذه الأسماك متواطئة لكان لا يفهم منها عند الإطلاق الثاني معنى حتى يعرف معناها في ذلك الإطلاق الثاني كما في الألفاظ المشتركة فإنه إذا أطلقه في موضع ما يدل على معناه ثم أطلقه مرة ثانية وأراد به المعنى الآخر فإنه لا يفهم ذلك المعنى إلا بدليل يدل عليه
ثم هم مع هذا التناقض موافقون في المعنى للملاحدة فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى كالحي والعليم والقدير والموجود ونحو ذلك مشتركة اشتراكا لفظيا لم يفهم منها شيء إذا سمي بها الله إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سمي بها الله لا سيما إذا كان المعنى المفهوم منها عند الإطلاق ليس هو المراد إذا سمي بها الله
ومعلوم أن اللفظ المفرد إذا سمي به مسمى لم يعرف معناه حتى يتصور المعنى أولا ثم يعلم أن اللفظ دال عليه فإذا كان اللفظ مشتركا فالمعنى الذي وضع له في حق الله لم نعرفه بوجه من الوجوه فلا يفهم من أسماء الله الحسنى معنى أصلا ولا يكون فرق بين قولنا حي وبين قولنا ميت ولا بين قولنا موجود وبين قولنا معدوم ولا بين قولنا عليم وبين قولنا جهول أو ديز أو كجز بل يكون بمنزلة ألفاظ أعجمية سمعناها ولا نعلم مسماها أو ألفاظ مهملة لا تدل على معنى كديز وكجز ونحو ذلك
ومعلوم أن الملاحدة يكفيهم هذا فإنهم لا يمنعون إطلاق اللفظ إذا تظاهروا بالشرع وإنما يمنعون منه أن نفهم معنى
(5/326)
وسبب هذا الضلال أن لفظ التشبيه و التركيب لفظ فيه إجمال وهؤلاء أنفسهم هم وجماهير العقلاء يعلمون أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى إذ هو سبحانه { ليس كمثله شيء } لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم على الرد على هؤلاء الملاحدة وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلا للآخر ولا يجوز أن ينفى عن الخالق سبحانه كل ما يكون فيه موافقة لغيره في معنى ما فإنه يلزمه عدمه بالكلية كما فعله هؤلاء الملاحدة بل يلزم نفى وجوده ونفي عدمه وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل
وكذلك لفظ التركيب فإن ثبوت معاني لله تعالى ليس هو مما ينفيه الدليل وكون تلك المعاني من لوازم ذاته وأنه لا يكون إلا متصفا بها ليس هو تركيبا ينفيه عقل ولا شرع بل مثل هذا لابد منه كما قد بسط ذلك في مواضع كثيرة فهذا وأمثاله هي العقليات الفاسدة التي تطرق بها أهل الإلحاد وكذلك ردهم للدلالة السمعية إذا عارضها عندهم ما هو عندهم
(5/327)
عقلي يوجب أن لا يستدل بشيء من كلام الله ورسوله كما تقدم فلا يبقى عندهم لا عقل ولا سمع
وهذا الذي ذكرناه من أن هذا الأصل يوجب عدم الاستدلال بكلام الله ورسوله على المسائل العلمية قد اعترف حذاقهم به بل التزمه من التزمه من متأخري أهل الكلام كالرازي كما التزمته الملاحدة الفلاسفة
وأما المعتزلة فلا يقولون الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بل يقولون لا يحتج بالسمع على مسائل التوحيد والعدل لأن ذلك بزعمهم يتوقف العلم بصدق الرسول عليه
وكذلك متأخرو الأشعرية يجعلون القول في الصفات من الأصول العقلية وأما الأشعري وأئمة أصحابه فيحتج عليها عندهم بالسمع كما يحتج بالعقل
ولهذا لما ذكر أبو عبد الله الرازي أصول الأدلة التي يحتج بها في أصول الدين أصحابه وغيرهم ذكر هذا الأصل واعترض عليه فقال في نهاية العقول الفصل السابع في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله وذكر القياس وذكر الإلزامات ثم قال والرابع هو التمسك بالسمعيات فنقول المطالب على أقسام ثلاثة منها ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة
(5/328)
السمع ومنها ما يستحيل العلم بها إلا من السمع ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى
قال أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع مثل العلم بوجود الصانع وكونه مختارا وعالما بكل المعلومات وصدق الرسل
قال وأما القسم الثاني وهو ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولا يدركه بشيء من حواسه فإن حصول غراب على قلة جبل قاف إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقا وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلا وهو غائب عن النفس والحس استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق وأما القسم الثالث وهو معرفة وجوب الواجبات وإمكان الممكنات واستحالة المستحيلات التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها مثل مسألة الرؤية والصفات والوحدانية وغيرها
(5/329)
قلت ليس المقصود هنا استيفاء الكلام فيما ذكره من الأمثال فإن فيما ذكر أنه لا يعلم إلا بالسمع ما يمكن علمه بدون السمع إذ علم الإنسان بوجود بعض الممكنات له طرق متعددة غير إخبار الرسول وكذلك ما ذكر أنه لا يعلم بالسمع فيه كلام ليس هذا موضعه
ولكن المقصود ذكر قوله بعد ذلك [ فإنه ] قال إذا عرفت ذلك فنقول أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر وإلا لو وقع الدور وأما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما سلف وأما القسم الثالث ففي جواز [ استعمال ] الأدلة السمعية فيه إشكال
وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر كما سلف وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال
وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر
(5/330)
النقل وبين مقتضى الدليل العقلي فإما أن نكذب بالعقل وإما نأول النقل فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا العقل فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه فإذن لا يكون النقل مقطوع الصحة فإذن تصحيح النقل برد العقل يتضمن القدح في النقل وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلا فتعين تأويل النقل
فإذن الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره فحينئذ لا يكون الدليل النقلي مفيدا للمطلوب إلا إذا بينا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك الأمر إلا من وجهين إما
(5/331)
أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي وحينئذ يصير الإستدلال بالنقل فضلا غير محتاج إليه وإما بأن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلا اللهم إلا أن نقول إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه ولكنا زيفنا هذه الطريقة أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الفلانية الأخرى وحينئذ يحتاج إلى إقامة الدلالة على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لانهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي وثبت أن الدليل النقلي يتوقف إفادته اليقين على ذلك فإذا الدليل النقلي تتوقف إفادته على مقدمة غير يقينيه وهي عدم دليل
(5/332)
عقلى فوجب تأويل ذلك النقل وكل ما تبنى صحته على ما لا يكون يقينيا لا يكون هو أيضا يقينيا فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيدا لليقين
قال وهذا بخلاف الأدلة العقلية فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفي منها بأن لا يعلم فسادها بل لابد وأن يعلم بالبديهية صحتها ويعلم بالبديهية لزومها مما علم صحته بالبديهية ومتى كان كذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لإستحالة التعارض في العلوم البديهية
قال فإن قيل إن الله لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه تعالى أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل وإلا كان ذلك
(5/333)
تلبيسا من الله تعالى وأنه غير جائز قلنا هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح وأنه يجب على الله شيء ونحن لا نقول بذلك سلمنا ذلك فلم قلتم إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي وبيانه أن الله تعالى إنما يكون ملبسا على المكلف لو أسمعه كلاما يمتنع عقلا أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره وليس الأمر كذلك لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر ثم إنه يجوز أن يكون هناك دليل على خلاف ذلك الظاهر فبتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر فعلى هذا إذا أسمع الله المكلف ذلك الكلام فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقصير واقعا من المكلف لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضع القطع فثبت أنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف
(5/334)
ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون ملبسا
قال فخرج مما ذكرناه أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في المسائل العلمية ولعله يمكن أن يجاب عن هذا السؤال بما به يجاب عن تجويز ظهور المعجزات على الكاذبين نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع وخير الواحد وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية
قلت فليتدبر المؤمن العاقل هذا الكلام مع أنه قد ينزل فيه درجة ولم يجعل عدم إفادته اليقين إلا لتجويز المعارض العقلي وإلا فهو وغيره في موضع آخر ينفون أن يكون الدليل السمعي مفيدا لليقين لكونه موقوفا على مقدمات ظنية كنقل اللغة والنحو والتصريف وعدم المجاز و الإشتراك والنقل والإضمار والتخصيص وعدم المعارض السمعي أيضا مع العقلي
وبهذا دفع الآمدي وغيره الإستدلال بالأدلة السمعية في هذا الباب ونحن قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا إمكان دلالة الأدلة السمعية على اليقين وبينا فساد ما ذكره هؤلاء الذين أسسوا قواعد الإلحاد
(5/335)
والمقصود هنا أن نبين اعترافهم بما ألزمناهم به وإذا كان كذلك فيقال نحن نعلم بالإضطرار من دين الرسول أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخبر أمته بما أخبرهم به من الغيب من أسماء الله وصفاته وغير ذلك فإنه لم يرد منهم ألا يقروا بثبوت شيء مما أخبر به إلا بدليل منفصل غير خبره فإذا كان القول مستلزما لكون الرسول أراد أن لا يثبت شيء بمجرد خبره وهذا مما يعلم بالإضطرار أنه كذب على الرسول علم أن هذا القول معلوم الفساد بالإضطرار من دين الإسلام
وهؤلاء الذين سماهم أهل التحقيق هم أهل التحقيق عنده سماهم كذلك بناء على ظنه كما يسمى الإتحادية والحلولية أنفسهم أهل التحقيق ويسمي كل شخص طائفته أهل الحق بناء على ظنه واعتقاده
ومثل هذا لا يكون مدحهم زينا ولا ذمهم شيئا إلا إذا كان قولا بحق
والذي مدحه زين وذمه شين هو الله ورسوله والذين جعلهم أهل الحق هم المذكورون في قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون { أولئك هم المؤمنون حقا } فوصف المؤمنين حقا بأنهم إذا تليت عليم آياته زادتهم إيمانا وهؤلاء المعارضون لآياته إذا تليت عليهم آياته لم تزدهم إيمانا بل ريبا ونفاقا
(5/336)
وقال تعالى { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } فوصف المؤمنين بأنهم اتبعوا الحق من ربهم ومن اتبع الحق كان محقا
والمؤمنون اتبعوا الحق من ربهم فهم أحق الناس بالتحقيق وإذا كان المؤمنون هم المحققين ومن نعتهم أنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا كان الموصوفون بنقيض ذلك ليسوا من المحققين عند الله وعند رسوله بل من المحققين عند إخوانهم كما أن اليهود والنصارى والمشركين وكل طائفة من المحققين عند من وافقهم على أن ما يقولونه حق
وقد وصف المؤمنين بما ذكره في قوله تعالى { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون }
ومن المعلوم أن من ناقض الآيات المنزلة باعتقاده وهواه لم تزده إيمانا ولم يستبشر بنزولها بل تزيده رجسا إلى رجسه
وقال تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فالصادق في قوله { آمنوا } هو الذي لم
(5/337)
يحصل له ريب فيما جاء به الرسول ومن جوز أن يكون فيما أخبر به ما يعارضه صريح المعقول لم يزل في ريب من ثبوت ما أخبر به ولكن غايته أن يعلم أن الرسول صادق فيما أخبر به على طريق الجملة فإذا نظر فيما أخبر به لم يعلم ثبوت شيء مما أخبر به
ومن المعلوم أن العلم بأنه صادق مقصوده تصديق أخباره والمقصود بتصديق الأخبار التصديق بمضمونها فإذا كان لم يصدق بمضمون أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم كان بمنزلة من آمن بالوسيلة ولم يحصل له المقصود
ولو قال الحاكم إن هؤلاء الشهود صادقون في كل ما يشهدون به وهو لا يثبت بشهادة أحد منهم حقا لم يكن في تعديلهم فائدة ومن تدبر هذا الباب علم حقيقته والله أعلم الوجه الثالث والثلاثون
أن يقال نحن نعلم بالإضطرار من دين الرسول أنه أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به وقطعهم بثبوت ما أخبرهم به وأنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمنا به بل إذا أقر أنه رسول الله وأنه صادق فيما أخبر ولم يقر بما أخبر به من أنباء الغيب لجواز أن يكون ذلك متيقنا في نفس الأمر بدليل لم يعلمه المستمع ولا يمكن إثبات ما أثبته الرسول بخبره إلا بعد العلم بذلك فإن هذا ليس مؤمنا بالرسول
(5/338)
وإذا كان هذا معلوما بالإضطرار كان قول هؤلاء المعارضين لخبرة بآرائهم معلوم الفساد بالضرورة من دينه وحينئذ فإما أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله فيصدقه في كل ما أخبر به ويعلم أنه يمتنع أن يكون ذلك منتفيا في نفس الأمر وأنه لا دليل يدل على انتفائه وإما أن يكون الرجل غير مصدق للرسول في شيء مما أخبر به إلا أن يعلم ذلك بدليل منفصل غير خبر الرسول ومن لم يقر بما أخبر به الرسول إلا بدليل منفصل لم يكن مؤمنا به بل كان مع الرسول كالفقهاء بعضهم مع بعض إن قام دليل على قوله وافقه وإلا لم يوافقه
ومعلوم أن هذا حال الكفار بالرسل لا المؤمنين بهم ورؤوس هؤلاء الذين قال الله فيهم { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته }
وهذا الذي ذكره هذا في العقل ذكره طائفة أخرى في الكشف كما ذكره أبو حامد في كتابه الإحياء في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول وذكر أنه لا يستدل بالسمع على شيء من العلم الخبري وإنما الإنسان يعرف الحق بنور إلهي يقذف في قلبه ثم يعرض الوارد في
(5/339)
السمع عليه فما وافق [ ما ] شاهدوه [ بنور اليقين ] قرروه وما خالف أولوه
ومن هنا زادت طائفة أخرى على ذلك فادعوا أنهم يعلمون إما بالكشف وإما بالعقل الحقائق التي أخبر بها الرسول أكمل من علمه بها بل ادعى بعضهم أن الأنبياء والرسل يستفيدون معرفة تلك الحقائق من مشكاة أحدهم كما ادعاه صاحب الفصوص أن الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة المسمى عنده بخاتم الأولياء وادعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الموحي به إلى الرسول
ومعلوم أن هذه الأقوال من شر أقوال الكافرين بالرسول لا المؤمنين به الوجه الرابع والثلاثون
إن الذين يعارضون الشرع بالعقل ويقدمون رأيهم على ما أخبر به الرسول ويقولون إن العقل أصل للشرع فلو قدمناه عليه للزم
(5/340)
القدح في أصل الشرع إنما يصح منهم هذا الكلام إذا أقروا بصحة الشرع بدون المعارض وذلك بأن يقروا بنبوة الرسول وبأنه قال هذا الكلام وبأنه أراد به كذا وإلا فمع الشك في واحدة من هذه المقدمات لا يكون معهم عن الرسول من الخبر ما يعلمون به تلك القضية المتنازع فيها بدون معارضة العقل فكيف مع معارضة العقل
أما النبوة فمن لم يعلم أن الرسول عالم بهذه القضية التي أخبر بها وانه معصوم أن يقول فيها غير الحق لم يمكن أن يعلم حكمها بخبره فمتى جوز أن يكون غير عالم مع خبره بها يجوز عليه أن يخطئ فيما يخبر به عن الله واليوم الآخر أو أن يكذب لم يستفد بخبره علما ومن كانت النبوة عنده مكتسبة من جنس نبي الفلاسفة وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم وقوة يتصرف بها في العالم وقوة تجعل المعقولات في نفسه خيالات ترى وتسمع فتكون تلك الخيالات ملائكة الله وكلامه كما يقوله ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة لم يمكنه أن يجزم بأن الرسول عالم بما يقوله معصوم أن يقول غير الحق فكيف إذا كان يقول إن الرسول قد يقول ما يعلم خلافه
فهؤلاء يمتنع أن يستفيدوا بخبر الرسول علما فكيف يتكلمون في المعارضة
وكذلك من لم يعلم ثبوت الأخبار لم يتكلم في حصول العلم بموجبها
(5/341)
وكذلك من قال إن الدليل السمعي لا يعلم به مراد المتكلم كما يقوله الرازي ومتبعوه الذين يزعمون أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بمراد المتكلم فهؤلاء ليس عندهم دليل شرعي يفيد العلم بما أخبر به الرسول فكيف يعارضون ذلك المعقول
وكذلك أيضا من عرف أن معقولاتهم التي يعارضون بها الشرع باطلة امتنع أن يعارض بها دليلا ظنيا عنده فضلا عن أن يعارض بها دليلا يقينيا عنده ولهذا كان الذين صرحوا بتقديم الأدلة العقلية على الشرعية مطلقا كأبي حامد والرازي ومن تبعهم ليس فيهم من يستفيد من الأنبياء علما بما أخبروا به إذا لم يكونوا مقرين بأن الرسول بلغ البلاغ المبين المعصوم بل إيمانهم بالنبوة فيه ريب إما لتجويز أن يقول خلاف ما يعلم كما يقوله ابن سينا وأمثاله وإما لتجويز أن لا يكون عالما بذلك كما تقوله طائفة أخرى وإما لأنه جائز في النبوة لم يجزم بعد بأن النبي معصوم فيما يقوله وأنه بلغ البلاغ المبين فلا تجد أحدا ممن يقدم المعقول مطلقا على خبر الرسول إلا وفي قلبه مرض في إيمانه بالرسول فهذا محتاج أولا إلى أن يعلم أن محمدا رسول الله الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق وأنه بلغ البلاغ المبين وأنه معصوم عن أن يقره الله على خطأ فيما بلغه وأخبر
(5/342)
به عنه ومن ثبت هذا الإيمان في قلبه امتنع مع هذا أن يجعل ما يناقض خبر الرسول مقدما عليه الوجه الخامس والثلاثون
أن يقال قول هؤلاء متناقض والقول المتناقض فاسد وذلك أن هؤلاء يوجبون التأويل في بعض السمعيات دون بعض وليس في المنتسبين إلى القبلة بل ولا في غيرهم من يمكنه تأويل جميع السمعيات
وإذا كان كذلك قيل لهم ما الفرق بين ما جوزتم تأويله فصرفتموه عن مفهومه الظاهر ومعناه البين وبين ما أقررتموه
فهم بين أمرين إما أن يقولوا ما يقوله جمهورهم إن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه
فيقال لهم فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء فإنه لا يمكنكم نفى جميع المعارضات العقلية كما تقدم بيانه
وأيضا فعدم المعارض العقلي القاطع لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي فإنه على قولكم إذا جوزتم على الشارع أن يقول قولا له معنى مفهوم وهو لا يريد ذلك لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس أو لا تخطر للخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك جاز أن يريد بكلامه ما يخالف مقتضاه بدون ذلك لجواز أن يظهر في الآخرة ما يخالف ذلك أو لكون ذلك ليس معلوما بدليل
(5/343)
عقلي ونحو ذلك فإنه إذا جاز أن يكون تصديق الناس له فيما أخبر به موقوفا على مثل ذلك الشرط جاز أن يكون موقوفا على أمثاله من الشروط إذ الجميع يشترك في أن الوقف على مثل هذا الشرط يوجب أن لا يستدل بشيء من أخباره على العلم بما أخبر به
وإن قالوا بتأول كل شيء إلا ما علم بالإضطرار أنه أراده كان ذلك أبلغ فإنه ما من نص وارد إلا ويمكن الدافع له أن يقول ما يعلم بالإضطرار أنه أراد هذا
فإن كان للمثبت أن يقول أنا أعلم بالإضطرار أنه أراده
كان لمن أثبت ما ينازعه فيه هذا المثبت أن يقول أيضا مثل ذلك
ولا ريب أن المثبتين للعلو والصفات عندهم أن هذا معلوم بالإضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم فهم لا يتناقضون ومن نازعهم يتناقض فإنه لا يمكنه أن يقول لغيره من النفاة شيئا إلا أمكن أهل الإثبات للعلو أن يقولوا له فإما أن تقبل مثل هذا وإلا كان متناقضا لا يستقيم له قول عند واحد من الطوائف وهذا يبين فساد قوله وهو المطلوب
وهذا الذي ذكرناه بين في كلام كل طائفة حتى في كلام المثبتين لبعض الصفات دون بعض فإنك إذا تأملت كلامهم لم تجد لهم قانونا فيما يتأول وما لا يتأول بل لازم قولهم إمكان تأويل الجميع فلا يقرون إلا بما يعلم ثبوته بدليل منفصل عن السمع وهم لا يجوزون مثل ذلك ولا يمكنهم أن يقولوا مثل ذلك
(5/344)
فعلم أن قولهم باطل وأن قولهم لا نتأول إلا ما عارضه القطعي قول باطل ومع بطلان قولهم قد يصرحون بلازمه وأنه لا يستفاد من السمعيات علم كما ذكره الرازي وغيره مع أنهم يستفيدون منها علما فيتناقضون ومن لم يتناقض منهم فعليه أن يقول أخبار الرسول ثلاثة أقسام ما علم ثبوته بدليل منفصل صدق به وما علم أنه عارضه العقل القاطع كان مأولا وما لا يعلم بدليل منفصل [ لا يمكن ] لا ثبوته ولا انتفاؤه وكان مشكوكا فيه موقوفا
وهذا حقيقة قولهم الذي ذكرناه أولا وهو ما يعلم بالإضطرار من دين الإسلام أنه مناقض لما أوجبه الرسول من الإيمان بأخباره وأنه في الحقيقة عزل للرسول عن موجب رسالته وجعل له كأبي حنيفة مع الشافعي وأحمد بن حنبل مع مالك ونحو ذلك الوجه السادس والثلاثون
أن يقال هم إذا أعرضوا عن الأدلة الشرعية لم يبق معهم إلا طريقان إما طريق النظار وهي الأدلة القياسية العقلية وإما طريق الصوفية وهي الطريقة العبادية الكشفية وكل من جرب هاتين
(5/345)
الطريقين علم أن ما لا يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد ولهذا كان من سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك إن كان له نوع عقل وتمييز وإن كان جاهلا دخل في الشطح والطامات التي لا يصدق بها إلا أجهل الخلق
فغاية هؤلاء الشك وهو عدم التصديق بالحق وغاية هؤلاء الشطح وهو التصديق بالباطل والأول يشبه حال اليهود والثاني يشبه حال النصارى فحذاق أهل الكلام والنظر يعترفون بالحيرة والشك كما هو معروف عن غير واحد منهم كالذي كان يتكلم على المنبر فأخذ ينكر العلو على العرش ويقول كان الله ولا عرش وهو لم يتحول عما كان عليه فقام إليه الشيخ أبو الفضل جعفر الهمذاني وقال دعنا يا أستاذ من ذكر العرش واستواء الله عليه يعني أن هذا يعلم بالسمع وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ما قال عارف قط يا الله إلا ويجد قبل أن يتحرك لسانه في نفسه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فهل عندك [ من جواب على هذا ]
(5/346)
فصل
ذكر أبو حامد في كتاب ( الإحياء كلاما طويلا في علم الظاهر والباطن قال وذهبت طائفة إلى التأويل فيما يتعلق بصفات الله تعالى وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهره ومنعوا التأويل وهم الأشعرية أي متأخروهم الموافقون لصاحب الإرشاد قال وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا كونه سميعا بصيرا والرؤية والمعراج وإن لم يكن بالجسد وأولوا عذاب القبر والميزان والسراط وجملة من أحكام الآخرة ولكن أقروا بحشر الأجساد وبالجنة واشتمالها على المأكولات
(5/347)
قلت تأويل الميزان والصراط وعذاب القبر والسمع والبصر إنما هو قول البغداديين من المعتزلة دون البصرية
قال أبو حامد وبترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة إلى أمور عقلية روحانية ولذات عقلية إلى أن قال وهؤلاء هم المسرفون في التأويل وحد الاقتصاد بين هذا وهذا دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هم عليه ونظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فيه فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه فأما من يأخذ هذه الأمور كلها من السمع فلا يستقر له قدم
قلت هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم شيء من الأمور العلمية بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة
وهذان أصلان للإلحاد فإن كل ذي مكاشفة إن لم يزنها بالكتاب والسنة وإلا دخل في الضلالات
(5/348)
وأفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأفضل من كان محدثا من هذه الأمة عمر للحديث وللحديث الآخر إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ومع هذا فالصديق أفضل منه لأن الصديق إنما يأخذ من مشكاة الرسالة لا من مكاشفته ومخاطبته وما جاء به الرسول معصوم لا يستقر فيه الخطأ وأما ما يقع لأهل القلوب من جنس المخاطبة والمشاهدة ففيه صواب وخطأ وإنما يفرق بين صوابه وخطائه بنور النبوة كما كان عمر يزن ما يرد عليه بالرسالة فما وافق ذلك قبله وما خالفه رده
قال بعض الشيوخ ما معناه قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف وقال أبو سليمان الداراني إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين الكتاب والسنة وقال أبو عمرو إسماعيل بن نجيد كل ذوق أو كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وقال الجنيد بن محمد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا وقال سهل أيضا يا معشر المريدين لا تفارقوا السواد على البياض فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق
(5/349)
وهذا وأمثاله كثير في كلام الشيوخ العارفين يعلمون أنه لا تحصل لهم ] حقيقة التوحيد والمعرفة واليقين إلا بمتابعة المرسلين وقد يحصل لهم من الدلائل العقلية القياسية البرهانية ومن المخاطبات والمكاشفات العيانية ما يصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم
كما قال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } وقال تعالى { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط }
وقال تعالى { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى }
وتجد كثيرا من السالكين طريق العلم والنظر والاستدلال الذين اشتبهت عليهم الأمور وتعارضت عندهم الأدلة والأقيسة يحسنون الظن بطريق أهل الإرادة والعبادة والمجاهدة طانين أنه ينكشف بها الحقائق
وكثير من السالكين طريق العبادة والإرادة والزهد والرياضة
(5/350)
الذين اشتبهت عليهم الأمور وتعارضت عندهم الأذواق والمواجيد يحسنون الظن بطريق أهل العلم والنظر والاستدلال ظانين أنه ينكشف به لهم الحقائق
وحقيقة الأمر أنه لابد من الأمرين فلابد من العلم والقصد ولابد من العلم والعمل به ومن علم بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم
والعبد عليه واجبات في هذا وهذا فلابد من أداء الواجبات ولابد أن يكون كل منهما موافقا لما جاء به الرسول فمن أقبل على طريقة النظر والعلم من غير متابعة للسنة ولا عمل بالعلم كان ضالا في علمه غاويا في عمله ومن سلك طريق الإرادة والعبادة والزهد والرياضة من غير متابعة للسنة ولا علم ينبني العمل عليه كان ضالا غاويا ومن كان معه علم صحيح مطابق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بلا عمل به كان غاويا ومن كان معه عمل موافق للسنة بدون العلم المأمور به كان ضالا فمن خرج عن موجب الكتاب والسنة من هؤلاء وهؤلاء كان ضالا وإذا لم يعمل بعلمه أو عمل بغير علم كان ذاك فسادا ثانيا والذين لم يعتصموا بالكتاب والسنة من أهل الأحوال والعبادات والرياضات والمجاهدات ضلالهم أعظم من ضلال من لم يعتصم بالكتاب والسنة من أهل الأقوال والعلم وإن كان قد يكون في هؤلاء من الغي ما ليس فيهم فإنهم يدخلون في أنواع من الخيالات الفاسدة والأحوال الشيطانية المناسبة لطريقهم
كما قال تعالى { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم }
(5/351)
والإنسان همام حارث فمن لم يكن همه وعمله ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كان همه وعمله مما لا يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
والأحوال نتائج الأعمال فيكون ما يحصل لهم بحسب ذلك العمل وكثيرا ما تتخيل له أمور يظنها موجودة في الخارج ولا تكون إلا في نفسه فيسمع خطابا يكون من الشيطان أو من نفسه يظنه من الله تعالى حتى أن أحدهم يظن أنه يرى الله بعينه وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج كما سمعه موسى بن عمران ومنهم من يكون ما يراه شياطين و [ ما ] يسمعه كلامهم [ وهو ] يظنه من كرامات الأولياء وهذا باب واسع بسطه موضع آخر
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام
(5/352)
وكثيرا ما يرى الإنسان صورة اعتقاده فيكون ما يحصل له بمكاشفته ومشاهدته هو ما اعتقده من الضلال حتى أن النصراني يرى في كشفه التثليث الذي اعتقده وليس أحد من الخلق معصوما أن يقر على خطأ إلا الأنبياء فمن أين يحصل لغير الأنبياء نور إلهي تدرك به حقائق الغيب وينكشف له أسرار هذه الأمور على ما هي عليه بحيث يصير بنفسه مدركا لصفات الرب وملائكته وما أعده الله في الجنة والنار لأوليائه وأعدائه
وهذا الكلام أصله من مادة المتفلسفة والقرامطة الباطنية الذين يجعلون النبوة فيضا يفيض من العقل الفعال على نفس النبي ويجعلون ما يقع في نفسه من الصور هي ملائكة الله وما يسمعه في نفسه من الأصوات هو كلام الله ولهذا يجعلون النبوة مكتسبة فإذا استعد الإنسان بالرياضة والتصفية فاض عليه ما فاض على نفوس الأنبياء وعندهم هذا الكلام باطل باتفاق المسلمين واليهود والنصارى
ومع هذا فإن هؤلاء لا يقولون إن كل أحد يمكنه أن يدرك بالرياضة ما أدركه من هو أكمل منه فلا يتصور على هذا الأصل أن يدرك عامة الخلق ما أدركه النبي صلى الله عليه وسلم ولو فعلوا ما فعلوا فإن كان العلم بما أخبر به لا يعلم إلا بهذا الطريق لم يمكن معرفته بحال
ثم من المعلوم أن هذا لو كان ممكنا لكان السابقون الأولون أحق
(5/353)
الناس بهذا ومع هذا فما منهم من ادعى أنه أدرك بنفسه ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم
ومن المعلوم أن الله فضل بعض الرسل على بعض وفضل بعض النبيين على بعض
كما قال تعالى { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض }
وقال { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض }
كما خص موسى بالتكليم فلا يمكن عامة الأنبياء والرسل أن يسمع كلام الله كما سمعه موسى ولا يمكن غير محمد أن يدرك بنفسه ما أراه الله محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وغير ليلة المعراج
فإذا كان إدراك مثل ذلك لا يحصل للرسل والأنبياء فكيف يحصل لغيرهم
ولكن الذي قال هذا يظن أن تكليم الله لموسى من جنس الإلهامات التي تقع لآحاد الناس ولهذا ادعوا أن الواحد من هؤلاء قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران وله في كتاب مشكاة الأنوار من الكلام المبني على أصول هؤلاء المتفلسفة ما لا يرضاه لا اليهود ولا النصارى ومن هناك مرق صاحب خلع النعلين وأمثاله من
(5/354)
أهل الإلحاد كصاحب الفصوص ابن عربي الذي ادعى أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وأن الأنبياء جميعهم إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء
وتلك المعرفة عندهم هي كون الوجود واحدا لا يتميز فيه وجود الخالق عن وجود المخلوق وادعى أن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول وخاتم الأولياء وإن كان قد تكلم به أبو عبد الله الترمذي وغيره وتكلموا فيه بكلام باطل أنكره عليهم أهل العلم والإيمان فلم يصلوا به إلى هذا الحد
ولكن هذا بناه ابن عربي وأمثاله من الملاحدة على أصول الفلاسفة الصابئة وهؤلاء أخذوا كلام الفلاسفة أخرجوه في قالب المكاشفة والمشاهدة
والملك عند هؤلاء ما يتخيل في نفس النبي من الصورة الخيالية وهم يقولون إن للنبي ثلاث خصائص إحداها أن يكون له قوة
(5/355)
قدسية ينال بها العلم بلا تعلم الثانية أن تكون له قوة نفسانية يؤثر بها في هيولي العالم الثالثة أن يرى ويسمع في نفسه بطريق التخيل ما يتمثل له من الحقائق فيجعلون ما يراه الأنبياء من الملائكة ويسمعونه منهم إنما وجوده في أنفسهم لا في الخارج
وخاتم الأولياء عندهم يأخذ المعقولات الصريحة التي لا تفتقر إلى تخيل ومن كان هذا قوله قال إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى خاتم الأنبياء فإن الملك عنده هو الخيال الذي في نفس النبي وهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الخيال
فهذا وأمثاله هو المكاشفة التي يرجع إليها من استغنى عن تلقي الأمور من جهة السمع وهؤلاء هم الذين سلكوا ما أشار إليه صاحب الإحياء وأمثاله ممن جرى في بعض الأمور على قانون الفلاسفة
وطريق هؤلاء المتفلسفة شر من طريق اليهود والنصارى وقد بسط الكلام على طريقهم في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هؤلاء مع إلحادهم وإعراضهم عن الرسول وتلقى الهدى من طريقه وعزله في المعنى هم متناقضون في قول مختلف يؤفك عنه من أفك فكل من أعرض عن الطريقة السلفية النبوية الشرعية الإلهية فإنه لابد أن يضل ويتناقض ويبقى في الجهل المركب أو البسيط
(5/356)
وكان المقصود أولا بيان تناقض من أعرض عن الأدلة السمعية الشرعية في الأصول الخبرية كالصفات والنبوات والمعاد وأنه من سلك طريقا يتناول به علم هذه الأمور غير الطريقة الشرعية النبوية فإن قوله متناقض فاسد وليس له قانون مستقيم يعتمد عليه فكيف بمن عارضها بطريق تناقضها يعتمد فيها على آراء متناقضة يحسبها براهين عقلية ومشاهدات ومخاطبات ربانية وهي خيالات فاسدة وأوهام باطلة كما قال السهيلي أعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي
وأما بيان فساد ذلك من جهة الرسل والإيمان بهم فنقول الوجه السابع والثلاثون
أنا نعلم بالاضطرار من دين النبي صلى الله عليه وسلم ودين أمته المؤمنين به بطلان لوازم هذا القول وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم بل نعلم بالاضطرار من دينه أن لوازم هذا القول من أعظم الكفر والإلحاد وذلك لأن لازم هذه المقالة وحقيقتها ومضمونها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون فيما أخبر به عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا علم ولا هدى ولا كتاب منير فلا يستفاد منه علم بذلك ولا هدى يعرف به الحق من الباطل ولا يكون الرسول قد هدى الناس ولا بلغهم بلاغا بينا ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور ولا هداهم إلى صراط العزيز الحميد
(5/357)
ومعلوم أن كثيرا من خطاب القرآن بل أكثره متعلق بهذا الباب فإن الخطاب العلمي في القرآن أشرف من الخطاب العملي قدرا وصفة
فإذا كان هذا الخطاب لا يستفيدون منه معرفة ولم يبين لهم الرسول مراده ومقصوده بهذا الخطاب بل إنما يرجع أحدهم في معرفة الأمور التي ذكرها ووصفها وأخبرهم عنها إلى مجرد رأيه وذوقه فإن وافق خبر الرسول ما عنده صدق بمفهوم ذلك ومقتضاه وإلا أعرض عنه كما يعرض المسلم عن الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب كان هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول
وهذا يعلمه كل من علم ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان مؤمنا أو كافرا فإن كل من بلغته دعوة الرسول وعرف ما كان يدعو إليه علم أنه لم يكن يدعو الناس إلى أن يعتقدوا فيه هذه العقيدة
