بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول لشيخ الإسلام ابن تيمية
المؤلف : تقي الدين أحمد بن عبد السلام بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1417هـ - 1997م.
تحقيق : عبد اللطيف عبد الرحمن
عدد الأجزاء / 10
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
قال شيخ الإسلام علم الأعلام مفتي الأنام الإمام المجاهد الصادق الصابر سيف السنة المسلول على المبتدعين والقاطع البتار لألسنة المارقين الملحدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم تقي الدين الشهير بابن تيمية الحراني رحمه الله وغفر لنا وله
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا(1/3)
فصل
قول القائل إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات فإما أن يجمع بينهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين وإما أن يردا جميعا
وإما أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في العقل الذي هو أصل النقل والقدح في أصل الشيء قدح فيه فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا فوجب تقديم العقل ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض
وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما
وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانونا كليا فيما يستدل به من كتب(1/4)
الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام وما لا يستدل به ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها وظن هؤلاء أن العقل يعارضها وقد يضم بعضهم إلى ذلك أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين وقد بسطنا الكلام على قولهم هذا في الأدلة السمعية في غير هذا الموضع
وأما هذا القانون الذي وضعوه فقد سبقهم إليه طائفة منهم أبو حامد وجعله قانونا في جواب المسائل التي سئل عنها في نصوص أشكلت على السائل كالمسائل التي سأله عنها القاضي أبو بكر بن العربي وخالفه القاضي أبو بكر في كثير من تلك الأجوبة وكان يقول شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر وحكى هو عن أبي حامد نفسه أنه كان يقول أنا مزجى البضاعة في الحديث
(1/5)
ووضع أبو بكر بن العربي هذا قانونا آخر مبنيا على طريقة أبي المعالي ومن قبله كالقاضي أبي بكر الباقلاني
ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له فما وافق قانونهم قبلوه وما خالفه لم يتبعوه
وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل
(1/6)
كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم وقد غلطوا في الرأي والعقل
فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء لكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم بخلاف بدعة
(1/7)
الجهمية والفلاسة فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء وأنه صحيح عندهم
ولهؤلاء في نصوص الأنبياء طريقتان طريقة التبديل وطريقة التجهيل أما أهل التبديل فهم نوعان أهل الوهم والتخييل وأهل التحريف والتأويل
فأهل الوهم والتخييل هم الذين يقولون إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر وعن الجنة والنار بل وعن الملائكة بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله جسم عظيم وأن الأبدان تعاد وأن لهم نعيما محسوسا وعقابا محسوسا وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر لأن من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به
(1/8)
ويتخيلون أن الأمر هكذا وإن كان هذا كذبا فهو كذب لمصلحة الجمهور إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريق
وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم على هذا الأصل كالقانون الذي ذكره في رسالته الأضحوية وهؤلاء يقولون الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها وقصدوا أن يفهم الجمهور منها هذه الظواهر وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذبا وباطلا ومخالفة للحق فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطل للمصلحة
ثم من هؤلاء من يقول النبي كان يعلم الحق ولكن أظهر خلافه للمصلحة ومنهم من يقول ما كان يعلم الحق كما يعلمه نظار الفلاسفة وأمثالهم وهؤلاء يفضلون الفيلسوف الكامل على النبي ويفضلون الولي الكامل الذي له هذا المشهد على النبي كما يفضل ابن عربي الطائي خاتم الأولياء في زعمه على الأنبياء
(1/9)
وكما يفضل الفارابي ومبشر بن فاتك وغيرهما الفيلسوف على النبي
وأما الذين يقولون إن النبي كان يعلم ذلك فقد يقولون إن النبي أفضل من الفيلسوف لأنه علم ما علمه الفيلسوف وزيادة وأمكنه أن يخاطب الجمهور بطريقة يعجز عن مثلها الفيلسوف وابن سينا وأمثاله من هؤلاء
ومنا في هذه الجملة قول المتفلسفة والباطنية كالملاحدة الإسماعيلية وأصحاب
(1/10)
رسائل إخوان الصفاء والفارابي وابن سينا والسهرودي المقتول وابن رشد الحفيد وملاحدة الصوفية الخارجين عن طريقة المشايخ المتقدمين من أهل الكتاب والسنة كابن عربي وابن سبعين وابن الطفيل صاحب رسالة حي ابن يقظان وخلق كثير غير هؤلاء
ومن الناس من يوافق هؤلاء فيما أخبرت به الأنبياء عن الله أنهم قصدوا به التخييل دون التحقيق وبيان الأمر على ما هو عليه دون اليوم الآخر
ومنهم من يقول بل قصدوا هذا في بعض ما أخبروا به عن الله كالصفات الخبرية من الإستواء والنزول وغير ذلك ومثل هذه الأقوال يوجد في كلام كثير من النظار ممن ينفي هذه الصفات في نفس الأمر كما يوجد في كلام طائفة
(1/11)
وأما أهل التحريف والتأويل فهم الذين يقولون إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال إلا ما هو الحق في نفس الأمر وإن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة وإلى الإستعانة بغرائب المجازات والإستعارات
وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علما يقينا أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه وهؤلاء كثيرا ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض فيقصدون حمل اللفظ على ما يمكن أن يريده متكلم بلفظه لا يقصدون طلب مراد المتكلم به وحمله على ما يناسب حاله وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يعرف به مراده وعلى الوجه الذي به يعرف مراده فصاحبه كاذب على من تأول كلامه ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل بل يقولون يجوز أن يراد كذا وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ
وأما كون النبي المعين يجوز أن يريد ذلك المعنى بذلك اللفظ فغالبه يكون الأمر فيه بالعكس ويعلم من سياق الكلام وحال المتكلم امتناع إرادته لذلك المعنى بذلك الخطاب المعين
(1/12)
وفي الجملة فهذه طريق خلق كثير من المتكلمين وغيرهم وعليها بني سائر المتكلمين المخالفين لبعض النصوص مذاهبهم من المعتزلة والكلابية والسالمية والكرامية والشيعة وغيرها
(1/13)
وقد ذكرنا في غير موضع أن لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول الأمر إليه وإن كان موافقا لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه وإن كان موافقا له وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين كمجاهد وغيره ويراد به صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك
وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعنى إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين فأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعنى بل يريدون بالتأويل المعنى الأول أو الثاني
ولهذا لما ظن طائفة من المتأخرين أن لفظ التأويل في القرآن والحديث في مثل قوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } سورة إل عمران 7 أريد به هذا المعنى الاصطلاحي الخاص واعتقدوا أن الوقف في الآية عند قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } لزم من أن وايعتقدوا أن لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالف مدلولها المفهوم منها وأن ذلك المعنى المراد بها لا يعلمه إلا الله لا يعلمه الملك الذي نزل بالقرآن وهو جبريل ولا يعلمه محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الأنبياء
(1/14)
ولا تعلمه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 وقوله { إليه يصعد الكلم الطيب } سورة فاطر 10 وقوله { بل يداه مبسوطتان } سورة المائدة 64 وغير ذلك من آيات الصفات بل ويقول ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ونحو ذلك وهو لا يعرف معاني هذه الأقوال بل معناها الذي دلت عليه لا يعلمه إلا الله ويظنون أن هذه طريقة السلف
وهؤلاء أهل التضليل والتجهيل الذين حقيقة قولهم إن الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء
(1/15)
ثم هؤلاء منهم من يقول المراد بها خلاف مدلولها الظاهر والمفهوم ولا يعرف أحد من الأنبياء والملائكة والصحابة والعلماء ما أراد الله بها كما لا يعلمون وقت الساعة
ومنهم من يقول بل تجرى على ظاهرها وتحمل على ظاهرها ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلا يخالف ظاهرها وقالوا مع هذا إنها تحمل على ظاهرها وهذا ما أنكره ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى في كتاب ذم التأويل
وهؤلاء الفرق مشتركون في القول بأن الرسول لم يبين المراد بالنصوص التي يجعلونها مشكلة أو متشابهة ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعل الفريق الآخر مشكلا فمنكر الصفات الخبرية الذي يقول إنها لا تعلم بالعقل يقول نصوصها مشكلة متشابهة بخلاف الصفات المعلومة بالعقل عنده بعقله فإنها عنده محكمة بينة وكذلك يقول من ينكر العلو والرؤية نصوص هذه مشكلة
(1/16)
ومنكر الصفات مطلقا يجعل ما يثبتها مشكلا دون ما يثبت أسماءه الحسنى ومنكر معاني الأسماء يجعل نصوصها مشلكة ومنكر معاد الأبدان وما وصفت به الجنة والنار يجعل ذلك مشكلا أيضا ومنكر القدر يجعل ما يثبت أن الله خالق كل شيء وما شاء كان مشكلا دون آيات الأمر والنهى والوعد والوعيد والخائض في القدر بالجبر يجعل نصوص الوعيد بل ونصوص الأمر والنهى مشكلة فقد يستشكل كل فريق ما لا يستشكله غيره ثم يقول فيما يستشكله إن معاني نصوصه لم يبينها الرسول
ثم منهم من يقول لم يعلم معانيها أيضا ومنهم من يقول بل علمها ولم يبينها بل أحال في بيانها على الأدلة العقلية وعلى من يجتهد في العلم بتأويل تلك النصوص فهم مشتركون في أن الرسول لم يعلم أو لم يعلم بل جهل معناها أو جهلها الأمة من غير أن يقصد أن يعتقدوا الجهل المركب
وأما أولئك فيقولون بل قصد أن يعلمهم الجهل المركب والإعتقادات الفاسدة وهؤلاء مشهورون عند الأمة بالإلحاد والزندقة بخلاف اولئك فإنهم يقولون الرسول لم يقصد أن يجعل أحدا جاهلا معتقدا للباطل ولكن أقوالهم تتضمن أن الرسول لم يبين الحق فيما خاطب به الأمة من الآيات والأحاديث إما مع كونه لم يعلمه أو مع كونه علمه ولم يبينه
(1/17)
ولهذا قال الإمام أحمد في خطبته فيما صنفه من الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله قال الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس واقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين
(1/18)
ويروى نحو هذه الخطبة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما ذكر ذلك محمد بن وضاح في كتاب الحوادث والبدع
فقد وصفوا في هذا الكلام بأنهم مع اختلافهم في الكتاب فهم كلهم مخالفون له وهم مشتركون في مفارقته يتكلمون بالكلام المتشابه ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم حيث لبسوا الحق بالباطل
وجماع الأمر أن الأدلة نوعان شرعية وعقلية فالمدعون لمعرفة الإلهيات بعقولهم من المنتسبين إلى الحكمة والكلام والعقليات يقول من يخالف نصوص الأنبياء منهم إن الأنبياء لم يعرفوا الحق الذي عرفناه أو يقولون عرفوه ولم يبينوه للخلق كما بيناه بل تكلموا بما يخالفه من غير بيان منهم والمدعون للسنة والشريعة واتباع السلف من الجهال بمعاني نصوص الأنبياء يقولون إن الأنبياء والسلف الذين اتبعوا الأنبياء لم يعرفوا معاني هذه النصوص التي قالوها والتي بلغوها عن الله أو إن الأنبياء عرفوا معانيها ولم يبينوا مرادهم للناس فهؤلاء الطوائف قد يقولون نحن عرفنا الحق بعقولنا ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على ما يوافق مدلول العقل وفائدة إنزال هذه المتشابهات المشكلات اجتهاد
(1/19)
الناس في أن يعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في تأويل كلام الأنبياء الذين لم يبينوا به مرادهم أو أنا عرفنا الحق بعقولنا وهذه النصوص لم تعرف الأنبياء معناها كما لم يعرفوا وقت الساعة ولكن أمرنا بتلاوتها من غير تدبر لها ولا فهم لمعانيها أو يقولون بل هذه الأمور لا تعرف بعقل ولا نقل بل نحن منهيون عن معرفة العقليات وعن فهم السمعيات وإن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات ولا يفهمون السمعيات فصل
ولما كان بيان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي وامتناع تقديم ذلك على نصوص الأنبياء بينا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر إذ كان أي دليل أقيم على بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلى القاطع ناقضه بل يصير ذلك قدحا في الرسول وقدحا فيمن استدل بكلامه وصار هذا بمنزلة المريض الذي به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء فإن الغذاء لا ينفعه مع وجود الأخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع على نفي الصفات أو بعضها أو نفي عموم خلقه لكل شيء أو نفي أمره ونهيه أو امتناع المعاد
(1/20)
أو غير ذلك لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة إلا مع بيان فساد ذلك المعارض
وفساد ذلك المعارض قد يعلم جملة وتفصيلا
أما الجملة فإنه من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما وعلم مراد الرسول قطعا تيقن ثبوت ما أخبر به وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية كما قال تعالى { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } سورة الشورى 16
وأما التفصيل فبعلم فساد تلك الحجة المعارضة وهذا الأصل نقيض الأصل الذي ذكره طائفة من الملحدين كما ذكره الرازي في أول كتابه نهاية العقول حيث ذكر أن الإستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال لأن الإستدلال بها موقوف على مقدمات ظنية وعلى دفع المعارض العقلي وإن العلم بإنتفاء المعارض لا يمكن إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقل يناقض ما دل عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع
(1/21)
وقد بسطنا الكلام على ما زعمه هؤلاء من أن الإستدلال بالأدلة السمعية موقوف على مقدمات ظنية مثل نقل اللغة والنحو والتصريف ونفي المجاز والإضمار والتخصيص والإشتراك والنقل والمعارض العقلي بالسمعي وقد كنا صنفنا في فساد هذا الكلام مصنفا قديما من نحو ثلاثين سنة وذكرنا طرفا من بيان فساده في الكلام على المحصل وفي غير ذلك
فذاك كلام في تقرير الأدلة السمعية وبيان أنها قد تفيد اليقين والقطع وفي هذا الكتاب كلام في بيان انتفاء المعارض العقلي وإبطال قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقا
وقد بينا في موضع آخر أن الرسول بلغ البلاغ المبين وبين مراده وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه إنه يحتاج إلى التأويل الإصطلاحي الخاص الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره فلا بد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل ويسكت عن بيان مراد الحق ولا يجوز أن يريد من الخلق أن
(1/22)
يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه لإمكان معرفة ذلك بعقولهم وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين الذي هدى الله به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلى النور وفرق الله به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال وبين الرشاد والغي وبين أولياء الله وأعدائه وبين ما يستحقه الرب من الأسماء والصفات وما ينزه عنه من ذلك حتى أوضح الله به السبيل وأنار به الدليل وهدى به الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
فمن زعم أنه تكلم بما لا يدل إلا على الباطل لا على الحق ولم يبين مراده وأنه أراد بذلك اللفظ المعنى الذي ليس بباطل وأحال الناس في معرفة المراد على ما يعلم من غير جهته بآرائهم فقد قدح في الرسول كما نبهنا على ذلك في مواضع كيف والرسول أعلم الخلق بالحق وأقدر الناس على بيان الحق وأنصح الخلق للخلق وهذا يوجب أن يكون بيانه للحق أكمل من بيان كل أحد
فإن ما يقوله القائل ويفعله الفاعل لا بد فيه من قدرة وعلم وإرادة فالعاجز عن القول أو الفعل يمتنع صدور ذلك عنه والجاهل بما يقوله ويفعله لا يأتي بالقول المحكم والفعل المحكم وصاحب الإرادة الفاسدة لا يقصد الهدى والنصح والصلاح فإذا كان المتكلم عالما بالحق قاصدا لهدى الخلق قصدا تاما قادرا على ذلك وجب وجود مقدوره ومحمد صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق وهو أفصح الخلق لسانا وأصحهم بيانا وهو أحرص الخلق على هدى العباد كما قال
(1/23)
تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } سورة التوبة 128 وقال { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } سورة النحل 37 وقد أوجب الله عليه البلاغ المبين وأنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما نزل إليهم فلا بد أن يكون بيانه وخطابه وكلامه أكمل وأتم من بيان غيره فكيف يكون مع هذا لم يبين الحق بل بينه من قامت الأدلة الكثيرة على جهله ونقص علمه وعقله وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
ولما كان ما يقوله كثير من الناس في باب أصول الدين والكلام والعلوم العقلية والحكمة يعلم كل من تدبره أنه مخالف لما جاء به الرسول أو أن الرسول لم يقل مثل هذا واعتقد من اعتقد أن ذلك من أصول الدين وأنه يشتمل على العلوم الكلية والمعارف الإلهية والحكمة الحقيقية أو الفلسفة الأولية صار كثير منهم يقول إن الرسول لم يكن يعرف أصول الدين أو لم يبين أصول الدين ومنهم من هاب النبي ولكن يقول الصحابة والتابعون لم يكونوا يعرفون ذلك ومن عظم الصحابة والتابعين مع تعظيم أقوال هؤلاء يبقى حائرا كيف لم يتكلم أولئك الأفاضل في هذه الأمور التي هي أفضل العلوم ومن هو مؤمن بالرسول معظم له يستشكل كيف لم يبين أصول الدين مع أن الناس إليها أحوج منهم إلى غيرها
(1/24)
ولما كنت بالديار المصرية سألني من سألني من فضلائها عن هذه المسألة فقالوا في سؤالهم إن قال قائل هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين وإن لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كلام أم لا
فإن قيل بالجواز فما وجهه وقد فهمنا منه عليه الصلاة والسلام النهى عن الكلام في بعض المسائل
وإذا قيل بالجواز فهل يجب ذلك وهل نقل عنه عليه الصلاة والسلام ما يقتضي وجوبه
وهل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أو لا بد من الوصول إلى القطع
وإذا تعذر عليه الوصول إلى القطع فهل يعذر في ذلك أو يكون مكلفا به وهل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق والحالة هذه أم لا
(1/25)
وإذا قيل بالوجوب فما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على هدى أمته فأجبت الحمدلله رب العالمين أما المسألة الأولى
فقول السائل هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين وإن لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كلام أم لا
سؤال ورد بحسب ما عهد من الأوضاع المبتدعة الباطلة فإن المسائل التي هي من أصول الدين التي تستحق أن تسمى أصول الدين أعنى الدين الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه لا يجوز أن يقال لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كلام بل هذا كلام متناقض في نفسه إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين وأنها مما يحتاج إليه الدين ثم نفى نقل الكلام فيها عن الرسول يوجب أحد أمرين إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة التي يحتاج إليها الدين فلم يبينها أو أنه بينها فلم تنقلها الأمة
(1/26)
وكلا هذين باطل قطعا وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين وإنما يظن هذا وأمثاله من هو جاهل بحقائق ما جاء به الرسول أو جاهل بما يعقله الناس بقلوبهم أو جاهل بهما جميعا فإن جهله بالأول يوجب عدم علمه بما اشتمل عليه ذلك من أصول الدين وفروعه وجهله بالثاني يوجب أن يدخل في الحقائق المعقولة ما يسميه هو وأشكاله عقليات وإنما هي جهليات وجهله بالامرين يوجب أن يظن من أصول الدين ما ليس منها من المسائل والوسائل الباطلة وأن يظن عدم بيان الرسول لما ينبغي أن يعتقد في ذلك كما هو الواقع لطوائف من أصناف الناس حذاقهم فضلا عن عامتهم
وذلك أن أصول الدين إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها ويجب أن تذكر قولا أو تعمل عملا كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد أو دلائل هذه المسائل
أما القسم الأول فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته وإعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بيانا شافيا قاطعا للعذر إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين وبينه للناس وهو من أعظم ما أقام الله الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه وكتاب الله الذي نقل الصحابة ثم التابعون عن الرسول لفظه ومعانيه والحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نقلوها أيضا عن الرسول مشتملة من ذلك على غايه المراد وتمام
(1/27)
الواجب والمستحب والحمدلله الذي بعث فينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا الذي أنزل الكتاب تفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } سورة يوسف 111
وإنما يظن عدم اشتمال الكتاب والحكمة على بيان ذلك من كان ناقصا في عقله وسمعه ومن له نصيب من قول أهل النار الذين قالوا { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } سورة الملك 10 وإن كان ذلك كثيرا في كثير من المتفلسفة والمتكلمة وجهال أهل الحديث والمتفقهة والصوفية
وأما القسم الثاني وهو دلائل هذه المسائل الأصولية فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين أو المتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق فدلالته موقوفة على العلم بصدق المخبر ويجعلون ما يبنى عليه صدق المخبر معقولات محضة فقد غلطوا في ذلك غلطا عظيما بل ضلوا ضلالا مبينا في ظنهم أن دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطرق الخير المجرد بل الأمر ما عليه سلف الأمة أهل العلم والإيمان من أن الله سبحانه وتعالى بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في بذلك العلم مالا يقدر أحد من هؤلاء قدره ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه
(1/28)
وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه التي قال فيها { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } سورة الزمر 27 فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية سواء كانت قياس شمول أو قياس تمثيل ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين وهو القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية وإن كان لفظ البرهان في اللغة أعم من ذلك كما سمى الله آيتي موسى برهانين { فذانك برهانان من ربك } سورة القصص 32
ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوى فيه الأصل والفرع ولا بقياس شمولي تستوى فيه أفراده فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء فلا يجوز أن يمثل بغيره ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها
ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين بل تناقضت أدلتهم وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والإضطراب لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى سواء كان تمثيلا أو شمولا كما قال تعالى { ولله المثل الأعلى } سورة النحل 60 مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه وهو ما كان كمالا للموجود غير مستلزم للعدم فالواجب القديم أولى به وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت
(1/29)
نوعه للمخلوق المربوب المعلول المدبر فإنما استفاد من خالقه وربه ومدبره فهو أحق به منه وأن كل نقص وعيب في نفسه وهو ماتضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن شيء ما من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات فإنه يجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولى وأنه أحق بالأمور الوجودية من كل موجود وأما الأمور العدمية فالممكن المحدث بها أحق ونحو ذلك
ومثل هذه الطرق هي التي كان يستعملها السلف والأئمة في مثل هذه المطالب كما استعمل نحوها الإمام أحمد ومن قبله وبعده من أئمة أهل الإسلام وبمثل ذلك جاء القرآن في تقرير أصول الدين في مسائل التوحيد والصفات والمعاد ونحو ذلك
ومثال ذلك أنه سبحانه لما أخبر بالمعاد والعلم به تابع للعلم بإمكانه فإن الممتنع لا يجوز أن يكون بين سبحانه إمكانه أتم بيان ولم يسلك في ذلك ما يسلكه طوائف من أهل الكلام حيث يثبتون الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني فيقولون هذا ممكن لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال فإن الشأن في هذه المقدمة فمن أين يعلم أنه لا يلزم من تقدير وجوده محال فإن هذه قضية كلية سالبة فلا بد من العلم بعموم هذا النفى
(1/30)
وما يحتج به بعضهم على أن هذا ممكن بأنا لا نعلم امتناعه كما نعلم امتناع الأمور الظاهر امتناعها مثل كون الجسم متحركا ساكنا فهذا كاحتجاج بعضهم على أنها ليست بديهية بأن غيرها من البديهيات أجلى منها وهذه حجة ضعيفة لأن البديهي هو ما إذا تصور طرفاه جزم العقل به والمتصوران قد يكونان خفيين فالقضايا تتفاوت في الجلاء والخفاء لتفاوت تصورها كما تتفاوت لتفاوت الأذهان وذلك لا يقدح في كونها ضرورية ولا يوجب أن ما لم يظهر امتناعه يكون ممكنا بل قول هؤلاء أضعف لأن الشيء قد يكون ممتنعا لأمور خفية لازمة له فما لم يعلم انتفاء تلك اللوازم أو عدم لزومها لا يمكن الجزم بإمكانه والمحال هنا أعم من المحال لذاته أو لغيره والإمكان الذهنى حقيقته عدم العلم بالامتناع وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بالإمكان الخارجى بل يبقى الشىء في الذهن غير معلوم الامتناع ولا معلوم الإمكان الخارجى وهذا هو الإمكان الذهني فإن الله سبحانه وتعالى لم يكتف في بيان إمكان المعاد بهذا إذ يمكن أن يكون الشيء ممتنعا ولو لغيره وإن لم يعلم الذهن إمتناعه بخلاف الإمكان الخارجي فإنه إذا علم بطل أن يكون ممتنعا
والإنسان يعلم الإمكان الخارجي تارة بعلمه بوجود الشيء وتارة
(1/31)
بعلمه بوجود نظيره وتارة بعلمه بوجود ما الشيء أولى بالوجود منه فإن وجود الشيء دليل على أن ما هو دونه أولى بالإمكان منه ثم إنه إذا تبين كون الشيء ممكنا فلا بد من بيان قدرة الرب عليه وإلا فمجرد العلم بإمكانه لا يكفى في إمكان وقوعه إن لم يعلم قدرة الرب على ذلك فبين سبحانه هذا كله بمثل قوله { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا } سورة الإسراء 99 وقوله { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } سورة يس 81 قوله { أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير } سورة الأحقاف 33 وقوله { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } سورة غافر 57 فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم والقدرة عليه أبلغ وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك
وكذلك استدلاله على ذلك بالنشأة الأولى في مثل قوله { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } سورة الروم 27 ولهذا قال بعد ذلك
(1/32)
{ وله المثل الأعلى في السماوات والأرض } سورة الروم 27 وقال { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم } سورة الحج 5
وكذلك ما ذكر في قوله { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } الآيات يس 78 82 فإن قول الله تعالى { من يحيي العظام وهي رميم } قياس حذفت إحدى مقدمتيه لظهورها والأخرى سالبة كلية قرن معها دليلها وهو المثل المضروب الذى ذكره بقوله { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } وهذا استفهام إفكار متضمن للنفى أى لا أحد يحي العظام وهى رميم فإن كونها رميما يمنع عنده إحياءها لمصيرها إلى الحال اليبس والبرودة المنافية للحياة التي مبناها على الحرارة والرطوبة ولتفرق أجزائها واختلاطها بغيرها ولنحو ذلك من الشبهات
والتقدير هذه العظام رميم ولا أحد يحي العظام وهى رميم فلا أحد يحييها ولكن هذه السالبة كاذبة ومضمونها امتناع الإحياء فبين سبحانه إمكانه من وجوه ببيان إمكان ما هو أبعد من ذلك وقدرته عليه فقال { يحييها الذي أنشأها أول مرة } وقد أنشأها من التراب ثم قال { وهو بكل خلق عليم } سورة يس 79 ليبين علمه بما تفرق من الأجزاء أو استحال ثم قال { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا } سورة يس 80 فبين أنه أخرج النار الحارة
(1/33)
اليابسة من البارد الرطب وذلك أبلغ فى المنافاة لأن اجتماع الحرارة والرطوبة أيسر من اجتماع الحرارة واليبوسة إذ الرطوبة تقبل من الانفعال ما لا تقبله اليبوسة ولهذا كان تسخين الهواء والماء أيسر من تسخين التراب وإن كانت النار نفسها حارة يابسة فإنها جسم بسيط واليبس ضد الرطوبة والرطوبة يعنى بها البلة كرطوبة الماء ويعنى بها سرعة الإنفعال فيدخل في ذلك الهواء فكذلك يعنى باليبس عدم البلة فتكون النار يابسلة ويراد باليبس بطء الشكل والانفعال فيكون التراب يابسا دون النار فالتراب فيه اليبس بالمعنيين بخلاف النار لكن الحيوان الذي فيه حرارة ورطوبة يكون من العناصر الثلاثة التراب والماء والهواء
وأما الجزء النارى فللناس فيه قولان قيل فيه حرارة نارية وإن لم يكن فيه جزء من النار وقيل بل فيه جزء من النار
وعلى كل تقدير فتكون الحيوان من العناصر أولى بالإمكان من تكون النار من الشجر الأخضر فالقادر على أن يخلق من الشجر الأخضر نارا أولى بالقدرة أن يخلق من التراب حيوانا فإن هذا معتاد وإن كان ذلك بما يضم إليه من الأجزاء الهوائية والمائية والمقصود الجمع فى المولدات ثم قال { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } سورة يس 81
وهذه مقدمة معلومة بالبداهة ولهذا جاء فيها بإستفهام التقرير الدال على أن ذلك
(1/34)
مستقر معلوم عند المخاطب كما قال سبحانه { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } سورة الفرقان 33 ثم بين قدرته العامة بقوله { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سور يس 82
وفى هذا الموضع وغيره من القرآن من الأسرار وبيان الأدلة القطعية على المطالب الدينية ما ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه
وكذلك ما استعمله سبحانه في تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة سواء سموها حسية أو عقلية كما تزعمه النصارى من تولد الكلمة التى جعلوها جوهر الابن منه وكما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التى هم مضطربون فيها هل هي جواهر أو أعراض وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوس بمنزلة الإناث ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة وعلمهم بالنفوس أظهر لوجود الحركة الدورية الدالة على الحركة الإرادية الدالة على النفس المحركة لكن أكثرهم يجعلون النفوس الفلكية عرضا لا جوهرا قائما بنفسه وذلك شبيه بقول مشركى العرب وغيرهم الذين جعلوا له بنين وبنات قال تعالى { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون } سورة الأنعام 100 وقال تعالى { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون } سورة الصافات 151 152
(1/35)
وكانوا يقولون الملائكة بنات الله كما يزعم هؤلاء أن العقول أو العقول والنفوس هى الملائكة وهى متولدة عن الله قال تعالى { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } إلى قوله { ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون } سورة النحل 57 62
وقال تعالى { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون } سورة الزخرف 16 19 وقال تعالى { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى } سورة النجم 19 22 أي جائرة وغير ذلك في القرآن
فبين سبحانه أن الرب الخالق أولى بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم فكيف تجعلون له ما تكرهون ان يكون لكم وتستحيون من إضافته إليكم مع
(1/36)
أن ذلك واقع لا محالة ولا تنزهونه عن ذلك وتنفونه عنه وهو أحق بنفى المكروهات المنقصات منكم
وكذلك قوله في التوحيد { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } سورة الروم 28 أى كخيفة بعضكم بعضا كما في قوله { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } سورة البقرة 85 وفي قوله { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } سورة النور 12 وفي قوله { ولا تلمزوا أنفسكم } سورة الحجرات 11 وفي قوله { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } سورة البقرة 54 وفي قوله { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } إلى قوله { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } سورة البقرة 84 85 فإن المراد في هذا كله من نوع واحد
فبين سبحانه أن المخلوق لا يكون مملوكه شريكه في ماله حتى يخاف مملوكه كما يخاف نظيره بل تمتنعون أن يكون المملوك لكم نظيرا فكيف ترضون أن تجعلوا ما هو مخلوقى ومملوكى شريكا لى يدعى ويعبد كما أدعى وأعبد كما كانوا يقولون فى تلبيتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك
(1/37)
وهذا باب واسع عظيم جدا ليس هذا موضعه
وإنما الغرض التنبيه على أن فى القرآن والحكمة النبوية عامة أصول الدين من المسائل والدلائل التى تستحق أن تكون أصول الدين
وأما ما يدخله بعض الناس فى هذا المسمى من الباطل فليس ذلك من أصول الدين وإن أدخله فيه مثل المسائل والدلائل الفاسدة مثل نفى الصفات والقدر ونحو ذلك من المسائل ومثل الإستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض التى هى صفات الأجسام القائمة بها إما الأكوان وإما غيرها
وتقرير المقدمات التى يحتاج إليها هذا الدليل من إثبات الأعراض التى هى الصفات أولا أو إثبات بعضها كالألوان التى هى الحركة والسكون والإجتماع والإفتراق وإثبات حدوثها ثانيا بإبطال ظهورها بعد الكمون وإبطال إنتقالها من محل إلى محل ثم إثبات امتناع خلو الجسم ثالثا إما عن كل جنس من أجناس الأعراض بإثبات أن الجسم قابل لها وأن القابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده وإما عن الأكوان وإثبات امتناع حوادث لا أول لها رابعا
(1/38)
وهو مبنى على مقدمتين إحداهما أن الجسم لا يخلو عن الأعراض التي هى الصفات والثانية أن ما لا يخلو عن الصفات التى هى الأعراض فهو محدث لأن الصفات التى هى الأعراض لا تكون إلا محدثة وقد يفرضون ذلك في بعض الصفات التي هي الأعراض كالأكوان وما لا يخلو عن جنس الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا تتناهى
فهذه الطريقة مما يعلم بالإضطرار أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلى الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه ولهذا قد اعترف حذاق أهل الكلام كالأشعرى وغيره بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم ولا سلف الأمة وأئمتها وذكروا أنها محرمة عندهم بل المحققون على أنها طريقة باطلة وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعى بها مطلقا ولهذا تجد من اعتمد عليها في أصول دينه فأحد الأمرين لازم له إما أن يطلع على ضعفها ويقابل بينها وبين أدلة القائلين بقدم العالم فتتكافأ عنده الأدلة أو يرجح هذا تارة وهذا تارة كما هو حال طوائف منهم وإما أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل كما التزم جهم لأجلها فناء الجنة والنار والتزم لأجلها
(1/39)
أبو الهذيل انقطاع حركات أهل الجنة والتزم قوم لأجلها كالأشعرى وغيره أن الماء والهواء والتراب والنار له طعم ولون وريح ونحو ذلك والتزم قوم لأجلها ولأجل غيرها أن جميع الأعراض كالطعم واللون وغيرهما لا يجوز بقاؤها بحال لأنهم احتاجوا إلى جواب النقض الوارد عليهم لما أثبتوا الصفات لله مع الاستدلال على حدوث الأجسام بصفاتها فقالوا صفات الأجسام أعراض أى أنها تعرض فتزول فلا تبقى بحال بخلاف صفات الله فإنها باقية
وأما ما اعتمد عليه طائفة منهم من أن العرض لو بقى لم يمكن عدمه لأن عدمه إما أن يكون بإحداث ضد أو بفوات شرط أو اختيار الفاعل وكل ذلك ممتنع فهذه العمدة لا يختارها آخرون منهم بل يجوزون أن الفاعل المختار يعدم الموجود كما يحدث المعدوم ولا يقولون إن عدم الأجسام لا يكون إلا بقطع الأعراض عنها كما قاله أولئك ولا بخلق ضد هو الفناء لا فى محل كما قاله من قاله من المعتزلة
(1/40)
وأما جمهور عقلاء بني آدم فقالوا هذه مخالفة للمعلوم بالحس
والتزم طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم لأجلها نفى صفات الرب مطلقا أو نفى بعضها لأن الدال عندهم على حدوث هذه الأشياء هو قيام الصفات بها والدليل يجب طرده فالتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به وهو أيضا في غاية الفساد والضلال ولهذا التزموا القول بخلق القرآن وإنكار رؤية الله في الآخرة وعلوه على عرشه إلى أمثال ذلك من اللوازم التى التزمها من طرد مقدمات هذه الحجة التي جعلها المعتزلة ومن اتبعهم أصل دينهم
فهذه داخلة فيما سماه هؤلاء أصول الدين ولكن ليست في الحقيقة من أصول الدين الذى شرعه الله لعباده
وأما الدين الذى قال الله فيه { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } سورة الشورى 21 فذاك له أصول وفروع بحسبه
وإذا عرف أن مسمى أصول الدين في عرف الناطقين بهذا الإسم فيه إجمال وإبهام لما فيه من الاشتراك بحسب الأوضاع والاصطلاحات تبين أن الذى هو عند الله ورسوله وعباده المؤمنين أصول الدين فهو موروث عن الرسول
وأما من شرع دينا لم يأذن به الله فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو باطل وملزوم الباطل باطل
(1/41)
كما أن لازم الحق حق والدليل ملزوم لمدلوله فمتى ثبت ثبت مدلوله ومتى وجد الملزوم وجد اللازم ومتى انتفى اللازم انتفى الملزوم والباطل شىء وإذا انتفى لازم الشىء علم أنه منتف فيستدل على بطلان الشى ببطلان لازمه ويستدل على ثبوته بثبوت ملزومه فإذا كان اللازم باطلا فالملزوم مثله باطل وقد يكون اللازم خفيا ولا يكون الملزوم خفيا وإذا كان الملزوم خفيا كان اللازم خفيا وقد يكون الملزوم باطلا ولا يكون اللازم باطلا فلهذا قيل إن ملزوم الباطل باطل فإن ملزوم الباطل هو ما استلزم الباطل فالباطل هو اللازم وإذا كان اللازم باطلا كان الملزوم باطلا لأنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ولم يقل إن الباطل لازمه باطل
وهذا كالمخلوقات فإنها مستلزمة لثبوت الخالق ولا يلزم من عدمها عدم الخالق والدليل أبدا يستلزم المدلول عليه يجب طرده ولا يجب عكسه بخلاف الحد فإنه يجب طرده وعكسه
وأما العلة فالعلة التامة يجب طردها بخلاف المقتضية وفي العكس تفصيل مبسوط في موضعه
وهذا التقسيم ينبه أيضا على مراد السلف والأئمة بذم الكلام وأهله إذ ذاك متناول لمن استدل بالأدلة الفاسدة أو استدل على المقالات الباطلة
(1/42)
فأما من قال الحق الذى أذن الله فيه حكما ودليلا فهو من أهل العلم والإيمان { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } سورة الأحزاب 4
وأما مخاطبة أهل الإصطلاح بإصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعانى صحيحة كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم فإن هذا جائز حسن للحاجة وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص وكانت صغيرة فولدت بأرض الحبشة لأن أباها كان من المهاجرين إليها فقال لها يا أم خالد هذا سنا والسنا بلسان الحبشة الحسن لأنها كانت من أهل هذه اللغة
ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم ويترجمها بالعربية
(1/43)
كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك حيث لم يأتمن اليهود عليه
فالسلف والأئمة لم يذموا الكلام لمجرد ما فيه من الإصطلاحات المولدة كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك بل لأن المعانى التى يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم فى الأدلة والأحكام ما يجب النهى عنه لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة فى النفي والإثبات كما قال الإمام أحمد فى وصفه لأهل البدع فقال هم مختلفون فى الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم
فإذا عرفت المعانى التى يقصدونها بأمثال هذه العبارات ووزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت الحق الذى أثبته الكتاب والسنة وينفى الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كان ذلك هو الحق بخلاف ما سلكه أهل الأهواء
(1/44)
من التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا فى الوسائل والمسائل من غير بيان التفصيل والتقسيم الذى هو من الصراط المستقيم وهذا من مثارات الشبه
فإنه لا يوجد فى كلام النبى صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة والتابعين ولا أحد من الأئمة المتبوعين أنه علق بمسمى لفظ الجوهر والجسم والتحيز والعرض ونحو ذلك شيئا من أصول الدين لا الدلائل ولا المسائل
والمتكلمون بهذه العبارات يختلف مرادهم بها تارة لاختلاف الوضع وتارة لاختلافه فى المعنى الذى هو مدلول اللفظ كمن يقول الجسم هو المؤلف ثم يتنازعون هل هو الجوهر الواحد بشرط تأليفه أو الجوهران فصاعدا أو الستة أو الثمانية أو غير ذلك ومن يقول هو الذى يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه وإنه مركب من المادة والصورة ومن يقول هو الموجود أو يقول هو الموجود القائم بنفسه أو يقول هو الذى يمكن الإشارة إليه وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا كذلك
والسلف والأئمة الذين ذموا وبدعوا الكلام في الجوهر والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل المعانى التى يقصدها هؤلاء بهذه الألفاظ فى أصول الدين فى دلائله وفى مسائله نفيا وإثباتا فأما إذا عرفت المعانى الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة وعبر عنها لمن يفهم بهذه الألفاظ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء
(1/45)
وما خالفه فهذا عظيم المنفعة وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } سورة البقرة 213 وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم وذلك يحتاج إلى معرفة معاني الكتاب والسنة ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم ثم اعتبار هذه المعاني بهذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف
وأما قول السائل فإن قيل بالجواز فما وجهه وقد فهمنا منه عليه الصلاة والسلام النهى عن الكلام في بعض المسائل
فيقال قد تقدم الإستفسار والتفصيل في جواب السؤال وأن ما هو في الحقيقة أصول الدين الذي بعث الله به رسوله فلا يجوز أن ينهى عنه بحال بخلاف ما سمى أصول الدين وليس هو أصولا في الحقيقة لا دلائل ولا مسائل أو هو أصول لدين لم يشرعه الله بل شرعه من شرع من الدين ما لم يأذن به الله
وأما ما ذكره السائل من نهيه فالذي جاء به الكتاب والسنة النهى عن أمور منها القول على الله بلا علم كقوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } سورة الأعراف 33 وقوله { ولا تقف ما ليس لك به علم } سورة الإسراء 36
(1/46)
ومنها أن يقال على الله غير الحق كقوله { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } سورة الأعراف 169 وقوله { لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } سورة النساء 171
ومنها الجدل بغير علم كقوله تعالى { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } سورة آل عمران 66
ومنها الجدل في الحق بعد ظهوره كقوله تعالى { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } سورة الأنفال 6
ومنها الجدل بالباطل كقوله { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } سورة غافر 5
ومنها الجدل في آياته كقوله تعالى { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } سورة غافر 4 وقوله { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا } سورة غافر 35 وقال تعالى { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } سورة غافر 56 وقوله { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } سورة الشورى 35 ونحو ذلك قوله { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم } سورة الشورى 16
(1/47)
وقوله { وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال } سورة الرعد 13 وقوله { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } سورة الحج 8
ومن الأمور التي نهى الله عنها في كتابه التفرق والإختلاف كقوله { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } إلى قوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } سورة آل عمران 103 106 قال ابن عباس تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة وقال تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله } سورة الأنعام 159 وقال تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } إلى قوله { ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } سورة الروم 30 32
وقد ذم أهل التفرق والإختلاف في مثل قوله تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } سورة آل عمران 19 وفي مثل
(1/48)
قوله تعالى { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } سورة هود 119 وفي مثل قوله { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } سورة البقرة 176
وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم توافق كتاب الله كالحديث المشهور عنه الذي روى مسلم بعضه عن عبدالله بن عمرو وسائره معروف في مسند أحمد وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتناظرون في القدر ورجل يقول ألم يقل الله كذا ورجل يقول ألم يقل الله كذا فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال أبهذا أمرتم إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا لا ليكذب بعضه بعضا انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه هذا
(1/49)
الحديث أو نحوه وكذلك قوله المراء في القرآن كفر وكذلك ما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ قوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } سورة آل عمران 7 فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم
وأما أن يكون الكتاب والسنة نهيا عن معرفة المسائل التي تدخل فيما يستحق أن يكون من أصول الدين فهذا لا يجوز اللهم إلا أن ينهيا عن بعض ذلك في بعض الأحوال مثل مخاطبة شخص بما يعجز عن فهمه فيضل كقول عبدالله بن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديث لاتبلغه عقولهم إلا كان
(1/50)
فتنة لبعضهم وكقول علي حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله أو مثل قول حق يستلزم فسادا أعظم من تركه فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان رواه مسلم
وأما قول السائل إذا قيل بالجواز فهل يجب وهل نقل عنه عليه السلام ما يقتضى وجوبه
فيقال لا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانا عاما مجملا ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه وعلم الكتاب والحكمة وحفظ الذكر والدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين فهذا واجب على الكفاية منهم
(1/51)
وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم وما أمر به أعيانهم فلا يحب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك ويجب على من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها ويجب على المفتى والمحدث والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك
وأما قوله هل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أولا بد من الوصول إلى القطع
فيقال الصواب في ذلك التفصيل فإنه وإن كان طوائف من أهل الكلام يزعمون أن المسائل الخبرية التي قد يسمونها مسائل الأصول يجب القطع فيها جميعها ولا يجوز الإستدلال فيها بغير دليل يفيد اليقين وقد يوجبون القطع فيها كلها على كل أحد فهذا الذي قالوه على إطلاقه وعمومه خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ثم هم مع ذلك من أبعد الناس عما أوجبوه فإنهم كثيرا ما يحتجون فيها بالأدلة التي يزعمونها قطعيات وتكون في الحقيقة من الأغلوطات فضلا عن أن تكون من الظنيات حتى إن الشخص الواحد منهم كثيرا ما يقطع بصحة حجة في موضع ويقطع ببطلانها في موضع
(1/52)
آخر بل منهم من عامة كلامه كذلك وحتى قد يدعى كل من المتناظرين العلم الضروري بنقيض ما ادعاه الآخر
وأما التفصيل فما أوجب الله فيه العلم واليقين وجب فيه ما أوجبه الله من ذلك كقوله { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } سورة المائدة 98 وقوله { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } سورة محمد 19 وكذلك يجب الإيمان بما أوجب الله الإيمان به وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلق باستطاعة العبد كقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } سورة التغابن 16 وقوله عليه السلام إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم أخرجاه في الصحيحين
فإذا كان كثير مما تنازعت فيه الأمة من هذه المسائل الدقيقة قد يكون عند كثير من الناس مشتبها لا يقدر فيه على دليل يفيد اليقين لا شرعي ولا غيره لم يجب على مثل هذا في ذلك ما لا يقدر عليه وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قول غالب على ظنه لعجزه عن تمام اليقين بل ذلك هو الذي يقدر عليه لا سيما إذا كان مطابقا للحق فالإعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبه ويثاب عليه ويسقط به الفرض إذا لم يقدر على أكثر منه
(1/53)
لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول وترك النظر والإستدلال الموصل إلى معرفته فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا كما قال تعالى { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } سورة الأعراف 35 وقوله { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } سورة طه 123 124 قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية
وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها ستكون فتن قلت فما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله
(1/54)
فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء
وفي رواية ولا تختلف به الآراء هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد } سورة الجن 2 3 من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم
وقال تعالى { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } سورة الأنعام 153 وقال تعالى { المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء }
(1/55)
سورة الأعراف 1 3 وقال { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون } سورة الأنعام 155 157 فذكر سبحانه أنه يجزى الصادف عن آياته مطلقا سواء كان مكذبا أو لم يكن سوء العذاب بما كانوا يصدفون يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر سواء اعتقد كذبه أو استكبر عن الإيمان به أو أعرض عنه اتباعا لما يهواه أو ارتاب فيما جاء به فكل مكذب بما جاء به فهو كافر وقد يكون كافرا من لا يكذبه إذا لم يؤمن به
ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك إتباع ما أنزله وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين
قال تعالى { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون } سورة الأحقاف 26 وقال تعالى { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون }
(1/56)
سورة غافر 83 85 وقال { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا } سورة غافر 35 وفي الآية الأخرى { إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير } سورة غافر 56
والسلطان هو الحجة المنزلة من عندالله كما قال تعالى { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } سورة الروم 35 وقال تعالى { أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } سورة الصافات 156 157 وقال { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } سورة النجم 23
وقد طالب الله تعالى من اتخذ دينا بقوله { ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } سورة الأحقاف 4 فالكتاب هو الكتاب والأثارة كما قال من قال من السلف هي الرواية والإسناد
(1/57)
وقالوا هي الخط أيضا إذ الرواية والإسناد يكتب بالخط وذلك لأن الأثارة من الأثر فالعلم الذي يقوله من يقبل قوله يؤثر بالإسناد ويقيد ذلك بالخط فيكون ذلك كله من آثاره
وقد قال تعالى في نعت المنافقين { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } سورة النساء 60 63
وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب وغير ذلك من أنواع الإعتبار
(1/58)
فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلا أو لتعديه حدود الله بسلوك السبيل التي نهى عنها أو لإتباع هواه بغير هدى من الله فهو الظالم لنفسه وهو من أهل الوعيد بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنا وظاهرا الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله فهذا مغفور له خطؤه كما قال تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا } إلى قوله { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } سورة البقرة 285 286 وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال قد فعلت وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطى ذلك فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا
وأما قول السائل هل ذلك من باب تكليف مالا يطاق والحال هذه
(1/59)
فيقال هذه العبارة وإن كثر تنازع الناس فيها نفيا وإثباتا فينبغي أن يعرف أن الخلاف المحقق فيها نوعان
أحدهما ما اتفق الناس على جوازه ووقوعه وإنما تنازعوا في إطلاق القول عليه بأنه لا يطاق
والثاني ما اتفقوا على أنه لا يطاق لكن تنازعوا في جواز الأمر به ولم يتنازعوا في عدم وقوعه
فأما أن يكون أمر اتفق أهل العلم والإيمان على أنه لا يطاق وتنازعوا في وقوع الأمر به فليس كذلك
فالنوع الأول كتنازع المتكلمين من مثبتة القدر ونفاته في استطاعة العبد وهي قدرته وطاقته هل يجب أن تكون مع الفعل لا قبله أو يجب أن تكون متقدمة على الفعل أو يجب أن تكون معه وإن كانت متقدمة عليه فمن قال بالأول لزمه أن يكون كل عبد لم يفعل ما أمر به قد كلف مالا يطيقه إذا لم تكن عنده قدرة إلا مع الفعل ولهذا كان الصواب الذي عليه محققو المتكلمين وأهل الفقه والحديث والتصوف وغيرهم ما دل عليه القرآن وهو أن الإستطاعة التي هي مناط الأمر والنهى وهي المصححة للفعل لا يجب أن تقارن الفعل وأما الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل فهي مقارنة له
(1/60)
فالأولى كقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } سورة آل عمران 97 وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين صلى قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ومعلوم أن الحج والصلاة يجبان على المستطيع سواء فعل أو لم يفعل فعلم أن هذه الاستطاعة لا يجب أن تكون مع الفعل
والثانية كقوله تعالى { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } سورة هود 20 وقوله { وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا } سورة الكهف 101 102 على قول من يفسر الاستطاعة بهذه
وأما على تفسير السلف والجمهور فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم وصعوبته على نفوسهم فنفوسهم لا تستطيع إرادته وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه وهذه حال من صده هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك وهذه الاستطاعة هي المقارنة للفعل الموجبة له وأما الأولى فلولا وجودها لم يثبت التكليف كقوله
(1/61)
{ فاتقوا الله ما استطعتم } سورة التغابن 16 وقوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها } سورة الأعراف 42 وأمثال ذلك فهؤلاء المفرطون والمعتدون في أصول الدين إذا لم يستطيعوا سمع ما أنزل إلى الرسول فهم من هذا القسم
وكذلك أيضا تنازعهم في المأمور به الذي علم الله أنه لا يكون أو أخبر مع ذلك أنه لا يكون فمن الناس من يقول إن هذا غير مقدور عليه كما أن غالية القدرية يمنعون أن يتقدم علم الله وخبره وكتابه بأنه لا يكون وذلك لاتفاق الفريقين على أن خلاف المعلوم لا يكون ممكنا ولا مقدورا عليه
وقد خالفهم في ذلك جمهور الناس وقالوا هذا منقوض عليهم بقدرة الله تعالى فإنه أخبر بقدرته على أشياء مع أنه لا يفعلها كقوله { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } سورة القيامة 4 وقوله { وإنا على ذهاب به لقادرون } سورة المؤمنون 18 وقوله { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } سورة الأنعام 65 وقد قال { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } سورة هود 18 ونحو ذلك مما يخبر أنه لو شاء لفعله وإذا فعله فإنما يفعله إذا كان قادرا عليه فقد دل القرآن على أنه قادر عليه يفعله إذا شاءه مع أنه لا يشاؤه
وقالوا أيضا إن الله يعلمه على ما هو عليه فيعلمه ممكنا مقدورا للعبد غير واقع ولا كائن لعدم إرادة العبد له أو لبغضه أياه ونحو ذلك لا لعجزه عنه
(1/62)
وهذا النزاع يزول بتنوع القدرة عليه كما تقدم فإنه غير مقدور القدرة المقارنة للفعل وإن كان مقدورا القدرة المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهى
وأما النوع الثاني فكاتفاقهم على أن العاجز عن الفعل لا يطيقه كما لا يطيق الأعمى والأقطع والزمن نقط المصحف وكتابته والطيران فمثل هذا النوع قد اتفقوا على أنه غير واقع في الشريعة وإنما نازع في ذلك طائفة من الغلاة المائلين إلى الجبر من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وإنما تنازعوا في جواز الأمر به عقلا حتى نازع بعضهم في الممتنع لذاته كالجمع بين الضدين والنقيضين هل يجوز الأمر به من جهة العقل مع أن ذلك لم يرد في الشريعة ومن غلا فزعم وقوع هذا الضرب في الشريعة كمن يزعم أن أبا لهب كلف بأن يؤمن بأنه لا يؤمن فهو مبطل في ذلك عند عامة أهل القبلة من جميع الطوائف فإنه لم يقل أحد إن أبا لهب أسمع هذا الخطاب المتضمن أنه لا يؤمن وإنه أمر مع ذلك بالإيمان كما أن قوم نوح لما أخبر نوح عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن لم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار
(1/63)
المستلزم لموته على الكفر وأنه سمع هذا الخطاب ففي هذا الحال انقطع تكليفه ولم ينفعه إيمانه حينئذ كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب قال تعالى { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } سورة غافر 85 وقال تعالى { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } سورة يونس 91
والمقصود هنا التنبيه على أن النزاع في هذا الأصل يتنوع تارة إلى الفعل المأمور به وتارة إلى جواز الأمر ومن هنا شبهة من شبه من المتكلمين على الناس حيث جعل القسمين قسما واحدا وادعى تكليف ما لا يطاق مطلقا لوقوع بعض الأقسام التي لا يجعلها عامة الناس من باب ما لا يطاق والنزاع فيها لا يتعلق بمسائل الأمر والنهى وإنما يتعلق بمسائل القضاء والقدر
ثم إنه جعل جواز هذا القسم مستلزما لجواز القسم الذي اتفق المسلمون على أنه غير مقدور عليه وقاس أحد النوعين بالآخر وذلك من الأقيسة التي اتفق المسلمون بل وسائر أهل الملل بل وسائر العقلاء على بطلانها فإن من قاس الصحيح المأمور بالأفعال كقوله إن القدرة مع الفعل أو أن الله علم أنه
(1/64)
لا يفعل على العاجز الذي لو أراد الفعل لم يقدر عليه فقد جمع بين ما يعلم الفرق بينهما بالإضطرار عقلا ودينا وذلك من مثارات الأهواء بين القدرية وإخوانهم الجبرية
وأذا عرف هذا فإطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام كإطلاق القول بأن العباد مجبورون على أفعالهم وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على إنكار ذلك وذم من يطلقه وإن قصد به الرد على القدرية الذين لا يقرون بأن الله خالق أفعال العباد ولا بأنه شاء الكائنات وقالوا هذا رد بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد والباطل بالباطل
ولولا أن هذا الجواب لا يحتمل البسط لذكرت من نصوص أقوالهم في ذلك ما يبين ردهم لذلك
وأما إذا فصل مقصود القائل وبين بالعبارة التي لا يشتبه الحق فيها بالباطل ما هو الحق وميز بين الحق والباطل كان هذا من الفرقان وخرج المبين حينئذ مما ذم به أمثال هؤلاء الذين وصفهم الأئمة بأنهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على ترك الكتاب وأنهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام
(1/65)
ويحرفون الكلم عن مواضعه ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليه ولهذا كان يدخل عندهم المجبرة في مسمى القدرية المذمومين لخوضهم في القدر بالباطل إذ هذا جماع المعنى الذي ذمت به القدرية
ولهذا ترجم الإمام أبو بكر الخلال في كتاب السنة فقال الرد على القدرية وقولهم إن الله أجبر العباد على المعاصي ثم روى عن عمرو بن عثمان عن بقية ابن الوليد قال سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر فقال الزبيدي أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل ولكن يقضى ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب وقال الأوزاعي ما أعرف للجبر أصلا من القرآن ولا السنة فأهاب أن أقول ذلك ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما وضعت هذا مخافة أن يرتاب رجل تابعي من أهل الجماعة والتصديق
(1/66)
فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة
أما الزبيدي محمد بن الوليد صاحب الزهري فإنه قال أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل فنفى الجبر
وذلك لأن الجبر المعروف في اللغة هو إلزام الإنسان بخلاف رضاه كما يقول الفقهاء في باب النكاح هل تجبر المرأة على النكاح أولا تجبر وإذا عضلها الولي ماذا تصنع فيعنون بجبرها أنكاحها بدون رضاها واختيارها ويعنون بعضلها منعها مما ترضاه وتختاره فقال الله أعظم من أن يجبر أو يعضل لأن الله سبحانه قادر على أن يجعل العبد مختارا راضيا لما يفعله ومبغضا وكارها لما يتركه كما هو الواقع فلا يكون العبد مجبورا على ما يحبه ويرضاه ويريده وهي أفعاله الإختيارية ولا يكون معضولا عما يتركه فيبغضه ويكرهه أو لا يريده وهي تروكه الإختيارية
وأما الأوزاعي فإنه منع من إطلاق هذا اللفظ وإن عنى به هذا المعنى حيث لم يكن له أصل في الكتاب والسنة فيفضى إلى إطلاق لفظ مبتدع ظاهر في إرادة الباطل وذلك لا يسوغ وإن قيل إنه يراد به معنى صحيح
(1/67)
قال الخلال أخبرنا أبو بكر المروزي قال سمعت بعض المشيخة يقول سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول أنكر سفيان الثوري جبر وقال الله جبل العباد قال المروزي أظنه أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس يعنى قوله الذي في صحيح مسلم إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله
ولهذا احتج البخاري وغيره على خلق أفعال العباد بقوله تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا } سورة المعارج 19 20 فأخبر تعالى أنه خلق الإنسان على هذه الصفة
(1/68)
واحتج غيره بقول الخليل عليه السلام { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي } سورة إبراهيم 40 وبقوله { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } سورة البقرة 128
وجواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي لأن الزبيدي نفى الجبر والأوزاعى منع إطلاقه إذ هذا اللفظ قد يحتمل معنى صحيحا فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل كما ذكر الخلال ما ذكره عبدالله بن أحمد في كتاب السنة فقال حدثنا محمد بن بكار حدثنا أبو معشر حدثنا يعلى عن محمد بن كعب قال إنما سمى الجبار لأنه يجبر الخلق على ما أراد فإذا امتنع من إطلاق اللفظ المجمل المحتمل المشتبه زال المحذور وكان أحسن من نفيه وإن كان ظاهرا في المحتمل المعنى الفاسد خشية أن يظن أنه ينفى المعنيين جميعا
وهكذا يقال في نفى الطاقة عن المأمور فإن إثبات الجبر في المحظور نظير سلب الطاقة في المأمور وهكذا كان يقول الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة
(1/69)
قال الخلال أنبأنا الميموني قال سمعت أبا عبدالله يعنى أحمد بن حنبل يناظر خالد بن خداش يعني في القدر فذكروا رجلا فقال أبو عبدالله إنما أكره من هذا أن يقول أجبرالله
وقال أنبأنا المروزي قلت لأبي عبدالله رجل يقول إن الله أجبر العباد فقال هكذا لا نقول وأنكر هذا وقال { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } سورة النحل 93
وقال أنبأنا المروزي قال كتب إلى عبدالوهاب في أمر حسن بن خلف العكبري وقال إنه يتنزه عن ميراث أبيه فقال رجل قدري إن الله لم يجبر العباد على المعاصي فرد عليه أحمد بن رجاء فقال إن الله جبر العباد على ما أراد أراد بذلك إثبات القدر فوضع أحمد بن علي كتابا يحتج فيه فأدخلته على أبي عبدالله فأخبرته بالقصة فقال ويضع كتابا وأنكر عليهما جميعا على ابن رجاء حين قال جبر العباد وعلى القدري حين قال لم يجبر وأنكر على أحمد بن علي وضعه الكتاب واحتجاجه وأمر بهجرانه لوضعه الكتاب
(1/70)
وقال لي يجب على ابن رجاء أن يستعفر ربه لما قال جبر العباد فقلت لأبي عبدالله فما الجواب في هذه المسألة قال { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } سورة النحل 93
قال المروزي في هذه المسألة إنه سمع أبا عبدالله لما أنكر على الذي قال لم يجبر وعلى من رد عليه جبر فقال أبو عبدالله كلما ابتدع رجل بدعة اتسع الناس في جوابها وقال يستغفر ربه الذي رد عليهم بمحدثة وأنكر على من رد بشيء من جنس الكلام إذ لم يكن له فيه إمام تقدم قال المروزي فما كان بأسرع من أن قدم أحمد بن علي من عكبرا ومعه مشيخة وكتاب من أهل عكبرا فأدخلت أحمد بن علي على أبي عبدالله فقال يا أبا عبدالله هو ذا الكتاب ادفعه إلى أبي بكر حتى يقطعه وأنا أقوم على منبر عكبرا وأستغفر الله عز وجل فقال أبو عبدالله لي ينبغي أن يقبلوا منه فرجعوا له
وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في غير هذا الموضع وتكلمنا على الأصل الفاسد الذي ظنه المتفرقون من أن إثبات المعنى الحق الذي يسمونه جبرا ينافى
(1/71)
الأمر والنهى حتى جعله القدرية منافيا للأمر والنهي مطلقا وجعله طائفة من الجبرية منافيا لحسن الفعل وقبحه وجعلوا ذلك مما اعتمدوه في نفي حسن الفعل وقبحه القائم به المعلوم بالعقل
ومن المعلوم أنه لا ينافي ذلك إلا كما ينافيه بمعنى كون الفعل ملائما للفاعل ونافعا له وكونه منافيا للفاعل وضارا له
ومن المعلوم أن هذا المعنى الذي سموه جبرا لا ينافي أن يكون الفعل نافعا وضارا ومصلحة ومفسدة وجالبا للذة وجالبا للألم
فعلم أنه لا ينافي حسن الفعل وقبحه كما لا ينافي ذلك سواء كان ذلك الحسن معلوما بالعقل أو معلوما بالشرع أو كان الشرع مثبتا له لا كاشفا عنه
وأما قول السائل ما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك وقد كان حريصا على هدى أمته
فنقول هذا السؤال مبني على الأصل الفاسد المتقدم المركب من الإعراض عن الكتاب والسنة وطلب الهدى في مقالات المختلفين المتقابلين في النفي والإثبات للعبارات المجملات المشتبهات الذين قال الله فيهم { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد }
(1/72)
سورة البقرة 176 وقال تعالى { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } سورة يونس 19 وقال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } سورة آل عمران 19 وقال تعالى { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } سورة المؤمنون 53
وقد تقدم التنبيه على منشأ الضلال في هذا السؤال وأمثاله وما في ذلك من العبارات المتشابهات المجملات المبتدعات سواء كان المحدث هو اللفظ ودلالته أو كان المحدث هو استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى كلفظ أصول الدين حيث أدخل فيه كل قوم من المسائل والدلائل ما ظنوه هم من أصول دينهم وإن لم يكن من أصول الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما ذكرنا وأنه إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ووقع الإستفسار والتفصيل تبين سواء السبيل
وبذلك يتبين أن الشارع عليه الصلاة والسلام نص على كل ما يعصم من المهالك نصا قاطعا للعذر وقال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } سورة التوبة 115 وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } سورة المائدة 3
وقال تعالى { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } سورة النساء 165 وقال تعالى { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } سورة النور 54 وقال
(1/73)
{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } سورة الإسراء 9 وقال تعالى { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما } سورة النساء 66 68 وقال تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } سورة المائدة 15 16
وقال أبو ذر لقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما وفي صحيح مسلم أن بعض المشركين قالوا لسلمان لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة قال أجل وقال صلى الله عليه وسلم تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وقال
(1/74)
ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم عنه وقال ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه خيرا لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه شرا لهم
وهذه الجملة يعلم تفصيلها بالبحث والنظر والتتبع والإستقراء والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة فمن طلب ذلك وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في هذه المسائل ما فيه غاية الهدى والبيان والشفاء
وذلك يكون بشيئين أحدهما معرفة معاني الكتاب والسنة
والثاني معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون حتى يحسن أن يطبق بين معاني التنزيل ومعاني أهل الخوض في أصول الدين فحينئذ يتبين له أن الكتاب حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } سورة البقرة 213 وقال تعالى { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله }
(1/75)
سورة الشورى 10 وقال { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } سورة النساء 59 61
ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق ولا قصور أو تقصير في بيان الحق ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل ففي إثباتها إثبات حق وباطل وفي نفيها نفي حق وباطل فيمنع من كلا الإطلاقين بخلاف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب إتباعه فيثبتون ما أثبته الله ورسوله وينفون ما نفاه الله ورسوله ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها نفيا وإثباتا لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الإستفسار والتفصيل فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفى باطله بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه
(1/76)
وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون على مفارقته فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات التي لا يجوز اتباعها بل يتعين حملها على ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه أو الإعراض عنها وترك التدبر لها
وهذان الصنفان يشبهان ما ذكره الله في قوله { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } سورة البقرة 75 79
فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة على ما أصله هو من البدع الباطلة وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله لينال به دنيا وقال إنه من عند الله مثل أن يقول هذا هو الشرع والدين وهذا معنى الكتاب والسنة وهذا
(1/77)
قول السلف والأئمة وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده على الأعيان أو الكفاية ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة كالرافضة والجهمية ونحوهم من أهل الأهواء والكلام وفي أهل الأهواء تفصيلا مثل كثير من المنتسبين إلى الفقهاء مع شعبة من حال أهل الأهواء
وهذه الأمور المذكورة في الجواب مبسوطة في موضع آخر والله أعلم
والمقصود هنا الكلام على قول القائل إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية الخ كما تقدم
والكلام على هذه الجملة بني على بيان ما في مقدمتها من التلبيس فإنها مبنية على مقدمات
أولها ثبوت تعارضهما والثانية انحصار التقسيم فيما ذكره من الأقسام الأربعة والثالثة بطلان الأقسام الثلاثة والمقدمات الثلاثة باطلة
(1/78)
وبيان ذلك بتقديم أصل وهو أن يقال إذا قيل تعارض دليلان سواء كانا سمعيين أو عقليين أو أحدهما سمعيا والآخر عقليا فالواجب أن يقال لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا
فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما سواء كانا عقليين أو سمعيين أو أحدهما عقليا والآخر سمعيا وهذا متفق عليه بين العقلاء لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة
وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر للزم الجمع بين النقيضين وهو محال بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية فلا بد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي أو أن لا يكون مدلولاهما متناقضين فأما مع تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين
وأن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيا دون الآخر فإنه يجب تقديمه بإتفاق العقلاء سواء كان هو السمعي أو العقلي فإن الظن لا يرفع اليقين
وأما إن كانا جميعا ظنيين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سمعيا أو عقليا
(1/79)
ولا جواب عن هذا إلا أن يقال الدليل السمعي لا يكون قطعيا وحينئذ فيقال هذا مع كونه باطلا فإنه لا ينفع فإنه على هذا التقدير يجب تقديم القطعي لكونه قطعيا لا لكونه عقليا ولا لكونه أصلا للسمع وهؤلاء جعلوا عمدتهم في التقديم كون العقل هو الأصل للسمع وهذا باطل كما سيأتي بيانه إن شاء الله
وإذا قدر أن يتعارض قطعي وظني لم ينازع عاقل في تقديم القطعي لكن كون السمعي لا يكون قطعيا دونه خرط القتاد
وأيضا فإن الناس متفقون على أن كثيرا مما جاء به الرسول معلوم بالإضطرار من دينه كإيجاب العبادات وتحريم الفواحش والظلم وتوحيد الصانع وإثبات المعاد وغير ذلك
وحينئذ فلو قال قائل إذا قام الدليل العقلي القطعي على مناقضة هذا فلا بد من تقديم أحدهما فلو قدم هذا السمعي قدح في أصله وإن قدم العقلي لزم تكذيب الرسول فيما علم بالاضطرار أنه جاء به وهذا هو الكفر الصريح فلا بد لهم من جواب عن هذا
والجواب عنه أنه يمتنع أن يقوم عقلي قطعي يناقض هذا
فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي
ومثل هذا الغلط يقع فيه كثير من الناس يقدرون تقديرا يلزم منه لوازم
(1/80)
فيثبتون تلك اللوازم ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعا والتقدير الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة كما في قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } سورة الأنبياء 22 ولهذا أمثلة
منها ما يذكره القدرية والجبرية في أن أفعال العباد هل هي مقدورة للرب والعبد أم لا فقال جمهور المعتزلة إن الرب لا يقدر على عين مقدور العبد
واختلفوا هل يقدر على مثل مقدوره فأثبته البصريون كأبي على وأبي هاشم ونفاه الكعبي وأتباعه البغداديون
(1/81)
وقال جهم وأتباعه الجبرية إن ذلك الفعل مقدور للرب لا للعبد
وكذلك قال الأشعري وأتباعه إن المؤثر فيه قدرة الرب دون قدرة العبد
واحتج المعتزلة بأنه لو كان مقدورا لهما للزم إذا أراده أحدهما وكرهه الآخر مثل أن يريد الرب تحريكه ويكرهه العبد أن يكون موجودا معدوما لأن المقدور من شأنه أن يوجد عند توفر دواعي القادر وأن يبقى على العدم عند توفر صارفه فلو كان مقدور العبد مقدورا لله لكان إذا أراد الله وقوعه وكره العبد وقوعه لزم أن يوجد لتحقق الدواعي ولا يوجد لتحقق الصارف وهو محال
وقد أجاب الجبرية عن هذا بما ذكره الرازي وهو أن البقاء على العدم عند تحقق الصارف ممنوع مطلقا بل يجب إذا لم يقم مقامه سبب آخر مستقل
(1/82)
وهذا أول المسألة وهو جواب ضعيف فإن الكلام في فعل العبد القائم به إذا قام بقلبه الصارف عنه دون الداعي إليه وهذا يمتنع وجوده من العبد في هذه الحال وما قدر وجوده بدون إرادته لا يكون فعلا اختياريا بل يكون بمنزلة حركة المرتعش والكلام إنما هو في الإختياري ولكن الجواب منع هذا التقدير فإن ما لم يرده العبد من أفعاله يمتنع أن يكون الله مريدا لوقوعه إذ لو شاء وقوعه لجعل العبد مريدا له فإذا لم يجعله مريدا له علم أنه لم يشأه ولهذا اتفق علماء المسلمين على أن الإنسان لو قال والله لأفعلن كذا وكذا إن شاء الله ثم لم يفعله أنه لا يحنث لأنه لما لم يفعله علم أن الله لم يشأه إذ لو شاءه لفعله العبد فلما لم يفعله علم أن الله لم يشأه
(1/83)
واحتج الجبرية بما ذكره الرازي وغيره بقولهم إذا أراد الله تحريك جسم وأراد العبد تسكينه فإما أن يمتنعا معا وهو محال لأن المانع من وقوع مراد كل واحد منهما هو وجود مراد الآخر فلو امتنعا معا لوجدا معا وهو محال أو لوقعا معا وهو محال أو يقع أحدهما وهو باطل لأن القدرتين متساويتان في الإستقلال بالتأثير في ذلك المقدور الواحد والشيء الواحد حقيقته لا تقبل التفاوت فإذن القدرتان بالنسبة إلى اقتضاء وجود ذلك المقدور على السوية وإنما التفاوت في أمور خارجة عن هذا المعنى وإذا كان كذلك امتنع الترجيح فيقال هذه الحجة باطلة على المذهبين
أما أهل السنة فعندهم يمتنع أن يريد الله تحريك جسم ويجعل العبد مريدا لأن يجعله ساكنا مع قدرته على ذلك فإن الإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم
(1/84)
وجود المقدور فلو جعله الرب مريدا مع قدرته لزم وجود مقدوره فيكون العبد يشاء ما لا يشاء الله وجوده وهذا ممتنع بل ما شاء الله وجوده يجعل القادر عليه مريدا لوجوده لا يجعله مريدا لما يناقض مراد الرب
وأما على قول المعتزلة فعندهم تمتنع قدرة الرب على عين مقدور العبد فيمتنع اختلاف الإرادتين في شيء واحد
وكلتا الحجتين باطلة فإنهما مبنيتان على تناقض الإرادتين وهذا ممتنع فإن العبد إذا شاء أن يكون شيء لم يشأه حتى يشاء الله مشيئته كما قال تعالى { لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } سورة التكوير 28 29 وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإذا شاءه الله جعل العبد شائيا له وإذا جعل العبد كارها له غير مريد له لم يكن هو في هذه الحال شائيا له
فهم بنوا الدليل على تقدير مشيئة الله له وكراهة العبد له وهذا تقدير ممتنع وهذا نقلوه من تقدير ربين وإلهين وهو قياس باطل لأن العبد مخلوق لله هو وجميع مفعولاته ليس هو مثلا لله ولا ندا ولهذا إذا قيل ما قاله أبو إسحاق الإسفراييني من أن فعل العبد مقدور بين قادرين لم يرد به بين قادرين
(1/85)
مستقلين بل قدرة العبد مخلوقة لله وإرادته مخلوقة لله فالله قادر مستقل والعبد قادر بجعل الله له قادرا وهو خالقة وخالق قدرته وارادته وفعله فلم يكن هذا نظير ذاك
وكذلك ما يقدره الرازي وغيره في مسألة إمكان دوام الفاعلية وأن إمكان الحوادث لا بداية له من أنا إذا قدرنا إمكان حادث معين وقدرنا أنه لم يزل ممكنا كان هذا لم يزل ممكنا مع أنه لا بداية لإمكانه فإن هذا تقدير ممتنع وهو تقدير ما له بداية مع أنه لا بداية له وهو جمع بين النقيضين ولهذا منع الرازي في محصله إمكان هذا
وهذا الذي ذكرناه بين واضح متفق عليه بين العقلاء من حيث الجملة وبه يتبين أن إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي معلوم الفساد بالضرورة وهو خلاف ما اتفق عليه العقلاء
وحينئذ فنقول الجواب من وجوه أحدها
ان قوله إذا تعارض النقل والعقل
وإما أن يريد به القطعيين فلا نسلم إمكان التعارض حينئذ
وإما أن يريد به الظنيين فالمقدم هو الراجح مطلقا
(1/86)
وإما أن يريد به ما أحدهما قطعي فالقطعي هو المقدم مطلقا وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعيا لا لكونه عقليا
فعلم أن تقديم العقلي مطلقا خطأ كما أن جعل جهة الترجيح لكونه عقليا خطأ الوجه الثاني
أن يقال لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكرته من الأقسام الأربعة إذ من الممكن أن يقال
يقدم العقلي تارة والسمعي أخرى فأيهما كان قطعيا قدم وإن كانا جميعا قطعيين فيمتنع التعارض وإن كانا ظنيين فالراجع هو المقدم
فدعوى المدعي أنه لابد من تقديم العقلي مطلقا أو السمعي مطلقا أو الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين دعوى باطلة بل هنا قسم ليس من هذه الأقسام كما ذكرناه بل هو الحق الذي لا ريب فيه الوجه الثالث
قوله إن قدمنا النقل كان ذلك طعنا في أصله الذي هو العقل فيكون طعنا فيه غير مسلم
وذلك لأن قوله إن العقل أصل للنقل إما أن يريد به
أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر
أو أصل في علمنا بصحته
والأول لا يقوله عاقل فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع وبغيره هو ثابت سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره إذ عدم العلم ليس علما بالعدم وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها
(1/87)
فما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم هو ثابت في نفس الأمر سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا وما أخبر به فهو حق وإن لم يصدقه الناس وما أمر به عن الله فالله أمر به وإن لم يطعه الناس فثبوت الرسالة في نفسها وثبوت صدق الرسول وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر ليس موقوفا على وجودنا فضلا على أن يكون موقوفا على عقولنا أو على الأدلة التي نعلمها بعقولنا وهذا كما أن وجود الرب تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر سواء علمناه أو لم نعلمه
فتبين بذلك أن العقل ليس أصلا لثبوت الشرع في نفسه ولا معطيا له صفة لم تكن له ولا مفيدا له صفة كمال إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم تابع له ليس مؤثرا فيه
فإن العلم نوعان أحدهما العملي وهو ما كان شرطا في حصول المعلوم كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله فالمعلوم هنا متوقف على العلم به محتاج إليه
والثاني العلم الخبري النظري وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم به كعلمنا بوحدانية الله تعالى وأسمائه وصفاته وصدق رسله وبملائكته وكتبه وغير ذلك فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها فهي مستغنية عن علمنا بها والشرع مع العقل هو من هذا الباب فإن الشرع المنزل
(1/88)
من عند الله ثابت في نفسه سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه فهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالما به وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته وانتفع بعلمه به وأعطاه ذلك صفة لم تكن له من قبل ذلك ولو لم يعلمه لكان جاهلا ناقصا
وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل لنا على صحته وهذا هو الذي أراده فيقال له أتعني بالعقل هنا الغريزة التي فينا أم العلوم التي استفدناها بتلك الغريزة
أما الأول فلم ترده ويمتنع أن تريده لأن تلك الغريزة ليست علما يتصور أن يعارض النقل وهي شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة وما كان شرطا في الشىء امتنع أن يكون منافيا له فالحياة والغريزة شرط فى كل العلوم سمعيها وعقليها فامتنع ان تكون منافية لها وهي أيضا شرط في الاعتقاد الحاصل بالاستدلال وإن لم تكن علما فيمتنع أن تكون منافية له معارضة له
وإن أردت بالعقل الذي هو دليل السمع وأصله المعرفة الحاصلة بالعقل فيقال له من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلا لسمع ودليلا على صحته فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم
وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالى أرسله مثل إثبات الصانع وتصديقه للرسول بالآيات وأمثال ذلك
(1/89)
وإذا كان كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلا للنقل لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها ولا بمعنى الدلالة على صحته ولا بغير ذلك لا سيما عند كثير من متكلمة الإثبات أو أكثرهم كالاشعري في أحد قوليه وكثير من أصحابه أو أكثرهم كالاستاذ أبي المعالي الجويني ومن بعده ومن وافقهم الذين يقولون العلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي تجري مجرى تصديق الرسول علم ضروري فحينئذ ما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير مع أن العلم بصدق الرسول له طرق كثيرة متنوعة كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع
وحينئذ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن القدح فيه قدحا في أصل السمع وهذا بين واضح وليس القدح في بعض العقليات قدحا في جميعها كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحا في جميعها ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها كما لا يلزم من صحة بعض السمعيات صحة جميعها
وحينئذ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبنى عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات ولا من فساد هذه فساد تلك فضلا عن صحة العقليات المناقضة للسمع
فكيف يقال إنه يلزم من صحة المعقولات التي هي ملازمة للسمع صحة المعقولات المناقضة للسمع فإن ما به يعلم السمع ولا يعلن السمع إلا به لازم للعلم بالسمع لا يوجد العلم بالسمع بدونه وهو ملزوم له والعلم به يستلزم
(1/90)
العلم بالسمع والمعارض للسمع مناقض له مناف له فهل يقول عاقل إنه يلزم من ثبوت ملازم الشىء ثبوت مناقضه ومعارضه
ولكن صاحب هذا القول جعل العقليات كلها نوعا واحد متماثلا في الصحة أو الفساد ومعلوم أن السمع إنما يستلزم صحة بعضها الملازم له لا صحة البعض المنافي له والناس متفقون على أن ما يسمى عقليات منه حق ومنه باطل وما كان شرطا في العلم بالسمع وموجبا فهو لازم للعلم به بخلاف المنافي المناقض له فإنه يمتنع أن يكون هو بعينه شرطا في صحته ملازما لثبوته فإن الملازم لا يكون مناقضا فثبت أنه لا يلزم من تقديم السمع على ما يقال إنه معقول في الجملة القدح في أصله
فقد تبين بهذه الوجوه الثلاثة فساد المقدمات الثلاث التي بنوا عليها تقديم آرائهم على كلام الله ورسوله
فإن قيل نحن إنما نقدم على السمع المعقولات التي علمنا بها صحة السمع
قيل سنبين إن شاء الله أنه ليس فيما يعارض السمع من شىء من المعقولات التي يتوقف السمع عليها فإذن كل ما عارض السمع مما يسمى معقولا ليس أصلا للسمع يتوقف العلم بصحة السمع عليه فلا يكون القدح في شىء من المعقولات قدحا في أصل السمع
الوجه الثاني أن جمهور الخلق يعترفون بأن المعرفة بالصانع وصدق الرسول ليس متوقفا على ما يدعيه بعضهم من العقليات المخالفة للسمع والواضعون لهذا القانون كأبي حامد والرازي وغيرهما معترفون بأن العلم بصدق الرسول
(1/91)
لا يتوقف على العقليات المعارضة له فطوائف كثيرون كأبي حامد والشهرستاني وأبي القاسم الراغب وغيرهم يقولون العلم بالصانع فطري ضروري
والرازي والآمدي وغيرهما من النظار يسلمون أن العلم بالصانع قد يحصل بالإضطرار وحينئذ فالعلم بكون الصانع قادر معلوم بالاضطرار والعلم بصدق الرسول عند ظهور المعجرات التي تحدى الخلق بمعارضتها وعجزوا عن ذلك معلوم بالاضطرار
ومعلوم أن السمعيات مملوءة من إثبات الصانع وقدرته وتصديق رسوله ليس فيها ما يناقض هذه الأصول العقلية التي بها يعلم السمع بل الذي في السمع
(1/92)
يوافق هذه الأصول بل السمع فيه من بيان الأدلة العقلية على إثبات الصانع ودلائل ربوبيته وقدرته وبيان آيات الرسول ودلائل صدقه أضعاف ما يوجد في كلام النظار فليس فيه ولله الحمد ما يناقض الأدلة العقلية التي بها يعلم صدق الرسول
ومن جعل العلم بالصانع نظريا يعترف أكثرهم بأن من الطرق النظرية التي بها يعلم صدق الرسول ما لا يناقض شيئا من السمعيات و الرازي ممن يعترف بهذا فإنه قال في نهاية العقول في مسألة التكفير في المسألة الثالثة في أن مخالف الحق من أهل الصلاة هل يكفر أم لا
قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في أول كتاب مقالات الإسلاميين اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل فيها بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم من بعض فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم فهذا مذهبه وعليه أكثر الأصحاب ومن الأصحاب من كفر المخالفين
(1/93)
وأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية فإنهم يعتقدون حل الكذب
وأما أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة
وحكى أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك
وأما المعتزلة فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفروا أصحابنا في إثبات الصفات وخلق الأعمال
وأما المشبهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة
(1/94)
وكان الأستاذ أبو اسحاق يقول أكفر من يكفرني وكل مخالف يكفرنا فنحن نكفره وإلا فلا
والذي نختاره أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة
والدليل عليه أن نقول المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها مثل أن الله تعالى هل هو عالم بالعلم أو بالذات وأنه تعالى هل هو موجد لأفعال العباد أم لا وأنه هل هو متحيز وهل هو في مكان وجهة وهل هو مرئي أم لا لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف والأول باطل إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين لكان الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها فلما لم يطالبهم بهذه المسائل بل ما جرى حديث في هذه المسائل في زمانه عليه السلام ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم علمنا أنه لا تتوقف صحة الإسلام على معرفة
(1/95)
هذه الأصول وإذا كان كذلك لم يكن الخطأ في هذه المسائل قادحا في حقيقة الإسلام وذلك يقتضي الإمتناع من تكفير أهل القبلة
ثم قال بعد ذلك وأما دلالة الفعل المحكم على العلم فقد عرفت أنها ضرورية وأما دلالة المعجز على الصدق فقد بينا أنها ضرورية ومتى عرفت هذه الأصول أمكن العلم بصدق الرسول علية السلام فثبت أن العلم بالأصول التي تتوقف على صحتها نبوة محمد عليه السلام علم جلي ظاهر وإنما طال الكلام في هذه الأصول لرفع هذه الشكوك التي يثبتها المبطلون إما في مقدمات هذه الأدلة أو في معارضاتها والإشتغال برفع هذه الشكوك إنما يجب بعد عروضها فثبت أن أصول الإسلام جلية ظاهرة ثم أن أدلتها على الإستقصاء مذكورة في كتاب الله تعالى خالية عما يتوهم معارضا لها
ثم ذكر بعد ذلك فقال قلنا إنا قد ذكرنا في إثبات العلم بالصانع طرقا خمسة قاطعة في هذا الكتاب من غير حاجة إلى القياس الذي ذكروه والله أعلم
(1/96)
وأيضا فإنه ذكر فيه إثبات الصانع أربعة طرق
طريق حدوث الأجسام وطريق إمكانها وطريق إمكان صفاتها وطريق حدوث صفاتها وقال إن هذه الطريق لا تنفي كونه جسما بخلاف الطرق الثلاثة وهم إنما ينفون ما ينفونه من الصفات لظنهم أنها تستلزم التجسيم الذي نفاه العقل الذي هو أصل السمع فإذا اعترفوا بأنه يمكن العلم بالصانع وصدق رسوله قبل النظر في كونه جسما أو ليس بجسم تبين أن صدق الرسول لا يتوقف على العلم بأنه ليس بجسم وحينئذ فلو قدر أن العقل ينفي ذلك لم يكن هذا من العقل الذي هو أصل السمع
الوجه الثالث أن يقال لمن ادعى من هؤلاء توقف العلم بالسمع على مثل هذا النفي كقول من يقول منهم إنا لا نعلم صدق الرسول حتى نعلم وجود الصانع وأنه قادر غني لا يفعل القبيح ولا نعلم ذلك حتى نعلم أنه ليس بجسم أو لا نعلم إثبات الصانع حتى نعلم حدوث العالم ولا نعلم ذلك إلا بحدوث الأجسام فلا يمكن أن يقبل من السمع ما يستلزم كونه جسما
فيقال لهم قد علم بالإضطرار من دين الرسول والنقل المتواتر أنه دعا الخلق إلى الإيمان بالله ورسوله ولم يدع الناس بهذه الطريق التي قلتم إنكم أثبتم بها حدوث العالم ونفى كونه جسما وآمن بالرسول من آمن به من المهاجرين والأنصار ودخل الناس في دين الله أفواجا ولم يدع أحدا منهم بهذه الطريق ولا ذكرها أحد منهم ولا ذكرت في القرآن ولا حديث الرسول ولا دعا بها أحد من الصحابة
(1/97)
والتابعين لهم باحسان الذين هم خير هذه الأمة وأفضلها علما وإيمانا وإنما ابتدعت هذه الطريق في الإسلام بعد المائة الأولى وانقراض عصر أكابر التابعين بل وأوساطهم فكيف يجوز أن يقال إن تصديق الرسول موقوف عليها وأعلم الذين صدقوه وأفضلهم لم يدعوا بها ولا ذكروها ولا ذكرت لهم ولا نقلها أحد عنهم ولا تكلم بها أحد في عصرهم
الوجه الرابع أن يقال هذا القرآن والسنة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم متواترها وآحادها ليس فيه ذكر ما يدل على هذه الطريق فضلا عن أن تكون نفس الطريق فيها فليس في شيء من ذلك أن البارئ لم يزل معطلا عن الفعل والكلام بمشيئته ثم حدث ما حدث بلا سبب حادث وليس فيه ذكر الجسم والتحيز والجهة لا بنفي ولا إثبات فكيف يكون الإيمان بالرسول مستلزما لذلك والرسول لم يخبر به ولا جعل الإيمان به موقوفا عليه
الوجه الخامس أن هذه الطرق الثلاثة طريق حدوث الأجسام مبنية على امتناع دوام كون الرب فاعلا وامتناع كونه لم يزل متكلما بمشيئته بل حقيقتها مبنية على امتناع كونه لم يزل قادرا على هذا وهذا ومعلوم أن أكثر العقلاء من المسلمين وغير المسلمين ينازعون في هذا ويقولون هذا قول باطل
وأما القول بإمكان الأجسام فهو مبني على أن الموصوف ممكن بناء على أن المركب ممكن وعلى نفي الصفات وهي طريقة أحدثها ابن سينا وأمثاله
(1/98)
وركبها من مذهب سلفهم ومذهب الجهمية وهي أضعف من التي قبلها من وجوه كثيرة
وطريقة إمكان صفات الأجسام مبنية على تماثل الأجسام وأكثر العقلاء يخالفون في ذلك وفضلاؤهم معترفون بفساد ذلك كما قد ذكرنا قول الأشعري والرازي والآمدي وغيرهم واعترافهم بفساد ذلك وبينا فساد ذلك بصريح المعقول
فإذا كانت هذه الطرق فاسدة عند جمهور العقلاء بل فاسدة في نفس الأمر امتنع أن يكون العلم بالصانع موقوفا على طريق فاسدة ولو قدر صحتها علم أن أكثر العقلاء عرفوا الله وصدقوا رسوله بغير هذه الطريق فلم يبق العلم بالسمع موقوفا على صحتها فلا يكون القدح فيها قدحا في أصل السمع
الوجه السادس أن يقال إذا قدر أن السمع موقوف على العلم بأنه ليس بجسم مثلا لم يسلم أن مثبتي الصفات التي جاء بها القرآن والسنة خالفوا موجب العقل فإن عقولهم فيما يثبتونه من الصفات كقول سائر من ينفي الجسم ويثبت شيئا من الصفات
فإذا كان أولئك يقولون إنه حي عليم قدير وليس بجسم ويقول آخرون إنه حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة بل وسميع وبصير ومتكلم بسمع وبصر وكلام وليس بجسم أمكن هؤلاء أن يقولوا في سائر الصفات التي أخبر بها الرسول ما قاله هؤلاء في هذه الصفات
(1/99)
وإذا أمكن المتفلسف أن يقول هو موجود وعاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ولذة وهذا كله شيء واحد وهذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف وإثبات هذه الأمور لا يستلزم التجسيم أمكن سائر مثبتة الصفات أن يقولوا هذا وما هو أقرب إلى المعقول فلا يقول من نفى شيئا مما أخبر به الشارع من الصفات قولا ويقول إنه يوافق المعقول إلا ويقول من أثبت ذلك ما هو أقرب إلى المعقول منه
وهذه جملة سيأتي إن شاء الله تفصيلها وبيان أن كل من أثبت ما أثبته الرسول ونفي ما نفاه كان أولى بالمعقول الصريح كما كان أولى بالمنقول الصحيح وأن من خالف صحيح المنقول فقد خالف أيضا صريح المعقول وكان أولى بمن قال الله فيه { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } سورة تبارك 10
فإن قيل قول القائلين إن الأنبياء لم يدعوا الناس إلى إثبات الصانع بهذه الطريقة طريقة الأعراض وحدوثها ولزومها للأجسام وأن ما استلزم الحادث فهو حادث
للمنازعين فيه مقامان أحدهما منع هذه المقدمة فإنه من المعروف أن كثيرا من النفاة يقول إن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل وإنه استدل على حدوث الكواكب والشمس والقمر بالأفول والأفول هو الحركة والحركة هي التغير فلزم من
(1/100)
ذلك أن كل متغير محدث لأنه لا يسبق الحوادث لامتناع حوادث لا أول لها وكل ما قامت به الحوادث فهو متغير فيجب أن يكون محدثا فهذه الطريق التي سلكناها هى طريقة إبراهيم الخليل
وهذا مما ذكره خلق من النفاة مثل بشر المريسي وأمثاله ومثل ابن عقيل وأبي حامد والرازي وخلق غير هؤلاء
وأيضا فالقرآن قد دل على أنه ليس بجسم لأنه أحد والأحد الذي لا ينقسم وهو واحد والواحد الذي لا ينقسم ولأنه صمد والصمد الذي لا جوف له فلا يتخلله غيره والجسم يتخلله غيره ولأنه سبحانه قد قال
(1/101)
{ ليس كمثله شيء } سورة الشورى 11 والأجسام متماثلة فلو كان جسما لكان له مثل وإذا لم يكن جسما لزم نفي ملزومات الجسم
وبعضهم يقول نفي لوازم الجسم وليس بجيد فإنه لا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم ولكن يلزم من نفيه نفيه بخلاف ملزومات الجسم فإنه يجب من نفيها نفي الجسم فيجب نفي كل ما يستلزم كونه جسما
ثم من نفي العلو والمباينة يقول العلو يستلزم كونه جسما ومن نفي الصفات الخبرية يقول إثباتها يستلزم التجسيم ومن نفى الصفات مطلقا قال ثبوتها يستلزم التجسيم
وأيضا فالتجسيم نفي لأنه يقتضي القسمة والتركيب فيجب نفي كل تركيب فيجب نفي كونه مركبا من الوجود والماهية ومن الجنس والفصل ومن المادة والصورة ومن الجواهر المفردة ومن الذات والصفات وهذه الخمسة هي التي يسميها نفاة الصفات من متأخري الفلاسفة تركيبا
والمقصود هنا أن السمع دل على نفي هذه الأمور والرسل نفت ذلك وبينت الطريق العقلي المنافي لذلك وهو نفي التشبيه تارة وإثبات حدوث كل متغير تارة
ثم إنه لما قال هؤلاء إن الأفول هو الحدوث والأفول هو التغير فبنى
(1/102)
ابن سينا وأتباعه من الدهرية على هذا وقالوا ما سوى الله ممكن وكل ممكن فهو آفل فالأفل لا يكون واجب الوجود
وجعل الرازي في تفسير هذا الهذيان وقد يقول هو وغيره كل آفل متغير وكل متغير ممكن فيستدلون بالتغير على الإمكان كما استدل الأكثرون من هؤلاء بالتغير على الحدوث وكل من هؤلاء يقول هذه طريقة الخليل
المقام الثاني أن يقال نحن نسلم أن الأنبياء لم يدعوا الناس بهذه الطريق ولا بينوا أنه ليس بجسم وهذا قول محققي طوائف النفاة وأئمتهم فإنهم يعلمون ويقولون إن النفي لم يعتمد فيه على طريقة مأخوذة عن الأنبياء وإن الأنبياء لم يدلوا على ذلك لا نصا ولا ظاهرا ويقولون إن كلام الأنبياء إنما يدل على الإثبات إما نصا وإما ظاهرا
لكن قالوا إذا كان العقل دل على النفي لم يمكنا إبطال مدلول العقل
(1/103)
ثم يقول المتكلمون من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم الذين قالوا إنما يمكن إثبات الصانع وصدق رسله بهذه الطريق ويقولون إنه لا يمكن العلم بحدوث العالم وإثبات الصانع والعلم بأنه قادر حي عالم وأنه يجوز أن يرسل الرسل ويصدق الأنبياء بالمعجزات إلا بهذه الطريق كما يذكر ذلك أئمتهم وحذاقهم حتى متأخروهم كأبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني والقاضي أبي يعلى وغيرهم فإذا علمنا مع ذلك أن الأنبياء لم يدعوا الناس بها لزم ما قلناه من أن الرسول أحال الناس في معرفة الله على العقل وإذا علموا ذلك فحينئذ هم في نصوص الأنبياء إما أن يسلكوا مسلك التأويل ويكون القصد بإنزال المتشابه تكليفهم استخراج طريق التأويلات وإما أن يسلكوا مسلك التفويض ويكون المقصود إنزال ألفاظ يتعبدون بتلاوتها وإن لم يفهم أحد معانيها
ويقول ملاحدة الفلاسفة والباطنية ونحوهم المقصود خطاب الجمهور بما يتخيلون به أن الرب جسم عظيم وأن المعاد فيه لذات جسمانية وإن كان هذا لا حقيقة له ثم إما أن يقال إن الأنبياء لم يعلموا ذلك وإما أن يقال علموه ولم يبينوه بل أظهروا خلاف الحق للمصلحة
قيل في الجواب أما من سلك المسلك الأول فجوابه من وجوه أحدها أن يقال فإذا كانت الأدلة السمعية المأخوذة عن الأنبياء دلت على صحة هذه الطريق وصحة مدلولها وعلى نفي ما تنفونه من الصفات فحينئذ تكون الأدلة السمعية المثبتة لذلك عارضت هذه الأدلة فيكون السمع قد عارضه سمع آخر وإن كان أحدهما موافقا لما تذكرونه من العقل
(1/104)
وحينئذ فلا تحتاجون أن تبنوا دفع السمعيات المخالفة لكم على هذا القانون الذي ابتدعتموه وجعلتم فيه آراء الرجال مقدمة على ما أنزل الله وبعث به رسله وفتحتم بابا لكل طائفة بل لكل شخص أن يقدم ما رآه بمعقوله على ما ثبت عن الله ورسوله بل قررتم بهذا أن أحدا لا يثق بشي يخبر به الله ورسوله إذ جاز أن يكون له معارض عقلي لم يعلمه المخبر ولهذا كان هذا القانون لا يظهره أحد من الطوائف المشهورين وإنما كان بعضهم يبطنه سرا وإنما أظهر لما ظهر كلام الملاحدة أعداء الرسل
الوجه الثاني أن يقال كل من له أدنى معرفة بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بالإضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بهذه الطريق طريقة الأعراض ولا نفى الصفات أصلا لا نصا ولا ظاهرا ولا ذكر ما يفهم منه ذلك لا نصا ولا ظاهرا ولا ذكر أن الخالق ليس فوق العالم ولا مباينا له أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا ذكر ما يفهم منه ذلك لا نصا ولا ظاهرا بل ولا نفى الجسم الإصطلاحي ولا ما يرادفه من الألفاظ ولا ذكر أن الحوادث يمتنع دوامها في الماضي والمستقبل أو في الماضي لا نصا ولا ظاهرا ولا أن الرب صار الفعل ممكنا له بعد أن لم يكن ممكنا ولا أنه صار الكلام ممكنا له بعد أن لم يكن ممكنا ولا أن كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه ونحو ذلك أمور مخلوقة بائنة عنه وأمثال ذلك مما يقوله هؤلاء لا نصا وظاهرا
(1/105)
بل علم الناس خاصتهم وعامتهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك أظهر من علمهم بأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة وأن القرآن لم يعارضه أحد وأنه لم يفرض صلاة إلا الصلوات الخمس وأنه لم يكن يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار وأنه لم يكن يؤذن له في العيدين والكسوف والإستسقاء وأنه لم يرض بدين الكفار لا المشركين ولا أهل الكتاب قط وأنه لم يسقط الصلوات الخمس عن أحد من العقلاء وأنه لم يقاتله أحد من المؤمنين به لا أهل الصفة ولا غيرهم وأنه لم يكن يؤذن بمكة ولا كان بمكة أهل صفة ولا كان بالمدينة أهل صفة قبل أن يهاجر إلى المدينة وأنه لم يجمع أصحابه قط على سماع كف ولا دف وأنه لم يكن يقصر شعر كل من أسلم أو تاب من ذنب وأنه لم يكن يقتل كل من سرق أو قذف أو شرب وأنه لم يكن يصلي الخمس إذا كان صحيحا إلا بالمسلمين لم يكن يصلي الفرض وحده ولا في الغيب وأنه لم يحج في الهواء قط وأنه لم يقل رأيت ربي في اليقظة لا ليلة المعراج ولا غيرها ولم يقل إن الله ينزل عشية عرفة إلى
(1/106)
الأرض وإنما قال إنه ينزل إلى السماء الدنيا عشية عرفة فيباهي الملائكة بالحجاج
(1/107)
ولا قال إن الله ينزل كل ليلة إلى الأرض وإنما قال ينزل إلى سماء الدنيا وأمثال ذلك مما يعلم العلماء بأحواله علما ضروريا أنه لم يكن ومن روى ذلك عنه أو أخذ يستدل على ثبوت ذلك علموا بطلان قوله بالإضطرار كما يعلمون بطلان قول السوفسطائية وإن لم يشتغلوا بحل شبههم
وحينئذ فمن استدل بهذه الطريق أو أخبر الأمة بمثل قول نفاة الصفات كان كذبه معلوما بالإضطرار أبلغ مما يعلم كذب من ادعى عليه هذه الأمور المنتفية عنه وأضعافها وهذا مما يعلمه من له أدنى خبرة بأحوال الرسل فضلا عن المتوسطين فضلا عن الوارثين له العالمين بأقواله وأفعاله
(1/108)
الوجه الثالث أن يقال صحيح ما ذكرتموه من أقوال الأنبياء أنها تدل على مثل قولكم فلا دلالة في شيء منها من وجوه متعددة وذلك معلوم يقينا بل فيها ما يدل على نقيض قولكم وهو مذهب أهل الإثبات وهكذا عامة ما يحتج به أهل الباطل من الحجج لا سيما السمعية فإنها إنما تدل على نقيض قولهم
وأما قصة إبراهيم الخليل عليه السلام فقد علم باتفاق أهل اللغة والمفسرين أن الأفول ليس هو الحركة سواء كانت حركة مكانية وهي الإنتقال أو حركة في الكم كالنمو أو في الكيف كالتسود والتبيض ولا هو التغير فلا يسمى في اللغة كل متحرك أو متغير آفلا ولا أنه أفل لا يقال للمصلي أو الماشي إنه آفل ولا يقال للتغير الذى هو استحالة كالمرض واصفرار الشمس إنه أفول لا يقال للشمس إذا اصفرت إنها أفلت وإنما يقال أفلت إذا غابت واحتجبت وهذا من المتواتر المعلوم بالإضطرار من لغة العرب أن آفلا بمعنى غائب وقد أفلت الشمس تأفل تأفل أفولا أي غابت
(1/109)
ومما يبين هذا أن الله ذكر عن الخليل أنه لما { رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } سورة الأنعام 76 79
ومعلوم أنه لما بزغ القمر والشمس كان في بزوغه متحركا وهو الذي يسمونه تغيرا فلو كان قد استدل بالحركة المسماة تغيرا لكان قد قال ذلك من حين رآه بازغا وليس مراد الخليل بقوله هذا ربي رب العالمين ولا أن هذا هو القديم الأزلي الواجب الوجود الذي كل ما سواه محدث ممكن مخلوق له ولا كان قومه يعتقدون هذا حتى يدلهم على فساده ولا اعتقد هذا أحد يعرف قوله بل قومه كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأصنام ويقرون بالصانع
ولهذا قال الخليل { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } سورة الشعراء 75 77 وقال { إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } سورة الزخرف 26 28 فذكر لهم ما كانوا يفعلونه من اتخاذ الكواكب والشمس والقمر ربا يعبدونه ويتقربون إليه كما هو عادة عباد الكواكب ومن يطلب تسخير روحانية الكواكب وهذا مذهب مشهور ما زال
(1/110)
عليه طوائف من المشركين إلى اليوم وهو الذي صنف فيه الرازي السر المكتوم وغيره من المصنفات
فإن قال المنازعون بل الخليل إنما أراد أن هذا رب العالمين
قيل فيكون إقرار الخليل حجة على فساد قولكم لأنه حينئذ يكون مقرا بأن رب العالمين قد يكون متحيزا متنقلا من مكان إلى مكان متغير وإنه لم يجعل هذه الحوادث تنافي وجوده وإنما جعل المنافي لذلك أفوله وهو مغيبه فتبين أن قصة الخليل إلى أن تكون حجة عليهم أقرب من أن تكون حجة لهم ولا حجة لهم فيها بوجه من الوجوه
وأفسد من ذلك قول من جعل الأفول بمعنى الإمكان وجعل كل ما سوى الله آفلا بمعنى كونه قديما أزليا حتى جعل السماوات والأرض والجبال والشمس والقمر والكواكب لم تزل ولا تزال آفلة وأن أفولها وصف لازم لها إذ هو كونها ممكنة والإمكان لازم لها فهذا مع كونه افتراء على اللغة والقرآن افتراء ظاهرا يعرفه كل أحد كما افترى غير ذلك من تسمية القديم الأزلي محدثا وتسميته مصنوعا فقصة الخليل حجة عليه فإنه لما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ولما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي فلما أفلت قال لا أحب الآفلين فتبين أنه أفل بعد أن لم يكن آفلا فكون الشمس والقمر والكوكب وكل ما سوى الله ممكنا هو وصف لازم له لا يحدث له بعد أن لم يكن
(1/111)
وهم يقولون إمكانه له من ذاته ووجوده من غيره بناء على تفريقهم في الخارج بين وجود الشيء وذاته فالإمكان عندهم أولى بذاته من الوجود
ولو قال فلما وجدت أو خلقت أو أبدعت قال لا أحب الموجودين والمخلوقين كان هذا قبيحا متناقضا إذ لم يزل كذلك فكيف إذا قال فلما صارت ممكنة وهي لم تزل ممكنة
وأيضا فهى من حين بزغت وإلى أن أفلت ممكنة بذاتها تقبل الوجود والعدم مع كونها عندهم قديمة أزلية يمتنع عدمها وحينئذ يكون كونها متحركة ليس بدليل عند إبراهيم على كونها ممكنة تقبل الوجود والعدم
وأما قول القائل كل متحرك محدث أو كل متحرك ممكن يقبل الوجود والعدم فهذه المقدمة ليست ضرورية فطرية باتفاق العقلاء بل من يدعي صحة ذلك يقول إنها لا تعلم إلا بالنظر الخفي ومن ينازع في ذلك يقول إنها باطلة عقلا وسمعا ويمثل من مثل بها في أوائل العلوم الكلية لقصوره وعجزه وهو نفسه يقدح فيها في عامة كتبه
وأما قوله كل متغير محدث أو ممكن فإن أراد بالتغير ما يعرف من ذلك في اللغة مثل استحالة الصحيح إلى المرض والعادل إلى الظلم والصديق إلى العداوة فإنه يحتاج في إثبات هذه الكلية إلى دليل وإن أراد بالتغير معنى الحركة أو قيام الحوادث مطلقا حتى تسمى الكواكب حين بزوغها متغيرة
(1/112)
ويسمى كل متكلم ومتحرك متغيرا فهذا مما يتعذر عليه إقامة الدليل فيه على دعواه
وأما استدلالهم بما في القرآن من تسمية الله أحدا وواحدا على نفي الصفات الذي بنوه على نفي التجسيم
فيقال لهم ليس في كلام العرب بل ولا عامة أهل اللغات أن الذات الموصوفة بالصفات لا تسمى واحدا ولا تسمى أحدا في النفي والإثبات بل المنقول وبالتواتر عن العرب تسمية الموصوف بالصفات واحدا وأحدا حيث أطلقوا ذلك ووحيدا
قال تعالى { ذرني ومن خلقت وحيدا } سورة المدثر 11 وهو الوليد ابن المغيرة
وقال تعالى { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف } سورة النساء 11 فسماها واحدة وهي امرأة واحدة متصفة بالصفات بل جسم حامل للأعراض
وقال تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } سورة التوبة 6
وقال تعالى { قالت إحداهما يا أبت استأجره } سورة القصص 26 وقال تعالى { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } سورة البقرة 282 وقال تعالى { فإن بغت إحداهما على الأخرى } سورة الحجرات 9
(1/113)
وقال { ولم يكن له كفوا أحد } سورة الإخلاص 4 وقال { قل إني لن يجيرني من الله أحد } سورة الجن 22 وقال تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } سورة الكهف 110 وقال تعالى { ولا يظلم ربك أحدا } سورة الكهف 49
فإن كان لفظ الأحد لا يقال على ما قامت به الصفات بل ولا على شيء من الأجسام التي تقوم بها الأعراض لأنها منقسمة لم يكن في الوجود غير الله من الملائكة والإنس والجن والبهائم من يدخل في لفظ أحد بل لم يكن في الموجودين ما يقال عليه في النفي أنه أحد فإذا قيل { ولم يكن له كفوا أحد } لم يكن هذا نفيا لمكافأة الرب إلا عمن لا وجود له ولم يكن في الموجودات ما أخبر عنه بهذا الخطاب أنه ليس كفؤا لله
وكذلك قوله { ولا أشرك بربي أحدا } سورة الكهف 38 { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } فإنه إذا لم يكن الأحد إلا ما لا ينقسم وكل مخلوق وجسم منقسم لم يكن في المخلوق ما يدخل في مسمى أحد فيكون التقدير ولا أشرك به ما لم يوجد ولا يشرك بربه ما لا يوجد
وإذا كان المراد النفي العام وأن كل موجود من الإنس والجن يدخل في مسمى أحد ويقال إنه أحد الرجلين ويقال للأنثى إحدى المرأتين ويقال للمرأة واحدة وللرجل واحد ووحيد علم أن اللغة التي نزل بها القرآن لفظ الواحد والأحد فيها يتناول الموصوفات بل يتناول الجسم الحامل
(1/114)
للأعراض ولم يعرف أنهم أرادوا بهذا اللفظ ما لم يوصف أصلا بل ولا عرف منهم أنهم لا يستعملونه إلا في غير الجسم بل ليس في كلامهم ما يبين استعمالهم له في غير ما يسيمه هؤلاء جسما فكيف يقال لا يدل إلا على نقيض ذلك ولم يعرف استعماله إلا في النقيض الذي أخرجوه منه الوجودي دون النقيض الذي خصوه به وهو العدمي وهل يكون في تبديل اللغة والقرآن أبلغ من هذا
وكذلك اسمه الصمد ليس في قول الصحابة إنه الذي لا جوف له ما يدل على أنه ليس بموصوف بالصفات بل هو على إثبات الصفات أدل منه على نفيها من وجوه مبسوطة في غير هذا الموضع
وكذلك قوله { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } سورة الشورى 11 وقوله { هل تعلم له سميا } سورة مريم 65 ونحو ذلك فإنه لا يدل على نفي الصفات بوجه من الوجوه بل ولا على نفي ما يسميه أهل الإصطلاح جسما بوجه من الوجوه
وأما احتجاجهم بقولهم الأجسام متماثلة فهذا إن كان حقا فهو تماثل يعلم بالعقل ليس فيه أن اللغة التي نزل بها القرآن تطلق لفظ المثل على كل جسم ولا أن اللغة التي نزل بها القرآن تقول إن السماء مثل الأرض والشمس والقمر والكواكب مثل الجبال والجبال مثل البحار والبحار مثل التراب والتراب مثل الهواء والهواء مثل الماء والماء مثل النار والنار مثل الشمس والشمس
(1/115)
مثل الإنسان والإنسان مثل الفرس والحمار والفرس والحمار مثل السفرجل والرمان والرمان مثل الذهب والفضة والذهب والفضة مثل الخبز واللحم ولا في اللغة التي نزل بها القرآن أن كل شيئين اشتركا في المقدارية بحيث يكون كل منهما له قدر من الأقدار كالطول والعرض والعمق أنه مثل الآخر ولا أنه إذا كان كل منهما بحيث يشار إليه الإشارة الحسية يكون مثل الآخر بل ولا فيها أن كل شيئين كانا مركبين من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة كان أحدهما مثل الآخر بل اللغة التي نزل بها القرآن تبين أن الإنسانين مع اشتراكهما في أن كلا منهما جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق ضحاك بادي البشرة قد لا يكون أحدهما مثل الآخر كما قال تعالى { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } سورة محمد 38 فقد بين أنه يستبدل قوما لا يكونون أمثال المخاطبين فقد نفى عنهم المماثلة مع اشتراكهم فيما ذكرناه فكيف يكون في لغتهم أن كل إنسان فإنه مماثل للإنسان بل مماثل لكل حيوان بل مماثل لكل جسم نام حساس بل مماثل لكل جسم مولد عنصري بل مماثل لكل جسم فلكي وغير فلكي
والله إنما أرسل الرسول بلسان قومه وهم قريش خاصة ثم العرب عامة لم ينزل القرآن بلغة من قال الأجسام متماثلة حتى يحمل القرآن على لغة هؤلاء
(1/116)
هذا لو كان ما قالوه صحيحا في العقل فكيف وهو باطل في العقل كما بسطناه في موضع آخر إذ المقصود هنا بيان أنه ليس لهم في نصوص الأنبياء إلا ما يناقض قولهم لا ما يعاضده
وكذلك الكفء قال حسان بن ثابت % أتهجوه ولست له بكفء % فشركما لخيركما الفداء %
فقد نفى أن يكون كفوا لمحمد مع أن كليهما جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق ولكن النصوص الإلهية لما دلت على أن الرب ليس له كفء في شيء من الأشياء ولا مثل له في أمر من الأمور ولا ند له في أمر من الأمور علم أنه لا يماثله شيء من الأشياء في صفة من الصفات ولا فعل من الأفعال ولا حق من الحقوق وذلك لا ينفي كونه متصفا بصفات الكمال
فإذا قيل هو حي ولا يماثله شيء من الأحياء فى أمر من الأمور وعليم وقدير وسميع وبصير ولا يماثلة عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير في أمر من الأمور كان ما دل عليه السمع مطابقا لما دل عليه العقل من عدم مماثلة شيء من الأشياء له في أمر من الأمور
(1/117)
وأما كون ما له حقيقة أو صفة أو قدر يكون بمجرد ذلك مماثلا لما له حقيقة أو صفة أو قدر فهذا باطل عقلا وسمعا فليس في لغة العرب ولا غيرهم إطلاق لفظ المثل على مثل هذا وإلا فيلزم أن يكون كل موصوف مماثلا لكل موصوف وكل ما له حقيقة مماثلا لكل ما له حقيقة وكل ما له حقيقة وكل ما له قدر مماثلا لكل ما له قدر وذلك يستلزم أن يكون كل موجود مماثلا لكل موجود وهذا مع أنه في غاية الفساد والتناقض لا يقوله عاقل فإنه يستلزم التماثل في جميع الأشياء فلا يبقى شيئان مختلفان غير متماثلين قط وحينئذ فيلزم أن يكون الرب مماثلا لكل شيء فلا يجوز نفي مماثلة شيء من الأشياء عنه وذلك مناقض للسمع والعقل فصار حقيقة قولهم في نفي التماثل عنه يستلزم ثبوت مماثلة كل شيء له فهم متناقضون مخالفون للشرع والعقل
الجواب الرابع أن يقال فهب أن بعض هذه النصوص قد يفهم منها مقدمة واحدة من مقدمات دليلكم فتلك ليست كافية بالضرورة عند العقلاء بل لا بد من ضم مقدمة أو مقدمات أخر ليس في القرآن ما يدل عليها ألبتة فإذا قدر أن الأفول هو الحركة فمن أين في القرآن ما يدل دلالة ظاهرة على أن كل متحرك محدث أو ممكن وأن الحركة لا تقوم إلا بحادث أو ممكن وأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث وأين في القرآن امتناع حوادث لا أول لها
بل أين في القرآن أن الجسم الإصطلاحي مركب من الجواهر الفردة التي لا تقبل الإنقسام أو من المادة والصورة وأن كل جسم فهو منقسم ليس بواحد
(1/118)
بل أين في القرآن أو لغة العرب أو أحد من الأمم أن كل ما يشار إليه أو كل ما له مقدار فهو جسم وأن كل ما شاركه في ذلك فهو مثل له في الحقيقة
ولفظ الجسم في القرآن مذكور في قوله تعالى { وزاده بسطة في العلم والجسم } سورة البقرة 247 وفي قوله { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } سورة المنافقون 4 وقد قال أهل اللغة إن الجسم هو البدن قال الجوهري في صحاحه قال أبو زيد الجسم الجسد وكذلك الجسمان والجثمان قال وقال الأصمعي الجسم والجسمان الجسد
ومعلوم أن أهل الإصطلاح نقلوا لفظ الجسم من هذا المعنى الخاص إلى ما هو أعم منه فسموا الهواء ولهيب النار وغير ذلك جسما وهذا لا تسميه العرب جسما كما لا تسميه جسدا ولا بدنا
ثم قد يراد بالجسم نفس الجسد القائم بنفسه وقد يراد به غلظه كما يقال لهذا الثوب جسم
وكذلك أهل العرف الإصطلاحي يريدون بالجسم تارة هذا وتارة هذا ويفرقون بين الجسم التعليمي المجرد عن المحل الذي يسمى المادة والهيولى وبين الجسم الطبيعي الموجود وهذا مبسوط في موضع آخر
(1/119)
والمقصود هنا أنه لو قدر أن الدليل يفتقر إلى مقدمات ولم يذكر القرآن إلا واحدة لم يكن قد ذكر الدليل إلا أن تكون البواقي واضحات لا تفتقر إلى مقدمات خفية فإنه إنما يذكر للمخاطب من المقدمات ما يحتاج إليه دون ما لا يحتاج إليه ومعلوم أن كون الأجسام متماثلة وأن الأجسام تستلزم الأعراض الحادثة وأن الحوادث لا أول لها من أخفى الأمور وأحوجها إلى مقدمات خفية لو كان حقا وهذا ليس في القرآن
فإن قيل بل كون الأجسام تستلزم الحوادث ظاهر فإنه لا بد للجسم من الحوادث وكون الحوادث لا أول لها ظاهر بل هذا معلوم بالضرورة كما ادعى ذلك كثير من نظار المتكلمين وقالوا نحن نعلم بالإضطرار أن ما لا يسبق الحوادث أو ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فإن ما لم يسبقها ولم يخل منها لا يكون قبلها بل إما معها وإما بعدها وما لم يكن قبل الحوادث بل معها أو بعدها لم يكن إلا حادثا فإنه لو لم يكن حادثا لكان متقدما على الحوادث فكان خاليا منها وسابقا عليها
قيل مثل هذه المقدمة وأمثالها منشأ غلط كثير من الناس فإنها تكون لفظا مجملا يتناول حقا وباطلا وأحد نوعيها معلوم صادق والآخر ليس كذلك فيلتبس المعلوم منها بغير المعلوم كما في لفظ الحادث والممكن والمتحيز والجسم والجهة والحركة والتركيب وغير ذلك من الألفاظ المشهورة بين النظار التي كثر فيها نزاعهم وعامتها ألفاظ مجملة تتناول أنواعا مختلفة
(1/120)
إما بطريق الإشتراك لاختلاف الإصطلاحات وإما بطريق التواطؤ مع اختلاف الأنواع فإذا فسر المراد وفصل المتشابه تبين الحق من الباطل والمراد من غير المراد
فإذا قال قائل نحن نعلم بالإضطرار أن ما لا يسبق الحوادث أو ما لا يخلو منها فهو حادث فقد صدق فيما فهمه من هذا اللفظ وليس ذلك من محل النزاع كلفظ القديم إذا قال قائل القرآن قديم وأراد به أنه نزل من أكثر من سبعمائة سنة وهو القديم في اللغة أو أراد أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزول القرآن فإن هذا مما لا نزاع فيه وكذلك إذا قال غير مخلوق وأراد به أنه غير مكذوب فإن هذا مما لم يتنازع فيه أحد من المسلمين وأهل الملل المؤمنين بالرسل
وذلك أن القائل إذا قال ما لا يسبق الحوادث فهو حادث فله معنيان أحدهما أنه لا يسبق الحادث المعين أو الحوادث المعينة أو المحصورة أو الحوادث التي يعلم أن لها ابتداء فإذا قدر أنه أريد بالحوادث كل ما له ابتداء واحد كان أو عددا فمعلوم أنه ما لم يسبق هذا أو لم يخل من هذا لا يكون قبله بل لا يكون إلا معه أو بعده فيكون حادثا وهذا مما لا يتنازع فيه عاقلان يفهمان ما يقولان
وليس هذا مورد النزاع ولكن مورد النزاع هو ما لم يخل من الحوادث المتعاقبة التي لم تزل متعاقبة هل هو حادث وهو مبنى على أن هذا هل يمكن وجوده أم لا فهل يمكن وجود حوادث متعاقبة شيئا بعد شيء دائمة لا ابتداء
(1/121)
لها ولا انتهاء وهل يمكن أن يكون الرب متكلما لم يزل متكلما إذا شاء وتكون كلماته لا نهاية لها لا ابتداء ولا انتهاء كما أنه في ذاته لم يزل ولا يزال لا ابتداء لوجوده ولا انتهاء له بل هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء فهو القديم الأزلي الدائم الباقي بلا زوال فهل يمكن أن يكون لم يزل متكلما بمشيئته فلا يكون قد صار متكلما بعد أن لم يكن ولا يكون كلامه مخلوقا منفصلا عنه ولا يكون متكلما بغير قدرته ومشيئته بل يكون متكلما بمشيئته وقدرته ولم يزل كذلك ولا يزال كذلك
هذا هو مورد النزاع بين السلف والأئمة الذين قالوا بذلك وبين من نازعهم في ذلك
والفلاسفة يقولون إن الفلك نفسه قديم أزلي لم يزل متحركا لكن هذا القول باطل من وجوه كثيرة ومعلوم بالإضطرار أن هذا مخالف لقولهم ومخالف لما أخبر به القرآن والتوراة وسائر الكتب بخلاف كونه لم يزل متكلما أو لم يزل فاعلا أو قادرا على الفعل فإن هذا مما قد يشكل على كثير من الناس سمعا وعقلا
وأما كون السماوات والأرض مخلوقتين محدثتين بعد العدم فهذا إنما نازع فيه طائفة قليلة من الكفار كأرسطو وأتباعه
وأما جمهور الفلاسفة مع عامة أصناف المشركين من الهند والعرب وغيرهم ومع المجوس وغيرهم ومع أهل الكتاب وغيرهم فهم متفقون على أن السماوات والأرض وما بينهما محدث مخلوق بعد أن لم يكن ولكن تنازعوا في مادة ذلك
(1/122)
هل هي موجودة قبل هذا العالم وهل كان قبله مدة ومادة أم هو أبدع ابتداء من غير تقدم مدة ولا مادة
فالذي جاء به القرآن والتوراة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله كما أخبر في القرآن أنه { استوى إلى السماء وهي دخان } أي بخار { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } سورة فصلت 11 وقد كان قبل ذلك مخلوق غيره كالعرش والماء كما قال تعالى { وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } سورة هود 7 وخلق ذلك في مدة غير مقدار حركة الشمس والقمر كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام
والشمس والقمر هما من السموات والأرض وحركتهما بعد خلقهما والزمان المقدر بحركتهما وهو الليل والنهار التابعان لحركتهما إنما حدث بعد خلقهما وقد أخبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخرى غير حركة الشمس والقمر
وهذا مذهب جماهير الفلاسفة الذين يقولون إن هذا العالم مخلوق محدث وله مادة متقدمة عليه لكن حكي عن بعضهم أن تلك المادة المعينة قديمة أزلية وهذا أيضا باطل كما قد بسط في غير هذا الموضع فإن المقصود هنا إشارة مختصرة إلى قول من يقول إن أقوال هؤلاء دل عليها السمع
(1/123)
فإن قيل إبطال حوادث لا أول لها قد دل عليه قوله تعالى { وكل شيء عنده بمقدار } سورة الرعد 8 وقوله { وأحصى كل شيء عددا } سورة الجن 28 كما ذكر ذلك طائفة من النظار فإن ما لا ابتداء له ليس له كل وقد أخبر أنه أحصى كل شيء عددا
قيل هذا لو كان حقا لكان دلالة خفية لا يصلح أن يحال عليها كنفي ما دل على الصفات فإن تلك نصوص كثيرة جليلة وهذا لو قدر أنه دليل صحيح فإنه يحتاج إلى مقدمات كثيرة خفية لو كانت حقا مثل أن يقال هذا يستلزم بطلان حوادث لا أول لها وذلك يستلزم حدوث الجسم لأن الجسم لو كان قديما للزم حوادث لا بداية لها لأن الجسم يستلزم الحوادث فلا يخلو منها لاستلزامه الأكوان أو الحركات أو الأعراض ثم يقال بعد هذا وإثبات الصفات يستلزم كون الموصوف جسما
وهذه المقدمة تناقض فيها عامة من قالها كما سنبينه إن شاء الله تعالى فكيف وقوله { وأحصى كل شيء عددا } لا يدل على ذلك فإنه سبحانه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وقال { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } سورة يس 12 فقد أحصى وكتب ما يكون قبل أن يكون إلى أجل محدود فقد أحصى المستقبل المعدوم كما أحصى الماضي الذي وجد ثم عدم
(1/124)
ولفظ الإحصاء لا يفرق بين هذا وبين هذا فإن كان الإحصاء يتناول ما لا يتناهى جملة فلا حجة في الآية وإن قيل بل أحصى المستقبل تقديره جملة بعد جملة لم يكن في الأية حجة فإنه يمكن أن يقال في الماضي كذلك
ومسألة تناول العلم لما لا يتناهى مسألة مشكلة على القولين ليس الغرض هنا إنهاء القول فيها بل المقصود أن مثل هذه الآية لم يرد الله بها إبطال دوام كونه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته
ومما يشبه هذا إذا قيل العالم حادث أم ليس بحادث والمراد بالعالم في الإصطلاح هو كل ما سوى الله فإن هذه العبارة لما معنى في الظاهر المعروف عند عامة الناس أهل الملل وغيرهم ولها معنى في عرف المتكلمين وقد أحدث الملاحدة لها معنى ثالثا
فالذي يفهمه الناس من هذا الكلام أن كل ما سوى مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن وأن الله وحده هو القديم الأزلي ليس معه شيء قديم تقدمه بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن فهو المختص بالقدم كما اختص الخلق والإبداع والإلهية والربوبية وكل ما سواه محدث مخلوق مربوب عبد له
وهذا المعنى هو المعروف عن الأنبياء وأتباع الأنبياء من المسلمين واليهود والنصارى وهو مذهب أكثر الناس غير أهل الملل من الفلاسفة وغيرهم
والمعنى الثاني أن يقال لم يزل الله لا يفعل شيئا ولا يتكلم بمشيئته ثم حدثت الحوادث من غير سبب يقتضي ذلك مثل أن يقال إن كونه لم يزل متكلما بمشيئته أو فاعلا بمشيئته بل لم يزل قادرا هو ممتنع وإنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها فهذا المعنى هو الذي يعنيه أهل الكلام من الجهمية
(1/125)
والمعتزلة ومن اتبعهم بحدوث العالم وقد يحكونه عن أهل الملل وهو بهذا المعنى لا يوجد لا في القرآن ولا غيره من كتب الأنبياء لا التوراة ولا غيرها ولا في حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف هذا عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
والمعنى الثالت الذي أحدثه الملاحدة كابن سينا وأمثاله قالوا نقول العالم محدث أي معلول لعلة قديمة أزلية أوجبته فلم يزل معها وسموا هذا الحدوث الذاتي وغيره الحدوث الزماني
والتعبير بلفظ الحدوث عن هذا المعنى لا يعرف عن أحد من أهل اللغات لا العرب ولا غيرهم إلا من هؤلاء الذين ابتدعوا لهذا اللفظ هذا المعنى والقول بأن العالم محدث بهذا المعنى فقط ليس قول أحد من الأنبياء ولا أتباعهم ولا أمة من الأمم العظيمة ولا طائفة من الطوائف المشهورة التي اشتهرت مقالاتها في عموم الناس بحيث كان أهل مدينة على هذا القول وإنما يقول هذا طوائف قليلة مغمورة في الناس
وهذا القول إنما هو معروف عن طائفة من المتفلسفة المليين كابن سينا وأمثاله وقد يحكون هذا القول عن أرسطو وقوله الذي في كتبه أن العالم قديم وجمهور الفلاسفة قبله يخالفونه ويقولون إنه محدث ولم يثبت في كتبه للعالم فاعلا موجبا له بذاته وإنما أثبت له علة يتحرك للتشبه بها ثم جاء الذين
(1/126)
أرادوا إصلاح قوله فجعلوا العلة أولى لغيرها كما جعلها الفارابي وغيره ثم جعلها بعض الناس آمرة للفلك بالحركة لكن يتحرك للتشبه بها كما يتحرك العاشق للمعشوق وإن كان لا شعور له ولا قصد وجعلوه مدبرا بهذا الإعتبار كما فعل ابن رشد وابن سينا جعلوه موجبا بالذات لما سواه وجعلوا ما سواه ممكنا
الوجه الخامس أن يقال غاية ما يدل عليه السمع إن دل على أن الله ليس بجسم وهذا النفي يسلمه كثير ممن يثبت الصفات أو أكثرهم وينفيه بعضهم ويتوقف فيه بعضهم ويفصل القول فيه بعضهم
ونحن نتكلم على تقدير تسليم النفي فنقول ليس في هذا النفي ما يدل على صحة مذهب أحد من نفاة الصفات أو الأسماء بل ولا يدل ذلك على تنزيهه سبحانه عن شيء من النقائص فإن من نفى شيئا من الصفات لكون إثباته تجسيما وتشبيها يقول له المثبت قولي فيما أثبته من الصفات والأسماء كقولك فيما أثبته من ذلك فإن تنازعا في الصفات الخبرية أو العلو أو الرؤية أو نحو ذلك وقال له النافي هذا يستلزم التجسيم والتشبيه لأن لا يعقل ما هو كذلك
(1/127)
إلا الجسم قال له المثبت لا يعقل ما له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام وإرادة إلا ما هو جسم فإذا جاز لك أن تثبت هذا الصفات وتقول الموصوف بها ليس بجسم جاز لي مثل ما جاز لك من إثبات تلك الصفات مع أن الموصوف بها ليس بجسم فإذن جاز أن يثبت مسمى بهذه الأسماء ليس بجسم
فإن قال له هذه معان وتلك أبعاض
قال له الرضا والغضب والحب والبغض معان واليد والوجه وإن كان بعضا فالسمع والبصر والكلام أعراض لا تقوم إلا بجسم فإن جاز لك إثباتها مع أنها ليست أعراضا ومحلها ليس بجسم جاز لي إثبات هذه مع أنها ليست أبعاضا
فإن قال نافي الصفات أنا لا أثبت شيئا منها
قال له أنت أبهمت الأسماء فأنت تقول هو حي عليم قدير ولا تعقل حيا عليما قديرا إلا جسما وتقول إنه هو ليس بجسم فإذا جاز لك أن تثبت مسمى بهذه الأسماء ليس بجسم مع أن هذا ليس معقولا لك جاز لي أن أثبت موصوفا بهذه الصفات وإن كان هذا غير معقول لي
فإن قال الملحد أنا أنفي الأسماء والصفات
قيل له إما أن تقر بأن هذا العالم المشهود مفعول مصنوع له صانع فاعله أو تقول إنه قديم أزلي واجب الوجود بنفسه غنى عن الصانع
(1/128)
فإن قلت بالأول فصانعه إن قلت هو جسم فقد وقعت فيما نفيته وإن قلت ليس بجسم فقد أثبت فاعلا صانعا للعالم ليس بجسم وهذا لا يعقل في الشاهد
فإذا أثبت خالقا فاعلا ليس بجسم وأنت لا تعرف فاعلا إلا جسما كان لمنازعك أن يقول هو حي عليم ليس بجسم وإن كان لا يعرف حيا عليما إلا جسما بل لزمك أن تثبت له من الصفات والأسماء ما يناسبه
وإن قال الملحد بل هذا العالم المشهود قديم واجب بنفسه غني عن الصانع فقد أثبت واجبا بنفسه قديما أزليا هو جسم حامل للأعراض متحيز في الجهات تقوم به الأكوان وتحله الحوادث والحركات وله أبعاض وأجزاء فكان ما فر منه من إثبات جسم قديم قد لزمه مثله وما هو أبعد منه ولم يستفد بذلك الإنكار إلا جحد الخالق وتكذيب رسله ومخالفة صريح المعقول والضلال المبين الذي هو منتهى ضلال الضالين وكفر الكافرين
فقد تبين أن قول من نفى الصفات أو شيئا منها لأن إثباتها تجسيم قول لا يمكن أحدا أن يستدل به بل ولا يستدل أحد على تنزيه الرب عن شيء من النقائص بأن ذلك يستلزم التجسيم لأنه لا بد أن يثبت شيئا يلزمه فيما أثبته نظير ما ألزمه غيره فيما نفاه وإذا كان اللازم في الموضعين واحدا وما أجاب هو به أمكن المنازع له أن يجيب بمثله لم يمكنه أن يثبت شيئا وينفى شيئا على هذا
(1/129)
التقدير وإذا انتهى إلى التعطيل المحض كان ما لزمه من تجسيم الواجب بنفسه القديم أعظم من كل تجسيم نفاه فعلم أن مثل هذا الإستدلال على النفي بما يستلزم التجسيم لا يسمن ولا يعني من جوع
وأما الجواب لأهل المقام الثاني وهم محققو النفاة الذين يقولون السمع لم يدل إلا على الإثبات ولكن العقل دل على النفي فجوابهم من وجوه
أحدها أن يقال نحن في هذا المقام مقصودنا أن العقل الذي به يعلم صحة السمع لا يستلزم النفي المناقض للسمع وقد تبين أن الأنبياء لم يدعو الناس بهذه الطريق المستلزمة للنفي طريقة الأعراض وأن الذين آمنوا بهم وعلموا صدقهم لم يعلموه بهذه الطريق وحينئذ فإذا قدر أن معقولكم خالف السمع لم يكن هذا المعقول أصلا في السمع ولم يكن السمع قد ناقض المعقول الذي عرفت به صحته وهذا هو المطلوب
وإذا قلتم نحن لم نعرف صحة السمع إلا بهذه الطريق أو قلتم نعرف السمع إلا بهذه الطريق
قيل لكم أما شهادتكم على أنفسكم بأنكم لم تعرفوا السمع إلا بهذه الطريق فقد شهدتم على أنفسكم بضلالكم وجهلكم بالطرق التي دعت بها الانبياء أتباعهم
(1/130)
وإذا كنتم لا تعرفون تلك الطرق فأنتم جهال بطرق الأنبياء وبما بينوا به إثبات الصانع وتصديق رسله فلا يجوز لكم حينئذ أن تقولوا إن صدقهم لا يعرف إلا بمعقول يناقض المنقول عنهم
وأما إذا قلتم لا يمكن أن يعرف الله إلا بهذه الطريق فهذه شهادة زور وتكذيب بما لم تحيطوا بعلمه ونفي لا يمكنكم معرفته فمن أين تعرفون أن جميع بني آدم من الأنبياء وأتباع الأنبياء لا يمكنهم أن يعرفوا الله إلا بإثبات الأعراض وحدوثها ولزومها للجسم وامتناع حوادث لا أول لها أو بنحو هذا الطريق وهل الإقدام على هذا النفي إلا من قول من هو أجهل الناس وأضلهم وأبعدهم عن معرفة طرق العلم وأدلته والأسباب التي بها يعرف الناس ما لم يعرفوه وهذا النفي قاله كثير من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم وهذه حاله وهذا النفي عمدة هؤلاء
الوجه الثاني أن يقال لهم بل صدق الرسول يعلم بطرق متعددة لا تحتاج إلى هذا النفي كما أقر بذلك جمهور النظار حتى إن مسألة حدوث العالم أعترف بها أكابر النظار من المسلمين وغير المسلمين حتى إن موسى بن ميمون صاحب دلالة الحائرين وهو في اليهود كأبي حامد الغزالي في المسلمين يمزج الأقوال
(1/131)
النبوية بالأقوال الفلسفية ويتأولها عليها حتى الرازي وغيره من أعيان النظار اعترفوا بأن العلم بحدوث العالم لا يتوقف على الأدلة العقلية بل يمكن معرفة صدق الرسول قبل العلم بهذه المسألة ثم يعلم حدوث العالم بالسمع فهؤلاء اعترفوا بإمكان كونها سمعية فضلا عن وجوب كونها عقلية فضلا عن كونها أصلا للسمع فضلا عن كونها لا أصل للسمع سواها
وأيضا فقد اعترف أئمة النظار بطرق متعددة لا يتوقف شيء منها على نفي الجسم ولا نفي الصفات
الوجه الثالث أن يقال إذا كانت الرسل والأنبياء قد اتبعهم أمم لا يحصى عددهم إلا الله من غير أن يعتمدوا على هذه الطريق وهو يخبرون أنهم علموا صدق الرسول يقينا لا ريب فيه وظهر منهم من أقوالهم وأفعالهم ما يدل على أنهم عالمون بصدق الرسول متيقنون لذلك لا يرتابون فيه وهم عدد كثير أضعاف أضعاف أضعاف أي تواتر قدر فعلم أنهم لم يجتمعوا ويتواطأوا على هذا الإخبار الذي يخبرون به عن أنفسهم علم قطعا أنه حصل لهم علم يقيني بصدق الرسول من غير هذه الطريقة المستلزمة لنفي شيء من الصفات
الوجه الرابع أن نبين فساد هذه الأقوال المخالفة لنصوص الأنبياء وفساد طرقها التي جعلها أصحابها براهين عقلية كما سيأتي إن شاء الله
(1/132)
الوجه الخامس أن نبين أن الأدلة العقلية الصحيحة البينة التي لا ريب فيها بل العلوم الفطرية الضرورية توافق ما أخبرت به الرسل لا تخالفه وأن الأدلة العقلية الصحيحة جميعها موافقة للسمع لا تخالف شيئا من السمع وهذا ولله الحمد قد اعتبرته فيما ذكره عامة الطوائف فوجدت كل طائفة من طوائف النظار أهل العقليات لا يذكر أحد منهم في مسألة ما دليلا صحيحا يخالف ما أخبرت به الرسل بل يوافقه حتى الفلاسفة القائلين بقدم العالم كأرسطو وأتباعه ما يذكرونه من دليل صحيح عقلي فإنه لا يخالف ما أخبرت به الرسل بل يوافقه وكذلك سائر طوائف النظار من أهل النفي والإثبات لا يذكرون دليلا عقليا في مسألة إلا والصحيح منه موافق لا مخالف
وهذا يعلم به أن المعقول الصريح ليس مخالفا لأخبار الأنبياء على وجه التفصيل كما نذكره إن شاء الله في موضعه ونبين أن من خالف الأنبياء فليس لهم عقل ولا سمع كما أخبر الله عنهم بقوله تعالى { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير } سورة الملك 8 11
ثم نذكر وجوها أخر لبيان فساد هذا الأصل الذي يتوسل به أهل الإلحاد إلى رد ما قاله الله ورسوله فنقول
(1/133)
الوجه الرابع
أن يقال العقل إما أن يكون عالما بصدق الرسول وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر وإما أن لا يكون عالما بذلك
فإن لم يكن عالما امتنع التعارض عنده إذا كان المعقول معلوما له لأن المعلوم لا يعارضه المجهول وإن لم يكن المعقول معلوما له لم يتعارض مجهولان
وإن كان عالما بصدق الرسول امتنع مع هذا أن لا يعلم ثبوت ما أخبر به في نفس الأمر غايته أن يقول هذا لم يخبر به والكلام ليس هو فيما لم يخبر به بل إذا علم أن الرسول أخبر بكذا فهل يمكنه مع علمه بصدقه فيما أخبر وعلمه أنه أخبر بكذا أن يدفع عن نفسه علمه بثبوت المخبر أن أم يكون علمه بثبوت مخبره لازما له لزوما ضروريا كما تلزم سائر العلوم لزوما ضروريا لمقدماتها
وإذا كان كذلك فإذا قيل له في مثل هذا لا تعتقد ثبوت ما علمت أنه أخبر به لأن هذا الإعتقاد ينافي ما علمت به أنه صادق كان حقيقة الكلام لا تصدقه في هذا الخبر لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه فيقول وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور فإذا قيل لا تصدقه لئلا يلزم أن لا تصدقه كان كما لو قيل كذبه لئلا يلزم أن تكذبه فيكون المنهي عنه هو المخوف المحذور من فعل المنهي عنه والمأمور به هو المحذور من ترك المأمور به فيكون واقعا في المنهي عنه سواء أطاع أو عصى ويكون تاركا للمأمور به سواء أطاع
(1/134)
أو عصى ويكون وقوعه في المخوف المحذور على تقدير الطاعة لهذا الآمر الذي أمره بتكذيب ما تيقن أن الرسول أخبر به أعجل وأسبق منه على تقدير المعصية والمنهي عنه على هذا التقدير هو التصديق والمأمور به هو التكذيب وحينئذ فلا يجوز النهي عنه سواء كان محذورا أو لم يكن فإنه إن لم يكن محذورا لم يجز أن ينهى عنه وإن كان محذورا فلا بد منه على التقديرين فلا فائدة في النهي عنه بل إذا كان عدم التصديق هو المحذور كان طلبه ابتداء أقبح من طلب غيره لئلا يفضي إليه فإن من أمر بالزنا كان أمره به أقبح من أن يأمر بالخلوة المفضية إلى الزنا
فهكذا حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علموا أنه أخبر به بعد علمهم أنه رسول الله لئلا يفضي تصديقهم له إلى عدم تصديقهم له بل إذا قيل له لا تصدقه في هذا كان هذا أمرا له بما يناقض ما علم به صدقه فكان أمرا له بما يوجب أن لا يثق بشيء من خبره فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز ذلك مي غيره
ولهذا آل الأمر بمن يسلك هذا الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله تعالى وأفعاله بل وباليوم الآخر عند بعضهم لاعتقادهم أن هذه فيها ما يرد بتكذيب أو تأويل وما لا يرد وليس لهم قانون يرجعون إليه في هذا الأمر من جهة الرسالة بل هذا يقول ما أثبته عقلك فأثبته وإلا فلا وهذا يقول ما أثبته كشفك فأثبته وإلا فلا
(1/135)
فصار وجود الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم كعدمه في المطالب الإلهية وعلم الربوبية بل وجوده على قولهم أضر من عدمه لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئا واحتاجوا إلى أن يدفعوا ما جاء به إما بتكذيب وإما بتفويض وإما بتأويل وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
فإن قالوا لا يتصور أن يعلم أنه أخبر بما ينافي العقل فإنه منزه عن ذلك وهو ممتنع عليه
قيل لهم فهذا إقرار منكم بامتناع معارضة الدليل العقلي للسمعي
فإن قالوا إنما أردنا معارضة ما يظن أنه دليل وليس بدليل أصلا أو يكون دليلا ظنيا لتطرق الظن إلا بعض مقدماته إما في الإسناد وإما في المتن كإمكان كذب المخبر أو غلطه وكإمكان احتمال اللفظ لمعنيين فصاعدا
قيل إذا فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته جهل أو بما يظن أنه دليل وليس بدليل أمكن أن يفسر الدليل العقلى المعارض للشرع بما ليس بدليل فى نفس الأمر بل اعتقاد دلالته جهل أو بما يظن أنه دليل و وليس بدليل
وحينئذ فمثل هذا وإن سماه أصحابه براهين عقلية أو قواطع عقلية وهو ليس بدليل في نفس الأمر أو دلالته ظنية إذا عارض ما هو دليل
(1/136)
سمعي يستحق أن يسمى دليلا لصحة مقدماته وكونها معلومة وجب تقديم الدليل السمعي عليه بالضرورة واتفاق العقلاء
فقد تبين أنهم بأي شيء فسروا جنس الدليل الذي رجحوه أمكن تفسير الجنس الآخر بنظيره وترجيحه كما رجحوه وهذا لأنهم وضعوا وضعا فاسدا حيث قدموا ما لا يستحق التقديم لا عقلا ولا سمعا وتبين بذلك أن تقديم الجنس على الجنس باطل بل الواجب أن ينظر في عين الدليلين المتعارضين فيقدم ما هو القطعي منهما أو الراجح إن كانا ظنيين سواء كان هو السمعي أو العقلي ويبطل هذا الأصل الفاسد الذي هو ذريعة إلى الإلحاد الوجه الخامس
أنه إذا علم صحة السمع وأن ما أخبر به الرسول فهو حق فإما أن يعلم أنه أخبر بمحل النزاع أو يظن أنه أخبر به أولا يعلم ولا يظن
فإن علم أنه أخبر به امتنع أن يكون في العقل ما ينافي المعلوم بسمع أو غيره فإن ما علم ثبوته أو انتفاؤه لا يجوز أن يقوم دليل يناقض ذلك
وإن كان مظنونا أمكن أن يكون في العقل علم ينفيه وحينئذ فيجب تقديم العلم على الظن لا لكونه معقولا أو مسموعا بل لكونه علما كما يجب تقديم ما علم بالسمع على ما ظن بالعقل وإن كان الذي عارضه من العقل ظنيا فإن تكافآ وقف الأمر وإلا قدم الراجح
وإن لم يكن في السمع علم ولا ظن فلا معارضة حينئذ فتبين أن الجزم بتقديم العقل مطلقا خطأ وضلال
(1/137)
الوجه السادس
أن يقال إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل
ومعلوم أن هذا إذا قيل أوجه من قولهم كما قال بعضهم يكفيك من العقل أن يعلمك صدق الرسول ومعاني كلامه وقال بعضهم العقل متول ولى الرسول ثم عزل نفسه لأن العقل دل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر
والعقل يدل على صدق الرسول دلالة عامة مطلقة وهذا كما أن العامي إذا لم عين المفتي ودل غيره عليه وبين له أنه عالم مفت ثم اختلف العامي الدال والمفتي وجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي فإذا قال له العامي أنا الأصل في علمك بأنه مفت فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض قدحت في الأصل الذي به علمت أنه مفت قال له المستفتي أنت لما شهدت بأنه مفت ودللت على ذلك شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك كما شهد به دليلك وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم أني أوافقك في العلم بأعيان المسائل وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد واستدلال ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئا في الإجتهاد والإستدلال الذي خالفت به من يجب عليك
(1/138)
تقليده واتباع قوله وإن لم تكن مخطئا في الإجتهاد والإستدلال الذي به علمت أنه عالم مفت يجب عليك تقليده هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ والعقل يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم في خبره عن الله تعالى لا يجوز عليه الخطأ فتقديمه قول المعصوم على ما يخالفه من استدلاله العقلي أولى من تقديم العامي قول المفتي على قوله الذي يخالفه
وكذلك أيضا إذا علم الناس وشهدوا أن فلانا خبير بالطب أو القيافة أو الخرص أو تقويم السلع ونحو ذلك وثبت عند الحاكم أنه عالم بذلك دونهم أو أنه أعلم منهم بذلك ثم نازع الشهود الشاهدون لأهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم أهل العلم بذلك وجب تقديم قول أهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم لى قول الشهود الذين شهدوا لهم وإن قالوا نحن زكينا هؤلاء وبأقوالنا ثبتت أهليتهم فالرجوع في محل النزاع إليهم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولهم
كما قال بعض الناس أن العقل مزكى الشرع ومعدله فإذ قدم الشرع عليه كان قدحا فيمن زكاه وعدله فيكون قدحا فيه
(1/139)
قيل لهم أنتم شهدتم بما علمتم من أنه من أهل العلم بالطب أو التقويم أو الخرص أو القيافة ونحو ذلك أن قوله في ذلك مقبول دون قولكم فلو قدمنا قولكم عليه في هذه المسائل لكان ذلك قدحا في شهادتكم وعلمكم بأنه أعلم منكم بهذه الأمور وإخباركم بذلك لا ينافي قبول قوله دون أقوالكم في ذلك إذ يمكن إصابتكم في قولكم هو أعلم منا وخطؤكم في قولكم نحن أعلم ممن هو أعلم منا فيما ينازعنا فيه من المسائل التي هو أعلم بها منا بل خطؤكم في هذا أظهر
والإنسان قد يعلم أن هذا أعلم منه بالصناعات كالحراثة والنساجة والبناء والخياطة وغير ذلك من الصناعات وإن لم يكن عالما بتفاصيل تلك الصناعة فإذا تنازع هو وذلك الذي هو أعلم منه لم يكن تقديم قول الأعلم منه في موارد النزاع قدحا فيما علم به أنه أعلم منه
ومن المعلوم أن مباينة الرسول صلى الله عليه وسلم لذوي العقول أعظم من مباينة أهل العلم بالصناعات العلمية والعملية والعلوم العقلية الإجتهادية كالطب والقيافة والخرص والتقويم لسائر الناس فإن من الناس من يمكنه أن يصير عالما بتلك الصناعات العلمية والعملية كعلم أربابها بها ولا يمكن من لم يجعله الله رسولا إلى الناس أن يصير بمنزلة من جعله الله تعالى رسولا إلى الناس فإن
(1/140)
النبوة لا تنال بالإجتهاد كما هو مذهب أهل الملل وعلى قول من يجعلها مكتسبة من أهل الإلحاد من المتفلسفة وغيرهم فإنها عندهم أصعب الأمور فالوصول إليها أصعب بكثير من الوصول إلى العلم بالصناعات والعلوم العقلية
وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينازعه في خبره كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه وأن لا يقدم رأيه على قوله ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه وأنه أعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة وأهل العلم بالطب
فإذا كان عقله يوجب أن ينقاد لطبيب يهودي فيما أخبره به من مقدرات من الأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات واستعمالها على وجه مخصوص مع ما في ذلك من الكلفة والألم لظنه أن هذا أعلم بهذا مني وأني إذا صدقته كان ذلك أقرب إلى حصول الشفاء لي مع علمه بأن الطبيب يخطئ كثيرا وأن كثيرا من الناس لا يشفى بما يصفه الطبيب بل قد يكون استعماله لما يصفه سببا في هلاكه ومع هذا فهو يقبل قوله ويقلده وإن كان ظنه واجتهاده يخالف وصفه فكيف حال الخلق مع الرسل عليهم الصلاة والسلام
(1/141)
والرسل صادقون مصدوقون لا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به قط والذين يعارضون أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال فكيف يجوز أن يعارض ما لم يخطئ قط بما لم يصب في معارضته له قط
فإن قيل فالشهود إذا عدلوا شخصا ثم عاد ذلك المعدل فكذبهم كان تصديقه في جرحهم جرحا في طريق تعديله
قيل ليس هذا وزان مسألتنا فإن المعدل إما أن يقول هم فساق لا يجوز قبول شهادتهم وإما أن يقول هم في هذه الشهادة المعينة أخطأوا أو كذبوا فإن جرحهم مطلقا كان نظير هذا أن يكون الشرع قد قدح في دلالة العقل مطلقا وليس الأمر كذلك فإن الأدلة الشرعية لا تقدح في جنس الأدلة العقلية
وأما إذا قدح في شهادة معينة من شهادات مزكيه وقال إنهم أخطأوا فيها فهذا لا يعارض تزكيتهم له باتفاق العقلاء فإن المزكي للشاهد ليس من شرطه أن لا يغلط ولا يلزم من خطئه في شهادة معينة خطؤه في تعديل من عدله وفي غير ذلك من الشهادات
وإذا قال المعدل المزكى في بعض شهادات معدله ومزكيه قد أخطأ فيها لم يضره هذا باتفاق العقلاء بل الشاهد العدل قد ترد شهادته لكونه خصما
(1/142)
أو ظنيا لعداوة أو غيرها وإن لم يقدح ذلك في سائر شهاداته فلو تعارضت شهادة المعدل والمعدل وردت شهادة المعدل لكونه خصما أو ظنينا لم يقدح ذلك في شهادة الآخر وعدالته فالشرع إذا خالف العقل في بعض موارد النزاع ونسبه في ذلك إلى الخطأ والغلط لم يكن ذلك قدحا في كل ما يعلمه العقل ولا في شهادته له بأنه صادق مصدوق
ولو قال المعدل إن الذي عدلني كذب في هذه الشهادة المعينة فهذا أيضا ليس نظيرا لتعارض العقل والسمع فإن الأدلة السمعية لا تدل على أن أهل العقول الذين حصلت لهم شبه خالفوا بها الشرع تعمدوا الكذب في ذلك
وهب أن الشخص الواحد والطائفة المعينة قد تتعمد الكذب لكن جنس الأدلة المعارضة لا توصف بتعمد الكذب
وأيضا فالشاهد إذا صرح بتكذيب معدليه لم يكن تكذيب المعدل من عدله في قضية معينة مستلزما للقدح في تعديله لأنه يقول كان عدلا حين زكاني ثم طرأ عليه الفسق فصار يكذب بعد ذلك ولا ريب أن العدول إذا عدلوا شخصا ثم حدث ما أوجب فسقهم لم يكن ذلك قادحا في تعديلهم الماضي كما لا يكون قادحا في غير ذلك من شهاداتهم
(1/143)
فتبين أن تمثيل معارضة الشرع للعقل بهذا ليس فيه حجة على تقديم آراء العقلاء على الشرع بوجه من الوجوه
وأيضا فإذا سلم أن هذا نظير تعارض الشرع والعقل فيقال من المعلوم أن الحاكم إذا سمع جرح المعدل وتكذيبه لمن عدله في بعض ما أخبر به لم يكن هذا مقتضيا لتقديم قول الذين زكوه بل يجوز أن يكونوا صادقين في تعديله كاذبين فيما كذبهم فيه ويجوز أن يكونوا كاذبين في تعديله وفي هذا ويجوز أن يكونوا كاذبين في تعديله صادقين في هذا سواء كانوا متعمدين للكذب أو مخطئين وحينئذ فالحاكم يتوقف حتى يتبين له الأمر لا يرد قول الذين عدلوه بمجرد معارضته لهم فلو كان هذا وزان تعارض العقل والشرع لكان موجب ذلك الوقف دون تقديم العقل الوجه السابع
أن يقال تقديم المعقول على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض وأما تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكن مؤتلف فوجب الثاني دون الأول وذلك لأن كون الشيء معلوما بالعقل أو غير معلوم بالعقل ليس هو صفة لازمه لشيء من الأشياء بل هو من الأمور النسبية الإضافية فإن زيدا قد يعلم بعقله ما لا يعلمه بكر بعقله وقد يعلم الإنسان في حال بعقله ما يجهله في وقت آخر
والمسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والشرع جميعها مما اضطرب فيه العقلاء ولم يتفقوا فيها على أن موجب العقل كذا بل كل من العقلاء
(1/144)
يقول إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ ما يقول الآخر إن العقل نفاه أو أحاله أو منع منه بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية فيقول هذا نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر إنه غير معلوم بالضرورة العقلية
كما يقول أكثر العقلاء نحن نعلم بالضرورة العقلية امتناع رؤية مرئى من غير معاينة ومقابلة ويقول طائفة من العقلاء إن ذلك ممكن
ويقول أكثر العقلاء إنا نعلم أن حدوث حادث بلا سبب حادث ممتنع ويقول طائفة من العقلاء إن ذلك ممكن
ويقول أكثر العقلاء إن كون الموصوف عالما بلا علم قادرا بلا قدرة حيا بلا حياة ممتنع في ضرورة العقل وآخرون ينازعون في ذلك
ويقول أكثر العقلاء إن كون الشيء الواحد أمرا نهيا خبرا ممتنع في ضرورة العقل وآخرون ينازعون في ذلك
ويقول أكثر العقلاء إن كون العقل والعاقل والمعقول والعشق والعاشق والمعشوق والوجود والموجود والوجوب والعناية أمرا واحدا هو ممتنع في ضرورة العقل وآخرون ينازعون في ذلك
ويقول جمهور العقلاء إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وإن لفظ الوجود يعمهما ويتناولها وإن هذا معلوم بضرورة العقل ومن الناس من ينازع في ذلك
(1/145)
ويقول جمهور العقلاء إن حدوث الأصوات المسموعة من العبد بالقرآن أمر معلوم بضرورة العقل ومن الناس من ينازع في ذلك
وجمهور العقلاء يقولون إثبات موجودين ليس أحدهما مباينا للآخر ولا داخلا فيه أو إثبات موجود ليس بداخل العالم ولا خارجه معلوم الفساد بضرورة العقل ومن الناس من نازع في ذلك
وجمهور العقلاء يعلمون أن كون نفس الإنسان هي العالمة بالأمور العامة الكلية والأمور الخاصة الجزئية معلوم بضرورة العقل ومن الناس من نازع في ذلك وهذا باب واسع
فلو قيل بتقديم العقل على الشرع وليست العقول شيئا واحدا بينا بنفسه ولا عليه دليل معلوم للناس بل فيها هذا الإختلاف والإضطراب لوجب أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته ولا اتفاق للناس عليه
وأما الشرع فهو في نفسه قول الصادق وهذه صفة لازمة له لا تختلف باختلاف أحوال الناس والعلم بذلك ممكن ورد الناس إليه ممكن ولهذا جاء التنزيل برد الناس عند التنازع إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } سورة النساء 59 فأمر الله تعالى المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول وهذا
(1/146)
يوجب تقديم السمع وهذا هو الواجب إذ لو ردوا إلى غير ذلك من عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم وبراهينهم لم يزدهم هذا الرد إلا اختلافا واضطرابا وشكا وارتيابا
ولذلك قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } سورة البقرة 213
فأنزل الله الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه إذ لا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والإختلاف على الإطلاق إلا بكتاب منزل من السماء ولا ريب أن بعض الناس قد يعلم بعقله ما لا يعلمه غيره وإن لم يمكنه بيان ذلك لغيره ولكن ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع ألبتة بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط قط
وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع
وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط بل السمع الذي يقال إنه يخالفه إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة فلا يصلح أن يكون دليلا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح فكيف إذا خالفه صريح المعقول
ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول بل بمحارات العقول فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته
(1/147)
والكلام على هذا على وجه التفصيل مذكور في موضعه فإن أدلة نفاة الصفات والقدر ونحو ذلك إذا تدبرها العاقل الفاضل وأعطاها حقها من النظر العقلي علم بالعقل فسادها وثبوت نقيضها كما قد بيناه في غير هذا الموضع الوجه الثامن
أن يقال المسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والسمع ليست من المسائل البينة المعروفة بصريح العقل كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات الظاهرة والإلهيات البينة ونحو ذلك بل لم ينقل أحد بإسناد صحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم شيئا من هذا الجنس ولا في القرآن شيء من هذا الجنس ولا يوجد ذلك إلا في حديث مكذوب موضوع يعلم أهل النقل أنه كذب أو في دلالة ضعيفة غلط المستدل بها على الشرع
فالأول مثل حديث عرق الخيل الذي كذبه بعض الناس على أصحاب حماد ابن سلمة وقالوا إنه كذبه بعض أهل البدع واتهموا بوضعه محمد بن شجاع الثلجي وقالوا إنه وضعه ورمى به بعض أهل الحديث ليقال عنهم إنهم يروون مثل هذا وهو الذي يقال في متنه إنه خلق خيلا فأجراها فعرقت فخلق
(1/148)
نفسه من ذلك العرق تعالى الله عن فرية المفترين وإلحاد الملحدين وكذلك حديث نزوله عشية عرفة إلى الموقف على جمل أورق ومصافحته للركبان ومعانقته للمشاه وأمثال ذلك هي أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل العلم فلا يجوز لأحد أن يدخل هذا وأمثاله في الأدلة الشرعية
والثاني مثل الحديث الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى عبدي مرضت فلم تعدني فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده عبدي جعت فلم تطعمني فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي
(1/149)
فإنه لا يجوز لعاقل أن يقول إن دلالة هذا الحديث مخالفة لعقل ولاسمع إلا من يظن أنه قد دل على جواز المرض والجوع على الخالق سبحانه وتعالى ومن قال هذا فقد كذب على الحديث ومن قال إن هذا ظاهر الحديث أو مدلوله أو مفهومه فقد كذب فإن الحديث قد فسره المتكلم به وبين مراده بيانا زالت به كل شبهة وبين فيه أن العبد هو الذي جاع وأكل ومرض وعاده العواد وأن الله سبحانه لم يأكل ولم يعد
بل غير هذا الباب من الأحاديث كالأحاديث المروية في فضائل الأعمال على وجه المجازفة كما يروى مرفوعا أنه من صلى ركعتين في يوم عاشوراء يقرأ فيهما بكذا وكذا كتب له ثواب سبعين نبيا ونحو ذلك هو عند أهل الحديث من الأحاديث الموضوعة فلا يعلم حديث واحدا يخالف العقل أو السمع الصحيح إلا وهو عند أهل العلم ضعيف بل موضوع بل لا يعلم حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي أجمع المسلمون على تركه إلا أن يكون له حديث صحيح يدل على أنه منسوخ ولا يعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1/150)
حديث صحيح أجمع المسلمون على نقيضه فضلا عن أن يكون نقيضه معلوما بالعقل الصريح البين لعامة العقلاء فإن ما يعلم بالعقل الصريح البين أظهر مما لا يعلم إلا بالإجماع ونحوه من الأدلة السمعية
فإذا لم يوجد في الأحاديث الصحيحة ما يعلم نقيضه بالأدلة الخفية كالإجماع ونحوه فأن لا يكون فيها ما يعلم نقيضه بالعقل الصريح الظاهر أولى وأحرى ولكن عامة موارد التعارض هي من الأمور الخفية المشتبهة التي يحار فيها كثير من العقلاء كمسائل أسماء الله وصفاته وأفعاله وما بعد الموت من الثواب والعقاب والجنة والنار والعرش والكرسي وعامة ذلك من أنباء الغيب التي تقصر عقول أكثر العقلاء عن تحقيق معرفتها بمجرد رأيهم ولهذا كان عامة الخائضين فيها بمجرد رأيهم إما متنازعين مختلفين وإما حيارى متهوكين وغالبهم يرى أن إمامه أحذق في ذلك منه
ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون إنه من العقليات المعلومة بصريح العقل فتجد أتباع أرسطو طاليس يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات والطبيعيات والإلهيات مع أن كثيرا منهم قد يرى بعقله نقيض ما قاله أرسطو وتجده لحس ظنه به يتوقف في مخالفته أو ينسب النقص في الفهم إلى نفسه مع أنه يعلم أهل العقل المتصفون بصريح العقل أن في المنطق من الخطأ البين ما لاريب فيه كما ذكر في غير هذا الموضع
(1/151)
وأما كلامه وكلام أتباعه كالأسكندر الأفروديسي وبرقلس وثامسطيوس والفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وأمثالهم في الإلهيات فما فيه من الخطأ الكثير والتقصير العظيم ظاهر لجمهور عقلاء بني آدم بل في كلامهم من التناقض مالا يكاد يستقصى
(1/152)
وكذلك أتباع رؤوس المقالات التي ذهب إليها من ذهب من أهل القبلة وإن كان فيها ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ففيها أيضا من مخالفة العقل الصريح ما لا يعلمه إلا الله كأتباع أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام وأبي القاسم الكعبي وأبي علي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وأمثالهم
وكذلك أتباع من هو أقرب إلى السنة من هؤلاء كاتباع حسين النجار
(1/153)
وضرار بن عمرو مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي ناظر أحمد ابن حنبل ومثل حفص الفرد الذي كان يناظر الشافعي وكذلك أتباع متكلمي أهل الإثبات كأتباع أبي محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب وأبي عبدالله محمد بن عبدالله بن كرام وأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وغيرهم
(1/154)
بل هذا موجود في أتباع أئمة الفقهاء وأئمة شيوخ العبادة كأصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم تجد أحدهم دائما يجد في كلامهم ما يراه هو باطلا وهو يتوقف في رد ذلك لاعتقاده أن إمامه أكمل منه عقلا وعلما ودينا هذا مع علم كل من هؤلاء أن متبوعه ليس بمعصوم وأن الخطا جائز عليه ولا تجد أحدا من هؤلاء يقول إذا تعارض قولي وقول متبوعي قدمت قولي مطلقا لكنه إذا تبين له أحيانا الحق في نقيض قول متبوعه أو أن نقيضه أرجح منه قدمه لاعتقاده أن الخطأ جائز عليه
فكيف يجوز أن يقال إن في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة الثابتة عنه ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قدم رأيه على نص الرسول صلى الله عليه وسلم في أنباء الغيب التي ضل فيها عامة من دخل فيها بمجرد رأيه بدون الإستهداء بهدى الله والإستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه مع علم كل أحد بقصوره وتقصيره في هذا الباب وبما وقع فيه من أصحابه وغير أصحابه من الإضطراب
ففي الجملة النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بين قط ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب وما علم أنه حق لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق
بل نقول قولا عاما كليا إن النصوص الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول فضلا عن أن يكون مقدما عليها وإنما الذي
(1/155)
يعارضها شبه وخيالات مبناها على معان متشابهة وألفاظ مجملة فمتى وقع الإستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية لا براهين عقلية ومما يوضح هذا الوجه التاسع
وهو أن يقال القول بتقديم الإنسان لمعقوله على النصوص النبيوية قول لا ينضبط وذلك لأن أهل الكلام والفلسفة الخائضين المتنازعين فيما يسمونه عقليات كل منهم يقول إنه يعلم بضرورة العقل أو بنظره ما يدعى الآخر أن المعلوم بضرورة العقل أو بنظره نقيضه
وهذا من حيث الجملة معلوم فالمعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة يقولون إن أصلهم المتضمن نفي الصفات والتكذيب بالقدر الذي يسمونه التوحيد والعدل معلوم بالأدلة العقلية القطعية ومخالفوهم من أهل الإثبات يقولون إن نقيض ذلك معلوم بالأدلة القطعية العقلية
بل الطائفتان ومن ضاهأهما يقولون إن علم الكلام المحض هو ما أمكن علمه بالعقل المجرد بدون السمع كمسألة الرؤية والكلام وخلق الأفعال وهذا هو الذي يجعلونه قطعيا ويؤثمون المخالف فيه
وكل من طائفتي النفي والإثبات فيهم من الذكاء والعقل والمعرفة ما هم متميزون به على كثير من الناس وهذا يقول إن العقل الصريح دل على النفي والآخر يقول العقل الصريح دل على الإثبات
(1/156)
وهم متنازعون في المسائل التي دلت عليها النصوص كمسائل الصفات والقدر
وأما المسائل المولدة كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض وغير ذلك ففيها من النزاع بينهم ما يطول استقصاؤه وكل منهم يدعى فيها القطع العقلي
ثم كل من كان عن السنة أبعد كان التنازع والإختلاف بينهم في معقولاتهم أعظم فالمعتزلة أكثر اختلافا من متكلمة أهل الإثبات وبين البصريين والبغداديين منهم من النزاع ما يطول ذكره والبصريون أقرب إلى السنة والإثبات من البغداديين ولهذا كان البصريون يثبتون كون البارئ سميعا بصيرا مع كونه حيا عليما قديرا ويثبتون له الإرادة ولا يوجبون الأصلح في الدنيا ويثبتون خبر الواحد والقياس ولا يؤثمون المجتهدين وغير ذلك ثم بين المشايخية والحسينية أتباع أبي الحسين البصري من التنازع ما هو معروف
وأما الشيعة فأعظم تفرقا واختلافا من المعتزلة لكونهم أبعد عن السنة منهم حتى قيل إنهم يبلغون اثنتين وسبعين فرقة
وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع بل هم أعظم اختلافا من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم وبينه وبين سلفه من النزاع والإختلاف ما يطول وصفه ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه وأما سائر طوائف الفلاسفة فلو حكى اختلافهم في علم الهيئة وحده لكان أعظم من اختلاف كل طائفة من طوائف أهل القبلة والهيئة علم رياضي حسابي هو
(1/157)
من أصح علومهم فإذا كان هذا اختلافهم فيه فكيف باختلافهم في الطبيعيات أو المنطق فكيف بالإلهيات
واعتبر هذا بما ذكره أرباب المقالات عنهم في العلوم الرياضية والطبيعية كما نقله الأشعري عنهم في كتابه في مقالات غير الإسلاميين وما ذكره القاضي أبو بكر عنهم في كتابه في الدقائق فإن في ذلك من الخلاف عنهم أضعاف أضعاف ما ذكره الشهر ستاني وأمثاله ممن يحكي مقالاتهم فكلامهم في العلم الرياضي الذي هو أصح علومهم العقلية قد اختلفوا فيه اختلافا لا يكاد يحصى ونفس الكتاب الذي اتفق عليه جمهورهم وهو كتاب المجسطي لبطليموس فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليل صحيح وفيه قضايا ينازعه غيره فيها وفيه قضايا مبينة على أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب
وكذلك كلامهم في الطبيعيات في الجسم وهل هو مركب من المادة والصورة أو الأجزاء التي لا تنقسم أو ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا
وكثير من حذاق النظار حار في هذه المسائل حتى أذكياء الطوائف كأبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني وأبي عبدالله بن الخطيب حاروا في مسألة الجوهر الفرد فتوقفوا فيها تارة وإن كانوا قد يجزمون بها أخرى فإن الواحد من هؤلاء تارة يجزم بالقولين المتناقضين في كتابين أو كتاب
(1/158)
واحد وتارة يحار فيها مع دعواهم أن القول الذي يقولونه قطعي برهاني عقلي لا يحتمل النقيض
وهذا كثير في مسائل الهيئة ونحوها من الرياضيات وفي أحكام الجسم وغيره من الطبيعيات فما الظن بالعلم الإلهي وأساطين الفلسفة يزعمون أنهم لا يصلون فيه إلى اليقين وإنما يتكلمون فيه بالأولى والأحرى والأخلق
وأكثر الفضلاء العارفين بالكلام والفلسفة بل وبالتصوف الذين لم يحققوا ما جاء به الرسول تجدهم فيه حيارى كما أنشد الشهرستاني في أول كتابه لما قال قد أشار إلى من إشارته غنم وطاعته حتم أن أجمع له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول ولعله استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم لعمري % لقد طفت في تلك المعاهد كلها % وسيرت طرفي بين تلك المعالم % % فلم أر إلا واضعا كف حائر % على ذقن أو قارعا سن نادم %
وأنشد أبو عبدالله الرازي في غير موضع من كتبه مثل كتاب أقسام اللذات لما ذكر أن هذا العلم أشرف العلوم وأنه ثلاث مقامات العلم بالذات والصفات والأفعال وعلى كل مقام عقدة فعلم الذات عليه عقدة
(1/159)
هل الوجود هو الماهية أو زائدة على الماهية وعلم الصفات عليه عقدة هل الصفات زائدة على الذات أم لا وعلم الأفعال عليه عقدة هل الفعل مقارن للذات أو متأخر عنها ثم قال ومن الذي وصل إلى هذا الباب أو ذاق من هذا الشراب ثم أنشد % نهاية إقدام العقول عقال % وأكثر سعى العالمين ضلال % % وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال % % ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا % سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا %
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفى عليلا ولا تروى غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } فاطر 10 واقرأ في النفي { ليس كمثله شيء } الشورى 11 { ولا يحيطون به علما } طه 110 { هل تعلم له سميا } مريم 65 ومن جرب مثل تجربتى عرف مثل معرفتي
(1/160)
وكان ابن أبي الحديد البغدادي من فضلاء الشيعة المعتزلة المتفلسفة وله أشعار في هذا الباب كقوله % فيك يا أغلوطة الفكر % حار أمري وانقضى عمري % % سافرت فيك العقول فما % ربحت إلا أذى السفر % % فلحى الله الأولى زعموا % أنك المعروف بالنظر % % كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر %
هذا مع إنشاده % وحقك لو أدخلتني النار قلت % للذين بها قد كنت ممن يحبه % % وأفنيت عمري في علوم كثيرة % وما بغيتي إلا رضاه وقربه % % أما قلتم من كان فينا مجاهدا % سيكرم مثواه ويعذب شربه % % أما رد شك ابن الخطيب وزيغه % وتمويه في الدين إذا جل خطبه % % وآية حب الصب أن يعذب الأسى % إذا كان من يهوى عليه يصبه %
(1/161)
وابن رشد الحفيد يقول في كتابه الذي صنفه ردا على أبي حامد في كتابه المسمى تهافت الفلاسفة فسماه تهافت التهافت ومن الذي قاله في الإلهيات ما يعتد به وأبو الحسن الآمدي في عامة كتبه هو واقف في المسائل الكبار يزيف حجج الطوائف ويبقى حائرا واقفا والخونجي المصنف في أسرار المنطق الذي سمى كتابه كشف الأسرار يقول لما حضره الموت أموت ولم أعرف شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى الممتنع ثم قال الإفتقار وصف سلبي أموت ولم أعرف شيئا حكاه عنه التلمساني وذكر أنه سمعه منه وقت الموت
ولهذا تجد أبا حامد مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف ويحيل في آخر آمره على طريقه أهل الكشف وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث ومات وهو يشتغل في صحيح البخاري
(1/162)
والحذاق يعلمون أن تلك الطريقة التي يحيل عليها لا توصل إلا المطلوب ولهذا لما بنى على قول النفاة من سلك هذه الطريق كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وصاحب خلع النعلين والتلمساني وأمثالهم وصلوا إلى ما يعلم فساده بالعقل والدين مع دعواهم أنهم أئمة المحققين
ولهذا تجد أبا حامد في مناظرته للفلاسفة إنما يبطل طرقهم ولا يثبت طريقة معينة بل هو كما قال نناظرهم يعني مع كلام الأشعري تارة بكلام المعتزلة وتارة بكلام الكرامية وتارة بطريق الواقفة وهذه الطريق هي الغالب عليه في منتهى كلامه
(1/163)
وأما الطريقة النبوية السنية السلفية المحمدية الشرعية فإنما يناظرهم بها من كان خبيرا بها وبأقوالهم التي تناقضها فيعلم حينئذ فساد أقوالهم بالمعقول الصريح المطابق للمنقول الصحيح
وهكذا كل من أمعن في معرفة هذه الكلاميات والفلسفيات التي تعارض بها النصوص من غير معرفة تامة بالنصوص ولوازمها وكمال المعرفة بما فيها وبالأقوال التي تنافيها فإنه لا يصل إلى يقين يطمئن إليه وإنما تفيده الشك والحيرة
بل هؤلاء الحذاق الذين يدعون أن النصوص عارضها من معقولاتهم ما يجب تقديمه تجدهم حيارى في أصول مسائل الإلهيات حتى مسألة وجود الرب تعالى وحقيقته حاروا فيها حيرة أوجبت أن يتناقض هذا كتناقض الرازي وأن يتوقف هذا كتوقف الآمدي ويذكرون عدة أقوال يزعمون أن الحق ينحصر فيها وهي كلها باطلة
وقد حكي عن طائفة من رءوس أهل الكلام أنهم كانوا يقولون بتكافؤ الأدلة وأن الأدلة قد تكافأت من الجانبين حتى لا يعرف الحق من الباطل ومعلوم أن هذا إنما قالوه فيما سلكوه هم من الأدلة
(1/164)
وقد حكى لي أن بعض الأذكياء وكان قد قرأ على شخص هو إمام بلده ومن أفضل أهل زمانه في الكلام والفلسفة وهو ابن واصل الحموي أنه قال أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي وأقابل بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء ولهذا انتهى أمره إلى كثرة النظر في الهيئة لكونه تبين له فيه من العلم ما لم يتبين له في العلوم الإلهية
ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء لما لم يتبين له الهدى في طريقه نكص على عقبيه فاشتغل باتباع شهوات الغي في بطنه وفرجه أو رياسته وماله ونحو ذلك لعدم العلم واليقين الذي يطمئن إليه قلبه وينشرح له صدره
وفي الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن وهؤلاء المعرضون عن
(1/165)
الطريقة النبوية السلفية يجتمع فيهم هذا وهذا اتباع شهوات الغي ومضلات الفتن فيكون فيهم من الضلال والغي بقدر ما خرجوا عن الطريق الذي بعث الله به رسوله
ولهذا أمرنا الله أن نقول في كل صلاة { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون
وكان السلف يقولون احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فكيف إذا اجتمع في الرجل الضلال والفجور
ولو جمعت ما بلغني في هذا الباب عن أعيان هؤلاء كفلان وفلان لكان شيئا كثيرا وما لم يبلغني من حيرتهم وشكهم أكثر وأكثر
وذلك لأن الهدى هو فيما بعث الله به رسله فمن أعرض عنه لم يكن مهتديا فكيف بمن عارضه بما يناقضه وقدم مناقضه عليه
قال الله تعالى لما أهبط آدم { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } سورة طه 123 126
(1/166)
قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفل الله لمن قرآ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية
وقوله تعالى { ومن أعرض عن ذكري } يتناول الذكر الذي أنزله وهو الهدى الذي جاءت به الرسل كما قال تعالى في آخر الكلام { كذلك أتتك آياتنا فنسيتها } أي تركت اتباعها والعمل بما فيها فمن طلب الهدى بغير القرآن ضل ومن اعتز بغير الله ذل وقد قال تعالى { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } سورة الأعراف 3 وقال تعالى { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } سورة الأنعام 153
وفي حديث علي رضي الله عنه الذي رواه الترمذي ورواه أبو نعيم من عدة طرق عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال إنها ستكون فتنة قلت فما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا تشبع منه العلماء من قال به
(1/167)
صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على أنه لو سوغ للناظرين أن يعرضوا عن كتاب الله تعالى ويعارضوه بأرائهم ومعقولاتهم لم يكن هناك أمر مضبوط يحصل لهم به علم ولا هدى فإن الذين سلكوا هذه السبيل كلهم يخبر عن نفسه بما يوجب حيرته وشكه والمسلمون يشهدون عليه بذلك فثبت بشهادته وإقراره على نفسه وشهادة المسلمين الذين هم شهداء الله في الأرض أنه لم يظفر من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه بيقين يطمئن إليه ولا معرفة يسكن بها قلبه
والذين ادعوا في بعض المسائل أن لهم معقولا صريحا يناقض الكتاب قابلهم آخرون من ذوي المعقولات فقالوا إن قول هؤلاء معلوم بطلانه بصريح المعقول فصار ما يدعى معارضته للكتاب من المعقول ليس فيه ما يجزم بأنه معقول صحيح إما بشاهدة أصحابه عليه وشهادة الأمة وإما بظهور تناقضهم ظهورا لا ارتياب فيه وإما بمعارضة آخرين من أهل هذه المعقولات لهم بل من تدبر ما يعارضون به الشرع من العقليات وجد ذلك مما يعلم بالعقل الصريح بطلانه والناس إذا تنازعوا فى المعقول لم يكن قول طائفة لها مذهب حجة على أخرى بل يرجع فى ذلك إلى الفطر السليمة التي لم تتغير باعتقاد يغير فطرتها ولا هوى فامتنع حينئذ أن يعتمد على ما يعارض الكتاب من الأقوال التي يسمونها معقولات
(1/168)
وإن كان ذلك قد قالته طائفة كبيرة لمخالفة طائفة كبيرة لها ولم يبق إلا أن يقال إن كل إنسان له عقل فيعتمد على عقل نفسه وما وجده معارضا لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من رأيه خالفه وقدم رأيه على نصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومعلوم أن هذا أكثر ضلالا واضطرابا
فإذا كان فحول النظر وأساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلى الغاية وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات ثم لم يصلوا فيها إلى معقول صريح يناقض الكتاب بل إما إلى حيرة وارتياب وإما إلى اختلاف بين الأحزاب فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات
فهذا وأمثاله مما يبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه لم يعارضه إلا بما هو جهل بسيط أو جهل مركب فالأول { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } سورة النور 39 والثاني { كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } سورة النور 40
وأصحاب القرآن والإيمان في نور على نور قال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } سورة الشورى 52 53
وقال تعالى { الله نور السماوات والأرض مثل نوره } إلى آخر الآية
(1/169)
سورة النور 35 وقال تعالى { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } سورة الأعراف 157
فأهل الجهل البسيط منهم أهل الشك والحيرة من هؤلاء المعارضين للكتاب المعرضين عنه وأهل الجهل المركب أرباب الإعتقادات الباطلة التي يزعمون أنها عقليات وآخرون ممن يعارضهم يقول المناقض لتلك الأقوال هو العقليات
ومعلوم أنه حينئذ يجب فساد أحد الإعتقادين أو كليهما والغالب فساد كلا الإعتقادين لما فيهما من الإجمال والإشتباه وأن الحق يكون فيه تفصيل يبين أن مع هؤلاء حق وباطلا ومع هؤلاء حقا وباطلا والحق الذي مع كل منهما هو الذي جاء به الكتاب الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه والله أعلم الوجه العاشر
أن يعارض دليلهم بنظير ما قالوه فيقال إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين ورفعهما رفع للنقيضين وتقديم العقل ممتنع لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضا للنقل لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء فكان تقديم العقل موجبا عدم تقديمه فلا يجوز تقديمه
وهذا بين واضح فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته وأن خبره مطابق لمخبره فإن جاز أن تكون هذه الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون
(1/170)
العقل دليلا صحيحا وإذا لم يكن دليلا صحيحا لم يجز أن يتبع بحال فضلا عن أن يقدم فصار تقديم العقل على النقل قدحا في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه والقدح فيه يمنع دلالته والقدح في دلالته يقدح في معارضته كان تقديمه عند المعارضة مبطلا للمعارضة فامتنع تقديمه على النقل وهو المطلوب
وأما تقديم النقل عليه فلا يستلزم فساد النقل في نفسه
ومما يوضح هذا أن يقال معارضة العقل لما دل العقل على أنه حق دليل على تناقض دلالته وذلك يوجب فسادها وأما السمع فلم يعلم فساد دلالته ولا تعارضها في نفسها وإن لم يعلم صحتها وإذا تعارض دليلان أحدهما علمنا فساده والآخر لم نعلم فساده كان تقديم ما لم يعلم فساده أقرب إلى الصواب من تقديم ما يعلم فساده كالشاهد الذي علم أنه يصدق ويكذب والشاهد المجهول الذي لم يعلم كذبه فإن تقديم قول الفاسق المعلوم كذبه على قول المجهول الذى لم يعلم كذبه لا يجوز فكيف إذا كان الشاهد هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته
والعقل إذا صدق السمع في كل ما يخبر به ثم قال إنه أخبر بخلاف الحق كان هو قد شهد للسمع بأنه يجب قبوله وشهد له بأنه لا يجب قبوله وشهد بأن الأدلة السمعية حق وأن ما أخبر به السمع فهو حق وشهد بأن ما أخبر به السمع فليس بحق فكان مثله مثل من شهد لرجل بأنه صادق لا يكذب وشهد له بأنه قد كذب فكان هذا قدحا في شهادته مطلقا وتزكيته فلا يجب قبول شهادته الأولى ولا الثانية فلا يصلح أن يكون معارضا للسمع بحال
(1/171)
ولهذا تجد هؤلاء الذين تتعارض عندهم دلالة العقل والسمع في حيرة وشك واضطراب إذ ليس عندهم معقول صريح سالم عن معارض مقاوم كما أنهم أيضا في نفس المعقول الذي يعارضون به السمع في اختلاف وريب واضطراب
وذلك كله مما يبين أنه ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدما على ما جاءت به الرسل وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم
فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي فمتى علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزما قاطعا أنه حق وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي لا عقلي ولا سمعي وأن كل ما ظن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة وشبه من جنس شبه السوفسطائية
وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح كان هذا العقل شاهد بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل فيكون هذا العقل والسمع جميعا شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع
(1/172)
فإن قيل فهذا يوجب القدح في شهادة العقل حيث شهد بصدق الرسول وشهد بصدق العقل المناقض لخبره
قيل له عن هذا جوابان أحدهما إنا نحن يمتنع عندنا أن يتعارض العقل والسمع القطعيان فلا تبطل دلالة العقل وإنما ذكرنا هذا على سبيل المعارضة فمن قدم دلالة العقل على السمع يلزمه أن يقدم دلالة العقل الشاهد بتصديق السمع وأنه إذا قدم دلالة العقل لزم تناقضها وفسادها وإذا قدم دلالة السمع لم يلزم تناقضها في نفسها وإن لزمه أن لا يعلم صحتها وما علم فساده أولى بالرد مما لم تعلم صحته ولا فساده
والجواب الثاني أن نقول الأدلة العقلية التي تعارض السمع غير الأدلة العقلية التي يعلم بها أن الرسول صادق وإن كان جنس المعقول يشملها ونحن إذا أبطلنا ما عارض السمع إنما أبطلنا نوعا مما يسمى معقولا لم نبطل كل معقول ولا أبطلنا المعقول الذي علم به صحة المنقول وكان ما ذكرناه موجبا لصحة السمع وما علم به صحته من العقل
ولا مناقضة في ذلك ولكن حقيقتة أنه قد تعارض العقل الدال على صدق الرسول والعقل المناقض لخبر الرسول فقدمنا ذلك المعقول على هذا المعقول كما تقدم الأدلة على صدق الرسول على الحجج الفاسدة والقادحة في نبوات الأنبياء وهي حجج عقلية
بل شبهات المبطلين القادحين في النبوات قد تكون أعظم من كثير من الحجج العقلية التي يعارض بها خبر الأنبياء عن أسماء الله وصفاته وأفعاله ومعاده فإذا كان
(1/173)
تقديم الأدلة العقلية الدالة على أنهم صادقون في قولهم إن الله أرسلهم مقدمة على ما يناقض ذلك من العقليات كذلك تقديم هذه الأدلة العقلية المستلزمة لصدقهم فيما أخبروا به على ما يناقض ذلك من العقليات وعاد الأمر إلى تقديم جنس من المعقولات على جنس
وهذا متفق عليه بين العقلاء فإن الأدلة العقلية إذا تعارضت فلا بد من تقديم بعضها على بعض ونحن نقول لا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان لا عقليان ولا سمعيان ولا سمعي ولا عقلي ولكن قد ظن من لم يفهم حقيقة القولين تعارضهما لعدم فهمه لفساد أحدهما
فإن قيل نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة السمع المخالفة له باطلة إما لكذب الناقل عن الرسول أو خطئه في النقل وإما لعدم دلالة قوله على ما يخالف العقل في محل النزاع
قيل هذا معارض بأن يقال نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة العقل المخالفة له باطلة لبطلان بعض مقدماتها فإن مقدمات الأدلة العقلية المخالفة للسمع فيها من التطويل والخفاء والإشتباه والإختلاف والإضطراب ما يوجب أن يكون تطرق الفساد إليها أعظم من تطرقه إلى مقدمات الأدلة السمعية
ومما يبين ذلك أن يقال دلالة السمع على مواقع الإجماع مثل دلالته على موارد النزاع فإن دلالة السمع على علم الله تعالى وقدرته وإرادته وسمعه وبصره كدلالته على رضاه ومحبته وغضبه واستوائه على عرشه ونحو ذلك وكذلك دلالته على عموم مشيئته وقدرته كدلالته على عموم علمه
(1/174)
فالأدلة السمعية لم يردها من ردها لضعف فيها وفي مقدماتها لكن لاعتقاده أنها تخالف العقل بل كثير من الأدلة السمعية التي يردونها تكون أقوى بكثير من الأدلة السمعية التي يقبلونها وذلك لأن تلك لم يقبلوها لكون السمع جاء بها لكن لاعتقادهم أن العقل دل عليها والسمع جعلوه عاضدا للعقل وحجة على من ينازعهم من المصدقين بالسمع لم يكن هو عمدتهم ولا أصل علمهم كما صرح بذلك أئمة هؤلاء المعارضين لكتاب الله وسنة رسوله بآرائهم
وإذا كان كذلك تبين أن ردهم الأدلة السمعية المعلومة الصحة بمجرد مخالفة عقل الواحد أو لطائفة منهم أو مخالفة ما يسمونه عقلا لا يجوز إلا أن يبطلوا الأدلة السمعية بالكلية ويقولون إنها لا تدل على شيء وإن إخبار الرسول عما أخبر به لا يفيد التصديق بثبوت ما أخبر به وحينئذ فما لم يكن دليلا لا يصلح أن يجعل معارضا
والكلام هنا إنما هو لمن علم أن الرسول صادق وأن ما أخبر به ثابت وأن إخباره لنا بالشيء يفيد تصديقنا بثبوت ما أخبر به فمن كان هذا معلوما له امتنع أن يجعل العقل مقدما على خبر الرسول صلى الله عليه وسلم بل يضطره الأمر إلى أن يجعل الرسول يكذب أو يخطئ تارة في الخبريات ويصيب أو يخطئ أخرى في الطلبيات وهذا تكذيب للرسول وإبطال لدلالة السمع وسد لطريق العلم بما أخبر به الأنبياء والمرسلون وتكذيب بالكتاب وبما أرسل الله تعالى به رسله
(1/175)
وغايته إن أحسن المقال أن يجعل الرسول مخبرا بالأمور على خلاف حقائقها لأجل نفع العامة ثم إذا قال ذلك امتنع أن يستدل بخبر الرسول على شيء فعاد الأمر جذعا لأنه إذا جوز على خبر الرسول التلبيس كان كتجويزه عليه الكذب
وحينئذ فلا يكون مجرد إخبار الرسول موجبا للعلم بثبوت ما أخبر به وهذا وإن كان زندقة وكفرا وإلحادا فهو باطل في نفسه كما قد بين في غير هذا الموضع
فنحن في هذا المقام إنما نخاطب من يتكلم في تعارض الأدلة السمعية والعقلية ممن يدعي حقيقة الإسلام من أهل الكلام الذين يلبسون على أهل الإيمان بالله ورسوله وأما من أفصح بحقيقة قوله وقال إن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه علم بغيب ولا تصديق بحقيقة ما أخبر به ولا معرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته وجنته وناره وغير ذلك فهذا لكلامه مقام آخر
فإن الناس في هذا الباب أنواع منهم من يقر بما جاء به السمع في المعاد دون الأفعال والصفات
ومنهم من يقر بذلك في بعض أمور المعاد دون بعض
ومنهم من يقر بذلك في بعض الصفات والمعاد مطلقا دون الأفعال وبعض الصفات
ومنهم من لا يقر بحقيقة شيء من ذلك لا في الصفات ولا في المعاد
ومنهم من لا يقر بذلك أيضا في الأمر والنهى بل يسلك طريق التأويل في الخبر والأمر جميعا لمعارضة العقل عنده كما فعلت القرامطة الباطنية وهؤلاء أعظم الناس كفرا وإلحادا
(1/176)
والمقصود هنا أن من أقر بصحة السمع وأنه علم صحته بالعقل لا يمكنه أن يعارضه بالعقل ألبتة لأن العقل عنده هو الشاهد بصحة السمع فإذا شهد مرة أخرى بفساده كانت دلالته متناقضة فلا يصلح لا لإثبات السمع ولا لمعارضته
فإن قال أنا أشهد بصحته ما لم يعارض العقل
قيل هذا لا يصح لوجوه أحدها أن الدليل العقلي دل على صدق الرسول وثبوت ما أخبر به مطلقا فلا يجوز أن يكون صدقه مشروطا بعدم المعارض
الثاني أنك إن جوزت علي أن يعارضه العقل الدال على فساده لم تثق بشيء منه لجواز أن يكون في عقل غيرك ما يدل على فساده فلا تكون قد علمت بعقلك صحته البتة وأنت تقول إنك علمت صحته بالعقل
الثالث أن ما يستخرجه الناس بعقولهم أمر لا غاية له سواء كان حقا أو باطلا فإذا جوز المجوز أن يكون في المعقولات ما يناقض خبر الرسول لم يثق بشيء من أخبار الرسول لجواز أن يكون في المعقولات التي لم تظهر له بعد ما يناقض ما أخبر به الرسول ومن قال أنا أقر من الصفات بما لم ينفه العقل أو أثبت من السمعيات ما لم يخالفه العقل لم يكن لقوله ضابط فإن تصديقه بالسمع مشروط بعدم جنس لا ضابط له ولا منتهى وما كان مشروطا بعدم ما لا ينضبط لم ينضبط فلا يبقى مع هذا الأصل إيمان
(1/177)
ولهذا تجد من تعود معارضة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه الإيمان بل يكون كما قال الأئمة إن علماء الكلام زنادقة وقالوا قل أحد نظر في الكلام إلا كان في قلبه غل على أهل الإسلام مرادهم بأهل الكلام من تكلم في الله بما يخالف الكتاب والسنة
ففي الجملة لا يكون الرجل مؤمنا حتى يؤمن بالرسول إيمانا جازما ليس مشروطا بعدم معارض فمتى قال أؤمن بخبره إلا أن يظهر له معارض يدفع خبره لم يكن مؤمنا به فهذا أصل عظيم تجب معرفته فإن هذا الكلام هو ذريعة الإلحاد والنفاق
الرابع أنهم قد سلموا أنه يعلم بالسمع أمور كما يذكرونه كلهم من أن العلوم ثلاثة أقسام منها ما لا يعلم إلا بالعقل ومنها ما لا يعلم إلا بالسمع ومنها ما يعلم بالسمع والعقل
وهذا التقسيم حق في الجملة فإن من الأمور الغائبة عن حس الإنسان ما لا يمكن معرفته بالعقل بل لا يعرف إلا بالخبر
وطرق العلم ثلاثة الحس والعقل والمركب منهما كالخبر فمن الأمور ما لا يمكن علمه إلا بالخبر كما يعلمه كل شخص بأخبار الصادقين كالخبر المتواتر وما يعلم بخبر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين
وهذا التقسيم يجب الإقرار به وقد قامت الأدلة اليقينية على نبوات الأنبياء وأنهم قد يعلمون بالخبر ما لا يعلم إلا بالخبر وكذلك يعلمون غيرهم بخبرهم
(1/178)
ونفس النبوة تتضمن الخبر فإن النبوة مشتقة من الإنباء وهو الإخبار بالمغيب
فالنبي يخبر بالمغيب ويخبرنا بالغيب ويمتنع أن يقوم دليل صحيح على أن كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون الخبر فلا يمكن أن يجزم بأن كل ما أخبرت به الأنبياء هو منتف فإنه يمتنع أن يقوم دليل على هذا النفي العام ويمتنع أن يقول القائل كل ما أخبر به الأنبياء يمكن غيرهم أن يعرفه بدون خبرهم ولهذا كان أكمل الأمم علما المقرون بالطرق الحسية والعقلية والخبرية فمن كذب بطريق منها فاته من العلوم بحسب ما كذب به من تلك الطريق
والمتفلسفة الذين أثبتوا النبوات على وجه يوافق أصولهم الفاسدة كابن سينا وأمثاله لم يقروا بأن الأنبياء يعلمون ما يعلمونه بخبر يأتيهم عن الله لا بخبر ملك ولا غيره بل زعموا أنهم يعلمونه بقوة عقلية لكونهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس ويسمون ذلك القوة القدسية فحصروا علوم الأنبياء في ذلك
وكان حقيقة قولهم أن الأنبياء من جنس غيرهم وأنهم لم يعلموا شيئا بالخبر ولهذا صار هؤلاء لا يستفيدون شيئا بخبر الأنبياء بل يقولون إنهم خاطبوا الناس بطريق التخييل لمنفعة الجمهور وحقيقة قولهم أنهم كذبوا
(1/179)
لمصلحة الجمهور وهؤلاء في الحقيقة يكذبون الرسل فنتكلم معهم في تحقيق النبوة على الوجه الحق لا في معارضة العقل والشرع
وهذا الذي ذكرته مما صرح به فضلاؤهم يقولون إن الرسل إنما ينتفع بخبرهم الجمهور في التخييل لا ينتفع بخبرهم أحد من العامة والخاصة في معرفة الغيب بل الخاصة عندهم تعلم ذلك بالعقل المناقض لأخبار الأنبياء والعامة لا تعلم ذلك لا بعقل ولا خبر والنبوة إنما فائدتها تخييل ما يخبرون به للجمهور كما يصرح بذلك الفارابي وابن سينا وأتباعهما
ثم لا يخلوا الشخص إما أن يكون مقرا بخبر نبوة الأنبياء وإما أن يكون غير مقر فإن كان غير مقر بذلك لم نتكلم معه في تعارض الدليل العقلي والشرعي فإن تعارضهما إنما يكون بعد الإقرار بصحة كل منهما لو تجرد عن المعارض فمن لم يقر بصحة دليل عقلي ألبتة لم يخاطب في معارضة الدليل العقلي والشرعي وكذلك من لم يقر بدليل شرعي لم يخاطب في هذا التعارض
ومن لم يقر بالأنبياء لم يستفيد من خبرهم دليلا شرعيا فهذا يتكلم معه في تثبيت النبوات فإذا ثبتت فحينئذ يثبت الدليل الشرعي وحينئذ فيجب الإقرار بأن خبر
(1/180)
الأنبياء يوجب العلم بثبوت ما أخبروا به ومن جوز أن يكون في نفس الأمر معارض ينفي ما دلت عليه أخبارهم امتنع أن يعلم بخبرهم شيئا فإنه ما من خبر أخبروا به ولم يعلم هو ثبوته بعقله إلا وهو يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل يناقضه فلا يعلم شيئا مما أخبروا به بخبرهم فلا يكون مقرا بنبوتهم ولا يكون عنده شيء يعلم بالسمع وحده وهم قد أقروا بأن العلوم ثلاثة منها ما يعلم بالسمع وحده ومنها ما يعلم بالعقل وحده ومنها ما يعلم بهما
وأيضا فقد قامت الأدلة العقلية اليقينية على نبوة الأنبياء وأنهم قد يعلمون ما يعلمونه بخبر الله وملائكته تارة بكلام يسمعونه من الله كما سمع موسى بن عمران وتارة بملائكة تخبرهم عن الله وتارة بوحي يوحيه الله كما قال تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } سورة الشورى 51
فتبين أن تجويزهم أن يكون في نفس الأمر دليل يناقض السمع يوجب أن لا يكون في نفس الأمر دليل سمعي يعلم به مخبره وهذا مما تبين به تناقضهم حيث أثبتوا الأدلة السمعية ثم قالوا ما يوجب إبطالها وحيث أثبتوا الأدلة العقلية ثم قالوا ما يوجب تناقضها فإن العقل يعلم به صحة الأدلة السمعية فمتى بطلت بطل العقل الدال على صحة السمع والدليل مستلزم للمدلول ومتى
(1/181)
انتفى اللازم الذي هو المدلول انتفى ملزومه الذي هو الدليل فيبطل العقل وتناقضهم حيث أقروا بنبوات الأنبياء ثم قالوا ما يوجب بطلانها
وأيضا فالأدلة العقلية توجب الإقرار بنبوة الأنبياء فالقدح في نبوة الأنبياء قدح في الأدلة العقلية ومع كون قولهم مستلزما لتناقضهم فهو مستلزم لبطلان الأدلة العقلية والسمعية وبطلان النبوات وهذا من أعظم أنواع السفسطة فتبين بعض ما في قولهم من أنواع السفسطة الدالة على فساده ومن أنواع التناقض الدالة على جهلهم وتناقض مذاهبهم
وإن قالوا نحن لا نعلم شيئا مما دل عليه الشرع من الخبريات أو من الخبريات وغيرها إلا أن نعلم بالإضطرار أن الرسول أخبر به
قيل فيقال لكم على هذا التقدير فكل ما لا يعلم شخص بالإضطرار أن الرسول أخبر به يجب أن ينفيه إذا قام عنده ما يظنه دليلا عقليا
فإن قالوا نعم لزم أنه يجوز لكل أحد أن يكذب بما لم يضطر إلى أن الرسول أخبر به وإن كان غيره قد علم بالإضطرار أن الرسول أخبر به وحينئذ فيلزم من ذلك تجويز تكذيب الرسول ونفي الحقائق الثابتة في نفس الأمر والقول بلا علم والقطع بالباطل
وإن قالوا نحن إنما نجوز ذلك إذا قام دليل عقلي قاطع
قيل هذا باطل لوجهين
(1/182)
أحدهما أنه إذا لم يعلم بالإضطرار أنه أخبر به كان على قولكم غير معلوم الثبوت وحينئذ فإذا قام عنده دلالة ظنية ترجح النفي أخبر بموجبها وإن جوز أن يكون غيره يعلم باضطرار نقيضها
والثاني أن الأدلة العقلية القطعية ليست جنسا متميزا عن غيره ولا شيئا اتفق عليه العقلاء بل كل طائفة من النظار تدعي أن عندها دليلا قطعيا على ما تقوله مع أن الطائفة الأخرى تقول إن ذلك الدليل باطل وإن بطلانه يعلم بالعقل بل قد تقول إنه قام عندها دليل قطعي على نقيض قول تلك الطائفة وإذا كنت العقليات ليست متميزة ولا متفقا عليها وجوز أصحابها فيما لم يعلمه أحدهم بالإضطرار من أخبار الرسول أن يقدمها عليه لزم من ذلك تكذيب كل من هؤلاء بما يعلم غيره بالإضطرار أن الرسول أخبر به
ومعلوم أن العلوم الضرورية أصل للعلوم النظرية فإذا جوز الإنسان أن يكون ما علمه غيره من العلوم الضرورية باطلا جوز أن تكون العلوم الضرورية باطلة وإذا بطلت بطلت النظرية فصار قولهم مستلزما لبطلان العلوم كلها وهذا مع أنه مستلزم لعدم علمهم بما يقولونه فهو متضمن لتناقضهم ولغاية السفسطة
وإن قالوا ما علمنا بالإضطرار أن الرسول أراده أقررنا به ولم نجوز أن يكون في العقل ما يناقضه وما علمه غيرنا لم نقر به وجوزنا أن يكون في العقل
(1/183)
ما يناقضه أمكن تلك الطائفة أن تعارضهم بمثل ذلك فيقولون بل نحن نقر علمنا الضروري ونقدح في علمكم ونقدح في علمكم الضروري بنظرياتنا
وأيضا فمن المعلوم أن من شافهه الرسول بالخطاب يعلم من مراده بالإضطرار ما لا يعلمه غيره وأن من كان أعلم بالأدلة الدالة على مراد المتكلم كان أعلم بمراده من غيره وإن لم يكن نبيا فكيف بالأنبياء
فإن النحاة أعلم بمراد الخليل وسيبويه من الأطباء والأطباء أعلم بمراد أبقراط وجالينوس من النحاة والفقهاء أعلم بمراد الأئمة الأربعة وغيرهم من الأطباء
(1/184)
والنحاة وكل من هذه الطوائف يعلم بالإضطرار من مراد أئمة الفن ما لا يعلمه غيرهم فضلا عن أن يعلمه علما ضروريا أو نظريا
وإذا كان كذلك فمن له اختصاص بالرسول ومزيد علم بإقواله وأفعاله ومقاصده يعلم بالإضطرار من مراده ما لا يعلمه غيره فإذا جوز لمن يحصل له هذا العلم الضروري أن يقوم عنده قاطع عقلي ينفي ما علمه هؤلاء بالإضطرار لزم ثبوت المعارضة بين العلوم النظرية والضرورية وأنه يقدم فيها النظرية ومعلوم أن هذا فاسد
فتبين أن قول هؤلاء يستلزم من تناقضهم وفساد مذاهبهم وتكذيب الرسل ما يستلزم من الكفر والجهل وأنه يستلزم تقديم النظريات على الضروريات وذلك يستلزم السفسطة التي ترفع العلوم الضرورية والنظرية
الخامس أن الدليل المشروط بعدم المعارض لا يكون قطعيا لأن القطعي لا يعارضه ما يدل على نقيضه فلا يكون العقل دالا على صحة شيء مما جاء به السمع بل غاية الأمر أن يظن الصدق فيما أخبر به الرسول
وحينئذ فقولك إنه تعارض العقل والنقل قول باطل لأن العقل عندك قطعي والشرع ظني ومعلوم أنه لا تعارض بين القطعي والظني
(1/185)
فإن قيل نحن جازمون بصدق الرسول فيما أخبر به وأنه لا يخبر إلا بحق لكن إذا احتج محتج على خلاف ما اعتقدناه بعقولنا بشيء مما نقل عن الرسول يقبل هذه المعارضة للقدح إما في الإسناد وإما في المتن
إما أن نقول النقل لم يثبت إن كان مما لم تعلم صحته كما تنقل أخبار الآحاد وما ينقل عن الأنبياء المتقدمين وإما في المتن بأن نقول دلالة اللفظ على مراد المتكلم غير معلومة بل مظنونة إما في محل النزاع وإما فيما هو أعم من ذلك فنحن لا نشك في صدق الرسول بل في صدق الناقل أو دلالة المنقول على مراده
قيل هذا العذر باطل في هذا المقام لوجوه
أحدها أن يقال لكم فإذا علمتم أن الرسول أراد هذا المعنى إما أن تعلموا مراده بالإضطرار كما يعلم أنه أتى بالتوحيد والصلوات الخمس والمعاد بالإضطرار وإما بأدلة أخرى نظرية وقد قام عندكم القاطع العقلي على خلاف ما علمتم أنه أراده فكيف تصنعون
فإن قلتم نقدم العقل لزمكم ما ذكر من فساد العقل المصدق للرسول مع الكفر وتكذيب الرسول
وإن قلتم نقدم قول الرسول أفسدتم قولكم المذكور الذي قلتم فيه العقل أصل النقل فلا يمكن تقديم الفرع على أصله
وإن قلتم يمتنع معارضة العقل الصريح بمثل هذا السمع لأنا علمنا مراد الرسول قطعا
(1/186)
قيل لكم وهكذا يقول كل من علم مراد الرسول قطعا يمتنع أن يقوم دليل عقلي يناقضه وحينئذ فيبقى الكلام هل قام سمعي قطعي على مورد النزاع أم لا ويكون دفعكم للأدلة السمعية بهذا القانون باطلا متناقضا
الوجه الثاني أنه إذا كنتم لا تردون من السمع إلا ما لم تعلموا أن الرسول أراده دون ما علمتم أن الرسول أراده بقي احتجاجكم بكون العقل معارضا للسمع احتجاجا باطلا لا تأثير له
الثالث أنكم تدعون في مواضع كثيرة أن الرسول جاء بهذا وأنا نعلم ذلك إضطرار ومنازعوكم يدعون قيام القاطع العقلي على مناقض ذلك كما في المعاد وغيره فكذلك يقول منازعوكم في العلو والصفات إنا نعلم اضطرارا مجئ الرسول بهذا بل هذا أقوى كما بسط في موضع آخر
السادس أن هذا يعارض بأن يقال دليل العقل مشروط بعدم معارضة الشرع لأن العقل ضعيف عاجز والشبهات تعرض له كثيرا وهذا المتائه والمحارات التي اضطرب فيها العقلاء لا أثق فيها بعقل يخالف الشرع
ومعلوم أن هذا أولى بالقبول من الأول بأن يقال ما يقال في
السابع وهو أن العقل لا يكون دليلا مستقلا في تفاصيل الأمور الإلهية واليوم الآخر فلا أقبل منه ما يدل عليه إن لم يصدقه الشرع ويوافقه فإن الشرع
(1/187)
قول المعصوم الذي لا يخطئ ولا يكذب وخبر الصادق الذي لا يقول إلا حقا وأما آراء الرجال فكثيرة التهافت والتناقض فأنا لا أثق برأيي وعقلي في هذه المطالب العالية الإلهية ولا بخبر هؤلاء المختلفين المتناقضين الذين كل منهم يقول بعقله ما يعلم العقلاء أنه باطل فما من هؤلاء أحد إلا وقد علمت أنه يقول بعقله ما يعلم أنه باطل بخلاف الرسل فإنهم معصومون فأنا لا أقبل قول هؤلاء إن لم يزك قولهم ذلك المعصوم خبر الصادق المصدوق
ومعلوم أن هذا الكلام أولى بالصواب واليق بأولى الألباب من معارضة أخبار الرسول الذي علموا صدقه وأنه لا يقول إلا حقا بما يعرض لهم من الآراء والمعقولات التي هي في الغالب جهليات وضلالات
فإنا في هذا المقام نتكلم معهم بطريق التنزل إليهم كما نتنزل إلى اليهودي والنصراني في مناظرته وإن كنا عالمين ببطلان ما يقوله اتباعا لقوله تعالى { وجادلهم بالتي هي أحسن } سورة النحل 125 وقوله { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } سورة العنكبوت 46
وإلا فعلمنا ببطلان ما يعارضون به القرآن والرسول ويصدون به أهل الإيمان عن سواء السبيل وإن جعلوه من المعقول بالبرهان أعظم من أن يبسط في هذا المكان
وقد تبين بذلك أنه لا يمكن أن يكون تصديق الرسول فيما أخبر به معلقا بشرط ولا موقوفا على انتفاء مانع بل لا بد من تصديقه في كل ما أخبر به
(1/188)
تصديقا جازما كما في أصل الإيمان به فلو قال الرجل أنا أؤمن به إن أذن لي أبي أو شيخي أو إلا أن ينهاني أبي أو شيخي لم يكن مؤمنا به بالإتفاق
وكذلك من قال أؤمن به إن ظهر لي صدقه لم يكن بعد قد آمن به ولو قال أؤمن به إلا أن يظهر لي كذبه لم يكن مؤمنا
وحينئذ فلا بد من الجزم بأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل قطعي لا سمعي ولا عقلي وأن ما يظنه الناس مخالفا له إما أن يكون باطلا وإما أن لا يكون مخالفا وأما تقدير قول مخالف لقوله وتقديمه عليه فهذا فاسد في العقل كما هو كفر في الشرع
ولهذا كان من المعلوم بالإضطرار من دين الإسلام أنه يجب على الخلق الإيمان بالرسول إيمانا مطلقا جازما عاما بتصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أوجب وأمر وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل وأن من قال يجب تصديق ما أدركته بعقلي ورد ما جاء به الرسول لرأيي وعقلي وتقديم عقلي على ما أخبر به الرسول مع تصديقي بأن الرسول صادق فيما أخبر به فهو متناقض فاسد العقل ملحد في الشرع
وأما من قال لا أصدق ما أخبر به حتى أعلمه بعقلي فكفره ظاهر وهو ممن قيل فيه { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته }
(1/189)
سورة الأنعام 124 وقوله تعالى { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } سورة غافر 82 85
ومن عارض ما جاءت به الرسل برأيه فله نصيب من قوله تعالى { كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب } سورة غافر 34 وقوله تعالى { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } سورة غافر 35 وقوله تعالى { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } سورة غافر 56 والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء فكل من عارض كتاب الله المنزل بغير كتاب الله الذي قد يكون ناسخا له أو مفسرا له كان قد جادل في آيات الله بغير سلطان أتاه
ومن هذا قوله تعالى { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } سورة غافر 5 وقوله تعالى { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا } سورة الكهف 56 وأمثال ذلك مما في كتاب الله تعالى مما يذم به الذين عارضوا رسل الله وكتبه بما عندهم من الرأي والكلام
(1/190)
والبدع مشتقة من الكفر فمن عارض الكتاب والسنة بآراء الرجال كان قوله مشتقا من أقوال هؤلاء الضلال كما قال مالك أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هذا
فإن قيل هذا الوجه غايته أنه لا تصح معارضة الشرع بالعقل ولكن إذا طعن في العقل لم يبق لنا دليل على صحة الشرع
قيل المقصود في هذا المقام أنه يمتنع تقديم العقل على الشرع وهو المطلوب
وأما ثبوت الشرع في نفسه وعلمنا به فليس هذا مقام إثباته ونحن لم ندع أن أدلة العقل باطلة ولا ان ما به يعلم صحة السمع باطل ولكن ذكرنا أنه يمتنع معارضة الشرع بالعقل وتقديمه عليه وأن من قال ذلك تناقض قوله ولزمه أن لا يكون العقل دليلا صحيحا إذ كان عنده العقل يستلزم صحة ما هو باطل في نفسه فلا بد أن يضطره الأمر إلى أن يقول ما عارضه الدليل العقلي فليس هو عندي دليلا في نفس الأمر بل هو باطل فيقال له وهكذا ما عارضه الدليل السمعي فليس هو دليلا في نفس الأمر بل هو باطل وحينئذ فيرجع الأمر إلى أن ينظر في دلالة الدليل سواء كان سمعيا أو عقليا فإن كان دليلا قطعيا لم يجز أن يعارضه شيء وهذا هو الحق
وأيضا فقد ذكرنا أن مسمى الدليل العقلي عند من يطلق هذا اللفظ جنس تحته أنواع فمنها ما هو حق ومنها ما هو باطل باتفاق العقلاء فإن الناس متفقون على أن كثيرا من الناس يدخلون في مسمى هذا الإسم ما هو حق وباطل
(1/191)
وإذا كان كذلك فالأدلة العقلية الدالة على صدق الرسول إذا عارضها ما يقال إنه دليل عقلي يناقض خبره المعين ويناقض ما دل على صدقه مطلقا لزم أن يكون أحد نوعي ما يسمى دليلا عقليا باطلا وتمام هذا بأن يقال الوجه الحادي عشر
أن ما يسميه الناس دليلا من العقليات والسمعيات ليس كثير منه دليلا وإنما يظنه الظان دليلا وهذا متفق عليه بين العقلاء فإنهم متفقون على أن ما يسمى دليلا من العقليات والسمعيات قد لا يكون دليلا في نفس الأمر
فنقول أما المتبعون للكتاب والسنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم فهم متفقون على دلالة ما جاء به الشرع في باب الإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر وما يتبع ذلك لم يتنازعوا في دلالته على ذلك والمتنازعون فى ذلك بعدهم لم يتنازعوا فى أن السمع يدل على ذلك وإنما تنازعوا هل عارضه من العقل ما يدفع موجبه وإلا فكلهم متفقون على أن الكتاب والسنة مثبتان للأسماء والصفات مثبتان لما جاءا به من أحوال الرسالة والمعاد
والمنازعون لأهل الإثبات من نفاة الأفعال والصفات لا ينازعون في أن النصوص السمعية تدل على الإثبات وأنه ليس في السمع دليل ظاهر على النفي
(1/192)
فقد اتفق الناس على دلالة السمع على الإثبات وإن تنازعوا في الدلالة هل هي قطعية أو ظنية
وأما المعارضون لذلك من أهل الكلام والفلسفة فلم يتفقوا على دليل واحد من العقليات بل كل طائفة تقول في أدلة خصومها إن العقل يدل على فسادها لا على صحتها فالمثبتة للصفات يقولون إنه يعلم بالعقل فساد قول النفاة كما يقول النفاة إنه يعلم بالعقل فساد قول المثبتة
ومثبتة الرؤية يقولون إنه يعلم بالعقل إمكان ذلك كما تقول النفاة إنه يعلم بالعقل امتناع ذلك
والمتنازعون في الأفعال هل تقوم به يقولون إنه علم بالعقل قيام الأفعام به وإن الخلق والإبداع والتأثير أمر وجودي قائم بالخالق المبدع الفاعل
ثم كثير من هؤلاء يقولون إن التسلسل إنما هو ممتنع في العلل لا في الآثار والشروط وخصومهم يقولون ليس الخلق إلا المخلوق وليس الفعل إلا المفعول وليس الإبداع والخلق شيئا غير نفس الفعل ونفس المفعول المنفصل عنه وإن ذلك معلوم بالعقل لئلا يلزم التسلسل
وكذلك القول في العقليات المحضة كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض ودوام الحوادث في الماضي أو المستقبل أو غير ذلك كل هذه مسائل عقلية قد تنازع فيها العقلاء وهذا باب واسع فأهل العقليات من أهل النفي والإثبات كل منهم يدعى أن العقل دل على قوله المناقض لقول الآخر وأما السمع فدلالته متفق عليها بين العقلاء
(1/193)
وإذا كان كذلك قيل السمع دلالته معلومة متفق عليها وما يقال إنه معارض لها من العقل ليست دلالته معلومة متفقا عليها بل فيها نزاع كثير فلا يجوز أن يعارض ما دلالته معلومة باتفاق العقلاء بما دلالته المعارضة له متنازع فيها بين العقلاء
واعلم أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية ولا فيما علم العقل صحته وإنما يطعنون فيما يدعى المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة وليس في ذلك ولله الحمد دليل صحيح في نفس الأمر ولا دليل مقبول عند عامة العقلاء ولا دليل لم يقدح فيه بالعقل
وحينئذ فنقول في الوجه الثاني عشر
إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده وإن لم يعارض العقل وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع
وهذه الجملة تفصيلها هو الكلام على حجج المخالفين للسنة من أهل البدع بأن نبين بالعقل فساد تلك الحجج وتناقضها وهذا ولله الحمد م ازال الناس يوضحونه ومن تأمل ذلك وجد في المعقول مما يعلم به فساد المعقول المخالف للشرع ما لا يعلمه إلا الله
(1/194)
الوجه الثالث عشر
أن يقال الأمور السمعية التي يقال إن العقل عارضها كإثبات الصفات والمعاد ونحو ذلك هي مما علم بالإضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها وما كان معلوما بالإضطرار من دين الإسلام امتنع أن يكون باطلا مع كون الرسول رسول الله حقا فمن قدح في ذلك وادعى أن الرسول لم يجئ به كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين الوجه الرابع عشر
أن يقال إن أهل العناية بعلم الرسول العالمين بالقرآن وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لهم بإحسان والعالمين بأخبار الرسول والصحابة والتابعين لهم بإحسان عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول ومراده ما لا يمكنهم دفعه عن قلوبهم ولهذا كانوا كلهم متفقين على ذلك من غير تواطؤ ولا تشاعر كما اتفق أهل الإسلام على نقل حروف القرآن ونقل الصلوات الخمس والقبلة وصيام شهر رمضان وإذا كانوا قد نقلوا مقاصده ومراده عنه بالتواتر كان ذلك كنقلهم حروفه وألفاظه بالتواتر
ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني سواء كان التواتر لفظيا أو معنويا كتواتر شجاعة خالد وشعر حسان وتحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفقه الأئمة الأربعة وعدل العمرين ومغازي النبي صلى الله عليه وسلم مع
(1/195)
المشركين وقتاله أهل الكتاب وعدل كسرى وطب جالينوس ونحو سيبويه يبين هذا أن العلم والإيمان يعلمون من مراد الله ورسلوله بكلامه أعظم مما يعلمه الأطباء من كلام جالينوس والنحاة من كلام سيبويه فإذا كان من ادعى في كلام سيبويه وجالينوس ونحوهما ما يخالف ما عليه أهل العلم بالطب والنحو والحساب من كلامهم كان قوله معلوم البطلان فمن ادعى في كلام الله ورسوله خلاف ما عليه أهل الإيمان كان قوله أظهر بطلانا وفسادا لأن هذ معصوم محفوظ
وجماع هذا أن يعلم أن المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيئان ألفاظه وأفعاله ومعاني ألفاظه ومقاصده بأفعاله وكلاهما منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة ومنه ما هو متواتر عند الخاصة ومنه ما يختص بعلمه بعض الناس وإن كان عند غيره مجهولا أو مظنونا أو مكذوبا وأهل العلم بأقواله كأهل العلم بالحديث والتفسير المنقول والمغازي والفقه يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم ممن لم يشركهم في علمهم وكذلك أهل العلم بمعاني القرآن والحديث والفقه في ذلك يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم من معاني الأقوال والأفعال المأخوذة عن الرسول كما يتواتر عند النحاة من أقوال الخليل
(1/196)
وسيبويه والكسائي والفراء وغيرهم ما لا يعلمه غيرهم ويتواتر عند الأطباء من معاني أقوال أبقراط وجالينوس وغيرهما ما لا يتواتر عند غيرهم ويتواتر عند كل أحد من أصحاب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وأبي داود وأبي ثور وغيرهم من مذاهب هؤلاء الأئمة ما لا يعلمه غيرهم ويتواتر عند أتباع رؤوس أهل الكلام والفلسفة من أقوالهم ما لا يعلمه غيرهم ويتواتر عند أهل العلم بنقلة الحديث من أقوال شعبة ويحيى بن سعيد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد ابن حنبل وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري وأمثالهم في الجرح والتعديل ما لا يعلمه غيرهم بحيث يعلمون بالإضطرار اتفاقهم على تعديل مالك الثوري وشعبة
(1/197)
وحماد بن زيد والليث بن سعد وغير هؤلاء وعلى تكذيب محمد بن سعيد المصلوب وأبي البختري وهب بن وهب القاضي وأحمد بن عبدالله الجويباري وأمثالهم الوجه الخامس عشر
أن يقال كون الدليل عقليا أو سمعيا ليس هو صفة تقتضي مدحا ولا ذما ولا صحة ولا فسادا بل ذلك يبين الطريق الذي به علم وهو السمع أو العقل وأن كان السمع لا بد معه من العقل وكذلك كونه عقليا أو نقليا وأما كونه شرعيا فلا يقابل بكونه عقليا وإنما يقابل بكونه بدعيا إذا البدعة تقابل الشرعة وكونه شرعيا صفة مدح وكونه بدعيا صفة ذم وما خالف الشريعة فهو باطل
ثم الشرعي قد يكون سمعيا وقد يكون عقليا فإن كون الدليل شرعيا يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع فإما أن يكون معلوما بالعقل أيضا ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه فيكون شرعيا عقليا
(1/198)
وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله وإثبات صفاته وعلى المعاد فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل وهي براهين ومقاييس عقلية وهي مع ذلك شرعية
وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعيا سمعيا
وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين العقليات والسمعيات ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة
وهذا غلط منهم بل القرآن دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه كما قال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } سورة فصلت 53
وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق وما دل عليه ونبه عليه القرآن وما دلت عليه وشهدت به الموجودات
والشارع يحرم الدليل لكونه كذبا في نفسه مثل أن تكون إحدى مقدماته باطلة فإنه كذب والله يحرم الكذب لا سيما عليه كقوله تعالى { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه } سورة الأعراف 169
(1/199)
ويحرمه لكون المتكلم به يتكلم بلا علم كما قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } سورة الإسراء 36 وقوله تعالى { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } سورة الأعراف 33 وقوله { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } سورة آل عمران 66
ويحرمه لكونه جدالا في الحق بعد ما تبين كقوله تعالى { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } سورة الأنفال 6 وقوله تعالى { ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق } سورة الكهف 56
فحينئذ فالدليل الشرعي لا يجوز أن يعارضه دليل غير شرعي ويكون مقدما عليه بل هذا بمنزلة من يقول إن البدعة التي لم يشرعها الله تعالى تكون مقدمة على الشرعة التي أمر الله بها أو يقول الكذب مقدم على الصدق أو يقول خبر غير النبي صلى الله عليه وسلم يكون مقدما على خبر النبي أو يقول ما نهى الله عنه يكون خيرا مما أمر الله به ونحو ذلك وهذا كله ممتنع
وأما الدليل الذي يكون عقليا أو سمعيا من غير أن يكون شرعيا فقد يكون راجحا تارة ومرجوحا أخرى كما أنه قد يكون دليلا صحيحا تارة ويكون شبهة فاسدة أخرى فما جاءت به الرسل عن الله تعالى إخبارا أو أمرا لا يجوز أن يعارض بشيء من الأشياء وأما ما يقوله الناس فقد يعارض بنظيره إذ قد يكون حقا تارة وباطلا أخرا وهذا مما لا ريب فيه لكن من الناس من يدخل في الأدلة الشرعية ما ليس منها كما أن منهم من يخرج منها ما هو داخل فيها والكلام هنا على جنس الأدلة لا على أعيانها
(1/200)
الوجه السادس عشر
أن يقال غاية ما ينتهي إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم من المشهورين بالإسلام هو التأويل أو التفويض فأما الذين ينتهون إلى أن يقولوا الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة
والتأويل المقبول هو مادل على مراد المتكلم والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول أرادها بل يعلم بالإضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول كما يعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص
وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب هو من باب التحريف والإلحاد لا من باب التفسير وبيان المراد
وأما التفويض فإن من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله
(1/201)
وأيضا فالخطاب الذي أريد به هدانا والبيان لنا وإخراجنا من الظلمات إلى النور إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك فعلى التقديرين لم نخاطب بما بين فيه الحق ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر
وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا أنه لم يبين الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه بل دل ظاهره على الكفر والباطل وأراد منا أن لا نفهم منه شيئا أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه وهذا كله مما يعلم بالإضطرار تنزيه الله ورسوله عنه وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد
وبهذا احتج الملاحدة كابن سينا وغيره على مثبتي المعاد وقالوا القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص التشبيه والتجسيم وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين ما الأمر عليه في نفسه لا في العلم بالله تعالى ولا باليوم الآخر فكان الذي استطالوا به على هؤلاء هو موافقتهم لهم على نفي الصفات وإلا فلو آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضتهم ودحضت حجتهم
(1/202)
ولهذا كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول ليس إلا مذهبان مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والإختلاف يعني أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسول وأولئك جعلوا الجميع تخييلا وتوهيما ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة
ثم إن ابن سينا وأمثاله من الباطنية المتفلسفة والقرامطة يقولون إنه أراد من المخاطبين أن يفهموا الأمر على خلاف ما هو عليه وأن يعتقدوا ما لا حقيقة له في الخارج لما في هذا التخييل والإعتقاد الفاسد لهم من المصلحة
والجهمية والمعتزلة وأمثالهم يقولون إنه أراد أن يعتقدوا الحق على ما هو عليه مع علمهم بأنه لم يبين ذلك في الكتاب والسنة بل النصوص تدل على نقيض ذلك فأولئك يقولون أراد منهم اعتقاد الباطل وأمرهم به وهؤلاء يقولون أراد اعتقاد ما لم يدلهم إلا على نقيضه
والمؤمن يعلم بالإضطرار أن كلا القولين باطل ولا بد للنفاة أهل التأويل من هذا أو هذا وإذا كان كلاهما باطلا كان تأويل النفاة للنصوص باطلا
(1/203)
فيكون نقيضة حقا وهو إقرار الأدلة الشرعية على مدلولاتها ومن خرج عن ذلك لزمه من الفساد ما لا يقوله إلا أهل الإلحاد
وما ذكرناه من لوازم قول أهل التفويض هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم إذ قالوا إن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة ولكن لم يبين للناس مراده بها ولا أوضحه إيضاحا يقطع به النزاع
وأما على قول أكابرهم إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه إلا الله وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة
ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته أو عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم أو عن كونه أمر ونهى ووعد وتوعد أو عما أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم ولا بلغ البلاغ المبين
(1/204)
وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي وليس في النصوص ما يناقض ذلك لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به
فيبقى هذا الكلام سدا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء وفتحا لباب من يعارضهم ويقول إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلا عن أن يبينوا مرادهم
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد
فإن قيل أنتم تعلمون أن كثيرا من السلف رأوا أن الوقف عند قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } سورة آل عمران 6 بل كثير من الناس يقول هذا هو قول السلف ونقلوا هذا القول عن أبي بن كعب وابن مسعود وعائشة وابن عباس وعروة بن الزبير وغير واحد من السلف والخلف وإن كان القول الآخر وهو أن السلف يعلمون تأويله منقولا عن ابن عباس أيضا وهو قول مجاهد ومحمد بن جعفر وابن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم وما ذكرتموه قدح في أولئك السلف وأتباعهم
(1/205)
قيل ليس الأمر كذلك فإن أولئك السلف الذين قالوا لا يعلم تأويله إلا الله كانوا يتكلمون بلغتهم المعروفة بينهم ولم يكن لفظ التأويل عندهم يراد به معنى التأويل الإصطلاحي الخاص وهو صرف اللفظ عن المعنى المدلول عليه المفهوم منه إلى معنى يخالف ذلك فإن تسمية هذا المعنى وحده تأويلا إنما هو اصطلاح طائفة من المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم ليس هو عرف السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم لا سيما ومن يقول إن لفظ التأويل هذا معناه يقول إنه يحمل اللفظ على المعنى المرجوح لدليل يقترن به وهؤلاء يقولون هذا المعنى المرجوح لا يعلمه أحد من الخلق والمعنى الراجح لم يرده الله
وإنما كان لفظ التأويل في عرف السلف يراد به ما أراده الله بلفظ التأويل في مثل قوله تعالى { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } سورة الأعراف 53 وقال تعالى { ذلك خير وأحسن تأويلا } سورة النساء 59 وقال يوسف { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } سورة يوسف وقال يعقوب له { ويعلمك من تأويل الأحاديث } سورة يوسف 6 { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله } سورة يوسف 45 وقال يوسف { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } سورة يوسف 37
فتأويل الكلام الطلبي الأمر والنهى هو نفس فعل المأمور به وترك المنهى عنه كما قال سفيان بن عيينة السنة تأويل الأمر والنهى وقالت
(1/206)
عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك الله اغفر لي يتأول القرآن وقيل لعروة بن الزبير فما بال عائشة كانت تصلي في السفر أربعا قال تأولت كما تأول عثمان ونظائره متعددة
وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر عنها وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ولهذا قال مالك وربيعة وغيرهما الإستواء معلوم والكيف مجهول وكذلك قال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف يقولون إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن علمنا تفسيره ومعناه
ولهذا رد أحمد بن حنبل على الجهمية والزنادقة فيما طعنوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله فرد على من حمله على غير ما أريد به وفسر هو جميع الآيات المتشابهة وبين المراد بها
وكذلك الصحابة والتابعون فسروا جميع القرآن وكانوا يقولون إن العلماء يعلمون تفسيره وما أريد به وإن لم يعلموا كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وكذلك
(1/207)
لا يعلمون كيفية الغيب فإن ما أعده الله لأوليائه من النعيم لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا خطر على قلب بشر فذاك الذي أخبر به لا يعلمه إلا الله فمن قال من السلف إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى فهذا حق
وأما من قال إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد به لا يعلمه إلا الله فهذا ينازعه فيه عامة الصحابة والتابعين الذين فسروا القرآن كله وقالوا إنهم يعلمون معناه
كما قال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها وقال ابن مسعود ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيم أنزلت وقال الحسن البصري ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها
ولهذا كانوا يجعلون القرآن يحيط بكل ما يطلب من علم الدين كما قال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه
وقال الشعبي ما ابتدع قوم بدعة إلا في كتاب الله بيانها وأمثال ذلك من الآثار الكثيرة المذكورة بالأسانيد الثابتة مما ليس هذا موضع بسطه الوجه السابع عشر
أن يقال الذين يعارضون الكتاب والسنة بما يسمونه عقليات من الكلاميات والفلسفيات ونحو ذلك إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة مجملة تحتمل
(1/208)
معاني متعددة ويكون ما فيها من الإشتباه لفظا ومعنى يوجب تناولها لحق وباطل فبما فيها من الحق يقبل ما فيها من الباطل لأجل الإشتباه والإلتباس ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لظهرت وبانت وما قبلت ولو كانت حقا محضا لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة فإن السنة لا تناقض حقا محضا لا باطل فيه ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع
ولهذا قال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب على لسان محمد صلى الله عليه وسلم { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } سورة البقرة 40 42 فنهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمانه ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر كما قال تعالى { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } سورة الأنعام 9
ومنه التلبيس وهو التدليس وهو الغش لأن المغشوش من النحاس تلبسه فضة تخالطه وتغطيه كذلك إذا لبس الحق بالباطل يكون قد أظهر الباطل
(1/209)
في صورة الحق فالظاهر حق والباطن باطل ثم قال تعالى { وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } سورة البقرة 42
وهنا قولان قيل إنه نهاهم عن مجموع الفعلين وإن الواو واو الجمع التي يسميها نحاة الكوفة واو الصرف كما في قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن كما قال تعالى { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } سورة آل عمران 142 على قراءة النصب وكما في قوله تعالى { أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } سورة الشورى 34 35 على قراءة النصب وعلى هذا فيكون الفعل الثاني في قوله { وتكتموا الحق } منصوبا والأول مجزوما
وقيل بل الواو هي الواو العاطفة المشركة بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون قد نهى عن الفعلين من غير اشتراط اجتماعهما كما إذا قيل لا تكفر وتسرق وتزن
وهذا هو الصواب كما في قوله تعالى { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } سورة آل عمران 71 ولو ذمهم على الإجتماع لقال وتكتموا الحق بلا نون وتلك الآية نظير هذه
ومثل هذا الكلام إذا أريد به النهي عن كل من الفعلين فإنه قد يعاد فيه حرف النفي كما تقول لا تكفر ولا تسرق ولا تزن ومنه قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم } سورة النساء 29
(1/210)
وأما إذا لم يعد حرف النفي فيكون لارتباط أحد الفعلين بالآخر مثل أن يكون أحدهما مستلزما للآخر كما قيل لا تكفر بالله وتكذب أنبياءه ونحو ذلك
وما يكون اقترانهما ممكنا لا محذور فيه لكن النهى عن الجميع فهو قليل في الكلام ولذلك قل ما يكون فيه الفعل الثاني منصوبا والغالب على الكلام جزم الفعلين
وهذا مما يبين أن الراجح في قوله وتلبسوا أن تكون الواو واو العطف والفعل مجزوما ولم يعد حرف النفي لأن أحد الفعلين مرتبط بالآخر مستلزم له فالنهى عن الملزوم وإن كان يتضمن النهى عن اللازم فقد يظن أنه ليس مقصودا للناهي وإنما هو واقع بطريق اللزوم العقلي
ولهذا تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه وهل يكون نهيا عن ضده مع اتفاقهم على أن فعل المأمور لا يكون إلا مع فعل لوازمه وترك ضده ومنشأالنزاع أن الآمر بالفعل قد لا يكون مقصود اللوازم ولا ترك الضد ولهذا إذا عاقب المكلف لا يعاقبه إلا على ترك المأمور فقط لا يعاقبه على ترك لوازمه وفعل ضده
وهذه المسألة هي الملقبة بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
وقد غلط فيها بعض الناس فقسموا ذلك إلى ما لا يقدر المكلف عليه كالصحة في الأعضاد والعدد في الجمعة ونحو ذلك مما لا يكون قادرا على تحصيله وإلى ما يقدر عليه كقطع المسافة إلى الحج وغسل جزء من الرأس في الوضوء وإمساك
(1/211)
جزء من الليل في الصيام ونحو ذلك فقالوا ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب
وهذا التقسيم خطأ فإن هذه الأمور التي ذكروها هي شرط في الوجوب فلا يتم الوجوب إلا بها وما لا يتم الوجوب إلا به لا يجب على العبد فعله باتفاق المسلمين سواء كان مقدورا عليه أو لا كالإستطاعة في الحج واكتساب نصاب الزكاة فإن العبد إذا كان مستطيعا للحج وجب عليه الحج وإذا كان مالكا لنصاب الزكاة وجبت عليه الزكاة فالوجوب لا يتم إلا بذلك فلا يجب عليه تحصيل استطاعة الحج ولا ملك النصاب
ولهذا من يقول إن الإستطاعة في الحج ملك المال كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد فلا يوجبون عليه اكتساب المال ولم يتنازعوا إلا فيما إذا بذلت له الإستطاعة إما بذل الحج وإما بذل المال له من ولده وفيه نزاع معروف في مذهب الشافعي وأحمد ولكن المشهور من مذهب أحمد عدم الوجوب وإنما أوجبه طائفة من أصحابه لكون الأب له على أصله أن يتملك مال ولده فيكون قبوله كتملك المباحات والمخالفون لهؤلاء من أصحابه لا يوجبون عليه اكتساب المباحات والمشهور من مذهب الشافعي الوجوب ببذل الابن الفعل
(1/212)
والمقصود هنا الفرق بين ما لا يتم الوجوب إلا به وما لا يتم الواجب إلا به وأن الكلام في القسم الثاني فما لا يتم الواجب إلا به كقطع المسافة في الجمعة والحج ونحو ذلك فعلى المكلف فعله باتفاق المسلمين
لكن من ترك الحج وهو بعيد الدار عن مكة أو ترك الجمعة وهو بعيد الدار عن الجامع فقد ترك أكثر مما ترك قريب الدار ومع هذا فلا يقال إن عقوبة هذا أعظم من عقوبة قريب الدار والواجب ما يكون تركه سببا للذم والعقاب فلو كان هذا الذي لزم فعله بطريق التبع مقصودا بالوجوب لكان الذم والعقاب لتاركه أعظم فيكون من ترك الحج من أهل الهند والأندلس أعظم عقابا ممن تركه من أهل مكة والطائف ومن ترك الجمعة من أقصى المدينة أعظم عقابا ممن تركها من جيران المسجد الجامع
فلما كان من المعلوم أن ثواب البعيد أعظم وعقابه إذا ترك ليس أعظم من عقاب القريب نشأت من ههنا الشبهة هل هو واجب أو ليس بواجب والتحقيق أن وجوبه بطريق اللزوم العقلي لا بطريق قصد الآمر بل الأمر بالفعل قد لا يقصد طلب لوازمه وإن كان عالما بأنه لا بد من وجودها وإن كان ممن يجوز عليه الغفلة فقد لا تخطر بقلبه اللوازم
ومن فهم هذا انحلت عنه شبهة الكعبي هل في الشريعة مباح أو لا فإن الكعبي زعم أنه لا مباح في الشريعة لأنه ما من فعل يفعله العبد من المباحان
(1/213)
إلا وهو مشتغل به عن محرم والنهي عن المحرم أمر بأحد أضداده فيكون ما فعله من المباحثان هو من أضداد المحرم المأمور بها
وجوابه أن يقال النهى عن الفعل ليس أمرا بضد معين لا بطريق القصد ولا بطريق اللزوم بل هو نهي عن الفعل المقصود تركه بطريق القصد وذلك يستلزم الأمر بالقدر المشترك بين الأضداد فهو أمر بمعنى مطلق كلي والأمر بالمعنى المطلق الكلي ليس أمرا بمعين بخصوصه ولا نهيا عنه بل لا يمكن فعل المطلق إلا بمعين أي معين كان فهو أمر بالقدر المشترك بين المعينات فما امتاز به معين عن معين فالخيرة فيه إلى المأمور لم يؤمر به ولم ينه عنه وما اشتركت فيه المعينات وهو القدر المشترك فهو الذي أمر به الآمر
وهذا يحل الشبهة في مسألة المأمور المخير والأمر بالماهية الكلية هل يكون أمرا بشي من جزئياتها أم لا فالمخير هو الذي يكون أمر بخصلة من خصال معينة كما في فدية الأذى وكفارة اليمين كقوله تعلى { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } سورة البقرة 196 وقوله تعالى { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } سورة المائدة 89 فهنا اتفق المسلمون على أنه إذا فعل واحد منها برئت ذمته وأنه إذا ترك الجميع لم يعاقب على ترك الثلاثة كما يعاقب إذا وجب عليه أن يفعل الثلاثة كلها
(1/214)
وكذلك اتفق العقلاء المعتبرون على أن الواجب ليس معينا في نفس الأمر وأن الله لم يوجب عليه ما علم أنه سيفعله وإنما يقول هذا بعض الغالطين ويحكيه طائفة عن طائفة غلطا عليهم بل أوجب عليه أن يفعل هذا أو هذا وهو كما قال ابن عباس كل شيء في القرآن أو أو فهو على التخيير وكل شيء في القرآن فمن لم يجد فو على الترتيب والله يعلم أن العبد يفعل واحدا بعينه مع علمه أنه لم يوجبه عليه بخصوصه
ثم اضطرب الناس هنا هل الواجب الثلاثة فلا يكون هناك فرق بين المعين وبين المخير أو الواجب واحد لا بعينه فيكون المأمور به مبهما غير معلوم للمأمور ولا بد في الأمر من تمكن المأمور من العلم بالمأمور به والعمل به والقول بأيجاب الثلاثة يحكى عن المعتزلة والقول بأيجاب واحد لا بعينه هو قول الفقهاء
وحقيقة الأمر أن الواجب هو القدر المشترك بين الثلاثة وهو مسمى أحدهما فالواجب أحد الثلاثة وهذا معلوم متميز معروف للمأمور وهذا المسمى يوجد في هذا المعين وهذا المعين وهذا المعين فلم يجب واحد بعينه غير معين بل وجب أحد المعينات والإمتثال يحصل بواحد منها وإن لم يعينه الآمر
والمتناقض هو أن يوجب معينا ولا يعينه أما إذا كان الواجب غير معين بل هو القدر المشترك فلا منافاة بين الإيجاب وترك التعيين
(1/215)
وهذا يظهر بالواجب المطلق وهو الأمر بالماهية الكلية كالأمر بإعتاق رقبة فإن الواجب رقبة مطلقة والمطلق لا يوجد إلا معينا لكن لا يكون معينا في العلم والقصد فالآمر لم يقصد واحدا بعينه مع علمه بأنه لا يوجد إلا معينا وأن المطلق الكلي عند الناس وجوده في الأذهان لا في الأعيان فما هو مطلق كلي في أذهان الناس لا يوجد إلا معينا مشخصا مخصوصا متميزا في الأعيان وإنما سمى كليا لكونه في الذهن كليا وأما في الخارج فلا يكون في الخارج ما هو كلي أصلا
وهذا الأصل ينفع في عامة العلوم فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه فيحتاج أن يفهم في كل موضع يحتاج إليه فيه كما تقدم وبسبب الغلط فيه ضل طوائف من الناس حتى في وجود الرب تعالى وجعلوه وجودا مطلقا إما بشرط الإطلاق وإما بغير شرط الإطلاق وكلاهما يمتنع وجوده في الخارج
والمتفلسفة منهم من يقول يوجد المطلق بشرط الإطلاق في الخارج كما يذكر عن شيعة أفلاطون القائلين بالمثل الأفلاطونية ومنهم من يزعم وجود المطلقات في الخارج مقارنة للمعينات وأن الكلى المطلق جزء من المعين الجزئي كما يذكر عمن يذكر عنه من أتباع أرسطو صاحب المنطق
وكلا القولين خطأ صريح فإنا نعلم بالحس وضرورة العقل أن الخارج ليس فيه إلا شيء معين مختص لا شركة فيه أصلا ولكن المعاني الكلية العامة المطلقة في الذهن كالألفاظ المطلقة والعامة في اللسان وكالخط الدال على تلك الألفاظ
(1/216)
فالخظ يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى فكل من الثلاثة يتناول الأعيان الموجودة في الخارج ويشملها ويعمها لا أن في الخارج شيئا هو نفسه يعم هذا وهذا أو يوجد في هذا وهذا أو يشترك فيه هذا وهذا فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول وإنما يقوله من اشتبهت عليه الأمور الذهنية بالأمور الخارجية أو من قلد بعض من قال ذلك من الغالطين فيه
ومن علم هذا علم كثيرا مما دخل في المنطق من الخطأ في كلامهم في الكليات والجزئيات مثل الكليات الخمس الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام
وما ذكروه من الفرق بين الذاتيات واللوازم للماهية وما ادعوه من تركيب الأنواع من الذاتيات المشتركة المميزة التي يسمونها الجنس والفصل وتسمية هذه الصفات أجزاء الماهية ودعواهم أن هذه الصفات التي يسمونها أجزاء تسبق الموصوف في الوجود الذهني والخارجي جميعا وإثباتهم في الأعيان الموجودة في الخارج حقيقة عقلية مغايرة للشيء المعين الموجود وأمثال ذلك من أغاليطهم التي تقود من اتبعها إلى الخطأ في الإلهيات حتى يعتقد في الموجود الواجب أنه وجود مطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة من الملاحدة أو بشرط سلب الأمور الثبوتية كلها كما قاله ابن سينا وأمثاله مع العلم بصريح العقل أن المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية يمتنع وجوده في الخارج فيكون الواجب الوجود ممتنع الوجود
(1/217)
وهذا الكفر المتناقض وأمثاله هو سبب ما اشتهر بين المسلمين أن المنطق يجر إلى الزندقة وقد يطعن في هذا من لم يفهم حقيقة المنطق وحقيقة لوازمه ويظن أنه في نفسه لا يستلزم صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوت حق ولا انتفاءه وإنما هو آله تعصم مراعاتها عن الخطأ في النظر وليس الأمر كذلك بل كثير مما ذكروه في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات ويكون من قال بلوازمه ممن قال الله تعالى فيه { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } سورة الملك 10
والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما يلتبس ذلك على كثير من الناس بسبب ما في ألفاظه من الإجمال والإشتراك والإبهام فإذا فسر المراد بتلك الألفاظ انكشفت حقيقة المعاني المعقولة كما سننبه على ذلك إن شاء الله تعالى
والغرض هنا أن الأمر بالشيء الذي له لوازم لا توجد إلا بوجوده سواء كانت سابقة على وجوده أو كانت لاحقة لوجوده قد يكون الآمر قاصدا للأمر بتلك اللوازم بحيث يكون آمرا بهذا وبهذا اللازم وأنه إذا تركهما عوقب على كل منهما وقد يكون المقصود أحدهما دون الآخر وكذلك النهى عن الشيء الذي له ملزوم قد يكون قصده أيضا ترك الملزوم لما فيه من المفسدة وقد يكون تركه غير مقصود له وإنما لزم لزوما
ومن هنا ينكشف لك سر مسألة اشتباه الأخت بالأجنبية والمذكى بالميت ونحو ذلك مما ينهي العبد فيه عن فعل الإثنين لأجل الإشتباه فقالت طائفة كلتاهما محرمة وقالت طائفة بل المحرم في نفس الأمر الأخت والميتة والأخرى
(1/218)
إنما نهى عنها لعلة الإشتباه وهذا القول أغلب على فطرة الفقهاء والأول أغلب على طريقه من لا يجعل في الأعيان معاني تقتضي التحليل والتحريم فيقول كلاهما نهى عنه وإنما سبب النهي اختلف
والتحقيق في ذلك أن المقصود للناهي اجتناب الأجنبية والميتة فقط والمفسدة التي من أجلها نهى عن العين موجودة فيها فقط وأما ترك الأخرى فهي من باب اللوازم فهنا لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه وهنا لا يتم فعل الواجب إلا بفعله
وهذا نظير من ينهاه الطبيب عن تناول شراب مسموم واشتبه ذلك القدح بغيره فعلى المريض اجتناب القدحين والمفسدة في أحدهما ولهذا لو أكل الميتة والمذكى لعوقب على أكل الميتة كما لو أكلها وحدها ولا يزداد عقابه بأكل المذكى بخلاف ما إذا أكل ميتتين فإنه يعاقب على أكلهما أكثر من عقاب من أكل إحداهما
إذا عرف هذا فقوله تعالى { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق } سورة البقرة 42 نهى عنهما والثاني لازم للأول مقصود بالنهى فمن لبس الحق بالباطل كتم الحق وهو معاقب على لبسه الحق بالباطل وعلى كتمانه الحق فلا يقال النهى عن جمعهما فقط لأنه لو كان هذا صحيحا لم يكن مجرد كتمان الحق موجبا للذم ولا مجرد لبس الحق بالباطل موجبا للذم وليس الأمر كذلك فإن كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بنيه للناس يستحقون به العقاب باتفاق المسلمين وكذلك لبسهم الحق الذي أنزله الله بالباطل يستحقون به العقاب باتفاق المسلمين وكذلك لبسهم الحق الذي أنزله الله بالباطل
(1/219)
الذي ابتدعوه وجمع بينهما بدون إعادة حرف النفي لأن اللبس مستلزم للكتمان ولم يقتصر على الملزوم لأن اللازم مقصود بالنهى
فهذا يبين لك بعض ما في القرآن من الحكم والأسرار وإنما كان اللبس مستلزما للكتمان لأن من لبس الحق بالباطل كما فعله أهل الكتاب حيث ابتدعوا دينا لم يشرعه الله فأمروا بما لم يأمر به ونهوا عما لم ينه عنه وأخبروا بخلاف ما أخبر به فلا بد له أن يكتم من الحق المنزل ما يناقض بدعته إذ الحق المنزل الذي فيه خبر بخلاف ما أخبر به إن لم يكتمه لم يتم مقصوده وكذلك الذي فيه إباحة لما نهي عنه أو إسقاط لما أمر به
والحق المنزل إما أمر ونهى وإباحة وإما خبر فالبدع الخبرية كالبدع المتعلقة بأسماء الله تعالى وصفاته والنبيين واليوم الآخر لا بد أن يخبروا فيها بخلاف ما أخبر الله به والبدع الأمرية كمعصية الرسول المبعوث إليهم ونحو ذلك لا بد أن يأمروا فيها بخلاف ما أمر الله به والكتب المتقدمة تخبر عن الرسول النبي الأمي وتأمر باتباعه
والمقصود هنا الإعتبار فإن بني إسرائيل قد ذهبوا أو كفروا وإنما ذكرت قصصهم عبرة لنا وكان بعض السلف يقول إن بني إسرائيل ذهبوا وإنما يعنى أنتم ومن الأمثال السائرة إياك أعني واسمعي يا جارة فكان فيما خاطب الله به بني إسرائيل عبرة لنا أن لا نلبس الحق بالباطل ونكتم الحق
(1/220)
والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات أو ذوقيات ووجديات وحقائق وغير ذلك لا بد أن تشمل على لبس حق بباطل وكتمان حق وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها ويبغض من يفعل ذلك كما قال بعض السلف ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لابد له أن يلبس فيه حقا بباطل بسبب ما يقوله من الألفاظ المجملة المتشابهة
ولهذا قال الإمام أحمد في أول ما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله مما كتبه في حبسه وقد ذكره الخلال في كتاب السنة والقاضي أبو يعلى وأبو الفضل التميمي وأبو الوفاء بن عقيل وغير واحد من أصحاب أحمد ولم ينفه أحد منهم عنه قال في أوله الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على
(1/221)
مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين
والمقصود هنا قوله يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم وهذا الكلام المتشابه الذى يخدعون به جهال الناس هو الذى يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس لكن بمعان أخر غير المعاني التي قصدوها هم بها فيقصدون هم بها معاني أخر فيحصل الإشتباه والإجمال كلفظ العقل والعاقل والمعقول فإن لفظ العقل في لغة المسلمين إنما يدل على عرض إما مسمى مصدر عقل يعقل عقلا وإما قوة يكون بها العقل وهي الغريزة وهم يريدون بذلك جوهرا مجردا قائما بنفسه
وكذلك لفظ المادة والصورة بل وكذلك لفظ الجوهر والعرض والجسم والتحيز والجهة والتركيب والجزء والإفتقار والعلة والمعلول والعاشق والعشق والمعشوق بل ولفظ الواحد في التوحيد بل ولفظ الحدوث والقدم بل ولفظ الواجب والممكن بل ولفظ الوجود والموجود والذات وغير ذلك من الألفاظ
وما من أهل فن إلا وهم معترفون بأنهم يصطلحون على ألفاظ يتفاهمون بها مرادهم كما لأهل الصناعات العملية ألفاظ يعبرون بها عن صناعتهم وهذه
(1/222)
الألفاظ هي عرفية عرفا خاصا ومرادهم بها غير المفهوم منها في أصل اللغة سواء كان ذلك المعنى حقا أو باطلا
وإذا كان كذلك فهذا مقام يحتاج إلى بيان
وذلك أن هؤلاء المعارضين إذا لم يخاطبوا بلغتهم واصطلاحهم فقد يقولون إنا لا نفهم ما قيل لنا أو أن المخاطب لنا والراد علينا لم يفهم قولنا ويلبسون على الناس بأن الذي عنيناه بكلامنا حق معلوم بالعقل أو بالذوق ويقولون أيضا إنه موافق للشرع إذا لم يظهروا مخالفة الشرع كما يفعله الملاحدة من القرامطة والفلاسفة ومن ضاهأهم وإذا خوطبوا بلغتهم واصطلاحهم مع كونه ليس هو اللغة المعروفة التي نزل بها القرآن فقد يفضي إلى مخالفة ألفاظ القرآن في الظاهر
فإن هؤلاء عبروا عن المعاني التي أثبتها القرآن بعبارات أخرى ليست في القرآن وربما جاءت في القرآن بمعنى آخر فليست تلك العبارات مما أثبته القرآن بل قد يكون معناها المعروف في لغة العرب التي نزل بها القرآن منتفيا باطلا نفاه الشرع والعقل وهم اصطلحوا بتلك العبارات على معان غير معانيها في لغة العرب فتبقى إذا أطلقوا نفيها لم تدل في لغة العرب على باطل ولكن تدل في اصطلاحهم الخاص على باطل فمن خاطبهم بلغة العرب قالوا إنه لم يفهم مرادنا ومن خاطبهم باصطلاحهم أخذوا يظهرون عنه أنه قال ما يخالف القرآن وكان هذا من جهة كون تلك الألفاظ مجملة مشتبهة
وهذا كالألفاظ المتقدمة مثل لفظ القدم والحدوث والجوهر والجسم والعرض والمركب والمؤلف والمتحيز والبعض والتوحيد
(1/223)
والواحد فهم يريدون بلفظ التوحيد والواحد في اصطلاحهم ما لا صفة له ولا يعلم منه شيىء دون شيىء ولا يرى والتوحيد الذي جاء به الرسول لم يتضمن شيئا من هذا النفي وإنما تضمن إثبات الألهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا هو ولا يعبد إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه ولا يوالي إلا له ولا يعادي إلا فيه ولا يعمل إلا لأجله وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات
قال جابر بن عبد الله في حديثه الصحيح في سياق حجة الوداع فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وكانوا في الجاهلية يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأهل النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد كما تقدم
قال تعالى { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } سورة البقرة 163
وقال تعالى { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } سورة النحل 51 وقال تعالى { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } سورة المؤمنون 117 وقال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }
(1/224)
سورة الزخرف 45 وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } سورة النحل 36
وأخبرنا عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له وقال تعالى { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } سورة الممتحنة 4 وقال تعالى عن المشركين { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } سورة ص 5 وقال تعالى { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } سورة الإسراء وقال تعالى { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } سورة الزمر 45 وقال تعالى { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } سورة الصافات 35 36 وهذا في القرآن كثير
وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد ويظن هؤلاء أنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد
وكثير من أهل الكلام يقول التوحيد له ثلاث معان وهو واحد في ذاته لا قسيم له أو لا جزء له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله
(1/225)
لا شريك له وهذا المعنى الذي تتناوله هذه العبارة فيها ما يوافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفيها ما يخالف ما جاء به الرسول وليس الحق الذي فيها هو الغاية التي جاء بها الرسول بل التوحيد الذي أمر به أمر يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخرى فهذا من الكلام الذي لبس فيه الحق بالباطل وكتم الحق
وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه وأقر بأنه وحده خالق كل شيىء لم يكن موحدا بل ولا مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له
والإله هو بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة ليس هو الإله بمعنى القادر على الخلق فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الإختراع واعتقد لأن هذا أخص وصف الإله وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيىء وكانوا مع هذا مشركين
قال تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } سورة يوسف 106 قال طائفة من السلف تسألهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره وقال تعالى { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون } سورة المؤمنون 84 89 وقال تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } سورة العنكبوت 61
(1/226)
فليس كل من أقر أن الله رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه داعيا له دون ما سواه راجيا خائفا منه دون ما سواه يوالي فيه ويعادي فيه ويطيع رسله ويأمر بما أمر به وينهي عما نهى عنه وقد قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } سورة الأنفال 39 وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أندادا قال تعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا } سورة الزمر 43 44
وقال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } سورة يونس 18 وقال تعالى { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } سورة الأنعام 94 وقال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } سورة البقرة 165
ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالى ويصوم لها وينسك لها ويتقرب إليها ثم يقول إن هذا ليس بشرك وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا
(1/227)
ومن المعلوم بالإضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك فهذا ونحوه من التوحيد الذي بعث الله به رسله وهم لا يدخلونه في مسمى التوحيد الذي اصطلحوا عليه وأدخلوا في ذلك نفي صفاته فإنهم إذا قالوا لا قسيم له ولا جزء له ولا شبيه له فهذا اللفظ وإن كان يراد به معنى صحيح فإن الله ليس كمثله شيء وهو سبحانه لا يجوز عليه أن يتفرق ولا يفسد ولا يستحيل بل هو أحد صمد والصمد الذي لا جوف له وهو السيد الذي كمل سؤدده فإنهم يدرجون في هذا نفي علوه على خلقه ومباينته لمصنوعاته ونفى ما ينفونه من صفاته ويقولون إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما وأن يكون له شبيه
وأهل العلم يعلمون ان مثل هذا لا يسمى في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيبا وانقساما ولا تمثيلا وهكذا الكلام في مسمى الجسم والعرض والجوهر والمتحيز وحلول الحوادث وأمثال ذلك فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أمورا مما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله فيدخلون فيها نفى علمه وقدرته وكلامه ويقولون إن القرآن مخلوق لم يتكلم الله به وينفون بها رؤيته لأن رؤيته على اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم ثم يقولون والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته وكذلك يقولون إن المتكلم لا يكون إلا جسما متحيزا والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلما ويقولون لو كان فوق العرش لكان جسما متحيزا والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلما فوق العرش وأمثال ذلك
(1/228)
وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة كما ذكر فالمخاطب لهم إما أن يفصل ويقول ما تريدون بهذه الألفاظ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت وإن فسروها بخلاف ذلك ردت
وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى العجز والإنقطاع وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها فحينئذ تختلف المصلحة فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلى قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم لا يجب على أحد أن يجيب داعيا إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه ولا له دعوة الناس إلى ذلك ولو قدر أن ذلك المعنى حق
وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم على ولاة الأمور وأدخلوه في بدعتهم كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم أن العقل أداه إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة
(1/229)
وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلى المحنة وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى { خالق كل شيء } سورة الأنعام 102 وقوله { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } سورة الأنبياء 2 وقول النبي صلى الله عليه وسلم تجئ البقرة وآل عمران وأمثال ذلك من الأحاديث مع ما ذكروه من قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق الذكر أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم
ولما قالوا ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله عارضهم بالعلم فقال ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله
ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث وكان من أحذقهم بالكلام الزمه التجسيم وأنه إذا أثبت لله كلاما غير مخلوق لزم أن يكون جسما
فأجابه الإمام احمد بأن هذا اللفظ لا يدرى مقصود المتكلم به وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله وأخبره أني أقول هو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فبين أنى لا أقول هو جسم ولا ليس بجسم لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب على الناس إجابة من دعا إلى موجبها فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه وإجابة من
(1/230)
دعاهم إلى ما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم لا إجابة من دعاهم إلى قول مبتدع ومقصود المتكلم بها مجمل لا يعرف إلا بعد الإستفصال والإستفسار فلا هي معروفة في الشرع ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها
فهذه الماظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعيا وأما إذا كان المناظر معارضا للشرع بما يذكره أو ممن لا يمكن أن يرد إلى الشريعة مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات أو ممن يدعي أن الشرع خاطب الجمهور وأن المعقول الصريح يدل على باطن يخالف الشرع ونحو ذلك أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء فهؤلاء لا بد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدعونها إما بألفاظهم وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم
وحينئذ فيقال لهم الكلام إما أن يكون في الألفاظ وإما أن يكون في المعاني وإما أن يكون فيهما فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقا ومعشوقا ونحو ذلك فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسنا وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفا من التشبه بهم في الثياب
(1/231)
وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة فإنه يقال له إطلاق هذه الألفاظ نفيا وإثباتا بدعة وفي كل منهما تلبيس وإيهام فلا بد من الإستفسار والإستفصال أو الإمتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات
وقد ظن طائفة من الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام وأهل الكلام كقول أبي يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق وقول الشافعي حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وقوله لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت أظنه ولأن يبتلي العبد بكل ذنب ما خلا الإشراك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام وقول الإمام أحمد ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح وقل أحد نظر فى الكلام إلا كان في قلبه غل على أهل الإسلام وأمثال هذا الأقوال المعروفة عن الأئمة ظن بعض الناس أنهم إنما ذموا الكلام لمجرد ما فيه من الإصطلاحات المحدثة كلفظ الجوهر والجسم والعرض وقالوا إن مثل هذا لا يقتضي الذم كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها أو سلاحا يحتاجون إليه لمقاتلة العدو وقد ذكر هذا صاحب الإحياء وغيره
وليس الأمر كذلك بل ذمهم للكلام لفساد معناه اعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه فذموه لإشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة ومخالفته للعقل
(1/232)
الصريح ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعا ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله ومنهم من لا يعلم ذلك
وأيضا فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئا وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم إلى ما لم يبينه الله ورسوله لم يكن الله قد أكمل للأمة دينهم ولا أتم عليهم نعمته فنحن نعلم أن كل حق يحتاج الناس إليه في أصول دينهم لا بد أن يكون مما بينه الرسول إذ كانت فروع الدين لا تقوم إلا بأصوله فكيف يجوز أن يترك الرسول أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها لا يبينها للناس
ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا أو اعتقادا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به مع العلم بأن الرسول لم يذكره
وهذا مما احتج به علماء السنة على من دعاهم إلى قول الجهمية القائلين بخلق القرآن وقالوا إن هذا لو كان من الدين الذي يجب الدعاء إليه لعرفه الرسول
(1/233)
ودعا أمته إليه كما ذكره أبو عبدالرحمن الأذرمي الأزدعي في مناظرته للقاضي أحمد بن أبي دؤاد قدام الواثق
وهذا مما رد به علماء السنة على من زعم أن طريقة الإستدلال على إثبات الصانع سبحانه بإثبات الأعراض وحدوثها من الواجبات التي لا يحصل الإيمان إلا بها وأمثال ذلك
وبالجملة فالخطاب له مقامات فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة ويدعوه إليها أمكنه الإعتصام بالكتاب والسنة وأن يقول لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله بل هذا هو الواجب مطلقا
وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله فقد دعا إلى بدعة وضلالة والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وقد قال تعالى { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } سورة الأنعام 153 وقال تعالى { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } سورة الأعراف 3 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام
(1/234)
الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في سياق حجة الوداع إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله تعالى وفي الصحيح أنه قيل لعبدالله بن أبي أوفى هل وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء قال لا قيل فلم وقد كتب الوصية على الناس قال وصى بكتاب الله
وقد قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } سورة البقرة 213 وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } سورة النساء 59 ومثل هذا كثير
وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له وفي مقام النظير أيضا فعليه أن يعتصم أيضا بالكتاب والسنة ويدعو إلى ذلك وله أن يتكلم مع
(1/235)
ذلك ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة فإن الله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال في كتابه وبين بالبراهين العقلية توحيده وصدق رسله وأمر المعاد وغير ذلك من أصول الدين وأجاب عن معارضة المشركين كما قال تعالى { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } سورة الفرقان 33
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطباته ولما قال ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر قال له أبو رزين العقيلي كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن كثير فقال سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخليا به فالله أعظم
ولما سأله أيضا عن إحياء الموتى ضرب له المثل بإحياء النبات
(1/236)
وكذلك السلف فروى عن ابن عباس أنه لما أخبر بالرؤية عارضه السائل يقوله تعالى { لا تدركه الأبصار } سورة الأنعام 103 فقال له ألست ترى السماء فقال بلى قال أتراها كلها قال لا فبين له أن نفى الإدراك لا يقتضى نفى الرؤية
وكذلك الأمة كالإمام أحمد في رده على جهمية لما بين دلالة القرآن على علوه تعالى واستوائه على عرشه وأنه مع ذلك عالم بكل شيء كما دل على ذلك قوله تعالى { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } سورة الحديد 4 فبين أن المراد بذكر المعية أنه عالم بهم كما افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم وبين سبحانه أنه مع علوه على العرش يعلم ما الخلق عاملون كما في حديث العباس بن عبدالمطلب الذي رواه أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه فبين الإمام أحمد إمكان ذلك بالإعتبار العقلي وضرب مثلين ولله المثل الأعلى فقال لو أن رجلا في يده قوارير فيمها ماء صاف لكان بصره
(1/237)
قد أحاط بما فيها مع مباينته فالله وله المثل الأعلى قد أحاط بصره بخلقه وهو مستو على عرشه وكذلك لو أن رجلا بنى دارا لكان مع خروجه عنها يعلم ما فيها فالله الذي خلق العالم يعلمه مع علوه عليه كما قال تعالى { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } سورة الملك 14
وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل وادعى أن العقل يعارض النصوص فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظا مجملة مثل أن يقول لو كان فوق العرش لكان جسما أو لكان مركبا وهو منزه عن ذلك ولو كان له علم وقدرة لكان جسما وكان مركبا وهو منزه عن ذلك ولو خلق واستوى وأتى لكان تحله الحوادث وهو منزه عن ذلك ولو قامت به الصفات لحلته الأعراض وهو منزه عن ذلك
فهنا يستفصل السائل ويقول له ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة
فإن أراد بها حقا وباطلا قبل الحق ورد الباطل مثل أن يقول أنا أريد بنفي الجسم نفي قيامه بنفسه وقيام الصفات به ونفي كونه مركبا فنقول هو قائم بنفسه وله صفات قائمة به وأنت إذا سميت هذا تجسيما لم يجز أن أدع الحق الذي دل عليه صحيح المنقول وصريح المعقول لأجل تسميتك أنت له بهذا
(1/238)
وأما قولك ليس مركبا فإن أردت به أنه سبحانه ركبه مركب أو كان متفرقا فتركب وأنه يمكن تفرقه وانفصاله فالله تعالى منزه عن ذلك وإن أردت أنه موصوف بالصفات مباين للمخلوقات فهذا المعنى حق ولا يجوز رده لأجل تسميتك له مركبا فهذا ونحوه مما يجاب به
وإذا قدر أن المعارض أصر على تسمية المعاني الصحيحة التي ينفيها بألفاظه الإصطلاحية المحدثة مثل أن يدعى أن ثبوت الصفات ومباينة المخلوقات يستحق أن يسمى في اللغة تجسيما وتركيبا ونحو ذلك قيل له هب أنه سمى بهذا الإسم فنفيك له إما أن يكون بالشرع وإما أن يكون بالعقل
أما الشرع فليس فيه ذكر هذه الأسماء في حق الله لا بنفي ولا إثبات ولم ينطق أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى بذلك لا نفيا ولا إثباتا بل قول القائل إن الله جسم أو ليس بجسم أو جوهر أو ليس بجوهر أو متحيز أو ليس بمتحيز أو في جهة أو ليس في جهة أو تقوم به الأعراض والحوادث أو لا تقوم به ونحو ذلك كل هذه الأقوال محدثة بين أهل الكلام المحدث لم يتكلم السلف والأئمة فيها لا بإطلاق النفي ولا بإطلاق الإثبات بل كانوا ينكرون على أهل الكلام الذين يتكلمون بمثل هذا النوع في حق الله تعالى نفيا وإثباتا
وإن أردت أن نفي ذلك معلوم بالعقل وهو الذي تدعيه النفاة ويدعون أن نفيهم المعلوم بالعقل عارض نصوص الكتاب والسنة
(1/239)
قيل له فالأمور العقلية المحضة لا عبرة فيها بالألفاظ فالمعنى إذا كان معلوما إثباته بالعقل لم يجز نفيه لتعبير المعبر عنه بأي عبارة عبر بها وكذلك إذا كان معلوما انتفاؤه بالعقل لم يجز إثباته بأي عبارة عمر بها المعبر وبين له بالعقل ثبوت المعنى الذي نفاه وسماه بألفاظه الإصطلاحية
وقد يقع في محاورته إطلاق هذه الألفاظ لأجل اصطلاح ذلك النافي ولغته وإن كان المطلق لها لا يستجيز إطلاقها في غير هذا المقام كما إذا قال الرافضي أنتم ناصبة تنصبون العداوة لآل محمد فقيل له نحن نتولى الصحابة والقرابة فقال لا ولاء إلا ببراء فمن لم يتبرأ من الصحابة لم يتول القرابة فيكون قد نصب لهم العداوة
فيقال له هب أن هذا يسمى نصبا فلم قلت إن هذا محرم فلا دلالة لك على ذم النصب بهذا التفسير كما لا دلالة على ذم الرفض بمعنى موالاة أهل البيت إذا كان الرجل مواليا لأهل البيت كما يحب الله ورسوله ومنه قول القائل % إن كان رفضا حب آل محمد % فليشهد الثقلان أني رافضي %
وقول القائل أيضا % إذا كان نصبا ولاء الصحاب % فإني كما زعموا ناصبي % % وإن كان رفضا ولاء الجميع % فلا برح الرفض من جانبي %
والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان
(1/240)
نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع فهذا يجب اعتبار معناه وتعليق الحكم به فإن كان المذكور به مدحا استحق صاحبه المدح وإن كان ذما استحق الذم وإن أثبت شيئا وجب إثباته وإن نفى شيئا وجب نفيه لأن كلام الله حق وكلام رسوله حق وكلام أهل الإجماع حق وهذا كقوله تعالى { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } سورة الإخلاص 1 4 وقوله تعالى { هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن } سورة الحشر 22 23 ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته
وكذلك قوله تعالى { ليس كمثله شيء } سورة الشورى 11 وقوله تعالى { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } سورة الأنعام 103 وقوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } سورة القيامة 22 23 وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهذا كله حق
ومن دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذموما كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك ومن دخل في اسم محمود في الشرع كان محمودا كاسم المؤمن والتقي والصديق ونحو ذلك
وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها إلا أن يبين أنه يوافق الشرع والألفاظ التي تعارض
(1/241)
بها النصوص هي من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهة والجوهر والعرض فمن كانت معارضته بمثل هذه الألفاظ لم يجز له أن يكفر مخالفه إن لم يكن قوله مما يبين الشرع أنه كفر لأن الكفر حكم شرعي متلقي عن صاحب الشريعة والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرا في الشرع كما أنه ليس كل ما كان صوابا في العقل تجب في الشرع معرفته
ومن العجب قول من يقول من أهل الكلام إن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم الكلام الذي يعرف بمجرد العقل وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات عندهم وهذه طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب الإشاد وأمثالهم
فيقال لهم هذا الكلام تضمن شيئين أحدهما أن أصول الدين هي التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع والثاني أن المخالف لها كافر وكل من المقدمتين وإن كانت باطلة فالجمع بينهما متناقض وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم إلا بالعقل يكفر وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به أو الإمتناع عن متابعته مع العلم بصدقه مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم
وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول وهذا ظاهر على قول من لا يوجب شيئا ولا يحرمه إلا بالشرع فإنه لو قدر عدم الرسالة لم يكن كفر محرم ولا إيمان واجب عندهم ومن أثبت ذلك بالعقل فإن لا ينازع أنه بعد مجيء
(1/242)
الرسول تعلق الكفر والإيمان بما جاء به لا بمجرد ما يعلم بالعقل فكيف يجوز أن يكون الكفر معلقا بأمور لا تعلم إلا بالعقل إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور التي لا تعلم إلا بالعقل كفر فيكون حكم الشرع مقبولا لكن معلوم أن هذا لا يوجد في الشرع بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان وكلاهما متعلق بالكتاب والرسالة فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته ولا كفر مع تصديقه وطاعته
ومن تدبر هذا رأى أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا فيبتدعون بدعا بآرائهم ليس فيها كتاب ولا سنة ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه وهذا حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميها هو تركيبا وتجسيما وإثباتا لحلول الصفات والأعراض به ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعتها الجهمية والمعتزلة ثم كفروا من خالفهم فيها
والخوارج الذين تأولوا آيات من القرآن وكفروا من خالفهم فيها أحسن حالا من هؤلاء فإن أولئك علقو الكفر بالكتاب والسنة لكن غلطوا في فهم النصوص وهؤلاء علقوا الكفر بكلام ما أنزل الله به من سلطان
ولهذا كان ذم السلف للجهمية من أعظم الذم حتى قال عبدالله بن المبارك إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية
(1/243)
بل الحق أنه لو قدر أن بعض الناس غلط في معان دقيقة لا تعلم إلا بنظر العقل وليس فيها بيان في النصوص والإجماع لم يجز لأحد أن يكفر مثل هذا ولا يفسقه بخلاف من نفى ما أثبتته النصوص الظاهرة المتواترة فهذا أحق بالتكفير إن كان المخطئ في هذا الباب كافرا
وليس المقصود هنا بيان مسائل التكفير فإن هذا مبسوط في موضع آخر ولكن المقصود أن عمدة المعارضين للنصوص النبوية أقوال فيها اشتباه وإجمال فإذا وقع الإستفسار والإستفصال تبين الهدى من الضلال فإن الأدلة السمعية معلقة بالألفاظ الدالة على المعاني وأما دلالة مجرد العقل فلا اعتبار فيها بالألفاظ
وكل قول لم يرد لفظه ولا معناه في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة فإنه لا يدخل في الأدلة السمعية ولا تعلق للسنة والبدعة بموافقته ومخالفته فضلا عن أن يعلق بذلك كفر وإيمان وإنما السنة موافقة لأدلة الشرعية والبدعة مخالفتها
وقد يقال عما لم يعلم أنه موافق لها أو مخالف إنه بدعة إذ الأصل أنه ما لم يعلم أنه من الشرع فلا يتخذ شريعة ودينا فمن عمل عملا لم يعلم أنه مشروع فقد تذرع إلى البدعة وإن كان ذلك العمل تبين له فيما بعد أنه مشروع وكذلك من قال في الدين قولا بلا دليل شرعي فإنه تذرع إلى البدعة وإن تبين له فيما بعد موافقته للسنة
والمقصود هنا أن الأقوال التي ليس لها أصل في الكتاب والسنة والإجماع كأقوال النفاة التي تقولها الجهمية والمعتزلة وغيرهم وقد يدخل فيها ما هو حق
(1/244)
وباطل هم يصفون بها أهل الإثبات للصفات الثابتة بالنص فإنهم يقولون كل من قال إن القرآن غير مخلوق أو إن الله يرى في الآخرة أو إنه فوق العالم فهو مجسم مشبه حشوي
وهذه الثلاثة مما اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها وحكى إجماع أهل السنة عليها غير واحد من الأئمة والعالمين بأقوال السلف مثل أحمد بن حنبل وعلي بن المديني واسحاق بن إبراهيم وداود بن علي وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأمثال هؤلاء ومثل عبدالله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس
(1/245)
القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري ومثل أبي بكر الإسماعيلي وأبي نعيم الأصبهاني وأبي عمر بن عبد البر وأبي عمر
(1/246)
الطلمنكي ويحيى بن عمار السجستاني وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي القاسم التميمي ومن لا يحصى عدده إلا الله من أنواع اأهل لعلم
فإذا قال النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم لو كان الله يرى في الآخرة لكان في جهة وما كان في جهة فهو جسم وذلك على الله محال أو قالوا لو كان الله تكلم بالقرآن بحيث يكون الكلام قائما به لقامت به الصفات والأفعال وذلك يستلزم أن يكون محلا للأعراض والحوادث وما كان محلا للأعراض والحوادث فهو جسم والله منزه عن ذلك لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث العالم وحدوث العالم إنما علم بحدوث الأجسام فلو كان جسم ليس بمحدث لبطلت دلالة إثبات الصانع
فهذا الكلام ونحوه هو عمدة النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في بعض بدعتهم وهذا ونحوه في العقليات التي يزعمون أنها عارضت نصوص الكتاب والسنة
(1/247)
فيقال لهؤلاء أنتم لم تنفوا ما نفيتموه بكتاب ولا سنة ولا إجماع فإن هذه الألفاظ ليس لها وجود في النصوص بل قولكم لو رؤي لكان في جهة وما كان في جهة فهو جسم وما كان جسما فهو محدث كلام تدعون أنكم علمتم صحته بالعقل وحينئذ فتطالبون بالدلالة العقلية على هذا النفي وينظر فيها بنفس العقل
ومن عارضكم من المثبتة أهل الكلام من المرجئة وغيرهم كالكرامية والهشامية وقال لكم فليكن هذا لازما للرؤية وليكن هو جسما أو قال لكم أنا أقول إنه جسم وناظركم على ذلك بالمعقول وأثبته بالمعقول كما نفيتموه بالمعقول لم يكن لكم أن تقولوا له أنت مبتدع في إثبات الجسم فإنه يقول لكم وأنتم مبتدعون في نفيه فالبدعة في نفيه كالبدعة في إثباته إن لم تكن أعظم بل النافي أحق بالبدعة من المثبت لأن المثبت أثبت ما أثبتته النصوص وذكر هذا معاضدة للنصوص وتأييدا لها وموافقة لها وردا على من خالف موجبها
فإن قدر أنه ابتدع في ذلك كانت بدعته أخف من بدعة من نفى ذلك نفيا عارض به النصوص ودفع موجبها ومقتضاها فإن ما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة
(1/248)
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه البدعة بدعتان بدعة خالفت كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه بدعة ضلالة وبدعة لم تخالف شيئا من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر نعمت البدعة هذه هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل
ومن المعلوم أن قول نفاة الرؤية والصفات والعلو على العرش والقائلين بأن الله لم يتكلم بل خلق كلاما في غيره ونفيهم ذلك لأن إثبات ذلك تجسيم هو إلى مخالفة الكتاب والسنة والإجماع السلفي والآثار أقرب من قول من أثبت ذلك وقال مع ذلك ألفاظا يقول إنها توافق معنى الكتاب والسنة لا سيما والنفاة متفقون على أن ظواهر النصوص تجسيم عندهم وليس عندهم بالنفي نص فهم معترفون بأن قولهم هو البدعة وقول منازعيهم أقرب إلى السنة
ومما يوضح هذا أن السلف والأئمة كثر كلامهم في ذم الجهمية النفاة للصفات وذموا المشبهة أيضا وذلك في كلامهم أقل بكثير من ذم الجهمية لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه وأما ذكر التجسيم وذم المجسمة فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمة كما لا يعرف في كلامهم أيضا القول بأن الله جسم أو ليس بجسم بل ذكروا في كلامهم الذي أنكروه على الجهمية نفي الجسم كما ذكره أحمد في كتاب الرد على الجهمية ولما ناظر برغوث وألزمه برغوث بأنه جسم امتنع أحمد من موافقته على النفي والإثبات وقال هو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
(1/249)
والمقصود هنا أن نفاة الرؤية من الجهمية والمعتزلة وغيرهم إذا قالوا إثباتها يستلزم أن يكون الله جسما وذلك منتف وادعوا أن العقل دل على المقدمتين احتيج حينئذ إلى بيان بطلان المقدمتين أو إحداهما فإما أن يبطل نفس التلازم أو نفي اللازم أو المقدمتان جميعا
وهنا افترقت طرق مثبتة الرؤية فطائفة نازعت في الأولى كالأشعري وأمثاله وهو الذي حكاه الأشعري عن أهل الحديث وأصحاب السنة وقالوا لا نسلم أن كل مرئى يجب أن يكون جسما
فقالت النفاة لأن كل مرئى في جهة وما كان في جهة فهو جسم فافترقت نفاة الجسم على قولين طائفة قالت لا نسلم أن كل مرئى يكون في جهة وطائفة قالت لا نسلم أن كل ما كان في جهة فهو جسم فادعت نفاة الرؤية أن العلم الضروري حاصل بالمقدمتين وأن المنازع فيهما مكابر
وهذا هو البحث المشهور بين المعتزلة والأشعرية فلهذا صار الحذاق من متأخري الأشعرية على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة فسروها بما تفسرها به المعتزلة وقالوا النزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي
وطائفة نازعت في المقدمة الثانية وهي انتفاء اللازم وهي كالهشامية والكرامية وغيرهم فأخذت المعتزلة وموافقوهم يشنعون على هؤلاء وهؤلاء وإن كان في قولهم بدعة وخطأ ففي قول المعتزلة من البدعة والخطأ أكثر مما في قولهم
(1/250)
ومن أراد أن يناظر مناظرة شرعية بالعقل الصريح فلا يلتزم لفظا بدعيا ولا يخالف دليلا عقليا ولا شرعيا فإنه يسلك طريق أهل السنة والحديث والأئمة الذين لا يوافقون على إطلاق الإثبات ولا النفى بل يقولون ما تعنون بقولكم إن كل مرئى جسم
فإن فسروا ذلك بإن كل مرئى يجب أن يكون قد ركبه مركب أو أن يكون كان متفرقا فاجتمع أو أنه يمكن تفريقه ونحو ذلك منعوا هم المقدمة الأولى وقالوا هذه السموات مرئية مشهودة ونحن لا نعلم أنها كانت متفرقة مجتمعة وإذا جاز أن يرى ما يقبل التفريق فما لا يقبله أولى بإمكان رؤيته فالله تعالى أحق بأن تمكن رؤيته من السماوات ومن كل قائم بنفسه فإن المقتضى للرؤية لا يجوز أن يكون أمرآ عدميا بل لا يكون إلا وجوديا وكلما كان الوجود أكمل كانت الرؤية أجوز كما قد بسط في غير هذا الموضع
وإن قالوا مرادنا بالجسم المركب أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة نازعوهم في هذا وقالوا دعوى كون السماوات مركبة من جواهر منفردة أو من مادة وصورة دعوى ممنوعة أو باطلة وبينوا فساد قول من يدعى هذا وقول من يثبت الجوهر الفرد أو يثبت المادة والصورة وقالوا إن الله خلق هذا الجسم المشهود هكذا وإن ركبه ركبه من أجسام أخرى وهو سبحانه يخلق الجسم من الجسم كما يخلق الإنسان من الماء المهين وقد ركب العظام في مواضعها من بدن ابن آدم وركب الكواكب في السماء فهذا
(1/251)
معروف وأما أن يقال إنه خلق أجزاء لطيفة لا تقبل الإنقسام ثم ركب منها العالم فهذا لا يعلم بعقل ولا سمع بل هو باطل لأن كل جزء لا بد أن يتميز منه جانب عن جانب والأجزاء المتصاغرة كأجزاء الماء تستحيل عند تصغرها كما يستحيل الماء إلى الهواء مع أن المستحيل يتميز بعضه عن بعض
وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع وبين أن الأدلة العقلية بينت جواز الرؤية وإمكانها وليست العمدة على دليل الأشعري ومن وافقه في الإستدلال لأن المصحح للرؤية مطلق الوجود بل ذكرت أدلة عقلية دائرة بين النفي والإثبات لا حيلة لنفاة الرؤية فيها
والمقصود هنا بيان كلام كلي في جنس ما تعارض به نصوص الإثبات من كلام النفاة الذي يسمونه عقليات
وإن قالوا مرادنا أن المرئي لا بد أن يكون معاينا تجاه الرائي وما كان كذلك فهو جسم ونحو هذا الكلام قالوا لهم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر وقال هل تضامون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضامون في رؤية القمر ليس دونه سحاب قالوا لا قال فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي وفي لفظ في الصحيح إنكم ترون ربكم عيانا فإذن قد أخبرنا أنا نراه عيانا
(1/252)
وقد أخبرنا أيضا أنه قد استوى على العرش فهذه النصوص يصدق بعضها بعضا والعقل أيضا يوافقها ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته فوق سماواته وأن وجود موجود لا مباين للعالم ولا محايث له محال في بديهة العقل فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني فهذا حق وإذا سميتم أنتم هذا قولا بالجهة وقولا بالتجسيم لم يكن هذا القول نافيا لما علم بالشرع والعقل إذ كان معنى هذا القول والحال هذه ليس منتفيا لا بشرع ولا عقل
ويقال لهم ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة والجهة ممتنعة أتعنون بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميا
فإن أردتم أمرا وجوديا وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق والله فوق سماواته بائن من مخلوقاته لم يكن والحالة هذه في جهة موجودة فقولكم إن المرئى لا بد أن يكون في جهة موجودة قول باطل فإن سطح العالم المرئى وليس هو في عالم آخر
وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي كما تقولون إن الجسم في حيز والحيز تقدير مكان وتجعلون ما وراء العالم حيزا
فيقال لكم الجهة والحيز إذا كان أمرا عدميا فهو لا شيء وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي فليس هو في شيء ولا فرق بين قول القائل هذا ليس في شيء وبين قوله هو في العدم أو أمر عدمي فإذا كان
(1/253)
الخالق تعالى مباينا للمخلوقات عاليا عليها وما ثم موجود إلا الخالق أو المخلوق لم يكن معه غيره من الموجودات فضلا عن أن يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره أو يحيط به
فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا نسبوه إلى البدعة أيضا وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة وردا باطلا بباطل
ونظير هذا القصص المعروفة التي ذكرها الخلال في كتاب السنة هو وغيره في مسألة اللفظ ومسألة الجبر ونحوهما من المسائل فإنه لما ظهرت القدرية النفاة للقدر وأنكروا أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأن يكون خالقا لكل شيء وأن تكون أفعال العباد من مخلوقاته أنكر الناس هذه البدعة فصار بعضهم يقول في مناظرته هذا يلزم منه أن يكون الله مجبرا للعباد على أفعالهم وأن يكون قد كلفهم ما لا يطيقونه فالتزم بعض من ناظرهم من المثبتة إطلاق ذلك وقال نعم يلزم الجبر والجبر حق فأنكر الأئمة كالأوزاعي وأحمد بن حنبل ونحوهما ذلك على الطائفتين ويروى إنكار
(1/254)
إطلاق الجبر عن الزبيدي وسفيان الثوري وعبدالرحمن بن مهدي وغيرهم
وقال الأوزاعي وأحمد ونحوهما من قال إنه جبر فقد أخطأ ومن قال لم يجبر فقد أخطأ بل يقال إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ونحو ذلك
وقالوا ليس للجبر أصل في الكتاب والسنة وإنما الذي في السنة لفظ الجبل لا لفظ الجبر فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأشج عبدالقيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله
وقالوا إن لفظ الجبر لفظ مجمل فإن الجبر إذا أطلق في الكلام فهم منه إجبار الشخص على خلاف مراده كما تقول الفقهاء إن الأب يجبر ابنته على النكاح أو لا يجبرها وإن الثيب البالغ العاقل لا يجبرها أحد على النكاح بالإتفاق وفي البكر البالغ نزاع مشهور ويقولون إن ولى الأمر يجبر المدين على وفاء دينه ونحو ذلك فهذه العبارات معناها إجبار الشخص على خلاف مراده وهو كلفظ الإكراه إما أن يحمله على الفعل الذي يكرهه ويبغضه فيفعل خوفا من وعيده وإما أن يفعل به الشيء بغير فعل منه
ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى إذا جعل في قلب العبد إرادة للفعل ومحبة له حتى يفعله كما قال تعالى { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } سورة الحجرات 7 لم يكن هذا جبرا
(1/255)
بهذا التفسير ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى فإنه هو الذي جعل الراضي راضيا والمحب محبا والكاره كارها
وقد يراد بالجبر نفس جعل العبد فاعلا ونفس خلقه متصفا بهذه الصفات كما في قوله تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا } سورة المعارج 19 21 فالجبر بهذا التفسير حق ومنه قول محمد بن كعب القرظي في تفسير اسمه الجبار قال هو الذي جبر العباد على ما أراد ومنه قول علي رضي الله عنه في الأثر المشهور عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم اللهم داحي المدحوات فاطر المسموكات جبار القلوب على فطراتها شقيها وسعيدها فالأئمة منعت من إطلاق القول بإثبات لفظ الجبر أو نفيه لأنه بدعة يتناول حقا باطلا
وكذلك مسألة اللفظ فإنه لما كان السلف والأئمة متفقين على أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقد علم المسلمون أن القرآن بلغه جبريل عن الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه محمد إلى الخلق وأن الكلام إذا بلغه المبلغ عن قائله لم يخرج عن كونه كلام المبلغ عنه بل هو كلام لمن قاله مبتدئا لا كلام من بلغه عنه مؤديا
(1/256)
فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا قال إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وبلغ هذا الحديث عنه واحد بعد واحد حتى وصل إلينا كان من المعلوم أنا إذا سمعناه من المحدث به إنما سمعنا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تكلم به بلفظه ومعناه وإنما سمعناه من المبلغ عنه بفعله وصوته ونفس الصوت الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم لم نسمعه وإنما سمعنا صوت المحدث عنه والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلام المحدث
فمن قال إن هذا الكلام ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفتريا وكذلك من قال إن هذا لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أحدثه في غيره أو إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بلفظه وحروفه بل كان ساكتا أو عاجزا عن التكلم بذلك فعلم غيره ما في نفسه فنظم هذه الألفاظ ليعبر بها عما في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو هذا الكلام فمن قال هذا كان مفتريا ومن قال إن هذا الصوت المسموع صوت النبي صلى الله عليه وسلم كان مفتريا
فإذا كان هذا معقولا في كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بإثبات ما يستحقه من صفات الكمال وتنزيه الله أن تكون صفاته وأفعاله هي صفات العباد وأفعالهم أو مثل صفات العباد وأفعالهم
(1/257)
فالسلف والأئمة كانوا يعلمون أن هذا القرآن المنزل المسموع من القارئين كلام الله كما قال تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } سورة التوبة 6 ليس هو كلاما لغيره لا لفظه ولا معناه ولكن بلغه عن الله جبريل وبلغه محمد رسول الله عن جبريل ولهذا أضافه الله إلى كل من الرسولين لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدث لا لفظه ولا معناه إذ لو كان أحدهما هو الذي أحدث ذلك لم يصح إضافة الإحداث إلى الآخر فقال تعالى { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين } سورة الحاقة 40 43 فهذا محمد صلى الله عليه وسلم وقال تعالى { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } سورة المطففين 19 21 فهذا جبريل عليه السلام
وقد توعد الله تعالى من قال { إن هذا إلا قول البشر } سورة المدثر 25 فمن قال إن هذا القرآن قول البشر فقد كفر وقال بقول الوحيد الذي أوعده الله سقر ومن قال إن شيئا منه قول البشر فقد قال ببعض قوله ومن قال إنه ليس بقول رسول كريم وإنما هو قول شاعر أو مجنون أو مفتر أو قال هو قول شيطان نزل به عليه ونحو ذلك فهو أيضا كافر ملعون
(1/258)
وقد علم المسلمون الفرق بين أن يسمع كلام المتكلم منه أو من المبلغ عنه وأن موسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة وأنا نحن إ ما نسمع كلام الله من المبلغين عنه وإذا كان الفرق ثابتا بين من سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه وبين من سمعه من الصاحب المبلغ عنه فالفرق هنا أولى لأن أفعال المخلوق وصفاته أشبه بأفعال المخلوق وصفاته من أفعاله وصفاته بأفعال الله وصفاته
ولما كانت الجهمية يقولون إن الله لم يتكلم في الحقيقة بل خلق كلاما في غيره ومن أطلق منهم أن الله تكلم حقيقة فهذا مراده فالنزاع بينهم لفظي كان من المعلوم أن القائل إذا قال هذا القرآن مخلوق كان مفهوم كلامه أن الله لم يتكلم بهذا القرآن وأنه ليس هو كلامه بل خلقه في غيره
وإذا فسر مراده بأني أردت أن حركات العبد وصوته والمداد مخلوق كان هذا المعنى وإن كان صحيحا ليس هو مفهوم كلامه ولا معنى قوله فإن المسلمين إذا قالوا هذا القرآن كلام الله لم يريدوا بذلك أن أصوات القارئين وحركاتهم قائمة بذات الله كما أنهم إذا قالوا هذا الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوا بذلك أن حركات المحدث وصوته قامت بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وكذلك إذا قالوا في إنشاد لبيد إلا كل شيء ما خلا الله باطل
(1/259)
هذا شعر لبيد وكلام لبيد لم يريدوا بذلك أن صوت المنشد هو صوت لبيد بل أرادوا أن هذا القول المؤلف لفظه ومعناه هو للبيد وهذا منشد له فمن قال إن هذا القرآن مخلوق أو إن القرآن المنزل مخلوق أو نحو هذه العبارات كان بمنزلة من قال إن هذا الكلام ليس هو كلام الله وبمنزلة من قال عن الحديث المسموع من المحدث إن هذا ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بهذا الحديث وبمنزلة من قال إن هذا الشعر ليس هو شعر لبيد ولم يتكلم به لبيد ومعلوم أن هذا كله باطل
ثم إن هؤلاء صاروا يقولون هذا القرآن المنزل المسموع هو تلاوة القرآن وقراءته وتلاوة القرآن مخلوقة وقراءة القرآن مخلوقة ويقولون تلاوتنا للقرأن مخلوقة وقراءتنا له مخلوقة ويدخلون في ذلك نفس الكلام المسموع ويقولون لفظنا بالقرآن مخلوق ويدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع
فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا وقالوا اللفظية جهمية وقالوا افترقت الجهمية ثلاث فرق فرقة قالت القرآن مخلوق وفرقة قالت نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق وفرقة قالت تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق
(1/260)
فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتلاوتنا له غير مخلوقة فبدع الإمام أحمد هؤلاء وأمر بهجرهم
ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث فقال والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع
وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في صريح السنة أنه سمع غير واحد من أصحابه يذكر عن الإمام أحمد أنه قال من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع
وصنف أبو محمد بن قتيبة في ذلك كتابا وقد ذكر أبو بكر الخلال هذا في كتاب السنة وبسط القول في ذلك وذكر ما صنفه أبو بكر المروزي في ذلك وذكر قصة أبي طالب المشهورة عن أحمد التي نقلها عنه أكابر أصحابه كعبدالله وصالح ابنيه والمروزي وأبي محمد فوران ومحمد بن إسحاق الصاغاني وغير هؤلاء
(1/261)
وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك فصار طائفة منهم يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق وليس مرادهم صوت العبد كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وطوائف غير هؤلاء
وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف فيه ففهم ذلك بعض الأئمة فصار يقول أفعال العباد أصواتهم مخلوقة ردا لهؤلاء كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة
وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة وأهواء للنفوس حصل بسبب ذلك نوع من الفرقة والفتنة وحصل بين البخاري وبين محمد ابن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج ونحوه وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وغيرهما
(1/262)
وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث وهم من أصحاب أحمد بن حنبل ولهذا قال ابن قتيبة إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ
وصار قوم يطلقون القول بأن التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء وليس مرادهم بالتلاوة المصدر ولكن الإنسان إذا تكلم بالكلام فلا بد له من حركة ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك ويكون الكلام نوعا من العمل وقسما منه ويراد به تارة ما يقترن بالحركة ويكون عنها لا نفس الحركة فيكون الكلام قسيما لعمل ونوعا آخر ليس هو منه ولهذا تنازع العلماء في لفظ العمل المطلق هل يدخل فيه الكلام على قولين معروفين لأصحاب أحمد وغيرهم وبنوا على ذلك ما إذا حلف لا يعمل اليوم عملا فتكلم هل يحنث أم لا على قولين وذلك لأن لفظ الكلام قد يدخل في العمل وقد لا يدخل
فالأول كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فقال رجل لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان أخرجاه في الصحيحين فقد جعل فعل هذا الذي يتلوه آناء الليل والنهار عملا كما قال لعملت فيه مثل ما يعمل فلان
(1/263)
والثاني كما في قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } سورة فاطر 10 وقوله تعالى { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } سورة يونس 61 فالذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة وهي الكلام المتلو وآخرون قالوا بل التلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليست هي كلام الله ولا أصوات العباد هي صوت الله وهذا الذي قصده البخاري وهو مقصود صحيح
وسبب ذلك أن لفظ التلاوة والقراءة واللفظ مجمل مشترك يراد به المصدر ويراد به المفعول
فمن قال اللفظ ليس هو الملفوظ والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر كان معنى كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع وهذا صحيح
ومن قال اللفظ هو الملفوظ والقول هو نفس المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر صار حقيقة مرادة أن اللفظ والقول المراد به الكلام المقول الملفوظ هو الكلام المقول الملفوظ وهذا صحيح فمن قال اللفظ بالقرآن أو القراءة أو التلاوة مخلوقة أو لفظي بالقرآن أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو وذلك هو كلام الله تعالى وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعنى صحيحا لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره
(1/264)
ولهذا قال أحمد في بعض كلامه من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي احترازا عما إذا أراد به فعله وصوته وذكر اللالكائي أن بعض من كان يقول ذلك رأى في منامه كأن عليه فروة ورجل يضربه فقال له لا تضربني فقال إني لا أضربك إنما أضرب الفروة فقال إن الضرب إنما يقع ألمه علي فقال هكذا إذا قلت لفظي بالقرآن مخلوق وقع الخلق على القرآن
ومن قل لفظي بالقرآن غير مخلوق أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو عمله وأفعال العباد مخلوقة ولو قال أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق لا نفس حركاتي قيل له لفظك هذا بدعة وفيه إجمال وإيهام وإن كان مقصودك صحيحا كما يقال للأول إذا قال أردت أن فعلى مخلوق لفظك أيضا بدعة وفيه إجمال وإيهام وإن كان مقصودك صحيحا
فلهذا منع أئمة السنة الكبار أطلاق هذا وهذا وكان هذا وسطا بين الطرفين وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون القرأن حيث تصرف كلام الله غير مخلوق
(1/265)
فيجعلون القرآن نفسه حيث تصرف غير مخلوق من غير أن يقترن بذلك ما يشعر أن أفعال العباد وصفاتهم غير مخلوقة
وصارت كل طائفة من النفاة والمثبتة في مسألة التلاوة تحكي قولها عن أحمد وهم كما ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال إن كل واحدة من هاتين الطائفتين تذكر قولها عن أحمد وهم لا يفقهون قوله لدقة معناه
ثم صار ذلك التفرق موروثا في أتباع الطائفتين فصارت طائفة تقول إن اللفظ بالقرآن غير مخلوق موافقة لأبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وأمثالهما كأبي عبدالله بن منده وأهل بيته وأبي عبدالله بن حامد وأبي نصر السجزي وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي يعقوب الفرات الهروي وغيرهم
وقوم يقولون نقيض هذا القول من غير دخول في مذهب ابن كلاب
(1/266)
مع إتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله لم يحدث غيره شيئا منه ولا خلق منه شيئا في غيره لا حروفه ولا معانيه مثل حسين الكرابيسي وداود بن علي الأصبهاني وأمثالهما
وحدث مع هذا من يقول بقول ابن كلاب إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس المتكلم هو الأمر بكل ما أمر به والنهي عن كل ما نهى عنه والإخبار بكل ما أخبر به وإنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة
وجمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك وقالوا إن فساد هذا معلوم بصريح العقل فإن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن ولا معنى { قل هو الله أحد } هو معنى { تبت يدا أبي لهب } وكان يوافقهم على إطلاق القول بأن التلاوة غير المتلو وأنها مخلوقة من لا يوافقهم على هذا المعنى بل قصده أن التلاوة هي أفعال العباد وأصواتهم
(1/267)
وصار أقوام يطلقون القول بأن التلاوة غير المتلو وأن اللفظ بالقرآن مخلوق فمنهم من يعرف أنه موافق لابن كلاب ومنهم من يعرف مخالفته له ومنهم من لا يعرف منه لا هذا ولا هذا وصار أبو الحسن الأشعري ونحوه ممن يوافق ابن كلاب على قوله موافقا للإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في المنع من أطلاق هذا وهذا فيمنعون أن يقال اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق وهؤلاء منعوه من جهة كونه يقال في القرآن إنه يلفظ أو لا يلفظ وقالوا اللفظ الطرح والرمي ومثل هذا لا يقال في القرآن
ووافق هؤلاء على التعليل بهذا طائفة ممن لا يقول بقول ابن كلاب في الكلام كالقاضي أبي يعلي وأمثاله ووقع بين أبي نعيم الأصبهاني وأبي عبدالله ابن منده في ذلك ما هو معروف وصنف أبو نعيم في ذلك كتابه في الرد على اللفظية والحلولية ومال فيه إلى جانب النفاة القائلين بأن التلاوة مخلوقة كما مال ابن منده إلى جانب من يقول إنها غير مخلوقة وحكى كل منهما عن الأئمة ما يدل على كثير من مقصوده لا على جميعه فما قصده كل منهما من الحق وجد فيه من المنقول الثابت عن الأئمة ما يوافقه
وكذلك وقع بين أبي ذر الهروي وأبي نصر السجزي في ذلك حتى صنف أبو نصر السجزي كتابه الكبير في ذلك المعروف بالإبانة وذكر فيه من الفوائد والآثار والإنتصار للسنة وأهلها أمورا عظيمة المنفعة لكنه نصر فيه قول من يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق وأنكر على ابن قتيبة وغيره ما ذكروه من
(1/268)
التفصيل ورجح طريقة من هجر البخاري وزعم أن أحمد بن حنبل كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق وأنه رجع إلى ذلك وأنكر ما نقله الناس عن أحمد من إنكاره على الطائفتين وهي مسألة أبي طالب المشهورة
وليس الأمر كما ذكره فإن الإنكار على الطائفتين مستفيض عن أحمد عند أخص الناس به من أهل بيته وأصحابه الذين اعتنوا بجمع كلام الإمام أحمد كالمروزي والخلال وأبي بكر عبدالعزيز وأبي عبدالله بن بطة وأمثالهم وقد ذكروا من ذلك ما يعلم كل عارف له أنه من أثبت الأمور عن أحمد
وهؤلاء العراقيون أعلم بأقوال أحمد من المنتسبين إلى السنة والحديث من أهل خراسان الذين كان ابن منده وأبو نصر وأبو إسماعيل الهروي وأمثالهم يسلكون حذوهم ولهذا صنف عبدالله بن عطاء الإبراهيمي كتابا فيمن أخذ عن أحمد
(1/269)
العلم فذكر طائفة ذكر منهم أبو بكر الخلال وظن أنه أبو محمد الخلال شيخ القاضي أبي يعلى وأبي بكر الخطيب فاشتبه عليه هذا بهذا
وهذا كما أن العراقيين المنتسبين إلى أهل الإثبات من أتباع ابن كلاب كأبي العباس القلانسي وأبى الحسن الأشعري وأبي الحسن على بن مهدي الطبري أبي بكر بن الباقلاني وأمثالهم أقرب إلى السنة وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خراسان المائلين إلى طريقة ابن كلاب ولهذا كان القاضي أبو بكر ابن الطيب يكتب في أجوبته أحيانا محمد بن الطيب الحنبلي كما كان يقول الأشعري إذ كان الأشعري وأصحابه منتسبين إلى أحمد بن حنبل وأمثاله من أئمة السنة وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي وأمثالهم
(1/270)
وكان أبو ذر الهروي قد أخذ طريقة ابن الباقلاني وأدخلها إلى الحرم ويقال إنه أول من أدخلها إلى الحرم وعنه أخذ ذلك من أخذه من أهل المغرب فإنهم كانوا يسمعون عليه البخاري ويأخذون ذلك عنه كما أخذه أبو الوليد الباجي ثم رحل الباجي إلى العراق فأخذ طريقة الباقلاني عن أبي جعفر السمناني الحنفي قاضي الموصل صاحب ابن الباقلاني ونحن قد بسطنا الكلام في هذه المسائل وبينا ما حصل فيها من النزاع والإضطراب في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة لما فيها من لبس الحق بالباطل مع ما توقعه من الإشتباه والإختلاف والفتنة بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها فإن ما كان مأثورا حصلت به الألفة وما كان معروفا حصلت به المعرفة كما يروى عن مالك رحمه الله أنه قال إذا قل العلم ظهر الجفاء وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء فإذا لم يكن اللفظ منقولا ولا معناه معقولا ظهر الجفاء والأهواء ولهذا تجد قوما كثيرين يحبون قوما ويبغضون قوما لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحا عن النبي صلى
(1/271)
الله عليه وسلم وسلف الأمة ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها ولا يعرفون لازمها ومقتضاها وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة وجعلها مذاهب يدعى إليها ويوالي ويعادي عليها
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة فدين المسلمين مبنى على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي غير كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون
ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان وإن تنازعوا فيما تنازعوا فيه من الأحكام فالعصمة بينهم ثابتة وهم يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول فبعضهم يصيب الحق فيعظم الله أجره ويرفع درجته وبعضهم يخطئ بعد اجتهاده في طلب الحق فيغفر الله له خطأه تحقيقا لقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } سورة البقرة 286 سواء كان خطؤهم في حكم علمي أو حكم خبري نظري كتنازعهم في الميت هل يعذب ببكاء أهله عليه وهل يسمع الميت قرع نعالهم وهل رأى محمد ربه
(1/272)
وأبلغ من ذلك أن شريحا أنكر قراءة من قرأ { بل عجبت ويسخرون } سورة الصافات 12 وقال إن الله لا يعجب فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال إنما شريح شاعر يعجبه علمه كان عبدالله أعلم منه أو قال أفقه منه وكان يقرأ بل عجبت فأنكر على شريح إنكاره مع أن شريحا من أعظم الناس قدرا عند المسلمين ونظائر هذا متعددة
والأقوال إذا حكيت عن قائلها أو نسبت الطوائف إلى متبوعها فإنما ذاك على سبيل التعريف والبيان وأما المدح والذم والموالاة والمعاداة فعلى الأسماء المذكورة في القرآن العزيز كاسم المسلم والكافر والمؤمن والمنافق والبر والفاجر والصادق والكاذب والمصلح والمفسد وأمثال ذلك وكون القول صوابا أو خطأ يعرف بالأدلة الدالة على ذلك المعلومة بالعقل والسمع والأدلة الدالة على العلم لا تتناقض كما تقدم
والتناقض هو أن يكون أحد الدليلن يناقض مدلول الآخر إما بأن ينفى أحدهما عين ما يثبته الآخر وهذا هو التناقض الخاص الذي يذكره أهل الكلام والمنطق وهو اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق
(1/273)
أحداهما كذب الأخرى وأما التناقض المطلق فهو أن يكون موجب أحد الدليلين ينافي موجب الآخر إما بنفسه وإما بلازمه مثل أن ينفي أحدهما لازم الآخر أو يثبت ملزومه فإن انتفاء لازم الشيء يقتضي انتفاءه وثبوت ملزومه يقتضي ثبوته
ومن هذا الباب الحكم على الشيئين المتماثلين من كل وجه مؤثر في الحكم بحكمين مختلفين فإن هذا تناقض أيضا إذ حكم الشيء حكم مثله فإذا حكم على مثله بنقيض حكمه كان كما لو حكم عليه بنقيض حكمه
وهذا التناقض العام هو الإختلاف الذي نفاه الله تعالى عن كتابه بقوله عز وجل { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } سورة النساء 82 وهو الإختلاف الذي وصف الله به قول الكفار في قوله تعالى { إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك } سورة الذاريات 8 9
وضد هذا هو التشابه العام الذي وصف الله به القرآن في قوله { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } سورة الزمر 23 وهذا ليس هو التشابه الخاص الذي وصف الله تعالى به بعض القرآن في قوله { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } سورة آل عمران 7 فإن ذلك التشابه العام يراد به التناسب والتصادق والإئتلاف
وضده الإختلاف الذي هو التناقض والتعارض فالأدلة الدالة على العلم لا يجوز أن تكون متناقضة متعارضة وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء
(1/274)
ومن صار من أهل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة والحيرة فإنما ذاك لفساد استدلاله إما لتقصيره وإما لفساد دليله ومن أعظم أسباب ذلك الألفاظ المجملة التي تشتبه معانيها
وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنة بأقوالهم بنوا أمرهم على أصل فاسد وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة التي جعلوها أصول وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه كما يجعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا بها صفات الله ونفوا بها رؤيته في الآخرة وعلوه على خلقه وكون القرآن كلامه ونحو ذلك جعلوا تلك الأقولا محكمة وجعلوا قول الله ورسوله مؤولا عليها أو مردودا أو غير ملتفت إليه ولا متلقى للهدى منه فتجد أحدهم يقول ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا له كم ولا كيف ولا تحله الأعراض والحوادث ونحو ذلك وليس بمباين للعالم ولا خارج عنه
فإذا قيل إن الله أخبر أن له علما وقدرة قالوا لو كان له علم وقدرة للزم أن تحله الأعراض وأن يكون جسما وأن يكون له كيفية وكمية وذلك منتف عن الله لما تقدم
ثم قد تقول إن الرسول قصد بما ذكره من أسماء الله وصفاته أمورا لا نعرفها وقد تقول إنه قصد خطاب الجمهور بإفهامهم الأمر على غير حقيقته لأن مصلحتهم في ذلك وقد يفسر صفة بصفة كما يفسر الحب والرضا والغضب
(1/275)
بالإرادة أو السمع والبصر بالعلم والكلام والإرادة والقدرة بالعلم ويكون القول في الثانية كالقول في الأولى يلزمها من اللوازم في النفي والإثبات ما يلزم التي نفاها فيكون مع جمعه في كلامه أنواعا من السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات قد فرق بين المتماثلين بأن جعل حكم أحدما مخالفا لحكم الآخر ويكون قد عطل النصوص عن مقتضاها ونفى بعض ما يستحقه الله من صفات الكمال ويكون النافي لما أثبته هو قد تسلط عليه وأورد عليه فيما أثبته هو نظير ما أورده هو على من أثبت ما نفاه وإن كان النافي لما أثبته أكثر تناقضا منه
ثم هؤلاء يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المجملة دينا يوالون عليه ويعادون بل يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه ويقول مسائل أصول الدين المخطئ فيها يكفر وتكون تلك المسائل مما ابتدعوه
ومعلوم أن الخوارج هم مبتدعة مارقون كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة ذمهم والطعن عليهم وهم إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرا لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرا كان قوله شرا من قول الخوارج ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن قول الجهمية شر من قول الخوارج
وأصل قول الجهمية هو نفى الصفات بما يزعمونه من دعوى العقليات التي عارضوا بها النصوص إذ كان العقل الصريح الذي يستحق أن تسمى قضاياه
(1/276)
عقليات موافقا للنصوص لا مخالفا لها ولما كان قد شاع في عرف الناس أن قول الجهمية مبناه على النفي صار الشعراء ينظمون هذا المعنى كقول أبي تمام % جهمية الأوصاف إلا أنهم % قد لقبوها جوهر الأشياء %
فهؤلاء ارتكبوا أربع عظائم أحدها ردهم لنصوص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والثاني ردهم ما يوافق ذلك من معقول العقلاء والثالث جعل ما خالف ذلك من أقوالهم المجملة أو الباطلة هي أصول الدين والرابع تكفيرهم أو تفسيقهم أو تخطئتهم لمن خالف هذه الأقوال المبتدعة المخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول
وأما أهل العلم والإيمان فهم على نقيض هذه الحال يجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه وإليه يرد ما تنازع الناس فيه فما وافقه كان حقا وما خالفه كان باطلا ومن كان قصده متابعته من المؤمنين وأخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ به وسعه غفر الله له خطأه سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية أو المسائل العملية فإنه ليس كل ما كان معلوما متيقنا لبعض الناس يجب أن يكون معلوما متيقنا لغيره
وليس كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه كل الناس ويفهمونه بل كثير منهم لم يسمع كثيرا منه وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده وإن كان كلامه في نفسه محكما مقرونا بما يبين مراده لكن أهل العلم يعلمون
(1/277)
ما قاله ويميزون بين النقل الذي يصدق به والنقل الذي يكذب به ويعرفون ما يعلم به معاني كلامه صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أمر الرسول بالبلاغ المبين وهو أطوع الناس لربه فلا بد أن يكون قد بلغ البلاغ المبين ومع البلاغ المبين لا يكون بيانه ملتبسا مدلسا
والآيات التي ذكر الله فيها أنها متشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله إنما نفى عن غيره علم تأويلها لا علم تفسيرها ومعناها كما أنه لما سئل مالك رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 كيف استوى قال الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وكذلك ربيعة قبله فبين مالك أن معنى الإستواء معلوم وأن كيفيته مجهولة فالكيف المجهول هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وأما ما يعلم من الإستواء وغيره فهو من التفسير الذي بينه الله ورسوله
والله تعالى قد أمرنا أن نتدبر القرآن وأخبر أنه أنزله لنعقله ولا يكون التدبر و العقل إلا لكلام بين المتكلم مراده به فأما من تكلم بلفظ يحتمل معاني
(1/278)
كثيرة ولم يبين مراده منها فهذا لا يمكن أن يتدبر كلامه ولا يعقل ولهذا تجد عامة الذين يزعمون أن كلام الله يحتمل وجوها كثيرة وأنه لم يبين مراده من ذلك قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلا الله بل في كلامهم من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات وإن كانوا لم يتعمدوا الكذب كالمحدث الذي يغلط في حديثه خطأ بل منتهى أمرهم القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات وهذان النوعان مجمع الكذب والبهتان
فإذا قال القائل استوى يحتمل خمسة عشر وجها أو أكثر أو أقل كان غالطا فإن قول القائل استوى على كذا له معنى وقوله استوى إلى كذا له معنى وقوله استوى وكذا له معنى وقوله استوى بلا حرف يتصل به له معنى فمعانيه تنوعت بتنوع ما يتصل به من الصلات كحرف الإستعلاء والغاية وواو الجمع أو ترك تلك الصلات
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن كلام الله مبين غاية البيان موفى حق التوفية في الكشف والإيضاح وقد بسط الكلام على هذا النص وغيره وبين نحو من عشرين دليلا تدل على أن هذه الآية نص في معنى واحد لا يحتمل معنى آخر وكذلك ذكر هذا في غير هذا النص
فإن الكلام هنا أربعة أنواع أحدها أن نبين أن ما جاء به الكتاب والسنة فيه الهدى والبيان
والثاني أن نبين أن ما يقدر من الإحتمالات فهي باطلة قد دل الدليل الذي به يعرف مراد المتكلم على أنه لم يردها
الثالث أن نبين أن ما يدعى أنه معارض لها من العقل فهو باطل
والرابع أن نبين أن العقل موافق لها معاضد لا مناقض لها معارض
(1/279)
الوجه الثامن عشر
أن يقال ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات في أمر التوحيد والنبوة والمعاد قد بينا فساده في غير هذا الموضع وتناقضه وأن معتقد صحته من أجهل الناس وأضلهم في العقل كما بينا انتهاءهم في جحد القدر إلى تعارض الأمر والمشيئة وانتهاءهم في مسألة حدوث العالم والمعاد إلى إنكار الأفعال
وبينا أن ما يذكرونه على النفي ألفاظ مجملة مشتبهة تتناول حقا وباطلا كقولهم إن الرب تعالى لو كان موصوفا بالصفات من العلم والقدرة وغيرهما مباينا للمخلوقات لكان مركبا من ذات وصفات ولكان مشاركا لغيره في الوجود وغيره ومفارقا له في الوجوب وغيره فيكون مركبا مما به الإشتراك والإمتياز ولكان له حقيقة غير مطلق الوجود فيكون مركبا من وجود وماهية ولكان جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة والمركب مفتقر إلى جزئه والمفتقر إلى جزئه لا يكون واجبا بنفسه
وقد بينا فساد هذا الكلام بوجوه كثيرة يضيق عنها هذا الموضع فإن مدار هذه الحجة على ألفاظ مجملة فإن المركب يراد به ما ركبه غيره وما كان مفترقا فاجتمع كأجزاء الثوب والطعام والأدوية من السكنجبين وغيره وهذا هو المركب في لغة العرب وسائر الأمم
وقد يراد بالمركب ما يمكن تفريق بعضه عن بعض ومعلوم أن الله تعالى منزه عن جميع هذه التركيبات
(1/280)
ويراد بالمركب في عرفهم الخاص ما تميز منه شيء عن شيء كتميز العلم عن القدرة وتميز ما يرى مما لا يرى ونحو ذلك وتسمية هذا المعنى تركيبا وضع وضعوه ليس موافقا للغة العرب ولا لغة أحد من الأمم وإن كان هذا مركبا فكل ما في الوجود مركب فإنه ما من موجود إلا ولا بد أن يعلم منه شيء دون شيء والمعلوم ليس الذي هو غير معلوم
وقولهم إنه مفتقر إلى جزئه تلبيس فإن الموصوف بالصفات اللازمة له يمتنع أن تفارقه أو يفارقها وليست له حقيقة غير الذات الموصوفة حتى يقال إن تلك الحقيقة مفتقرة إلى غيرها والصفة اللازمة يسميها بعض الناس غير الموصوف وبعض الناس يقول ليست غير الموصوف ومن الناس من لا يطلق عليها لفظ المغايرة بنفي ولا إثبات حتى يفصل ويقول إن أريد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فهي غير وإن أريد بهما ما جاز مفارقة أحدهما للآخر بزمان أو مكان أو وجود فليست بغير فإن لم يقل هي غير الموصوف لم يكن هناك غير لازم للذات فضلا عن أن تكون مفتقرة إليه وإن قيل هي غيره فهي والذات متلازمان لا توجد إحداهما إلا مع الأخرى ومثل هذا التلازم بين الشيئين يقتضي كون وجود أحدهما مشروطا بالآخر وهذا ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون كل من الشيئين موجبا للآخر فالدور في العلل ممتنع والدور في الشروط جائز
(1/281)
ولفظ الإفتقار هنا إن أريد به افتقار المعلول إلى علته كان باطلا وإن أريد به افتقار المشروط إلى شرطه فهذا هو تلازم من الجانبين وليس ذلك ممتنعا والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه فأما ما كان صفة لازمة لذاته وهو داخل في مسمى اسمه فقول القائل إنه مفتقر إليها كقوله إنه مفتقر إلى نفسه فإن القائل إذا قال دعوت الله أو عبدت الله كان اسم الله متناولا للذات المتصفة بصفاتها ليس اسم الله اسما للذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها
وحقيقة ذلك أنه لا تكون نفسه إلا بنفسه ولا تكون ذاته إلا بصفاته ولا تكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها وهذا حق ولكن قول القائل إن هذا افتقار إلى غيره تلبيس فإن ذلك يشعر أنه مفتقر إلى ما هو منفصل عنه وهذا باطل لأنه قد تقدم أن لفظ الغير يراد به ما كان مفارقا له بوجود أو زمان أو مكان ويراد به ما أمكن العلم به دونه والصفة لا تسمى غيرا له بالمعنى الأول وبالمعنى الأول يمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره إذ ليست صفته غيرا له بهذا المعنى وأما بالمعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات وأن يكون مستلزما لصفات وإن سميت تلك الصفات غيرا فليس في إطلاق اللفظ ما يمنع صحة المعاني العقلية سواء جاز إطلاق اللفظ أو لم يجز
(1/282)
وهؤلاء عمدوا إلى المعاني الصحيحة العقلية وأطلقوا عليها ألفاظا مجملة تتناول الباطل الممتنع كالرافضي الذي يسمى أهل السنة ناصبة فيوهم أنهم نصبوا العداوة لأهل البيت رضي الله عنهم
وقد بينا في غير هذا الموضع أن إثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منه لكل عاقل وأنه لا خروج عن ذلك إلا بجحد وجود الموجدودات مطلقا وأما من يجعل وجود العلم هو وجود القدرة ووجود القدرة هو وجود الإرادة فقود هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى وهذا منتهى الإلحاد وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات مع نفى مماثلة المخلوقات وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وذلك أن نفاة الصفات من المتفلسفة ونحوهم يقولون إن العاقل والمعقول والعقل والعاشق والمعشوق والعشق واللذة واللذيذ والملتذة هو شيء واحد وإنه موجود واجب له عناية ويفسرون عنايته بعلمه أو عقله ثم يقولون وعلمه أو عقله هو ذاته وقد يقولون إنه حي عليم قدير مريد متكلم سميع بصير ويقولون إن ذلك كله شيء واحد فإرادته عين قدرته وقدرته عين علمه وعلمه عين ذاته
(1/283)
وذلك أن من أصلهم أنه ليس له صفة ثبوتية بل صفاته إما سلب كقولهم ليس بجسم ولا متحيز وإما إضافة كقولهم مبدأ وعلة وإما مؤلف منهما كقولهم عاقل ومعقول وعقل ويعبرون عن هذه المعاني بعبارات هائلة كقولهم إنه ليس فيه كثرة كم ولا كثرة كيف أو إنه ليس له أجزاء حد ولا أجزاء كم أو إنه لا بد من إثباته موحدا توحيدا منزها مقدسا عن المقولات العشر عن الكم والكيف والأين والوضع والإضافة ونحو ذلك
ومضمون هذه العبارات وأمثالها نفي صفاته وهم يسمون نفى الصفات توحيدا وكذلك المعتزلة ومن ضاهاهم من الجهمية يسمون ذلك توحيدا
وهم ابتدعوا هذا التعطيل الذي يسمونه توحيدا وجعلوا اسم التوحيد واقعا على غير ما هو واقع عليه في دين المسلمين فإن التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو أن يعبد الله لا يشرك به شيئا ولا يجعل له ندا كما قال تعالى { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين } سورة الكافرون 1 6
ومن تمام التوحيد أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ويصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل كما قال تعالى { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } سورة الإخلاص 1 4
(1/284)
ومن هنا ابتدع من ابتدع لمن اتبعه على نفي الصفات اسم الموحدين وهؤلاء منتهاهم أن يقولوا هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة منهم أو بشرط نفى الأمور الثبوتية كما قاله ابن سينا وأتباعه أو يقولون هو الوجود المطلق لا بشرط كما يقوله القونوي وأمثاله
ومعلوم بصريح العقل الذي لم يكذب قط أن هذه الأقوال باطلة متناقضة من وجوه أحدها أن جعل عين العلم عين القدرة ونفس القدرة هي نفس الإرادة والعنا ونفس الحياة هي نفس العلم والقدرة ونفس العلم نفس الفعل والإبداع ونحو ذلك معلوم الفساد بالضرورة فإن هذه حقائق متنوعة فإن جعلت هذه الحقيقة هي تلك كان بمنزلة من يقول إن حقيقة السواد هي حقيقة الطعم وحقيقة الطعم هي حقيقة اللون وأمثال ذلك مما يجعل الحقائق المتوعة حقيقة واحدة
الوجه الثاني أنه من المعلوم أن القائم بنفسه ليس هو القائم بغيره والجسم ليس هو العرض والموصوف ليس هو الصفة والذات ليست هي النعوت فمن قال إن العالم هو العلم والعلم هو العالم فضلاله بين وكذلك معلوم أن العلم ليس هو المعلوم فمن قال إن العلم هو المعلوم والمعلوم هو العلم فضلاله بين أيضا
ولفظ العقل إذا أريد به المصدر فليس المصدر هو العاقل الذي هو اسم الفاعل ولا المعقول الذي هو اسم مفعول وإذا أريد بالعقل جوهر
(1/285)
قائم بنفسه فهو العاقل فإذا كان يعقل نفسه أو غيره فليس عين عقله لنفسه أو غيره هو عين ذاته وكذلك إذا سمى عاشقا ومعشوقا بلغتهم أو قيل محبوب ومحب بلغة المسلمين فليس الحب والعشق هو نفس العاشق ولا المحب ولا العشق ولا الحب هو المعشوق ولا المحبوب بل التمييز بين مسمى المصدر ومسمى اسم الفاعل واسم المفعول والتفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فطر العقول ولغات الأمم فمن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى من السفسطة بما لا يخفى على من يتصور ما يقول ولهذا كان منتهى هؤلاء السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
الوجه الثالث أن يقال الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية أولا بشرط مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج وإنما يوجد في الذهن وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق وحيوان مطلق بشرط الإطلاق وجسم مطلق بشرط الإطلاق ووجود مطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان
ولما أثبت قدماؤهم الكليات المجردة عن الأعيان التي يسمونها المثل الأفلاطونية أنكر ذلك حذاقهم وقالوا هذه لا تكون إلا في الذهن ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان بل يمتنع أن تكون شرطا في وجود الأعيان فإنها إما أن تكون صفة للأعيان أو جزءا منها
(1/286)
وصفة الشيء لا تكون خالقه للموصوف وجزء الشيء لا يكون خالقا للجملة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعا لغيره من الموجودات بل امتنع أن يكون شرطا في وجود غيره فإذن تكون المحدثات والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق إن قيل إن له وجودا في الخارج فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكارا على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجا عن الذهن
وهم قد قرروا أن العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن وعلة ومعلول وقديم ومحدث
ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب فجعلوا الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضا لشيء من الماهيات والحقائق
وهذا التعبير مبنى على أصلهم الفاسد وهو أن الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة ويفارقها أخرى
(1/287)
ومن هنا فرقوا في منطقهم بين الماهية والوجود وهم لو فسروا الماهية بما يكون في الأذهان والوجود بما يكون في الأعيان لكان هذا صحيحا لا ينازع فيه عاقل وهذا هو الذي تخيلوه في الأصل لكن توهموا أن تلك الماهية التي في الذهن هي بعينها الموجود الذي في الخارج فظنوا أن في هذا الإنسان المعين جواهر عقلية قائمة بأنفسها مغايرة لهذا المعين مثل كونه حيوانا وناطقا وحساسا ومتحركا بالإرادة ونحو ذلك
والصواب أن هذه كلها أسماء لهذا المعين كل اسم يتضمن صفة ليست هي الصفة التي يتضمنها الإسم الآخر فالعين واحدة والأسماء والصفات متعددة
وأما إثباتهم أعيانا قائمة بنفسها في هذه العين المعينة فمكابرة للحس والعقل والشرع فهذا الموجود المعين في الخارج هو هو ليس هناك جوهران اثنان حتى يكون أحدهما عارضا للآخر أو معروضا بل هناك ذات وصفات وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أنه لم يمكن ابن سينا وأمثاله أن يجعلوه الوجود المنقسم إلى واجب وممكن فجعلوه الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية كما بين ذلك في شفائه وغيره من كتبه
وهذا مما قد بين هو ومما يعلم كل عاقل أنه يمتنع وجوده في الخارج ثم إذا جعل مطلقا بشرط الإطلاق لم يجز أن ينعت بنعت يوجب امتيازه فلا يقال
(1/288)
هو واجب بنفسه ولا ليس بواجب بنفسه فلا يوصف بنفى ولا إثبات لأن هذا نوع من التمييز والتقييد
وهذا حقيقة قول القرامطة الباطنية الذين يمتنعون عن وصفه بالنفى والإثبات ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع
وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية دون العدمية فهو أسوأ حالا من المقيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية فإنه يشارك غيره في مسمى الوجود ويمتاز عنه بأمور وجودية وهو يمتاز عنها بأمور عدمية فيكون كل من الموجودات أكمل منه
وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية معا كان أقرب إلى الوجود من أن يمتاز بسلب الوجود دون العدم وإن كان هذا ممتنعا فذاك ممتنع أيضا وهو أقرب إلى العدم فلزمهم أن يكون الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو الممتنع الذي لا يتصور وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن تقديرا كما يقدر كون الشيء موجودا معدوما أو لا موجودا ولا معدوما فلزمهم الجمع بين النقيضين والخلو عن النقيضين
وهذا من أعظم الممتنعات باتفاق العقلاء بل قد يقال إن جميع الممتنعات ترجع إلى الجمع بين النقيضين فلهذا كان ابن سينا وأمثاله من أهل دعوة القرامطة الباطنية من أتباع الحاكم الذي كان بمصر وهؤلاء وأمثالهم من رءوس الملاحدة الباطنية وقد ذكر ذلك عن نفسه وأنه كان هو وأهل بيته من أهل دعوة هؤلاء
(1/289)
المصريين الذين يسميهم المسلمون الملاحدة لإلحادهم في أسماء الله وآياته إلحادا أعظم من إلحاد اليهود والنصارى
وأما ملاحدة المتصوفة كابن عربي الطائي وصاحبه الصدر القونوي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم فقد يقولون هو الوجود المطلق لا بشرط الإطلاق كما قاله القونوي وجعله هو الوجود من حيث هو هو مع قطع النظر عن كونه واجبا وممكنا وواحدا وكثيرا وهذا معنى قول ابن سبعين وأمثاله القائلين بالإحاطة
ومعلوم أن المطلق لا بشرط كالإنسان المطلق لا بشرط يصدق على هذا الإنسان وهذا الإنسان وعلى الذهني والخارجي فالوجود المطلق لا بشرط يصدق على الواجب والممكن والواحد والكثير والذهني والخارجي وحينئذ فهذا الوجود المطلق ليس موجودا في الخارج مطلقا بلا ريب
ومن قال إن الكلى الطبيعي موجود في الخارج فقد يريد به حقا وباطلا فإن أراد بذلك أن ما هو كلي في الذهن موجود في الخارج معينا أي تلك الصورة الذهنية مطابقة للأعيان الموجودة في الخارج كما يطابق الإسم لمسماه والمعنى الذهني الموجود الخارجي فهذا صحيح وإن أراد بذلك أن نفس الموجود
(1/290)
في الخارج كلي حين وجوده في الخارج فهذا باطل مخالف للحس والعقل فإن الكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
وكل موجود في الخارج معين متميز بنفسه عن غيره يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه أعني هذه الشركة التي يذكرونها في هذا الموضع وهي اشتراك الأعيان في النوع واشتراك الأنواع في الجنس وهي اشتراك الكليات في الجزئيات
والقسمة المقابلة لهذه الشركة هي قسمة الكلى إلى جزئياته كقسمة الجنس إلى أنواعه والنوع إلى أعيانه
وأما الشركة التي يذكرها الفقهاء في كتاب الشركة والقسمة المقابلة لها التي يذكرها الفقهاء في باب القسمة وهي المذكورة في قوله تعالى { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } سورة القمر 28 وقوله { لكل باب منهم جزء مقسوم } سورة الحجر 44 فتلك شركة في الأعيان الموجودة في الخارج وقسمتها قسمة للكل إلى أجزائه كقسمة الكلام إلى الإسم والفعل والحرف والأول كقسمة الكلمة الإصطلاحية إلى اسم وفعل وحرف
وإذا عرف أن المقصود الشركة في الكليات لا في الكل فمعلوم أنه لا شركة في المعينات فهذا الإنسان المعين ليس فيه شيء من هذا المعين ولا في هذا شيء من هذا ومعلوم أن الكلى الذي يصلح لإشتراك الجزئيات فيه لا يكون هو جزءا من الجزئي الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
فمن قال إن الإنسان الكلي جزء من هذا الإنسان المعين أو إن الإنسان المطلق جزء من هذا المعين بمعنى أن هذا المعين فيه شيء مطلق أو شيء كلي فكلامه ظاهر الفساد
(1/291)
وبهذا تنحل شبه كثيرة توجد في كلام الرازي وأمثاله من أهل المنطق ونحوهم ممن التبس عليهم هذا المقام
وبسبب التباس هذا عليهم حاروا في وجود الله تعالى هل هو ماهيته أم هو زائد على ماهيته وهل لفظ الوجود مقول بالتواطؤ والتشكيك أو مقول بالإشتراك اللفظي
فقالوا إن قلنا إن لفظ الوجود مشترك اشتراكا لفظيا لزم ألا يكون الوجود منقسما إلى واجب وممكن وهذا خلاف ما اتفق عليه العقلاء وما يعلم بصريح العقل
وإن قلنا إنه متواطئ أو مشكك لزم أن تكون الموجودات مشتركة في مسمى الوجود فيكون الوجود مشتركا بين الواجب والممكن فيحتاج الوجود المشترك إلى ما يميز وجود هذا عن وجود هذا والإمتياز يكون بالحقائق المختصة فيكون وجود هذا زائدا على ماهيته فيكون الوجود الواجب مفتقرا إلى غيره
ويذكرون ما يذكره الرازي وأتباعه أن للناس في وجود الرب تعالى ثلاثة أقوال فقط
أحدها أن لفظ الوجود مقول بالإشتراك اللفظي فقط
والثاني أن وجود الواجب زائد على ماهيته
والثالث أنه وجود مطلق ليس له حقيقة غير الوجود المشروط بسلب كل ماهية ثبوتية عنه
فيقال لهم الأقوال الثلاثة باطلة والقول الحق ليس واحدا من الثلاثة وإنما أصل الغلط هو توهمهم أنا إذا قلنا إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لزم أن يكون في الخارج وجود هو نفسه في الواجب وهو نفسه
(1/292)
في الممكن وهذا غلط فليس في الخارج بين الموجودين شيء هو نفسه فيهما ولكن لفظ الوجود ومعناه الذي في الذهن والخط الذي يدل على اللفظ يتناول الموجودين ويعمهما وهما يشتركان فيه فشمول معنى الوجود الذي في الذهن لهما كشمول لفظ الوجود والخظ الذي يكتب به هذا اللفظ لهما فهما مشتركان في هذا وأما نفس ما يوجد في الخارج فإنما يشتبهان فيه من بعض الوجوه فأما أن تكون نفس ذات هذا وصفته فيها شيء من ذات هذا وصفته فهذا مما يعلم فساده كل من تصوره ومن توقف فيه فلعدم تصوره له
وحينئذ فالقول في اسم الوجود كالقول في اسم الذات والعين والنفس والماهية والحقيقة وكما أن الحقيقة تنقسم إلى حقيقة واجبة وحقيقة ممكنة وكذلك لفظ الماهية ولفظ الذات ونحو ذلك فكذلك لفظ الوجود فإذا قلنا إن الحقيقة أو الماهية تنقسم إلى واجبة وممكنة لم يلزم أن تكون ماهية الواجب فيها شيء من ماهية الممكن فكذلك إذا قيل الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لم يلزم أن يكون الوجود الواجب فيه شيء من وجود غيره بل ليس فيه وجود مطلق ولا ماهية مطلقة بل ماهيته هي حقيقته وهي وجوده
وإذا كان المخلوق المعين وجوده الذي في الخارج هو نفس ذاته وحقيقته وماهيته التي في الخارج ليس في الخارج شيئان فالخالق تعالى أولى أن تكون حقيقته هي وجوده الثابت الذي لا يشركه فيه أحد وهو نفس ماهيته التي هي حقيقته الثابتة في نفس الأمر
(1/293)
ولو قدر أن الوجود المشترك بين الواجب والممكن موجود فيهما في الخارج وأن الحيوانية المشتركة هي بعينها في الناطق والأعجم كان تميز أحدهما عن الآخر بوجود خاص كما يتميز الإنسان بحيوانية تخصه وكما أن السواد والبياض إذا اشتركا في مسمى اللون تميز أحدهما بلونه الخاص عن الآخر
وهؤلاء الضالون يجعلون الواحد اثنين والإثنين واحدا فيجعلون هذه الصفة هي هذه الصفة ويجعلون الصفة هي الموصوف فيجعلون الإثنين واحدا كما قالوا إن العلم هو القدرة وهو الإرادة والعلم هو العالم ويجعلون الواحد اثنين كما يجعلون الشيء المعين الذي هو هذا الإنسان هو عدة جواهر إنسان وحيوان وناطق وحساس ومتحرك بالإرادة ويجعلون كلا من هذه الجواهر غير الآخر ومعلوم أنه جوهر واحد له صفات متعددة وكما يفرقون بين المادة والصورة ويجعلونهما جوهرين عقليين قائمين بأنفسهما وإنما المعقول هو قيام الصفات بالموصوفات والأعراض بالجواهر كالصورة الصناعية مثل صورة الخاتم والدرهم والسرير والثوب فإنه عرض قائم بجوهر هو الفضة والخشب والغزل وكذلك الإتصال والإنفصال قائمان بمحل هو الجسم
وهكذا يجعلون الصورة الذهنية ثابتة في الخارج كقوله في المجردات المفارقات للمادة وليس معهم ما يثبت أنه مفارق إلى النفس الناطقة إذا فارقت البدن بالموت والمجردات هي الكليات التي تجردها النفس من الأعيان المشخصة فيرجع الأمر إلى النفس وما يقوم بها ويجعلون الموجود في الخارج هو الموجود في الذهن كما يجعلون الوجود الواجب هو الوجود المطلق
(1/294)
فهذه الأمور من أصول ضلالهم حيث جعلوا الواحد متعددا والمتعدد واحدا وجعلوا ما في الذهن في الخارج وجعلوا ما في الخارج في الذهن ولزم من ذلك أن يجعلوا الثابت منتفيا والمنتفي ثابتا فهذه الأمور من أجناس ضلالهم وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أنا ننبه على بعض ما نبين به تناقضهم وضلالهم في عقلياتهم التي نفوا بها صفات الله عز وجل وعارضوا بها نصوص الرسول الثابتة بصحيح المنقول الموافقة لصريح المعقول وكلما أمعن الفاضل الذكي في معرفة أقوال هؤلاء الملاحدة ومن وافقهم في بعض أقوالهم من أهل البدع كنفاة بعض الصفات الذين يزعمون أن المعقول عارض كلام الرسول وأنه يجب تقديمه عليه فإنه يتبين له أنه يعلم بالعقل الصريح ما يصدق ما أخبر به الرسول وما به يتبين فساد ما يعارض ذلك
ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه ولا ريب أن فيه دقة وغموضا لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض عليهم قالوا له أنت لا تفهم هذا وهذا لا يصلح لك فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده وعلى ترك الإعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل ونقلوا الناس
(1/295)
في مخاطبتهم درجات كما ينقل إخوانهم القرامطة المستجيبين لهم درجة بعد درجة حتى يوصلوهم إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي مضمونه جحد الصانع وتكذيب رسله وجحد شرائعه وفساد العقل والدين والدخول في غاية الإلحاد المشتمل على غاية الفساد في المبدأ والمعاد
وهذا القدر الذي وقع فيه ضلال المتفلسفة لم يقصده عقلاؤهم في الأصل بل كان غرضهم تحقيق الأمور والمعارف لكن وقعت لهم شبهات ضلوا بها كما ضل من ضل ابتداء من المشركين منهم ومن غيرهم من الكفار ممن ضل ببعض الشبهات ولهذا يجب على من يريد كشف ضلال هؤلاء وأمثالهم أن لا يوافقهم على لفظ مجمل حتى يتبين معناه ويعرف مقصوده ويكون الكلام في المعاني العقلية المبينة لا في معان مشتبهة بألفاظ مجملة
واعلم أن هذا نافع في الشرع والعقل
أما الشرع فإن علينا أن نؤمن بما قاله الله ورسوله فكل ما ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله فعلينا أن نصدق به وإن لم نفهم معناه لأنا قد علمنا أنه الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق وما تنازع فيه الأمة من الألفاظ المجملة كلفظ المتحيز والجهة والجسم والجوهر والعرض وأمثال ذلك فليس على أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء لا في النفي ولا في الإثبات حتى يتبين له معناه فإن كان المتكلم بذلك أراد معنى صحيحا موافقا لقول المعصوم كان ما أراده حقا وإن كان أراد به معنى مخالفا لقول المعصوم كان ما أراده باطلا
(1/296)
ثم يبقى النظر في إطلاق ذلك اللفظ ونفيه وهي مسألة فقهية فقد يكون المعنى صحيحا ويمتنع من إطلاق اللفظ لما فيه من مفسدة وقد يكون اللفظ مشروعا ولكن المعنى الذي أراده المتكلم باطل كما قال علي رضي الله عنه لمن قال من الخوارج المارقين لا حكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل
وقد يفرق بين اللفظ الذي يدعى به الرب فإنه لا يدعى إلا بالأسماء الحسنى وبين ما يخبر به عنه لإثبات حق أو نفي باطل
وإذا كنا في باب العبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق بين مخاطبته وبين الإخبار عنه فإذا خاطبناه كان علينا أن نتأدب بآداب الله تعالى حيث قال { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } سورة النور 63 فلا نقول يا محمد يا أحمد كما يدعو بعضنا بعضا بل نقول يا رسول الله يا نبي الله
والله سبحانه وتعالى خاطب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم فقال { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } سورة البقرة 35 { يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك } سورة هود 48 { يا موسى إني أنا ربك } سورة طه 11 12 { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } سورة آل عمران 55 ولما خاطبه صلى الله عليه وسلم قال { يا أيها النبي } سورة التحريم 1 { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر }
(1/297)
سورة المائدة 41 { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } سورة المائدة 67 { يا أيها المزمل } سورة المزمل 1 { يا أيها المدثر } سورة المدثر 1 فنحن أحق أن نتأدب في دعائه وخطابه
وأما إذا كنا في مقام الإخبار عنه قلنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وقلنا محمد رسول الله وخاتم النبيين فنخبر عنه باسمه كما أخبر الله سبحانه لما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } سورة الأحزاب 40 وقال { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا } سورة الفتح 29 وقال { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } سورة آل عمران 144 وقال { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } سورة محمد 2
فالفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل وبه يظهر الفرق بين ما يدعى الله به من الأسماء الحسنى وبين ما يخبر به عنه عز وجل مما هو حق ثابت لإثبات ما يستحقه سبحانه من صفات الكمال ونفى ما تنزه عنه عز وجل من العيوب والنقائص فإنه الملك القدوس السلام سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وقال تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } سورة الأعراف 180 مع قوله { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } سورة الأنعام 19 ولا يقال في الدعاء يا شيء
(1/298)
وأما نفع هذا الإستفسار في العقل فمن تكلم بلفظ يحتمل معاني لم يقبل قوله ولم يرد حتى نستفسره ونستفصله حتى يتبين المعنى المراد ويبقى الكلام في المعاني العقلية لا في المنازعات اللفظية فقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء ومن كان متكلما بالمعقول الصرف لم يتقيد بلفظ بل يجرد المعنى بأي عبارة دلت عليه
وأرباب المقالات تلقوا عن أسلافهم مقالات بألفاظ لهم منها ما كان أعجميا فعربت كما عربت ألفاظ اليونان والهند والفرس وغيرهم وقد يكون المترجم عنهم صحيح الترجمة وقد لا يكون صحيح الترجمة ومنها ما هو عربي
ونحن إنما نخاطب الأمم بلغتنا العربية فإذا نقلوا عن أسلافهم لفظ الهيولي والصورة والمادة والعقل والنفس والصفات الذاتية والعرضية والمجرد والتركيب والتأليف والجسم والجوهر والعرض والماهية والجزء ونحو ذلك بين ما تحتمل هذه الألفاظ من المعاني كما إذا قال قائلهم النوع مركب من الجنس والفصل كتركيب الإنسان من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية وإن هذه أجزاء الإنسان وأجزاء الحد
والواجب سبحانه إذا كان له صفات لزم أن يكون مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه والمفتقر إلى أجزائه لا يكون واجبا استفسروا عن لفظ التركيب والجزء والإفتقار والغير فإن جميع هذه الألفاظ فيها اشتراك والتباس وإجمال
فإذا قال القائل الإنسان مركب من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية
(1/299)
قيل له أتعنى بذلك الإنسان الموجود في الخارج وهو هذا الشخص وهذا الشخص أو تعني الإنسان المطلق من حيث هو هو
فإن أراد الأول قيل له هذا الإنسان وهذا الإنسان وغيرهما إذا قلت هو مركب من هذين الجزأين
فيقال لك الحيوان والناطق جوهران قائمان بأنفسهما
فإن قلت هما جزءان للإنسان الموجود في الخارج لزم أن يكون الإنسان الموجود في الخارج فيه جوهران أحدهما حيوان والآخر ناطق غير الإنسان المعين وهذا مكابرة للحس والعقل
وإن قال أنا أريد بذلك أن الإنسان يوصف بأنه حيوان وأنه ناطق قيل له هذا معنى صحيح لكن تسمية الصفات أجزاء ودعوى أن الموصوف مركب منها وانها متقدمة عليه ومقومة له في الوجودين الذهني والخارجي كتقدم الجزء على الكل والبسيط على المركب ونحو ذلك مما يقولونه في هذا الباب هو مما يعلم فساده بصريح العقل
وإن قال هو مركب من الحيوانية والناطقية قيل له إن أردت بالحيوانية والناطقية الحيوان والناطق كان الكلام واحدا وإن أردت العرضين القائمين بالحي الناطق وهما صفتاه كان مضمونه أن الموصوف مركب من صفاته وأنها أجزاء له ومقومة له وسابقة عليه ومعلوم أن الجوهر لا يتركب من الأعراض وأن صفات الموصوف لا تكون سابقة له في الوجود الخارجي
(1/300)
وإن قال أنا أريد بذلك أن الإنسان من حيث هو هو مركب من ذلك
قيل له إن الإنسان من حيث هو هو لا وجود له في الخارج بل هذا هو الإنسان المطلق والمطلقات لا تكون مطلقة إلا في الأذهان فقد جعلت المركب هو ما يتصوره الذهن وما يتصوره الذهن هو مركب من الأمور التي يقدرها الذهن فإذا قدرت في النفس جسما حساسا متحركا بالإرادة ناطقا كان هذا المتصور في الذهن مركبا من هذه الأمور وإن قدرت في النفس حيوانا ناطقا كان مركبا من هذا وهذا وإن قدرت حيوانا صاهلا كان مركبا من هذا وهذا
وإن قلت إن الحقائق الموجودة في الخارج مركبة من هذه الصور الذهنية كان هذا معلوم الفساد بالضرورة
وإن قلت إن هذه مطابقة لها وصادقة عليها فهذا يكون صحيحا إذا كان ما في النفس علما لا جهلا
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن من سوغ جعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة بالعين كان كلامه مس أن يجعل وجود الحقائق المتنوعة وجودا واحدا بالعين بل هذا أولى لأن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود فمن اشتبه عليه أن العلم هو القدرة وأنهما نفس الذات العالمة القادرة كان أن يشتبه عليه أن الوجود واحد أولى وأحرى
وهذه الحجة المبنية على التركيب هي أصل قول الجهمية نفاة الصفات والأفعال وهم الجهمية من المتفلسفة ونحوهم ويسمون ذلك التوحيد
وأما المعتزلة وأتباعهم فقد يحتجون بذلك لكن عمدتهم الكبرى حجتهم التي زعموا أنهم أثبتوا بها حدوث العالم وهي حجة الأعراض فإنهم استدلوا على حدوث
(1/301)
العالم بحدوث الأجسام واستدلوا على حدوث الأجسام بأنها مستلزمة للأعراض كالحركة والسكون والإجتماع والإفتراق ثم قالوا إن الأعراض أو بعض الأعراض حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فاحتاجوا في هذه الطريق إلى أثبات الأعراض أولا ثم إثبات لزومها للجسم
فادعى قوم أن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض وأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده وادعوا أن كل جسم له طعم ولون وريح وأن العرض لا يبقى زمانين كما زعم ذلك من سلكه من أهل الكلام الصفاتية نفاة الفعل الإختياري القائم بذاته كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي ونحوهما ومن يوافقهم أحيانا كالقاضي أبي يعلى وغيره ولما ادعوا أن الأعراض جميعها لا تبقى زمانين لزم أن تكون حادثة شيئا بعد شيء والجسم لا يخلو منها فيكون حادثا بناء على امتناع حوادث لا أول لها
وعلى هذه الطريق اعتمد كثير منهم في حدوث العالم ومن متأخريهم أبو الحسن الآمدي وغيره
وأما جمهور العقلاء فأنكروا ذلك وقالوا من المعلوم أن الجسم يكون متحركا تارة وساكنا أخرى
وهل السكون أمر وجودي أو عدمي على قولين
وأما الإجتماع والإفتراق فمبنى على إثبات الجوهر الفرد
(1/302)
فمن قال بإثباته قال إن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة وهي الإجتماع والإفتراق والحركة والسكون ومن لم يقل بإثباته لم يجعل الإجتماع من الأعراض الزائدة على ذات الجسم
ونفاة الجوهر الفرد كثير من طوائف أهل الكلام وأهل الفلسفة كالهشامية والنجارية والضرارية والكلابية وكثير من الكرامية
وأما من قال إن نفيه هو قول أهل الإلحاد وإن القول بعدم تماثل الأجسام ونحو ذلك هو من أقوال أهل الإلحاد فهذا من أقوال المتكلمين كصاحب الإرشاد ونحوه ممن يظن أن هذا الدليل الذي سلكوه في إثبات حدوث العالم هو أصل الدين فما يفضي إلى إبطال هذا الدليل لا يكون إلا من أقوال الملحدين
ومن لم يقل بأن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض قال إنه يستلزم بعضها كالأكوان أو الحركة والسكون وإن ذلك حادث وهذه الطريقة هي التي يسلكها أكثر المعتزلة وغيرهم ممن قد يوافقهم أحيانا في بعض الأمور كأبي الوفاء ابن عقيل وغيره
ثم هؤلاء بعد أن أثبتوا لزوم الأعراض أو بعضها للجسم وأثبتوا حدوث ما يلزم الجسم أو حدوث بعضه احتاجوا إلى أن يقولوا ما لم يسبق الحوادث فهو حادث فمنهم من اكتفى بذلك ظنا منهم أن ذلك ظاهر ومنهم من تفطن لكون ذلك مفتقرا إلى إبطال حوادث لا أول لها إذ يمكن أن يقال إن الحادث بعد أن لم يكن هو كل شخص شخص من أعيان الحوادث وأما النوع فلم يزل فتكلموا هنا في إبطال وجود ما لا نهاية له بطريق التطبيق والموازاة والمسامتة
(1/303)
وملخص ذلك أن ما لا يتناهى إذا فرض فيه حد كزمن الطوفان وفرض حد بعد ذلك كزمن الهجرة وقدر امتداد هذين إلى ما لا نهاية له فإن تساويا لزم كون الزائد مثل الناقص وإن تفاضلا لزم وقوع التفاضل فيما لا يتناهى
وهذه نكتة الدليل فإن منازعيهم جوزوا مثل هذا التفاضل إذا كان ما لا يتناهى ليس هو موجودا له أول وآخر وألزموهم بالأبد وذلك إذا أخذ ما لا يتناهى في أحد الطرفين قدر متناهيا من الطرف الآخر كما إذا قدرت الحوادث المتناهية إلى زمن الطوفان وقدرت إلى زمن الهجرة فإنها وإن كانت لا تتناهى من الطرف المتقدم فإنها متناهية من الطرف الذي يلينا
فإذا قال القائل إذا طبقنا بين هذه وهذه فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص أو أن يكون وجود الزيادة كعدمها وإن تفاضلا لزم وجود التفاضل فيما لا يتناهى
كان لهم عنه جوابان
أحدهما أنا لا نسلم إمكان التطبيق مع التفاضل وإنما يمكن التطبيق بين المتماثلين لا بين المتفاضلين
والجواب الثاني أن هذا يستلزم التفاضل بين الجانب المتناهي لا بين الجانب الذي لا يتناهى وهذا لا محذور فيه
ولبعض الناس جواب ثالث وهو أن التطبيق إنما يمكن في الموجود لا في المعدوم
وقد وافق هؤلاء على إمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل طوائف كثيرة ممن يقول بحدوث الأفلاك من المعتزلة والأشعرية والفلاسفة وأهل الحديث وغيرهم فإن هؤلاء جوزوا حوادث لا أول لها مع قولهم بأن الله أحدث السماوات
(1/304)
والأرض بعد أن لم يكونا وألزموهم بالأبد ونشأ عن هذا البحث كلامهم في الحوادث المستقبلة فطرد إماما هذا الطريق الجهم بن صفوان إمام الجهمية الجبرية وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة القدرية فنفيا ثبوت ما لا يتناهى في المستقبل فقال الجهم بفناء الجنة والنار وأبو الهذيل اقتصر على القول بفناء حركات أهل الجنة والنار
وعن ذلك قال أبو المعالي بمسألة الإسترسال وهو أن علم الرب تعالى يتناول الأجسام بأعيانها ويتناول أنواع الأعراض بأعيانها وأما آحاد الأعراض فيسترسل العلم عليها لامتناع ثبوت ما لا يتناهى علما وعينا
وأنكر الناس ذلك عليه وقالوا فيه أقوالا غليظة حتى يقال إن أبا القاسم القشيري هجره لأجل ذلك
وصار طوائف المسلمين في جواز حوادث لا تتناهى على ثلاثة أقوال قيل لا يجوز في الماضي ولا في المستقبل وقيل يجوز فيهما وقيل يجوز في المستقبل دون الماضي
ثم إن المعتزلة والجهمية نفت أن يقوم بالله تعالى صفات وأفعال بناء على هذه الحجة
قالوا لأن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم وبذلك استدلوا على حدوث الجسم
(1/305)
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه فوافقوهم على انتفاء قيم الأفعال به وخالفوهم في قيام الصفات فأثبتوا قيام الصفات به وقالوا لا نسميها أعراضا لأنها باقية والأعراض لا تبقى
وأما ابن كرام وأتباعه فلم يمتنعوا من تسمية صفات الله أعراضا كما لم يمتنعوا من تسميته جسما
وعن هذه الحجة ونحوها نشأ القول بأن القرآن مخلوق وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة وأنه ليس فوق العرش ونحو ذلك من مقالات الجهمية النفاة لأن القرآن كلام وهو صفة من الصفات والصفات عندهم لا تقوم به وأيضا فالكلام يستلزم فعل المتكلم وعندهم لا يجوز قيام فعل به ولأن الرؤية تقتضي مقابلة ومعاينة والعلو يقتضي مباينة مسامتة وذلك من صفات الأجسام
وبالجملة فقد صاروا ينفون ما ينفونه من صفات الله تعالى لأن إثبات ذلك يقتضي أن يكون الموصوف جسما وذلك ممتنع لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث الأجسام فلو كان جسما لبطل دليل إثبات الصانع
ومن هنا قال هؤلاء إن القول بما دل عليه السمع من إثبات الصفات والأفعال يقدح في أصل الدليل الذي به علمنا صدق الرسول
وقالوا إنه لا يمكن تصديق الرسول لو قدر أنه يخبر بذلك لأن صدقه لا يعلم إلا بعد أن يثبت العلم بالصانع ولا طريق إلى إثبات العلم بالصانع إلا القول بحدوث الأجسام
قالوا وإثبات الصفات له يقتضي أنه جسم قديم فلا يكون كل جسم حادثا فيبطل دليل إثبات العلم به
(1/306)
وقالت المعتزلة كأبي الحسين وغيره إن صدق الرسول معلوم بالمعجزة والمعجزة معلومة بكون الله تعالى لا يظهرها على يد كاذب وذلك معلوم بكون إظهارها على يد الكذاب قبيحا والله منزه عن فعل القبيح وتنزيهه عن فعل ال بأنه غنى عنه عالم بقبحه والغني عن الشيء العالم بقبحه لا يفعله وغناه معلوم بكونه ليس بجسم وكونه ليس بجسم معلوم بنفى الصفات فلو قامت به الصفات لكان جسما ولو كان جسما لم يكن غنيا وإذا لم يكن غنيا لم يمتنع عليه فعل القبيح فلا يؤمن أن يظهر المعجزة على يد كذاب فلا يبقى لنا طريق إلى العلم بصدق الرسول فهذا الكلام ونحوه أصل دين المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة
وكذلك أبو عبدالله بن الخطيب وأمثاله أثبتوا وجود الصانع بأربع طرق منها ثلاثة مبنية على أصلين وربما قالوا بست طرق منها خمسة مبنية على الأصلين المتقدمين في توحيد الفلاسفة وتوحيد المعتزلة
فإنه قال الإستدلال على الصانع إما أن يكون بالإمكان أو الحدوث وكلاهما إما في الذات وإما في الصفات وربما قالوا وإما فيهما
فالأول إثبات أمكان الجسم بناء على حجة التركيب التي هي أصل الفلاسفة والثاني بيان حدوثه بناء على حجة حدوث الحركات والأعراض التي هي أصل المعتزلة والثالث إمكان الصفات بناء على تماثل الأجسام والرابع إمكانهما جميعا والخامس حدوث الصفات وهذا هو الطريق المذكور في القرآن والسادس حدوث الأجسام وصفاتها وهو مبنى على ما تقدم
وهذه الطرق الست كلها مبنية على الجسم إلا الطريق الذي سماه حدوث الصفات يعني بذلك ما يحدثه الله في العالم من الحيوان والنبات والمعدن والسحاب
(1/307)
والمطر وغير ذلك وهو إنما سمى ذلك حدوث الصفات متابعة لغيره ممن يثبت الجوهر الفرد ويقول بتماثل الأجسام وإن ما يحدثه الله تعالى من الحوادث وإنما هو تحويل الجواهر التي هي أجسام من صفة إلى صفة مع بقاء أعيانها وهؤلاء ينكرون الإستحالة
وجمهور العقلاء وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم متفقون على بطلان قولهم وأن الله تعالى يحدث الأعيان ويبدعها وإن كان يحيل الجسم الأول إلى جسم آخر فلا يقولون إن جرم النطفة باق في بدن الإنسان ولا جرم النواة باق في النخلة
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع فإن هذه الجمل هي من جوامع الكلام المحدث الذي كان السلف والأئمة يذمونه وينكرون على أهله
والمقصود هنا أن هذه هي أعظم القواطع العقلية التي يعارضون بها الكتب الإلهية والنصوص النبوية وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها
فيقال لهم أنتم وكل مسلم عالم تعلمون بالإضطرار أن إيمان السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكن مبنيا على هذه الحجج المبنية على الجسم ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا أن يستدل بذلك على إثبات الصانع ولا ذكر الله تعالى في كتابه وفي آياته الدالة عليه وعلى وحدانيته شيئا من هذه الحجج المبنية على الجسم والعرض وتركيب الجسم وحدوثه وما يتبع ذلك
فمن قال إن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بهذه الطريق كان قول معلوم الفساد بالإضطرار من دين الإسلام ومن قال إن سلوك هذه الطريق واجب
(1/308)
في معرفة الصانع تعالى كان قوله من البدع الباطلة المخالفة لما علم بالإضطرار من دين الإسلام
ولهذا كان عامة أهل العلم يعترفون بهذا وبأن سلوك هذه الطريق ليس بواجب بل قد ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن سلوك هذه الطريق بدعة محرمة في دين الرسل لم يدع إليها أحد من الأنبياء ولا من أتباعهم
ثم القائلون بأن هذه الطريق ليست واجبة قد يقولون إنها في نفسها صحيحة بل ينهى عن سلوكها لما فيها من الأخطار كما يذكر ذلك طائفة منهم الأشعري والخطابي وغيرهما
وأما السلف والأئمة فينكرون صحتها في نفسها ويعيبونها لاشتمالها على كلام باطل ولهذا تكلموا في ذم مثل هذا الكلام لأنه باطل في نفسه لا يوصل إلى حق بل إلى باطل كقول من قال الكلام الباطل لا يدل إلا على باطل وقول من قال لو أوصى بكتب العلم لم يدخل فيها كتب علم الكلام وقول من قال من طلب الدين بالكلام تزندق ونحو ذلك
ونحن الآن في هذا المقام نذكر ما لا يمكن مسلما أن ينازع فيه وهو أنا نعلم بالضرورة أن هذه الطريق لم يذكرها الله تعالى في كتابه ولا أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم ولا جعل إيمان المتبعين له موقوفا عليها فلو كان الإيمان بالله لا يحصل إلا بها لكان بيان ذلك من أهم مهمات الدين بل كان ذلك أصل أصول الدين لا سيما وكان يكون فيها أصلان عظيمان إثبات الصانع وتنزيهه
(1/309)
عن صفات الأجسام كما يجعلون هو ذلك أصل دينهم فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن الإيمان يحصل بدونها بل إيمان أفضل هذه الأمة وأعلمهم بالله كان حاصلا بدونها
فمن قال بعد هذا إن العلم بصحة الشرع لا يحصل إلا بهذا الطريق ونحوها من الطرق المحدثة كان قوله معلوم الفساد بالإضطرار من دين الإسلام وعلم أن القدح في مدلول هذه الطرق ومقتضاها وأن تقديم الشرع المعارض لها لا يكون قدحا في العقليات التي هي أصل الشرع بل يكون قدحا في أمور لا يفتقر الشرع إليها ولا يتوقف عليها وهو المطلوب
فتبين أن الشرع المعارض لمثل هذه الطرق التي يقال إنها عقليات إذا قدم عليها لم يكن في ذلك محذور
ومن عجائب الأمور أن كثيرا من الجهمية نفاة الصفات والأفعال ومن اتبعهم على نفى الأفعال يستدلون على ذلك بقصة الخليل صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك بشرا المريسي وكثير من المعتزلة ومن أخذ ذلك عنهم أو عمن أخذ ذلك عنهم كأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد والرازي وغيرهم وذكروا في كتبهم أن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل عليه صلوات الله وسلامه وهو قوله { لا أحب الآفلين } سورة الأنعام 76
قالوا فاستدل بالأفول الذي هو الحركة والإنتقال على حدوث ما قام به ذلك كالكوكب والقمر والشمس
(1/310)
وظن هؤلاء أن قول إبراهيم عليه السلام { هذا ربي } سورة الأنعام 77 أراد به هذا خالق السماوات والأرض القديم الأزلي وأنه استدل على حدوثه بالحركة
وهذا خطأ من وجوه أحدها أن قول الخليل { هذا ربي } سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه أو على سبيل الإستدلال والترقي أو غير ذلك ليس المراد به هذا رب العالمين القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا كان قومه يقولون إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا قال هذا أحد من أهل المقالات المعروفة التي ذكرها الناس لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب ولا من مقالات غيرهم بل قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذونها أربابا يدعونها ويتقربون إليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين وغير ذلك وهو دين المشركين الذين صنف الرازي كتابه على طريقتهم وسماه السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم
(1/311)
وهذا دين المشركين من الصابئين كالكشدانيين والكنعانيين واليونانيين وأرسطو وأمثاله من أهل هذا الدين وكلامه معروف في السحر الطبيعي والسحر الروحاني والكتب المعروفة بذخيرة الإسكندر بن فيلبس الذي يؤرخون به وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة
وكانت اليونان مشركين يعبدون الأوثان كما كان قوم إبراهيم مشركين يعبدون الأوثان ولهذا قال الخليل { إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } سورة الزخرف 26 27 وقال { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } سورة الشعراء 75 77 وأمثال ذلك مما يبين تبرؤه مما يعبدونه غير الله
وهؤلاء القوم عامتهم من نفاة صفات الله وأفعاله القائمة به كما هو مذهب الفلاسفة المشائين فإنهم يقولون إنه ليس له صفة ثبوتية بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وهو مذهب القرامطة الباطنية القائلين بدعوة الكواكب والشمس والقمر والسجود لها كما كان على ذلك من كان عليه من بنى عبيد ملوك القاهرة وأمثالهم
فالشرك الذي نهى عنه الخليل وعادى أهله عليه كان أصحابه هم أئمة هؤلاء النفاة للصفات والأفعال وأول من أظهر هذا النفى في الإسلام الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد
(1/312)
قال الإمام أحمد وكان يقال إنه من أهل حران وعنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات وكان بحران أئمة هؤلاء الصابئة الفلاسفة بقايا أهل هذا الدين أهل الشرك ونفى الصفات والأفعال ولهم مصنفات في دعوة الكواكب كما صنفه ثابت بن قرة وأمثاله من الصابئة الفلاسفة أهل حران وكما صنفه أبو معشر البلخي وأمثاله وكان لهم بها هيكل العلة الأولى وهيكل العقل الفعال وهيكل النفس الكلية وهيكل زحل وهيكل المشتري وهيكل المريخ وهيكل الشمس وهيكل الزهرة وهيكل عطارد وهيكل القمر وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
الوجه الثاني أنه لو كان المراد بقوله { هذا ربي } أنه رب العالمين لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم لأن الكوكب والقمر والشمس ما زال متحركا من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه وهو جسم متحرك متحيز صغير فلو كان مراده هذا للزم أن يقال إن إبراهيم لم يجعل الحركة والإنتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين بل ولا كونه صغيرا بقدر الكوكب والشمس والقمر وهذا مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه فإن جوزوه عليه كان حجة عليهم لا لهم
الوجه الثالث أن الأفول هو المغيب والإحتجاب ليس هو مجرد الحركة والإنتقال ولا يقول أحد لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير إن الشمس والقمر في حال مسيرهما في السماء إنهما آفلان ولا يقول للكواكب
(1/313)
المرئية في السماء في حال ظهورها وجريانها إنها آفلة ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وسار وطار إنه آفل
الوجه الرابع أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف أهل التفسير ولا من أهل اللغة بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع
وبسبب هذا الإبتداع أخذا ابن سينا وأمثاله لفظ الأفول بمعنى الإمكان كما قال في إشاراته
قال قوم إن هذا الشي المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكن إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى { لا أحب الآفلين } سورة الأنعام 76 فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما فهذا قوله
(1/314)
ومن المعلوم بالضرورة من لغة العرب أنهم لا يسمعون كل مخلوق موجود آفلا ولا كل موجود بغيره آفلا ولا كل موجود يجب وجوده بغيره لا بنفسه آفلا ولا ما كان من هذه المعاني التي يعنيها هؤلاء بلفظ الإمكان بل هذا أعظم افتراء على القرآن واللغة من تسمية كل متحرك آفلا ولو كان الخليل أراد بقوله { لا أحب الآفلين } سورة الأنعام 76 هذا المعنى لم ينتظر مغيب الكوكب والشمس والقمر ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الإستدلال بالآية أظهر من فساد قول أولئك
وأعجب من هذا قول من قال في تفسيره إن هذا قول المحققين
واستعارته لفظ الهوى والحظيرة لا يوجب تبديل اللغة المعروفة في معنى الأفول فإن وضع هو لنفسه وضعا آخر فليس له أن يتلو عليه كتاب الله تعالى فيبدله أو يحرفه
وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته كمشكاة الأنوار وغيرها أن الكواكب والشمس والقمر هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك
وشبهتهم في ذلك أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أجل من أن يقول لمثل هذه الكواكب إنه رب العالمين بخلاف ما ادعوه من النفس ومن العقل الفعال الذي يزعمون أنه رب كل ما تحت فلك القمر والعقل الأول الذي يزعمون أنه مبدع العالم كله
(1/315)
وقول هؤلاء وإن كان معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام فابتداع أولئك طرق مثل هؤلاء على هذا الإلحاد
ومن المعلوم بالإضطرار من لغة العرب أن هذه المعاني ليست هي المفهوم من لفظ الكوكب والقمر والشمس
وأيضا فلو قدر أن ذلك يسمى كوكبا وقمرا وشمسا بنوع من التجوز فهذا غايته أن يسوغ للإنسان أن يستعمل اللفظ في ذلك لكنه لا يمكنه أن يدعى أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون هذا بهذا والقرآن نزل بلغة الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم فليس لأحد أن يستعمل ألفاظه في معان بنوع من التشبيه والإستعارة ثم يحمل كلام من تقدمه على هذا الوضع الذي أحدثه هو
وأيضا فإنه قال تعالى { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } الأنعام 76 فذكره منكرا لأن الكواكب كثيرة ثم قال { فلما رأى القمر } الأنعام 77 { فلما رأى الشمس } سورة الأنعام 78 بصيغة التعريف لكي يبين أن المراد القمر المعروف والشمس المعروفة وهذا صريح بأن الكواكب متعددة وأن المراد واحد منها وأن الشمس والقمر هما هذاه المعروفان
وأيضا فإنه قال { لا أحب الآفلين } والأفول هو المغيب والإحتجاب فإن أريد بذلك المغيب عن الأبصارا الظاهرة فما يدعونه من العقل والنفس لا يزال محتجبا عن الأبصار لا يرى بحال بل وكذلك واجب الوجود عندهم لا يرى بالأبصار بحال بل تمتنع رؤيته بالأبصار عندهم
(1/316)
وإن أراد المغيب عن بصائر القلوب فهذا أمر نسبي إضافي فيمكن أن تكون تارة حاضرة في القلب وتارة غائبة عنه كما يمكن مثل ذلك في واجب الوجود فالأفول أمر يعود إلى حال العارف بها لا يكسبها صفة نقص ولا كمال ولا فرق في ذلك بينها وبين غيرها
وأيضا فالعقول عندهم عشرة والنفوس تسعة بعدد الأفلاك
فلو ذكر القمر والشمس فقط لكانت شبهتهم أقوى حيث يقولون نور القمر مستفاد من نور الشمس كما أن النفس متولدة عن العقل مع ما في ذلك لو ذكروه من الفساد أما مع ذكر كوكب من الكواكب فقولهم هذا من أظهر الأقوال للقرامطة الباطنية فسادا لما في ذلك من عدم الشبه والمناسبة التي تسوغ في اللغة إرادة مثل هذا
والكلام على فساد هذا طويل ليس هذا موضعه ولولا أن هذا وأمثاله هو من أسباب ضلال كثير من الداخلين في العلم والعبادة إذ صاحب كتاب مشكاة الأنوار إنما بنى كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز وجل لموسى بن عمران النبي صلى الله عليه وسلم كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة وجعل خلع النعلين الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه إشارة إلى ترك الدنيا
(1/317)
والآخرة وإن كان قد يقرر خلع النعلين حقيقة لكن جعل هذا إشارة إلى أن من خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي
وهو من جنس قول من يقول إن النبوة مكتسبة ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة فكان السهروردي المقتول يقول لا أموت حتى يقال له قم فأنذر وكان ابن سبعين يقول لقد زرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدي ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك أخذ ذلك ابن قسى ونحوه ووضع كتابه في خلع النعلين واقتباس النور من موضع القدمين من مثل هذا الكلام
ومن هنا دخل أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والإتحاد حتى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق سبحانه وتعالى كما فعل صاحب الفصوص ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من الملاحدة المنتسبين إلى التصوف والتحقيق
وهم من جنس الملاحدة المنتسبين إلى التشيع لكن تظاهر هؤلاء من أقوال شيوخ الصوفية وأهل المعرفة بما التبس به حالهم على كثير من أهل العلم المنتسبين إلى العلم والدين بخلاف أولئك الذين تظاهروا بمذهب التشيع فإن نفور الجمهور
(1/318)
عن مذهب الرافضة مما نفر الجمهور عن مثل هؤلاء بخلاف جنس أهل الفقر والزهد ومن يدخل في ذلك من متكلم ومتصوف وفقير وناسك وغير هؤلاء فإنهم لمشاركتهم الجمهور في الإنتساب إلى السنة والجماعة يخفى من إلحاد الملحد الداخل فيهم مالايخفى من إلحاد ملاحدة الشيعة وإن كان إلحادالملحد منهم أحيانا قد يكون أعظم كما حدثني نقيب الأشراف أنه قال للعفيف التلمساني أنت نصيري فقال نصير جزء مني والكلام على بسط هذا له موضع آخر غير هذا
فإن قيل فهب أن تقديم الشرع عليها لا يكون قدحا في أصله لكنه يكون تقديما له على أدلة عقلية فلا بد من بيان الموجب لتقديم الشرع
قيل الجواب من وجوه أحدها أن المقصود هنا بيان أن تقديم الشرع على ما عارضه من مثل هذه العقليات المحدثة في الإسلام ليس تقديما له على أصله الذي يتوقف العلم بصحة الشرع عليه وقد حصل فإن أنما ذكرنا في هذا المقام بيان بطلان من يزعم أنه يقدم العقل على الشرع المعارض له وذكرنا أن الواجب تقديم ما قام الدليل على صحته مطلقا
الجواب الثاني أن نقول الشرع قول المعصوم الذي قام الدليل على صحته وهذه الطرق لم يقم دليل على صحتها فلا يعارض ما علمت صحته بما لم تعلم صحته
الجواب الثالث أن نقول بل هذه الطرق المعارضة للشرع كلها باطلة في العقل وصحة الشرع مبنية على إبطالها لا على صحتها فهي باطلة بالعقل وبالشرع
(1/319)
والقائل بها مخالف للعقل والشرع من جنس أهل النار الذين قالوا { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } سورة الملك 10 وهكذا شأن جميع البدع المخالفة لنصوص الأنبياء فإنها مخالفة للسمع والعقل فكيف ببدع الجهيمة المعطلة التي هي في الأصل من كلام المكذبين للرسل
والكلام على إبطال هذه الوجوه على التفصيل وأن الشرع لا يتم إلا بإبطالها مبسوط في غير هذا الموضع لكن نحن نشير إلى ذلك في تمام هذا الكلام فنقول الوجه التاسع عشر
أن هذه المعارضات مبنية على التركيب وقد تقدمت الإشارة إلى بطلانه وأما الإستدلال بحدوث الحركات والأعراض فنقول قد أورد عليهم الفلاسفة سؤالهم المشهور وجوابهم عنه على أصلهم مما يقول جمهور العقلاء إنه معلوم الفساد بالضرورة
وذلك أنهم قالوا لهم إذا كانت الأفعال جميعها حادثة بعد أن لم تكن فالمحدث لذلك إما أن يكون صدر عنه بسبب حادث يقتضي الحدوث وإما أن لا يكون فإن لم يكن صدر عنه سبب حادث يقتضي الحدوث لزم ترجيح الممكن بلا مرجح وهو ممتنع في البديهة وإن حدث عنه سبب فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في حدوث غيره ويلزم التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء بخلاف التسلسل المتنازع فيه
(1/320)
مع أن كلا النوعين باطل عند هؤلاء المتكلمين فهم مضطرون في هذا الدليل إلى الترجيح بلا مرجح تام أو إلى القول بالتسلسل والدور وكلاهما ممتنع عندهم
ومما ينبغي ان يعرف أن التسلسل الممتنع في هذا المكان ليس هو التسلسل المتنازع في جوازه بل هو مما اتفق العقلاء على امتناعه فإنه إذا قيل إنه إذا قدر أنه لم يكن يحدث شيئا قط ثم حدث حادث فإما أن يحدث بسبب حادث أو بلا سبب حادث فإن حدث بسبب حادث فالقول فيه كالقول في الأول وإن حدث بغير سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح فالناس كلهم متفقون على أنه إذا قدر أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن لم يحدث إلا بسبب حادث وأن القول في كل ما يحدث قول واحد
وإذا قال القائل فلم يحدث الحادث إلا بسبب حادث ثم زعم أن الحادث الأول يحدث بغير سبب حادث فقد تناقض فإن قوله لا يحدث حادث قول عام فإذا جوز أن يحدث حادث بلا سبب فقد تناقض ويسمى تسلسلا
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في العلل والفاعلين والمؤثرات بأن يكون للفاعل فاعل وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء
والثاني التسلسل في الآثار بأن يكون الحادث الثاني موقوفا على حادث قبله وذلك الحادث موقوف على حادث قبل ذلك وهلم جرا فهذا في جوازه قولان مشهوران للعقلاء وأئمة السنة والحديث مع كثير من النظار أهل الكلام والفلاسفة يجوزون ذلك وكثير من النظار وغيرهم يحيلون ذلك
(1/321)
وأما إذا قيل لا يحدث حادث قط حتى يحدث حادث فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وصريح العقل وقد يسمى هذا دورا فإنه إذا قيل لا يحدث شيء حتى يحدث شيء كان هذا دورا فإن وجود جنس الحادث موقوف على وجود جنس الحادث وكونه سبحانه لم يزل مؤثرا يراد به مؤثرا في كل شيء وهذا لا يقوله عاقل لكنه لازم حجة الفلاسفة ويراد به لم يزل مؤثرا في شيء معين ويراد به لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء وهو موجب الأدلة العقلية التي توافق الأدلة السمعية
ولما أجاب بعضهم بأن المرجح هو القدرة أو الإرادة القديمة أو العلم القديم أو إمكان الحدوث ونحو ذلك قالوا لهم في الجواب هذه الأمور إن لم يحدث بسببها سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح وإن حدث سبب حادث فالكلام في حدوثه كالكلام في حدوث ما حدث به
وعدل آخرون إلى الإلزام فقالوا هذا يقتضي أن لا يحدث في العالم حادث والحس يكذبه فقالوا لهم إنما يلزم هذا إذا كان التسلسل باطلا وأنتم تقولون بإبطاله وأما نحن فلا نقول بأبطاله وإذا كان الحدوث موقوفا على حوادث متجددة زال هذا المحذور
والتسلسل نوعان تسلسل في العلل وقد اتفق العلماء على إبطاله وأما التسلسل في الشروط ففيه قولان مشهوران للعقلاء
(1/322)
وتنازع هؤلاء هل الألزام لهم صحيح أم لا وبتقدير كون الإلزام صحيحا ليس فيه حل للشبهة وإذا لم تنحل كانت حجة على الفريقين وكان القول بموجبها لازما واعتبر ذلك بما ذكره أبو عبدالله الرازي في أشهر كتبه وهو كتاب الأربعين وما اعترض عليه به صاحب لباب الأربعين أبو الثناء محمود الأرموى وجوابه هو عنها فإن الرازى ذكرها وذكر أجوبة الناس عنها وبين فسادها ثم أجاب هو بالإلزام مع أنه في مواضع أخر يجيب عنها بالأجوبة التي بين فسادها في هذا الموضع
قال في حجتهم جميع الممكنات مستندة إلى واجب الوجود فكل ما لا بد منه في مؤثريته إن لم يكن حاصلا في الأزل فحدوثه إن لم يتوقف على مؤثر وجد الممكن لا عن مؤثر وإن توقف عاد الكلام فيه وتسلسل وإن كان حاصلا فإن وجب حصول الأثر معه لزم دوامه لدوامه وإن لم يجب أمكن حصول الأثر معه تارة وعدمه أخرى فيرجح أحدهما على الآخر وإن لم يتوقف على أمر وقع الممكن بلا مرجح وإن توقف لزم خلاف الفرض
(1/323)
ثم قال أجاب المتكلمون بوجوه الأول أنه إنما أحدث العالم في ذلك الوقت لأن الإرادة لذاتها اقتضت التعلق بإيجاده في ذلك الوقت
قلت هذا جواب جمهور الصفاتية الكلامية كابن كلاب والأشعري وأصحابهما وبه يجيب القاضي أبو بكر وأبو المعالي والتميميون من أصحاب أحمد والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وأمثالهم وبه أجاب الغزالي في تهافت الفلاسفة وزيفه عليه ابن رشد الحفيد وبه أجاب الآمدي وبه أجاب الرازي في بعض المواضع
قال الجواب الثاني للمتكلمين أنها اقتضت التعلق به في ذلك الوقت لتعلق العلم به
قلت هذ الجواب ذكره طائفة من الأشعرية ومن الناس من يجعل المرجح مجموع العلم والإرادة والقدرة كما ذكره الشهرستاني ويمكن أن يجعل هذا جوابا آخر
قال الجواب الثالث لعل هناك حكمة خفية لأجلها أحدث في ذلك الوقت
(1/324)
قلت هذا الجواب يجيب به من قد يعلل الأفعال كما هو مذهب المعتزلة والكرامية وغيرهم وقد يوافق المعتزلة ابن عقيل ونحوه كما قد يوافق الكرامية في تعليلهم القاضي أبو خازم ابن القاضي أبي يعلى وغيره
قال الجواب الرابع أن الأزلية مانعة من الإحداث لما سبق
الجواب الخامس أنه لم يكن ممكنا قبله ثم صار ممكنا فيه
قلت هذان الجوابان أو أحدهما ذكرهما غير واحد من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية وغيرهم كالشهرستاني وغيره وهذا جواب الرازي في بعض المواضع
قال الجواب السادس أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالهارب من السبع إذا عرض له طريقان متساويان والعطشان إذا وجد قدحين متساويين
قلت هذا جواب أكثر الجهمية المعتزلة وبه أجاب الرازي في نهاية العقول فإنه قال في كتابه المعروف بنهاية العقول وهو عنده أجل ما صنفه في الكلام قال قوله في المعارضة الأولى جميع جهات مؤثرية الباري عز وجل لا بد وأن يكون حاصلا في الأزل ويلزم من ذلك امتناع تخلف العالم عن الباري عز وجل
(1/325)
قلنا هذا إنما يلزم إذا كان موجبا بالذات أما إذا كان قادرا فلا
قوله القادر لما أمكنه أن يفعل في وقت وأن يفعل قبله وبعده توقفت فاعليته على مرجح
قلنا المعتمد في دفع ذلك ليس إلا أن يقال القادر لا يتوقف في فعله لأحد مقدوريه دون الآخر على مرجح
قوله إذا جاز استغناء الممكن هنا عن المرجح فليجز في سائر المواضع ويلزم منه نفي الصانع
قلنا قد ذكرنا أن بديهة العقل فرقت في ذلك بين القادر وبين غيره وما اقتضت البديهة الفرق بينهما لا يمكن دفعه
قلت وهذا الجواب هو جواب معروف عن المعتزلة وهو وأمثاله دائما في كتبهم يضعفون هذا الجواب ويحتجون على المعتزلة في مسألة خلق الأفعال وغيرها بهذه الحجة وهو أنه لا يتصور ترجيح الممكن لا من قادر ولا من غيره إلا بمرجح يجب عنده وجود الأثر
فهؤلاء إذا ناظروا الفلاسفة في مسأله حدوث العالم لم يجيبوهم إلا بجواب المعتزلة وهم دائما إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر يحتجون عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها الفلاسفة فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة
وهذا غالب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنة تجدهم دائما يتناقضون فيحتجون بالحجة التي يزعمون أنها برهان باهر ثم في موضع آخر يقولون إن بديهة العقل يعلم بها فساد هذه الحجة
(1/326)
وهو لما احتج في المحصول على إثبات الجبر وأن إثباته يمنع القول بالتحسين والتقبيح العقلي ذكر هذه الحجة وقال فثبت بهذا البرهان الباهر أن هذه الحوادث إما أن تحدث يعنى من العبد القادر على سبيل الإضطرار أو على سبيل الإتفاق
وقال أيضا في تقريرها ههنا العمدة في إثبات الصانع احتياج الممكن إلى المؤثر فلو جوزنا ممكنا يترجح أحد طرفيه على الآخر بلا مرجح لم يمكنا أن نحكم لشيء من الممكنات باحتياجه إلى المؤثر وذلك يسد باب إثبات الصانع
قال وأما الهارب من السبع إذا عن له طريقان فإنا نمنع تساويهما من كل الوجوه وإن ساعدنا عليه ولكن الهارب من السبع يعتقد ترجح أحدهما على الآخر من بعض الوجوه أو يصير غافلا عن أحدهما فأما لو اعتقد الهارب تساويهما من كل الوجوه فإنه يستحيل منه والحال هذه أن يسلك أحدهما والدليل على أن الأمر كذلك أن الإنسان إذا تعارضت دواعيه إلى الحركات المتضادة فإنه يتوقف في كل موضع لا يمكنه أن يترك إلا عند حصول المرجح
(1/327)
وكما قال من جعل المرجح هو الإرادة إن الإرادة اقتضت ترجيح ذلك المقدور على غيره ولا يمكن أن يقال الإرادة لماذا رجحت ذلك الشيء على غيره لأنها لو رجحت غيره عليه كان هذا السؤال عائدا وعلى هذا التقدير يلزم أن كون الإرادة مرجحة معلل بعلة أخرى وذلك محال لأن كون الإرادة مرجحة صفة نفسية لها كما أن كون العلم بحيث يعلم به المعلوم صفة نفسية له وذلك أمر ذاتي له ولما استحال تعليل الصفات الذاتية استحال تعليل كون الإرادة مرجحة قال وهذا الجواب باطل أيضا لأنا لا نعلل أصل كون الإرادة مرجحة وإنما نعلل كونها مرجحة لهذا الشيء على ضده ولا يلزم من تعليل خصوص المرجحية تعليل أصل المرجحية ألا ترى أن الممكن لما دار بين الوجود والعدم فإنا نحكم أنه لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح ولا يكون تعليل ذلك تعليلا لأصل كونه ممكنا فكذلك ههنا
قلت نظير هذا قول من يقول من القدرية المعتزلة والشيعة ونحوهم إن الله تعالى جعل العبد مختارا وخلقه مختارا إن شاء اختار هذا الفعل وإن شاء اختار هذا الفعل فهو يختار أحدهما باختياره
فيقال لهم هو جعله أهلا للإختيار وقابلا للإختيار وجائزا منه الإختيار وممكنا منه الإختيار ونحو ذلك أو جعله مختارا لهذا الفعل على هذا
(1/328)
فإن قالوا بالأول قيل لهم فوجود اختيار هذا الفعل دون هذا لابد له من سبب وإذا كان العبد قابلا لهذا ولهذا فوجود أحد الإختيارين دون الآخر لا بد له من سبب أوجبه
وإن قالوا بالثاني اعترفوا بالحق وأن ما فيه من اختيار الفعل المعين هو من الله تعالى كما قال سبحانه { لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } سورة التكوير 28 29
ولهذا إذا حقق القول عليهم وقيل لهم فهذا الإختيار الحادث الذي كان به هذا الفعل وهو إرادة العبد الحادثة من المحدث لها
قالوا الإرادة لا تعلل
فقلت لمن قال لي ذلك منهم تعنى بقولك لا تعلل بالعلة الغائية أي لا تعلم غايتها أو لا تعلل بالعلة الفاعلية فلا يكون لها محدث أحدثها
أما الأول فليس الكلام فيه هنا مع أنه هو يقول بتعليلها بذلك وأما الثاني فإنه معلوم الفساد بالضرورة فإنه من جوز في بعض الحوادث أن تحدث بلا فاعل أحدثها لزمه ذلك في غيره من الحوادث وهذا المقام حار فيه هؤلاء المتكلمون
فالمعتزلة القدرية إما أن ينفوا إرادة الرب تعالى وإما أن يقولوا بإرادة أحدثها في غير محل بلا إرادة كما يقوله البصريون منهم وهم أقرب إلى الحق من البغداديين منهم وهم في هذا كما قيل فيهم طافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب فإنهم التزموا عرضا يحدث لا في محل وحادثا يحدث بلا إرادة كما
(1/329)
التزموا في إرادة العبد أنها تحدث بلا فاعل فنفوا السبب الفاعل للإرادة مع أنهم يثبتون لها العلة الغائية ويقولون إنما أراد الإحسان إلى الخلق ونحو ذلك
والذين قابلوهم من الأشعرية ونحوهم أثبتوا السبب الفاعل لإرادة العبد وأثبتوا لله إرادة قديمة تتناول جميع الحوادث لكن لم يثبتوا لها الحكمة المطلوبة والعاقبة المحمودة فكان هؤلاء بمنزلة من أثبت العلة الفاعلية دون الغائية وأولئك بمنزلة من أثبت العلة الغائية دون الفاعلية
والمتفلسفة المشاؤون يدعون إثبات العلة الفاعلية والغائية ويعللون ما في العالم من الحوادث بأسباب وحكم وهم عند التحقيق أعظم تناقضا من أولئك المتكلمين لا يثبتون لا علة فاعلية ولا غائية بل حقيقة قولهم أن الحوادث التي تحدث لا محدث لها لأن العلة التامة القديمة مستلزمة لمعلولها لا يمكن أن يحدث عنها شيء
وحقيقة قولهم إن أفعال الرب تعالى ليس فيها حكمة ولا عاقبة محمودة لأنهم ينفون الإرادة ويقولون ليس فاعلا مختارا ومن نفي الإرادة كان نفيه للمراد المطلوب بها الذي هو الحكمة الغائية أولى وأحرى ولهذا كان لهم من الإضطراب والتناقض في هذا الباب أعظم مما لطوائف أهل الملل كما قد بسط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على مجامع أقوال الطوائف الكبار وما فيها من التناقض وأن من عارض النصوص الإلهية بما يسميه عقليات إنما يعارضها
(1/330)
بمثل هذا الكلام الذي هو نهاية إقدامهم وغاية مرامهم وهو نهاية عقولهم في دراية أصولهم
قال الرازي قالت الفلاسفة حاصل الكل اختيار أن كل ما لا بد منه في إيجاد العالم لم يكن حاصلا في الأزل لأنه جعل شرط الإيجاد أولا الوقت الذي تعلقت الإرادة بإيجاده فيه وثانيا الوقت الذي تعلق العلم به فيه وثالثا الوقت المشتمل على الحكمة الخفية ورابعا انقضاء الأزل وخامسا الوقت الذي يمكن فيه وسادسا ترجيح القادر وشيء منها لم يوجد في الأزل وقد أبطلنا هذا القسم
ثم قال عن الفلاسفة والجواب المفصل عن الأول من وجهين أحدهما أن إرادته إن لم تكن صالحة لتعلق إيجاده في سائر الأوقات كان موجبا بالذات ولزم قدم العالم وإن كانت صالحة فترجيح بعض الأوقات بالتعلق إن لم يتوقف على مرجح وقع الممكن لا لمرجح وإن توقف عاد الكلام فيه وتسلسل
والثاني أن تعلق إرادته بإيجاده إن لم يكن مشروطا بوقت ما لزم قدم المراد وإن كان مشروطا به كان ذلك الوقت حاضرا في الأزل وإلا عاد الكلام في كيفية إحداثه وتسلسل
وعن الثاني من وجهين الأول أن العلم تابع للمعلوم التابع للإرادة فامتنع كون الإرادة تابعة للعلم
(1/331)
الثاني أن تعين المعلوم محال فيمتنع عقلا إحداثه في وقت علم عدم حدوثه فيه وعدم إحداثه في وقت علم حدوثه فيه وذلك يوجب كونه موجبا بالذات
وعن الثالث من وجهين أحدهما أن حدوث وقت تلك المصلحة إن كان لا لمحدث لزم نفي الصانع وإن كان لمحدث عاد الكلام فيه
وأيضا فتلك المصلحة إن كانت حاصلة قبل ذلك الوقت لزم حدوثها قبله وإلا فإن وجب حدوثها في ذلك الوقت جاز في غير ذلك ولزم نفى الصانع وإن لم يجب عاد الكلام في اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة وتسلسل
الثاني أنه مع العلم بإشتمال ذلك الوقت على تلك المصلحة إن لم يمكنه الترك كان موجبا بالذات وإن أمكنه وتوقف الفعل على مرجح تسلسل وإلا وقع الممكن لا لمرجح
وعن الرابع من وجهين أحدهما أن مسمى الأزل إن كان واجبا لذاته امتنع زواله وإلا استند إلى واجب لذاته ولزم المحذور
والثاني أن الأزل نفى محض فامتنع كونه مانعا من الإيجاد
وعن الخامس من وجهين أحدهما أن انقلاب الممتنع لذاته ممكنا لذاته محال
(1/332)
الثاني أن الماهية لا يختلف قبولها للوجود أو لا قبولها لكونه شاملا للأوقات
وعن السادس من وجهين الأول أنه لما استويا بالنسبة إليه كان وقوع أحدهما من غير مرجح اتفاقيا وحينئذ يجوز في سائر الحوادث ذلك ولزم نفى الصانع
الثاني أنه لما استويا بالنسبة إليه فترجح أحدهما إن لم يتوقف على نوع ترجيح منه كان وقوعه لا بإيقاعه بل من غير سبب ولزم نفى الصانع وإن توقف عاد التقسيم فيه أنه هل كان حاصلا في الأزل أم لا
وأما فصل الهارب والعطشان فإنا نعلم أنه ما لم يحصل لهما ميل إلى أحدهما لم يترجح
قلت هذه الوجوه بعضها حق لا حيلة فيه وبعضها فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا ذكر جواب الناس عن تلك الشبهة
ثم قال الرازي والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول لوجوب دوام واجب الوجود ودوام الثاني لدوام الأول وهلم جرا وإنه ينفى الحدوث أصلا
قال فإن قلت واجب الوجود عام الفيض يتوقف حدوث الأثر عنه على حدوث استعدادات القوابل بسبب الحركات الفلكية والإتصالات الكوكبية فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول
(1/333)
قلت حدوث العرض المعين لا بد له من سبب فذلك السبب إن كان حادثا عاد الكلام في سبب حدوثه ولزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر فكذلك في كلية العالم
وقد اعترض الأرموي على هذا الجواب فقال ولقائل أن يقول إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث المسبب الفاعل بل يدل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه وإن عنيت به السبب الفاعل لم يلزم من حدوث العرض المعين حدوثه بل إما حدوثه أو حدوث بعض الشرائط وحدوث الشرائط والمعدات الغير متناهية على التعاقب جائز عندكم
قال بل الجواب الباهر عنه أنه لا يلزم من ذلك قدم العالم الجسماني لجواز أن يوجد في الأزل عقل أو نفس يصدر عنهما تصورات متعاقبة كل واحد منها بعد ما يليه حتى ينتهي إلى تصور خاص يكون شرطا لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم
قلت الإلزام الذي ألزمهم إياه الرازي صحيح متوجه وهو الجواب الثاني الذي أجابهم به الغزالي في كتاب التهافت
وأما اعتراض الأرموي فجوابه أنه إذا كان التقدير أن العلة التامة مستلزمة لمعلولها ومعلولها لازم لعلته امتنع أن يحدث عنها شيء فما حدث لا بد له من
(1/334)
سبب تام وحدوث السبب التام يستلزم حدوث سبب تام له فيلزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال
وأما قوله إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه
فيقال له هذا التقسيم صحيح إذا نظر إلى الحادث من حيث الجملة وأما إذا نظر إلى حادث يمتنع حدوثه عن العلة التامة فلا بد له من حدوث سبب تام
وإذا قال القائل الفاعل القديم أحدثه لما حدث شرط حدوثه
قيل الكلام في حدوث ذلك الشرط كالكلام في حدوث المشروط فلا بد من حدوث أمر لا يكون حادثا عن العلة التامة لأن العلة التامة القديمة يمتنع أن يحدث عنها شيء فإنه يجب مقارنة معلولها لها في الأزل والحادث ليس بمقارن لها في الأزل
وإذا قيل حدث عنها بحدوث الإستعداد والشرائط
قيل الكلام في كل ما يقدر حدوثه عن علة تامة مستلزمة لمعلولها فإن حدوث حادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها محال وهذا الإلزام صحيح لا محيد للفلاسفة عنه
وإذا قالوا حدث عنها أمور متسلسلة واحد بعد واحد
قيل لهم الأمور المتسلسلة يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة لأن العلة التامة القديمة تستلزم معلولها فتكون معها في الأزل والحوادث المتسلسة ليست معها في الأزل
(1/335)
وقد بسطنا الكلام على هذ في غير هذا الموضع وبينا أن قولهم بحدوث الحوادث عن موجب تام أزلي لازم لهم في صريح العقل سواء حدثت عنه بوسائط لازمة له أو بغير وسائط وسواء سميت تلك الوسائط عقولا ونفوسا أو غير ذلك وسواء قيل إن الصادر الأول عنه العنصر كما يقول بعضهم أو قيل بل هو العقل كما هو قول آخرين فإن الوسائط اللازمة له قديمة معه لا يحدث فيها شيء إذ القول في حدوث ما يحدث فيها كالقول في غيره من الحوادث
وقولهم إن حركات الفلك بسبب حدوث تصورات النفس وإراداتها المتعاقبة مع حدوث تلك عن الواجب بنفسه بواسطة العقل اللازم له أو بغير واسطة العقل أو القول بحدوثها عن العقل أو ما قالوا من هذا الجنس الذي يسندون فيه حدوث الحوادث إلى مؤثر قديم تام لم يحدث فيه شيء هو قول يتضمن أن الحوادث حدثت عن علة تامة لا يحدث فيها شيء فإذا كان المؤثر التام الأزلي يجب أن يقارنه أثره امتنع حدوث شيء من الحوادث عن ذلك المؤثر التام الأزلي سواء جعل ذلك شرطا في حدوث غيره أو لم يجعل ومتى امتنع حدوث حادث عنه كان حدوث ما يدعونه من الإستعدادات والشرائط مفتقرا إلى سبب تام فيلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى دفعة كما ذكره الرازي وهذا من جيد كلامه
وأما الجواب الذي أجاب به الأرموي وذكر أنه باهر فهو منقول من كلام الرازي في المطالب العالية وغيرها وهو منقوض بهذه المعارضة مع أنه جواب
(1/336)
بعضه موافق لقول أهل الملل وبعضه موافق لقول الفلاسفة الدهرية فإنه مبنى على إثبات العقول والنفوس وأنها ليست أجساما وكونها قديمة أزلي لازمة لذات الله تعالى وهذه الأقوال ليست من أقوال أهل الملل بل هي أقوال باطلة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن ما يدعونه من المجردات إنما ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان
وإنما أجاب الأرموي بهذا الجواب لأن هؤلاء المتأخرين كالشهرستاني والرازي والآمدي زعموا أن ما ادعاه هؤلاء المتفلسفة من إثبات عقول ونفوس مجردة لا دليل للمتكلمين على نفيه وأن دليلهم على حدوث الأجسام لا يتضمن الدلالة على حدوث هذه المجردات
وهذا قول باطل بل أئمة الكلام صرحوا بأن انتفاء هذه المجردات وبطلان دعوى وجود ممكن ليس جسما ولا قائما بجسم مما يعلم انتفاؤه بضرورة العقل كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالى وغيره بل قال طوائف من أهل النظر إن الموجود منحصر في هذين النوعين وإن ذلك معلوم بضرورة العقل وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هذا الجواب الذي ذكره الأرموي مبنى على هذا الأصل
ومضمونه أن الرب تعالى موجب بالذات للعقول والنفوس الأزلية اللازمة لذاته لا فاعل لها بمشيئته وقدرته وهم يفسرون العقول بالملائكة فتكون الملائكة قديمة أزلية متولدة عن الله تعالى لازمة لذاته
(1/337)
وهذا شر من قول القائلين بأن الملائكة بنات الله وهو موافقة للدهرية على العلة والمعلول لكن النزاع بينهم في حدوث العالم الجسماني لكنه في الجملة يبطل احتجاجهم على أن السماوات قديمة أزلية فهو قطع لنصف شرهم
وهذا الجواب مبنى أيضا على جواز التسلسل في الحوادث التي هي آثار والقول بجواز حوادث لا أول لها وهذا أحد قولي النظار وهو اختيار الأرموي وبه اعترض على الرازي في غير موضع وبه اعترض الأرموي على جواب الرازي عن حجة التأثير التي مبناها على أن التأثير الذي يدخل فيه الخلق والإبداع هل هو أمر وجودي أو أمر عدمي وهل الخلق هو المخلوق أو غير المخلوق
وفيها قولان مشهوران للناس والجمهور على أن الخلق ليس هو المخلوق وهو قول أكثر العلماء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وهو قول أكثر أهل الكلام مثل طوائف من المعتزلة والمرجئة والشيعة وهو قول الكرامية وغيرهم وهو مذهب الصوفية ذكره صاحب التعرف في مذاهب التصوف المعروف بالكلاباذي وهو قول أكثر قدماء الفلاسفة وطائفة من متأخريهم
(1/338)
وطائفة قالت الخلق هو المخلوق وهو قول كثير من المعتزلة وقول الكلابية كالأشعري وأصحابه ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد ومالك وغيرهم
والمقصود هنا أنهم لما احتجوا على قدم العالم بأن كون الواجب مؤثرا في العالم غير ذاتيهما لإمكان تعقلهما مع الذهول عنه ولأن كونه مؤثرا معلوم دون حقيقته ولأن المؤثرية نسبة بينهما فهي متأخرة ومغايرة
قال وليس التأثير أمرا سلبيا لأنه نقيض قولنا ليس بمؤثر فذلك الوجودي إن كان حادثا افتقر إلى مؤثر وكانت مؤثريته زائدة ولزم التسلسل وإن كان قديما وهو صفة إضافية لا يعقل تحققها مع المضافين فيلزم قدمهما
أجاب الرازي بأن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر فتكون مؤثريته زائدة ويتسلسل
قلت وهذا الجواب هو على قول من يقول إن الخلق هو المخلوق وإنه ليس الفعل والإبداع والخلق إلا مجرد وقوع المفعول المنفصل عنه من غير زيادة أمر وجودي أصلا
فقال الأرموي ولقائل أن يقول التسلسل ههنا واقع في الآثار لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر فتكون متأخرة على الأثر فاقتضت مؤثرية أخرى بعد الأثر حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية
قال والمنكر هو التسلسل في المؤثرات
(1/339)
قال بل الجواب عنه أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى المتأخر عنه ولو بأزمنة كثيرة مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر
قلت وقول الأرموي لقائل أن يقول التسلسل ههنا واقع في الآثار لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر فتكون متأخرة عن الأثر فاقتضت مؤثرية أخرى بعد الأثر حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية
يعترض عليه بأن هذا يناقض قوله بعد هذا بل الجواب عنه أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإنه إن كان هذا القول صحيحا لم يلزم من تحقق المؤثرية وجود المؤثر والأثر جميعا في زمان واحد بل يجوز تأخر الأثر عن المؤثر وإن كانت الصفة العارضة للشيء لا تتوقف بل يكفي فيها تحقق المؤثرية فقط
ولكنه يجيب عن هذا بأن مقصودي أن ألزم غيري إذا قال تتوقف المؤثرية على المؤثر والأثر بأن هذا تسلسل في الآثار لا في المؤثرات وهذا إلزام صحيح
لكن يقال له كان من تمام هذا الإلزام أن تقول المؤثرية إذا كانت عندكم صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر كانت مستلزمة لوجود الأثر
(1/340)
فإن كونه مؤثرا بدون الأثر ممتنع وحينئذ فمعلوم أن الأثر يكون عقب التأثير الذي هو المؤثرية فإنه إذا خلق وجد المخلوق وإذا أثر في غيره حصل الأثر فالأثر يكون عقب التأثير وهو جعل المؤثرية متأخرة عن الأثر
وليس الأمر كذلك بل هي متقدمة على الأثر أو مقارنة له عند بعضهم ولم يقل أحد من العقلاء إن المؤثرية متأخرة عن الأثر بل قال بعضهم إن الأثر متأخر منفصل عنها وقال بعضهم هو مقارن لها وقال بعضهم هو متصل بها لا منفصل عنها ولا مقارن لها وهذا أصح الأقوال
ولكن على التقديرين تكون المؤثرية حادثة بحدوث تمامها فيلزم أن يكون لها مؤثرية وتكون المؤثرية الثانية عقب المؤثرية الأولى وهذا مستقيم لا محذور فيه فتكون المؤثرية الأولى أوجبت كونه مؤثرا في الأثر المنفصل عنه وكونه مؤثرا في ذلك الأثر أوجب ذلك الأثر
وهذا على قول الجمهور الذين يقولون الموجب يحصل عقب الموجب التام والأثر يحصل عقب المؤثر التام والمفعول يحصل عقب كمال الفاعلية والمعلول يحصل عقب كمال العلية
وأما من جعل الأثر مقارنا للمؤثر في الزمان كما تقوله طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم فهؤلاء يلزم قولهم لوازم تبطله فإنه يلزم عند وجود المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة ومع المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة وهلم جرا وهذا تسلسل في تمام المؤثرية وهو من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار فإن التسلسل في الآثار هو أن يكون أثر بعد أثر والتسلسل
(1/341)
في المؤثرات أن يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر فإن الشيء لا يفعل في حال عدمه وإنما يفعل في حال وجوده فعند وجود التأثير لا بد من وجود المؤثر فإن المؤثر التام لا يكون حال عدم التأثير بل لا يكون إلا مع وجوده لكن نفس تأثيره يستعقب الأثر فإن جعل تمام المؤثرية مقارنا للأثر كان من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار
وقد يقول القائل هذا الذي أراده الرازي بقوله إن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر فتكون مؤثريته زائدة ويتسلسل فإنه قد يريد التسلسل المقارن لا المتعاقب فإنها إذا كانت زائدة افتقرت إلى مؤثر يقارنها كما يقوله من يقوله من المتفلسلفة والمتكلمين
والرازي قد يقول بهذا وحينئذ فهذا التسلسل باطل باتفاق العقلاء
فيقول القائل هذا هو الإلزام الذي ألزم به الرازي الفلاسفة حيث قال والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول لوجوب دوام واجب الوجود ودوام الثاني لدوام الأول وهلم جرا وإنه ينفي الحوادث أصلا
قال فإن قلت واجب الوجود عام الفيض يتوقف حدوث الأثر عنه على استعدادات القوابل فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول
قلت حدوث العرض المعين لا بد له من سبب فذلك السبب إن كان حادثا عاد الكلام في سبب حدوثة ويلزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر فكذلك في كلية العالم
(1/342)
فيقال هذا الكلام الذي ذكره الرازي جيد مستقيم وهو إلزامهم الحوادث المشهودة التي قد يعبر عنها بالحوادث اليومية فإنه لا بد لها من مؤثر تام فإن كان قديما أمكن وجود الحادث عن القديم وبطل قولهم وإن كان حادثا فلا بد على قولهم أن يكون حادثا مع حدوث الأثر لا قبله لأنهم قد قرروا أن المؤثر التام يجب أن يكون أثره معه في الزمان لا يتأخر عنه فعلى قولهم هذا يجب أن يكون المؤثر التام معه أثره والأثر معه مؤثره لا يتقدم زمان أحدهما على زمان الآخر وحينئذ فالحادث المعين يجب أن يكون مؤثره معه حادثا ويكون مؤثر ذلك المؤثر معه حادثا فيلزم وجود أسباب ومسببات هي علل ومعلولات لا نهاية لها في زمن واحد وهذا معلوم الفساد بضرورة العقل وقد اتفق العقلاء على أمتناعه
واعتراض الأرموي عليه ساقط حينئذ
فإن ملخص قوله إن اللازم حدوث المؤثر أو حدوث بعض شرائطه وهم يجوزون حدوث الشرائط والمعدات على سبيل التعاقب
فيقال لهم هم يجوزون أن يكون بعد كل حادث حادث فيقولون حدوث الحادث الأول شرط في حدوث الحادث والشرط موجود قبل المشروط
ولكن هذا يناقض قولهم إن العلة التامة تستلزم أن يكون معلولها معها في الزمان وأن المعلول يجب أن يكون موجودا مع تمام العلة لا يتأخر عن ذلك فإن موجب هذا أنه إذا حصل شرط تمام العلة حصل معه المعلول لا يتأخر عنه وكلما
(1/343)
حدث حادث كان الشرط الحادث الذي به تمت علية العلة حادثا معه لا قبله ثم ذلك الحادث أيضا يحدث الشرط الذي هو تمام علته معه لا قبله وهلم جرا فيلزم تسلسل تمام العلل في آن واحد وهو أن تمام علة هذا الحادث حدث في هذا الوقت وتمام علة هذا التمام حدث في هذا الوقت وهلم جرا
والتسلسل ممتنع في العلة وفي تمام العلة فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة وللعلة علة إلى غير غاية فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام ولتمام العلة تمام إلى غير غاية والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء معلوم فساده بضرورة العقل سواء قيل إن المعلول يقارن العلة في الزمان أو قيل إنه يتعقب العلة
ولكن هؤلاء لا يتم قولهم بقدم شيء من العالم إلا إذا كان المعلول مقارنا للعلة التام لا يتأخر عنها وحينئذ فيلزم أن يكون كل حادث من الحوادث تمام علته حادث معه وتمام علة ذلك التمام حادث معه وهلم جرا فيلزم وجود حوادث لا نهاية لها في آن واحد ليست متعاقبة وهذا مما يسلمون أنه ممتنع ويعلم بضرورة العقل أنه ممتنع وهو يشبه قول أهل المعاني أصحاب معمر
(1/344)
وإذا كان هذا لازما لقولهم لا محيد لهم عنه لزم أحد أمرين إما بطلان حجتهم وإما القول بأنه لا يحدث في العالم شيء والثاني باطل بالمشاهدة فتعين بطلان حجتهم
فتبين أن الذي ألزمهم أياه أبو عبدالله الرازي لازم لا محيد عنه وأن الأرموي لم يفهم حقيقة الإلزام فاعترض عليه بما لا يقدح فيه