فالمقصود أنه يعلم بالاضطرار أن هؤلاء مناقضون لدعوة الرسول وأن هذا يعرفه كل من عرف حال الرسول من مؤمن وكافر ولوازم هذا القول أنواع كثيرة من الكفر والإلحاد كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى
(5/358)
الوجه الثامن والثلاثون
أن يقال إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين للناس أصول إيمانهم ولا عرفهم علما يهتدون به في أعظم أمور الدين وأجل مقاصد الدعوة النبوية وأجل ما خلق الخلق له وأفضل ما أدركه الخلق وحصلوه وانتهوا إليه بل إنما بين لهم الأمور العملية فإذا كان كذلك فمن الملعوم أن من علمهم وبين لهم أشرف القسمين وأعظم النوعين كان ما أتاهم به أفضل مما أتاهم به من لم يبين إلا القسم المفضول والنوع المرجوح
وحينئذ فمذهب النفاة للصفات ليس من أئمته أحد من خيار هذه الأمة وسابقيها وإنما أئمتهم الكبار القرامطة الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم ومن يوافق هؤلاء من ملاحدة الفلاسفة وملاحدة المتصوفة القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد كابن سينا والفارابي وابن عربي وابن سبعين وأمثال هؤلاء
ثم من هو أمثل هؤلاء كأئمة الجهمية مثل الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وأبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام
(5/359)
وبشر المريسي وثمامة بن أشرس وأمثال هؤلاء فيكون ما أتى به هؤلاء من العلم والهدى والمعرفة أفضل وأشرف مما أتى به موسى بن عمران ومحمد بن عبد الله سيد ولد آدم وأمثالهما من الرسل صلوات الله عليهم وسلامه لأن هؤلاء عند النفاة الجهمية لم يبينوا افضل العلم وأشرف المعرفة وإنما بينها أولئك على قول النفاة
ولازم هذا القول أن يكون عند النفاة الجهمية أولئك أفضل من الأنبياء والرسل في العلم بالله وبيان العلم بالله وقد صرح أئمة هؤلاء بهذا فابن عربي وأمثاله يقولون إن الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول
وابن سبعين يقول إنه بين العلم الذي رمز إليه هرامس الدهور الاولية ورامت إفادته الهداية النبوية فعلى قوله إن الأنبياء راموا إفادته وما أفادوه
(5/360)
وطائفة من المتفلسفة يقولون إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه وهكذا ملاحدة الشيعة من الإسماعيلية ونحوهم يقولون إن أئمتهم كمحمد بن إسماعيل بن جعفر ونحوه أفضل من موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين
ثم إن هذا كثر في طوائف من جهال البربر والأكراد والفرس والعرب يعتقدون في شيخهم أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم ومن شيوخ هؤلاء من يكون منافقا زنديقا
ومن قال في أئمة الإسماعيلية وأمثالهم من الشيوخ المنافقين والفاسقين إنه أفضل من الرسل فإن هؤلاء شر من النصارى فإن النصارى يزعمون أن الحواريين وأمثالهم أفضل من إبراهيم الخليل وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء والحواريون كانوا مؤمنين فإذا كان من قال هذا من النصارى من أجهل الناس وأكفرهم فمن فضل ملحدا من الملاحدة على أنبياء الله ورسله كان كفره أعظم من كفر النصارى من هذا الوجه
(5/361)
بل هؤلاء قد يكونون شرا ممن يفضل من النصارى على إبراهيم وموسى وداود وسليمان وغيرهم كبولص وأمثاله الذين يقال إنهم ابتدعوا للنصارى ما ابتدعوه من الضلالات وأضلوهم وأدخلوا في دين المسيح من دين المشركين والصابئين من الروم وأمثالهم ما أفسدوا به دين المسيح صلى الله عليه وسلم وجعلوا النصارى على الضلالات التي فارقوا بها دين المسيح حتى قال من قال من العلماء إن النصارى صاروا على مذهب الروم المشركين لا أن الروم صاروا على دين النصارى فإن أولئك غيروا شريعة دين المسيح مستبدلين بها ما استبدلوه من شرائع المشركين وغايتهم أنه ركبوا دينا من دين الفلاسفة والصابئين والمشركين ودين النصارى كما صنع ماني لما ركب دينا من دين المجوس ودين النصارى
(5/362)
فإذا كان هؤلاء من أجهل الناس وأكفرهم فمن جعل أئمة الملاحدة الباطنية أفضل من محمد وإبراهيم وموسى وعيسى كان أكفر من هؤلاء
وهؤلاء الملاحدة ركبوا مذهبا من دين المجوس ودين الصابئين ودين رافضة هذه الأمة فطافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب فإنهم يبطنون من مناقضة الرسل وإبطال ما جاؤوا به ما لم يبطنه أتباع بولص وأمثاله من النصارى
ومن لم يصل إلى هذا الحد من ملاحدة المتكلمين والمتعبدين ونحوهم فقد شاركهم في الأصل وهو تفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء ومن لم يقر منهم بتفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء لزمه ذلك لزوما لا محيد عنه كما تقدم إذا جعل العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والمعاد لا يستفاد من خطاب الأنبياء وكلامهم وبيانهم وطريقهم التي بينوها وإنما يستفاد من كلام شيوخه وأئمته الوجه التاسع والثلاثون
أن يقال إن الرسل لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب ولو سكتوا عنه للزم تفضيل شيوخ النفاة وأئمتهم على الأنبياء كما تقدم فكيف إذا تكلموا فيه بما يفهم منه الخلق نقيض الحق على قول النفاة
(5/363)
فإذا كان الحق هو قول النفاة ولم يتكلموا إلا بما يدل على نقيضه كانوا مع أنهم لم يهدوا الخلق ويعلموهم الحق عند النفاة قد لبسوا عليهم ودلسوا بل أضلوهم وجهلوهم وأخرجوهم إلى الجهل المركب وظلمات بعضها فوق بعض إما من علم كانوا عليه وإما من جهل بسيط أو حيروهم وشككوهم وجعلوهم مذبذبين لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال إذ كان ما تكلموا به عارضوا به طرق العلم العقلية والكشفية
فعند هؤلاء كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم يمرض ولا يشفى ويضل ولا يهدى ويضر ولا ينفع ويفسد ولا يصلح ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى كما يوجد في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة كابن الخطيب وابن سينا وابن عربي وأمثالهم خيرا من كلام الله وكلام رسله فلا يكون خير الكلام كلام الله ولا أصدق الحديث حديثه بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذاب الذي ليس فيه كذب في نفسه وإن كانت نسبته إلى الله كذب ولكنه مما لا يفيد كقوله الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا
(5/364)
لجليل عند هؤلاء الملاحدة خيرا من كلام الله الذي وصف به نفسه ووصف به ملائكته واليوم الآخر وخيرا من كلام رسوله لأن قرآن مسيلمة وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة فلا مضرة فيه ولا فساد بل يضحك المستمع كما يضحك الناس من أمثاله
وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم وأديانهم وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان باله ورسوله أو يشكوا ويرتابوا في الحق أو يكونوا إذا عرفوا بعقلهم تعبوا تعبا عظيما في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه ومعاداة من يقر بذلك وهم السواد الأعظم من أتباع الرسل
وإنما ذكرنا هذا لأن كثيرا من الجهمية النفاة يقولون فائدة إنزال هذه النصوص المثبتة للصفات وأمثالها من الأمور الخبرية التي يسمونها هم المشكل والمتشابه فائدتها عندهم اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها حتى تنال النفوس كد الاجتهاد وحتى تنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق فحقيقة الأمر عندهم أن الرسل خاطبوا الخلق بما لا يبين الحق ولا يدل على العلم ولا يفهم منه الهدى بل يدل على الباطل ويفهم منه الضلال ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسول اجتهادهم في رد ما أظهرته الرسل وأفهمته الخلق وأنهم بسبب ذلك ينظرون نظرا
(5/365)
يؤديهم إلى معرفة الحق من غير أن ينصب الرسول لهم على الحق دلالة ولا بينة لهم بخطابه أصلا فمثال ذلك عندهم مثل من أرسل مع الحجاج أدلة يدلونهم على طريق مكة وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطاب يدلهم على غير طريق مكة ليكون ذلك الخطاب سببا لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا طريق مكة بنظرهم لا بأولئك الأدلاء وحينئذ يردون ما فهم من كلام الأدلاء ويجتهدون في نفي دلالته وإبطال مفهومه ومقتضاه
وإذا كان الأمر كذلك فمن المعلوم أن خلقا كثيرا لا يتبعون إلا الأدلاء الذين يدعون أنهم أعلم بالطريق منهم وأن ولاة الأمور قد قلدوهم دلالة الحاج أو تعريفهم الطريق وأن درك ذلك عليهم فيتبعون الأدلاء
والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم يقصدوا بكلامهم الدلالة والإفهام والإرشاد إلى سبيل الرشاد صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده فاختلفوا في الطرق وتشتتوا فمنهم من سلك طرقا أخرى غير طريق مكة فأفضت بهم إلى أودية مهلكة ومفاوز متلفة وارض متشعبة فأهلكتهم
وطائفة أخرى شكوا وحاروا فلا مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود ولا لطرق المخالفين للأدلاء ركبوا وسلكوا بل وقفوا مواقف التائهين الحائرين حتى هلكوا أيضا في أمكنتهم جوعا وعطشا كما هلك
(5/366)
أرباب الطرق المتشعبة فلم يظفروا بالمطلوب ولا نالوا المحبوب بل هلكوا هلاك الخاسر الحائر
وآخرون اختصموا فيما بينهم فصار هؤلاء يقولون الصواب فيما ذكره الأدلاء ونطق به هؤلاء الخبراء وآخرون يقولون بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون إنهم أخبر وأحذق وكلامهم في الدلالة أبين وأصدق وآخرون حاروا مع من الصواب ووقفوا موقف الارتياب فاقتتل هؤلاء وهؤلاء وخذل الواقفون الحائرون لهؤلاء ولهؤلاء ولكن فاتت باختلاف أولئك مصالح دينهم ودنياهم فهلك الحجيج وكثر الضجيج وعظم النشيج واضطربت السيوف وعظمت الحتوف وتزاحف الصفوف وحصل من الفتنة والشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد
فهل من فعل هذا بالحجيج يكون قد هداهم السبيل وأرشدهم إلى اتباع الدليل أم يكون مفسدا عليهم دينهم ودنياهم فاعلا بهم ما لا يفعله إلا أشد عداهم وإذا قال إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحجاج في أن يعرفوا الطريق بعقولهم وكشوفهم ولا يستدلوا بكلام الأدلاء الذين أرسلتهم لتعريفهم لينالوا بذلك أجر المجالدين وتنبعث هممهم إلى طريق المجادلين هل يصدقه في ذلك عاقل أو يقبل عذره من عنده حاصل
فهذا مثال ما يقوله النفاة في رسل الله الذين أرسلهم الله تعالى إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم سبيل الله ويدعوهم إليه كما قال تعالى
(5/367)
{ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد }
وقال تعالى { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا }
وقال تعالى { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } وأمثال ذلك
فجعل هؤلاء الجهاد في إفساد سبيل الله جهادا في سبيل الله والاجتهاد في تكذيب رسل الله اجتهادا في تصديق رسل الله والسعي في إطفاء نور الله سعيا في إظهار نور الله والحرص على أن لا تصدق كلمته ولا تقبل شهادته أو لا تفيد دلالته سعيا في أن تكون كلمة الله هي العليا والمبالغة في طريق أهل الإشراك بالله والتعطيل مبالغة في طريق أهل التوحيد السالكين سواء السبيل فقلبوا الحقائق وأفسدوا الطرائق وأضلوا الخلائق
وهذه المعاني وأمثالها وأعظم منها يعرفها كل من فهم لوازم أقوال هؤلاء المبدلين المعطلين وإن كان قد التبس كثير من كلامهم على من لا يعرف لا الحق ولا نقيضه بل صار حائرا حتى أنك تجد كثيرا ممن عنده علم وفقه وعبادة وزهد وحسن قصد وقد ضرب في العلم والدين بسهم وافر وهو لا يختار أن ينحاز عن المؤمنين بالله واليوم الآخر فيسمع كلام الله وكلام رسوله وأهل العلم والإيمان
(5/368)
وكلام أهل الزندقة والإلحاد الذين سعوا في الأرض بالفساد فيؤمن بهذا وهذا إيمانا مجملا ويصدق الطائفتين أو يعرض عنهما فلا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء بمنزلة من سمع كلام محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم وكلام مسيلمة الكاذب الكافر ولم يفهم ما بينهما من التناقض والاختلاف فصار يصدق هذا وهذا ويقر كلا منهما على ما قاله ويسلم إليه حاله ويقول هذا رسول الله وهذا رسوله
لكن هؤلاء لا يمكنهم التظاهر بين المسلمين بإظهار رسالة غير محمد صلى الله عليه وسلم ولكن يقولون ما هو بمعنى الرسالة أو أبلغ منها فيقولون هذا كلام رسول الله وهذا كلام أولياء الله بل كلام خاتم الأولياء وهذا كلام العارفين المحققين وكلام العقلاء أهل البراهين وكلام النظار المحققين ونحن نسلم هذا وهذا ففضلاؤهم الذين يفهمون التناقض هم في الباطن مع أعداء الرسول وإليهم أميل وهم عندهم أهل التحقيق والتبيين بحقيقة الطريق
وأما من لم يفهم التناقض فقد يكون الطائفتان عنده على السواء وقد يكون إلى أهل مسيلمة أميل لمعنى من المعاني وإلى أبي بكر الصديق وأمثاله أميل من وجه ثان وربما رجح هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه آخر
فهذا وأمثاله من الأمور الواقعة بسبب هذه الواقعة التي أصلها
(5/369)
ترك الاستدلال بكلام الله ورسوله على الأمور العلمية والمطالب الخيرية والمعارف الإلهية الوجه الأربعون
أن يقال كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في الطب أو الحساب أو النحو أو السياسة والأخلاق أو الهيئة أو غير ذلك من الأمور بكلام عظم قدره وكبر أمره وذكر أنه بين لهم به وعلم وهدى به وأفهم ولم يكن في ذلك الكلام بيان تلك المعلومات ولا معرفة لتلك المطلوبات بل كانت دلالة الكلام على نقيض الحق أكمل وهي على غير العلم أدل كان هذا إما مفرطا في الجهل والضلالة أو الكذب والشيطنة والنذالة فكيف إذا كان قد تكلم في الأمور الإلهية والحقائق الربانية التي هي أجل المطالب العالية وأعظم المقاصد السامية بكلام فضله على كل كلام ونسبه إلى خالق الأنام وجعل من خالفه شبيها بالأنعام وجعلهم من شر الجهلة الضلال الكفار الطغام وذلك الكلام لم يدل على الحق في الأمور الإلهية ولا أفاد علما في مثل هذه القضية بل دلالته ظاهرة في نقيض الحق والعلم والعرفان مفهمة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجح إليه ذوو الإيقان فهل يكون مثل هذا المتكلم إلا في غاية الجهل والضلال أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال
(5/370)
فهذا حقيقة قول هؤلاء الملاحدة في رسل الله الذين هم أفضل الخلق وأعلمهم بالله وأعظمهم هدى لخلق الله لا سيما خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم الذي هو أعلم الخلق بالله وأنصح الخلق لعباد الله وأفصح الخلق في بيان هدى الله صلوات الله وسلامه عليه وعيهم أجمعين
ومن المعلوم أن من وصف الأمر على خلاف ما هو عليه فإما أن يكون قد أتي من علمه أو قصده أو عجزه فإنه قد يكون جاهلا بالحق وقد لا يكون جاهلا به بل ليس مراده تعليم المخاطبين وهداهم وبيان الأمر لهم كما يقصده أهل الكيد والخداع والنفاق وأمثالهم وإما أن يكون علمه تاما وقصده البيان لكنه عجز عن البيان والإفصاح لقصور عبارته وعجزه عن كمال البيان والإيضاح
فإن الفعل يتعذر لعدم العلم أو لعدم القدرة أو لعدم الإرادة فأما إذا كان الفاعل له مريدا له وهو قادر عليه وعالم بما يريده لزم حصول مطلوبه
ومن المعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته وملائكته ومعاده وأمثال ذلك من الغيب وهو أحرص الخلق على تعليم الناس وهدايتهم
كما قال تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }
ولهذا كان من شدة حرصه على هداهم يحصل له ألم عظيم إذا لم
(5/371)
يهتدوا حتى يسليه ربه ويعزيه كقوله تعالى { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل }
وقال تعالى { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء }
وقال تعالى { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } ز وقال تعالى { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين }
ثم إنه سبحانه وتعالى أمره بالبلاغ المبين فقال تعالى { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين }
وقال تعالى { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين }
وقال تعالى { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين }
(5/372)
ومعلوم أنه كان من أفصح الناس وأحسنهم بيانا واللغة التي خاطب بها أتم اللغات وأكملها بيانا وقد امتن الله عليهم بذلك كما في قوله تعالى { الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }
وقال تعالى { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }
وقال تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }
وقال تعالى { نزل به الروح الأمين } على قلبك لتكون من المنذرين { بلسان عربي مبين }
وقال تعالى { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } وأمثال ذلك
فإذا كان المخاطب أعلم الخلق بما يخبر به عنه ويصفه ويخبر به وأحرص الخلق على تفهيم المخاطبين وتعريفهم وتعليمهم وهداهم وأقدر الخلق على البيان والتعريف لما يقصده ويريده كان من الممتنع بالضرورة أن لا يكون كلامه مبينا للعلم والهدى والحق فيما خاطب به وأخبر عنه وبينه ووصفه بل وجب أن يكون كلامه أحق الكلام بأن يكون دالا على العلم والحق والهدى وأن يكون ما ناقض كلامه من الكلام أحق الكلام بأن يكون جهلا وكذبا وباطلا
(5/373)
وهذا قول جميع من آمن بالله ورسوله فتبين أن قول الذين يعرضون عن طلب الهدى والعلم في كلام الله ورسوله ويطلبونه في كلام غيره من أصناف أهل الكلام والفلسفة والتصوف وغيرهم هم من أجهل الناس وأضلهم بطريق العلم فكيف بمن يعارض كلامه بكلام هؤلاء الذين عارضوه وناقضوه ويقول إن الحق الصريح والعلم والهدى إنما هو في كلام هؤلاء المناقضين المعارضين لكلام رسول رب العالمين دون ما أنزله الله من الكتاب والحكمة وبعث به رسوله من العلم والرحمة الوجه الحادي والأربعون
أن يقال كل من سمع القرآن من مسلم وكافر علم بالضرورة أنه قد ضمن الهدى والفلاح لمن اتبعه دون من خالفه كما قال تعالى { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين }
وقال تعالى { المص } كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء }
وقال { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى { وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى }
(5/374)
وقال تعالى { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون }
وقال تعالى { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }
وقال تعالى { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض }
وكذلك نعلم أنه ذم من عارضه وخالفه وجادل بما يناقضه كقوله تعالى { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } وقال تعالى { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } وأمثال ذلك
وإذا كان كذلك فقد علم بالاضطرار أن من جاء بالقرآن أخبر أن من صدق بمضمون أخباره فقد علم الحق واهتدى ومن أعرض عن ذلك كان جاهلا ضالا فكيف بمن عارض ذلك وناقضه
(5/375)
وحينئذ فكل من لم يقل بما أخبر به القرآن عن صفات الله واليوم الآخر كان عند من جاء بالقرآن جاهلا ضالا فكيف بمن قال بنقيض ذلك
فالأول عند من جاء بالقرآن في الجهل البسيط وهؤلاء في الجهل المركب
ولهذا ضرب الله تعالى مثلا لهؤلاء ومثلا لهؤلاء فقال { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } فهذا مثل أهل الجهل المركب
وقال تعالى { أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } فهذا مثل أهل الجهل البسيط
ومن تمام ذلك أن يعرف أن للضلال تشابها في شيئين أحدهما الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والثاني معارضته بما يناقضه فمن الثاني الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة
فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله
(5/376)
واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه سواء اعتقد ذلك بقلبه أو قاله بلسانه
وهذا حال كل بدعة تخالف الكتاب والسنة وهؤلاء من أهل الجهل المركب الذين أعمالهم كسراب بقيعة
ومن لم يفهم خبر الرسول ويعرفه بقلبه فهو من أهل الجهل البسيط وهؤلاء من أهل الظلمات
وأصل الجهل المركب هو الجهل البسيط فإن القلب إذا كان خاليا من معرفة الحق واعتقاده والتصديق به كان معرضا لأن يعتقد نقيضه ويصدق به لا سيما في الأمور الإلهية التي هي غاية مطالب البرية وهي أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها وأسماها والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق وإلى جهته تمتد الأعناق فالمهتدون فيه أئمة الهدى كإبراهيم الخليل وأهل بيته وأهل الكذب فيه أئمة الضلال كفرعون وقومه
قال الله تعالى في أولئك { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين }
وقال تعالى في الآخرين { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون }
(5/377)
فمن لم يكن فيه على طريق أئمة الهدى كان ثغر قلبه مفتوحا لأئمة الضلال ومصداق هذا أن ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال كان من أسبابه تقصير من قصر في إظهار السنة والهدى مثل ما وقع في هذا الباب فإن الجهل المركب الذي وقع فيه أهل التكذيب والجحود في توحيد الله تعالى وصفاته كان من أسبابه التقصير في إثبات ما جاء به الرسول عن الله وفي معرفة معاني أسمائه وآياته حتى أن كثيرا من المنتسبين إلى الكتاب والسنة يرون أن طريقة السلف والأئمة إنما هو الإيمان بألفاظ النصوص والإعراض عن تدبر معانيها وفقهها وعقلها
ومن هنا قال من قال من النفاة إن طريقة الخلف أعلم وأحكم وطريقة السلف أسلم لأنه ظن أن طريقة الخلف فيها معرفة النفي الذي هو عنده الحق وفيها طلب [ التأويل ] لمعاني نصوص الإثبات فكان في هذه عندهم علم بمعقول وتأويل لمنقول ليس في الطريقة التي ظنها طريقة السلف وكان فيه أيضا رد على من يتمسك بمدلول النصوص وهذا عنده من إحكام تلك الطريق
ومذهب السلف عنده عدم النظر في فهم النصوص لتعارض الإحتمالات وهذا عنده أسلم لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معان فتفسيره ببعضها دون بعض فيه مخاطرة وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة
فلو كان قد بين وتبين لهذا وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات
(5/378)
ما دلت عليه النصوص من الصفات وفهم ما دلت عليه وتدبره وعقله وإبطال طريقة النفاة وبيان مخالفتها لصريح المعقول وصحيح المنقول علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى إلى الطريق الأقوم وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به وفهم ذلك ومعرفته وأن ذلك هو الذي يدل عليه صريح المعقول ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب وأن طريقة النفاة المنافية لما أخبر به الرسول طريقة باطلة شرعا وعقلا وأن من جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الآيات وعدم إثبات ما تضمنته من الصفات فقد قال غير الحق إما عمدا وإما خطأ كما أن من قال على الرسول إنه لم يبعث بإثبات الصفات بل بعث بقول النفاة كان مفتريا عليه
وهؤلاء النفاة هم كذابون إما عمدا وإما خطأ على الله وعلى رسوله وعلى سلف الأمة وأئمتها كما أنهم كذابون إما عمدا وإما خطأ على عقول الناس وعلى ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية
والكذب قرين الشرك كما قرن بينهما في غير موضع كقوله تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين } وقال تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين }
(5/379)
وقال تعالى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون }
وتجد هؤلاء حائرين في مثل قوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } حيث ظنوا أن المراد بالتأويل صرف النصوص عن مقتضاها
وطائفة تقول إن الراسخين في العلم يعلمون هذا التأويل وهؤلاء يجوزون مثل هذه التأويلات التي هي تأويلات الجهمية النفاة
ومنهم من يوجبها تارة ويجوزها تارة وقد يحرمونها على بعض الناس أو في بعض الأحوال لعارض حتى أن الملاحدة من المتفلسفة والمتصوفة وأمثالهم قد يحرمون التأويلات لا لأجل الإيمان والتصديق بمضمونها بل لعلمهم بأنه ليس لها قانون مستقيم وفي إظهارها إفساد الخلق فيرون الإمساك عن ذلك مصلحة وإن كان حقا في نفسه
وهؤلاء قد يقولون الرسل خاطبوا الخلق بما لا يدل على الحق لأن مصلحة الخلق لا تتم إلا بذلك بل لا تتم إلا بأن تخيلوا لهم في أنفسهم ما ليس موجودا في الخارج لنوع من المصلحة كما يخيل للنائم والصبي والقليل العقل ما لا وجود له لنوع من المناسبة لما له في ذلك من المصلحة
(5/380)
وطائفة يقولون هذا التأويل لا يعلمه إلا الله
ثم من هؤلاء من يقول تجرى على ظواهرها ويتكلم في إبطال التأويلات بكل طريق
ومن المعلوم أنه إذا كان لها تأويل يخالف ظاهرها لم يحمل على ظاهره وما حمل على ظاهره لم يكن له تأويل يخالف ذلك فضلا عن أن يقال يعلمه الله أو غيره
بل مثل هذا التأويل يقال فيه كما قال تعالى { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } فإن ما كان منتفيا لا وجود له لا يعلمه الله إلا منتفيا لا وجود له لا يعلمه ثابتا موجودا
وسبب هذا الإضطراب أن لفظ التأويل في عرف هؤلاء المتنازعين ليس معناه التأويل في التنزيل بل ولا في عرف المتقدمين من مفسري القرآن فإن أولئك كان لفظ التأويل عندهم بمعنى التفسير ومثل هذا التأويل يعلمه من يعلم تفسير القرآن
ولهذا لما كان مجاهد إمام أهل التفسير وكان قد سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير القرآن كله وفسره له كان يقول إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل أي التفسير المذكور
وهذا هو الذي قصده ابن قتيبة وأمثاله ممن يقول إن
(5/381)
الراسخين في العلم يعلمون التأويل ومرادهم به التفسير وهم يثبتون الصفات لا يقولون بتأويل الجهمية النفاة التي هي صرف النصوص عن مقتضاها ومدلولها ومعناها
وأما لفظ التأويل في التنزيل فمعناه الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها فتأويل ما أخبر به عن اليوم الآخر هو نفس ما يكون في اليوم الآخر وتأويل ما أخبر به عن نفسه هو نفسه المقدسة الموصوفة بصفاته العلية
وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله ولهذا كان السلف يقولون الإستواء معلوم والكيف مجهول فيثبتون العلم بالإستواء وهو التأويل الذي بمعنى التفسير وهو معرفة المراد بالكلام حتى يتدبر ويعقل ويفقه ويقولون الكيف مجهول وهو التأويل الذي انفرد الله بعلمه وهو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو
وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح كتأويل من تأول استوى بمعنى استولى ونحوه فهذا عند السلف والأئمة باطل لا حقيقة له بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته
(5/382)
فلا يقال في مثل هذا التأويل لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم بل يقال فيه { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } كتأويلات الجهمية والقرامطة الباطنية كتأويل من تأول الصلوات الخمس بمعرفة أسرارهم والصيام بكتمان أسرارهم والحج بزيارة شيوخهم والإمام المبين بعلي بن أبي طالب وأئمة الكفر بطلحة والزبير والشجرة الملعونة في القرآن ببني أمية واللؤلؤ والمرجان بالحسن والحسين والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والبقرة بعائشة وفرعون بالقلب والنجم والقمر والشمس بالنفس والعقل ونحو ذلك
فهذه التأويلات من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في آيات الله وهي من باب الكذب على الله وعلى رسوله وكتابه ومثل هذه لا تجعل حقا حتى يقال إن الله استأثر بعلمها بل هي باطل مثل شهادة الزور وكفر الكفار يعلم الله أنها باطل والله يعلم عباده بطلانها بالأسباب التي بها يعرف عباده من نصب الأدلة وغيرها
وأصل وقوع أهل الضلال في مثل هذا التحريف الإعراض عن فهم كتاب الله تعالى كما فهمه الصحابة والتابعون ومعارضة ما دل عليه بما يناقضه وهذا هو من أعظم المحادة لله ولرسوله لكن على وجه النفاق والخداع
(5/383)
وهو حال الباطنية وأشباههم ممن يتظاهر بالإسلام واتباع القرآن والرسالة بل بموالاة أولياء الله تعالى من أهل بيت النبوة وغيرهم من الصالحين وهو في الباطن من أعظم الناس مناقضة للرسول فيما أخبر به وما أمر به لكنه يتكلم بألفاظ القرآن والحديث ويضم إلى ذلك من المكذوبات ما لا يحصيه إلا الله ثم يتأول ذلك من التأويلات بما يناسب ما أبطنه من الأمور المناقضة لخبر الله ورسوله وأمر الله ورسوله ويظهر تلك التأويلات لمستجيبيه بحسب ما يراه من قبولهم وموافقتهم له
مثل أن يروا أن العالم كله مفعول ومصنوع لشيء يسميه العقل الأول فجعله هو رب الكائنات ومبدع الأرض والسموات ولكنه لازم للواجب بنفسه ومعلول له وأنه يلزمه عقل ونفس وفلك ثم يلزم ذلك العقل عقل ونفس وفلك حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الذي أبدع بزعمه جميع ما تحت السماء من العناصر والحيوان والمعادن وغير ذلك وهو الذي يفيض عنه العلم والنبوة والرسالة وغير ذلك في أنفس العباد وعنه صدر القرآن والتوراة وغير ذلك
ثم يريد أن يوفق بين هذا وبين ما أخبرت به الرسل فيقول هذه العقول هي الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء وقد يقول عن هذا العقل الفعال إنه جبريل الذي ما هو على الغيب بضنين أي ببخيل لأنه دائم الفيض بزعمه ولكن يحصل الفيض بحسب استعداد القوابل
(5/384)
ومن المعلوم بالإضطراب لكل من تدبر ما أخبرت به الرسل من صفات الملائكة أن هذه العقول التي وصفها هؤلاء الفلاسفة الصابئة المشركون ليست هي الملائكة [ فإنا نعلم بالإضطرار أنهم لم يجعلوا ملكا واحدا أبدع جميع ما سوى الله تعالى ولا ملكا أبدع جميع ما تحت السماء ولا جعلوا الملائكة أربابا ولا آلهة
بل قد قال تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }
وقال تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون }
إلى { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } ونحو ذلك من الآيات
فغاية الملك أن يكون شافعا عند الله ولا يشفع إلا من بعد إذنه
ومن المعلوم أن كفر هؤلاء أعظم من كفر النصارى فإن النصارى يقرون بإله خلق جميع المخلوقات لا يجعلون له معلولا خلق المخلوقات لكن يقولون إنه اتحد بالمسيح
وأما هؤلاء فيثبتون عقولا لا حقيقة لها ثم يقولون إن كلا منها أبدع الآخر وسائر العالم
(5/385)
وتسميتهم للعقول بالملائكة باطل ثم يستدل من يجمع بين كلامهم وكلام الأنبياء بحديث موضوع نبه على وضعه أبو حاتم البستي والعقيلي والدارقطني والخطيب وابن الجوزي
وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب
ومع هذا فهو لفظه لما خلق الله العقل فهذا اللفظ يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه لا يقتضي أنه أول المخلوقات بل هذا اللفظ يقتضي أنه خلق قبله غيره فإنه قال له ما خلقت خلقا أكرم علي منك
وأيضا فإنه وصف بالإقبال والإدبار والعقل عندهم لا يقبل ولا يدبر
وأيضا فإنه قال بك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب وهؤلاء عندهم جميع الموجودات صادرة عنه من العقول والأفلاك والأرض والحيوان والنبات ونحو ذلك
والأعراض من العلوم والإرادات فقول القائل بك آخذ وبك أعطي إلى آخره يقتضي أن به هذه الأعراض الأربعة وعندهم
(5/386)
جميع الكائنات هو مبدعها وهو ربهم الأعلى فمرتبته عندهم أجل مما وصف في هذا الحديث
فهؤلاء يتمسكون من السمعيات بمثل هذا الحديث المكذوب وهو لا يدل إلا على نقيض المطلوب لا إسناد ولا متن ثم يفسرون هذه الأحاديث مقلوبا ويعبرون بتلك الألفاظ عن معان غير ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعبرون بلفظ الملك و الملكوت و الجبروت عن الجسم والنفس والعقل
ولفظ الملك والملكوت والجبروت في كلام الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يراد به ذلك
وكذلك يعبرون بلفظ الملائكة والشياطين عن قوى النفس المحمودة والمذمومة وبالضرورة من الدين أن الرسل أرادوا بالملائكة والشياطين أعيانا قائمة بأنفسها متميزين لا مجرد أعراض قائمة بنفس الإنسان كالقوة الجاذبة والماسكة والدافعة والهاضمة وقوة الشهوة والغضب وإن كان قد يسمى بعض الأعراض باسم صاحبه الوجه الثاني والأربعون
[ أن يقال إن ] هؤلاء متناقضون تناقضا بينا فإنهم جعلوا
(5/387)
المعلومات ثلاثة أقسام ما لا يعلم إلا بالعقل وما لا يعلم إلا بالسمع وما يعلم بكل منهما وجعلوا من المعلومات التي لا تعلم إلا بالسمع الإخبار عما يمكن وجوده وعدمه
ومعلوم أن ما ذكروه ينفي أن يكون الدليل السمعي حجة في هذا القسم أيضا وذلك لأن الشيء الذي يمكن وجوده وعدمه إذا دل الدليل السمعي على أحد طرفيه وجوزنا أن لا يكون مدلول الدليل السمعي ثابتا أمكن هنا أيضا أن لا يكون ذلك المدلول المخبر به ثابتا في نفس الأمر وأن يكون الشارع لم يرد مادل عليه قوله ولا يحتاج ذلك إلى تجويز قيام دليل عقلي يعارض ذلك فإن المعارض الدال على أن مدلول الدليل السمعي غير ثابت أو أن الشارع لم يرد بكلامه ما دل عليه إذا قدر عدمه لم يلزم انتفاء مدلوله فإن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل العقلي النافي لموجب الدليل السمعي عدم مدلوله إذا جوزنا أن يكون مدلوله ثابتا في نفس الأمر فإنه كما لا يلزم من عدم علمنا عدم الدليل لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه
وحينئذ فلا يستدل بالسمع على ما لا مجال للعقل فيه من الأمور الأخروية وهذا نهاية الإلحاد
فإن اعتذروا عن ذلك بأن الشارع لا يجوز أن يريد بكلامه ما يخالف ظاهره إلا أن يكون في العقل ما يدل على ذلك
قيل جوابك عن هذا كجوابكم للمعتزلة لما قالوا لا يجوز أن
(5/388)
يسمعه الخطاب الذي أراد به خلاف ظاهره إلا إذا أخطر بباله العقلي المعارض
فلما قلتم له هذا مبني على قاعدة الحسن والقبح وأيضا فالتفريط من المكلف كما تقدم إيراده
فيقال لكم هنا كذلك هذا مبني على قاعدة الحسن والقبح وأيضا فالتفريط من المكلف لأنه لما اعتقد في الأدلة السمعية أنها تفيد اليقين وهي لا تفيد اليقين كان مفرطا فكان جزمه بمدلول خبر الشارع مطلقا تفريط منه مع تجويزه أن يريد بخطابه خلاف ظاهره
فإن سلكوا طريقة أخرى وهو أنه لا يحتج بالسمع على شيء من المسائل العلمية وقالوا المعاد ونحوه معلوم بالضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وسلم كما علم وجوب الصلاة وأجابوا به ابن سينا كان هذا أيضا جوابا لأهل الإثبات فإن إثبات الأسماء والصفات والأفعال معلوم بالضرورة بل وإثبات العلو أيضا