ولكن مثار الغلط والإشتباه هنا أن لفظ التسلسل إذا لم يرد به التسلسل في نفس الفعل فإنه يراد به التسلسل في الأثر بمعنى أنه يحدث شيء بعد شيء ويراد به التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلا وهذا عند من يقول إن المؤثر التام وأثره مقترنان في الزمان كما يقوله هؤلاء الدهرية فيقتضي أن يكون ما يحدث من تمام المؤثر مقارنا للأثر لا يتقدم عليه فتبين به فساد حجتهم
وأما من قال إن الأثر إنما يحصل عقب تمام المؤثر فيمكنه أن يقول بما ذكره الأرموي وهو أن كونه مؤثرا في الأثر المعين يكون مشروطا بحادث يحدث يكون الأثر عقبه ولا يكون الأثر مقارنا له
ولكن هذا يبطل قولهم بقدم شيء من العالم ويوافق أصل أئمة السنة وأهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلما إذا شاء
فإنه على قول هؤلاء يقال فعله لما يحدث من الحوادث مشروط بحدوث حادث به تتم مؤثرية المؤثر ولكن عقب حدوث ذلك التمام يحدث ذلك الحادث وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء أزلي إذ الأزلي لا يكون إلا مع تمام مؤثره ومقارنة الأثر للمؤثر زمانا ممتنعة
(1/345)
وحينئذ فإذا قيل هو نفسه كاف في إبداع ما ابتدعه لا يتوقف فعله على شرط
قيل نعم كل ما يفعله لا يتوقف على غيره بل فعله لكل مفعول حادث يتوقف على فعل يقوم بذاته يكون المفعول عقبه وذلك الفعل أيضا مشروط بأثر حادث قبله
فقد تبين أن هذه المعقولات التي اضطرب فيها أكابر النظار وهي عندهم أصول العلم الإلهي إذا حققت غاية التحقيق تبين أنها موافقة لما قاله أئمة السنة والحديث العارفون بما جاءت به الرسل وتبين أن خلاصة المعقول خادمة ومعينة وشاهدة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
قلت المقصود هنا أن الأرموي ضعف الجواب بأن التسلسل المنكر هو تسلسل المؤثرات التي هي العلل وأما تسلسل الآثار فليس بمنكر وإذا كانت المؤثرية مسبوقة بمؤثرية لم يلزم إلا التسلسل في الآثار
وقوله إن هذا يقتضي التسلسل في الآثار لا في المؤثرات كلام صحيح على قول من يقول إن الأثر لا يجب أن يقارن المؤثر في زمان بل يتعقبه لأن المؤثرية المسبوقة بمؤثرية إنما حدث بالأولى كونها مؤثرة لا نفس المؤثر والفرق بين نفس المؤثر ونفس تأثيره هو الفرق بين الفاعل وفعله والمبدع وإبداعه والمقتضي واقتضائه والموجب وإيجابه وهو كالفرق بين الضارب وضربه والعادل وعدله والمحسن وإحسانه وهو فرق ظاهر
لكن احتجاجه بأن المؤثرية إذا كانت صفة إضافية يتوقف تحققها على المؤثر والأثر جاز أن تكون متقدمة على الأثر كما لزم أن تكون متأخرة عن الأثر
(1/346)
ليس بمستقيم فإن كون الشيء مؤثرا في غيره لا يكون متأخرا عن أثره بل إما أن يكون مقارنا له أو سابقا عليه وإلا فوجود الأثر قبل التأثير ممتنع ولا يحتاج إلى هذا التقدير فإن كون التسلسل ها هنا واقعا في الآثار أبين من أن يدل عليه بدليل صحيح من هذا الجنس فضلا عن أن يدل عليه بهذا الدليل
والجواب الذي ذكره من أن الصفة العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها هو جواب من يقول بأن التأثير قديم والأثر حادث
وهذا قول من يثبت لله تعالى صفة التخليق والتكوين في الأزل وإن كان المخلوق حادثا
وهو قول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأهل الكلام والصوفية وهو مبنى على أن الخلق غير المخلوق وهذا قول أكثر الطوائف لكن منهم من صرح بأن الخلق قديم والمخلوق حادث ومنهم من صرح بتجدد الأفعال ومنهم من لا يعرف مذهبه في ذلك
فالذي ذكره البغوي عن أهل السنة إثبات صفة الخلق لله تعالى وأنه لم يزل خالقا وكذلك ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذهب التصوف أنه مذهب الصوفية وكذلك ذكره الطحاوي وسائر أصحاب أبي حنيفة وهو
(1/347)
قول جمهور أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي عبدالله بن حامد والقاضي أبي يعلى وغيرهم وكذلك ذكره غير واحد من المالكية وذكر أنه قول أهل السنة والجماعة ومن هؤلاء من صرح بمعنى الحركة لا بلفظها
وهؤلاء الذين يقولون بإثبات تأثير قديم هو الخلق والإبداع مع حدوث الأثر يجعلون ذلك بمنزلة وجود الإرادة القديمة مع حدوث المراد كما يقول بذلك الكلام وغيرهم من الصفاتية
فجواب أبي الثناء الأرموي موافق لقول هؤلاء الطوائف وهو قوله الصفة العارضة للشيء لا تتوقف إلا على وجود معروضها كما أن الإرادة القديمة لا تتوقف إلا على وجود المريد دون المراد عند من يقول بذلك وكذلك القدرة المتعلقة بالمستقبلات تتوقف على وجود القادر دون المقدور فكذلك قولهم في الخلق الذي هو الفعل وهو التأثير
ولكن هذا الجواب ضعيف فإن قوله الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى التأخر عنه ولو بأزمنة كثيرة مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر يعترض عليه بأنك ادعيت دعوى كلية وأثبتها بمثال جزئي فادعيت أن كل صفة عارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها
(1/348)
وهذه دعوى كلية ثم احتججت على ذلك بالتقدم العارض للمتقدم وهذا المثال لا يثبت القضية الكلية
ونظير هذا قولهم ليس لمتعلق القول من القول صفة وجودية فإنه ليس لكون الشيء مذكورا أو مخبرا عنه صفة ثبوتية بذلك فإن المعدوم يقال إنه مذكور ومخبر عنه فإن هذه دعوى والمثال جزئي
والتحقيق أن متعلق القول قد يكون له منه صفة وجودية كمتعلق التكوين والتحريم والإيجاب وقد لا يكون كمتعلق الإخبار
ثم يقال الصفة العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره سواء كانت من الصفات الحقيقية المستلزمة للنسبة والإضافة كالإرادة والقدرة والعلم أو كانت من الصفات الإضافية عند من يجوز جواز وجود إضافة محضة لا يستلزم صفة حقيقية قد تكون مستلزمة لوجود إثنين المتضايفين المتباينين كالأبوة والبنوة فإن وجود أحدهما مستلزم لوجود الآخر وكذلك الفوقية والتحتية والتيامن والتياسر وكذلك العلة التامة مع معلولها فإنه ليس بينهما برزخ زمان وإن كان المعلول لا يكون إلا متعقبا للعلة في الزمان لا يكون زمنه زمنها عند جمهور العقلاء كما قد بسط في موضع آخر
وأنتم احتججتم في غير موضع بأن القبول نسبة بين القابل والمقبول فلا يتحقق إلا مع تحققهما وجعلتم هذا مما احتججتم به على الكرامية في مسألة حلول الحوادث وقلتم كونه قابلا للحوادث يجب أن يكون من لوازم ذاته وذلك إنما يمكن مع تحقق الحوادث في الأزل مع امتناع تحقق الحادث في الأزل
(1/349)
فهذا التناقض من جنس قولكم إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل وقلتم إذا كان قابلا للحوادث في الأزل لزم إمكان وجود الحوادث في الأزل فأي فرق بين إمكان القبول وإمكان المقدور وإمكان المفعول وما تقدم الشيء على غيره وكونه مثل غيره ففي هذه النسبة الخاصة لم يجب تحققهما معا في الزمان لكن يجب أن يكون زمن هذا قبل زمن هذا ولكن لا يلزم إذا لم يكن المتأخر مع المتقدم ألا يكون المقبول المقدور والأثر ممكنا مع وجود التأثير والقدرة والقبول حتى يقال إنه خالق مع امتناع المخلوق وقادر مع امتناع المقدور وقابل مع امتناع المقبول
وأيضا فإن هذا الجواب بمنزلة جواب من يقول إن الحوادث توجد بإرادة قديمة والمنازعون لهم ألزموهم بأن هذا ترجيح بلا مرجح كما تقدم
فهؤلاء يعترضون على جواب الأرموي وهؤلاء يعترضون عليه بأنه عند وجود الأثر الحادث إما أن يتجدد تمام التأثير وإما أن لا يتجدد فإن تجدد شيء لزم التسلسل كما تقدم وإن لم يتجدد لزم حدوث الحادث بدون سبب حادث وقد تقدم إبطاله بأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره
وكان الأرموي يمكنه أن يجيب على أصله بأن حدوث الأجسام موقوف على حدوث التصورات المتعاقبة في العقل أو النفس كما أجاب به عن الحجة الأولى
قلت المقصود هنا أن يعرف نهاية ما ذكره هؤلاء في جواب الدهرية عن المعضلة الزباء والداهية والدهياء وما يخفى على العاقل الفاضل ما في هذه الأجوبة
(1/350)
ونحن ولله الحمد قد بينا الجواب عن جميع حجج الفلاسفة في غير هذا الموضع وبسطنا الكلام في ذلك وبينا كيف يمكن فساد استدلالهم من وجوه كثيرة وكيف تتمكن كل طائفة من المسلمين من قطعهم بجواب مركب من قولهم وقول طائفة أخرى من المسلمين حتى إذا احتاجوا إلى موافقة الدهرية على قدم الأفلاك وأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ونحو ذلك مما فيه تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى موافقة طائفة أخرى من طوائف المسلمين على بعض أقوالهم التي ليس فيها تكذيب للرسول بل ولا مخالفة لصريح العقل كان موافقتهم لطائفة من طوائف المسلمين على ما لا يكذبون به الرسول ولا يخالفون به المعقول أولى بهم من موافقة الدهرية على ما فيه تكذيب للرسول ومخالفة لصريح العقل
وهذا مما يتبين به أنه ليس في العقل الصريح ما يخالف النصوص الثابتة عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهو المقصود في هذا المقام
مثال الأجوبة التي يجاب بها هؤلاء الفلاسفة أن يقال حجتكم الأولى على قدم العالم مبنية على مقدمتين أحداهما أن الممكن لا بد له من مرجح تام وامتناع التسلسل ولفظ التسلسل فيه إجمال قد تقدم الكلام عليه فإن التسلسل هنا هو توقف جنس الحادث على الحادث وهذا متفق على امتناعه والتسلسل في غير هذا الموضع يراد به التسلسل في الفاعلين وفي الآثار والتسلسل في تمام الفاعلين هو من التسلسل في الفاعلين
(1/351)
فيقال لكم التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل وفي تمامها وأما التسلسل في الشروط أوالآثار ففيه قولان للمسلمين وأنتم قائلون بجوازه
فنقول إما أن يكون هذا التسلسل جائزا أو ممتنعا فإن كان ممتنعا امتنع تسلسل الحوادث ولزم أن يكون لها أول وبطل قولكم بحوادث لا أول لها وامتنع كون حركات الأفلاك أزلية وهذا يبطل قولكم
ثم نقول العالم لو كان أزليا فإما أن يكون لا يزال مشتملا على حوادث سواء قيل إنها حادثة في جسم أو عقل أو يقال بل كان في الأزل ليس فيه حادث كما يقال إنه كان جسم ساكنا فإن كان الأول لزم تسلسل الحوادث ونحن نتكلم على تقدير امتناع تسلسلها فبطل هذا التقدير وإن كانت الحوادث حدثت فيه بعد أن لم تكن لزم جواز صدور الحوادث عن قديم لم يتغير وهذا يبطل حجتكم ويوجب جواز حدوث الحوادث بلا حدوث سبب
وإن قلتم إن التسلسل في الآثار جائز وهو قولكم بطل استدلالكم بهذه الحجة على قدم شيء من العالم فإنها لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم وإنما تدل على وجوب دوام كون الرب فاعلا
فيقال لكم حينئذ لم لا يجوز أن تكون الأفلاك أو كل ما يقدر موجودا في العالم أو كل ما يحدثه الله موقوفا على حادث بعد حادث ويكون مجموع العالم الموجود الآن كالشخص الواحد من الأشخاص الحادثة
فتبين أن احتجاجكم على مطلوبكم باطل سواء كان تسلسل الحوادث جائزا أو لم يكن بل إذا لم يكن جائزا بطلت الحجة وبطل المذهب المعروف عندكم
(1/352)
وهو أن حركات الأفلاك أزلية فإن هذا إنما يصح إذا كان تسلسل الحوادث جائزا فإذا كان تسلسلها ممتنعا لزم أن يكون لحركة الفلك أول وإن كان تسلسل الحوادث جائزا لم يكن في ذلك دلالة على قدم شيء من العالم لجواز أن يكون حدوث الأفلاك موقوفا على حوادث قبله وهلم جرا
فإن قلتم هذا يستلزم قيام الحوادث المتسلسلة بالقديم
كان الجواب من وجوه أحدها أن هذا هو قولكم وليس هذا ممتنعا عندكم فإن الفلك قديم أزلي عندكم مع أنه جسم تقوم به الحوادث
الثاني أنه يجوز أن تكون تلك الحوادث إذا امتنع قيامها بواجب الوجود قائمة بمحدث بعد محدث فإن كان صدور هذه الحوادث المتسلسلة عن الواجب القديم ممكنا بطلت حجتكم وإن كان ممتنعا بطل مذهبكم وحجتكم ايضا فإن قولكم إن الحوادث الفلكية المتسلسلة صادرة عن قديم أزلي
الثالث أنا نتكلم على تقدير إمكان تسلسل الحوادث وعلى هذا التقدير فلا بد من التزام أحد أمرين إما قيام الحوادث بالواجب وإما تسلسل الحوادث عنه بدون قيام حادث به
الرابع أن يقال قيام الحوادث بالقديم إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا لزم حدوث الأفلاك وهو المطلوب وإن كان جائزا بلطت هذه الحجة
(1/353)
الخامس أن من قال من أهل الكلام بأن القديم لا تحله الحوادث إنما قاله لأن تسلسل الحوادث في المحل يستلزم حدوثه عندهم فإن كان قولهم هذا صحيحا لزم حدوث الأفلاك والنفوس وكل ما يقوم به حوادث متسلسلة وهو يستلزم بطلان حجتكم لأنه حينئذ يمكن صدور العالم المحدث عن القديم بل هذا يبطل مذهبكم لأنه إذا كان ما قام به الحوادث حادثا امتنع قيام الحوادث بالقديم سواء كان واجبا أو ممكنا بل إذا كان تسلل الحوادث ممتنعا لزم حدوث ما يذكرونه من العقول وغيرها
وإن لم يقم به حادث فإنه على هذا التقدير يجب أن يكون للحوادث أول فإذا كان للنفوس أول وجب أن يكون للعقول أول لأن وجود العقول يستلزم وجود النفوس فيمتنع كالعكس وحينئذ فلا يكون في العالم شيء قديم قام به حادث بل لا يكون في العالم قديم وإن لم تقم به الحوادث بل إما أن يقال حدثت فيه الحوادث بعد أن لم تكن أو ما زال يحدث شيء بعد شيء والأول يستلزم حدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا باطل كما ذكرتموه في الحجة لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح والثاني يمتنع أن يكون في الممكنات شيء قديم وهو نقيض مذهبكم
فإذا قالوا نحن ما أحلنا قيام الحوادث بالواجب لكون القديم لا تحله الحوادث فإن ذلك جائز عندنا بل لأنه لا تقوم به الصفات
قيل لهم فحينئذ سهلت القضية فإن جماهير أهل الملل من المسلمين وغيرهم بل وجمهور الفلاسفة يخالفونكم في هذا الأصل وقولكم في نفي الصفات أضعف بكثير من قول من قال القديم لا تحله الحوادث
(1/354)
ولهذا كان كثير من المسلمين كالكلابية ومن وافقهم يقولون بإثبات الصفات للواجب دون قيام الحوادث به فإذا لم يكن لكم حجة على نفي قيام الحوادث به إلا ما هو حجة لكم على نفي الصفات كانت الأدلة الدالة على بطلان قولكم كثيرة جدا
وتبين حينئذ فساد قولكم بنفي الصفات وجعل المعاني المتعددة شيئا واحدا وأن قولكم إن العاشق والمعشوق والعشق والعاقل والمعقول والعقل شيء واحد وإن العالم هو العلم والقدرة هي الإرادة من أفسد الأقوال كما قد بين فيما تقدم لما نبهنا على تلبيسكم على المسلمين وتكلمنا على ما تسمونه تركيبا وتنفون به الصفات وبينا أنه ليس تركيبا في الحقيقة وإن كان في اصطلاحكم يسمى تركيبا وأنه بتقدير موافقتكم على اصطلاحكم الفاسد لا حجة لكم على نفيه وهكذا تجابون عن حجة التأثير
وقولهم إن كان التأثير قديما لزم قدم الأثر وإن كان محدثا فإن كان المحدث جنس التأثير وقيل بجواز ذلك كان للحوادث ابتداء وبطل مذهبكم وإن قيل بامتناعه وهو أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وقد يسمى تسلسلا ودورا وإن كان المحدث التأثير في شيء معين بعد حدوث معين قبله لزم التسلسل وقيام الحوادث بالقديم
فإنه يقال لهم إما أن يكون التأثير أمرا وجوديا وإماأن لا يكون وجوديا فإن لم يكن وجوديا بطلت الحجة وهو جواب الرازي وهو جواب من يقول الخلق نفس المخلوق وإن كان وجوديا فإما أن يكون قائما بذات المؤثر او بغيره فإن كان
(1/355)
قائما بذاته لزم جواز قيام الأمور الوجودية بواجب الوجود وهذا قول مثبتة الصفات
وعلى هذا التقدير فالتسلسل في الآثار والشروط إن كان ممكنا بطلت هذه الحجة وأمكن تسلسل التأثيرات القائمة بالقديم وإن كان ممتنعا لزم جواز حدوث الحوادث عن تأثير قديم فتبطل حجتكم
وإن كان التأثير أو تمامه قائما بغيره لزم جواز التسلسل في الشروط وأن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا أمكن تسلسل التأثير فبطلت الحجة
وذلك لأن التقدير أن تمام التأثير قائم بغير المؤثر وعلى هذا التقدير فإن لم يكن التسلسل ممكنا كان هناك تأثير قديم قائم بغير ذات الله تعالى وهذا باطل لم يقل به أحد وإن قدر إمكانه أمكن حدوث الأفلاك عنه وهو المطلوب
ومما يجابون به عن حجة التأثير أن يقال أيضا التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوث الأفلاك عن تأثير مسبوق بتأثير آخر وإن كان ممتنعا لزم إما حدوث الحوادث عن تأثير قديم أو كون التأثير عدميا وعلى التقديرين يبطل قولكم
وذلك لأن الحوادث مشهودة لا بد لها من إحداث محدث وذلك الإحداث هو التأثير فإن كان عدميا بطلت الحجة وإن كان موجودا فإن كان قديما لزم حدوث الحوادث عن تأثير قديم فتبطل الحجة وإن كان التأثير محدثا والتقدير أن التسلسل ممتنع فيلزم أن يكون حدث بتأثير محدث فتبطل الحجة أيضا وهذا جواب لا مخلص لهم عنه به ينقطع شغبهم
(1/356)
وأما أن يجابوا بقول يخالف فيه أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم ويجعل خلق الله عز وجل للسماوات والأرض مبنيا على مثل هذا القول الذي هو جواب المعارضة فهذا لا يرضى به ذو عقل ولا ذو دين
بل يجب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه بخلاف ما يسلكه من يسلكه أهل الكلام الذين يزعمون أنهم يبينون العلم واليقين بالأدلة والبراهين وإنما يستفيد الناظر في كلامهم كثرة الشكوك والشبهات وهم في أنفسهم عندهم شك وشبهة فيما يقولون إنه برهان قاطع ولهذا يقول أحدهم في هذا الموضع إنه برهان قاطع وفي موضع آخر يفسد ذلك البرهان
والذين يعارضون الثابت في الكتاب والسنة بما يزعمون أنه من العقليات القاطعة إنما يعارضونه بمثل هذه الحجج الداحضة
فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقة ولا وفي بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين
ولولا أنا قد بسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع وهذا موضع تنبيه وإشارة لا موضع بسط لكنا نبسط الكلام في ذلك ولكن نبهنا على ذلك
(1/357)
وملخص ذلك في حجة التأثير الذي يسمى الخلق والإبداع والتكوين والإيجاب والإقتضاء والعلية والمؤثرية ونحو ذلك أن يقال التأثير في الحوادث إما أن يكون وجوديا أو عدميا وإذا كان وجوديا فإما أن يكون قديما أو حادثا وعلى كل تقدير فحجة الفلاسفة باطلة
أما إن كان عدميا فظاهر لأنه لا يستلزم حينئذ قدم الأثر إذ العدم لا يستلزم شيئا موجودا ولأنه إذا جاز أن يفعل الفاعل للمحدثات بعد أن لم يفعلها من غير تأثير وجودي أمكن حدوث العالم بلا تأثير وجودي كما هو قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وكثير من المعتزلة
وإن كان وجوديا فإما أن يكون قديما أو محدثا فإن كان التأثير قديما فإما أن يقال بوجوب كون الأثر متصلا بالتأثير والمكون متصلا بالتكوين وإما أن لا يقال بوجوب ذلك وإما أن يقال بوجوب المقارنة وإما أن يقال بإمكان إنفصال الأثر عن التأثير
فإن قيل بوجوب ذلك فمعلوم حينئذ بالضرورة أن في العالم حوادث فيمتنع أن يكون التأثير في كل منها قديما بل لا بد من تأثيرات حادثة للأمور الحادثة ويمتنع حينئذ أن يكون في العالم قديم لأن الأثر إنما يكون عقب التأثير والقديم لا يكن مسبوقا بغيره
وإن قيل إن الأثر يقارن المؤثر فيكون زمانهما واحدا لزم أن لا يكون في العالم شيء حادث وهو خلاف المشاهدة
(1/358)
فإن قيل بأن التأثير لم يزل في شيء بعد شيء كان كل من الآثار حادثا ولزم حدوث كل ما سوى الله وإن كان كل حادث مسبوقا بحادث
وإن قيل بل يتأخر الأثر عن التأثير القديم لزم إمكان حدوث الحوادث عن تأثير قديم كما هو قول كثير من أهل النظر وهو قول من يقول بإثبات الصفات الفعلية لله تعالى وهي صفة التخليق ويقول إنها قديمة وهو قول طوائف من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد والصوفية وأهل الكلام وغيرهم
وإن كان التأثير محدثا فلا بد له من محدث فإن قيل بجواز حدوث الحوادث بإرادة قديمة أو إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح جاز أن يحدث التأثير قائما بالمؤثر بقدرته أو بقدرته ومشيئته القديمة كما يجوز من يجوز وجود المخلوقات البائنة عنه بمجرد قدرته أو لمجرد قدرته ومشيئته القديمة
وإن قيل لا يمكن حدوث الحوادث إلا بسبب حادث كان التأثير القائم بالمؤثر محدثا وإذا كان التأثير محدثا فلا بد له من محدث وإحداث هذا التأثير تأثير وحينئذ فيكون تسلسل التأثيرات ممكنا وإذا كان ممكنا بطلت الحجة فظهر بطلانها على كل تقدير
وصاحب الأربعين وأمثاله من أهل الكلام إنما لم يجيبوا عنها بجواب قاطع لأن من جملة مقدماتها أن التسلسل ممتنع وهم يقولون بذلك والمحتج بها لا يقول بامتناع التسلسل فإن الدهرية يقولون بتسلسل الحوادث فإذا أجيبوا
(1/359)
عنها بجواب مستقيم على كل قول كان خيرا من أن يجابوا عنها بجواب لا يقول به إلا بعض طوائف أهل النظر وجمهور العقلاء يقولون إنه معلوم الفساد بالضرورة
وقد ذكر الرازي هذه الحجة في غير هذا الموضع وذكر فيها أن القول بكون التأثير أمرا وجوديا أمر معلوم بالضرورة ثم أخذ يجيب عن ذلك بمنع كونها وجودية لئلا يلزم التسلسل
ومن المعلوم أن المقدمات التي يقول المنازع إنها ضرورية لا يجاب عنها بأمر نظري بل إن كان المدعى لكونها ضرورية أهل مذهب معين يمكن أنهم تواطأوا على ذلك القول وتلقاه بعضهم عن بعض أمكن فساد دعواهم وتبين أنها ليست ضرورية وإن كان مما تقر به الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا موافقة من بعضهم لبعض كالموافقة التي تحصل في المقالات الموروثة التي تقولها الطائفة تبعا لكبيرها لم يمكن دفع مثل هذه فإنه لو دفعت الضروريات التي يقر بها أهل الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا تشاعر لم يمكن إقامة الحجة على مبطل وهذا هو السفسطة التي لا يناظر أهلها إلا بالفعل فكل من جحد القضايا الضرورية المستقرة في عقول بني آدم التي لم ينقلها بعضهم عن بعض كان سوفسطائيا
فإذا ادعى المدعي أن التأثير أمر وجودي وذلك معلوم بالضرورة لم يقل له بل هو عدمي لئلا يلزم التسلسل فإن التسلسل في الآثار فيه قولان مشهوران لنظار المسلمين وغيرهم
(1/360)
والقول بجوازه هو قول طوائف كطائفة من المتعزلة يسمون أصحاب المعاني من أصحاب معمر بن عباد الذين يقولون للخلق خلق إلى ما لا نهاية له لكن هؤلاء يثبتون تسلسلا في آن واحد وهو تسلسل في تمام التأثير وهو باطل وقول طوائف من أهل السنة والحديث كالذين يقولون إن الحركة من لوازم الحياة وكل حي متحرك والذين يقولون إنه لم يزل متكلما إذا شاء وغير هؤلاء
فإذا كان فيه قولان فإما أن يكون جائزا أو يكون العلم بامتناعه نظريا خفيا
بل الجواب القاطع يكون بوجوه قد بسطناها في غير هذا الموضع
ومنها ما ذكرناه وهو أن يقال التأثير سواء كان وجوديا أو عدميا وسواء كان التسلسل ممكنا أو ممتنعا فاحتجاجهم به على قدم العالم احتجاج باطل
أو يقال إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوثه بتأثير حادث وإن لزم التسلسل وإن كان ممتنعا لزم حدوث الحوادث بدون تسلسل التأثير وهو يبطل الحجة فالحجة باطلة على التقديرين وهذا جواب مختصر جامع
فإن الحجة مبناها على أنه لا بد للحوادث من تأثير وجودي فإن كان محدثا لزم التسلسل وهو ممتنع وإن كان قديما لزم قدم الأثر
فيقال له إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوثه عن تأثير حادث وذلك عن تأثير حادث وهلم جرا وامتناع التسلسل مقدمة من مقدمات الدليل فإذا بطلت مقدمة من مقدماته بطل وإن كان التسلسل ممتنعا لزم أن تكون الحوادث حدثت عن تأثير وجودي قديم وحينئذ فيمكن حدوث العالم بدون تسلسل الحوادث عن تأثير قديم وهو المطلوب
(1/361)
وإن شئت أدخلت المقدمة الأولى في التقدير أيضا كما تقدم التنبيه عليه حتى يظهر الجواب على كل تقدير وعلى قول كل طائفة من نظار المسلمين إذ كان منهم من يقول التأثير في المحدثات وجودي قديم ومنهم من يقول هو أمر عدمي ومنهم من يقول بتسلسل الآثار الحادثة
والدهري بنى حجته على أنه لا بد من تأثير وجودي قديم وأنه حينئذ يلزم قدم الأثر
فيجاب على كل تقدير فيقال التأثير إن كان عدميا بطلت المقدمة الأولى وجاز حدوث الحوادث بدون تأثير وجودي وإن كان وجوديا وتسلسل الحوادث ممكن أمكن حدوثه بآثار متسلسلة وبطل قولك بامتناع تسلسل الآثار وإن كان تسلسل الآثار ممتنعا لزم إما التأثير القديم وإما التأثير الحادث بالقدرة أو القدرة والمشيئة القديمة وحينئذ فالحوادث مشهودة فتكون صادرة عن تأثير قديم أو حادث وإذا جاز صدور الحوادث عن تأثير قديم أو حادث بطلت الحجة
وأصل هذا الكلام أنا نشهد حدوث الحوادث فلا بد لها من محدث هو المؤثر وإحداثه هو التأثير فالقول في إحداث هذه الحوادث والتأثير فيها كالقول في إحداث العالم والتأثير فيه
وهؤلاء الدهرية بنوا هذه الحجة على أنه لا بد من تأثير حادث فيفتقر إلى تأثير حادث كما بنوا الأولى على أنه لا بد من سبب حادث فمأخذ الحجتين من مشكاة واحدة وكلتاهما مبناها على أن التسلسل في الآثار ممتنع وعامة هؤلاء الفلاسفة يجوزون التسلسل في الآثار القائلون بقدم العالم والقائلون بحدوثه كما يجوزه طوائف من أهل الملل أو أكثر أهل الملل
(1/362)
فإذا أجيبوا على التقديرين وقيل لهم إن كان التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وتلك وإن لم يكن جائزا بطلت أيضا هذه وتلك كان هذا جوابا قاطعا
ولكن لفظ التسلسل فيه إجمال واشتباه كما في لفظ الدور فإن الدور يراد به الدور القبلي وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء ويراد به الدور المعي الإقتراني وهو جائز بصريح العقل واتفاق العقلاء ومن أطلق امتناع الدور فمراده الأول أو غالط في الإطلاق
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ بالله منه وأمر بالإنتهاء عنه وأن يقول القائل آمنت بالله ورسله
كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته وفي رواية لا يزال الناس يتساؤلون حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئا فليقل
(1/363)
آمنت بالله وفي رواية ورسوله وفي رواية لا يزالون بك يا أبا هريرة حتى يقولوا هذا الله فمن خلق الله قال فأخذ حصى بكفه فرماهم به فبينا أنا فى المسجد إذا جاءني ناس من الأعراب فقالوا يا أبا هريرة هذا الله خلق فمن خلق الله قال ثم قال قوموا قوموا صدق خل
وفي الصحيح أيضا عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله إن أمتك لا يزالون يسألون ما كذا وما كذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله
وهذا التسلسل في المؤثرات والفاعلين يقترنوا به تسلسل آخر وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير وهو نوعان تسلسل في جنس الفعل وتسلسل في الفعل المعين
فالأول مثل أن يقال لا يفعل الفاعل شيئا أصلا حتى يفعل شيئا معينا أولا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء فهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء
(1/364)
وهذا هو الذي يصح أن يجعل مقدمة في دوام الفاعلية بأن يقال كل الأمور المعتبرة في كونه فاعلا إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن حدث فيها شيء فالقول في حدوث ذلك الحادث كالقول في حدوث غيره فالأمور المعتبرة في حدوث ذلك الحادث إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن كانت محدثة لزم أن لا يحدث شيء من الأشياء حتى يحدث شيء
وهذا جمع بين النقيضين وقد يسمى هذا دورا ويسمى تسلسلا وهذا هو الذي أجاب عنه من أجاب بالمعارضة بالحوادث المشهودة
وجوابه أن يقال أتعنى بالأمور المعتبرة الأمور المعتبرة في جنس كونه فاعلا أم الأمور المعتبرة في فعل شيء معين أما الأول فلا يلزم من دوامها دوام فعل شيء من العالم وأما الثاني فيجوز أن يكون كل ما يعتبر في حدوث المعين كالفلك وغيره حادثا ولا يلزم من حدوث شرط الحادث المعين هذا التسلسل بل يلزم منه التسلسل المتعاقب في الآثار وهو أن يكون قبل ذلك الحادث حادث وقبل ذلك الحادث حادث وهذا جائز عندهم وعند أئمة المسلمين وعلى هذا فيجوز أن يكون كل ما في العالم حادثا مع التزام هذا التسلسل الذي يجوزونه
وقد يراد بالتسلسل في حدوث الحادث المعين أو في جنس الحوادث أن يكون قد حدث مع الحادث تمام مؤثره وحدث مع حدوث تمام المؤثر المؤثر وهلم جرا
وهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير
(1/365)
فقد تبين أن التسلسل إذا أريد به أن يحدث مع كل حادث حادث يقارنه يكون تمام تأثيره مع الآخر حادث وهلم جرا فهذا ممتنع وهو من جنس قول معمر في المعاني المتسلسلة وإن أريد به أن يحدث قبل كل حادث حادث وهلم جرا فهذا فيه قولان وأئمة المسلمين وأئمة الفلاسفة يجوزونه
وكما أن التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير يراد به التسلسل المتعاقب شيئا بعد شيء ويراد به التسلسل المقارن شيئا مع شيء فقولنا أيضا إن المؤثر يستلزم أثره يراد به شيئان قد يراد به أن يكون معه في الزمان كما تقوله الدهرية في قدم الأفلاك وقد يراد به أن يكون عقبه فهذا هو الإستلزام المعروف عند جمهور العقلاء وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء قديم
والناس لهم في استلزام المؤثر أثره قولان
فمن قال إن الحادث يحدث في الفاعل بدون سبب حادث فإنه يقول المؤثر التام لا يجب أن يكون أثره معه بل يجوز تراخيه ويقول إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه بمجرد قدرته التي لم تزل أو بمجرد مشيئته التي لم تزل وإن لم يحدث عند وجود الحادث سبب
والقول الثاني أن المؤثر التام يستلزم أثره لكن في معنى هذا الإستلزام قولين
(1/366)
أحدهما أن يكون معه بحيث يكون زمان الأثر المعين زمان المؤثر فهذا هو الذي تقوله المتفلسفة وهو معلوم الفساد بصريح العقل عند جمهور العقلاء
والثاني أن يكون الأثر عقب تمام المؤثر وهذا يقر به جمهور العقلاء وهو يستلزم أن لا يكون في العالم شيء قديم بل كل ما فعله القديم الواجب بنفسه فهو محدث
وإن قيل إنه لم يزل فعالا وإن قيل بدوام فاعليته فذلك لا يناقض حدوث كل ما سواه بل هو مستلزم لحدوث كل ما سواه فإن كل مفعول فهو محدث فكل ما سواه مفعول فهو محدث مسبوق بالعدم فإن المسبوق بغيره سبقا زمانيا لا يكون قديما والأثر المتعقب لمؤثره الذي زمانه عقب زمان تمام مؤثره ليس مقارنا له في الزمان بل زمنه متعقب لزمان تمام التأثير كتقدم بعض أجزاء الزمان على بعض وليس في أجزاء الزمان شيء قديم وإن كان جنسه قديما بل كل جزء من الزمان مسبوق بآخر فليس من التأثيرات المعينة تأثير قديم كما ليس من أجزاء الزمان جزء قديم
فمن تدبر هذه الحقائق وتبين له ما فيها من الإشتباه والإلتباس تبين له محارات أكابر النظار في هذه المهامة التي تحار فيها الأبصار والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
(1/367)
وحقيقة الأمر أن هؤلاء الفلاسفة بنوا عمدتهم في قدم العالم على مقدمتين إحداهما أن الترجيح لا بد له من مرجح تام يجب به
والثانية أنه لو حدث الترجيح للزم التسلسل وهو باطل
وهم متناقضون قائلون بنقيض هاتين المقدمتين
أما جواز التسلسل فإن أرادوا به التسلسل المتعاقب في الآثار شيئا بعد شيء فهم يقولون بجواز ذلك وحينئذ فلا يمتنع أن يكون كل ما سوى الله محدثا كائنا بعد أن لم يكن كالفلك وغيره وإن كان حدوثه موقوفا على سبب حادث قبله وحدوث ذلك السبب موقوف على سبب حادث قبله
وإن أرادوا التسلسل المقترن وهو أنه لو حدث حادث للزم أن يحدث معه تأثيره ومع حدوث تمام تأثيره يحدث تمام تأثير المؤثر فهذا باطل بصريح العقل وهم يوافقون على امتناعه
وإن عنوا بالتسلسل أنه لو حدث مرجح ما للزم أن لا يحدث شيء حتى يحدث شيء فهذا متناقض وهو ممتنع أيضا
فإذا قال القائل لو حدث سبب يوجب ترجيح جنس الفعل للزم هذا التسلسل فهو صادق ولكن هذا يفيد أنه لا يحدث مرجح يوجب ترجيح الفعل بل لا يزال جنس الفعل بل لا يزال جنس الفعل موجودا فهذا يسلمه لهم أئمة المسلمين
(1/368)
لكن ليس في هذا ما يقتضي صحة قولهم بقدم شيء من العالم بل هذا يقتضي حدوث كل ما سوى الله فإنه إذا كان جنس الفعل لم يزل لزم أنه لا تزال المفعولات تحدث شيئا بعد شيء وكل مفعول محدث مسبوق بعدم نفسه ولكن هؤلاء ظنوا أن المفعول يجب أن يقارن الفاعل في الزمان ويكون معه من غير أن يتقدم الفاعل على مفعوله بزمان
وهذا غلط بين لمن تصوره وهو معلوم الفساد بالعقل عند عامة العقلاء ولهذا لم يكن في العقلاء من قال إن السماوات والأرض قديمة أزلية إلا طائفة قليلة ولم يكن في العالم من قال إنها مفعولة وهي قديمة إلا شرذمة من هذه الطائفة الذين خالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول
وقولهم بأن المؤثر التام الأزلي يستلزم أثره بهذا الإعتبار الذي زعموه أي يكون معه لا يتقدم المؤثر على أثره بالزمان يوجب أن لا يحدث في العالم شيء وهو خلاف المشاهدة فقد قالوا بما يخالف الحس والعقل وأخبار الأنبياء وهذه هي طرق العلم
وإذن كان الممتنع إنما هو جواز التسلسل في أصل التأثير والتسلسل المقارن مطلقا
وأما التسلسل في الآثار شيئا بعد شيء فهم مصرحون به معترفون بجوازه
(1/369)
وقدم العالم ليس لازما مستلزما لجواز التسلسل وإنما خصوا به المعتزلة ومن اتبعهم من الكلابية وغيرهم الذين وافقوهم على نفي الأفعال القائمة به أو نفي الصفات والأفعال فقالوا لهم أنتم قدرتم في الأزل ذاتا معطلة عن الفعل فيمتنع أن يحدث عنها شيء لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح
فالطريق الذي به ينقطع هؤلاء الفلاسفة أن يقال إن كان التسلسل في الآثار شيئا بعد شيء ممتنعا بطلت الحجة وإن كان جائزا أمكن أن يكون حدوث كل شيء من العالم مبنيا على حوادث قبله إما معان حادثه شيئا بعد شيء في غير ذات الله تعالى وإما أمور قائمة بذات الله تعالى كما يقوله أهل الحديث وأهل الإثبات الذين يقولون لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء وإما غير ذلك كما قاله الأرموي وغيره
وبالجملة فالتقديرات في تسلسل الحوادث متعددة ومهما قدر منها كان أسهل من القول بأن السماوات والأرض أزلية وأن الله لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وهؤلاء الفلاسفة إنما يبحثون بمجرد عقولهم فليس في العقل ما يوجب ترجيح قدم الأفلاك على سائر التقديرات ومن يقر بالسمع كمن يقر بالشرائع منهم فأي تقدير قدره كان أقرب إلى الشرع من قولهم بقدم الأفلاك
(1/370)
وأما المقدمة الثانية وهي الترجيح بلا مرجح فإنهم ألزموا بها القائلين بالحدوث بدون سبب حادث وهي لهم ألزم فإن الحوادث المتجددة تقتضي تجدد أسباب حادثة فالحدوث أمر ضروري على كل تقدير والذات القديمة المستلزمة لموجبها إن لم يتوقف حدوث الحوادث عنها على غيرها لزم مقارنة الحوادث لها في الأزل وهذا باطل بالضرورة والحس وإن توقف على غيرها فذلك الغير إن كان قديما أزليا كان معها فيلزم مقارنة الحوادث لها وإن كان حادثا فالقول في سبب حدوثه كالقول في غيره من الحوادث
فهؤلاء الفلاسفة أنكروا على المتكلمين نفاة الأفعال القائمة به أنهم أثبتوا حدوث الحوادث بدون سبب حادث مع كون الفاعل موصوفا بصفات الكمال وهم أثبتوا حدوث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا ذات موصوفة بصفات الكمال بل حقيقة قولهم أن الحوادث تحدث بدون محدث فاعل إذ كانوا مصرحين بأن العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها فلا يبقى للحوادث فاعل أصلا لا هي ولا غيرها
فعلم أن قولهم أعظم تناقضا من قول المعتزلة ونحوهم وأن ما ذكروه من الحجة في قدم العالم هو على حدوثه أدل منه على قدمه باعتبار كل واحدة من مقدمتي حجتهم
(1/371)
ومن تدبر هذا وفهمه تبين له أن الذين كذبوا بآيات الله صم وبكم في الظلمات وأن هؤلاء وأمثالهم من أهل النار كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } سورة الملك 10 وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن نبين أن أجوبة نفاة الأفعال الإختيارية القائمة بذات الله تعالى لهؤلاء الدهرية أجوبة ضعيفة كما بين ذلك وبهذا استطالت الفلاسفة والملاحدة وغيرهم عليهم
فالذين سلكوا هذه المناظرة لا أعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه ولا أعطوا الجهاد لأعداء الله تعالى حقه فلا كملوا الإيمان ولا الجهاد
وقد قال الله تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } سورة الحجرات 15 وقال تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } سورة آل عمران 81 قال ابن عباس ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن
(1/372)
بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه
فقد أوجب الله تعالى على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه ومن الإيمان به تصديقه في كل ما أخبر به ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته
وهؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة الذين ذمهم السلف والأئمة لا قاموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد بل أخذوا يناظرون أقواما من الكفار وأهل البدع الذين هم أبعد عن السنة منهم بطريق لا يتم إلا برد بعض ما جاء به الرسول وهي لا تقطع أولئك الكفار بالمعقول فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان ولا جاهدوا الكفار حق الجهاد وأخذوا يقولون أنه لا يمكن الإيمان بالرسول ولا جهاد الكفار والرد على أهل الإلحاد والبدع إلا بما سلكناه من المعقولات وإن ما عارض هذه المعقولات من السمعيات يجب رده تكذيبا أو تأويلا أو تفويضا لأنها أصل السمعيات
وإذا حقق الأمر عليهم وجد الأمر بالعكس وأنه لا يتم الإيمان بالرسول والجهاد لأعدائه إلا بالمعقول الصريح المناقض لما ادعوه من العقليات وتبين
(1/373)
أن المعقول الصريح مطابق لما جاء به الرسول لا يناقضه ولا يعارضه وأنه بذلك تبطل حجج الملاحدة وينقطع الكفار فتحصل مطابقة العقل للسمع وانتصار أهل العلم والإيمان على أهل الضلال والإلحاد ويحصل بذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول واتباع صريح المعقول والتمييز بين البينات والشبهات
وقد كنت قديما ذكرت في بعض كلامي أني تدبرت عامة ما يحتج به النفاة من النصوص فوجدتها على نقيض قولهم أدل منها على قولهم كاحتجاجهم على نفي الرؤية بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } سورة الأنعام 103 فبينت أن الإدراك هو الإحاطة لا الرؤية وأن هذه الآية تدل على إثبات الرؤية أعظم من دلالتها على نفيها
وكذلك احتجاجهم على أن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة بقوله تعالى { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه } سورة الأنبياء 2 بينت أن دلالة هذه الآية على نقيض قولهم أقوى فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث وبعضه ليس بمحدث وهو ضد قولهم
والحدوث في لغة العرب العامة ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل الكلام فإن العرب يسمون ما تجدد حادثا وما تقدم على غيره قديما وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى { كالعرجون القديم } سورة يس 39 وقوله تعالى عن إخوة يوسف { تالله إنك لفي ضلالك القديم } سورة يوسف 95 وقوله تعالى { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم } سورة الأحقاف 11
(1/374)
وقوله تعالى عن إبراهيم { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون } سورة الشعراء 75 76 وكذلك استدلالهم بقوله الأحد الصمد على نفي علوه على الخلق وأمثال ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع
ثم تبين لي بعد ذلك مع هذا أن المعقولات في هذا كالسمعيات وأن عامة ما يحتج به النفاة من المعقولات هي أيضا على نقيض قولهم أدل منها على قولهم كما يستدلون به على نفي الصفات ونفي الأفعال وكما يستدل به الفلاسفة على قدم العالم ونحو ذلك والمقصود هنا التنبيه وإلا فالبسط له موضع آخر
وعمدة من نفى الأفعال والصفات من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم على هذه الحجة التي زعموا أنهم يقررون بها حدوث العالم وإثبات الصانع فجعلوا فجعلوا ما قامت به الصفات أو الأفعال محدثا حتى يستدلوا بذلك على أن العالم محدث ويلزم من ذلك أن لا يقوم بالصانع لا الصفات ولا الأفعال
وإذا تدبر العاقل الفاضل تبين له إثبات الصانع وإحداثه للمحدثات لا يمكن إلا بإثبات صفاته وأفعاله ولا تنقطع الدهرية من الفلاسفة وغيرهم قطعا تاما عقليا لا حيلة لهم فيه إلا على طريقة السلف أهل الإثبات للأسماء والأفعال والصفات وأما من نفى الأفعال أو نفى الصفات فإن الفلاسفة الدهرية تأخذ بخناقه ويبقى حائرا شاكا مرتابا مذبذبا بين أهل الملل المؤمنين بالله ورسوله وبين هؤلاء الملاحدة كما قال تعالى في المنافقين { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } سورة النساء 143
(1/375)
وهذا موجود في كلام عامة هؤلاء الذين في كلامهم سنة وبدعة ولا ريب أنهم يردون على الفلاسفة وغيرهم أمورا ولكن الفلاسفة ترد عليهم أمورا وهم ينتصرون في غالب الأمر بالحجة العقلية على الفلاسفة أكثر مما تنتصر الفلاسفة بالحجة العقلية عليهم ولكن قد تقول الفلاسفة أمورا باطلة من جنس العقليات فيوافقونهم عليها فيستطيلون بها عليهم وقد تقول الفلاسفة أمورا صحيحة موافقة للشريعة فيردونها عليهم وهم لا يصيبون الصدق والعدل إلا إذا وافقوا الشريعة فإذا خالفوها كان غايتهم أن يقابلوا الفاسد بالفاسد والباطل بالباطل فتبقى الفلاسفة العقلاء في شك ويبقى العقلاء منهم في شك لا حصل لهؤلاء نور الهدى ولا لهؤلاء
وإنما يحصل النور والهدى بأن يقابل الفاسد بالصالح والباطل بالحق والبدعة بالسنة والضلال بالهدى والكذب بالصدق وبذلك يتبين أن الأدلة الصحيحة لا تعارض بحال وأن المعقول الصريح مطابق للمنقول الصحيح
وقد رأيت من هذا عجائب فقل أن رأيت حجة عقلية هائلة لمن عارض الشريعة قد انقدح لي وجه فسادها وطريق حلها إلا رأيت بعد ذلك من أئمة تلك الطائفة من قد تفطن لفسادها وبينه
(1/376)
وذلك لأن الله خلق عباده على الفطرة والعقول السليمة مفطورة على معرفة الحق لولا المعارضات ولهذا أذكر من كلام رؤوس الطوائف في العقليات ما يبين ذلك لا لأنا محتاجون في معرفتنا إلى ذلك لكن ليعلم أن أئمة الطوائف معترفون بفساد هذه القضايا التي يدعى إخوانهم أنها قطعية مع مخالفتها للشريعة ولأن النفوس إذا علمت أن ذلك القول قاله من هو من أئمة المخالفين استأنست بذلك واطمأنت به ولأن ذلك يبين أن تلك المسألة فيها نزاع بين تلك الطائفة فتنحل عقد الإصرار والتصميم على التقليد
فإن عامة الطوائف وإن ادعوا العقليات فجمهورهم مقلدون لرؤوسهم فإذا رأوا الرؤوس قد تنازعوا واعترفوا بالحق انحلت عقدة الإصرار على التقليد
وقد رأيت الأثير الأبهري وهو ممن يصفه هؤلاء المتأخرون بالحذق في الفلسفة والنظر ويقدمونه على الأرموي ويقولون الأصبهاني صاحب القواعد هو وغيره
(1/377)
تلامذته رأيته قد أبطل حجة هؤلاء المتفلسفة على قدم العالم بما يقرر ما ذكرته من إبطالها وكان ما أجاب به عن حجتهم أولى بدين المسلمين كما ذكره الأرموي مع أنه ينتصر للفلاسفة أكثر من غيره
فقال في فصل ذكر فيه ما يصح من مذاهب الحكماء وما لا يصح
قال ثم قالوا إن الواجب لذاته يجب أن يكون واجبا من جميع جهاته أي يجب أن تكون جميع صفاته لازمة لذاته لأن ذاته إما أن تكون كافية فيما له من الصفات وجودية كانت أو عدمية أو لا تكون والثاني باطل وإلا لتوقف شيء من صفاته على غيره وذاته متوقفة على وجود تلك الصفة أو عدمها فذاته تتوقف على غيره وهو محال
قال وهذا ضعيف لأنا نقول لا نسلم أن ذاته تتوقف على وجود تلك الصفة أو عدمها بل ذاته تستلزم وجود تلك الصفة أو عدمها ولا يلزم من ذلك توقف ذاته إما على وجودها أو عدمها
قال ثم قالوا إن الباري تعالى يستلزم جملة ما يتوقف عليه وجود العالم فيلزم من دوامه أزلية العالم وهو ممتنع لإحتمال أن يكون له إرادات حادثة كل واحدة منها تستند إلى الأخرى ثم تنتهي في جانب النزول إلى إرادة تقتضي حدوث العالم فلزم حدوثه
(1/378)
قلت فهذا الجواب خير من الذي ذكره الأرموي وذكر أنه باهر والأرموي نقله من المطالب العالية للرازي فإنه ذكره وقال إنه هو الجواب الباهر ووافقه عليه القشيري المصري فهذا أصح في الشرع والعقل
وأما الشرع فإن هذا فيه قول بحدوث كل ما سوى الله وذلك القول فيه إثبات عقول ونفوس أزلية مع الله تعالى والفرق بين القولين معلوم عند أهل الملل والشرائع
وأما العقل فإن قول الأرموي فيه إثبات أمور ممكنة يحدث فيها حوادث متعاقبة من غير أمر يتجدد من الواجب وهذا يقتضي حدوث الحوادث بلا محدث فإن الواجب بنفسه إذا كان علة تامة مستلزمة لمعلولها لم يجز تأخر شيء من معلوله عنه بخلاف ما ذكره الأبهري فإنه ليس فيه إلا أن الواجب مستلزم لأثاره شيئا بعد شيء وهذا متفق عليه بينهم فإنه ليس فيه إلا تسلسل الآثار والأبهري
(1/379)
والأرموي وغيرهما يقولون بتسلسل الآثار بل قول أولئك يقتضي أن يكون الفلك هو رب ما دونه وهو المحدث للحوادث بأفعاله القائمة به المتعاقبة وقول الأبهري يقتضي أن يكون الله هو رب العالمين وهو محدث لكل شيء مما يقوم به من الأفعال المتعاقبة
ولا ريب أن قول أولئك فاسد في العقل كما هو فاسد في الشرع فإن الفلك إذا كان ممكنا فجميع صفاته وحركاته ممكنة ولا يترجح شيء من ذلك إلا بوجود المرجح التام فالمرجح التام إن كان موجودا في الأزل لزم وجود مقتضاه في الأزل
ثم ذلك المرجح إن كان في نفسه علة تامة لمعلوله بحيث لا يتجدد به ولا منه شيء امتنع أن يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن صادرا لا في الفلك ولا في غير الفلك لا دائم ولا منقطع وامتنع أن تكون حركة الفلك الدائمة صادرة عن هذا لا سيما مع اختلاف الحركات والمتحركات وأنه بسيط عندهم من كل وجه وهو في الأزل علة تامة فيمتنع أن تصدر عنه المختلفات والمتجددات كما أن جميع المتحركات الممكنات لا تدوم حركتها إلا بدوام السبب المحرك المنفصل عنها وهذا لأن حال الفاعل إذا كانت حين أحدث هذا المتأخر كحاله حين أحدث ذلك المتقدم امتنع تخصيص هذا الحال بالفصل دون هذه كما يقولون هم ذلك
وإن قالوا إنما كان هذا لأن حركة الفلك لم يمكن وجودها كلها أو لم يمكن وجود الحوادث كلها في الأزل فتأخر فيضه لتأخر استعداد القوابل
(1/380)
قيل هذا إنما يمكن أن يقال إذا كان القابل ليس هو صادرا عن الفاعل مثل القوابل لأثر الشمس فإن أثر الشمس فيها مختلف بإختلاف تلك القوابل فتسود وجه القصار وتبيض الثوب وترطب الفاكهة تارة وتجففها أخرى ولهذا إنما قال سلفهم هذا في العقل الفعال فقالوا إنه يتأخر فيضه على القوابل لتأخر استعداد القوابل بسبب الحركات الفلكية فالموجب لاستعداد القوابل ليس هو الموجب للفيض عندهم
وهذا قالوه لإعتقادهم وجود هذا العقل وهذا لا يستقيم في المبدع لكل شيء الذي منه الإعداد ومنه الإمداد لا يتوقف فعله على غيره
فأما إذا كان الفاعل هو الفاعل للقابل والمقبول عاد السؤال جذعا وقيل فلم جعل القوابل تقبل على ذلك الوجه دون غيره ولم جعل الحركة الفلكية على هذا الوجه دون غيره مع أن الممكن ليس له من نفسه شيء أصلا لا طبيعة ولا غيرها بل الموجب هو الفاعل لطبيعته وحقيقته وليس له حقيقة في الخارج مباينة للموجود في الخارج بل البارئ هو المبدع للحقائق كلها
ومن قال إن للمكن ماهية مغايرة في الخارج للأعيان الموجودة في الخارج
أو قال إنه شيء ثابت في القدم فلا يمكنه أن يقول إن تلك المعدومات أوجبت قدرة الفاعل على بعضها دون بعض مع أنها كلها ممكنة إلا لأمر آخر مثل أن يقال ما يمكن غير هذا وهذا هو الأصلح أو الأكمل والأفضل
(1/381)
وبهذا تظهر حجة الله تعالى في قوله { يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } سورة الرعد 4 فإنه دل بهذا على تفضيله بعض المخلوقات على بعض مع استوائها فيما تساوت فيه من الأسباب
كما قال في الآية الأخرى { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء } سورة فاطر 27 28
فإذا قال قائل إنما تفاضلت واختلفت لأختلاف القوابل وأسباب أخرى من الهواء والتراب والحب والنوى
قيل له وتلك القوابل والأسباب هي أيضا من فعله ليست من فعل غيره فهو الذي أعد القوابل وهو الذى أمد كل شيء بحسب ما أعده له وحينئذ فقد تبين أنه خلق الأمور المختلفة ومن كل شيء زوجين فبطل أن يكون واحدا بسيطا لا يصدر عنه إلا واحد لازم له لا يصدر عنه غيره ولا يمكنه فعل شيء سواه فإن فعل المختلفات الحادثات يدل على أنه فاعل بقدرته ومشيئته ولهذا قال { إنما يخشى الله من عباده العلماء } سورة فاطر 28
قال طائفة من السلف العلماء به فإن من جعله غير قادر على أحداث فعل ولا تغيير شيء من العالم بل لزمه ما لا يمكنه مفارقته لم يخشه إنما يخشى الكواكب والأفلاك التي تفعل الآثار الأرضية عنده أو ما كان نحو ذلك ولهذا عبدها هؤلاء من دون الله ولهذا كان دعاؤهم لها وخشيتهم منها
(1/382)
ولهذا تبرأ الخليل من مخافتها لما ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام وقال { لا أحب الآفلين } سورة الأنعام 76 قال تعالى { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } سورة الأنعام 80 81 وقال تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } سورة الأنعام 82 فإن المشركين يخافون المخلوقات من الكواكب وغيرها وهم قد أشركوا بالله ولا يخافون الله إذ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وإنما يخشاه من عباده العلماء الذين يعلمون أنه على كل شيء قدير وأنه بكل شيء عليم فهؤلاء الدهرية الفلاسفة وأمثالهم لا يخافون الله تعالى
فإن قال قائل فهم يقرون بالعبادات ويقولون ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات لا سيما الإسلاميون منهم فإنهم يعظمون الأدعية والعبادات
قيل هم لا يقرون بأن الله نفسه يحدث شيئا بسبب الدعاء أو غيره وإنما الحوادث كلها عندهم بسبب حركة الفلك لا بشيء آخر أصلا وهم إذا قالوا إن النفوس تقوى بالدعاء والعبادة والتجرد والتصفية فتؤثر في هيولي العالم كان هذا عندهم بمنزلة تأثير الأكل والشرب في الري والشبع لا يستلزم ذلك عندهم
(1/383)
أمرا يحدث من عند الله تعالى فإنه لو حدث منه أمر لزم تغيره عندهم وبطل أصل قولهم
وهم قد يخافون ما يحدث من الحوادث بسبب أعمالهم لاقتضاء طبيعة الوجود ذلك كما يقولون إن أكل المضرات يورث المرض أو الموت والسبب لكل الحوادث حركة الفلك وإن كانت الحوادث لا تحدث بمجرد الحركة بل بالحركة وغيرها أما لكون الحركة توجب امتزاجا تستعد به الممتزجات لما يفيض عليها من العقل الفعال أو لغير ذلك فهم مطالبون بالموجب لحركة الفلك وحدوث جميع الحوادث إن كان الموجب لها علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من معلولها امتنع أن تكون حركات الممكنات وما فيها من الحوادث صادرة عن هذه العلة لأن ذلك يقتضي تأخر كثير من معلولاتها مع ما فيها من الإختلاف العظيم المنافي لبساطتها التي يسمونها الوحدة
وقد بين في غير هذا الموضع أن الواحد البسيط الذي يقدرونه لا حقيقة له في الخارج أصلا
وإذا قيل القوابل المفعولة الممكنة المبدعة اختلفت وتأخر استعدادها مع كون الفاعل لها لم يزل ولا يزال على حال واحدة كان امتناع هذا ظاهرا
بخلاف ما إذا قيل إن نفس الفاعل موصوف بصفات متنوعة وأفعال متنوعة وله تعالى شئون وأحوال كل يوم هو في شأن فإنه يكون تنوع المفعولات وحدوث الحادثات لتنوع أحوال الفاعل وأنه يحدث من أمره ما شاء
(1/384)
وإذا طلب الفرق بينهما قيل أحواله من مقتضيات ذاته الواجبة الوجود بنفسه التي لا يتوقف شيء من أحوالها على أمر مستغن عنها ولا يحتاج إليه وإذا كان واجبا بنفسه فما كان من لوازمه كان أيضا واجبا لا يمكن عدمه بخلاف الممكن الذي ليس له من نفسه وجود
فإنه إذا قيل اختلف فعل الفاعل وتأخر لاختلاف القابل وحدوثه
قيل فهو أيضا الفاعل للقابل المختلف الحادث فكيف تصدر المختلفات الحادثات عن فاعل لا اختلاف في فعله ولا حدوث لشيء من أفعاله
والأبهري قد أبطل حجة المعتزلة والأشعرية ونحوهم على حدوث الأجسام وأراد أن يعتذر عن الفلاسفة فقال
فصل في ذكر الطرائق التي سلكها الإمام يعنى أبا عبدالله الرازي في كتبه لتقرير مذاهب المتكلمين وكيفية الإعتراض عليها
أما الطريقة التي سلكها لحدوث العالم فمن وجهين أحدهما أن العالم ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو حادث لأن تأثير المؤثر فيه إما أن يكون حال الوجود أو حال العدم أو لا حال الوجود ولا حال العدم والأول باطل لأن التأثير حال الوجود يكون إيجادا للموجود وتحصيلا للحاصل وهو محال والثاني محال لأن التأثير حال العدم يكون جمعا بين الوجود والعدم وهو محال فيلزم أن يكون لا حال الوجود ولا حال العدم فيكون حال الحدوث فكل ما له مؤثر فهو حادث
الثاني أن الأجسام لو كانت أزلية فإما أن تكون متحركة في الأزل أو ساكنة والقسمان باطلان
أما الأول فلوجوه
(1/385)
أحدها أنها لو كانت متحركة في الأزل للزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية في شيء واحد لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير والأزل يقتضي عدم المسبوقية بالغير فيلزم الجمع ضرورة
الثاني أنها لو كانت متحركة في الأزل لكانت بحال لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وإلا لكان الحادث أزليا هذا خلف
الثالث إنها لو كانت متحركة في الأزل لكانت الحركة اليومية موقوفة على انقضاء ما لا نهاية له وهو محال والموقوف على المحال محال
الرابع أنها لو كانت متحركة في الأزل لحصلت جملتان إحداهما من الحركة اليومية إلى غير النهاية والثانية من الحركة التي وقعت من الأمس إلى غير النهاية
فالجملة الثانية إن صدق عليها أنها لو أطبقت على الأولى انطبقت عليها كان الزائد مثل الناقص وإن لم تصدق كانت متناهية فالجملة الأولى أيضا متناهية وقد فرضت غير متناهية هذا خلف
وأما الثاني فلأنها لو كانت ساكنة في الأزل امتنع عليها الحركة لأن المؤثر في السكون إما أن يكون أزليا أو حادثا لا جائز أن يكون حادثا وإلا لكان السكون حادثا وقد فرض أزليا هذا خلف فتعين أن يكون أزليا فيلزم من دوامه دوام السكون فتمتنع الحركة على الأجسام وأنها ممكنة عليها لأن
(1/386)
الأجسام إما أن تكون بسيطة أو مركبة فإن كانت بسيطة فيصح على أحد جوانبها ما يصح على الآخر فيصح أن يصير يمينها يسارا ويسارها يمينا فيصح عليها الحركة وإن كانت مركبة كانت مجتمعة من البسائط فكانت بسائطها قابلة للإجتماع والإفتراق وكانت قابلة للحركة هذا خلف
قال الأبهري الإعتراض قوله بأن التأثير في الممكن إما أن يكون حالة الوجود أو حالة العدم أو لا حالة الوجود ولا حالة العدم
قلنا لم لا يجوز أن يكون حال الوجود وقوله التأثير حال الوجود إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل
قلنا لا نسلم وإنما يكون كذلك أن لو أعطى الفاعل وجودا ثانيا وليس كذلك فإن التأثير عبارة عن كون الأثر موجودا بوجود المؤثر وجاز أن يكون الأثر موجودا دائما لوجود المؤثر والذي يدل على حصول التأثير حالة الوجود أنه لو لم يكن كذلك لكان التأثير حالة العدم لاستحالة الواسطة بين الوجود والعدم والثاني كاذب لأن التأثير حالة العدم يقتضي الجمع بين الوجود والعدم وهو محال
قال أما قوله الأجسام لو كانت أزلية فإما أن تكون متحركة أو ساكنة في الأزل
قلنا لم لا يجوز أن تكون متحركة
قوله يلزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير في شيء واحد
قلنا لا نسلم وهذا لأن المسبوق بالغير هو الحركة وغير المسبوق بالغير هو الجسم
(1/387)
فإن قال إذا كانت الحركة أزلية كانت الحركة من حيث هي هي غير مسبوقة بالغير لكن الحركة من حيث هي هي مسبوقة بغير لأنها تغير وانتقال فتقتضي المسبوقية بالغير فيلزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير في الحركة
قلنا إذا ادعيتم ذلك فنقول لا نسلم أن الجسم لو كان أزليا لكانت الحركة من حيث هي هي حركة أزلية ولم لا يجوز أن يكون الجسم أزليا ويصدق عليه أنه متحرك دائما بأن تتعاقب عليه الحركات المعينة ولا يصدق على الحركات الموجودة في الأعيان أنها أزلية ضرورة اتصاف كل واحد منها بكونها مسبوقة بالغير
قلت هذا مضمونه ما نبه عليه في غير هذا الموضع أن حدوث كل من الأعيان لا يستلزم حدوث النوع الذي لم يزل ولا يزال
وأما قوله لو كانت الأجسام متحركة لكانت لا تخلو عن الحوادث قلنا نعم ولكن لم قلتم بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
قوله لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليا
قلنا لا نسلم وإنما يلزم ذلك لو كان شيء من الحركات بعينها لازما للجسم وليس كذلك بل قبل كل حركة حركة لا إلى أول إلى ما لا نهاية
قلت هذا من نمط الذي قبله فإن الأزلي اللازم هو نوع الحادث لا عين الحادث
(1/388)
قوله لو كانت حادثة في الأزل لكان الحادث اليومي موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له
قلنا لا نسلم بل يكون الحادث اليومي مسبوقا بحوادث لا أول لها ولم قلتم إن ذلك غير جائز
قلت مضمونه أنه يكون موقوفا على انقضاء ما لا ابتداء له ولا أول له وهو لا نهاية له من الطرف الأول لكن له نهاية من الطرف الآخر
قوله لو كانت متحركة في الأزل لحصلت جملتان إحدهما من الحركة اليومية والثانية من الحركة التي وقعت في الأمس
قلنا لا نسلم وإنما يلزم ذلك لو كانت الحركات مجتمعة في الوجود
قلت هذا مضمونه أن التطبيق لا يكون إلا بين موجودين ولكن يقال التطبيق في الخارج لا يكون إلا بين موجودين ولكن يمكن تقدير التطبيق بين معدومين لا سيما إذا كانا قد دخلا جميعا في الوجود فالمطبق بينهما إما أن يكونا مقدرين في الأذهان لا يوجد في الأعيان بحال كالأعداد المجردة عن المعدودات أو معدومين منتظرين كالمستقبلات أو معدومين ماضيين كالحوادث المتقدمة أو موجودين كالمقادير الموجودة والمعدودات الموجودة
ويجاب عن هذا بجواب ثان وهو أن الجملتين اللتين طبقت إحداهما على الأخرى مع التفاوت في أحد الطرفين وعدم التناهي في الآخر هما متفاضلتان
(1/389)
في الطرف الواحد وتنطبق إحداهما على الأخرى في الطرف الآخر فلا يصدق ثبوت مطابقة إحداهما للأخرى مطلقا ولا نفي المطابقة مطلقا بل يصدق ثبوت الإنطباق من أحد الطرقين وانتفاؤه من الآخر وحينئذ فلا يكون الزائد مثل الناقص ولا يكونان متناهيين
وإذا قال القائل نحن نطبق بينهما من الطرف الذي يلينا فإن استويا لزم أن يكون الزائد مثل الناقص وأن يكون وجود الزيادة كعدمها والشيء مع عدم غيره كهو مع وجوده وإن تفاضلا لزم أن يكون ما لا يتناهى بعضه متفاضلا
قيل التطبيق بينهما من الجهة المتناهية مع تفاضلهما فيها ممتنع وفرض الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع فإن الحوادث الماضية من أمس إذا قدرت منطبقة على الحوادث الماضية في اليوم كان هذا التطبيق ممتنعا فإنه يمتنع أن يطابق هذا هذا فإن الجملتين متفاضلتان ومع التفاضل يمتنع التطبيق المستلزمة للمعادلة والإستواء
وإذا قال القائل أنا أقدر المطابقة في الذهن وإن كانت ممتنعة في الخارج
قيل له فقد قدرت في الذهن شيئين مع جعلك أحدهما أزيد من الآخر من الطرف الواحد ومساويا له من الطرف الآخر ومعلوم أنك إذا قدرت هذا لم يكن تفاضلهما ممتنعا بل كان الواجب هو التفاضل ودليلك مبنى على تقدير التطبيق فيلزم التفاضل فيما لا يتناهى وكل من المقدمتين باطل فإن قدرت تطبيقها صحيحا عدليا فهو باطل وإن قدرته وإن كان ممتنعا لم يكن التفاضل
(1/390)
في ذاك ممتنعا فدعواك أن التفاضل ممتنع فيما قدرته متفاضلا ممنوع بل مع تقدير التفاضل يجب التفاضل لكن يجب التفاضل من جهة التفاضل ولا يلزم التفاضل من الجهة الأخرى
قال الأبهري وإن سلمنا أنه لا يجوز أن تكون متحركة في الأزل ولكن لم لا يجوز أن تكون ساكنة
قوله بأن المؤثر في السكون إما أن يكون حادثا أو أزليا
قلنا فلم قلتم بأنه لو كان أزليا للزم دوام السكون ولم لا يجوز أن يكون تأثيره فيه موقوفا على شرط عدمي أزلمي والعدمي الأزلي جائز الزوال فإذا زال الشرط زال السكون
قلت لقائل أن يقول العرض الأزلي إنما يزول بسبب حادث والقول فيه كالقول في غيره بل لا يزول إلا بسبب حادث فيحتاج إلى حدوث سبب يحدث ليزول السكون وهو يقول المقتضى لزوال السكون كالمقتضى لحدوث العالم وهو الإرادة المسبوقة بإرادة لا إلى أول لكن هذا التقدير يصحح القول بحدوث العالم
فيقال إن كان الجسم أزليا وأمكن حدوث الحركة فيه كان المقتضى لحركته مجوزا لحدوث العالم لكن هذا يبطل حجة الفلاسفة ولا يصحح حجية أن الجسم الأزلي يمتنع تحريكه فيما بعد
(1/391)
وأيضا فإن ههنا بحثا آخر وهو أن السكون هل هو أمر ثبوتي مضاد للحركة أو هو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك وفيه قولان معروفان فإذا كان عدميا لم يفتقر إلى سبب
قال وأما الطريقة التي يسلكها في كون الباري فاعلا بالإختيار فمن وجهين
أحدهما أنه لو كان موجبا بالذات وجب أن لا ينفك عنه العالم فيلزم إما قدم العالم وإما حدوث الباري تعالى
الثاني أنه لو كان موجبا بالذات لما حصل تغير في العالم لأنه يلزم من دوامه دوام معلوله وإلا كان ترجيحا بلا مرجح ويلزم من دوام معلوله دوام معلول معلوله وهكذا إلى أن يلزم دوام جميع المعلولات
قال الأبهري الإعتراض أما الوجه الأول فلا نسلم أن القدم منتف وأما الحجة التي ذكرها فقد مر ضعفها وأما الثاني فلا نسلم أنه لو كان موجبا بالذات للزم دوام معلولاته وإنما يلزم ذلك أن لو كان جميع معلولاته قابلة للدوام وهذا لأن من جملة معلولاته الحركة وهي غير قابلة للبقاء
ولقائل أن يقول اعتراض الأبهري هنا ضعيف
أما الأول فيقال هب أن ما ذكره على انتفاء القدم ضعيف لكن لا يلزم من ضعف الدليل المعين انتفاء المدلول وأنت قد بينت ضعف دليل الفلاسفة على القدم وإذا كان القول الموجب بالذات يستلزم قدم العالم ولا دليل لهم عليه كان قولهم أيضا لا دليل عليه
(1/392)
والأبهري قد ذكر في غير هذا الموضع ما احتج به على حدوث العالم ببيان انتفاء لازم القدم ولكن إن كان قصده بيان فساد ما ذكره الرازي فالرازي ذكر وجهين وهب أن الأول ضعيف لكن الثاني قوي وهو قوله لو كان موجبا بالذات ما حصل تغير في العالم
وتحرير ذلك أن يقال الموجب بالذات يراد به العلة التامة التي تستلزم معلولها ولو كانت شاعرة به ويراد به ما يفعل بغير إرادة ولا شعور وإن كان فعله متراخيا ومن المعلوم أنه لم يقصد إفساد القسم الثاني وإنما قصد القسم الأول
فيقال إذا كان الموجب عله تامة تستلزم معلولها كان معلولها لازما لها ومعلول معلولها لازما فيمتنع تأخر شيء من لوازمها ولوازم لوزامها فلا يكون هناك شيء محدث فلا يحصل في العالم تغير
وأما قول المعترض إنما يلزم أن لو كان جميع معلولاته قابلة للقدم والحركة لا تقبله
فيقال هذا الإعتراض باطل لوجوه أحدها أنه إذا جاز أن تكون العلة التامة التي تستلزم معلولها لها معلول لا يقبل البقاء وهو الحركة والحوادث تحدث بسببه جاز أن يكون ذلك المعلول حوادث يقوم بها وتكون كل الأمور المباينة موقوفة على تعاقب تلك الحوادث كما قد ذكره الأبهري نفسه في الإرادات المتعاقبة وقال يجوز أن يكون للباري إرادات حادثة وكل واحدة منها تستند إلى الأخرى ثم تنتهي في جانب النزول إلى إرادة تقتضي حدوث العالم فيلزم حدوثه وإذا كان هذا جائزا امتنع أن يكون موجبا بذاته بمعنى أنه يستلزم أن يكون موجبا بذاته بمعنى أنه يستلزم
(1/393)
موجباته بل يجوز مع هذا أن تتأخر عنه موجباته وعلى هذا فلا يكون العالم قديما وليس هذا هو الموجب بذاته في هذا الإصلاح الذي تكلم به الرازي وأراد به إفساد قول الفلاسفة الدهرية فإن الموجب بذاته في هذا الإصطلاح الذي بينه وبينهم هو العلة التامة التي تستلزم معلولها
الوجه الثاني أن يقال إن أردتم بالموجب بالذات ما يستلزم معلوله فالتعيرات التي في العالم تبطل كونه موجبا بهذا الإعتبار وإن أردتم بالموجب بالذات ما قد تكون مفعولاته أمرا لا يلزمه بل يحدث شيئا بعد شيء فحينئذ إذا وافققكم المنازعون على تسميته موجبا بالذات لم يكن في ذلك ما ينافي أن تكون مفعولاته تحدث شيئا بعد شيء ولا يمتنع أن تكون هذه الأفلاك من جملة الحوادث المتأخرة فبطل قولكم
الوجه الثالث ذلك المعلول الذي لا يقبل الدوام كحركة الفلك هل الباري موجب له بذاته بوسط أو بغير وسط أو إيجابه له موقوف على حادث آخر فإن قيل بالأول لزم قدم الحركات المتعاقبة وأن تكون قابلة للدوام وهو ممتنع
وإن قيل بالثاني قيل فإيجابه لما تأخر من هذه الحركة إما أن يكون موقوفا على شرط أو لا يكون فإن لم يكن موقوفا على شرط لزم تقدمه لتقدم الموجب الذي لا يقف تأثيره على شرط وهو ممتنع
(1/394)
وإن قيل بل إيجابه للجزء الثاني مشروط بحدوث الجزء الأول وهلم جرا كان معناه أن إيجابه لكل جزء مشروط بوجود جزء آخر قبله وهو ليس علة تامة لشيء من تلك الأجزاء فيجب أن لا يحصل شيء منها لأن تلك الأجزاء متعاقبة أزلا وأبدا وما من وقت يفرض إلا وهو مشابه من الأوقات فليس هو في شيء من الأوقات علة تامة لشيء من الحوادث فيكون إحداثه لكل حادث مشروطا بحادث لم يحدثه والقول في ذلك الحادث الذي هو شرط كالقول في الحادث الذي هو مشروط فإذا لم يكن محدثا للأول فلا يكون محدثا للثاني فلا يكون محدثا لشيء من الحوادث على قولهم هو علة تامة وهو المطلوب
فإنه لو قال لو كان موجبا بذاته لما حصل في العالم شيء من التغير وهذا يهدم قولهم فإنهم بين أمرين إما أن يقولوا ليس بعلة تامة لمعلولاته أو يقولوا معلولاته مقارنة له فأما جمعهم بين كونه علة تامة في الأزل وبين كون المعلول يوجد شيئا فشيئا فجمع بين الضدين
فإن العلة التامة هي التي تستلزم معلولها لا يتأخر عنها معلولها ولا يقف اقتضاؤها على غيرها وهم يقولون إنه في كل وقت ليس علة تامة لما يحدثه فيه بل فعله مشروط بأمر متقدم وليس هو علة تامة لذلك الشرط المتقدم فلا يكون علة تامة لا للمتقدم من الحوادث ولا للمتأخر فلا بد للحوادث من مقتض آخر
وهذا لا يرد على من يقول أحدث الحوادث بإرادات متعاقبة أو أفعال متعاقبة فإنه لا يقول هو موجب بنفسه للممكنات ولا يقول هو في الأزل علة تامة لها بل يقول ليس بعلة أصلا لشيء من مخلوقاته بل فعلها بمشيئته
(1/395)
وقدرته إذ الفعل الثاني منه مشروط بالأول لأن الأفعال الحادثة لا تكون إلا متعاقبة وليس هو موجبا بذاته لشيء من تلك الأفعال ولا للمفعولات بها ولا يلزم من ذلك لا قدم شيء من الأفعال بعينه ولا قدم شيء من المفعولات بعينه لا فلك ولا غيره والحوادث جميعها التي في العالم والتغيرات يحدثها شيئا بعد شيء بأفعاله الحادثة شيئا بعد شيء فكل يوم هو في شأن
بخلاف ما إذا قالوا هو علة تامة مستلزمة لمعلولها وجعلوا من المعلولات ما لا يكون إلا شيئا فشيئا فإن هذا جمع بين المتنافيين بمنزلة من قال معلوله مقارن له معلوله ليس مقارنا له
وإذا قالوا هو موجب بنفسه للفلك وأجزاء العالم الأصلية وليس موجبا بنفسه للحوادث المتجددة بل إيجابه لها مشروط بما يكون قبلها من الحوادث
قيل هذا حقيقة قولكم وحينئذ فلا يكون نفسه موجبا لشيء من الحوادث لا الأول ولا الثاني لا بوسط ولا بغير وسط وهو المطلوب فالقول بالموجب بالذات وحدوث المحدثات عنه بوسط وبغير وسط جمع بين النقيضين
ثم هذا القول يبطل قولكم بكونه موجبا للعالم بذاته لأنهم يقولون إن العالم لا قيام له بدون الحركة وإنها صورته التي لولا هي لبطل فإذا كان إيجابه للعالم بدون الحركة ممتنعا وإيجابه للحركة في الأزل ممتنعا لم يكن موجبا لا للعالم ولا للحركة فإن المبدع المشروط بشرط يمتنع إبداعه بدون إبداع شرطة وإبداع شرطة ممتنع على أصلهم فإذن إبداعه ممتنع وهذا لأنهم جعلوا الباري ليس له فعل
(1/396)
يقوم بذاته أصلا ولا يتجدد منه شيء ولا فيه شيء أصلا وعندهم أن ما كان كذلك لا يحدث عنه شيء أصلا
ثم قالوا الحوادث كلها صادرة عنه لأن الحركة لم تزل ولا تزال صادرة عنه وكيف تصدر حركات لم تزل ولا تزال في أمور ممكنة عن شيء لا يحدث عنه ولا فيه شيء على أصلهم
ومما يوضح هذا أن قدماء هؤلاء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه كانوا يقولون إن الأول محرك للعالم حركة الشوق كتحريك المحبوب لمحبه والإمام المقتدى به للمؤتم المقتدي به وبهذا أثبتوه وجعلوه علة للعالم حيث قالوا إن الفلك لا يقوم إلا بالحركة الإرادية والحركة الإرادية لا تتم إلا بالمراد المحبوب الذي يحرك المريد حركة اشتياق فالباري عندهم علة بهذا الإعتبار وهو بهذا الإعتبار لم يبدع الأفلاك ولا حركاتها لكن هو شرط في حصول حركتها
وعلى هذا القول فقد يقال العالم قديم واجب بنفسه بل هم يصرحون بذلك والأول الذي هو المحبوب واجب قديم بنفسه كما يقول آخرون منهم بل العالم واجب قديم بنفسه وليس هناك علة محبوبة محركة له بالشوق خارجة عن العالم
وإذا كان كذلك كانت الحركات حادثة في واجب بنفسه وإذا لزمهم كون الواجب بنفسه محلا للحوادث والحركات لم يكن معهم ما يبطلون به كون الأول كذلك وحينئذ فلا يكون لهم حجة على كونه موجبا بالذات وهم يعترفون بذلك
(1/397)
وإنما نفوا عن الأول ذلك لكونه ليس جسما عند أرسطو وأتباعه ولا دليل لهم على ذلك إلا كون الجسم لا يمكن أن يكون فيه حركة غير متناهية بناء على أن الجسم متناه فيمتنع أن يتحرك حركة غير متناهية
هذه الحجة عمدتهم وهي مغلطية من أفسد الحجج فإنه فرق بين ما لا يتناهى في الزمان بل يحدث شيئا بعد شيء وبين ما لا يتناهى في المقدار والنزاع إنما هو في حركة الجسم دائما حركة لا تتناهى ليس هو في كونه في نفسه ذا قدر لا تتناهى فأين هذا من هذا وهذا مبسوط في موضع آخر
ويقال لهم حدوث الحوادث عن فاعل لا يحدث فيه شيء إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا أمكن حدوث الحوادث جميعها عن الأول بدون حدوث شيء كما يقوله من يقوله من أهل الكلام وغيرهم من المعتزلة والكلابية وغيرهم وإن كان ممتنعا بطل قولهم بحدوث الحوادث الدائمة عنه مع أنه لم يحدث فيه شيء وهذا أفسد
وإذا قالوا أولئك خصصوا بعض الأوقات بالحدوث بدون سبب حادث من الفاعل
قيل وأنتم جعلتم جميع الحوادث تحصل بدون سبب حادث من الفاعل
وإذا قلتم لهم كيف يحدث بعد أن لم يكن محدثا بدون حدوث قصد ولا علم ولا قدرة
قالوا لكم فكيف تحدث الحوادث دائما بدون حدوث قصد ولا علم ولا قدرة بل بدون وجود ذلك وأنتم تقولون يحدث للفلك تصورات وإرادات
(1/398)
وهي سبب الحركات المتعاقبة فما السبب الموجب لحدوث تلك الحوادث ولم يحدث شيء أصلا يوجب حدوثها
ولو قال قائل الإنسان دائما يتجدد له تصورات وإرادات وحركات بدون سبب حادث ولا يحدثها محدث أصلا ألم يكن ذلك ممتنعا فإن قيل بإحداثه للأول استعان على إحداث الثاني
قيل فما الموجب لإحداثه الأول وهو لم يزل في إحداث إذا قدر أزليا لم يكن هناك أول بل لم يزل في إحداث
فإن قيل تلك الحوادث التي للإنسان صدرت عن العقل الفعال بدون سبب حادث
قيل فالعقل الفعال دائم الفيض عندهم فلم خص هذه التصورات والإرادات والحركات بوقت دون وقت
قالوا لعدم استعداد القوابل فإذا استعد الإنسان للفيض أفاض عليه واهب الصور
فإذا قيل لهم فما الموجب لحدوث الإستعداد
قالوا ما يحدث من الحركات الفلكية والإمتزاجات العنصرية فلا يجعلون العقل الفعال هو الموجب لما يحدث من الإستعداد بل يحيلون ذلك على تحريكات خارجة عنه وعن إفاضته
فإن قالوا مثل هذا في الأول لزم أن يكون المحدث لشروط الفيض غيره وشبهوه بالفعال في كونه لا يفيض عنه إلا بعض الأشياء دون بعض لكن الفعال
(1/399)
تحدث عنه الأشياء شيئا بعد شيء عندهم أما الأول فلا يحدث عنه شيء بل معلوله لازم له فهو أنقص رتبة في الإحداث عندهم من الفعال
وإن قالوا بل هو المحدث للشروط شيئا فشيئا
قيل أنتم قلتم في الفعال إنه دائم الفيض لا يخص من تلقاء نفسه وقتا دون وقت بفيض فالأول إذا خص وقتا دون وقت من تلقاء نفسه بشيء لم يكن فياضا بل كان الفياض أجود منه وإن كان التخصيص من غير تلقاء نفسه كان ذلك لمشارك له في الفعل كما في الفياض
فهم بين أمرين إما أن يجعلوه عاجزا عن الإنفراد بالإحداث كالفعال بل أدنى منه وإما أن يجعلوه بخيلا لا فياضا فيكون الفعال أجود منه
وأيضا فإذا قالوا إنه علة تامة وموجب تام لمعلوله وموجبه وفاعل تام فى الأزل لمفعوله فجعلوه ما سواه معلوله ومفعوله وموجبه وإن كان بعض ذلك بوسط كان هذا ممتنعا في صرائح العقول فإن الموجب التام والعلة التامة والتكوين التام إما أن يقول القائل يجوز تراخي المكون عنه كما يقوله من يقوله من أهل الكلام وإما أن يقول هو مستلزم له
فإن قيل بالأول أمكن تراخي المفعولات كلها وبطل قولهم بوجوب قدم شيء من العالم بل يمتنع قدم شيء من العالم لامتناع مقارنة الكون للمكون
وإن قيل بالثاني فلا يخلو إما أن يقال يجب اقتران مفعوله به في الزمان بحيث يكون معه لا يكون عقب تكوينه وإما أن يقال بل كون الكائن إنما يكون عقب تكوين المكون
(1/400)
فإن قالوا بالأول كما يدعونه لزمهم أن لا يحدث في العالم شيء وهو خلاف الحس والمشاهدة
وإن قالوا بالثاني لزم أن يكون كل معلول له مسبوقا بغيره سبقا زمانيا فلا يكون شيء من العالم قديما أزليا معه وهو المطلوب
وإذا كان اقتران المفعول بفاعله في الزمان ممتنعا على تقدير دعوى استلزامه له فاقترانه به على تقدير عدم وجوب الإستلزام أولى
فتبين أنه يمتنع قدم شيء من العالم على كل تقدير وهذا بين لمن تصوره تصورا تاما
ولكن وقع اللبس والضلال في هذا الباب من جهة أن الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام لما ادعوا ما يمتنع في صريح العقل عند هؤلاء من كون المؤثر التام يتأخر عنه أثره والحوادث تحدث بدون سبب حادث فر هؤلاء إلى أن جعلوا المؤثر يقترن به أثره ولا يحدث حادث إلا بسبب حادث ولم يحققوا واحدا من الأمرين بل كان قولهم أشد فسادا وتناقضا من قول أولئك المتكلمين
فإن كون المؤثر يستلزم أثره يراد به شيئان
أحدهما أن يكون الأثر المكون المفعول المصنوع مقارنا للمؤثر ولتأثيره في الزمن بحيث لا يتأخر عنه تأخرا زمانيا بوجه من الوجوه وهذا مما يعرف جمهور العقلاء بصريح العقل أنه باطل في كل شيء فليس معهم في العالم مؤثر تام يكون زمنه زمن أثره ويكون زمن حصول الأثر المفعول زمن حصول التأثير بل إنما يعقل التأثير أن يكون الأثر عقب المؤثر وإن كان متصلا به كأجزاء الزمان والحركة الحادثة شيئا بعد شيء وإن كان ذلك متصلا
(1/401)
وأما كون الجزء الثاني من الزمان والحركة مقارنا للجزء الأول في الزمن فهذا مما يعلم فساده بصريح العقل وهذا معلوم في جميع المؤثرات الطبيعية والإرادية وما صار مؤثرا بالشرع وغير الشرع
فإذا قال الرجل لإمرأته أنت طالق ولعبده أنت حر فالطلاق والعتاق لا يقع مع التكلم بالتطليق والإعتاق وإنما يقع عقب ذلك وإذا قال إذا طلقت فلانة ففلانة طالق لم تطلق الثانية إلا عقب طلاق الأولى لا مع تطليق الأولى في الزمان وهذا الذي عليه عامة العلماء قديما وحديثا ولكن شرذمة من المتأخرين الذين استزل هؤلاء عقولهم ظنوا أن الطلاق يكون مع التكلم في الزمان وهذا غلط عند عامة العلماء وكذلك إذا قال إذا مت فأنت حر فالمدبر يعتق عقب موت سيده لا مع موت سيده
وهكذا في الأمور الحسية إذا قال كسرت الإناء فانكسر و قطعت الحبل فانقطع فانكسار المنفعل وانقطاعه يحصل عقب كسر الكاسر وقطع القاطع ولهذا إذا لم يكن المحل قابلا قيل قطعته فلم ينقطع وكسرته فلم ينكسر كما يقال علمته فلم يتعلم ولفظ التعليم والقطع والكسر ونحو ذلك يراد به الفعل التام الذي يستلزم أثره فهذا كالعلة التامة التي تستلزم معلولها لا تقبل التخصيص ويراد به المقتضى الموجب المتوقف اقتضاؤه على شروط فهذا قد يتخلف عنه موجبه
(1/402)
ومن هذا الباب قوله تعالى { هدى للمتقين } سورة البقرة 2 وقوله { إنما أنت منذر من يخشاها } سورة النازعات 45 وقوله { إنما تنذر من اتبع الذكر } سورة يس 11 فالمراد به الهدى التام المستلزم لحصول الإهتداء وهو المطلوب في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } وكذلك الإنذار التام المستلزم خشية المنذر وحذره مما أنذر به من العذاب وهذا بخلاف قوله { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } سورة فصلت 17 فالمراد به البيان والإرشاد المقتضي للإهتداء وإن كان موقوفا على شروط وله موانع
وهكذا إذا قيل هو موجب بذاته أو علة بذاته ونحو ذلك إن أريد بذلك أنه موجب ما يوجبه من مفعولاته بمشيئته وقدرته في الوقت الذي شاء كونه فيه فهذا حق لا منافاة بين كونه موجبا وفاعلا بالإختيار على هذا التفسير
وإن أريد به أنه موجب بذات عرية عن الصفات أو موجب تام لمعلول مقارن له وهذا قول هؤلاء وكل من الأمرين باطل
فقد قامت الدلائل اليقينية على اتصافه بصفات الإثبات وقامت الدلائل اليقينية على امتناع كون الأثر مقارنا للمؤثر وتأثيره في الزمان ولو كان فاعلا بدون مشيئته وقدرته كالمؤثرات الطبيعية فكيف في الفاعل بمشيئته وقدرته فإن هذا مما يظهر للعقلاء امتناع أن يكون شيء من مقدوراته قديما أزليا لم يزل ولا يزال
فمن تصور هذه الأمور تصورا تاما علم بالإضطرار أنه يمتنع أن يكون في العالم شيء قديم وهو المطلوب
(1/403)
فإن قال قائل المنازعون لنا الذين يقولون لم يزل متكلما إذا شاء أو لم يزل فاعلا إذا شاء أو لم تزل الإرادات والكلمات تقوم بذاته شيئا بعد شيء ونحو ذلك هم يقولون بحدوث الحوادث في ذاته شيئا بعد شيء فنحن نقول بحدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئا بعد شيء إما حدوث تصورات وإرادات في النفس الفلكية وإما حصول حركات الفلك المتعاقبة فلم كان قولنا ممتنعا وقولهم ممكنا
قيل لهم أنتم قلتم إنه مؤثر تام أو علة تامة في الأزل فلزمكم أن لا يتأخر عنه شيء من آثاره سواء كانت صادرة بوسط أو بغير وسط
فإذا قلتم صدر عنه عقل مثلا والعقل أوجب نفسا فلكية وفلكا أو ما قلتم
قيل لكم المعلول الأول إن كان تاما من كل وجه لا يمكن أن يحدث فيه شيء فهو أزلي كان معلوله العقل معه أزليا فإن العقل حينئذ يكون علة تامة في الأزل فيلزم أن يكون معلوله معه أزليا وهكذا معلول المعلول وهلم جرا
وإذا قلتم الحركة لا تقبل البقاء
قيل لكم فيمتنع أن يكون لها موجب تام في الأزل بل يكون الموجب لها غير تام في الأزل بل صار موجبا بعد أن لم يكن موجبا وحدوث كونه موجبا يمتنع أن يتوقف على أثر غيره إذ ليس هناك موجب غيره ويمتنع أن يحدث تمام
(1/404)
إيجابه منه لأنه علة تامة يجب اقتران معلولها بها في الأزل فذلك التمام إن كان قديما لزم كون معلول المعلول قديما وهلم جرا وإن كان حادثا حدث عن العلة التامة الأزلية حادث بدون سبب حادث وهذا ينقض قولهم بامتناع حادث بلا سبب
فأنتم بين أمرين أيهما قلتموه بطل قولكم إن قلتم إنه علة تامة في الأزل لزم أن لا يتأخر عنه معلوله وإن قلتم ليس بعلة تامة لزم أن يحدث تمام كونه علة بدون سبب حادث فيلزمكم جواز حدوث الحوادث بلا سبب وإيهما كان بطل قولكم فإنه إذا بطل كونه علة تامة في الأزل امتنع قدم شيء من العالم وإن جاز حدوث الحوادث بلا سبب حادث بطلت حجتكم وجاز حدوث كل ما سواه
وإذا قلتم هو علة تامة للفلك دون حركاته
قيل لكم هو علة للفلك ولحركاته المتعاقبة شيئا بعد شيء فهل كان علة تامة لهذه الحركات في الأزل أم حدث تمام كونه علة لها شيئا بعد شيء
فإن قلتم هو علة تامة في الأزل لزمكم إما مقارنتها كلها له في الأزل وإما تخلف المعلول عن علته التامة وكلاهما يبطل قولكم
وإن قلتم حدث تمام كونه علة لحركة حركة منها
قيل لكم فحدوث التمام قد حدث عندكم بدون سبب حادث وذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب وهذا أمر بين لمن تصوره تصورا تاما ليس لهم حيلة في دفعه
(1/405)
وأما الذين يقولون إنه لم يزل متكلما إذا شاء أو فاعلا بمشيئته وإنه يقوم به إرادت أو كلمات متعاقبة شيئا بعد شيء فهؤلاء لا يجعلونه في الأزل قط علة تامة ولا موجبا تاما ولا يقولون إن فاعلية شيء من المفعولات يتم في الأزل بل عندهم كون الشيء مفعولا ومصنوعا مع كونه أزليا جمع بين النقيضين وإذا امتنع كون المفعول الذي هو أثر المكون أزليا امتنع كون تأثيره وتكوينه المستلزم له قديما أزليا فامتنع أن يكون علة تامة في الأزل لشيء من الأشياء ولكن ذاته تستلزم ما يقوم بها من الأفعال شيئا بعد شيء وكلما تم فاعلية مفعول وجد ذلك المفعول كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس 82 فكلما كون الشيء كونه فحصل المكون عقب تكوينه وهكذا الأمر دائما فكل ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن وتمام تكوينه وتخليقه لم يكن موجودا في الأزل بل إنما تم تخليقه وتكوينه بعدئذ وعند تمام التكوين والتخليق حصل المكون المخلوق عقب التكوين والتخليق لا مع ذلك في الزمان فأين هذا القول من قولكم
تم بحمد الله الجزء الأول من كتاب درء تعارض العقل والنقل
ويليه الجزء الثاني إن شاء الله وأوله فصل ونحن ننبه على دلالة السمع على أفعال الله تعالى درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول لابن تيمية
(1/406)
فصل
ونحن ننبه على دلالة السمع على أفعال الله تعالى الذي به تنقطع الفلاسفة الدهرية ويتين به مطابقة العقل للشرع
ولا ريب أن دلالة ظاهر السمع ليس فيها نزاع لكن الذين يخالفون دلالته يدعون أنها دلالة ظاهرة لا قاطعة والدلالة العقلية القاطعة خالفتها فأصل الدلالة متفق عليه فنقول
معلوم بالسمع اتصاف الله تعالى بالأفعال الاختيارية القائمة به كالاستواء إلى السماء والاستواء على العرش والقبض والطي والإتيان والنزول ونحو ذلك بل والخلق والإحياء والإماتة فإن الله تعالى وصف نفسه بالأفعال اللازمة كالاستواء وبالأفعال المتعدية كالخلق والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم فأن الفعل لا بد له من فاعل سواء كان متعديا إلى مفعول أو لم يكن والفاعل لا بد له من فعل سواء كان فعله مقتصرا عليه أو متعديا إلى
(2/3)
غيره والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله إذ كان لا بد له من الفاعل وهذا معلوم سمعا وعقلا
أما السمع فإن أهل اللغة العربية التي نزل بها القرآن بل وغيرها من اللغات متفقون على أن الإنسان إذا قال قام فلان وقعد وقال أكل فلان الطعام وشرب الشراب فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة إذ كلتا الجملتين فعلية وكلاهما فيه فعل وفاعل والثانية امتازت بزيادة المفعول فكما انه في الفعل اللازم معنا فعل وفاعل ففي الجملة المتعدية معنا أيضا فعل وفاعل وزيادة مفعول به
ولو قال قائل الجملة الثانية ليس فيها فعل قائم بالفاعل كما في الجملة الأولى بل الفعل الذي هو أكل وشرب نصب المفعول من غير تعلق بالفاعل أولا لكان كلامه معلوم الفساد بل يقال هذا الفعل تعلق بالفاعل أولا كتعلق قام وقعد ثم تعدى إلى المفعول ففيه ما في الفعل اللازم وزيادة التعدي وهذا واضح لا يتنازع فيه اثنان من أهل اللسان
(2/4)
فقوله تعالى { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } سورة الحديد 4 تضمن فعلين أولهما متعد إلى المفعول به والثاني مقتصر لا يتعدى فإذا كان الثاني وهو قوله تعالى { ثم استوى } فعلا متعلقا بالفاعل فقوله { خلق } كذلك بلا نزاع بين أهل العربية
ولو قال قائل { خلق } لم يتعلق بالفاعل بل نصب المفعول به ابتداء لكان جاهلا بل في { خلق } ضمير يعود إلى الفاعل كما في { استوى }
وأما من جهة العقل فمن جوز أن يقوم بذات الله تعالى فعل لازم له كالمجيء والاستواء ونحو ذلك لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماتة والإحياء كما أن من جوز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة لم يمكنه أن يمنع قيام الصفات المتعلقة بالغير كالعلم والقدرة والسمع والبصر ولهذا لم يقل أحد من العقلاء بإثبات أحد الضربين دون الآخر بل قد يثبت الأفعال المتعدية القائمة به كالتخليق من ينازع في الأفعال اللازمة كالمجيء والإتيان وأما العكس فما علمت به قائلا
وإذا كان كذلك كان حدوث ما يحدثه الله تعالى من المخلوقات تابعا لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة بنفسه وهذه سبب الحدوث والله تعالى حي قيوم لم يزل موصوفا بأنه يتكلم بما يشاء فعال لما يشاء وهذا قد قاله العلماء الأكابر من أهل السنة والحديث ونقلوه عن السلف والأئمة وهو قول طوائف كثيرة من أهل الكلام والفلسفة المتقدمين والمتأخرين بل هو قول جمهور المتقدمين من الفلاسفة
(2/5)
وعلى هذا فيزول الإشكال ويكون إثبات خلق السماوات والأرض إنما يتم بما جاء به الشرع ولا يمكن القول بحدوث العالم على اصل نفاة الأفعال الذين يزعمون أن العقل قد دل على نفيها ويقدمون هذا الذي هو عندهم دليل عقلي على ما جاء به الكتاب والسنة والعقل عند التحقيق يبطل هذا القول ويوافق الشرع فإنه إذا تبين أن القول بنفيها يمتنع معه القول بحدوث شيء من الحوادث لا العالم ولا غيره والحوادث مشهودة كان العقل قد دل على صحة ما جاء به الشرع في ذلك والله سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائص وكل كمال وصف به المخلوق من غير استلزامه لنقص فالخالق أحق به وكل نقص نزه عنه المخلوق فالخالق أحق بأن ينزه عنه والفعل صفة كمال لا صفة نقص كالكلام والقدرة وعدم الفعل صفة نقص كعدم الكلام وعدم القدرة فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع وهو المطلوب وكان الناس قبل أبى محمد بن كلاب صنفين فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسى وأبو الحسن الأشعرى وغيرهما وأما الحارث المحاسبى فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب ولهذا أمر احمد بهجره وكان احمد يحذر عن ابن كلاب واتباعه ثم قيل عن الحارث انه رجع عن قوله
(2/6)
وقد ذكر الحارث في كتاب فهم القران عن أهل السنة في هذه المسالة قولين ورجح قول ابن كلاب وذكر ذلك في قول الله تعالى { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } سورة التوبة 105 وأمثال ذلك وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم كحرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة وان ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين وذكر حرب الكرماني انه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بين منصور وقال عثمان بن سعيد وغيرة أن الحركة من لوازم الحياة فكل حي متحرك وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم
(2/7)
وطائفة اخرى من السلفيه كنعيم بن حماد الخزاعي والبخاري صاحب الصحيح وابي بكر بن خزيمة وغيرهم كأبي عمر بن عبد البر وأمثاله يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء ويسمون ذلك فعلا ونحوه ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة لكونه غير مأثور
وأصحاب احمد منهم من يوافق هؤلاء كأبي بكر عبد العزيز وابي عبد الله بن بطة وامثالهما ومنهم من يوافق الأولين كأبي عبد الله بن حامد وأمثاله ومنهم طائفة ثالثة كالتميميين وابن الزاغواني وغيرهم يوافقون النفاة من أصحاب ابن كلاب وامثالهم
ولما كان الاثبات هو المعروف عند أهل السنة والحديث كالبخاري
(2/8)
وابي زرعة وابي حاتم ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهم من العلماء الذين أدركهم الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة كان المستقر عنده ما تلقاه عن أئمته من ان الله تعالى لم يزل متكلما اذا شاء وانه يتكلم بالكلام الواحد مرة بعد مرة وكان له أصحاب كأبي على الثقفي وغيرة تلقوا طريقة ابن كلاب فقام بعض المعتزلة والقى إلى ابن خزيمة سر قول هؤلاء وهو ان الله لا يوصف بأنه يقدر على الكلام اذا شاء ولا يتعلق ذلك بمشيئته فوقع بين ابن خزيمة وغيره وبينهم في ذلك نزاع حتى اظهروا موافقتهم له في ما لا نزاع فيه أمر ولاة الأمر بتأديبهم لمخالفتهم له وصار الناس حزبين فالجمهور من أهل السنة والحديث معه ومن وافق طريقة ابن كلاب معه حتى صار بعده علماء نيسابور وغيرهم حزبين فالحاكم ابو عبد الله وابو عبد الرحمن
(2/9)
السلمي وابو عثمان النيسابوري وغيرهم معه وكذلك يحيى بن عمار السجستاني وابو عبد الله بن منده وابو نصر السجزي وشيخ الاسلام ابو اسماعيل الانصاري وابو القاسم سعد بن على الزنجاني وغيرهم معه واما ابو ذر الهروي وابو بكر البيهقي وطائفة أخرى فهم مع ابن كلاب
وكذلك النزاع كان بين طوائف الفقهاء والصوفية والمفسرين واهل الكلام والفلسفة وهذه المسألة كانت المعتزلة تلقبها بمسألة حلول الحوادث وكانت المعتزلة تقول ان الله منزه عن الاعراض والابعاض والحوادث والحدود ومقصودهم نفي الصفات ونفي الافعال ونفي
(2/10)
مباينته للخلق وعلوه على العرش وكانوا يعبرون عن مذاهب اهل الاثبات اهل السنة بالعبارات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب فإنهم اذا قالوا ان الله منزه عن الاعراض لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر لان الناس يفهمون من ذلك انه منزه عن الاستحالة والفساد كالاعراض التي تعرض لبني ادم من الامراض والاسقام ولا ريب ان الله منزه عن ذلك ولكن مقصودهم انه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونهم هم اعراضا
وكذلك اذا قالوا ان الله منزه عن الحدود والاحياز والجهات اوهموا الناس ان مقصودهم بذلك انه لا تحصره المخلوقات ولا تحوزه المصنوعات وهذا المعنى صحيح ومقصودهم انه ليس مباينا للخلق ولا منفصلا عنه وانه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش اله وان محمدا لم يعرج به اليه ولم ينزل منه شيء ولا يصعد اليه شيء ولا يتقرب اليه شيء ولا يتقرب إلى إلى شيء ولا ترفع اليه الايدي في الدعاء ولا غيره ونحو ذلك من معاني الجهمية
واذا قالوا انه ليس بجسم اوهموا الناس انه ليس من جنس المخلوقات ولا مثل ابدان الخلق وهذا المعنى صحيح ولكن مقصودهم بذلك انه لا يرى ولا يتكلم بنفسه ولا يقوم به صفة ولا هو مباين للخلق وامثال ذلك
(2/11)
واذا قالوا لا تحله الحوادث اوهموا الناس ان مرادهم انه لا يكون محلا للتغيرات والاستحالات ونحو ذلك من الاحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم وهذا معنى صحيح ولكن مقصودهم بذلك انه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته وانه لا يقدر على استواء او نزول او اتيان او مجىء وان المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل اصلا بل عين المخلوقات هي الفعل ليس هناك فعل ومفعول وخلق ومخلوق بل المخلوق عين الخلق والمفعول عين الفعل ونحو ذلك
وابن كلاب ومن اتبعه وافقوهم على هذا وخالفوهم في اثبات الصفات وكان ابن كلاب والحارث المحاسبي وابو العباس القلانسي وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق وعلوه بنفسه فوق المخلوقات وكان ابن كلاب واتباعه يقولون ان العلو على المخلوقات صفة عقلية تعلم بالعقل واما استواؤه على العرش فهو من الصفات السمعية الخبرية التي لا تعلم الا بالخبر وكذلك الاشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل اخرى ولهذا يثبت العلو ونحوه مما تنفيه المعتزلة ويثبت الاستواء على العرش ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش بخلاف اتباع صاحب الارشاد فإنهم سلكوا طريقة المتعتزلة فلم يثبتوا الصفات الا بالعقل وكان الاشعري وائمة اصحابه
(2/12)
يقولون انهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع فالشرع هو الذي يعتمد عليه في اصول الدين والعقل عاضد له معاون
فصار هؤلاء يسلكون ما يسلكه من سلكه من اهل الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون ان الشرع لا يعتمد عليه فيما وصف الله به وما لا يوصف وانما يعتمد في ذلك عندهم على عقلهم ثم ما لم يثبته اما ان ينفوه واما ان يقفوا فيه
ومن هنا طمع فيهم المعتزلة وطمعت الفلاسفة في الطائفتين بإعراض قلوبهم عما جاء به الرسول وعن طلب الهدى من جهته وجعل هؤلاء يعارضون بين العقل والشرع كفعل المعتزلة والفلاسفة ولم يكن الاشعري وائمة اصحابه على هذا بل كانو موافقين لسائر اهل السنة في وجوب تصديق ما جاء به الشرع مطلقا والقدح فيما يعارضه ولم يكونوا يقولون انه لا يرجع إلى السمع في الصفات ولا يقولون الادلة السمعية لا تفيد اليقين بل كل هذا مما احدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من اتباعهم وذلك لان الاشعري صرح بان تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ليس موقوفا على دليل الاعراض وان الاستدلال به على حدوث العالم من البدع المحرمة في دين الرسل وكذلك غيره ممن يوافقه على نفي الافعال القائمة به قد يقول ان هذا
(2/13)
الدليل دليل الأعراض صحيح لكن الاستدلال به بدعة ولا حاجة اليه فهؤلاء لا يقولون ان دلالة السمع موقوفة عليه لكن المعتزلة القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأن لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات بل ولا الافعال وصرحوا بأن لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة وان وافق العقل فكيف اذا خالفه
وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب الارشاد واتباعة وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة تارة يصرحون بأنا وان علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز ان يحتج به في مسائل الصفات لأن قوله ان ما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات وتارة يقولون انما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الادلة السمعية وتارة يطعنون في الاخبار
فهذه الطرق الثلاث التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة اسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان حتى يقولون انهم لم يحققوا اصول الدين كما حققناها وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد ولهم من جنس هذا
(2/14)
الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع مما ليس هذا موضع بسطة وانما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم وغايتهم انهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة المعقول والكلام وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به اهل الإلحاد فهم من جنس الرافضة لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية
(2/15)
ومع ذلك فهم لا يحتاجون من العقليات في أصول الدين إلى ما يحتاج إليه المعتزلة فإن المعتزلة يزعمون ان النبوة لا تتم الا بقولهم في التوحيد والعدل فيجعلون التكذيب بالقدر من اصولهم العقلية وكذلك نفي الصفات واما هؤلاء فالمشهور عندهم انه اذا رؤيت المعجزة المعتبرة علم بالضرورة انها تصديق للرسول واثبات الصانع ايضا معلوم بالضرورة او بمقدمات ضرورية فالعقليات التي يعلم بها صحة السمع مقدمات قليلة ضرورية بخلاف المعتزلة فإنهم طولوا المقدمات وجعلوها نظرية فهم خير من المعتزلة في اصول الدين من وجوه كثيرة وان كان المعتزلة خيرا منهم من بعض الوجوه
وابو الحسن الاشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب ومال إلى اهل السنة والحديث وانتسب إلى الامام احمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالابانة والموجز والمقالات وغيرها وكان مختلطا بأهل السنة والحديث كاختلاط المتكلم بهم بمنزلة ابن عقيل عند متأخريهم لكن الأشعري وأئمة أصحابه اتبع لاصول الإمام أحمد وامثاله من أئمة السنة من مثل ابن عقيل في كثير من احواله وممن اتبع ابن عقيل كأبي الفرج بن الجوزي في كثير من كتبه وكان القدماء من أصحاب احمد كأبي بكر عبد العزيز وابي الحسن التميمي وامثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق ذكر الموافق للسنة في الجملة ويذكرون ما ذكره من تناقض المعتزلة وكان بين التميمين
(2/16)
وبين القاضي ابي بكر وامثاله من الائتلاف والتواصل ما هو معروف وكان القاضي ابو بكر يكتب احيانا في اجوبته في المسائل محمد بن الطيب الحنبلي ويكتب ايضا الاشعري ولهذا توجد اقوال التميمين مقاربة لأقواله وأقوال امثاله المتبعين لطريقة ابن كلاب وعلى العقيدة التي صنفها ابو الفضل التميمي اعتمد ابو بكر البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب الامام احمد لما اراد ان يذكر عقيدته وهذا بخلاف ابي بكر عبد العزيز وابي عبد الله بن بطة وابي عبد الله بن حامد وأمثالهم فانهم مخالفون لأصل قول الكلابية
والاشعري وائمة اصحابه كأبي الحسن الطبري وابي عبد الله بن مجاهد الباهلي والقاضي ابي بكر متفقون على اثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليد وابطال تأويلها ليس له في ذلك قولان اصلا ولم يذكر احد عن الاشعري في ذلك قولين اصلا بل جميع من يحكي المقالات من اتباعه وغيرهم يذكر ان ذلك قوله ولكن لاتباعه في ذلك قولان
(2/17)
واول من اشتهر عنه نفيها ابو المعالي الجويني فانه نفى الصفات الخبرية وله في تأويلها قولان ففي الارشاد اولها ثم انه في الرسالة النظامية رجع عن ذلك وحرم التأويل وبين اجماع السلف على تحريم التأويل واستدل باجماعهم على ان التأويل محرم ليس بواجب ولا جائز فصار من سلك طريقته ينفي الصفات الخبرية ولهم في التأويل قولان واما الاشعري وائمة اصحابه فإنهم مثبتون لها يردون على من ينفيها او يقف فيها فضلا عمن يتاولها
واما مسألة قيام الافعال الاختيارية به فان ابن كلاب والاشعري وغيرهما ينفونها وعلى ذلك بنو قولهم في مسألة القرآن وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا الباب بما هو معروف في كتب اهل العلم ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض الاعتزال فيهم وشاع النزاع في ذلك بين عامة المنتسبين إلى السنة من اصحاب احمد وغيرهم وقد ذكر ابو بكر عبد العزيز في كتاب الشافي عن اصحاب احمد في معنى ان القرآن غير مخلوق قولين مبنيين على هذا الاصل احدهما انه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته والثاني انه لم يزل متكلما اذا شاء
وكذلك ذكر ابو عبد الله بن حامد قولين وممن كان يوافق على نفي ما يقوم به من الامور المتعلقة بمشيئته وقدرته ككقول ابن كلاب
(2/18)
ابو الحسن التميمي واتباعه والقاضي ابو يعلى واتباعه كابن عقيل وابي الحسن بن الزاغوني وامثالهم وان كان في كلام القاضي ما يوافق هذا تارة وهذا تارة وممن كان يخالفهم في ذلك ابو عبد الله بن حامد وابو بكر بن عبد العزيز وابو عبد الله بن بطة وابو عبد الله بن منده وابو نصر السجزي ويحيى بن عمار السجستاني وابو اسماعيل الانصاري وامثالهم
والنزاع في هذا الاصل بين اصحاب مالك وبين اصحاب الشافعي وبين اصحاب ابي حنيفة وبين اهل الظاهري ايضا فداود بن علي صاحب المذهب وأئمتهم على اثبات ذلك وابو محمد بن حزم على المبالغة في انكار ذلك وكذلك اهل الكلام فالهشامية والكرامية على اثبات ذلك والمعتزلة على نفي ذلك وقد ذكر الاشعري في المقالات عن ابي معاذ التومني وزهير الاثري وغيرهما اثبات
(2/19)
ذلك وكذلك المتفلسفة فحكوا عن اساطينهم الذين كانوا قبل ارسطو انهم كانوا يثبتون ذلك وهو قول ابي البركات صاحب المعتبر وغيره من متأخريهم واما ارسطو واتباعه كالفارابي وابن سينا فينفون ذلك وقد ذكر ابو عبد الله الرازي عن بعضهم ان اثبات ذلك يلزم جميع الطوائف وان انكروه وقرر ذلك
وكلام السلف والائمة ومن نقل مذهبهم في هذا الاصل كثير يوجد في كتب التفسير والاصول
قال اسحاق بن راهويه حدثنا بشر بن عمر سمعت غير واحد من المفسرين يقول { الرحمن على العرش استوى } أي ارتفع وقال البخاري في صحيحه قال ابو العالية استوى إلى السماء ارتفع قال وقال مجاهد استوى علا على العرش
(2/20)
وقال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور وقال ابن عباس وأكثر مفسري السلف استوى إلى السماء ارتفع إلى السماء وكذلك قال الخليل بن احمد
وروى البيهقي في كتاب الصفات قال قال الفراء ثم استوى أي صعد قال ابن عباس وهو كقولك للرجل كان قاعدا فاستوى قائما
وروى الشافعي في مسنده عن انس رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش
والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري وتفسير عبد الرحمن بن ابراهيم المعروف بدحيم وتفسير عبد الرحمن بن ابي حاتم وتفسير ابي بكر
(2/21)
بن المنذر وتفسير ابي بكر عبد العزيز وتفسير ابي الشيخ الاصبهاني وتفسير ابي بكر بن مردويه وما قبل هؤلاء من التفاسير مثل تفسير احمد بن حنبل واسحاق بن ابراهيم وبقي بن مخلد وغيرهم ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد وتفسير سنيد وتفسير عبد الرازق ووكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين مالا يكاد يحصى وكذلك الكتب المصنفة في السنة التي فيها اثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين
وقال ابو محمد حرب بن اسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن احمد واسحاق وغيرهما وذكر معها من الاثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وغيرهم ما ذكر وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحو من المصنفات قال في اخره في الجامع باب القول في المذهب هذا مذهب ائمة العلم واصحاب الاثر واهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها وادركت من ادركت من علماء اهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب او طعن فيها او عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب احمد واسحاق بن ابراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن
(2/22)
جالسنا واخذنا عنهم العلم وذكر الكلام في الايمان والقدر والوعيد والامامه وما اخبر به الرسول من اشراط الساعة وامر البرزخ والقيامة وغير ذلك إلى ان قال وهو سبحانه بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حمله يحملونه وله حد والله اعلم بحده والله على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا اله غيره والله تعالى سميع لا يشك بصير لا يرتاب عليم لا يجهل جواد لا يبخل حليم لا يعجل حفيظ لا ينسى يقظان لا يسهو رقيب لا يغفل يتكلم ويتحرك ويسمع ويبصر وينظر ويقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويسخط ويغضب ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء وكما شاء ليس كمثله شيء وهو السميع البصير إلى ان قال ولم يزل الله متكلما عالما فتبارك الله احسن الخالقين
وقال الفقيه الحافظ أبو بكر الأثرم في كتاب السنة وقد نقله عنه الخلال في السنة حدثنا ابراهيم بن الحارث يعني العبادي حدثني الليث بن يحيى سمعت ابراهيم بن الأشعث قال ابو بكر هو صاحب الفضيل سمعت الفضيل بن عياض يقول ليس لنا ان نتوهم في الله كيف وكيف لأن الله وصف نفسه فأبلغ فقال { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد }
(2/23)
سورة الاخلاص فلا صفة ابلغ مما وصف الله عز وجل به نفسه وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع كما شاء ان ينزل وكما شاء أن يباهى وكما شاء أن يطلع وكما شاء أن يضحك فليس لنا ان نتوهم أن كيف وكيف واذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنت أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء
وقد ذكر هذا الكلام الاخير عن الفضيل بن عياض البخاري في كتاب خلق الافعال هو وغيره من ائمة السنة وتلقوه بالقبول
قال البخاري وقال الفضيل بن عياض اذا قال لك الجهمي أنا كافر برب يزول عن مكانه فقل انا أؤمن برب يفعل ما يشاء
قال البخاري وحدث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال من زعم ان الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي
وقال الخلال في كتاب السنة اخبرني جعفر بن محمد الفريابي حدثنا احمد بن محمد المقدمي حدثنا سليمان بن حرب
(2/24)
قال سأل بشر بن السرى حماد بن زيد فقال يا ابا اسماعيل الحديث الذي جاء ينزل الله إلى السماء الدنيا يتحول من مكان إلى مكان فسكت حماد بن زيد ثم قال هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات لما ذكر مقاله أهل السنة وأهل الحديث فقال ويصدقون بالاحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ان الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } سورة النساء 59 ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يحدثوا في دينهم ما لم يأذن الله ويقرون بأن الله يجىء يوم القيامة كما قال { وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر 22 وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } سورة ق 16
(2/25)
قال الأشعري وبكل ما ذكرنا من أقوالهم نقول واليه نذهب
وقال أبو عثمان إسماعيل الصابوني الملقب بشيخ الإسلام في رسالته المشهورة عنه في السنة وقد ذكر ذلك أبو القاسم التميمي في كتاب الحجة في بيان المحجة له قال و يثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف بل يثبتون له ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره ويكلون علمه إلى الله تعالى وكذلك يثبتون ما أنزل الله في كتابه من ذكر المجيء والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة وقوله عز وجل { وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر
وقال سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول سمعت إبراهيم ابن أبي طالب يقول سمعت احمد بن سعيد بن إبراهيم أبا عبد الله الرباطي يقول حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم
(2/26)
وحضره إسحاق بن إبراهيم يعني ابن رهاويه فسئل عن حديث النزول صحيح هو قال نعم فقال له بعض قواد عبد الله يا ابا يعقوب اتزعم ان الله ينزل كل ليلة قال نعم قال كيف ينزل فقال إسحاق أثبته فوق حتى أصف لك النزولفقال الرجل اثبته فوق فقال اسحاق قال الله عز وجل { وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر 22 فقال له الامير عبد الله يا ابا يعقوب هذا يوم القيامة فقال اسحاق أعز الله الأمير ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم
وروى بإسناده عن إسحاق بن إبراهيم قال قال لي الأمير عبد الله بن طاهر يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل ربنا كل ليلة الى السماء الدنيا كيف ينزل قال قلت أعز الله الأمير لا يقال لأمر الرب كيف إنما نزل بلا كيف
وبإسناده عن عبد الله بن المبارك انه سأله سائل عن النزول ليلة النصف من شعبان فقال عبد الله يا ضعيف ليلة النصف ينزل في كل ليلة فقال الرجل يا ابا عبد الرحمن كيف ينزل أليس يخلو ذلك المكان فقال عبد الله بن المبارك ينزل كيف شاء
وقال ابو عثمان الصابوني فلما صح خبر النزول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة وقبلوا الخبر واثبتوا النزول على ما قاله رسول الله ليه وسلم ولم يعتقدوا تشبيها له بنزول خلقه وعلموا وعرفوا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الرب تبارك وتعالى
(2/27)
لا تشبه صفات الخلق كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوا كبيرا ولعنهم لعنا كثيرا
وروي الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات حدثنا ابو عبد الله الحافظ سمعت ابا زكريا العنبري سمعت ابا العباس يعني السراج سمعت اسحاق بن ابراهيم يقول دخلت يوما على طاهر بن عبد الله بن طاهر وعنده منصور بن طلحة فقال لي يا أبا يعقوب ان الله ينزل كل ليلة فقلت له نؤمن به فقال له طاهر ألم انهيك عن هذا الشيخ ما دعاك الى أن تسأله عن مثل هذا قال اسحاق فقلت له اذ انت لم تؤمن ان لك ربا يفعل ما يشاء ليس تحتاج أن تسألني
قال البيهقي حدثنا ابو عبد الله الحافظ سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانيء سمعت احمد بن سلمى يقول سمعت اسحاق بن ابراهيم الحنظلي يقول جمعنا وهذا المتبدع يعني ابراهيم
(2/28)
بن ابي صالح مجلس الامير عبد الله بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها فقال ابراهيم كفرت برب ينزل من سماء الى سماء فقلت آمنت برب يفعل ما يشاء فرضي عبد الله كلامي وأنكر على ابراهيم قال هذا معنى الحكاية
وروى ابو اسماعيل الأنصاري بإسناده عن حرب الكرماني قال قال اسحاق بن ابراهيم لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين لقوله تعالى { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } سورة الانبياء 23 ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الله تعالى بصفاته وأفعاله يعني كما نتوهم فيهم وانما يجوز النظر والتفكير في أمر المخلوقين وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفا بالنزول كل ليلة اذا مضى ثلثها الى السماء الدنيا كما يشاء ولا يسأل كيف نزوله لأن الخالق يصنع ما يشاء كما يشاء
وعن حرب قال قال اسحاق بن ابراهيم ليس في النزول وصف
وقال ابو بكر الخلال في كتاب السنة اخبرني يوسف بن موسى أن ابا عبد الله يعني أحمد بن حنبل قيل له اهل الجنة ينظرون الى ربهم عز وجل ويكلمونه ويكلمونه قال نعم ينظر وينظرون إليه ويكلهم ويكلمونه كيف شاء وذا واذا شاء
قال اخبرني عبد الله بن حنبل قال اخبرني أبي حنبل بن
(2/29)
اسحاق قال قال عمي نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله له ومنه وهو كما وصف نفسه { لا تدركه الأبصار } بحد ولا غاية { وهو يدرك الأبصار } سورة الانعام 103 هو عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله شيء محدود ولا يبلغ علم قدرته احد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } سورة الشورى 11 وكان الله قبل أن يكون شيء والله هو الأول وهو الآخر ولا يبلغ احد حد صفاته
قال واخبراني على بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال سألت ابا عبد الله عن الأحاديث التي تروى ان الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة الى السماء الدنيا وان الله يرى وان الله يضع قدميه وما أشبه
(2/30)
هذه الأحاديث فقال ابو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل فنقول معناها كذا ولا نرد منها شيئا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق اذا كان بأسانيد صحاح ولا نرد على الله قوله ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء
وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد قال ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه قد اجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبه شيء فنعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة الا بما وصف به نفسه قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفته وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغ صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامه ووضع كتفه عليه هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا كله بدعة والتسليم لله بأمره يغير صفه ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلما عالما غفورا عالم الغيب والشهادة علام
(2/31)
الغيوب فهذه صفات وصف الله نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال تعالى { ثم استوى على العرش } سورة الأعراف 54 كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له ليس كمثله 9 شيء وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } سورة مريم 42 فنثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر بضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وبتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما تقول الجهميه والمشبهة
قلت له والمشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا أحبه
وقال محمد بن مخلد قال أحمد نحن نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله
(2/32)
وقال يوسف بن موسى إن أبا عبد الله قيل له ولا يشبه ربنا شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه قال نعم ليس كمثله شيء
فقول أحمد أنه ينظر إليهم ويكلمهم كيف شاء وإذا شاء وقوله هو على العرش كيف شاء وكما شاء وقوله هو على العرش بلا حد كما قال { ثم استوى على العرش } كيف شاء المشيئة إليه والاستطاعة له ليس كمثله شيء
قلت وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير شيء يبين أن نظره وتكليمه وعلوه على العرش واستواءه على العرش مما يتعلق بمشيئته واستطاعته
وقوله بلا حد ولا صفه يبلغها واصف أو يحده أحد نفى به إحاطة علم الخلق به وأن يحدوه أو يصفوه على ما هو عليه إلا بما أخبر عن نفسه ليبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته كما قال الشافعي في خطبة الرسالة الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه ولهذا قال أحمد لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية فنفى أن يدرك له حد أو غاية وهذا أصح
(2/33)
القولين في تفسير الإدراك وقد بسط الكلام على شرح هذا الكلام في غير هذا الموضع
وما في هذا الكلام من نفي تحديد الخلق وتقديرهم لربهم وبلوغهم صفته لا ينافي ما نص عليه أحمد وغيره من الأئمة كما ذكره الخلال أيضا قال حدثنا أبو بكر المروزي قال سمعت أبا عبد الله لما قيل له روى علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله عز وجل قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه وأعجب ثم قال أبو عبد الله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } سورة البقرة 210 ثم قال { وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر 22
قال الخلال وأنبأنا محمد بن علي الوراق حدثنا أبو بكر الأثرم حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد بن حنبل يحكى عن ابن المبارك وقيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا
وأخبرني حرب بن اسماعيل قال قلت لاسحاق يعني ابن راهويه هو على العرش بحد قال نعم بحد
وذكر عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد
قال وأخبرنا المرزوي قال اسحاق بن ابراهيم بن راهويه قال الله تبارك وتعالى { الرحمن على العرش استوى } سورة
(2/34)
طه 5 إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في اسفل الأرض السابعة وفي قعور البحار ورؤوس الآكام وبطون الأوديه وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السماوات السبع وما فوق العرش أحاط بكل شيء علما فلا تسقط من ورقه إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات البر والبحر ولا رطب ولا يابس إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره
فهذا مثاله مما نقل عن الأئمة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره كما قال مالك وربيعه وغيرهما الإستواء معلوم والكيف مجهول فبين أن كيفية استواءه مجهولة للعباد فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر ولكن نفوا علم الخلق به وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزيز بن عبد الله الماجشون وغير واحد من السلف والأئمة ينفون علم الخلق بقدره وكيفيته
وبنحو ذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن ابي سلمه الماجشون في كلامه المعروف وقد ذكره ابن بطه في الابانه وابو عمر الطلمنكى في كتابه في الاصول ورواه ابو بكر الاثرم قال
(2/35)
حدثنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن ابي سلمة انه قال اما بعد فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتايعت فيه الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحصرت العقول عن معرفة قدره الا ان قال بأنه لا يعلم كيف هو الا هو وكيف يعلم من يموت ويبلى قدر من لا يموت ولا يبلى وكيف يكون لصفة شيء منه حد او منتهى يعرفه عارف او يحد قدره واصف الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة اصغر خلقه الى ان قال اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها اذا لم تعرف منها قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف هل تستدل بذلك على شيء من طاعته او تنزجر به عن شيء من معصيته وذكر كلاما طويلا الى ان قال فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد استهوته الشياطين في الارض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف
(2/36)
الرب وسمى من نفسه بأن قال لا بد ان كان له كذا من أن يكون له كذا فعمى عن البين بالخفى يجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عما لم يسم فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } سورة القيامة 22 23 فقال لا يراه احد يوم القيامة فجحد والله افضل كرامة الله التي اكرم بها اولياءه يوم القيامة من النظر في وجهه في مقعد صدق عند مليك مقتدر قد قضى انهم لا يموتون فهم بالنظر اليه ينضرون وذكر كلاما طويلا كتب في غير هذا الموضع
وقال الخلال في السنة اخبرني على بن عيسى ان حنبلا حدثه قال سمعت ابا عبد الله يقول من زعم ان الله لم يكلم موسى فقد كفر بالله وكذب القرآن ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم امره يستتاب من هذه المقالة فان تاب والا ضربت عنقه
قال وسمعت ابا عبد الله قال { وكلم الله موسى } سورة النساء 164 فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى ثم قال تعالى يؤكد كلامه { تكليما } سورة النساء 164
قلت لأبي عبد الله الله عز وجل يكلم عبده يوم القيامة قال نعم فمن يقضي بين الخلائق الا الله عز وجل يكلم عبده ويسأله الله
(2/37)
متكلم لم يزل الله يأمر بما يشاء ويحكم وليس له عدل ولا مثل كيف شاء وانى شاء
قال الخلال اخبرنا محمد بن علي بن بحر ان يعقوب بن بختان حدثهم ان ابا عبد الله سئل عمن زعم ان الله لم يتكلم بصوت فقال بلى تكلم بصوت وهذه الاحاديث كما جاءت نرويها لكل حديث وجه يريدون ان يموهوا على الناس من زعم ان الله لم يكلم موسى فهو كافر
حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله يعني ابن مسعود قال اذا تكلم الله بالوحي سمع صوته اهل السماء فيخرون سجدا حتى اذا فزع عن قلوبهم قال سكن عن قلوبهم نادى أهل السماء ماذا قال ربكم قالوا الحق قال كذا وكذا
قال الخلال وأنبأنا ابو بكر المروزى سمعت ابا عبد الله
(2/38)
وقيل له ان عبد الوهاب قد تكلم وقال من زعم ان الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الاسلام فتبسم ابو عبد الله وقال ما احسن مال قال عافاه الله
وقال عبد الله بن احمد سألت ابي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوته فقال ابي بلى تكلم تبارك وتعالى بصوت وهذه الاحاديث نرويها كما جاءت وحديث ابن مسعود اذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان قال ابي والجهمية تنكره قال ابي وهؤلاء كفار يريدون ان يموهوا على الناس من زعم ان الله لم يتكلم فهو كافر انما نروى هذه الاحاديث كما جاءت
(2/39)
قلت وهذا الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من العبد بل ذلك صوته كما هو معلوم لعامة الناس وقد نص على ذلك الائمة أحمد وغيره فالكلام المسموع منه هو كلام الله لا كلام غيره كما قال تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } سورة التوبة 6 وقال النبي صلى الله عليه وسلم الا رجل يحملني الى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا منعوني أن ابلغ كلام ربي رواه ابو داود وغيره وقال صلى الله عليه وسلم زينوا القرآن بأصواتكم وقال ليس منا من لم يتغن بالقرآن
ذكر الخلال عن اسحاق بن ابراهيم قال لي ابو عبد الله يوما وكنت
(2/40)
سألته عنه تدري ما معنى من لم يتغن بالقرآن قلت لا قال هو الرجل يرفع صوته فهذا معناه اذا رفع صوته لقد تغنى به
وعن صالح بن احمد أنه قال لأبيه زينوا القرآن بأصواتكم فقال التزيين أن يحسنه
وعن الفضل بن زياد قال سألت أبا عبد الله عن القراءة فقال يحسنه بصوته من غير تكلف وقال الأثرم سألت ابا عبد الله عن القراءة بالألحان فقال كل شيء محدث فانه لا يعجبني الا ان يكون صوت الرجل لا يتكلفه
وقال القاضي ابو يعلى هذا يدل من كلامه على ان صوت القارىء ليس هو الصوت الذي تكلم الله به لأنه أضافة الى القارىء الذي هو طبعه من غير أن يتعلم الألحان
وقال ابو عبد الله البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق الافعال يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وليس هذا لغير الله عز وجل
(2/41)
قال ابو عبد الله البخاري وفي هذا دليل على أن صوت الله لا يشبه اصوات الخلق لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب وان الملائكة يصعقون من صوته فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا قال { فلا تجعلوا لله أندادا } سورة البقرة 22 فليس لصفة الله ند ولا مثل ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين
ثم روى بإسناده حديث عبد الله بن انيس الذي استشهد به في غير موضع من الصحيح تارة يجزم به وتارة يقول ويذكر عن عبد الله بن انيس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب انا الملك انا الديان لا ينبغي لأحد من اهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من اهل النار يطلبه بمظلمة وذكر الحديث الذي رواه في صحيحه عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2/42)
يقول الله يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت ان الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا الى النار قال يا رب ما بعث النار قال من كل ألف اراه قال تسعمائة وتسعة وتسعين فحينئذ تضع الحامل حملها { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } سورة الحج 2 وذكر حديث ابن مسعود الذي استشهد به احمد وذكر الحديث الذي رواه في صحيحه عن عكرمة سمعت أبا هريرة يقول ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فاذا { فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } سورة سبأ 23 وذكر حديث ابن عباس المعروف من حديث الزهرى عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن نفر من الأنصار وقد رواه احمد ومسلم
(2/43)
في صحيحه وغيرهما وساقه البخاري من طريق ابن اسحاق عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم ما تقولون في هذا النجم الذي يرمى به قالوا كنا يا رسول الله نقول حتى رأيناها يرمى بها مات ملك ولد مولود مات مولود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك كذلك ولكن الله اذا قضى في خلقه امرا يسمعه اهل العرش فيسبح من تحتهم بتسبيحهم فيسبح من تحت ذلك فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهي الى السماء الدنيا حتى يقول بعضهم لبعض لم سبحتهم فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم فيقولون أفلا تسألون من فوقكم مم سبحوا فيسألونهم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا الأمر الذي كان فيهبط به الخبر من سماء الى سماء حتى ينتهي الى السماء الدنيا فيتحدثون به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم منهم واختلاف
(2/44)
ثم يأتون به الى الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون فتحدث به الكهان ثم ان الله حجب الشياطين عن السماء بهذه النجوم فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة
وقال البخاري ايضا ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق وأن العرب لا تعرف الحي من الميت الا بالفعل فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل فهو ميت وأن افعال العباد مخلوقة فضيق عليه حتى مضى لسبيله وتوجع اهل العلم لما نزل به
قال وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيما ومن نحا نحوه ليس بمارق ولا مبتدع بل البدع والترؤس بالجهل بغيرهم اولى اذ يفتون بالآراء المختلفة بما لم يأذن به الله
وقال الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب فهم القرآن لما تكلم على ما يدخل في النسخ ومالا يدخل في النسخ وما يظن أنه متعارض من الآيات وذكر عن أهل السماء في الارادة والسمع والبصر قولين في مثل قوله { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } سورة الفتح وقوله { وإذا أردنا أن نهلك قرية } سورة الاسراء 16
(2/45)
وقوله { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس 82 وكذلك قوله { إنا معكم مستمعون } سورة الشعراء 15 وقوله { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } سورة التوبة 105 ونحو ذلك فقال قد ذهب قوم من اهل السنة الى أن لله استماعا حادثا في ذاته وذكر أن هؤلاء وبعض اهل البدع تأولوا ذلك في الإرادة على الحوادث
قال فأما من ادعى السنة فأراد اثبات القدر فقال ارادة الله تحدث ان حدثت من تقدير سابق الارادة واما بعض البدع فزعموا أن الارادة انما هي خلق حادث ليست مخلوقة ولكن بها كون الله المخلوقين
قال وزعموا أن الخلق غير المخلوق وأن الخلق هو الارادة وأنها ليست بصفة لله من نفسه
(2/46)
قال ولذلك قال بعضهم إن رؤيته تحدث واختار الحارث المحاسبي القول الآخر وتأول النصوص على أن الحادث هو وقت المراد لا نفس الارادة قال وكذلك قوله { إنا معكم مستمعون } وقوله فسيرى الله عملكم تأوله على ان المراد حدوث المسموع والمبصر كما تأول قوله تعالى { حتى نعلم } سورة محمد حتى يكون المعلوم بغير حادث علم في الله ولا بصر ولا سمع ولامعنى حدث في ذات الله تعالى عن الحوادث في نفسه
وقال محمد بن الهيصم في كتاب جمل الكلام له لما ذكر جمل
(2/47)
الكلام في القرآن وأنه مبنى على خمسة فصول
أحدها أن القرآن كلام الله فقد حكى عن جهم بن صفوان أن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة انما هو كلام خلقه الله فنسب اليه كما قيل سماء الله وأرض الله وكما قيل بيت الله وشهر الله وأما المعتزلة فإنهم أطلقوا القول بأنه كلام الله على الحقيقة ثم وافقوا جهما في المعنى حيث قالوا كلام الله خلقه بائنا منه وقال عامة المسلمين ان القرآن كلام الله على الحقيقة وانه تكلم به
والفصل الثاني في أن القرآن غير قديم فان الكلابية وأصحاب الأشعرى زعموا أن الله لم يزل يتكلم بالقرآن وقال أهل الجماعة بل إنما تكلم بالقرآن حيث خاطب به جبريل وكذلك سائر الكتب
والفصل الثالث أن القرآن غير مخلوق فان الجهمية والنجارية والمعتزلة زعموا أنه مخلوق وقال أهل الجماعة انه غير مخلوق
والفصل الرابع أنه غير بائن من الله فان الجهمية وأشياعهم
(2/48)
من المعتزلة قالوا ان القرآن بائن من الله وكذلك سائر كلامه وزعموا أن الله خلق كلاما في الشجرة فسمعه موسى وخلق كلاما في الهواء فسمعه جبريل ولا يصح عندهم أن يوجد من الله كلام يقوم به في الحقيقة وقال اهل الجماعة بل القرآن غير بائن من الله وانما هو موجود منه وقائم به
وذكر محمد بن الهيصم في مسالة الارادة والخلق والمخلوق وغير ذلك ما يوافق ما ذكره هنا من اثبات الصفات الفعلية القائمة بالله التي ليست قديمة ولا مخلوقة
وقال عثمان بي سعيد الدرامي في كتابه المعروف بنقض عثمان بن سعيد على بشر المريسى الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد قال وادعى المعارض ايضا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ان الله ينزل الى السماء الدنيا حين يمضى ثلث الليل فيقول هل من مستغفر هل من تائب هل من داع قال فادعى أن الله ينل بنفسه انما ينزل أمره ورحمته وهو على العرش
(2/49)
وبكل مكان من غير زوال لإنه الحي القيوم والقيوم بزعمه من لا يزول
قال فيقال لهذا المعارض وهذا ايضا من حجج النساء والصبيان ومن ليس عنده بيان ولا لمذهبه برهان لأن امر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنزوله الليل دون النهار ويؤقت من الليل شطره أو الاسحار أفأمره ورحمته يدعوان العباد الى الاستغفار أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا هل من داع فأجيب هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطي فان قررت مذهبك لزمك أن تدعى أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان الى الاجابة والاستغفار بكلامها دون الله وهذا محال عند السفهاء فكيف عند الفقهاء قد علمتم ذلك ولكن تكابرون وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل ثم لا يمكثان الا طلوع الفجر ثم يرفعان لأن رفاعة يرويه يقول في حديثه حتى ينفجر الفجر قد علمتم ان شاء الله أن هذا التأويل
(2/50)
أبطل باطل لا يقبله الا كل جاهل واما دعواك أن تفسير القيوم الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك فلا يقبل منك هذا التفسير الا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه أو التابعين لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك اذا شاء ويهبط ويرتفع اذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس اذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك كل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة ومن يلتفت الى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول العزة رب العزة اذ فسر نزوله مشروحا منصوصا ووقت لنزوله وقتا مخصوصا لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا ولا عويصا قال ثم اجمل المعارض جميع ما ينكر الجهمية من صفات الله تعالى وذاته المسماة في كتابه وفي آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم فعد منها بضعا وثلاثين صفة نسقا واحدا يحكم عليها ويفسرها بما حكم المريسى وفسرها وتأولها حرفا حرفا خلاف ما عنى الله وخلاف
(2/51)
ما تأولها الفقهاء الصالحون لا يعتمد في اكثرها الا على المريسى فبدأ منها بالوجه ثم بالسمع والبصر والغضب والرضا والحب والبغض والفرح والكره والضحك والعجب والسخط والارادة والمشيئة والاصابع والكف والقدمين وقوله { كل شيء هالك إلا وجهه } سورة القصص 88 { فأينما تولوا فثم وجه الله } سورة البقرة 115 { وهو السميع البصير } سورة الشورى 11 و { خلقت بيدي } سورة ص 75 { وقالت اليهود يد الله مغلولة } سورة المائدة 64 و { يد الله فوق أيديهم } سورة الفتح 10 { والسماوات مطويات بيمينه } سورة الزمر 67 وقوله { فإنك بأعيننا } سورة الطور 48 و { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } سورة البقرة 210 { وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر 22 { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } سورة الحاقة 17 و { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 و { الذين يحملون العرش ومن حوله } سورة غافر 7
وقوله { ويحذركم الله نفسه } سورة آل عمران 28 30 وولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم سورة آل عمران 77 و { كتب ربكم على نفسه الرحمة } سورة الانعام 54 و { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } سورة المائدة 116 و { الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } سورة البقرة 222
(2/52)
قال عمد المعارض الى هذة الصفات والايات فنسقها ونظم بعضها الى بعض كما نظمها شيئا بعد شىء ثم فرقها ابوابا في كتابة وتلطف بردها بالتأويل كتلطف الجهمية معتمدا فيها على تفسير الزائغ الجهمى بشر بن غياث المريسي دون من سواه مستترا عند الجهال بالتشنيع بها على قوم يؤمنون بها ويصدقون الله ورسوله فيها بغير تكييف ولا تمثال فزعم ان هؤلاء المؤمنين بها يكيفونها ويشبهونها بذوات انفسهم وان العلماء بزعمه قالوا ليس فى شئ منها اجتهاد رأى ليدرك كيفية ذلك او يشبة شئ منها بشئ مما هو فى الخلق موجود
قال وهذا خطأ لما أن الله ليس كمثله شيء فكذلك ليس ككيفيته شيء
قال ابو سعيد فقلنا لهذا المعارض المدلس بالتشنيع أما قولك ان كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو في الخلق خطأ فأنا لا نقول انه خطأ كما قلت بل هو عندنا كفر ونحن لكيفيتها وتشبيهها بما
(2/53)
هو في الخلق موجود أشد أنفا منكم غير أنا كما لا نشبهها ولا نكيفها لا نكفر بها ولا نكذبها ولا نبطلها بتأويل الضلال كما أبطلها امامك المريسى في أماكن من كتابك سنبينها لمن غفل عنها ممن حواليك من الأغمار
وأما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الله فإنا لا نجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائض والأحكام التي نراها بأعيننا وتسمع في آذاننا فكيف في صفات الله التي لم ترها العيون وقصرت عنها الظنون غير أنا لا نقول فيها كما قال امامك المريسى ان هذه كلها شيء واحد وليس السمع منه غير البصر ولا الوجه منه غير اليد ولا اليد منه غير النفس وأن الرحمن ليس يعرف بزعمكم لنفسه سمعا من بصر ولا بصرا من سمع ولا وجها من يدين ولا يدين من وجه هو كله بزعمكم سمع وبصر ووجه وأعلى وأسفل ويد ونفس وعلم ومشيئة وارادة مثل
(2/54)
خلق الارضين والسماء والجبال والتلال والهواء التي لا يعرف لشيء منها شيء من هذه الصفات والذوات ولا يوقف لها منها على شيء فالله المتعالى عندنا ان يكون كذلك فقد ميز الله في كتابه السمع من البصر فقال { إنني معكما أسمع وأرى } سورة طه 46 و { إنا معكم مستمعون } سورة الشعراء 15 وقال { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم } سورة آل عمران 77 ففرق بين الكلام والنظر دون السمع فقال عند السماع والصوت { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } سورة المجادله 1 و { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } سوره آل عمران 181 ولم يقل قد رأى الله قول التي تجادلك في زوجها
وقال موضع الرؤية انه { الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين } سورة الشعراء 218 219 وقال تعالى { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله }
(2/55)
سورة التوبة 105 ولم يقل يسمع الله تقلبك ويسمع الله عملكم فلم يذكر الرؤية فيما يسمع ولا السماع فيما يرى لما أنهما عنده خلاف ما عندكم
وكذلك قال الله تعالى { ودسر تجري بأعيننا } سورة القمر 13 14 { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } سورة الطور 48 { ولتصنع على عيني } سورة طه 39 ولم يقل لشيء من ذلك على سمعي فكما نحن لا نكيف هذه الصفات لا نكذب بها كتكذيبكم ولا نفسرها كباطل تفسيركم
ثم قال باب الحد والعرش قال ابو سعيد وادعى المعارض ايضا انه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية
قال وهذا هو الاصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منها جميع اغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا انه سبق جهما اليها احد من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك ايها الاعجمي تعنى ان الله لا شيء لان الخلق كلهم قد
(2/56)
علموا انه ليس له شيء يقع عليه اسم الشيء الا وله حد وغاية وصفة وان لا شيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء ابدا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك لا حد له يعنى انه لا شيء
قال ابو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه احد غيره ولا يجوز لأحد ان يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك الى الله ولمكانه ايضا حد وهو على عرشه فوق سمواتة فهذان حدان اثنان
وسئل عبد الله بن المبارك بم نعرف ربنا قال بأنه على عرشه باءن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك
فمن ارعى أنه ليس لله حد فقد رد القرالقرآن وادعى أنه لا شيء لإن الله وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال { الرحمن على العرش استوى } سورة طه 5 { أأمنتم من في السماء } سورة الملك 16 { إني متوفيك ورافعك إلي } سورة آل عمران 55 { يخافون ربهم من فوقهم } سورة النحل 50 { إليه يصعد الكلم الطيب } سورة فاطر
(2/57)
فهذا كله وما أشبه من شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله وجحد آيات الله
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله فوق عرشه فوق سمواته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء قال اعتقها فانها مؤمنة قول رسوله الله صلى الله عليه وسلم أنها مؤمنه دليل على أنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء كما قال الله ورسوله لم تكن مؤمنة وانه لا يجوز في الرقبة المؤمنة الا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله
(2/58)
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا ابو معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم الها قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر اذ عرف أن اله العالمين في السماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسى وأصحابه مع ما ينتحلون من الاسلام اذ ميز بين الاله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض
وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحده بذلك الا المريسى الضال واصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك اذا حزب الصبي شيء يرفع يده الى ربه يدعوه في السماء دون ماسواها وكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية
(2/59)
ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها ويحكم على الله وعلى رسوله فيها حرفا بعد حرف وشيئا بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسى لا يعتمد فيها على امام أقدم منه ولا أرشد منه عنده فإغتمنا ذلك كله منه اذ صرح بإسمه وسلم فيها لحكمه لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره وهتك ستره وافتضاحه في مصره وفي سائر الأمصار الذين سمعوا بذكره
ثم ذكر الكلام على ابطال تأويلات الجهمية للصفات الواردة في الكتاب والسنة
وقال عثمان بن سعيد في كتاب الرد على الجهمية له باب الايمان بكلام الله قال ابو سعيد فالله المتكلم اولا وآخرا لم يزل له الكلام اذ لا متكلم غيره ولا يزال له الكلام اذ لا يبقى غيره فيقول { لمن الملك اليوم } سورة غافر 16 أنا
(2/60)
الملك أنا الديان أين ملوك الأرض فلا ينكر كلام الله الا من يريد ابطال ما أنزل الله عز وجل وكيف يعجز عن الكلام من علم العباد الكلام وأنطق الأنام قال الله تعالى في كتابه { وكلم الله موسى تكليما } سورة النساء 164 فهذا لا يحتمل تأويلا غير نفس الكلام وقال لموسى { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } سورة الأعراف 144 وقال الله تعالى { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } سورة البقرة 75 وقال { يريدون أن يبدلوا كلام الله } سورة الفتح 15 وقال لا تبديل لكلمات الله سورة يونس 64 وقال { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } سورة الأنعام
وذكر آيات أخر الى أن قال وقال تعالى لقوم موسى حين اتخذوا العجل فقال { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } سورة طه 89 وقال عجلا جسدا له خوار الم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين سورة الأعراف 148
(2/61)
قال ابو سعيد ففي كل ما ذكرنا تحقيق كلام الله وتثبيته نصا بلا تأويل ففيما عاب الله تعالى به العجل في عجزه عن القول والكلام بيان أن الله غير عاجز عنه وأنه متكلم وقائل لأنه لم يكن ليعيب العجل بشيء هو موجود فيه وقال ابراهيم { بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } سورة الانبياء 63 إلى قوله افلا تعقلون سورة الأنبياء 67 فلم يعب ابراهيم أصنامهم وآلهتهم التي يعبدون بالعجز عن الكلام الا وأن الهه متكلم قائل
وبسط الكلام في ذلك الى أن قال أرأيتم قولكم انه مخلوق فما بدء خلقه أقال الله له كن فكان كلاما قائما بنفسه بلا متكلم به فقد علم الناس الا ما شاء الله منهم أن الله لم يخلق كلاما يرى ويسمع بلا متكلم به فلا بد من أن تقولوا في دعواكم
(2/62)
الله المتكلم بالقرآن فأضعتموه الى الله فهذا أجور وأكذب الكذب أن تضيفوا كلام المخلوق الى الخالق ولو لم يكن كفرا كان كذبا بلا شك فيه فكيف وهو كفر لا شك فيه لا يجوز لمخلوق يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدعي الربوبية ويدعو الخلق الى عبادته فيقول { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } سورة طه 14 و { إني أنا ربك } سورة طه 12 { وأنا اخترتك } سورة طه 13 { واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري } سورة طه 41 42 { إنني معكما أسمع وأرى } سورة طه 46 { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } سورة الذاريات 56 { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } سورة يس 60 61 قد علم الخلق الا من اضله الله انه لا يجوز لأحد أن يقول هذا وما أشبهه ويدعيه غير الخالق بل القائل به والداعي الى عبادة غير الله كافر كفرعون الذي قال { أنا ربكم الأعلى } سورة النازعات 24 والمجيب له والمؤمن بدعواه اكفر وأكذب
وان قلتم تكلم به مخلوق فأضفناه الى الله لأن الخلق كلهم
(2/63)
بصفاتهم وكلامهم لله فهذا المحال الذي ليس ورائه محال فضلا عن أن يكون كفرا لأن الله عز وجل لن ينسب شيئا من الكلام كله الى نفسه انه كلامه غير القرآن وما أنزل على رسله فان قد تم كلامكم ولزمتموه لزمكم أن تسموا الشعر وجميع الغناء والنوح وكلام السباع والبهائم والطير كلام الله فهذا مما لم يختلف المصلون في بطوله واستحالته فما فضل القرآن اذا عندكم على الغناء والنوح والشعر واذا كان كله في دعواكم كلام الله فكيف خص القرآن بأنه كلام الله ونسب كل كلام الى قائله فكفا بقوم ضلالا ان يدعوا قولا لا يشك الموحدون في بطوله واستحالته
ومما يزيد دعواكم تكذيبا واستحالة ويزيد المؤمنين بكلام الله ايمانا وتصديقا ان الله قد ميز بين من كلم من رسله في الدنيا وبين من لم يكلم ومن يكلم من خلقه في الآخرة ومن لا يكلم فقال { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } سورة البقرة 253 فميز بين من اختصه الله بكلامه وبين من لم يكلمه ثم سمى ممن كلم الله موسى فقال { وكلم الله موسى تكليما } سورة النساء 164 فلو لم يكلمه بنفسه الا على تأويل ما
(2/64)
ادعيتم فما فضل من ذكر الله في تكليمه اياه على غيره من لم يكلمه اذ كل الرسل في تكليم الله اياهم مثل موسى وكل عندكم لم يسمع كلام الله وقد قال تعالى { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله } سورة آل عمران 77 ففي هذا بيان أنه لا يعاقب قوما يوم القيامة بصرف كلامه عنهم الا وأنه يثبت بتكليمه قوما آخرين
وقال ايضا في بيان كفر الجهمية أخبر الله أن القرآن كلامه وادعت الجهمية أنه خلقه وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليما وقال هؤلاء لم يكلمه الله بنفسه ولم يسمع موسى نفس كلام الله انما سمع كلاما خرج اليه من مخلوق ففي دعواهم دعى مخلوق موسى
(2/65)
الى ربوبيته فقال { إني أنا ربك فاخلع نعليك } سورة طه 12 فقال له موسى في دعواهم صدقت ثم اتى فرعون يدعوه الى ربوبية مخلوق كما أجاب موسى في دعواهم فما فرق بين موسى وفرعون في الكفر اذا فأي كفر اوضح من هذا وقال الله تبارك وتعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } سورة النحل 40 وقال هؤلاء ما قال لشيء قط قولا وكلاما كن فكان ولا يقوله ابدا ولم يخرج منه كلام قط ولا يخرج ولا هو يقدر على الكلام في دعواهم فالصنم في دعواهم والرحمن بمنزلة واحدة في الكلام
وقال ايضا في كتاب النقض على المريسى وادعيت أيها المريسى في قول الله عز وجل { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } سورة البقرة 210 وفي قوله { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } سورة الأنعام 158 فادعيت أن هذا ليس منه باتيان لما أنه غير متحرك عندك
(2/66)
ولكن يأتي بالقيامة بزعمك وقوله { يأتيهم الله في ظلل من الغمام } يأتي الله بأمره في ظليل من الغمام ولا يأتي هو بنفسه ثم زعمت أن معناه كمعنى قوله { فأتى الله بنيانهم من القواعد } سورة النحل 26 { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } سورة الحشر 2
فيقال لهذا المريسى قاتلك الله ما أجراك على الله وعلى كتابه بلا علم ولا بصر أنبأك الله أنه اتيان وتقول ليس بإتيان انما هو كقوله { فأتى الله بنيانهم من القواعد } سورة النحل 26 لقد ميزت بين ما جمع الله وجمعت بين ما ميز الله ولا يجمع بين هذين التأوليين الا كل جاهل بالكتاب والسنة لأن تاويل كل منهما مقرون به في سياق القراءة لا يجهلهه الا مثلك
وقد اتفقت الكلمة من المسلمين ان الله فوق عرشه فوق سماواته وأنه لا ينزل قبل يوم القيامة لعقوبة أحد من خلقه ولم يشكوا أنه ينزل يوم القيامة ليفصل بين عباده ويحاسبهم ويثيبهم وتشقق السماوات يومئذ لنزوله وتنزل لملائكة تنزيلا وحمل عرش ربك
(2/67)
فوقهم يومئذ ثمانية كما قال الله ورسوله فلما لم يشك المسلمون أن الله لا ينزل الى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من امور الدنيا علموا يقينا أن ما يأتي الناس من العقوبات انما هو من أمره وعذابه
فقوله { فأتى الله بنيانهم من القواعد } يعني مكره من قبل قواعد بنيانهم { فخر عليهم السقف من فوقهم } سورة النحل 26 فتفسير هذا الاتيان خرور السقف عليهم من فوقهم وقوله { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } مكر بهم { وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } سورة الحشر 2 وهم بنو النضير فتفسير الاتيانين مقرون بهما فخرور السقف والرعب وتفسير اتيان الله يوم القيامة منصوص في الكتاب مفسر قال الله تعالى { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } سورة الحاقة 13 18 الى قوله تعالى { هلك عني سلطانيه } سورة الحاقة 29 فقد فسر الله المعنيين تفسيرا لا لبس فيه
(2/68)
ولايشتبه على ذي عقل فقال فيما يصيب به من العقوبات في الدنيا { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } سورة يونس 24 فحين قال { أتاها أمرنا } علم اهل العلم ان امره ينزل من عنده من السماء وهو على عرشه فلما قال { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } سورة الحاقة 13 الايات التي ذكرناها وقال ايضا { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } سورة الفرقان و { يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور } سورة البقرة 210 و { دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر 21 22 علم بما نص الله من الدليل وبما حد لنزول الملائكة يومئذ ان هذا اتيان الله بنفسه يوم القيامة ليلى محاسبة خلقه بنفسه لا يلي ذلك أحد غيره وأن معناه مخالف لمعنى اتيان القواعد لاختلاف القضيتين
الى أن قال وقد كفانا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2/69)
وأصحابه تفسير هذا الاتيان حتى لا نحتاج منك له الى تفسير وذكر حديث ابي هريرة الذي في الصحيحين في تجليه يوم القيامة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال فيقول المؤمنون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه وذكر حديث ابن عباس من وجهين موقوتا ومرفوعا الى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ثم يأتي الرب تعالى في الكروبيين وهم أكثر من أهل السموات والأرض ورواه الحاكم في صحيحه وذكر عن أنس بن مالك أنه قال وتلا هذه الآية { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } قال يبدلها الله يوم القيامة بأرض من فضة لم تعمل عليها الخطايا ينزل عليها الجبار
ثم قال ومن يلتفت أيها المريسى الى تفسيرك المحال في اتيان
(2/70)
الله يوم القيامة ودع تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الا كل جاهل مجنون خاسر مغبون لما أنك مفتون في الدين مأفون وعلى تفسير كتاب الله غير مأمون ويلك أيأتي الله بالقيامة ويتغيب هو بنفسه فمن يحاسب الناس يومئذ لقد خشيت على من ذهب مذهبك هذا أنه لا يؤمن بيوم الحساب
وادعيت ايها المريسى قي قول الله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } سورة البقرة 255 وادعيت أن تفسير القيوم عندك الذي لا يزول يعنى الذي لا ينزل ولا يتحرك ولا يقبض ولا يبسط وأسندت ذلك عن بعض أصحابك غير مسمى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس انه قال القيوم الذي لا يزول دمع روايتك هذه عن ابن العباس دلائل وشواهد أنها باطلة
احداها أنك رويتها وأنت المتهم في توحيد الله
والثانية أنك رويته عن بعض أصحابك غير مسمى وأصحابك مثلك في الظنة والتهمة
(2/71)
والثالثة أنه عن الكلبي وقد أجمع أهل العلم بالأثر على أن لا يحتجوا بالكلبي في أدنى حلال ولا حرام فكيف في تفسير توحيد الله وتفسير كتابه وكذلك أبو صالح
ولو قد صحت روايتك عن ابن عباس أنه قال القيوم الذي لا يزول لم نستنكره وكان معناه مفهوما واضحا عند العلماء وعند أهل البصر بالعربية أن معنى لا يزول لا يفنى ولا يبيد لا أنه لا يتحرك ولا يزول من مكان الى مكان اذا شاء كما كان يقال للشيء الفاني هو زائل كما قال لبيد
الا كل شيء ماخلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل يعني فان لا أنه متحرك فان أمارة ما بين الحي والميت التحرك وما لا يتحرك فهو ميت لا يوصف بحياة كما لا توصف الأصنام الميتة قال الله تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } سورة النحل 20 21 فالله الحي القيوم القابض الباسط يتحرك اذا شاء
(2/72)
وينزل اذا شاء ويفعل ما يشاء بخلاف الأصنام الميتة التي لا تزول حتى تزال
واحتججت أيها المريسى في نفي التحرك عن الله والزوال بحجج الصبيان فزعمت أن ابراهيم صلى الله عليه وسلم حين رأى كوكبا وشمسا وقمرا قال { هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين } سورة الأنعام 76 ثم قلت فنفى ابراهيم المحبة عن كل اله زائل يعني أن الله اذا نزل من سماء الى سماء أو نزل يوم القيامة لمحاسبة العباد فقد أفل وزال كما أفل الشمس والقمر فتنصل من ربوبيتهما ابراهيم فلو قاس هذا القياس تركى طمطماني أو رومي عجمي ما زاد على ما قست قبحا وسماجة ويلك من قال من خلق الله ان الله اذا نزل أو تحرك أو نزل ليوم الحساب أفل في شيء كما تأفل الشمس في عين حمئة ان الله لا يأفل في شيء سواه اذا نزل أو ارتفع كما تأفل الشمس والقمر والكواكب بل هو العالي على كل شيء المحيط بكل شيء في جميع أحواله من نزوله وارتفاعه وهو الفعال لما يريد لا يأفل في شيء بل الأشياء كلها تخشع له وتتواضع والشمس والقمر والكواكب خلائق مخلوقة اذا افلت افلت في مخلوق في عين حمئة كما قال الله تعالى والله أعلى وأجل لا يحيط به شيء ولا يحتوي عليه شيء
(2/73)
وقال أبو بكر عبد العزيز بن الجعفر صاحب الخلال في أول كتابه الكبير المسمى بالمقنع وقد ذكر ذلك عنه القاضي أبو يعلى في كتاب ايضاح البيان في مسألة القرآن قال أبو بكر لما سألوه انكم اذا قلتم لم يزل متكلما كان ذلك عبثا فقال لأصحابنا قولان أحدهما أنه لم يزل متكلما كالعلم لأن ضد الكلام الخرس كما أن ضد العلم الجهل قال ومن أصحابنا من قال قد أثبت سبحانه لنفسه أنه خالق ولم يجز ان يكون خالقا في كل حال بل قلنا انه خالق في وقت ارادته ان يخلق وان لم يكن خالقا في كل حال ولم يبطل ان يكون خالقا كذلك وان لم يكن متكلما في كل حال لم يبطل أن يكون متكلما بل هو متكلم خلق وان لم يكن خالقا في كل حال ولا متكلما في كل حال
وذكر القاضي ابو يعلى في كتابه المسمى با يضاح البيان هذا السؤال فقال نقول انه لم يزل متكلما وليس بمكلم ولا مخاطب ولا امر ولا ناه نص عليه احمد في روايه حنبل فقال لم يزل الله متكلما عالما غفورا قال وقال في رواية عبد الله لم يزل الله متكلما اذا شاء
(2/74)
وقال حنبل في موضع اخر سمعت ابا عبد الله يقول لم يزل الله متكلما والقران كلام الله غير مخلوق
قال القاضي ابو يعلى وقال احمد في الجزء الذي فيه الرد على الجهمية والزنادقة وكذلك الله يتكلم كيف شاء من غير ان نقول جوف ولا فم ولا شفتان
وقال بعد ذلك بل نقول ان الله لم يزل متكلما اذا شاء ولا نقول انه كان ولا يتكلم حتى خلق
وقال أبو عبد الله بن حامد في كتابه في أصول الدين ومما يجب الايمان به والتصديق أن الله متكلم وأن الله متكلم وان كلامه قديم وأنه لم يزل متكلما في كل اوقاته موصوفا بذلك وكلامه قديم غير محدث كالعلم والقدرة
قال وقد يجيء على المذهب أن يكون الكلام صفة المتكلم لم يزل موصوفا بذلك ومتكلما كما شاء وذا شاء ولا نقول أنه
(2/75)
ساكت في حال أو متكلم في حال من حيث حدوث الكلام
قال ولا خلاف عن ابي عبد الله أن الله كان متكلما قبل أن يخلق الخلق وقبل كل الكائنات وان الله كان في ما لم يزل متكلما كيف وكما شاء واذا شاء انزل كلامه واذا شاء لم ينزله
قلت قول ابن حامد ولا نقول أنه ساكت في حال أو متكلم في حال من حيث حدوث الكلام يريد به أنا لا نقول أن جنس كلامه حادث في ذاته كما تقول الكرامية من أنه كان ولا يتكلم ثم صار يتكلم من بعد أن لم يكن متكلما في الأزل ولا كان تكلمه ممكنا
وقال أبو اسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بشيخ الاسلام في اعتقاد اهل السنة وما وقع عليه اجماع أهل الحق من الأمة اعلم أن الله متكلم قائل مادح نفسه وهو متكلم كلما شاءويتكلم بكلام لا مانع له ولا مكره والقرآن كلامه هو تكلم به
وقال ايضا في كتاب مناقب احمد بن حنبل في باب الاشارة الى طريقته في الاصول لما ذكر كلامه في مسائل القرآن وترتيب البدع التي ظهرت فيه وأنهم قالوا أولا هو مخلوق وجرت المحنة المشهورة ثم مسألة اللفظية بسبب حسين الكرابيسي الى أن قال وجاءت
(2/76)
طائفة فقالت لا يتكلم بعد ما تكلم فيكون كلامه حادثا قال وهذه سحارة أخرى تقذي في الدين غير عين واحدة فانتبه لها أبو بكر بن خزيمة وكانت حينئذ بنيسابور دار الآثار تمد اليها الدانات وتشد اليها الركائب ويجلب منها العلم وما ظنك بمجالس يحبس عنها الثقفي والصبغي مع ما جمعا من الحديث والفقه والصدق والورع واللسان والبيت والقدر لا يستر لوث بالكلام واستمام لأهله فابن خزيمة في بيت ومحمد بن اسحاق في بيت وأبو حامد القرشوقي في بيت قال فطار لتلك الفتنة ذلك الامام أبو بكر فلم يزل يصيح بتشويهها ويصنف في ردها كأنه منذر جيش حتى
(2/77)
دون في الدفاتر وتمكن في السرائر ولقن في الكتاتيب ونقش في المحاريب أن الله متكلم ان شاء الله تكلم وان شاء سكت فجزى الله ذلك الامام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خيرا
قلت هذه القصة التي أشار اليها عن ابن خزيمة مشهورة ذكرها غير واحد من المصنفين كالحاكم أبي عبد الله في تاريخ نيسابور وغيره ذكر أنه رفع الى الامام أنه قد نبغ طائفة من أصحابه يخالفونه وهو لا يدري وأنهم على مذهب الكلابية وأبو بكر الامام شديد على الكلابية
قال فحدثني أبو بكر أحمد بن يحيى المتكلم قال اجتمعتا ليلة عند بعض أهل العلم وجرى ذكر كلام الله أقديم لم يزل أو يثبت عند اختياره تعالى أن يتكلم به فوقع بيننا في ذلك خوض قال جماعة منا ان كلام الباري قديم لم يزل وقال جماعة ان كلامه قديم غير أنه لا يثبت الا باختياره لكلامه فبكرت أنا الى أبي على الثقفي وأخبرته بما جرى فقال من أنكر أنه لم يزل فقد اعتقد أنه محدث وانتشرت هذه المسألة في البلد وذهب منصور الطوسي في جماعة معه الى ابي بكر محمد بن اسحاق واخبروه بذلك حتى قال منصور الم أقل للشيخ ان هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية وهذا مذهبهم
(2/78)
فجمع ابو بكر اصحابه وقال الم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام ولم يزدهم على هذا في ذلك اليوم وذكر أنه بعد ذلك خرج على أصحابه وأنه صنف في الرد عليهم وأنهم ناقضوه ونسبوه الى القول بقول جهم في أن القرآن محدث وجعلهم هو كلابية
قال الحاكم سمعت أبا عبد الرحمن بن أحمد المقري يقول سمعت أبا بكر محمد بن اسحاق يقول الذي اقول به أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزليه غير مخلوق ومن قال أن القران أو شيئا منه وحيه وتنزيله مخلوق أو يقول ان الله لا يتكلم بعد ما كان تكلم به في الأزل أو يقول ان أفعال الله مخلوقة أو يقول ان القرآن محدث أو يقول ان شيئا من صفات الله صفات الذات أو اسما من أسماء الله مخلوق فهو عندي جهمي يستتاب فان تاب والا ضربت عنقه هذا مذهبي ومذهب من رأيت من أهل الأثر في الشرق والغرب من أهل العلم ومن حكى عني خلاف هذا فهو كاذب باهت ومن نظر في كتبي المصنفة ظهر له وبان أن الكلابية كذبة فيما يحكون عني مما هو خلاف أصلي وديانتي
وذكرعن ابن خزيمة أنه قال زعم بعض جهلة الذين نبغوا في سنتنا هذه أن الله لا يكرر الكلام فهم لا يفهمون كتاب الله فإن
(2/79)
الله قد أخبر في نص الكتاب في مواضع أنه خلق آدم وأنه أمر الملائكة بالسجود له فكرر هذا الذكر في غير موضع وكرر ذكر كلامه مع موسى مرة بعد أخرى وكرر ذكر عيسى بن مريم في مواضع وحمد نفسه في مواضع فقال { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } سورة الكهف 1 و { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض } سورة الانعام 1 و { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } سورة سبأ 1 وكرر زيادة على ثلاثين مرة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } سورة الرحمن ولم أتوهم أن مسلما يتوهم أن الله لا يتكلم بشيء مرتين
قال الحاكم سمعت أبا بكر محمد بن اسحاق يعني الصبغي يقول لما وقع من أمرنا ما وقع ووجد بعض المخالفين يعني المعتزلة الفرصة في تقرير مذهبهم بحضرتنا قال أبو على الثقفي للامام ما الذي أنكرت من مذاهبنا أيها الامام حتى نرجع عنه قال ميلكم الى مذاهب الكلابية فقد كان
(2/80)
أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد وعلى أصحابه مثل الحارث المحاسبي وغيره حتى طال الخطاب بينه وبين أبي على في هذا الباب فقلت قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق فأخرجت اليه الطبق فقلت تأمل ما جمعته بخطى وبينته في هذه المسائل فان كان فيها شيء تكرهه فبين لنا وجهه فذكر أنه تأمله ولم ينكر منه شيئا وذكر لشيخه الخط وفيه ان الله بجميع صفات ذاته واحد ولم يزل ولا يزال وما أضيف الى الله من صفات فعله مما هو غيربائن عن الله فغير مخلوق وكل شىء أضيف إلى الله بائن عنه دونه خلقه
وذكر أن أبا العباس القلانسي وغيره من خالف ابا بكر وأنه كتب الى جماعة منا العلماء تلك المسائل وأنهم كانو يرفعون من خالف أبا بكر الى السلطان وأن أمير نيسابور أمر أن يمتثل أمر أبي بكر فيهم من النفي والضرب والحبس وأن عبد الله بن حماد قال طوبى لهم ان كان ما يقال عنهم مكذوبا عليهم وأن عبد الله بن حماد
(2/81)
من غد ذلك اليوم قال رأيت البارحة في المنام كان أحمد بن السري الزاهد المروزى لكمني برجله ثم قال كأنك في شك من امور هؤلاء الكلابية قال ثم نظر الى محمد بن اسحاق فقال { هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب } سورة ابراهيم 52 وهذه القصة مبسوطة في موضع آخر وأكثر أهل العلم والدين كانوا مع ابن خزيمة على الكلابية
ذكر أبو اسماعيل الأنصاري المعروف بشيخ الاسلام في كتاب ذم الكلام سمعت أبا نصر بن أبي سعيد الرداد سمعت أبراهيم بن اسماعيل الخلال يقول اني ذهبت بكتاب ابن خزيمة في الصبغي والثقفي الى أمير المؤمنين فكتب بصلبهما فقال ابن خزيمة لا قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق من أقوام فلم يصلبهم
قال أبو اسماعيل سمعت اسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني يقول استتيب الصبغي والثقفي على قبر ابن خزيمة
وقال سمعت أحمد بن أبي نصر يقول رأينا محمد بن الحسين السلمي يعني أبا عبد الرحمن السلمي صاحب التصانيف المعروفة في طريقة الصوفية يلعن الكلابية
(2/82)
قال وسمعت محمد بن العباس بن محمد يقول كان أبو على الرفا يقول لعن الله الكلابية
ومن الموافقين لابن خزيمة أبو حامد الشاركي وأبو سعيد الزاهد ويحيى بن عمار وأبو عثمان النيسابوري الملقب بشيخ الاسلام
قال وسمعت عبد الواحد بن ياسين يقول رأيت بابين قلعا من مدرسة أبي الطيب يعني الصعلوكي بأمره من بيتي شابين حضرا أبا بكر بن فورك وسمعت الطيب بن محمد سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول وجدت أبا حامد الاسفرايني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي وابا منصور الحاكم على الانكار على الكلام واهله
وقال الحافظ ابو نصر السجزي في رسالته المعروفه الى اهل زبيد في الواجب من القول في القرآن اعلموا ارشدنا الله واياكم انه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من اول الزمان الى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري واقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم بل أخس حالا منهم في
(2/83)
الباطن من أن الكلام لا يكون الا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق وان اختلفت به اللغات وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا الكلام حروف متسقة وأصوات مقطعة وقالت يعني علماء العربية الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى فالاسم مثل زيد وعمرو والفعل مثل جاء وذهب والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد وما شاكل ذلك فالاجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه وحاولوا الرد على المعتزله من طريق مجرد العقل وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها اخبار آحاد وهي لا توجب علما والزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت يدخله التعاقب والتأليف وذلك لا يوجد في الشاهد الا بحركة وسكون ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق والكل والبعض والحركة والسكون وحكم الصفة الذاتية حكم الذات
قالوا فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف الى الله تعالى خلق له
(2/84)
احدثه وأضافه الى نفسه كما نقول خلق الله وعبد الله وفعل الله
قال فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الالزام لقلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها وتسليمهم العنان الى مجرد العقل
فالتزموا ما قالته المعتزلة وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الاجماع المنعقد بين الكافة المسلم والكافر وقالو للمعتزلة الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام وانما سمي ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه وحقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم فمنهم من اقتصر على هذا القدر ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد فزاد فيه تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام ثم خرجوا من هذا الى ان اثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم واثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم واثبات اللغة فيه تشبيه وتعلقوا بشبه منها قول الآخطل % ان البيان من الفؤاد وانما % جعل اللسان على الفؤاد دليلا %
(2/85)
فغيروه وقالوا ان الكلام من الفؤاد وزعموا أن لهم حجة على مقالتهم في قوله تعالى { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } سورة المجادلة 8 وقول الله عز وجل { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } سورة يوسف 77 واحتجوا بقول العرب ارى فى نفسك كلاما وفى وجهك كلاما فألجاهم الضيق مما دخل عليهم فى مقالتهم الى ان قالوا الاخرس متكلم وكذلك الساكت والنائم ولهم فى حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم متكلمون بة ثم افصحوا بإن الخرس والسكوت والافات المانعة من النطق ليست باضداد الكلام
وهذة مقالة تبين فضيحة قائلها فى ظاهرها من غير رد علية ومن علم منه خرق اجماع الكافة ومخالفة كل عقلى وسمعى قبلة لم يناظر بل يجانب ويقمع
وقال ابو نصر السجزى ايضا فى كتابة المسمى بالابانة فى مسألة القرآن لما قيل لة ان القراءة عمل والعمل لا يكون صفة اللة والدليل على انها عمل انك تقول قرا فلان يقرا وما حسن فيه ذكر المستقبل فهو عند العرب عمل
(2/86)
فقال هذا لا يلزم لأنك تقول قال الله عز وجل و يقول الله عز وجل والله تعالى قال { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } سورة البقرة 35 وقال تعالى { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } سورة ق 30 فقد حسن في القول ذكر المستقبل
فإن ارتكبوا العظمى وقالوا كلام الله شيء واحد على أصلنا لا يتجزأ وليس بلغة والله سبحانه من الأزل الى الأبد متكلم بكلام واحد لا أول له ولا آخر فقال ويقول إنما يرجع الى العبارة لا الى المعبر عنه
قيل لهم قد بينا مرارا كثيرة أن قولكم في هذا الباب فاسدو أنه مخالف للعقليين والشرعيين جميعا وأن النص الكتاب والثابت من الأثر قد نطقا بفساده قال الله تالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } سورة النحل 40 فبين الله سبحانه أنه يقول للشيء كن إذا أراد كونه فعلم بذلك أنه لم يقل للقيامة بعد كوني
وقال أيضا في موضع آخر النبي صلى الله عليه وسلم قال نبدأ بما بدأ الله به ثم قرأ { إن الصفا والمروة من شعائر الله }
(2/87)
سورة البقرة 158 والله تعالى قال { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } سورة آل عمران 59 وقال { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس 82 فبين جل جلاله أنه قال لآدم بعد أن خلقه من تراب كن وأنه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون ولم يقتض ذلك حدوثا ولا خلقا بعد حدوث نوع الكلام لما قام من الدليل على انتفاء الخلق عن كلام الله تعالى
وقال أبو نصر السجزي أيضا فأما الله تعالى فإنه متكلم فيما لم يزل ولا يزال متكلما لما شاء من الكلام يسمع من يشاء من خلقه ما شاء من كلامه إذا شاء ذلك ويكلم من شاء تكليمه بما يعرفه ولا يجهله وهو سبحانه حي عليم متكلم لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء لا يوصف الا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ليس بجسم ولا في معنى جسم ولا يوصف بأداة ولا جارحة وآلة وكلامه
(2/88)
أحسن الكلام وفيه سور وأي وكلمات وكل ذلك حروف وهو مسموع منه على الحقيقة سماعا يعقله الخلق ولا كيفية لتكلمه وتكليمه وجائز وجود أعداد من المكلمين يكلمهم سبحانه في حال واحدة بما يريده من كل واحد منهم من غير أن يشغله تكليم هذا عن تكليم هذا
قال ومنع كثير من أهل العلم إطلاق السكوت عليه ومن أهل الأثر من جوز اطلاق السكوت عليه لوروده في الحديث وقال معناه تركه التوبيخ والتقرير والمحاسبة اليوم وسيأتي يوم يقرر فيه ويحاسب ويوبخ فذلك الترك بمعنى السكوت
قال والأصل الذي يجب أن يعلم أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسمين بها فنحن إذا قلنا إن الله موجود رؤوف واحد حي عليم سميع بصير متكلم وقلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم كان موجودا حيا عالما سميعا بصيرا متكلما لم يكن ذلك تشبيها ولا خالفنا به أحدا من السلف والأئمة بل الله موجود لم يزل واحد حي قديم قيوم عالم سميع بصير متكلم فيما لم يزل ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات والموجود منا إنما وجد عن عدم وحيي بمعنى
(2/89)
حله ثم يصير ميتا بزوال ذلك المعنى وعلم بعد أن لم يعلم وقد ينسى ما علم وسمع وأبصر وتكلم بجوارح قد تلحقها الآفات فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق سبحانه وتعالى وإن اتفقت مسميات هذه الصفات
وقال أبو نصر أيضا خاطبني بعض الأشعرية يوما في هذا الفصل وقال التجزؤ على القديم غير جائز فقلت له أتقر بأن الله أسمع موسى كلامه على الحيقة بلا ترجمان فقال نعم وهم يطلقون ذلك ويموهون على من لم يخبر مذهبهم وحقيقة سماع كلام الله من ذاته على أصل الأشعري محال لأن سماع الخلق على ما جبلوا عليه من البنية وأجروا عليه من العادة لا يكون ألبتة الا لما هو صوت أوفي معنى الصوت واذا لم يكن كذلك كان الواصل الى معرفته بضرب من العلم والفهم وهما يقومان في وقت مقام السماع لحصول العلم بهما كما يحصل بالسماع وربما سمى ذلك سماعا على التجوز لقربه من معناه فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري
قال فقلت لمخاطبي الأشعري قد علمنا جميعا أن حقيقة السماع لكلام الله منه على أصلكم محال وليس ههنا من تتقيه وتخشى
(2/90)
تشنيعه وإنما مذهبك أن الله يفهم من شاء كلامه بلطيفة منه حتى يصير عالما متيقنا بأن الذي فهمه كلام الله والذي أريد أن ألزمك وارد على الفهم وروده على السماع فدع التمويه ودع المصانعة ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله أفهم كلام الله مطلقا أم مقيدا فتلكأ قليلا ثم قال ما تريد بعد فقلت دع إرادتي وأجب بما عندك فأبا وقال ما تريد بهذا فقلت أريد أنك إن قلت إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقا اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل الى الأبد إلا وقد فهمه موسى وهذا يؤول الى الكفر فإن الله تعالى يقول { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } سورة البقرة 255 ولو جاز ذلك لصار من فهم كلام الله عالما بالغيب وبما في نفس الله تعالى وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام أنه يقول { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } سورة المائدة 116 وإذا لم يجز إطلاقه وألجئت الى أن تقول افهمه الله ما شاء من كلامه دخلت في التبعيض الذي هربت منه وكفرت من قال به ويكون مخالفك أسعد منك لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز وجل ومن قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت أبيت أن تقبل
(2/91)
ذلك وادعيت أن الواجب المصير الى حكيم العقل في هذا الباب وقد ردك العقل الى موافقة النص خاسئا
فقال هذا يحتاج الى تأمل وقطع كلام
وقال أبو نصر لم يزل الله متكلما لأن الكلام من صفات المدح لحي الفاعل وضده من النقائص والله منزه عنها وذكر كلاما كثيرا الى أن قال وقد ثبت بما ذكرناه كون القرآن مفرقا مفصلا ذا أجزاء وأبعاض وآي وكلمات وحروف وأن ما كان بخلاف ذلك لم يكن القرآن المنزل الذي آمن به المسلمون وجحده الكفار وأن المقروء سور وآي وكلمات وحروف وكذلك المحفوظ والمكتوب والمتلو وأنه عربي مبين نازل بلسان العرب ولسان قريش والمراد باللسان في هذا الباب اللغة لا اللسان الذي هو لحم ودم وعروق تعالى الله عن ذلك وجل عن أن يوصف إلا بما وصف به نفسه وتنزه عن الأشباه
قال ونحن نذكر عقب هذا الفصل فصلا في ذكر حروف القرآن وفصلا بعد ذلك في الصوت وما ورد فيه من القرآن والحديث وكل ذي لب صحيح يعرف بالحس والمشاهدة قبل الاستدلال أن القرآن العربي حروف ولا فرق بين منكر ذلك ومنكر الحواس وأنها من مباديء العلم وأسباب المدارك
(2/92)
قال وقد بين الله في كتابه مالا إشكال بعده في هذا الفصل لما قال { وإذ نادى ربك موسى } سورة الشعراء 10 والعرب لا تعرف نداء الا صوتا وقد جاء عن موسى تحقيق ذلك فإن أنكرو الظاهر كفروا وإن قالوا إن النداء غير صوت خالفوا لغات العرب وإن قالوا نادى المير إذا أمر غيره بالنداء دفعوا فضيلة موسى عليه السلام المختصة به من تكليم الله إياه بذاته من غير واسطة ولا ترجمان وليس في وجود الصوت من الله تعالى تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق كما لم يكن في إتبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه وكيف وكلامه وكلام خلقه معا عند الأشعري معنى قائم بذات المتكلم لا يختلف فهو المشبه لا محاله
قال واما نحن فنقول كلام الله حرف وصوت بحكم النص قال وليس ذلك عن جارحة ولا آلة وكلامنا حروف وأصوات لا يوجد ذلك منا الا بآله والله سبحانه وتعالى يتكلم بما شاء لا يشغله شيء عن شيء والمتكلم منا لا يتأتى منه أداء حرفين إلا بأن يفرغ من أحدهما ويبتديء في الآخر والقرآن لما كن كلاما لله كان معجزا وكلام الخلق غير معجز وفي كلام الله بيان ما كان وما سيكون
(2/93)
وما لا يكون ابدا لو كان كيف كان يكون والخلق لا يصلون الى هذه الأشياء إلا بتعريف
وقال أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي في كتابه المعروف بالحجة على تارك المحجة أجمع المسلمون على أن القرآن كلام الله وإذا صح أنه كلام الله صح أنه صفة الله تعالى وأنه موصوف به وهذه الصفة لازمة لذاته تقول العرب زيد متكلم فالكلام صفه له لا نعرف إلا ان حقيقة هذه الصفة الكلام كان كذلك كان القرآن كلام الله وكانت هذه الصفه لازمه له أزلية والدليل على ان الكلام لا يفارق المتكلم أنه لو كان مفارقه لم يكن للمتكلم الا كلمة واحدة فإذا تكلم بها لم يبق له كلام فلما كان المتكلم قادرا على كلمات كثيرة كلمة بعد كلمة دل على أن تلك الكلمات فروع لكلامه الذي هو صفة له ملازمة
قال والدليل على أن القرآن غير مخلوق أنه كلام الله وكلام الله سبب الى خلق الأشياء قا الله تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } سورة النحل 40 أي أردنا خلقه وايجاده وإظهاره فقوله كن كلام الله وصفته والصفة التي منها يتفرع
(2/94)
الخلق والفعل وبها يتكون المخلوق لا تكون مخلوقة ولا يكون مثلها للمخلوق والدليل على أنه كلام لا يشبه كلام المخلوقين أنه كلام معجز وكلام المخلوقين غير معجز لو اجتمع الخلق على أن يأتوا بمثل سورة من سوره أو آية من آياته عجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه
وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول وذكر اثني عشر إماما الشافعي ومالك والثوري وأحمد وابن عيينة وابن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد وأسحاق بن راهوية والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم
ثم قال فيه سمعت الإمام أبا منصو محمد بن أحمد يقول سمعت الإمام أبا بكر عبد اله بن أحمد يقول سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر والقرآن حمله جبريل مسموعا من الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا ومنقوشا وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام
(2/95)
الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس اجمعين قال الشيخ أبو الحسن وكان الشيخ ابو حامد الإسفرايني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام قال ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا الى الأشعري ويتبرؤن مما بنى الأشعري مذهبه عليه وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن على الساجي يقولون سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علما وأصحابا اذا سعى الى الجمعة من قطعية الكرج الى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول اشهدوا على بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل لا كما يقوله الباقلاني وتكرر ذلك منه جمعات فقيل له في ذلك
(2/96)
فقال حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح ويشيع الخبر في أهل البلاد أني بريء مما هم عليه يعني الأشعرية وبريء من مذهب ابي بكر بن الباقلاني فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية وقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه فإذا رجعوا الى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة فيظن ظان أنهم منى تعلموه قبله وأنا ما قلته وأنا بريء من مذهب البلاقلاني وعقيدته
قال الشيخ أبو الحسن الكرجي وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول سمعت شيخنا الأمام أبا بكر الزاذقاني يقول كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفرانين وكان ينهي أصحابه عن الكلام وعن الدخول على الباقلاني فبلغه أن نفرا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكم فظن أني معهم ومنهم وذكر قصة قال في آخرها إن الشيخ أبا حامد قال لي يا بني قد بلغني أنك تدخل على هذا الرجل يعني الباقلاني فإياك وإياه فإنه مبتدع يدعو الناس الى الضلالة وإلا فلا تحضر مجلسي فقلت أنا عائذ بالله مما قيل وتائب اليه واشهدوا على أني لا أدخل إليه
(2/97)
قال الشيخ أبو الحسن وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد أظن الشيخ ابا إسحاق الشيرازي أحدهم قالوا كان أبو بكر الباقلانى يخرج الى الحمام متبرقعا خوفا من الشيخ ابي حامد الإسفرايني
قال أبو الحسن ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري وعلقه عنه ابو بكر الزاذاقاني وهو عندي وبه اقتدي الشيخ ابو اسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع والتبصرة حتى لو وافق قول الأشعري وجها لأصحابنا ميزه وقال هو قول بعض اصحابنا وبه قالت الأشعرية ولم يعدهم من أصحاب الشافعي استنكفوا منهم ومن مذهبهم في اصول الفقه فضلا عن أصول الدين
قلت هذا المنقول عن الشيخ ابي حامد وأمثاله من أئمة اصحاب الشافعي أصحاب الوجوه معروف في كتبهم المصنفة في أصول الفقه وغيرها
وقد ذكر الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابو اسحاق الشرازي وغير واحد بينوا مخالفة الشافعي وغيره من الأئمة لقول ابن كلاب والأشعري في مسألة الكلام التي امتاز بها ابن كلاب والأشعري عن غيرهما والا فسائر المسائل ليس لابن كلاب والأشعري بها
(2/98)
اختصاص بل ما قالاه قاله غيرهما إما من أهل السنة والحديث وإما من غيرهم بخلاف ما قاله ابن كلاب في مسألة الكلام واتبعه عليه الأشعري فإنه لم يسبق ابن كلاب الى ذلك أحد ولا وافقه عليه أحد من رؤوس الطوائف واصله في ذلك هي مسألة الصفات الإختيارية ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته تعالى هل تقوم بذاته أم لا فكان السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقا والجهمية من المعتزلة وغيرهم ينكرون ذلك مطلقا فوافق ابن كلاب والسلف والأئمة في إثبات الصفات ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال به تعالى وما يتعلق بمشيئته وقدرته
ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه كالقلانسي والأشعري ونحوهما بأن في أقوالهم بقايا من الإعتزال وهذه البقايا أصلها هو الإستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال
وقد ذكر الأشعري في رسالته الى أهل الثغر بباب الأبواب أنه طريق مبتدع في دين الرسل محرم عندهم وكذلك غير الأشعري كالخطابي وأمثاله يذكرون ذلك لكن مع هذا من وافق ابن كلاب لا يرى بطلان هذه الطريقة عقلا وإن لم يقل إن الدين محتاج اليها فلما رأى من رأى صحتها لزمه إما قول ابن كلاب أو ما يضاهيه
وهذا الذي نقلوه من إنكار أبي حامد وغيره على القاضي أبي بكر
(2/99)
الباقلاني هو بسبب هذا الاصل وجرى له بسبب ذلك امور اخرى وقام عليه الشيخ ابو حامد والشيخ ابو عبدالله بن حامد وغيرهما من العلماء من اهل العراق وخراسان والشام واهل الحجاز ومصر مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة والرد على الزنادقة والملحدين واهل البدع حتى انه لم يكن في المنتسبين الى ابن كلاب والأشعري اجل منه ولا احسن كتبا وتصنيفا وبسببه انتشر هذا القول وكان منتسبا الى الامام احمد واهل السنة واهل الحديث والسلف مع انتسابه الى مالك والشافعي وغيرهما من الائمة حتى كان يكتب في بعض اجوبته محمد بن الطيب الحنبلى وكان بينه وبين ابى الحسن التميمي واهل بيته وغيرهم من التميميين من الموالاة والمصافاة ما هو معروف كما تقدم ذكر ذلك ولهذا غلب على التميين موافقته في اصوله ولما صنف ابو بكر البيهقى كتابة فى مناقب الامام احمد وابو بكر البيهقى موافق لابن الباقلانى فى اصوله ذكر ابو بكر اعتقاد احمد الذى صنفه ابو الفضل عبد الواحد بن ابى الحسن التميمى وهو مشابه لاصول القاضى ابى بكر وقد حكى عنه انه كان اذا درس مسالة الكلام على اصول ابن كلاب و الاشعرى يقول هذا الذى ذكره ابو الحسن اشرحه لكم و انا لم تتبين لى هذه المسالة فكان يحكى عنه الوقف فيها اذ له فى عدة من المسائل
(2/100)
قولان وأكثركما تنطق بذلك كتبه ومع هذا تكلم فيه أهل العلم وفي طريقته التي أصلها هذه المسأله مما يطول وصفه كما تكلم من قبل هؤلاء في ابن كلاب ومن وافقه حتى ذكر أبو اسماعيل الانصاري قال سمعت احمد بن أبي رافع وخلقا يذكرون شدة أبي حامد يعني الإسفرايني على ابن الباقلاني قال وأنا بلغت رسالة أبي سعد الى ابنه سالم ببغداد ان كنت تريد أن ترجع الى هراة فلا تقرب الباقلاني قال وسمعت الحسين بن أبي امامة المالكي يقول سمعت أبي يقول لعن الله أبا ذر الهروي فإنه أول من حمل الكلام الى الحرم وأول من بثه في المغاربه
قلت أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة في الحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به وكان قد قدم الى بغداد من هراة فأخذ طريقة إبن الباقلاني وحملها الى الحرم فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم كأبي نصر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين بما ليس هذا موضعه وهو ممن يرجح طريقة الصبغي والثقفي على طريقة ابن خزيمة وأمثاله من أهل الحديث وأهل المغرب كانوا يحجون فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها فيرحل منهم من يرحل الى المشرق كما رحل أبو الوليد
(2/101)
الباجي فأخذ طريقة أبي جعفر السمناني الحنفي صاحب القاضي أبي بكر ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي فأخذ طريقة أبي المعالي في الإرشاد
ثم إنه ما من هؤلاء الا من له في الاسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والإنتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم ويعلم وصدق وعدل وانصاف لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المتعزلة وهم فضلاء عقلاء احتاجوا الى طرده والتزام لوازمه فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل وخيار الأمور أوساطها
وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم }
(2/102)
سورة الحشر 10
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } سورة البقرة 226
ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابا بعد اجتهاده وهو من البدع المخالفه للسنة فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم أو أصغر في من يعظمه هو من أصحابه فقل من يسلم من مثل ذلك من المتأخرين لكثرة الإشتباه و الإضطراب وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب ويزول به عن القلوب الشك والاتياب ولهذا تجد كثيرا من المتأخرين من علماء الطوائف يتناقضون في مثل هذه الأصول ولوازمها فيقولون القول الموافق للسنة وينفون ما هو من لوازمه غير ظانيين أنه من لوازمه ويقولون ما ينافيه غير ظانيين أنه ينافيه ويقولون بملزومات القول المنافي الذي ينافي ما أثبتوه من السنة وربما كفروا من خالفهم في القول المنافي وملزوماته فيكون مضمون قولهم أن
(2/103)
يقولوا قولا ويكفروا من يقوله وهذا يوجد لكثير منهم في الحال الواحد لعدم تفطنه لتناقض القولين ويوجد في الحالين لإختلاف نظر واجتهاده
وسبب ذلك ما أوقعه أهل الإلحاد والضلال من الألفاظ المجمله التي يظن الظان أن لا يدخل فيها الا الحق وقد دخل فيها الحق والباطل فمن لم ينقب عنها أويستفصل المتكلم بها كما كان السلف والأئمة يفعلون صار متناقضا أو مبتدعا ضالا من حيث لا يشعر
وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة المبتدعة كلفظ الجسم والجوهر والعرض وحلول الحوادث ونحو ذلك كانوا يظنون أنهم ينصرون الاسلام بهذه الطريقة وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله فوقع منهم من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك وهذه حال أهل البدع كالخوارج وأمثالهم فإن البدعة لا تكون حقا محضا موافقا للسنة اذ لو كانت كذلك لم تكن باطلا ولا تكون باطلا محضا لا حق فيه اذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس ولكن تشتمل على حق وباطل فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل إما مخطئا غالطا وإما متعمدا لنفاق فيه والحاد
(2/104)
كما قال تعالى { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } سورة التوبة 47 فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم الا خبالا ولكانوا يسعون بينهم مسرعين يطلبون لهم الفتنة وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم اما لظن مخطىء أو لنوع من الهوى أو لمجموعهما فإن المؤمن إنما يدخل عليه الشيطان بنوع من الظن واتباع هواه ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يحب البصر النافذ عند وجود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
وقد أمر المؤمنين أن يقولوا في صلاتهم { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } سورة الفاتحة 6 7 فالمغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به والضالون عبدوا الله بلا علم
ولهذا نزه الله نبيه عن الأمرين بقوله { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى } سورة النجم 1 2 وقال تعالى { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } سورة ص 45
وهذا الذي تقدم ذكره من إنكار ائمة الراقيين من أصحاب الشافعي قول ابن كلاب ومتبعيه في القرآن هو معروف في كتبهم
(2/105)
ومعلوم أنه ليس بعد الشافعي وابن سريج مثل الشيخ أبي حامد الإصفرايني حتى ذكر أبو اسحاق في طبقات الفقهاء عن أبي الحسين القدوري أنه كان يقول في الشيخ أبي حامد إنه انظر من الشافعي وهذا الكلام وإن لم يكن مطابقا لمعناه لجلالة قدر الشافعي وعلو مرتبته فلولا براعة أبي حامد ما قال فيه الشيخ أبو الحسين القدوري مثل هذا القول
وقد قال أبو حامد في كتاب التعليق في اصول الفقه مسألة في أن الأمر أمر لصيغته أو لقرينة تقترن به أختلف الناس في الأمر هل له صيغة تدل على كونه أمرا ام ليس له ذلك على ثلاثة مذاهب فذهب ائمة الفقهاء الى أن الأمر له صيغة تدل بمجردها على كونه أمرا اذا عريت عن القرائن وذلك مثل قول القائل افعل كذا وكذا وذا وجد ذلك عاريا عن القرائن كان أمرا ولا يحتاج في كونه أمرا الى قرينه
هذا مذهب الشافعي رحمه الله ومالك وأبي حنيفة والأوزاعي وجماعة أهل العلم وهو قول البلخي من المعتزلة
وذهبت المعتزلة بأسرها غير البلخي الى ان الأمر لا صيغة له ولا يدل اللفظ بمجرده على كونه أمرا وإنما يكون أمرا بقرينة تقترن
(2/106)
به وهي الإرادة ثم اختلفوا في تلك الإرادة فمنهم من قال هي ارادة المأمور به فاذا قال افعل واراد بذلك ايجاد المأمور به صار أمرا واذا عري عن ذلك لم يكن امرا ومنهم من قال يحتاج الى ارادة شيئين إرادة المأمور به وإرادة كون اللفظ أمرا ومنهم من اعتبر إرادة ثلاثة أشياء ولسنا نتكلم معهم في هذا الفصل فإنه شيء يتفرع على مذاهبهم وانما الخلاف بيننا وبينهم في الأصل وهو أن اللفظ هل يكون امرا بصيغته أو بقرينة تقترن به
وذهب الأشعري ومن تابعه الى أن الأمر هو معنى قائم بنفس الآمر لا يفارق الذات ولا يزايلها وكذلك عنده سائر أقسام الكلام من النهي والخبر والاستخبار وغير ذلك كل هذه المعاني قائمة بالذات لا تزايلها كالقدرة والعلم وغير ذلك وسواء فى هذا أمر الله تعالى وأمر الآدميين الا إلا أن امرا الله تعالى يختص بكونه قديما وامر الآدمي محدث وهذه الألفاظ والأصوات ليست عندهم أمرا ولا نهيا وانما هي عبارة عنه
قال وكان ابن كلاب عبد الله بن سعيد القطان يقول هي حكاية عن الأمر وخالفه أبو الحسن الأشعري في ذلك فقال لا يجوز أن يقال إنها حكاية لأن الحكاية تحتاج الى أن تكون مثل المحكي ولكن هو عبارة عن الأمر القائم بالنفس وتقرر مذهبهم على هذا فإذا كان هذا حقيقة مذهبهم فليس يتصور بيننا وبينهم خلاف
(2/107)
في أن الأمر هل له صيغة أم لا فإنه اذا كان الأمر عندهم هو المعنى القائم بالنفس فذلك المعنى لا يقال إن له صيغة أو ليست له صيغة وانما يقال ذلك في الألفاظ ولكن يقع الخلاف في اللفظ الذي هو عندهم عبارة عن الأمر وعندنا أن هذا هو أمر وتدل صيغته على ذلك من غير قرينه وعندهم أنه لا يكون عبارة عن الأمر ولا دالا على ذلك بمجرد صيغته ولكنه يكون موقوفا على ما بينه الدليل فإن دل الدليل على أنه أريد به العبارة عن غيره من التهديد والتعجيز والتحذير وغير ذلك حمل عليه الا أننا نتكلم معهم في الجملة أن هذا اللفظ هل يدل على الأمر من غير قرينه أم لا وبسط كلامه في هذه المسأله الى آخرها
وهذا ايضا معروف عن أئمة الطريقة الخراسانية ومن متأخريهم أبو محمد الجويني والد أبي المعالي
وقد ذكر القاضي أبو القاسم بن عساكر في مناقبه ما ذكره عبد الغافر الفارسي في ترجمة ابي محمد الجويني قال سمعت خالي أبا
(2/108)
سعيد يعني عبد الواحد بن أبي القاسم القشيري يقول كان أئمتنا في عصره والمحققون من أصحابنا يعتقدون فيه من الكمال والفضل والخصال الحميدة أنه لو جاز أن يبعث الله نبيا في عصره لما كان الا هو من حسن طريقته وورعه وزهده وديانته في كمال فضله
قال أبو محمد في آخر كتاب صنفه سماه عقيدة أصحاب الامام المطلبي الشافعي وكافة أهل السنة والجماعة وقد نقل هذا عنه أبو القاسم ابن عساكر في كتابه الذي سماه تبيين كذب المفتري
قال أبو محمد ونعتقد أن المصيب من المجتهدين في الأصول والفروع واحد ويجب التعيين في الأصول فأما في الفروع فربما يتأتى التعيين وربما لا يتأتى ومذهب الشيخ أبي الحسن تصويب المجتهدين في الفروع وليس ذلك مذهب الشافعي وأبو الحسن أحد اصحاب الشافعي فاذا خالفه في شيء أعرضنا عنه فيه ومن هذا القبيل قوله انه لا صيغة للألفاظ أي كلام وتقل وتعز
(2/109)
مخالفته اصول الشافعي ونصوصه وربما نسب المبتدعون اليه ما هو بريء منه كما نسبوا اليه أنه يقول ليس في المصحف قرآن ولا في القبر نبي وكذلك الاستثناء في الايمان ونفي القدرة على الخلق في الأزل وتكفير العوام وايجاب علم الدليل عليهم قال وقد تصفحت ما تصفحت من كتبه فوجدته كلها خلاف ما نسب اليه
قلت هذه المسائل فيها كلام ليس هذا موضعه ولكن المقصود هنا أنه جعل من القبيل الذي خالف فيه الشافعي وأعرض عنه فيه أصحابه مسألة صيغ الألفاظ وهذه هي مسألة الكلام وقوله فيها هو قول ابن كلاب ان كلام الله معنى واحد قائم بنفس الله تعالى ان عبر عنه بالعربية كان قرآنا وان عبر عنه بالعبرية كان توراة وان عبر عنه بالسريانية كان انجيلا وان القرآن العربي لم يتكلم الله به وليس هو كلام الله وانما خلقه في بعض الأجسام
وجمهور الناس من أهل السنة وأهل البدعة يقولون ان فساد هذا القول معلوم بالاضطرار وان معاني القرآن ليست هي معاني التوراة المعربة هي القرآن ولا القرآن اذا ترجم بالعبرية هو التوراة ولا حقيقة الأمر هي حقيقة الخبر
(2/110)
وإنما اضطر ابن كلاب والأشعري ونحوهما الى هذا الأصل أنهم لما اعتقدوا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا تكلم ولا غير ذلك وقد تبين لهم فساد قول من يقول القرآن مخلوق ولا يجعل لله تعالى كلاما قائما بنفسه بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره وعرفوا أن الكلام لا يكون مفعولا منفصلا عن المتكلم ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه بل اذا خلق الله شيئا من الصفات والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل لا لله فإذا خلق في محل الحركة كان ذلك المحل هو المتحرك بها وكذلك اذا خلق فيه حياة كان ذلك المحل هو الحي بها وكذلك اذا خلق علما أو قدرة كان ذلك المحل هو العالم القادر فإذا خلق كلاما في غيره كان ذلك المحل هو المتكلم به
وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف مثل أهل الحديث والسنة ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم
ولازم هذا أن من قال ان القرآن العربي مخلوق أن لا يكون القرأن العربي كلام الله بل يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه ومن
(2/111)
قال ان لفظ الكلام يقع بالاشتراك على هذا وهذا تبطل حجته على المعتزلة فان أصل الحجة أنه اذا خلق كلاما في محل كان الكلام صفة لذلك المحل فإذا كان القرآن العربي كلاما مخلوقا في محل كان ذلك المحل هو المتكلم به ولم يكن كلام الله ولهذا قال من قال لا يسمى كلاما الا مجازا فرارا من أن يثبتوا كلاما حقيقيا قائما بغير المتكلم به فلما عظم شناعة الناس على هذا القول وكان تسمية هذا كلاما حيقيقة معلوما بالاضطرار من اللغة اراد من ينصرهم أن يجعل لفظ الكلام مشتركا فأفسد الأصل الذي بنوا عليه قولهم
وبإنكار هذا الأصل استطال عليهم من يقول بخلق القرآن من المعتزلة والشيعة والخوارج ونحوهم فإن هؤلاء لما ناظرهم من سلك طربقة ابن كلاب ومضمونها أن الله لا يقدر على الكلام ولا يتكلم بما شاء ولا هو متكلم باختياره ومشيئته طمع فيهم أولئك لأن حمهور الخلق يعلمون أن المتكلم يتكلم بمشيئته واختباره وهو قادر على الكلام هو يتكلم بما يشاء
ولكن منشأ اضطراب الفريقين اشتراكهما في أنه لا يقوم به ما يكون
(2/112)
بإرادته وقدرته فلزم هؤلاء اذا جعلوه يتكلم بإرادته وقدرته واختياره أن يكون كلامه مخلوقا منفصلا عنه ولزم هؤلاء اذا جعلوه غير مخلوق أن لا يكون قادرا على الكلام ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بما يشاء
والمقصود هنا أن عبد الله بني سعيد بن كلاب وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على ان كلام المتكلم لا بد أن يقوم به فما لا يكون الابئنا عنه لا يكون كلامه كما قال الأئمة كلام الله من الله ليس ببائن منه وقالو ان القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ واليه يعود فقالوا منه بدأ ردا على الجهمية الذين يقولون بدأ من غيره ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } سورة الزمر 1 وقال تعالى { ولكن حق القول مني } سورة السجدة 13 وأمثال ذلك
ثم إنهم مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا اعتقدوا هذا لأصل وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدور له متعلقا بمشيئته بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة فاحتاجوا حينئذ ان يثبتوا ما لا يكون مقدورا مرادا قالوا والحروف المنظومة والأصوات لا تكون الا مقدورة مراده فأثبتوا معنى واحدا لم يمكنهم اثبات معان متعددة خوفا من اثبات ما لا نهاية له فاحتاجوا
(2/113)
أن يقولوا معنى واحدا فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور العقلاء عليهم
وأنكر الناس عليهم امورا اثبات معنى واحد هو الأمر والخبر وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله وأن التوراة والانجيل والقرآن انما تختلف عباراتها فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن وأن الله لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بمشيئته واختياره وتكليمه لمن كلمه من خلقه كموسى وآدم ليس الا خلق ادراك ذلك المعنى لهم فالتكليم هو خلق الادراك فقط
ثم منهم من يقول السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع كما يقوله أبو الحسن
ومنهم من يقول بل كلام الله لا يسمع بحال لا منه ولا من غيره اذ هو معنى والمعنى يفهم ولا يسمع كما يقوله أبو بكر ونحوه
ومنهم من يقول إنه يسمع ذلك المعنى من القاريء مع صوته المسموع منه كما يقول ذلك طائفة أخرى
وجمهور العقلاء يقولون إن هذه الأقوال معلومة الفساد
(2/114)
بالضرورة وانما ألجأ اليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير واذا انتفى اللازم انتفى الملزوم
وكذلك من قال لا يتكلم الا بأصوات قديمة أزلية ليست متعاقبة وهو لا يقدر على التكلم بها ولا له في ذلك مشيئة ولا فعل من أهل الحديث والفقهاء والكلام المنتسبين الى السنة فجمهور العقلاء يقولون ان قول هؤلاء ايضا معلوم الفساد بالضرورة وانما ألجأهم الى ذلك اعتقادهم أن الكلام لا يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته مع علمهم بأن الكلام يتضمن حروفا منظومة وصوتا مسموعا من المتكلم
وأما من قال ان الصوت المسوع من القاريء قديم أو يسمع منه صوت قديم ومحدث فهذا أظهر فسادا من أن يحتاج الى الكلام عليه وكلام السلف والأئمة والعلماء في هذا الأصل كثير منتشر ليس هذا موضع استقصائه
وأما دلالة الكتاب والسنة على هذا الأصل فأكثر من أن تحصر وقد ذكر منها الامام احمد وغيره من العلماء في الرد على الجهمية ما جمعوه كما ذكر منها الخلال في كتاب السنة قال أخبرنا المروزي قال هذا ما جمعه واحتج به أبو عبد الله على الجهمية من القرآن وكتبه بخطه وكتبته من كتابه فذكر المروزي آيات كثيرة دون ما ذكر الخضر بن أحمد عن عبد الله بن أحمد وقال فيه سمعت
(2/115)
أبا عبد الله يقول في القرآن عليهم من الحجج في غير موضع يعني الجهمية
قال الخلال وأنبأنا الخضر بن أحمد المثنى الكندى سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال وجدت هذا الكتاب بخط أبي فيما احتج به على الجهمية وقد ألف الآيات الى الآيات في السور فذكر آيات كثيرة تدل على هذا الأصل مثل قوله تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } سورة البقرة 186 وقوله تعالى بديع { السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } سورة البقرة 117 وقوله { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة } سورة البقرة 174 وقوله تعالى { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } سورة المجادلة 1 وقوله تعالى { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } سورة آل عمران 181 وقوله تعالى { إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } الى قوله تعالى { كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } سورة آل عمران 45 47 وقوله تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون }
(2/116)
سورة آل عمران 59 وقوله تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة } سورة آل عمران 77 وقوله تعالى { وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك } سورة الأنعام 73 { وكلم الله موسى تكليما } سورة النساء 164 وقوله { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } سورة الأعراف 143 { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب } سورة هود 110 { ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم } سورة الشورى 21 { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } سورة هود 119 { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } سورة يوسف 3 وقوله { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } سورة الكهف 109 وقال تعالى { فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } سورة طه 11 14 الى
(2/117)
قوله { إنني معكما أسمع وأرى } سورة طه 46 { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني } سورة طه 39 { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى } سورة طه 129 { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم } سورة الأنبياء 83 84 وقوله { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } سورة الأنبياء 87 88 وقوله { وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } سورة الأنبياء 88 89 وقوله { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } سورة الفرقان 59 وقوله { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها } سورة النمل 80 وقوله { فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } سورة القصص 30 وقوله تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس 88 وقوله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون
(2/118)
سورة الصافات 171 173 وقوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } سورة الزمر 67 وقوله تعالى { هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } سورة غافر 68 { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } سورة غافر 60 { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } سورة الشورى 14 { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } سورة الشورى 51 وقوله تعالى { فلما آسفونا انتقمنا منهم } سورة الزخرف 55 وقوله { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } سورة المجادلة
قلت وفي القرآن مواضع كثيرة تدل على هذا الأصل كقوله تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } سورة البقرة 29 وقوله { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين } الى قوله { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } سورة فصلت 9 11 وقوله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } سورة البقرة 210 وقوله { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك }
(2/119)
سورة الأنعام 158 وقوله { وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر 22 وقوله تعالى { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } سورة التوبة 105 وقوله { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } سورة يونس 14 وقوله تعالى { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } سورة الأعراف 54 في غير موضع في القرآن وقوله تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } سورة النحل 40 وقوله تعالى { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } سورة الاسراء 16 وقوله تعالى { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } سورة الرعد وقوله تعالى { كل يوم هو في شأن } سورة الرحمن 29 وقوله تعالى { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } سورة القصص 65 وقوله تعالى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } سورة القصص 62 { وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين } سورة الشعراء 10 { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } سورة الأعراف 22 وقوله
(2/120)
تعالى { قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون } سورة الشعراء 15 وقوله { سلام قولا من رب رحيم } سورة يس 58 وقوله تعالى { الله نزل أحسن الحديث } سورة الزمر 23 وقوله { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } سورة الجاثية 6 وقوله { فبأي حديث بعده يؤمنون } سورة المرسلات 50 وقوله { ومن أصدق من الله حديثا }
وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى بل يدخل في ذلك عامة ما أخبر الله به من أفعاله لا سيما المرتبة كقوله تعالى { ولسوف يعطيك ربك فترضى } سورة الضحى 5 وقوله { فسنيسره لليسرى } سورة الليل 7 وقوله { فسنيسره للعسرى } سورة الليل 10 وقوله { إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم } سورة الغاشية 25 26 وقوله { إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } سورة القيامة 17 19 وقوله { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } سورة الإنشقاق 8 وقوله { أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا } سورة عبس 25 26 وقوله تعالى { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } سورة الروم 27 وقوله { ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين } سورة المرسلات 16 17 ونحو ذلك
(2/121)
لكن الاستدلال بمثل هذا مبني على أن الفعل ليس هو المفعول والخلق ليس هو المخلوق وهو قول جمهور الناس على اختلاف اصنافهم وقد قرر هذا في غير هذا الموضع
ثم هؤلاء على قولين منهم من يقول ان الفعل قديم لازم للذات لا يتعلق بمشيئته وقدرته ومنهم من يقول يتعلق بمشيئته وقدرته وإن قيل ان نوعه قديم فهؤلاء يحتجون بما هو الظاهر المفهوم من النصوص
واذا تأول من ينازعهم أن التجدد انما هو المفعول المخلوق فقط من غير تجدد فعل كان هذا بمنزلة من يتأول نصوص الإرادة والحب والبغض والرضا والسخط على أن التجدد ليس أيضا الا المخلوقات التي تراد وتحب وترضى وتسخط وكذلك نصوص القول والكلام والحديث ونحو ذلك على أن المجدد ليس الا ادراك الخلق لذلك وتأويل الاتيان والمجيء على أن المتجدد ليس الا مخلوقا من المخلوقات
فهذه التأويلات كلها من نمط واحد ولا نزاع بين الناس أنها خلاف المفهوم الظاهر الذي دل عليه القرآن والحديث
(2/122)
ثم ملاحدة الباطنية يقولون ان الرسل ارادوا افهام الناس ما يتخيلونه وان لم يكن مطابقا للخارج ويجعلون ذلك بمنزلة ما يراه النائم فتفسر القرآن عندهم يشبه تعبير الرؤيا التي لا يفهم تعبيرها من ظاهرها كرؤيا يوسف والملك بخلاف الرؤيا التي يكون ظاهرها مطابقا لباطنها
وأما المسلمون من أهل الكلام النفاة فهم وإن كانوا يكفرون من يقول بهذا فإما أن يتأولوا تأويلات يعلم بالضرورة أن الرسول لم يردها وإما أن يقولوا ما ندري ما أراد فهم اما جهل بسيط أو مركب ومدار هؤلاء كلهم على أن العقل عارض ما دلت عليه النصوص
وقد بين أهل الإثبات أن العقل مطابق موافق لما أخبرت به النصوص ودلت عليه لا معارض له لكن المقصود هنا أن نبين أن القرآن والسنة فنهما من الدلالة على هذا الأصل ما لا يكاد يحصر فمن له فهم في كتاب الله يستدل بما ذكر من النصوص على ما ترك ومن عرف حقيقة قول النفاة علم أن القرآن مناقض لذلك مناقضة لا حيلة لهم فيها وأن القرآن يثبت ما يقدر الله عليه ويشاءه من أفعاله التي ليست هي نفس المخلوقات وغير أفعاله ولولا ما وقع في كلام الناس من الالتباس والإجمال لما كان يحتاج أن يقال الافعال التي ليست هي
(2/123)
نفس المخلوقات إن المعقول عند جميع الناس أن الفعل المتعدي إلى مفعول ليس هو نفس المفعول ولكن النفاة عندهم أن المخلوقات هي نفس فعل الله ليس له فعل عندهم الا نفس المخلوقات فلهذا احتيج الى البيان
ومما يد ل على هذا الأصل ما علق بشرط كقوله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } سورة الطلاق 302 وقوله { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } سورة آل عمران 31 وقوله { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } سورة الأنفال 29 وقوله { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } سورة الطلاق 1 وقوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } سورة الكهف 23 24 وقوله تعالى { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله } سورة محمد 28
وفي الجملة هذا في كتاب الله أكثر من أن يحصر
وكذلك في الأحاديث المتستفيضة الصحيحة المتلقاه بالقبول كقوله صلى الله عليه وسلم في ما يروى عن ربه ولا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى احبه وقوله أتدرون ماذا قال ربكم
(2/124)
الليلة وقوله في حديث الشفاعة ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وقوله اذا تكلم الله بالوحي سمع اهل السماوات كجر السلسلة على الصفا وقوله ان الله يحدث من أمره وما شاء وإن مما احدث ان لاتكلموا في الصلاة وقوله في حديث التجلي فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون
وقوله الله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل اضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فنام تحت
(2/125)
شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ اذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته وهذا حديث مستفيظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم في الصحيحين من غير وجه من حديث ابن مسعود وابي هريرة وانس وغيرهم
وقوله يضحك الله الى رجلين يقتل احدهما صحاحبه كلاهما يدخل الجنة وفى حديث آخر يدخل الجنة قال فيضحك الله منه وقوله مامنكم من احد الاسيكلمه ربه ليس بيينه وبينه حاجب ولا ترجمان وفى حديث قسمت الصلاة بينى وبين
(2/126)
عبدى نصفين فأذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي وقوله صلى الله علي هو وسلم يقول الله تعالى من تقرب الي شبرا بقربت اليه ذراعا ومن تقرب الي ذراعا تقربت اليه باعا وقوله صلى الله عليه وسلم ينزل الله تعالى الى السماء الدنيا شطر الليل أو ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأنصاري الذي أضاف رجلا وآثره على نفسه وأهله فلما أصبح الرجل غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما
(2/127)
وأنزل الله تبارك وتعالى { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } سورة الحشر 9 وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين
وفي السنن من حديث على عن النبي صلى الله علي هو سلم حديث الركوب على الدابة قال فقلت يا رسول الله من أي شيء تضحك قال ربك يضحك الى عبده اذا قال رب اغفر لي ذنوبي انه لا يغفر الذنوب الا انت قال علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري وفي لفظ ان ربك ليعجب من عبده اذا قال رب اغفرلي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري وفي حديث أبي رزين عنه صلى الله عليه وسلم قال ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر اليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب فقال له ابو رزين أو يضحك الرب قال نعم فقال لن نعدم من رب يضحك خيرا
وفي الصحيحين وغيرهما في حديث التجلي الطويل المشهور الذي
(2/128)
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة فهو في الصحيحين من حديث ابي هريرة وأبي سعيد وفي مسلم من حديث جابر ورواه أحمد من حديث ابن مسعود وغيره قال في حديث ابي هريرة قال أو لست قد أعطيت العهود والمواثيق أن لا تسأل غير الذي أعطيت فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله تبارك وتعالى منه ثم يأذن له في دخول الجنة وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيقول الله يا ابن آدم أترضى أن اعطيك الدنيا ومثلها معها فيقول أي رب أتستهزىء بي وأنت رب العالمين وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا تسألوني مم ضحكت فقالوا مم ضحكت يا رسول الله فقال من ضحك رب العالمين
(2/129)
حين قال أتستهزىء بي وأنت رب العالمين فيقول إني لا أستهزىء بك ولكني على ما أشاء قادر
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يضحك الله الى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة قالوا كيف يا رسول الله قال يقتل هذا فيلج الجنة ثم يتوب الله على الآخر فيهديه الى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد
وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم قال عجب الله من قوم يقادون الى الجنة في السلاسل
وفي حديث معروف لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد الا الصلاه فيه الا تبشبش الله به كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم ايضا أنه قال الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون وفي لفظ
(2/130)
مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملو فاتقوا الدنيا واتقوا النساء
وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينظر صوركم وأموالكم ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم
وفي الصحيحين عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في أصحابه اذ جاء ثلاثة نفر فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس وأما رجل فجلس يعني خلفهم وأما رجل فانطلق فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا اخبركم عن هؤلاء النفر أما الرجل الذي جلس في الحلقة فرجل أوى الى الله فآواه الله وأما الرجل الذي جلس خلف الحلقة فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الرجل الذي انطلق فأعرض فأعرض الله عنه
وعن سلمان الفرسي موقوفا ومرفوعا قال إن الله يستحي أن
(2/131)
يبسط العبد يديه اليه ويسأله فيهما خيرا فيردهما صفرا خائبتين
وفي الصحيح عنه فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى لا يزال عبدي يتقرب الى بالنوافل حتى احبه فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيئ انا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولا بد له منه
وفي الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال ليس ذاك ولكن المؤمن اذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكرامته واذا بشر بذلك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وان الكافر اذا حضره
(2/132)
الموت يبشر بعذاب الله وسخطه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأنصار لا يحبهم الا مؤمن ولا يبغضهم الا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله
وفي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ان الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لمنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول عز وجل أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا رب وأي شيء أفضل من ذلك قال
(2/133)
أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده ابدا
وفي الصحيحين عن أنس قال أنزل علينا ثم كان من المنسوخ أبلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا
وفي حديث عمرو بن مالك الرواسي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ارض عني قال فأعرض عني ثلاثا قال قلت يا رسول الله ان الرب ليرضى فيرضى فارض عني فرضي عني
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امريء مسلم وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان
(2/134)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله وهو حينئذ يشير الى رباعيته
وقال اشتد غضب الله على رجل يقتله رسولالله في سبيل الله
وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اذا مر بالنطفة ثنتان واربعون ليلة بعث الله اليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب ذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك فيقول يا رب رزقه فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك ثم
(2/135)
يخرج الملك الصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص
وفي الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وفي حديث آخر أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده وفي الصحيحين عن أنس في حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء اله أن يدعني ثم يقول لي يامحمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع وذكر مثل هذا ثلاث مرات
(2/136)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج اليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي قالوا تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أن لله ملائكة سيارة فضلا عن كتاب الناس سياحين في الأرض فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا الى حاجتكم قال فيجيئون حتى يحفون بهم الى السماء الدنيا قال فيقول الله عز وجل أي شيء تركتم عبادي
(2/137)
يصنعون قال فيقولون تركناهم يحمدونك ويسبحونك ويمجدونك قال فيقول هل رأوني قال فيقولون لا قال كيف لو رأوني قال قال فكيف لو رأوك لكانو أشد ذكرا قال فيقول فأي شيء يطلبون قالوا الجنة قال فيقول هل رأوها قال فيقولون لا قال فيقول كيف لو رأوها قال فيقولون لو رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا قال فيقول من أي شيء يتعوذون قال فيقولون يتعوذون من النار قال فيقول وهل رأوها قال فيقولون لا لو رأوها كانوا أشد منها تعوذا وأشد منها هربا قال فيقول اني أشهدكم أني قد غفرت لهم قال فيقولون ان فيهم فلانا الخطاء لم يردهم انما جاء في حاجة قال فيقول هم القوم لا يشقى بهم جليسهم
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله
(2/138)
اذا أحب عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وقال في البغض مثل ذلك
وفي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وان ذكرني في ملاء ذكرته في ملاء خير منهم وان اقترب الي شبرا اقتربت اليه ذراعا وان اقترب الي ذراعا اقتربت اليه باعا وان أتاني يمشي أتيته هرولة
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما جلس قوم يذكرون الله الا حفت
(2/139)
بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا أصاب ذنبا فقال رب إني قد أصبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فقال أي رب إني قد أذنبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليعمل ما يشاء
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقبض الله الأرض يطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض
(2/140)
وفي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما منكم أحد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى الا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى الا شيئا قدمه ونظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فان لم يجد فبكلمة طيبة
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤية قال فيه فيلقي العبد القول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والابل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب قال فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول اني أنساك كما نسيتني ثم يلقي الثاني فيقول أي فل فذكر مثل ما قال الأول ويلقي الثالث فيقول آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال فيقول فههنا اذن قال ثم يقال الا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ما كان ذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذكر الحديث
(2/141)
وفي صحيح مسلم عن أنس قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك قال هل تدرون مم أضحك قال قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبه العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال فيقول بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي الا شاهدا مني قال فيقول فكفى بنفسك عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه ويقال للأركانه انطقي فتنطق بأعماله قال ثم يخلى بينه وبين الكلام قال فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت تفتدى به فيقول نعم فيقول له قد أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي فأبيت الا أن تشرك
(2/142)
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول عملت كذا وكذا فيقول نعم يا رب فيقرره ثم يقول قد سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم قال ثم يعطى كتاب حسناته وهو قول { هاؤم اقرؤوا كتابيه } سورة الحاقة 19 وأما الكفار والمنافقون فينادون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين
وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله يوم القيامة يا أبن آدم مرضت فلم تعدني فيقول يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ويقول يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني فيقول أي رب وكيف اسقيك وأنت رب العالمين فيقول تبارك وتعالى أما علمت أن عبدي فلان استسقاك فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي قال ويقول يا ابن آدم استطعمتك فم تطعمني فيقول أي رب وكيف أطعمك وأنت
(2/143)
رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه أما انك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان الله يقول لهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أل اعطيكم أفضل من ذلك قال أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده ابدا وهذا فيه ذكر المخاطبة وذكر الرضوان جميعا
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا من النار رجل يخرج حبوا فيقول له أدخل الجنة فيقول ان الجنة ملأى فيقول له ذلك ثلاث مرات كل ذلك يعيد الجنة ملأى فيقال ان لك مثل الدنيا عشر مرات
(2/144)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل حلف على يمين على مال امرئ مسلم فاقتطعه ورجل حلف على يمينه بعد العصر أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب ورجل منع فضل ماء يقول الله اليوم أمنعك عم فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال المسبل إزاره والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب
(2/145)
وهذان الحديثان فيهما نفي التكليم والنظر عن بعض الناس عما نفى القرآن مثل ذلك وأما نفي التكليم وحده ففي غير حديث
وهذا الباب في الأحاديث كثير جدا يتعذر استقصاؤه ولكن نبهنا ببعضه على نوعه والأحاديث جاءت في هذا الباب كما جاءت الآيات مع زيادة تفسير في الحديث كما أن أحاديث الأحكام تجيء موافقة لكتاب الله مع تفسيرها لمجمله ومع ما فيها من الزيادات التي لا تعارض القرآن فإن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الكتاب والحكمة وأمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة وامتن على المؤمنين بأن بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وقال النبي صلى اله عليه وسلم إلا واني أوتيت الكتاب ومثله معه وفي رواية ألا انه مثل القرآن أو أكثر
فالحكمة التي أنزلها الله عليه مع القرآن وعلمها لأمته تتناول ما تكلم به في الدين من غير القرآن من أنواع الخبر والأمر فخبره موافق
(2/146)
لخبر الله وأمره موافق لأمر الله فكما أنه يأمر بما في الكتاب أو بما هو تفسير ما في الكتاب وبما لم يذكر بعينه في الكتاب فهو أيضا يخبر بما في الكتاب وبما هو تفسير ما في الكتاب وبما لم يذكر بعينه في الكتاب فجاءت أخباره في هذا الباب يذكر فيها أفعال الرب كخلقه ورزقه وعدله وإحسانه وإثابته ومعاقبته ويذكر فيها أنواع كلامه وتكليمه لملائكته وأنبيائه وغيرهم من عباده ويذكر فيها ما يذكره من رضاه وسخطه وحبه وبغضه وفرحه وضحكه وغير ذلك من الأمور التي تدخل في هذا الباب
والناس في هذا الباب ثلاثة أقسام
الجهمية المحضة من المعتزلة ومن وافقهم يجعلون هذا كله مخلوقا منفصلا عن الله تعالى
والكلابية ومن وافقهم يثبتون ما يثبتون من ذلك إما قديما بعينه لازما لذات الله وإما مخلوقا منفصلا عنه
وجمهور أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام يقولون بل هنا قسم ثالث قائم بذات الله متعلق بمشيئته وقدرته كما دلت عليه النصوص الكثيرة
(2/147)
ثم بعض هؤلاء قد يجعلون نوع ذلك حادثا كما تقوله الكرامية وأما أكثر أهل الحديث ومن وافقهم فانهم لا يجعلون النوع حادثا بل قديما ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه فإن نعيم أهل الجنة يدوم نوعه ولا يدوم كل واحد واحد من الأعيان الفانية ومن الأعيان الحادثة مالا يفنى بعد حدوثه كأرواح الآدميين فإنها مبدعة كانت بعد أن لم تكن ومع هذا فهي باقية دائمة
والفلاسفة تجوز مثل ذلك في دوام النوع دون اشخاصه ولكن الدهرية منهم ظنوا أن حركات الأفلاك من هذا الباب وأنها قديمة النوع فاعتقدوا قدمها وليس لهم على ذلك دليل أصلا وعامة ما يحتجون به إبطال قول من لا يفرق بين حدوث النوع وحدوث الشخص ويقولون إنه يلزم من حدوث الأعيان حدوث نوعها ويقولون إن ذلك كله حدث من غير تجدد أمر حادث
وهذا القول إذا بطل كان بطلانه أقوى في الحجة على الدهرية في إفساد قولهم وفي صحة ما جاء به الكتاب والسنة كما تقدم بيانه وان لم يبطل قولهم
(2/148)
فالمعقول الصريح موافق للشرع متابع له كيف ما أدير الأمر وليس في صريح المعقول ما يناقض صحيح المنقول وهو المطلوب ومن المعلوم أن أصل الإيمان تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أنه لا يجوز أن يكون ثم دليل لا عقلي ولا غير عقلي يناقض ذلك وهذا هو المطلوب هنا
ولكن أقواما ادعوا معارضة طائفة من أخباره للمعقول
وأصل وقوع ذلك في المنتسبين للإسلام والإيمان أن أقواما من أهل النظر والكلام أرادوا نصرة مع اعتقدوا أنه قوله بما اعتقدوه انه قوله بما اعتقدوه انه حجة ورأوا أن تلك الحجة لها لوازم يجب التزامها وتلك الل تناقض كثيرا من أخباره
وهؤلاء غلطوا بالمنقول والمعقول جميعا كما اعتقدت المعتزلة وغيرها من الجهمية نفاة الصفات والأفعال أنه أخبر أن كل ما ساوى الذات القديمة المجردة عن الصفات محدث الشخص والنوع جميعا وظنوا أن هذا من التوحيد الذي جاء به واحتجوا على ذلك بما يستلزم حدوث كل ما قامت به صفة وفعل وجعلوا هذا هو الطريق إلى إثبات وجوده وحدانيته وتصديق رسله فقالوا أن كلامه مخلوق خلقه في غيره لم يقم به كلام وأنه لا يرى في الآخرة ولا يكون مباينا للخلق ولا يقوم به علم ولا قدرة ولا غيرهما ومن الصفات ولا
(2/149)
فعل من الأفعال لا خلق للعالم ولا استواء ولا غير ذلك فإنه لو قام به فعل أو صفة لكان موصوفا محلا للأعراض ولو قام به فعل يتعلق بمشيئته للزم تعاقب الأفعال ودوام الحوادث وإذا جاوزوا دوام النوع الحادث أو قدمه بطل ما به احتجوا على ما ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به
وهم مخطئون في المنقول والمعقول
أما المنقول فإن الرسول لم يخبر قط بقدم ذات مجردة عن الصفات والأفعال بل النصوص الإلهية متظاهرة باتصاف الرب بالصفات والأفعال وهذا معلوم بالضرورة لمن سمع الكتاب والسنة وهم يسلمون أن هذا هو الذي يظهر من النصوص ولكن أخبر عن الله بأسمائه الحسنى وآياته المثبتة لصفاته وأفعاله وأنه { خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } سورة الفرقان 59
فمن قال أن الأفلاك قديمة أزلية فقوله مناقض لقول الرسول صلى الله عليه وسلم بلا ريب كما أن من قال إن الرب تعالى لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا فعل فقوله مناقض لقول الرسول وليس مع وأحد منهما عقل صريح يدل على قوله بل العقل الصريح مناقض لقوله كما قد بين في موضعه من وجوه كثيرة مثل ما يقال إن العقل الصريح يعلم أن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة ممتنع كإثبات
(2/150)
علم بلا عالم وقدرة بلا قادر وأعظم امتناعا من ذلك أن يكون العلم هو العالم والعلم هو القدرة فهذا قول نفاه الصفات
وأما القائلون بقدم العالم فقولهم يستلزم امتناع حدوث حادث فإن القديم إما واجب بنفسه أو لازم للواجب بنفسه ولوازم الواجب لا تكون محدثة ولا مستلزمة لمحدث فالحوادث ليست من لوازمه وما لا يكون من لوازمه يتوقف وجوده على حدوث سبب حادث فإذا كان القديم الواجب بنفسه أو اللازم للواجب لا يصدر عنه حادث امتنع حدوث الحوادث وهذا حقيقة قولهم فانهم يزعمون أن العالم له علة قديمة موجبة له وهو لازم لعلته وعلته عندهم مستلزمة لمعلولها ومعلول معلولها فيمتنع أن يحدث شيء في الوجود إذ الحادث المعين يكون لازما للقديم بالضرورة واتفاق العقلاء
وإذا قالوا يجوز أن يحدث عن الواجب بنفسه حادث بواسطة قيل الكلام في تلك الواسطة كالكلام في الأول فإنها إن كانت قديمة لازمة له لزم قدم المعلولات كلها وان كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث
وإذا قالوا كل حادث مشروط بحادث قبله لا إلى أول
قيل لهم فليست أعيان الحوادث من لوازم الواجب بنفسه وإذا كان النوع من لوازم الواجب أمتنع وجود الواجب بنفسه بدون النوع ونوع الحوادث ممكن بنفسه ليس فيه واجب بنفسه فيكون نوع الحوادث صادرا عن الواجب بنفسه فلا يجب قدم شيء معين من أجزاء العالم لا الفلك ولا غيره وهو نقيض قولهم
(2/151)
وإذا قالوا نوع الحوادث لازم لجرم الفلك والنفس وهذان لازمان للعقل وهو لازم للواجب بنفسه
قيل لهم فذاته مستلزمة لنوع الحوادث سواء كان بوسط أو بغير وسط والذات القديمة المستلزمة لمعلولها لا يحدث عنها شيء لا بوسط ولا بغير وسط سواء كان الحادث نوعا أو شخصا لأن النوع الحادث يمتنع مقارنته لها كما تمتنع مقارنة الشخص الحادث لها ولان النوع الحادث إنما يوجد شيئا فشيئا والمقارن لها قديم معها لا يوجد شيئا فشيئا فبطل أن تكون الحوادث صادرة عن علة تامة مستلزمة لنوعها المقترن بعضه ببعض أو شخص منها فبطل أن يكون العالم صادرا عن علة موجبة له كما بطل وجوبه بنفسه وهو المطلوب
ومما يبين ذلك أن القديم يستلزم قدم موجبه أو وجوبه بنفسه فان القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره إذ الممكن الذي لا موجب له لا يكون موجودا فضلا عن أن يكون قديما بالضرورة واتفاق العقلاء وإذا كان واجبا بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديما ولا يكون موجبا له حتى تكون شروط الإيجاب قديمة أيضا فيمتنع أن يكون موجب القديم أو شرط من شروط الإيجاب حادثا لأن الموجب المقتضي للفاعل المؤثر يمتنع أن يتأخر عن موجبه
(2/152)
الذي هو مقتضاه وأثره وهذا معلوم بالضرورة ومتفق عليه بين العقلاء
وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون جميع العالم واجبا بنفسه إذ لو كان كذلك لم يكن في الموجودات مما هو حادث لان الحادث كان معدوما وهو مفتقر إلى محدث يحدثه فضلا عن أن يكون واجبا بنفسه
فثبت أن في العالم ما ليس بواجب والواجب بغيره لا بد له من موجب تام مستلزم لموجبه والموجب التام لا يتأخر عنه شئ من موجبه ومقتضاه فيمتنع صدور الحوادث عن موجب تام كما يمتنع أن تكون هي واجبة بنفسها وإذا لم تكن واجبة ولا صادرة عن علة موجبة فلا بدلها من فاعل ليس موجبا بذاته وإذا كان غاية ما يقولون إن العالم صادر عن علة موجبة بنفسها بغير واسطة أو بوسائط لازمة لتلك العلة فعلى هذا التقدير يمتنع حدوث الحوادث عنه فإن لم يكن للحوادث فاعل غيره وإلا لزم حدوثها بلا محدث وهذا معلوم الفساد بالضرورة
فتبين أن للحوادث محدثا ليس هو مستلزما لموجبه ومقتضاه فامتنع أن يكون محدث الحوادث علة مستلزمة لمعلولها أو أن يكون شيئا من
(2/153)
معلولاتها وهم يقولون إن العالم صادر عن علة مستلزمة لمعلولها وكل ما سواها معلول لها وهذا مما تبين بطلانه بالضرورة
ومن قال إن مجموع أجزاء العالم واجبة أو قديمة فقوله معلوم الفساد بالضرورة
ومن قال إن الحوادث صادرة عن جزء منه واجب فقوله أيضا معلوم الفساد سواء جعل ذلك الجزء الأفلاك أو بعضها لوجهين أحدهما أن ذلك الجزء الذي هو واجب بغيره إذا كان علة تامة لغيره لزم أيضا قدم معلوله معه فيلزم أن لا يحدث شئ وإن كان ذلك الجزء الواجب ليس هو علة تامة امتنع صدور شيء عن غير علة تامة ولو قدر إمكان الحدوث عن غير علة تامة أمكن حدوث كل ما سوى الله فعلى كل تقدير قولهم باطل
الوجه الثاني انه من المعلوم انه ليس شيء من أجزاء العالم مستقلا بالإبداع لغيره من أجزائه وإن قيل إن بعض أجزائه سبب لبعض فتأثيره متوقف على سبب آخر وعلى انتفاء موانع فلا يمكن أن يجعل شيء من أجزاء العالم ربا واجبا بنفسه قديما مبدعا لغيره والحوادث لا بد لها من رب واجب بنفسه قديم مبدع لغيره وليس شيء من أجزاء العالم مما يمكن ذلك فيه فعلم أن الرب تعالى خارج عن العالم وأجزائه وصفاته وهذا كله مبسوط في موضع آخر
(2/154)
المقصود هنا بيان أنه ليس في المعقول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
وقد علم أن المدعين لمعقول يناقضه صنفان صنف يجوزون عليه وعلى غيره من الرسل فيما أخبروا به عن الله تعالى وبلغوه إلى الأمم عن الله تعالى الكذب عمدا أو خطأ أو أن يظهر نقيض ما يبطن كما يقول ذلك من يقوله من الكفار بالرسل ومن المظهرين لتصديقهم كالمنافقين من المتفلسفة والقرامطة والباطنية ونحوهم ممن يقول بشيء من ذلك
وصنف لا يجوزون عليهم ذلك وهذا هو الذي يقوله المتكلمون المنتسبون إلى الإسلام على اختلاف أصنافهم
والمبتدعة من هؤلاء مخطئون في السمع وفى العقل ففي السمع حيث يقولون على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل عمدا أو خطأ وفى العقل حيث يقررون ذلك بما يظنونه براهين وإذا كانت الدعوى خطأ لم تكن حجتها إلا باطلة فإن الدليل لازم لمدلوله ولازم الحق لا يكون إلا حقا وأما الباطل فقد يلزمه الحق فلهذا يحتج عليه إلا بباطل فإن حجته لو كانت حقا لكان الباطل لازما للحق وهذا لا يجوز
(2/155)
لأنه يلزم من ثبوت الملزموم ثبوت اللازم فلو كان الباطل مستلزما للحق لكان الباطل حقا فإن الحجة الصحيحة لا تستلزم إلا حقا وأما الدعوى الصحيحة فقد تكون حجتها صحيحة وقد تكون باطلة
ومن أعظم ما بنى عليه المتكلمة النافية للأفعال وبعض الصفات أو جميعها أصولهم التي عارضوا بها الكتاب والسنة هي هذه المسألة وهي نفى قيام ما يشاؤه ويقدر عليه بذاته من أفعاله وغيرها
فصل وقد ذكر أبو عبد الله الرازي هو وأبوالحسن الآمدي ومن اتبعهما أدلة نفاة ذلك وأبطلوها كلها ولم يستدلوا على نفى ذلك إلا بأن ما يقوم به إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثها نقصا وإن كان نقصا لزم اتصافه بالنقص والله تعالى منزه عن ذلك
وهذه الحجة ضعيفة ولعلها أضعف مما ضعفوه ونحن نذكر ما
(2/156)
ذكره أبو عبد الله بن الخطيب في ذلك في أجل كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في دراية الأصول وذكر أنه أورد فيه من الحقائق والدقائق ما لا يكاد يوجد في شئ من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من الموافقين والمخالفين ووصفه بصفات تطول
قال وهذا كله لا يعلمه إلا من تقدم تحصيله لا كثر كلام العلماء وتحقيق وقوفه على مجامع بحث العقلاء من المحقين والمبطلين والموافقين والمخالفين
قال فإنني قلما
(2/157)
تكلمت فيه في المبادئ والمقدمات بل أكثر العناية كان مصروفا إلى تلخيص النهايات والغايات وقال في هذا الكتاب الأصل الثاني عشر وهو ما يستحيل على الله قال المسألة الرابعة في أنه يستحيل عليه أن يكون محلا للحوادث واتفقت الكرامية على تجويز ذلك وأما تجدد الأحوال فالمعتزلة اختلفوا في تجويزه مثل المدركية والسامعية والمبصرية والمريدية والكارهية وأما أبو الحسين البصري فإنه أثبت تجدد العالميات في ذاته
قال وأما الفلاسفة فمع أنهم في المشهور أبعد الناس عن هذا المذهب ولكنهم يقولون بذلك من حيث لا يعرفونه فإنهم يجوزون
(2/158)
تجدد الإضافات على ذاته مع أن الإضافة عندهم عرض وجودى وذلك يقتضي كون ذاته موصوفة بالحوادث وأما أبو البركات البغدادي فقد صرح باتصاف ذاته بالصفات المحدثة
قلت أبو عبد الله الرازي غالب مادته في كلام المعتزلة ما يجده في كتب أبي الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وشيخه عبد الجبار الهمداني ونحوهم وفي كلام الفلاسفة ما يجده في كتب ابن سينا وأبي البركات ونحوهما وفي مذهب الأشعري يعتمد على كتب أبي المعالي كالشامل ونحوه وبعض كتب القاضي أبي بكر وأمثاله وهو ينقل أيضا من كلام الشهرستاني وأمثاله وأما كتب القدماء كأبي الحسن الأشعري وأبي محمد بن كلاب وأمثالهما وكتب قدماء المعتزلة والنجارية والضرارية ونحوهم فكتبه تدل على أنه لم يكن يعرف ما فيها وكذلك مذهب ظوائف الفلاسفة المتقدمين والإ فهذا القول الذي حكاه عن أبي البركات هو قول أكثر قدماء الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو وقول كثير منهم كما نقل ذلك أرباب المقالات عنهم فنقل أرباب المقالات الناقلون لاختلاف الفلاسفة في الباري ما هو قالوا قال سقراط وأفلاطون وأرسطو إن الباري لا يعبر
(2/159)
عنه الا بهو فقط وهو الهوية المحضة غير المتكثرة وهي الحكمة المحضة والحق المحض وليست لله صورة مثل الصورة التي تكثرت في العنصر وهو الأيس الذي لا يحيط به الذهن ولا العقل ولا يجوز عليه التغير ولا الصفة ولا العدد ولاالإضافة ولا الوقت ولا المكان ولا الحدود ولا يدرك بالحواس ولا بالعقول من جهة غاية الكنة لكن بأنه واحد أزلى ليس باثنين لأنا إن أوقعنا عليه العدد لزمته التثنية وإن أوقعنا عليه الإضافة لزمه الزمان والمكان والقبل والبعد وإن أوقعنا عليه المكان لزمه الحدود وجعلناه متناهيا إلى غيره وقال تاليس
(2/160)
وبلاطرخس ولوقيوس وكسيفايس وانبذقليس جميعا إن الباري واحد ساكن غير أن انبذقليس قال إنه متحرك بنوع سكون كالعقل المتحرك بنوع سكون فذلك جائز لأن العقل إذا كان مبدعا فهو متحرك بنوع سكون فلا محالة أن المبدع متحرك
(2/161)
بسكون لانه علة قالوا وشايعه على هذا القول فيثاغورس ومن بعده إلى زمن أفلاطون وقال زينون وديمقراط وساغوريون إن الباري
(2/162)
متحرك في الحقيقة وإن حركته فوق الذهن فليس زوالا قالوا وقال تاليس وهو أحد أساطين الحكمة إن صفة الباري لا تدركها العقول إلا من جهة آثاره فأما من جهة هويته فغير مدرك له صفة من نحو ذاته بل من نحو ذواتنا وكان يقول أبدع الله العالم لا لحاجة إليه بل لفضله ولولا ظهور أفاعيل الفضيلة لم يكن هاهنا وجود وكان يقول إن فوق السماء عوالم مبدعة أبدعها من لا تدرك العقول كنهه
وقال فيثاغورس نحو قول تاليس لا يدرك من جهة النفس هو فوق الصفات العلوية الروحانية غير مدرك بجوهريته بل من قبل آثاره في كل عالم فيوصف وينعت بقدر ظهور تلك الآثار في ذلك العالم وهو الواحد الذي إذا رامت العقول إدراك معرفته عرفت أن ذواتها مبدعة مسبوقة مخلوقة
(2/163)
قالوا وقال انكسيمانس نحو مقالة هذين غير أن يجوز لقائل أن يقول أن الباري يتحرك بحركة فوق هذه الحركات
قلت وكذلك أبو البركات في المعتبر حكى المقالتين عن غيره بل عن القائلين بقدم العالم فقال قال القائلون بالحدوث للقدمين فإذا كان الله لم يزل جوادا خالقا قديما في الأزل فالحوادث في العالم كيف وجدت أعن قديم أم عن غيره فإذا قلتم هو خالقها وعنه صدر وجودها فقد قلتم بأن القديم خلق المحدث وأراد خلقه بعد أن لم يرد وإن قلتم إن غيره فعل الحوادث فقد أشركتم بعد ما بالغتم في التوحيد لواجب الوجود بذاته
قال فقال القدميون بل الخالق الأول والواحد القديم هو خالق المخلوقات بأسرها من قديم وحديث وحده لا شريك له في وجودة
(2/164)
وخلقه وملكه وأمره وتشعب رأيهم في ذلك إلى مذهبين
فمنهم من قال إنه خلق الأشياء القديمة دائمة الوجود بدوام وجوده والحوادث شيئا بعد شيء أراد فخلق وخلق فأراد أوجب خلقه إرادته وأوجب إرادته خلقه مثال ذلك أنه أراد خلق آدم الذي هو الأب فخلقه وأوجده وأراد بوجود الأب وجود الابن أراد فجاد وجاد فأراد إرادة بعد إرادة لموجود بعد موجود فإذا قلتم لم أوجد قيل لانه أراد فجاد ولم أراد قيل لأنه أوجد فوجود الحوادث يقتضي بعضها بعضا من جوده السابق واللاحق
فإن قالوا كيف تحدث له الإرادة وكيف يكون له حال منتظرة تكون بعد أن لم تكن وكيف يكون محل الحوادث قيل وكيف يكون محلا لغير الحوادث أعني الإرادة القديمة
(2/165)
فإن قيل بأنها له منه قيل والإرادات له منه
فإن قيل الإرادة القديمة له في قدمه قيل والحديثة له في قدمه لن السابق من وجوده بالإرادة السابقة أوجد عنده إرادة لاحقه فأحدث خلقا بعد خلق بإرادة بعد إرادة وجبت في حكمته من خلقه بعد خلقه فاللاحق من إرادته وجب عن سابق إرادته بتوسط مراداته وهكذا هلم جرا
قال والتنزيه عن الإرادة الحادثة كالتنزيه عن الإرادة القديمة في كونه محلا لها لكنه لا وجه لهذا التنزيه كما سنتكلم عليه في فصل العلم إذا قلنا في علم لم يعلم وكيف يعلم قال فهذا أحد المذهبين قال وأما المذهب
(2/166)
الآخر فإن أهله يقولون إن كل حادث يتجدد بعد عدمه فله سبب يوجب حدوثه وذلك السبب حادث أيضا حتى ترتقي أسباب الحوادث إلى الحركة الدائمة في المتحركات الدائمة وساق تمام قول هؤلاء وهو قول أرسطو وأتباعه
وقد نقل غير واحد أن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكونوا يقولون بقدم سورة الفلك وان كان لهم في المادة أقوال أخر وقد بسط الكلام على هذا الأصل في مسألة العلم وغيره لما رد على من زعم أنه لا يعلم الجزيئات حذرا من التغير والتكثر في ذاته وذكر حجة أرسطو وأبن سينا ونقضها
وقال فأما القول بإيجاب الغيرية فيه بإدراك الغيار والكثرة بكثرة المدركات فجوابه المحقق أنه لا يتكثر بذلك تكثرا في ذاته بل في إضافته ومناسباته وتلك مما لا يعيد الكثرة على هويته
(2/167)
وذاته ولا الوحدة التي أوجبت وجوب وجوده بذاته ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا وسلبنا عنه ما سلبنا هي وحدة مدركاته ونسبه وإضافاته بل إنما هي وحدة حقيقته وذاته وهويته
قال ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاتها قيلت على طريق التنزيه بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى ووجوب وجوده بذاته والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته لا في مدركاته وإضافاته فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات فذلك أمر إضافي لا معنى في نفس الذات وذلك مما لم تبطله الحجة ولم يمنعه البرهان ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى
وتكلم على قول أرسطو إذ قال من المحال أن يكون كماله بعقل غيره إذ كان جوهرا في الغاية من الإلهية والكرامة والعقل
(2/168)
فلا يتغير والتغير فيه انتقال إلى الأنقص وهذا هو حركة ما فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل ولكن بالقوة فقال أبو البركات ما قيل في منع التغير مطلقا حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم فهو غير لازم في التغير مطلقا بل هو غير لازم البتة وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام مثل الحرارة والبرودة وفي بعض الأوقات لا في كل حال ووقت ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام فإنه يقول إن كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك التغير حركة مكانية
قال وهذا محال فان النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم من غير أن تتحرك على المكان على رأيه فإنه لا يعتقد فيها أنه مما يكون في مكان البتة فكيف أن تتحرك فيه وإنما ذلك للأجسام في بعض التغيرات والأحوال كالتسخن والتبرد ولا يلزم فيهما أبدا
(2/169)
وإنما ذلك في ما يصعد بالبخار من الماء ويتدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة التي تحمي حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر وإنما يتبخر منه بعض الأجزاء ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة لا قبلها كما قال أن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركة المكانية وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبيض وهو في مكانه لم يتحرك ولا يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها فما لزم هذا في كل جسم بل في بعض الأجسام ولا في كل حال ووقت بل في بعض الأحوال والأوقات ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال بل على طريق التبع ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية ولو لزم في التغيرات النفسانية أيضا لما لزم انتقال الحكم فيه إلى التغيرات في المعارف والعلوم والعزائم والإرادات اتفالحكم الجزئي لا يلزم كليا ولا يتعدى من البعض إلى البعض وآلا لكانت الأشياء على حالة واحدة
وبسط الكلام في مسألة العلم وقال لما ذكر القولين
(2/170)
المتقدمين والقائلون بالحدوث قالوا أنه لا يحتاج إلى هذا التمحل وسموه على طريق المجادلة باسم التمحل للتشنيع والتسفيه بل نقول بأن المبدأ المعيد خلق العالم وأحدثه بإرادة قديمة أزلية أراد بها في القدم إحداث العالم حتى أحدثه
وقال وقيل في جوابهم أن ذلك المبدأ لا يتغير ويتخصص في القدم إلا بمعقول يجعله مقصودا في العلم القديم عند الإرادة القديمة حيث أرادوه في مدة العدم السابق لحدوث العالم التي هي مدة غير متناهية البداية وما لا يعقل ولا يتصور لا يعلم وما لا يمكن أن يعلم لا يعلمه عالم لا لأن الله لا يقدر على علمه لكن لأنه في نفس غير مقدور عليه ثم ما الذي يقولونه في حوادث العالم من مشيئة الله وإرادته التي بها يقبل الدعاء من الداعي ويحسن إلى المحسن ويسيء إلى المسيء ويقبل توبة التائب ويغفر للمستغفر هل يكون ذلك عنه أو لا يكون فإن قالوا بأنه لا يكون أبطلوا بذلك
(2/171)
الشرع الذي قصدهم نصرته وأبطلوا حكم أوامره ونواهيه وكل ما جاء لأجله من الحث على الطاعة والنهي عن المعصية وإن قالوا يكون ذلك بأسره عنه فهل هو بإرادة أم بغير إرادة وكونه بغير إرادة اشنع وإن كان بإرادة فهل هي إرادة قديمة أم محدثة فإن كانت فالارادات القديمة غير واحدة وما أظنهم يقولون إن المرادات الكثيرة صدرت عن إرادة واحدة
قال وإن قالوا إن ذلك يصدر عنه بإرادات حادثة فقد قالوا بما هربوا منه أولا
قلت فأبو البركات لاستبعاد عقله أن تصدر المرادات الكثيرة عن إرادة واحدة ظن أن هؤلاء لا يقولون به وهم يقولون به فإن هذا قول أبن كلاب والأشعري ومن وافقهما من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف يقولون إنه يعلم المعلومات كلها بعلم واحد بالعين ويريد المرادات كلها بإرادة واحدة بالعين وإن كلامه الذي تكلم به من الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر عنه هو أيضا واحد بالعين ثم تنازع القائلون بهذا الأصل هل كلامه معنى فقط والقرآن
(2/172)
العربي ليس هو كلامه أو كلامه الحروف أو الحروف والأصوات التي نزل بها القرآن وغيره وهي قديمة العين على قولين
ومن القائلين بقدم أعيان الحروف والصوات من لا يقول هي واحدة بل يقول هي متعددة وإن كانت لا نهاية لها ويقول بثبوت حروف أو حروف ومعان لا نهاية لها في آن واحد وأنها لم تزل ولا تزال وهذا مما أوجب قول القائلين بأن كلام الله مخلوق وأنه ليس له كلام قائم بذاته لما رأوا أن ما ليس بمخلوق فهو قديم العين والثاني ممتنع عندهم فتعين الأول
واولئك الصنفان قالوا والقول ممتنع فتعين الثاني وهؤلاء إنما قالوا هذه الأقوال لظنهم أنه يمتنع أن تقوم به الأمور الاختيارية لا كلام باختيارة ولا غير كلام كما قد بين في موضعه
وهذا الأصل وهو القول بقيام الحوادث به هو قول هشام بن الحكم وهشام الجواليقي وابن مالك الحضرمي وعلى بن ميثم
(2/173)
وأتباعهم وطوائف من متقدمي أهل الكلام والفقه كأبي معاذ التومني وزهير الأثري وداود الأصبهاني وغيرهم كما ذكره الأشعري عنهم في المقالات وقال وكل القائلين بأن القرآن ليس بمخلوق كنحو عبد الله بن سعيد بن كلاب ومن قال إنه محدث كنحو زهير الأثري يعني وداود الأصبهاني ومن قال إنه حدث كنحو أبي معاذ التومني يقولون عن القرآن ليس بجسم ولا عرض
وأما أقوال أئمة الفقه والحديث والتصوف والتفسير وغيرهم من علماء المسلمين وكذلك كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان فكلام الرازي يدل على أنه لم يكن مطلعا على ذلك
والمقصود هنا أن نبين غاية حجة النفاة فإنه بعد أن ذكر الخلاف قال والمعتمد أن نقول كل ما صح قيامه بالباري تعالى فإما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال استحال أن يكون
(2/174)
حادثا والا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية عن صفة الكمال والخالي عن الكمال الذي هو ممكن الإتصاف به ناقص والنقص على الله محال بإجماع الأمة وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف الباري بها لأن إجماع الأمة على أن صفات الله بأسرها صفات كمال فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وإنه غير جائز
قال وهذا ما نعول عليه وإنه مركب من السمع والعقل
قال والذي عول عليه أصحابنا أنه لو صح اتصافه بالحوادث لوجب اتصافه بالحوادث أو بأضدادها في الأزل وذلك يوجب اتصافه بالحوادث في الأزل وإنه محال
وقال وهذه الدلالة مبينة على أن القابل للضدين يستحيل خلوه عنهما وقد عرفت فساده
قال ومن أصحابنا من أورد هذه الدلالة على وجه لا يحتاج في تقريرها إلى البناء على ذلك الأصل وهو أنه لو كان قابلا للحوادث لكان قابلا لها في الأزل وكون الشيء قابلا للشيء فرع عن إمكان وجود المقبول فيلزم صحة حدوث الحوادث في الأزل وهو محال
قال إلا أن ذلك معارض بأن الله قادر في الأزل ولا يلزم من أزلية قادريته صحة أزلية المقدور فكذلك هاهنا
(2/175)
قال ومنهم من قال لو كانت الحوادث قائمة به لتغير وهو محال
قال وهذا ضعيف لأنه إن فسر التغير بقيام الحوادث به اتحد اللازم والملزوم وإن فسر بغيره امتنع إثبات الشرطية
قال وأما المعتزلة فجعلهم تمسكوا بأن المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها في الحيز تبعا لحصول ذلك الموصوف فيه والباري تعالى ليس في الجهة فامتنع قيام الصفة به
قال وقد عرفت ضعف هذه الطريقة
قال ومشايخهم استدلوا بأن الجوهر إنما يصح قيام المعاني الحادثة به لكونه متحيزا بدليل أن العرض لما لم يكن متحيزا لم يصح قيام هذه المعاني به
قال وإنه باطل لإحتمال أن يقال ان الجوهر إنما صح قيام الحوادث به لا لكونه متحيزا بل الأمر آخر مشترك بينه وبين الباري تعالى وغير مشترك بينه وبين العرض سلمنا ذلك الا أنه من المحتمل أن يكون الجوهر يقبل الحوادث لكونه متحيزا والله تعالى يقبلها لوصف آخر لصحة تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة
قال واستدلوا أيضا بأنه لو صح قيام حادث به لصح قيام كل حادث به
قال وهذه دعوى لا يمكن إقامة البرهان عليها
(2/176)
قال فهذه عيون ما تمسكت به الناس في هذه المسألة
قلت أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس منازعة للكرامية حتى يذكر بينه وبينهم أنواع من ذلك وميله إلى المعتزلة والمتفلسفة أكثر من ميله اليهم واختلف كلامه في تكفيرهم وإن كان هو قد استقر أمره على أنه لا يكفر أحدا من أهل القبلة لا لهم ولا للمعتزلة ولا لأمثالهم وهذه المسألة من أشهر المسائل التي ينازعهم فيها ومع هذا قد ذكر أن قولهم يلزم أكثر الطوائف وذكر أنه ليس لمخالفيهم عليهم حجة صحيحة الا الحجة التي احتج هو بها وهي من أضعف الحجج كما سنبينه ان شاء الله تعالى
وأما الحجج التي يحتج بها الكلابية والمعتزلة فقد بين هو فسادها مع أنه قد استوعب حجج النفاة والذي ذكره هو مجموع ما يوجد في كتب الناس مفرقا ونحن نوضح ذلك
فأما الحجة الأولى وهي أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فلو جاز اتصافه بها لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث فهذه الحجة مبينة على مقدمتين وفي كل من المقدمتين نزاع معروف بين طوائف من المسلمين
(2/177)
أما الأولى وهي أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده فأكثر العقلاء على خلافها والنزاع فيها بين طوائف الفقهاء والنظار ومن الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة كأصحاب أحمد ومالك الشافعي وابي حنيفة وغيرهم ومن قال ذلك التزم أن يكون لكل جسم طعم ولون وريح وغير ذلك من أنواع الأعراض ولا دليل لاصحابها عليها
وأبو المعالي في كتابه المشهور الذي سماه الإرشاد إلى قواطع الأدلة لم يذكر على ذلك حجة بل هذه المقدمة احتاج اليها في مسألة حدوث العالم لما أراد أن يبين أن الجسم لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض عن عرض منه فأحال على كلامه مع الكرامية ولما تكلم مع الكرامية في هذه المسألة أحال على كلامه في مسألة حدوث العالم مع الفلاسفة ولم يذكر دليلا عقليا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وإنما احتج الكرامية بتناقضهم
ومضمون ما اعتمد عليه من قال إن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده أن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة الإجتماع والإفتراق والحركة والسكون فتقاس بقية الأعراض عليها واحتجوا بأن القابل لها لا يخلو عنها وعن ضدها بعد الإتصاف كما سلمته الكرامية فكذلك قبل الإتصاف
(2/178)
فأجابهم من خالفهم كالرازي وغيره بأن الأولى قياس محض بغير جامع فإذا قدر أن الجسم يستلزم نوعا من أنواع الآعراض فمن أين يجب أن يستلزم بقية الأنواع وأيضا فإن الذي يسلمونه لهم الحركة والسكون والسكون هل وجود أو عدم فيه قولان معروفان وأما الإجتماع والافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد ومن قال إن الاجسام ليست مركبة من الجواهر الفردة وهم أكثر الطوائف لم يقل بأن الجسم لا يخلو من الإجتماع والافتراق بل الجسم البسيط عنده واحد سواء قبل الافتراق أو لم يقبله وكذلك اذا قدر أن فيه حقائق متلازمة لم يلزم من ذلك أن يقبل الإجتماع والافتراق
وأما كونه لا يخلو عنهما بعد الاتصاف فأجابوا عنه بمنع ذلك في الاعراض التي لا تقبل البقاء كالحركات والأصوات وأما ما يقبل البقاء فهو مبني على أن الباقي هل يفتقر زواله إلى ضد أم لا فمن قال ن الباقي لا يفتقر زواله إلى ضد أمكنه أن يقول بجواز الخلو عن الاتصاف بالحادث بعد قيامه بدون ضد يزيله ومن قال لا يزول الا بضد قال إن الحادث لا يزول الا بضد حادث فإن الحادث بعد الحدوث لا يخلو المحل منه ومن ضده بناء على هذا
(2/179)
الأصل فإن كان هذا الأصل صحيحا ثبت الفرق وإن كان باطلا منع الفرق تناقضهم يدل على فساد أحد قوليهم
ثم القائلون بموجب هذا الأصل طوائف كثيرون بل أكثر الناس على هذا فلا يلزم من تناقض الكرامية تناقض غيرهم وأما المقدمة الثانية وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فهذه قد نازع فيها طوائف من أهل الكلام والفلسفة والفقه والحديث والتصوف وغيرهم وقالوا التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل فأما التسلسل في الآثار المتعاقبة والشروط المتعاقبة فلا دليل على بطلانه بل لا يمكن حدوث شيء من الحوادث لا العالم ولا شيء من أجزاء العالم الا بناء على هذا الأصل فم لم يجوز ذلك لزمه حدوث الحوادث بلا سبب حادث وذلك يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح كما قد بسط هذا في مسألة حدوث العالم وبين أنه لا بد من تسلسل الحوادث أو الترجيح بلا مرجح وأن القائلين بالحدوث بلا سبب حادث يلزمهم الترجيح بلا مرجح وأن القائلين بقدم العالم يلزمهم الترجيح بلا مرجح ويلزمهم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا وهذا افسد من حدوثها بلا سبب حادث
(2/180)
والطوائف أيضا متنازعة في هذا الأصل وجمهور الفلاسفة وجمهور أهل الحديث لا يمنعون ذلك وأما أهل الكلام فللمعتزلة فيه قولان وللأشعرية فيه قولان
وأما الحجة الثانية وهي أنه لو كان قابلا لها لكان قابلا لها في الأزل وذلك فرع إمكان وجودها ووجودها في الأزل محال فقد أجاب عنها بالمعارضة بأنه قادر على الحوادث ولا يلزم من كون القدرة أزلية أن يكون إمكان المقدور أزليا
قلت ويمكن أن يجاب عنها بوجوه أخرى
أحدها أنه لا يسلم أنه اذا كان قابلا لحدوث الحادث أن يكون قابلا له في الأزل الا اذا أمكن وجود ذلك في الأزل فإنه اذا قيل هو قابل لما يمتنع أن يكون أزليا كان بمنزلة أن يقال هوقادر على ما يمتنع أن يكون أزليا فمن اعتقد امتناع حدوث حادث في الأزل وقال مع ذلك بأنه قادر على الحوادث وقابل لها لم يلزمه القول بإمكان وجود المقدور المقبول في الأزل لكن هذا المقام هو مقام الذين يقولون يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث والكلام في هذا مشترك بين كونه قادرا وقابلا فمن جوز حدوث الحوادث بلا سبب حادث كالكلابية وامثالهم من المعتزلة والكرامية كان كلامه في هذا
(2/181)
بمنزلة كلامه في هذا ومن قال إن حدوث الحوادث لا بد له من سبب حادث كما يقوله من يقوله من أهل الكلام والفلسفة وأهل الحديث وغيرهم الذين يقولون إنه تقوم به الأمور المتعلقة بقدرته ومشيئته ولم يزل كذلك أو يقولون بتعاقب ذلك في غيره كما يشترك في هذا الأصل من يقوله من الهشامية والمعتزلة والمرجئة وأهل الحديث والسلفية والفلاسفة ومن وافق هؤلاء من أتباع الأشعري وغيرهم فقولهم في هذا كقولهم في هذا
الوجه الثاني أن يلتزم قائل ذلك إمكان وجود المقدور في الأزل كما يلتزم من يلتزممن يلتزم إمكان وجود المقدور في الأزل وقد عرف أن لطوائف المسلمين في هذا الاصل قولين معروفين فإن مالا يتناهى من الحوادث هل يمكن وجوده في الماضي والمستقبل أو في الماضي فقط أو فيهما جميعا على ثلاثة أقوال معروفة قال بكل قول طوائف من نظار المسلمين وغيرهم
الوجه الثالث أن يجاب بجواب مركب فيقال هو قابل لما هو قادر عليه فإن كان ثبوت جنسها في الأزل ممكنا كان قابلا لذلك في الأزل وقادرا عليه في الأزل وإن لم يكن ثبوت هذا الجنس ممكنا في الأزل كان قابلا للممكن من ذلك كما هو قادر على الممكن من ذلك
الوجه الرابع أن يقال كونه قابلا أو ليس بقابل هو نظر في
(2/182)
محل هذه الأمور وليس نظرا في إمكان تسلسلها أو امتناع ذلك كما أن النظر في كونه يقبل الاتصاف بالصفات كالعلم والقدرة هو نظر في إمكان اتصافه بذلك فأما وجوب تناهي ما مضى من الحوادث أو ما بقي وإمكان وجود جنس الحوادث في الأزل فذلك لا اختصاص له بمحل دون محل فإن قدر امتناع قيام ذلك به فلا فرق بين المتسلسل والمتناهي وإن قدر إمكان ذلك كان بمنزلة إمكان حدوث الحوادث المنفصلة والكلام في إمكان تسلسلها وعدم إمكان ذلك مسألة أخرى
الجواب الخامس أن يقال هذه الأمور المقبولة هي من الحوادث المقدورة بخلاف الصفات اللازمة له فإنها ليست مقدورة فالمقبولات تنقسم إلى مقدور وغير مقدور كما أن المقدورات تنقسم إلى مقبول وغير مقبول وما يقوم بالذات من الحوادث هو مقبول مقدور وحينئذ فإذا كان وجود المقدور في الأزل محالا كان وجود هذا المقبول في الأزل محالا لأن هذا المقبول مقدور من المقدورات واذا كان وجود هذه الحوادث المقدورة المقبولة محالا في الأزل لم يلزم من ذلك امتناع وجودهما فيما لا يزال كسائر الحوادث ولم يلزم من كون الذات قابلة لها إمكان وجودها في الأزل
الجواب السادس أن يقال أنتم تقولون إنه قادر في الأزل مع امتناع وجود المقدور في الأزل وتقولون إنه قادر في الأزل على مالا يزال فإن كان هذا الكلام صحيحا أمكن أن يقال في
(2/183)
المقبول كذلك ويقال هو قابل في الأزل مع امتناع وجود المقبول في الأزل وهو قابل في الأزل لما لا يزال وإن كان هذا الكلام باطلا لزم إما إمكان وجود المقدور في الأزل واما امتناع كونه قادرا في الأزل وعلى التقديرين يبطل ما ذكرتموه من الفرق بين القادر وبين القابل بقولكم تقدم القدرة على المقدور واجب دون تقدم القابل على المقبول
الجواب السابع أن يقال أنتم اعتمدتم في هذا على أن تلك القابلية يجب أن تكون من لوازم الذات ويلزم من ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل لأن قابلية الشيء لغيره نسبة بين القابل والمقبول والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما فيقال لكم ان كانت النسبة بين الشيئين موقوفة عليهما أي على تحققهما معا في زمن واحد كما اقتضاه كلامكم بطل فرقكم وهو قولكم بأن تقدم القدرة على المقدور واجب فإن القدرة نسبة بين القادر والمقدور مع وجوب تقدم القدرة على المقدور وهكذا تقولون الإرادة قديمة مع امتناع وجود المراد في الأزل وتقولون الخطاب قديم مع امتناع وجود المخاطب في الأزل فإذا كنتم تقولون بأن هذه الأمور التي تتضمن النسبة بين شيئين تتحقق في الأزل مع وجود أحد المنتسبين في الأزل دون الآخر امكن
(2/184)
أن يقال إن القابلية متحققة في الأزل مع امتناع تحقق المقبول في الأزل كما قال كثير من الناس إن التكوين ثابت في الأزل مع امتناع وجود المكون في الأزل
وأما الحجة الثالثة وهو أن قيام الحوادث به تغير والله منزه عن التغير فهذه هي التي اعتمد عليها الشهرستاني في نهاية الأقدام ولم يحتج بغيرها
وقد أجاب الرازي وغيره عن ذلك بأن لفظ التغير مجمل فإن الشمس والقمر والكواكب إذا تحركت أو تحركت الرياح أو تحركت الأشجار والدواب من الأناسي وغيرهم فهل يسمى هذا تغيرا أولا يسمى تغيرا فإن سمي تغيرا كان المعنى أنه اذا تحرك المتحرك فقد تحرك وإذا تغير بهذا التفسير فقد تغير وإذا قامت به الحوادث كالحركة ونحوها فقد قامت به الحوادث فهذا معنى قوله إن فسر بذلك فقد اتحد اللازم والملزوم
فيقال وما الدليل على امتناع هذا المعنى وإن سماه المسمى تغيرا وان كان هذا لا يسمى تغيرا بل المراد بالتغير غير مجرد قيام الحوادث مثل أن يعني بالتغير الاستحالة في الصفات كما يقال تغير المريض وتغيرت البلاد وتغير الناس ونحو ذلك فلا دليل على أنه يلزم من
(2/185)
الحركة ونحوها من الحوادث مثل هذا التغير ولا ريب أن التغير المعروف في اللغة هو المعنى الثاني فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب اذا كانت جارية في السماء إن هذا تغير وإنها تغيرت ولا يقولون للإنسان إذا كانت عادته أن يقرأ القرآن ويصلى الخمس إنه كلما قرأ وصلى قد تغير وإنما يقولون ذلك لمن لم تكن عادته هذه الأفعال فإذا تغيرت صفته وعادته قيل إنه قد تغير
وحينئذ فمن قال إنه سبحانه لم يزل متكلما اذا شاء فعالا لما يشاء لم يسم أفعاله تغيرا ومن قال إنه تكلم بعد أن لم يكن متكلما وفعل بعد أن لم يكن فاعلا فإنه يلزم من قال إن الكلام والفعل يقوم به ما يلزم من قال أن الكلام والفعل يقوم بغيره والقول في أحد النوعين كالقول في الآخر وذا قدر أن النزاع لفظي فلا بد من دليل سمعي أو عقلي يجوز أحدهما ويمنع الاخر والا فلا يجوز التفريق بين المتماثلين بمجرد الدعوى أو بمجرد اطلاق لفظي من غير أن يكون ذلك اللفظ مما يدل على ذلك المعنى في كلام المعصوم فأما اذا كان اللفظ في كلام المعصوم وهو كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل الإجماع وعلم مراده بذلك اللفظ فإنه يجب مراعاة مدلول ذلك اللفظ ولا يجوز مخالفة قول المعصوم وواطلاق التغير على الأفعال كإطلاق لفظ الغير على الصفات وإطلاق لفظ الجسم
(2/186)
على الذات وكل هذه الألفاظ فيها إجمال واشتباه وإبهام ومذهب السلف والأئمة أنهم لا يطلقون لفظ الغير على الصفات لا نفيا ولا إثباتا فلا يطلقون القول بأنها غيره ولا بأنها ليست غيره اذ اللفظ مجمل فإن اراد المطلق بالغير المباين فليست غيرا وإن أراد بالغير ما قد يعلم أحدهما دون الآخر فهي غير وهكذا ما كان من هذا الباب
واذا كان هذا كلامهم في لفظ الغير فلفظ التغير مشتق منه
ومتأمل كلام فحول النظر في هذا المسألة علم أن الرازي قد استوعب ما ذكروه وأن النفاة ليست معهم حجة عقلية تثبت على السبر وإنما غايتهم الزام التناقض لمن يخالفهم من المعتزلة والكرامية والفلاسفة
ومن المعلوم أن تناقض المنازع يستلزم فساد أحد قوليه بعينه الذي هو مورد النزاع ولهذا كان من ذم أهل الكلام المحدث من أهل العلم لأنهم يصفونهم بهذا ويقولون يقابلون فاسدا بفاسد وأكثر كلامهم في إبداء مناقضات الخصوم
وايضا فغير ذلك الخصم لا يلتزم مقالته التي ناقض بها مورد النزاع كما في هذه المسألة فإنه وإن كانت الكرامية قد تناقضوا فيها فلم يتناقض فيها غيرهم من الأئمة والسلف وأهل الحديث وغيرهم من طوائف أهل النظر والكلام
(2/187)
وقد قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني وتلميذ أبي المعالي في شرح الارشاد اجود ما يتمسك به في هذه المسألة تناقض الخصوم
وهو كما قال فإنه لم يجد لمن تقدمه في ذلك مسلكا سديدا لا عقليا ولا سمعيا واعتبر ذلك بما ذكره أبو المعالي في كتابه الذي سماه الإرشاد إلى قواطع الأدلة وقد ضمنه عيون الأدلة الكلامية التي يسلكها موافقوه وقد تكلم على هذا الأصل في موضعين من كتابه
أحدهما في مسألة حدوث العالم فإنه استدل بدليل الأعراض المشهور وهو أن الجسم لا يخلو عن الأعراض وما لا يخلو عنها فهو حادث وهو الدليل الذي اعتمدت عليه المعتزلة قبله وهو الذي ذمه الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وبين أنه ليس من طرق األنبياء واتباعهم والدليل هو مبني على أثبات أربع مقدمات الأعراض وإثبات حدوثها وأن الجسم لا يخلو منها وإبطال حوادث لا أول لها فلما صار إلى المقدمة الثالثة قال وأما الأصل الثالث
(2/188)
وهو تبيين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض فالذي صار اليه أهل الحق أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع اضداده ان كان له اضداد وأن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين وإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه
قال وجوزت الملحدة خلو الجوهر عن جميع الأعراض والجواهر في اصطلاحهم تسمى الهيولي والمادة والأعراض تسمى الصورة
قال وجوز الصالحي العرو عن جملة الأعراض ابتداء ومنع البصريون من المعتزلة من العرو عن جميع الأكوان وجوزوا
(2/189)
الخلو عما عداها وقال الكعبي ومتبعوه يجوز الخلو عن الأكوان ويمتنع العرو عن الألوان
قال وكل مخالف لنا يوافقنا على امتناع العرو عن الأعراض بعد قبول الجواهر لها فيفرض الكلام على الملحدة في الأكوان فإن القول فيها يستند إلى الضرورة فإننا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للإجتماع والإفتراق لا تعقل غير متماسة ولا متبانية