ومنشأ الضلال قوله لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما دل عليه الدليل السمعي وإثبات هذا التقدير هو الذي أوقعكم في هذه المحاذير فكان ينبغي لكم أن تعلموا أن هذا التقدير يجب نفيه قطعا وأنه يمتنع أن يقوم دليل قاطع عقلي مخالف للدليل السمعي
(5/389)
ثم هؤلاء يحكون إجماعات يجعلونها من أصول علمهم ولا يمكنهم نقلها عن واحد من أئمة الإسلام وإنما ذلك بحسب ما يقوم في أنفسهم من الظن فيحكون ذلك عن الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المحافل
فإذا قيل لأحدهم في الخلوة أنت حكيت أن هذا قول هؤلاء الأئمة فمن نقل ذلك عنهم قال هذا العقلاء والأئمة لا يخالفون ] العقلاء فيحكون أقوال السلف والأئمة لاعتقادهم أن العقل دل على ذلك
ومن المعلوم أنه لو كان العقل يدل على ذلك باتفاق العقلاء لم يجز أن يحكى عن الإنسان قول لم ينقله عنه أحد ولهذا كان أهل الحديث يتحرون الصدق حتى أن كثيرا من الكلام الذي هو في نفسه صدق وحق موافق للكتاب والسنة يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيضعفونه أو يقولون هو كذب عليه لكونه لم يقله أو لم يثبت عنه وإن كان معناه حقا
ولكن أهل البدع أصل كلامهم الكذب إما عمدا وإما بطريق الابتداع ولهذا يقرن الله بين الكذب والشرك في غير موضع من كتابه كقوله تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } وقوله تعالى { واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به }
(5/390)
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عدلت شهادة الزور الإشراك مرتين أو ثلاثا
وقال تعالى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون }
وهذا كحكاية الرازي وإجماع المعتبرين على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أحد أن ينقل عن نبي من أنبياء الله تعالى ولا من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة ولا أعيان أئمتها وشيوخها إلا ما يناقض هذا القول ولا يمكنه أن يحكي هذا عمن له في الأمة لسان صدق أصلا
وكما تقول طائفة كأبي المعالي وغيره اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادا فكل جزء لا يتجزأ وليس له طرف واحد
(5/391)
ومعلوم أن هذا القول لم يقله إلا طائفة من أهل الكلام لم يقله أحد من السلف والأئمة وأكثر طوائف أهل الكلام من الهاشمية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية على خلاف ذلك
(5/392)
الوجه الثالث والأربعين
أن يقال المعارضون للكتاب والسنة بآرائهم لا يمكنهم أن يقولوا إن كل واحد من الدليلين المتعارضين هو يقينى وقد تناقضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما فإن هذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول ولكن نهاية ما يقولونه إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين وإن ما ناقضها من الأدلة البدعية التي يسمونها العقليات تفيد اليقين فينفون اليقين عن الأدلة السمعية الشرعية ويثبتونه لما ناقضها من أدلتهم المبتدعة التي يدعون أنها براهين قطعية
ولهذا كان لازم قولهم الإلحاد والنفاق والإعراض عما جاء به الرسول والإقبال على ما يناقض ذلك كالذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من مجادلى الرسل كما قال { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } سورة غافر 5
(6/3)
وقوله تعالى { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } سورة غافر 4
وقوله تعالى { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } سورة الأنعام 112 113 وأمثال ذلك وهذا باب واسع في كتاب الله
ومقصودنا تنبيه المؤمنين على حال مثل هؤلاء في كتاب الله وإلا فالمقصود هنا دفعهم عن الرسل ومن جاهد الكفار والمنافقين لم يحتج عليهم بأقوال من كذبوه من المرسلين ولكن المؤمن بالرسل يستفيد بهذا أن جنس هؤلاء هم المكذبون للرسل
وأما طريق الرد عليهم فلنا فيه مسالك
الأول أن نبين فساد ما ادعوه معارضا للرسول صلى الله عليه وسلم من عقلياتهم
الثاني أن نبين أن ما جاء به الرسول معلوم بالضرورة من دينه أو معلوم بالأدلة اليقينية وحينئذ فلا يمكن مع تصديق الرسول أن نخالف ذلك وهذا ينتفع به كل من آمن بالرسول
(6/4)
الثالث أن نبين أن المعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل لا يناقضه إما بأن ذلك معلوم بضرورة العقل وإما بأنه معلوم بنظره وهذا أقطع لحجة المنازع مطلقا سواء كان في ريب من الإيمان بالرسول وبأنه أخبر بذلك أو لم يكن كذلك فإن هؤلاء المعارضين منهم خلق كثير في قلوبهم ريب في نفس الإيمان بالرسالة وفيهم من في قلبه ريب في كون الرسول أخبر بهذا
وهؤلاء الذين تكلمنا على قانونهم الذين قدموا فيه عقلياتهم على كلام الله ورسوله عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو لله ونحوها فإن النصوص التي في الكتاب والسنة بإثبات علو الله على خلقه كثيرة منتشرة قد بهرتهم بكثرتها وقوتها وليس معهم في نفي ذلك لا آية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قول أحد من سلف الأمة إلا أن يرووا في ذلك ما يعلم أنه كذب كحديث عوسجة وأمثاله وإما أن يحتجوا بما يعلم أنه لا دلالة له على مطلوبهم كاستدلالهم بأنه أحد والأحد لا يكون فوق العرش
(6/5)
لأنه لو كان فوق العرش لم يكن أحدا بناء على أن ما فوق العرش يكون جسما والجسم منقسم فلا يكون أحدا والأجسام متماثلة فيكون له كفو ونظير
وقد بين فساد مثل هذة الأدلة السمعية بوجوه كثيرة في غير هذا الموضع وبينا أن اسم الواحد والأحد لا يقع في لغة العرب إلا على نقيض مطلوبهم كقوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } سورة التوبة 6 وقوله { ذرني ومن خلقت وحيدا } سورة المدثر 11 وقوله { وإن كانت واحدة فلها النصف } سورة النساء 11 وقوله { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } سورة البقرة 266 وقوله { فابعثوا أحدكم بورقكم } سورة الكهف 19 إلى قوله { ولا يشعرن بكم أحدا } سورة الكهف 19 وقوله { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } سورة البقرة 185 وقوله { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } سورة المائدة 106 وقوله { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } سورة البقرة 96 وقوله { ولم يكن له كفوا أحد } سورة الإخلاص 4 وقوله
(6/6)
{ قل إني لن يجيرني من الله أحد } سورة الجن 22 وقوله { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } سورة الكهف 110 وأمثال ذلك كثير وأن لفظ المثل والمساوى منتفيان في لغة العرب عما ادعوا هم تماثلهما وتساويهما
كقوله تعالى { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } سورة محمد 38 فقد نفى التماثل عن صنفين من بني آدم فنفى التماثل عن الحيوان والإنسان والفلك والتراب أولى
فعلم أنه ليس في لغة العرب أن يكون كل ما كان متحيزا مماثلا لكل ما هو متحيز متحيز وإن ادعى بعض المتكلمين تماثل ذلك عقلا فالمقصود أن هذا ليس مثلا في اللغة
والقرآن نزل بلغة العرب فلا يجوز حمله على اصطلاح حادث ليس من لغتهم لو كان معناه صحيحا فكيف إذا كان باطلا في العقل
وقوله تعالى { وما يستوي الأعمى والبصير } سورة فاطر 19 { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } سورة فاطر 22 وقوله { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } سورة الحشر 20
(6/7)
وعقلاؤهم يعلمون فساد ما يستدلون به من الأدلة الشرعية وكلهم يعترف بأن مثل هذه الأدلة لا تعارض ما في القرآن من إثبات العلو والفوقية ونحو ذلك
ولهذا لم يكن معهم على نفى ذلك أصل يعتصمون به من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما يتمسكون بما يظنونه من العقليات فيحتاجون إلى بيان تقديم ذلك على الأدلة الشرعية
وإذا كان كذلك فنحن نبين أن الأدلة العقلية موافقة للأدلة النقلية لا معارضة لها ونذكر ما ذكروه هم في ذلك ليكون أبلغ في الحجة
قالوا وهذا لباب ما ذكروه الرازي في الأربعين قال أنه تعالى ليس في جهة ولا مكان قال وادعى كثير من المخالفين العلم البديهي بأن كل موجودين لا بد من كون أحدهما ساريا في الآخر كالعرض والجوهر أو مباينا عنه في الجهة كالجوهرين
(6/8)
قال وهذا باطل لوجوه
أحدهما لو كان بديهيا لامتنع إطباق الجمع العظيم على إنكاره وهم ما سوى الحنابلة والكرامية
الثاني أن مسمى الإنسان مشترك بين الأشخاص ذوات الأحياز المختلفة والمقادير المختلفة فهو من حيث هو ممتنع أن يكون له قدر معين وحيز معين وإلا لم يكن مشتركا فيه بين كل الأشخاص فإن قلت فالإنسان من حيث هو إنسان لا وجود له إلا في العقل والكلام في الموجودات الخارجية قلت الغرض منه أنه لا يمتنع تعقل أمر لا يثبت العقل له جهة ولا قدرا وهذا يمنع كون تلك المقدمة بديهية
الثالث أن الخيال والوهم لا يمكننا أن نستحضر لنفسيهما
(6/9)
صورة ولا شكلا ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى
الرابع أن العقل يتصور النفي والإثبات ثم يحكم بتناقضهما مع أنه لا يحكم بكون أحدهما ساريا في الآخر أو مباينا عنه في الجهة أو لا ساريا ولا مباينا ثم إنا نجد العقل يتوقف عن القسم الثالث إلا لبرهان يثبته أو ينفيه وأن العقل يدرك ماهيات مراتب الأعداد مع أنه لا يمكنه أن يحكم على أحد منها بأن موضوعها كذا ومقدارها كذا
إذا عرفت ذلك فنقول المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك والعالم مختص بالجهة والمكان بهذا المعنى فإن كان الباري كذلك كان مماسا للعالم أو محاذيا له قطعا
ثم قالت الكرامية إنه تعالى مختص بجهة فوق مماسا للعرش أو مباينا عنه ببعد متناه وهو قول أكثر طوائفهم وإما مباينا عنه ببعد غير متناه وهو قول الهيصمية وهذا لا يعقل مع إثبات الجهة
(6/10)
لأنه إذا كان في جانب والعالم في جانب كان البعد بينهما محصورا فهذا ما ذكروه
فيقال قد ذكرتم عمن ذكرتموه من منازعيكم أنهم ادعوا العلم البديهي ببطلان قولكم وصحة نقيضه حيث جوزتم وجود موجود لا يشار إليه بأنه هنا وهناك وأنه يجوز وجود موجودين ليس أحدهما ساريا في الآخر ولا مباينا عنه بالجهة
فقال هؤلاء المنازعون نحن نعلم بالبديهة بطلان هذا فاحتجتم إلى مقامين
أحدهما أن تبينوا أن بطلان هذا ليس معلوما بالبديهية وإلا فإذا كان بطلان القول معلوما بالبديهة لم يمكن إقامة الدليل على صحته لأن النظريات لا تعارض الضروريات بل ما عارضها كان من باب السفسطة
والمقام الثاني بيان ثبوت ذلك فإنه لا يلزم من عدم العلم بامتناعه أو العلم بإمكانه ثبوت ذلك في الخارج
وإذا ثبت هذان المقامان لكم فإما أن يمكن مع ذلك القول بمقتضى النصوص من أن الله فوق العرش أو لا يمكن فإن أمكن ذلك لم يكن بين ما ذكرتموه من المعقولات وبين النصوص الإلهية تعارض وإن لم يمكن ذلك ثبت التعارض بينهما فقد تبين أن ثبوت التعارض
(6/11)
مبنى على هذه المقدمات الثلاث فإن لم تثبت الثلاث بطل كلامكم فكيف إذا تبين بطلان واحدة منها فكيف إذا تبين بطلانها كلها وبيان ذلك في كل مقام
أما المقام الأول فإن المثبتين قالوا إنهم يعلمون بالبديهة امتناع وجود موجودين لا يكون أحدهما ساريا في الآخر ولا مباينا له بالجهة وأنه لا يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه بل قد يقولون إن علمهم بأن الله فوق العالم علم ضروري فطري وأن الخلق كلهم إذا حزبهم شدة أو حاجة في أمر وجهوا قلوبهم إلى الله يدعونه ويسألونه وأن هذا أمر متفق عليه بين الأمم التي لم تغير فطرتها لم يحصل بينهم بتواطئ واتفاق ولهذا يوجد هذا في فطرة الأعراب والعجائز والصبيان من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين ومن لم يقرأ كتابا ولم يتلق مثل هذا عن معلم ولا أستاذ وهذا القدر ما زال يذكره المصنفون في هذا الباب من أهل الكلام والحديث وغيرهم
قالوا وإذا كان هذا مما يجيز هؤلاء الذين لم يتواطئوا بثبوته عندهم كانوا صادقين فإنه يمتنع على الجمع الكثير الكذب من غير تواطئ وبمثل هذا علم ثبوت ما يخبر به أهل التواتر مما يعلم بالحس والضرورة فإن المخبر إذا لم يكن خبره مطابقا فإما أن يكون متعمدا للكذب وإما أن يكون مخطئا وتعمد الكذب يمتنع في العادة على الجمع الكثير من غير تواطئ والخطأ على الجمع الكثير ممتنع في
(6/12)
الأمور الحسية والضرورية قالوا وهذا بخلاف إثبات موجودين ليس أحدهما داخلا في الآخر ولا خارجا عنه فإن هذا لا تقوله إلا طائفة يذكرون أنهم علموا ذلك بالنظر لا بالضرورة وقد تلقاه بعضهم عن بعض فهو قول تواطئوا عليه ولهذا لا يقول ذلك من لم ينظر في كلام النفاة
وأما الإقرار بعلو الله تعالى ورفع الأيدي إليه فهو مما اتفقت عليه الأمم الذين يقولون ذلك ويفعلونه من غير اتفاق ولا مواطأة
وحينئذ فالجمع الكثير إما أن يجوز عليهم الاتفاق على مخالفة البديهيات وإما أن لا يجوز فإن لم يجز ذلك عليهم ثبت أن هذه المقدمة بديهية لأنه اتفق عليها أمم كثيرة بدون التواطؤ وإن جاز ذلك عليهم بطل احتجاجهم على أن هذه المقدمة ليست بديهية فإن الجمع الكثير أنكروها وإذا بطلت حجتهم على أنها ليست بديهية بقى أحد المتناظرين يقول إن مقدمته معلومة له بالبديهة والآخر لا يمكنه إبطال قوله فلا تكون له حجة عقلية على بطلان قوله وهو المطلوب
فكيف والنفاة لا يدعون بديهيات فطرية ولا سمعيات شرعية
(6/13)
وإنما يدعون نظريات عقلية والمثبتون يقولون معنا نظريات عقلية مع البديهيات الفطرية ومع السمعيات اليقينية الشرعية النبوية
وأيضا فيقال إذا قال المنارعون المثبتون إن قولنا معلوم بالبديهة لم يكن أن يناظر بقضية نظرية لأنه لا يمكن القدح بالنظريات في الضروريات كما لا يقبل قدح السوفسطائي بنظره فيما يقول الناس إنه معلوم بالبديهة ولا يقبل مجرد قوله على منازعه بل المرجع في القضايا الفطرية الضرورية إلى أهل الفطر السليمة التي لم تتغير فطرتها بالاعتقادات الموروثة والأهواء
ومن المعلوم أن هذه المقدمة مستقرة في فطر جميع الناس الذين لم يحصل لهم ما يغير فطرتهم من ظن أو هوى
والنفاة لا ينازعون في أن هذا ثابت في الفطرة لكن يزعمون أن هذا من حكم الوهم والخيال وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات
قالوا ويتبين خطأ الوهم والخيال في ذلك بأن يسلم للعقل مقدمات تستلزم نقيض حكمه مثل أن يسلم للعق مقدمات تستلزم ثبوت موجود ليس بجسم ولا في جهة فيعلم حينئذ أن حكمه الأول باطل
والمثبتون يقولون هذا كلام باطل لوجوه
(6/14)
أحدهما أنه إذا جاز أن يكون في الفطرة حكمان بديهيان أحدهما مقبول والآخر مردود كان هذا قدحا في مبادئ العلوم كلها وحينئذ لا يوثق بحكم البديهة
الثاني أنه جوز ذلك فالتمييز بين النوعين إما أن يكون بقضايا بديهية أو نطرية مبنية على البديهية وكلاهما باطل فإنا إذا جوزنا أن يكون في البديهيات ما هو باطل لم يمكن العلم بأن تلك البديهية المميزة بين ما هو صحيح من البديهيات الأولى وما هو كاذب مقبول التمييز حتى يعلم أنها من القسم الصحيح وذلك لا يعلم إلا ببديهية أخرى مبينة مميزة وتلك لا يعلم أنها من البديهيات الصحيحة إلا بأخرى فيفضى إلى التسلسل الباطل أو ينتهى الأمر إلى بديهية مشتبهة لا يحصل بها التمييز والنظريات موقوفة على البديهيات فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة فيها حق وباطل كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك وحينئذ فلا يبقى علم يعرف به حق وباطل وهذا جامع كل سفسطة
وبتقدير ثبوت السفسطة لا تكون لنا عقليات يثبت بها شيء فضلا عن أن تعارض الشرعيات
(6/15)
الثالث أن قول القائل إن الوهم يسلم للعقل قضايا بديهية تستلزم إثبات وجود موجود تمتنع الإشارة الحسية إليه ممنوع
الرابع أنه بتقدير التسليم بكون المقدمة جدلية فإن الوهم إذا سلم للعقل مقدمة لم ينتفع العقل بتلك القضية إلا أن تكون معلومة له بالبديهة الصحيحة فإذا لم يكن له سبيل إلى هذا انسدت المعارف على العقل وكان تسليم الوهم إنما يجعل القضية جدلية لا برهانية وهذا وحده لا ينفع في العلوم البرهانية العقلية
الخامس أن قول القائل إن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات دون العقليات إنما يصح إذا ثبت أن في الخارج موجودات لا يمكن أن تعرف بالحس بوجه من الوجوه وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن في الوجود الخارجي ما لا يمكن الإشارة الحسية إليه وهذا أول المسألة فإن المثبتين يقولون ليس في الوجود الخارجي إلا ما يمكن الإشارة الحسية إليه أولا يعقل موجود في الخارج إلا كذلك
فإذا قيل لهم حكم الوهم والخيال مقبول في الحسيات دون العقليات والمراد بالعقليات موجودات خارجة قائمة بأنفسها لا يمكن الإشارة الحسية إليها
قالوا إيطالكم لحكم الفطرة الذي سميتموه الوهم والخيال موقوف على ثبوت هذه العقليات وثبوتها موقوف على إبطال هذا
(6/16)
الحكم وإذا لم يثبت هذا إلإ بعد هذا ولا هذا إلا بعد هذا كان هذا من الدور الممتنع
السادس أن يقال إن أردتم بالعقليات ما يقوم بالقلب من العلوم العقلية الكلية ونحوها فليس الكلام هنا في هذه ونحن لا نقبل مجرد حكم الحس ولا الخيال في مثل هذه العلوم الكلية العقلية وإن أردتم بالعقليات موجودات خارجة لا يمكن الإشارة الحسية إليها فلم قلتم إن هذا موجود فالنزاع في هذا ونحن نقول إن بطلان هذا معلوم بالبديهة
السابع أن يقال الوهم والخيال يراد به ما كان مطابقا وما كان مخالفا فأما المطابق مثل توهم الإنسان لمن هو عدوه أنه عدوه وتوهم الشاة أن الذئب يريد أكلها وتخيل الإنسان لصورة ما رآه في نفسه بعد مغيبه ونحو ذلك فهذا الوهم والخيال حق وقضاياه صادقة وأما غير المطابق فمثل أن يتخيل الإنسان أن في الخارج ما لا وجود له في الخارج وتوهمه ذلك مثل من يتوهم فيمن يحبه أنه يبغضه ومثل ما يتوهم الإنسان أن الناس يحبونه ويعظمونه والأمر بالعكس والله لا يحب كل مختال فخور فالمختال الذي يتخيل في نفسه أنه عظيم فيعتقد في نفسه أكثر مما يستحقه وأمثال ذلك
قالوا وإذا كان الأمر كذلك فلم قلتم إن حكم الفطرة بأن الموجودين إما متباينان وإما متحايثان من حكم الوهم والخيال الباطل ونحن نقول إنه من حكم الوهم والخيال المطابق
(6/17)
فإذا قلتم إن العقل دل على أنه باطل كان الشأن في المقدمات التي ينبني عليها ذلك وتلك المقدمات أضعف في الفطرة من هذه المقدمات فكيف يدفع الأقوى بالأضعف
الثامن أن المثبتين قالوا بل المقدمات المعارضة لهذا الحكم هي من الوهم والخيال الباطل مثل إثبات الكليات في الخارج وتصور النفى والإثبات المطلقين ثابتين في الخارج وتصور الأعداد المجردة ثابتة في الخارج فإن هذه المتصورات كلها لا تكون إلا في الذهن ومن اعتقد أنها ثابتة في الخارج فقد توهم وتخيل ما لا حقيقة له وجعل هذا التوهم والخيال الباطل مقدمة في دفع القضايا البديهية
التاسع أن يقال لا نسلم أن في الفطرة قضايا تستلزم نتائج تناقض ما حكمت به أولا كما يدعونه فإن هذا مبني على أن المقدمات المستلزمة ما يناقض الحكم الأول مقدمات صحيحة وليس الأمر كذلك كما سنبينه إن شاء الله تعالى فإن هذه المقدمات هي النافية لعلو الله على خلقه ومباينته لعباده والمقدمات المستلزمة لهذا ليست مسلمة فضلا عن أن تكون بديهية
الوجه العاشر أن الذين جعلوا هذه القضايا من حكم الوهم الباطل هم طائفة من نفاة الصفات الجهمية من المتكلمين والمتفلسفة ومن تلقى ذلك عنهم وهذا معروف في كتب ابن سينا ومن اتبعه من أهل المنطق
(6/18)
وكثير من أهل المنطق كابن رشد الحفيد وغيره يخالف ابن سينا فيما ذكره في هذا الباب في الإلهيات والمنطقيات ويذكر أن مذهب الفلاسفة المتقدمين بخلاف ما ذكره وأما الأساطين قبله فالنقل عنهم مشهور بخلافهم في هذا الباب
والمقصود أن هذا الكلام عامة من تكلم به من المتأخرين أخذوه من ابن سينا ومن تدبر كلامه وكلام أتباعه فيه وجده في غاية التناقض والفساد فإنه قال في إشاراته التي هي كالمصحف لهؤلاء المتفلسفة الملحدة لما ذكر مواد القياس وتكلم عن القضايا من جهة ما يصدق بها وذكر أن أصناف القضايا المستعملة فيما بين القائسين ومن يجرى مجراهم أربعة مسلمات ومظنونات وما معها ومشتبهات بغيرها ومتخيلات
قلت المتخيلات هي مواد القياس الشعري والمشتبهات هي مواد السوفسطائي وما قبل ذلك هو مواد البرهاني والخطابي والجدلي
قال والمسلمات إما معتقدات وإما مأخوذات والمعتقدات أصنافها ثلاثة الواجب قبولها والمشهورات
(6/19)
والوهميات والواجب قبولها أوليات ومشاهدات ومجربات وما معها من الحدسيات والمتواترات وقضايا أقيستها معها
وتكلم عن القضايا الواجب قبولها بما ليس هذا موضعه وقد بسط الكلام فيما في منطقهم اليوناني من الفساد مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات واللازمة للماهية ودعواهم أن الحد الحقيقي يفيد تعريف الماهية وأن الحقائق مركبة من الأجناس والفصول وكلامهم في الكليات الخمسة وما ذكروه في مواد البرهان ودعواهم أن التصورات المكتسبة لا تنال إلا بحدهم والتصديقات المكتسبة لا تحصل إلا بمثل قياسهم وغير ذلك مما ليس هذا موضعه
والمقصود هنا أنه قال وأما القضايا الوهمية الصرفة فهي قضايا كاذبة إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها بسبب أن الوهم تابع للحس فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات فلم يكن أن يتمثل ذلك
(6/20)
الوجود في الوهم ولهذا كان الوهم مساعدا للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه وهذا الصنف من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها وهي أحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات أو أعم منها على نحو ما يجب أن لا يكون لها وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن في المحسوسات مثل اعتقاد المعتقد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى وأنه لا بد في كل موجود أن يكون مشارا إلى جهة وجوده
وهذه الوهميات لولا مخالفة السنن الشرعية لها لكانت تكون مشهورة وإنما يثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك لشدة استيلاء الوهم على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات
(6/21)
فهو مدفوع منكر بل إنه باطل شنع بل تكاد أن تكون الأوليات والوهميات التي لا تزاحم من غيرها مشهورة ولا تنعكس
قلت وقد ذكر في غير هذا الموضع شرح القوى الدراكة وذكر القوة التي تتخيل بها المحسوسات والتي تحفظ بها وسمى الأولى على اصطلاحهم الحسن المشترك والثانية الخيال
قال وأيضا فالحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها وأيضا فعندك وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها غير الحافظ للصور وهذه هي الذاكرة
(6/22)
قال وتجد قوة أخرى لها أن تركب وتفصل ما يليها من الصور المأخوذة عن الحس والمعاني المدركة بالوهم وتركب أيضا الصور بالمعاني وتفصلها عنها وتسمى عند استعمال العقل مفكرة وعند استعمال الوهم متخيلة وكأنها قوة ما للوهم وبتوسط الوهم للعقل
قلت والمقصود أن يعرف اصطلاحهم ومرادهم بلفظ الخيال والوهم ونحو ذلك وأن الخيال هو تصور الأعيان المحسوسة في الباطن والوهم تصور المعاني التي ليست محسوسة في تلك الأعيان وكلاهما تصور معين جزئي والعقل هو الحكم العام الكلي الذي لا يختص بعين معينة ولا معنى معين
وإذا عرف ذلك فيقال هذه القوة في الباطن بمنزلة القوى الحسية في الظاهر والقدح فيها كالقدح في الحسيات وهذه القوة لا يجوز أن يناقض تصورها للمعقول كما لا يناقض سائر القوى الحسية
(6/23)
للمعقول لأن المعقولات أمور كلية تتناول هذا المعين وهذا المعين سواء كان جوهرا قائما بنفسه أو معنى في الجوهر والحس الباطن والظاهر لا يتصور إلا أمورا معينة فلا منافاة بينهما فالحس الظاهر يدرك الأعيان المشاهدة وما قام بها من المعاني الظاهرة كالألوان والحركات والذي سموه الوهم جعلوه يدرك ما في المحسوسات من المعاني التي لا تدرك بالحس الظاهر كالصداقة والعداوة ونحو ذلك والتخيل هو بمثل تلك المحسوسات في الباطن ولهذا جعلوا الإدراكات ثلاثة الحس والتخيل والعقل
قال ابن سينا الشيء يكون محسوسا عندما يشاهد ثم يكون متخيلا عند غيبته بتمثل صورته في الباطن كزيد الذي أبصرته مثلا إذا غاب عنك فتخيلته وقد يكون معقولا عندما يتصور من زيد مثلا معنى الإنسان الموجود أيضا لغيره وهو عندما يكون محسوسا تكون غشيته غواش غريبة عن ما هيته لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ما هيته مثل أين ووضع وكيف ومقدار بعينه لو
(6/24)
توهمت بدله غيره لم يؤثر في حقيقة ما هية إنسانيته والحس يناله من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها لا يجردها عنه ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته ولذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته إذا زال وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض لا يقتدر على تجريده المطلق عنها لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي يتعلق بها الحس فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها وأما العقل فيقتدر على تجريد الماهية المكنوفة باللواحق الغريبة المشخصة مستثبتا إياها حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله مغفلا وأما ما هو في ذاته برئ عن الشوائب المادية ومن اللواحق
(6/25)
الغريبة التي لا تلزم ما هيته عن ماهيته فهو معقول لذاته ليس يحتاج إلى عمل يعمل به يعده لأن يعقل ما من شأنه أن يعقله بل لعله في جانب ما من شأنه أن يعقله
قلت هذا الكلام هو من أصول أقواهم ومنه وقعوا في الاشتباه والالتباس حتى صاروا في ضلال عظيم
فإنه يقال قوله وقد يكون معقولا عندما يتصور من زيد مثلا معنى الإنسان الموجود أيضا لغيره
أتعنى به أن ذلك الإنسان المعقول الذي يكون لهذا ولهذا هو شيء ثابت في الخارج هو بعينه لهذا المعين ولهذا المعين مغاير للإنسان المعين ولصفاته القائمة به
أم تعنى به الإنسان المعقول الكلى الثابت في العقل الذي يتناول المعينات تناول اللفظ العام لمفرداته
فإن أردت الاول فهذا باطل لا حقيقة له ونحن نعلم بالضرورة أن هذا الإنسان المعين ليس فيه شيء من الإنسان المعين الآخر بل كل
(6/26)
منهما مختص بذاته وصفاته ولم يشتركا في شيء ثابت في الخارج أصلا ولهذا يكون أحدهما موجودا مع عدم الآخر وبالعكس ويموت أحدهما مع حياة الاخر وبالعكس ويتألم أحدهما مع لذة الآخر وبالعكس
ولهذا قال الشارحون لكلامه كالرازي إن الشخص المعين إما أن يدرك بحيث يمنع نفس إدراكه من الشركة وإما أن لا يكون كذلك
والأول لا يخلو إما أن يتوقف حصول ذلك الإدراك على وجود ذلك المدرك في الخارج أو لا يتوقف
فهذه أقسام ثلاثة أولها الإدراك الذي يجتمع فيه الأمران وهو أن يكون مانعا من الشركة ويكون متوقفا على وجود المدرك في الخارج وهذا هو إدراك الحس فإني إذا أبصرت زيدا فالمبصر يمنع لذاته من أن يكون مشركا فيه بين كثيرين وهذا الإبصار لا يحصل إلا عند حصول المدرك في الخارج
(6/27)
وثانيها أن يحصل فيه أحد الموضعين دون الآخر فيكون مانعا من الشركة ولكنه لا يتوقف على الوجود الخارجي وهو التخيل فإني إذا شاهدت زيدا ثم غاب فإني أتخيله على ما هو عليه من الشخصية فنفس ما تخيلته يمنع من الشركة وأما هذا الإدراك فإنه لا يتوقف على وجود المدرك في الخارج فإني يمكنني أن أتخيله بعد عدمه
وثالثها أن يخلو عن الموضعين جميعا فلا يكون مانعا من الشركة ولا موقوفا على وجود المدرك في الخارج وهو المسمى بالإدراك العقلي
قلت فقد بينوا أن الإدراك العقلي هو ما لا يمنع الشركة ولا يشترط فيه وجود المدرك من خارج ومعلوم أن هذا هو إدراك الكليات الثابتة في العقل وإذا كان كذلك فقوله وهو عندما يكون محسوسا تكون غشيته غواش غريبة عن ماهيته لو أزيلت عنه لم توثر في كنه ما هيته كلام يستلزم أن يكون في الخارج شيئان أحدهما ما هية مجردة عن المحسوسات والثاني محسوسات غشيت تلك الماهية المجردة المعقولة الثابتة في الخارج وهذا باطل يعلم بطلانه بالضرورة من تصور ما يقول
(6/28)
فإنه إن كان المعقول المجرد لا يكون إلا في النفس فكيف يكون في الخارج معقول مجرد تقارنه المعينات المحسوسة واحدا بعد واحد أو تقارنه تارة وتفارقه أخرى وقوله مثل أين ووضع وكيف ومقدار بعينه لو توهمت بدله غيره لم يؤثر في حقيقة ما هية إنسانيته
يقال له نعم إذا تصورنا بدل المعنى غيره لم يؤثر فيما في النفس من الإنسان المعقول الكلى المجرد فإن مطابقته لهذا المعين كمطابقته لهذا المعين كما لا يؤثر ذلك في لفظ الإنسان المطلق فإن مطابقته لهذا المعين كمطابقته لهذا المعين فشمول اللفظ ومعناه الذي هو في الذهن سواء لكن ذلك المعين إذا توهمنا بدله غيره لم يكن في ذلك البدل من هذا المعين شيء أصلا بل كان البدل نظيره وشبيهه ومثله فإما أن يكون هو إياه أو يكون في الخارج حقيقة معينة في هذا المعين هي نفسها حقيقة ثابتة في هذا المعين فهذا هو محل الغلط
ويقال لمن ظن هذا لما خلق الله هذا المعين كانت تلك الحقيقة موجودة قبله أو حدثت معه
فإن حدثت معه معينة لا مطلقة كلية لأن الكلي لا يتوقف على وجود هذا المعين وإن كانت موجودة قبله فإن كانت
(6/29)
مجردة عن الاعيان لم يحتج فيها إلى شيء من المعينات وإلا فالقول في مقارنتها لذلك المعين كالقول في هذا
وأيضا فإنه يقال هل اتنقلت من غيره وقارنته أو قامت به وبغيره فإن انتقلت من غيره فارفت ذلك المعين فثبت أن المعين لا يحتاج إلى مطلق يقارنه وإن قامت به وبغيره فإما أن يكون جوهرا أو عرضا فإن كانت عرضا فالعرض الواحد لا يكون في محلين وإن كانت جوهرا فالجوهر الواحد لا يكون في محلين
فإن قال هذا في الجواهر المحسوسة وأما الجواهر المعقولة فقد تقوم بمحلين
قيل إن أردت بالجواهر المعقولة ما في القلوب فتلك أعراض لا جواهر وإن أردت هذه الكليات التي تدعي وجودها في الخارج فتلك لا محل لها عندك فضلا عن أن تقوم بمحلين
وهذا أيضا مما يناقض قولهم إن المطلق جزء من المعين فكيف يكون ما لا يتخصص بحيز ولا مكان جزءا مما يتخصص بحيز ومكان
وإذا قال القائل المعقول الذي لا حيز له ولا مكان ولا جهة ولا يشار إليه جزء وبعض وداخل في هذا الجسم المتحيز الذي له مكان وجهة وحيز لعلم كل عاقل فساد ما يقول وهذا حقيقة قول هؤلاء
وأيضا فتلك الحقيقة المجردة المطلقة إذا كانت كلية والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وكانت جزءا من المعين كان في
(6/30)
كل معين كليات كثيرة لا يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها فيكون في كل إنسان معين حيوان كلي وناطق كلي وإنسان كلي وجسم كلي وحساس كلي وقائم بنفسه كلي وجوهر كلي وموجود كلي ومخلوق كلي وآكل كلي وشارب كلي ومتنفس كلي وأمثال ذلك مما يمكن أن يوصف به الإنسان
ومن المعلوم بصريح العقل أن الكلي الذي قد يعم جزئيات كثيرة لا يكون بعض جزئي واحد فإن الكثير لا يكون بعض القليل وجزءه ولا يكون ما يتناول أمورا كثيرة ويشملها ويعمها أو يصلح لذلك بعض واحد لا يقبل العموم والشركة
وقوله والحس يناله من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها لا يجردها عنه ولا يناله إلا بعلاقة وضعية
فيقال هذا مبني على أن في الخارج شيئا موجودا في هذا الإنسان المعين عرض له هذا الإنسان المعين وهذا مكابرة للحس والعقل والمادة التي خلق منها بدنه ليست موجودة الآن بل استحالت وعدمت وليس فيه الساعة منى أصلا
وقوله لا يجردها عنه إنما يصح لو كان هنا مادة موجودة مغايرة لهذا البدن المشهود حتى يمكن تجريد أحدهما عن الآخر نعم إن أريد بالمادة البدن وأن الروح مقارنة للبدن فهذا كلام صحيح
(6/31)
لكن الروح معينة والبدن معين ومقارنة أحدهما الآخر ممكن وهؤلاء يشتبه عليهم مقارنة الروح للبدن وتجريدها عنه بمقارنة الكليات المعقولة لجزئياتها وتجريدها عنها والفرق بين هذا وهذا أبين من أن يحتاج إلى بسط
وهم يلتبس عليهم أحدهما بالآخر فيأخذون لفظ التجريد والمقارنة بالاشتراك ويقولون العقول المفارقة للمادة ولا يميزون بين كون الروح قد تكون مقارنة للبدن وبين المعقولات الكلية التي لا تتوقف على وجود معين فإن الروح التي هي النفس الناطقة موجودة في الخارج قائم بنفسه إذا فارقت البدن
وأما العقليات الكلية المنتزعة من المعينات فإنما هي في الأذهان لا في الأعيان فيجب الفرق بين تجريد الروح عن البدن وتجريد الكليات عن المعينات
وأما قوله وكذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته
فسبب هذا أن الحس لا يدركه كله وإن كان كله محسوسا بمعنى أنه يمكن إحساسه ورؤيته في الجملة ولكن باطنه ليس بمحسوس لنا
(6/32)
عند رؤية ظاهره لا لعدم إمكان إحساسه لكن لا حتجاب باطنه أو لمعنى آخر
وهذا أيضا من مثارات غلطهم فإنهم قد لا يفرقون في المحسوس بين ما هو محسوس بالفعل لنا وبين ما يمكن إحساسه وإن كنا الآن لا نستطيع أن نحسه فإن عني بالمحسوس الأول فلا ريب أن الأعيان منها ما هو محسوس ومنها ليس بمحسوس وما أخبرتنا به الأنبياء من الغيب ليس محسوسا لنا فلا نشهده الآن بل هو غيب عنا ولكن هو مما يمكن إحساسه ومما يحسه الناس بعد الموت
ولهذا كانت عبارة الأنبياء عليهم السلام تقسم الأمور إلى غيب وشهادة قال تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } سورة البقرة 3 وقال تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك سورة هود 49
وقال { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم } سورة الحشر 22
وأما هؤلاء فيقسمونها إلى محسوس ومعقول والمعقول في الحقيقة ما كان في العقل وأما الموجودات الخارجية فيمكن أن ينالها الحس وأن يوقف الإحساس بها على شروط متيقنه الآن
(6/33)
وأما قوله وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض لا يقتدر على تجريده المطلق عنها لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها
فيقال له هذه حجة عليكم فإن ما يتخيله الإنسان في نفسه إنما هو موجود في نفسه فالصورة الخيالية ليست موجودة في الخارج ولا يشترط في التخيل ثبوت المتخيل في الخارج
وقولكم يتخيله مع تلك العوارض إثبات لشيئين ولا حقيقة لذلك بل لم يتخيل إلا الصورة التي هي عرض قائم بنفسه
وقولكم فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها كلام ملتبس فإن الصورة التي تخيلها في نفسه ليس لها حامل في الخارج وحامل الصورة التي في الخارج هو موجود معها فالصورة المحمولة في الخارج ليست عين ما في نفسه وما في نفسه ليست الصورة المحمولة
والتحقيق أنه يتخيل الصورة مع غيبوبتها بالكلية عن حسه الظاهر ليس مع غيبوبة حاملها قط سواء عني بالصورة نفس الشخص المتصور أو نفس الشكل القائم به
وقوله إن الخيال يتخيله مع تلك العوارض لا يقدر على
(6/34)