ومما يوضح ذلك أنها اذا اجتمعت فيما لا يزال فلا يتقرر اجتماعها الا عن افتراق سابق اذا قدر لها الوجود قبل الاجتماع وكذلك اذا طرأ الافتراق عليها اضطررنا إلى العلم بأن الافتراق مسبوق باجتماع وغرضنا في روم اثبات حدث العالم يتضح بالأكوان
(2/190)
قلت إثبات الأكوان بقبول الحركة والسكون هو الذي لا يمكن دفعه فإن الجسم الباقي لا بد له من الحركة أو السكون وأما الاجتماع والافتراق فهو مبني على اثبات الجوهر الفرد والنزاع فيه كثير مشهور فإن من ينفيه لا يقول إن الجسم مركب منه ولا إن الجواهر كانت متفرقة فاجتمعت والذين يثبتونه أيضا لا يمكنهم إثبات أن الجواهر كانت متفرقة فاجتمعت فإنه لا دليل على ان السماوات كانت جواهر متفرقة فجمع بينها ولهذا قال في الدليل فإنا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للإجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة وهذا كلام صحيح لكن الشأن في اثبات الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق فما ذكره من الدليل مبني على تقدير أنها كانت متفرقة فاجتمعت وهذا التقدير غير معلوم بل هو تقدير منتف في نفس الأمر عند جمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم
ثم قال أبو المعالي وإن حاولنا ردا على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكنا بنكتتين إحداهما الاستشهاد بالاجماع على امتناع العرو عن الأعراض بعد الاتصاف بها فنقول كل عرض باق فإنه ينتفي عن محله بطريان ضده ثم الضد إنما يطرأ في حال عدم المنتفي به
(2/191)
على زعمهم فإذا انتفى البياض فهلا جاز أن لا يحدث بعد انتفائه لون إن كان يجوز الخلو من الألوان وتطرد هذه الطريقة في أجناس الأعراض
قلت مضمون هذا أنه قاس ما بعد الاتصاف على ما قبله وقد اجابه المنازعون عن هذا بأن الفرق بينهما أن الضد لا يزول الا بطريان ضده فلهذا لم يخل منهما فإن كان هذا الفرق صحيحا بطل القياس والا منع الحكم في الأصل وقيل بل يجوز خلوه بعد الاتصاف اذا أمكن زوال الضد بدون طريان آخر وما ذكره في السواد والبياض قضية جزئية فلا تثبت بها دعوى كلية ومن أين يعلم أن كل طعم في الأجسام اذا زال فلا بد أن يخلفه طعم آخر وكل ريح إذا زالت فلا بد أن يخلفها ريح آخر وكذلك في الإرادة والكراهة ونحو ذلك فمن أين يعلم أن المريد للشيء المحب له إذا زالت إرادته ومحبته فلا بد أن يخلفه كراهية وبغضة ولم لا يجوز خلو الحي عن حب المعين وبغضه وارادته وكراهته
قال ونقول أيضا الدال على استحالة قيام الحوادث بذات
(2/192)
الرب سبحانه وتعالى أنها لو قامت به لم يخل عنها وذلك يقضي بحدثه فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن حوادث مع قبوله لها صحة وجوازا فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباريء للحوادث
قلت فلقائل أن يقول هذا غايته إلزام لهؤلاء المعتزلة إنكم اذا جوزتم ذلك لم يكن لكم حجة على استحالة قبول الباري للحوادث
فيقال إما أن ليكون هذا لازما وأما أن لا يكون لازما فإن كان لازما دل ذلك على أنه لا دليل للمعتزلة على ذلك ولا دليل له أيضا فإن مجرد موافقة المعتزلة له لا يكون دليلا لواحد منهما في شيء من المسائل التي لم نعلم فيها نزاع فكيف مع ظهور النزاع وإن لم يكن لازما لهم لم يكن حجة عليهم
فقد تبين أنه لم يذكر حجة على أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده
الموضع الثاني قال في أثناء الكتاب
(2/193)
فصل مما يخالف فيه الجوهر حكم الإله قبول الأعراض وصحة الاتصاف بالحوادث والرب يتقدس عن قبول الحوادث
قال وذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تقوم بذات الرب ثم زعموا أنه لا يتصف بما يقوم به من الحوادث وصاروا إلى جهالة لم يسبقوا اليها فقالوا القول الحادث يقوم بذات الرب وهو غير قائل به وإنما يقول بالقائلية والقائلية عندهم القدرة على التكلم وحقيقة أصلهم أن أسماء الرب لا يجوز أن تتجدد ولذلك وصفوه بكونه خالقا في
(2/194)
الأزل ولم يتحاشوا من قيام الحوادث به وتنكبوا إثبات وصف جديد له ذكرا وقولا
قال والدليل على بطلان ما قالوه أنه لو قبل الحوادث لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض ولو لم تخل عن الحوادث لم تسبقها وينساق ذلك إلى الحكم بحدث الصانع
قال ولا يستقيم هذا الدليل على أصل المعتزلة مع مصيرهم إلى تجويز خلو الجوهر عن الأعراض على تفصيل لهم أشرنا اليه واثباتهم أحكاما متجددة لذات الرب تعالى من الإرادة المحدثة القائمة لا بمحل على زعمهم ويصدهم أيضا عن طرد دليل في هذه المسألة أنه اذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن تدل على الحدث لم يبعد مثل ذلك في اعتوار نفس الأعراض على الذات
(2/195)
هذا كلامه ولقائل أن يقول قوله الدليل على بطلان ما قالوه انه لو قبلها لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر هو لم يذكر دليلا هناك الا قياس ما قبل الاتصاف على ما بعده وهو ليس حجة علمية عقلية بل غايته احتجاج بموافقة منازعه في مسألة عظيمة عقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والسنة وينبني عليها من مسائل الصفات والأفعال أمور عظيمة اضطرب فيها الناس فمن الذي يجعل أصول الدين مجرد قول قالته طائفة من أهل الكلام وافق بعضهم بعضا عليه من غير حجة عقلية ولا سمعية
وقد أجاب المنازعون بجواب مركب وهو إما الفرق إن صح والا منع حكم الأصل
وأيضا فإنه قد قرر هناك وهنا أن المعتزلة أئمة الكلام الذين أظهروا في الإسلام نفي الصفات والأفعال وسموا ذلك تقديسا له عن الأعراض والحوادث وقد ذكر أبو المعالي أنه لا حجة لهم على استحالة اتصافه بالحوادث وأنه يلزمهم نقيض ذلك أما الأول فإن القابل للشيء عندهم يجوز أن يخلو عنه وعن ضده وأما لزوم هذا القول له فلإثباتهم أحكاما متجددة للرب وأنه اذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات
(2/196)
من غير أن يدل على الحدوث لم يبعد مثل ذلك في اعتوار أنفس الأعراض وكان ما ذكره الأستاذ أبو المعالي يقتضي أن القول بحلول الحوادث يلزم المعتزلة وأنه لا دليل لهم على نفي ذلك وهو أيضا لم يذكر دليلا لموافقيه على نفي ذلك
فأفاد ما ذكره أن أئمة النفاة لحلول الحوادث به القائلين بأنه لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا دليل لهم على ذلك بل قولهم يستلزم قول أهل الإثبات لذلك
قال ونقول للكرامية مصيركم إلى إثبات قول حادث مع نفيكم اتصاف الباري به تناقض اذ لو جاز قيام معنى بمحل من غير أن يتصف المحل بحكمة لجاز شاهدا قيام أقوال وعلوم وارادات بمحال من غير أن تتصف المحال بأحكام موجبة عن المعاني وذلك يخلط الحقائق ويجر إلى جهالات
قال ثم نقول له اذا جوزتم قيام ضروب من الحوادث بذاته فما المانع من تجويز قيام أكوان حادثة بذاته على التعاقب
(2/197)
وكذلك سبيل الإلزام فيما يوافقوننا على استحالة قيامه به من الحوادث ومما يلزمهم تجويز قيام قدرة حادثه وعلم حادث بذاته على حسب أصلهم في القول والارادة الحادثين ولا يجدون بين ما جوزوه وامتنعوا عنه فصلا
قال ونقول لهم قد وصفتم الرب تعالى بكونه متحيزا وكل متحيز جسم وجرم ولا يتقرر في المعقول خلو الأجرام من الأكوان فما المانع من تجويز قيام الأكوان بذات الرب ولا محيص لهم عن شيء مما ألزموه
قلت ولقائل أن يقول هذه الوجوه الأربعة التي ذكرها ليس فيها حجة تصلح لاثبات الظن في الفروع فضلا عن اثبات اعتقاد يقيني في أصول الدين يعارض به نصوص الكتاب والسنة فإن غاية هذا الكلام إن صح أن الكرامية تناقضوا وقالوا قولا ولم يلتزموا بلوازمه
(2/198)
فيقال إن كان ما ذكره لازما لهم لزمهم الخطأ إما في إثبات الملزوم وإما في نفي اللازم ولم يتعين الخطأ في أحدهما فلم لا يجوز أن يكون خطؤهم في نفي اللوازم فإن أقام على ذلك دليلا عقليا كان هو حجة كافية في المسألة والا استفدنا خطأ الكرامية في أحد قوليهم وإن لم يكن ما ذكره لازما لم يفد لا إثبات تناقضهم ولا دليلا في مورد النزاع
ثم يقال أما الوجه الأول فحاصله نزاع لفظي هل يتصف بالحوادث أو لا يتصف كالنزاع في أمثال ذلك وإذا كان من أصلهم الفرق بين اللازم وغير اللازم بحيث يسمون اللازم صفة دون العارض كاصطلاح من يفرق بين الصفات والأفعال فلا يسمى الأفعال صفات وإن قامت بمحل كاصطلاح من يفرق بين الأقوال والأفعال فلا يسمى ما يتكلم به الإنسان عملا وإن كان له فيه حركة ونحو ذلك كانت هذه أمورا اصطلاحية لفظية لغوية لا معاني عقلية والمرجع في إطلاق الألفاظ نفيا وإثباتا إلى ما جاءت به الشريعة فقد يكون في إطلاق اللفظ مفسدة وإن كان المعنى صحيحا
وما ألزمهم إياه في الشاهد فأكثر الناس يلتزمونه في الأفعال فإن الناس تفرق في الإطلاقات بين صفات الإنسان وبين أفعاله كالقيام
(2/199)
والقعود والذهاب والمجيء فلا يسمون ذلك صفات وإن قامت بالمحل
وكذلك العلم الذي يعرض للعالم ويزول والإرادة التي تعرض له وتزول قد لا يسمون ذلك صفة له وإنما يصفونه بما كان ثابتا له كالخلق الثابت
وبالجملة فهذه بحوث لفظية سمعية لا عقيلة وليس هذا موضعها
وأما قيام الأكوان به على التعاقب وقيام ما أحالوا قيامه به فهم يفرقون بين ما جوزوه ومنعوه بما يفرق به مثبته الصفات بين ما وصفوه به وبين ما منعوه فكما أنهم يصفونه بصفات الكمال فلا يلزمهم أن يصفوه بغيرها فكذلك هؤلاء يقولون فإن صح الفرق والا كانوا متناقضين
ومن المعلوم أن الله تعالى لما وصف بالسمع والبصر كما دلت عليه النصوص ألزمت النفاة لأهل الإثبات إدراك الشم والذوق واللمس فمن الناس من طرد القياس ومنهم من فرق بين الثلاثة والاثنين ومنهم من فرق بين ادراك اللمس وادراك الشم والذوق لكون النصوص أثبتت الثلاثة دون الاثنين
فإذا قال المعتزلة البصريون والقاضي أبو بكر وأبو المعالى وغيرهما ممن يصفه بالإدراكات الخمسة لمن لم يصفه الا باثنين أو ثلاثة يلزمكم
(2/200)
طرد القياس لزمهم إما الفرق والا كانوا متناقضين ولم يكن هذا دليلا على ابطال اتصافه بالسمع والبصر وكذلك اذا قال من جعل الإدراكات الخمسة تتعلق به كما فعله هؤلاء ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى ونحوه لمن أثبت الرؤية يلزمكم أن تصفوه بتعلق السمع والشم والذوق واللمس به كما قلتم في الرؤية كانوا أيضا على طريقين منهم من يذكر الفرق ومنهم من يفرق بين اللمس وغيره لمجيء النصوص بذلك دون غيره
قال أبو المعالي في إرشاده فإن قيل قد وصفتم الرب تعالى بكونه سميعا بصيرا والسمع والبصر إدراكان ثم ثبت شاهدا إدراكات سواهما إدراك يتعلق بقبيل الطعوم وادراك يتعلق بقبيل الروائح وادراك يتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة فهل تصفون الرب تعالى بأحكام هذه الإدراكات أم تقتصرون على وصفه بكونه سمعيا بصيرا
قلنا الصحيح المقطوع به عندنا وجوب وصفه بأحكام الادراك إذ كل إدراك ينفيه ضد فهو آفة فما دل على وجوب
(2/201)
وصفه بحكم السمع والبصر فهو دال على وجوب وصفة بأحكام الادراك ثم يتقدس الرب تعالى عن كونه شاما ذائقا لامسا فإن هذه الصفات منبئة عن ضروب من الاتصالات والرب يتعالى عنها وهي لا تنبىء عن حقائق الادراكات فإن الانسان يقول شممت تفاحة فلم أدرك ريحها ولو كان الشم دالا على الادراك لكان ذلك بمثابة قول القائل أدركت ريحها ولم أدركه وكذلك القول في الذوق واللمس
قلت ولا يلزم من تناقض هؤلاء إن كانوا متناقضين نفى الرؤية التي تواترت بها النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقلت وأما تعاقب الحوادث فهم نفوه بناء على امتناع حوادث لا أول لها فإن صح هذا الفرق والا لزمهم طرد الجواز كما طرده غيرهم ممن لا يمنع ذلك
(2/202)
وأما حدوث القدرة والعلم فنفوهما لأن عدم ذلك يستلزم النقص لعموم تعلق العلم والقدرة بخلاف الإرادة والكلام فإنه عموم لها فإنه سبحانه لا يتكلم الا بالصدق لا يتكلم بكل شيء ولا يريد الا مايسبق علمه به لا يريد كل شيء بخلاف العلم والقدرة فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير
وهذا كما فرقت المعتزلة بين هذا وهذا فقالوا إن له إرادة حادثة وكلاما حادثا ولم يقولوا له عالمية حادثة وقادرية حادثة فالسؤال على الفريقين جميعا فإن صح الفرق والا كانوا متناقضين وقد أثبت غيرهم قيام علم بالموجود بعد وجوده ولم يجعل ذلك عين العلم المتعلق به قبل وجوده كما دل على ذلك ظاهر النصوص وقد أثبت ذلك من أهل الكلام والفلسفة طوائف كأبي الحسين البصري وأبي البركات وغيرهم وغير المتقدمين مثل هشام بن الحكم وأمثاله ومثل جهم والمفرق إن صح فرقه والا لزم تناقضه
وقيام الأكوان به نفوه لأنها هي دليلهم على حدوث العالم كما استدلت بذلك المعتزلة وهم يقولون المتصف بالأكوان لا يخلو منها وهذا معلوم بالبديهة كما بينه الأستاذ أبو المعالي في أول كلامه وقال نفرض الكلام في الأكوان فإن القول فيها يستند
(2/203)
إلى الضرورة فإذا كان من المعلوم بالضرورة أن القابل للأكوان لا يخلو عنها فلو وصفوه بالأكوان للزم أن لا يخلو عنها وهم يقولون بامتناع تسلسل الحوادث ويقولون مالا يخلو من الحوادث فهو حادث كما يوافقهم على ذلك أبو المعالي وأمثاله فإن كان هذا الفرق صحيحا بطل الألزام لهم وصح فرقهم وان لم يكن هذا الفرق صحيحا لم يكن في ذلك حجة للمنازع لهم بل يقول القائل كلاكما مخطيء حيث قلتم بامتناع دوام الحوادث وتسلسلها
ومعلوم أن هذا كلام متين لا جواب عنه فإن فرقهم بين الأكوان وغيرها هو العلم الضروري من الجميع بأن القابل للأكوان لا يخلو منها فما قبل الحركة والسكون لم يخل من أحدهما فهذا هو محيصهم عما ألزمهم به فإن كانت الأكوان كغيرها من في أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فقد ثبت تناقضهم اذا كان قابلا لها وإن لم تكن مثل غيرها كما تقوله المعتزلة صح فرقهم وهم يدعون أنه ليس قابلا لها كما وقد وافقهم على ذلك المعتزلة والأشعرية
قإذا قال المعترض عليهم يجب على أصلهم أن يكون قابلا لها لأنهم يصفونه بكونه متحيزا وكل متحيز جسم وجرم قيل هذا كما تقوله المعتزلة للأشعرية يلزمكم اذا قلتم إن له حياة وعلما وقدرة أن يكون متحيزا لأنه لا يعقل قيام هذه الصفات الا بمتحيز ويقولون
(2/204)
إنه لا يعقل موصوف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والارادة الا ما هو جسم فإذا وصفتموه بهذه الصفات لزمكم أن يكون جسما
فإذا قال هؤلاء للمعتزلة قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه حي عليم قدير وليس بمتحيز ولا جسم فإذا عقلنا موجودا حيا عليما قديرا ليس بجسم عقلنا حياة وعلما وقدرة لا تقوم بجسم قالوا وأنتم وافقتمونا على أنه حي عليم قدير وإثبات حي عليم قدير بلا حياة ولا علم ولا قدرة مكابرة للعقل واللغة والشرع
قالت الكرامبة لهؤلاء قد اتفقنا نحن وانتم على أنه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات مع اتفاقنا نحن وأنتم على أنه لا يتصف بالأكوان فهكذا اذا جوزنا عليه أنه يسمع أصوات عباده حين يدعونه ويراهم بعد أن يخلقهم ويغضب عليهم اذا عصوه ويحب العبد اذا تقرب اليه بالنوافل ويكلم موسى حين أتى الوادي ويحاسب خلقه يوم القيامة ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص لم يلزمنا مع ذلك أن نجوز لم يلزمنا مع ذلك أن نجوز عليه حدوث الأكوان
ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف بعضهم مع بعض تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة الا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض وآخر منتهاهم حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام الأكوان به أو الأعراض ونحو ذلك من الحجج التي هي
(2/205)
أصل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة وقالوا إنه جهل وإن حكم أهله أن يضربوا بالجريد والنعال وطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ولكن من عرف حقائق ما انتهى اليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء ازداد بصيرة وعلما ويقينا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات هي من هذا الجنس الذي لا ينفق الا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق اثبات ذلك ويتوهم أن بمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله وأن الطعن في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمنا فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لظنه أنه بهذا الرد يصير مصدقا للرسول في الباقي واذا أنعم النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقا لمثل هذا الكلام ازداد نفاقا وردا لما جاء به الرسول وكلما ازداد معرفة ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد ايمانا وعلما بحقيقة ما جاء به الرسول ولهذا قال من قال من الأئمة قل احد نظر في الكلام الا تزندق وكان في قلبه غل على أهل الإسلام بل قالوا علماء الكلام زنادقة
ولهذا قيل إن حقيقة ما صنفه هؤلاء في كتبهم من الكلام
(2/206)
الباطل المحدث المخالف للشرع والعقل هو ترتيب الأصول في تكذيب الرسول ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول ولولا أن هؤلاء القوم جعلوا هذا علما مقولا ودينا مقبولا يردون به نصوص الكتاب والسنة ويقولون إن هذا هو الحق الذي يجب قبوله دون ما عارضه من النصوص الإلهية والأخبار النبوية ويتبعهم على ذلك من طوائف أهل العلم والدين مالا يحصيه إلا الله لاعتقادهم أن هؤلاء أحذق منهم وأعظم تحقيقا لم يكن بنا حاجة إلى كشف هذه المقالات مع أن الكلام هنا لا يحتمل إلا الاختصار
ومقصودنا بحكاية هذا الكلام أن يعلم أن ما ذكره الرازي في هذه المسألة قد استوعب فيه جميع حجج النفاة وبين فسادها
وأما الحجة التي احتج بها فهي أضعف من غيرها كما سيأتي بيانه
وقد ذكر أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف
وذكر في كتاب الأربعين أنها تلزم أصحابه أيضا فقال في الأربعين المشهور أن الكرامية يجوزون ذلك وينكره سائر الطوائف وقيل أكثر العقلاء يقولون به وإن أنكروه باللسان فإن أبا علي وأبا هاشم من المعتزلة وأتباعهما قالوا إنه يريد بإرادة حادثة
(2/207)
لا في محل ويكره بكراهة حادثة لا في محل إلا أن صفة المريدية والكارهية محدثة في ذاته تعالى
وإذا حضر المرئي والمسموع حدث في ذاته تعالى صفة السامعية والمبصرية لكنهم إنما يطلقون لفظ التجدد دون الحدوث
وأبو الحسين البصري يثبت في ذاته علوما متجددة بحسب تجدد المعلومات والأشعرية يثبتون نسخ الحكم مفسرين ذلك برفعه أو انتهائه والارتفاع والانتهاء عدم بعد الوجود ويقولون إنه عالم بعلم واحد يتعلق قبل وقوع المعلوم بأنه سيقع وبعده يزول ذلك التعلق ويتعلق بأنه وقع ويقولون بأن قدرته تتعلق بإيجاد المعين وإذا وجد انقطع ذلك التعلق لامتناع إيجاد الموجود وكذا تعلق الارادة بترجيح المعين وأيضا
(2/208)
المعدوم لا يكون مرئيا ولا مسموعا وعند الوجود يكون مرئيا ومسموعا فهذه التعلقات حادثة
فإن التزم جاهل كون المعدوم مرئيا ومسموعا قلنا الله تعالى يرى المعدوم معدوما لا موجودا وعند وجوده يراه موجودا لا معدوما لأن رؤية الموجود معدوما أو بالعكس غلط وأنه يوجب ما ذكرنا والفلاسفة مع بعدهم عن هذا يقولون بأن الاضافات وهي القبلية والبعدية والمعية موجودة في الأعيان فيكون الله مع كل حادث وذلك الوصف الإضافي حدث في ذاته وأبو البركات من المتأخرين منهم صرح في المعتبر بإرادات محدثة وعلوم محدثة في ذاته تعالى زاعما بأنه لا يمكن الاعتراف بكونه الها لهذا العالم إلا مع هذا القول ثم قال الإجلال من هذا الإجلال والتنزيه من هذا التنزيه واجب
(2/209)
قال الرازي واعلم أن الصفة إما حقيقية عارية عن الإضافة كالسواد والبياض أو حقيقة تلزمها إضافة كالعلم والقدرة فإنه يلزمها تعلق بالمعلوم والمقدور وهو اضافة مخصوصة بينهما وإما اضافة محضة ككون الشيء قبل غيره وبعده ويمينه ويساره فإن تغير هذه الأشياء لا يوجب تغيرا في الذات ولا في صفة حقيقية منها فنقول تغير الإضافات لا محيص عنه وأما تغير الصفات الحقيقية فالكرامية يثبتونه وغيرهم ينكرونه فظهر الفرق بين مذهب الكرامية وغيرهم لا نسمي ذلك صفة ولا نقول إن ذلك تغير في الصفات الحقيقية كما تقدم
ثم استدل الرازي بثلاثة أوجه
أحدها أن صفاته صفات كمال فحدوثها يوجب
(2/210)
نقصانه يعني قبل حدوثها والإضافات لا وجود لها في الأعيان دفعا للتسلسل فلا يرد نقصا
ولقائل أن يقول هذا الدليل قد تقدم الكلام عليه والمنازع لا يسمى ذلك صفة وإن وصف الموصوف بنوع ذلك فليس كل فرد من الأفراد صفة كمال مستحقة القدم بحيث يكون عدمها في الأزل نقصا وما اقتضت الحكمة حدوثه في وقت لم يكن عدمه قبل ذلك نقصا بل الكمال عدمه حيث لا تقتضي الحكمة وجود حدوثه ووجوده حيث اقتضت الحكمة وجوده كالحوادث المنفصلة فليس عدم كل شيء نقصا عما عدم عنه
وأيضا فالحوادث لا يمكن وجودها الا متعاقبة وقدمها ممتنع وما كان ممتنع الوجود لم يكن عدمه نقصا والتسلسل المذكور هو التسلسل في الآثار والشروط ونحوها وهذا فيه قولان مشهوران فالمنازع قد يختار جوازه لا سيما من يقول إن الرب لم يزل فاعلا متكلما إذا شاء
الثاني لو كانت ذاته قابلة للحوادث لكانت تلك القابلية من
(2/211)
لوازمها وأزلية القابلية توجب صحة وجود المقبول أزلا لأن قابلية الشيء للغير نسبة بينهما والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما لكن وجود الحوادث في الأزل محال ولا يلزم علينا القدرة الأزلية لأن تقدم القدرة على المقدور واجب دون تقدم القابل على المقبول
قال الأرموي ولقائل أن يقول ما ذكرتم بتقدير التسليم يقتضي أزلية صحة وجود الحوادث لا صحة أزلية وجود الحوادث وقد عرفت الفرق بينهما في مسألة الحدوث والفرق المذكور إن صح الفرق مع أن الدليل المذكور ينفيه لزم بطلان الدليل
قلت فقد ذكر الأرموي في بطلان هذا الدليل ثلاثة أوجه أحدهما الفرق بين صحة أزلية الحدوث وأزلية صحة الحدوث وسيأتي إن شاء الله الكلام فيه وبيان أنه فرق فاسد لكن يقال إن صح فهذا الفرق بطل الدليل وإن لم يصح لزم إمكان الحوادث في الأزل ولزم إمكان وجود المقدور والمقبول في الأزل وكلاهما يبطل
(2/212)
الدليل أو يقال ما كان جوابا لكم عن المقدور كان جوابا لنا عن المقبول أو يقال إن صح هذا الفرق بطل الدليل وإن لم يصح هذا الفرق فاللازم أحد أمرين إما إمكان دوام الحوادث وإما امتناع دوامها فإن كان اللازم هو الأول لزم إمكان وجود جنس الحوادث المقبولة في الأزل وبطل الدليل وأن كان اللازم هو الثاني كان وجودها في الأزل ممتنعا وحينئذ فإذا جاز أن يقال هو قادر عليها مع امتناع وجود المقدور أمكن أن يقال هو قابل لها مع امتناع وجود المقبول
وقول الأرموي والفرق المذكور إن صح أغنى عن الدليل السابق والا بقي النقص قد يقال أراد به الفرق بين أزلية الصحة وصحة الأزلية وقد يقال عني به الفرق بين القادر والقابل فإن أراد الأول كان معنى كلامه إن صح الفرق أمكن أن يكون قابلا لها في الأزل وتكون صحتها أزلية أي لم تزل ممكنة صحيحة مع امتناع صحة أزلية الحوادث كما يقولون إذ لم تزل الحوادث ممكنة صحيحة جائزة مع امتناع كون الحادث أزليا ويقولون صحة الجواز وإمكانها أزلي لامتناع انقلابها من الإمتناع إلى الإمكان من غير سبب حادث مع امتناع وجودها في الأزل وامتناع صحة أزليتها
وهذا الفرق ذكره الغزالي في تهافت الفلاسفة والرازي وغيرهما في جواب من قال بإن إمكان وجود المقدورات لا أصل له فقالوا نحن نقول إمكان الحوادث لا بداية لها ونقول الشيء المعين بشرط كونه
(2/213)
حادث لا بداية لأزليته ولا يلزم من ذلك إمكان وجود شيء من الحوادث في الأزل لأن كونه حادثا مع كونه أزليا ممتنع
وهذا الفرق عند التحقيق باطل فإنه مستلزم للجمع بين النقيضين فإن الحادث يجب أن يكون مسبوقا بالعدم
فإذا قيل بأن الحادث لم يزل ممكنا وأن صحته وإمكانه أزليته كان معناه أن ما كان مسبوقا بالعدم يمكن أن يكون أزليا والأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم فكان معناه أن ما يجب أن يكون حادث يمكن أن يكون قديما وما يجب كونه مسبوقا بالعدم يجوز أن يكون أزليا غير مسبوق بالعدم وهذا جمع بين النقيضين
فإذا قيل الحادث المعين إمكانه هل هو أزلي أو حادث
قيل بل هو حادث فإن كون الحادث المعين في الأزل ممتتنع لا يكون قط ولكن حدثت أسباب أوجبت إمكان حدوثه فكان إمكان حدوثه ممكنا كوجود الولد المشروط بوجود والده فإن كونه ابن فلان يستلزم وجود فلان ويمتنع أن يكون وجود ابن فلان موجودا قبل وجود فلان والممتنع لذاته لا يكون مقدورا وتجدد القادرية بتجدد إمكان المقدور ليس ممتنعا فإن الجميع حاصل بمشيئة الرب وقدرته وهو سبحانه بما يحدثه بمشيئته وقدرته يجعل المعدوم موجودا فيجعل ما لم يكن ممكنا مقدورا يصير ممكنا مقدورا وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود شرح مراد الأرموي فإذا أراد بالفرق الفرق بين صحة
(2/214)
الأزلية وأزلية الصحة كان معنى كلامه إن صح هذا الفرق بطل الدليل فإنه يقول في الحوادث المقبولة ما يقال في الحوادث المنفصلة من الفرق بين صحة أزليتها وأزلية صحتها لكن لو أراد بالفرق هذا لم يستقم قوله إن هذا الفرق إن صح أغنى عن الدليل السابق بل هذا الفرق إن صح بطل الدليل المذكور فهذا يرجح أنه أراد بالفرق بين القادر والقابل فيكون قد ذكر ثلاثة أجوبة نقول إن صح الفرق بينهما بأن القابل يستلزم وجود المقبول في الأزل دون القادر فهذا الفرق يغني عن الدليل وإن صح هذا الفرق انتقض الدليل بالقادر
الوجه الثاني أنه إن صح الفرق بين المقدور والمقبول بأن المقدور يجب تأخره عن القدرة والمقبول بأن المقدور يجب تأخره عن القدرة والمقبول لا يجب ذلك فيه كان هذا وحده دليلا على وجوب حصول الحادث في الأزل اذا كان قابلا له وحينئذ فلا حاجة إلى أن يستدل على ذلك بما ذكره من النسبة إن كان الفرق صحيحا وإن لم يكن صحيحا صح النقض به
الثالث إن الدليل المذكور يوجب المقدور في الأزل لأن القادرية على الشيئين نسبة بينهما والنسبة بين الشيئين متوقفة عليهما فإن صح الفرق بين المقدور والمقبول مع أن الدليل يتناولهما جميعا وينفي
(2/215)
الفرق لزم بطلان الدليل فيلزم بطلان مقدمة الدليل أو انتفاضة وكلاهما مبطل له وهذا بين
قال الرازي الثالث قول الخليل { لا أحب الآفلين } سورة الأنعام 76 يدل على أن المتغير لا يكون الها ولقائل أن يقول إن كان الخليل صلى الله تعالى عليه وسلم احتج بالأفول على نفي كونه رب العالمين لزم أنه لم يكن ينفي عنه حلول الحوادث لأن الأفول هو المغيب والاحتجاب باتفاق أهل التفسير واللغة وهو مما يعلم من اللغة اضطرارا وهو حين بزغ قال هذا ربي فإذا كان من حين بزوغه إلى حال أفوله لم ينف عنه الربوبية دل على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك وإنما جعل المنافي الأفول وإن كان الخليل صلى الله عليه وسلم إنما احتج بالأفول على أنه لا يصلح أن يتخذ ربا يشرك به ويدعي من دون الله فليس فيه تعرض لأفعال الله تعالى فقصة الخليل إما أن تكون حجة عليهم أو لا لهم ولا عليهم
قال الرازي واحتجوا بأن الدليل على أن الكلام والسمع
(2/216)
والبصر صفات حادثة ولا بد لها من محل وهو ذاته تعالى ولأنه يصح قيام الصفات القديمة بذاته تعالى باتفاق منا ومن الأشعرية والقدم لا يعتبر في المقتضى فإنه عبارة عن نفس الأزلية وهو عدمى فالمقتضى هو كونها صفات والحوادث كذلك فليلزم قيامها به
قال والجواب عن الأول بالجواب عن أدلة حدوث تلك الصفات وعن الثاني بأن تلك الصفات قد تكون مخالفة لهذه بالنوع سلمنا أنه لا فارق سوى القدم فلم قلتم إنه عدمي فإنه عبارة عن نفي العدم ونفي النفي ثبوت
قلت ليس بالمقصود هنا ذكر أدلة المثبتة فإن النصوص تدل على ذلك في مواضع لا تكاد تحصى الا بكلفة وانما الغرض بيان هل في العقل ما يعارض النصوص ومن أراد تقرير ما احتجوا به من الدليل العقلي على الإثبات قدح فيما يذكره النفاة من امتناع حدوث تلك الأمور
(2/217)
وعمدة المانعين هو امتناع حلول الحوادث وامتناع تسلسلها فإذا كانوا لا ينفون حدوثها في ذاته الا لامتناع حلول الحوادث لم يجز أن يجيبوا عن أدلة الحدوث بمجرد دليل امتناع حلول الحوادث ان لم يجيبوا عن المعارض لن ذلك دور فإذا قال القائل الدليل على بطلان دليل المثبتة هو دليل النفاة قيل له دليل النفاة لا يتم الا ببطلان دليل المثبتة فإذا لم تمكن المطالبة الا بدليل المثبتة كان صحة دليل النفاة متوقفا على صحته وذلك دور فإنه لا يتم نفي ذلك الا بالجواب عن حجة المثبتين فيكون قولهم بانتفاء حلول الحوادث مبنيا على انتفاء حلول الحوادث فلا يكون لهم حجة على ذلك
فالمثبتون معهم السمعيات الكثيرة المتواترة بخلاف النفاة فإنه ليس معهم شيء من السمع وإنما يدعون قيام الدليل العقلي على امتناع قيام الحوادث به فإذا اراد بعض المثبتين أن يقيم دليلا عقليا على قيامها به أو إمكان قيامها به احتاج إلى أن يجيب عن أدلة النفاة والنفاة لا يتم دليلهم على النفي حتى يجيبوا على أدلة المثبتين والا فلو قدر تعارض الأدلة العقلية من الجانبين فتكافأتا وبقيت الأدلة السمعية خالية عن معارض يجب تقدمه عليها فإذا احتج المثبتون بالآيات والأحاديث لم يمكن للنفاة أن يقولوا هذا يثبت قيام الحوادث به وذلك ممتنع الا اذا أقاموا الدليل العقلي على الامتناع وأجابوا عما يحتج به المثبتة من الدليل العقلي فلا بد للنفاة من هذا وهذا بخلاف المثبتة فإنه يمكنهم
(2/218)
ان يقولوا السمع دل على ذلك ولم يقيموا دليلا عقليا خاليا عن المعارض المقاوم ينفي ذلك فلا يحتاج المثبتون إلى دليل عقلي يوافق السمع بل يكفيهم إبطال ما يعارضه وإذا أقاموا دليلا عقليا فعورضوا بأدلة النفاة لم يحتاجوا إلى إبطالها بل تكفيهم المعارضة فإذا أبطلوها كانوا قد سدوا على النفاة الأبواب
فلهذا كان ما يحتاج اليه النفاة من إقامة دليل عقلي وإبطال ما يعارضه مما احتاج اليه المثبتة بل يكفيهم منع مقدمات المعارض فإن أبطلوها فقد زادوا وتكفيهم المقارضة بالعقليات فإن بينوا رجحان عقلياتهم فقد زادوا وإذا بينوا صحة عقلياتهم وبطلان عقليات النفاة ومعهم السمعيات كانوا قد أثبتوا أن معهم السمع والعقل وأن المنازع ليس معه لا سمع ولا عقل
وأما أدلة المثبتين فهو ما يذكرونه من الشرعيات والعقليات وهم قد قدحوا في أدلة النفاة فيتم كلامهم
وأما التسلسل فالكرامية ومن وافقهم لا يجيزونه كما لا يجيزه كثير من المعتزلة ومن وافقهم وأما من يجوز التسلسل في الآثار من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم فهؤلاء قد عرف طعنهم في أدلة النفاة وطعن بعض النفاة في أدلة بعض حتى متكلمة أهل الإثبات
(2/219)
من الأشعرية وغيرهم متنازعون في ذلك كما قد عرف
وايضا فإن المثبتين يقولون كونه قادرا على الفعل بنفسه صفة كمال كما أن قدرته على المفعول المنفصل صفة كمال فإنا اذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الفعل القائم به والمنفصل عنه ومن لا يقدر على أحدهما علم أن الأول أكمل كما إذا عرضنا عليه من يعلم نفسه وغيره ومن لا يعلم الا أحدهما وأمثال ذلك ويقول من يجوز دوام الحوادث وتسلسلها إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الأفعال المتعاقبة الدائمة ويفعلها دائمة متعاقبة ومن لا يقدر على الدائمة المتعاقبة كان الأول أكمل
وكذلك اذا عرضنا على العقل من فعل الأفعال المتعاقبة مع حدوثها ومن لا يفعل حادثا أصلا لئلا يكون عدمه قبل وجوده عدم كمال شهد صريح العقل بأن الأول أكمل فإن الثاني ينفي قدرته وفعله للجميع لئلا يعدم البعض في الأزل والأول يثبت قدرته وفعله للجميع مع عدم البعض في الأزل فذاك ينفي الجميع حذرا من فوت البعض والثاني يثبت ما يثبته من الكمال مع فوت البعض ففوت البعض لازم على التقديرين وامتاز الأول بإثبات كمال في قدرته وفعله لم يثبته الثاني
وأيضا فهم يقولون كون الكلام لا يقوم بذاته يمنع أن يكون
(2/220)
كلامه فإن ما قام به شىء من الصفات والافعال عاد حكمه إليه لا إلى غيره فإذا خلق فى محل علما أو قدرة أو كلاما كان ذلك صفة للمحل الذي خلق فيه فذلك المحل هو العالم القادر المتكلم به فإذا خلق كلاما في محل كان ذلك الكلام المخلوق كلام ذلك المحل لا كلامه فإذا خلق في الشجرة { إني أنا الله رب العالمين } سورة القصص 30 ولم يقم هو به كلام كان ذلك كلاما للشجرة فتكون هي القائلة إنى أنا الله رب العالمين وهذا باطل فيتعين أن يقوم به الكلام وكونه لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بما شاء بل يلزمه الكلام كما تلزمه الحياة مع كون تكليمه هو خلق مجرد الادراك يقتضي أن يكون القادر على الكلام الذي يتكلم باختياره أكمل منه فإنا إذا عرضنا على العقل من يتكلم باختياره وقدرته ومن كلامه بغير اختياره وقدرته كان الاول أكمل فتعين أن يكون متكلما بقدرته ومشيئته كلاما يقوم بذاته وكذلك في مجيئه وإتيانه واستوائه وامثال ذلك وإن قدرنا هذه أمورا منفصلة عنه لزم أن لا يوصف بها وإن قدرناها لازمة لذاته لا تكون بمشيئته وقدرته لزم عجزه وتفضيل غيره عليه فيجب أن يوصف بالقدرة على هذه الأفعال القائمة به التي يفعلها بمشيئته وقدرته وهذا هو الذي تعنيه النفاة بقولهم لا تحله الحوادث كما يعنون نفي العلم والقدرة ونحوهما بقولهم لا تحله الأعراض
وأيضا فإن ما به تثبت الصفات القائمة به تثبت الأفعال القائمة به
(2/221)
التي تحصل بقدرته واختياره ونحو ذلك وذلك أنه يقال العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ونحو ذلك صفات كمال فلو لم يتصف الرب بها اتصف بنقائضها كالجهل والعجز والصمم والبكم والخرس وهذه صفات نقص والله منزه عن ذلك فيجب اتصافه بصفات الكمال ويقال كل كمال يثبت لمخلوق من غير أن يكون فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق تعالى أولى به وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه أولى بتنزيهه عنه بل كل كمال يكون للموجود لا يستلزم نقصا فالواجب الوجود أولى به من كل موجود وأمثال هذه الأدلة المبسوطة في غير هذا الموضع
فإذا قال النفاة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة فلا يلزم من رفع أحدهما ثبوت الثاني الا أن يكون المحل قابلا لهما فأما ما لا يقبلهما كالجماد فلا يقال فيه حي ولا ميت ولا أعمى ولا بصير
اجيبوا عن ذلك بعدة أجوبة
مثل أن يقال هذا اصطلاح لكم والا فاللغة العربية لا فرق فيها والمعاني العقلية لا يعتبر فيها مجرد الاصطلاحات
ومثل أن يقال فما لا يقبل هذه الصفات كالجماد أنقص مما يقبلها
(2/222)
ويتصف بالناقص منها فالحي الأعمى أكمل من الجماد الذي لا يوصف ببصر ولا عمى وهذا بعينه يقال فيما يقوم به من الأفعال ونحوها التي يقدر عليها ويشاؤها فإنه لو لم يتصف بالقدرة على هذه الأفعال لزم اتصافه بالعجز عنها وذلك نقص ممتنع كما تقدم والقادر على الفعل والكلام أكمل من العاجز عن ذلك
فإذا قال النافي إنما يلزم اتصافه بنقيض ذلك لو كان الأفعال به ممكنا فأما مالا يقبل ذلك كالجدار فلا يقال هو قادر على الحركة ولا عاجز عنها
فيقال هذا نزاع لفظي كما تقدم ويقال أيضا فمالا يقبل قيام الأفعال الاختيارية به والقدرة عليها كالجماد أنقص مما يقبل ذلك كالحيوان فالحيوان الذي يقبل أن يتحرك بقدرته وارادته اذا قدر عجزه هو أكمل مما لا يقبل الاتصاف بذلك كالجماد فإذا وصفتموه بعدم قبول ذلك كان ذلك أنقص من أن تصفوه بالعجز عن ذلك وإذا كان وصفه بالعجز عن ذلك صفة نقص مع إمكان اتصافه بالقدرة على ذلك فوصفه بعدم قبول الأفعال والقدرة عليها أعظم نقصا
فإن قال النافي لو جاز أن يفعل أفعالا تقوم به بإرادته وقدرته للزم أن يكون محلا للحوادث وما قبل الشيء لا يخلو عنه وعن ضده فيلزم تعاقبها وما تعاقبت عليه الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها
(2/223)
قيل لهم هذا مبني على مقدمتين على أن ما يقبل الشيء لا يخلو عنه وعن ضده وعلى امتناع دوام الحوادث وكل من المقدمتين قد بين فسادها كما تقدم
ثم قبل العلم بفسادها يعلم بصريح العقل أن ما ذكر في إثبات هذه الأفعال من الأدلة العقلية الموافقة للأدلة الشرعية ابين وأظهر وأصرح في العقل من امتناع دوام الحوادث وتعاقبها فإن هذه المقدمة في غاية الخفاء والاشتباه وأكثر العقلاء من جميع الأمم ينازعون فيها ويدفعونها وهي أصل علم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وبهذه المقدمة استطالت الدهرية على من احتج بها من متكلمة أهل الملل وعجزوهم عن إثبات كون الله تعالى يحدث شيئا لا العالم ولا غيره والذين اعتقدوا صحة هذه المقدمة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم ظنوا أن حدوث العالم واثبات الصانع لا يتم الا بها وفي حقيقة الأمر هي تنافي حدوث العالم واثبات الصانع بل لا يمكن القول بإحداث الله تعالى لشيء من الحوادث الا بنقضها ولا يمكن اثبات خلق الله لما خلقه وتصديق رسله فيما أخبروا به عنه الا بنقيضها فما جعلوه أصلا ودليلا على صحة المعقول والمنقول هو مناف مناقض للمنقول والمعقول كما قد بسط في غير هذا الموضع
(2/224)
وأيضا فإن هؤلاء يقولون لم يكن الرب تعالى قادرا على الفعل فصار قادرا وكان الفعل ممتنعا فصار ممكنا من غير تجدد شيء أصلا يوجب القدرة والإمكان وهذا معنى قول القائل إنه يلزم أن ينقلب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الامكان الذاتي وهذا مما تجزم العقول ببطلانه مع ما فيه من وصف الله بالعجز وتجدد القدرة له من غير سبب
ومن اعتذر منهم عن ذلك مثل كثير منهم قالوا ان الممتنع هو القدرة على الفعل في الأزل فنفس انتفاء الأزل يوجب إمكان الفعل والقدرة عليه
قيل لهم الأزل ليس هو شيئا كان موجودا مقدم ولا معدوما فوجد حتى يقال إنه تجدد أمر أوجب ذلك بل الأزل كالأبد فكما أن الأبد هو الدوام في المستقبل فالأزل هو الدوام في الماضي فكما أن الأبد لا يختص بوقت دون وقت فالأزل لا يختص بوقت دون وقت فالأزلي هو الذي لم يزل كائنا والأبدي هو الذي لا يزال كائنا وكونه لم يزل ولا يزال معناه دوامه وبقاؤه الذي ليس له مبتدأ ولا منتهى فقول القائل شرط قدرته انتفاء الأزل كقول نظيره شرط قدرته انتفاء الأبد
فإذا كان سلف الأمة وأئمتها وجماهير الطوائف أنكروا قول الجهم في
(2/225)
كونه تعالى لا يقدر في الأبد على الأفعال فكذلك قول من قال لا يقدر في الأزل على الأفعال وقول أبي الهذيل إنه تعالى لا يقدر على أفعال حادثة في الأبد يشبه قول من قال لا يقدر على أفعال حادثة في الأزل وقد بسط الكلام على هذا وقول من يفرق بين النوعين في غير هذا الموضع فصل
وقد استدل بعضهم على النفي بدليل آخر فقال إن كل صفة تفرض لواجب الوجود فإن حقيقيته كافية في حصولها أو لا حصولها والا لزم افتقاره إلى سبب منفصل وهذا يقتضي امكانه فيكون الواجب ممكنا هذا خلف وحينئذ يلزم من دوام حقيقته دوام تلك الصفة
والمثبتون يجيبون عن هذا بوجوه
أحدها أن هذا إنما يقال فيما كان لازما لذاته في النفي أو الإثبات أما ما كان موقوفا على مشيئته وقدرته كأفعاله فإنه يكون اذا شاءه الله تعالى ولا يكون اذا لم يشأه فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإن بين المستدل أنه لا يجوز أن يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته كان هذا وحده كافيا في المسألة وإن لم يبين ذلك لم يكن فيما ذكره حجة
الثاني أن يقال إن هذا منقوض بأفعاله فإن حقيقته
(2/226)
كافية في حصولها والإلزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقتضي إمكانه فيكون الواجب ممكنا فما كان جوابا عن الأفعال كان جوابا للمثبتين القائلين إنه يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ومن جوز أنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلا بمحض القدرة والمشيئة القديمة قال هنا كذلك كما يقوله الكرامية ومن قال إنه لم يزل يفعل ويتكلم اذا شاء قال هنا كذلك كما يقوله من يقوله من أئمة السنة والحديث
الثالث أن يقال أتعني بقولك ذاته كافية أنها مستلزمة لوجود اللازم في الأزل أم هي كافية فيه وإن تأخر وجوده فإن عنيت الأول انتقض عليك بالمفعولات الحادثة فإنه يلزمك إما عدمها وإما افتقاره إلى سبب منفصل إذ كان ما لا تكفي فيه الذات يفتقر إلى سبب منفصل وإن عنيت الثاني كان حجة عليك إذ كان ما تكفي الذات يمكن تأخره
الرابع أن يقال قولك يفتقر إلى سبب منفصل تعني به شيئا يكون من فعل الله تعالى أو شيئا لا يكون من فعله أما الأول فلا يلزم افتقاره إلى غيره فإنه إذا كان هو فاعل الأسباب فهو فاعلها وفاعل ما يحدث بها فلا يكون مفتقرا إلى غيره وأما إن عنيت بالسبب
(2/227)
ما لا يكون من فعله لزمك أن كل ما لا يكفي فيه الذات فلا يستلزم وجوده في الأزل الا يوجد الا بشريك مع الله ليس من مخلوقاته ومعلوم أن هذا خلاف اجماع أهل الايمان بل خلاف اجماع جماهير العقلاء وهو خلاف المعقول الصريح ايضا فإن ذلك الشريك المقدر إن كان واجب الوجود بنفسه الها آخر لزم اثبات خالق قديم مع الله مشارك له في فعله لا يفعل إلا به وهذا مع أنه لم يقل به أحد من بني آدم فهو باطل في نفسه لأنه يستلزم افتقار كل من الفاعلين إلى الآخر فإن التقدير في هذا المشترك هو أن أحدهما لا يستقل به بل يحتاج إلى معاونة الآخر وما احتاج إلى معاونة الآخر كان فقيرا إلى غيره ليس بغنى وكان عاجزا ليس بقادر فإن كان هذا دليلا على انتفاء الوجوب بطل دليلك وإن لم يكن دليلا بطل دليلك ايضا فإنه مبني عليه وإن كان ذلك الشريك المقدر ليس واجب الوجود بنفسه فهو ممكن لا يوجد الا بالواجب بنفسه فلزم أن يكون من مفعولاته
الجواب الخامس أن يقال قول المحتج كل ما يفرض له فإما أن تكون ذاته كافية في ثبوت حصوله أو لا تكفي في
(2/228)
حصوله والالزم افتقاره إلى سبب منفصل كلام باطل وذلك أنه يقال لا نسلم أن مالا يكون مجرد الذات كافية في ثبوته أو انتفائه يفتقر فيه إلى سبب منفصل وانما يلزم ذلك أن لو لم تكن الذات قادرة على ما يتصل بها من الأفعال فإذا كانت قادرة على ذلك أمكن أن يكون ما يتجدد لها من الثبوت موقوفا على ما يقوم بها من مقدوراتها فليس مجرد الذات مقتضية لذلك ولا افتقرت إلى سبب منفصل وذلك أن لفظ الذات فيه أحمال واشتباه وبسبب الإجمال في ذلك وقعت شبهة في مسائل الصفات والأفعال فإنه يقال له ما تريد بذاته أتريد به الذات المجردة عما يقوم بها من مقدوراتها ومراداتها أم تعني به الذات القادرة على ما تريده مما يقوم بها ومما لا يقوم بها
فإن أردت به الأول كان التلازم صحيحا فإنه اذا قدر ذات لا يقوم بها شيء من ذلك كان ما يثبت لها وما ينفي عنها إن لم تكن هي كافية فيه والا افتقرت إلى سبب منفصل لأنه لا يقوم بها ما تقدر عليه وتريده لكن يقال ثبوت التلازم ليس بحجة إن لم تكن الذات في نفس الأمر كذلك وكون الذات في نفس الأمر كذلك هو رأس المسألة ومحل النزاع فلا يكون الدليل صحيحا حتى يثبت المطلوب ولو ثبت المطلوب لم يحتج إلى دليل فتكون قد صادرت على
(2/229)
المطلوب حيث جعلته مقدمة في اثبات نفسه وهذا باطل بصريح العقل واتفاق أهله العارفين بذلك
وإن أردت بالذات النوع الثاني لم يصح التلازم فإنه اذا قدر ذات تقدر على أن تفعل الأفعال التي تختارها وتقوم بها لم يلزم أن يكون ما يتجدد من تلك الأفعال موقوفا على سبب منفصل ولا يكون مجرد الذات بدون ما يتجدد من مقدورها ومرادها كافيا في كل فرد من ذلك بل قد يكون الفعل الثاني لا يوجد الا بالأول والأول بما قبله وهلم جرا فليس مجرد الذات بدون ما تجدده كافيا في حصول المتأخرات ولا هي مفتقرة في ذلك إلى أمور منفصلة عنها فلفظ الذات قد يراد به الذات عما يقوم بها
فإذا قيل هل الذات كافية إن إريد به الذات المجردة فتلك لا حقيقة لها في الخارج عند أهل الاثبات واذا قدرت تقديرا فهي لا تكفي في اثبات ما يثبت لها وإن أريد به الذات المنعوته فإنه يقوم بها الأفعال الاختيارية فمعلوم أن هذه الذات لا يجب أن يتوقف ما يتجدد لها من فعل ومفعول على سبب منفصل عنها ونظير هذا قول نفاة الصفات إن الصفات هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة
(2/230)
فإنا قد بينا في غير هذا الموضع أن الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها بل الصفات زائدة على ما يثبته النفاة من الذات وأما الذات الموصوفة بصفاتها القادرة على أفعالها فتلك مستلزمة لما يلزمها من الصفات فادرة على ما تشاؤه من الأفعال فهي لا تكون الا موصوفة لا يمكن أن تتجرد عن الصفات اللازمة لها حتى يقال هل هي زائدة عليها أو ليست زائدة عليها بل هي داخلة في مسمى اسمها والأفعال القائمة بها بقدرتها وارادتها كذلك
فكما أنه مسمى بأسمائه الحسنى منعوت بصفاته العلى قبل خلق السماوات والأرض وبعد إقامة القيامة وفيما بين ذلك لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الاكرام والجلال فكذلك هو مسمى بأسمائه الحسنى منعوت بصفاته العلى قبل هذه الافعال وبعدها
وكما أن ذلك ثابت قبل حدوث المفعولات وبعدها فهو أيضا ثابت قبل حدوث الأفعال وبعدها ومن آياته الشمس والقمر والكواكب وما تستحقه هذه الأعيان من الأسماء والصفات هو ثابت لها قبل الحركات المعينة وبعدها ولا يحتاج أن يقدر لها ذات مجردة عن النور وعن دوام الحركة ثم زيد عليها النور ودوام الحركة فالخالق سبحانه أولى بثبوت الكمال له وانتفاء النقص عنه والمخلوقات
(2/231)
إنما احتاجت فيما يحدث عنها إلى سبب منفصل لأنها هي في نفسها محتاجة إلى الفاعل المنفصل فلا يوجد شيء من ذاتها وصفاتها وأفعالها الا بأمر منفصل عنها وأما الخالق سبحانه وتعالى فهو الغني عما سواه فلا يفتقر في شيء من ذاته وصفاته وأفعاله إلى أمر منفصل عنه بل كل ما كان منفصلا عنه فهو مفتقر اليه وهو سبحانه غني عن ذلك المنفصل الذي هو مفتقر اليه فلا يحتاج فيما يجدده من أفعاله القائمة بنفسه التي يريدها ويقدر عليها إلى أمر مستغن عنه كما لا يحتاج في مفعولاته المنفصلة عنه إلى ذلك وأولى واذا كان قد خلق من الأمور المنفصلة عنه ما جعله سببا لأفعال تقوم بنفسه كما يخلق الطاعات التي ترضيه والتوبة التي يفرح بها والدعاء الذي يجيب سائله وأمثال ذلك من الأمور فليس هو في شيء من ذلك مفتقرا إلى ما سواه بل هو سبحانه الخالق للجميع وكل ما سواه مفتقر اليه وهو الغني عن كل ما سواه وهذا كما أن ما يفعله من المخلوقات بعضها ببعض كإنزال المطر بالسحاب وانبات النبات بالماء لا يوجب افتقاره إلى الأسباب المنفصلة اذ هو خالق هذا وهذا وجاعل هذا سببا لهذا وقد بسطت هذه الامور في غير هذا الموضع بما لا يليق بهذا المكان
الجواب السادس أن يقال قولهم إن لم يكن ذاته كافية في
(2/232)
حصلولها لزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقضي امكانه فيكون الواجب ممكنا تمنع فيه المقدمة الأولى التلازمية التي هي شرطية متصلة وذلك أن الذات إن لم تكن كافية في حصولها انما يلزم افتقار ذلك الحادث إلى سبب منفصل لا يلزم افتقار نفس الذات إلى سبب منفصل فإن المحتج يقول كل صفة تفرض فذاته كافية في حصولها أو لا حصولها لأنه لو لم يكن كذلك لزم افتقاره إلى سبب منفصل
فيقال له بتقدير أن لا تكون الذات كافية في نفي تلك الصفة أو ثبوتها يلزم أن يكون نفيها أو اثباتها موقوفا على أمر غير الذات وأما كون الذات تكون موقوفة على ذلك الغير فهذا ليس بلازم من هذا التقدير الا أن يتبين أنه اذا كان شيء من الأمور التي توصف بها من السلب والايجاب موقوفا على الغير وجب أن يكون هو نفسه موقوقا على الغير وهو لم يبين ذلك
ومن المعلوم أن القائلين بهذا يقولون إن ما يتجدد من الأمور القائمة به فهو موقوف على مشيئته وقدرته وذاته ليست موقوفة على مشيئته وقدرته ويقولون إنه بجوز أن يقف ذلك على ما يحدثه من الحوادث بمشيئته وقدرته وهو في نفسه ليس موقوفا على ما يحدثه من الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته وليس في الوجود موجود سواه وسوى مخلوقاته حتى يقال إن تلك الأمور موقوفة عليه بل غاية ما يمكن أن يقال إنها موقوفة على مشيئته وقدرته أو توابع مشيئته وقدرته واصحاب هذا القول يقولون ذلك وتكون تلك الأمور موقوفة على ذلك لا يقتضي أن يكون هو نفسه موقوفا على ذلك ولكن هذا المحتج إن لم
(2/233)
يقرر مقدمات لم تكن حجته صحيحة وحجته مبنية على أنه لو لم تكف ذاته في حصول ما ينفى ويثبت للزم افتقاره إلي غيره وإنما يلزم افتقار تلك المثبتات إلي ذلك الغير فإن هذا بين فإن لم يبن أن افتقار تلك الامور إلي الغير مستلزم لافتقاره وإلا لم تكن حجة صحيحة لاسيما وتلك الامور على هذا التقدير ليست من لوازم ذاته فإنها لو كانت من لوازم ذاته كانت ذاته كافية فيها ولوازم الذات متى افتقرت إلى الغير لزم افتقار الذات إلى الغير فإن الملزوم لا يوجد الا بلازم أو الازم لا يوجد إلا بذلك الغير ولكن ذلك الغير لا يجب أن يكون فاعلا أو علة فاعلة بل يجوز أن يكون شرطا ملازما
وقد بين في غير هذا الموضع أن نفس ذات الواجب إذا قيل هي ملازمة لصفاته الواجبة له أو صفاته الواجبة له ملازمه لذاته أو كل من الصفات الواجبة ملازم للأخرى كان هذا حقا وهو متضمن أن تحقيق كل من ذلك مشروط بتحقيق الآخر
وأما كون الرب تعالى مفتقر إلى شىء مباين له غني عنه فهذا ممتنع فإنه سبحانه الغني عن كل شئ فإذا قدر أن بعض لوازمه توقف على ما هو مباين له لم يكن وجوده ثابتا إلا بوجود ذلك المباين وكان الله مفتقرا إليه والله غني عن كل شىء وأما إذا لم يكن الامر من لوازم ذاته بل كان من الامور العارضة فلا ريب أن أهل الايمان والسنة يقولون إن الله لا يفتقر في شىء من الاشياء إلى غيره
(2/234)
لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله سواء قام بذاته أو لم يقم بذاته ولكن هو بنفسه غني عن كل ما سواه ولا يقال إنه نفسه غني عن نفسه وليس في كونه مستلزما لصفاته وفاعلا لافعاله ما يقتضي افتقاره إلى غير نفسه فإنه إذا كان وحده مستلزما لصفاته فاعلا لجميع أفعاله لم يكن شىء مما وجد بغيره بل جميع ما وجد فلا يخرج من ذاته وصفاته وأفعاله فلا يتصور أن يكون مفتقرا إلى غير نفسه المقدسة سبحانه وتعالى
ولكن المقصود أن هذا المحتج إذا قال له المعترض ما المانع أن تكون هذه الأمور العارضة موقوفة على غير مع كون الحق واجب الوجود بذاته لم يكن فيما ذكر حجة بل ذكر أن تلك الأمور إذا لم تكن من لوازم ذاته بحيث تكون مجرد الذات كافية فيها والإ لزم افتقاره إلى سبب منفصل واللازم إنما هو افتقار تلك الأمور إلى سبب منفصل فإن بين أن ما يقوم بالواجب يمتنع أن يكون موقوفا على سبب منفصل تمت حجته والا فلا ولا يمكن أن يقيم حجه إلا على أنه لا يقف على ما هو مستغن عن الواجب بنفسه وهذا حق
وأما كونه لا يقف على ما هو مفتقر إلى الواجب فهذا لا يمكن إقامة الدلالة عليه
الوجه السابع أن يقال قولك بأن عواض ذاته لا يتوقف على الغير يستلزم أن عواض ذاته يتوقف على الغير وإذا كان تقدير ثبوته مستلزما لانتفائه دل على أن تقدير ثبوته مستلزم لجمع بين النقيضين فلا يكون ثابتا وإن شئت قلت قولك لا تقوم به الحوادث مستلزم لقيام
(2/235)
الحوادث به فيلزم الجمع بين النقيضين وإن شئت قلت قولك لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته يستلزم نقيض ذلك فيكون باطلا وهذا يصلح أن يكون دليلا مستقلا في أول المسألة وذلك لأن هذا العالم المشهود إما أن يكون واجبا بذاته أو ممكنا فإن كان واجبا بذاته فمن المعلوم قيام الحوادث به فيلزم قيامها بالواجب بذاته
وأيضا فمن المعلوم أن ما يقوم ببعض الأفلاك من الحوادث ليست ذاته كافية له بل هو موقوف على غيره فيكون ما يقوم بالواجب بنفسه موقوفا على غيره وإن كان هذا العالم ممكنا وهو الحق فلا بد له من واجب فذلك الواجب إما أن يكون علة تامة مستلزمة في الأزل لجميع معلولاته أو لا والأول باطل لأنه لو كان كذلك لم يتأخر شيء من معلولاته والثاني يقتضي أنه فعل بعد أن لم يكن فعل وذلك يقتضي تجدد فاعلية فأما أن يكون تجدد ذلك مستلزما لكون متجدداته توجب افتقار ذاته الى غيره أولا فإن لم تكن بطلت الحجة وإن استلزم ذلك ثبت افتقار ما يتجدد بذاته الى غيره فلو قيل إن الواجب لا تقوم بذاته هذه الامور للزم أن تقوم بذاته هذه الامور فيلزم الجمع بين النقيضين وإن قيل تجدد الفاعلية لا يستلزم قيام شيء به بل تجددت من غير حدوث شيء أصلا قيل فكذلك ما يتجدد من الأمور القائمة بذاته ممكن حينئذ تجدده من غير حدوث شيء أصلا بطريق الأولى وإن شئت أن تكون هذه معارضة ودليلا في رأس المسألة ونقول ما يتجددد من مفعولاته هل يقتضي افتقار ذاته
(2/236)
الى غيره أم لا فإن قيل لا يقتضي فكذلك ما يتجدد من أفعاله القائمة به والا فلا وهذا لأن نفاة الامور القائمة به منهم من يقول حدثت الحوادث المباينة له من غير تجدد شيء أصلا كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والكلابية وغيرهم ومنهم من يقول بل ما زالت الحوادث تحدث مع كونه مستلزما لجميع مفعولاته كما تقول ذلك الدهرية الفلاسفة والدهرية منهم من يقول إن العالم واجب الوجود بنفسه ومنهم من يقول إن الأول علة غائية له وكل من هذه الأقوال يلزمه من التناقض ما يبين به أنه لا يمكنه ابطال القول بقيام مراداته ومحبوباته بذاته فصل
وقد عارض بعضهم الرازي فيما ذكره من أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف فقال المراد بالحادث بالموجود الذي وجد بعد العدم ذاتا كان أو صفة أما ما لا يوصف بالوجود كالأعدام المتجددة والأحوال عند من يقول بها والإضافات عند من لا يقول إنها وجودية فلا يصدق عليها اسم الحادث وإن صدق عليها اسم المتجدد فلا يلزم من تجدد الإضافات والأحوال في ذات الباري أن تكون محلا للحوادث
(2/237)
قال وما قاله الامام يعني الرازي في هذا المقام إن أكثر العقلاء قالوا به وإن أنكروه باللسان وبينه بصور فليس كذلك لن أكثر ما ذكر من تلك الأمور فإنما هي متجددة لا محدثة والمتجدد أعم من الحادث فلا يلزم من وجود العام وجود الخاص
قلت ولقائل أن يقول هذا ضعيف من وجوه
أحدها أن الدليل الذي استدلوا به على نفي الحوادث ينفي المتجددات ايضا كقولهم اما ان يكون كمالا او نقصا وقولهم لو حصل ذلك للزم التغير وقولهم اما ان تكون ذاته كافية فيه او لا تكون وقولهم كونه قابلا له في الأزل يستلزم امكان ثبوته في الازل فانه لا يمكن ان يحصل في الأزل لا متجدد ولا حادث ولا يوصف الله بصفة نقص سواء كان متجددا او حادثا وكذلك التغير لا فرق بين ان يكون بحادث او متجدد فإن قالوا تجدد المتجددات ليس تغيرا قال اولئك وحدوث الحركات الحادثة ليس تغيرا فإن قالوا بل هذا يسمى تغيرا منعوهم الفرق وان سلموه كان النزاع لفظيا واذا كان استدلالهم ينفي القسمين لزم اما فساده واما النقض
الوجه الثاني أن يقال تسمية هذا متجددا وهذا حادثا فرق
(2/238)
لفظي لا معنوي ولا ريب أن أهل السنة والحديث لا يطلقون عليه سبحانه وتعالى أنه محل الحوادث ولا محل الأعراض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة التي يفهم منها معنى باطل فإن الناس يفهمون من هذا أن يحدث في ذاته ما يسمونه هم حادثا كالعيوب والآفات والله منزه عن ذلك سبحانه وتعالى واذا قيل فلان ولي على الاحداث او تنازع اهل القبلة في أهل الأحداث فالمراد بذلك الأفعال المحرمة كالزنا والسرقة وشرب الخمر وقطع الطريق والله أجل واعظم من ان يخطر بقلوب المؤمنين قيام القبائح به والمقصود أن تفرقة المفرق بين المتجدد والحادث امر لفظي لا معنى عقلي ولا عكسه عاكس فسمي هذا متجددا وهذا حادثا لكان كلامه من جنس كلامه
الوجه الثالث إن دعوى المدعي ان الجمهور انما يلزمهم تجدد الاضافات والاحوال والاعدام لا تجدد الحادث الذي وجد بعد العدم ذاتا كان او صفة دعوى ممنوعة لم يقم عليها دليلا بل الدليل يدل على ان اؤلئك الطوائف يلزمهم قيام امور وجودية حادثة بذاته مثال ذلك انه سبحانه وتعالى يسمع ويرى ما يخلق من الاصوات والمرئيات
وقد اخبر القرآن بحدوث ذلك في مثل قوله { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }
(2/239)
سورة التوبة 105 وقوله تعالى { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } سورة يونس 14 وقد اخبر بسمعه ورؤيته في مواضع كثيرة كقوله لموسى وهارون { إنني معكما أسمع وأرى } سورة طه 46 وقوله { الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين } سورة الشعراء 218 219 وقوله { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } سورة آل عمران 181 { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } سورة المجادلة 1
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سبحان الذي وسع سمعه الاصوات لقد كانت المجادلة تشتكي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وانه ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله تعالى { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } ومثل هذا كثير
فيقال لهؤلاء انتم معترفون وسائر العقلاء بما هو معلوم بصريح العقل ان المعدوم لا يرى موجودا قبل وجوده فإذا وجد فرآه موجودا وسمع كلامه فهل حصل امر وجودي لم يكن قبل او لم يحصل شيء
(2/240)
فإن قيل لم يحصل امر وجودي وكان قبل ان يخلق لا يراه فيكون بعد خلقه لا يراه ايضا وان قيل حصل امر وجودي فذلك الوجودي اما ان يقوم بذات الرب واما ان يقون بغيره فإن قام بغيره لزم أن يكون غير الله هو الذي رآه وان قام بذاته علم انه قام به رؤية ذلك الموجود الذي وجد كما قال تعالى { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } سورة التوبة 105 وما سموه اضافات واحوالا وتعلقات وغير ذلك
يقال لهم هذه امور موجودة او ليست موجودة فإن لم تكن موجودة فلا فرق بين حاله قبل ان يرى ويسمع وبعد ان يرى ويسمع فإن العدم المستمر لا يوجب كونه صار رائيا سامعا وان قلتم بل هي امور وجودية فقد اقررتم بأن رؤية الشيء المعين لم تكن حاصلة ثم صارت حاصلة بذاته وهي امر وجودي
والمتفلسفة لا يقتصر في الزامهم على تجدد الاضافات بل يلزمون بكونه محدثا للحوادث المتجددة شيئا فشيئا والاحداث هو من مقوله أن يفعل وأن يفعل أحد المقولات العشر وهي امور وجودية
فيقال كونه فاعلا لهذه الحوادث المعينة بعد أن لم يكن فاعلا لها إما أن يكون أمرا حادثا واما أن لا يكون حدث كونه فاعلا فإن لم يحدث كونه فاعلا فحاله قبل أن يحدثها وبعد أن يحدثها واحد وقد كان قبل أن يحدثها غير فاعل لها فيلزم أن لا يحدث شيء أو يحدث بلا
(2/241)
محدث وأنتم أنكرتم على المتكلمة الجهمية والمعتزلة أن قالوا الذات تفعل بعد أن لم تكن فاعلة بلا أمر تجدد فكيف تقولون هي دائما تفعل الحوادث شيئا بعد شىء من غيرأن يحدث لها أمر
وايضا فالفاعلية التامة لكل واحد من الحوادث ان كانت موجودة في الأزل قبل حدوثه لزم تأخر الفعل عن الفاعلية التامة وهذا باطل وذلك وذلك يبطل قولهم وان قالوا بل الفاعلية التامة لكل حادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة فقد صارت الذات فاعلة لذلك الحادث بعد ان لم تكن فاعلة وكونها فاعلة هي من مقولة أن يفعل وهي احدى المقولات العشر التي هي الاجناس العالية المسماة عندهم بقاطيغورياس وهي كلها وجودية فيلزم اتصاف الرب بقيام الامور الوجودية به شيئا بعد شيء كما اختاره كثير من سلفهم وخلفهم
وهكذا يمكن تقرير كل ما ذكر الدازي من الزام الطوائف شيئا بعد شيء لمن تصور ذلك تصورا تاما وكل من قال لم يحدث شيء موجود فإنه يلزمه التناقض البين الذي لا ينازع فيه المنصف الذي يتصور ما يقول تصورا تاما
(2/242)
وقد اعتذر من اعتذر من الفلاسفة عما ألزمهم اياه من الاضافات بأن قالوا الاضافات لا توجد الا كذلك فلا يتصور فيه الكمال قبلها ولانها تابعة لغيرها فلا يثبت فيها الكمال بل في متبوعها
قلت ولقائل أن يقول هذا بعينه يقوله المثبتون فإن الكلام انما هو في الحوادث المتعلقة بمشيئتة وقدرته ومن المعلوم امتناع ثبوت الحوادث جميعها في الأزل فاذا فاذا قال القائل الاضافات لا توجد الا حادثة قيل له والحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته لا توجد الا حادثة
وأما قوله الاضافة تابعة لغيرها فلا يثبت فيها الكمال فعنه جوابان
أحدهما أن الدليل لا يفرق بين التابع والمتبوع فإن صح الفرق ظل الدليل وان لم يصح انتقض الدليل فيبطل على التقديرين
الثاني أن يقال وهكذا ما يتعلق بمشيئته وقدرته هو تابع ايضا فلا يثبت فيه الكمال
يوضح ذلك أنه سبحانه مستحق في أزله لصفات الكمال لا وزر أن يكون شيء من الكمال الأزلي الا وهو متصف به في أزله
(2/243)
كالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك وانما الشأن فيما لا يمكن وجوده في الأزل
ومما يبين لك أن الرازي وأمثاله كانوا يعتقدون ضعف هذه المسألة مع فرط رغبتهم في إبطال قول الكرامية اذا امكنهم انه لم يعتمد على ذلك في مسألة كلام الله تعالى في أجل كتبه نهاية العقول ومسألة الكلام هي من أجل ما يبني على هذا الأصل
وذلك ان الطريقة المعروفة التي سلكها الأشعري وأصحابه في مسألة القرآن هم ومن وافقهم على هذا الأصل من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلي وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم من أصحاب أحمد وكأبي المعالي الجويني وأمثاله وأبي القاسم الرواسي وابي سعيد المتولي وغيرهم من أصحاب الشافعي والقاضي أبي الوليد الباجي وابي بكر الطرطوشي والقاضي
(2/244)
وابي بكر بن العربي وغيرهم من أصحاب مالك وكأبي منصور الماتريدي وميمون النسفي وغيرهما من اصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا لو كان القرآن مخلوقا للزم أن يخلقه إما في ذاته أو في محل غيره أو أن يكون قائما بنفسه لا في ذاته ولا في محل آخر والأول يستلزم أن يكون الله محلا للحوادث والثاني يقتضي أن يكون الكلام كلام المحل الذي خلق فيه فلا يكون ذلك الكلام كلام الله كسائر الصفات اذا خلقها في محل كالعلم والحياة والحركة واللون وغير ذلك والثالث يقتضي أن تقوم الصفة بنفسها وهذا ممتنع
فهذه الطريقة هي عمدة هؤلاء في مسالة القرآن وقد سبقهم عبد العزيز المكي صاحب الحيدة المشهورة الى هذا التقسيم
وقد يظن الظان أن كلامهم هو كلامه بعينه وأنه كان يقول بقولهم وأن الله لا يقوم بذاته ما يتعلق بقدرته ومشيئته وان قوله من جنس قول ابن كلاب وليس الامر كذلك فان عبد العزيز هذا له في الرد على الجهمية وغيرهم من الكلام مالا يعرف فيه خروج عن مذهب السلف وأهل الحديث
(2/245)
وذلك أنه قال بعد أن ذكر جوابه لبشر فيما احتج به بشر من النصوص مثل قوله تعالى { الله خالق كل شيء } سورة الزمر 62 وقوله تعالى { إنا جعلناه قرآنا عربيا } سورة الزخرف 3 قال فقال بشر يا امير المؤمنين عندي اشياء كثيرة الا انه يقول بنص التنزيل وانا اقول بالنظر والقياس فليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة والا فدمي حلال
وذكر عبد العزيز أنه طلب من بشر أن يناظره على وجه النظر والقياس ويدع مطالبته بنص التنزيل الى أن قال فقال عبد العزيز يا بشر تسألني أم أسألك فقال بشر
(2/246)
سل أنت وطمع في وجميع أصحابه وتوهموا أني اذا خرجت عن نص التنزيل لم أحسن أن اتكلم بشيء غيره قال عبد العزيز فقلت يا بشر تقول ان كلام الله مخلوق قال أقول عن كلام الله مخلوق قال فقلت له يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها أن تقول ان الله خلق القرآن وهو عندي أنا كلامه في نفسه أو خلقه قائما بذاته ونفسه أو خلقه في غيره فقل ما عندك قال بشر أقول إنه مخلوق وإنه خلقه كما خلق الاشياء كلها قال عبد العزيز فقلت يا أمير المؤمنين تركنا القرآن ونص التنزيل والسنن والأخبار عند هربه منها وذكر أنه يقيم الحجة وأنا اقول معه بخلق القرآن فقد رجع بشر إلى الحيدة عن الجواب وانقطع عن الكلام فإن كان يريد أن يناظرني على أنه يجيبني عما أسأله عنه وإلا فأمير المؤمنين أعلى عينا في صرفي فإنما يريد بشر أن يقع
(2/247)
معه من لا يفهم فيخدعه عن دينه ويحتج عليه بما لا يعقله فتظهر حجته عليه فيبيح دمه
قال فأقبل عليه المأمون فقال أجب عبد العزيز عما سألك عنه فقد ترك قوله ومذهبه وناظرك على مذهبك وما ادعيت أنك تحسنه وتقيم الحجة به عليه فقال بشر قد أجبته ولكنه يتعنت فقال المأمون يأبي عليك عبد العزيز إلا أن تقول واحدة من ثلاث فقال هذا اشد طلبا من مطالبته بنص التنزيل ما عندي غير ما اجبته به
قال فاقبل على المأمون قال يا عبد العزيز تكلم انت في شرح هذه المسألة وبيانها ودع بشرا فقد انقطع عن الجواب من كل جهة
فقلت نعم سألته عن كلام الله تعالى أمخلوق هو قال نعم فقلت له ما يلزمه في هذا القول وهو واحدة من ثلاث لا بد منها أن يقول خلق الله خلق كلامه في نفسه أو خلقه في غيره أو خلقه قائما بذاته ونفسه فإن قال ان الله خلق كلامه في نفسه فهذا محال لا يجد سبيلا الى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول لأن الله لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء اذا خلقه تعالى الله عن ذلك وجل وتعظم
(2/248)
وان قال خلقه الله في غيره فيلزمه في النظر والقياس أن كل كلام خلقه في غيره هو كلام الله عز وجل لا يقدر أن يفرق بينهما فيجعل كلامه كلاما لله ويجعل قول الكفر والفحش وكل قول ذمه الله وذم قائلة كلاما لله عز وجل وهذا محال لا يجد السبيل اليه ولا الى القول به لظهور الشناعة والفضيحة والكفر على قائله تعالى الله عن ذلك
وان قال خلقه قائما بنفسه وذاته فهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد الى القول به سبيلا في قياس ولا نظر ولا معقول لأنه لا يكون الكلام الا من متكلم كما لا تكون الارادة الا من مريد ولا العلم الا من عالم والقدرة الا من قدير ولا يرى ولا رئى كلام قط قائم بنفسه يتكلم بذاته وهذا مما لا يعقل ولا يعرف ولا يثبت في نظر ولا قياس ولا غير ذلك فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا علم أنه صفة لله وصفات الله كلها غير مخلوقة فبطل قول بشر
فقال المأمون أحسنت يا عبد العزيز فقال بشر سل عن غير هذه المسألة فلعله يخرج من بيننا شيء
فقلت أنا ادع هذه المسالة وأسأل عن غيرها قال سل
(2/249)
قال عبد العزيز فقلت لبشر الست تقول إن الله كان ولا شيء وكان ولما يفعل شيئا ولما يخلق شيئا قال بلى فقلت فباي شيء حدثت الاشياء بعد ان لم تكن شيئا أهي احدثت نفسها ام الله احدثها فقال الله احدثها فقلت له فباي شيء حدثت الاشياء اذ احدثها الله قال احدثها بقدرته التي لم تزل قلت له انه احدثها بقدرته كما ذكرت افليس تقول انه لم يزل قادرا قال بلى قلت له فتقول انه لم يزل يفعل قال لا اقول هذا قلت له فلا بد أن يلزمك ان تقول انه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل هو القدرة لأن القدرة صفة الله ولا يقال لصفة الله هي الله ولا هي غير الله فقال بشر ويلزمك أنت ايضا ان تقول ان الله لم يزل يفعل ويخلق واذا قلت ذلك فقد ثبت ان المخلوق لم يزل مع الله قال عبد العزيز فقلت لبشر ليس لك ان تحكم علي وتلزمني ما لا يلزمني وتحكي عني ما لم اقل اني لم اقل
(2/250)
انه لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل ليلزمني ما قلت وفي نسخة اخرى وانما قلت انه لم يزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأن الفعل صفة الله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع قال بشر انا اقول انه احدث الاشياء بقدرته فقل ما شئت فقال عبد العزيز فقلت يا امير المؤمنين قد اقر بشر ان الله كان ولا شيء وانه احدث الاشياء بعد ان لم تكن شيئا بقدرته وقلت انا انه احدثها بامره وقوله عن قدرته فلم يخل يا امير المؤمنين ان يكون اول خلق خلقه الله خلق بقول قاله او بإرادة ارادها او بقدرة قدرها فبأي ذلك كان فقد ثبت ان ههنا ارادة ومريدا ومرادا وقولا وقائلا ومقولا له وقدرة قادرا ومقدورا عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق وما كان قبل الخلق متقدما فليس هو من الخلق في شيء فقد كسرت قول بشر بالكتاب والسنة واللغة العربية والنظر والمعقول ثم ذكر حجة اخرى
والمقصود هنا أن عبد العزيز احتج بتقسيم حاصر معقول فإن الله
(2/251)
تعالى اذا خلق شيئا فإما ان يخلقه في نفسه او في غيره او يخلقه قائما بنفسه وقد ابطل الاقسام الثلاثة
ولا ريب ان المعتزلة يقولون انه خلقه في غيره فأبطل ذلك عبد العزيز بالحجة العقلية التي يتداولها اهل السنة وهو انه قد علم بالاضطرار من دين الاسلام ان القرآن كلام الله فإن كان مخلوقا في محل آخره غيره إلى الله ولزم أن يكون ما كل الكلام مخلوق في محل كلام الله لتماثلها بالنسبة الى الله ويلزم ان يكون ما يخلقه تعالى من كلام الجلود والأيدي والأرجل كلام الله فإذا قالوا { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم } سورة فصلت 21 كان الناطق هو المنطق وبشر لم يكن من القدرية بل كان ممن يقر بأن الله تعالى خالق افعال العباد فألزمه عبد العزيز ان يكون كلام كل مخلوق كلام الله حتى قول الكفر والفحش وهذا الالزام صرح به حلولية الجهمية من الاتحادية ونحوهم كصاحب الفصوص والفتوحات المكية ونحوه وقالوا % وكل كلام في الوجود كلامه % % سواء علينا نثره ونظامه %
(2/252)
ولهذا قال من قال من السلف من قاله { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } سورة طه 14 مخلوق فقد جعل كلام الله بمنزلة قول فرعون الذي قال { أنا ربكم الأعلى } سورة النازعات 24 لأن عنده هذا الكلام خلقه الله في الشجرة وذلك خلقه في فرعون فإذا كان هذا كلام الله كان هذا كلام الله
كما قال سليمان بن داود الهاشمي احد ائمة الاسلام نظير الشافعي واحمد واسحاق وابي عبيد وابي بكر بن ابي شيبة وامثالهم قال من قال القرآن مخلوق فهو كافر وان كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون اولى بأن يخلد في النار اذ قال { أنا ربكم الأعلى } من هذا وكلاهما عنده مخلوق فأخبر بذلك ابو عبيد فاستحسنه وأعجبه ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق افعال العباد
وكذلك ذكر نظير عبد الله بن المبارك وعبد الله بن ادريس ويحيى بن سعيد القطان وهذا مبني على ان الله خالق افعال العباد فإذا كان قد خلق في محل { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وخلق في محل { أنا ربكم الأعلى } كان ذلك المحل الذي خلق فيه ذلك الكلام اولى بالعقاب من فرعون واذا كان ذلك كلام الله كان كلام فرعون كلام الله
(2/253)
وأما كونه خلقه قائما بنفسه فهو ظاهر البطلان أيضا لأن الصفات لا تقوم بنفسها ولكن الجهمية تقول خلق علما لا في محل والبصريون من المعتزلة يقولون خلق إرادة وقدرة لا في محل وطائفة منهم يقولون خلق بخلق بعد خلق لا في محل وهذه المقالات ونحوها مما يعلم فساده بصريح العقل
وأما القسم الأول وهو كونه سبحانه خلقه في نفسه فأبطله عبد العزيز أيضا لكن ما في نفس الله تعالى يحتمل نوعين
أحدهما أن يقال أحدث في نفسه بقدرته كلاما بعد أن لم يكن متكلما وهذا قول الكرامية وغيرهم ممن يقول كلام الله حادث ومحدث في ذات الله تعالى وأن الله تكلم بعد ان لم يكن يتكلم أصلا وأن الله يمتنع أن يقال في حقه ما زال متكلما وهذا مما أنكره الامام أحمد وغيره
والثاني أن يقال لم يزل الله متكلما اذا شاء كما قاله الأئمة وكل من هاتين الطائفتين لا تقول إن ما في نفس الله مخلوق بل المخلوق عندهم لا يكون الا منفصلا عن نفس الله تعالى وما قام به من أفعاله وصفاته فليس بمخلوق
ولا ريب أن بشرا وغيره من القائلين بخلق القرآن كانوا يقولون إنه خلقه منفصلا عنه كما خلق غيره من المخلوقات فأما نفس خلق الرب
(2/254)
عند من يقول الخلق غير المخلوق وهم الأكثرون فلا يقولون إن الخلق مخلوق ومن قال بتجدد ما يقوم به من الأفعال أو الارادات أو الادراكات لم يقل إن ذلك مخلوق فإنه اذا كان ثم خلق وخالق ومخلوق لم يكن الخلق داخلا في المخلوق
ولهذا كان من يقول ان كلام الله قائم بذاته متفقين على أن كلام الله غير مخلوق ثم هم بعد هذا متنازعون على عدة اقوال هل يقال إنه معنى واحد أو خمسة معان لم تزل قديمة كما يقوله ابن كلاب والأشعري
أو أنه حروف وأصوات قديمة أزلية لم تزل قديمة كما يذكر عن ابن سالم وطائفة
أو يقال بل هو حروف وأصوات حادثة في ذاته بعد أن لم يكن متكلما كما يقوله ابن كرام وطائفة
أو يقال إنه لم يزل متكلما اذا شاء وإنه اذا شاء تكلم بصوت يسمع وتكلم بالحروف كما يذكر ذلك عن أهل الحديث والأئمة
والمقصود هنا أن ما قام بذاته لا يسميه أحد منهم مخلوقا سواء كان حادثا أو قديما
وبهذا يظهر احتجاج عبد العزيز على بشر فإن بشرا من أئمة الجهمية نفاة الصفات وعنده لم يقم بذات الله تعالى صفة ولا فعل
(2/255)
ولا قدرة ولا كلام ولا ارادة بل ما ثم عنده الا الذات المجردة عن الصفات والمخلوقات المنفصلة عنها كما تقول ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم فاحتج عليه عبد العزيز بحجتين عقليتين
أحداهما أنه اذا كان كلام الله مخلوقا ولم يخلقه في غيره ولا خلقه قائما بنفسه لزم أن يكون مخلوقا في نفس الله وهذا باطل
والثانية أن المخلوقات المنفصلة عن الله خلقها الله بما ليس من المخلوقات إما القدرة كما أقر به بشر وإما فعله وأمره وارادته كما قاله عبد العزيز وعلى التقديرين ثبت أنه كان قبل المخلوقات من الصفات ما ليس بمخلوق فبطل أصل قول بشر والجهمية إنه ليس لله صفة وان كل ما سوى الذات المجردة فهو مخلوق وتبين أن الذات يقوم بها معان ليست مخلوقة وهذا حجة مثبتة الصفات القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق على من نفى الصفات وقال بخلق القرآن فإن كل من نفى الصفات لزمه القول بخلق القرآن
يبقى كلام اهل الاثبات فيما يقوم بذاته هل يجوز أن يتعلق شيء منه بمشيئته وقدرته أم لا وهل عبد العزيز ممن يجوز أن يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته أو ممن يقول لا يكون المراد المقدور الا منفصلا عنه مخلوقا ويجعل المقدور هو المخلوق وهما في الأصل قولان معروفان ذكرهما الحارث المحاسبي وغيره عن أهل السنة حسبما تقدم ايراده
وهذا القول الثاني هو قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما من
(2/256)
أصحاب ابي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم
والقول الأول هو قول أئمة أهل الحديث والهشامية والكرامية وطوائف من أهل الكلام من المرجئة كأبي معاذ التومني وزهير الأثري وغيرهم ومن وافق هؤلاء من أصحاب ابي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم
فقد يقول القائل إن عبد العزيز موافق لابن كلاب لأنه قال إن الله لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء اذا خلقه لكن اذا تدبر المتدبر سائر كلام عبد العزيز وجده من أهل القول الأول قول أهل الحديث لأنه قال بعد هذا لبشر بأي شيء حدثت الأشياء قال أحدثها الله بقدرته التي لم تزل قال عبد العزيز فقلت له إنه قد أحدثها بقدرته كما ذكرت أفلست تقول إنه لم يزل قادرا قال بلى فقلت له فتقول إنه لم يزل يفعل قال لا أقول هذا قلت فلا بد أن يلزمك أن تقول إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة لأن القدرة صفة وقال
(2/257)
عبد العزيز بعد هذا لم أقل لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع
وقد أثبت عبد العزيز فعلا مقدورا لله هو صفة له ليس من المخلوقات وأنه به خلق المخلوقات وهذا صريح في أنه يجعلا الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول وأن الفعل صفة لله مقدور لله اذا شاء ولا يمنعه منه مانع وهذا خلاف قول الأشعري ومن وافقه
يبقى أن يقال هذا الخلق الذي يسمى التكوين من الناس من يجعله قديما ومنهم من يجعله مقدورا ومرادا وعبد العزيز صرح بأن الفعل الذي به يخلق الخلق مقدور له وهذا تصريح بأنه يقوم بذات الله عنده ما يتعلق بقدرته وما كان موجودا مقدورا لله فهو مراد له بالضرورة واتفاق الناس
وأيضا فإنه قال قد أقر بشر أن الله أحدث الأشياء بقدرته وقلت أنا إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته فقد صرح بأن القول يكون عن قدرته فجعل قول الله مقدورا له مع أنه صفة له عنده
وهذا قول من يقول إنه يقدر على التكلم وإنه يتكلم بمشيئته وقدرته وليس هو من يقول إن القول لازم له لا يتعلق بقدرته ومشيئته
(2/258)
فتبين أن عبد العزيز الكناني يثبت أنه يقوم بذات الله تعالى ما يتعلق بمشيئته وقدرته وأنه لا يجعل كل واحد من ذلك قديما وإن كان النوع قد يكون قديما لأن بشرا لما قال له أحدثها بقدرته التي لم تزل قال له أفليس تقول لم يزل قادرا قال بلى قال فتقول إنه لم يزل يفعل قال لا فلا بد أن يلزمك أن تقول إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة
وهذا لأنه اذا كان لم يزل قادرا ولا مخلوق ثم وجد مخلوق لم يكن قد وجد قدرة بلا فعل فإنه لو كان مجرد القدرة كافيا في وجوده بلا فعل للزم مقارنة المخلوق للقدرة القديمة
وهذا المقام هو المقام المعروف وهو أنه هل يمكن وجود الحوادث بلا سبب حادث أم لا فإن جمهور العقلاء يقولون ان انتفاء هذا معلوم بالضرورة وان ذلك يقتضي الترجيح بلا مرجح وهذا هو الذي ذكره عبد العزيز بخلاف قول من يقول ان نفس القادر يرجح احد طرفي مقدوره بلا مرجح كما يقوله أكثر المعتزلة والجهمية أو بمجرد ارادة قديمة كما تقوله الكلابية والكرامية فإن هذا هو الذي ذكره بشر
(2/259)
يبقى هنا سؤال على عبد العزيز وهو الذي الزمه اياه بشر حيث قال له وأنت أيضا يلزمك أن تقول لم يزل يفعل ويخلق واذا كان كذلك ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله لأن الحادث إن لم يفتقر الى سبب حادث كفت القدرة القديمة وإن افتقر الى سبب حادث فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في الذي حدث به فيلزم تسلسل الحوادث فيلزمك أنه لم يزل يفعل ويخلق فيكون المخلوق معه فأجابه عبد العزيز بأني لم أقل لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل ليلزمني ما قلت وأنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع وفي النسخة الأخرى وإنما قلت لم يزل الخالق سيخلق والفاعل سيفعل لأن الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع
ومضمون كلامه أنني لم أقل إن الله لم يزل يخلق الأشياء المنفصلة ويفعلها ولا يلزمني هذا كما لزمك لأنك جعلت المخلوقات تحصل بالقدرة القديمة من غير فعل من القادر يقوم به فإذا لم تتوقف المخلوقات على غير القدرة والقدرة قديمة لزم وجود المخلوقات معها والا لزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب لأن القدرة دائمة أزلا
(2/260)
وابدا ووجود المخلوقات ممكن والممكن لا يترجح وجوده على عدمه الا بمرجح وعند المرجح التام يجب وجوده لأنه لو لم يجب لكان قابلا للوجود والعدم فيبقى ممكنا كما كان فلا يترجح الا بمرجح تام فتبين أن وجود القدرة التي يمكن معها وجود المخلوقات لا يوجد المخلوق مع مجردها بل لا بد من أمر آخر يفعله الرب
قال عبد العزيز وهذا الفعل صفة لله ليس من المخلوقات المنفصلة عنه والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع فأما قول القائل ان ذلك الفعل الذي لم يكن ثم كان بالقدرة وهو صفة فإنه يسأل عن سبب حدوثه كما يسأل عن سبب حدوث المخلوق به
فيجيب عنه العزيز بأجوبة
أحدها الجواب المركب وهو أن يقول تسلسل الآثار الحادثة اما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا فلا محذور في التزامه وان كان ممتنعا لم يلزمني ذلك ولا يلزم من بطلان التسلسل بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق الا به فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون الا بفعل والمخلوق لا يكون الا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل أو بطلانه ولها كان كثير من الطوائف يقولون الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول فيثبتون ذلك مع إبطال التسلسل مثل كثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ومن الصوفية
(2/261)
وأهل الحديث والكلام من الكرامية والمرجئة والشيعة وغيرهم وهؤلاء منهم من يقول الفعل الذي هو التكوين قديم والمكون المنفصل حادث كما يقولون مثل ذلك في الارادة ومنهم من يقول بل ذلك حادث الجنس بعد أن لم يكن وكلا الفريقين لا يقولون ان ذلك مخلوق بل يقولون ان المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة
الجواب الثاني أن يقول ما ذكرته من التسلسل لازم لكل من قال ان جنس الحوادث يكون بعد أن لم يكن فهو لازم لك ولي اذا قلت بهذا فلا اختص بجوابه وأما وجود المفعول بدون فعل فهذا لازم لك وحدك وهو الذي احتججت به عليك فحجتي عليك ثابتة تبطل قولك دون قولي والالزام الذي ذكرته انت مشترك بيني وبينك فلا يخصني جوابه
الجواب الثالث أن يقول أنا قلت الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه وانما يجب ان يكون المخلوق معه في الأزل اذا ثبت أن الفعل يستلزم فعلا قبله وأن الفعل اللازم يستلزم ثبوت الفعل المتعدي الى المخلوق فإن ذلك يستلزم ثبوت غير المخلوق
وكل هذه المقدمات فيها ممانعات ومعارضات وتحتاج الى حجج لم
(2/262)
يذكر المريسي منها شيئا وعبد العزيز لم يلتزم شيئا من ذلك وإنما التزم حجته يحصل بها المقصود
وقوله في النسخة الأخرى ان صح عنه انما قلت لم يزل الفاعل سيفعل والخالق سيخلق قد نفى فيه أن يكون نفس الفعل قديما فضلا عن أن يكون المفعول قديما
وقوله ان الفعل صفة لله والله يقدر عليه لا يمنعه منه مانع يمنع قدم عين الفعل لا يمنع قدم نوعه الا ان يثبت امتناع تسلسل الآثار وليس في كلامه تعرض لنفي ذلك ولا اثباته
وقوله لم يزل سيفعل ان صح عنه يحتمل معنيين أحدهما أنه لم يزل موصوفا بأنه سيفعل ما يفعله من جميع المفعولات أعيانها وأنواعها كما يقوله من يقول بحدوث نوع الفعل القائم به كما يقوله من يقول بحدوث انواع المنفصلات عنه والثاني أنه لم يزل الفاعل سيفعل شيئا بعد شيء فهو متقدم على كل واحد واحد من أعيان المفعولات
فعلى الأول يمتنع أن يكون شيء من أنواعها أو اعيانها قديما وعلى
(2/263)
الثاني لا يمتنع تقدم الأنواع بل قد يمتنع تقدم أعيان المخلوقات فلا يكون شيء من المخلوقات مع الله في الأزل على التقديرين وجماع ذلك أن الذي الزمه عبد العزيز للمريسي لأزم له مبطل لقوله بلا ريب وعليه جمهور الناس فإن جمهور الناس فإن جماهير الناس يقولون الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول وهذا قول جماهير الفقهاء من اصحاب ابي حنيفة ومالك والشافعي واحمد وجماهير الصوفية وجماهير أهل الحديث بل كلهم وكثير من أهل الكلام والفلسفة أو جماهيرهم فهو قول أكثر المرجئة من الكرامية وغيرهم وأكثر الشيعة وكثير من المعتزلة والكلابية وكثير من الفلاسفة ولأصحاب مالك والشافعي وأحمد في ذلك قولان فالذي عليه أئمتهم أن الخلق غير المخلوق وهو آخر قول القاضي ابي يعلى وقول جمهور اصحاب احمد وهو الذي حكاه البغوي عن أهل السنة وهو قول كثير من الكلابية
وأما قوله إنه قادر على الفعل لا يمنعه منه مانع فكلامه يقتضي أنه لم يزل قادر على الفعل لا يمنعه منه مانع وهذا الذي قاله هو الذي عليه جماهير الناس ولهذا أنكروا على من قال لم يكن قادرا على الفعل في الأزل وكان من يبغض الأشعري ينسب اليه هذا لتنفر عنه قلوب الناس واراد ابو محمد الجويني وغيره تبرئته من هذا القول كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع
(2/264)
واذا كان لم يزل قادرا على الفعل كان هذا صفة كمال فلهذا قال عبد العزيز لأن الفعل صفة والله قادر عليه لا يمنعه منه مانع وقد خلق المخلوقات بفعله فوجدت بالفعل الذي هو الخلق والفعل الذي هو الخلق بقدرة الله تعالى والقدرة على خلق المخلوق هي القدرة عليه كما قال تعالى { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى } سورة يس 81 وقوله تعالى { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } سورة القيامة 40 وقوله تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } سورة الأنعام 65 الآية ونحو ذلك مما فيه وصف الله بالقدرة على الافعال المتناولة للمفعولات وفيه بيان أن الخلق ليس هو المخلوق ولا أن نفس خلقه للسموات والارض هو السموات والارض والقدرة التي تزل ثم وجدت المخلوقات بدون فعل أصلا
فيقول له المريسي فذلك الذي هو صفته وهو يقدر عليه لا يمنعه منه مانع ان كان قديما كان كالقدرة وكان السؤال على كالسؤال عليك وان كان حادثا من غير تقدم فعل آخر سألتك عن سبب حدوثه بالقدرة التي لم تزل كما سألتني عن سبب حدوث المخلوق بالقدرة التي لم تزل وإن كان ذلك الفعل كان بفعل آخر وتسلسل
(2/265)
الأمر لزم تسلسل الأفعال ولزم أن يكون الفاعل لم يزل يفعل والخالق لم يزل يخلق
فيقول له عبد العزيز لم أقل انه قديم بل قلت انه صفة والله قادر عليه لا يمنعه من مانع وما كان مقدورا له لا يمنعه منه مانع لم يجب أن يكون قديما معه بل ان شاء فعله وان شاء لم يفعله
وأما سؤالك عن سبب حدوثه فهنا لأهل الاثبات جوابان أحدهما وهو جواب الكرامية ومن وافقهم ان اثبات الفعل للمفعول والخلق للمخلوق لا بد منه فإنا نعقل أن القادر على الفعل قبل ان يفعله ليس له فعل فاذا فعله كان هناك فعل به فعل المفعول وخلق به خلق المخلوق ونحن مقصودنا اثبات فعل وصفة لله تقوم به مغاير مخلوقاته وكلامه من هذا الباب ونحن لم نورد عليكم التسلسل فإن ذلك باطل على قولنا وقولكم جميعا
الجواب الثاني أن يقول من يجيب به لا يمتنع أن يكون قبل الفعل المعين ما هو أيضا فعل فعله الله بقدرته ولا يضرني التسلسل فإن ذلك جائز ممكن فإن هذا تسلسل في الأفعال والآثار والشروط وهذا ليس بممتنع
فعلى الجواب الأول يظهر قوله انما قلت لم يزل الخالق سيخلق وسيفعل ولم أقل لم يزل يخلق ويفعل
(2/266)
وأما على الجواب الثاني فاذا قال لم أقل لم يزل يخلق ويفعل بل أقول إنه لم يزل سيخلق وسيفعل فنقرره بوجهين
أحدهما أن الفعل لا يستلزم وجود مخلوق بل يكون الفعل قائما بنفسه بعد فعل قائم بنفسه وهلم جرا من غير وجود مخلوق منفصل عنه
الثاني أنه لو قدر تسلسل المفعولات كتسلسل الأفعال فما من مفعول ولا فعل الا وهو حادث كائن بعد أن لم يكن فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال اذ كان كل منهما حادثا بعد أن لم يكن والحادث بعد أن لم يكن لا يكون مقارنا للقديم الذي لم يزل واذا قيل ان نوع الأفعال أو المفعولات لم يزل فنوع الحوادث لا يوجد مجتمعا لا يوجد الا متعاقبا فاذا قيل لم يزل العاعل يفعل والخالق يخلق والفعل لا يكون الا معينا والخلق والمخلوق لا يكون الا معينا فقد يفهم أن الخالق للسموات والانسان لم يزل يخلق السموات والانسان والفاعل لذلك لم يزل يفعله وليس كذلك بل لم يزل الخالق لذلك سيخلقه ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله فما من مخلوق من المخلوقات ولا فعل من الأفعال الا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله ليس موصوفا بأنه لم يزل فاعلا له خالقا له بمعنى أنه موجود معه في الأزل وإن قدر أنه كان قبل هذا الفعل فاعلا لفعل آخر وقبل هذا المخلوق خالقا لمخلوق آخر فهو لم يزل بالنسبة الى كل
(2/267)
فعل ومخلوق سيفعله وسيخلقه لا يقال لم يزل فاعلا له خالقا بمعنى مقارنته له واذا اريد أنه لم يزل فاعلا للنوع كان هذا بمعنى قولنا إنه لم يزل سيفعل ما يفعله لكن هذه العبارة تفهم من الباطل مالا تفهمه تلك العبارة
وهذا الموضع للناس فيه أقوال فإن جمهور أهل السنة يقولون لم يزل الله خالقا فاعلا كما قال الامام احمد لم يزل الله عالما متكلما غفورا بل يقولون لم يزل يفعل اما بناء على أن الفعل قديم وإن كان المفعول محدثا أو بناء على قيام الأفعال المتعاقبة بالفاعل
ومذهب بشر واخوانه الجهمية أن المخلوقات كلها كائنة بدون فعل ولا خلق وكلام الله من جملتها فألزمه عبد العزيز على أصله فقال له اذا قلت كان الله ولما يفعل ولما يخلق شيئا وهو لم يزل قادرا ثم خلق المخلوقات فأنت تقول لم يزل قادرا ولا تقول لم يزل يفعل المخلوقات فلا بد له من أن يكون هناك فعل حصل بالقدرة وليس هو القدرة التي لم تزل ولا هو المخلوق المنفصل اذ لو كان كذلك لكان المخلوق قد وجد من غير خلق والمفعول قد وجد من غير فعل وهذا أعظم امتناعا في العقل من كونه وجد بغير قدرة فإنه
(2/268)
إذا عرض على العقل مفعول مخلوق حدث بعد أن لم يكن بلا فعل ولا خلق كان انكار العقل لذلك اعظم من انكاره لحدوثه من غير قدرة للفاعل وانكاره لحدوث من غير فاعل اعظم امتناعا في العقل من هذا وهذا فإذا قيل فعله الفاعل بلا قدرة أنكره العقل واذا قيل حدث بلا فاعل كان أعظم وأعظم فإن الفاعل بلا فعل كالعالم بلا علم والحي بلا حياة والقادر بلا قدرة ونحو ذلك وذلك نفي لجزء مدلول اللفظ الذي دل عليه بالتضمن وأما نفي القدرة عن الفاعل فهو نفي لما دل عليه باللزوم العقلي
واذا قال القائل بل يجوز ان يكون المفعول المخلوق حدث بلا فعل ولا خلق غيره لأنه لو كان بفعل للزم أن يكون للفعل فعل ولزم التسلسل وأن يكون محلا للحوادث
قيل فعلى هذا يجوز أن يكون المفعول المخلوق حدث بلا قدرة من الفاعل لأن ثبوت القدرة يستلزم ثبوت الصفات وقيام الأعراض به
فإذا قال الفعل بدون القدرة ممتنع وليس في العقل ما يحيل لوازم القدرة بل علمنا بامتناع الفعل بلا قدرة أعظم من علمنا بامتناع قيام الصفات به وان سماها المسمى إعراضا
(2/269)
قيل له والمخلوق المفعول بلا فعل ولا خلق أعظم امتناعا في العقل وليس في العقل ما يحيل لوازم الفعل الذي كان بالقدرة بل علمنا بامتناع ذلك أعظم من علمنا بامتناع قيام الأفعال به وان سماها المسمى حوادث
يبين ذلك أن افتقار المخلوق إلى خلق والمفعول المنفصل إلى فعل يعلم باللزوم العقلي وبالقول السمعي فإن فاعل وخالق مثل متكلم وقائل ومريد ومتحرك وغير ذلك من الأسماء التي تستلزم قيام معان بالمسميات
فلما ظهرت حجة عبد العزيز على المريسي في أنه لا بد من فعل للرب تعالى بقدرته كما قال له يلزمك أن تقول انه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل هو القدرة لأن القدرة صفة لله ولا يقال لصفة الله هي الله ولا يقال إنها غير الله ولم يقل عبد العزيز إنها ليست هي الله ولا غيره بل قال لا يقال إنها هي الله ولا يقال إنها غيره وقول عبد العزيز هذا هو قول أئمة السنة كالإمام احمد وغيره وهو قول ابن كلاب وغيره من الأعيان ولكن طائفة من أصحاب
(2/270)
أحمد مع طائفة من متكلمي الصفاتية أصحاب الأشعري يقولون لا هي الله ولا غيره
وتلك العبارة هي الصواب كما قد بسط في غير هذا الموضع فإن لفظ الغير فيه إجمال فلا يصح إطلاقه لا نفيا ولا إثباتا على الصفة ولكن يصح نفي إطلاقه نفيا أو إثباتا كما قال السلف مثل ذلك في لفظ الجبر ونحوه من الألفاظ المجملة إنه لا يطلق لا نفيها ولا إثباتها وإذا قيل لا يطلق لا هذا ولا هذا لم يلزم إثبات قسم ثالث لا هو الموصوف ولا غير الموصوف بل يلزم إثبات مالا يطلق عليه لفظ الغير لا ما ينفي عنه المغايرة
ومقصود عبد العزيز أن القدرة صفة لله ليست هي الفعل الذي كان عن القدرة فإنه يقول لم يزل الله قادرا ولا قول لم يزل فاعلا
فعارضه المريسي بأن هذا يلزمك أيضا فيلزمك أن تقول لم يزل يفعل ويخلق وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله
فقال له عبد العزيز ليس لك أن تحكم على وتلزمني ما لا يلزمني وتحكي عني ما لم اقل وذلك لأن عبد العزيز لم يقل في هذا قولا يحكى
(2/271)
عنه ولكن قال له إما أن تلتزم أنت ما ألزمتني وإلا التزمت أن تقول إن المخلوق لم يزل مع الله
وهذا الذي قاله المريسي إنما يلزم عبد العزيز إذا أبطل لك قسم مما يمكن أن يقال في هذا المقام وهو لم يفعل ذلك ولا سبيل له إليه بخلاف ما ألزمه إياه عبد العزيز فإنه لازم له لا محالة إذ كان قوله إن المخلوقات كلها وكلام الله عنده من جملتها حدثت بعد أن لم تكن من غير فعل فعله الله بل بقدرته التي لم تزل مع أن عبد العزيز قد بين فيما بعد أن ما أقر به المريسي يكفيه في الاحتجاج في مسألة القرآن فإن المريسي أقر بأن الله خلقها بقدرته فأثبت هنا معنى هو صفة لله تعالى ليس بمخلوق فبطل اصل قوله الذي نفى به الصفات وقال إن القرآن مخلوق لكن عبد العزيز بين له ما يلزمه وما أقر به وأن الحجة تحصل بهذا وبهذا وأما المريسي فعارضه بأن قال يلزمك ما ألزمتني
وذلك مبني على مقدمات لم يذكر منها واحدة أحدها أن يقول إذا كان احدث الأشياء بفعله الكائن عن قدرته حصل المقصود من غير إثبات قديم مع الله تعالى ولهذا قال له عبد العزيز إنما قلت الفعل صفة لله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع وفي نسخة أخرى زيادة على ذلك إنما قلت انه لم يزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأن الفعل صفة لله
(2/272)
وهذه الزيادة لم تتقدم في كلام عبد العزيز فإما أن تكون ملحقة من بعض الناس في بعض النسخ أو يكون معنى الكلام إنما قولي هذا وإنما قلت أنى إنما اعتقدت والتزمت هذا أو يكون المعنى إنما أقول واعتقد هذا والأشبه أن هذه الزيادة ليست من كلام عبد العزيز فإنها لا تناسب ما ذكره من مناظرته المستقيمة ولم يتقدم من عبد العزيز ذكر هذا الكلام ولا ما يدل عليه بخلاف قوله إنما الفعل صفة لله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع فإن هذا كلام حسن صحيح وهو لم يكن قد قاله ولهذا لم يقل إني قلت ذلك ولكن قال هذا هو الذي يجب أن يقال وهو الذي يلزمني أن أقوله لأني بينت أن المخلوق لا يكون إلا بفعل عن قدرة الله والفعل قائم بالله ليس هو مخلوقا منفصلا وهذا مراده بقوله انه صفة لم يرد بذلك إن الفعل المعين لازم لذات الله تعالى لأنه قد قال والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع
فحصل بذلك مقصود عبد العزيز من أن هناك فعلا احدث الله به المخلوقات عن قدرته فأقام الحجة على أنه يقوم بالله تعالى أمر غير المخلوقات عن القدرة واعترف له المريسي بالقدرة
(2/273)
فقد ثبت على تقدير أن قبل المخلوق شيئا خارجا عن المخلوق سواء كان هو القدرة وحدها أو كان مع ذلك الفعل والقول والإرادة وما كان متقدما قبل المخلوق فليس هو من المخلوق فبطل قول المريسي إن مالا يسمى بالله فهو مخلوق فإن هذه الأمور كلها ليست هي الله وليست مخلوقة لأن هذه صفات له ولا يقال أنها هي الله ولا يقال أنها غير الله وإذا قلنا الله الخالق وما سواه مخلوق فقد دخل في مسمى اسمه صفاته فإنها داخلة في مسمى اسمه ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم من حلف بغير الله فقد أشرك لم يكن الحلف بعزة الله ونحو ذلك حلفا بغير الله
ولما حدثت الجهمية واعتقدوا ان القرآن خارج عن مسمى اسم الله تعالى قال من قال من السلف الله الخالق وما سواه مخلوق الا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق فاستثنوا القرآن مما سواه لما أدخله من أدخله فيما سواه ولفظ ما سواه هو كلفظ الغير وقد قلنا
(2/274)
ان القرآن وسائر الصفات لا يطلق عليه أنه هو ولا يطلق عليه أنه غيره فكذلك لا يطلق عليه أنه مما سواه ولا أنه ليس مما سواه لكن مع القرينة قد يدخل في هذا تارة وفي هذا تارة
فلما كان بعض الناس قد يفهم ان القرآن هو مما سواه قال من قال من السلف ما سواه مخلوق الا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ واليه يعود ومن لم يفهم دخول الكلام في لفظ سواه لم يحتج إلى هذا الاستثناء بل قال الله الخالق وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله غير مخلوق لا يقول الا القرآن أي القرآن هو كلامه وكلامه وفعله وعلمه وسائر ما يقوم بذاته لا يكون مخلوقا وانما المخلوق ما كان مباينا له ولهذا قال السلف والأئمة كأحمد وغيره القرآن كلام الله ليس ببائن منه وقالوا كلام الله من الله
وقال احمد بن حنبل لرجل سأله فقال له ألست مخلوقا فقال بلى فقال أوليس كلامك منك قال بلى قال والله ليس بمخلوق وكلامه منه ومراده أن المخلوق اذا كان كلامه صفة
(2/275)
له هو داخل في مسمى اسمه وهو قائم به فالخالق اولى ان يكون كلامه صفة له داخلة في مسمى اسمه وهو قائم به لأن الكلام صفة كمال وعدمه صفة نقص فالمتكلم أكمل ممن لا يتكلم والخالق أحق بكل كمال من غيره
والسلف كثيرا ما يقولون الصفة من الموصوف والصفة بالموصوف فيقولون علم الله من الله وكلام الله من الله ونحو ذلك لأن ذلك داخل في مسمى اسمه فليس خارجا عن مسماه بل هو داخل في مسماه وهو من مسماه
فعبد العزيز قرر حجته بأن الفعل صفة لله عن قدرته لا يمنعه منه مانع وهذا كاف وما الزمه اياه بشر لا يلزمه الا بمقدمات لم يقرر بشر منها شيئا
وأي تقدير من تلك التقديرات قال به القائل كان خيرا من قول المريسي
التقدير الاول قول من يقول ان الفعل حادث قائم بذات الله بقدرته كما يقول ذلك من يقوله من الكرامية وهذا خير من قول المريسي وأمثاله من الجهمية فإن ما يلزم اصحاب هذا القول من
(2/276)
تسلسل الحوادث يلزمهم مثله والذي يلزمهم من نفي الخلق والفعل لا يلزم اصحاب هذا القول
وأما قولهم انه محل للحوادث فمثل قولهم انه محل للأعراض
التقدير الثاني قول من يقول ان الفعل قديم ازلي كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية ومن الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والصوفية
وهذا ايضا على هذا التقدير يكون من جنس قول الصفاتية هؤلاء لا يقولون بقيام الحوادث به ولا تسلسلها واذا الزمهم المريسي واخوانه ان يقال فإذا كان الفعل لم يزل والارادة لم تزل لزم ان يكون المفعول المراد لم يزل وقيل لهم فحدوث الحوادث لا بد له من سبب قالوا هذا السؤال مشترك بيننا وبينكم لكن عبد العزيز لم يجب بهذا الجواب فإنه لو أجاب به لانتقضت حجته التي احتج بها على المريسي فإنه احتج بأنه لم يزل قادرا فلو قال الفعل قديم قال المريسي انه لم يزل فاعلا عندك
وايضا فعبد العزيز ذكر انه يقدر على الفعل لا يمنعه منه مانع وذكر غير ذلك
والتقدير الثالث ان الفعل الذي كان عن قدرته كان قبله فعل
(2/277)
آخر كان عن قدرته ايضا وهلم جرا ولم يكن شيء من المفعولات والمخلوقات موجودا معه في الأزل فإن الفعل ينقسم إلى متعد ولازم فإذا قدر دوام الأفعال اللازمة لم يجب دوام الافعال المتعدية وعلى هذا التقدير فإذا قال كان الله ولما يخلق شيئا ولما يفعل شيئا لم يلزم أن لا يكون هناك فعل قائم بنفسه بدون مخلوق مفعول ولا يجب ان يكون المخلوق لم يزل مع الله تعالى
وهذا التقدير ان لم ينفه المريسي بالحجة لم يكن ما الزمه لعبد العزيز لازما واذا قال السلف والأئمة ان الله لم يزل متكلما اذا شاء فقد اثبتوا انه لم يتجدد له كونه متكلما بل نفس تكلمه بمشيئته قديم وان كان يتكلم شيئا بعد شيء فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه الا اذا وجب تناهي المقدورات المرادات وهو المسمى بتناهي الحوادث والذي عليه السلف وجمهور الخلف ان المقدورات المرادات لا تتناهى وهم بهذا نزهوه عن كونه كان عاجزا عن الكلام كالأخرس الذي لا يمكنه الكلام وعن أنه كان ناقصا فصار كاملا وأثبتوا مع ذلك أنه قادر على الكلام باختياره وحجة عبد العزيز على المريسي تتم على هذا التقدير ولا يكون مع الله في الأزل مخلوق
التقدير الرابع أنه لو قيل بأن كل ما سوى الله مخلوق محدث
(2/278)
كائن بعد ان لم يكن فليس مع الله في أزله شيء من المخلوقات لكنه لم يزل يفعل لم يوجب ذلك ان يكون معه شيء من المفعولات المخلوقات وانما يوجب ذلك كون نوع المفعول لم يزل مع أن كل واحدة من آحاده حادث لم يكن ثم كان معه فليس من ذلك شيء مع الله في الأزل وعبد العزيز لم يقل هذا ولم يلتزمه بل ولا التزم شيئا من هذه التقديرات ولا يلزمه واحد منها بعينه الا بتقدير امتناع ما سواه ولكن المقصود ان الزام المريسي له بأن يكون المخلوق لم يزل مع الله لا يلزمه التزامه فإنه على التقديرات الثلاث لا يلزم وجود شيء من المفعولات ولا نوعها في الأزل
وأما على التقدير الرابع فإنما يلزم أنه لم يزل نوع المفعول لا شيء من المفعولات بعينه
وهذا التقدير اذا كان باطلا فالمريسي لم يذكر إبطاله ولا ابطال شيء من التقديرات وهو لو اراد ان يبطل هذا لم يبطله الا بإبطال التسلسل في الآثار كما هو طريقة من أبطل ذلك من أهل الكلام ولكن المريسي وموافقوه الذين يقولون بأن اله يخلق المخلوقات بغير فعل قائم به ويقولون الخلق هو المخلوق ويقولون ان المخلوقات كلها وجدت بعد ان لم تكن موجودة من غير ان يتجدد من الله فعل ولا قصد ولا امر من الامور بل ولا من غيره فيقولون إن
(2/279)
الأمر ما زال على وجه واحد ثم حدثت جميع المحدثات وكانت جميع المخلوقات وليس هناك من الفاعل شيء غير وجودها بل حاله قبل وجودها ومع وجودها وبعد وجودها واحد لم يتجدد منه أمر يضاف الحدوث اليه فأصحاب القول الأول يلتزمون التسلسل مع قولهم بأن كل ما سوى الله محدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه لكن تحدث الحوادث شيئا بعد شيء وهو محدثها بأفعاله سبحانه التي يفعلها ايضا شيئا بعد شيء واصحاب الثاني يقولون بل حدثت من غير سبب حادث كما ترى
ومن المعلوم أنه اذا عرض على العقل القولان كان بطلان هذا القول أظهر من بطلان ذلك القول فإن ترجيح احد طرفي الممكن بغير مرجح وتخصيص الشيء عن أمثاله التي تماثله من كل وجه بلا مخصص وحدوث الحوادث جميعها بدون سبب حادث بل مع كون الأمر قبل حدوثها ومع حدوثها على حال واحد هو أبعد في المعقول وأنكر في القلوب من كون المحدثات لم تزل تحدث شيئا بعد شيء ومن كون الله سبحانه لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء كما أنه لا يزال في الأبد يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء
(2/280)
فلو قدر أن عبد العزيز والمريسي انتهيا الى هاتين المقدمتين لم يكن للمريسي أن يلزم عبد العزيز بشيء الا ألزمه عبد العزيز بما هو اشنع منه فكيف وعبد العزيز لم يحتج الى شيء من ذلك بل بين أنه لا بد أن يكون قبل المخلوق ما به يخلق المخلوق من صفات الله وأفعاله فيبطل ما يدعيه المريسي ونحوه من أن الله لا صفة له ولا كلام ولا فعل بل خلق المخلوقات وخلق الكلام الذي سماه كلامه بلا صفة ولا فعل ولا كلام
وهذان الجوابان اللذان يمكن عبد العزيز أن يجيب بهما عن الزامه التسلسل يمكن معهما جواب ثالث مركب منهما كما تقدم التنبيه على ذلك وهو أن يقول
إن كان التسلسل ممتنعا بطل هذا الإلزام وان كان ممكنا أمكن التزامه كما قد ذكرنا في غير هذا الموضع أن المسلمين وغيرهم من أهل الملل القائلين بأن الله تعالى خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة ايام يمكنهم أن يجيبوا بمثل هذا الجواب للقائلين بقدم العالم من الفلاسفة وغيرهم المحتجين على ذلك بحجتهم العظمى التي اعتمد عليها ابن سينا وابن الهيثم وغيرهما حيث احتجوا على المعتزلة ونحوهم من
(2/281)
أهل الكلام فقالوا الموجب التام للعالم إن كان ثابتا في الأزل لزم قدمه والا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وان لم يكن ثابتا في الأزل احتاج في حدوث تمامه الى مرجح والقول فيه كالقول في الأول ويلزم التسلسل
وعظم شأن هذه الحجة على هؤلاء المتكلمين لأنهم يقولون ببطلان التسلسل وبحدوث الحوادث من غير سبب حادث ويقولون بأن المرجح التام لا يستلزم اثره بل القادر او المريد يرجح احد مقدوريه او احد مراديه على الآخر بلا مرجح فصاروا بين أمرين إما إثبات الترجيح بلا مرجح وإما إلتزام التسلسل وكلامهما مناقض لأصولهم ولهذا عدل من عدل في جوابها الى الإلزام والمعارضة بالحوادث اليومية
ونحن قد بينا جوابها من وجوه
منها ان يقال التسلسل يراد به امور احدها التسلسل في المؤثرات والفاعلين والعلل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء ومنها التسلسل في تمام كون المؤثر مؤثرا وهذا كالذي قبله باطل بصريح العقل وقول جمهور العقلاء
(2/282)
ومنها التسلسل الذي في معنى الدور مثل أن يقال لا يحدث حادث اصلا حتى يحدث حادث وهذا ايضا باطل بضرورة العقل واتفاق العقلاء
ومنها التسلسل في الآثار المتعاقبة وتمام التأثير في الشيء المعين مثل أن يقال لا يحدث هذا حتى يحدث قبله ولا يحدث هذا الا ويحدث بعده وهلم جرا وهذا فيه نزاع مشهور بين المسلمين وبين غيرهم من الطوائف فمن المسلمين وغيرهم من جوزه في المستقبل دون الماضي
وإذا عرفت هذه الأنواع فهم قالوا اذا لم يكن المؤثر تاما في الأزل لم يحدث عنه شيء حتى يحدث حادث به يتم كونه مؤثرا إذ القول في ذلك الحادث كالقول في غيره فيكون حقيقة الكلام أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء
لكن هذا الدليل إن طلبوا به أنه لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء فهذا يناقض قولهم وهو حجة عليهم وان ارادوا أنه كان في الأزل مؤثرا تاما في الأزل لم تتجدد مؤثريته لزم من ذلك انه لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا فيلزم أن لا يحدث في العالم
(2/283)
شيء ولهذا عارضهم الناس بالحوادث اليومية وهذا لازم لا محيد لهم عنه وهو يستلزم فساد حجتهم
وإن ارادوا أنه مؤثر في شيء معين فالحجة لا تدل على ذلك وهو أيضا باطل من وجوه كما قد بسط في موضع آخر فالمؤثر التام يراد به المؤثر في كل شيء والمؤثر في شيء معين والمؤثر تأثيرا مطلقا في شيء بعد شيء فالأول هو الذي يجعلونه موجب حجتهم وهو يستلزم ان لا يحدث شيء فعلم بطلان دلالة الحجة على ذلك ويراد به التأثير في شيء بعد شيء فهذا هو موجب الحجة وهو يستلزم فساد قولهم وأنه ليس في العالم شيء قديم بل لا قديم الا الرب رب العالمين ويراد به التأثير في شيء معين فالحجة لا تدل على هذا فلم يحصل مطلوبهم بذلك بل هذا باطل من وجوه أخرى
فبهذا التقسيم ينكشف ما في هذا الباب من الإجمال والإشتباه فكل حادث معين فيقال هذا الحادث المعين ان كان مؤثره التام موجودا في الازل لزم جواز تأخير الأثر عن مؤثره التام فبطل قولهم
وإن قيل بل لا بد أن يحدث تمام مؤثره عند حدوثه فالقول في حدوث ذلك التمام كالقول في حدوث تمام الأول وذلك يستلزم التسلسل في حدوث تمام التأثير وهو باطل بصريح العقل فيلزم على قولهم حدوث الحوادث بغير سبب حادث وهذا أعظم مما أنكروه على المتكلمين من التسلسل
(2/284)
فإن قيل فما الفرق بين هذا التسلسل وبين التسلسل في تمام تأثير معين بعد معين
قيل الفرق بينها من وجوه
أحدها أن هؤلاء قد قالوا إنه مؤثر تام في الأزل والمؤثر التام مستلزم أثره معه فيلزمكم أن لا يحدث عنه شيء بل تكون جميع الممكنات قديمة أزلية وهذا باطل بالحس والمشاهدة
فادعوا امرين باطلين احدها انه كان مؤثر تاما في الأزل وأن المؤثر التام يكون أثره معه في الزمان حتى يكون الأثر مقارنا للمؤثر في الزمان
فإن قيل إنه يتقدم عليه بالعلية وهذا بخلاف قول من قال لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء فهذا لم يقل إنه كان مؤثرا في الأزل في شيء قط ولم يكن مؤثرا تاما في الأزل قط
الثاني أنهم إن قالوا إن الأثر يجب أن يقارنه أثره في الزمان لزم أن لا يحدث شيء وإن قالوا بل الأثر يكون عقب المؤثر في الزمان لزم أن لا يكون معه قديم وحينئذ فمن قال بهذا قال إنه لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء وكل ما سواه حادث مسبوق بالعدم
الثالث أن هؤلاء يقولون كل حادث معين لا بد أن يحدث تمام تأثيره فيكون هو حادثا عقب تمام التأثير فأي شيء كونه الله كان عقب
(2/285)
تكوين الرب له كأجزاء الزمان والحركة التي توجد شيئا فشيئا فقوله تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس 82 فيكون الحادث عقب تكوين الرب له كما يكون الإنكسار عقب التكسر والطلاق عقب التطليق فيلزم على هذا حوادث متعاقبة شيئا بعد شيء
وهذا غير ممتنع عند من يقول بهذا من أئمة أهل الملل ومن الفلاسفة بخلاف قول المتفلسفة ومن وافقهم على أن الأثر يكون مع المؤثر في الزمان كما قالوا الفلك قديم بقدم علته وهو معه في الزمان
فهؤلاء إن قالوا بحدوث الحوادث بدون سبب حادث لزمهم المحذور الذي فروا منه وأن قالوا بل عند كل حادث يحدث مع زمن حدوثه وحدوث تمام مؤثره لزم حدوث حوادث لا تتناهى في آن واحد من غير تجدد شيء عن المؤثر الأزلي فلزمهم التسلسل في تمام أصل التأثير لا في تأثير شيء معين وهو ممتنع مع قولهم بحوادث لا تتناهى في آن واحد
وهم وسائر العقلاء يسلمون بطلان هذا وانما نازع فيه معمر صاحب المعاني وقد ظهر بطلان ذلك فإنه تسلسل في أصل التأثير لا في تأثير المعينات فلزمهم المحال الذي لزم أصحاب معمر ويلزمهم المحال والتناقض الذي اختصوا به وهو قولهم بأن المؤثر مع
(2/286)
مؤثرة في الزمان مع كون الرب مؤثرا تاما في الأزل فيلزمهم أن لا يحدث في العالم شيء
ومنها أن يقال التسلسل جائز على أصلكم فلا تكون الحجة برهانية بل تكون جدلية وهي تلزمنا بتقدير صحتها أحد أمرين إما القول بالترجيح بلا مرجح وإما القول بالتسلسل والا كنا قد تناقضنا في نفي هذا وهذا ولكن جواز التناقض علينا يقتضي بطلان أحد قولينا فلم قلتم إن قولنا الباطل هو نفي الترجيح بلا مرجح مع اتفاقنا على بطلانه فقد يكون قولنا الباطل هو نفي التسلسل في الآثار الذي نازعنا فيه من نازعنا من اخواننا المسلمين مع منازعتكم لنا في ذلك واذا كان كذلك فالتزامنا لقول نوافق فيه اخواننا المسلمين وتوافقوننا أنتم عليه وتبطل به حجتكم على قدم العالم أولى أن نلتزمه من قول يخالفنا فيه هؤلاء وهؤلاء وتقوم به حجتكم على قدم العالم
الجواب الثالث الجواب المركب وهو أن يقال ان كان التسلسل في تمام التأثير ممكنا بطلت الحجة فإنه يمكن حينئذ أن يحدث
(2/287)
كل ما سوى الله بأن يحدث تمام تأثيره وإن كان ممتنعا لزم إما أن لا يحدث شيء وهو خلاف المشاهد وإما أن تحدث الحوادث بدون سبب حادث وهو يبطل الحجة فبطلت الحجة على كل تقدير
وان شئت قلت ان التسلسل في الآثار ان كان ممكنا بحيث يحدث شيئا بعد شيء ولا يكون علة تامة في الأزل لزم حدوث كل ما سوى الله وبطلت الحجة وإن كان ممتنعا لزم أيضا أن تحدث الحوادث عن المؤثر التام الأزلي فيلزم حدوث جميع الحوادث عنه ولزم حينئذ حدوث العالم فتبطل حجة قدمه فالحجة باطلة على التقديرين وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
وأما قول عبد العزيز فقد ثبت أن ههنا إرادة ومريدا ومرادا وقولا وقائلا ومقولا له وقدرة وقادرا ومقدورا عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق فيحتمل أمرين
أحدهما أنه أراد بالمراد المراد المتصور في علم الله وبالمقدور عليه الثابت في علم الله وبالمقول له المخاطب الثابت في علم الله المخاطب خطاب التكوين كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }
(2/288)
سورة يس 82 وهذه معان ثابتة لله تعالى قبل وجود المخلوق ولهذا اضطربت نفاة الصفات من المعتزلة وغيرهم في هذه الأمور فتارة يثبتونها في الخارج وتارة ينفونها مطلقا ومن هنا غلط من قال المعدوم شيء فإنهم ظنوا أنه لما كان لا بد من تمييز ما يريده الله مما لا يريده ونحو ذلك توهموا أن هذا يقتضي كون المعدوم ثابتا في الخارج وليس الأمر كذلك بل هي معلومة لله تعالى ثابتة في علم الله تعالى
وضل آخرون في مقابلة هؤلاء كهشام الفوطي فإنه ذكر عنه الأشعري في المقالات أنه كان يقول لم يزل الله عالما أنه واحد لا ثاني له ولا يقول إنه لم يزل عالما بالأشياء أثبتها لم تزل مع الله وإذا قيل له أفتقول بأن الله لم يزل عالما بأن ستكون الأشياء قال وضل آخرون في مقابلة هؤلاء كهشام الفوطي فإنه ذكر عنه الأشعري في المقالات أنه كان يقول لم يزل الله عالما أنه واحد لا ثاني له ولا يقول إنه لم يزل عالما بالأشياء وقال إذا قلت لم يزل عالما بالأشياء أثبتها لم تزل مع الله وإذا قيل له أفتقول بأن الله لم يزل عالما بأن ستكون الأشياء قال إذا قلت بأن ستكون فهذه إشارة إليها ولا يجوز أن يشار إلا إلى موجود وكان لا يسمى ما لم يخلقه ولم يكن شيئا
(2/289)
والثاني أن يريد بذلك نفس الفعل المقدور المراد الذي يكون به المخلوق
وأما القول فهو المصدر كما تقدم والمقول هو الكلام فإن في إحدى النسختين مقولا له وفي الأخرى ومقولا
وعلى هذا فقول عبد العزيز أن قال خلق كلامه في نفسه فهذا محال لا يجد سبيلا إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول لأن الله لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقضا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى الله عن ذلك مراده أنه لا يكون مكانا لما حدث مطلقا وهو ما حدث جنسه كالكلام عند من يقول انه حادث الجنس فإنه يقول إن الله صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فيكون جنس الكلام محدثا وكذلك إذ قيل أراد بعد آن لم يكن مريدا فحدث جنس الإرادة وكذلك إذا قيل علم بعد أن لم يكن عالما فيكون جنس العلم حادثا وأمثال هذا فإن الله لا يكون مكانا لأجناس الحوادث
على هذا فيكون عبد العزيز قد ذكر على بطلان قول المريسي عدة حجج أنه لا يكون مكانا للمخلوقات ولا يكون مكانا لما جنسه حادث ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء فهذه ثلاث حجج
(2/290)
وهذا لا ينافي ما ذكره من أنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة وأن الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع وأنه أحدث الأشياء بأمره وقوله عن قدرته ونحو ذلك فإن هذا الفعل والقول المقدور الذي ليس هو مخلوقا منفصلا عنه ليس جنسه محدثا عنده وإن كان الواحد من آحاده يكون بعد أن لم يكن فالجنس لا يقال له حادث ولا محدث بل لم يزل الله موصوفا بذلك عنده ولهذا قال ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه فإن ما كان جنسه محدثا كان قد زادت به الذات وقد عرف أن المخلوق عنده ما كان مسبوقا بفعله الذي خلق به وقوله وقدرته وأن المخلوق لا يكون إلا منفصلا عنه
فهذا الذي قاله عبد العزيز فيه رد على الكرامية ومن وافقهم في أنهم جوزوا عليه أن يحدث له جنس الكلام ونحوه مما لم يكن موجودا فيه قبل ذلك وجوزوا أن يحدث له جنس صفات الكمال ومتى قيل إنه لم يكن موصوفا بجنس من أجناس صفات الكمال حتى حدث له لزم أن يكون قبل ذلك ناقصا عن صفة من صفات الكمال فلا يكون متكلما بل يكون موصوفا قبل ذلك بعدم الكلام وهذا الذي قاله عبد العزيز هو نظير قول الإمام أحمد وغيره من الأئمة
قال أحمد في رده على الجهمية باب ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى فقلنا لم أنكرتم ذلك قالوا إن الله
(2/291)
لم يتكلم ولا يتكلم وإنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين فقلنا هل يجوز لمكون أو غير الله أن يقول { يا موسى إني أنا ربك } سورة طه 12 أو يقول { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } سورة طه 14 فمن قال ذلك زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئا كان يقول ذلك المكون { يا موسى إني أنا الله رب العالمين } سورة القصص 30 وقد قال جل ثناؤه { وكلم الله موسى تكليما } سورة النساء وقال تعالى { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } سورة الأعراف 143 وقال تعالى { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } سورة الأعراف 144 هذا منصوص القرآن
فأما ما قالوا إن الله لا يتكلم فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله
(2/292)
صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان
وأما قولهم إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان وأدوات فقد قال تعالى { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } سورة الأنبياء 79 أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } سورة فصلت 21 أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان ولكن الله أنطقها كيف شاء وكذلك الله يتكلم كيف شاء من غير أن نقول بجوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان فلما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره فقلنا وغيره مخلوق قالوا نعم قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم
(2/293)
تدفعون عن أنفسكم الشنعة وحديث الزهري قال لما سمع موسى كلام الله قال يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه قال هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله
فقد ذكر أحمد في هذا الكلام أن الله تعالى يتكلم كيف شاء وذكر فيما استشهد به من الأثر أن الله كلم موسى عليه السلام بقوة عشرة آلاف لسان وأن له قوة الألسن كلها وهو أقوى من ذلك وأنه إنما كلم موسى على قدر ما يطيق ولو كلمه بأكثر من ذلك لمات
وهذا بيان منه لكون تكلم الله متعلقا بمشيئته وقدرته كما ذكر عبد العزيز وهو خلاف قول من يجعله كالحياة القديمة اللازمة للذات التي
(2/294)
لا تتعلق بمشيئته ولا قدرة وبين أيضا في كلامه أنه سبحانه تكلم وسيتكلم ردا على الجهمية واستدل على أنه تكلم بالحديث الذي في الصحيحين عن عدى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وجعل قوله سيكلمه ربه دليلا على أنه سيتكلم فبين أن التكليم عنده مستلزم للتكليم متضمن للتكلم ليس هو مجرد خلق إدراك في المستدل
وقال الإمام احمد وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } سورة المائدة 116 أليس الله هو القائل قالوا يكون الله شيئا فيعبر عن الله كما كون شيئا فعبر لموسى قلنا فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم } سورة الأعراف 67 أليس الله هو الذي يسأل قالوا هذا كله إنما يكون شيء فيعبر عن الله فقلنا قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان فلما
(2/295)
ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق قلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة بل نقول إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة
فقد بين أحمد في هذا الكلام الإنكار على النفاة الذين شبهوه بالجمادات التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان مثل الأصنام المعبودة من دون الله والإنكار على من زعم أنه كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام فشبهه بالآدمي الذي كان
(2/296)
لا يتكلم حتى خلق الله له كلاما فأنكر تشبيه بالجماد الذي لا يتكلم وبالإنسان الذي كان غير قادر على الكلام حتى خلق الله له الكلام فكان قادرا على الكلام في وقت دون وقت وبين أن من وصف الله بذلك فقد جمع بين الكفر حيث سلب ربه صفة الكلام وهي من أعظم صفات الكمال وجحد ما أخبرت به النصوص وبين التشبيه
ثم قال أحمد بل نقول إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق فبين أن الكلام يتعلق بمشيئته وأنه لم يزل متكلما إذا شاء فرد قول من لا يجعل الكلام متعلقا بالمشيئة كقول الكلابية ومن وافقهم ومن يقول كان ولا يتكلم حتى حدث له الكلام كقول الكرامية ونحوهم وقال لا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما لا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم ولا نقول إنه كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه
(2/297)
ولا نقول إنه كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة فنزهه سبحانه عن سلب صفات الكمال في وقت من الأوقات وإنا لا نقول تجددت له صفات الكمال بل لم يزل موصوفا بصفات الكمال ومن صفات الكمال أنه لم يزل متكلما إذا شاء لا أن يكون الكلام خارجا عن قدرته ومشيئته ولهذا لم يقل لم يزل عالما إذا شاء ولا قال يعلم كيف شاء وقد قال في موضع آخر فيما رواه عنه حنبل لم يزل اله عالما متكلما غفورا
وكلام احمد وغيره من الأئمة في هذا الأصل كثير ليس هذا موضع بسطه مثل ما ذكره البخاري في آخر صحيحه في كتاب التوحيد والرد على الجهمية قال باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب تعالى بصفاته وفعله وأمره وفي نسخة وكلامه هو الخالق المكون غير
(2/298)
مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مكون مخلوق
وقال بعد ذلك باب قول الله تعالى { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } إلى قوله { ماذا قال ربكم قالوا الحق } سورة سبأ 23 ولم يقولوا ماذا خلق ربكم قال عز وجل { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } سورة البقرة 255 وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا { ماذا قال ربكم قالوا الحق } سورة سبأ 23 ويذكر عن جابر بن عبد الله بن أنيس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان وذكر حديث أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم
(2/299)
قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير وذكر حديث أبي سعيد الخدري قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادى بصوت إن اله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار والحديث فيه طول استوفاه في موضع آخر
وقال بعد ذلك باب ما جاء في قول الله تعالى { كل يوم هو في شأن } سورة الرحمن 29 وقال { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } سورة الأنبياء 2 وقوله تعالى { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } سورة الطلاق 1 وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } سورة الشورى 11 وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة وقول ابن
(2/300)
عباس كتابكم أحدث الأخبار بالرحمن عهدا محضا لم يشب
ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرا وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول ولهذا تأتلف ولا تختلف وتتوافق ولا تتناقض والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول فتشعبت بهم الطرق وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب وقد قال تعالى { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } سورة البقرة 176 ولهذا قال الإمام أحمد في أول خطبته فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على
(2/301)
الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين
ومن أعظم أصول التفريق بينهم في هذه المسألة مسألة أفعال الله تعالى وكلام الله ونحو ذلك مما يقوم بنفسه ويتعلق بمشيئته وقدرته فإن هذا الأصل لما أنكره من أنكره من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ونحوهم وظنوا أنه لا يمكن إثبات حدوث العالم واثبات الصانع إلا بإثبات حدوث الجسم ولا يمكن إثبات حدوثه إلا بإثبات حدوث ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة ألجأهم ذلك إلى أن ينفوا عن الله صفاته وأفعاله القائمة به المتعلقة بمشيئته وقدرته أو ينفوا بعض ذلك وظنوا أن الإسلام لا يقوم إلا بهذا النفي وأن الدهرية من
(2/302)
الفلاسفة وغيرهم لا يبطل قولهم إلا بهذا الطريق وأخطأوا في هذا وهذا
أما الفلاسفة الدهرية فإن هذه الطريقة زادتهم إغراء وأوجبت لهم حجة عجز هؤلاء عن دفعها إلا بالمكابرة التي لا تزيد الخصم إلا قوة وإغراء فقالوا لهم كيف يحدث الحادث بلا سبب حادث وكيف تكون الذات حالها وفعلها وجميع ما ينسب إليها واحدا من الأزل إلى الأبد والعالم يصدر عنها في وقت دون وقت من غير فعل يقوم به ولا سبب حدث
فكان ما جعلوه أصلا للدين وشرطا في معرفة الله تعالى منافيا للدين ومانعا من كمال معرفة الله وكان ما احتجوا به من الحجج العقلية هو في الحقيقة على نقيض مطلوبهم أدل فالحوادث لا تحدث إلا بشرط جعلوه مانعا من الحدوث وأما أمور الإسلام فإن هذا الأصل اضطرهم إلى نفي صفات الله تعالى لئلا تنتقض الحجة ومن لم ينف الصفات نفى الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته فلزمهم من عدم الإيمان ببعض ما جاء به الرسول ومن جحد بعض ما يستحقه الله تعالى من أسمائه وصفاته ما أوجب لهم من التناقض والارتياب ما تبين لأولي الألباب فلم يعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه
(2/303)
ولا الجهاد لعدو الله ورسوله حقه وقد قال تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا } الآية سورة الحجرات 15
هذا مع دعواهم أنهم أعظم علما وأيمانا وتحقيقا لأصول الدين وجهادا لأعدائه بالحجج من الصحابة وإن هم في ذلك إلا كبعض الملوك الذين لم يجاهدوا العدو بل أخذوا منهم بعض البلاد ولا عدلوا في المسلمين العدل الذي شرعه الله للعباد إذا ادعى أنه أمكن وأعدل من عمر بن الخطاب وأصحابه رضوان الله عليهم
ثم إنهم بسبب ذلك تفرقوا في أصول كثيرة من أصول دينهم كتفرقهم في كلام الله من القرآن وغيره فإنهم تفرقوا فيه شيعا شيعة قالت هو مخلوق وحقيقة قولهم لم يتكلم الله به كما كان قدماؤهم يقولون لكن المعتزلة صاروا يطلقون اللفظ بأن الله متكلم حقيقة ولكن مرادهم مراد من قال إن الله لم يتكلم ولا يتكلم كما ذكره أحمد أنهم تارة ينفون الكلام وتارة يقولون يتكلم بكلام مخلوق وهو معنى الأول
وهذا في الحقيقة تكذيب للرسل الذين إنما أخبروا الأمم بكلام الله الذي أنزله إليهم وجاءت الفلاسفة القائلون بقدم العالم فقالوا أيضا متكلم وكلامه ما يفيض من العقل الفعال على نفوس الأنبياء
(2/304)
وهذا قول من وافقهم من القرامطة الباطنية ونحوهم ممن يتظاهر بالإسلام ويبطن مذهب الصابئة والمجوس ونحو ذلك وهو قول طوائف من ملاحدة الصوفية كأصحاب وحدة الوجود ونحوهم الذين أخذوا دين الصابئة والفراعنة والدهرية فأخرجوه في قالب المكاشفات والولاية والتحقيق
والذين قالوا ليس هو مخلوق ظن فريق منهم أنه لا يقابل المخلوق إلا القديم اللازم للذات الذي ثبوته بدون مشيئة الرب وقدرته كثبوت الذات فقالوا ذلك
ثم طائفة رأت أن الحروف والأصوات يمتنع أن تكون كذلك فقالت كلامه هو مجرد معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر وأنه إن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة وان عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وان عبر عنه بالعربية كان قرآنا فلزمهم أن تكون معاني القرآن هي معاني التوراة والإنجيل وان يكون الأمر هو النهي وهو الخبر وان تكون هذه صفات له لا أنواعا له ونحو ذلك مما يعلم فساده بصريح العقل
وطائفة قالت بل هو حروف وأصوات قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته وقدرته كما قال الذين من قبلهم
واتفق الفريقان على أن تكليم الله لملائكته وتكليمه موسى وتكليمه لعباده يوم القيامة ومناداته لمن ناداه ونحو ذلك إنما هو خلق إدراك في
(2/305)
المستمع أدرك به ما لم يزل موجودا كما أن تجليه عند من ينكر مباينته لعباده وان يكشف لهم حجابا منفصلا عنهم ليس هو إلا خلق إدراك في أعينهم من غير أن يكون هناك حجاب منفصل عنهم يكشفه لهم
وطائفة ثالثة لما رأت شناعة كل من القولين قالت بل يتكلم بعد أن لم يكن يتكلم بصوت وحروف وكلامه حادث قائم بذاته متعلق بمشيئته وقدرته وأنكروا أن يقال لم يزل متكلما إذا شاء إذ ذلك يقتضي تسلسل الحوادث وتعاقبها وهذا هو الدليل الذي استدلوا به على حدوث أجسام العالم
فليتدبر المؤمن العالم كيف فرق هذا الكلام المحدث المبتدع بين الأمة وألقى بينها العداوة والبغضاء مع أن كل طائفة تحتاج أن تضاهي من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض إذ مع كل طائفة من الحق ما تنكره الأخرى فالذين قالوا بخلق القرآن إنما ألقاهم في ذلك أنهم رأوا أنه لا يمكن أن يكون الكلام لازما للذات لزوم العلم بل الكلام يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته فقالوا يكون من صفات الفعل والمتكلم من فعل الكلام ثم لم يثبته فعلا إلا منفصلا
(2/306)
عنه لنفيهم أن يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته وصار من قابلهم يريد أن يثبت كلاما لازما للمتكلم لا يتعلق بمشيئته وقدرته إما معنى وإما حروفا ويثبت أن المتكلم لا يقدر على التكلم ولا يمكنه أن يقول غير ما قال ويسلب المتكلم قدرته على القول والكلام وتكلمه باختياره ومشيئته فإذا قال له الأول المتكلم من فعل الكلام قال هو المتكلم من قام به الكلام ولكن ذاك يقول لا يقوم الكلام بفاعله وهذا يقول لا يختار المتكلم أن يتكلم
فأخذ هذا بعض صفة الكلام وهذا بعضها والمتكلم المعروف من قام به الكلام ومن يتكلم بمشيئته وقدرته ولهذا يوجد كثيرا من المتأخرين المصنفين في المقالات والكلام يذكرون في أصل عظيم من أصول الإسلام الأقوال التي يعرفونها
وأما القول المأثور عن السلف والأئمة الذي يجمع الصحيح من كل قول فلا يعرفونه ولا يعرفون قائله فالشهرستاني صنف الملل والنحل وذكر فيها من مقالات الأمم ما شاء الله والقول المعروف عن السلف والأئمة لم يعرفه ولم يذكره والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني وأبو الحسين البصري ومحمد ابن الهيثم ونحو هؤلاء من أعيان الفضلاء المصنفين تجد أحدهم يذكر في مسألة القرآن أو نحوها عدة أقوال للأمة ويختار واحدا منها والقول الثابت عن السلف والأئمة كالإمام احمد ونحوه من الأئمة لا يذكره الواحد منهم مع أن
(2/307)
عامة المنتسبين إلى السنة من جميع الطوائف يقولون انهم متبعون للأئمة كمالك والشافعي واحمد وابن المبارك وحماد بن زيد وغيرهم لا سيما الإمام احمد فإنه بسبب المحنة المشهورة من الجهمية له ولغيره اظهر من السنة ورد من البدعة ما صار به إماما لمن بعده وقوله هو قول سائر الأئمة فعامة المنتسبين إلى السنة يدعون متابعته والإقتداء به سواء كانوا موافقين له في الفروع أو لا فإن أقوال الأئمة في أصول الدين متفقة ولهذا كلما اشتهر الرجل بالانتساب إلى السنة كانت موافقته لأحمد أشد ولما كان الأشعري ونحوه اقرب إلى السنة من طوائف من أهل الكلام كان انتسابه إلى احمد اكثر من غيره كما هو معروف في كتبه
وقد رأيت من اتباع الأئمة آبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد وغيرهم من يقول أقوالا ويكفر من خالفها وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها كما أنهم كثيرا ما ينكرون أقوالا ويكفرون من يقولها وتكون منصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة ما وقع من الإشتباه والاضطراب في هذا الباب ولئن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس حتى صار الحق الذي جاء به
(2/308)
الرسول وهو المطابق للمعقول لا يخطر ببالهم ولا يتصورونه وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس والمعنى المفهوم يعبر عنه بعبارات فيها إجمال وإبهام يقع بسببها نزاع وخصام والله تعالى يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } سورة الحشر 10
وكان هذا من تلك البدع الكلامية كبدع الذين جعلوا اصل الدين مبنيا على كلامهم في الأجسام والأعراض ولهذا كثر ذم السلف والأئمة لهؤلاء وإذا رأيت الرجل قد صنف كتابا في أصول الدين ورد فيه من أقوال أهل الباطل ما شاء الله ونصر فيه من أقوال أهل الحق ما شاء الله ومن عادته انه يستوعب الأقوال في المسألة فيبطلها إلا واحدا ورأيته في مسألة كلام الرب تعالى وأفعاله أو نحو ذلك ترك من الأقوال ما هو معروف عن السلف والأئمة تبين أن هذا القول لم يكن يعرفه ليقبله أو يرده إما لأنه لم يخطر بباله أو لم يعرف قائلا به أو لأنه خطر له فدفعه بشبهة من الشبهات وكثيرا ما يكون الحق مقسوما بين المتنازعين في هذا الباب فيكون في قول هذا حق وباطل وفي قول هذا حق وباطل والحق بعضه مع هذا وبعضه مع هذا وهو مع ثالث غيرها والعصمة إنما هي ثابتة لمجموع الأمة ليست ثابتة لطائفة بعينها
(2/309)
فإذا رأيت من صنف في الكلام كصاحب الإرشاد والمعتمد ومن اتبعهما ممن لم يذكروا في ذلك إلا أربعة أقوال وما يتعلق بها علم أنه لم يبلغهم القول الخامس ولا السادس فضلا عن السابع فالذين يسلكون طريقة ابن كلاب كصاحب الإرشاد ونحوه يذكرون قول المعتزلة وقول الكرامية ويبطلونهما ثم لا يذكرون مع ذلك إلا ما يقولون فيه وذهبت الحشوية المنتمون إلى الظاهر إلى أن كلام الله تعالى قديم أزلي ثم زعموا أنه حروف وأصوات وقطعوا بأن المسموع من أصوات القراء ونغماتهم عين كلام الله تعالى وأطلق الرعاع منهم القول بأن المسموع صوت الله تعالى الله عن قولهم وهذا قياس جهالاتهم ثم قالوا إذا كتب كلام الله بجسم من الأجسام رقوما ورسوما وأسطرا وكلما فهي بأعيانها كلام الله القديم فقد كان إذ كان جسما حادثا ثم انقلب قديما ثم قضوا بأن المرئي من الأسطر هو الكلام القديم الذي هو
(2/310)
حرف وأصوات وأصلهم أن الأصوات على تقطيعها وتواليها كانت ثابتة في الأزل قائمة بذات الباري تعالى وقواعد مذهبهم مبينة على دفع الضرورات
فلم يذكر أبو المعالي الا هذا القول مع قول المعتزلة والكلابية والكرامية
ومعلوم أن هذا القول لا يقوله عاقل يتصور ما يقول ولا نعرف هذا القول عن معروف بالعلم من المسلمين ولا رأينا هذا في شيء من كتب المسلمين ولا سمعناه من أحد منهم فما سمعنا من أحد ولا رأينا في كتاب أحد أن المداد الحادث انقلب قديما ولا أن المداد الذي يكتب به القرآن قديم بل رأينا عامة المصنفين من أصحاب أحمد وغيرهم ينكرون هذا القول وينسبون ناقلة عن بعضهم الى الكذب
وأبو المعالي وأمثاله أجل من أن يتعمد الكذب لكن القول المحكي قد يسمع من قائل لم يضبطه وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم بل يذكر كلاما مجملا يتناول النقيضين ولا يميز فيه بين لوازم أحدهما ولوازم الآخر فيحكيه الحاكي مفصلا ولا يجمله إجمال القائل ثم اذا فصله يذكر لوازم أحدهما دون ما يعارضها ويناقضها مع اشتمال الكلام على النوعين المتناقضين أو احتماله لهما أيضا وقد يحكيه الحاكي باللوازم التي لم يلتزمها القائل نفسه وما كل من قال قولا التزم لوازمه بل عامة الخلق لا يلتزمون لوازم أقوالهم فالحاكي يجعل ما
(2/311)
يظنه من لوازم قوله هو أيضا من قوله لا سيما اذا لم ينف القائل ما يظنه الحاكي لازما فإنه يجعله قولا له بطريق الأولى
ولا ريب أن من الناس من يقول هذا القرآن كلام الله وما بين اللوحين كلام الله ويقول إن كلام الله محفوظ في القلوب متلو بالألسن مسموع بالآذان مكتوب في المصاحف وهذا الإطلاق حق متفق عليه بين المسلمين ثم من هؤلاء من إذا سئل عن المداد وصوت العبد أقديم هو أنكر ذلك وربما سكت عن ذلك وكره الكلام فيه بنفي أو اثبات خشية أن يجره ذلك الى بدعة مع أنه لو سمع من يقول إن المداد قديم ألزمه العقوبة به والعذاب الأليم
وأما صوت العبد فقد تكلم فيه طائفة من المنتسبين الى الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما فمنهم من قال إن الصوت المسموع قديم ومنهم من يقول يسمع شيئين الصوت القديم والمحدث وهذا خطأ في العقل الصريح وهو بدعة وقول قبيح
والإمام أحمد وجماهير أصحابه منكرون لما هو أخف من ذلك فإن أحمد وأئمة أصحابه قد أنكروا على من قال اللفظ بالقرآن غير مخلوق فكيف بمن قال اللفظ به قديم فكيف بمن قال
(2/312)
الصوت غير مخلوق فكيف بمن قال الصوت قديم وقد بدعوا هؤلاء وأمروا بهجرهم وقد صنف المروذي في ذلك مصنفا كبيرا ذكره الخلال في كتاب السنة كما جهموا وبدعوا من قال اللفظ به مخلوق أيضا كما بين في موضعه
إذ المقصود هنا أن من أكابر الفضلاء من لا يعرف أقوال الأئمة في أكابر المسائل لا أقوال أهل الحق ولا أهل الباطل بل لم يعرف الا بعض الأقوال المبتدعة في الإسلام ومن المعلوم أن السلف والأئمة كان لهم قول ليس هو قول المعتزلة ولا الكلابية ولا الكرامية ولا هو قول المسلمين بالحشوية فأين ذلك القول أكان أفضل الأمة وأعلمها وخير قرونها لا يعلمون في هذا حقا ولا باطلا
ومعلوم أن كل قول من هذه الأقوال فاسد من وجوه وقد يكون بعضها أفسد من بعض فقول المعتزلة الذين قالوا إن كلام الله مخلوق وإن كان فاسدا من وجوه فقول الكلابية فاسد من وجوه وقول الكرامية فاسد من وجوه
والإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا هذه الأقوال كلها أنكروا قول الكلابية والكرامية بالنصوص الثابتة عنهم وإنكارهم لقول المعتزلة متواتر مستفيض عنهم وأنكروا على من جعل ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة
(2/313)
فكيف بالقول المنسوب الى هؤلاء الحشوية ولهذا لما كان أبو حامد مستمدا من كلام أبي المعالي وأمثاله وأراد الرد على الفلاسفة في التهافت ذكر أنه يقابلهم بكلام المعتزلة تارة وبكلام الكرامية تارة وبكلام الواقفة تارة كما يكلمهم بكلام الأشعرية وصار في البحث معهم الى مواقف غايته فيها بيان تناقضهم وإذا ألزموه تناقضه فر الى الوقف
ومن المعلوم أنه لا بد في كل مسألة دائرة بين النفي والإثبات من حق ثابت في نفس الأمر أو تفصيل ومن المعلوم أن كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام لا بد أن يناقضه حق معلوم من دين الإسلام موافق لصريح العقل فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بمحالات العقول وإنما يخبرون بمجازات العقول وما يعلم بصريح العقل انتفاؤه لا يجوز أن يخبر به الرسل بل تخبر بما لا يعلمه العقل وبما يعجز العقل عن معرفته
ومن المعلوم أن السلف والأئمة لهم قول خارج عن قول المعتزلة والكرامية والأشعرية والواقفة ومن علم ذلك القول فلا بد أن يحكيه ويناظرهم به كما يناظرهم بقول المعتزلة وغيرهم لكن من لم يكن عارفا بآثار السلف وحقائق أقوالهم وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة
(2/314)
وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول الا بمبلغ علمه ولا يكلف الله نفسا الا وسعها
ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العملية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد في طلب العمل بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه تحقيقا لقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } سورة البقرة 286
والشهرستاني لما كان أعلم بالمقالات من إخوانه ذكر في مسألة الكلام قولا سادسا وظن أنه قول السلف فقال في نهاية الإقدام بعد أن ذكر قول الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية والكرامية وأن المعتزلة لما قالت أجمع المسلمون قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منظومة وكلمات مجموعة وهي مقروءة مسموعة على التحقيق لها
(2/315)
مفتتح ومختتم وأنه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم دالة على صدقة وأن الأشعرية تفرق بين اللفظ والمعنى وتثبت معنى هو مدلول اللفظ ثم قال قال السلف والحنابلة قد تقرر الاتفاق على أن ما بين الدفتين كلام الله وأن ما نقرؤه ونكتبه ونسمعه عين كلام الله فيجب أن تكون تلك الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله ولما تقرر الاتفاق على أن كلام الله غير مخلوق فيجب أن تكون تلك الكلمات أزلية غير مخلوقة
ولقد كان الأمر في أول الزمان على قولين أحدهما القدم والثاني الحدوث والقولان مقصوران على الكلمات المكتوبة والآيات المقروءة بالألسن فصار الآن قول ثالث وهو حدوث الحروف والكلمات وقدم الكلام والأمر الذي تدل عليه العبارات وقدحتم قدحا ليس منها وهو خلاف القولين فكانت السلف على اثبات القدم والأزلية لهذه
(2/316)
الكلمات دون التعرض لمعنى وراءها فأبدع الأشعري قولا وقضى بحدوث الحروف وهو خرق الإجماع وحكم بأن ما نقرأه كلام الله مجازا لا حقيقة وهو عين الإبتداع فهلا قال ورد السمع بأن ما نقرأه ونكتبه كلام الله دون أن يتعرض لكيفيته وحقيقته كما ورد السمع بإثبات كثير من الصفات من الوجه واليدين الى غير ذلك من الصفات الخبرية
قال قال السلف ولا يظن بنا أنا نثبت القدم للحروف والأصوات التي قامت بألسنتنا وصارت صفات لنا فإنا على قطع نعلم افتتاحها واختتامها وتعلقها بأكسابنا وأفعالنا وقد بذل السلف أرواحهم وصبروا على أنواع البلايا والمحن من معتزلة الزمان دون أن يقولوا القرآن مخلوق ولم يكن ذلك على حروف وأصوات هي افعالنا وأكسابنا بل هم عرفوا يقينا أن لله تعالى قولا
(2/317)
وكلاما وأمرا وأن أمره غير خلقه بل هو أزلي قديم بقدمه
كما ورد القرآن بذلك في قوله تعالى { ألا له الخلق والأمر } سورة الأعراف 54 وقوله تعالى { لله الأمر من قبل ومن بعد } سورة الروم 4 وقوله تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } سورة النحل 40 فالكائنات كلها إنما تتكون بقوله وأمره وقوله تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس 82 وقوله تعالى { وإذ قال ربك } سورة البقرة 30 { وإذ قلنا للملائكة } سورة البقرة 34 { قال الله } سورة المائدة 115 فالقول قد ورد في السمع مضافا الى الله اخص من إضافة الخلق فإن المخلوق لا ينسب الى الله تعالى الا من جهة واحدة وهي الخلق والإبداع والأمر ينسب اليه لا على تلك النسبة والا فيرتفع الفرق بين الخلق والأمر والخلقيات والأمريات
قالوا ومن جهة العقل العاقل يجد فرقا ضروريا بين قال وفعل وبين أمر وخلق ولو كان القول فعلا كسائر الأفعال بطل الفرق الضروري فثبت أن القول غير الفعل وهو قبل
(2/318)
الفعل وقبليته قبلية أزلية إذ لو كان له أول لكان فعلا سبقه قول آخر ويتسلسل
قال وحققوا زيادة تحقيق فقالوا قد ورد في التنزيل اظهر مما ذكرناه من الأمر وهو التعرض لإثبات كلمات الله حيث قال تعالى { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } سورة الأنعام 115 وقال { ولولا كلمة سبقت من ربك } سورة يونس 19 وقال تعالى { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } سورة الكهف 109 وقال تعالى { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } سورة لقمان 27 وقال تعالى { ولكن حق القول مني } سورة السجدة 13 وقال { ولكن حقت كلمة العذاب } سورة الزمر 71 فتارة يجيء الكلام بلفظ الأمر وتثبت له الوحدة الخالقية التي لا كثرة فيها { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } سورة القمر 50 وتارة يجيء بلفظ الكلمات وتثبت لها الكثرة البالغ التي لا وحدة فيها ولا نهاية لها { ما نفدت كلمات الله } فله تعالى إذا أمر واحد وكلمات كثيرة وذلك لا يتصور الا بحروف
(2/319)
فعن هذا قلنا أمره قديم وكلماته أزلية والكلمات مظاهر الأمر والروحانيات مظاهر الكلمات والأجسام مظاهر الروحانيات والإبداع والخلق إنما يبتدي من الأرواح والأجسام وأما الكلمات والحروف والأمر فأزلية قديمة وكما أن أمره لا يشبه أمرنا فكلماته وحروف كلماته لا تشبه كلامنا وهي حروف قدسية علوية وكما أن الحروف بسائط الكلمات والكلمات اسباب الروحانيات والروحانيات مدبرات الجسمانيات وكل الكون قائم بكلمات الله محفوظ بأمر الله
قال ولا يغفلن عاقل عن مذهب السلف وظهور القول في حدوث الحروف فإن له شأنا وهم يسلمون الفرق بين القراءة والمقروء والكتابة والمكتوب ويحكمون بأن القراءة التي هي
(2/320)
صفتنا وفعلنا غير المقروء الذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا غير أن المقروء بالقراءة قصص وأخبار واحكام وأمر وليس المقروء من قصة آدم وابليس هو بعينه المقروء من قصة موسى وفرعون وليست أحكام الشرائع الماضية هي بعينها أحكام الشرائع الخاتمة فلا بد إذا من كلمات تصدر عن كلمة وترد على كلمة ولا بد من حروف تتركب منها الكلمات وتلك الحروف لا تشبه حروفنا وتلك الكلمات لا تشبه كلامنا
قلت فهذا القول الذي ذكره الشهرستاني وحكاه عن السلف والحنابلة ليس هو من الأقوال التي ذكرها صاحب الإرشاد واتباعه فإن أولئك لم يحكوا الا قول من يجعل القديم عين صوت العبد والمداد وهذا القول لا يعرف به قائل له قول أو مصنف في الإسلام وأما القول الذي ذكره الشهرستاني فقال به طائفة كبيرة وهو أحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم من الطوائف وهو المذكور عن أبي الحسن بن سالم وأصحابه السالمية وقد قاله طائفة
(2/321)
غير هؤلاء كما ذكر ذلك الأشعري في كتاب المقالات لما ذكر كلام ابن كلاب فقال قال ابن كلاب إن الله لم يزل متكلما وإن كلامه صفة له قائمة به وإنه قديم بكلامه وإن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به والقدرة قائمة به وإن الكلام ليس بحروف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض وإنه معنى واحد قائم بالله
قال وقال بعض من أنكر خلق القرآن إن القرآن يسمع ويكتب وإنه متغاير غير مخلوق وكذلك العلم غير القدرة والقدرة غير العلم وان الله لا يجوز أن يكون غير صفاته وصفاته متغايره وهو غير متغاير
قال وزعم هؤلاء أن الكلام غير محدث وأن الله لم
(2/322)
يزل متكلما وأنه مع ذلك حروف وأصوات وأن هذه الحروف الكثيرة لم يزل الله متكلما بها
قلت فبعض هذا القول الذي ذكره الشهرستاني عن السلف منقول بعينه عن السلف مثل إنكارهم على من زعم أن الله خلق الحروف وعلى من زعم أن الله لا يتكلم بصوت ومثل تفريقهم بين صوت القارىء وبين الصوت الذي يسمع من الله ونحو ذلك فهذا كله موجود عن السلف والأئمة وبعض ما ذكره من هذا القول ليس هو معروفا عن السلف والأئمة مثل إثبات القدم والأزلية لعين اللفظ المؤلف المعين ولكن القول الذي أطبقوا عليه هو أن كلام الله غير مخلوق ولكن الناس تنازعوا في مرادهم بذلك والنزاع في ذلك موجود في عامة الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم كما هو مبسوط في غير هذا الموضع
والنزاع في ذلك مبني على هذا الأصل وهو كون قوله مع أنه غير مخلوق ومع أنه قائم به ومع أنه لم يزل متكلما هل يتعلق بقدرته ومشيئته أم لا فهذا القول السابع لم يذكره الشهرستاني ونحوه إذ الأقوال المعروفة للناس في مسألة الكلام سبعة أقوال
(2/323)
والمقصود هنا أن أبا عبد الله الرازي في أكثر كتبه لم يبن مسألة القرآن على الطريقة المعروفة للأشعري وهو أنه يمتنع أن يحدث في نفسه كلام لكونه ليس محلا للحوادث وذلك لأنه قد ضعف ها الأصل فلم يمكنه أن يبني عليه بل أثبت ذلك بإجماع مركب فقرر أن الكلام له معنى غير العلم والإرادة خلافا للمعتزلة ونحوهم وإذا كان كذلك فكل من قال بذلك قال إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله تعالى فلو لم يقل بذلك لكان خلاف الإجماع فهذا هو العمدة التي اعتمد عليها في نهاية العقول وهو ضعيف فإن الأقوال في المسألة متعددة غير قول المعتزلة والكلابية
وكان من الممكن أن يقال له إن ثبت أنه لا يقوم بالله ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن أن يجعل كلام الله قديما بالطريقة المعروفة فإنه يمتنع أن يحدثه قائما في نفسه أو في محل آخر فإذا امتنع حدوثه في نفسه تعين قدمه وإن لم يثبت ذلك بل أمكن أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن هنا قول الكرامية وقول أهل الحديث الذين يقولون إنه قول السلف والأئمة فلم يتعين قول الكلابية فذكر في نهاية العقول ما جرت عادته وغيره بذكره وهو أن معنى الكلام إما أن يكون هو الإرادة والعلم وإما أن يكون الطلب مغايرا للإرادة والحكم الذهني مغايرا للعلم والأول باطل لأن
(2/324)
الإنسان في الشاهد قد يخبر بما لا يعلمه ولا يعتقده وقد يأمر بأمر لا يريده كالسيد إذا كان قصده امتحان العبد
قال وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب
قال فثبت أن أمر الله ونهيه وخبره صفات حقيقية قائمة بذاته مغايرة لذاته وعلمه وأن الألفاظ الواردة في الكتب الإلهية دالة عليها وإذا ثبت ذلك وجب القطع بقدمها لأن الأمة على قولين في هذه المسألة منهم من نفى كون الله موصوفا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى ومنهم من اثبت ذلك وكل من أثبته موصوفا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة فلو أثبتنا كونه تعالى موصوفا بهذه الصفات ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وهو باطل
(2/325)
وأورد على نفسه أسئلة منها قول القائل لم قلتم إن تلك المعاني قديمة قولكم كل من أثبت تلك المعاني أثبتها قديمة قلنا القول في إثباتها مسألة والقول في قدمها مسألة أخرى فلو لزم من ثبوت إحدى المسألتين ثبوت الأخرى لزم من إثبات كونه تعالى عالما بعلم قديم إثبات كونه تعالى متكلما بكلام قديم وإن سلمنا أن هذا النوع من الإجماع يقتضي قدم كلام الله لكنه معارض بنوع آخر من الإجماع وهو أن أحدا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقا للإجماع
وذكر في جواب ذلك قوله لو لزم من إثبات هذه الصفة إثبات قدمها لأن كل من قال بالأول قال بالثاني لزم من القول بإثبات العلم القديم إثبات الكلام القديم لأن كل من قال بالأول قال بالثاني قلنا الفرق بين الموضعين مذكور في المحصول
(2/326)
فإن المعتزلة يساعدوننا على الفرق بين الموضعين فلا نطول قوله إثبات قدم كلام الله بهذه الطريق على خلاف الإجماع قلنا قد بينا في كتاب المحصول أن أحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقا للإجماع
قلت المقصود أن يعرف أنه عدل عن الطريقة المشهورة وهو أنه لو أحدثه في نفسه لكان محلا للحوادث مع أنها عمدة ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهما لضعف هذا الأصل عنده ولو أعتقد صحته لكان ذلك كافيا مغنيا له عن هذه الطريقة التي أحدثها
وليس المقصود هنا الكلام في مسألة القرآن فإن هذا مبسوط في مواضعه وإنما الغرض التنبيه على اعتراف الفضلاء بأن هذا الأصل ضعيف وأما ضعف ما اعتمده في مسألة القرآن فمبين في موضع آخر فإن إثبات المقدمة الأولى فيها كلام ليس هذا موضعه إذ كانت العمدة فيه على أمر الممتحن وخبر الكاذب والمنازع يقول هذا اظهار للأمر والخبر والا فهو في نفس الأمر لم يدل الخبر هنا على معنى في النفس ولهذا يقول الله تعالى عن الكاذبين إنهم { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم }
(2/327)
سورة الفتح 11 فهم ينازعون في أن الكاذب قام بنفسه حكم أو دل لفظه على معنى في نفسه بل أظهر الدلالة على معنى في نفسه كذبا
وأما المقدمة الثانية فضعيفة وذلك أنه يقال هب أن هذا ثبت لكن لم لا يجوز أن يتكلم بحروف ومعان قائمة في ذاته حادثة وهذا القول قول طوائف من المسلمين فليس هو خلاف الإجماع فإن أبطل هذا بقوله ليس هو محلا للحوادث قيل فهذا إن صح فهو دليل كاف كما سلكه من سلكه من الناس وإن لم يصح بطلت الدلالة فتبين أنه لا بد في إثبات قدمه من هذه المقدمة
وأما قوله كل من أثبت اتصاف الله بهذه المعاني فإنه يقول بقدمها فليس الأمر كذلك بل كثير من أهل الحديث وأهل الكلام يثبتونها ولا يقولون بقدمها
وأما الفرق الذي ذكره في المحصول فهو أن الأمة إذا اختلفت في مسألتين على قولين فإن كان مأخذهما واحدا كتنازعهم في الرد وذوي الأرحام لم يكن لمن بعدهم إحداث موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة وإن كان المأخذ مختلفا كتنازعهم في الشفعة وميراث ذوي الأرحام جاز موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة فظن أن قدم
(2/328)
الكلام مع إثبات هذه المعاني من هذا الباب وليس الأمر كذلك فإن مأخذ إثبات هذه المعاني ليس هو مأخذ القدم فإن القدم مبني على مسألة الصفات وعلى أنه هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته وأما إثبات هذه المعاني فمسألة أخرى
والناس لهم في مسمى الكلام أربعة أقوال أحدها أنه اللفظ الدال على المعنى والثاني أنه المعنى المدلول عليه باللفظ والثالث أنه مقول بالإشتراك على كل منهما والرابع أنه اسم لمجموعهما وإن كان مع القرينة يراد به أحدهما وهذا قول الأئمة وجمهور الناس وحينئذ فمن أثبت هذه المعاني وقال إن اسم الكلام يتناولهما بالعموم أو الاشتراك يمكنه اثبات قيام اللفظ والمعنى جميعا بالذات
ثم من جوز تعلق ذلك بمشيئته وقدرته يمكنه أن لا يقول بالقدم أو لا يقول بالقدم في الكلام المعين وإن قال بالقدم في نوع الكلام ومن لم يجوز ذلك فمنهم طائفة يقولون بقدم الحروف وطائفة تقول بقدم المعاني دون الحروف وما به يستدل أولئك على حدوث الحروف كالتعاقب والمحل يعارضونهم بمثله في المعاني فإنها بالنسبة إلينا متعاقبة ولها محل لا يليق بالله تعالى فإن
(2/329)
جاز أن تجعل فينا متعددة مع اتحادها في حق الله تعالى وأن محلها من ليس كمحلها منا أمكن أن يقال في الحروف كذلك إنها وإن تعددت فينا فهي متحدة هناك وليس المحل كالمحل وإذا قيل هي مرتبة فينا قيل فكذلك المعاني مرتبة فينا فترتيب أحدهما كترتيب الآخر وإذا قيل دعوى اتحادهما مخالف لصريح العقل قيل وكذلك دعوى اتحاد المعاني فكلام هؤلاء من جنس كلام هؤلاء
والمقصود هنا الكلام على هذا الأصل وهي مسألة الصفات الاختيارية كالأفعال ونحوها مما يقوم به ويتعلق بمشيئته وقدرته
وأما قول القائل الجمهور على خلاف ذلك وإنما الخلاف فيه مع الكرامية فهذا قول من ظن أن طوائف المسلمين منحصرة في المعتزلة والكلابية والكرامية بل أكثر طوائف المسلمين يجوزون ذلك من أهل الكلام وأهل الحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم وأما أئمة أهل الحديث والسنة فكالمجمعين على ذلك فكلام من يعرف كلامه في
(2/330)
ذلك صريح فيه والباقون معظمون لمن قال ذلك شاهدون له بأنه إمام في السنة والحديث لا ينسبونه الى بدعة
وأما متأخرو أهل الحديث فلهم فيها قولان ولأصحاب أحمد قولان ولأصحاب الشافعي قولان ولأصحاب مالك قولان ولأصحاب أبي حنيفة قولان وللصوفية قولان وجمهور أهل التفسير على الإثبات
وأما أهل الكلام فقد ذكر الأشعري هذا في كتاب المقالات عن غير واحد من أئمة الكلام غير الكرامية ولم يذكر للكرامية شيئا انفردوا به الا قولهم في الإيمان بل ذكر عن هشام بن الحكم وغيره من الشيعة أنهم يصفونه بالحركة والسكون ونحو ذلك وأن عامة القدماء من الشيعة كانوا يقولون بالتجسيم أعظم من قول الكرامية وأن المتأخرين منهم هم الذين قالوا في التوحيد بقول المعتزلة بل ذكر عنهم تجدد الصفات من العلم والسمع والبصر والناس قد حكوا عن هشام والجهم أنهما يقولان بحدوث العلم وهذا رأس المعطلة وهذا رأس الشيعة لكن جهم كان يقول بحدوث العلم في غير ذاته وهشام يقول بحدوثه في ذاته وحكى الأشعري تجدد العلم له عن جمهور
(2/331)
الإمامية وحكى عنهم إثبات الحركة له وأن كلهم يقولون بذلك إلا شرذمة منهم وذكر عن هشام بن الحكم وهشام بن الجواليقي وأبي مالك الحضرمي وعلي بن ميثم وغيرهم أنهم يقولون غرادته حركة وهل يقال إنها غيره أم لا على قولين لهم وذكر عن طائفة أنهم يقولون يعلم الأشياء قبل كونها الا أعمال العباد فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها وهذا قول غلاة القدرية كمعبد الجهني وأمثاله وهو أحد قولي عمرو بن عبيد وذكر عن زهير الأثري أنه كان يقول إن الله ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال
(2/332)
تعالى { وجاء ربك والملك صفا صفا } سورة الفجر 22 ويزعم أن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق
قال وكان أبو معاذ التومني يوافق زهيرا في أكثر قوله ويخالفه في القرآن ويزعم أن كلام الله حدث غير محدث ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان وكذلك قوله في محبته وإرادته أيضا
قال زهير كلام الله حدث وليس بمحدث وفعل وليس بمفعول وامتنع أن يزعم أنه خلق ويقول ليس بخلق ولا مخلوق وإنه قائم بالله ومحال أن يتكلم الله بكلام قائم بغيره كما يستحيل أن يتحرك بحركة قائمة بغيره وكذلك يقول في إرادة الله ومحبته وبغضه إن ذلك أجمع قائم بالله
قال الأشعري وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول إن الله لم يزل متكلما بمعنى أنه يزل قادرا على الكلام ويقول إن كلام الله محدث غير مخلوق قال وهذا قول داود الأصبهاني قال وكل القائلين بأن القرآن غير مخلوق كنحو عبد الله بن كلاب
(2/333)
ومن قال إنه محدث كنحو زهير ومن قال إنه حدث كنحو أبي معاذ التومني يقولون إن القرآن ليس بجسم ولا عرض
وأما الحجة التي احتج بها الرازي للنفاة فهي أيضا ضعيفة من وجوه
احدها أن المقدمة التي اعتمد عليها فيها قوله إن الخالي عن الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص
فيقال معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل كما لا يمكن وجودها في الأزل فإن ما كان وجوده مشروطا بحادث سابق له امتنع إمكان وجوده قبل وجود شرطه وعلى هذا فالخلو عن هذه في الأزل لا يكون خلوا عما يمكن الاتصاف به والخالي عما لا يمكن اتصافه به ليس بناقص
الوجه الثاني أن يقال هو لم يثبت امتناع ما ذكره من النقص بدليل عقلي ولا بنص كتاب ولا سنة بل إنما أثبته بما ادعاه من الإجماع وهذه طريقته وطريقة أبي المعالي قبله ومن وافقهم يقولون إن امتناع النقص على الله تعالى إنما علم بالإجماع لا بالنص ولا بالعقل وإذا كان كذلك فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع فكيف يحتج بالإجماع في مسائل النزاع
(2/334)
فإن قال هؤلاء وافقونا على امتناع النقص عليه وإنما نازعونا في كون ذلك نقصا
قيل له إما أن يكونوا وافقوا على إطلاق اللفظ وإما أن يكونوا وافقوا على معانيه
فإن وافقوا على إطلاق القول بأنه سبحانه منزه عن النقص وقالوا ليس هذا من النقص لم يكن مورد النزاع داخلا فيما عنوه بلفظ النقص ومعلوم أن الإجماع حينئذ لا يكون حاصلا على المعنى المتنازع فيه ولكن على لفظ لم يدخل فيه هذا المعنى عند بعض أهل الإجماع ومثل هذا لا يكون حجة في المعنى ولكن غايته إذا قام الدليل على أن هذا يسمى في اللغة نقصا أن يكونوا لم يعبروا باللفظ اللغوي وهذا بتقدير أن لا يكون له مساغ في اللغة إنما فيه خطأ لغوي فكيف إذا كانت هذه المقدمات غير مسلمة لهم في اللغة أيضا ومثل هذا ليس بحجة على المعنى المتنازع فيه وإنما يكون حجة لفظية لو صحت مقدماته فلا يحصل بها المقصود
وإن كانوا وافقوا على نفي المعاني التي يعبر عنها بلفظ النقص فمعلوم أن المعنى المتنازع فيه لم يوافقوهم عليه فتبين أن مورد النزاع لا إجماع على نفيه قطعا فلا يجوز الاحتجاج على نفيه بالإجماع
(2/335)
الوجه الثالث أن يقال إن قول القائل إن الأمة اجتمعت على تنزه الله تعالى عن النقص وقوله اجتمعت على تنزيه الله تعالى عن العيب والآفة ونحو ذلك وهذ القدر ليس بمنقول اللفظ عن كل واحد من الأمة لكن نحن نعلم أن كل مسلم فهو ينزه الله تعالى عن النقص والعيب بل العقلاء كلهم متفقون على ذلك فإنه ما من أحد ممن يعظم الصانع سبحانه وتعالى وصف الله بصفة وهو يعتقد أنها آفة وعيب ونقص في حقه وإن كان بعض الملحدين يصفه بما يعتقده هو نقصا وعيبا فهذا من جنس نفاة الصانع تعالى ولهذا كان نفاة الصفات إنما نفوها وهم يعتقدون أن إثباتها يقتضي النقص كالحدوث والإمكان ومشابهة الأحياء ومثبوتها إنما أثبتوها لاعتقادهم أن إثباتها يوجب الكمال وعدمها يستلزم النقص والعدم ومشابهة الجمادات وكذلك مثبتة القدر ونفاته بل بعض نفاة النبوة زعموا أنهم نفوها تعظيما لله أن يكون رسوله من البشر وأهل الشرك أشركوا تعظيما لله أن يعبد بلا واسطة تكون بينه وبين خلقه فإذا كان كذلك فمن المعلوم
(2/336)
أن الإنسان لو احتج بإجماع المسلمين على نفي النقص والعيب عن الله تعالى على من يثبت الصفات مدعيا أن إثباتها نقص وعيب أو بالعكس لقال له المثبتة نحن لم نوافقك على نفي هذا المعنى الذي سميته أنت نقصا وعيبا فلا تحتج علينا بالموافقة على لفظ لم نوافقك على معناه وأمكنهم حينئذ أن يقولوا نحن ننازعك في هذا المعنى وإن سميته أنت نقصا وعيبا فلا يكون حجة ثابتة الا أن يقوم دليل على انتفاء ذلك غير الاجماع المشروط بموافقتهم
الوجه الرابع أن يقال له قولك إحماع الأمة على أن صفاته كلها صفات كمال إن عنيت بذلك صفاته كلها اللازمة له لم يكن في هذا حجة لك وإن عنيت ما يحدث بقدرته ومشيئته لم يكن هذا إجماعا فإنك أنت وغيرك من أهل الكلام تقولون إن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفا فكونه خالقا ومبدعا وعادلا ومحسنا ونحو ذلك عندك أمور حادثة متجددة وليست صفة مدح ولا كمال وإن قلت المفعولات ليست قائمة به بخلاف ما يقوم به قيل لك هب أن الأمر كذلك لكن ما يحدث بقدرته ومشيئته إما أن يقال هو متصف به أو لا يقال هو متصف به فإن قيل ليس متصفا به لم يكن
(2/337)
متصفا لا بهذا ولا بهذا وإن قيل هو متصف به كان متصفا بهذا وهذا
ومعلوم أن المشهور عند أهل الكلام من عامة الطوائف أنهم يقسمون الصفات الى صفات فعلية وغير فعلية مع قول من يقول منهم إن الأفعال لا تقوم به فيجعلونه موصوفا بالأفعال كما يقولون إنه موصوف بأنه خالق ورازق وعندهم هذه أمور كائنة بعد أن لم تكن ولما قال لهم من يقول بتسلسل الحوادث من الفلاسفة وغيرهم الفعل إن كان صفة كمال لزم اتصافه به في الأزل وإن كان صفة نقص امتنع اتصافه به في الأبد أجابوا عن ذلك بأن الفعل ليس صفة كمال ولا نقص
الوجه الخامس
احتجاجه بقوله إن الأمة مجمعة على أن
(2/338)
صفاته لا تكون إلا صفة كمال أضعف من احتجاجه بإجماعهم على تنزيهه عن صفة النقص فإن كونه منزها عن صفات النقص مشهور في كلام الناس وأما كون صفاته لا تكون الا صفات كمال فليس هذا اللفظ مشهورا معروفا عن الأئمة ومن أطلق ذلك منهم فإنما يطلقه على سبيل الإجمال لما استقر في القلوب من أن الله موصوف بالكمال دون النقص وهذه الإطلاقات لا تدل على دق المسائل ولو قيل لمطلق هذا كونه يفعل أفعالا بنفسه يقدر عليها ويشاؤها هو صفة نقص أو كمال لكان إلى أن يدخل ذلك في صفات الكمال أو يقف عن الجواب أقرب منه إلى أن يجعل ذلك من صفات النقص
الوجه السادس أن هذا الإجماع حجة عليهم فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاما وفعلا يقوم به والآخر لا يمكنه ذلك بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور له ولا مراد أو يكون بائنا عنه لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل موجودين وكذلك إذا عرضنا على العقول
(2/339)
موجودين من المخلوقين أو موجودين مطلقا أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه والآخر لا يمكنه ذلك لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني كما أنا إذا عرضنا على العقل موجودين من المخلوقين أو موجودين مطلقا أحدهما حي عليم قدير والآخر لا حياة له ولا علم ولا قدرة لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والعلم والقدرة صفة كمال به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به التي بها يفعل المفعولات المباينة صفة كمال
والعقلاء متفقون على أن الأعيان المتحركة أو التي تقبل الحركة أكمل من الأعيان التي لا تقبل الحركة كما أنهم متفقون على أن الأعيان الموصوفة بالعلم والقدرة والسمع والبصر أو التي تقبل الاتصاف بذلك أكمل من الأعيان التي لا تتصف بذلك ولا تقبل الاتصاف به
وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات وكان السلف يحتجون بها ويثبتون أن من عبد إلها لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم فقد عبد ربا ناقصا معيبا مؤوفا ويثبتون أن هذه صفات كمال فالخالي عنها ناقص
(2/340)
ومن المعلوم أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه يثبت للمخلوق فالخالق أحق به وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه أحق بتنزيهه عنه
ولما أورد من أورد من الملاحدة نفاة الصفات بأن عدم هذه الصفات إنما يكون نقصا إذا كان المحل قابلا لها وإنما يكون عدم البصر عمى وعدم الكلام خرسا وعدم السمع صما إذا كان المحل قابلا لذلك كالحيوان فأما ما لايقبل ذلك كالجماد فإنه لا يوصف بهذا ولا بهذا أجيبوا عن هذا بأن مالا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا أعظم نقصا مما يقبلهما ويتصف بأحدهما وإن اتصف بالنقص فالجماد الذي لا يقبل الحياة والسمع والبصر والكلام أعظم نقصا من الحيوان الذي يقبل ذلك وإن كان أعمى أصم أبكم فمن نفى الصفات جعله كالأعمى الأصم الأبكم ومن قال إنه لا يقبل لا هذا ولا هذا ولا هذا جعله كالجماد الذي هو دون الحيوان الأعمى الأصم الأبكم
وهذا بعينه موجود في الأفعال فإن الحركة بالذات مستلزمة للحياة وملزومة لها بخلاف الحركة بالعرض كالحركة القسرية التابعة للقاسر والحركة الطبيعية التي تطلب بها العين العود الى مركزها لخروجها عن المركز فإن تلك حركة بالعرض والعقلاء متفقون على أن ما كان من
(2/341)
الأعيان قابلا للحركة فهو أشرف مما لا يقبلها وما كان قابلا للحركة بالذات فهو أعلى مما لا يقبلها الا بالعرض وما كان متحركا بنفسه كان أكمل من الموات الذي تحركه بغيره وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
فصل ونحن نتكلم على هذه الحجة حجة الكمال والنقصان كلاما مطلقا لا يختص بنظم الرازي إذ قد يقول القائل أنا أصوغها على غير الوجه الذي صاغها عليه الرازي فنقول
اعلم أن الطوائف المسلمين لهم في هذا الأصل بالذي تنبني عليه مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى اربعة أقوال تتفرع الى ستة وذلك أنهم متنازعون هل يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال على قولين مشهورين ومتنازعون في أن الأمور المتجددة الحادثة هل يمكن تسلسلها ودوامها في الماضي والمستقبل أو في المستقبل دون الماضي أو يجب تناهيها وانقطاعها في الماضي والمستقبل على ثلاثة أقوال معروفة فصارت الأقوال أربعة
طائفة تقول يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ثم هل يقال
(2/342)
ما زال كذلك أو يقال حدث هذا الجنس بعد أن لم يكن على قولين وطائفة تقول لا يقوم به شيء من ذلك ثم هل يمكن دوام ذلك وتسلسله خارجا عنه على قولين
وكل من الطائفتين تنازعوا هل يمكن وجود هذه المعاني بدون محل تقوم به على قولين
فالقائلون من أهل القبلة بجواز تسلسل الحوادث منهم من قال تقوم به ومنهم من قال تحدث لا في محل ومنهم من قال تحدث في محل غيره والمانعون لذلك من أهل القبلة منهم من قال تقوم به ولها ابتداء ومنهم من قال بل تحدث قائمة في غيره ولها ابتداء ومنهم من قال بل تحدث لا في محل ولها ابتداء
وقد ذكرنا حجة المانعين من قيام المقدورات والمرادات به وكلام من ناقضها ونحن نذكر حجة المانعين من التسلسل في الآثار وكلام بعض من عارضهم من أهل القبلة وهذا موجود في عامة الطوائف حتى في الطائفة الواحدة فإن أبا الثناء الأرموى قد ذكر في لباب الأربعين لأبي عبد الله الرازي من الاعتراضات على ذلك ما يناسب
(2/343)
هذا الموضع وتابع في ذلك طوائف من النظار كأبي الحسن الآمدي وغيره بل نفس الرازي قد ذكر في مواضع من كتبه نقض ما ذكره في الأربعين ولم يجب عن ذلك كما قد حكينا كلامه في موضع آخر وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي في إفساد هذه الحجج التي ذكرها في تناهي الحوادث بأمور لم يذكر عنها جوابا
وذلك أن أبا عبد الله الرازي ذكر في الأربعين في مسألة حدوث العالم من الحجج على حدوث الأجسام أو العالم مالم يذكره في عامة كتبه
فذكر خمس حجج الأولى أنه لو كانت الأجسام قديمة لكانت إما متحركة أو ساكنة والأول يستلزم حوادث لا أول
(2/344)
واحتج على انتفاء ذلك بستة أوجه
الأول أن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير وماهية الأزل تنفيها فامتنعت أزلية الحركة
فعارضه أبو الثناء الأرموي بأنه لقائل أن يقول كون ماهية الحركة مركبة من جزء سابق وجزء لاحق لا ينافي دوامها في ضمن أفرادها المتعاقبة لا إلى أول وهو المعنى بكونها أزلية
قلت ونكتة هذا الاعتراض أي يقال إن المستدل قال ماهية الحركة تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير فهل المراد بالغير أن تكون الحركة مسبوقة بما ليس بحركة أو أن يكون بعض أجزائها سابقا لبعض أما الأول فباطل وهو الذي يشعر به قوله ماهية الحركة
(2/345)
تقتضي المسبوقية بالغير فإن ذلك قد يفهم منه أن ماهيتها تقتضي أن تكون مسبوقة بغير الحركة ولو كان الأمر كذلك لامتنع كون المسبوق بغيره أزليا لكن لا يصلح أن يريد الا الثاني وهو أن ماهيتها تقتضي تقديم بعض أجزائها على بعض وحينئذ فقد منعوه المقدمة الثانية وهي قوله إن ماهية الأزل تنفي ذلك وقالوا لا نسلم أن ما كان كذلك لا يكون أزليا بل هذا رأس المسألة ولا سيما وهو وجماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل يسلمون أن ما كان كذلك فإنه يصلح أن يكون أبديا
ومعلوم أن ماهية الحركة تقتضي أن يكون بعضها متأخرا عن بعض ولا يمتنع مع ذلك وجود مالا انقضاء له من الحركات قالوا فكذلك لا يمتنع وجود مالا ابتداء له منها كما لم يمتنع وجود ما لا أول لوجوده وهو القديم الواجب الوجود مع إمكان تقدير حركات وأزمنة لا ابتداء لها مقارنة لوجوده والكلام في انتهاء المحقق كالكلام في انتهاء المقدر
قال الرازي الوجه الثاني لو كانت أدوار الفلك متعاقبة لا الى أول كان قبل كل حركة عدم لا الى أول وتلك العدمات
(2/346)
مجتمعة في الأزل وليس معها شيء من الوجودات والا لكان السابق مقارنا للمسبوق فلمجموع الوجودات أول
قال الأرموي ولقائل أن يقول إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا ما فهو ممنوع لأنه ما من حين يفرض الا ويتهي واحد منها فيه لوجود الحركة التي هي عدمها ضرورة تعاقب تلك الحركات لا الى أول وإن عنيت به أنه لا ترتيب في بدايات تلك العدمات كما في بدايات الوجودات فلا يلزم من اجتماع بعض الوجودات معها المحذور
قلت مضمون هذا أن عدم كل حركة ينتهي بوجوده فليست الاعدام متساوية في النهايات فلا تكون مجتمعة في شيء من الأوقات لأنه في كل وقت يثبت بعضها دون بعض لوجود حادث يزول به عدمه ولكن لا بداية لكل عدم منها فإن ما حدث لم يزل معدوما قبل حدوثه بخلاف الحركات فإن لكل حركة بداية وحينئذ فلا يمتنع أن يقارن الوجود بعضها دون بعض كما يقارن الوجود الباقي الأزلي عدم كل ما سواه فالمستدل يقول عدم كل حادث ثابت في الأزل
(2/347)
والمعترض يقول نعم لكن لا نسلم أن عدم الجنس ثابت في الأزل وليس الجنس حادثا حتى يكون مسبوقا بعدم الجنس وإنما الحادث في أفراده كما في دوامه في الأبد فليس لعدم المجموع تحقق في الأزل والعدم السابق لأفراد الحركات بمنزلة العدم اللاحق لها ولا يقال إن تلك الأعدام مجتمعة في الأبد والفرق بين عدم المجموع وعدم كل فرد فرد فرق ظاهر والمستدل يقول عدم كل واحد أزلي فمجموع الأعدام أزلي وهذا بمنزلة أن يقول كل واحد من الأفراد حادث فالمجموع حادث أو كل حادث فله بداية فالمجموع له بداية وبمنزلة أن يقول كل حادث فله انقضاء فمجموع الحوادث له انقضاء أو كل واحد مسبوق بغيره فالمجموع مسبوق بغيره
فإذا قال المتكلم عن المستدل قول المعترض إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا ما فهو ممنوع لأنه ما من حين يفرض الا وينتهي واحد منها فيه ليس بمستقيم فإنها مجتمعة في الأزل
قال المتكلم عن المعترض ليس الأزل ظرفا معينا يقدر فيه وجود أو عدم كما أن الأبد ليس ظرفا معينا يقدر فيه وجود أو عدم ولكن معنى كون الشيء أزليا أنه مازال موجودا أو ليس لوجوده ابتداء ومعنى
(2/348)
كونه أبديا أنه لا يزال موجودا أو ليس لوجوده انتهاء ومعنى كون عدم الشيء أزليا أنه ما زال معدوما حتى وجد وإن كان عدمه مقارنا لوجود غيره وقائل ذلك يقول لا يتصور اجتماع هذه العدمات في وقت من الأوقات أصلا بل ما من حال يقدر الا فيه عدم بعضها ووجود غيره فقول القائل إن العدمات مجتمعة في الأزل فرع إمكان اجتماع هذه الأعدام واجتماع هذه الأعدام ممتنع وسيأتي تمام الكلام على ذلك بعد هذا
قال الرازي الثالث إنه إن لم يحصل شيء من الحركات في الأزل أو حصل ولم يكن مسبوقا بغيرها فلكلها أول وإن كان مسبوقا بغيرها كان الأزل مسبوقا بالغير
قال الأرموي ولقائل أن يقول ليس شيء من الحركات
(2/349)
الجزئية أزليا بل كل واحدة منها حادثة وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية وهي ليست مسبوقة بغيرها فلم يلزم أن يكون لكل الحركات الجزئية أول
قلت قول المستدل إن حصل شيء من الحركات في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيرها فلها أول يريد به ليس مسبوقا بحركة أخرى فإن الحركة المعينة التي لم تسبقها حركة أخرى تكون لها ابتداء فلا تكون أزلية إذ الأزلي لا يكون إلا الجنس أما الحركة المعينة إذا قدرت غير مسبوقة بحركة كانت حادثة كما أنها إذا كانت مسبوقة كانت حادثة ولم يرد بقوله إن حصل شيء من الحركات في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيره فلها أول أي لم يكن مسبوقا بغير الحركات فإن ما كان في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيره لا يكون له أول فلو أراد بالغير غير الحركات لكان الكلام متهافتا فإن ما كان أزليا لا يكون مسبوقا بغيره فالجنس عند المنازع أزلي وليس مسبوقا بغيره والواحد من الجنس ليس بأزلي وهو مسبوق بغيره وما قدر أزليا لم يكن مسبوقا بغيره سواء كان جنسا أو شخصا لكن إذا قدر أزليا وليس مسبوقا بغيره فكيف يكون له أول ولكن إذا قدر مسبوقا بالغير كان له أول فالمسبوق بغيره هو الذي له أول وأما ما ليس مسبوقا بغيره فكيف يكون له أول
(2/350)
ومع هذا فيقال له تقدير كون الحركة المعينة في الأزل ومسبوقة بأخرى جمع بين النقيضين فهو ممتنع لذاته والممتنع لذاته يلزمه حكم ممتنع فلا يضر ما لزم على هذا التقدير وأما على التقدير الآخر وهو حصول شيء منها في الأزل مع كونه مسبوقا فقد أجابه الأرموي بأن وجود الحركة المعينة في الأزل محال أيضا وإذا كان ذلك ممتنعا جاز أن يلزمه حكم ممتنع وهو كون الأزلي مسبوقا بالغير وإنما الأزلي هو الجنس وليس مسبوقا بالغير وقد اعترض بعضهم على هذا الاعتراض بأن قال فحينئذ ليس شيء من الحركات حاصلا في الأزل إذ لو حصل في الأزل لا متنع زواله وما هذا شأنه يمتنع كونا أزليا
وجواب هذا الاعتراض أن يقال ليس شيء من الحركات المعينة في الأزل إذ ليس شيء منها لا أول له بل كل واحد منها له أول لكن جنسها هل له أول وهذا غير ذلك والمنازع يسلم أن ليس شيء من الحركات المعينة أزليا وإنما نزاعه في غير ذلك كما أنه يسلم أنه ليس شيء من الحركات المعينة أبديا مع أنه يقول جنسها أبدي
قال الرازي الوجه الرابع كلما تحرك زحل دورة
(2/351)
تحركت الشمس ثلاثين فعدد دورات زحل اقل من عدد دورات الشمس والأقل من غيره متناه والزائد على المتناهي بالمتناهي متناه فعددهما متناه
قال الأرموي ولقائل أن يقول تضعيف الواحد إلى غير النهاية أقل من تضعيف الاثنين كذلك مع كونهما غير متناهيين
قلت هذا الذي ذكره الأرموي معارضة ليس فيه منع شيء من مقدمات الدليل ولا حل له ثم قد يقول المستدل الفرق بين مراتب الأعداد وأعداد الدورات من وجهين
أحدهما أن مراتب الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج وإنما يقدرها الذهن تقديرا كما يقدر الأشكال المجردة يقدر شكلا مستديرا وشكلا أكبر منه وشكلا أكبر من الآخر وهلم جرا وتلك الأشكال التي يقدرها الذهن لا وجود لها في الخارج وكذلك الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج فالكم المتصل أو المنفصل إذا أخذ مجردا عن الموصوف به لم يكن إلا في الذهن وكذلك الجسم التعليمي وهو أن يقدر طول وعرض وعمق مجرد عن الموصوف به وإذا كان كذلك لم يلزم من إمكان تقدير ذلك في الذهن إمكان وجوده في الخارج فإن الذهن تقدر فيه الممتنعات كاجتماع النقيضين والضدين فيقدر فيه كون الشيء موجودا معدوما وكون الشيء متحركا ساكنا ويقدر فيه
(2/352)
أن كون الشيء لا موجودا ولا معدوما ولا واجبا ولا ممكنا ولا ممتنعا إلى غير ذلك من التقديرات الذهنية التي لا تستلزم إمكان ذلك في الخارج ولهذا يمكن تقدير خط لا يتناهى وسطح لا يتناهى وتقدير أشكال بعضها أكبر من بعض بلا نهاية وأبعاد لا نهاية لها ولا يلزم من إمكان تقدير ما لا نهاية له في الذهن إمكان ذلك في الخارج والمنازعون يسلمون امتناع أجسام لا يتناهى قدرها وأبعاد لا تتناهى وعلل ومعلولات لا تتناهى مع إمكان تقدير ذلك في الذهن
فإذا قيل لهم كذلك تقدير أعداد لا تتناهى أو تقدير مراتب أعداد لا تتناهى بعضها افضل من بعض إذا قدر في الذهن لم يدل ذلك على إمكان وجوده في الخارج بطلت معارضتهم وكان من عارض تقدير الأعداد التي لا تتناهى بتقدير الأشكال التي لا تتناهى وتقدير التفاضل في هذا كالتفاضل في هذا أولى ممن عارض تفاضل الدورات بتفاضل مراتب الأعداد فإنه إذا قيل تضعيف الواحد إلى غير نهاية أقل من تضعيف الاثنين قيل وإذا فرض خط عرضه بقدر الكف لا يتناهى طولا وخط عرضه بقدر الذراع لا يتناهى فالذي بقدر الكف أقل وإذا فرض أجسام مستديرة كل منها بقدر رأس الإنسان لا تتناهى وأخرى كل منها بقدر الفلك لا
(2/353)
تتناهى كانت مقادير تلك أصغر مع أن الجميع لا يتناهى كان معلوما أن هذه المعارضة أعدل وأولى بالقبول من تلك المعارضة
الوجه الثاني إن كان تضعيف الأعداد ومراتبها وسائر المقادير إلى غير نهاية كان هذا التضعيف إنما هو في الذهن فكل ما يتصوره الذهن من ذلك ويقدره فهو يتناهى والذهن لا يزال يضعف حتى يعجز وهكذا إذا نطق بأسماء الأعداد أو بألفاظ فلا يزال ينطق حتى يعجز وإن قدر أنه لا يعجز بل لا يزال الذهن يقدر واللسان ينطق فإن جميع ذلك داخل في الوجود الذهني واللفظي والجناني واللساني وكل ما يدخل من ذلك في الوجود فهو متناه وله مبدأ محدود فله أول ابتدأ منه وهو من ذهن الإنسان ولفظه وكل ما يوجد منه متعاقبا فإنه متناه لكن هذا يدل على جواز مالا نهاية له في المستقبل وأن الشيء قد يكون له بداية ولا يكون له نهاية فإن ما يخطر بالأذهان وينطق به اللسان له بداية ويمكن وجود مالا يتناهى منه ومن هذا الباب أنفاس أهل الجنة وألفاظهم وحركاتهم فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ومن هذا الباب تسبيح الملائكة دائما
فهذا المذكور من تضعيف الأعداد ذهنا ولفظا يدل على وجود مالا يتناهى في المستقبل إذا كان له بداية محدودة وأما التفاضل فيه سواء أريد به تضعيف الذهن أو اللسان أو جميعهما فمعلوم أنه إذا قيل ضعف الواحد وضعف ضعفه وضعف ضعف ضعفه وهلم جرا
(2/354)
وقيل ضعف الاثنين وضعف ضعفهما وضعف ضعف الضعف وهلم جرا فإن أريد بكون تضعيف الواحد أقل من تضعيف الاثنين أن ما وجد من نطق اللسان بالتضعيف أو ما يخطر بالقلب من التضعيف أقل فهذا ممنوع إذا قدر التساوي في المبدأ والحركة وإن قدر التفاضل فأكثرهما أسبقهما مبدأ وأقواهما حركة وحينئذ فقد يكون تضعيف الواحد هو الأكثر
وإن أريد بذلك أن مسمى أحد اللفظين أكثر مما في كل مرتبة من مراتب التضعيف فإذا ضعف الواحد خمس مرات كان اثنين وثلاثين وإذا ضعف الاثنان خمس مرات كان أربعا وستين مرة فهذه الأربع والستون ليست معدودا موجودا في الخارج ولا في الذهن حتى يقال وجد التفاضل فيما لا يتناهى وإنما نطق بلفظ أعداد متناهية والمعدودات ليست موجودة لا في الذهن ولا في الخارج فلو قدر وجود ألفاظ الأعداد من هذه المرتبة ومن هذه المرتبة في الذهن واللسان لم يلزم إذا قدر أنهما غير متناهيين أن يكونا متفاضلين مع استوائهما في المبدأ والحركة
وإن أراد أن مسمى هذا لو وجد لكان أكبر من مسمى هذا
(2/355)
فيقال نعم ولكن لم قلت إن وجود ذلك المسمى ممكن وهذا كما لو قال القائل مالا يتناهى أقدره في ذهني وأتكلم بلفظه لم يكن في ذلك ما يقتضي أنه يمكن وجوده في الخارج كما يقدر ذهنا ولسانا ما لا يتناهى من الأجسام والأبعاد والأشكال فهذا هذا فهذا مما يجيب به المستدل عن المعارضة بمراتب الأعداد
وهذا الفرق وإن كنا قد أوردناه فقد ذكره غير واحد من النظار المفرقين بين العدد والحركات من متكلمي المسلمين وغيرهم وذكر هؤلاء هذا الفرق المعروف عند من يوافق المستدل على هذا النقض هو أن تضعيف العدد ليس أمرا موجودا بل مقدرا بخلاف ما وجد من الحركات
وهكذا فرق من فرق بين الماضي والمستقبل بأن الماضي قد وجد بخلاف المستقبل والممتنع وجود ما لا يتناهى لا تقدير ما لا يتناهى
ومن يوافق المعترض يقول الماضي أيضا قد عدم فليست أفراده موجودة معا والمحذور وجود مالا يتناهى فيما كان مجتمعا بل مجتمعا منتظما بعضه ببعض بحيث يكون له ترتيب طبيعي أو وضعي
وهذا فرق ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة ولكن ابن رشد
(2/356)
يقول إن مذهب الفلاسفة الفرق بين المجتمع وغير المجتمع سواء كان المجتمع له ترتيب أو ليس له ترتيب وإنما النزاع بينهم في النفوس البشرية المفارقة هل هي موجودات متميزة غير متناهية أم لا ويقول هؤلاء لا نسلم أن ما كان وعدم أو ما سيكون إذا قدر أن بعضه أقل من بعض يجب أن يكون متناهيا والمؤمنون بأن نعيم الجنة دائم لا ينقضي من المسلمين وأهل الكتاب يسلمون ذلك ولم ينازعوا فيه من أهل الكلام إلا الجهم ومن وافقه على فناء النعيم وأبو الهذيل القائل بفناء الحركات وهما قولان شاذان قد اتفق السلف والأئمة وجماهير المسلمين على تضليل القائلين بهما ومن أعظم ما أنكره السلف والأئمة على الجهمية قولهم بفناء الجنة
وقال الأشعري في كتاب المقالات واختلفوا أيضا في معلومات الله عز وجل ومقدوراته هل لها كل أو لا كل لها على مقالتين فقال أبو الهذيل إن لمعلومات الله كلا وجميعا ولما يقدر الله عليه كل وجميع وإن أهل الجنة تنقطع حركاتهم
(2/357)
يسكنون سكونا دائما وقال أكثر أهل الإسلام ليس لمعلومات الله ولا لما يقدر عليه كل ولا غاية واختلفوا أيضا هل لأفعال الله سبحانه آخر أم لا آخر لها على مقالتين فقال الجهم بن صفوان إن لمعلومات الله ومقدوراته غاية ونهاية ولأفعاله آخر وإن الجنة والنار تفنيان ويفنوا أهلهما حتى يكون الله آخرا لا شيء معه كما كان أولا لا شيء معه وقال أهل الإسلام جميعا ليس للجنة والنار آخر وأنهما لا تزالان باقيتين وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ليس لذلك آخر ولا لمعلومات الله ومقدوراته غاية ولا نهاية
وقد ذكر بعض الناس بين الماضي والمستقبل فرقا لمثال ذكره كما ذكره صاحب الإرشاد وغيره وهو أن المستقبل بمنزلة ما إذا قال قائل لا أعطيك درهما إلا أعطيتك بعده درهما وهذا كلام صحيح والماضي بمنزلة أن يقول لا أعطيك درهما إلا أعطيتك قبله درهما وهذا كلام متناقص
(2/358)
لكن هذا المثال ليس بمطابق لأن قوله لا أعطيك نفي للحاضر والمستقبل ليس نفيا للماضي فإذا قال لا أعطيك هذه الساعة أو بعدها شيئا إلا أعطيتك قبله شيئا اقتضي أن لا يحدث فعلا الآن حتى يحدث فعلا في الزمن الماضي وهذا ممتنع أو بمنزلة أن يقول لا أفعل حتى أفعل وهذا جمع بين النقيضين وإنما مثاله أن يقول ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله درهما فكلاهما ماض فإذا قال القائل ما يحدث شيء إلا ويحدث بعده شيء كان مثاله أن يقول ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء لا يقول لا يحدث في المستقبل شيء إلا حدث قبله شيء وكل ما له ابتداء وانتهاء كعمر العبد يمتنع أن يكون فيه عطاء لا انتهاء له أو عطاء لا ابتداء له وإنما الكلام فيما لم يزل ولا يزال
والناس لهم في إمكان وجود ما لا يتناهى أقوال
أحدها امتناع ذلك مطلقا في الماضي والمستقبل والحاضر في كل شيء وهذا قول الجهم وابن الهذيل
والثاني جواز ذلك حتى في الأبعاد التي لا تتناهى وهو قول طائفة من فلاسفة الهند وطائفة من نظار أهل الملة وغيرهم ويقولون إن الرب له قدر لا يتناهى ثم من هؤلاء من يقول لا يتناهى من
(2/359)
جميع الجهات ومنهم من يقول يتناهى من جهة العرش فقط وأما من سائر الجهات فإنه لا يتناهى
وقد ذكر الأشعري في المقالات هذه الأقوال وغيرها عن طوائف وممن ذكر ذلك الكرامية وطائفة من أتباع الأئمة كالقاضي أبي يعلى وغيره وهؤلاء منهم من يقول بتناهي الحوادث في الماضي مع قوله بوجود مالا يتناهى من المقدار في الحاضر
وكذلك معمر وأتباعه من أصحاب المعاني يقولون بوجود معان لا تتناهى في آن واحد مع قولهم بامتناع حوادث لا أول لها فصار بعض الناس يقول بجواز التناهي في الحوادث الماضية والأبعاد ومنهم من يقول بجواز ذلك في الأبعاد دون الحوادث فهذه ثلاثة أقوال
الرابع قول من يقول لا يجوز ذلك فيما دخل في الوجود لا في الماضي ولا في الحاضر ويجوز فيما لم يوجد بعد وهو المستقبلات وهذا قول كثير من النظار
الخامس قول من يقول يجوز ذلك في الماضي والمستقبل ولا يجوز فيما يوجد في آن واحد لا في الأبعاد ولا الأنفس ولا المعاني وهو قول ابن رشد وحكاه عن الفلاسفة وزعم أن النفوس البشرية واحدة بعد المفارقة كما زعم أنها كانت كذلك قبل المفارقة
(2/360)
السادس قول من يقول ما كان مجتمعا مترتبا فإنه يجب تناهيه كالعلل والأجسام فتلك لها ترتيب طبيعي وهذه لها ترتيب وضعي وكلها موجودة في آن واحد وأما ما لم يكن له ترتيب كالأنفس أو كان له ترتيب ولكن يوجد متعاقبا كالحركات فلا يمتنع فيه وجود مالا يتناهى وهذا قول ابن سينا وهو للمحكي عندهم عن أرسطو وأتباعه لكن ابن رشد ذكر أن هذا القول لم يقله أحد من الفلاسفة إلا ابن سينا
وأما وجود علل ومعلومات لا تتناهى فهذا مما لم يجوزه أحد من العقلاء
إذا عرف هذا تكلمنا على الاحتجاج بتفاضل الدورات التي لا تتناهى فإن الشمس تقطع الفلك في السنة مرة والقمر اثنتي عشرة مرة وهذا مشهود والمشتري في كل اثنتي عشرة سنة مرة وزحل في كل ثلاثين سنة مرة فتكون دورات القمر بقدر دورات زحل ثلاثمائة وستين مرة ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة فتكون دورات هذا أضعاف دورات هذا وكلاهما لا يتناهى عند القائلين بذلك والأقل من غير المتناهي متناه والزائد على المتناهي متناه وقد عرف أن المعارضة بالعدد باطلة
(2/361)
وقد يقال هذا من جنس تطبيق الحوادث الماضية إلى اليوم بالحوادث الماضية إلى أمس فإن كلاهما لا يتناهى مع التفاضل وهو الوجه الخامس الذي سيأتي لكن بينهما فروق مؤثرة
منها أنه هناك هذه الحوادث هي تلك بعينها لكن زادت حوادث اليوم فغاية تلك أن يكون مالا ابتداء له من الحوادث لا يزال في زيادة شيئا بعد شيء وأما هنا فهذه الدورات ليست تلك ومنها أنه هناك فرض انطباق اليوم على الأمس مع اشتراكهما في عدم البداية وهذا التطبيق ممتنع فإن حقيقته أنا تقدر تماثلهما وتفاضلهما فإنه إذا طبق أحدهما على آخر لزم التماثل مع التفاضل لأنهما استويا في عدم البداية وفي حد النهاية وهما متفاضلان وهذا تقدير ممتنع بخلاف الدورتين فإنهما هنا مشتركتان في عدم البداية وفي حد النهاية فالتفاضل هنا حاصل مع الاشتراك في عدم النهاية عند هؤلاء فهذا لا يحتاج إلى فرض وتقدير حتى يقال هو تقدير ممتنع بخلاف ذلك ولكن التقابل يوافق ذلك التقابل في أن كليهما قد عدمت فيه الحوادث الماضية ويوافقه في أن كليهما قد قدر فيه انتهاء الحوادث من أحد الجانبين فهما متفقان من هذين الوجهين مفترقان من ذينك الوجهين
(2/362)
وحينئذ فيقال الدهرية يزعمون أن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية لا يجعلون لها آخرا تنتهي إليه فلا يصح اعتمادهم على أن هذه الحوادث متناهية من أحد الجانبين بل يلزمهم قطعا أن تكون الحركة الفلكية التي زعموا أنها لم تزل ولا تزال متفاضلة فدورات زحل عندهم لم تزل ولا تزال وكذلك دورات الشمس والقمر مع أن دورات القمر بقدر دورات الشمس اثنتي عشرة مرة ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة فكل من هذين لا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا أقل من هذا بقدر متناه وهذا أزيد من هذا بقدر متناه فإذا كان الأقل من غيره متناهيا لزم أن يكون كل من الدورات متناهيا
وهذا الوجه لا يرد على من قال من أئمة الإسلام وأهل الملل بجواز حوادث لا تتناهى فإن أولئك يقولون بأن حركة الفلك لها ابتداء ولها انتهاء وأنه محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن وأنه ينشق وينفطر فتبطل حركة الشمس والقمر وكل واحد من دورات الفلك وكواكبه وشمسه وقمره له عندهم بداية ونهاية
وهذا الدليل إنما يدل على أن حركته يمتنع أن تكون غير متناهية ولا يلزم إذا وجب تناهي حركة جسم معين أن يجب تناهي جنس الحوادث إلا إذا كان الدليل الذي دل على تناهي حركة المعين يدل
(2/363)
على تناهي الجنس وليس الأمر كذلك فإن هذا الدليل لا يتناول إلا الفلك وهو دليل على حدوثه وامتناع أن تكون حركته بلا بداية ولا نهاية فهو يدل على فساد مذهب أرسطو وابن سينا وأمثالهما ممن يقول بأن الفلك قديم أزلي فهذا حق متفق عليه بين أهل الملل وعامة العقلاء وهو قول جمهور الفلاسفة ولم يخالف في ذلك إلا شرذمة قليلة ولهذا كان الدليل على حدوثه قويا والاعتراض الذي اعترض به الأرموي ضعيفا بخلاف الوجوه الدالة على امتناع جنس دوام الحوادث فإن أدلتها ضعيفة واعتراضات غيره عليها قوية
وهذا مما يبين أن ما جاءت به الرسل هو الحق وأن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه وما يدخل في العقل وليس منه كالذين جعلوا من السمع أن الرب لم يزل معطلا عن الكلام والفعل لا يتكلم بمشيئته ولا يفعل بمشيئته بل ولا يمكنه عندهم أنه لا يزال يتكلم بمشيئته ويفعل بمشيئته
فجعل هؤلاء هذا قول الرسل وليس هو قولهم وجعل هؤلاء من المعقول أنه يمتنع دوام كونه قادرا على الكلام والفعل بمشيئته
وعارضهم آخرون فادعوا أن الواحد من مخلوقاته كالفلك أزلي معه وأنه لم يزل ولا تزال حوادثه غير متناهية فهذه الدورات لا تتناهى وهذه لا تتناهى مع أن هذه بقدر هذه مرات متناهية وكون الشيئين لا يتناهيان أزلا وأبدا مع كون أحدهما بقدر الآخر مرات مع
(2/364)
كونه مفعولا معلولا مساويا لفاعله في الزمن هو الذي انفردوا به وأما الفاعلية فيما لا يتناهى ابتداء وانتهاء فهو الذي ذكر في هذا الوجه
وقد يقال يلزم مثل هذا في كلمات الله وإرادته التي كل منها غير متناه أزلا وأبدا وإن كان أحدهما أكثر من الآخر وقد يذكر هنا أن مقدار القمر أصغر من مقدار الشمس فحركته وإن زادت في الدورات فقد نقصت في المقدار لكن هذا لا ينفع إلا إذا عرف تساوي مقدار جميع حركات الكواكب التي كل منها غير متناه وإلا لزم التفاضل فيما لا يتناهى فإذا كان تساويها باطلا كان هذا السؤال باطلا
قال الرازي الوجه الخامس نقدر أن الأدوار الماضية من اليوم لا إلى أول جملة ومن الأمس كذلك ثم نطبق الطرف المتناهي من إحدى الجملتين في الوهم على الطرف المتناهي من
(2/365)
الأخرى ونقابل كل فرد من أفراد إحداهما بنظيره من الأخرى فإن لم تقصر إحداهما عن الأخرى في الطرف الآخر كان الشيء مع غيره كهولا مع غيره وإن قصرت كانت متناهية والأخرى زائدة بقدر متناه فهي متناهية أيضا
قال الأرموي ولقائل أن يقول الجملة الناقصة لا تنقطع من طرف المبدأ وإنما يكون الشيء مع غيره كهولا مع غيره إذا كان أفراد الزائد مثل أفراد الناقص كما في مراتب الأعداد من الواحد إلى مالا يتناهى ومن العشرة إلى مالا يتناهى إذا طبقنا إحدى الجملتين على الأخرى
قلت المعترض لم يبين فساد الحجة بل عارضها معارضة وغيره قد يمنع كلتا المقدمتين أو إحداهما فالمعترض يقول وإن قصرت كانت متناهية فنقول إنما تكون متناهية لو كانت منقطعة
(2/366)
من طرف المبدأ فأما مع عدم انقطاعها فلا نسلم تناهيها كما أن المستقبل وتضعيف العدد لما لم يكن منقطعا من جهة المنتهي لم يكن متناهيا وإن أمكن فيه مثل هذه المقابلة
وأما غيره فيجب بثلاثة أجوبة
أحدها قوله فإن لم تقصر إحداهما عن الأخرى في الطرف الآخر كان الشيء مع غيره كهولا مع غيره فنقول هذا إنما يلزم إذا طبقنا إحدى الجملتين على الأخرى والتطبيق في المعدوم ممتنع كما في تطبيق مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى ومن العشرة إلى ما لا يتناهى ومن المائة إلى ما لا يتناهى فإنا نعلم أن عدد تضعيف الواحد أقل من عدد تضعيف العشرة وعدد تضعيف الغشرة أقل من عدد تضعيف المائة وعدد تضعيف المائة أقل من عدد تضعيف الألف والجميع لا يتناهى وهذه الحجة من جنس حجة مقابلة دورات أحد الكوكبين بدورات الآخر لكن هناك الدورات وجدت وعدمت وهنا قدرت الأزمنة والحركات الماضية ناقصة وزائدة
ومما يجاب به عن هذه الحجة وهي أشهر حججهم أن يقال لا نسلم إمكان التطبيق فأنه إذا كان كلاهما لا بداية له وأحدهما
(2/367)
انتهى أمس والآخر انتهى اليوم كان تطبيق الحوادث إلى اليوم على الحوادث إلى الأمس ممتنعا لذاته فإن الحوادث إلى اليوم أكثرفكيف تكون إحداهما مطابقة للأخرى فلما كان التطبيق ممتنعا جاز أن يلزمه حكم ممتنع
وأيضا فيقال نحن نسلم أنها متناهية من الجانب المتناهي لكن لم قلت إذا كانا متناهيين من أحد الجانبين كانا متناهيين من الجانب
(2/368)
الآخر وهذا أول المسألة والتفاضل وقع من الجانب المتناهي لا من الجانب الذي ليس بمتناه فلم يقع فيما لا يتناهى تفاضل
قال الرازي السادس لو كانت الأدوار الماضية غير متناهية كان وجود اليوم موقوفا على انقضاء مالا نهاية له والموقوف على المحال محال
قال الأرموي ولقائل أن يقول انقضاء مالا نهاية له محال وأما انقضاء مالا بداية له ففيه نزاع
قلت هنا نزاع لفظي ونزاع معنوي أما اللفظي فهو أنه إذا قدر تسلسل الحوادث في الماضي وعدم انقطاعها وأنها لا أول لها فهل يعبر عن هذا بأن يقال لا نهاية لها أو يقال لا بداية لها ولا يقال لا نهاية لها فالمستدل عبر بأنه لا نهاية لها والمعترض أنكر ذلك وهذا نزاع لفظي وذلك أنه يقال هذا غير متناه بمعنى أنه ليس له حد محدود وقد يقال غير متناه بمعنى أنه لا آخر له ويقال هذا له نهاية أي له آخر وهذا لا نهاية له أي لا آخر له والحوادث الماضية إذا قدر أنها لم تزل فإنه يقال لا نهاية لها بالمعنى الأول وأما بالمعنى الثاني فقد انقضت وانصرمت ولها آخر
(2/369)
وهذه الحجة اعتمد عليها أكثر المتكلمين كأبي المعالي ومن قبله وبعده من المعتزلة والأشعرية وذكروا أنه اعتمد عليها يحيى النحوي وغيره من المتقدمين وظنوا أن ما لمم يتناهى يمتنع أن يكون منقضيا منصرما فإنما انقضى وانصرم فقد تناهى فكيف يقال إنه لا نهاية له واشتبه عليهم لفظ النهاية لما فيه من الإجمال والاشتباه فإن الماضي له آخر انتهى إليه فهو متناه بهذا الاعتبار بلا نزاع وبهذا المعنى يقال انه انصرم وانقضى وفرغ ونفذ واما بالمعنى المتنازع فيه فهو أنه لا بداية له أي لم تزل آحاده متعاقبة
وأما النزاع المعنوي فهو أنه هل يعقل انقضاء ما يقدر أنه لا بداية له ولا ينتهي من جهة مبدئه أولا ولا ريب أن المستدل لم يذكر دليلا على امتناع انقضاء ذلك لكن أخذ لفظ ما لا يتناهى ولفظ مالا يتناهى فيه إجمال فقد يعنى به مالا يتناهى في المستقبل من جهة آخره فإذا قيل إن هذا ينقضي كان
(2/370)
ذلك جمعا بين النقيضين وقد يعنى به ما لا بداية له وهو ينازع في إمكان ذلك لأنه حينئذ يكون له نهاية بلا بداية وكأنه يقول ماله نهاية فلا بد له من بداية ومنازعوه يقولون هذا مسلم في الأشخاص فكل شخص ينتهي فلا بد له من مبدأ إذا لو لم يكن له مبدأ لكان قديما وما وجب قدمه امتنع عدمه كما سيأتي وينازعونه في النوع ويقولون يمكن أن يقال إن الله لم يزل يفعل شيئا بعد شيء
وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي على إفساد هذه الحجة التي ذكرها هاهنا على تناهي الحوادث بكلام لم يذكر عنه جوابا
قال الرازي وان كان الجسم في الأزل ساكنا كان ذلك ممتنعا لأن السكون وجودي وكل وجودي أزلي فإنه يمتنع زواله
والمنازع نازعه في كون السكون وجوديا ولم ينازعه في أن الوجود الأزلي يمتنع زواله وقد قرر ذلك الرازي بأن القديم إما واجب بذاته أو ممكن يكون مؤثرة موجبا بذاته سواء كان تأثيره بنفسه أو بشرط لازم
(2/371)
له ولا يحتاج إلى هذا بل يقال القديم إن كان واجبا بنفسه امتنع عدمه وان لم يكن كذلك فالمقتضى له سواء سمي موجبا أو مختارا إما أن يتوقف اقتضاؤه له على شرط محدث أو لا والثاني ممتنع فإن القديم لا يتوقف على شرط محدث إذ لو توقف عليه لكان القديم مع المحدث أو بعده وإذا لم يتوقف على شرط محدث لزم أن يكون قد وجد المقتضي التام المستلزم له في الأزل وحينئذ فيجب دوامه بدوام المقتضي التام ثم كون القديم لا يكون مقتضي له اختيار فيه كلام ونزاع وليس هذا موضعه والمقصود هنا أن منازعه نازعه في كون السكون وجوديا
وقد احتج عليه الرازي بأن تبدل حركة الجسم الواحد بالسكون وبالعكس يقتضي كون أحدهما وجوديا لأن رفع العدم ثبوت فيكون الآخر وجوديا لأن الحركة هي الحصول في حيز مسبوقا بالحصول في الآخر والسكون هو الحصول في حيز مسبوقا بالحصول فيه فاختلافهما إنما هو بالمسبوقية بالغير وإنها وصف عرضي لا يمنع اتحاد الماهية فيلزم كونهما وجوديين
(2/372)
قال الأرموي ولقائل أن يقول الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين أو تقابل العدم والملكة والبديهة حاكمة باختلاف الضدين في تمام الماهية وكذا العدم والملكة وأيضا المسبوقية وصف عرضي لما به الاشتراك والوصف العرضي لما به الاشتراك يكون ذاتيا للماهية المركبة منهما
قلت مضمون ذلك أن الرازي احتج بأن السكون من جنس الحركة وإنما يختلفان في كون أحدهما مسبوقا بالغير وهذا اختلاف في وصف عرضي لا يمنع التماثل في الحقيقة فمنعه الأرموي بمقدمتين بل أبطل الأولى بأن المتقابلين تقابل الضدين كالسواد والبياض والحلاوة والمرارة ونحو ذلك هما مختلفان في الحقيقة وكذا المتقابلان تقابل العدم والملكة كالعمى والبصر والحياة والموت والعلم والجهل ونحو ذلك والحركة مع السكون إما من هذا وإما من هذا فكيف تجعل حقيقة أحدهما مماثلة لحقيقة الآخر وأنهما لا يختلفان إلا بوصف عرضي
(2/373)
وإيضاح هذا أن الحركة ليست من جنس الحصول المشترك بينها وبين السكون فإن كون الشيء في هذا الحيز وفي هذا الحيز معقول مع قطع النظر عن كونه متحركا فإنه إذا قدر أنه سكن في الحيز الثاني كان هذا الحصول من جنس ذلك الحصول وأما نفس حركته فأمر زائد على مطلق الحصول المشترك ومنع الثانية وجعل سند منعه أن قول القائل المسبوقية وصف عرضي إن عني أنها ليست ذاتية فلا دليل على ذلك وإن عني أنها عرضية لما اشتركا فيه فالعرض لما به الاشتراك قد يكون ذاتيا للحقيقة المركبة من المشترك والمميز كالناطقية فإنها تعرض للحيوانية ليست ذاتية لها ثم إنها ذاتية للإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية
والرازي قد يمكنه أن يجيب عن هذا بأن كون هذا مسبوقا بهذا إنما هو أمر إضافي أي هو متأخر عنه ومثل هذا لا يكون من الصفات الذاتية كالحركتين المتماثلتين الثانية مع الأولى فإنهما إذا كانتا متماثلتين لم يجز أن يجعل كون إحداهما مسبوقة بالغير دون الأخرى من الصفات الذاتية المفرقة بينهما
ولقائل أن يقول الحجة والاعتراض مبني على أن الصفات اللازمة للحقيقة تنقسم إلى ذاتي وعرضي كما يقوله من يقوله من أهل المنطق فإن تقسيم الصفات اللازمة للحقيقة إلى ما هو ذاتي داخل في الحقيقة وما هو عرضي خارج عنها قول لا يقوم عليه دليل بل
(2/374)
الدليل يقوم على نقيضه ولهذا لما لم يكن في نفس الأمر بينهما فرق لم يحدد المفرقون بينهما حدا يفصل بينهما بل ما ذكروه من الضوابط منتقض كما هو مبسوط في موضعه وإذا كانت الصفتان متلازمتين في الوجود والعدم الثبوت والانتفاء لا توجد هذه إلا مع هذه وإذا انتفت هذه كان التفريق بجعل إحداهما مقومة والأخرى عرضية تحكما
ثم إذا قيل الذات هي المركبة من الصفات الذاتية والصفات الذاتية مالا تتصور الذات إلا بها لم تعرف الذات إلا بالصفات الذاتية ولا الصفات الذاتية إلا بالذات
وأيضا فإن هذا مبني على أن وجود الشيء في الخارج زائد على حقيقته الموجودة في الخارج وهو أيضا قول باطل ضعيف
وأيضا فالذات الموجودة في الخارج القائمة بنفسها كهذا الإنسان إن قيل إنه مركب من عرضين لزم كون الجوهر مركبا من عرضين وأن يكونا سابقين له وهذا ممتنع في البديهة وإن قيل إنه مركب من جوهرين كل منهما يحمل عليه كما يقال هو حيوان ناطق لزم أن يكون فيه جوهران أحدهما حيوان والآخر ناطق وهذا مكابرة للحس والعقل إذ هو حيوان واحد موصوف بأنه ناطق
(2/375)
وإذا كان كذلك فكون الحصول الذي هو مسبوق بحصول آخر إذا كان ذلك لازما له كان من الصفات اللازمة وإذا افترق الشيئان في الصفات اللازمة لم يجب أن تكون حقيقة أحدهما مثل حقيقة الآخر فإن المتماثلين هما المشتركان فيما يجب ويجوز ويمتنع فإذا وجب لأحدهما مالا يجب للآخر لم يكن مثله
وللأرموي أن يقول قد تبين بطلان المقدمتين سواء كان بطريقة المنطقيين أو بطريقة سائر أهل النظر الذين أنكروا على المنطقيين ما ذكروه كما أنكر سائر طوائف أهل النظر من المسلمين وغيرهم عليهم كثيرا مما ذكروه في الحدود وغيرها كما هو معروف في كتب أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية وطوائف الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وليس المقصود هنا بسط ما يتعلق بهذا
قال الرازي وإنما قلنا السكون لا يمتنع زواله لأن الخصم يسلم جواز حركة كل جسم ولأن المتحيز يجوز خروجه من حيزه لأنه إن كان بسيطا كانت طبائع جوانبه متساوية فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر وإن كان مركبا كان هذا لازما لبسائطه وخروجه
(2/376)
عن حيزه هو الحركة
ولقائل أن يقول هذا يقتضي إمكان كون نوع الجسم يقبل الحركة فإذا قدر أن السكون وجودي وله موجب مستلزم له كان امتناع الحركة لمعنى آخر يختص به الجسم المعين لم يوجد لغيره من الأجسام فلا يلزم إذا قدر أنه موجود أزلي أنه يمكن زواله بل هذا جمع بين المتناقضين فما قدر موجودا أزليا لا يمكن زواله بحال ولا يمكن أن يجمع بين تقديرين متناقضين وقبول كل جسم للحركة لا يحتاج إلى هذا فإذا قيل إن السكون عدم الحركة أمكن مع كون السكون أزليا من إثبات الحركة مالا يمكن مع تقدير كونه وجوديا وذلك أنه حينئذ لا تتوقف الحركة إلا على وجود مقتضيها وانتفاء مانعها وليس هناك معنى وجودي أزلي يحتاج إلى زواله
وقد أورد بعضهم على استدلاله على أن السكون أمر وجودي اعتراضا بالغا فقال هذا فيه نظر من جهة أن مقدمة الدليل مناقضة للمطلوب لأن المطلوب كونهما وجوديين ومقدمة الدليل أن أحدهما وجودي ولا يمكن تقريره إلا بما سبق وهو يتقضي أن يكون أحدهما عدميا فادعاء كونهما وجوديين بعد ذلك مناقض له
(2/377)
قلت وهذا كلام جيد فإن الأمرين اللذين تبدل أحدهما بالآخر ورفعه إن لزم أن يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا لزم أن تكون الحركة والسكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا وهو نقيض المطلوب وإن جاز أن يكونا جميعا وجوديين أو عدميين بطل الدليل وهو قوله لأن تبدل أحدهما بالآخر يقتضى أن يكون أحدهما وجوديا لأن المرفوع إن كان وجوديا وإلا فالرافع وجودي لأن رفع العدم ثبوت فإنه على هذا التقدير يمكن رفع العدم بالعدم والوجود بالوجود
وإن قيل بل يجب ان يكونا وجوديين أو يكون أحدهما وجوديا ولا يجوز ان يكونا عدميين لأن العدم لا يرتفع بالعدم كما يرتفع الوجود بالوجود والعدم بالوجود أو بالعكس
قيل بل العدمان قد يتضادان كما قد يتلازمان فكما أن عدم الشرط مستلزم لعدم المشروط فعدم الأمور الواجب واحد منها ينافي عدمها كلها فإذا كان الجنس لا يوجد الا بوجود نوع له فصل امتنع مع وجود الجنس عدم جميع الانواع والفصول فكان عدم بعضها ينافي عدمها كلها وهذا كما يقال في التقسيم وهو الشرطي المنفصل قد يكون مانعا من الجمع والخلو كقول القائل العدد إما شفع وإما وتر وقد يكون مانعا من الجمع فقط كقول القائل الجسم إما أسود وإما ابيض وقد يكون من الخلو فقط فما كان مانعا من الخلو فقط
(2/378)
أو من الجمع امتنع اجتماع العدمين فيه فكما ان الشفعية تنافي الوترية في العدد فعدم الشفعية ينافي عدم الوترية لا ثبوتها فلا يحصل العدمان معا بل إذا ثبت أحد العدمين لم يثبت العدم الآخر فيكون العدم رافعا للعدم
وأيضا فمطلوب المستدل ان تكون الحركة والسكون وجوديين فإذا قال تبدل الحركة بالسكون يقتضي كون أحدهما وجوديا لأن رفع العدم ثبوت كان إثبات كونهما وجوديين موقوفا على تقدير كون أحدهما عدميا لأنه قال لأن رفع العدم ثبوت فإن لم يكن أحدهما عدميا لم يصح هذا وإذا كان المرفوع عدميا امتنع أن يكونا وجوديين والمطلوب كونهما وجوديين فصار المطلوب مناقضا لمقدمة الدليل كما ذكره المعترض
لكنه قال فالأولى أن يقال في تقريره ان الحركة وجودية إجماعا ولأنه مبصر فوجب أن يكون السكون أيضا وجوديا بالتقرير الذي سبق
ثم ذكر اعتراض الأرموي فقال وأورد بينهما إما تقابل التضاد أو العدم والملكة والبديهة حاكمة باختلاف ماهية المتضادين والمتقابلين
قال وأجيب بأن التضاد بين الشيئين إذا كان عارضا لهما كما بين الأسود والأبيض لم يلزم ذلك وما نحن فيه كذلك فإن تضاد عارض لهما بسبب المسبوقية بالغير وهي عدمية فلم يجز أن تكون
(2/379)
جزءا ولأنه ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة أولى من العكس فإما أن يكونا عدميين وهو باطل وفاقا وفتعين أن يكونا وجوديين
ولقائل أن يقول التضاد بين الحركة والسكون من جنس التضاد بين الحياة والموت والعلم والجهل والقدرة والعجز والسواد والبياض والعمى والبصر والحلاوة والحموضة ونحو ذلك من الصفات الثبوتية أو التي بعضها ثبوتي وبعضها عدمي ليس هو من جنس تضاد القائمين بأنفسهما كالأسود والأبيض فإن التضاد إنما يكون في المعتقبين اللذين يعتقبان على محل واحد كما قال متكلمة أهل الإثبات الضدان كل معنيين يستحيل اجتماعهما في محل واحد لذاتيهما من جهة واحدة فما لم يكن المعنيان قائمين بمحل واحد فلا تضاد والحركة والسكون يتعقبان على المحل الواحد اما تعاقب اللونين والطعميين واما تعاقب العلم والبصر والسمع وعدم ذلك فكيف يكون إحداهما مثل الآخر لا يفارقه إلا بصفة عرضية
وفي الجملة فالحركة والسكون هما ان كانا وجوديين فهما عرضان وان كان احداهما وجوديا فإحداهما عرض والآخر عدم العرض وعلى التقديريين فلسا قائمين بأنفسهما فلا يجوز تشبيههما بالأجسام كالأسود والأبيض والطويل والقصير والعالم والجاهل بل يجب تشبيههما بالإعراض وعدم الإعراض كالسواد والبياض والعلم وعدم العلم ونحو ذلك
(2/380)
فقول الأرموي إن الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين أو تقابل العدم والملكة وعلى التقديرين يجب اختلاف ماهيتهما لا تماثلهما كلام صحيح وقول المعارض له إن الاختلاف إذا كان لعارض كما بين الأسود والأبيض لم يجب اختلاف الماهيتين فإن ماهية الأسود من جنس ماهية الأبيض كلام باطل لأن الأسود والأبيض من باب الأجسام القائمة بأنفسها لا من باب الصفات والاعراض
وأيضا فالأسود والأبيض لا يتقابلان تقابل الضدين ولا تقابل العدم والملكة فليسا من هذا الباب اللهم إلا إذا أراد مريد بذلك أن الحيز الذي فيه الأسود لا يكون فيه الأبيض وحينئذ فيكون تضاد الأبيض والأسود كتضاد الأسودين والأبيضين
وأيضا فيقال اختلاف الأسود والأبيض يراد به اختلاف عينهما مع قطع النظر عن السواد والبياض أو بشرط السواد والبياض فإن اريد الأول فلا اختلاف بين ذاتيهما مع قطع النظر عن اللونين فإن الجسم الذي هو الأسود قد يكون نفس الجسم الذي هو الأبيض وإن أريد بالإختلاف اختلافهما بشرط اللون المختلف فحينئذ يكون اختلافهما كاختلاف السواد والبياض فإن الشيء المشروط السواد مخالف للشيء المشروط بالبياض ولا يجوز أن يقال إن الذاتين متماثلتان إلا مع التجريد
(2/381)
عن الاختلاف والا فإذا أخذت الذاتين مشروطتين بالإختلاف لم يكونا متماثلتين التماثل الذي لا يشترط فيه الاختلاف كيف والمتماثلان يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر والشيء في حال سواده لا يجوز أن يكون ابيض وهو في حاله بياضه لا يكون اسود فلا يكون الأسود حال كونه مشروطا بالسواد يجوز عليه ما يجوز على الأبيض حال كونه مشروطا بالبياض
وقول القائل إن الاختلاف بين الحركة والسكون عارض بسبب المسبوقية بالغير ليس بمسلم له فإنه يعقل التضاد بينهما مع عدم خطور المسبوقية بالبال كما يعقل التضاد بني العلم والجهل والقدرة والعجز والسواد والبياض
وقول القائل ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة بأولى من العكس دعوى مجردة فلا نسلم انتفاء هذه الأولية بل هذه الدعوى بمنزلة قول القائل ليس جعل العمى عدم البصر بأولى من العكس وليس جعل الصمم عدم السمع بأولى من العكس وليس جعل الجهل البسيط عدم العلم بأولى من العكس وليس جعل أحد المتقابلين عدما والآخر وجودا بأولى من العكس
ومعلوم أن كل هذه دعاوي مجردة بل باطلة فإنا نعلم بالحس أن الحركة أمر وجودي كما نعلم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر أمر وجودي وأما كون ما يقابل ذلك هو ضد ما ينافيها أو
(2/382)
عدمها عن محلها فهذا فيه نظر ولهذا تنازع العقلاء في هذا دون الأول وكثير من النزاع في ذلك يكون لفظيا فإنه قد يكون عدم الشيء مستلزما لأمر وجودي مثل الحياة مثلا فإن عدم حياة البدن مثلا مستلزم لأعراض وجودية
والناس تنازعوا في الموت هل هو عدمي أو وجودي ومن قال إنه وجودي احتج بقوله تعالى { خلق الموت والحياة } سورة الملك 2 فأخبر أنه خلق الموت كما خلق الحياة ومنازعه يقول العدم الطارئ يخلق كما يخلق الوجود أو يقول الموت المخلوق هو الأمور الوجودية اللازمة لعدم الحياة وحينئذ فالنزاع لفظي وكذلك تنازعوا في الظلمة هل هي وجودية أو عدمية وهي عدم النور عما من شأنه قبوله ومن قال إنها وجودية يحتج بقوله تعالى { وجعل الظلمات والنور } سورة الأنعام 1 والآخر يقول كل ما يتجدد ويحدث من الأمور الوجودية والعدمية فالله سبحانه جاعله أو يقول عدم النور مستلزم لأمور وجودية هي الظلمة المجعولة وكون السكون وجوديا ابعد من كون الموت والظلمة ونحو ذلك وجوديا والسكون قد يراد به قوة في الجسم تمنع حركته كالطبيعة التي في الحجر التي توجب استقراره في الأرض وهذا أمر وجودي لكن من قال إن السكون عدمي لم يجعل تلك الطبيعة هي السكون بل قد يسمون ذلك اعتمادا ويفرقون بين السكون الاعتماد لكن قد
(2/383)
يقال له فالجسم إذا كان ساكنا فإما أن يكون السكون وجوديا أو مستلزما لأمر وجودي وحينئذ فالمقتضي لذلك الأمر الوجودي إما موجب بنفسه ويساق الدليل إلى آخره لكن من قال إن الجسم الأول كان ساكنا في الأزل ثم تحرك يقول في هذا ما يقوله القائلون بحدوث الأجسام فإنهم إذا قالوا حدثت هي وحركتها من غير سبب يقتضي حدوثها قال لهم هذا المنازع بل كان ما قدر قديما من الأجسام ساكنا ثم حدثت حركته من غير سبب يقتضي تحركها وهذا يقوله من يقول إن الأول جسم وإنه يتجدد له الفعل بعد أن لم يكن له فاعلا ويقول الكلام في حدوث الفعل القائم به كالكلام في حدوث المفعول المنفصل عنه
وذلك أن أهل الكلام والنظر من أهل القبلة وغيرهم تنازعوا في ثبوت جسم قديم فطائفة قالت بامتناع جسم قديم وحدوث كل جسم وتنازعوا في المحدث للجسم هل أحدث بعد أن لم يكن محدثا بدون سبب حادث أصلا أم لا بد من سبب حادث وهل تقوم به أمور حادثة كإرادة حادثة وتصور حادث بل وفعل حادث على قولين لهم
(2/384)
وطائفة قالت بثبوت جسم قديم ثم هؤلاء منهم من قال لم يزل فاعلا متحركا ومنهم من قال بل تجدد له الفعل والحركة فإذا احتج الاولون على هؤلاء بأن الجسم لو كان أزليا لم يخل من الحركة والسكون والحركة لا تكون أزلية لامتناع دوام الحوادث وتسلسلها والسكون لا يكون أزليا لأنه وجودي فلو كان أزليا لامتنع زواله لأن الوجودي الأزلي يمتنع زواله لأن المقتضى له إما موجب بنفسه أو لازم للموجب بنفسه ثم نقول والسكون يجوز زواله فلا يكون أزليا
أجابوهم عن جواز دوام الحوادث بأجوبتهم المعروفة كما تقدم التنبيه على ذلك وأجابوهم عن السكون الزلي بأن قالوا ما ذكرتموه يناقض ما ذكرتموه في حدوث الأجسام وذلك أنكم إذا قلتم بحدوثها فلا يخلو إما ان تقولوا بجواز تسلسل الحوادث واما أن لا تقولوا بجواز ذلك
فإن قلتم بجواز تسلسل الحوادث وان الأجسام حدثت بشرط حوادث متعاقبة كما قال ذلك من قاله من القائلين بحدوث الأجسام كالأرموي والأبهري وغيرهما قالوا لهم فإذا جوزتم تسلسل الحوادث بطل دليلكم على امتناع التسلسل في الآثار أمكن حينئذ أن يكون الجسم القديم لم يزل متحركا فبطل دليلكم على حدوث الجسم
وان قلتم لا يجوز تسلسل الحوادث والآثار وقلتم بحدوث
(2/385)
الأجسام من غير سبب حادث لزم أن لا يكون حدوث الحادثات متوقفا على سبب حادث بل كان الفاعل المختار يحدث ما يحدث من غير سبب حادث أصلا كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن وافقهم
وحينئذ فيقول لهم منازعوهم من الهشامية والكرامية وغيرهم فيجوز حينئذ ان يكون الجسم القديم الازلي تحرك بعد أن كان ساكنا من غير سبب أوجب ذلك بل بمحض المشيئة والقدرة لأن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح يرجح السكون تارة والحركة أخرى
فإن قالوا هم فنحن نقول يفعل بعد ان لم يكن فاعلا فإذا قلتم السكون أمر وجودي جعلتموه فاعلا في الأزل الامر وجودي والفعل في الأزل محال
قالوا لهم نحن ليس لنا غرض في أن نجعل السكون امرا وجوديا ولا ان جعله فاعلا في الأزل لأمر وجودي بل اتفقنا نحن وانتم على انه يفعل ما لم يكن فاعلا له من غير سبب حادث لكن نزاعنا في الفعل هل يقوم به وفي الفاعل هو جسم فإذا طالبتمونا بسبب فعله للحركة بعد السكون قلنا لكم هذا بمنزلة فعله لكل محدث بعد ان لم يكن فاعلا والفرق إنما يعود إلى محل الفعل لا إلى سببه
(2/386)
ومقتضيه وتلك مسألة اخرى قد تكلم عليها في غير هذا الوضع والا فمن جهة المطالبة بسبب الفعل الحادث لا فرق بيننا وبينكم بل قولنا اقرب إلى المعقول من قولكم فان أحداث الأمور المنفصلة بدون حدوث فعل يقوم بالفاعل أمر غير معقول بخلاف العكس
فإذا قالوا لهم السكون أمر وجودي فإذا كان أزليا كان له موجب قديم ويمتنع زواله
قالوا لهم حدوث ما يحدث اما ان يقف على سبب حادث واما ان لا يقف فإن وقف على امر حادث بطل قولكم بحدوث الأجسام وان لم يقف فقد يقال فرق بين حدوث حادث يزيل أمرا عدميا فإن لم يقف بطل قولكم بحدوث الأجسام وان وقف فلا فرق بين حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا أو حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا وذلك أنه ان جوز على الفاعل أن يحدث ما يحدث من غير تجدد أمر فقد تغير الأمر الذي لم يزل بلا سبب اقتضى التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته وحينئذ فيجوز أن يتغير السكون الذي لم يزل بدون سبب يقتضي التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته وإذا كان الفاعل القادر المختار قادرا على أن يحدث ما يحدث ويجعل المعدوم موجودا بدون سبب حادث أصلا لأنه يمكنه ترجيح احد طرفي الممكن بلا مرجح كان قادرا على أن يجعل
(2/387)
الساكن متحركا بدون سبب حادث أصلا لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا احداث الأجسام التي تكون ساكنة ومتحركة أعظم من احداث نفس حركاتها فإذا امكنه احداثها بدون سبب حادث فإحداث حركاتها أمكن وأمكن
وقال له ملو خلق الباري تعالى جسما ساكنا ثم أراد تحركيه بدون سبب حادث أكان ذلك ممكنا أو ممتنعا
فإن قلتم يمتنع ذلك بطل مذهبكم ودليلكم وان قلتم يمكن ذلك قيل لكم فالقول في زوال ذلك السكون كالقول في زوال غيره فإنه يقال السكون امر وجودي وذلك السكون الوجودي لا بد له من سبب وحينئذ فتجيء مسألة زوال الضد هل هو بإحداث ضد آخر أو باحداث عدمه أو بخلق فناء أو نفس الاعراض لا تبقى فيقال في هذا ما يقال في ذلك ومن قال السكون الوجودي لا يبقى زمانين بل ينقضي شيئا فشيئا قيل له فكذلك إذا قدر السكون قديما فإنه لا يبقى زمانين بل يحدث شيئا فشيئا وحينئذ فكل جزء من أجزاء السكون ليس هو قديما بنفسه كما قلتم في كل جزء من أجزاء الحركة ليس هو قديما بنفسه
فإذا كان القائلون بأن السكون أمر وجودي يقولون إنه يتجدد شيئا فشيئا كما يقولون مثل ذلك في الحركة
(2/388)
قيل لهم فيكون دليلكم على امتناع كون الأزلي ساكنا من جنس دليلكم على امتناع كونه متحركا وهو تناهي الحوادث وقد تقدم الكلام فيه
فإذا قالوا السكون امر وجودي فإذا كان قديما امتنع زواله لن ما وجب قدمه امتنع عدمه لأن القديم إما أن يكون واجبا بنفسه أو من لوازم الواجب بنفسه
قيل لهم هذا مثل أن يقال عدم الفعل هو تركه وترك الفعل أمر وجودي فإذا كان قديما امتنع عدمه لان ما وجب قدمه امتنع عدمه
فإذا قالوا عدم الفعل ليس هو تركا وجوديا امكن ان يقال عدم الحركة ليس هو سكونا وجوديا
وقد ضعف الآمدي وغيره هذه الحجة حجة الحركة والسكون وهي فاسدة على اصول من يقول بأن الاعراض لا تبقى زمانين من هذه الجهة وهي في الاصل من حجج المعتزلة الذين يقولون بجواز بقاء الاعراض لكن من ينازعهم من الهشامية والكرامية وغيرهم ممن يقول بإثبات جسم قديم وأنه قام من الفعل ما لم يكن قائما سواء سموا ذلك حركة كما يقر بعضهم بذلك أو لم يسموه حركة كما يمتنع بعضهم من ذلك فإن المقصود المعاني العقلية لا الإطلاقات اللفظية
(2/389)
فاذا قال من قال من معتزلة البصرة ان إفناء الأجسام بإحداث فناء لا في محل كما ان احداثها بحدوث إرادة لا في محل والتزموا حدوث عرض لا محل له وحدوث الحوادث بلا سبب حادث وأن من الحوادث ما يحدث بدون إرادة وقالوا لا يزول الضد إلا بحدوث ضده
قال لهم هؤلاء فكذلك إذا قدرنا جسما قديما تحرك بعد أن كان ساكنا كان زوال ذلك السكون بحدوث ضده من الحركة وحدوث ذلك بما به يحدث المنفصل ومن قال العرض يعدم بإحداث اعدام كما هو أحد القولين لمتكلمه أهل لأثبات من الأشعرية والكرامية وغيرهم قالوا ذلك السكون يعدم بإحداث اعدام والقول في سبب حدوث الاعدام كالقول في حدوث سبب الاحداث
وان قالوا ان السكون ينقضي شيئا فشيئا كما تنقضي الحركة شيئا فشيئا كما قالوا مثل ذلك في سائر الاعراض كما هو أحد قولي أهل الاثبات من الأشعرية وغيرهم قالوا لهم فالسكون اذن كالحركة فكما ان الحركة متعاقبة الاجزاء فكذلك السكون
ولا ريب ان هذه الأمور تلزم المستدلين بدليل الحركة والسكون لزوما لا محيد عنه وإنما التبس مثل هذا لأن الواحد من هؤلاء يبني على المقدمة الصحيحة في موضع ويلتزم ما يناقضها في موضع آخر فيظهر
(2/390)
من تناقض أقوالهم ما يبين فسادها لكن قد يكونوا ما أثبتوه في احد الموضعين صحيحا متفقا عليه فلا ينازعهم الناس فيه ولا في مقدماته وقد تكون المقدمات فيها ضعف لكن لكون النتيجة صحيحة يتساهل الناس في تسليم مقدماتها وانما يقع تحرير المقدمات والنزاع فيها إذا كانت النتيجة مورد نزاع
والمسلمون متفقون على ان الله سبحانه وتعالى وصفاته اللازمة لذاته لا يجوز عليها العدم وقد اشتهر في اصطلاح المتكلمين تسميته بالقديم بل غالب المعتزلة ومن سلك سبيلهم غالب ما يسمونه بالقديم وان كان من المعتزلة وغيرهم من لا يسميه بالقديم وان سماه بالأزلي واكثرهم يجعلون القدم أخص وصفه كما أن الفلاسفة المتأخرين الإلهين غالب ما يسمونه به واجب الوجود والمتقدمون منهم غالبا ما يسمونه به العلة الاولى والمبدأ الاول
فإذا قرر المقرر ان ما وجب قدمه امتنع عدمه كان من العلوم أن الرب القديم الواجب الوجود يمتنع عدمه تعالى وليس عند المسلمين قديم قائم بنفسه غيره حتى يقال انه يمتنع عدمه تعالى وليس عند المسلمين قديم قائم بنفسه غيره حتى يقال انه يمتنع عدمه والمتفلسفة القائلون بقدم الافلاك يقولون انه يمتنع عدمها فهذه المقدمة وان كانت صحيحة في نفسها فلا يصلح أن يستدل بها من قال بما يناقضها أو بما يستلزم ما يناقضها فإن نفس ما يستدل به عليها إذا ناقض قوله أمكن
(2/391)
معارضه أن يبطل حجته بالإعتراض المركب لا سيما إذا اقتضى فساد قوله على التقديرين
فمن كان من اصل قوله ان الفاعل المختار له أن يرجح احد المقدورين على الآخر بلا مرجح اصلا بمجرد كونه قادرا أو بمجرد ارادته القديمة وقدر مع ذلك جسم قديم قادر مختار يقبل الحركة والسكون كان تحركه بعد سكونه الدائم بمنزلة تحريكه لغيره فإن أمكن تحريكه لغيره بمجرد كونه قادرا أو بمجرد ارادته امكن ذلك في هذا الموضع ولا يمتنع من ذلك إلا ان يقول دليل على ان الجسم يمتنع قدمه أو ان القديم يمتنع كونه يتحرك لكن هؤلاء إذا لم يثبتوا حدوث الجسم او امتناع تحرك القديم إلا بهذا الدليل لم يمكنهم ان يجعلوا من مقدمات الدليل حدوث الجسم او امتناع حركة القديم بل إذا كان حدوث الجسم أو أمتناع حركة القديم موقوفا على هذا الدليل كانوا قد صادروا على المطلوب وجعلوا المطلوب حجة في اثبات نفسه لكن غيروا العبارات وداروا الدورات وهم من موضعهم لم يتغيروا فلهذا كان من وافقهم وفهم كلامهم حائرا لم يفده علما ومن لم يفهمه ووافقهم كان جاهلا مقلدا لاقوام جهال ضلال يظهرون انهم من أعلم الناس واصول الدين والكلام والعقليات
ثم ان الرازي ذكر من جهة المنازعين بأن هذه الوجوه الستة في امتناع كون الجسم ازليا متحركا التي تقدمت وتقدم اعتراض
(2/392)
الأرموي عليها معارضة بأن امتناع الحركة في الأزل ان كان لذاتها وجب ان لا توجد اصلا وان كان بغيرها فذلك المانع ان كان واجبا لذاته فكذلك وان كان واجبا لغيره عاد الكلام فيه وتسلسل او ينتهي إلى واجب الوجود لذاته ولزم امتناع زوال المانع
فإن قلت المانع هو مسمى الأزل لأنه ينافي المسبوقية بالغير إلى تقتضيها الحركة وانه زائل فيما لا يزال
قلت الترديد المذكور عائد في مسمى الأزل انه هو واجب لذاته او لغيره
وأجاب الرازي عن هذه المعارضة فقال قوله صحة الحركة ازلية قلنا انه لا يلزم من ازلية الصحة صحة الازلية قلت ولقائل ان يقول ما تعني بقولك صحة الحركة ازلية اتعني به انه يصح وجود الحركة في الأزل ام تعني به انه في الأزل يصح الحكم عليها بالصحة فيما لا يزال
(2/393)
أما الأول فهو تسليم للمطلوب واما الثاني فهو حكم علمي لا كلام فيه كالأحكام العقلية الذهنية فينا فإنه يصح في الازل الحكم بالامتناع على الممتنعات كما يصح الحكم بالجواز على الجائزات ثم يقال الحركة في الأزل اما ممتنعة الامكان العام الذي يدخل فيه الواجب واما ممكنة فان كانت ممتنعة فهو باطل كما تقدم وان كانت ممكنة كان الدليل على امتناعها باطلا فبطلت الوجوه الدالة على امتناع الحركة في الازل
ولم يرضى أبو الحسن الآمدي هذا الجواب الذي ذكره الرازي بل ذكر جوابا آخر فقال وجوابه أن يقال لا يلزم من امتناع الوجود الازلي على الحركة لذاتها امتناع الوجود الذي ليس بأزلي فإذا ما هو الممتنع غير زائل وهو الوجود الأزلي وما هو الجائز لم يكن ممتنعا
قلت ولقائل ان يقول هذا يستلزم انقلاب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الامكان الذاتي من غير تجدد سبب يوجب هذا الإنقلاب بما لا ينضبط لا في الوجود ولا في العقل فإن الامكان الذاتي ثابت بالضرورة والاتفاق وما من وقت يقدر فيه الامكان إلا والامكان ثابت قبله لا إلى غاية فليس للإمكان ابتداء محدود
يبين ذلك انه قد يقال صحة الحركة أو امكان الحركة او جواز
(2/394)
الحركة وصحة الفعل او جواز الفعل او امكان الفعل اما ان يكون له ابتداء واما ان لا يكون فإن لم يكن له ابتداء لزم انها لم تزل جائزة ممكنة فلا تكون ممتنعة فتكون جائزة في الأزل وان كان لجوازها ابتداء فمعلوم انه ما من وقت يقدره الذهن إلا والجواز ثابت قبله فكل ما يقدر فيه الجواز فالجواز ثابت قبله لا إلى غاية فعلم انه ليس للجواز بداية فيكون جواز ثبوت الحركات دائما لا ابتداء له ويلزم من ثبوت الجواز عدم الامتناع
وإذا قال القائل ان مسمى الحركة ممتنع في الأزل قيل معنى هذا الكلام أن مسمى الحركة يمتنع أن يكون قبله حركة اخرى لا إلى اول وزوال الأزل ليس موقوفا على تجدد أمر من الامور فإن المتجدد هو من الحوادث فتكون الحركة ممتنعة ثم صارت ممكنة من غير تجدد أمر من الامور
فإن قيل المتجدد هو عدم الأزل او انقضاء الأزل او نحو ذلك
قيل عدم الأزل ليس شيئا كان موجودا فعدم ولا معدوما فوجد إذ معنى الأزل في الماضي كمعنى الأبد في المستقبل فما ليس بأزلي فهو متجدد حادث فإذا قيل يشترط في جواز المتجدد الحادث تجدد المتجدد الحادث كان المعنى أنه يشترط في امكان الشيء ثبوته ومن المعلوم ان ثبوته كاف في إمكانه
(2/395)
يوضح هذا أن القائل إذا قال كل ما يسمى متجددا حادثا أما أن يكون ممكنا في الأزل واما أن لا يكون فإن كان ممكنا بطل القول بامتناعه في الأزل وان كان ممتنعا ثم صار ممكنا لزم انقلاب الشيء من كونه ممكنا الى كونه ممتنعا من غير تجدد شيء أصلا وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب ممتنعا لاستلزامه ترجيح احد طرفي الممكن بلا مرجح فالقول بتجدد الامكان والجواز او حدوث الامكان والجواز بلا سبب حادث اولى بالامتناع اذ كانت الحقيقة المحكوم عليها بالجواز والامتناع هي هي بالنسبة إلى كل ما يقدر في كل وقت وقت وإذا كانت نسبة الحقيقة إلى كل ما يقدر من الاوقات كنسبتها إلى الوقت الآخر امتنع اختصاص احد الوقتين بجواز الحقيقة فيه دون الوقت الآخر وإذا امتتنع الاختصاص إلا بمخصص ولا مخصص لزم اما الامتناع في جميع الاوقات وهو باطل بالحس والاجماع فلزم الامكان والجواز في جميع الاوقات وهو المطلوب
وعلى هذا التقدير فيمكن أن ينظم ما ذكروه من المعارضة بعبارة لا يرد عليها ما ذكر بأن يقال إن قيل ان الحركة لم تزل ممكنة
(2/396)
ثبت المطلوب وان قيل انها كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة فالإمتناع اما لذاتها واما لموجب واجب بذاته وعلى التقديرين فيلزم دوام الامتناع وان كان لا لذاتها ولا لموجب بذاته فلا بد أن يكون الامتناع لأمر واجب بغيره وحينئذ فالكلام في ذلك المانع كالكلام في غيره ويلزم التسلسل ثم يقال تسلسل الموانع ان كان ممكنا ثبت جواز التسلسل وامكن القول بتسلسل الحوادث وان كان تسلسل الموانع ممتنعا بطل كون الامتناع متسلسلا وقد بطل كونه واجبا بنفسه او بغيره فلا يكون الامتناع ثابتا في الأزل فيثبت نقيضه وهو الإمكان
وإيضاح ذلك بعبارة أخرى ان يقال مسمى الحركة اما ان يكون ممتنعا في الأزل واما ان لا يكون فإن لم يكن ممتنعا في الأزل ثبت امكانه فيكون مسمى الحركة ممكنا في الأزل وان كان ممتنعا في الأزل فامتناعه اما لنفسه واما لموجب واجب بنفسه او لازم للواجب وحينئذ فلا يزول الامتناع وان كان لمعنى متسلسل لزم جواز التسلسل وهو يستلزم بطلان الاصل الذي بني عليه امتناع تسلسل الحوادث
وسر هذا الدليل ان الازل ليس هو شيئا معينا محدودا ولكن ما من وقت يقدر إلا وقبله شيء آخر وهلم جرا وهذا هو التسلسل فيلزم من تحقق الأزل التسلسل
(2/397)
لكن قد يقال تسلسل العدميات ليس كتسلسل الوجوديات بل تسلسل العدميات ممكن بخلاف تسلسل الوجوديات ويكون حدوث الحوادث موقوفا على تسلسل العدميات فيقال ان لم يكن تسلسل العدميات أمرا محققا فلا حقيقة له فيكون امكان حدوث الحوادث موقوفا على ما لا حقيقة له وهذا باطل وان كان تسلسلها امرا محققا فقد ثبت ان تسلسل الامور المحققة جائز وانه ازلي مع أن كل واحد من تلك التسلسلات ليس بأزلي وهذا ينقض ما ذكروه في امتناع تسلسل الحوادث فهم بين امرين اما ان يقولوا بالترجيح بلا مرجح واما ان يقولوا بجواز التسلسل وهذا بعينه هو الذي يلزمهم في قولهم انه لا بد للحوادث من ابتداء فكما انهم في هذا يلزمهم اما الترجيح بلا مرجح واما التسلسل فكذلك في قولهم انه لا بد لامكانها من ابتداء يلزمهم اما هذا واما هذا والقول بالترجيح بلا مرجح تام ممتنع وهم متفقون على ان الترجيح بلا فاعل مرجح ممتنع لكن لا يشترطون تمام ما به يكون مرجحا بل يقولون يحصل الترجيح التام من غير حصول الرجحان ويحصل الرجحان بدون المرجح التام بناءا على ان القادر يرجح احد مقدورية بلا مرجح إذ ان الارادة القديمة ترجح احد المثلين بلا مرجح والقول بجواز التسلسل
(2/398)
يبطل القول بامتناع التسلسل فثبت بطلان قولهم على التقديرين درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول
(2/399)
قال الرازي البرهان الثاني كل جسم متناهى القدر وكل متناهى القدر محدث وقرر الثانية بان متناهى القدر يجوز كونه أزيد وأنقص فاختصاصه به دونهما لمرجح مختار وإلا فقد ترجح الممكن لا عن المرجح وفعل المختار محدث
قال الأرموي ولقائل أن يمنع لزوم الترجيح لا لمرجح
قلت مضمونه أنه يقول لا نسلم أنه إذا لم يكن المرجح للقدر مختارا لزم الترجيح بلا مرجح بل قد يكون أمرا مستلزما للقدر
(3/3)
فإن المرجح أعم من أن يكون مختارا أو غير مختار فإذا قدر المرجح أمرا مستلزما لذلك القدر إما أمر قائم به أو أمر منفصل عنه حصل المرجح للقدر وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكمال على هذا إذا ذكرنا اعتراضات الآمدي على هذا
قال الرازي البرهان الثالث لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيز معين لأن كل موجود مشار إليه حسا بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك والأزلي يمتنع زواله لما تقدم فامتنعت الحركة عليه وقد ثبت جوازها
قال الأرموي ولقائل أن يقول معنى الأزلي الدائم لا إلى أول فيكون معنى قولنا لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيز معين أنه لو كان الجسم دائما لا إلى أول لكان حصوله في حيز واحد معين دائما وهو معنى السكون وهذا ممنوع بل دائما يكون حصوله في موضع معين إما عينا وإما على البدل أي يكون في كل وقت في حيز معين غير الذي كان حاصلا فيه قبله انتهى
قلت مضمون هذا الاعتراض أن المشار إليه بأنه هنا أو هناك لا يستلزم حيزا معينا يمتنع انتقاله عنه غاية ما يقال إنه لا بد له من حيز أما كونه واحدا بعينه في جميع الأوقات فلا وإذا استلزم نوع الحيز لا عينه أمكن كونه تارة في هذا وتارة في هذا
(3/4)
يوضح هذا أن هذا الحكم لازم للجسم سواء قدر أزليا أو محدثا فإن الجسم المحدث لا بد له من حيز أيضا مع إمكان انتقاله عنه
فإن قال لا بد للجسم من حيز معين يكون فيه إذ المطلق لا وجود له في الخارج فإذا كان أزليا امتنع زواله بخلاف المحدث
قيل ليس الحيز أمرا وجوديا بل هو تقدير المكان ولو قدر أنه وجودي فكونه فيه نسبة وإضافة ليس أمرا وجوديا أزليا
وأيضا فيقال مضمون هذا الكلام لو كان أزليا للزم أن يكون ساكنا لا يتحرك عن حيزه لأن الموجود الأزلي لا يزول
فيقال إن لم يكن السكون وجوديا بطل الدليل وإن كان وجوديا فأنت لم تقم دليلا على إمكان زوال السكون الوجودي الأزلي وإنما أقمت الحجة على أن جنس الجسم يقبل الحركة ومعلوم أنه إذا كان كل جسم يقبل الحركة وغيرها من الصفات كالطعم واللون والقدرة والعلم وغير ذلك ثم قدر أن في هذه الصفات الوجودية ما هو أزلي قديم لوجوب قدم ما يوجبه لم يلزم إمكان زوال هذه الصفة التي وجب قدم ما يوجبها فإن ما وجب قدم موجبه وجب قدمه وامتنع حدوثه ضرورة
فإن قيل نحن نشاهد حركة الفلك فامتنع أن يقال لم يزل ساكنا
(3/5)
قيل أولا ليس الكلام في حدوث الفلك بعينه بل في حدوث كل جسم فإذا قدر جسم أزلي ساكن غير الفلك لم يكن فيما ذكره ولا في حركة الفلك دليل على حدوثه لا سيما عند من يقول القديم الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكنا كما يقوله كثير من النظار من الهشامية والكرامية وغيرهم
وقيل ثانيا الفلك وإن كان متحركا فحيزه واحد لم يخرج عن ذلك الحيز وحركته وضعية ليست حركة مكانية تتضمن نقله من حيز إلى حيز وحينئذ فقوله وقد ثبت جواز الحركة إن أراد به الحركة المكانية كان ممنوعا وإن أراد غيرها كالحركة الوضعية لم يلزم من ذلك جواز انتقاله من هذا الحيز إلى غيره
وقد سبق الآمدي إلى هذا الاعتراض فإنه قال في الاعتراض على المقدمة الأولى الأزل ليس هو عبارة عن زمان مخصوص ووقت مقدر حتى يقال بحصول الجسم في الحيز فيه بل الأزل لا معنى له غير كون الشيء لا أول له والأزل على هذا يكون صادقا على ذلك الشيء في كل وقت يفرض كون ذلك الشيء فيه فقول القائل الجسم في الأزل موصوف بكذا أي في حالة كونه متصفا بالأزلية وما من وقت يفرض ذلك الجسم فيه إلا وهو موصوف بالأزلية وأي وقت قدر حصول ذلك الجسم فيه وهو في حيز معين لم
(3/6)
يلزم أن يكون حصوله في ذلك الحيز المعين أزليا لأن نسبة حصوله في ذلك الحيز المعين كنسبة حصوله في ذلك الوقت المعين وما لزم من كون الجسم الأزلي لا يخلو عن وقت معين أن يكون كونه في الوقت المعين أزليا فكذلك الحصول في الحيز المعين قال وفيه دقة مع ظهوره
قلت ويوضح فساد هذه الحجة أن قوله كل جسم يجب اختصاصه بحيز معين لأن كل موجود يشار إليه حسا بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك يجاب عنه بأن يقال أتريد به أنه يجب اختصاصه بحيز معين مطلقا أو يجب اختصاصه بحيز معين حين الإشارة إليه أما الأول فباطل فليس كل مشار إليه إشارة حسية يجب اختصاصه دائما بحيز معين فإنه ما من جسم إلا وهو ويقبل الإشارة الحسية مع العلم بأنا نشاهد كثيرا من الأجسام تتحول عن أحيازها وأمكنتها
فإن قال بل يجب أن يكون حين الإشارة إليه له حيز معين فهذا حق لكن الإشارة إليه ممكنة في كل وقت أما كونه في كل الأوقات لا يكون إلا في ذلك المعين لا في غيره فلا والأزلي هو الذي لم يزل فليس بعض الأوقات أخص به من بعض حتى يقال يكون في ذلك الوقت
(3/7)
المعين في حيز معين بل يجوز أن يكون في وقت في هذا الحيز وفي وقت آخر في حيز آخر وتمام ذلك ما تقدم ذكره من أن الأزل ليس شيئا معينا حتى يطلب له حيز معين بل هو عبارة عن عدم الأول
ثم ذكر الرازي البرهان الرابع والخامس وليسا متعلقين بهذا المكان ومضمون الرابع أن كل ما سوى الواحد ممكن بذاته وكل ممكن بذاته فهو مفتقر إلى المؤثر والمؤثر لا يؤثر إلا في الحادث لا في الباقي سواء كان تأثيره فيه في حال حدوثه أو حال عدمه لأن التأثير في الباقي من باب تحصيل الحاصل
(3/8)
والمقدمة الأولى من هذه الحجة مبنية على توحيد الفلاسفة وهو نفي التركيب وأن كل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره وهو في غاية الضعف كما بسط في غير موضع
والثانية مبنية على أن علة الافتقار هي الحدوث لا الإمكان
قلت إنه إن أريد بذلك الحدوث مثلا دليل على أن المحدث يحتاج إلى محدث أو أن الحدوث شرط في افتقار المفعول إلى الفاعل
(3/9)
فهذا صحيح وإن أريد بذلك أن الحدوث هو الذي جعل المحدث مفتقرا إلى الفاعل فهذا باطل و كذلك الإمكان إذا أريد به أنه دليل على الافتقار إلى المؤثر أو أنه شرط في الافتقار إلى المؤثر فهذا صحيح وإن أريد به أنه جعل نفس الممكن مفتقرا فهذا باطل وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون كل من الإمكان والحدوث دليلا على الافتقار إلى المؤثر وشرطا في الافتقار إلى المؤثر
وإنما النزاع في مسألتين أحدهما أن الواجب بغيره هل يصح كونه مفعولا لمن يقول الفلك قديم معلول ممكن فهذا مما ينكره جماهير العقلاء ويقولون لا يمكن مقارنته لفاعله أزلا وأبدا ويقولون الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا معدوما تارة وموجودا أخرى فنفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق بذاتها واحتياجها إلى المؤثر أمر ذاتي لا يحتاج إلى علة فليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل وهو باطل باتفاق العلماء بل من الأحكام ما هو لازم للذوات لا يمكن أن يكون مفارقا للذوات ولا يفتقر إلى علة وكون كل ما سوى الله فقيرا إليه محتاجا إليه دائما هو من هذا الباب فالفقر والاحتياج أمر لازم ذاتي لكل ما سوى الله كما أن الغنى والصمدية أمر لازم لذات الله
وهنا ينشأ النزاع في المسألة الثانية وهو أن المحدث المخلوق هل افتقاره إلى الخالق المحدث وقت الإحداث فقط أو هو دائم مفتقر إليه على قولين للنظار
وكثير من أهل الكلام المتلقي عن جهم وأبي الهذيل يقولون إنه
(3/10)
لا يفتقر إليه إلا في حال الإحداث لا في البقاء وهذا في مقابلة قول الفلاسفة الدهرية القائلين بأن افتقار الممكن إلى الواجب لا يستلزم حدوثه بل افتقاره إليه في حال بقائه أزلا وأبدا وكلا القولين باطل
وهو في أكثر كتبه ينصر خلاف ذلك ولكن نحن نقرر أن كل ما سوى الواجب فهو محدث وأن التأثير لا يكون إلا في حادث وأن الحدوث والإمكان متلازمان وهو قول جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة وإنما أثبت ممكنا ليس بحادث طائفة من متأخري الفلاسفة كابن سينا والرازي فلزمهم إشكالات لا محيص عنها مع أنهم في كتبهم المنطقية يوافقون آرسطو وسلفهم وهو الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا وقد أنكر ابن رشد قولهم بأن الشيء الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يكون قديما أزليا وقال لم يقل بهذا أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا
قلت وابن سينا ذكر في الشفاء في مواضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا فتناقض في ذلك تناقضا مبسوطا في غير هذا الموضع
(3/11)
وقد أورد هو على هذه الحجة معارضة مركبة تستلزم فساد إحدى المقدمتين وهي المعارضة بكونه تعالى عالما بالعلم قادرا بالقدرة فإن علمه إن كان واجبا لذاته وذاته واجبة أيضا فقد وجد واجبان وبطلت المقدمة الأولى وإن كان ممكنا كان واجبا بغيره لوجوب ذاته ولزم كون الأثر والمؤثر دائمين وبطلت المقدمة الثانية ولم يجب عن هذه المعارضة بل قال وأما الجواب عن كونه عالما بالعلم قادرا بالقدرة فصعب
وقد اعترض الأرموي على ما ذكره في المقدمتين أما الأولى فإن الرازي قال لو وجد واجبان وجوبا ذاتيا لتشاركا في الوجوب الذاتي وتباينا بالتعيين فيلزم تركبهما مما به المشاركة والمباينة وكل مركب مفتقر إلى غيره لافتقاره إلى جزئه وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته
قال الأرموي ولقائل أن يقول قد يكون الوجوب والتعيين وصفين عرضيين للماهية البسيطة
(3/12)
قلت تقدم الكلام على هذا في التركيب وذكر ما استدلوا به على امتناع كونه عرضيا فإن الوصف الغرضي يحتاج إلى سبب منفصل عن الذات فيكون وجوب الواجب مفتقرا إلى شيء غير الواجب وأيضا فيكون وجوب الواجب وصفا عرضيا وهو ظاهر الفساد وأيضا التفريق في الصفات اللازمة للحقيقة بين الذاتي والعرضي تحكم محض
ولكن لقائل أن يقول قول القائل تشاركا في الوجوب الذاتي أتعني به تشاركهما في مطلق الوجوب أو أن أحدهما شارك الآخر في الوجوب الذي يخصه
فإن أراد الأول قيل له وكذلك قد اشتركا في مطلق التعين فإن هذا واجب وهذا واجب وهذا معين وهذا معين والمعينات مشتركة في مسمى التعين كما أن الواجبات مشتركة في مسمى الوجوب والموجودات مشتركة في مسمى الوجود والماهيات مشتركة في مسمى الماهية والحقائق مشتركة في مسمى الحقيقة وكذلك سائر الأسماء العامة المطلقة الكلية وحينئذ فلم يتباينا في مطلق التعيين كما لم يتباينا في مطلق الوجوب
وإن قال اشتركا في عين الوجوب
(3/13)
قيل هذا ممتنع كما أن اشتراكهما في عين التعين ممتنع
وإن جاز لقائل أن يقول هذا شارك هذا في نفس وجوبه الذي يخصه لجاز لآخر أن يقول إن هذا شارك هذا في نفس تعينه الذي يخصه وإنما المستدل أخذ الوجوب مطلقا وأخذ التعين مقيدا وكان الواجب أن يسوى بينهما في الإطلاق والتعيين إذ هما متلازمان فإن وجوب هذا ملازم لعينه ووجوب هذا ملازم لعينه فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر
ولو عكس عاكس قوله لكان قوله مثل قوله بأن يقول اشتركا في التعين الذاتي فإن لكل منهما تعينا ذاتيا وتباينا في الوجوب فإن لكل منهما وجوبا يخصه ومعلوم أن هذا فاسد فكذلك نظيره
وفي الجملة فالصفات المتلازمة لا يكون بعضها أخص من بعض فإذا قدر إنسانان فكل منهما له إنسانية تخصه وحيوانية تخصه وناطقية تخصه وهي متلازمة لا توجد إنسانيته دون ناطقيته ولا ناطقيته دون إنسانيته ولا توجد واحدة منهما دون عينه المعينة وإن وجد
(3/14)
إنسانية أخرى وناطقية أخرى فتلك نظير إنسانيته وناطقيته ليست هي هي بعينها كما أن هذا الإنسان نظير هذا الإنسان ليس هو إياه بعينه إلا أن يراد بلفظ العين النوع كما يقال لمن عمل مثل ما يعمل غيره هذا عمل فلان بعينه فالمقصود أنه ذلك النوع بعينه ليس المقصود أنه ذلك العمل المشخص الذي قام بذات ذلك الفاعل فإنه مخالف للحس فقد تبين أن الموجودين والواجبين ونحو ذلك لم يتركب أحدهما من مشارك ومميز بل ليس فيه إلا وصف مختص به يتميز به عن غيره وإن كانت صفاته بعضها يشابه فيها غيره وبعضها يخالف فيها غيره
فإذا قيل لو قدر واجبان أو موجودان أو إنسانان لكان أحدهما يشابه الآخر في الوجوب أو الوجود أو الإنسانية لكان صحيحا ولكان يمكن مع ذلك أنه يشابهه في الحقيقة كما يمكن أن يخالفه
ثم هب أن كلا منهما فيه ما يشارك به غيره وما يتميز به عنه فقوله إنه مركب مما به الاشتراك والامتياز إن عنى بذلك أنه موصوف بالأمرين فصحيح وإن عنى أن هناك أجزاء تركبت ذاته منها فهذا باطل كقول من يقول إن الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية فإنه لا ريب أنه موصوف بهما وأما كون الإنسان المعين له أجزاء تركب منها فهذا باطل كما تقدم
(3/15)
ولو سلم أن مثل هذا يسمى تركيبا فقوله كل مركب مفتقر إلى غيره يدخل فيه ما ركبه المركب كالأجسام المركبة من مفرداتها من الأغذية والأدوية والأشربة ونحو ذلك ويدخل فيه ما يتميز بعض جوانبه عن بعض ويدخل فيه الموصوف بصفات لازمة له وهذا هو الذي أراده هنا
فيقال له حينئذ يكون المراد أن كل ما كان له صفة لازمة له فلا بد في ثبوته من الصفة اللازمة له وهذا حق وهب أنك سميت هذا تركيبا فليس ذلك ممتنعا في واجب الوجود بل هو الحق الذي لا يمكن نقيضه
قولك المركب مفتقر إلى غيره معناه أن الموصوف بصفة لازمة له لا يكون موجودا بدون صفته اللازمة له لكن سميته مركبا
(3/16)
وسميت صفته اللازمة له جزءا وغيرا وسميت استلزامه إياها افتقارا فقولك بعد هذا كل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته معناه أن كل مستلزم لصفة لازمة لا يكون موجودا بنفسه بل بشيء مباين له ومعلوم أن هذا باطل وذلك لأن المعلوم أن ما كانت ذاته تقبل الوجود والعدم فلا يكون موجودا بنفسه بل لا بد له من واجب بنفسه يبدعه وهذا حق فهو مفتقر إلى شيء مباين له يبدعه وهذا هو الغير الذي يفتقر إليه الممكن وكل ما افتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجودا بنفسه قطعا أما إذا أريد بالغير الصفة اللازمة وأريد بالافتقار التلازم فمن أين يقال إن كل ما استلزم صفة لازمة له لا يكون موجودا بنفسه بل يفتقر إلى مبدع مباين له
وقد ذكرنا مثل هذا في غير موضع وبينا أن لفظ الجزء والغير والافتقار والتركيب ألفاظ مجملة موهوا بها على الناس فإذا فسر مرادهم بها ظهر فساده وليس هذا المقام مقام بسط هذا
ونحن هذا البرهان عندنا صحيح وهو أن كل ما سوى الله ممكن وكل ممكن فهو مفتقر إلى المؤثر لأن المؤثر لا يؤثر إلا في حال حدوثه لكن يقرر ذلك بمقدمات لم يذكرها الرازي هنا كما بسط في موضع آخر
وأما الجواب عن المعارضة بكون الرب عالما قادرا فجوابه أن
(3/17)
الواجب بذاته يراد به الذات الواجبة بنفسها المبدعة لكل ما سواها وهذا واحد ويراد به الموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم
وعلى هذا فالذات واجبة والصفات واجبة ولا محذور في تعدد الواجب بهذا التفسير كما لا محذور في تعدد القديم اذا اريد به ما لا اول لوجوده وسواء كان ذاتا او صفة لذات القديم بخلاف ما اذا اريد بالقديم الذات القديمة الخالقة لكل شيء فهذا واحد لا اله إلا هو وقد يراد بالواجب الموجود بنفسه القائم بنفسه وعلى هذا فالذات واجبة دون الصفات
وعلى هذا فإذا قال القائل الذات مؤثرة في الصفات والمؤثر والاثر ذاتان قيل له لفظ التأثير مجمل اتعني بالتأثير هنا كونه ابدع الصفات وفعلها ام تعني به كون ذاته مستلزما لها فالأول ممنوع في الصفات والثاني مسلم والتأثير في المبدعات هو بالمعنى الاول لا بالمعنى الثاني بل قد بينا في غير هذا الموضع انه يمنع ان يكون مع الله شيء من المبدعات قديم بقدمه
قال الرازي في البرهان الخامس لو كان الجسم قديما لكان قدمه أما ان يكون عين كونه جسما واما مغايرا لكونه جسما والقسمان باطلان فبطل القول بكون الجسم قديما
(3/18)
انما قلنا انه لا يجوز ان يكون قدم الجسم عين كونه جسما لانه لو كان كذلك لكان العلم بكونه جسما علما بكونه قديما فكما ان العلم بكونه جسما ضروري لزم ان يكون العلم بكونه قديما ضروريا ولما بطل ذلك فسد هذا القسم
وانما قلنا انه لا يجوز ان يكون قدم الجسم زائدا على كونه جسما لان ذلك الزائد ان كان قديما لزم ان يكون قدمه زائدا عليه ولزم التسلسل وان كان حادثا فكل حادث فله أول وكل قديم فلا أول له فلو كان قدم القديم عبارة عن ذلك الحادث للزم ان يكون ذلك الشيء له أول وان لا يكون له أول وهو محال
ثم قال فان عارضوا بكونه حادثا قلنا الحادث عبارة عن مجموع الوجود الحاصل في الحال والعدم السابق ولا يبعد حصول العلم بالوجود الحاصل مع الجهل بالعدم السابق بخلاف القديم فانه لا معنى له إلا نفس وجوده فظهر الفرق
ثم قال وهذا وجه جدلى فيه مباحثات دقيقة
(3/19)
قال وليكن هذا اخر كلامنا في شرح دلائل حدوث الاجسام
قلت قال الارموى لقائل ان يقول ضعف الاصل والجواب لا يخفي اه
قلت قد بين في غير هذا الموضع فساد مثل هذه الحجة من وجوه وهي مبينة على ان القديم هل هو قديم بقدم ام لا فمذهب ابن كلاب والاشعري في احد قوليه وطائفة من الصفاتية انه قديم بقدم ومذهب الاشعري في القول الاخر والقاضي ابي بكر والقاضي ابي يعلي وابي علي بن ابي موسى وابي المعالى الجويني وغيرهم ليس كذلك وهم متنازعون في البقاء فقول الاشعري وطائفة معه انه باق ببقاء وهو قول الشريف وابي علي بن ابي موسى وطائفة وقول القاضي ابي بكر وطائفة كالقاضي ابي يعلي ونحوه نفى ذلك
وحقيقة الأمر ان النزاع في هذه المسالة اعتباري لفظى كما قد بسط في غير هذا الموضع وهو متعلق بمسائل الصفات هل هي زائدة على الذات ام لا وحقيقة الأمر ان الذات ان اريد بها الذات الموجودة في الخارج فتلك مستلزمة لصفاتها يمتنع وجودها بدون تلك الصفات واذا قدر عدم اللازم لزم عدم الملزوم فلا يمكن فرض
(3/20)
الذات الموجودة في الخارج منفكة عن لوازمها حتى يقال هي زائدة او ليس زائدة لكن يقدر ذلك تقديرا في الذهن وهو القسم الثاني فإذا اريد بالذات ما يقدر في النفس مجردا عن الصفات فلا ريب ان الصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في النفس ومن قال من متكملة اهل السنة ان الصفات زائدة على الذات فتحقيق قوله انها زائدة على ما اثبته المنازعون من الذات فإنهم اثبتوا ذات مجردة عن الصفات ونحن نثبت صفاتها زائدة على ما اثبتوه هم لا انا نجعل في الخارج ذاتا قائمة بنفسها ونجعل الصفات زائدة عليها فإن الحي الذي يمتنع ان لا يكون إلا حيا كيف تكون له ذات مجردة عن الحياة وكذلك ما لا يكون إلا عليما قديرا كيف تكون ذاته مجردة عن العلم والقدرة
والذين فوقوا بين الصفات النفسية والمعنوية قالوا القيام بالنفس والقدم ونحو ذلك من الصفات النفسية بخلاف العلم والقدرة فإنهم نظروا إلى ما لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديره فجعلوه من النفسية وما يمكن تقديرها بدونه فجعلوه معنويا ولا ريب انه لا يعقل موجود قائم بنفسه ليس قائما بنفسه بخلاف كما يقدر انه عالم فإنه يمكن تقدير ذاته بدون العلم
وهذا التقدير عاد إلى ما قدروه في انفسهم وألا ففي نفس الأمر جميع صفات الرب اللازمة له هي صفات نفسية ذاتية فهو عالم بنفسه وذاته وهو عالم بالعلم وهو قادر بنفسه وذاته وهو قادر بالمقدرة
(3/21)
فله علم لازم لنفسه وقدرة لازمة لنفسه وليس ذلك خارجا عن مسمى اسم نفسه
وعلى كل تقدير فالاستدلال على حدوث الاجسام بهذه الحجة في غاية الضعف كما اعترفوا هم به فإن ما ذكروه يوجب ان لا يكون في الوجود شيء قديم سواء قدر انه جسم او غير جسم فانه يقال لو كان الرب رب العالمين قديما لكان قدمه أما ان يكون عين كونه ربا وإما زائدا عن ذلك والأمران باطلان فبطل كونه قديما
أما الأول فلأن لو كان كذلك لكان العلم بكونه ربا أو واجب الوجود أو نحو ذلك علما بكونه قديما وهذا باطل
وأما الثاني فلأن ذلك الزائد إن كان قديما يلزم أن يكون قدمه زائدا عليه ولزم التسلسل وإن كان حادثا كان للقديم أول فما كان جوابا عن مواضع الإجماع كان جوابا في موارد النزاع وإن كان العلم بكونه رب العالمين يستلزم العلم بقدمه لكن ليس العلم بنفس الربوبية هو العلم بنفس القدم بل قد يقوم العلم الأول بالنفس مع ذهولها عن الثاني وقد يشك في قدمه مع العلم بأنه ربه ويخطر له أن للرب ربا حتى يتبين له فساد ذلك وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح في قوله
إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلق كذا فيقول الله فيقول فمن خلق الله فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته وقد بسطت هذا في موضع آخر كما سيأتي إن شاء الله
(3/22)
والمقصود هنا أن هذه البراهين الخمسة التي احتج بها على حدوث الأجسام قد بين أصحابه المعظمون له ضعفها بل هو نفسه أيضا بين ضعفها في كتب أخرى مثل = المطالب العالية وهي آخر ما صنفه وجمع فيها غاية علومه و = المباحث المشرقية وجعل منتهى نظره وبحثه تضعيفها
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع وبين كلام السلف والأئمة في هذا الموضع كالإمام أحمد وغيره وكلام النظار الصفاتية كأبي محمد بن كلاب وغيره وأن القائل إذا قال عبدت الله ودعوت الله وقال الله خالق كل شيء ونحو ذلك فاسمه تعالى يتناول الذات والصفات ليست الصفات خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على ذلك بل هي داخلة في مسمى اسمه ولهذا قال أحمد فيما صنفه في الرد على الجهمية نفاة الصفات قالوا إذا قلتم الله وعلمه والله وقدرته والله ونوره قلتم بقول النصارى فقال لا نقول الله وعلمه والله وقدرته والله ونوره ولكن الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد فبين أحمد أنا لا نعطف صفاته على مسمى اسمه العطف المشعر بالمغايرة بل ننطق بما يبين أن صفاته داخلة في مسمى اسمه
(3/23)
ولما ناظره الجهمية في محنته المشهورة فقال له عبد الرحمن بن إسحاق القاضي ما تقول في القرآن أهو الله أم غير الله يعني إن قلت هو الله فهذا باطل وإن قلت غير الله فما كان غير الله فهو مخلوق
فأجابه أحمد بالمعارضة بالعلم فقال ما تقول في علم الله أهو الله أم غير الله فقال أقول في كلامه ما أقوله في علمه وسائر صفاته وبين ذلك في رده على الجهمية بأنا لا نطلق لفظ الغير نفيا ولا إثباتا إذ كان لفظا مجملا يراد بغير الشيء ما باينه وصارت مفارقته له ويراد بغيره ما أمكن تصوره بدون تصوره ويراد به غير ذلك
وعلم الله وكلامه ليس غير الذات بالمعنى الأول وهو غيرها بالمعنى الثاني ولكن كونه ليس غير الله بالمعنى الأول فعلى إطلاقه وأما كونه غير الله بالمعنى الثاني ففيه تفصيل فإن أريد بتصوره معرفته المعرفة الواجبة الممكنة في حق العبد فلا يعرفه هذه
(3/24)
المعرفة من لم يعرف أنه حي عليم قادر متكلم فلا يمكن تصوره ومعرفته بدون صفاته فلا تكون مغايرة لمسمى اسمه وإن أريد أصل التصور وهو الشعور به من بعض الوجوه فقد يشعر به من لا يخطر له حينئذ أنه حي ولا عليم ولا متكلم فتكون صفاته مغايرة له بالاعتبار الثاني
وأجاب أحمد أيضا بأن الله لم يسم كلامه غيرا ولا قال إنه ليس بغير يعني والقائل إذا قال ما كان غير الله أو سوى الله فهو مخلوق فإن احتج على ذلك بالسمع فلا بد أن يكون مندرجا هذا اللفظ في كلام الشارع وليس كذلك وإن احتج بالعقل فالعقل إنما يدل على خلق الأمور المباينة له وأما صفاته القائمة بذاته فليست مخلوقة والذين يجعلون كلامه مخلوقا يقولون هو بائن عنه والعقل يعلم أن كلام المتكلم ليس ببائن عنه
وبهذا التفصيل يظهر أيضا الخلل فيما ذكروه من الفرق بين الصفات الذاتية والمعنوية بأن الذاتية لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديرها بخلاف المعنوية فإنه يقال لهم ما تعنون بتقدير الذات في الذهن أو تصور الذات أو نحو ذلك من الألفاظ أتعنون به أصل الشعور والتصور والمعرفة ولو من بعض الوجوه أم تريدون به التصور والمعرفة والشعور والواجب أو الممكن أو التام فإن عنيتم الأول فما من
(3/25)
صفة تذكر إلا ويمكن أن يشعر الإنسان بالذات مع عدم شعوره بها
وقد يذكر العبد ربه ولا يخطر له حينئذ كونه قديما أزليا ولا باقيا أبديا ولا واجب الوجود بنفسه ولا قائما بنفسه ولا غير ذلك وكذلك قد يخطر له ما يشاهده من الأجسام ولا يخطر له كونه متحيزا أو غير متحيز
وإن عنيتم الثاني فمعلوم أن الإنسان لا يكون عارفا بالله المعرفة الواجبة في الشرع ولا المعرفة التي تمكن بني آدم ولا المعرفة التامة حتى يعلم أنه حي عليم قدير وممتنع لمن يكون عارفا بأن الله متصف بذلك إذا خطر بباله ذاته وهذه الصفات أن يمكن تقدير ذاته موجودة في الخارج بدون هذه الصفات كما يمتنع أن يقدر ذاته موجودة في الخارج بدون أن تكون قديمة واجبة الوجود قائمة بنفسها فجميع صفاته تعالى اللازمة لذاته يمتنع مع تصور الصفة والموصوف والمعرفة بلزوم الصفة للموصوف يمتنع أن يقدر إمكان وجود الذات بدون الصفات اللازمة لها مع العلم باللزوم وإن قدر عدم العلم باللزوم أو عدم خطور الصفات اللازمة بالبال فيمكن خطور الذات بالبال بدون شيء من هذه الصفات وإذا علم لزوم بعض الصفات دون بعض فما علم لزومه لا يمكن تقدير وجود الذات دونه وما لم يعلم لزومه أمكن الذهن أن يقدر وجوده دون وجود تلك الصفة التي لم يعلم لزومها لكن هذا الإمكان معناه عدم العلم بالامتناع لا العلم بالإمكان في الخارج إذ كل ما لم يعلم الإنسان عدمه فهو ممكن عنده
(3/26)
إمكانا ذهنيا بمعنى عدم علمه بامتناعه لا إمكانا خارجيا بمعنى أنه يعلم إمكانه في الخارج
وفرق بين العلم بالإمكان وعدم العلم بالامتناع وكثير من الناس يشتبه عليه هذا بهذا فإذا تصور ما لا يعلم امتناعه أو سئل عنه قال هذا ممكن وهذا غير ممتنع وهذا لو فرض وجوده لم يكن من فرضه محال
وإذا قيل له قولك إنه لو فرض وجوده لم يلزم منه محال قضية كلية وسلب عام فمن أين علمت أنه لا يلزم من فرض وجوده محال والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل وهل علمت ذلك بالضرورة المشتركة بين العقلاء أم بنظر مشترك أم بضرورة اختصصت بها أم بنظر اختصصت به فإن كان بالضرورة المشتركة وجب أن يشركك نظراؤك من العقلاء في ذلك وليس الأمر كذلك عندهم وإن كان بنظر مشترك فأين الدليل الذي تشترك فيه أنت وهم وإن كان بضرورة مختصة أو نظر مختص فهذا أيضا باطل لوجهين أحدهما أنك تدعي أن هذا مما يشترك فيه العقلاء ويلزمهم موافقتك فيه وتدعي أنهم إذا ناظروك كانوا منقطعين معك بهذه الحجة وذلك يمنع دعواك الاختصاص بعلم ذلك والثاني أن اختصاصك بعلم ذلك ضرورة أو نظرا إنما يكون لاختصاصك بما يوجب تخصيصك بذلك كمن خص بنبوة أو تجربة أو نحو ذلك مما ينفرد به وأنت لست كذلك فيما تدعي إمكانه ولا تدعي اختصاصك بالعلم بإمكانه وإن ادعيت ذلك لم يلزم غيرك موافقتك في ذلك إن لم تقم
(3/27)
عليه دليلا يوجب موافقتك سواء كان سمعيا أو عقليا وأنت تدعي أن هذا من العلوم المشتركة العقلية وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على هذا الأصل الذي نشأ منه التنازع أو الاشتباه في مسائل الصفات من هذا الوجه وتفريق هؤلاء المتكلمين في الصفات اللازمة للموصوف بين ما سموها نفسية وذاتية وما سموها معنوية يشبه تفريق المنطقيين في الصفات اللازمة بين ما سموه ذاتيا مقوما داخلا في الحقيقة وما سموه عرضيا خارجا عن الذات مع كونه لازما لها وتفريقهم في ذلك بين لازم الماهية ولازم وجود الماهية كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
وبين أن هذه الفروق إنما تعود عند الحقيقة إلى الفرق بين ما يتصور في الأذهان وهو الذي قد يسمى ماهية وبين ما يوجد في الأعيان وهو الذي قد يسمى وجودها وأن ما يتصور في النفس من المعاني ويعبر عنه بالألفاظ له لفظ دل عليه بالمطابقة هو الدال على تلك الماهية وله جزء من المعنى هو جزء تلك الماهية واللفظ المذكور دال عليه بالتضمن وله معنى يلزمه خارج عنه فهو اللازم لتلك الماهية الخارج عنها واللفظ يدل عليه بالالتزام وتلك الماهية التي في الذهن هي بحسب ما يتصوره الذهن من صفات الموصوف تكثر تارة وتقل تارة وتكون تارة مجملة وتارة مفصلة وأما الصفات اللازمة للموصوف في الخارج فكلها لازمة له لا تقوم ذاته مع عدم شيء منها وليس منها شيء يسبق الموصوف في الوجود العيني كما قد
(3/28)
يزعمونه من أن الذاتي يسبق الموصوف في الذهن والخارج وتلك الصفات هي أجزاء الماهية المتصورة في الذهن كما أن لفظ كل صفة جزء من تلك الألفاظ إذا قلت جسم حساس نام مغتذ متحرك بالإرادة ناطق وأما الموصوف الموجود في الخارج كالإنسان فصفاته قائمة به حالة فيه ليست أجزاء الحقيقة الموجودة في الخارج سابقة عليها سبق الجزء على الكل كما يتوهمه من يتوهمه من هؤلاء الغالطين كما قد بسط في موضعه
وقول هؤلاء المتكلمين في الصفات اللازمة إنها زائدة على حقيقة الموصوف يشبه قول أولئك إن الصفات اللازمة العرضية خارجة عن حقيقة الموصوف وكلا الأمرين منه تلبيس واشتباه حاد بسببه كثير من النظار الأذكياء وكثر بينهم النزاع والجدال والقيل والقال وبسط هذا له موضع آخر
وإنما المقصود هنا التنبيه على ذلك والله أعلم وأحكم وإن كان
(3/29)
قد بسط الكلام على ضعفها في غير هذا الموضع مع أن هذا الذي ذكره مستوعب لما ذكره غيره من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم في ذلك
وكان المقصود ما ذكروه في تناهي الحوادث ولهذا لم يعتمد الآمدي في مسألة حدوث العالم على شيء من هذه الطرق بل بين ضعفها واحتج بما هو مثلها أو دونها في الضعف وهو أن الأجسام لا تنفك عن الأعراض والأعراض لا تبقى زمانين فتكون حادثة وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث وهذا الدليل مبني على مقدمتين على أن كل عرض في زمان فهو لا يبقى زمانين وجمهور العقلاء يقولون إن هذا مخالف للحسن والضرورة وعلى امتناع حوادث لا أول لها وقد عرف الكلام في ذلك والوجوه التي ضعف بها الامدى ما احتج به من قبله على حدوث الأجسام يوافق كثير منها ما ذكره الارموى وهو متقدم على الارموى
فأما ان يكون الارموى راى كلامه وانه صحيح فوافقه و اما ان يكون وافق الخاطر الخاطر كما يوافق الحافر الحافر او ان يكون الارموى و الامدى اخذا ذلك او بعضه من كلام الرازي او غيره
وهذا الإحتمال ارجح فان هذين و امثالها وقفوا على كتبه التي فيها هذه
(3/30)
الحجج مع ان تضعيفها مما سبق هؤلاء اليه كثير من النظار ومن تكلم النظار ينظر ما تكلم به من قبله فإما ان يكون أخذه عنه او تشابهت قلوبهم
وبكل حال فهما مع الرازي ونحوه من افضل بني جنسهم من المتأخرين فاتفاقهما دليل على قوة هذه المعارضات لا سيما إذا كان الناظر فيها ممن له بصيرة من نفسه يعرف بها الحق من الباطل في ذلك بل يكون تعظيمه لهذه البراهين لان كثيرا من المتكلمين من هؤلاء وغيرهم اعتمد عليها في حدوث الأجسام فإذا راى هؤلاء وغيرهم من النظار قدح فيها وبين فسادها علم ان نفس النظار مختلفون في هذه المسالك وان هؤلاء الذين يحتجون بها هم بعينهم يقدحون فيها وعلى القدح فيها استقر أمرهم وكذلك غيرهم قدح فيها كأبي حامد الغزالي وغيره
وليس هذا موضع استقصاء ذكر من قدح قي ذلك و انما المقصود القدح في هذه المسالك التي يسمونها براهين عقلية ويعارضون بها نصوص الكتاب والسنة واجماع السلف ثم ان نفس حذاقهم قدحوا فيها
فأما المسلك الأول الذي ذكره الرازي فقال الامدى المسلك السادس لبعض المتأخرين من اصحابنا في الدلالة على اثبات حدوث الأجسام وهو انه لو كانت الأجسام أزلية لكانت في الأزل أما ان
(3/31)
تكون متحركة او ساكنة وساق المسلك إلى اخره ثم قال وفيه وفي تقريره نظر وذلك ان القاتل يقول أما ان تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز اخر والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد ان كان في ذلك الحيز او لا تكون كذلك فان كان الاول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه فانه ليس متحركا لعدم حصوله في الحيز بعد ان كان في حيز اخر وليس ساكنا لعدم حصوله في الحيز بعد ان كان فيه وان كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون امرا وجوديا ولا محيص عنه
فان قيل الكلام انما هو في الجسم في الزمن الثاني والجسم في الزمن الثاني ليس يخلو عن الحركة والسكون بالتفسير المذكور فهو ظاهر الاحالة فانه إذا كان الكلام في الجسم انما هو في الزمن
(3/32)
الثاني من وجود الجسم فالزمن الثاني ليس هو حالة الأزلية وعند ذلك لا يلزم ان يكون الجسم ازلا لا يخلو عن الحركة والسكون
قال وان سلمنا الحصر فلم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية وما ذكروه من الوجه الاول في الدلالة فانما يلزم ان لو قيل بان الحركة الواحدة بالشخص أزلية وليس كذلك بل المعنى بكون الحركة أزلية ان اعداد اشخاصها المتعاقبة لا أول لها وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحدة من احاد الحركات المشخصة حادثة ومسبوقة بالغير وبين كون جملة احادها أزلية بمعنى متعاقبة إلى غير النهاية
قال وما ذكروه في الوجه الثاني باطل أيضا فان كل واحدة من الحركات الدورية وان كانت مسبوقة بعدم لا بداية له فمعنى اجتماع الاعدام السابقة على كل واحدة من الحركات في الازل انه لا أول لتلك الاعدام ولا بداية ومع ذلك فالعدم السابق على كل
(3/33)
حركة وان كان لا بداية له فيقارنه وجود حركات قبل الحركة المفروضة لا نهاية لها على جهة التعاقب أي يعاقبه وجود حركات لا نهاية لها من قبل الحركة المفروضة وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق
وعلى هذا فيكون الكلام في العدم السابق على حركة حركة وعلى هذا فحصول شيء من الموجدات الأزلية مع هذه الإعدام ازلا على هذا النوع لا يكون ممتنعا إذ ليس فيه مقارنة السابق للمسبوق على ما عرف
قال وفيه دقة فليتأمل
قلت هذا هو الاعتراض الذي ذكره الارموى وقد ذكره غيرهما والظاهر ان الارموى تلقى هذا عن الامدى وهم يقولون اجتماع الإعدام لا معنى له سوى انها مشتركة في عدم البداية والأولية وحينئذ فعدم كل حركة يمكن ان يقارنه وجود اخرى وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق وهذا الذي قالوه صحيح لكن قد يقال هذا الاعتراض انما يصح لو كان احتج بأن في ذلك مقارنة السابق للمسبوق فقط وهو لم يحتج إلا بان العدمات تجتمع في الازل وليس معها
(3/34)
شيء من الموجدات إذ لو كان معها موجود لكان هذا الموجود مقارنا لتلك العدمات المجتمعة ومنها عدمه فاقترن السابق والمسبوق فعدمته اجتماعها في الأزل
وقد قالوا له ان عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا فهو ممنوع لانه ما من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها وهو يقول انا لم اعن باجتماعها في حين حادث ليلزمني انتهاء واحد منها وانما قلت هي مجتمعة في الأزل
وفصل الخطاب ان يقال العدم ليس بشيء وليس لعدم هذه الحركة حقيقة ثابتة مغايرة لعدم الاخرى حتى يقال ان اعدامها اجتمعت في الأزل او لم تجتمع بل معنى حدوث كل منها انها كانت بعد ان لم تكن وكون الحوادث كلها مشتركة في انها لم تكن لا يوجب ان يكون عدم كونها حقائق متغايرة ثابتة في الأزل
يوضح ذلك ان يقال أتعنى بكونها مسبوقة بالعدم ان جنسها مسبوق بالعدم او لك واحد منها مسبوق بالعدم أما الاول فهو محل النزاع و اما الثاني فإذا قدر ان كل واحد كان بعد ان لم يكن والجنس لم يزل كائنا لم يجز ان يقال الجنس كائن بعد ان لم يكن ولا يلزم من كون كل من افراده مسبوقا بعدم ان يكون الجنس مسبوقا بالعدم إلا إذا ثبت حدوث الجنس وهو محل النزاع وعدم الحوادث هو نوع واحد ينقضي بحسب الحدوث فكلما حدث حادث انقضى من ذلك العدم عدم ذلك الحادث ولم ينقض عدم غيره فالأزلى حينئذ عدم اعيان الحوادث كما ان الأزلي عند من يقول بأنه لا
(3/35)
أول لها هو جنس الحوادث فجنس وجودها أزلي وعدم كل من أعيانها أزلي ولا منافاة بين هذا وهذا إلا أن يثبت وجوب البداية وهو محل النزاع
وبهذا يظهر الجواب عما ذكره بعضهم في تقرير هذا الوجه فإن بعضهم لما رأى ما أوردوه على ما ذكره الرازي حرر الدليل على وجه آخر فقال القول بكون كل من الحركات الجزئية مسبوقا بأخرى لا إلى أول يسلتزم المحال فيكون محالا
بيان الأول أن كل واحد منها من حيث إنه حادث يقتضي أن يكون مسبوقا بعدم أزلي لأن كل حادث مسبوق بعدم أزلي فهذا يقتضي أن تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل ومن حيث أنه ما من جنس يفرض إلا ويجب أن يكون فرد منها موجودا يقتضي ألا تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل وإلا لزم أن يكون السابق مقارنا للمسبوق ولا شك أن اجتماعها في الأزل وعدم اجتماعها فيه متناقضان فالمستلزم له محال