تجريده المطلق عنها لكنه يجردها عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس وأما العقل فيقدر على تجريد الماهية المكنوفة باللواحق الغريبة المشخصة مستثبتا إياها حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا
فقد يعترض على ذلك بأن يقال إنه يقتضي أن تجريد الخيال الكلي من جنس تجريد العقل فإن ما يتخيله المختال هو مثال المحسوس المعين فلم يجرد منه معنى كلي أصلا لكن إن ارتسم فيه صورة تشاكله كما ترتسم في الحائط صورة تشاكل الصورة المعينة ثم قد يتخيل المعين بجميع صفاته وقد يتخيل بعضها دون بعض وقد يتصور عينه مع مغيب صورة بدنه كان المتصور حقيقته المعينة كالروح دون الإنسانية المطلقة
وأما العقل فقد يراد به عقل الصورة المعينة فهو من جهة كونه تصورا معينا من جنس التخيل ومن جهة كونه لا يختص بشكل معين من جنس تصور العقل
وقد يراد بالعقل تصور الكلي المطلق كتصور الإنسان المطلق وجوابه أن الإنسان المطلق قد يتخيل مطلقا والبهائم لها تخيل كلي ولهذا إذا رأت الشعير حنت إليه ولولا أن في خيالها صورة مطلقة مطابقة لهذا الشعير وهذا الشعير لم تطلب هذا المعين حتى تذوقه
(6/35)
فطلبها له إذا رأته يقتضي أنها أدركت أن هذا مثل الأول وإنما تدرك التماثل إذا كان في النفس صورة تطابق المتماثلين يعتبر بها تماثلهما
لكن يقال فحينئذ لا فرق بين التخيل والتعقل من جهة كون كل منهما يكون معينا ويكون مطلقا وكل منهما ليس عين ما فيه هو عين الموجود في العقل بل مثاله
فقوله حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا
تحقيقة أن المحسوس لم يعمل به شي أصلا ولا فيه معقول أصلا بل العقل تمثل معقولا يطابق المحسوس وأمثاله
وقوله وأما ما هو في ذاته برىء عن الشوئب المادية وعن اللواحق الغريبة التي لا تلزم ماهيته عن ماهيته فهو معقول لذاته
ففيه كلامان
أحدهما أن يقال ثبوت مثل هذا المعقول تبع لثبوت المعقول المنتزع من المحسوس وذلك ليس إلا في العقل لا وجود له في الخارج فيكون المعقول المجرد كذلك وحينئذ فليس في ذلك ما يقتضي أن يكون في الخارج معقول مجرد
الثاني أن يقال ثبوت هذه المعقولات المجردة في الخارج فرع إمكان وجودها وإمكان وجودها مبني على إمكان وجود ما لا يمكن
(6/36)
الإحساس به فلا يجوز إثبات إمكان وجود ذلك بناء على وجود هذه المجردات لأن ذلك دور قبلى وهو ممتنع
والمقصود أن في كلامهم ما يقتضي أنه ليس في المعقولات إلا ما يعقله العاقل في نفسه مثل العلم الكلي وقد يدعون ثبوت هذه المعقولات في الخارج فيتناقضون وهذا موجود في كلام أكثرهم يقولون كلهم الكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان ثم يقول بعضهم إن الكليات تكون موجودة في الخارج ولهذا كثيرا ما يرد بعضهم على بعض في هذا الموضع وهو من أصول ضلالاتهم ومجازاتهم وكلامهم في المعقولات المجردة من هذا النمط وليس لهم دليل على إثباتها وإذا حرر ما يجعلونه دليلا لم تثبت إلا أمور معقولة في الذهن
واسم الجوهر عندهم يقال على خمسة أنواع على العقل والنفس والمادة والصورة والجسم وهم متنازعون في واجب الوجود هل هو داخل في مسمى الجوهر على قولين فأرسطو وأتباعه يجعلونه من مقولة الجوهر وابن سينا وأتباعه لا يجعلونه من مقولة الجوهر وإذا حرر ما يثبتونه من العقل والنفس والمادة والصورة لم يوجد عندهم إلا ما هو معقول في النفس أو ما هو جسم أو عرض قائم بجسم كما قد بسط في موضعه
(6/37)
والمراد هنا أن يعرف أن المعقولات التي هي العلوم الكلية الثابتة في النفس لا ينازع فيها عاقل وكذلك تصور المعينات الموجودة في الخارج سواء كان المتصور عينا قائمة بنفسها أو معنى قائما بالعين وسواء سمي ذلك التصور تعقلا أو تخيلا أو توهما فليس المقصود النزاع في الألفاظ بل المقصود المعاني
وإذا عرف أن الإنسان يقوم به تصور لأمور معينة موجودة في الخارج وتصور كلي مطابق للمعينات تبين ما وقع من الاشتباه في هذا الباب
فقول القائل إن حكم الوهم أو الخيال قد يناقض حكم العقل إذا أراد به أن التصور المعين الذي في النفس لما هو محسوس أو لما يحسه كالعدواة والصداقة قد يناقض العقل الذي حكمه كلي عام كان هذا باطلا
وإن أراد به أن العقل يثبت أمورا قائمة بنفسها تقوم بها معاني وتصوره للمحسوسات ولما قام بها يناقض ذلك كان هذا أيضا باطلا فإنه لا منافاة بين هذا وهذا وذلك لأن الكلام ليس في مناقضة تصور الجزئيات للكليات بل في تناقض القضايا الكلية بالسلب والإيجاب
(6/38)
وإذا أراد به أن ما سماه الوهم والخيال يحكم حكما كليا يناقض حكما كليا للعقل وهذا هو مرادهم كان هذا تناقضا منهم وذلك أنهم قد فسروا حكم الوهم المناقض للعقل عندهم بأنه يقضي قضاء كليا يناقض القضاء الكلي المعلوم بالعقل مثل أنه يقضي أنه ما من موجود إلا ويمكن الإشارة إليه وما من موجودين إلا وأحدهما محايث للآخر أو مباين له ويمنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأمثال ذلك
فيقال لهم هذه قضايا كلية وأحكام عامة وأنتم قلتم إن الوهم هو الذي يدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحس كإدراك الصداقة والعداوة إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما نشاهده
وكذلك الخيال عندكم يحفظ ما يتصوره من المحسوسات الجزئية فإذا كان الوهم والخيال إنما يدرك أمورا جزئية بمنزلة الحس وهذه القضايا التي تزعمون أنها تعارض حكم العقل قضايا كلية علم بذلك أن هذه ليست من إدراك الوهم والخيال كما أنها ليست من إدراك الحس وإنما هي قضايا كلية عقلية بمنزلة أمثالها من القضايا الكلية العقلية وهذا لا محيد لهم عنه وهذا بمنزلة الحكم بإن كل وهم وخيال فإنما يدرك أمورا جزئية
(6/39)
فهذه القضية الكلية عقلية وإن كانت حكما على الأمور الوهمية الخيالية وكذلك إذا قلت كل صداقة فإنها ضد للعداوة فهذا حكم بما في عقل كل الأفراد التي هي وهمية
وكذلك إذا قلنا كل محسوس فإنه جزئي فهذه قضية كلية عقلية تتناول كل حسي
ومعلوم أنه كلما كان الحكم أعم كان أقرب إلى العقل فقولنا كل موجود قائم بنفسه فإنه يشار إليه وكل موجودين فإما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين من أعم القضايا وأشملها فكيف تكون من الوهميات التي لا تكون إلا جزئية
وحينئذ فقولهم إن حكم الوهم والخيال قد يناقض حكم العقل بمنزلة قولهم إن حكم الحس قد يناقض حكم العقل وبمنزلة قولهم إن حكم العقل يناقض حكم العقل وليس الكلام في الحس والوهم والخيال والعقل إذا كان فاسدا عرضت له آفة فإن هذا لا ريب في إمكان تناقض أحكامه وإنما الكلام في الحس المطلق وتوابعه مما سموه هم توهما وتخيلا
وأيضا فقد قال ابن سينا في مقامات العارفين أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة وهو ما يعترى المستبصر
(6/40)
باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد ثم إنه يحتاج إلى الرياضة والرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض الأولى تنحية ما سوى الحق عن مستن الآثار والثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي والثالث تلطيف السر للتنبيه
والأول يعين عليه الزهد والثاني يعين عليه العبادة المشفوعة بالفكر ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما يلحن بها من الكلام موقع القبول في الأوهام والثالث يعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف
(6/41)
قلت وقد تكلمنا على ما في هذا الكلام من حق وباطل في غير هذا الموضوع والمقصود هنا أنه جعل من الأمور التي يحتاج إليها العارف ما يجذب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمرالقدسي من العبادة وسماع الألحان وسماع الوعظ فإن كان الأمر القدسي أمرا معقولا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه وقوى الوهم والتخيل لا تناسب إلا الأمور الحسية دون العقلية المجردة كان هذا من الكلام الذي يناقض بعضه بعضا
بل كان الواجب على العارف أن يعرض عما يحكم به الوهم والخيال لينال معرفة الأمر القدسي المعقول المجرد الذي يناقض حكم الوهم والخيال لا يناسبة
ولكن ما ذكره في مقدمات العارفين هو الأمر الفطري فإن القلوب الطالبة لله إذا تحركت بما يصرف إرادتها إلى العلو ويصرف إرادتها عن السفل كان هذا مناسبا لمطلوبها ومرادها ومحبوبها ومعبودها فإن الله الذي هو العلي الأعلى هو المعبود المحبوب المراد المطلوب فإذا حركت النفس بما يصرف قواها إلى إرادته انصرفت قواها إلى العلو وأعرضت عن السفل
والذي يبين هذا أن هذه القوة الوهمية وفعلها الذي هو الوهم لا يريدون به أن يتوهم في الشيء ما ليس فيه وهو الوهم الكاذب
(6/42)
وكذلك لفظ التخيل لا يريدون تخيل ما لا وجود له في الخارج بل هذا وهذا يتناول عندهم توهم ما له وجود في الخارج وتخيل ما له وجود في الخارج وهو إدراك صحيح صادق مطابق
وذلك لأن لفظ الوهم والخيال كثيرا ما يطلق على تصور ما لا حقيقة له في الخارج بل هذا المعنى هو المعروف من لغة العرب
قال الجوهري وهمت في الحساب أوهم وهما إذا غلطت فيه وسهوت ووهمت في الشيء بالفتح أوهم وهما إذا ذهب همك إليه وأنت تريد غيره وتوهمت أي ظننت وأوهمت غيري إيهاما والتوهم مثله واتهمت فلانا بكذا والاسم التهمة بالتحريك ويقال أوهم في الحساب مائة أي أسقط وأوهم في صلاته ركعة ويقال قد أيهم إذا صار به الريبة
قلت فهذا أبو نصر الجوهري قد نقل في صحاحه المشهور في لغة العرب أن مادة هذا اللفظ تستعمل في جهة الغلط بمعنى الخطأ
(6/43)
تارة وتستعمل بمعنى الطن تارة ولم ينقل أنها تستعمل بمعنى اليقين وهم يستعملونها في تصور يقيني وهو تصور المعاني التي ليست بمحسوسة ولا ريب في ثبوتها كعداوة الذئب للنعجة وصداقة الكبش لها وهو في لغة العرب يقال في هذه المعاني تصورتها وعملتها وتحققتها وتيقنتها وتبينتها ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على العلم ولا يقال توهمتها إلا إذا لم تكن معلمه فاصطلاحهم مضاد للمعروف في لغة العرب بل وفي سائر اللغات
وإذا كان كذلك فالإدراك الصحيح الذي يسمونه هم توهما وتخيلا هو نوع من التصور والشعور والمعرفة
يوضح ذلك أنهم قالوا في إثبات القوة الوهمية كما قال ابن سينا الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها غير الحافظ للصورة
(6/44)
فقد تبين أن هذه القوة تدرك معاني غير محسوسة وغير متأدية من الحس ففرق بينها وبين الحسية والخيالية بأن الخيالية إدراك ما تأدى من الحس
وقد فسر الشارحون ما دل عليه كلامه فقالوا هذ بيان إثبات الوهم والحافظة أما الوهم فقوة يدرك الحيوان بها معاني جزئية لم تتأد من الحواس إليها كإدراك العداوة والصداقة والموافقة والمخالفة في أشخاص جزئية فإدراك تلك المعاني دليل على وجود قوة تدركها وكونها مما لا يتأدى من الحواس دليل على مغايرتها للحس المشترك ووجودها في الحيوانات العجم دليل على مغايرتها للنفس الناطقة
قالوا وقد يستدل على ذلك أيضا بأن الإنسان ربما يخاف شيئا يقتضي عقله الأمن منه كالموتى وما يخالف عقله فهو غير عقله
وقال ابن سينا أيضا في إشاراته كل ملتذ به فهو سبب كمال يحصل للمدرك هو بالقياس إليه خير ثم لا يشك أن الكمالات وإدراكاتها متفاوته فكمال الشهوة مثلا أن يتكيف العضو
(6/45)
الذاتي بكيفية الحلاوة مأخوذة عن مادتها ولو وقع مثل ذلك لا عن سبب خارج كانت اللذة قائمة وكذلك الملموس والمشموم ونحوهما وكمال القوة الغضبية أن تتكيف النفس بكيفية غضب أو بكيفية شعور بأذى يحصل من المغضوب عليه والوهم التكيف بهيئة ما يرجوه أو يذكره وعلى هذا الحال سائر القوى
والمقصود أنه جعل كمال الوهم اتصافه بصفة ما يرجوه أو يذكره والمرجو في المستقبل والمذكور في الماضي كلاهما لا بد أن يكون هنا مما يوافقه ويحبه فإن الكمال كما قد ذكروه إنما يكون بإدراك الملائم لا المنافي
والقوة الوهمية هي التي تدرك بها الصداقة والعداوة والموافقة والمخالفة والصداقة هي الولاية التي أصلها المحبة والعداوة أصلها البغض
فالقوة الوهمية عندهم هي التي يدرك بها الحيوان ما يحبه وما يبغضه
(6/46)
من المعاني التي لا تدرك بالحس والخيال ثم يكون حبه وبغضه لمحل ذلك المعنى تبعا لحبه وبغضه ذلك المعنى فالشاة إذا توهمت أن في الذئب قوة تنافرها أبغضته والتيس إذا توهم أن في الشاة قوة تلائمه أحبها فهذه القوة هي التي تدرك المحبوبات والمكروهات من المعاني القائمة بالمحسوسات وهي التي يحصل بها الرجاء والخوف فيرجو حصول المحبوب ويخاف حصول المكروه ولهذا علقوا الرجاء والخوف بها كما تقدم من كلامهم وجعلوا كمالها في التكييف بهيئة ما ترجوه أو تذكره وقالوا إن خوف الإنسان من الموتى ونحوهم هو بهذه القوة
وعلى هذا فكل حب وبغض ورجاء وخوف لما لم يحسه الحيوان بحسه الظاهر فهو بهذه القوة
ولهذا عظموا شأنها فقال ابن سينا في شفائه في القوة المسماة بالوهم هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقلي ولكن حكما تخييليا مقرونا بالجزئية وبالصورة الحسية وعنه تصدر أكثر الأفعال الحيوانية
(6/47)
وقال أيضا في شفائه ويشبه أن تكون القوة الوهمية هي بعينها المفكرة المتخيلة والمتذكره وهي بعينها الحاكمة فتكون بعينها حاكمة وبأفعالها وحركاتها متخيلة بما تعمل من الصور والمعاني والمتذكرة بما ينتهي إليه عملها وأما الحافظة فهي قوة خزانتها
فهذه ألفاظه ومن الناس من قال هذا يدل على اضطرابه في أمر هذه القوى وليس المقصود هنا الكلام فيما يتنازعون فيه وهو أن هذه الإدراكات الجزئية والأفعال الجزئية هل هي للنفس وإن كان بواسطة الجسم أو هي للجسم وهل محل هذه شيء واحد أو أشياء متعددة وهل هو بقوة واحدة أو بقوى متعددة
فإن الكلام في هذا مما لم يتعلق بالمقصود في هذا المكان فإنه لا خلاف بين العقلاء أن الإنسان بل وغيره من الحيون يتصور في غيره ما يحبه ويواليه عليه ويرجو وجوده ويتصور ما يبغضه ويعاديه عليه ويخاف وجوده
(6/48)
فهذا التصور أمر معلوم في الإنسان وفي الحيوان وهم سموا التصور وهما وقالوا إنه يحصل بقوة تسمى الوهمية
والناس متنازعون في إدراك الحيوان وأفعاله كالسمع والبصر والتفكر والعقل وغيرذلك من أنواع التصورت والأفعال سواء كان تصور ولاية أو عداوة أو غير ذلك هل هو بقوى في الحيوان أم لا
فالأول قول الجمهور والثاني قول من يقول إنه ليس للعبد قدره مؤثرة في مقدوره
والأولون على قولين منهم من يخص القوى بالأفعال الاختيارية ومنهم من يجعله في جميع الحوادث
وهؤلاء نوعان منهم من يقول بقول المتفلسفة الذين يقولون إن الله موجب بذاته بدون مشيئته وعلمه بالجزئيات وهذا باطل شرعا وعقلا ومنهم من يقول إن الله خالق ذلك كله بمشيئته وعلمه وقدرته
وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها وجمهور علمائها يثبتون ما في الأعيان من القوى والطبائع ويثبتون للعبد قدرة حقيقية وإرادة ويقولون إن هذه الأمور جعلها الله أسبابا لأحكامها وهو يفعل بها كما قال تعالى { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } سورة الأعراف 57
(6/49)
وقال تعالى { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } سورة البقرة 164 إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة
وكلام السلف والأئمة المذكور في غير هذا الموضع ولهذا نص أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما أن العقل غريزة في الإنسان
ولكن من قال بالقول الأول من نفاة الأسباب والقوى الذين سلكوا مسلك الأشعري في نفي ذلك قالوا إن العقل إنما هو نوع من العلوم الضرورية كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى والقاضي أبو بكر بن العربي وغيرهم
والمقصود أن هذا التصور لمعان في الأعيان المشهودة كتصور أن هذا يوافقني ويواليني وينفعني وفيه ما أحبه وهذا يخالفني ويعاديني ويضرني وفيه ما أبغضه أمر متفق عليه بين العقلاء سواء قبل بتعدد القوى أو اتحادها أو عدمها وسواء قيل المدرك هو النفس أو البدن
(6/50)
إذا كان كذلك فيقال إذاكان الوهم مفسرا عندهم بما ذكوره من تصور معنى غير محسوس في الأعيان المحسوسة وألا يتأدى من الحس فمعلوم أن هذا تدخل فيه كل صفة تقوم بالحي من الصفات الباطنة كالقدرة والإرادة والحب والبغض والشهوة والغضب وأمثال ذلك
فإن القدرة في القادر كالعداوة في العدو والصداقة في الصديق بل قد يكون ظهور الولاية والعداوة والحب والبغض إلى الحس الظاهر أقرب من ظهور القدرة
وعلى هذا فيكون تصور الملك والملك هو أيضا من الوهم فإن كون الشخص المعين ملكا لغيره أو مالكا لغيره هو تصور معنى في الشخص المحسوس وذلك المعنى غير محسوس ولا يتخيل تخيل المحسوسات
وكذلك تصور الشهوة والنفرة يكون أيضا من باب التصور الوهمي في اصطلاحهم وكذلك تصور الألم في الغير واللذة فيه هو من الباب فإن ما يجده الحيوان في نفسه من اللذة والألم غير محسوس
فإن قيل هذه الأمور تدرك بآثار تظهر يدرك الحس تلك الظواهر فلا يقال هي موهومة
قيل إن كان هذا كافيا فمعلوم أن تصور الشاة صورة الذئب المحسوسة إدراك لتلك الصورة فتلك الصورة مستلزمة للعداوة
(6/51)
وكذلك إدراك التيس صورة الشاة وكذلك إدراك الإنسان شعار صديقه وعدوه مثل إدراك كل من الطائفتين المقتتلتين شعار الأخرى المسموعة بالأذن كالشعائر المتداعى بها والمرئية كالرايات المرئية هي أيضا مما يدرك بالحس ويستدل بها على الولاية والعداوة التي ليست بمحسوسة بل هي في الأشخاص المحسوسة
ففي الجملة ليس من شرط الصورة الوهمية عندهم أن يدركها الوهم بلا توسط شيء محسوس بل لا تدرك تلك المعاني إلا في الأشياء المحسوسة ولا بد أن تدرك تلك الأشياء المحسوسة فيكون الوهم مقارنا للحس لا بد من ذلك وإلا فلو أدرك الوهم ما يدركه مجردا عن الحس لكان يدرك ما يدركه لا في أعيان محسوسة فلا بد أن يدرك بباطنه وهو القوة المسماة بالوهم عندهم وبظاهره وهو الحس ما في المدرك من الأمر الباطن وهو المعنى كالصداقة والعداوة والظاهر وهو الشخص الذي هو محل ذلك
وعلى هذا فميل كل جنس إلى ما يناسبه في الباطن هو بسبب إدراك هذه القوة كما يتفق في المتحابين والمتباغضين والمتحابون قد يكون تحابهم لاشتراكهم في التعاون على ما ينفعهم ودفع ما يضرهم كما يوجد في أجناد العساكر وأهل المدينة الواحدة وأهل الدين الواحد والنسب الواحد ونحو ذلك
(6/52)
وفي الجملة فميل الحيوان إلى ما يظن أنه ينفعه ونفوره عما يظن أنه يضره بسبب هذه القوة فإن إدراكه كون هذا نافعا له موافقا له ملائما له وكون هذا ضارا له مخالفا له منافرا له هو بهذه القوة
وعلى هذا فينبغي أن يكون إدراك ما في الأغذية والأدوية من الملاءمة هو بهذه القوة فإن الإنسان يتوهم في الخبز أنه يلائمه إذا أكله كما يتوهم الفرس ذلك في الشعير ويتوهم في السيف أنه يضره إذا ضرب به كما يتوهم الحمار ذلك في العصا
وفي الجملة فتصور الإنسان بل والحيوان لما ينفعه ويضره هو بهذه القوة على موجب اصطلاحهم فإن الإنسان إذا رأى بئرا محفورة يتصور أنه إن وقع فيها عطب كان هذا بهذه القوة لأن الحس إنما شهد مكانا عميقا أما كونه يضر الإنسان إذا سقط فيه فهذا لا يعلم بالحس ولهذا كان من لا تمييز له يسقط في مثل هذا المكان كالصبي والمجنون والبهيمة وإن كان له حس فالذي يسميه الناس عقلا سماه هؤلاء ووهما وتصور الإنسان أن هذا ماله وهذا مال غيره وهذه الدار داره وهذه دار غيره هو بهذه القوة لأن الحس الظاهر لا يميز بين هذا وهذا وإنما يعرف هذا من هذا بقوة باطنة تتصورفي المحسوس ما ليس بمحسوس وهو أن هذه الدار أو المال له أو لأقاربه أو لأصدقائه وتلك الدار أو المال للأجانب او الأعداء فإن هذه المعاني هي في المحسوس وليست محسوسة وإدراك كون هذا الإنسان
(6/53)
عادلا جوادا رحيما شجاعا وهذا ظالما بخيلا قاسيا جبانا هو على موجب اصطلاحهم وهم فإن هذا إدراك أمور غير محسوسة في المحسوسات
وكذلك سائر الأخلاق التي بها مدح وقدح مثل البر والفجور والعفة والصدق والكذب والكرم واللؤم وأمثال ذلك فإن هذه معان تقوم بالشخص المحسوس ونفس الأخلاق القائمة فيه ليست بمحسوسة وإنما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عنها كما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عن الصداقة والعداوة
ومعلوم أن إدراك هذه الأمور هي مما يدخل في مسمى العقل والعلم والمعرفة عند عامة العقلاء بل إدراك كون المعروف معروفا وكون المنكر منكرا هو أيضا مما يدخل في الوهم على اصطلاحهم فإن المعروف هو المحبوب الموافق الملائم والمنكر هو المكروه المخالف المنافي وما يدرك به هذه المعاني من الامور الحسية وهم بل على قولهم كل معنى يدرك في الأعيان المحسوسة فإدراكه بالوهم ولا يبقى فرق بين الوهميات والعقليات في مثل هذا إلا كون الوهميات جزئية والعقليات كلية
ومعلوم أن إدراك كثير من هذه المعاني من خواص العقل ومما يبين هذا أن الرجل إذا رأى امرأته مع من يظن به السوء كان هذا إدراكا لأمر
(6/54)
غيرمحسوس في المحسوس وهو إدراك ما ينافيه وهو ميل الأجنبي إلى امرأته وميل امرأته إليه وكذلك المرأة إذا وجدت مع زوجها امرأة أخرى فظنت أن بينهما اتصالا وحصلت لها الغيرة فالغيرة إنما تحصل بهذه القوة فإن الغيرة من باب كراهة المؤذى وبغضه وهو من جنس إدراك العداوة فيما يغار منه كما أن الرجل يميل إلى أبيه وأمه وزوجته لما يستشعره من محبتهم ومودتهم وإدراك ما منهم من المحبة والمودة هو أيضا عندهم وهم لأنه إدراك في المحسوس بما ليس بمحسوس وهو الولاية التي بينهما كما قالوا في إدراك التيس معنى في الشاة وإذا رأى الإنسان امرأة أجنبية فقد يدرك منها أنها تميل إليه فيكون كإدراك التيس معنى في الشاة وقد يدرك منها أنها تنفر عنه فيكون كإدراك الشاة معنى في الذئب وهذا باب واسع
والمقصود أن يجمع بين هذا وبين ما قاله ابن سينا في مقامات العارفين وهو خاتمة مصحفهم وقد قال الرازي هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب فإنه رتب علم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله ولا يلحقه من بعده
وأقره الطوسي على هذا الكلام وقال قد ذكر الفاضل
(6/55)
الشارح أن هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب فإنه رتب فيه علوم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله ولا لحقه من بعده
وهذا الذي هو غاية ما عند هؤلاء من معارف الصوفية إذا تدبره من يعرف ما بعث الله به رسوله وما عليه شيوخ القوم المؤمنون بالله ورسوله المتبعون للكتاب والسنة تبين له أن ما ذكره في الكتاب بعد كمال تحقيقه لا يصير به الرجل مسلما فضلا عن أن يكون وليا لله وأولياء الله هم المؤمنون المتقون فإن غايته هو الفناء في التوحيد الذي وصفه وهو توحيد غلاة الجهمية المتضمن نفي الصفات مع القول بقدم الأفلاك وأن الرب موجب بالذات لا فاعل بمشيئته ولا يعلم الجزئيات ولو قدر أنه فناء في توحيد الربوبية المتضمن للإقرار بما بعث الله به رسوله من الأسماء والصفات لم يكن هذا التوحيد وحده موجبا لكون الرجل مسلما فضلا عن أن يكون عارفا وليا لله إذ كان هذا التوحيد يقر به المشركون عباد الأصنام فيقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وإنما يجعل الفناء في هذا التوحيد هو غاية العارفين صوفية هؤلاء الملاحدة كابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وأمثاله ولهذا يستأنسون بما يجدونه من كلام أبي حامد
(6/56)
موافقا لقولهم إذ كان في كثير من كلامه ما يوافق الباطل من قول هؤلاء كما في كثير من كلامه رد لكثير من باطلهم
ولهذا صار كالبرزخ بينهم وبين المسلمين فالمسلمون ينكرون ما وافقهم فيه من الباطل عند المسلمين وهم ينكرون عليه ما خالفهم فيه من الباطل عند المسلمين
ومن أسباب ذلك أن هؤلاء جعلوا غاية الإنسان وكماله في مجرد أن يعلم الوجود أو يعلم الحق فيكون عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود وهو التشبه بالإله على قدر الطاقة وجعلوا ما يأتي به من العبادات والأخلاق إنما هي شروط وأعوان على مثل ذلك فلم يثبتوا كون الرب تعالى مألوها يحب لذاته ويكون كمال النفس أنها تحبه فيكون كمالها في معرفته ومحبته بل جعلوا الكمال مجرد معرفة الوجود عند أئمتهم أو في مجرد معرفته عند من يقرب إلى الإسلام منهم
فهذا أحد نوعي ضلالهم والنوع الآخر أنه لو قدر كمالها في مجرد العلم فما عندهم ليس بعلم بل كثير منه جهل
(6/57)
والقدر الذي حصل لهم من العلم لا تحصل به النجاة فضلا عن حصول السعادة الكبرى فهم أبعد عن الكمال البشرى عن النجاة في الآخرة والسعادة من اليهود والنصارى من حيث هم كذلك وإن كان من اليهود والنصارى من هو أبعد عن ذلك ممن كان أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى إذ النجاة والسعادة باتباع الرسل علما وعملا
وكتبهم ليس فيها إيمان بنبي معين ولا بكتاب معين لا توراة ولا إنجيل ولا قرآن ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى بل ولا فيها إثبات رب معين وإنما فيها إثبات موجود كلي وأمور كليه ولا فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة ما سواه ومعلوم أن النجاة والسعادة لا تحصل إلا بذلك بل ليس عندهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ولا الإيمان بأن الله قدر مقادير العباد فإنه عندهم لا يعلم الجزئيات فكيف يقدرها ومعلوم أن السعادة لا تحصل إلا بذلك
وهؤلاء لما كان قولهم مخالفا للفطرة التي فطر الله عليها عباده من الإقرار به ومن محبته كان ما ذكروه من كمال النفس منافيا لهذا ولهذا
ولهذا اضطرب كلامهم في هذا الباب فتارة يحتاجون أن يقروا بما يوجب محبته وموالاته مع الإقرار به سبحانه بعلوه على خلقه وتارة يدعون ما يوجب انتفاء هذا وهذا
(6/58)
وقد تقدم أقوالهم في الوهم ومعناه عندهم والقضايا الوهمية والمقصود أن يجمع بين النظر في ذلك وبين ما ذكروه في مقامات العارفين الذي هو أجل ما عندهم وكثير منه أو أكثره كلام جيد ولكن الاقتصار عليه وحده مع ما عندهم لا يوجب نجاة النفوس من العذاب فضلا عن حصول السعادة لها ولكن كل ما قالوه هم وغيرهمم من حق فمقبول ويتبين من ذلك الحق وغيره بطلان ما يناقضه من الباطل الذي قالوه أيضا
قال ابن سينا العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئا على عرفانه وتعبده له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة ولا لرهبة وإن كانتا فيكون المرغوب فيه أو المهروب عنه هو الداعي وفيه المطلوب ويكون الحق ليس الغاية بل الواسطة إلى شيء غيره وهو الغاية وهو المطلوب دونه
فيقال هذا الذي قاله من كون الحق تعالى عند العارف هو المراد المعبود لنفسه لا يراد لغيره فيكون هو الواسطة إلى ذلك الغير ويكون ذلك الغير هو الغاية كلام صحيح وهو من مبادئ ما يتكلم
(6/59)
فيه أهل الإيمان والإرادة بل هو من شعائرهم ومن أشهر الأمورعندهم
وقد قال تعالى { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } سورة الأنعام 52
وقال تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى } سورة الليل 19 21
وقال تعالى { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } سورة الأحزاب 29
وقال تعالى { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } سورة المائدة 54
وقال { والذين آمنوا أشد حبا لله } سورة البقرة 165
وقال تعالى { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا } سورة التوبة 24
وقد قال تعالى { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا } سورة النساء 125
(6/60)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا
وفي الصحيحين أنه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين
وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال والله يا رسول الله
(6/61)
لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي فقال الآن يا عمر
فإذا كان هذا في حب الرسول التابع لحب الله فكيف في حب الله الذي إنما وجب حب الرسول لحبه والذي لا يجوز أن نحب شيئا من المخلوقات مثل حبه بل ذلك من الشرك
قال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } سورة البقرة 165 وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له
والعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل فلا يكون أحد مؤمنا حتى يكون الله أحب إليه من كل ما سواه وأن يعبد الله مخلصا له الدين
فهذا الذي ذكره في مقامات العارفين هو أول قدم يضعه المؤمن في الإيمان ولا يكون مؤمنا من لم يتصف بهذا وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وعلماؤها على أن الله يحب لذاته لم ينازع في ذلك إلا طائفة من أهل الكلام والرأي الذين سلكوا مسلك الجهمية في بعض أمورهم فقالوا إنه لا يحب ولا يحب
(6/62)
وابن سينا والفلاسفة وإن كانوا يردون على هؤلاء كما يرد عليهم أئمة الدين فهم أقرب إلى الحق من ابن سينا وأتباعه كما سنبينه إن شاء الله تعالى
وقد قال طائفة من النظار إن الإرادة لا تتعلق إلا بمعدوم محدث وهو ما يراد أن يفعل فأما القديم الواجب بنفسه فلا تتعلق به الإرادة
وقالوا قول القائل أريد الله أي أريد عبادته ونحو ذلك
وقال آخرون بل الإرادة تتعلق بنفس القديم الواجب بنفسه كما نطقت به النصوص
والتحقيق أنه لا منافاة بين القولين فإن كون الشيء محبوبا لذاته مرادا لذاته هو أن المحب المريد لم يطلب إرادته لما سواه بل كان هو أقصى مراده وإنما يكون الشيء مرادا محبوبا لما للمحب المريد في الإتصال بذلك من السرور واللذة إذ المحبة لا تكون إلا لما يلائم المحب فما يحصل عند ذكره ومعرفته والنظر إليه من اللذة هو مطلوب المحب المريد المحب لذاته
(6/63)
كما ثبت في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك
فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله لم يعط أهل الجنة
(6/64)
شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهذا غاية مراد العارفين وهذا موجب حبهم إياه لذاته لا لشيء آخر
فمن قال إنه لا يحب لذاته ولا يتلذذ بالنظر إليه كما تزعمه طائفة من أهل الكلام والرأي فقد أخطأ ومن قال إن محبة ذاته وإرادة ذاته لا تتضمن حصول لذة العبد بحبه ولا يطلبه العبد ولا يريده بل يكون العبد محبا مريدا لما لا يحصل له لذة به فقد أبطل
ومن قال إن العبد يفني عن حظوظه وإراداته وأراد بذلك أنه يفني عن حظوظه وإرادته المتعلقة بالمخلوقات فقد أصاب وأما إن أراد انه يفني عن كل إرادة وحب وتبقى جميع الأمور عنده سواء فهذا مكابر لحسه ونفسه
وكل مراد محبوب لذاته فلا معنى لكونه مرادا محبوبا لذاته إلا أن ذاته هو غاية مطلب الطالبين بمعنى أن ما يحصل لهم من النعم واللذة هو غاية مطلوبهم لا يطلبونها لأجل غيرها فأما بتقدير أن تنتفي كل لذة فلا يتصور حب فإن حب ما لا لذة في الشعور به ممتنع
(6/65)
وعلى هذا فقول القائل العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئا على عرفانه لا منافاة بينهما
وكذلك قوله وتعبده له فقط لا ينافي قوله ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه بل كونه تعبده له فقط إنما كان محمودا لأنه مستحق للعبادة وإنما انبغى للعبد أن يفعلها لأنها نسبة شريفة وإلا فلو فعل العبد ما لا خير فيه كان مذموما لكن يفرق بين من يكون قد عرف الله معرفة أحبه لأجلها وبين من سمع مدح أهل المعرفة فاشتاق إلى كونه منهم لما في ذلك من الشرف فإن هذا في الحقيقة إنما مراده تعظيم نفسه وجعل المعرفة طريقا إليها
وكذلك كل من أراد الله لأمر من الأمور كما حكى أن أبا حامد بلغه أن من أخلص لله أربعين يوما تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه قال فأخلصت أربعين يوما فلم يتفجر شيء فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي إنك أنما أخلصت للحكمة لم تخلص لله
وذلك لأن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة أو نيل المكاشفات والتأثيرات أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه أو غير ذلك من المطالب
(6/66)
وقد عرف أن ذلك يحصل بالإخلاص لله وإرادة وجهه فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضا لأن من أراد شيئا لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته والأول يراد لكونه وسيلة إليه فإذا قصد أن يخلص لله ليصير عالما أو عارفا أو ذا حكمة أو متشرفا بالنسبة إليه أو صاحب مكاشفات وتصرفات ونحو ذلك فهو هنا لم يرد الله بل جعل الله وسيلة له إلى ذلك المطلوب الأدنى وإنما يريد الله ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره
وفطر العباد مجبولة على محبته لكن منهم من فسدت فطرته قال تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } سورة الروم 30
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } سورة الروم 30
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال إني خلقت عبادي حنفاء
(6/67)
فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما احللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا
وأما قول القائل لا للرغبة والرهبة
فهذا له ثلاث معان
أحدها أن يراد به لا لرغبة في حصول مطلوب المحب من المحبوب لذاته ولا لرهبة من ذلك وهذا ممتنع فإنه ما من عبد مريد محب إلا وهو يطلب حصول شيء ويخاف فواته
والثاني أنه لا يرغب في التمتع بمخلوق ولا يخاف من التضرر بمخلوق فيمكن أن يعبد الله من يعبده بدون هذه الرغبة والرهبة
كما قال عمر رضي الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه
وفي الأثر لو لم أخلق جنة ولا نارا أما كنت أهلا أن أعبد وقد ثبت في الصحيح أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس
(6/68)
وكذلك الملائكة فلولا تمتع أهل الجنة بذلك التسبيح الذي هو لهم كالنفس لم يكن الأمر كذلك
وقد ثت في الحديث الصحيح المتقدم قوله فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه
والثالث أن يراد أن العبد لا يرهب مما يضره كألم العذاب ولا يرغب فيما يحتاج إليه كالطعام والشراب فهذا ممتنع فإن ما جعل الله العبد محتاجا إليه متألما إذا لم يحصل له لا بد أن يرغب في حصوله ويرهب من فواته وما كان ملتذا به غير متألم بفواته كأكل أهل الجنة وشربهم فهذا يرغب فيه ولا يرهب من فواته فوجود تلك اللذة العليا الحاصلة بمعرفة الله ورؤيته لا ينافي وجود لذات أخر حاصلة بإدراك بعض المخلوقات ومن نفى الأولى من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم فقد أخطأ ومن نفى الثانية من المتفلسفة والمتصوفة على طريقهم فقد أخطأ مع أن هؤلاء المتفلسفة لا يثبتون حقيقة الأولى فإنهم لا يثبتون أن الرب تحبه الملائكة والمؤمنون وإنما يجعلون الغاية تشبههم به لا حبهم إياه وفرق بين أن تكون الغاية كون هذا مثل هذا
(6/69)
وبين أن تكون الغاية كون هذا يحب هذا محبة عبودية وذلك
ولهذا قالوا الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة ولهذا كان مطلوب هؤلاء إنما هو نوع من العلم والقدرة الذي يحصل لهم به شرف فمطلوبهم من جنس مطلوب فرعون بخلاف الحنفاء الذين يعبدون الله محبة له وذلا له
وهم ايضا لا يثبتون معرفة تحصل بها النجاة والسعادة بعد الموت بل المعروف عندهم وجود مطلق او مقيد بالسلوب ولا يثبتون بعد الموت تجدد نظر إليه إذ المفارقات عندهم ليس فيها حركة أصلا لا من الناظر ولا من المنظور إليه وهو خلاف ما دلت عليه الدلالة الشرعية والعقلية فصل
ثم قال إشارة المستحل بوسيط الحق مرحوم من وجه فإنه لم يطعم لذة البهجة به فيستطعمها إنما معارفته مع اللذات
(6/70)
المخدجة فهو حنون إليها غافل عما وراءها وما مثله بالقياس إلى العارفين إلا مثل الصبيان بالقياس إلى المحتنكين فإنهم لما غفلوا عن طيبات يحرص عليها البالغون واقتصرت بهم المباشرة على طيبات اللعب وصاروا يتعجبون من أهل الجد إذا أزوروا عنها عائفين لها عاكفين على غيرها كذلك من غض النقص بصره عن مطالعة بهجة الحق أعلى كفيه بما يليه من اللذات لذات الزور فتركها في دنياه عن كره وما تركها إلا ليستأجل أضعافها وإنما يعبد الله ويطيعه ليخوله في الآخرة ويشبعه منها فيبعث إلى مطعم شهى ومشرب هنى ومنكح بهى إذا بعثر عنه فلا مطمح لبصره في أولاه وآخرته إلا إلى لذات فبقبه وذبذبه والمستبصر بهداية
(6/71)
القدس في شجون واجب الإيثار قد عرف اللذة الحق وولى وجهه سمتها مترحما على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضده وإن كان ما يتوخاه بكده مبذولا له حسب وعده
فيقال ينبغي أن يفرق بين كون الإنسان محبا مريدا وبين كونه يعرف أنه محب مريد وكذلك يفرق بين كونه سامعا رائيا عالما وبين كونه عالما بكونه كذلك ذاكرا له
ومثال ذلك أن الإنسان لا يفعل اختياريا وهو يعلم أنه يفعله إلا بإرادة فكل من شهد المسجد ليصلي فيه الصلاة الحاضرة وهو يعلم أنها الجمعة أو الفجر امتنع أن يصلي إلا وهو ناو لهذه الصلاة ومع هذا فقد يظن كثير من الناس أنه لا ينوي أو لا تحصل له نية حتى يتكلم بذلك وربما كرر ذلك ورفع صوته به وآذى من حوله وأصابه من جنس ما يصيب المجنون
وكذلك المعرفة بالله فطرية ضرورية كما قد بسط في موضعه وكذلك حب الله ورسوله حاصل لكل مؤمن ويظهر ذلك بما إذا خير المؤمن بين أهله وماله وبين الله ورسوله فإنه يختار الله ورسوله
(6/72)
والمؤمنون متفاضلون في هذه المحبة ولكن المنافقون الذين أظهروا الإسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ليسوا من هؤلاء وما من مؤمن إلا وهو إذا ذكر له رؤية الله اشتاق إلى ذلك شوقا لا يكاد يشتاقه إلى شيء
وقد قال الحسن البصري لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا
والحب لله يقوى بسبب قوة المعرفة وسلامة الفطرة ونقصها من نقص المعرفة ومن خبث الفطرة بالأهواء الفاسدة
ولا ريب أن النفوس تحب اللذة بالأكل والشرب والنكاح وقد تشتغل النفوس بأدنى المحبوبين عن أعلاهما لقوة حاجته العاجلة إليه كالجائع الشديد الجوع فإن ألمه بالجوع قد يشغله عن لذة مناجاته لله في الصلاة
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لا يصلين أحدكم بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين
وإن كانت الصلاة قرة عين العارفين والإنسان إنما يشتاق إلى ما يشعر به من المحبوبات فأما ما لم يشعر به فهو لا يشتاق إليه وإن كان لو شعر به لكان شوقه إليه أشد من شوقه إلى غيره
(6/73)
ولما كانت الجنة فيها كل نعيم يتنعم به العباد من غير تنغيص مما يعرفونه وما لا يعرفونه
كما قال تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } سورة السجدة 17
وقال { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } سورة الزخرف 71
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى إني أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما اطلعتم عليه ثم قرأ { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } سورة السجدة 17 الآية
وكان النعيم الذي فيها منه ما له نظير عند المخاطبين إذا ذكر اشتاقوا إليه ومنه ما لا نظير له عندهم أخبرهم الله تعالى منه بما له نظير فإنه بذلك يحصل شوقهم ورغبتهم فيما أمروا به ثم إذا فعلوا ما أمروا به نالوا بذلك مالم يخطر بقلوبهم كما أخبر بذلك الكتاب والسنة
ولذة النظر وإن كانت أفضل اللذات وسببها وهو حب الله ورسوله موجود في قلب كل مؤمن لكن الظاهر من الحب هو الشهوات ومعرفة الناس لكون ذلك مشتهاة ومرغوبا فيها وأن محبتها
(6/74)
غالبة وذكرهم لذلك أظهر من معرفتهم بما في حب الله ورسوله
والنظر إليه من ذلك ومن ذكرهم لذلك وإن كان ذلك موجودا فيهم فوجود الشيء غير معرفته وذكره وظهوره فذكر الله في كتابه من اللذات الظاهرة كالأكل والشرب والنكاح ما يعرف كل أحد أنه لذة وما تشتاق إليه كل نفس ويعرفون أنه مما يرغب فيه وذلك لا ينال إلا بعبادة الله وطاعته
وهم إذا عبدوا الله فقد يحصل لهم من حلاوة المعرفة والعبادة ما هو أعظم من ذلك وإذا كشف الحجاب في الآخرة فنظروا إليه كان ذلك أحب إليهم من جميع ما أعطاهم فكان ترغيبهم في العبادة بذلك شائقا لهم إلى هذا وكان كمن أسلم رغبة في الدنيا فلم تغرب الشمس إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس وكمن دخل في العلم والدين لرغبة في مال أو جاه أو رهبة من عزل أو عقوبة أو أخذ مال فلما ذاق حلاوة العلم والإيمان كان ذلك أحب إليه مما طلعت عليه الشمس
وإذا كان هذا في الدنيا فما الظن بما في الآخرة وإذا عرفت هذا عرفت شيئين أحدهما أن كل مؤمن تحقق إيمانه فإنما يعبد الله والله أحب إليه من كل ما سواه وإن كان لا يستشعر هذا في
(6/75)
نفسه بل يكون ما يرجوه من الأكل والشرب والنكاح وما يخافه من العقاب باعثا له على العبادة لكن إذا ذاق حلاوة الإيمان وطعم العبادة كان الله أحب إليه من كل شيء وإن كان يغيب عن علمه بحاله حتى لا يرغب ولا يرهب إلا من غير ذلك فما كل محبوب واجب يستحضر في كل وقت ولا تحصل به الرغبة ولا من فواته الرهبة بل تحصل الرغبة الرهبة بالمحبوب الأدنى والمرهوب الأدنى ويقوده ذلك إلى المحبوب الأعلى وهذا موجود فيمن ذاق طعم المحبوب الأعلى فإنه قد يعرض له هوى في محبوب أدنى فيكون حضوره ودواعي الشهوة إليه يوجب تقديمه مع علمه بأنه يفوته بذلك ما هو أحب إليه منه وكمن يشتهي شيئا فيتناوله وهو يعلم أنه يضره وأنه يفوته به ما هو أحب إليه بل يعلم أنه يوجب له ما يضره وأنه يفوته به ما هو أحب إليه بل يعلم أنه يوجب له ما يضره فإذا حصل له ترهيب يصده عن ذلك أو رغبة فيما ترغب فيه نفسه حتى يترك ذاك كان هذا دواء نافعا له يشتاق به إلى المحبوب الأعلى
والله قد أنزل كتابه شفاء لما في الصدور وهدى للخلق ورحمة لهم وبعث رسوله بالحكمة
وأما ما ذكره هذا الرجل من الكلام المزخرف الذي قال الله فيه { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } سورة الأنعام 112 113
(6/76)
وذلك أنه عظم من يعبد الحق لذاته وعبادة الحق تعالى لذاته أصل عظيم وهو أصل الملة الحنيفية وأساس دعوة الأنبياء لكن هذا حاصل فيما جاءت به الرسل لا في طريق أصحابه فإن أصحابه لا يعبدون الله بل ولا يحبونه أصلا بل ولا يطيعونه وإنما العبادات عندهم رياضة للنفوس لتصل إلى علمهم الذي يدعون أنه كمال النفس والكمال عندهم في التشبيه به لا في أن يكون محبوبا مرادا
ولهذا لم يتكلم أحد منهم في مقامات العارفين بمثل هذا الكلام الذي تكلم به ابن سينا وهو أراد أن يجمع بين طريقهم وطريق العارفين أهل التصوف فأخذ ألفاظا مجملة إذ فسر مراد كل واحد منها تبين أن القوم من أبعد الناس عن محبة الله وعبادته وأنهم أبعد عن ذلك من اليهود والنصارى بكثير كثير
ولهذا يظهر فيهم من إهمال العبادات والأوراد والأذكار والدعوات ما لا يظهر في اليهود والنصارى ومن سلك منهم مسلك العبادات فإن لم يهده الله إلى حقيقة دين الإسلام وإلا صار آخر أمره ملحدا من الملاحدة من جنس ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما
وأيضا فإنه استحقر ما وعد الناس به في الآخرة من أنواع النعيم وطلب تزهيد الناس فيما رغبهم الله فيه وهو مضادة للأنبياء وهو في الحقيقة منكر لوجود ذلك كما هو في الحقيقة منكر لوجود محبة الله ومعرفته والنظر إليه وإنما الذي أثبته من ذلك خيال كما أن الذي أثبته من لذة المعرفة إنما هو مجرد كونه عالما معقولا موازيا للعالم
(6/77)
الموجود وظن أنه بهذا تحصل اللذة التي يسعد بها في الآخرة وينجو بها من العذاب وهذا ضلال عظيم
وقد أعرض الرازي عن الكلام على هذا فلم يمدحه ولم يذمه وأما الطوسي فمدحه عليه لأنه ملحد من جنسه والكلام على هؤلاء مبسوط في موضعه فصل
ثم قال إشارة أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة وهو ما يعترى المستبصر باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى فيتحرك سرة إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد
إشارة ثم إنه يحتاج إلى الرياضة والرياضة متوجهة إلى ثلاثة أغراض الأول تنحية ما دون الحق عن مستن الإيثار والثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التوهم والتخيل
(6/78)
إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي والثالث تلطيف السر للتنبه والأول يعين عليه الزهد الحقيقي والثاني تعين عليه أشياء العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما يلحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام والثالث نفس الكلام الواعظ من قائل زكى بعبارة بليغة ونغمة رخيمة وسمت رشيد وأما الغرض الثالث فيعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف الذي تأمر فيه شمائل المعشوق ليس سلطان الشهوة
فيقال قد ذكر أن المريد يحتاج في الرياضة التي تسمى السلوك إلى ثلاثة أشياء متعلقة بالقصد والعمل والعلم
أما القصد فأن لا يقصد إلا الحق فينحى ما سواه عن طريق القصد فلا يقصد إلا إياه وهذا حق لكن لا يكون إلا على دين المرسلين وأما إرادة الله ومحبته دون ما سواه فليس هو طريق هؤلاء المتفلسفة بل هو ممتنع على أصولهم الفاسدة وليس زهدهم زهد الأنبياء ولكن زهدهم للتوفر على مطلوبهم الذي يرونه كمالا لا على عبادة الله
(6/79)
وأما العمل فهو تطويع قوة النفس الأمارة بالسوء لقوتها المطمئنة وهذا متفق عليه لكن عند أهل الملل أن هذا تكميل لعبادة الله وطاعته وعند الملاحدة إنما هو تهديب للنفس لتستعد لما جعلوه هم كمالا
وليس المقصود هنا ذكر ما في هذا الكلام من حق وباطل فإن هذا له موضع آخر وإنما المقصود ذكر ما يتعلق بكلامهم في قوى التوهم والتخيل فإنه قال لتنجذب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي
فذكر أن المقصود انجذاب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي ولم يقل إلى التوهمات والتخيلات كما قال انجذاب قوى التخيل والوهم لأنه يريد أن يجذب قوى التخيل والوهم
فالتخيل لصور المحسوسات والوهم لما فيها من المعاني والجذب يكون إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي لا إلى التخيل فإنه ليس المقصود جذبها إلى صورة متخيلة بل إلى أمر متوهم وهو المعاني التي تحبها النفس لأن الوهم كما تقدم تصور المعاني المحبوبة في الأعيان وهي التي تكون لأجلها الولاية والعداوة
(6/80)
والمقصود حصول التوهمات المناسبة للأمر القدسي والانصراف عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي والتوهمات هي تصور ما يحب ويبغض ويوالي ويعادي ويوافق ويخالف ويرجي ويخاف من المعاني التي في الأعيان فيريد أن يتصور ما يحب ويرجي لينجذب إليه وما يكره ويخاف لينجذب عنه ويكون ما يحب ويرجي في الأمر القدسي والمكروه والمخوف في الأمر السفلي
وقد ذكر أن المراد المعبود لذاته هو الله تعالى فلا بد أن يتصور ما يوجب حبه الله وبغضه لما يصرفه عن ذلك وأن يتصور من رجائه وخوفه ما يصرفه إليه كما يتصور في الدنيا ما يجذبه عنها
وإذا كان قد قال هذا مع قوله إن الوهم أن يتصور في المحسوسات أمرا غير محسوس لم يمكن هذا حتى يتصور في حق الله تعالى ما يوجب انجذاب القلب إليه وقد سمى ذلك توهما
وقوله ولتنجذب قوة التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي
إن أريد التوهمات المناسبة لقدس الرب تعالى مثل كونه هو الذي يستحق أن يعبد ويحمد وأمثال ذلك من المعاني المناسبة لعبادته فقد جعل الشعور بهذه من باب التوهم
(6/81)
وإن أريد به توهم معان في غير الرب فتلك لا يحتاج إليها في عبادته تعالى فلا يحتاج العابد لله إلى أن يتصور ما يناسب محبته لله وعبادته بشعوره بما يوجب محبة الله وعبادته إياه دون ما سواه فإن عبادة الله وحدة تحصل إذا عرف من الله ما تحصل به محبته لله فلا يحتاج أن يعرف من غيره ما يوجب محبته لله ولو قدر أن تصوره لغيره يوجب محبته فقد جعل طلب ما يوجب انجذاب قوة التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي
فهذه الأمور سواء كانت صفات لله أو أمورا تقتضي محبة الله فإنه جعلها من باب التوهم
وهذا يوجب كون الله عاليا على خلقه من وجوه
أحدها أنه قد ذكر أن الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس وهذه قوة الوهم كما تقدم فإذا كان قد قال مع ذلك إنه لا بد من تطويع القوة الأمارة للقوة المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي والتوهمات المناسبة لإرادة الله وحده إنما تكون بتصور معنى فيه يوجب انجذاب القلب إليه
وهو سبحانه يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فإنه واحد لا شريك له وهم يقولون انحصر نوعه في شخصه فلا يجوز أن يكون
(6/82)
التصور الجاذب للقلب إليه وحده إلا تصور معين في معين وهذا هو التوهم عندهم
فهذا تصريح منهم بأن التوهم تصور صفاته فقولهم مع ذلك بنفي إدراك هذه القوة له تناقض
الثاني أن القوة المتوهمة إذا كانت لا تتصور إلا في معين والمعين لا يكون كليا امتنع أن يكون هذا معقولا إذا كانت المعقولات هي الكليات كما قد يقولونه ولأنه لا حجة لهم على إثبات معقول غير الكليات
الثالث أن هذا يوجب أن يكون محسوسا أي يمكن الإحساس به وهو رؤيته كما ثبت أنه يرى في الآخرة لأن التوهم عندهم أن يتصور في المحسوس ما ليس بمحسوس
فإذا كان هو سبحانه يجب أن يوالي ويحب دون ما سواه وكان ذلك بتوهم الأمور المناسبة لذلك التوهم وهو تصور أمر غير محسوس في معين محسوس لزم أن يكون هومعينا محسوسا
الوجه الرابع أنه جعل الذي يعين على تطويع النفس ثلاثة أشياء العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام والثالث نفس الكلام الواعظ
ومعلوم أن العبادة لا تكون إلا بقصد وإرادة والقصد والإرادة
(6/83)
الذي تتجذب معه قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة لعبادة الله منصرفة عن المناسبة للأمر السفلي لا يكون إلا إذا تصور في المراد الذي انجذبت إليه قوة التوهم ما يوجب إرادته ومحبته فتكون إرادته توجب موالاته ومحبته بل وخوفه ورجاءه
وهذا كله عندهم من عمل القوة المتوهمة فدل على أنه لا بد عندهم أن يكون الحق تعالى مما يتعلق الوهم بمعان فيه وهذا لازم لكلامهم لا محيد عنه
الوجه الخامس أنه قال الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام
فبين أنه يطلب كون الوهم يقبل الكلام الملحن والقوة الوهمية هي التي تدرك المعنى المحبوب والمكروه في المعين المحسوس الجزئي كما تقدم
فدل بهذا على أن الكلام الملحن يكون فيه ما يوجب قبول الوهم للكلام الذي يدعو إلى عبادة الله ومحبته وذلك بما تقدم من كون الوهم هو الذي يشعر بالمعاني التي تحب وتبغض وتوالي وتعادي فكان حب العبد لربه وعبادته إياه مشروطا بتوهمه في ربه ما يحبه العبد فوجب كون الرب عندهم محسوسا وكون الوهم يتصور فيه ما يحب لأجله
السادس أنه قال لينجذب التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي
(6/84)
والسفلي ضد العلوي فدل ذلك على أن القدسي علوي
فإن قيل يراد بذلك علو القدر أو الصفات
قيل هذا لا يصح هنا لأن قوى الوهم إنما تنجذب إلى معان غير محسوسة في أمر محسوس وما كان محسوسا أمكن أن يكون فوق العالم
السابع أن يقال ما أشار إليه من هذه المعاني وإن كان التعبير عنه بعباراته غير معروف فهذا هو الذي فطر الله عليه عباده فإنهم إذا حزبهم أمر احتاجوا فيه إلى توجيه قلوبهم إلى الله توجهوا إلى العلو وتصوروا أن الله جواد كريم يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويرزقهم وينصرهم فعرفوا منه ما يوافق مطلوبهم ومرادهم ومحبوبهم
وهذا هو الذي يسميه هؤلاء التوهم
وأيضا فمن كان محبا له محبا لذكره متلذذا بمناجاته فإنه يجد في فطرته معنى يطلب العلو ويتصور أن ربه متصف بما يستحق لأجله أن يعبد ويحب ويطاع وهذا هو الذي يسمونه التوهم ويجد قلبه منصرفا إلى العلو منصرفا عن السفل إلا إذا كان قد غيرت فطرته
فإن قيل له ربك ليس فوق أو غير ذلك بأن يقال ليس في
(6/85)
جهة أو لا يختص أو لا تحصره أو نحو ذلك من العبارات المجملة التي يراد بها أنه ليس فوق فيحتاج حينئذ أن يصرف فطرته علما وإرادة عما فطر عليه
فما ذكره في مقامات العارفين موافق لما فطر الله عليه عباده أجمعين بخلاف ما ذكره هناك فإنه مخالف للفطرة كما تقدم
الثامن أن الشرائع الإلهية جاءت بما يوافق الفطرة
التاسع أنه قد اتفق على ذلك سلف الأمة
العاشر أنه دلت على ذلك الدلائل العقلية اليقينية
الحادي عشر أن موجب ما ذكروه أن لا يكون الرب معبودا إلا يتعلق المعنى الذي سموه الوهم به وأن من نفى تعلق الوهم بمعنى في الرب فقد أبطل كون الرب محبوبا معبودا فمن قال بعد ذلك إنه لا يقبل في الإلهيات هذه القضايا الوهمية فقد نفى كون الرب مستحقا لأن يعبد وأن يحب وهذا حقيقة قولهم ولهذا كان حقيقة قولهم تعطيل الرب عن أن يكون موجودا وأن يكون مقصودا وأن يكون معبودا
وعلى هذا كانت أئمتهم كالقرامطة الباطنية الذين قادوا حقيقة قولهم وكذلك باطنية الصوفية الذين وافقوهم كأصحاب ابن عربي وابن سبعين فإن الذين عرفوا حقيقة قولهم كالتلمساني كانوا من أبعد
(6/86)
الناس عن عبادة الله وطاعته وطاعة رسله وأشدهم فجورا وتعديا لحدود الله وانتهاكا لمحارمه ومخالفة لكتابه ولرسوله وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
وحينئذ فنقول قوله إن القضايا الوهمية كاذبة
إن أراد به القضايا الكلية التي تناقض معقولا فتلك عندهم ليست من قضايا الوهم وإن أراد به ما يدركه الوهم من الأمور المعينة في المحسوسات فتلك صادقة عنده لا كاذبة وهي لا تعارض الكليات
وقوله إن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ويقابلها
فيقال له هذا يقتضي تمكنها من الفطرة وثبوتها في النفس وأن الفطرة لا تقبل نقيضها وهذا يقتضى صحتها وثبوتها لا ضعفها وفسادها
وأما قوله لأن الوهم تابع للحس فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم
فيقال له إن أردت بالوهم التابع للحس ما سميته وهما وهو توهم معاني جزئية غير محسوسة في المحسوسات الجزئية فلا ريب أن
(6/87)
الوهم تابع للحس وهذا الوهم قد ذكرت أنه صحيح مطابق كالحس فإن قدحت في هذا قدحت في الحس وإن جعلت هذا معارضا للعقل كان بمنزلة جعل الحس معارضا للعقل
وإن أردت بالوهم ما يقضي قضاء كليا أن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه محال ونحو ذلك من القضايا الكلية التي تزعم أنها معارضة للعقل كان هذا الكلام باطلا من وجهين
أحدهما أن هذه قضايا كلية مطلقة والوهم قد ذكرت أن تصوراته جزئية فلا يكون هذا من الوهميات
الثاني أن يقال هذه القضايا الكلية كسائر القضايا الكلية التي مبادئها من الحس كالقضاء بأن السواد والبياض يتضادان والحركة والسكون يتناقضان والجسم الواحد لا يكون في مكانين وأمثال ذلك
بل هذه بمنزلة الحكم بأن الموجود إما أن يكون قائما بنفسه وإما أن يكون قائما بغيره وإما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا وإما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا بنفسه وأمثال ذلك
فالقدح في هذه القضايا الكلية كالقدح في تلك فإن جاز القدح في هذه لأن مبادئها الحس جاز القدح في تلك وإلا فلا إذ الحس وما يتبعه مما يسمونه توهما وتخيلا لا يدرك إلا أمورا معينة جزئية ثم يقضي الذهن قضاء كليا فإن جاز أن تكون تلك القضايا الكلية باطلة بسبب كون مبدئها من هذا الوهم الذي هو في الأصل صحيح
(6/88)
عندهم جاز أن تكون القضايا الكلية باطلة إذا كان مبدئها من الحس عندهم
ولو قال قائل يمكن في الموجود غير المحسوس أن يكون لا واجبا ولا ممكنا ولا قديما ولا محدثا ولا قائما بنفسه ولا قائما بغيره كان بمنزلة قول القائل يمكن فيه أن يكون لا مباينا لغيره ولا محايثا له ولا مداخلا له ولا خارجا عنه
وإن جاز أن يقال لهذا هذه قضايا وهمية والوهم تابع للحس جاز أن يقال للأول وهذه قضايا وهمية أو يقال قضايا حسية وحكم الحس والوهم لا يقبل إلا في الحسيات فلا يحكم في الوجود المطلق وتوابعه لأن ذلك معقول غير محسوس فما به ترد تلك القضايا الكلية يمكن أن يقال في أمثالها من القضايا الكلية المتناولة لجميع الموجودات والمعلومات
وأما قوله في بيان أنها كاذبة من المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم
(6/89)
فيقال له هذا كلام على تقدير أن يكون للمحسوسات مباد لا يمكن تعلق الحس بها وهذا هو رأس المسألة وأول النزاع فإذا جعلت هذا حجة في إثبات مطلوبك فقد صادرت على المطلوب
ثم يقال لك الوهم إنما يتصور عندك في الأمور الجزئية وهذه القضايا كلية لا جزئية
ويقال لك أيضا هذا بعينه يرد عليك في تقسيم الوجود إلى قائم بنفسه وبغيره وقديم ومحدث وجوهر وعرض وعلة ومعلول ونحو ذلك فإن ما ذكرته من هذه القضايا يتناول هذه
ويقال لك ما تعني بقولك إن المحسوسات إذا كان لها مباد وأصول كانت قبل المحسوسات
أتعني به أن ما أحسسناه له مباد وأصول لم نحسها أم تعني به أن ما يمكن أن يحس به يجب أن يكون له مبدأ لا يمكن الاحساس به
فإن عنيت الأول فهو مسلم لكن لا يلزم من عدم إحساسنا بها أن لا يكون الإحساس بها ممكنا ولا يقول عاقل إن كل ما لم نشهده الآن لا يمكن أن نشهده بعد الموت أو في وقت آخر فإنه ما من عاقل إلا يجوز أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشهده الآن بل يجوز أن تكون هناك أفلاك ونجوم لا ندركها فضلا عن غيرها
وإن قال إنه لا بد أن يكون لكل ما يمكن أن يحس به مبدأ لا
(6/90)
يمكن أن نحس به فهذا ممنوع وهو رأس المسألة ولم يذكر عليه دليلا
وهو في إشاراته لم يذكر على ذلك من الأدلة إلا ما ذكره الرازي وأمثاله فإن قال في الوجود وعلله إنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأن ما لا يناله الحس بجوهره ففرض وجوده محال وأن ما لا يتخصص بمكان أو يوضع بذاته كالجسم أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم فلا حظ له من الوجود
قال وأنت يتأتى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بطلان قول هؤلاء فإنك ومن يستحق أن يخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد لا على الإشتراك الصرف بل بحسب معنى واحد مثل اسم الإنسان فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود فذلك المعنى الموجود لا يخلو إما أن يكون بحيث يناله الحس أو لا يكون فإن كان بعيدا من أن يناله الحس فقد أخرج التفتش من المحسوسات ما ليس بمحسوس وهذا
(6/91)
أعجب وإن كان محسوسا فله لا محالة وضع وأين ومقدار معين وكيف معين لا يتأتى أن يحس بل ولا أن يتخيل إلا كذلك فإن كل محسوس وكل متخيل فإنه يتخصص لا محالة بشيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك لم يكن ملائما لما ليس بتلك الحال فلم يكن مقولا على كثيرين يختلفون في تلك الحال فإذن الإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة غير محسوس بل معقول صرف وكذلك الحال في كل كلي
فهذا لفظه وأتباعه مشوا خلفه فأثبتوا ما ليس بمحسوس بإثبات الكليات المعقولة وقد عرف بالاضطرار أن الكليات لا تكون كلية إلا في العقل لا في الخارج بل ليس في الخارج كلي ألبتة والذي يقال أنه كلي طبيعي لا يوجد إلا معينا جزئيا فما كان كليا في العقل يوجد في الخارج معينا لا كليا كما قد بسط في موضعه
فهذا الكلام وأمثاله هو الذي يثبت به أن الموجود مبادئ لا يمكن أن يحس بها
وأما قوله إذا كانت للمحسوسات مبادئ كانت غير محسوسة فتلبيس لأن لفظ المحسوس يراد به ما هو محسوس لنا
(6/92)
بالفعل وما يمكن إحساسه ولا ريب أن المحسوسات بالفعل لها مبادئ غير محسوسة
لكن لم قلت إن كل ما يمكن إحساسه له مبدأ لا يمكن إحساسه هذا حكاية المذهب
وأما قوله ولهذا كان الوهم مساعدا للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه فهذا ممنوع وقد عرف أن أدلته على إثبات ذلك من جنس هذه الأدلة التي أثبت بها الموجودات العقلية الثابتة في الخارج بإثبات كليات وهو مثل إثباته لما كان خارج الذهن
ثم يقال له الوهم المساعد للعقل إن أردت به ما سميته وهما وهو ما يتصور في المحسوسات الجزئية معاني غير محسوسة كالصداقة والعداوة فليس في هذه التصورات مقدمة تساعد على إثبات موجود لا يمكن الإحساس به بل تلك المقدمات مثل إثبات الكليات وأمثالها ليس فيها مقدمة يتصورها هذا الوهم
وإن أردت بالوهم المساعد ما يقضي قضايا كلية مثل قضاء الذهن بأن بين هذا الإنسان وهذا الإنسان إنسانية مشتركة ونحو ذلك فهذه قضايا عقلية لا وهمية
وأيضا فالقاضي بإثبات إنسانية مطلقة هو القاضي بأن كل
(6/93)
موجودين لا بد أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له كما أنه هو القاضي بأن كل موجودين لا بد أن يقارن وجود أحدهما الآخر أو يتقدم عليه وأن كل موجود فلابد أن يكون قائما بنفسه أو بغيره
فهذه القضايا الكلية إن سميتها وهمية كانت العقليات هي الوهميات وإن سميتها عقليات وقدرت تناقضها لزم تناقض العقليات
واعلم أن هؤلاء قد يجيبون بجواب يمكن أن يجاب به كل من قدح في العقليات الكلية
وقولك فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم
يقال لك ما الوهم الناكص أهو الذي سميته وهما فذاك إنما يتصور معاني جزئية فليس له في الكليات حكم لا بقبول ولا رد فلا يقال فيه لا يقبل ولا ينكص كما لا يقال في القضايا الكلية إن الحس يقبلها ولا يردها كما لا يقال إن البصر يميز بين الأصوات والسمع يميز بين الألوان
وإن قلت إن العقل يثبت موجودا معينا لا يمكن الإشارة إليه والوهم لا يتصور معينا لا يشار إليه
(6/94)
فيقال لك العقل إنما يثبت أمورا كلية مطلقة لا يثبت شيئا معينا إلا بواسطة غيره كالحس وتوابع الحس ولهذا كان القياس العقلي المنطقي لا ينتج إن لم يكن فيه قضية كلية وإذا أردنا أن ندخل شيئا من المعينات تحت القضايا الكلية فلا بد من تصور للمعينات غير التصور للقضايا الكلية
فإذا علمنا أن كل شيء فإما قائم بنفسه وإما بغيره وأن كل موجود فإما واجب بنفسه وإما ممكن بنفسه وأن كل موجود فإما قديم وإما محدث وأن كل موجود أو كل ممكن فهو إما جوهر وإما عرض وأردنا أن نحكم على معين بأنه قديم أو محدث أو جوهر أو عرض أو واجب أو ممكن أو نحو ذلك فلا بد من أن نعينه بغير ما به علمنا تلك القضية الكلية فتصور المعين الداخل في القضية الكلية شيء وتصور القضية الكلية شيء آخر
فليتدبر الفاضل هذا ليتبين له أن من لم يثبت موجودا يمكن الإحساس به لم يثبت إلا قضايا كلية في الأذهان كما يثبتون العدد المطلق والمقدار المطلق والحقائق المطلقة والوجود المطلق وكل هذه أمور ثابتة في الأذهان لا موجودة في الأعيان
ولهذا من أثبت أن في الوجود موجودا واجبا قديما وقال إنه يمتنع الإشارة إليه امتنع أن يكون عنده معينا مختصا ولزم أن يكون مطلقا مجردا في الذهن فلا حقيقة له في الخارج
(6/95)
وهذا مذهب أئمة الجهمية فإنهم يثبتون موجودا مطلقا يمتنع وجوده في الخارج فابن سينا وأتباعه يقولون هو وجود مطلق بشرط نفي جميع الأمور الثبوتية وهو أبلغ الأقوال في كونه معدوما وآخرون يقولون هو مطلق بشرط نفي الأمور الثبوتية والسلبية لا بشرط شيء من الأمور الثبوتية والسلبية كما يقول هذا وهذا طائفة من ملحدة الباطنة ومن وافقهم من الصوفية
ومن المعلوم أو الوجود المشروط فيه نفي هذا وهذا ممتنع فكيف بالمشروط فيه النفي فإن ما اشترط فيه العدم كان أولى بالعدم مما لم يشترط فيه وجود ولا عدم ومما اشترط فيه نفي الوجود والعدم جميعا وهذا هو المطلق بشرط الإطلاق
وهم يقررون في منطقهم ما هو متفق عليه بين العقلاء من أن المطلق بشرط الإطلاق لا وجود له في الخارج ويقررون أن الفصول المميزة بين موجودين لا بد أن تكون أمورا وجودية لا تكون عدمية وهم لا يميزون الوجود الواجب عن الوجود الممكن إلا بأمور عدمية ومن ظن أن مذهب ابن سينا إثبات وجود خاص بمنزلة الوجود المشروط
(6/96)
بسلب جميع الحقائق فجعل فيه وجودا مشتركا ووجودا مختصا فلم يفهم مذهبه كما فعل ذلك الطوسى منتصرا له فلم يفهم مذهبه
والقونوى وأمثاله يقولون هو المطلق لا بشرط وهذا إما أن يكون ممتنعا في الخارج وإما أن يكون جزءا من الممكنات فيكون الواجب جزءا من الممكنات
وقد بسط بيان تناقض أقوالهم في غير هذا الموضع واعتبر ما ذكرناه من أن كل ما يثبتونه بالبرهان القياسي فإنه قضايا كلية مطلقة بأنهم إذا أرادوا أن يعينوا شيئا موجودا في الخارج داخلا في تلك القضية الكلية عينوه إما بالحس الباطن أو الظاهر إذ العقل يدرك الكليات والحس هو الذي يدرك الجزئيات فإذا أثبتوا أن الحركة الإدارية مسبوقة بالتصور وأرادوا تعيين ذلك عينوا إما نفس الإنسان فيشيرون إليها وإما النفس الفلكية فيشرون إلى الفلك
وإن أثبتوا وجود موجود معين في الخارج يدخل تحت هذه القضية من غير إشارة إليه تعذر ذلك عليهم
وكذلك إذا ثبت بالعقل أن الكل أعظم من الجزء وأن الأمور المساوية لشي واحد متساوية وأن الشيء الواحد لا يكون موجودا معدوما ونحو ذلك فمتى أراد الإنسان إدخال معين في هذه القضية
(6/97)
الكلية أشار إليه والقضايا الكلية تارة يكون لجزئياتها وجود في الخارج وتارة تكون مقدورة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان وهذه كثيرا ما يقع فيها الغلط والالتباس
وليس المقصود الأول بالعلم إلا علم ما هو ثابت في الخارج وأما المقدرات الذهنية فتلك بحسب ما يخطر للنفوس من التصورات سواء كانت حقا أو باطلا وما يثبته هؤلاء النفاة من إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه ولا هو داخل العالم ولا خارجه عند التأمل والتدبير تبين أنه من المقدرات الذهنية لا من الموجودات العينية
وغير ابن سينا وأتباعه من المنطقيين مثل أبي البركات صاحب المعتبر وغيره لم يخرجوا هذه القضايا التي سماها ابن سينا وهميات من الأوليات البديهيات كما أخرجها ابن سينا وما أظن صاحب المنطق أرسطو أخرجها أيضا
وأما قوله وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من
(6/98)
المشهورات التي ليست بأوليه وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها إلى آخره
يقال له هذا أيضا مما يبين قوتها وصدقها فإنهم اعترفوا بأنها أقوى من المشهورات التي ليست بأولية وهذه المشهورات عند أكثر العقلاء من العقليات الضروريات فإذا كانت هذه أقوى منها لزم أن تكون أقوى من بعض العقليات الضروريات وذلك يوجب صدقها
وذلك أنه قال فأما المشهورات فمنها هذه الأوليات ونحوها مما يجب قبوله لا من حيث هي واجب قبولها بل من حيث عموم الاعتراف بها ومنها الآراء المسماة بالمحمودة وربما خصصناها باسم المشهورة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة وهي أن لو خلى الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبوله قضايا ما والاعتراف بها ولم يمكنه الاستقرار بظنه القوي إلى حكم لكثرة الجزئيات ولم يستدع إليها ما في طبعه الإنساني من الرحمة والخجل والأنفة والحمية وغير ذلك لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه
(6/99)
وحسه مثل حكمنا أن سلب مال الإنسان للإنسان قبيح وأن الكذب قبيح ومن هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس وليس شيء من هذا يوجبه العقل الساذج ولو توهم الإنسان نفسه وأنه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع أدبا ولم يطع انفعالا نفسانيا أو خلقا لم يقض في أمثال هذه القضايا بشيء بل أمكنه أن يجهله ويتوقف فيه وليس كذلك حال قضائه لأن الكل أعظم من الجزء وهذه المشهورات قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وإن كانت صادقة فليست تنسب إلى الأوليات ونحوها إذا لم تكن بينة الصدق عند العقل الأول إلا بنظر وإن كانت محمودة عنده والصادق غير المحمود وكذلك الكاذب غير الشنيع ورب شنيع حق ورب محمود كاذب
(6/100)
والمشهورات إما من الواجبات وإما من التأديبات الصلاحية وما تتطابق عليها الشرائع الإلهية وإما خلقيات وانفعاليات وإما استقرائيات وهي إما بحسب الإطلاق وإما بحسب صناعة
قلت ليس هذا موضع بسط القول
قال ابن سينا وأما القضايا الوهمية الصرفة فهي قضايا كاذبة إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها بسبب أن الوهم تابع للحس فما لا يوافق الحس لا يقبله الوهم ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادىء وأصول كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة ولم يكن
(6/101)
وجودها على نحو وجود المحسوسات فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم ولهذا كان الوهم مساعدا للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادىء فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها وهي أحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات أو أعم منها على نحو ما يجب أن لا يكون لها وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن في المحسوسات مثل اعتقاد المعتقد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى وأنه لا بد في كل موجود من أن يكون مشارا إلى جهة وجوده
فيقال له هذا الكلام إنما يصح أن لو ثبت وجود أمور لا يمكن الإحساس بها حتى يكون حكم هذه في ما هو مقدم على تلك أو ما هو أعم منها وثبوت وجود هذه الأمور إنما يصح إذا ثبت إمكان ذلك وإمكان ذلك إنما يصح إذا ثبت بطلان هذه القضايا التي يسميها الوهميات فلو أبطلت هذه الوهميات بإثبات ذلك لزم الدور فإن هذه القضايا تحكم بامتناع وجود ما لا يمكن الإشارة إليه والمقدمات
(6/102)
التي تثبت ذلك ليست مسلمة عندها بل لا يمكن عندها تسليم ما يستلزم نقيض ذلك فإنه قدح في الضروريات بالنظريات
وأيضا فالوهم عندهم إنما يتصور معاني جزئية وهذه قضايا كليه فامتنع أن تكون وهمية
وأيضا فما يثبت به وجود هذه الموجودات قضايا سوفسطائية كما يبين في موضعه
وأما قوله وهذه الوهميات لولا مخالفة السنن الشرعية لها لكانت تكون مشهورة وإنما تثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية
فيقال له هذا من أصدق الدليل على صحتها وذلك أن هذه مشهورة عند جميع الأمم الذين لم تغير فطرتهم وعند جميع الأمم المتبعين لسنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المسلمين واليهود والنصارى وإنما يقدح فيها المبتدعة من أهل الديانات كالمعتزلة ونحوهم
وابن سينا لما كان من أتباع القرامطة الباطنية وهو يعاشر أهل الديانات المبتدعين من الرافضة والمعتزلة أو من فيه شعبة من ذلك
(6/103)
وهؤلاء يقولون إن الله ليس فوق العرش لم تكن هذه مشهورة عند هؤلاء
ومن المعلوم باتفاق هؤلاء وغيرهم أن الأنبياء لم يقدحوا في هذه القضايا ولا أخبروا بما يناقضها بل أخبار الأنبياء كلها توافق هذه القضايا
والقرآن والتوراه والإنجيل فيها من الموافق لهذه القضايا ما لا يحصيه إلا الله وكذلك في الأخبار النبوية والآثار السلفية بل لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم قول يناقض إثبات هذه القضايا
وابن سينا وأمثاله مقرون بأن الكتب الإلهية إنما جاءت بما يوافق مذهب المثبتة للصفات والعلو لا بما يناقض ذلك وهم يسمون ذلك تشبيها ويقولون الكتب الإلهية إنما جاءت بالتشبيه ويجعلون هذا مما احتجوا به كما قد حكينا كلامه في ذلك وأنه احتج بذلك على هؤلاء الذين وافقوه على نفي الصفات والعلو
وقال إذا كان هذا التوحيد الحق والأنبياء لم تخبر به بل بنقيضه فكذلك في أمر المعاد فكيف يزعم مع هذا أن السنن الشرعية والديانات الحقيقية منعت هذه أن تكون مشهورة
فعلم أن المانع لشهرتها هو قول لم يوجد عن الأنبياء وأتباع الأنبياء وأن شهرتها إنما امتنعت بين هؤلاء الذين ابتدعوا قولا ليس مشروعا
(6/104)
وحينئذ فيكون المانع من شهرتها عند من لم تشتهر عنده سنة بدعية لا شرعية وديانة وضعها بعض الناس ليست منقولة عن نبي من الأنبياء
ولا ريب أن المشركين والمبدلين من أهل الكتاب لهم شرائع وديانات ابتدعوها ووضعوها وتلك لا يجب قبولها عند العقلاء وإنما يجب أن يتبع ما يثبت نقله عن الأنبياء المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم
وكذلك قوله إنه يثلم في شهرتها العلوم الحكمية
فيقال له قد نقل غيرك عن الفلاسفة القدماء أنهم كانوا يقولون بموجب هذه القضايا كما بين ذلك ابن رشد الحفيد وغيره بل المنقول عن متقدمي الفلاسفة وأساطينهم قبل أرسطو وعن كثير من متأخريهم القول بما هو أبلغ من هذه القضايا من قيام الحوادث بالواجب وما يتبع ذلك كما تقدم نقل بعض ذلك عنهم
وقوله ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك لشدة استيلاء الوهم
فيقال له هذا يدل على تمكنها في الفطرة وثبوتها في الجبلة وأنها مغروزة في النفوس فمن دفع ذلك عن نفسه لم يقاوم نفسه ولم يمكنه دفعها عن نفسه
(6/105)
وهذا حد العلم الضروري وهو الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه معه دفعه عن نفسه فإذا لم يمكن الإنسان أن يدفع هذه القضايا عن نفسه ولا يقاوم نفسه في دفعها تبين أنها ضرورية وأن هؤلاء الدافعين لها يريدون تغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها وتغيير خلقه كأمثالهم من الجاحدين المكذبين بالحق الذين يكذبون بالحق المعلوم بالبهتان والسفسطة وأن قدحهم في هذه كقدح أمثالهم من السوفسطائية في أمثال هذه
وأما قوله لشدة استيلاء الوهم
فقد قلنا غير مرة قد فسروه بالقوة التي تتصور معاني جزئية في محسوسات جزئية وهذا الوهم إنما تصرفه في الجزئيات من المعاني وأما هذه القضايا فهي قضايا كلية فهي من حكم العقل الصريح فالمخالف لها مخالف لصريح العقل وهو المتبع لقضايا الوهم الفاسد فإنه يثبت موجودا مطلقا بشرط الإطلاق أو موجودا لا داخل العالم ولا خارجه وهذا الموجود لا يثبته في الخارج إلا الوهم والخيال الفاسد لا يثبته لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل ولا وهم مطابق ولا خيال مستقيم كما لا يثبته حس سليم فنفاة ذلك ينفون موجب العقل والشرع والحس السليم والوهم المستقيم والخيال القويم ويثبون ما لا يدرك إلا بوهم فاسد وخيال فاسد
(6/106)
وقوله على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات فهو مدفوع منكر
فيقال له هذا أيضا حجة عليكم فإن المنازع يقول إنه لم يقم دليل شرعي ولا عقلي على إثباث موجود لا يمكن أن يعرف بالحس بوجه من الوجوه وإن كان لا يمكن أن يعرفه كثير من الناس بحسه ولا يمكن أن يعرف بالحس في كثير من الأحوال
وقد عرف من مذهب السلف وأهل السنة والجماعة أن الله يمكن أن يرى في الآخرة وكذلك الملائكة والجن يمكن أن ترى وما يقوم بالمرئيات من الصفات يمكن أن يعرف بطريقها كما تعرف المسموعات بالسمع والملموسات باللمس ويقول إن الرسل صلوات الله عليهم قسموا الموجودات إلى غيب وشهادة وأمروا الإنسان بالإيمان بما أخبروا به من الغيب
وكون الشيء شاهدا وغائبا أمر يعود إلى كونه الآن مشهودا أو ليس الآن بمشهود فما لم يكن الآن مشهودا يمكن أن يشهد بعد ذلك بخلاف هؤلاء النفاة فإنهم قسموا الموجودات في الخارج إلى محسوس وإلى معقول لا يمكن الإحساس به بحال
وهذا مما ينفيه صريح العقل لا مما يثبته وإنما المعقول الصرف ما كان ثابتا في العقل كالعلوم الكلية وليس للكليات وجود في الخارج مع أنه قد يقال إنه يمكن الإحساس بها أيضا إذا أمكن الإحساس
(6/107)
بمحلها كما يمكن الإحساس بأمثالها من الأعراض كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك
لكن نحن لا نحس الآن بهذه الأمور بالحس الظاهر وعدم إحساسنا الآن بذلك لا يمنع أن الملائكة يمكنها الإحساس بذلك وأنه يمكننا الإحساس بذلك في حال أخرى وأنه يمكن كل واحد أن يحس بما في باطن غيره كما يمكنه الإحساس الآن بوجهه وعينه وإن كان الإنسان لا يرى وجهه وعينه فقد يشهد الإنسان من غيره ما لا يشهده من نفسه وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
وأيضا فالحس نوعان حس ظاهر يحسه الإنسان بمشاعره الظاهرة فيراه ويسمعه ويباشره بجلده وحس باطن كما أن الإنسان يحس بما في بطنه من اللذة والألم والحب والبغض والفرح والحزن والقوة والضعف وغير ذلك
والروح تحس بأشياء لا يحس بها البدن كما يحس من يحصل له نوع تجريد بالنوم وغيره بأمور لا يحس بها غيره
ثم الروح بعد الموت تكون أقوى تجردا فترى بعد الموت وتحس بأمور لا تراها الآن ولا تحس بها
وفي الأنفس من يحصل له ما يوجب أن يرى بعينه ويسمع بأذنه ما لا يراه الحاضرون ولا يسمعونه كما يرى الأنبياء الملائكة ويسمعون
(6/108)
كلامهم وكما يرى كثير من الناس الجن ويسمعون كلامهم
وأما ما يقوله بعض الفلاسفة إن هذه المرئيات والمسموعات إنما هي في نفس الرائي لا في الخارج فهذا مما قد علم بطلانه بأدلة كثيرة وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
ومن كان له نوع خبرة بالجن إما بمباشرته لهم في نفسه وفي الناس أو بالأخبار المتواترة له عن الناس علم من ذلك ما يوجب له اليقين التام بوجودهم في الخارج دع ما تواتر من ذلك عن الأنبياء
وكذلك ما تواتر عن الأنبياء من وصف الملائكة هو ما يوجب العلم اليقيني بوجودهم في الخارج كقصة إبراهيم المكرمين ومجيئهم إلى إبراهيم وإتيانه لهم بالعجل السمين ليأكلوه وبشارتهم لسارة بإسحاق ويعقوب ثم ذهابهم إلى لوط ومخاطبتهم له وإهلاك قرى قوم لوط وقد قص الله هذه القصة في غير موضع
وكذلك قصة مريم وإرسال الله إليها جبريل في صورة بشر حتى نفخ فيها الروح وكذلك قصة إتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة في صورة أعرابي
(6/109)
وتارات في صورة دحية الكلبي
فمن علم أن الروح قد تحس بما لا يحس به البدن وأن من الناس من يحس بروحه وبدنه ما لا يحسه غيره من الناس توسع له طرق الحس ولم ير الحس مقصورا على ما يحبه جمهور الناس في الدنيا بهذا البدن فإن هذا الحس إنما يدرك بعض الموجودات
وحينئذ فإذا قيل إن كل قائم بنفسه أو كل موجود يمكن الإحساس به فإنه يراد بذلك ما هو أعم من هذا الحس بحيث يدخل في ذلك هذا وهذا وليس للنفاة دليل على إثبات ما ليس بمحسوس بهذا الحس والعقليات التي يثبتونها إنما هي الكليات الثابتة في الذهن وتلك في الحقيقة وجودها في الأذهان لا في الأعيان
(6/110)
وهذا منتهى ما عند ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة ولهذا كان كمال الإنسان عندهم أن يصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود ويجعلون النعيم والعذاب أمرين قائمين بالنفس من جملة أعراضها لا ينفصل شيء من ذلك عنها وقد بينا بعض ما في هذا القول من الضلال في غير هذا الموضع
ولهذا جعل في منطقه العلوم اليقينية العقلية في هذه العقليات ونفى أن تكون المشهورات العملية من اليقينيات ونفى أن يكون ما يثبت الموجودات الحسية الغائبة من اليقينيات وسمى هذه وهميات فبإنكاره هذا أنكر الموجودات الغائبة عن إحساس أكثر الناس في هذه الدنيا فلم يصدق بالموجودات الغائبة ولا بكثير مما يشاهد في هذا العالم من الملائكة والجن وغير ذلك وبإنكاره المشهورات أن تكون يقينية أنكر موجب القوة العملية في النفس التي بها تستحسن ما ينفعها من الأعمال وتستقبح ما يضرها فأخرج الأعمال التي لا تكمل النفس إلا بها من أن تكون يقينية كما أخرجها من أن تكون من الكمال ولم يجعل كمال النفس إلا مجرد علم مجرد لا حب معه لله تعالى في الحقيقة وإنما الأعمال عندهم لأجل إعداد النفس لنيل ما يظنونه كمالا من العلم
وهذا العلم الذي يدعونه غالبه جهل وما فيه من العلم فليس علما
(6/111)
بموجودات معينة وإنما هو علم أمور مطلقة في الذهن لا وجود لها في الخارج فلم يحصل له من الكمالات العلمية والعملية ما يوجب سعادتهم في الآخرة ولا نجاتهم من النار وكان كثير من اليهود والنصارى أقرب إلى السعادة والنجاة منهم كما قد بسط في موضعه
والمقصود هنا أن الناس متفقون على أن حكم الذهن بأنه ما من موجود قائم بنفسه إلا ويمكن الإشارة إليه وأنه يمتنع وجود موجودين ليس أحدهما مباينا للآخر ولا محايثا له بل أن صانع العالم فوق العالم ليس مما تواطأ عليه الناس وقبله بعضهم عن بعض كقول النفاة إنه يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه بل ذلك مما أقربه بفطرهم وعرفوه ببدائه عقولهم وضرورات قلوبهم
والقادحون فيها يسلمون ذلك ويدعون أن فطر الناس أخطأت في هذا الحكم وأنه من حكم الوهم والخيال الباطل
فإذا كانوا معترفين بأن هذا مما أقروا به بلا مواطأة لم يمكن أن يقال إنهم كذبوا على فطرهم لأن هؤلاء القائلين بذلك أضعاف أضعاف أضعاف أهل التواتر بل هم جماهير بني آدم فإذا قالوا إن هذا أمر نجده في قلوبنا وفطرتنا وجب تصديقهم في ذلك
وحينئذ فلا يجوز إبطال هذه القضايا البديهية بقضايا نظرية
(6/112)
لأن البديهيات أصل للنظريات فلو جاز القدح بالنظريات في البديهيات والنظريات لا تصح إلا بصحة البديهيات كان ذلك قدحا في أصل النظريات فلزم من القدح في البديهيات بالنظريات فساد النظريات وإذا فسدت لم يصح القدح بها وهو المطلوب
فهذا ونحوه يبين أنه لا تسمع من النفاة حجة على إبطال مثل هذه القضية البديهية ثم يبين فساد ما استدل به على بطلان ذلك
فأما قول الرازي لو كان بديهيا لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره وهم ما سوى الحنابلة والكرامية فعنه أجوبة
أحدها أن يقال من المعلوم أن هذا لا ينكره إلا من يقول بأن الله ليس داخل العالم ولا خارجه وينكرون أن يكون الله نفسه فوق العالم فإنهم يقولون لو كان فوق العرش لكان مباينا له بالجهة مشارا إليه وذلك ممتنع عندهم فيجوزون وجود موجودين ليس أحدهما مباينا للآخر ولا مداخلا له ووجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ويقولون البارى ليس مباينا للعالم ولا مداخلا له
وطائفة من الفلاسفة تقول مثل ذلك فيما تثبته من العقول والنفس الناطقة ولهم في النفس الفلكية قولان
(6/113)
وإذا كان كذلك فجماهير الخلائق يخالفون هؤلاء ويقولون بأن الله نفسه فوق العالم وإذا كان الله نفسه فوق العالم فإن كان ذلك مستلزما لجواز الإشارة إليه وأن يكون مباينا للعالم بالجهة فلازم الحق حق وامتنع حينئذ وجود موجود لا مباين للعالم ولا محايث له ولا يشار إليه وإن أمكن أن يكون هو نفسه فوق العالم ويكون مع ذلك غير مشار إليه ولا مباين للعالم بالجهة بطل قول هؤلاء النفاة فإنهم إنما نفوا أن تكون نفسه فوق العالم لأن ذلك عندهم مستلزم لكونه مشارا إليه ومباينا للعالم بالجهة وإذا بطل قولهم حصل المقصود ولم يكن إلى هذه المقدمات الضرورية حاجة
فالمقصود أنه لا يوافقهم على أنه ليس فوق العالم إلا أقل الناس ومن لم يوافقهم على ذلك فإما أن ينكر وجود موجودين ليس أحدهما مباينا للآخر ولا محايثا له وإما أن لا ينكر ذلك فإن لم ينكر ذلك مع إنكار قولهم بأنه ليس فوق العالم كان إنكاره لقولهم أعظم من ترك إنكاره لما يبطل قولهم
فإن المقصود ما يبطل قولهم فإذا كان الناس إما منكر له وإما منكر لما يستلزم إبطاله ثبت اتفاق جمهور الناس على إنكاره وهو المطلوب
ثم يقال هذه القضية قد صرح أئمة الطوائف الذين كانوا قبل أن يخلق الله الكرامية والحنبلية بأنها قضية بديهية ضرورية فمن ذلك ما
(6/114)
ذكره عبد العزيز بن يحيى المكي المشهور صاحب الحيدة وهو من القدماء الذين لقوا الشافعي ومن هو أقدم من الشافعي وهو من مشاهير متكلمي أهل السنة الذين اتفقت الأشعرية مع سائر الطوائف المثبتة على تعظيمه واتباعه
قال في الرد على الزنادقة والجهمية زعمت الجهمية في قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 إنما المعنى استولى كقول العرب استوى فلان على مصر استوى فلان عل الشام يريد استولى عليها
قال فيقال له هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه فإذا قال لا قيل له فمن زعم ذلك فمن قوله من زعم ذلك فهو كافر يقال له يلزمك أن تقول إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه وذلك أن الله تبارك وتعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض ثم استوى عليه بعد خلق السموات والأرض
(6/115)
قال الله عز وجل { وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } سورة هود 7 فأخبر أن العرش كان على الماء قبل السموات والأرض
ثم قال { خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } سورة الفرقان 59
وقوله { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم } سورة غافر 7
وقوله { استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } سورة البقرة 29
وقوله { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } سورة فصلت 11
فأخبر أنه استوى على العرش فيلزمك أن تقول المدة التي كان على العرش فيها قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه إذ كان استوى على العرش معناه عندك استولى فإنما استولى بزعمك في ذلك الوقت لا قبله
وقد روى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا قد بشرتنا فأعطنا قال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان
(6/116)
قال كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء
وروى عن أبي رزين وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم مسألته أنه قال يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض قال كان في عماء ما قوله هواء وما تحته هواء ثم خلق العرش على الماء
قال فقال الجهمي أخبرني كيف استوى على العرش أهو كما يقال استوى فلان على السرير فيكون السرير قد حوى فلانا وحده إذا كان عليه فيلزمك أن تقول إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا قال فيقال له أما قولك كيف استوى فإن الله لا يجرى عليه كيف وقد أخبرنا أنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى فوجب
(6/117)
على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى لأنه لم يخبرهم كيف ذلك ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله ولكن يلزمك أيها الجهمي أن تقول إن الله محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه كما تقول العرب فلان في البيت والماء في الجب فالبيت قد حوى فلانا والجب قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا إن الله عز وجل في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد فكفروا بذلك وقيل لهم ما أعظم الله إذ جعلتموه في بطن مريم وأنتم تقولون إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضا أن تقول إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أن الله في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فلما شنعت مقالته قال أقول إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء خارجا عن الشيء ولا مباينا للشيء قال فيقال له أصل قولك القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئا لأنه لو كان شيئا داخلا فمن القياس والمعقول أن يكون داخلا في الشيء أو
(6/118)
خارجا منه فلما لم يكن في قولك شيئا استحال أن يكون كالشيء في الشيء أو خارجا من الشيء فوصفت لعمرى ملتبسا لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل
هذا كلام عبد العزيز يبين أن القياس المعقول يوجب أن مالا يكون في الشيء ولا خارجا منه فإنه لا يكون شيئا وأن ذلك صفة توجب أن ما لا يكون في الشيء ولا خارجا منه فإنه لا يكون شيئا وأن ذلك صفة المعدوم الذي لا وجود له
والقياس هو الأقيسة العقلية والمعقول هو العلوم الضرورية وعبد العزيز هذا وجود الحنبلية والكرامية كما تقدم
وقال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي والأشعري وأمثالهم وممن ذكر ذلك عنه أبو بكر بن فورك فيما جمعه من كلامه فإنه جمع من كلامه وجمع كلام الأشعري أيضا وبين اتفاقهما في عامة أصولهما
قال ابن كلاب وأخرج من النظر والخبر قول من قال لا في العالم ولا خارج منه فنفاه نفيا مستويا لأنه لو قيل له صفة بالعدم ما قدر أن يقول فيه أكثر منه ورد أخبار الله نصا وقال في ذلك ما لا يجوز في خبر ولا معقول وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص وهم عند أنفسهم قياسون
قال فإن قالوا هذا إفصاح منكم بخلو الأماكن منه وانفراد
(6/119)
العرش به قيل إن كنتم تعنون خلو الأماكن من تدبيره وأنه عالم بها فلا وإن كنتم تذهبون إلى خلوها من استوائه عليها كما استوى على العرش فنحن لا نحتشم أن تقول استوى الله على العرش ونحتشم أن نقول استوى على الأرض واستوى على الجدار وفي صدر البيت
وقال أيضا أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ويقال لهم أهو فوق ما خلق فإن قالوا نعم قيل ما تعنون بقولكم إنه فوق ما خلق فإن قالوا بالقدرة والعزة قيل لهم ليس عن هذا سألناكم وإن قالوا المسألة خطأ قيل فليس هو فوق فإن قالوا نعم ليس هو فوق قيل لهم وليس هو تحت فإن قالوا ولا تحت أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم وإن قالوا هو فوق وهو تحت قيل لهم فوق تحت وتحت فوق
وقال أيضا يقال لهم إذا قلنا الإنسان لا مماس ولا مباين للمكان فهذا محال فلا بد من نعم قيل لهم فهو لا مماس ولا مباين فإذا قالوا نعم قيل لهم فهو بصفة المحال من المخلوقين الذي لا يكون ولا يثبت في الوهم فإذا قالوا نعم قيل فينبغي أن يكون بصفة المحال من هذه الجهة وقيل لهم أليس لا يقال لما ليس بثابت في الإنسان مماس ولا مباين فإذا قالوا نعم قيل فأخبرونا عن معبودكم مماس هو أو مباين فإذا قالوا لا يوصف بهما قيل لهم
(6/120)
فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق فلم لا تقولون عدم كما تقولون للإنسان عدم إذا وصفتموه بصفة العدم وقيل لهم إذا كان عدم المخلوق وجودا له فإذا كان العدم وجودا كان الجهل علما والعجز قوة
وقد ذكر هذا الكلام وأشباهه ذكره عنه أبو بكر بن فورك في الكتاب الذي أفرده لمقالاته وقال فيه إنه أحب من سماه من أعيان أهل عصره أن أجمع له متفرق مقالات أبي محمد بن كلاب وشيخ أهل الدين وإمام المحققين المنتصر للحق وأهله المبين بحجج الله الذاب عن دين الله لما من به الله تعالى من معالم طرق دينه الحق وصراطه المستقيم السيف المسلول على أهل الأهواء والبدع الموفق لاتباع الحق والمؤيد بنصرة الهدى والرشيد وأثنى عليه ثناء عظيما
قال وكان ذلك على أثر ما جمعت من متفرق مقالات شيخنا الأشعري
قال ولما كان الشيخ الأول والإمام السابق أبو محمد عبد الله ابن سعيد الممهد لهذه القواعد المؤسس لهذه الأصول والفاصل بحسن ثنائه بين حجج الحق وشبه الباطل بالتنبيه على طرق الكلام فيه والدال على موضع الوصل والفصل والجمع والفرق الفاتق لرتق الأباطيل والكاشف عن لبس ما زخرفوا وموهوا وذكر كلاما طويلا في الثناء عليه
(6/121)
والمقصود أن ابن كلاب إمام الأشعري وأصحابه ومن قبلهم كالحارث المحاسبي وأمثاله يبين أن من قال لا هو في العالم ولا خارج منه فقوله فاسد خارج عن طريق النظر والخبر وأنه قد رد خبر الله نصا ولو قيل له صفة بالعدم ما قدر أن يقول أكثر منه وأنه قال ما لا يجوز في خبر ولا معقول وأنهم قالوا هذا هو التوحيد الخالص وهو النفي الخالص فجعلوا النفي الخالص هو التوحيد الخالص
وهذا الذي قاله هو الذي يقوله جميع العقلاء الذين يتكلمون بصريح العقل بخلاف من تكلم في المعقول بما هو وهم وخيال فاسد
ولذلك قال إذا قالوا ليس هو فوق وليس هو تحت فقد أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم
وهذا كله يناقض قول هؤلاء الموافقين للمعتزلة والفلاسفة من متأخري الأشعرية ومن وافقهم من الحنبلية والمالكية والحنفية والشافعية وغيرهم من طوائف الفقهاء الذين يقولون ليس هو تحت وليس هو فوق
وذكر حجة ثالثة فقال أنتم تصفونه بالصفات الممتنعة التي مضمونها الجمع بين المتقابلين في الموجودات فيلزمكم أن تصفوه بسائر المتقابلات
قال فيقال لهم إذا قلنا الإنسان يعني وغيره من الأعيان القائمة بأنفسها لا مماس ولا مباين للمكان فهذا محال باعترافهم
وهم يقولون إنه لا مماس ولا مباين للمكان فيصفونه بالصفة
(6/122)
المستحيلة الممتنعة في المخلوق التي لا تثبت في التوهم ويقولون يجوز أن نصفه بما يمتنع تصوره وتوهمه في غيره من هذه السلوب فإذا جوزوا أن يوصف بما يمتنع تصوره في سائر الموجودات فليصفوه بسائر الممتنعات من الموجودات فيقولوا لا هو قديم ولا محدث ولا قائم بنفسه ولا بغيره ولا متقدم على غيره ولا مقارن له ونحو ذلك ويقولوا هذه إنما يمتنع في غيره من الموجودات لا فيه وحينئذ فيقولون لا هو حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا موجود ولا معدوم وهذا منتهى قول القرامطة وهو جمع النقيضين أو رفع النقيضين
ومن المعلوم أن العقل إذا جزم بامتناع اجتماع الأمرين أو امتناع ارتفاعهما سواء كان أحدهما وجودا والآخر عدما وهو التناقض الخاص أو كانا وجودين فإنا نعلم ذلك ابتداء بما نشهده في الموجودات التي نشهدها كما أن ما يثبت من الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام وأمثال ذلك إنما نعلمه ابتداء بما نعلمه في الموجودات التي نعرفها ثم إذا أخبرنا الصادق المصدوق عن الغيب الذي لا نشهده فإنما نفهم مراده الذي أراد أن يفهمنا إياه لما بين ما أخبر به من الغيب وبين ما علمناه في الشاهد من القدر الجامع الذي فيه نوع تناسب وتشابه فإذا أخبرنا عما في الجنة من الماء واللبن والعسل والخمر والحرير والذهب لم نفهم ما أراد إفهامنا إن لم نعلم هذه الموجودات في الدنيا ونعلم أن بينها وبين ما في الجنة قدرا مشتركا وتناسبا
(6/123)
وتشابها يقتضي أن نعلم ما أراد بخطابه وإن كانت تلك الموجودات مخالفة لهذه من وجع آخر
كما قال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء رواه الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس وقد رواه غير واحد منهم محمد ابن جرير الطبري في التفسير في قوله { وأتوا به متشابها } سورة البقرة 25
وإذا كان بين المخلوق والمخلوق قدر فارق مع نوع من إثبات القدر المشترك الذي يقتضي التناسب والتشابه من بعض الوجوه فمعلوم أن ما بين الخالق والمخلوق من المفارقة والمباينة أعظم مما بين المخلوق والمخلوق فهذا مما يوجب نفي مماثلة صفاته لصفات خلقه ويوجب أن ما بينهما من المباينة والمفارقة أعظم مما بين مخلوق ومخلوق مع أنه لولا أن بين مسمى الموجود والموجود والحي والحي والعليم والعليم والقدير والقدير وأمثال ذلك من المعنى المتفق المتواطىء المناسب والمتشابه ما
(6/124)
يوجب فهم المعنى لم يفهمه ولا أمكن أن يفهم أحد ما أخبر به عن الأمور الغائبة
وإذا كان هذا في الخطاب السمعي الخبري فكذلك في النظر القياسي العقلي فإنما نعرف ما غاب عنا باعتباره بما شهدناه فيعتبر الغائب بالشاهد ويحصل في قلوبنا بسبب ما نشهده من الأعيان والجزئيات الموجودة قضايا كلية عقلية فيكون إدراج المعينات فيها هو قياس الشمول كالذي يسميه المنطقيون المقدمتان والنتيجة ويكون اعتبار المعين بالمعنى هو قياس التمثيل الجامع المشترك سواء كان هو دليل الحكم أو علة دليل الحكم
والناس في هذا المقام منهم من يزعم أن القياس البرهاني هو قياس الشمول وأن قياس التمثيل لا يفيد اليقين بل لا يسمى قياسا إلا بطريق المجاز كما يقول ذلك من يقوله من أهل المنطق ومن وافقهم من نفاة قياس التمثيل في العقليات والشرعيات كابن حزم وأمثاله
ومنهم من ينفي قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات كأبي المعالي ومتبعيه مثل الغزالي والرازي والآمدي وأبي محمد المقدسي وأمثالهم
ومنهم من يعكس ذلك قيثبت قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات كما هو قول أئمة أهل الظاهر مثل داود بن علي وأمثاله
(6/125)
وقول كثير من المعتزلة البغداديين كالنظام وأمثاله ومن الشيعة الإمامية كالمفيد والمرتضى والطوسي وأمثالهم
وكثير من هؤلاء يقول إن قياس التمثيل هو الذي يستحق أن يسمى قياسا على سبيل الحقيقة وأما تسمية قياس الشمول قياسا فهو مجاز كما ذكر ذلك الغزالي وأبو محمد المقدسي وغيرهما
والذي عليه جمهور الناس وهو الصواب أن كليهما قياس حقيقة وأن كليهما يفيد اليقين تارة والظن أخرى بل هما متلازمان فإن قياس التمثيل مضمونه تعلق الحكم بالوصف المشترك الذي هو علة الحكم أو دليل العلة أو هو ملزوم للحكم وهذا المشترك هو الحد الأوسط في قياس الشمول فإذا قال القايس نبيذ الحنطة المسكر حرام قياسا على نبيذ العنب لأنه شراب مسكر فكان حراما قياسا عليه وبين أن السكر هو مناط التحريم فيجب تعلق التحريم بكل مسكر كان هذا قياس تمثيل وهو بمنزلة أن يقول هذا شراب مسكر وكل مسكر حرام فالمسكر الذي جعله في هذا القياس حدا أوسط هو الذي جعله في ذلك القياس الجامع المشترك الذي هو مناط الحكم فلا فرق بينهما عند التحقيق في المعنى بل هما متلازمان وإنما يتفاوتان في ترتيب المعاني والتعبير عنها ففي الأول يؤخر الكلام في المشترك الذي هو الحد الأوسط وبيان أنه مستلزم للحكم متضمن له يذكر الأصل الذي هو نظير الفرع ابتداء وفي الثاني يقدم الكلام في الحد الأوسط يبين شموله وعمومه وأنه مستلزم للحكم ابتداء
(6/126)
والمقصود هنا أنا إذا حكمنا بعقولنا حكما كليا يعم الموجودات أو يعم المعلومات مثل قولنا إن الموجود إما واجب وإما ممكن وإما قديم وإما محدث وإما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما مشار إليه وإما قائم بالمشار إليه وكل موجودين فأحدهما إما متقدم على الآخر وإما مقارن له وإما مباين له وإما محايث له وقلنا إن الصانع إما أن يكون متقدما على العالم أو مقارنا له وإما أن يكون خارجا عنه أو داخلا فيه كان علمنا بهذه القضايا الكلية العامة بتوسط ما علمناه من الموجودات
فإذا كنا نعلم أن المعلوم إما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما فادعى مدع أن الواجب لا يقال إنه موجود ولا معدوم أو ليس بموجود ولا معدوم كما يقول ذلك من يقوله من القرامطة الباطنية كنا وإن لم نشهد الغائب نعلم أن هذا الخبر العام والقضية الكلية تتناوله وغيره وإذا قلنا لهذا هل يمكنك إثبات شيء في الشاهد ليس بموجود ولا معدوم قال لا قلنا له فكيف تثبت في الغائب ما ليس بموجود ولا معدوم كنا قد أبطلنا قوله
فإذا قال أنا لا أصفه لا بهذا ولا بهذا بل أنفى عنه هذين الوصفين المتقابلين لأن اتصافه بأحدهما إنما يكون لو كان قابلا لأحدهما وهو لا يقبل واحدا منهما لأنه لو قبل ذلك لكان جسما إذ هذه من صفات الأجسام فإذا قدرنا موجودا ليس بجسم لم يقبل لا هذا ولا هذا قيل له فهكذا سائر الملاحدة إذا قالوا لا نصفه لا بالحياة ولا بالموت ولا بالعلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز
(6/127)
ولا الكلام ولا الخرس ولا البصر ولا العمى ولا السمع ولا الصمم لأن اتصافه بأحدهما فرع لقبوله لأحدهما وهو لا يقبل واحدا منهما لأن القابل للاتصاف بذلك لا يكون إلا جسما فإن هذه من صفات الأجسام فإذا قدرنا موجودا ليس بجسم لم يقبل هذا ولا هذا فما كان جوابا لهؤلاء الملاحدة فهو جواب لك فما تخاطب به أنت النفاة الذين ينفون ما تثبته أنت يخاطبك به المثبتون لما تنفيه أنت حذو القذة بالقذة
ونحن نجيبك بما يصلح أن تجيب أنت ونحن به لسائر الملاحدة فإن حجتك عليهم قاصرة وبحوثك معهم ضعيفة كما بينا ضعف مناظرة هؤلاء الملاحدة في غير موضع وذلك من وجوه
أحدها أن يقال إن ما يقدر عدم قبوله لهذا وهذا أشد نقصا واستحالة وامتناعا من وصفه بأحد النقيضين مع قبوله لأحدهما وإذا قدرنا جسما حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما كالإنسان والملك وغيرهما كان ذلك خيرا من الجسم الأعمى الأصم الأبكم وإن أمكن أن يتصف بضد الكمال
وهذا الجسم الأعمى الأصم الذي يمكن اتصافه بتلك الكمالات
(6/128)
أكمل من الجماد الذي لا يمكن اتصافه لا بهذا ولا بهذا والجسم الجماد خير من العدم الذي يكون لا مباينا لغيره ولا مداخلا له ولا قديما ولا محدثا ولا واجبا ولا ممكنا فأنت وصفته بما لا يوصف به إلا ما هو أنقص من كل ناقص
الوجه الثاني أن يقال قولك فهذه م صفات الأجسام لفظ مجمل فإن عنيت أن هذه الصفات لا يوصف بها إلا من هو من جنس المخوقات وإذا وصفنا الرب بها لزم أن يكون من جنس الموجودات مماثلا لها كان هذا باطلا فإنك لا تعلم أن هذه لا يوصف بها إلا مخلوق فإن هذا أول المسألة فلو قدرت أن تبين أن هذه لا يوصف بها إلا مخلوق لم تحتج إلى هذا الكلام ويقال لك لا سبيل لك إلى هذا النفي ولا دليل عليه
وإن قلت إن هذه الصفات توصف بها المخلوقات وتوصف بها الأجسام
قيل لك نعم وليس في كون الأجسام المخلوقة توصف بها ما يمنع اتصاف الرب بما هو اللائق به من هذا النوع كاسم الموجود والثابت والحق والقائم بنفسه ونحو ذلك فإن هذه الأمور كلها توصف بها الأجسام المخلوقة فإن طرد قياسه لزم الإلحاد المحض والقرمطة وأن يرفع النقيضين جميعا فيقول لا موجود ولا معدوم ولا ثابت ولا منتف ولا حق ولا باطل ولا قائم بنفسه ولا بغيره وهذا لازم قول من نفى هذه الصفات وحينئذ فيلزمه الجمع بين النقيضين أو رفع
(6/129)
النقيضين ويلزمه أن يمثله بالممتنعات والمعدومات فلا يفر من محذور إلا وقع فيما هو شر منه
الجواب الثالث أن يقال لهذا النافي للمباينة والمداخلة أنت تصفه بأنه موجود قائم بنفسه قديم حي عليم قدير وأنت لا تعرف موجودا هو كذلك إلا جسما فلا بد من أحد الأمرين إما أن تقول هو موجود حي عليم قديم وليس بجسم فيقال لك وهو أيضا له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم ويقال لك هو مباين للعالم عال عليه وليس بجسم
وإن قلت يلزم من كونه مباينا للعالم عاليا عليه أن يكون جسما لأني لا أعقل المباينة والمحايثة إلا من صفات الأجسام
قيل لك ويلزم من كونه حيا عليما قديرا أن يكون جسما لأنك لا تعقل موجودا حيا عليما قديرا إلا جسما فهذا نظير هذا فما تقوله في أحدهما يلزمك نظيره في الآخر وإلا كنت متناقضا مفرقا بين المتامثلين
وإما أن تقول أنا أقول إنه موجود قائم بنفسه حي عليم قدير لأن ذلك قد علم بالشرع والعقل وإن لزم أن يكون جسما التزمته لأن لازم الحق حق
قيل لك وهكذا يقول من يقول إنه فوق العالم مباين له أنا أصفه بذلك لأنه قد ثبت ذلك بالشرع والعقل وإذا لزم من ذلك أن يكون جسما التزمته لأن لازم الحق حق
(6/130)
وإما أن تقول أنا لا أعرف لفظ الجسم أو تقول لفظ الجسم فيه إجمال وإبهام فإن عنيت به الجسم المعروف في اللغة وهو بدن الإنسان لم أسلم أني لا أعلم موجودا حيا عالما قادرا إلا ما كان مثل بدن الإنسان فإن الروح هي أيضا حية عالمة قادرة وليست من جنس البدن وكذلك الملك وغيره
وإن عنيت بالجسم أنه يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض بحيث ينفصل بعضه عن بعض بالفعل
قيل أنا أتصور موجودا عالما قادرا قبل أن أعلم أنه يمكن تفريقه وتبعيضه فلا يلزم من تصوري للموجود الحي العالم القادر أن يكون قابلا لهذا التفريق والتبعيض
وإن عنيت بالجسم أنه يمكن أن يشار إليه إشارة حسية لم يكن هذا ممتنعا عندي بل هذا هو الواجب فإن كل ما لا يمكن أن يشار إليه لا يكون موجودا
وإن عنيت بالجسم أنه مركب من الجواهر المنفردة الحسية أو من المادة والصورة اللذين يجعلان جوهران عقليان فأنا ليس عندي شيء من الأجسام كذلك فضلا عن أن يقدر مثل ذلك فإذا كنت نافيا لذلك في المخلوقات البسيطة فتنزيه رب العالمين عن ذلك أولى
وإن عنيت بالتبعيض أنه يمكن أن يرى منه شيء دون شيء كما قال ابن عباس وعكرمه وغيرهما من السلف ما يوافق ذلك لم أسلم لك أن هذا ممتنع
(6/131)
وإن عنيت بالجسم أنه يماثل شيئا من المخلوقات لم نسلم الملازمة
فأي شيء أجبت به الملحدة من هذه الأجوبة قال لك المثبت لمباينته للعالم وعلوه عليه مثل ما قلت أنت لهؤلاء الملاحدة
قال ما تعنى بقولك لو كان عاليا على العالم مباينا له كان جسما إن عنيت أنه بدن لم نسلم لك الملازمة
وإن عنيت أنه يقبل التفريق والتبعيض فكذلك
وإن عنيت أنه مركب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة لم نسلم الملازمة أيضا
وإن عنيت أنه يكون مماثلا لشيء من المخلوقات لم نسلم الملازمة
وإن عنيت أنه يشار إليه أو أنه يرى منه شيء دون شيء منع انتفاء اللازم
والجواب الرابع أن يقال الحكم بأن المعلوم إما موجود وإما معدوم وأن الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما واجب وإما ممكن وإما قديم وإما محدث وإما متقدم على غيره وإما مقارن له وإما مباين لغيره وإما محايث له وأن القائم بنفسه او القائم القابل لصفات الكمال إما حي وإما ميت وإما عالم وإما جاهل وإما قادر أو عاجز وأن ما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله وأن المتصف بصفات الكمال أكمل من المتصف بصفات النقص وممن لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا
وهذه العلوم وأمثالها مستقرة في العقول وهي إما علوم ضرورية
(6/132)
أو قريبة من الضرورية والقطع بها أعظم من القطع بوجود موجود لا يمكن الإشارة الحسية إليه وأن الواجب الوجود لا يشار إليه فإن ما يشار إليه فهو جسم فلو أشير إليه لكان جسما وليس بجسم فإن هذه الأمور إما أن تكون معلومة الفساد بالضرورة أو بالنظر وإما أن تكون إذا علمت لا تعلم إلا بطرق نظرية فلا يمكن القدح بها في تلك المقدمات الضرورية فالاعتبار والقياس تارة يكون بلفظ الشمول والعموم وتارة بلفظ التشبيه والتمثيل
وكذلك إذا قلنا إما أن يكون قائما بنفسه أو بغيره أو قديما أو محدثا أو واجبا أو ممكنا فكذلك إذا قلنا إما أن يكون مباينا أو محايثا أو داخلا أو خارجا
فبين ابن كلاب وغيره من أئمة النظار لهؤلاء النفاة أنكم إذا جوزتم خلو الرب عن الوصفين المتقابلين الذين يعلمون أنه يمتنع خلو الوجود عنهما لزمكم مثل ذلك وأن تصفوه بسائر الممتنعات فقال إذا وصفتموه بأنه لا مماس ولا مباين وأنتم تعلمون أن الموجود الذي تعرفونه لا يكون إلا مماسا أو متباينا فوصفتموه بما هو عندكم محال فيما تعرفونه من الموجودات لزمكم أن تصفوه بأمثال ذلك من المحالات فتقولون لا قديم ولا محدث ولا قائم بنفسه ولا غيره ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل وأمثال ذلك
وذكر أيضا حجة أخرى رابعة فقال أليس يقال لما ليس بثابت
(6/133)
في الإنسان لا مماس ولا مباين فإذا قالوا نعم قيل فأخبرونا عن معبودكم مماس أو مباين فإذا قالوا لا يوصف بهما قيل لهم فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق فلم لا تقولون عدم كما تقولون للإنسان عدم إذا وصفتموه بصفة العدم
يقول أنتم تعرفون أن سلب هذين المتقابلين جميعا هو من صفات المعدومات فالموجود الذي تعرفونه القائم بنفسه لا يقال إنه ليس مباينا لغيره من الأمور القائمة بأنفسها ولا مماسا لها بخلاف المعدوم فإنه يقال لا هو مماس لغيره ولا مباين له فإذا وصفتموه بصفة المعدوم فجعلتم ما هو صفة لما هو عدم في الموجودات صفة للخالق الموجود الثابت وحيئنذ فيمكن أن يوصف بأمثال ذلك فيقال هو عدم كما يوصف ما عدم من الأناسي بأنه عدم فقال لهم إذا كان عدم الموجود وجودا له فإذا كان العدم وجودا كان الجهل عالما والعجز قوة أي إذا جعلتم المعدوم الذي لا يعقل إلا معدوما جعلتموه موجودا أمكن حينئذ أن يجعل الجهل علما والعجز قوة والموت حياة والحرس كلاما والصمم سمعا والعمى بصرا وأمثال ذلك
وهذا حقيقة قول النفاة فإنهم يصفون الرب بما لا يوصف به إلا المعدوم بل يصفون الموجود الواجب بنفسه الذي لا يقبل العدم بصفات الممتنع الذي لا يقبل الوجود فإن كان هذا ممكنا أمكن أن يجعل أحد المتناقضين صفه لنقيضه كما ذكر
(6/134)
ولا ريب أن النفاة لا تقر بوصفه بالامتناع والعدم والنقائص ولكن تقول لانصفه لا بهذا ولا بهذا لا نصفه بالعلم ولا بالجهل ولا الحياة ولا الموت ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس
فإذا قيل لهم إن لم يوصف بصفة الكمال لزم اتصافه بهذه النقائص
قالوا هذا إنما يكون فيما يقبل الاتصاف بهذا وهذا
ويقول المنطقيون هذان متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب والمتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا يرتفعان جميعا بخلاف المتقابلين تقابل العدم والملكة كالحياة والموت والعمى والبصر فإنهما قد يرتفعان جميعا إذا كان المحل لا يقبلهما كالجمادات فإنها لم تقبل الحياة والبصر والعلم لم يقل فيها أنها حية ولا ميتة ولا عالمة ولا جاهلة وقد أشكل كلامهم هذا على كثير من النظار وأضلوا به خلقا كثيرا حتى الآمدي وأمثاله من أذكياء النظار اعتقدوا أن هذا كلام صحيح وأنه يقدح في الدليل الذي استدل به السلف والأئمة ومتكلموا أهل الإثبات في إثبات السمع والبصر وغير ذلك من الصفات
وهذا من جملة تلبيسات أهل المنطق والفلسفة التي راجت على هؤلاء فأضلتهم عن كثير من الحق الصحيح المعلوم بالعقل الصريح
وجواب هذا من وجوه بسطناها في غير هذا الموضع
منها أن يقال فما يقبل الاتصاف بهذه الصفات مع إمكان
(6/135)
انتفائها عنه أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بها بحال فالحيوان الذي يقبل أن يتعاقب عليه العدم والملكة فيكون إما سميعا وإما أصم وإما بصيرا وإما أعمى وإما حيا وإما ميتا أكمل من الجماد الذي لا يقبل لا هذا ولاهذا بل الحيوان الموصوف بهذه النقائض مع إمكان اتصافه بهذا الكمال أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك
فإذا قلتم إن الموجود الواجب لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال مع أن المتصف بالنقائص يمكنه الاتصاف بها جعلتموه أنقص من الحيوانات وجعلتموه بمنزلة الجمادات وكان من وصفه بهذه النقائص مع إمكان اتصافه بالكمالات خيرا منكم فمن وصفه بالعمى والصمم والعور مع إمكان زوال هذه النقائص عنه كان خيرا منكم
وهم يشنعون بما يحكى عن بعض ضلال اليهود والنصارى من أن الله ندم على الطوفان حتى عض على إصبعيه وجرى الدم وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وآلى على نفسه أنه لا يغرق بنيه وأن بعض بني إسرائيل وجده ينوح على خراب بيت المقدس وفي بعض كتب النصارى أنه ينام
ومن قال إن بشرا كمسيح الهدى ومسيح الضلالة أنه الله مع كونه يأكل ويشرب وأنه أعور
وأمثال هؤلاء الذين يصفونه بهذه النقائص مع إمكان اتصافه
(6/136)
بالكمال هم خير ممن يقول لا يمكن اتصافه بصفات الكمال بحال
بل من جعله يأكل ويشرب فهو خير ممن يقول لا يمكن أن يكون حيا ولا عالما ولا قادرا فإن الحي الذي يأكل ويشرب خير من الجماد الذي لا يعلم ولا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر علم أن من نفى عنه صفات الكمال كان شرا من جميع هذه الطوائف فإنهم جعلوه كالعدوم أو الجماد وهؤلاء شبهوه بالحيوان الذي فيه صفة كمال مع نوع من النقص فكان تعطيل الأول له عن صفات الكمال وتمثيله له بالمعدومات والجمادات شرا من تعطيل هذا له عن بعض صفات الكمال مع إثباته لكثير من صفات الكمال وكان تشبيهه له بالحيوان أمثل من تشبيه ذاك له بالجماد والمعدوم
وهكذا من قيل له هو واجب فإنه إن لم يكن واجبا كان ممكنا وهو قديم فإنه إن لم يكن قديما كان محدثا وهو خالق فإن القائم بنفسه إن لم يكن خالقا كان مخلوقا وهو مباين للعالم خارج عنه فإنه إن لم يكن مباينا له خارجا عنه كان داخلا فيه محصور محوزا
وممن ذكر ذلك الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الزندقة والجهمية قال بيان ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله
(6/137)
على العرش قلنا لم أنكرتم أن الله على العرش وقد قال الله عز وجل { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 فقالوا هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش فهو على العرش وفي السموات وفي الأرض وفي كل مكان لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان وتلوا آيات من القرآن { وهو الله في السماوات وفي الأرض } سورة الأنعام 3 فقلنا قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء فقالوا أي شيء قلنا أحشاؤكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظم الرب شيء وقد أخبرنا أنه في السماء فقال { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض }
(6/138)
سورة الملك 16 { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } سورة الملك 17 وقال تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب } سورة فاطر 10 وقال { إني متوفيك ورافعك إلي } سورة آل عمران 55 وقال { بل رفعه الله إليه } سورة النساء 158 وقال { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } سورة الأنبياء 19 وقال { يخافون ربهم من فوقهم } سورة النحل 50 وقال { ذي المعارج } سورة المعارج 3 وقال { وهو القاهر فوق عباده } سورة الأنعام 18 وقال { وهو العلي العظيم } سورة البقرة 255
فهذا خبر الله أنه في السماء ووجدنا كل شيء أسفل مذموما بقول الله عز وجل { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } سورة النساء 145 { وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين } سورة فصلت 29
(6/139)
وقلنا لهم أليس تعلمون أن إبليس مكانه مكان فلم يكن الله ليجتمع هو و إبليس في مكان واحد
ولكن معنى قول الله عز وجل { وهو الله في السماوات وفي الأرض } سورة آل عمران 129 يقول هو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو الله على العرش وقد أحاط الله بعلمه ما دون العرش لا يخلو من علم الله مكان ولا يكون علم الله في مكان دون مكان
وذلك قوله تعالى { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } سورة الطلاق 12
ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلا كان في يديه قدح من قوارير صاف وفيه شيء صاف لكان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح
(6/140)
من غير أن يكون ابن آدم في القدح والله وله المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه
وخصلة أخرى لو أن رجلا بنآ دارا بجميع مرافقها ثم أغلق بابها وخرج منها كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيت في داره وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار
فالله عز وجل وله المثل الأعلى قد أحاط بجميع ما خلق وعلم كيف هو وما هو من غير أن يكون في شيء مما خلق
وما تأول الجهمية من قول الله عز وجل { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } سورة المجادلة 7 فقالوا إن الله عز وجل 4 مقنا وفينا قال قلنا فلم قطعتم الخبر من أوله بأذن الله
(6/141)
يقول { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } يعني إلا الله بعلمه رابعهم { ولا خمسة إلا هو } بعلمه { سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم } يعني بعلمه فيهم { أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } سورة المجادلة 7 يفتح الخبر بعلمه فيهم ويختمه بعلمه
ويقال للجهمي إذا قال إن الله معنا بعظمة نفسه قيل له هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه فإن قال نعم فقد زعم أن الله يباين خلقه وأن خلقه دونه وإن قال لا
(6/142)
كفر وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له أليس الله كان ولا شيء فيقول نعم فقل له حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل واحد منها إن زعم أن الله خلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضا كفرا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر ردىء وإن قال خلقهم خارجا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة
فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بصريح العقل وبديهته من أنه لا بد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينا له أو محايثا له ومع المحايثة إما
(6/143)
أن يكون هو في العالم وإما أن يكون العالم فيه لأنه سبحانه قائم بنفسه والقائم بنفسه إذا كان محايثا لغيره فلا بد أن يكون أحدهما حالا في الآخر بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات فإنها قد تكون جميعا قائمة بغيرها
فهذا القسم لم يحتج أن يذكره لظهور فساده وان أحدا لا يقول به إذ من المعلوم لكل أحد أن الله تعالى قائم بنفسه لا يجوز أن يكون من جنس الأعراض التي تفتقر إلى محل يقوم به
وكذلك من هذا الجنس قول من يقول لا هو مباين ولا محايث لما كان معلوما بصريح العقل بطلانه لم يدخله في التقسيم إذ من المستقر في صريح العقل أن الموجود إما مباين لغيره وإما مداخل له فانتفاء هذين القسمين يبطل قول من يجعله لا مباينا ولا مداخلا كالمعدوم وقول من يجعله حالا في العالم مفتقرا إلى المحل كالأعراض إذ المفتقر إلى المحل لا يقوم بنفسه ولا يكون غنيا عما سواه فيمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه
وهذا 4 لم يقل مثل هذا أحد من العقلاء وإن قال بعضهم ما يستلزم ذاك فما كل من قال مذهبا التزم لوازمه
وقد نفى أيضا قول من يقول هو في كل مكان بتقسيم آخر من هذا الجنس إذ القائل بأنه لا داخل العالم ولا خارجه لا يمكنه أن
(6/144)
ينفي قول من يقول إنه في كل مكان لأنه إن جوز وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يقبل الإشارة إليه لم يمكنه مع هذا السلب أن ينفي قول من يقول هو في كل مكان لا كالجسم مع الجسم ولا كالعرض مع العرض أو الجسم فإنه إذا احتج على نفي ذلك بأنه لو كان في كل مكان للزم احتياجه إلى محل أو نحو ذلك قال له المنازع هو في كل مكان وهو مع ذلك لا يحتاج إلى محل فإن المحتاج إلى المحل إنما هو العرض أو الجسم وهو ليس بجسم ولا عرض بل هو لا مماس للأشياء ولا مباين لها إذ المماسة والمباينة من صفات الجسم وهو ليس بجسم
كما قد يقول إنه في كل مكان وليس بحال ولا مماس ولا مباين فإذا قال النافي هذا لا يعقل قال له نظيره الذي يقول لا داخل العالم ولا خارجه وقولك أيضا لا يعقل فكلا القولين مخالف للمعروف في العقول فليس إبطال أحدهما دون الآخر بأولى من العكس
وإنما يمكن أن يرد على الطائفتين أهل الفطر السليمة الذين لم يقولوا ما يناقض صريح العقل
ومن المعلوم أن من قال إنه في العالم مثل كون القائم بنفسه في
(6/145)
القائم بنفسه كان قوله أقل فسادا من قول من قال إنه في العالم كالقائم بغيره مع القائم بنفسه فإن هذا لا يقوله عاقل فإذا بطل الأول بطل الثاني
فأبطل الإمام أحمد هذا القول أيضا فقال بيان ما ذكره الله في القرآن من قوله تعالى { وهو معكم } سورة الحديد 4
وهذا على وجوه قول الله لموسى { إنني معكما } سورة طه 46 يقول في الدفع عنكما
وقال { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } سورة التوبه 40 يقول في الدفع عنا
وقال { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } سورة البقرة 249 يقول في النصر لهم على عدوهم
وقال { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم } سورة محمد 35 في النصر لكم على عدوكم
(6/146)
وقال { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم } سورة النساء 108 يقول بعلمه فيهم
وقال { فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين } سورة الشعراء 61 62 يقول في العون على فرعون
قال فلما ظهرت الحجة على الجهمي لما ادعى على الله أنه مع خلقه في كل شيء غير مماس للشيء ولا مباين منه فقلنا إذا كان غير مباين أليس هو مماسا قال لا قلنا فكيف يكون في كل شيء غير مماس له ولا مباين له فلم يحسن الجواب فقال بلا كيف فخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم فقلنا له إذا كان يوم القيامة أليس أنما هو الجنة
(6/147)
والنار والعرش والهواء قال بلى قلنا فأين يكون ربنا قال يكون في الآخرة في كل شيء كما كان حيث كانت الدنيا في كل شيء قلنا فإن مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو على العرش وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة وما كان من الله في النار فهو في النار وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله تعالى
فكان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يبينون فساد قول الجهمية سواء قالوا إنه في كل مكان أو قالوا لا داخل العالم ولا خارجه أوتن قالوا إنه في العالم من العالم أو خارج العالم إذ جماع قولهم أنه ليس مباينا للعالم مختصا بما فوق العالم
ثم هم مع هذا مضطربون يقولون هذا تارة وهذا تارة ولا يمكن بعض طوائفهم أن يفسد مقالة الأخرى لاشتراكهم في الأصل الفاسد
ولهذا كان الحولية والاتحادية منهم الذين يقولون إنه في كل
(6/148)
مكان يحتجون على النفاة منهم الذين يقولون ليس مباينا للعالم ولا مداخلا له بانا قد اتفقنا على أنه ليس فوق العالم وإذا ثبت ذلك تعين مداخلته للعالم إما أن يكون وجوده وجود العالم أو يحل في العالم أو يتحد به كما قد عرف من مقالاتهم
والذين أنكروا الحلول والاتحاد من الجهمية ليست لهم على هؤلاء حجة إلا من جنس حجة المثبتة عليهم وهو قول المثبتة إن ما لا يكون لا داخلا ولا مباينا غير موجود فإن أقروا بصحة هذه الحجة بطل قولهم وإن لم يقروا بصحتها أمكن إخوانهم الجهمية الحلولية أن لا يقروا بصحة حجتهم إذ هما من جنس واحد
واعتبر ذلك بما ذكره الرازي في الرد على الحلولية فإنه لما ذكر الكلام في أنه يمتنع حلول ذاته أو صفة من صفاته في شيء ذكر أن النصارى تقول بالحلول تارة والاتحاد أخرى قال والحلول باطل لأن الحلول إنما يعقل إذا كان الحال مفتقرا إلى المحل فحلوله بصفة الجواز ينفي افتقار الحال إلى المحل وبصفه الوجوب يقتضي افتقار الواجب إلى غيره وحدوثه أو قدم المحل
(6/149)
قال فإن قلت إنه قد يقتضي الحلول بشرط وجود المحل أو المحل يقتضي حلوله فيه فلم يلزم قدم المحل ولا حلول الواجب
قلت كلاهما يمنع وجوب الحلول والاتحاد باطل لأن المتحدين إن بقيا عند الاتحاد أو عدما وحصل ثالث فلا اتحاد فإن بقي أحدهما دون الآخر فلا اتحاد لامتناع كون المعدوم عين الموجود
قال الرازي ناظرت بعض النصارى فقلت تسلم أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول قال نعم فقلت فما الدليل على أنه تعالى لم يحل في بدن زيد ولا عمرو والذبابة والنملة فقال لأنه ثبت في حق عيسى أنه أحيي الأموات وأبرأ
(6/150)
الأكمة والأبرص ولم يوجد في حق غيره فقلت له فقد سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ولأنه ظهر على يد موسى قلب العصا ثعبانا وانقلاب الخشبة ثعبانا أعجب من انقلاب الميت حيا فهو أولى بالدلالة على الحلول في الجملة
قال وبالجملة مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه
قلت ما ذكره من إبطال الحلول بإلزام النصارى كلام صحيح ولكن هذا إنما يستقيم على قول أهل الإثبات المثبتين لمباينته للعالم فأما على قول الجهمية النفاة فلا تستقيم هذه الحجة
وذلك أن الحلولية على وجهين
أحدهما أهل الحلول الخاص كالنصارى والغالية من هذه الأمة الذين يقولون بالحلول إما في على وإما في غيره
والثاني القائلون بالحلول العام الذين يقولون في جميع المخلوقات نحوا مما قالته النصارى في المسيح عليه السلام أو ما هو شر
(6/151)
منه ويقولون النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا كما يقول ذلك الاتحادية أصحاب صاحب الفصوص وأمثاله وهم كثيرون في الجهمية
بل عامة عباد الجهمية وفقهائهم وعامة الذين ينتسبون إلى التحقيق من الجهمية هم من هؤلاء كابن الفارض وابن سبعين والقونوي والتلمساني وأمثالهم
فإذا قال الجهمي الذي يقول إنه في كل مكان ويقول مع ذلك بأن وجوده غير وجود المخلوقات أو يقول بالاتحاد من وجه والمباينة من وجه كما هو قول ابن عربي وأمثاله كما حكى الإمام أحمد عنهم يقول إنه في كل مكان لا مماس للأمكنة ولا مباين لها وأنه حال في العالم أو متحد به لا كحلول الأعراض والأجسام في الأجسام وأشباه ذلك
فاحتج موافقوهم على نفي المباينة كالرازي وأمثاله بما ذكروه من قولهم الحلول إنما يعقل إذا كان الحال مفتقرا إلى المحل فإما أن يكون الحلول جائزا أو واجبا فإن كان جائزا انتفى افتقاره إلى المحل فلزم الجمع بين النقيضين أن يكون مفتقرا إلى المحل غير مفتقر إليه لكون حلوله جائزا لا واجبا وإن كان الحلول واجبا لم يكن الحال واجبا بنفسه بل بغيره
(6/152)
قال لهم الحلولية قولكم الحلول المعقول يقتضي افتقار الحال إلى المحل إنما يكون إذا كان الحال عرضا فضلا عن أن يكون جسما فضلا عن أن يكون لا جسما ولا عرضا فإما إذا قدر حال ليس بجسم ولا عرض فلم قلتم إن حلوله يقتضي افتقاره إلى المحل وقالوا لهم إذا جوزتم وجود موجود لا مباين لغيره ولا حال فيه فلم لا يجوز وجود موجود حال في غيره ليس مفتقرا إليه
فإذا قلتم لا نعقل حالا في شيء إلا مفتقرا إليه
قيل لكم هذا كما قلتموه للمثبتة هذا من حكم الوهم والخيال لما قال المثبتة لا نعقل موجودا إلا مباينا لغيره أو محايثا له
وهذا هو السؤال الذي أورده أحمد من جهة الجهمية حيث قالوا هو في كل مكان لا مماس ولا مباين فضلا عن أن يقولوا مفتقرا فإن الافتقار إنما يعقل في حلول الأعراض فأما حلول الأعيان القائمة بأنفسها في الأعيان القائمة بأنفسها فلا يجب فيه الافتقار
والقائلون بالحلول إنما يقولون هو حلول عين في عين لا حلول صفة في محل فلهذا قال لهم الإمام أحمد وأمثاله أهو مماس أو مباين فإذا سلبوا هذين المتقابلين تبين مخالفتهم لصريح العقل وكانت هذه الحجة عليهم خيرا من حجة الرازي حيث إنه نفى حلول العرض في محله فإن هذا لم يقله أحد
(6/153)
وكذلك ما نفاه من الاتحاد ليس فيه حجة على ما ادعوه من الاتحاد فإنهم لا يقولون ببقائهما بحالهما ولا ببقاء أحدهما وإنما يشبهون الاتحاد باتحاد الماء واللبن والماء والخمر واتحاد النار والحديد
فقوله هذا ليس باتحاد نزاع لفظي فهم يسمون هذا اتحادا فلا بد من بيان بطلان ما أثبتوه من الجلول والاتحاد وإلا كان الدليل منصوبا في غير محل النزاع
وأما الأئمة الذين ردوا على الحلولية فأبطلوا نفس ما ادعوه وإن كان هؤلاء لا يقرون بأنا نقول بالحلول كما لا يقر القائلون بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بالتعطيل فلزوم الحلول لهؤلاء كلزوم التعطيل لهؤلاء والتعطيل شر من الحلول
ولهذا كان العامة من الجهمية إنما يعتقدون أنه في كل مكان وخاصتهم لا تظهر لعامتهم إلا هذا لأن العقول تنفر عن التعطيل أعظم من نفرتها عن الحلول وتنكر قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم مما تنكر أنه في كل مكان فكان السلف يردون خير قوليهم وأقربهما إلى المعقول وذلك مستلزم فساد القول الآخر بطريق الأولى
(6/154)
ومن العجب أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينسبون المثبتين للصفات إلى قول النصارى كما قد ذكر ذلك عنهم أحمد وغيره من العلماء
وبهذا السبب وضعوا على ابن كلاب حكاية راجت على بعض السبين إلى السنة فذكروها في مثالبه وهو أنه كان له أخت نصرانية وأنها هجرته لما أسلم وأنه قال لها أنا أظهرت الإسلام لأفسد على المسلمين دينهم فرضيت عنه لأجل ذلك
وهذه الحكاية إنما افتراها بعض الجهمية من المعتزلة ونحوهم لأن ابن كلاب خالف هؤلاء في إثبات الصفات وهم ينسبون مثبتة الصفات إلى مشابهة النصارى وهم أشبه بالنصارى لأنه يلزمهم أن يقولوا إنه في كل مكان وهذا أعظم من قول النصارى أو أن يقولوا ما ما هو شر من هذا وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه
ولهذا كان غير واحد من العلماء كعبد العزيز المكي وغيره يردون عليهم بمثل هذا ويقولون إذا كان المسلمون كفروا من يقول إنه
(6/155)
حل في المسيح وحده فمن قال بالحلول في جميع الموجودات أعظم كفرا من النصارى بكثير
وهم لا يمكنهم أن يردوا على من قال بالحلول إن لم يقولوا بقول أهل الإثبات القائلين بمباينته للعالم فيلزمهم أحد الأمرين إما الحلول وإما التعطيل والتعطيل شر من الحلول ولا يمكنهم إبطال قول أهل الحلول مع قولهم بالنفي الذي هو شر منه وإنما يمكن ذلك لأهل الإثبات
وهم وإن قالوا إن مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه فلا يقدرون على إبطاله مع قولهم بالتجهم ولهذا لم يكن فيما ذكروه حجة على إبطاله فيلزمهم إما إمكان تصحيح قول النصارى والحلولية وإما أبطال قولهم وهذا لا حيلة فيه لمن تدبر ذلك
وهب أنهم يمكنهم إبطال قول النصارى في تخصيصهم المسيح بالحلول والاتحاد حيث يقال إذا جوز الحلول والاتحاد بالمسيح جاز بغيره فإن القائلين بعموم الحلول والاتحاد يلتزمون هذا ويقولون النصارى كفرهم لأجل التخصيص وكذلك عباد الأصنام إنما أخطأوا من حيث عبدوا بعض المظاهر دون بعض والعارف المحقق عندهم من لا يقتصر على بعض المظاهر والمجالي بل يعيد كل شيء كما قد صرح بذلك ابن عربي صاحب الفتوحات المكية وفصوص الحكم وأمثاله من أئمة هؤلاء الجهمية القائلين بوحدة الوجود
(6/156)
الذين هم محققو أهل الحلول والاتحاد ولهذا كان هؤلاء لهم الظهور والاستطالة على نفاة الحلول والمباينة جميعا بل هؤلاء يخضعون لأولئك ويعتقدون فيهم ولاية الله وينصرونهم على أهل الإيمان القائلين بمباينة الخالق للمخلوق كما قد رأيناه وجربناه
وسبب ذلك أن قول هؤلاء الحلولية والاتحادية مسقف بالتأله والتعبد والتصوف والأخلاق ودعوى المكاشفات والمخاطبات ونحو ذلك مما لا يكاد يفهمه أكثر النفاة فإذا كانوا لا يفهمون حقيقة قولهم سلموا إليهم ما يقولونه وظنوا أن هذا من جنس كلام أكابر أولياء الله الذين أطلعهم الله من الحقائق على ما يقصر عنه عقول أكثر الخلائق وسلموا لهم ما لا يفهمونه من أقوالهم كما يسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يفهمونه من أقواله فيعظمون هؤلاء كما يعظمون الرسول بمثابة من صدق محمدا رسول الله ومسيلمة الكذاب صدق كلا منهما في أنه رسول الله كحال أهل الردة الذين آمنوا بمسيلمة المتنبي مع دعواهم أنهم مؤمنون بمحمد رسول الله ولا يعرفون ما بين قول هذا وقول هذا من المناقضة والمنافاة لعدم تحققهم في الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهكذا نفاة العلو والصفات من الجهمية أو نفاة العلو وحده إذا سمعوا النصوص الإلهية المثبتة للعلو والصفات أعرضوا عن فهم
(6/157)
معناها وإثبات موجبها ومقتضاها وآمنوا بألفاظ لا يعرفون مغزاها وآمنوا للرسول إيمانا مجملا بأنه لا يقول إلا حقا ولم يكن في قلوبهم من العلم بمباينة الله لخلقه وعلوه عليهم ما ينفون به بدعة الحلولية والاتحادية وأمثالهم لأن أحد المتقابلين إنما يرتفع عن القلب بإثبات مقابله وأحد النقيضين لا يزول عن القلب زوالا مستقرا إلا بإثبات نقيضه
فإذا كان حقيقة الأمر أن الرب تعالى إما مباين للعالم وإما مداخل له كان من لم يثبت المباينة لم يكن عنده ما ينافي المداخلة بل إما أن يقر بالمداخلة وإما أن يبقى خاليا عن اعتقاد المتقابلين المتناقضين ولا يمكنه مع عدم اعتقاد نقيض قول أن يعتقد فساده ولا ينكره ولا يرده بل يبقى بمنزلة من سمع أن محمدا قال إنه رسول الله وأن مسليمة قال إنه رسول الله وهو لم يصدق واحدا منهما ولم يكذب واحد منهما فمثل هذا يمتنع أن يرد على مسيلمة أو يكذبه
فهكذا من كان لم يقر بأن الخالق تعالى مباين للمخلوق لم يمكنه أن يناقض قول من يقول بالحلول والاتحاد بل غايته أن لا يوافقه كما لم يوافق قول أهل الإثبات فهو لم يؤمن بما قاله محمد رسول الله والمؤمنون به ولا بما قاله مخالفوه الدجالون الكذابون من أهل الحلول والاتحاد وغيرهم من نفاة العلو
(6/158)
وقول النفاة للمباينة المداخلة جميعا لما كان في حقيقة الأمر نفيا للمتقابلين المتناقضين بمنزلة قول القرامطة الذين يقولون لا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز كان قولهم في العقل أفسد من قول من لا يؤمن بمحمد ولا بمسيلمة فإن كلاهما مبطل لكن بطلان سلب النقيضين وما هو في معنى النقيضين أبين في العقل من الإقرار بنبوة رسول من رسل الله صلى الله عليهم أجمعين فلهذا لا تكاد تجد أحدا من نفاة المباينة والمداخلة جميعا أو من الواقفة في المباينة يمكنه مناقضة الحلولية والاتحادية مناقضة يبطل بها قولهم بل أي حجة احتج بها عليهم عارضوه بمثلها وكانت حجتهم أقوى من حجته
فإذا قال لهم لا يعقل الحلول إلا حلول العرض فيكون الحال مفتقرا إلى المحل أو قال ما هو أبلغ من هذا مما احتج به الأئمة عليهم لو كان حالا لم يخل من المباينة والمماسة فإن القائم بنفسه إذا حل في القائم بنفسه لم يخل من هذا وهذا قالوا للنفاة هذا أنما يكون إذا كان الحال متحيزا او قائما بمتحيز أو قالوا هذا هو المعقول من حلول الأجسام وأعراضها فأما إذا قدرنا موجودا قائما بنفسه ليس بجسم ولا متحيز لم يمتنع أن يكون حالا بلا افتقار إلى المحل ولا مماسة ولا مباينة
(6/159)
فإن قال إخوانهم من النفاة للعلو والمباينة هذا لا يعقل
قالوا لهم إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه لا مباين للعالم ولا محايث له ولا داخل فيه ولا خارج عنه وعرضنا على العقل وجود موجود في العالم قائم بنفسه لا مماس له ولا مباين له وليس بجسم ولا متحيز أو وجود موجود مباين له وليس بجسم ولا متحيز كان هذا أقرب إلى العقل
وذلك أن وجود موجود لا يشار إليه ولا يكون متحيزا لا جسما ولا جوهرا إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا بطل قول من يثبت موجودا لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه وكان حينئذ قول من أثبت موجودا خارج العالم أو داخله وقال إنه لا يشار إليه أقل فسادا في العقل من هذا وإن كان وجود موجود لا يشار إليه ولا يكون جسما ولا متحيزا ممكنا في العقل فمن المعلوم إذا قيل مع ذلك إنه خارج العالم لم يجب أن يشار إليه ولا يكون جسما منقسما ولا مطابقا موازيا محاذيا للعرش لا أكبر منه ولا أصغر ولا مساويا
وإن قيل مع ذلك إنه حال في العالم لم يجز أن يقال إنه مماس أو مباين لأن المماسة والمباينة عندهم من عوارض الجسم المشار إليه فما
(6/160)
لا يكون جسما لا يشار إليه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا وإذا كان قائما بنفسه لا يشار إليه امتنع أن يقال هو عرض أو كالعرض المفتقر إلى المحل بل إثبات ما لا يشار إليه وهو داخل العالم أو خارجه أقرب إلى ما تثبته العقول من إثبات ما لا يشار إليه ولا هو داخل العالم ولا خارجه
ومما يقرر هذه الحجج أن هؤلاء النفاة لما أرادوا بيان إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأن نفي ذلك ليس معلوما بضرورة العقل احتجوا على ذلك بإثبات الكليات واحتجوا بأن الفلاسفة وطائفة من متكلمي المسلمين من المعتزلة والشيعة والأشعرية أثبتوا النفس وقالوا إنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا توصف بحركة ولا سكون ولا مباينة لغيرها ولا حلول فيه
قالوا وقول هؤلاء ليس معلوم الفساد بالضرورة والمثبتون لما طلبوا بيان فساد قولهم بينوا أن الكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان وأن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة حتى عند جماهير المتكلمين من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم
والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء إذا جوزتم إثبات كليات لا
(6/161)
داخل العالم ولا خارجه مع أنها متعلقة بمعينات بل جعلتموها جزءا من المعينات حيث قلتم المطلق جزء من المعين وجوزتم وجود نفوس مجردات عقلية لا داخل العالم ولا خارجه مع أنها متعلقة بأبدان بني آدم تعلق التدبير والتصريف وجوزتم أيضا وجود نفس فلكية كذلك على أحد قوليكم فما المانع أن يكون واجب الوجود مع تدبيره وتصريفه للعالم متعلقا به تعلق النفوس بالأبدان وتعلق الكليات بالأعيان
والنصارى لا يصلون إلى أن يقولوا إن اللاهوت في الناسوت كالنفس في البدن بل مباينة اللاهوت للناسوت عندهم أعظم من مباينة النفس للبدن فإذا جوزتم ما يكون لا داخل العالم ولا خارجه مع تعلقه بالأبدان أعظم من تعلق اللاهوت بالناسوت عند النصارى أمكن أن يكون واجب الوجود متعلقا بالأبدان بل بالموجودات كلها كذلك وكان قول الجهمية الذين يقولون إن اللآهوت في كل مكان أقرب إلى المعقول من قول من يقول إن المجردات في الأبدان والأعيان
ومما يزيد الأمر وضوحا أن هؤلاء الفلاسفة المشائين ومن وافقهم من المتكلمة والمتصوفة يثبتون خمسة أنواع من الجواهر واحد منها هو الجوهر الذي يمكن إحساسه وهو الجسم في اصطلاحهم وأربعة هي جواهر عقلية لا يمكن الإحساس بها وهي العقل
(6/162)
والنفس والمادة والصورة مع اتفاقهم على أن الأجسام المحسوسة مركبة من المادة والصورة وهما جوهران عقليان كما يقولون إن الأعيان المعينة المحسوسة فيها كليات طبيعية عقلية هي أجزاء منها
فإذا كان هؤلاء يثبتون في الجواهر المحسوسة ومعها جواهر عقلية لا ينالها الحسن بحال ويجعلون هذا حالا وهذا محلا لم يمكنهم مع ذلك أن ينكروا كون الوجود الواجب هو حالا أو محلا لهذه المحسوسات
وهذا هو الذي انتهى إليه محققوهم كابن سبعين وأمثاله فإنهم جعلوا الوجود الواجب مع الممكن كالمادة مع الصورة وكالصورة مع المادة أو ما يشبه ذلك يجعلون الوجود الواجب جزءا من الممكن كما أن المطلق جزء من المعين حتى أن ابن رشد الحفيد وأمثاله يجعلون الوجود الواجب كالشرط في وجود الممكنات الذي لا يتم وجود الممكنات إلا به مع أن الشرط قد يكون وجوده مشروطا بوجود المشروط فيكون كل منهما شرطا في وجود الآخر
وهذا حقيقة قولهم يجعلون الواجب مع الممكن كل منهما مفتقر إلى الآخر ومشروط به كالمادة والصورة فابن عربي يجعل أعيان الممكنات ثابتة في العدم والوجود الواجب فاض عليها فلا يتحقق وجوده إلا بها ولا تتحقق ماهيتها إلا به وبنى قوله على أصلين فاسدين
(6/163)
أحدهما أن الوجود واحد ليس هنا وجودان أحدهما واجب بنفسه والآخر بغيره
والثاني أن وجود كل شيء زائد على حقيقته وماهيته وأن المعدوم شيء موافقة لمن قال هذا وهذا من المعتزلة والفلاسفة ومن وافقهم من متأخري الأشعرية فالحقائق والذوات عنده ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها فكان كل منهما مفتقرا إلى الآخر ولهذا يقول إن الحق يتصف بجميع صفات المخلوقات من النقائض والعيوب وأن المخلوق يتصف بجميع صفات الله تعالى من صفات الكمال كما قال ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبرا بذلك عن نفسه وبصفات النقص وصفات الذم ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي من أولها إلى آخرها صفات له كما أن صفات المحدثات حق للحق
ولهذا قال فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة
{ فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر } سورة الصافات
(6/164)
102 فالولد عين أبيه فما رأى يذبح غير نفسه { وفديناه بذبح عظيم } سورة الصافات 107 فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان بل بحكم ولد من هو عين الوالد { وخلق منها زوجها } سورة النساء 1 فما نكح سوى نفسه
وقال فيعبدني وأعبده ويحمدني وأحمده
وقال ولما كان فرعون في مرتبة الحكم قال { أنا ربكم الأعلى } سورة النازعات 24 أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته من الحكم فيكم ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا
(6/165)
بذلك وقالوا { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } { فاقض ما أنت قاض } سورة طه 72 فالدولة لك فصح قوله { أنا ربكم الأعلى } سورة النازعات 24 وإن كان عين الحق
وقال فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع فكان عتب موسى على أخيه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء
وقال في قصة قوم نوح { ومكروا مكرا كبارا } سورة نوح 22 لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية
(6/166)
وقوله ادعوا إلى الله عين المكر فأجابوه مكرا كما دعاهم مكرا فقالوا في مكرهم { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } سورة نوح 23 فإنهم إذا تركوا هؤلاء جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن اللحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله كما قال في المحمدين { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } سورة الإسراء 23 أي حكم
وفسر قوله قضى بمعنى قدر لا بمعنى أمر
قال وما حكم الله بشيء إلا وقع
والعارف يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود
(6/167)
وأمثال هذا الكلام كثير في كلام هذا وأمثاله كابن سبعين الذي حقق قول هؤلاء الفلاسفة تحقيقا لم يسبق إليه وكان آخر قوله وأن الله في النار نار وفي الماء ماء وفي الحلو حلو وفي المر مر وأنه في كل شيء تصوره ذلك الشيء كما قد بسط الكلام عليه غير هذا الموضع
وكذلك ابن حموية الذي يتكلم بنحو هذا في مواضع من كلامه
وكذلك ابن الفارض في قصيدته المشهورة التي يقول فيها % لها صلواتي بالمقام أقيمها % وأشهد فيها أنها لي صلت % % كلانا مصل واحد ساجد إلى % حقيقته بالجمع في كل سجدة %
(6/168)
% وما كان لي صلى سواى ولم تكن % صلاتي لغيرى في أدا كل ركعة %
إلى أن قال % ومازلت أياها وإياى لم تزل % ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت % % إلى رسولا كنت منى مرسلا % وذاتي بآياتي على استدلت % % فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن % منادى أجابت من دعاني ولبت % % وقد رفعت تاء المخاطب بيننا % وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي % % وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج % هدى فرقة بالاتحاد تحدت %
(6/169)
فإن العارف المحقق من هؤلاء يقول أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا بنفسه فهو المرسل والمرسل إليه والرسول ويقول من هو من أكبر من أضلوه من أهل الزهادة والعبادة مع الصدق في تسبيحاته وأذكاره الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله
ويقول أيضا نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه
ويكرر ذلك كما يكرر المسلمون سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
وعنده أن هذا غاية التحقيق والعرفان
ويجىء من هو أفضل المتكلمين من النفاة للعلو يعتقد في مثل هذا أنه كان من أفضل أهل الأرض أو أفضلهم ويأخذ ورقة فيها سر مذهبه يرقى بها المرضى كما يرقى المسلمون بفاتحة الكتاب كما أخبرنا بذلك الثقاة وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب
(6/170)
ويقول من هو من شعرائهم العارفين % وما أنت غير الكون بل أنت عينه % ويشهد هذا السر من هو ذائق %
ويقول % وتلتذ إن مرت على جسدي يدى % لأني في التحقيق لست سواكم %
وأمثال هذا كثير
والمتكلمة النفاة منهم من يوافق هؤلاء ومنهم من لا يوافقهم ومن وافقهم يقال له أين ذاك النفي لا داخل ولا خارج من هذا الإثبات وهو أنه وجود كل موجود
فيقول هذا حكم عقلي وهذا حكم ذوقي أو يرجع عن ذلك النفي ويقول المطلق جزء من المعينات والوجود الواجب للموجودات مثل الكلي الطبيعي للأعيان كالجنس لأنواعه والنوع لأشخاصه كالحيوانية في الحيوانات والإنسانية في الأناسي وهذا غايته أن يجعله شرطا في وجود الممكنات لا مبدعا فاعلا لها فإن الكليات لا تبدع أعيانها بل غايتها إذا كانت موجودة في الخارج أن تكون شرطا في وجودها بل جزءا منها
ومن لا يوافقهم أكثرهم يسلمون لهم أقوالهم أو يقولون نحن لا نفهم هذا أو يقولون هذا ظاهره كفر لكن قد تكون له أسرار وحقائق يعرفها أصحابها
(6/171)
ومن هؤلاء من يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان المنكرين للحلول والاتحاد وهو شر ممن ينصر النصارى على المسلمين فإن قول هؤلاء شر من قول النصارى بل هو شر ممن ينصره المشركين على المسلمين
فإن قول المشركين الذين يقولون إنما نعبدهم { ليقربونا إلى الله زلفى } سورة الزمر 3 خير من قول هؤلاء فإن هؤلاء أثبتوا خالقا ومخلوقا غيره يتقربون به إليه وهؤلاء يجعلون وجود الخالق وجود المخلوق
وغاية من تجده يتحرى الحق منهم أن يقول العالم لا هو الله ولا غير الله
ولما وقعت محنة هؤلاء الملاحدة المشهورة وجرى فيها ما جرى من الأحوال ونصر الله الإسلام عليهم طلبنا شيوخنا لنتوبهم فجاء من كان من شيوخهم وقد استعد لأن يظهر عندنا غاية ما يمكنه أن يقوله لنا ليسلم من العقاب فقلنا له العالم هو الله أو غيره فقال لا هو الله ولا غيره
وهذا ما كان عنده هو القول الذي لا يمكن أحد أن يخالف فيه ولو علم أنا ننكره لما قاله لنا وكان من أعيان شيوخهم ومحققيهم
(6/172)
وممن له أتباع ومريدون وله ولأصحابه سلطان ودولة ومعرفة ولسان وبيان حتى أدخلوا معهم من ذوي السلطان والقضاة والشيوخ والعامة ما كان دخولهم في ذلك سببا لانتقاص الإسلام ومصيره أسوا من دين النصارى والمشركين لولا ما من الله به من نصر الإسلام عليهم وبيان فساد أقاويلهم وإقامة الحجة عليهم وكشف حقائق ما في أقوالهم من التلبيس الذي باطنه كفر وإلحاد لا يفهمه إلا خواص العباد
والمقصود هنا أن الحلولية إذا أراد النفاة للمباينة والحلول جميعا من متكلمة الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية كابن سينا والرازي وأبي حامد وأمثالهم أن يردوا عليهم حجة عقلية تبطل قولهم لم يمكنهم ذلك كما تقدم بل يلزم من تجويزهم إثبات وجود لا داخل العالم ولا خارجه تجويز قول الحلولية ولهذا لا تجد في النفاة من يرد على الحلولية ردا مستقيما بل إن لم يكن موافقا لهم كان معهم بمنزلة المخنث كالرافضي مع الناصبي فإن الرافضي لا يمكنه أن يقيم حجة على الناصبي الذي يكفره علنا أو يفسقه فإنه إذا قال للرافضي بماذا عملت أن عليا مؤمن ولي لله من أهل الجنة قبل ثبوت إمامته وهذا إنما يعلم بالنقل والنقل إما متواتر وإما آحاد
فإن قال له الرافضي بما تواتر من إسلامه ودينه وجهاده وصلاته وغير ذلك من عباداته
(6/173)
قال له وهذا أيضا متواتر عن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو ابن العاص وغيرهم من الصحابة وأنت تعتقد كفرهم أو فسقهم
وقال له أيضا أنت تقول إن عليا كان يستجيز التقية وأن يظهر خلاف ما يبطن ومن كان هذا قوله أمكن أن يظهر الإسلام مع نفاقه في الباطن
فإن قال الرافضي للناصبي علمت ذلك بثناء النبي صلى الله عليه وسلم وشهادته له بالإيمان والجنة كقوله لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ونحو ذلك
قال له الناصبي قد نقل أضعاف ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وأنت تطعن في تلك المنقولات أو تقول إنهم ارتدوا بعد موته فما يؤمنك إن كان قولك في هؤلاء صحيحا أن يكون على كذلك
(6/174)
وأيضا فهذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تذكر أنت كفرهم وفسقهم والكافر والفاسق لا تقبل روايته
فإن قال هذه نقلها الشيعة
قال له الناصبي الشيعة لم يكونوا موجودين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون إن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا إما عشرة أو أقل أو أكثر ومثل هؤلاء يجوز عليهم المواطأة على الكذب
فإن قال أنا أثبت إيمانه بالقرآن كقوله تعالى { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } سورة التوبة 100 وقال { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } سورة الفتح 29
وقال { وكلا وعد الله الحسنى } سورة النساء 95
وقوله { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } سورة الفتح 18
قال له الناصبي هذه الآيات تتناول أبا بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار كما تتناول عليا ليس في ظاهرها ما يخص عليا
فإن جاز أن يدعى خروج هؤلاء منها أو أنهم دخلوا فيها ثم خرجوا بالردة أمكن الخوارج الذين يكفرون عليا أن يقولوا مثل ذلك
والمقصود هنا أن الرافضة لا يمكنهم إقامة حجة صحيحة على
(6/175)
الخوارج وإنما يتمكن من ذلك أهل السنة والجماعة الذين يقرون بعموم هذه الآيات وتناولها لأهل بيعة الرضوان كلهم ويقرون بالأحاديث الصحيحة المروية في فضائل الصحابة وأنهم كانوا صادقين في روايتهم فهم الذين يمكنهم الرد على الخوارج والروافض بالطرق الصحيحة السليمة عن التناقص
وهكذا الرد على الحولية وبيان إبطال قولهم بالحق إنما يتمكن منه أهل السنه المثبتة لعلو الله على خلقه ومباينته لهم فإن قول هؤلاء نقيض قول الحلولية ومن علم ثبوت أحد النقيضين أمكنه إبطال ما يقابله بخلاف قول النفاة فإنه متضمن رفع النقيضين أو ما هما في معنى النقيضين ورفع النقيضين أشد بطلانا من إثبات أحدهما بل أشد بطلانا من المناقض الباطل فإن رفعهما يعلم امتناعه بصريح العقل وأما انتفاء أحدهما فهو أخفى في العقل من رفعهما فمن رفع النقيضين أو ما في معناهما لم يمكنه إبطال قول من أثبت أحدهما وما من حجة يحتج بها من رفع المتقابلين إلا ويمكن من أثبت أحدهما أن يحتج عليه بما هو أقوى منها من جنسها
ولهذا كان إطباق العقول السليمة على إنكار قول النفاة المتقابلين أعظم من إطباقها على إنكار قول الحلولية لأن الموجود الواجب الوجود كلما وصف بصفات المعدومات الممتنعات كان أعظم بطلانا وفسادا من وصفه بما هو أقرب إلى الوجود
ومما يبين هذا أن الصفات السلبية ليس فيها بنفسها مدح ولا توجب
(6/176)
كمالا للموصوف إلا أن تتضمن أمر وجوديا كوصفه سبحانه بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم فإنه يتضمن كمال حياته وقيوميته
وكذلك قوله تعالى { وما مسنا من لغوب } سورة ق 38 متضمن كمال قدرته
وقوله { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } سورة سبأ 3 يقتضي كمال علمه
وكذلك قوله { لا تدركه الأبصار } سورة الأنعام 103 يقتضي عطمته بحيث لا تحيط به الأبصار
وكذلك نفي المثل والكفو عنه يقتضي أن كل ما سواه فإنه عبد مملوك له وذلك يقتضي من كماله ما لا يحصل إذا كان له نظير مستغن عنه مشارك له في الصنع فإن ذلك نقص في الصانع فأما العدم المحض والنفي الصرف مثل كونه لا يمكن رؤيته بحال وكونه لا مباينا للعالم ولا مداخلا له فإن هذا أمر يوصف به المعدوم فإن المعدوم لا يمكن رؤيته بحال وليس هو مباينا للعالم ولا مداخلا له والمعدوم المحض لا يتصف بصفة كمال ولا مدح ولهذا كان تنزيه الله تعالى بقوله سبحان الله يتضمن مع نفي صفات النقص عنه إثبات ما يلزم ذلك من عظمته فكان في التسبيح تعظيم له مع تبرئته من السوء
ولهذا جاء التسبيح عند العجائب الدالة على عظمته كقوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } سورة الإسراء 1 وامثال ذلك
ولما قال { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } سورة
(6/177)
الصافات 180 كان تنزيهه عما وصفوه به متضمنا لعظمته اللازمة لذلك النفي
وإذا كان كذلك فنفاة النقيضين وما هو في معنى النقيضين لم يتضمن وصفهم له بذلك شيئا من الإثبات ولا التعظيم بخلاف القائلين بالحلول في جميع الأمكنة فإنهم يصفونه بما فيه تعظيم له
ولهذا يقول من يذر الطائفتين إن هؤلاء قصدوا تنزيهه وهؤلاء قصدوا تعظيمه فإذا كان التنزيه إن لم يتضمن تعظيما لم يكن مدحا كان من وصفه بما فيه تعظيم أقرب إلى المعقول ممن وصفه بما يشركه فيه المعدوم من غير أن يكون فيه تعظيم فلم يمكن أولئك النفاة أن يبطلوا حجج هؤلاء المعظمين وإذا ردوا عليهم ببيان ما في قولهم من إثبات ما لا يعقل أو التناقص قالوا لهم إن في قولهم من إثبات ما لا يعقل ومن التناقص ما هو أعظم من ذلك
فإن قال النفاة هؤلاء الحلولية قد أثبتوا حلولا يقتضي افتقاره إلى المحل كالصورة مع المادة وكالوجود مع الثبوت ونحو ذلك مما يقتضي أن أحدهما محتاج إلى الآخر ونحن قد بينا إنما يعقل الحلول إذا كان الحال محتاجا إلى المحل وذلك باطل لأن ذلك يناقض وجوبه كما تقدم فقد أبطلنا قول هؤلاء
قيل عن هذا جوابان
أحدهما أنه ليس كل من قال بالحلول يقول بافتقاره إلى المحل بل كثير من القائلين بالحلول يقولون إنه في كل مكان مع استغنائه عن
(6/178)
المحل وهو قول النجارية وكثير من الجهمية وقول من يقول بالحلول الخاص كالنصارى وغيرهم
الثاني أنه بتقدير أن يكون الحلول مستلزما للافتقار فأنتم لن تثبتوا غناه عما سواه فإن طريقة الرازي والآمدى وأمثالهما في إثبات الصانع هي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وهذه الطريقة لا تدل على إثبات موجود قائم بنفسه واجب الوجود
وإن قيل إنها تدل على ذلك فلم تدل على أنه مغاير للعالم بل يجوز أن يكون هو العالم
ومن طريقهم قال هؤلاء بوحدة الوجود فإن طريقتهم المشهورة أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن والممكن لا بد له من واجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين وهذا القدر يدل على أنه لا بد من وجود واجب ومن قال كل موجود واجب فقد وفى بموجب هذه الحجة ومن قال إن الوجود الواجب مع الممكن كالصورة مع المادة أو كالوجود مع الثبوت فقد وفي بموجب هذه الحجة بل لا يمكنهم إثبات لوجود واجب مغاير للممكن إن لم يثبتوا أن في الوجود ما هو ممكن يقبل الوجود والعدم
وهم يدعون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديما أزليا ولا يمكنهم إقامة دليل على ثبوت الإمكان بهذا الاعتبار
ولهذا لما احتاجوا إلى إثبات الإمكان استدلوا بأن الحادث لا بد له من محدث وأن الحوادث مشهودة
(6/179)
وهذا حق لكنه يدل على أن المحدث لا بد له من قديم فيلزم ثبوت قديم لكن لا يلزم من ذلك عندهم أن يكون واجب الوجود ثابتا إلا بذلك التقسيم إذ كانوا يجوزون على القديم أن يكون ممكن الوجود فإذا قالوا القديم إن كان ممكنا فلا بد له من واجب لم يمكنهم إثبات واجب إلا بإثبات هذا الممكن وهذا ممتنع وهو أيضا مستلزم للدور فإنه لا يمكنهم إثبات واجب الوجود إلا بإثبات ممكن الوجود ولا يمكن إثبات ممكن الوجود إلا بإثبات أن المحدث ممكن وله فاعل وذلك لا يستلزم إلا إثبات قديم والقديم عندهم لا يجب أن يكون واجب الوجود فلا يمكنهم أن يثبتوا واجب الوجود حتى يثبتوا ممكن الوجود الذي قد يكون قديما وهذا لا يمكن إثباته إلا بإثبات الممكن الذي هو حادث وهذا لا يدل إلا على إثبات قديم والقديم عندهم لا يستلزم أن يكون واجب الوجود
وأيضا فإذا أثبتوا واجب الوجود فإنهم لم يثبتوا أنه مغاير لهذه المشهودات إلا بطريقة التركيب وهي باطلة
وحينئذ فيمكن أن يقول لهم أهل الحلول الواجب هو حال وإيضاح ذلك أنهم قسموا الوجود إلى واجب وممكن لكن جعلوا الممكن منه ما هو قديم ومنه ما هو محدث وحينئذ فلا يمكن إثبات الواجب إلا بإثبات هذا الممكن وهذا الممكن لا يمكن إثباته
وأيضا فهم لا يثبتون الممكن إلا بإثبات الحادث والحادث لا بد له من القديم والقديم لا يستلزم أن يكون واجبا
(6/180)
وإذا قالوا القديم إن كان واجبا ثبت الواجب وإن كان ممكنا ثبت الواجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين
قيل هذا إذا صح لزم أنه لا بد من واجب كما أن الموجود مستلزم أنه لا بد من واجب وهذا مما لا نزاع فيه لكنه لا يدل على أثبات صانع ولا على أنه مغاير للأفلاك ولا على أنه ليس بحال بل يستلزم أنه لا بد من موجود يمتنع عدمه وهذا مما يوافق عليه منكرو الصانع والقائلون بقدم العالم وأهل الحلول وغيرهم فتبين أنه ليس في كلامهم إبطال مذهب الحلول
والمقصود هنا أن السلف والأئمة كانوا يردون من أقوال النفاة ما هو أقرب إلى الإثبات فيكون ردهم لما هو أقرب إلى النفي بطريق الأولى وقول النفاة لبماينته للعالم ومداخلته له أبعد عن العقل من قول المثبتين لأنه قائم بنفسه في كل مكان مع نفي مماسته ومباينته
والسلف ردوا هذا وهذا وكان ذلك تنبيها على إبطال الحلول بمعنى حلول العرض في المحل لكن هذا لم يقل به أحد وإن كان النفاة لم يمكنهم إلا إبطاله خاصة دون أقوال أهل الحلول المعروفة عنهم
ومما يبين هذا أن الطوائف كلها اتفقت على إثبات موجود واجب بنفسه قديم أزلى لا يجوز عليه العدم ثم تنازعوا فيما يجب له ويمتنع عليه
فالنفاة تصفه بهذه الصفات السلبية أنه لا مباين للعالم ولا مداخل ولا فوق ولا تحت ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء
(6/181)
ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء وأمثال ذلك بل ويقولون أيضا إنه لا تمكن رؤيته ولا غير ذلك من الإحساس به ولا يمكن الإشارة إليه
وآخرون منهم يقولون ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا غير ذلك من الصفات
وآخرون يقولون لا يسمى موجودا حيا عالما قادرا إلا مجازا أو بالاشتراك اللفظي وأن هذه الأسماء لا تدل على معنى معقول ويقولون إذا أثبتنا هذه الصفات لزم أن يكون متحيزا والمتحيز مركب أو كالجوهر الفرد في الصغر ونحو ذلك فيفرون من هذه الصفات لا عتقادهم أن ذلك يقتضى التجسيم والأجسام عندهم موجودة لكنها عند بعضهم محدثة وعند بعضهم ممكنة فإذا وصفوا الواجب القديم بذلك لزم أن يكون عندهم ممكنا أو محدثا وذلك ينافي وجوبه وقدمه ويقولون إن هذه المقدمات معلومة بالنظر
وأما المثبتون فيقولون الموصوف بهذه الصفات السلبية لا يكون إلا ممتنعا والامتناع ينافي الوجود فضلا عن وجوب الوجود فيقولون إن الواصفين له بهذه الصفات وصفوه بما لا يتصف به إلا ما يمتنع وجوده ومن وصف ما يجب وجوده بما يمتنع وجوده فقد جعله دون المعدوم الممكن الوجود
ويقولون إن هذه المقدمات معلومة بالضرورة فهم يقولون لأولئك أنتم قررتم من وصفه بالإمكان فوصفتموه بالامتناع ومن وصفه بالحدوث فوصفتموه بالعدم
(6/182)
ويقولون إن الأجسام الجامدة خير من الموصوف بهذه الصفات فضلا عن الأجسام الحية الناقصة فضلا عن الأجسام الحية الكاملة ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين جسم حي كامل وبين معدوم أو ممتنع كان ذلك خيرا من هذا وإذا كانت هذه التنيجة لازمة لمقدمات يقول أهلها إنها معلومة بالاضطرار كانت أثبت من مقدمات يقول أهلها أنتم لا تعلمونها إلا بالنظر مع اختلافهم في كل مقدمة منها
فعلم بذلك أن المثبتة هم أقطع بما يقولونه وأشد تعظيما لما يثبتونه وأن النفاة أقرب إلى الظن وأبعد عن التعظيم والإثبات
يبين ذلك أن عمدة النفاة على أنه لو ثبتت هذه الصفات من العلو والمباينة ونحو ذلك للزم أن يكون جسما وكون الواجب القديم جسما ممتنع وهذه المقدمة هي نظرية باتفاقهم وكل طائفة منهم تطعن في طريق الآخرين والعمدة فيها طريقان طريق الجهمية والمعتزلة وطريق الفلاسفة
ومن وافق على هذه المقدمة من الفقهاء وأهل الكلام من الأشعرية وغيرهم فهو تبع فيها إما للمعتزلة والجهمية وإما للفلاسفة
فاما المعتزلة والجهمية فطريقهم هي طريق الأعراض والحركات
(6/183)
وأنه لو ثبت للقديم الصفات والأفعال لكان محلا للأعراض والحركات وذلك يقتضي تعاقبها عليه وذلك يوجب حدوثه
وقد عرف أن الفلاسفة مع طوائف من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام يطعنون في هذه الطريقة وقد صنف الأشعرى نفسه كتابا بين فيه عجز المعتزلة عن إثبات هذه الطريق كما سيأتي بيان ذلك
وأما طريقة الفلاسفة فهي مبنية على أن واجب الوجود لا يكون متصفا بالصفات لأن ذلك يستلزم التركيب
وقد علم ما بينه نظار المسلمين من فساد هذه الطريق
فإذا ليس بين النفاة مقدمة اتفقوا عليها يبنون عليها النفي بل هم يشتركون فيه كاشتراك المشركين وأهل الكتاب في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم واشتراك أهل البدع في مخالفة الحديث والسنة ومآخذ كل فريق غير مآخذ الآخر
وإذا كانت مقدماتهم ليست مما اتفقوا عليه بل ولا اتفق عليه أكثرهم بل أكثرهم ينكر صدق جميعها علم أنها ليست مقدمات فطرية ضرورية لأن الضرويات لا ينكرها جمهور العقلاء الذين لم يتواطأوا عليها ولا يكفي أن تكون بعض المقدمات معلومة بل لابد أن تكون الجميع معلومة وما لم تكن معلومة بالضرورة فلا بد أن تستلزمها مقدمات ضرورية وليس معهم شيء من ذلك بل غاية
(6/184)
هؤلاء لفظ التركيب وأنه لا يكون واجبا وقد علم ما في ذلك من الإجمال والاشتراك
وغاية هؤلاء أن الأعراض لا تبقى وجمهور العقلاء يخالفون في ذلك وأن الأفعال يجب تناهيها وقد علم نزاع العقلاء فيها وجمهورهم يمنعون امتناع تناهيها من الطرفين
وقد ذكرنا اعتراض الأرموي وغيره على شيوخه في هذه المقدمات وقد سبقه إلى ذلك الرازي وغيره وقدحوا فيها قدحا بينوا به فسادها على وجه لم يعترضوا عليه وإن كان الرازي يعتمدها في مواضع أخر فنظره استقر على القدح فيها
وكذلك الأثير الأبهري في كتابه المعروف بتحرير الدلائل في تقرير المسائل هو وغيره قدحوا في تلك الطرق وبينوا فساد عمدة الدليل وهو بطلان حوداث لا أول لها وذكر الأبهري الدليل المتقدم دليل الحركة والسكون وقولهم لو كان الجسم أزليا لكان إما متحركا وإما ساكنا والقسمان باطلان
أما الأول فلأنها لو كانت متحركة للزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير والأزل يقتضي عدم المسبوقية فيلزم الجمع بينهما ولأنها لو كانت متحركة لكانت بحال لا يخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وإلا لكان الحادث أزليا وهو محال ولأنها لو كانت متحركة
(6/185)
لكانت الحركة اليومية موقوفة على انقضاء ما لا نهاية له وانقضاء ما لا نهاية له محال والموقوف على المحال محال ولأنها لو كانت متحركة لكان قبل كل حركة حركة أخرى لا إلى أول وهو محال ولأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة ومن الحركة التي قبل الحركة اليومية إلى الأزل جملة أخرى فتطبق إحداهما على الأخرى بأن يقابل الجزء الأول من الجملة الثانية بالجزء الأول من الجملة الأولى والثاني بالثاني فإما أن يتطابقا إلى غير النهاية أو لم يتطابقا فإن تطابقا كان الزائد مثل الناقص وإن لم يتطابقا لزم انقطاع الجملة الثانية وإذا لزم انقطاع الجملة الثانية لزم انقطاع الجملة الأولى أيضا لأن الأولى لا تزيد على الثانية إلا بمرتبة واحدة
ثم تكلم على تقدير السكون وهذا هو الذي تقدم ذكر الرازي له
ومن تدبر كتب أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم في حدوث الأجسام علم أن هذا عمدة القوم
قال الأبهري والإعراض على قوله يلزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير قلنا لا نسلم وإنما يلزم الجمع بينهما أن لو كان الواحد مسبوقا بالغير وغير مسبوق بالغير وليس كذلك فإن المسبوق بالغير لا يكون إلا الحركة وغيرالمسبوق بالغير هو الجسم فلا يلزم الجمع بين المسبوقية وعدم المسبوقية في شيء واحد
قلت وهذا الأعتراض فيه نظر ولكن الأعتراض المتقدم وهو
(6/186)
أن المسبوق لغير آحاد الحركة لا جنسها فكل من أجزائها مسبوق بالغير وأما الجنس ففيه النزاع اعتراض جيد وإلا فإذا كانت الحركة من لوازم الجسم لم يكن سابقا لها فكيف يقال إن الحركة مسبوقة بالجسم
وكأن الأبهري لم يفهم مقصود القائل إن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير فظن أنه أراد أنها مسبوقة بالجسم وإنما أراد أن الحركة تقتضي أن يكون بعض أجزائها سابقا على بعض
قال الأبهري وأما قوله لو كانت متحركة لكانت بحالة لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث قلنا لا نسلم قوله لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليا قلنا لا نسلم وإنما يلزم ذلك لو كانت الحادث الواح 4 د يصير بعينه أزليا وليس كذلك بل يكون قبل كل حادث آخر لا إلى أول فلا يلزم قدم الحادث أما قوله فإنها لو كانت متحركة لكان الحادث اليومي موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له قلنا لا نسلم بل يكون الحادث اليومي مسبوقا بحوادث لا أول لها ولم قلتم بأن ذلك غير جائز والنزاع ما وقع إلا فيه واما قوله بأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة قلنا لا نسلم وإنما يلزم ذلك أن لو كانت الحركات مجتمعه في الوجود ليحصل منها جملة ومجموع واستدل هو على حدوث العالم بأن صانع العالم إن كان موجبا بالذات لزم دوام آثاره فلا يكون في الوجود حادث وإن كان
(6/187)
فاعلا بالاختيار امتنع أن يكون مفعوله أزليا لأنه يكون قاصدا إلى إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل محال وقد اعترض بعضهم على دليله بأنه يجوز ان يكون بعضه حادثا له فاعل بالاختيار وبعضه قديم له موجب بالذات وجوزه بعضهم بأنه يجوز أن يكون موجبا بالذات ومعلوله فاعل بالاختيار أحدث غيره
قلت وهذا الأعتراض ساقط لأن ما كان فاعلا بالاختيار فحدوث فعله بعد أن لم يكن حادث من الحوادث فإذا كان مفعولا لعلة تامة موجبة امتنع أن يتخلف عنها معلولها ولا يجوز أن يحدث عنها شيء ولا عن لازمها ولا لازم لازمها وهلم جرا وإن قدر أن البعض الحادث له فاعل واجب بنفسه غير فاعل للآخر فهذا مع انه لم يقله أحد وأدلة التوحيد للصانع تبطله فهو يبطل حجة القائلين بالقدم لأن عمدتهم أن الواجب بنفسه لا يتأخر عنه فعله فإذا جوزوا تأخر فعله عنه بطل أصل حجتهم
وهذا الدليل الذي احتج به قد ذكرنا في غير موضع أنه يبطل قول الفلاسفة بانه صدر عن علة موجبة وان قولهم هذا يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب
وأما الفاعل باختياره يمتنع أن يقارنه فعله فقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع ولكن نبين فساد قول الفلاسفة بأن يقال الفاعل بالاختيار إما أن يجوز أن يقارنه فعله وإما أن يجب تأخره فإن وجب تأخره بطل قولهم بقدم العالم فإن الفعل إذا لزم تأخره كان تأخر المفعول أولى إن جعل المفعول غير الفعل وإن جعل المعفول هو
(6/188)
الفعل فقد لزم تأخره فتأخره لازم على التقديرين وإن جاز مقارنة فعله له فإما أن يكون التسلسل ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول وحينئذ فإذا كان الفعل المقارن قديما لم يقدح هذا في وجوب حدوث المفعولات
وهذا يقوله من يقول إنه أحدث الحوادث يتخليق قديم أزلى قائم بذاته كما تقول ذلك طوائف من المسلمين وإن كان التسلسل ممكنا أمكن أن يكون بعد ذلك الفعل فعل آخر وبعده فعل آخر وهلم جرا وأن تكون هذه الأفلاك حادثة بعد ذلك كما أخبرت به النصوص وهو المطلوب
والأبهري وغيره اعترضوا على هذه المقدمة لما ذكروها في حجة من احتج على حدوث العالم بانه ممكن وكل ممكن فهو محدث لأن المؤثر فيه إما أن تؤثر فيه حالة وجوده وهو باطل لأن التأثير حالة الوجود يكون إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل وهو محال وإما حال العدم وهو محال لأنه يستلزم الجمع بين الوجود والعدم فتعين أن يكون لا حال الوجود ولا حال العدم وهو حال الحدوث
فاعترض الأبهري وغيره على ذلك بأنه لم لا يجوز أن يكون التأثير حال الوجود قوله يكون تحصيلا للحاصل قلنا لا نسلم لأن التأثير عبارة عن كون المرجح مترجح الوجود على العدم بالمؤثر وجاز أن يكون الممكن مترجح الوجود على العدم حال الوجود فيقول له من يعارضه في دليله مثل ذلك فإذا قال لو كان الفعل الذي فعله الفاعل المختار أزليا لكان الفاعل قاصدا إلى إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل
(6/189)
قالوا بل وجود الموجود وحصول الحاصل مقصده واختياره فقولك لو كان قاصدا إلى إيجاد الموجود إن أردت إلى إيجاد ما هو موجود بدون قصده فهذا ممنوع وإنما يستقيم هذا إذا ثبت أن الأزلي لا يمكن أن يكون مرادا مقصودا وهو أول المسألة وإن أردت إلى إيجاد ما هو موجود بقصده فهذا هو المدعى فكأنك قلت لو كان مقصودا لأزلى موجودا بقصده لكان موجودا بقصده وإذا كان هذا هو المدعي فلم قلت إنه محال ولكن يلزم هؤلاء على هذا التقدير أن لا يكون فرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار وهم يقولون إن أريد بالموجب بالذات أنه لم يزل فاعلا فهذا لا يمنع كونه مختارا على هذا التقدير وإن أريد به ما يلزمه موجبه ومعلوله فهذا أيضا لا يمنع كونه مختارا أيضا على هذا التقدير
وهذا القسم باطل بلا شك سواء سمى موجبا أو مختارا لأن ذلك يستلزم ان لا يحدث شيء من الحوادث فإن موجبه إذا كان لازما له ولازم اللازم لازم كانت جميع الموجبات لوازم قديمة فلا يكون شيء من المحدثات صادرا عنه ولا عن غيره إذ القول في كل ما يقدر واجبا كالقول فيه فيلزم أن لا يكون للحوادث فاعل
ولا ريب أن هذا لازم للفلاسفة الدهرية الإلهيين وغيرهم كأرسطوا والفارابي وابن سينا لزوما لا محيد عنه وأن قولهم يستلزم أن
(6/190)
لا يكون للحوادث فاعل وأن هذه الحوادث الممكنة حصلت بعد عدمها من غير واجب ولا فاعل
وإما القسم الأول وهو كونه لم يزل فاعلا سواء سمى موجبا أو مختارا فهذا لا يوجب قدم هذا العالم لإمكان توقفه على أفعال قبل ذلك كما تحدث سائر الحوادث الجزئية فصل
والمقصود في هذا المقام أن هؤلاء النفاة للعلو المباينة لم يتفقوا على مقدمة واحدة يبنون عليها مطلوبهم بل كل منهم يقدح في مقدمة الآخر وإذا كان اتفاقهم على النفي مبنيا على المقدمات التي بها اعتقدوا النفي وتلك المقدمات متنازع فيها بينهم ليس فيها مقدمات متفق عليها تبني عليها النتيجة المذكورة علم أن ما اشتركوا فيه من التنيجة كان من لوازم ما اعتقدوه من القضايا المختلف فيها لا القضايا الضرورية
وحينئذ فاتفاقهم على النفي لا يمنع أن يكون اتفاقا على خلاف المعلوم بالضرورة كما لو كان لرجل مال كثير وله غرماء كثيرون فأقام كل منهم شاهدين بقدر من المال واستوفاه حتى استوفى المال كله وكل من الغرماء يقدح في شهود الآخر كان اللازم من الحكم بشهادة الشهود كلهم أخذ مال ذلك الرجل كله ولا يقال إن هؤلاء عدد كثير لا يتفقون على الكذب فإنهم لم يتفقوا على خبر واحد بل كل طائفة
(6/191)
أخبرت بخبر تكذبها فيه الأخرى ولزم من مجموع الأخبار أخذ المال فهم لم يخبروا بقضية واحدة توجب أخذ المال بل الكذب ممكن عليهم كلهم
كذلك المتفقون على رد بعض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم بضرورات العقول يمكن أن يقع منهم على هذا الوجه وهذا كاشتراك الكفار في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وقول هؤلاء هو ساحر وهؤلاء هو كاهن وهؤلاء هو مجنون فهم في الحقيقة مختلفون لا متفقون
وأيضا فاتفاق العدد الكثير على تعمد الكذب الذين يعلمون أنه كذب يجوز إذا كان ذلك عن تواطئ منهم وأما اتفاق الخلق الكثير على الكذب خطأ فهو ممكن بالنظر والأمور الضرورية فقد يعبر عنها بعبارات فيها إجمال واشتباه يظن كثير من الناس أن مفهومها لا يخاف الضرورة وإنما يعلم أنها مخالفة للضرورة من ميز بين معانيها وفصل المعنى المخالف للضرورة من غيره فإذا كان قد سبق قليل من الناس إلى اعتقاد خطأ يتضمن مخالفة الضرورة كان هذا جائزا باتفاق العقلاء فإن السفسطة تجوز على الطائفة القليلة تعمدا فكيف خطأ
فإذا تلقى تلك الأقوال عن أولئك السابقين إليها عدد آخرون واشتهرت بين من اتبعهم فيها صاروا متواطئين على قبولها لما فيها من الاشتباه والإجمال مع تضمنها مخالفة الضرورة وإن كان كثير من القائلين بها أو أكثرهم لا يعلمون ذلك وهذا هو السبب في اتفاق
(6/192)
طوائف كثيرة على مقالات يعلم أنها باطلة بضرورة العقل كمقالات النصارى والرافضة والجهمية
ثم إن المتقدمين من النظار يحكمون إجماع الخلائق على نقيض قول النفاة كما ذكروه أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام الأشعرى وأصحابه ذكره في كتاب الصفات مما نقله عنه أبو بكر بن فورك فقال فى كتاب الصفات فى باب القول فى الاستواء فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه وخيرته من بريته وأعلمهم جميعا به يجيز السؤال بأين ويقوله يستصوب قول القائل إنه في السماء ويشهد له بالإيمان عند ذلك وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا ويحيلون القول به ولو كان خطأ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له وكان ينبغي أن يقول لها لا تقولى ذلك فتوهمين أن الله عز وجل محدود وأنه في مكان دون مكان ولكن قولى إنه في كل مكان دون مكان لأنه الصواب دون ما قلت
(6/193)
كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه وأنه أصوب الأقاويل والأمر الذي يجب الإيمان لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته فكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطق به وشاهد له
قال ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي كيف وقد غرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول أين ربك إلا قال في السماء إن أفصح أو أوما بيده أو أشار بطرفه إن كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول في كل مكان كما يقولون وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم فتاهت العقول وسقطت الأخبار واهتدى جهم وحده وخمسون رجلا معه نعوذ بالله من مضلات الفتن
فقد ذكر ابن كلاب في هذا الكلام أن العلم بأن الله فوق فطرى مفروز في فطر العباد اتفق عليه عامتهم وخاصتهم وأنه لم يخالف الجماعة في ذلك إلا نفر قليل يدعون أنهم أفضل الناس جهم ونفر قليل معه وبين أيضا ابن كلاب أن قول الجهمية هو نظير قول الدهرية وهو كما قال فإن منتهى كلام الجهمية إلى أنه لا موجود إلا العالم
قال يقال للجمهية أليست الدهرية كفارا ملحدين في قولهم
(6/194)
إن الدهر هو واحد إلا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم منه ولا يباين العالم ولا يباينه ولا يماس العالم ولا يماسه ولا يداخل شيئا من العالم ولا يداخله لأنه واحد والعالم غير مفارق له فإذا قالوا نعم قيل لهم صدقتم فلم أثبتم المعبود بمعنى الدهر وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم وهل تجدون بينكم وبينهم فرقا أكثر من أن سميتموه بغير ما سموه به وقد قلتم إنه غير مفارق للعالم ولا العالم مفارق له ولا هو داخل في العالم ولا العالم داخل فيه ولا مماس للعالم ولا العالم مماس له فأين تذهبون يا أولى الألباب إن كنتم تعقلون من أولى أن يكون قد شبه الله بخلقه نحن أو أنتم ولم رجعتم على من خالفكم بالتكفير وزعمتم أنهم قد كفروا لأنهم قالوا واحد منفرد بائن فلم لا كنتم أولى بالكفر والتشبيه منهم إذ زعمتم مثل زعم الملحدين وقلتم مثل مقالة المخالفين الضالين وخرجتم من توحيد رب العالمين
قال وكذلك مشاركتكم الثنوية في إلحادهم لما قالوا إن الأشياء من شيئين لا تنفك منهما ولا ينفكان منها وإن الأشياء تولدت عنهما ومنهما وأن النور والظلمة لا نهاية لهما في أنفسهما وأن أحدهما مازج الآخر فتولدت الأشياء منهما وقلتم لهم كيف يكون ما لا نهاية له يفعل شيئا لا في نفسه وكيف يجىء ما لا نهاية له فيكون في غيره فقيل لكم مثل ذلك كيف يكون مالا نهاية له يفعل شيئا لا في نفسه ولا بائنا من نفسه ويلزمكم إذا زعمتم أنه لا تفاق النور والظلمة أن
(6/195)