فيقال لمن احتج بهذا الوجه العدم الأزلي السابق على كل من الحوادث إن جعلته شيئا ثابتا في الأزل متميزا عن عدم الحادث الآخر فهذا ممنوع فإن العدم الأزلي لا امتياز فيه أصلا ولا يعقل حتى يقال إن هناك أعداما ولكن إذا حدث حادث علم أنه انقضى عدمه الداخل في ذلك النوع الشامل لها وليس شمول جنس الموجودات لها
(3/36)
كشمول جنس العدم للمعدومات فإن الموجودات لها امتياز في الخارج فشخص هذا الموجود متميز في الخارج عن شخص الآخر وأما العدم فليس بشيء أصلا في الخارج ولا امتياز فيه بوجه من الوجوه
ولكن هذا الدليل قد بني على قول من يقول المعدوم شيء ولا يبعد أن يكون الرازي أخذ هذا الوجه من المعتزلة القائلين بهذا فإنهم يثبتون المعدوم شيئا فيكون هذا الحادث في حال عدمه شيئا وهذا الحادث في حال عدمه شيئا وحينئذ فللحوادث أعدام متميزة ثابتة في الأزل
وهؤلاء القائلون بهذا يقولون ذلك في كل معدوم ممكن سواء حدث أو لم يحدث فإذا قال القائل للحوادث أعدام أزلية ثابتة في الأزل متميزة لم يتوجه إلا على قول هؤلاء وهذا القول قد عرف فساده وبتقدير تسليمه فيجاب عنه بما ذكره هؤلاء وهو أن اجتماعه في الأزل بمعنى غير انتفاء البداية ممتنع وعدم البداية ليس أمرا موجودا حتى يعقل فيه اجتماع
وعلى هذا فيقال لا نسلم أن الأزل شيء مستقر أو شيء موجود وليس للأزل حد محدود حتى يعقل فيه اجتماع بل الأزل عبارة عن عدم الابتداء ومالا ابتداء له فهو أزلي ومالا انتهاء له فهو أبدى
(3/37)
وما من حين يقدر موجودا إلا وليس هو الأزل ففي كل حين بعضها موجود وبعضها معدوم فوجود البعض مقارن لعدم البعض دائما وحينئذ فاجتماعها في الأزل معناه اشتراكها في ان كل واحد ليس له أول وعدم اجتماعها فيه معناه أنه لم يزل في كل حين واحد منها موجودا وعدمه زائلا ولا تناقض بين اشتراكها في عدم الابتداء ووجود أشخاصها دائما إلا اذا قيل يمتنع جنس الحوادث الدائمة
وقد اعترض المستدل بهذا على ما ذكره الآمدي و الارموى في الوجه الاول
قال فإن قلت الازلي الحركة الكلية بمعنى ان كل فرد منها مسبوق بالاخر لا إلى أول افرادها الموجودة التي تقتضي المسبوقية بالغير
ثم قال قلت فحينئذ ما هو المحكوم عليه بالازلي غير موجود في الخارج لامتناع وجود الحركة الكلية في الخارج وما هو موجود منها في الخارج فهو ليس بأزلي
ولقائل أن يقول هذا غلط نشأ من الاجمال الذي في لفظ الكلي
وذلك أنه انما يمتنع وجود الكلى في الخارج مطلقا اذا كان مجردا عن أفراده كوجود انسان مطلق وحيوان مطلق وحركة مطلقة لا تختص بمتحرك ولا بجهة ولون مطلق لا يكون أبيض ولا أسود ولا غير ذلك من الالوان المعينة فإذا قدر حركة مطلقة لا تختص بمتحرك معين كان كان وجودها في الخارج ممتنعا و اما الحركات المتعاقبة فوجود الكلى فيها هو وجود تلك الافراد كما اذا وجد عدة أناسي فوجود
(3/38)
الانسان الكلى هو وجود أشخاصه ولا يحتاج ان يثبت للكلى في الخارج وجودا غير وجود أشخاصه بل نفس وجود أشخاصه هو وجوده
ومعلوم أنه اذا أريد بوجود الكلى في الخارج وجود اشخاصه لا ينازع فيه احد من العقلاء وان كانوا قد يتنازعون في أن الكلى المطلق لا بشرط وهو الطبيعي هل هو موجود في الخارج أم لا وحينئذ فمرادهم بوجود الحركة الكلية في الخارج هو وجود أفرادها المتعاقبة شيئا بعد شيء فكل فرد مسبوق بالغير وليس هذا الجنس المتعاقب الذي يوجد بعضه شيئا فشيئا بمسبوق بالغير
وان شئت قلت لا نسلم ان الكلى لا يوجد في الخارج ولكن نسلم أنه لا يوجد في الخارج كليا وهذا هو الكلى الطبيعي هو المطلق بشرط كمسمى الانسان لا بشرط فإنه يوجد في الخارج لكن معينا مشخصا وتوجد أفراده أما مجتمعة و اما متعاقبة كتعاقب الحوادث المستقبلة فوجود الحركات المعينة كوجود سائر الاشياء المعينة ووجود مسمى الحركة كوجود سائر المسميات الكلية والمحكوم عليه بالازلية هو النوع الذي لا يوجد إلا شيئا فشيئا لا يوجد مجتمعا
فإن قال القائل مسمى الحركة ليس بموجود في الخارج على وجه الاجتماع كما يوجد من أفراد الانسان فقد صدق وان قال انه لا يوجد شيئا فشيئا فهذا ممنوع ومن قال ذلك لزمه ان لا يوجد في الخارج حركة أصلا لا متناهية ولا غير متناهية وهذا مخالف للحس والعقل وقد تفطن ابن سينا لهذا الموضع وتكلم في وجود الحركة
(3/39)
بكلام له وقد نقله عنه الرازي وغيره وقد تكلمنا عليه وبينا فساده فيما سيأتي ان شاء الله
قال الآمدي وباقي الوجوه في الدلالة ما ذكرناه في امتناع حوادث غير متناهية في اثبات واجب الوجود وقد ذكرت فلا حاجة إلى اعادتها
وهو قد ذكر قبل ذلك في امتناع مالا يتناهي اربعة طرق فزيفها واختار طريقا خامسا الاول التطبيق وهو أن يقدر جملة فلو كان ما قبلها لا نهاية له فلو فرضنا زيادة متناهية على الجملة المفروضة ولتكن الزيادة عشرة مثلا فالجملة الاولى أما ان تكون مساوية لنفسها مع فرض الزيادة عليها او أزيد او أنقص
والقول المساواة والزيادة محال فإن الشيء لا يكون مع غيره كهو لا مع غيره ولا أزيد وان كانت الجملة الاولى ناقصة بالنظر إلى الجملة الثانية فمن المعلوم ان التفاوت بينهما انما هو بأمر متناه وعند ذلك
(3/40)
فالزيادة لا بد أن يكون لها نسبة إلى الباقي بجهة من جهات النسب على نحو زيادة المتناهي على المتناهي
ومحال ان يحصل بين ما ليسا بمتناهين النسبة الواقعة بين المتناهين
وأيضا فإنه اذا كانت احدى الجملتين أزيد من الاخرى بأمر متناه فليطبق بين الطرفين الآخرين بأن تأخذ من الطرف الاخير من احدى الجملتين عددا مفروضا ومن الاخرى مثله وهلم جرا فإما ان يتسلسل الأمر إلى غير النهاية فيلزم منه مساواة الانقص للازيد في كلا طرفيه وهو محال وان قصرت الجملة الناقصة في الطرف الذي لا نهاية له فقد تناهت والزائدة انما زادت على الناقصة بأمر متناه وكل ما زاد على المتناهى بأمر متناه فهو متناه
قال وهذا لا يستقيم لا على قواعد الفلاسفة ولا على قواعد المتكلمين
(3/41)
أما الفلاسفة فإن قضوا بأن كل ماله ترتيب وضعي كالابعاد والامتدادات او الترتيب الطبيعي و آحاده موجودة معا كالعلل والمعلولات فالقول بعدم النهاية فيه مستحيل وما سوى ذلك فالقول بعدم النهاية فيه غير مستحيل وسواء كانت آحاده موجوده معا كالنفوس بعد مفارقة الابدان او هي على التعاقب والتجدد كالازمنة والحركات الدورية فإن ما ذكروه وان استمر لهم فيما قضوا فيه بالنهاية فهو لازم لهم فيما قضوا فيه بعدم النهاية وعند ذلك فلا بد من بطلان احد الامرين أما الدليل ان كان اعتقادهم عدم النهاية حقا و اما اعتقاد عدم النهاية ان كان الدليل حقا لاستحالة الجمع
قال وليس لما يذكره الفيلسوف من جهة الفرق بين العلل والمعلومات والازمنة والحركات قدح في الجمع وهو قوله ان مالا ترتيب له وضعا ولا آحاده موجودة معا وان كان ترتيبه
(3/42)
طبيعيا فلا يمكن فرض جواز قبوله الانطباق وفرض الزيادة والنقصان فيه بخلاف مقابله لان المحصل يعلم ان الاعتماد على هذا الخيال في تناهي ذوات الاضلاع وفيما له الترتيب الطبيعي و آحاده موجودة معا ليس إلا من جهة افضائه إلى وقوع الزيادة والنقصان بين ما ليسا بمتناهين وذلك انما يمكن بفرض زيادة على ما فرض الوقوف عنده من نقطة ما من البعد المفروض او وحدة ما من العدد المفروض وعند ذلك فلا يخفي امكان فرض الوقوف على جملة من أعداد الحركات والنفوس الانسانية المفارقة لابدانها وجواز فرض الزيادة عليها بالتوهم مما هو من نوعها وإذ ذاك فالحدود المستعملة في القياس المذكور في محل الاستدلال بعينها مستعملة في صورة الالزام مع اتحاد الصورة القياسية من غير فرق
و ايضا فليس كل جملتين تفاوتتا بأمر متناه تكونان متناهيتين فإن عقود الحساب مثلا لا نهاية لاعدادها وان كانت الاوائل اكثر من الثواني بأمر متناه وهذه الامور وان كانت تقديرية ذهنية فلا خفاء ان وضع القياس المذكور فيها على نحو وضعه في
(3/43)
الامور الموجودة بالفعل فلا تتوهمن الفرق واقعا من مجرد هذا الاختلاف
والقول بأن ما زادت به إحدى الجملتين على الاخرى لا بد وان تكون له نسبة إلى الثاني غير مسلم ولا يلزم من قبول المتناهي لنسبة المتناهي اليه قبول غير المتناهي لنسبة المتناهي اليه
قال و اما المتكلم فله في ابطال القول بعدم النهاية طرق الاول ما أسلفناه من الطريقة المذكورة ويلزم عليه ما ذكرناه ما عدا التناقض اللازم للفيلسوف من ضرورة اعتقاد عدم النهاية فيما ذكرناه من الصور وعدم اعتقاد المتكلم لذلك غير ان المناقضة لازمة للمتكلم من جهة اعتقاده عدم النهاية في معلومات الله تعالى ومقدوراته مع وجود ما ذكرناه من الدليل الدال على وجوب النهاية فيها
قال وما يقال من أن المعنى بكون المعلومات
(3/44)
و المقدورات غير متناهية صلاحية العلم لتعلقه بما يصح ان يعلم وصلاحية القدرة لتعلقها بكل ما يصح ان يوجد وما يصح ان يعلم ويوجود غير متناه لكنه من قبيل التقديرات الوهمية والتجويزات الامكانية وذلك مما لا يمتنع كونه غير متناه بخلاف الامور الوجودية والحقائق العينية فلا أثر له في القدح أيضا فإن هذه الامور وان لم تكن من موجودات الاعيان غير أنها متحققة في الاذهان ولا يخفى ان نسبة ما فرض استعماله فيما له وجود ذهني على نحو استعماله فيما له وجود عيني
قلت التفريق بين الشيئين يحتاج إلى ثبوت الوصف الفارق وثبوت تأثيره و الآمدي سلم لهم الوصف ونازعهم في كونه مؤثرا
(3/45)
والتحقيق أن ما ذكروه من الوصف متوجه في القدرة فإن تعلقها بالمعدوم من باب التجويز بخلاف العلم فإن فساد تعلقه بالمعدوم ليس من باب التجويز فإن المعدوم هنا معلوم للعالم ليس المراد بذلك أن ثم صفة تصلح ان يعلم بها المعدوم اذا وجد بل هو معلوم قبل وجوده بخلاف القدرة فإن تعلقها بالمعدوم معناه انها صفة صالحة لتعلق المعدوم اذا وجد
قلت وأيضا فإن قول القائل المعنى بكون المعلومات و المقدورات غير متناهية هو صلاحية العلم والقدرة للتعلق وهو وان سلم في القدرة فلا يسلم في العلم فإن الكلام ليس هو في امكان العلم بها بل في العلم الذي يقال انه علم موجود أزلي متعلق بما لا نهاية له وهذا أمر موجود
وعن هذه الشبهة صار طائفة من النظار إلى استرسال العلم على آحاد نوع العرض كما قاله ابو المعالي وحكي ذلك عن أبي الحسين البصري وداود الجواربي
(3/46)
قال ابو المعالي الأجسام جنس واحد والأعراض اجناسها محصورة وأفراد الجنس غير محصورة قال فلا يجوز وجود أجناس لا تتناهى لأنه يجب حينئذ وجود مالا يتناهى في العلم و لا الدليل دال على نفي النهاية في هذا وهذا قال وأما آحاد الاعراض فإن العلم يسترسل عليها استرسالا وأما الجواب بصلاحية التعلق فهو جواب الشهرستاني ونحوه
قال الطريق الثاني يعني في بيان امتناع مالا نهاية له قوله لو وجد اعداد لا نهاية لها لم تخل أما ان تكون شفعا او وترا معا او شفعا ووترا معا أو لا شفعا ولا وترا فإن كانت شفعا فهي تصير وترا بزيادة واحدة وان كانت ولا شفعا ولا وترا فهي تصير شفعا بزيادة واحد و اعواز الواحد لما لا يتناهى مح وإن
(3/47)
كانت شفعا ووترا فهو محال لأن الشفع ما يقبل الانقسام بمتساويين والوتر غير قابل لذلك والعدد الواحد لا يكون قابلا لذلك وغير قابل له معا وان لم يكن شفعا ولا وترا فيلزم منه وجود واسطة بين النفي و الاثبات وهو محال وهذه المحالات انما لزمت من القول بعدد لا نهاية له فالقول به محال
قال وهو من النمط الاول في الفساد لوجهين الاول قد لا نسلم استحالة الشفعية او الوترية فيما لا نهاية له والقول بأن مالا يتناهى لا يعوزه الواحد الذي به يصير شفعا ان كان وترا او وترا ان كان شفعا فدعوى مجردة ومحض استبعاد لا دليل عليه
الوجه الثاني انه يلزم عليه عقود الحساب ومعلومات الله تعالى ومقدوراته فإنها غير متناهية امكانا مع امكان اجراء الدليل المذكور فيها
قلت ولقائل ان يقول أما الوجه الاول فضعيف فإن كون مالا
(3/48)
يتناهى معوزا للواحد كالمعلوم فساده بالضرورة بل يمكن ان يقال مالا يتناهى لا يمكن ان يكون لا شفعا ولا وترا لأن الشفع والوتر نوعا جنس العدد المحصور الذي له طرفان مبدأ ومنتهى فأما اذا قدر مالا مبدأ له ولا منتهى له فليس عددا محصورا فلا يكون شفعا ولا وترا كما يقوله المسلمون وغيرهم من اهل الملل فيما يحدثه الله تعالى في المستقبل من نعيم الجنة انه لا شفع ولا وتر
وهذا أيضا قول الفلاسفة الطبيعية والالهية ان مالا نهاية له لا يكون شفعا ولا وترا وذلك ان مالا نهاية له ليس له طرفان والشفع ما يقبل الانقسام بقسمين متساويين وهذا انما يعقل فيما له طرفان منتهيان و اذا لم يمكن ان يكون شفعا لم يمكن ان يكون وترا
وأما عقود الحساب فالمقدر منها في الذهن محصور متناه ومالا يتناهى لا تقدره الاذهان بل كل ما يضعفه الذهن من عقود الحساب فهو متناه والمراتب في نفسها متناهية ولكن احدى المرتبتين لو وجدت افرادها في الخارج لكانت اكثر من الاولى وليس ذلك تفاوتا في امور موجودة لا في الاذهان ولا في الاعيان
قال ابو الحسن الامدي الطريق الثالث انه لو وجد اعداد لا نهاية لها فكل واحد منها محصور بالوجود فالجملة محصورة بالوجود وما لا يتناهى لا ينحصر بحاصر
(3/49)
قال وهو أيضا فاسد لثلاثة اوجه
الاول لا نسلم ان الوجود زائد على الموجود حتى يقال يكون الوجود حاصرا له بل الوجود هو ذات الموجود وعينه على ما يأتي
الثاني وان كان زائدا على كل واحد من آحاد الجملة فلا نسلم كونه حاصرا بل عارض مقارن لكل واحد من الآحاد والمعارض المقارن للشيء لا يكون حاصرا له
الثالث سلمنا ان الوجود حاصر لكل واحد من آحاد الجملة ولكن لا نسلم ان الحكم على الآحاد يكون حكما على الجملة ولهذا يصدق ان يقال لكل من آحاد الجملة انه جزء الجملة ولا يصدق على الجملة انها جزء الجملة
ولقائل ان يقول في إفساد هذا الوجه أيضا قول القائل انه محصور في الوجود ايريد به ان هناك سورا موجودا حصر ما يتناهى او مالا يتناهى بين طرفيه ام يريد به انه موصوف بكونه موجودا فإن
(3/50)
اراد الاول فهو باطل فإنه ليس للموجودان شيء خارج عن الموجودات يحصرها سواء قيل انها متناهية او غير متناهية وان قيل ان كل واحد مما لا يتناهى من الموجودات هو موجود فهذا حق
فإذا سمى المسمى هذا حصرا كان هذا اطلاقا لفظيا وكان قوله حينئذ مالا يتناهى لا يكون محصورا بمنزلة قوله لا يكون موجودا وهذا محل النزاع فقد غير العبارة وصادر على المطلوب ثم مالا يتناهى في المستقبل موجود باتفاق اهل الملل وعامة الفلاسفة ولم ينازع في ذلك إلا من شذ كالجهم وأبي الهذيل ونحوهما ممن هو مسبوق باجماع المسلمين محجوج بالكتاب والسنة مخصوم بالادلة العقلية مع مخالفة جماهير العقلاء من الاولين و الاخرين وهو مع هذا محصور بالوجود كما ان ما لا يتناهى في الماضي محصور بالوجود لكنهم يفرقون بأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل ومنازعوهم يقولون الماضي دخل ثم خرج فصارا جميعا معدومين والمستقبل لم يدخل في الوجود وهو تفريق صورى حقيقته ان الماضي كان وحصل والمستقبل لم يحصل بعد
فيقال لهم ولم قلتم ان كل ما حصل وكان يمتنع ان يكون دائما لم يزل وهو وان كان متناهيا من الجانب الذي يلينا فالمستقبل ايضا متناه في هذا الجانب وانما الكلام في الطرفين الآخرين
و ايضا فالحوادث الماضية عدمت بعد وجودها فهي الان معدومة كما ان الحوادث المستقبلة الان معدومة فلا هذا موجود
(3/51)
ولا هذا موجود الان وكلاهما له وجود في غير هذا الوقت ذاك في الماضي وهذا في المستقبل وكون الشيء ماضيا ومستقبلا امر اضافي بالنسبة إلى ما يقدر متأخرا عن الماضي ومتقدما على المستقبل وألا فكل ماض قد كان مستقبلا وكل مستقبل سيكون ماضيا كما ان كل حاضر قد كان مستقبلا وسيصير ماضيا
قال الامدي الطريق الرابع انه لو وجد مالا يتناهى فما من وقت يقدر إلا وهو متناه في ذلك الوقت وانتهاء مالا يتناهى محال
قال وهو أيضا غير سديد فإن الانتهاء من احد الطرفين وهو الاخير وان سلمه الخصم فلا يوجب النهاية في الطرف الاخر ثم يلزم عليه عقود الحساب ونعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار فإنه وان كان متناهيا من طرف الابتداء فغير متناه امكانا في طرف الاستقبال
قلت هذا الوجه من جنس الوجه السادس الذي ذكره الرازي وهو أنه لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية كان
(3/52)
وجود اليوم موقوفا على انقضاء مالا نهاية له وانقضاء مالا نهاية له محال والموقوف على المحال محال
وقد اعترض عليه الارموي بما اعترض به هو وغيره بأن انقضاء مالا نهاية له محال
و اما انقضاء مالا بداية له ففيه النزاع وهو من جنس جواب الامدي فإن الانتهاء الذي يسلمه الخصم هو من أحد الطرفين دون الاخر و الاخر هو الابتداء وقد تقدم ذلك
ثم قال الامدي و الاقرب في ذلك أن يقال لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية وكل واحد منها ممكنا على ما وقع به الفرض فهي أما متعاقبة واما معا فإن كانت متعاقبة فقد قيل ان ذلك محال لوجوه ثلاثة
الاول ان كل واحد منها يكون مسبوقا بالعدم والجملة مجموع الآحاد فالجملة مسبوقة بالعدم وكل جملة مسبوقة
(3/53)
بالعدم فلوجودها أول تنتهي اليه وكل ما لوجوده أول ينتهي اليه فالقول بكون غير متناه محال
الثاني ان كل واحد منها يكون مشروطا في وجوده بوجود علته قبله ولا يوجد حتى توجد علته وكذلك الكلام في علته بالنسبة إلى علتها وهلم جرا
فإذا قيل بعدم النهاية فقد تعذر الوقوف على شرط الوجود فلا وجود لواحد منها وهذا كما اذا قيل لا أعطيك درهما إلا وقبله درهم فإنه لما كان اعطاء الدرهم مشروطا باعطاء درهم قبله وكذلك في إعطاء كل درهم يفرض إلى غير النهاية كان الاعطاء محالا
الثالث هو ان القول بتعاقب العلل والمعلولات يجر إلى تأثير العلة بعد عدمها في معلولها وتأثير المعدوم في الموجود محال
قال وهذه الحجج مما لا مثبت لها
أما الاولى فلأنه لا يلزم من سبق العدم على كل واحد من الآحاد
(3/54)
سبقه على الجملة فإن الحكم على الآحاد لا يلزم ان يكون حكما على الجملة كما سبق تحقيقه
واما الثاني فإنما يلزم ان لو كان ما توقف عليه الموجود وهو شرط في الوجود غير موجود كما في المثال المذكور وأما ان كان موجودا فلا يلزم امتناع وجوب المشروط والقول بأن الشرط غير موجود محل النزاع فلا تقبل الدعوى به من غير دليل
واما الثالثة فإنما تلزم أيضا ان لو كان معنى التعاقب وجود المعلول بعد عدم علته وليس كذلك بل معناه وجود المعلول متراخيا عن وجود علته مع بقاء علته موجودة إلى حال وجوده وبقاؤه موجودا بعد عدم علته وكذلك في كل علة مع معلولها وذلك لا يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود ولا ان تكون العلل والمعلولات موجودة معا وذلك متصور في العلل الفاعلة بالاختيار
قال و الاقرب في ذلك ان يقال لو كانت العلل والمعلولات
(3/55)
متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة وعند ذلك فلا يخلو أما ان يقال بوجود شيء منها في الأزل او لا وجود لشيء منها في الأزل فإن كان الاول فهو ممتنع لأن الازلي لا يكون مسبوقا بالعدم والحادث مسبوق بالعدم فلو كان شيء منها في الأزل لكان مسبوقا بالعدم ضرورة كونه حادثا وغير حادث ضرورة كونه ازليا وان كان الثاني فجملة العلل والمعلولات مسبوقة بالعدم ضرورة أن لا شيء منها في الأزل ويلزم من ذلك ان يكون لها ابتداء ونهاية غير متوقف على سبق غيره عليه وهو المطلوب
قلت هذا الوجه هو الوجه الثالث الذي ذكره الرازي حيث قال أما ان يقال حصل في الأزل شيء من هذه الحركات او لم يحصل فإن لم يحصل في الأزل شيء من هذه الحركات وجب ان يكون لمجموع هذه الحركات والحوادث بداية وأول وهو المطلوب وإن حصل في الأزل شيء من هذه الحركات فتلك الحركة الحاصلة في الأزل ان لم تكن مسبوقة بغيرها كانت تلك الحركة أول الحركات وهو المطلوب وان كانت مسبوقة بغيرها لزم ان يكون الاول مسبوقا بغيره وهو محال
(3/56)
وقد اعترض ابو الثناء الارموي على هذا بأنه ليس شيء من الحركات الجزئية ازليا بل كل واحدة منها حادثة وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية وهي ليست مسبوقة بغيرها فلا يلزم ان يكون لكل الحركات الجزئية أول
وبيان هذا الاعتراض فيما ذكره الامدي ان يقال قوله أما ان يقال بوجود شيء منها في الأزل اولا وجود لشيء منها في الأزل حوابه انه ليس شيء بعينه موجودا في الأزل ولكن الجنس لم يزل متعاقبا وحينئذ يندفع ما ذكره على التقديرين أما الاول فإنه قال لو كان شيء منها موجودا في الأزل لكان مسبوقا بالعدم غير مسبوق بالعدم وهذا انما يلزم اذا قيل في واحد من الحوادث المتعاقبة انه قديم أزلي وهذا لا يقوله عاقل
و اما التقدير الثاني فقوله وان كان الثاني فقول القائل العلل والمعلومات المتعاقبة او غيرها من الحوادث المتعاقبة تكون مسبوقة بالعدم انما يلزم اذا قيل ان جنسها ليس بقديم ولا أزلي وهذا محل النزاع
وحقيقة الأمر ان قول القائل أما ان يقال بوجود شيء منها في
(3/57)
الأزل أولا وجود لشيء منها في الأزل معناه إما أن شيئا منها قديم أزلي أو ليس شيء منها قديما أزليا وهذا اللفظ محتمل فإن أراد به أن واحدا من الحوادث المتعاقبة يكون قديما أزليا فهذا لا يقولونه وإن أراد أن جنسها لم يزل يحدث شيئا بعد شيء وأنه لا أول للجنس بل الجنس قديم أزلي فهذا هو الذي يقولونه وحينئذ فلا يلزم من نفي الأزلية عن واحد نفيها عن الجنس
وذلك أن معنى الأزل ليس هو شيئا له ابتداء محدود حتى يقال هل حصل شيء منها في ذلك المبدأ المحدود بل معنى الأزل هو معنى القدم ومعناه ما لا ابتداء لوجوده ولا يقدر الذهن غاية إلا كان قبل تلك الغاية فإذا قال القائل هل وجد شيء من هذه الحوادث في الأزل كان معناه هل منها قديم لا أول لوجوده لم يزل موجودا
والمثبت لذلك إنما يقول لم يزل الجنس موجودا شيئا بعد شيء كما يقوله المسلمون وجمهور الناس غيرهم في الأبد فيقولون إنه لا يزال جنس الحوادث يحدث شيئا بعد شيء فلو قال القائل الحوادث المنقضية لا تكون أبدية ولا تكون فيما لا يزال لأنه إما أن يوجد شيء منها في الأبد أو لا وجود لشيء منها في الأبد فإن كان الأول ممتنع لأن الأبدي لا يكون منقضيا بل لا يزال موجودا وإن كان الثاني فجملة المنقضيات ملحوقة بالعدم وما كان ملحوقا بالعدم لم يكن أبديا لأن الأبدي هو ما لا يلحقه العدم كما أن الأزلي ما لا يسبقه العدم كان الجواب عن قول هذا القائل بأن يقال الأبدي
(3/58)
هو جنس الحوادث المنقضية لا واحد واحد منها والجنس لا يلحقه العدم وإن لحق آحاده كما قال تعالى { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } سورة ص 54 وقال تعالى { أكلها دائم } سورة الرعد 35 فالدائم هو الجنس وكذلك الذي لا نفاد له هو الجنس لا كل واحد من أعيان الرزق والمأكولات
وقد أورد الآمدي على نفسه سؤالا وأجاب عنه فقال قولكم إن لم يوجد شيء منها في الأزل فلها أول وبداية فنقول لا يلزم من كون كل واحد من العلل والمعلولات غير موجود في الأزل أن تكون الجملة غير أزلية فإنه لا يلزم من الحكم على الآحاد أن يكون حكما على الجملة بل جاز أن يكون كل واحد من آحاد الجملة غير أزلي والجملة أزلية بمعنى تعاقب آحادها إلى غير النهاية
وقال في الجواب عن هذا قلنا إذا كان كل واحد من الآحاد لا وجود له في الأزل وهو بعض الجملة فليس بعض من أبعاض الجملة يكون موجودا في الأزل وإذا لم يكن شيء من الأبعاض موجودا في الأزل فالجملة غير موجودة في الأزل فإنه لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها
(3/59)
قلت ولقائل أن يقول قوله لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها أيعني به وجود أبعاضها معها أو وجود أبعاضها ولو كانت متعاقبة
أما الأول فلا يصح لأن ما فرض متعاقبا لا يمكن أن تكون أبعاضه موجودة معه وليس له وجود مجتمع في زمن واحد حتى يمكن اجتماع أبعاضه معه بل وجود أبعاضه وهو متعاقب مع جملته جمع بين النقيضين
وإن عنى به وجود أبعاضها كيفما كان فيقال له هذا صحيح والمنتفي إنما هو وجود شيء من أبعاضها في الأزل ولا يلزم من انتفاء كون الواحد من أبعاضها قديما أزليا أن لا يكون موجودا فإذا كان وجود الجملة موقوفا على وجود أبعاضها فوجود أبعاض المتعاقب ممكن وإن قال إن وجود الجنس المتعاقب الذي هو قديم أزلي أبدي موقوف على كون الواحد من آحاده قديما أزليا أو أبديا فهذا محل النزاع
فتبين أن الجواب فيه مغلطة وحقيقة الجواب أنه يجب الحكم على الجملة بما يحكم به على أفرادها وقد بين هو وغيره فساد هذا
(3/60)
الجواب فإنه إذا لم يكن بعض الجملة أزليا كان ذلك سلبا للأزلية عن أفراد الجنس ونفى الأزلية هو لحدوث فيصير معنى الكلام إذا كان كل واحد من الأفراد أو الأبعاض المتعاقبة حادثا وجب أن يكون الجنس المتعاقب حادثا وقد عرف فساد هذا الكلام
وأبو الحسن الآمدي وغيره أدخلوا هذه المقدمة أعني منع العلل المتعاقبة في إثبات واجب الوجود ولا حاجة بهم إليها وهي مبنية على مقدمتين إحداهما أن العلة قد تتقدم المعلول وقد ذكر هو في كتابه المسمى ب دقائق الحقائق نقيض ما ذكره هنا في كتابه المسمى أبكار الأفكار وذكر في إثبات واجب الوجود هذه الطريقة التي تقدمت حكايتها عنه وقال فيها إن كانت العلل والمعلولات غير متناهية فإما أن تكون متعاقبة أو معا لا جائز أن يقال بالأول إذ قد بينا امتناع الافتراق بين العلة والمعلول فيما تقدم
والذي قاله فيما تقدم هو أن العلة أو الفاعل لا يفتقر في كونه علة لمعلوله ولا كون المعلول معلولا إلى سبق العدم فإن ما كان من
(3/61)
المعلولات الوجودية مسبوقا بالعدم إما أن يكون وجوده بإيجاد العلة له في حال وجوده أو في حال عدمه لا جائز أن يكون ذلك له في حال عدمه لامتناع اجتماع الوجود والعدم فلم يبق إلا أن يكون موجدا له في حال وجوده لا بمعنى أنه أوجده بعد وجوده بل بمعنى أن ما قدر له من الوجود غير مستغن عن العلة بل يستند إليها ولولاها لما كان وإذ ذاك فلا فرق بين أن يكون المعلول وجوده مسبوقا بالعدم أو غير مسبوق بالعدم
قلت هذه الحجة هي حجة ابن سينا وأمثاله على أن المعلول يكون مع العلة في الزمان وهي حجة فاسدة وبتقدير صحتها لا تنفع الآمدي في هذا المقام فإن الناس لهم في مقارنة المعلول لعلته التامة والمفعول لفاعله ثلاثة أقوال
قيل يجب أن يقارن الأثر للمؤثر ولتأثيره بحيث لا يتأخر الأثر عن التأثير في الزمان فلا يتعقبه ولا يتراخى عنه وهذا قول هؤلاء الدهرية القائلين بأن العالم قديم عن موجب قديم وقولهم أفسد الأقوال الثلاثة وأعظمها تناقضا فإنه إذا كان الأثر كذلك لزم أن لا يحدث في العالم شيء فإن العلة التامة إذا كانت تستلزم مقارنة معلولها لها في الزمان وكان الرب علة تامة في الأزل لزم أن يقارنه
(3/62)
كل معلول وكل ما سواه معلول له إما بواسطة وإما بغير واسطة فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء
وأيضا فما يحدث من الحوادث بعد ذلك يفتقر إلى علة تامة مقارنة له فيلزم تسلسل علل أو تمام علل ومعلولات في آن واحد وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وإن قدر أن الرب لم يكن علة تامة في الأزل بطل قولهم
وقيل بل يجب تراخي الأثر عن المؤثر التام كما يقوله أكثر أهل الكلام ويلزم من ذلك أن يصير المؤثر مؤثرا تاما بعد أن لم يكن مؤثرا تاما بدون سبب حادث او أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام
وهذا قول كثير من أهل الكلام منهم من يقول القادر يرجح أحد المقدورين بلا مرجح
ومنهم من يقول بل يرجح بالارادة القديمة الأزلية
ومن هؤلاء وهؤلاء من يقول بل يرجح مع كون الرجحان أولى لامع وجوبه وهو قول محمود الخوارزمي من الأولين وهو قول محمد بن الهيصم الكرامي وغيره من الآخرين فإن الكرامية مع الاشعرية و الكلابية يقولون المرجح هو الارادة القديمة الأزلية ويقولون ان الارادة لا توجب المراد لكن منهم من يقول من شأن الارادة ان ترجح بلا مزية للترجيح بل مع تساوي الامرين كما
(3/63)
تقوله الاشعرية ومنهم من يقول ترجح اولوية الترجيح وهذا قول الكرامية
والقول الثالث ان المؤتمر التام يستلزم وجود اثره عقبه لا معه في الزمان ولا متراخيا عنه كما قال تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } سورة النحل 40 وعلى هذا فليلزم حدوث كل ما سوى الرب لانه مسبوق بوجود التأثير ليس زمنه زمن التأثير والقادر المريد يستلزم مع وجود القدرة والإرادة وجود المقدور المراد والقدرة والارادة حاصلان قبل المقدور المراد ومع وجود المقدور المراد مستلزمان له وهذا قول اكثر اهل الاثبات
وعلى هذا فيجب الفرق بين وجود العلة والفاعل والمؤثر عند وجود الاثر في الزمان فإن هذا لا بد منه وبين وجود العلة التي هي الفعل والتأثير في الزمان فإن هذا هو الذي يتعقبه المفعول المعلول الذي هو الاثر
ومن الناس من فرق بين تأثير القادر المختار و تأثير العلة الموجبة فزعم ان الاول لا يكون إلا مع تراخي الاثر والثاني لا يكون إلا مع مقارنة الاثر للمؤثر
(3/64)
وهذا أيضا غلط فان الادلة الدالة توجب التسوية لو قدر انه يمكن ان يكون المؤثر غير قادر مختار فكيف اذا كان ذلك ممتنعا
وكون المعلول والمفعول لا يكون مفعولا معلولا إلا بعد عدمه هو من القضايا الضرورية التي اتفق عليها عامة العقلاء من الأولين والآخرين وكل هؤلاء يقولون ما كان معلولا يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم
وممن قال ذلك أرسطوا واتباعه حتى ابن سينا وامثاله صرحوا بذلك لكن ابن سينا تناقض مع ذلك فزعم ان الفلك هو قديم ازلى مع كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مخالف لما صرح به هو وصرح به أئمته وسائر العقلاء وهو مما انكره عليه ابن رشد الحفيد وبين ان هذا مخالف لما صرح به أرسطوا وسائر الفلاسفة وان هذا لم يقبله احد قبله
و ارسطو لم يكن يقسم الوجود إلى واجب و ممكن ولا يقول ان الاول موجب بذاته للعالم بل هذا قول ابن سينا وامثاله وهو وإن كان اقرب إلى الحق مع فساده وتناقضه فليس هو قول سلفه بل قول ارسطو واتباعه ان الأول إنما افتقر إليه الفلك لكونه يتحرك للتشبه به لا لكون الاول علة فاعلة له
وحقيقة قول ارسطو واتباعه ان ما كان واجب الوجود فإنه
(3/65)
يكون مفتقرا إلى غيره فيكون جسما مركبا حاملا للأعراض فإن الفلك عندهم واجب بذاته وهو كذلك كما قد بسط كلامهم والرد عليهم في غير هذا الموضع وبين ما وقع من الغلط في نقل مذاهبهم وان اتباعهم صاروا يحسنون مذاهبهم فمنهم من يجعل الأول محدثا للحركة بالأمر وليس هذا قولهم فإن الأول عندهم لا شعور له بحركة ولا إرادة وانما الفلك يتحرك عندهم للتشبه به فهو يحركه كتحريك الإمام للمؤتم به او المعشوق لعاشقه لا تحريك الأمر لماموره كما يزعمه ابن رشد و غيره
ومنهم من يقول بل هو علة مبدعة فاعلة للأفلاك كما يقوله ابن سينا واتباعه وليس هذا أيضا قولهم
ولكن كثير من هؤلاء المتأخرين لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة آلا ما ذكره ابن سينا كابي حامد الغزالي و الرازي و الامدى و غيرهم ويذكرون ما ذكره ابن سينا من حججه كما ذكر الامدى في هذا الموضع حيث قال ان العلة أو الفاعل لا يفتقر في كونه علة إلى سبق العدم لان تأثير العلة في المعلول انما هو في حال وجود المعول
(3/66)
فيقال لهم ليس في هذا ما يدل على ان المعلول يجوز ان يكون قديما أزليا غير مسبوق بالعدم بل قولكم و إذ ذاك فلا فرق بين ان يكون المعلول وجوده مسبوقا بالعدم او غير مسبوق دعوى مجردة
فتبين ان ما ذكره الامدى وغيره من امتناع الافتراق بين العلة و المعلول في الزمن ووجوب مقارنتهما في الزمن من اضعف الحجج بل ما ذكره لا يدل على جواز الاقتران فضلا عن ان يدل على وجوب الاقتران بل غاية ما ذكره ان سبق العدم ليس بشرط في إيجاد العلة ولا يلزم من كونه ليس بشرط وجوب الاقتران بل قد يقال بجواز الاقتران وجواز التأخير
وحينئذ فلقائل ان يقول هذا الذي ذكرته وان كان باطلا كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين فيه ان للناس في هذا المقام ثلاثة أقوال
قيل يجوز ان يقارن المعلول العلة في الزمان فيقترن الاثر
(3/67)
بالمؤثر في الزمان كما يقوله ابن سينا و متابعوه
وقيل يل يجب تراخي الاثر عن المؤثر وتأثيره كما يقوله اكثر المتكلمين
وقيل بل الاثر يتعقب التأثير ولا يكون معه في الزمان ولا يكون متراخيا عنه وهذا هو الصواب كما قال تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } سورة النحل 40 ولهذا يقال طلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق فالعتق والطلاق عقب التطليق والإعتاق لا يقترن به ولا يتأخر عنه
وبين ان ما قال باقتران الاثر بالمؤثر كما يقوله هؤلاء المتفلسفة فإن ذلك يستلزم أن لا يكون لشيء من الحوادث فاعل وستلزم ان لا يحدث شيء في العالم ومن قال بالتراخي فقوله يستلزم ان المؤثر التام لا يستلزم الاثر بل يحدث الحادث بلا سبب حادث وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا ان هذا الجواب الذي ذكره هو مأخوذ من كلام ابن سينا وهو مع فساده غايته ان المعلول يجوز ان يقارن وجوده وجود
(3/68)
العلة لا يجب ان يكون مسبوقا بالعدم مع وجود العلة وليس في هذا بيان انه يمتنع تأخر وجوده عن وجود العلة
والاقسام الممكنة ثلاثة أما ان يقال بوجوب المقارنة او بوجوب التأخر او بجواز الامرين وما ذكرته لا يدل على شيء من ذلك ولو دل فانما يدل على جواز الاقتران لا على وجوبه وانت فبما ذكرته هناك جوزت تأخر المعلول فلا منافاة بين الامرين
وذلك ان غاية ما ذكرته ان المؤثر أي المعلول الذي هو المصنوع المفعول أما ان ان تكون تأثيريه قديمة كواجب الوجود وذلك لا ينفي ان يكون التأثير يه هو الأحداث فان فاعل هذه الحادثات تأثيره فيها في حال الوجود مع كونها محدثة فليس كون التأثير فيها في حال وجودها مما ينفي انه لا بد ان تكون محدثة
وقولك اذا كان التأثير فيها في حال وجودها فلا فرق بين ان يكون وجودها مسبوقا بالعدم او غير مسبوق دعوى مجردة لاستواء الحالين والعقلاء يعلمون بضرورة عقلهم ان المبدع الفاعل لا يعقل ان يبدع القديم الازلى الذي لم يزل موجودا وانما يعقل ابداع ما لم
(3/69)
يكن ثم كان بل العقلاء متفقون على ان الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثا بعد عدمه ولا يكون قديما ازليا
وهذا مما اتفق عليه الفلاسفة مع سائر العقلاء وقد صرح به أرسطوا وجميع اتباعه حتى ابن سينا واتباعه ولكن ابن سينا واتباعه تناقصوا فادعوا في موضع اخر ان الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه قد يكون قديما ازليا ومن قبله من الفلاسفة حتى الفارابي لم يدعو ذلك ولا تناقضوا وقد حكينا اقوالهم في غير هذا الموضع
واما المقدمة الثانية التي بنوا عليها امتناع العلل المتعاقبة فهي مبنية على امتناع حوادث لا أول لها و المتفلسف لا يقول بذلك فلم يمكنهم ان يجعلوها مقدمة في اثبات واجب الوجود
و التحقيق انه لا يحتاج اليها بل ولا يحتاج في اثبات واجب الوجود إلى هذه الطريقة كما قد بينا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
وهؤلاء تجدهم مع كثرة كلامهم في النظريات و العقليات و تعظيمهم للعلم الإلهي الذي هو سيد العلوم وأعلاها أشرفها واسناها لا يحققون ما هو المقصود منه بل لا يحققون ما هو المعلوم لجماهير الخلائق وان اثبتوه طولوا فيه الطريق مع إمكان تقصيرها بل قد يورثون الناس شكا فيما هو معلوم لهم بالفطرة الضرورية
(3/70)
والرسل صلوات الله عليهم وسلامه بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بإفسادها وتغييرها قال تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } سورة الروم 30 32
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال
كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم قال أبو هريرة اقرأوا ان شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قالوا يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير فقال الله أعلم بما كانوا عاملين
(3/71)
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
يقول الله تعالى اني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم ان يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
فالاقرار بالخالق سبحانه وتعالى والاعتراف بوجود موجود واجب الوجود قديم أزلي كما أنه مركوز في الفطرة مستقر في القلوب فبراهينه وأدلته متعددة جدا ليس هذا موضعها وهؤلاء عامة ما يذكرونه من الطرق أما ان يكون فيه خلل واما ان يكون طويلا كثير التعب والغالب عليهم الاول
فالرازي أثبت الصانع بخمسة مسالك وهي كلها مبينة على مقدمة واحدة
الاول الاستدلال بحدوث الذوات كالاستدلال بحدوث الأجسام المبني على حدوث الاعراض كالحركة والسكون وامتناع مالا
(3/72)
نهاية له وهذا طريق المعتزلة ومن وافقهم من الاشعرية كأبي المعالي بناء على أن أجسام العالم محدثة وكل محدث فله محدث
أما المقدمة الاولى فقد تبين كلامهم فيها ومناقضة بعضهم بعضا وانهم التزموا لأجلها أما جحد صفات الله وأفعاله القائمة به وإما جحد بعض ذلك وأنهم اشترطوا في خلق الله تعالى للعالم ما ينافي خلق العالم فسلطوا عليهم أهل الملل والفلاسفة جميعا
وأما الثانية فهي أظهر وأعرف وأبده في العقول من أن تحتاج إلى بيان فبنوها على أن كل محدث فهو ممكن الوجود وأن الممكن يحتاج في وجوده إلى مؤثر موجود وكل من هاتين المقدمتين صحيحة في نفسها مع أن القول بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأظهر في العقل من القول بافتقار الممكن إلى المؤثر الموجود فبتقدير بيانهم للمقدمتين يكونون قد طولوا وداروا بالعقول دورة تبعد على العقول معرفة الله تعالى والاقرار بثبوته وقد يحصل لها في تلك الدورة من الآفات ما يقطعها عن المقصود فكانوا كما قيل لبعض الناس أين أذنك فرفع يده وأدارها على رأسه ومدها وتمطى وقال هذه أذني وكان يمكنه أن يشير اليها بالطريق المستقيم القريب ويقول هذه أذني وهو كما قيل % أقام يعمل أياما رويته % وشبه الماء بعد الجهد بالماء %
(3/73)
وهو نظير ما يذكر عن يعقوب بن اسحاق الكندي فيما حكاه عنه السيرافي من قوله هذا من باب فقد عدم الوجود وفقد عدم الوجود هو الوجود فكيف وقد ذكر وا في افتقار الممكن إلى الواجب بنفسه مع ظهوره وبيانه كما قد بيناه في غير هذا الموضع ما هو نقيض المقصود من التعليم والبيان وتحرير الادلة والبراهين وقد تكلمنا على تقرير ما يتعلق بهذا المقام في غير هذا الموضع
قال الرازي المسلك الثاني الاستدلال بامكان الأجسام على وجود الصانع سبحانه وتعالى وهو عمدة الفلاسفة قالوا الأجسام ممكنة وكل ممكن فلا بد له من مؤثر أما بيان كونها ممكنة فالبطريق المذكورة في مسألة الحدوث وأما بيان أن الممكن لا بد له من مؤثر فالبطريق المذكورة هنا
قلت وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة
(3/74)
وليست طريقة أرسطوا والقدماء من الفلاسفة وابن سينا كان يعجب بهذه الطريقة ويقول انه أثبت واجب الوجود من نفس الوجود من غير احتياج إلى الاستدلال بالحركة كما فعل أسلافه الفلاسفة ولا ريب ان طريقته تثبت وجودا واجبا لكن لم تثبت انه مغاير للافلاك إلا ببيان امكان الأجسام كما ذكره الرازي عنهم وامكان الأجسام هو مبنى على توحيدهم المبنى على نفي صفات الله تعالى كما تقدم التنبيه عليه وهو من أفسد الكلام كما قد بين ذلك في غير موضع
ومن طريقهم دخل القائلون بوحدة الوجود وغيرهم من أهل الالحاد القائلين بالحلول والاتحاد كصاحب الفصوص وأمثاله الذين حققة قولهم تعطيل الصانع بالكلية والقول بقول الدهرية الطبيعية دون الالهية
قال المسلك الثالث الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة وقديمة او ممكنة وحادثة
قال وتقريره ان يقال اختصاص كل جسم بما له من
(3/75)
الصفات أما ان يكون لجسميته او لما يكون حالا في الجسمية او لما يكون محلا لها او لما يكون حالا فيها ولا محلا لها وهذا القسم الاخير أما ان يكون جسما جسمانيا اولا جسما ولا جسمانيا وتبطل كل هذه الاقسام سوى القسم الاخير بما مر تقريره في اثبات المسلك الاول في مسألة حدوث العالم
قلت وهذا هو القول بتماثل الأجسام وان تخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصص والقول بتماثل الأجسام في غاية الفساد والرازي نفسه قد بين بطلان ذلك في غير موضع وهذا الذي احال عليه ليس فيه إلا ان الجسم لا يكون اختصاصه بالحيز واجبا بل جائزا وبتقدير ثبوت هذا في التحيز لا يلزم مثله في سائر الصفات
وما ذكره من الدليل لا يصح وذلك انه قال اختصاصه بذلك ان كان واجبا فإما ان يكون الوجوب لنفس
(3/76)
الجسمية او لأمر عرض للجسمية او لأمر الجسمية عرضت له أو لأمر غير عارض لها ولا معروض لها والاول يوجب اشتراك الأجسام في تلك الصفة وان كان لعارض فإما ان يكون ممتنع الزوال وهو اللازم او ممكن الزوال وهو العارض فإن العرضى في اصطلاحهم اعم من العارض فإن كان ممتنع الزوال فإن كان الامتناع لنفس الجسمية عاد الاشكال الاول وان كان لغيرها افضى إلى التسلسل وان كان لمعروض الجسمية لم يصح لأن المعقول من الجسمية الذهاب في الجهات فلو كان في محل لكن ذلك المحل يجب ان يكون ذاهبا في الجهات فيكون محل الجسمية جسما لأنه ان لم يكن ذاهبا في الجهات لم
(3/77)
يكن له اختصاص بالحيز فلا يعقل حصول الجسم المختص بالحيز في محل غير مختص بالحيز واذا كان محله ذاهبا في الجهات كان جسما وحينئذ فالقول في اختصاصه بذلك الحال فيه كالقول في الحيز لا يجوز ان يكون للجسمية او لوازمها بل لأمر عارض ممكن الزوال فيكون ذلك الحيز ممكن الزوال وهو المقصود
قلت ولقائل ان يقول هذا الدليل مبنى على تماثل الأجسام وأكثر العقلاء على خلافه وقد قرر الرازي في موضع آخر انها مختلفة لا متماثلة وهو مبنى ايضا على الكلام في الصورة والمادة ونحو ذلك مما ليس هذا موضع بسط الكلام فيه لكن يبين فساده ببيان موضع المنع في مقدماته
قوله ان كان الامتناع لغير الجسمية افضى إلى التسلسل ممنوع فإن الأجسام اذا كانت مشتركة في مسمى الجسمية وقد اختص بعضها عن بعض بصفات أخرى لم يجب في ذلك التسلسل كما في سائر الامور التي تشترك في شيء وتفترق في شيء فالمقادير والحيوانات اذا اشتركت في مسمى القدر والحيوانية واختص بعضها عن بعض بشيء آخر لازم له لم يلزم التسلسل سواء قيل بتماثل الأجسام او اختلافها فإنه ان قيل باختلافها كانت ذات كل واحد موصوفة بصفات لازمة لها لا توجد في الاخر كسائر الحقائق المختلفة وان قيل بتماثلها كتماثل افراد النوع فالموجب لوجود كل فرد من تلك
(3/78)
الافراد هو الموجب لصفاته اللازمة له لا تفتقر صفاته اللازمة له إلى موجب غير الموجب لذات وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين فيه فساد ما يقوله المنطقيون من اختلاف افراد النوع انما هو بسبب المادة القابلة ونحو ذلك فإنهم بنوه على ان للحقيقة الموجودة في الخارج سببا غير سبب وجودها وهذا غلط لا يستريب فيه من فهمه مع أنه لا حاجة بنا هنا إلى هذا بل نقول مجرد اشتراك الاثنين في كون كل منهما جسما او متحيزا او موصوفا او مقدار او غير ذلك لا يمنع اختصاص أحدهما بصفات لازمة له وليس اذا احتاج اختصاصه بالحيز إلى سبب غير الجسمية المشتركة يلزم ان يكون ذلك المخصص له مخصص آخر بل المشاهد خلاف ذلك فإن اختصاص الأجسام المشهودة بأحيازها ليس للجسمية المشتركة بل لأمر يخصها هو من لوازمها يمعنى أن المقتضى لذاتها هو المقتضى لذلك اللازم
وأيضا فقوله إن كان الامتناع لمعروض الجسمية فهو محال ممنوع
وقوله لأن المعقول من الجسمية الامتداد في الجهات فمحله لا بد أن يكون له ذهاب في الجهات
يقال له محل الامتداد في الجهات هو الممتد في الجهات كما أن محل التحيز هو المتحيز ومحل الطول والعرض والعمق هو الطويل
(3/79)
العريض العميق ومحل المقدار هو المقدر وكذلك محل الحياة والعلم والقدرة هو الحي العليم القدير وكذلك محل السواد والبياض هو الأسود والأبيض وهذا في كل ما يوصف بصفة فمحل الصفة هو الموصوف وهكذا جميع مسميات المصادر وغيرها من الأعراض محلها الأعيان القائمة بنفسها فإذا كانت الجسمية هي الامتداد في الجهات التي هي الطول والعرض والعمق مثلا كان محلها هو الشيء الممتد في الجهات الذي هو الطويل العريض العميق وحينئذ فمحلها له اختصاص بالحيز ويكون ذلك المعروض للجسمية الذي هو محل لها الممتد في الجهات هو المقتضى لاختصاصه بما اختص به من الصفات اللازمة وهو مستلزم لذلك كما هو مستلزم للامتداد في الجهات فجنس الجسم مستلزم لجنس الامتداد وجنس الأعراض والصفات فالجسم المعين هو مستلزم للامتداد المعين في الجهات المعينة ومستلزم للصفات المعينة التي يقال إنها لازمة له حتى إنه متى قدر عدم تلك اللوازم فقد تبطل حقيقته فالموجب لها هو الموجب لحقيقته وهذا مطرد في كل ما يقدر من الموصوفات المستلزمة لصفاتها كالحيوانية والناطقية للإنسان وكذلك الاغتذاء والنمو للحيوان والنبات مثلا فإن كون النبات ناميا متغذيا هو صفة لازمة له لا لعموم كونه جسما ولا لسبب غير حقيقته التي يختص بها بل حقيقته مستلزمة
(3/80)
لنموه واغتذائه وهذه الصفات أقرب إلى أن تكون داخلة في حقيقته من كونه ممتدا في الجهات وإن كان ذلك أيضا لازما له فإنا نعلم أن النار والثلج والتراب والخبز والإنسان والشمس والفلك وغير ذلك كلها مشتركة في أنها متحيزة ممتدة في الجهات كما أنها مشتركة في أنها موصوفة بصفات قائمة بها وفي أنها حاملة لتلك الصفات وما به افترقت وامتاز بعضها عن بعض أعظم مما فيه اشتركت فالصفات الفارقة بينها الموجبة لاختلافها ومباينة بعضها لبعض أعظم مما يوجب تشابهها ومناسبة بعضها لبعض فمن يقول بتماثل الجواهر والأجسام يقول إن الحقيقة هي ما اشتركت فيه من التحيزية والمقدارية وتوابعها وسائر الصفات عارضة لها تفتقر إلى سبب غير الذات
ومن يقول باختلافها يقول بل المقدارية للجسم والتحيزية للمتحيز كالموصوفية للموصوف واللونية للملون والعرضية للعرض والقيام بالنفس للقائمات بأنفسها ونحو ذلك ومعلوم أن الموجودين إذا اشتركا في أن هذا قائم بنفسه وهذا قائم بنفسه لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن هذا لون وهذا لون وهذا طعم وهذا طعم وهذا عرض وهذا عرض لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن هذا موصوف وهذا موصوف لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن لهذا مقدارا ولهذا مقدارا
(3/81)
ولهذا حيزا ومكانا ولهذا حيزا ومكانا كان أولى أن لا يوجب هذا تماثلهما لأن الصفة للموصوف أدخل في حقيقته من القدر للمقدر والمكان للمتمكن والحيز للمتحيز فإذا كان اشتراكهما فيما هو أدخل في الحقيقة لا يوجب التماثل فاشتراكهما فيما هو دونه في ذلك أولى بعدم التماثل والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على مجامع ما أثبتوا به الصانع
قال الرازي المسلك الرابع الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع تعالى مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء إنسانا فإذا كانت تلك التركيبات أعراضا حادثة والعبد غير قادر عليها فلا بد من فاعل آخر ثم من ادعى العلم بأن حاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة هنا ومن استدل على ذلك بالإمكان أو بالقياس على حدوث الذوات فكذلك يقول أيضا في حدوث الصفات
قال والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين
(3/82)
الاستدلال بحدوثها أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسما والثاني لا يقتضي ذلك
قلت هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن وهي التي جاءت بها الرسل وكان عليها سلف الأمة وائمتها وجماهير العقلاء من الادميين فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان وغير ذلك من الحوادث ويذكر في آياته خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار ونحو ذلك لكن القائلون باثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الاشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالا بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها بل الجواهر والاجسام التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حدوثها ولا تزال موجودة وانما تغيرت صفاتها بتقدير حدوثها كما تتغير صفات الجسم اذا تحرك بعد السكون وكما تتغير ألوانه وكما تتغير أشكاله وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم
(3/83)
وحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الاشعرية وغيرهم ان الرب لم يزل معطلا فلا يفعل شيئا ولا يتكلم بمشيته وقدرته ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئا بل انما تحدث صفات تقوم بها ويدعون أن هذا قول أهل الملل الانبياء وأتباعهم وبينهم وبين الفلاسفة في مثل هذا نزاع أخطأ فيه كل من الفريقين فإن الفلاسفة يقولون بإثبات المادة والصورة ويجعلون المادة والصورة جوهرين وهؤلاء يقولون ليست الصورة إلا عرضا قائما بجسم
والتحقيق ان المادة والصورة لفظ يقع على معان كالمادة والصورة الصناعية والطبيعية والكلية والأولية
فالأول مثل الفضة اذا جعلت درهما وخاتما وسبيكة والخشب اذا جعل كرسيا واللبن والحجر اذا جعل بيتا والغزل اذا نسج ثوبا ونحو ذلك فلا ريب ان لمادة هنا التي يسمونها الهيولي هي أجسام قائمة بنفسها وأن الصورة اعراض قائمة بها فتحول الفضة من صورة إلى صورة هو تحولها من شكل إلى شكل مع أن حقيقتها لم تتغير أصلا
وبهذا يظهر لك خطأ قول القائل ان من أثبت افتقار المحدث إلى الفاعل بالقياس على حدوث الذوات قال هنا كذلك وهذه الطريقة
(3/84)
طريقة ابي علي وأبي هاشم ومن وافقهما
فيقال هؤلاء انما قاسوا على افتقار الكتابة إلى كاتب والبناء إلى بان ونحو ذلك ومعلوم ان البناء والكاتب لم يبدع جسما وانما أحدث في الأجسام تأليفا خاصا وهو عرض من الاعراض فكيف يجعل مثل هذا محدثا للذوات ويجعل الذي خلق الانسان من نطفة والشجرة من نواة انما أحدث الصفات لكن المعتزلة لا يقولون ان الجسم يحدث جسما وانما يحدث عرضا
والثاني من معاني المادة والصورة هي الطبيعية وهي صورة الحيوانات والنباتات والمعادن ونحو ذلك فهذه ان أريد بالصورة فيها نفس الشكل الذي لها فهو عرض قائم بجسم وليس هذا مراد الفلاسفة وان أريد بالصورة نفس هذا الجسم المتصور فلا ريب أنه جوهر محسوس قائم بنفسه
ومن قال ان هذا عرض قائم بجوهر من أهل الكلام فقد غلط وحينئذ فيقول المتفلسف ان هذه الصورة قائمة بالمادة والهيولى ان اراد بذلك ما خلق منه الانسان كالمنى وهو لم يرد ذلك فلا ريب ان ذاك جسم آخر فسد واستحال وليس هو الان
(3/85)
موجودا بل ذاك صورة وهذا صورة والله تعالى خلق إحداهما من الأخرى وان أراد أن هنا جوهرا قائما بنفسه غير هذا الجسم المشهود الذي هو صورة قائم بذلك الجوهر العقلي فهذا من خيالاتهم الفاسدة
ومن هنا تعرف قولهم في الهيولى الكلية حيث ادعوا أن بين أجسام العالم جوهرا قائما بنفسه تشترك فيه الأجسام ومن تصور الأمور وعرف ما يقول علم أنه ليس بين هذا الجسم المعين وهذا الجسم المعين قدر مشترك موجود في الخارج أصلا بل كل منهما متميز عن الآخر بنفسه المتناولة لذاته وصفاته ولكن يشتركان في المقدارية وغيرها من الأحكام اللازمة للأجسام وعلم أن اتصال الجسم بعد انفصاله هو نوع من التفرق والتفرق والاجتماع هما من الأعراض التي يوصف بها الجسم فالاتصال والانفصال عرضان والقابل لهما نفس الجسم الذي يكون متصلا تارة ومنفصلا أخرى كما يكون مجتمعا تارة ومفترقا أخرى ومتحركا تارة وساكنا أخرى وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
قال الرازي والطريقة الخامسة وهي عند التحقيق
(3/86)
عائدة إلى الطرق الأربع وهي الاستدلال بما في العالم من الإحكام والإتقان على علم الفاعل والذي يدل على علم الفاعل هو بالدلالة على ذاته أولى
قلت والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق لصريح المعقول وأن ما بينه من الآيات والدلائل والبراهين العقلية في إثبات الصانع سبحانه ومعرفة صفاته وأفعاله هو فوق نهاية العقول وأن خيار ما عند حذاق الأولين والآخرين من الفلاسفة والمتكلمين هو بعض ما فيه لكنهم يلبسون الحق بالباطل فلا يأتون به على وجهه كما أن طريقة الاستدلال بحدوث المحدثات على إثبات الصانع الخالق هي طريقة فطرية ضرورية وهي خيار ما عندهم بل ليس عندهم طريقة صحيحة غيرها لكنهم أدخلوا فيها من الاختلال والفساد ما يعرفه أهل التحقيق والانتقاد الذين آتاهم الله الهدى والسداد وقد بسط الكلام على هذه المطالب في غير هذا الموضع
(3/87)
فصل
وأما ما تكلموا به في وجود واجب الوجود وتحيرهم فيه هل وجوده حقيقته أو زائد على حقيقته وفي صفاته وأفعاله فهذا بحر واسع قد بسطناه في غير هذا الموضع
وقد اعترف الرازي بحيرته في مسائل الذات والصفات والأفعال وهو تارة يقول بقول هؤلاء وتارة يقول بقول هؤلاء والآمدي متوقف في مسائل الوجود والذات ونحو ذلك مع أنه لم يذكر دليلا على إثبات واجب الوجود البتة فإنه ظن أن الطرق المذكورة ترجع إلى الاستدلال بالإمكان على المرجح الموجب فلم يسلك في إثبات واجب الوجود إلا هذه الطريقة التي هي طريقة ابن سينا لكن ابن سينا وأتباعه قرروها أحسن من تقرير الآمدي فإن أولئك أثبتوا واجب الوجود بالبرهان العقلي الذي لا ريب فيه لكن احتجوا على مغايرته للموجودات المحسوسة بطريقتهم المبنية على نفي الصفات وهي باطلة وأما الآمدي فلم يقرر إثبات واجب الوجود بحال بل قال في كتاب بكار الأفكار في أعظم مسائل الكتاب وهي مسألة إثبات واجب الوجود مذهب أهل الحق من المتشرعين وطوائف الإلهيين القول بوجوب
(3/88)
وجود موجود وجوده لذاته لا لغيره وكل ما سواه فمتوقف في وجوده عليه خلافا لطائفة شاذة من الباطنية ومنشأ الاحتجاج على ذلك ما نشاهده من الموجودات العينية ونتحققه من الأمور الحسية فإنه إما أن يكون واجبا لذاته أو لا يكون واجبا لذاته فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فكل موجود لا يكون واجبا لذاته فهو ممكن لذاته لأنه لو كان ممتنعا لذاته لما كان موجودا وإذا كان ممكنا فالوجود والعدم عليه جائزان وعند ذلك فإما أن يكون في وجوده مفتقرا إلى مرجح أو غير مفتقر إليه فإن لم يكن مفتقرا إلى المرجح فقد ترجح أحد الجائزين من غير مرجح وهو ممتنع وإن افتقر إلى المرجح فذلك المرجح إما واجب لذاته أو لغيره فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فذلك الغير إما أن يكون معلولا لمعلوله أو لغيره فإن كان الأول فيلزم أن يكون كل واحد منهما مقوما للآخر ويلزم من ذلك أن يكون كل واحد منهما مقوما لمقوم نفسه فيكون كل واحد منهما مقوما لنفسه لأن مقوم المقوم مقوم وذلك يوجب جعل كل واحد من الممكنين متقوما بنفسه والمقوم بنفسه لا يكون ممكنا وهو خلاف الفرض ولأن التقويم إضافة بين المقوم
(3/89)
والمقوم فيستدعي المغايرة بينهما ولا مغايرة بين الشيء ونفسه وإن كان الثاني وهو أن يكون ذلك الغير معلولا للغير فالكلام في ذلك الغير كالكلام في الأول وعند ذلك فإما أن يقف الأمر على موجود هو مبدأ الموجودات غير مفتقر في وجوده إلى غيره أو يتسلسل الأمر إلى غير النهاية فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فهو ممتنع
ثم ذكر الأدلة المتقدمة على إبطال التسلسل وبين فسادها كلها كما تقدم حكاية قوله واختار الحجة المذكورة عنه التي حكيناها فقال وإن كانت العلل والمعلولات المفروضة موجودة معا فلا يخفى أن النظر إلى الجملة غير النظر إلى كل واحد واحد من آحادها فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد وعند ذلك فالجملة موجودة وهي إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لا جائز أن تكون واجبة وإلا لما كانت آحادها ممكنة وقد قيل إنها ممكنة
(3/90)
كما سبق وإن كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح والمرجح أما ان يكون داخلا فيها او خارجا عنها لا جائز ان يقال بالأول فان المرجح للجملة مرجح لاحادها ويلزم ان يكون مرجحا لنفسه ضرورة كونه من الآحاد ويخرج بذلك عن ان يكون ممكنا وهو خلاف الفرض وان يكون مرجحا لعلته لكونه من الآحاد وفيه جعل العلة معلولا والمعلول علة وهو دور ممتنع وان كان المرجح خارجا عنها فهو أما ممكن او اوجب فان كان ممكنا فهو من الجملة وهو خلاف الفرض فلم يبق إلا ان يكون واجبا لذاته وهو المطلوب
قلت فهذه الطريقة التي ذكرها لم يذكر غيرها في إثبات الصانع ثم أورد على نفسه اسئلة كثيرة منها قول المعترض لا نستسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهى ليصح ما ذكرتموه ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهي مع أشعاره بالحصر صحته في غير المتناهى سلمنا ان مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وانه ممكن
(3/91)
ولكن لا نسلم انه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية وعند ذلك فلا يلزم ان يكون معللا بغير علة الآحاد سلمنا أنه زائد على الآحاد ولكن ما المانع أن يكون مترجحا بآحاد الداخلة فيه لا بمعنى انه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من آحاده بالآخر إلى غير النهاية وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة ولا ان يكون المرجح للجملة مرجحا لنفسه ولا لعلته
ثم قال في الجواب قولهم لا نسلم ان مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية قلنا ان اردتم ان مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الإحالة وإن أردتم به الهيئة الإجتماعية من آحاد الاعداد فلا خفاء بكونه زائدا على كل واحد من الآحاد وهو المطلوب قولهم ما المانع من ان تكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه قلنا أما ان يقال تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها
(3/92)
أو بواحد منها فإن كان بواحد منها فالمحال الذي ألزمناه حاصل وإن كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال
فهذا ما ذكره في كتابه المشهور المعروف ب أبكار الأفكار المصنف في الكلام وليس في هذا تعرض لإبطال علل ومعلولات ممكنة مجتمعة لا نهاية لها ولكن فيه إثبات واجب الوجود خارجا عنها وقد ذهب طائفة من أهل الكلام كأصحاب معمر إلى إثبات معان لا نهاية لها مجتمعة وهي الخلق وهي شرط في الحدوث
ثم إنه في كتابه المسمى ب دقائق الحقائق في الفلسفة ذكر هذه الحجة وزاد فيها إبطال إثبات علل ومعلولات لا نهاية لها ولكنه اعترض عليها باعتراض وذكر أنه لا جواب له عنه فبقيت حجته على إثبات واجب الوجود موقوفة على هذا الجواب
فقال بعد أن ذكر ما ذكره هنا الجملة إما أن تكون باعتبار ذاتها واجبة أو ممكنة لا جائز أن تكون واجبة وإلا لما كانت آحادها ممكنة وما يتوهمه بعض الناس من قوله إنه إذا كانت الآحاد ممكنة ومعناه افتقار كل واحد إلى علته وكانت الجملة هي مجموع الآحاد فلا مانع من إطلاق الوجود وعدم الإمكان عليها بمعنى أنها غير
(3/93)
مفتقرة إلى أمر خارج عن ذاتها وإن كانت أبعاضها مما يفتقر بعضها إلى بعض فتوهم ساقط فإنه إذا قيل إن الجملة غير ممكنة فقد بينا في المنطقيات أن كل ما ليس بممكن بالمعنى الخاص فإما واجب لذاته وإما ممتنع لا جائز أن يقال بالامتناع وإلا لما كانت موجودة بقي أن تكون واجبة بذاتها وإذا كانت الجملة هي مجموع آحادها وكل واحد من الآحاد ممكن فالجملة أيضا ممكنة بذاتها والواجب باعتبار ذاته يستحيل أن يكون ممكنا باعتبار ذاته وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح لضرورة كونها موجودة والمرجح فإما أن يكون ممكنا أو واجبا لا جائز أن يكون ممكنا إذ هو من الجملة ثم يلزم أن يكون مرجحا لنفسه لكونه مرجحا للجملة والمرجح للجملة مرجح لآحادها وهو من آحادها وذلك محال ثم يلزم أن يكون علة علته وهو دور ممتنع وإن كان واجبا لذاته غير مفتقر إلى علة في وجوده فإما أن يكون علة للجملة أو لبعضها فإن كان علة للجملة لزم أن يكون علة لكل واحد من آحادها إذ الجملة هي مجموع الآحاد وهو محال من جهة إفضائه إلى كون كل واحد من آحاد الجملة المفروضة معللا بعلتين وهي العلة الواجبة الوجود وما قيل إنه علة له من آحاد الجملة وإن كان علة لبعض منها لا يكون معلولا لغيره فهو خلاف الفرض
وهذه المحالات إنما لزمت من القول بعدم النهاية فهو محال كيف وكل علل ومعلولات قيل باستنادها إلى علة لا علة لها فالقول
(3/94)
بكونها غير متناهية أعدادها محال وجمع بين متناقضين وهو القول بأن ما من علة إلا ولها علة والقول بانتهاء العلل والمعلولات إلى علة لا علة لها
فإذا قد اتضح بما مهدنا امتناع كون العلل والمعلولات غير متناهية وأن القول بأن لا نهاية لها محال
ثم قال ولقائل أن يقول إثبات الجملة لما لا يتناهى وإن كان غير مسلم لكن ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير النهاية على ما قيل
قال وهذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله
قلت فهذا استدلاله على واجب الوجود لم يذكر في كتبه غيره وأما حدوث العالم فأبطل طرق الناس وبناه على أن الجسم لا يخلو من الأعراض الحادثة إذ العرض لا يبقى زمانين واستدل على امتناع حوادث لا أول لها بعد أن أبطل وجوه غيره بالوجه الذي تقدم وتقدم ما فيه من الضعف الذي بينه الأرموي وغيره ثم إذا ثبت حدوث العالم فإنه لم يستدل بالحدوث على المحدث إلا بطريقة الذين
(3/95)
بنوا ذلك على الإمكان وهو أن ذلك يتضمن التخصيص المفتقر إلى مخصص لأنه ترجيح لأحد طرفي الممكن فهو لا يستدل بالحدوث على المحدث إلا بناء على أن ذلك ممكن يفتقر إلى واجب ولا يجعل الممكن دالا على الواجب إلا بناء على نفي التسلسل والتسلسل قد أورد عليه السؤال الذي قال إنه لا جواب له عنه
وكل هذه المقدمات التي ذكرها لا يفتقر إثبات الصانع إليها وبتقدير افتقاره إليها فإبطال التسلسل ممكن فتتم تلك المقدمات وذلك أن إثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجسام كما تقدم بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغني عن ذلك والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية وهو أبين من افتقار الممكن إلى المرجح فلا يحتاج أن يقرر ذلك بأن الحدوث ممكن أو أنه كان يمكن حدوثه على غير ذلك الوجه فتخصيصه بوجه دون وجه ممكن جائز الطرفين فيحتاج إلى مرجح مخصص بأحدهما
وهذه الطريقة يسلكها من يسلكها من متأخري أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم على ذلك من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم
وقد نبهنا على أنها وإن كانت صحيحة فإنها تطويل بلا فائدة فيه واستدلال على الأظهر بالأخفى وعلى الأقوى
(3/96)
بالأضعف كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه وإن كان الحد مطابقا للمحدود مطردا منعكسا يحصل به التمييز مع ان الحد والاستدلال بالأخفى قد يكون فيه منفعة من وجوه اخرى مثل ما حصلت له شبهة او معاندة في الأمر الجلى فتبين له بغيره لكون ذلك اظهر عنده فان الظهور والخفاء امر نسبي اضافي مثل من يكون من شأنه الاستخفاف بالأمور الواضحة البينة فإذا كان الكلام طويلا مستغلقا هابه وعظمه كما يوجد في جنس هؤلاء إلى غير ذلك من الفوائد لكن ليس هذا مما يتوقف العلم والبيان عليه مطلقا وهذا هو المقصود هنا وهؤلاء كثيرا ما يغلطون فيظنون ان المطلوب لا يمكن معرفته إلا بما ذكروه من الحد والدليل وبسبب هذا الغلط يضل من يضل حتى يتوهم ان ذلك الطريق المعين اذا بطل انسد باب المعرفة
ولهذا لما بنى الامدى وغيره على هذه الطريقة التي تعود إلى طريقة الامكان على نفي التسلسل حصل ما حصل فكان مثل هؤلاء من عمد إلى امراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به
(3/97)
يجاهدون وتركوا واحدا ظنا انه يكفي في قتال العدو وهو اضعف الجماعة أعجزهم ثم انهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بازاء العدو أحد
ومثل نهر كبير كدجلة والفرات كان عليه عدة جسور يعبر الناس عليها ومنها ما هو قوى مكين في مكان قريب فعمد المتولى إلى تلك الجسور فقطعها كلها ولم يترك إلا واحد طويلا بعيدا ضعيفا ثم انه خرقه في أثنائه حتى انقطع الطريق ولم يبق الأحد طريق إلى العبور وهو مع هذا يستعمل الناس في الآلات التي يصنع بها الجسور ويشعر الناس انه لا يمكن أحدا ان يعبر بما يصنعه
او مثل رجل كان لمدينته أسوار متداخلة سور خلف سور كل سور منها يحفظ المدينة فعمد المتولى فهدم تلك الأسوار كلها وترك سورا هو أضعفها وأطولها وأصبعها حفظا ثم انه مع ذلك خرق منه ناحية يدخل منها العدو فلم يبق للمدينة سور يحفظها
فيقال ان إثبات الصانع ممكن بطرق كثيرة منها الاستدال بالحدوث على المحدث وهذا يكفي فيه حودث الانسان نفسه او حدوث ما يشاهد من المحدثات كالنبات والحيوان وغير ذلك ثم انه يعلم بالضرورة ان المحدث لا بد له من محدث واذا قدر انه اثبت الصانع بحدوث
(3/98)
العالم لزم ان المحدث لا بد له من محدث ثم اذا قدر انه استدل بطريقة الامكان أما ابتداء واما طريقة الحدوث فالعلم بان الممكن يفتقر إلى الواجب علم ضروري لا يفتقر إلى نفي التسلسل
وايضا فإبطال التسلسل له طرق كثيرة وذلك انه يمكن ان يقال فيه وجوه
أحدهما ان الموجودات بأسرها أما ان تكون واجبة الوجود او ممكنة الوجود او ممتنة الوجود والاقسام الثلاثة باطلة فلزم ان يكون بعضها واجبا وبعضها ممكنا
أما الثالث فهو باطل لان ما وجد لا يكون ممتنع الوجود
والثاني باطل أيضا لان ممكن الوجود هو الذي يمكن وجوده وعدمه وما كان كذلك لم يوجد إلا بغيره فلو كان مجموع الموجودات ممكنة لا فتقرت الموجودات كلها إلى غيرها وما ليس بموجود فهو معدوم والمعدوم لا يفعل الموجود بالضرورة
والاول باطل أيضا لانا نشاهد فيها ما يحدث بعد ان لم يكن كالحيوان والنبات والمعدن والسحاب والامطار
(3/99)
والحادث عدم مرة ووجد أخرى فلا يكون ممتنعا لأن الممتنع لا يوجد ولا واجبا بنفسه لأن الواجب بنفسه لا يعدم فثبت أنه ممكن وثبت أن في الموجودات ما هو ممكن بنفسه وأنه ليس كلها ممكنا فثبت أن فيها موجودا ليس بممكن والموجود الذي ليس بممكن هو الواجب بنفسه فإن الموجود إما أن يكون وجوده بنفسه وهو الواجب أو يغيره وهو الممكن ولا يجوز أن يكون فيهما ممتنع لأن الممتنع هو الذي لا يجوز أن يوجد فيمتنع أن يكون في الوجود ممتنع
فتبين أن في الموجودات واجبا وممكنا وليس فيها ممتنع وإن شئت قلت إما أن يقبل من جهة نفسه العدم وهو الممكن أو لا يقبل العدم وهو الواجب بنفسه وإن شئت قلت إما أن يفتقر إلى غيره وهو الممكن أو لا يفتقر وهو الواجب
وإذا كانت الموجودات إما واجبة وإما ممكنة وليس كلها ممكنا ولا كلها واجبا وتعين أن فيها واجبا وفيها ممكنا
الوجه الثاني أن يقال كل ممكن بنفسه لا يوجد إلا بموجب يجب به وجوده لأنه إذا لم يحصل ما به يجب وجوده كان وجوده ممكنا قابلا للوجود والعدم فلا يوجد وما به يجب وجوده لا يكون ممكنا لأن الممكن لا يجب به شيء لافتقاره إلى غيره فالمفتقر إلى الممكن مفتقر إليه وإلى ما به وجب الممكن وإذا كان الممكن وحده لا يجب به شيء علم افتقار الممكن إلى واجب بنفسه
(3/100)
الوجه الثالث أن يقال طبيعة الإمكان سواء فرضت الممكنات متناهية أو غير متناهية لا توجب الوجود بنفسها فإن ما كان كذلك لم يكن ممكنا فلا بد للممكن من حيث هو ممكن من موجود ليس بممكن والمراد بالممكن في هذه المواضع الممكن الإمكان الخاص وهو الذي يقبل الوجود والعدم فيكون الواجب والممتنع قسيميه فأما إذا أريد به الممكن الإمكان العام وهو قسيم الممتنع فكل موجود فهو ممكن بالإمكان العام
ثم الموجود إما موجود بنفسه وإما بغيره وليس كل موجود وجد بنفسه لأن منها المحدثات التي يعلم بضرورة العقل أن وجودها ليس بأنفسها
فثبت أن من الموجودات ما هو موجود بنفسه وما هو موجود بغيره
الوجه الرابع أن يقال الموجودات ليست كلها موجودة بغيرها لأن الغير إن كان معدوما امتنع أن يكون الموجود موجودا بما ليس بموجود وإن كان الغير موجودا كان الموجود خارجا عن جملة الموجودات
وإذا لم تكن الموجودات كلها موجودة بغيرها فإما أن تكون كلها أو كل منها موجودا بنفسه وإما أن لا يكون والأول ممتنع لأن المحدثات التي يشهد حدوثها يعلم بالضرورة أنها ليست موجودة بنفسها وإذا لم تكن كلها موجودة بغيرها ولا كلها موجودة بنفسها تعين أن منها
(3/101)
ما هو موجود بنفسه ومنها ما هو موجود بغيره وهذا لك أن تعتبره في كل فرد فرد من الموجودات وفي المجموع فتقول يمتنع في كل فرد من الموجودات أن يكون موجودا بغير موجود لأنه إذا كان كل واحد من الموجودات موجودا بغير موجود لزم أن يكون كل من الموجودات موجودا بمعدوم وهذا ممتنع وإذا امتنع فإما أن يكون كل موجود موجودا بنفسه وإما أن يكون موجودا بوجود غيره وإما أن يكون منها ما هو موجود بنفسه ومنها ما هو موجود بوجود غيره
والأول ممتنع لوجود الحوادث التي لا توجد بأنفسها
والثاني ممتنع لأن كل واحد واحد من الموجودات إذا كان موجودا بوجود غيره والغير من الموجودات التي لا توجد إلا بموجود غيرها لم يكن فيها إلا ما هو مفتقر محتاج إلى الغير وما كان بنفسه مفتقرا محتاجا إلى الغير ولم يوجد إلا بوجود ذلك الغير وما كان بنفسه مفتقرا محتاجا إلى الغير ولم يوجد إلا بوجود ذلك الغير وما كان في نفسه لا يوجد إلا بغيره فأولى أن لا يكون بنفسه مبدعا لغيره فيلزم أن لا يكون في الموجودات ما هو موجود بنفسه ولا ما هو فاعل لغيره فيلزم حينئذ أن لا يوجد شيء من الموجودات لأن الموجود إما موجود بنفسه وإما بوجود غيره وهذا إنما لزم لما قدر أن كل موجود موجود بغيره
(3/102)
فتعين أن من الموجودات ما هو موجود بنفسه وهو المطلوب
وأما إذا اعتبرت ذلك في المجموع فمجموع الموجود لا يكون واجبا بنفسه لأن من أجزائه ما هو ممكن محدث كائن بعد أن لم يكن والمجموع يتوقف عليه والمتوقف على الممكن لا يكون واجبا بنفسه ولا يكون المجموع مفتقرا إلى غيره المباين له فإن ذلك لا يكون إلا معدوما الموجود لا يكون مفتقرا إلى فاعل معدوم ليس بموجود فضلا عن مجموع الموجود فتعين أن يكون المجموع مفتقرا إلى ما هو داخل في المجموع وذلك البعض لا يكون إلا واجبا بنفسه إذ لو لم يكن واجبا بنفسه لكان ممكنا مفتقرا إلى غيره فيكون مجموع كل واحد من الموجودات مفتقرا إلى غيره وذلك الغير ممكن بنفسه وهو جزء من المجموع الممكن المفتقر إلى غيره ويمتنع أن يكون مجموع الممكنات ليس مفتقرا إلى ما هو بعض الممكنات فإن مجموعها أعظم من بعضها وذلك البعض يشرك المجموع في الفقر والاحتياج إلى الغير ففيه ما فيها من الاحتياج والفقر إلى الغير مع أن المجموع أعظم منه فإذا كانت الأجزاء كلها فقيرة محتاجة والمجموع محتاجا فقيرا امتنع أن يكون شيء من الأجزاء بالمجموع وحده فضلا عن أن يكون بجزء آخر فضلا عن أن يكون المجموع الذي كل أجزائه فقراء بواحد من تلك
(3/103)
الأجزاء الفقراء وهذا كله بين ضروري لا يستريب فيه من تصوره ويمكن تصوير هذه المواد على وجوه أخرى فصل
وكذلك يمكن تصوير هذه الأدلة في مادة الحدوث بأن يقال الموجودات إما أن تكون كلها حادثة وهو ممتنع لأن الحوادث لا بد لها من فاعل وذلك معلوم بالضرورة ومحدث الموجودات كلها لا يكون معدوما وذلك أيضا معلوم بالضرورة وما خرج عن الموجودات لا يكون إلا معدوما فلو كانت الموجودات كلها محدثة للزم إما حدوثها بلا محدث وإما حدوثها بمحدث معدوم وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة فثبت أنه لا بد في الوجود من موجود قديم وليس كل موجود قديما بالضرورة الحسية فثبت أن الموجودات تنقسم إلى قديم ومحدث
وهاتان المقدمتان وهو أن كل حادث فلا بد له من محدث وأن المحدث للموجود لا يكون إلا موجودا مع أنهما معلومتان بالضرورة فإن كثيرا من أهل الكلام أخذوا يقررون ذلك بأدلة نظرية ويحتجون على ذلك بأدلة وهي وإن كانت صحيحة لكن
(3/104)
النتيجة أبين عند العقل من المقدمات فيصير كمن يحد الأجلى بالأخفى وهذا وإن كان قد يذمه كثير من الناس مطلقا فقد ينتفع به في مواضع مثل عناد المناظر ومنازعته في المقدمة الجلية دون ما هو أخفى منها ومثل حصول العلم بذلك من الطرق الدقيقة الخفية الطويلة لمن يرى أن حصول العلم له بمثل هذه الطرق أعظم عنده واحب اليه وانه اذا خوطب بالأدلة الواضحة المعروفة للعامة لم تكن مزية على العامة ولمن يقصد بمخاطبته بمثل ذلك ان مثل هذه الطرق معروف معلوم عندنا لم ندعه عجزا وجهلا وانما اعرضنا عنه استغناء عنه بما هو خير منه واشتغالا بما هو انفع من تطويل لا يحتاج اليه إلى امثال ذلك من المقاصد
فأما كون الحادث لا بد له من محدث فهي ضرورية عند جماهير العلماء وكثير من متكلمة المعتزلة ومن اتبعهم جعلوه نظريا كما سيأتي ذكره بعد هذا
واما كون المعدوم لا يكون فاعلا للموجودات فهو اظهر من ذلك ولذلك اعترف بكونه ضرويا من استدل على ان المحدث لا بد له من محدث موجود والممكن لا بد له من مؤثر موجود كالرازي وغيره
(3/105)
قال الرازي أما كون المؤثر موجودا فإنه لا فرق بين نفي المؤثر وبين مؤثر منفي والحكم بالاكتفاء بالمؤثر المنفي حكم بعدم الاحتياج إلى المؤثر
قال والعلم بذلك ضروري ولا يتصور في هذا المقام الاستدلال بالكلام المشهور من ان المعدوم لا تميز فيه فلا يمكن استناد الاثر اليه لانه يتوجه عليه شكوك معروفة
قال والجواب عنها وان كان ممكنا إلا ان العلم بفساد استناد الاثر الموجود إلى المؤثر المعدوم اظهر كثيرا من العلم بذلك والدليل
(3/106)
والاجوبة عن الاسولة التي تورد عليه وايضاح لا يزيده إلا خفاء
قال وقول القائل هب ان المؤثر ليس بمعدوم فلم يجب ان يكون موجودا قلنا لا واسطة بين الوجود والعدم وقول القائل الماهية تقتضي الامكان لا بشرط الوجود ولا العدم فهو متوسط بين الوجود والعدم قلنا نحن لا ندعى ان كل حقيقة فهي إما الوجود وإما العدم حتى يلزم من كون الماهية مغايرة لهما فساد ذلك الحصر بل ندعى ان العقل يحكم على كل حقيقة من الحقائق التي لا نهاية لها انها لا تخلوا عن وصفي الوجود والعدم واذا كان كذلك فكون الماهية مغايرة للوجود والعدم لا يقدح في قولنا انه لا واسطة بين الوجود والعدم
(3/107)
قلت هذا السؤال والجواب عنه لا يحتاج اليه مع علمنا الضروري بان المؤثر في الموجود لا يكون إلا موجودا وهذا قد سبقه اليه غير واحد من النظار كأبي المعالى الجويني فانه فال في الارشاد فان قال قائل قد دللتم فيما قدمتم على العلم بالصانع فبم تنكرون على من يقدر الصانع عدما قلنا العدم عندنا نفي محض وليس المعدوم على صفة من صفات الاثبات ولا فرق بين نفي الصانع وبين تقدير الصانع منفيا من كل وجه بل نفي الصانع وان كان باطلا بالدليل القاطع فالقول به غير متناقض في نفسه والمصير إلى إثبات صانع منفي متناقض وإنما يلزم القول بالصانع المعدوم المعتزلة حيث اثبتوا للمعدوم صفات الاثبات وقضوا بان المعدوم على خصائص الاجناس
قال والوجه ان لا نعد الوجود من الصفات فان الوجود نفس الذات وليس بمثابة التحيز للجوهر فان التحيز صفة زائدة على ذات الجوهر ووجود عندنا نفسه من غير تقدير مزيد
قال والائمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات والعلم به علم بالذات
قال الكيا الهراسى الطبري اذا قلنا الباري موجود فوجوده ذاته هذا بالإتفاق من اصحابنا القائلين بالأحوال والنافين لها إلا على راى المعتزلة الذين قالوا المعدوم شيء
(3/108)
وقال ابو القاسم الانصارى شارح الارشاد والقاضي ابو بكر وان اثبت الاحوال فلم يجعل الوجود حالا فان العلم به علم بالذات وعند ابي هاشم ومتبعيه الوجود من الاحوال وهو من اثر كون الفاعل قادرا
قال وما قاله امام الحرمين من ان الائمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات فانما قالوا ذلك لما بيناه من ان صفة النفس عندهم تفيد ما تفيده النفس فلا فرق بين وجود الجوهر وتحيزه وهكذا قال الكيا الوجود يمنزلة التحيز للجوهر فإن التحيز للجوهر نفس الجوهر خالف ابا المعالى
قال ومن الدليل على وجود الصانع انه موصوف بالصفات القائمة به كالحياة والقدرة والعلم ونحوها وهذه الصفات مشروطة بوجود محلها وقد يكون الشيء موجودا ولا يكون مختصا بهذه الصفات ويستحيل الاختصاص بهذه الصفات من غير تحقق وجود
قال ومما يحقق ما قلناه قيام الدليل القاطع على انه فاعل ومن شرط الفاعل ان يكون موجودا
قلت هذا الثاني هو ما ذكره ابو المعالي فان إثبات الصانع إثبات لوجوده وإلا فصانع منتف كنفي الصانع و اما الاول فهو وان كان صحيحا لكن النتيجة ابين من المقدمات فإن العلم بان الصانع لا يكون إلا موجودا ابين من العلم بثبوت من صفاته وبأن الموصوف لا يكون إلا
(3/109)
موجودا ولهذا اقر بوجوده طوائف إنكروا قيام الصفات به و اذا قرروا قيام الصفات به فكون الفاعل لا يكون إلا موجودا ابين من كون ما تقوم به الصفة لا يكون إلا موجودا وكلاهما معلوم بالضرورة لكن الفاعل الذي يبدع غيره احق بالوجود وكما ان الوجود من محل الصفة فان محل الصفة قد يكون جمادا وقد يكون حيوانا وقد يكون قادرا وقد يكون عاجزا والصفة أيضا قد تقوم بها الصفة عند كثير من الناس بشرط قيامها جمعيها بمحل اخر فالصفة وان كانت مفتقرة إلى محل وجودي فهو من باب الافتقار إلى المحل القابل واما المفعول المفتقر إلى الفاعل فهو من باب الافتقار إلى الفاعل
ومعلوم ان الحاجة إلى الفاعل فيما له فاعل اقوى من الحاجة إلى القابل فيما له قابل وايضا فان القابل شرط في المقبول لا يجب تقدمه عليه بل يجوز اقترانهما بخلاف الفاعل فإنه لا يجوز ان يقارن المفعول بل لا بد من تقدمه عليه ولهذا اتفق العقلاء على انه لا يجوز ان يكون كل من الشيئين فاعلا للاخر لا بمعنى كونه علة فاعلة ولا بغير ذلك من المعاني واما كون كل من الشيئين فاعلا للاخر فانه يجوز وهذا هو الدور المعى وذاك هو الدور القبلى وقد بسط هذا في غير هذا
(3/110)
الموضع وبين ما دخل على الفلاسفة من الغلط في مسائل الصفات من هذا الوجه حيث لم يميزوا بين الشرط والعلة الفاعلة بل قد يجعلون ذلك كله علة إذ العلة عندهم يدخل فيها الفاعل والغاية وهما العلتان المفصلتان اللتان بهما يكون وجود المعلول والقابل الذي قد يسمى مادة وهيولى مع الصورة وهما علتا حقيقة الشيء في نفسه سواء قيل ان حقيقته غير العين الموجودة في الخارج كما يدعون ذلك او قيل هى هي كما هو المعروف عن متكلمي اهل السنة
والمقصود هنا ان الدليل لما دل على انه لا بد من موجود واجب بنفسه أي لا يكون له فاعل يوجده لا علة فاعلة ولا ما يسمي فاعلا غير ذلك صاروا يطلقون عليه الواجب بنفسه ثم اخذوا ما يحتمله هذا اللفظ من المعاني فأرادوا اثباتها كلها فصاروا ينفون الصفات وينفون ان يكون له حقيقة موصوفة بالوجود لئلا تكون الذات متعلقة بصفة فلا تكون واجبة بنفسها ومعلوم ان كون الذات مستلزمة لصفة كمال يمتنع
(3/111)
تحققها بدونها لا يوجب افتقارها إلى فاعل أو علة فاعلة ولكن غاية ما فيه أن تكون الذات مشروطة بالصفة والصفة مشروطة بالذات وأن تكون الصفة إذا قيل بأنها واجبة لا تقوم إلا بموصوف فإذا قيل هذا فيه افتقار الواجب إلى غيره لم يلزم أن يكون ذلك الغير فاعلا ولا علة فاعلة بل إذا قدر أنه يطلق عليه غير فإنما هو شرط من الشروط وكون الذات مشروطة بالصفة اللازمة لها والصفة مشروطة بالذات لا يمنع أن يكون الجميع واجبا بنفسه لا يفتقر إلى فاعل ولا إلى علة فاعلة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
والمقصود أنه إذا كان قد علم أن الصفة المشروطة بمحلها تقتضي أن يكون محلها موجودا فالمفعول المفتقر إلى فاعل موجب يقتضي أن يكون فاعله موجودا بطريق الأولى
وأيضا فيقال الحوادث المشهودة لا بد لها من محدث إذ المحدث من حيث هو محدث وكل ما يقدر محدثا سواء قدر متناهيا أو غير متناه لا يوجد بنفسه بل لا بد له من فاعل ليس بمحدث والعلم بذلك ضروري إذ طبيعة الحدوث تقتضي الافتقار إلى فاعل فلا بد لكل ما يقدر محدثا من فاعل فيمتنع أن يكون فاعل كل المحدثات محدثا فوجب أن يكون قديما
(3/112)
وأيضا فالمحدث مفتقر إلى محدث كامل مستقل بالفعل إذ ما ليس مستقلا بالفعل مفتقر إلى غيره فلا يكون هو وحده الفاعل بل الفاعل هو وذلك الغير فلا يكون وحده فاعلا للمحدث ثم ذلك الغير إن كان محدثا فلا بد له من فاعل أيضا فلا بد للمحدثات من فاعل مستقل بالفعل مستغن عن جميع محدثاته والعقل يعلم ضرورة افتقار المحدث إلى المحدث الفاعل ويقطع به ويعلمه ضرورة أبلغ من علمه بافتقار الممكن إلى الواجب الموجب له فلا يحتاج أن يقال في ذلك أن المحدث يتخصص بزمان دون زمان أو بقدر دون قدر ولا بد للتخصيص من مخصص فإن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين في العقل وأبده له
ولهذا قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } سورة الطور 35
قال جبير بن مطعم لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها أحسست بفؤادي قد انصدع
وقال { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } سورة الواقعة 59 58 إذ كان كل من القسمين وهو كونهم خلقوا من غير خالق وكونهم خلقوا أنفسهم معلوم الانتفاء بالضرورة فإن الإنسان يعلم بالضرورة أنه لم يحدث من غير محدث وأنه لم يحدث نفسه فلما كان العلم بأنه لا بد له من محدث وأن محدثه ليس هو إياه علما ضروريا ثبت بالضرورة أن له محدثا خالقا غيره وكل ما يقدر فيه أنه مخلوق فهو كذلك
(3/113)
والخلق يتضمن الحدوث والتقدير ففيه معنى الإبداع والتقدير وإذا علمت أن الممكن لا بد له من مرجح يجب به وإلا لم يكن موجودا بل يبقى معدوما على أصح القولين أو مترددا بين الوجود والعدم على الآخر فالمحدث لا بد له من فاعل يستغني به المفعول فيكون به وإلا بقي مفتقرا إلى غيره وإذا قدر محدثه أيضا فهو أيضا محدث لم يستغن به لأن ذلك المحدث مفتقر إلى غيره فالمفتقر إليه مفتقر إلى ذلك الغير الذي هو الأول مفتقر إليه بطريق الأولى فلا توجد الحوادث إلا بفاعل غني عن غيره وكل محدث مفتقر إلى غيره فلا توجد الحوادث إلا بفاعل قديم غير محدث فهذه طرق متعددة يثبت بها الموجود الواجب بنفسه القديم فصل
ويمكن تصوير هذه المادة في الغنى والفقر وفي الخلق وعدم الخلق والقدرة وعدم القدرة والكمال والنقصان والحياة والموت والعلم والجهل وغير ذلك بأن يقال كل موجود فإما أن يكون غنيا بنفسه عما سواه وإما ان يكون مفتقرا إلى ما سواه والمفتقر إلى ما سواه لا يوجد إلا بغنى عما سواه فيلزم وجود الغنى عما سواه على التقديرين
(3/114)
والحوادث مفتقرة إلى غيرها فثبت أن من الموجودات ما هو غني بنفسه ومنها ما هو مفتقر إلى ما سواه ومثل أن يقال كل موجود فإما أن يكون مخلوقا وإما ألا يكون مخلوقا والمخلوق لا يكون مخلوقا إلا بخالق ليس بمخلوق
وقد علم أن الحوادث لا تكون إلا مخلوقة فثبت أن في الموجودات ما هو حادث مخلوق ومنها ما هو خالق لتلك الحوادث ليس بمخلوق وهو المطلوب
ومثل أن يقال الموجود إما أن يكون قادرا بنفسه وإما ألا يكون قادرا بنفسه وما ليس بقادر بنفسه لا يكون قادرا إلا بإقدار القادر بنفسه والحوادث المشهودة كانت معدومة والمعدوم لا يكون موجودا بنفسه فضلا عن أن يكون قادرا بنفسه فثبت أن الموجودات ما هو محدث ومنها ما هو موجود قادر بنفسه والقادر بنفسه لا يكون إلا قديما أزليا واجبا بنفسه فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا وهو المطلوب
ومثل أن يقال الموجود إما أن يكون كاملا ليس فيه نقص يحتاج إلى غيره وإما أن يكون ناقصا يحتاج في كماله إلى غيره ومعلوم أن الحوادث المشهودة ليس لها من نفسها وجود فضلا عن أن تكون كاملة بنفسها وأنها بعد وجودها مفتقرة إلى من يكمل نقصها فثبت أن الموجودات فيها كامل ليس فيه نقص يحتاج فيه إلى غيره وما ليس فيه
(3/115)
نقص لا يكون إلا كاملا قديما أزليا واجبا بنفسه فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا وهو المطلوب
ومثل أن يقال الموجود إما عالم بنفسه وإما محتاج في العلم إلى من يعلمه وإما أن لا يقبل العلم ومعلوم أن الإنسان مفتقر في حصول علمه إلى من يعلمه ليس علمه من لوازم ذاته فإنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا ثم حدث له العلم بعد ذلك فثبت أن في الموجود ما ليس عالما بنفسه بل هو مفتقر في حصول العلم له إلى من يعلمه ومعلوم أن كل ما ليس بعالم بنفسه فلا بد له من عالم يعلمه وذاك العالم إن كان عالما بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه فلا بد أن ينتهي الأمر إلى عالم بنفسه قطعا للتسلسل الممتنع فثبت أن في الوجود ما هو عالم بنفسه وما ليس عالما بنفسه بل بمن يعلمه كما قال { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى قوله { اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } سورة العلق 1 5 وقال { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } سورة البقرة 255
وما كان عالما بنفسه فأن يكون موجودا بنفسه أولى وأحرى فإن العلم صفة له وإذا كانت تلك الصفة قديمة واجبة لا تفتقر إلى فاعل يفعلها في العالم بنفسه فلا يكون الموصوف بها قديما واجبا بطريق الأولى والأحرى
(3/116)
ومثل أن يقال الموجود إما حي بنفسه وإما حي بغيره وإما ليس بحي ومعلوم أن الحي بغيره موجود فإن الإنسان يكون في بطن أمه قبل نفخ الروح فيه ليس بحي ثم يصير حيا بعد ذلك فثبت وجود الحي بغيره الذي جعله حيا وذلك الذي جعله حيا إما أن يكون حيا بنفسه وإما بغيره والحي بغيره يحتاج إلى حي فلا بد أن ينتهي الأمر إلى حي بنفسه قطعا للتسلسل الممتنع فثبت أن في الوجود ما هو حي بنفسه والحي بنفسه لا يكون إلا واجبا قديما بنفسه فإن ذاته إذا كانت مستلزمة لحياته بحيث لا تكون حياته حاصلة له من غيره فأن تكون ذاته واجبة بنفسها لا تكون حاصلة بغيرها أولى وأحرى فإن الحياة قائمة في الموصوف الحي بها فإذا كانت الحياة قديمة أزلية واجبة بنفسها يمتنع عدمها فالحي الموصوف بها أن يكون حيا قديما أزليا واجبا بنفسه أولى وأحرى
والتسلسل الذي يسمى التسلسل في العلل والمعلولات والمؤثر والأثر والفاعل والمفعول والخالق والمخلوق هو ممتنع باتفاق العقلاء وبصريح المعقول بل هو ممتنع في بديهة العقل بعد التصور وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه في قوله صلى الله عليه وسلم يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا فيقول الله فيقول من خلق الله فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته فأمره بالاستعاذة منه ليقطع عنه الله الوساوس الفاسدة التي
(3/117)
يلقيها الشيطان بغير اختياره ويؤذيه بها حتى قد يتمنى الموت أو حتى يختار أن يحترق ولا يجدها وهي الوسوسة التي سأله عنها الصحابة فقالوا يا رسول الله ان أحدنا ليجد في نفسه ما لان يحترق حتى يصير حمة او يخر من السماء إلى الارض خيرا له من ان يتكلم به فقال ذلك صريح الإيمان وفي رواية ما يتعاظم أحدنا ان يتكلم به فقال الحمد الله الذي ردكيده إلى الوسوسة واراد بذلك ان كراهته هذه الوسوسة ونفيها هو محض الإيمان وصريحه فصل
واعلم ان علم الانسان بان كل محدث لا بد له من محدث او كل ممكن لا بد له من واجب او كل فقير فلا بد له من غني او كل مخلوق فلا بد له من خالق او كل معلوم فلا بد له من يعلم او كل اثر فلا بد له من مؤثر ونحو ذلك من القضايا الكلية والاخبار العامة هو علم كلى بقضية كلية وهو حق في نفسه لكن علمه بأن هذا المحدث المعين لا بد له من محدث وهذا الممكن المعين لا بد له من واجب هو ايضا معلوم له مع كون القضية معينة مخصوصة جزئية وليس علمه بهذه القضايا المعينة المخصوصة
(3/118)
موقوفا على العلم يتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة قد تسبق إلى فطرته قبل ان يستشعر تلك القضايا الكلية وهذا كعلمه بان الكتابة لا بد لها من كاتب والبناء لا بد له من بان فإنه اذا راى كتابه معينة علم انه لا بد لها من كاتب واذا راى بنيانا علم انه لا بد من بان وان لم يستشعر في ذلك الحال كل كتابة كانت او تكون او يمكن ان تكون ولهذا تجد الصبي ونحوه يعلم هذه القضايا المعنية الجزئية وان كان عقله لا يستحضر القضية الكلية العامة وهذا كما ان الإنسان يعلم أن هذا المعين لا يكون اسود ابيض ولا يكون في مكانين وان لم يستحضر ان كل اسود وكل بياض فإنهما لا يجتمعان وان كل جسمين فإنهما لا يكونان في مكان واحد وهكذا إذا رأى درهما ونصف درهم علم ان هذا الكل اعظم من هذا الجزء وان لم يستحضر أن كل كل فانه يجب أن يكون اعظم من جزئه
وكذلك إذا قيل هذا العدد الأول مساو لهذا العدد الثاني وهذا العدد الثاني مساو لهذا العدد الثالث فانه يعلم أن الأول مساو لمساوى الثاني وهو مساو والثالث وان لم يستحضر ان كل مساو لمساو فهو مساو
(3/119)
وكذلك إذا علم أن الشخص موجود علم أنه ليس بمعدوم وإذا علم أنه ليس بمعدوم علم أنه موجود ويعلم أنه لا يجتمع وجوده وعدمه بل يتناقضان وإن لم يستحضر قضية كلية عامة أنه لا يجتمع نفي كل شيء وإثباته ووجوده وعدمه وهكذا عامة القضايا الكلية
فإنه قد يكون علم الانسان بالحكم في أعيانها المشخصة الجزئية أبده للعقل من الحكم الكلي ولا تكون معرفته بحكم المعينات موقوفة على تلك القضايا الكليات ولهذا كان علم الإنسان أنه هو لم يحدث نفسه لا يتوقف على علمه بأن كل إنسان لم يحدث نفسه ولا على أن كل حادث لم يحدث نفسه بل هذه القضايا العامة الكلية صادقة وتلك القضية المعينة صادقة والعلم بها فطري ضروري لا يحتاج أن يستدل عليه وإن كان قد يمكن الاستدلال على بعض المعينات بالقضية الكلية ويستفاد العلم بالقضية الكلية بواسطة العلم بالمعينات لكن المقصود أن هذا الاستدلال ليس شرطا في العلم بل العلم بالمعينات قد يعلم كما تعلم الكليات وأعظم بل قد يجزم بالمعينات من لا يجزم بالكليات ولهذا لا تجد أحدا يشك في أن هذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا البناء لا بد له من بان بل يعلم هذا ضرورة
وإن كان العلم بأن كل حادث لا بد له من محدث فاعل
(3/120)
قد اعتقده طوائف من النظار نظريا حتى أقاموا عليه دليلا إما بقياس الشمول وإما بقياس التمثيل فالأول قول من يقول كل محدث لا بد له من محدث والثاني قول من يقول هذا محدث فيفتقر إلى محدث قياسا على البناء والكتابة
ثم القائلون بأن كل محدث لا بد له من محدث منهم من يثبت هذا بالاستدلال على ان الحادث مختص والتخصص لا بد له من مخصص ثم من الناس من يثبت هذا بأن المخصوص ممكن والممكن لا بد له من مرجح لوجوده ثم من الناس من يثبت هذا بأن نسبة الممكن إلى الوجود والعدم سواء فلا بد من ترجيح أحد الجانبين
وكثير من الناس يجعل المقدمة الأولى في هذه القضايا ضرورية بل يجعلها أبين من الثانية التي استدل بها عليها وهذا الاضطراب إنما يقع في القضايا الكلية العامة
وأما كون هذا البناء لا بد له من بان وهذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا الثوب المخيط لا بد له من خياط وهذه الآثار التي في الأرض من آثار الأقدام لا بد لها من مؤثر وهذه الضربة لا بد لها من ضارب وهذه الصياغة لا بد لها من صائغ وهذا
(3/121)
الكلام المنظوم المسموع لا بد له من متكلم وهذا الضرب والرمي والطعن لا بد له من ضارب ورام وطاعن
فهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء ولا يفتقر في العالم بها إلى دليل وإن كان ذكر نظائرها حجة لها وذكر القضية التي تتناولها وغيرها حجة ثانية فيستدل عليها بقياس التمثيل وبقياس الشمول لكن هي في نفسها معلومة للعقلاء بالضرورة مع قطع نظرهم عن قضية كلية كما يعلم الإنسان أحوال نفسه المعينة فإنه يعلم انه لم يحدث نفسه وان لم يستحضر ان كل حادث لا يحدث بنفسه
ولهذا كانت فطرة الخلق مجبولة على انهم متى شاهدوا شيئا من الحوادث المتجددة كالرعد والبرق والزلازل ذكروا الله وسبحوه لأنهم يعلمون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه بل له محدث أحدثه وأن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفا لهم بخلاف المتجدد الغريب وألا فعامة ما يذكرون الله ويسبحونه عنده من الغرائب المتجددة قد شهدوا من آيات الله المعتادة ما هو اعظم منه ولو لم يكن ألا خلق الإنسان فانه من اعظم الآيات فكل أحد يعلم انه هو لم
(3/122)
يحدث نفسه ولا أبواه أحدثاه ولا أحد من البشر أحدثه ويعلم انه لا بد له من محدث فكل أحد يعلم أن له خالقا خلقه ويعلم انه موجود حي عليم قدير سميع بصير ومن جعل غيره حيا كان أولى ان يكون حيا ومن جعل غيره عليما كان أولى أن يكون عليما ومن جعل غيره قادرا كان أولى ان يكون قادرا ويعلم أيضا أن فيه من الأحكام ما دل على علم الفاعل ومن الاختصاص ما دل على إرادة الفاعل وأن نفس الأحداث لا يكون إلا بقدرة المحدث فعلمه بنفسه المعينة المشخصة الجزئية يفيده العلم بهذه المطالب الالهية وغيرها كما قال تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } سورة الذاريات 21 فصل
اذا تبين ذلك فالآية والعلامة والدلالة على الشيء يجب ان يكون ثبوتها مستلزما لثبوت المدلول الذي هي آية له وعلامة عليه ولا تفتقر في كونها آية وعلامة ودلالة إلى ان تندرج تحت قضية كلية سواء كان المدلول عليه قد عرفت عينه او لم تعرف عينه بل عرف على وجه مطلق مجمل
(3/123)
فالأول مثل أن يقال علامة دار فلان أن على بابها كذا أو على عتبها كذا او علامة فلان أنه كذا وكذا فإذا رؤيت تلك العلامة عرف ذلك المعين
والثاني ان يقال علامة من يكون أميرا او قاضيا ان تكون هيئته كذا وكذا فإذا رؤيت تلك الهيئة علم ان هناك اميرا او قاضيا وان لم تعلم عينه
واذا كان كذلك فجميع المخلوقات مستلزمة للخالق سبحانه وتعالى بعينه وكل منها يدل بنفسه على أن له محدثا بنفسه ولا يحتاج ان يقرن بذلك ان كل محدث فله محدث كما قدمناه ان العلم بأفراد هذه القضية لا يجب ان يتوقف على كلياتها بل قد تكون دلالته على المحدث المعين أظهر وأسبق
ولهذا كان ما يشهده الناس من الحوادث آيات دالة على الفاعل المحدث بنفسها من غير ان يجب ان يقترن بها قضية كلية ان كل محدث فله محدث وهي أيضا دالة على الخالق سبحانه من حيث يعلم انه لا يحدثها إلا هو فإنه كما يستدل على ان المحدثات لا بد لها من محدث قادر عليم مريد حكيم فالفعل يستلزم القدرة و الاحكام
(3/124)
يستلزم العلم والتخصيص يستلزم الارادة وحسن العاقبة يستلزم الحكمة
وكل حادث يدل على ذلك كما يدل عليه الآخر وكل حادث كما دل على عين الخالق فكذلك الآخر يدل عليه فلهذا كانت المخلوقات آيات عليه و سماها الله آيات و الايات لا تفتقر في كونها آيات إلى قياس كلي لا قياس تمثيلي ولا قياس شمولي وان كان القياس شاهدا لها ومؤيدا لمقتضاها لكن علم القلوب بمقتضى الآيات والعلامات لا يجب ان يقف على هذا القياس بل يعلم موجبها ومقتضاها وان لم يخطر لها ان كل ممكن فإنه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح او لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
ومن هنا يتبين لك ان ما تنازع فيه طائفة من النظار وهو ان علة الافتقار إلى الصانع هل هو الحدوث او الامكان او مجموعيهما لا يحتاج اليه وذلك ان كل مخلوق فنفسه وذاته مفتقرة إلى الخالق وهذا الافتقار وصف له لازم ومعنى هذا ان حقيقته لا تكون موجودة إلا بخالق يخلقه فإنه شهدت حقيقته موجودة في الخارج علم انه لا بد لها من فاعل وان تصورت في العقل علم انها لا توجد في الخارج إلا بفاعل ولو قدر انها تتصور تصورا مطلقا علم انها لا توجد إلا بفاعل فهي في نفسها لا توجد إلا بفاعل وهذا يعلم بنفس تصورها وان لم يشعر القلب
(3/125)
بكونها حادثة او ممكنة وان كان كل من الامكان والحدوث دليلا ايضا على هذا الافتقار لكن الحدوث يستلزم وجودها بعد العدم وقد علم انها لا توجد إلا بفاعل و الامكان يستلزم انها لا تكون إلا بموجد وذلك يستلزم اذا وجت ان تكون بموجد وهي من حيث هي هي وان لم تدرج تحت وصف كلي يستلزم الافتقار إلى الفاعل أي لا تكون موجودة إلا بالفاعل ولا تدوم وتبقى إلا بالفاعل المبقى المديم لها فهي مفتقرة اليه في حدوثها وبقائها سواء قيل ان بقاءها وصف زائد عليها او لم يقل
ولهذا يعلم العقل بالضرورة ان هذا الحادث لا يبقى إلا بسبب يبقيه كما يعلم انه لم يحدث إلا بسبب يحدثه ولو بنى الانسان سقفا ولم يدع شيئا يمسكه لقال له الناس هذا لا يدوم ولا يبقى وكذلك اذا خاط الثوب بخيوط ضعيفة وخاطه خياطة فاسدة قالوا له هذا لا يبقى البقاء الطلوب فهم يعلمون بفطرتهم افتقار الامور المفتقرة إلى ما يبقيها كما يعلمون افتقارها إلى ما يحدثها وينشئها
وما يذكر من الامثال المضروبة والشواهد المبينة لكون الصنعة تفتقر إلى الصانع في حدوثها وبقائها انما هو للتنبيه على ما في الفطرة كما يمثل بالسفينة في الحكاية المشهورة عن بعض أهل العم انه قال له طائفة
(3/126)
من الملاحدة ما الدلالة على وجود الصانع فقال لهم دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب قالوا ما هو قال بلغني ان في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها فقالوا له امجنون أنت قال و ما ذاك قالوا اهذا يصدقه عاقل فقال فكيف صدقت عقولكم ان هذا العالم بما فيه من الانواع و الاصناف والحوادث العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجرى وتحدث هذه الحوادث بغير محدث وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك فرجعوا على أنفسهم بالملام وهكذا اذا قيل فهذه السفينة اثبتت نفسها في الساحل بغير موثق أوثقها ولا رابط ربطها كذبت العقول بذلك
فهكذا اذا قيل ان الحوادث تبقى وتدوم بغير مبق يبقيها ولا ممسك يمسكها ولهذا نبه سبحانه على هذا وهذا فالأول كثير وأما الثاني ففي مثل قوله { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } سورة فاطر 41 وقوله { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } سورة الروم 25 وقوله { رفع السماوات بغير عمد ترونها } سورة الرعد 2
و هذا الابقاء يكون بالرزق الذي يمد الله به المخلوقات كما قال الله
(3/127)
تعالى { الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } سورة الروم 40 وهذا الذي ذكرناه من أن نفس الاعيان المحدثة كالانسان تستلزم وجود الصانع الخالق وأن علم الانسان بأنه مصنوع يستلزم العلم بصانعه بذاته من غير احتياج إلى قضية كلية تقترن بهذا وهو معنى ما يذكره كثير من الناس مثل قول الشهرستاني أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فلست أرها مقالة ولا عرفت عليها صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية انهم قالوا كان العالم في الأزل اجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقا فحصل العالم بشكله الذي تراه عليه
(3/128)
قال ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع بل هو يعترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم علة البخت والاتفاق احترازا عن التعليل فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها بصانع عليم قادر حكيم { أفي الله شك } سورة إبراهيم 10 { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } سورة الزخرف 87 { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } سورة الزخرف 9 وإن غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء { دعوا الله مخلصين له الدين } سورة يونس 22 { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } سورة الإسراء 67
قال ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشرك أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله
(3/129)
إلا الله فاعلم أنه لا إله إلا الله ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا } سورة غافر 12 { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } سورة الزمر 45 { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } سورة الإسراء 46
قال وقد سلك المتكلمون طريقا في إثبات الصانع وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع وسلك الأوائل طريقا آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان
قلت وهذا الطريق الثاني لم يسلكه الأوائل وإنما سلكه ابن سينا ومن وافقه ولكن الشهرستاني وأمثاله لا يعرفون مذهب أرسطو والأوائل إذ كان عمدتهم فيما ينقلونه من الفلسفة على كتب ابن سينا
(3/130)
قال ويدعي كل واحد في جهة الاستدلال ضرورة وبديهة
قال وأنا أقول ما شهد به الحدوث أو دل عليه الإمكان بعد تقديم المقدمات دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياجه في ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات يرغب إليه ولا يرغب عنه ويستغنى به ولا يستغنى عنه ويتوجه إليه ولا يعرض عنه ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب والحادث إلى المحدث
وعن هذا المعنى كانت تعريفات الحق سبحانه في التنزيل على هذا المنهاج { أم من يجيب المضطر إذا دعاه } سورة النمل 62 { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } سورة الأنعام 63 { قل من يرزقكم من السماء والأرض }
(3/131)
سورة يونس 31 { أم من يبدأ الخلق ثم يعيده } سورة النمل 64
وعن هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله العباد على معرفته فاجتالتهم الشياطين عنها
قلت لفظ الحديث في الصحيح يقول الله خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
قال فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويله الاستغناء ونفي الحاجة والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها عن تسويلات الشياطين فإنهم الباقون على أصل الفطرة وما كان له عليهم من سلطان { فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى } سورة الأعلى 10 11
(3/132)
{ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } سورة طه 44
قلت الذي في الحديث إن الشياطين أمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وهذا المرض العام في أكثر بني آدم وهو الشرك كما قال تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } سورة يوسف 106 وأما التعطيل فهو مرض خاص لا يكاد يقع إلا عن عناد كما وقع لفرعون
وليس في الحديث أن الشياطين سولت لهم الاستغناء عن الصانع فإن هذا لا يقع إلا خاصا لبعض الناس أو لكثير منهم في بعض الأحوال وهو جنس السفسطة بل هو شر السفسطة والسفسطة لا تكون عامة لعدد كثير دائما بل تعرض لبعض الناس أو لكثير منهم في بعض الأشياء
قال ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث رجع إلى نفسه أدنى رجوع فعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه الخ
(3/133)
قلت هو وطائفة معه يظنون أن الضمير في قوله { حتى يتبين لهم أنه الحق } سورة فصلت 53 عائد إلى الله تعالى ويقولون هذه جمعت طريق من استدل بالخلق على الخالق ومن استدل بالخالق على المخلوق
والصواب الذي عليه المفسرون وعليه تدل الآية أن الضمير عائد إلى القرآن وأن الله يري عباده من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن القرآن حق وذلك يتضمن ثبوت الرسالة وأن يسلم ما أخبر به الرسول كما قال تعالى { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } سورة فصلت 52 53
والمقصود هنا التنبيه على أن حاجة المعين إلى العلم لا تتوقف على العلم بحاجة كل من هو مثله والاستدلال على ذلك بالقياس الشمولي والتمثيلي
وأيضا فالحاجة التي يقترن مع العلم بها ذوق الحاجة هي أعظم وقعا في النفس من العلم الذي لا يقترن به ذوق ولهذا كانت معرفة النفوس بما تحبه وتكرهه وينفعها ويضرها هو أرسخ فيها من معرفتها بما لا تحتاج إليه ولا تكرهه ولا تحبه ولهذا كان ما يعرف من أحوال الرسل مع أممهم
(3/134)
بالأخبار المتواترة ورؤية الآثار من حسن عاقبة اتباع الرسل وسوء عاقبة المكذبين أنفع من معرفة صدق الرسول واتباعه مما يفيد العلم فقط فإن هذا يفيد العلم مع الترغيب والترهيب فيفيد كمال القوتين العلمية والعملية بنفسه بخلاف ما يفيد العلم ثم العلم يفيد العمل
ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى ما لا تتعلق به حاجتها
ألا ترى أن الناس يعرفون من أحوال من تتعلق به منافعهم و مضارهم كولاة أمورهم و ممالكيهم وأصدقائهم وأعدائهم ما لا يعلمونه من أحوال من لا يرجونه ولا يخافونه ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته إذ كان هو الذي خلقهم وهو الذي يأتيهم بالمنافع ويدفع عنهم المضار { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } سورة النحل 53
وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره و تسبيبه و تيسيره وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه حال اضطرارهم كما يخاطبهم بذلك
(3/135)
في كتابه وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه ولا يجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله بل يكون ما يحبونه سواه كأنبيائه وصالحي عباده إنما يحبونهم لأجله كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار
ومعلوم أن السؤال والحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والاعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك مشروط بالشعور بالمسئول المحبوب المرجو المخوف المعبود المعظم الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والافتقار الذي تواضع كل شيء لعظمته واستسلم كل شيء لقدرته وذل كل شيء لعزته
فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها وهو الاعتراف بالصانع والإقرار به أولى أن يكون ضروريا في النفوس
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كل مولود يولد على الفطرة وقوله فيما يروي عن ربه خلقت عبادي حنفاء
(3/136)
ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط بل إقرارا يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له وهذا هو الحنيفية
وأصل الإيمان قول القلب وعمله بالخالق وعبوديته للخالق والقلب مفطور على هذا وهذا وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة بما عرض له من المرض إما بجهله وإما بظلمه فجحد بآيات الله و استيقنتها نفسه ظلما وعلوا لم يمتنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع طائفة من قول من ذكر أن المعرفة ضرورية والعلم الذي يقترن به حب المعلوم قد يسمى معرفة كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمعروف ما تحبه القلوب مع العلم والمنكر ما تكرهه وتنفر عنه عند العلم به فلهذا قد يسمى من كان فيه مع علمه بالله حب لله وإنابة إليه عارفا بخلاف العالم الخالي عن حب القلب وتألهه فإنهم لا يسمونه عارفا
ومن المعلوم أن وجود حب الله وخشيته والرغبة إليه وتألهه في القلب فرع وجود الإقرار به وهذا الثاني مستلزم للأول فإذا كان هذا يكون ضروريا في القلب فوجود الإقرار السابق عليه اللازم له أولى أن يكون ضروريا فإن ثبوت الملزوم لا يكون إلا مع ثبوت اللازم
(3/137)
وقد يراد بلفظه المعرفة العلم الذي يكون معلومه معينا خاصا وبالعلم الذي هو قسيم المعرفة ما يكون المعلوم به كليا عاما وقد يراد بلفظ المعرفة ما يكون معلومه الشيء بعينه وإن كان لفظ العلم يتناول النوعين في الأصل كما بسط في موضع آخر وسيأتي كلام الناس في الإقرار بالصانع هل يحصل بالضرورة أو بالنظر أو يحصل بهذا وبهذا
وقد بينا في غير هذا الموضع الكلام على قولهم علة الحاجة إلى المؤثر هل هي الحدوث أو الامكان أو مجموعهما وبينا أنه إن أريد بذلك أن الحدوث مثلا دليل على أن المحدث يحتاج إلى محدث أو أن الحدوث شرط في افتقار المفعول إلى فاعل فهذا صحيح وإن أريد بذلك أن الحدوث هو الذي جعل المحدث مفتقرا إلى الفاعل فهذا باطل وكذلك الإمكان إذا أريد به أنه دليل على الافتقار إلى المؤثر أو أنه شرط في الافتقار إلى المؤثر فهذا صحيح وإن أريد به أنه جعل نفس الممكن مفتقرا فهذا باطل
وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون كل من الإمكان والحدوث دليلا على الافتقار إلى المؤثر وشرطا في الافتقار إلى المؤثر وإنما النزاع في مسألتين
إحداهما أن الواجب بغيره أزلا وأبدا هل يصح أن يكون مفعولا
(3/138)
لغيره كما يقوله من يقول من المتفلسفة إن الفلك قديم معلول ممكن لواجب الوجود أزلا وأبدا فهذا هو القول الذي ينكره جماهير العقلاء من بني آدم ويقولون إن كون الشيء مفعولا مصنوعا مع كونه مقارنا لفاعله أزلا وأبدا ممتنع ويقولون أيضا إن المكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا موجودا تارة ومعدوما أخرى فأما ما كان دائم الوجود فهذا عند عامة العقلاء ضروري الوجود وليس من الممكن الذي يقبل الوجود والعدم وهذا مما وافق عليه الفلاسفة قاطبة حتى ابن سينا وأتباعه
ولكن ابن سينا تناقض فادعى في باب إثبات واجب الوجود أن الممكن قد يكون قديما أزليا مع كونه ممكنا ووافقه على ذلك طائفة من المتأخرين كالرازي وغيره ولزمهم على ذلك من الاشكالات ما لم يقدروا على جوابه كما قد بسط في موضعه وعلى هذا فالإمكان والحدوث متلازمان فكل ممكن محدث وكل محدث ممكن
وأما تقدير ممكن مفعول واجب لغيره مع أنه غير
(3/139)
محدث فهذا ممتنع عند جماهير العقلاء وأكثر الفلاسفة من أتباع أرسطو وغيره مع الجمهور يقولون إن الإمكان لا يعقل إلا في المحدثات وأما الذي ادعى ثبوت ممكن قديم فهو ابن سينا ومن وافقه ولهذا ورد عليهم في إثبات هذا الإمكان سؤالات لا جواب لهم عنها
والرازي لما كان مثبتا لهذا الإمكان موافقة لابن سينا كان في كلامه من الاضطراب ما هو معروف في كتبه الكبار والصغار مع ان هؤلاء كلهم يثبتون في كتبهم المنطقية ما يوافقون فيه سلفهم أرسطو وغيره أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا كائنا بعد أن لم يكن وقد ذكر أبو الوليد بن رشد الحفيد هذا وقال ما ذكره ابن سينا ونحوه من أن الشيء يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم مع كونه قديما أزليا قول لم يقله أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا
قلت وابن سينا قد ذكر أيضا في غير موضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم كما قاله سلفه وسائر العقلاء وقد ذكرت ألفاظه من كتاب الشفاء وغيره في غير هذا
(3/140)
الموضع وهو مما يتبين به اتفاق العقلاء على أن كل ممكن يقبل الوجود والعدم فلا يكون إلا حادثا كائنا بعد أن لم يكن وهذا مما يبين أن كل ما سوى الواجب بنفسه فهو محدث كائن بعد أن لم يكن وهذا لا يناقض دوام فاعليته
والمقصود هنا أن نفس الحدوث والإمكان دليل على الافتقار إلى المؤثر وأما كون أحدهما جعل نفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق فهذا خطأ بل نفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق بذاتها واحتياجها إلى المؤثر أمر ذاتي لها لا يحتاج إلى علة فإنه ليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل وهو باطل باتفاق العلماء بل من الأحكام ما هو لازم للذوات لا يمكن أن يكون مفارقا للذوات ولا يفتقر إلى علة وكون كل ما سوى الله فقيرا إليه محتاجا إليه دائما هو من هذا الباب
فالفقر والاحتياج أمر لازم ذاتي لكل ما سوى الله كما أن الغنى والصمدية أمر لازم لذات الله فيمتنع ان يكون سبحانه فقيرا ويمتنع أن يكون إلا غنيا عن كل ما سواه ويمتنع فيما سواه أن يكون غنيا عنه
(3/141)
بوجه من الوجوه ويجب في كل ما سواه أن يكون فقيرا محتاجا إليه دائما في كل وقت
وهنا ينشأ النزاع في المسألة الثانية وهو أن المحدث المخلوق هل افتقاره إلى الخالق المحدث وقت الإحداث فقط أو هو دائما مفتقر إليه على قولين للنظار وكثير من أهل الكلام المحدث المتلقي عن جهم وأبي الهذيل ومن أتبعهما من المعتزلة وغيرهم يقولون إنه لا يفتقر إليه إلا في حال الإحداث لا في حال البقاء وهذا القول في مقابلة قول الفلاسفة الدهرية الذين يقولون افتقار الممكن إلى الواجب لا يستلزم حدوثه بل افتقاره إليه في حال بقائه دائما أزلا أبدا
فهؤلاء زعموا وجود الفعل بلا حدوث شيء وألئك زعموا أن المخلوق لا يفتقر إلى الخالق دائما وكلا القولين باطل كما قد بسط في موضعه
والمقصود هنا أن كثيرا مما يجعلونه مقدمات في أدلة إثبات الصانع وإن كان حقا فإنه لا يحتاج إليه عامة الفطر السليمة وإن كان من عرضت له شبهة قد ينتفع به
(3/142)
والكلام على إبطال الدور والتسلسل هو من هذا الباب وما سلكوه من الطرق بقطع التسلسل والدور فهو طريق صحيح أيضا
وجماع ذلك أن الدور نوعان والتسلسل نوعان
أما الدور فقد يراد به أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا ولا هذا إلا مع هذا ويسمى هذا الدور المعي الاقتراني ويراد به أنه لا يوجد هذا إلا بعد هذا ولا هذا إلا بعد هذا ونحو ذلك وهو الدور البعدي فالأول ممكن كالأمور المتضايقة مثل البنوة والأبوة وكالمعلولين لعلة واحدة وسائر الأمور المتلازمة التي لا يوجد الواحد منها إلا مع الآخر كصفات الخالق سبحانه المتلازمة وكصفاته مع ذاته وكسائر الشروط وكغير ذلك مما هو من باب الشرط والمشروط
وأما الثاني فممتنع فإنه إذا كان هذا لا يوجد إلا بعد ذاك وذاك لا يوجد إلا بعد هذا لزم أن يكون ذاك موجودا قبل هذا وهذا قبل ذاك فيكون كل من هذا وذاك موجودا قبل أن يكون موجودا فيلزم
(3/143)
اجتماع الوجود والعدم غير مرة وذلك كله ممتنع
ومن هذا الباب أن يكون هذا فاعلا لهذا أو علة فاعلة أو علة غائية ونحو ذلك لأن الفاعل والعلة ونحو ذلك يمتنع أن يكون فاعلا لنفسه فكيف يكون فاعلا لفاعل نفسه وكذلك العلة الفاعلة لا تكون علة فاعلة لنفسها فكيف لعلة نفسها وكذلك العلة الغائية التي يوجدها الفاعل هي مفعولة للفاعل ومعلولة في وجودها له لا لنفسها فإذا لم تكن معلولة لنفسها فكيف تكون معلولة لمعلول نفسها
فهذا ونحوه من الدور المستلزم تقدم الشيء على نفسه أو على المتقدم على نفسه وكونه فاعلا لنفسه المفعولة أو لمفعول مفعول نفسه أو علة لنفسه المعلولة أو لمعلول معلول نفسه أو معلولا مفعولا لنفسه أو لمعلول نفسه ومفعول نفسه كل ذلك ممتنع ظاهر الامتناع ولهذا اتفق العقلاء على امتناع ذلك
وأما التسلسل في الآثار والشروط ونحو ذلك ففيه قولان معروفان لأصناف الناس وأما التسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة ونحو ذلك فهذا ممتنع بلا ريب
(3/144)
فإذا تبين هذا فنقول لو كان جميع الموجودات ممكنا مفتقرا إلى فاعل غيره فذلك الغير إن كان هو الغير الفاعل له لزم كون كل منها فاعلا للآخر وهذا من الدور القبلي الممتنع باتفاق العقلاء وإن كان ذلك الغير غيرا آخر لزم وجود فاعلين ومفعولين إلى غير غاية وإن شئت قلت لزم مؤثرون كل منهم مؤثر في الآخر إلى غير غاية وإن شئت قلت لزم علل كل منها معلول للآخر إلى غير غاية وكل من هؤلاء ممكن الوجود مفتقر إلى غيره لا يوجد بنفسه
فهنا سؤالان
أحدهما قول القائل لم لا يجوز أن يكون المجموع واجبا بنفسه وإن كان كل فرد من أفراده ممكنا بنفسه وقد أجيب عن هذا بأنه يستلزم ثبوت واجب الوجود بنفسه مع أنه باطل أيضا لأن المجموع هو الأجزاء المجتمعة مع الهيئة الاجتماعية وكل من الأجزاء ممكن بنفسه والهيئة الاجتماعية عرض من الأعراض الذي لا يقوم بنفسه فهو
(3/145)
أيضا ممكن لنفسه بطريق الأولى فكل من الأجزاء ومن الهيئة الاجتماعية ممكن لنفسه فامتنع أن يكون هناك ما يقدر واجبا بنفسه
وأيضا فإن ما توصف به الأفراد قد يوصف به المجموع وقد لا يوصف فإن كان اتصاف الأفراد به لطبيعة مشتركة بينها وبين المجموع وجب اتصاف المجموع به بخلاف ما إذا حدث للمجموع بالتركيب وصف منتف في الأفراد
ومعلوم أن كل واحد واحد إذا لم يكن موجودا إلا بغيره وهو فقير محتاج فكثرة المفتقرات المحتاجات واجتماعها لا يوجب استغناءها إلا أن يكون في بعضها معاونة للآخر كالضعيفين إذا اجتمعا حصل باجتماعهما قوة لأن كلا منهما مستغن عن غيره من وجه محتاج إليه من وجه وأما إذا قدر أن كلا منهما مفتقر إلى غيره من كل وجه امتنع أن يحصل لهما بالاجتماع قوة أو معونة من أحدهما للآخر إذ التقدير أن كل منهما ليس له شيء إلا من الآخر وهذا هو الدور القبلي دور الفاعلين والعلل الفاعلية والغائية فلا يحصل لأحدهما من الآخر شيء
(3/146)
والتقدير أنه ليس له من نفسه شيء فلا يحصل بالاجتماع وجود أصلا
يبين هذا أن كل جزء فهو مفتقر من كل وجه إلى غيره والمجموع أيضا مفتقر من كل وجه إلى الأفراد فإنه أي فرد من الأفراد قدر عدمه لزم عدم المجموع فليس في المجموع وجود يعطيه للأفراد ولا لشيء من الأفراد وجود يعطيه للمجموع أو لغيره من الأفراد وهذا بخلاف ما إذا اجتمعت آحاد العشرة فإن كونها عشرة لا يحصل لأفرادها كما أن كل فرد ليس وجوده مستفادا من اجتماع العشرة فلما لم يكن كل من الافراد وجوده من العشرة ولا من غيره من الأفراد امكن وجوده بنفسه وامكن ان يكون شرطا في وجود الفرد الاخر وان يكون الحكم الحاصل باجتماع العشرة لا يحصل لفرد فرد فتبين ان مجموع الممكنات لا يكون إلا ممكنا وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
والسؤال الثاني سؤال الامدى وهو قوله ما المانع من كون الجملة ممكنة ال 4 وجود ويكن بترجح آحادها وترجح كل واحد بالآخر إلى غير نهاية
(3/147)
فيقال عن هذا اجوبة
الاول انه اذا كان كل من الجملة ممكنا بنفسه لا يوجد إلا بغيره فكل من الآحاد ليس وجوده بنفسه والجملة ليس وجودها بنفسها فليس هناك شيء وجوده بنفسه وكل ما ليس وجوده بنفسه فلا يكون وجوده إلا بغيره فتعين ان يكون هناك غير ليس هو جملة مجموع الممكنات ولا شيئا من الممكنات وما ليس كذلك فهو موجود بنفسه وهو الواجب بنفسه ضرورة
واما قوله يكون ترجح كل واحد بالآخر أي يكون كل من الممكنات موجودا بممكن آخر على سبيل التسلسل
فيقال له نفس طبيعة الامكان شاملة لجميع الآحاد وهي مشتركة فيها فلا يتصور ان يكون شيء من أفراد الممكنات خارجا عن هذه الطبيعة العامة الشاملة ونفس طبيعة الامكان توجب الافتقار إلى الغير فلو قدر وجود ممكنات بدون واجب بنفسه للزم استغناء طبيعة الامكان عن الغير فيكون ما هو ممكن مفتقرا إلى غيره ليس ممكنا مفتقرا إلى غيره وذلك جمع بين النقيضين
بين ذلك انه مهما قدر من الممكنات التي ليست متناهية فإنه
(3/148)
ليس واحد منها موجودا بنفسه بل هو مفتقر إلى ما يبدعه ويفعله
فالثاني منها مشارك للأول في هذه الصفة من كل وجه فليس لشيء منها وجود من نفسه ولا للجملة فلا يكون هناك موجود أصلا
بل إذا قال القائل هذا موجود بآخر والآخر بآخر إلى غير نهاية او هذا أبدعه آخر والآخر أبدعه اخر إلى غير نهاية كان حقيقة الكلام انه يقدر معدومات لا نهاية لها فإن قدر فاعلا إذا لم يكن موجودا بنفسه لم يكن له من نفسه إلا العدم وقد قدر فاعله ليس له من نفسه إلا العدم
فكل من هذه الامور المتسلسلة ليس لشيء منها من نفسه إلا العدم ولا للمجموع من نفسه إلا العدم وليس هناك إلا الأفراد والمجموع وكل من ذلك ليس منه إلا العدم فيكون قد قدر مجموع ليس منه إلا العدم وافراد متسلسلة ليس لشيء منها إلا العدم وما كان كذلك امتنع ان يكون منه وجود فان مالا يكون منه إلا العدم ولا من مجموعه ولا من أفراده يمتنع ان يكون منه وجود
فإذا قدر ممكنات متسلسلة منها لا وجود له من نفسه لم يكن هناك إلا العدم والوجود من غيره وهو المطلوب
(3/149)
الجواب الثاني ان يقال الموجود الذي ليس وجوده من نفسه يمتنع ان يكون وجود غيره منه فان وجود نفسه بنفسه واستغناء نفسه بنفسه وقيام نفسه بنفسه اولى من وجود غيره بوجوده واستغناء غيره به وقيام غيره به فإذا قدر ممكنات ليس فيها ما وجوده بنفسه امتنع ان يكون فيها ما وجود غيره به بطريقة الاولى فلا يجوز ان يكون كل ممكن لا يوجد بنفسه وهو مع هذا فاعل لغيره إلى غير نهاية
وهذا مما لا يقبل النزاع بين العقلاء الذين يفهمونه وسواء قيل ان المؤثر في مجموع الممكنات هو قدرة الله تعالى بدون اسباب او قيل انها مؤثرة فيها بالأسباب التي خلقها او قيل ان بعضها مؤثر في بعض بالإيجاب او الابداع او التوليد او الفعل او غير ذلك مما قيل فان كل من قال قولا من هذه الأقوال لا بد ان يجعل للمؤثر وجودا من موجود بنفسه لا يمكن أحد ان يقول كل منها مؤثر وليس له من نفسه إلا العدم وليس هناك مؤثر له من نفسه وجود فانه يعلم بصريح العقل انه إذا قدر ان كل تلك الامور ليس لشيء منها وجود من نفسه ولا بنفسه لم يكن له تأثير من نفسه ولا بنفسه فإن ما لا يكون موجودا بنفسه ومن نفسه فأولى به إن لا يكون مؤثرا في وجود غيره بنفسه ومن نفسه فإذا لم يكن هناك ما هو موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه بل كل
(3/150)
منها غير موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه كان كل منها معدوما بنفسه معدوم التأثير بنفسه فنكون قد قدرنا أمورا متسلسلة كل منها لا وجود له بنفسه ولا تأثير له بنفسه وليس هناك مغاير لها يكون موجودا مؤثرا فيها فليس هناك لا وجود ولا تأثير قطعا
وإذا قال القائل كل من هذه الأمور التي لا توجد بنفسها يبدع الآخر الذي لا يوجد بنفسه كان صريح العقل يقول له فما لا يكون موجودا بنفسه لا يكون مؤثرا بنفسه فكيف تجعله مؤثرا في غيره ولا حقيقة له
فإن قال بل حقيقته توجد بذلك الغير
قيل له ليس هناك غير يتحقق به فإن الغير الذي قدرته هو أيضا لا وجود له ولا تأثير أصلا إلا بما تقدره من غير آخر ليس له وجود ولا تأثير
ونكتة هذا الجواب أن تقدير العقل لما لا يوجد بنفسه بعد ولا يحقق له وجود بغيره كونه مؤثرا مبدعا لغيره من أعظم الأمور بطلانا وفسادا فإن إبداعه للغير لا يكون إلا بعد وجوده وهو مع
(3/151)
كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم ليس موجودا فكل ما قدر إنما هي معدومات
يوضح هذا الجواب الثالث وهو أن نقول قول القائل الممكن الذي لم يوجد هو معدوم ليس بموجود أصلا والمعدوم الذي لم يحصل له ما يقتضي وجوده هو باق مستمر على العدم وإذا قال القائل الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فهذا بين ظاهر في جانب الإثبات فإنه لا يكون موجودا إلا بمقتضى لوجوده إذا كان ليس له من نفسه وجود
وأما في النفي فمن الناس من يقول علة عدمه عدم علة وجوده ويجعل لعدمه علة كما لوجوده علة وهذا قول ابن سينا وأتباعه والتحقيق الذي عليه جمهور النظار من المتكلمين والمتفلسفين
(3/152)
وهو الآخر من قولي الرازي أن عدمه لا يفتقر إلى علة تجعله معدوما فالعدم المحض لا يعلل ولا يعلل به إذ العدم المحض المستمر لا يفتقر إلى فاعل ولا علة ولكن عدم علته مستلزم لعدمه ودليل على عدمه فإذا أريد بعلة عدمه ما يستلزم عدمه ويدل على عدمه فهو صحيح وإن أريد بعلة عدمه تحقق العدم الذي يفتقر في تحقق إلى علة موجبة له فليس كذلك فإن العدم المستمر لا يفتقر إلى علة موجبة
فقول القائل الممكن لا يوجد إلا بمرجح بمنزلة قوله لا يوجد بنفسه لا يوجد إلا بغيره ولا يحتاج أن يقول ما لا يوجد بنفسه لا يعدم إلا بغيره فإن ما لا يوجد بنفسه فليس له من نفسه وجود
وإذا قلت له من نفسه فهذا له معنيان إن أردت أن حقيقة مستلزمة للعدم لا تقبل الوجود فليس كذلك بل هي قابلة للوجود والعدم وإن أردت أن حقيقته لا تقتضي الوجود بل ليس لها من نفسها غير العدم وأن وجودها لا يكون إلا من غيرها لا من نفسها فهذا صحيح فالفرق بين كونه ليس له من نفسه إلا العدم وبين كون نفسه مستلزمة للعدم فرق بين مع أن قولنا له
(3/153)
من نفسه وليس له من نفسه لا نريد به أنه في الخارج نفس ثابتة ليس لها إلا العدم أو هي مستلزمة للعدم فإن هذا يتخيله من يقول المعدوم شيء ثابت في الخارج أو يقول الماهيات في الخارج أمور مغايرة للوجود المحقق في الخارج وهذا كله خيال باطل كما قد بسط في موضعه
ولكن الماهية والشيء قد يقدر في الذهن قبل وجوده في الخارج وبعد ذلك فما في الأذهان مغاير لما في الأعيان
وإذا قلنا هذا الممكن يقبل الوجود والعدم أو نفسه أو حقيقته لا تقتضي الوجود ولا تستلزم العدم فنعني به أن ما تصوره العقل من هذه الحقائق لا يكون موجودا في الخارج بنفسه وليس له في الخارج وجود من نفسه ولا يجب عدمه في الخارج بل يقبل أن تتحقق حقيقته في الخارج فيصير موجودا ويمكن أن لا تتحقق حقيقته في الخارج فلا يكون موجودا وليس في الخارج حقيقة ثابتة أو موجودة تقبل الإثبات والنفي بل المراد أن ما تصورناه في الأذهان هل يتحقق في الأعيان أو لا يتحقق وما تحقق في الأعيان هل تحققه بنفسه أو بغيره فإذا قدر أن المتصورات في الأذهان ليس فيها ما يتحقق بنفسه في الخارج فليس فيها ما هو مبدع بنفسه لغيره في الخارج بطريق الأولى
(3/154)
وليس فيها ما هو معدوم في الخارج بل ليس فيها إلا ما هو ممتنع في الخارج فإن الممكن إذا قدر عدم موجود بنفسه يبدعه كان ممتنعا لغيره فإذا قدر أنه ليس في الخارج إلا ما ليس له وجود بنفسه لم يكن في الخارج إلا ما هو ممتنع الوجود إما لنفسه وإما لغيره ولا يكون عدم شيء من ذلك مفتقرا إلى علة توجب عدمه بل هو معدوم بنفسه سواء أمكن وجوده أو امتنع وحينئذ فلا يكون في الخارج إلا العدم المستمر
وإذا قيل بعد هذا هذا الذي لا وجود له من نفسه موجود بهذا الذي لا وجود له من نفسه وهلم جرا كان بمنزلة أن يقال هذا المعدوم موجود بهذا المعدوم وهلم جرا بل بمنزلة أن يقال هذا الممتنع موجود بهذا الممتنع فيكون هذا تناقضا حيث جعلت المعدوم موجودا بمعدوم وسلسلت ذلك فجمعت بين تسلسل المعدومات وبين جعل كل واحد منها هو الذي أوجد المعدوم الآخر
الوجه الرابع أن يقال الممكن لا يتحقق وجوده بمجرد ممكن آخر فإن ذلك الممكن الآخر لا يترجح وجوده على عدمه إلا بغيره وإذا كان الممكن الذي قدر أنه الفاعل المؤثر المرجح لم يترجح وجوده على عدمه بل يقبل الوجود والعدم فالممكن الذي قدر أنه الأثر المفعول المصنوع المرجح أولى أن لا يترجح وجوده على عدمه بل هو قابل للوجود
(3/155)
والعدم بل الممكن لا يكون موجودا إلا عند ما يجب به وجوده فإنه ما دام مترددا بين إمكان الوجود والعدم لا يوجد فإذا حصل ما به يجب وجوده وجد وإذا كان كذلك فنفس الممكن لا يجب به ممكن بل لا يجب الممكن إلا بواجب والواجب إما بنفسه وإما بغيره والواجب بغيره هو الممكن من نفسه الذي لا يوجد إلا بما يجب وجوده وحينئذ فيمتنع تسلسل الممكنات بحيث يكون هذا الممكن هو الذي وجب به الآخر بل إنما يجب الآخر بما هو واجب وما كان ممكنا باقيا على الإمكان لم يكن واجبا لا بنفسه ولا بغيره فإذا قدر تسلسل الممكنات القابلة للوجود و العدم من غير ان يكون فيها موجود بنفسه كانت باقية على طبيعة الإمكان ليس فيها واجب فلا يكون فيها ما يجب به شيء من الممكنات بطريق الأولى فلا يوجد شيء من الممكنات وقد وجدت الممكنات هذا خلف و إنما لزم هذا لما قدرنا ممكنات توجد بممكنات ليس لها من نفسها وجود من غير ان يكون هناك واجب بنفسه
واعلم ان الناس قد تنازعوا في الممكنات هل يفتقر وجودها إلى ما به يجب وجودها بحيث تكون إما واجبة الوجود معه و إما ممتنعة العدم او قد يحصل ما تكون معه بالوجود اولى مع امكان العدم وتكون موجودة لمرجح الوجود مع إمكان العدم فالأول قول الجمهور والثاني قول من يقول ذلك من المعتزلة ونحوهم
(3/156)
وكثير من الناس يتناقض في هذا الأصل فإذا بنينا على القول الصحيح فلا كلام وان أردنا ان نذكر ما يعم القولين قلنا
الوجه الخامس أن الممكن لا يتحقق وجوده بمجرد ممكن آخر لم يتحقق وجوده بل لا يتحقق وجوده إلا بما يحقق وجوده وحينئذ فإذا قدرنا الجميع ممكنات ليس فيها ما تحقق وجوده لم يحصل شرط وجود شيء من الممكنات فلا يوجد شيء منها لأن كل ممكن إذا أخذته مفتقرا إلى فاعل يوجده فهو في هذه الحال لم يتحقق وجوده بعده فإنه ما دام مفتقرا إلى أن يصير موجودا فليس بموجود فإن كونه موجودا ينافي كونه مفتقرا إلى أن يصير موجودا فلا يكون فيها موجود فلا يكون فيها ما يحصل به شرط وجود الممكن فضلا عن أن يكون فيها ما يكون مبدعا لممكن أو فاعلا له فلا يوجد ممكن وقد وجدت الممكنات فتسلسل الممكنات بكون كل منها مؤثرا في الآخر ممتنع وهو المطلوب
واعلم أن تسلسل المؤثرات لما كان ممتنعا ظاهر الامتناع في فطر جميع العقلاء لم يكن متقدمو النظار يطيلون في تقريره لكن المتأخرون أخذوا يقررونه وكان من أسباب ذلك اشتباه التسلسل في الآثار التي هي الأفعال بالتسلسل في المؤثرين الذين هم الفاعلون فإن جهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف ومن اتبعهما من اهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والائمة وسلكه من سلكه من المعتزلة والكلابية والكرامية وغيرهم اعتقدوا بطلان هذا كله وعن هذا امتنعوا ان يقولوا ان الرب لم يزل متكلما إذا شاء ثم اختلفوا هل كلامه مخلوق او حادث النوع
(3/157)
او قديم العين وهو معنى او قديم العين وهو حروف او حروف و اصوات مقترن بعضها ببعض ازلا و ابدا على الأقوال المعروفة في هذا الموضوع
ثم ان جهما وأبا الهذيل العلاف منعا ذلك في الماضي والمستقبل ثم ان جهما كان اشد تعطيلا فقال بفناء الجنة والنار و اما ابو الهذيل فقال بفناء حركات الجنة وجعلوا الرب تعالى فيما لا يزال لا يمكن ان يتكلم ولا يفعل كما قالوا لم يزل وهو لا يمكن ان يتكلم وان يفعل ثم صار الكلام والفعل ممكنا بغير حدوث شيء يقتضي امكانه و اما اكثر اتباعهما ففرقوا بين الماضي والمستقبل كما ذكر في غير هذا الموضع
والمقصود هنا انه لما جعل من جعل التسلسل نوعا واحدا كما جعل من جعل الدور نوعا واحدا حصلت شبهة فصار بعض المتأخرين كالآمدى والابهري يوردون اسولة على تسلسل المؤثرات ويقولون انه لا جواب عنها فلذلك احتيج إلى بسط الكلام في ذلك فصل
وما سلكه هؤلاء المتأخرون في ابطال الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الاثار فهو طريق صحيح أيضا وان كان منهم من
(3/158)
يورد على ذلك شكوكا يعجز بعضهم عن حلها كما قد بسط في غير هذا الموضع
لكنه طريق مشق لا حاجة اليه ولهذا لم يسلكه أحد من النظار المتقدمين من اهل الكلام المحدث فضلا عن السلف والائمة فشيوخ المعتزلة والاشعرية والكرامية وغيرهم من اصناف اهل الكلام اثبتوا الصانع بطريق الحدوث والامكان وما يتعلق بذلك من غير احتياج إلى بناء ذلك على ابطال الدور والتسلسل كما هو الموجود في كتبهم فلا يوجد بناء إثبات الصانع على قطع الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الاثار في كلام مثل ابي على الجباني وابي هاشم وعبد الجبار بن احمد و ابي الحسين البصري وغيرهم ولا في كلام مثل أبي الحسن الاشعري والقاضي أبي بكر و ابي بكر بن فورك و ابي اسحق الاسفرايينى وأبي المعالي الجويني و امثالهم ولا في كلام محمد بن كرام ومحمد بن الهيصم وامثالهما ولا في كتب من يوافق المتكلمين في كثير من طرقهم مثل كلام ابي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلي وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وامثالهم وكذلك غير هؤلاء من أصحاب مالك والشافعي واحمد
(3/159)
ولا في كلام متكلمي الشيعة كالموسوي والطوسى وامثالهما لا اعلم أحدا من متكلمي طوائف المسلمين جعل إثبات الصانع موقوفا على ابطال الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار وان كان هؤلاء يبطلون ما يبطلونه من الدور والتسلسل
فالمقصود انهم لم يجعلوا إثبات الصانع متوقفا عليه بل من يذكر منهم ابطال التسلسل يذكره في مسائل الصفات و الافعال فإن هذا فيه نزاع مشهور فيذكرون ابطال التسلسل مطلقا في العلل و الاثار لابطال حوادث لا أول لها بدليل التطبيق ونحوه و اما التسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة والعلل الغائية دون الاثار فإنهم مع اتفاقهم على بطلانه لا يحتاجون اليه في إثبات الصانع و اما التسلسل في الاثار والشروط فهذا احتاج اليه من احتاج من نفاة ما يقوم به من المقدورات و المرادات كالكلابية واكثر المعتزلة والكرامية ومن وافق هؤلاء
(3/160)
ومن اقدم من رايته ذكر نفي التسلسل في إثبات واجب الوجود في المؤثرات خاصة دون الاثار ابن سينا وهو بناه على نفي التسلسل في العلل فقط ثم اتبعه من سلك طريقه كالسهر وردى المقتول وامثاله وكذلك الرازي و الامدى و الطوسى وغيرهم
لكن هؤلاء زادوا عليه احتياج الطريقة إلى نفي الدور أيضا والدور القبلى مما اتفق العقلاء على نفيه ولوضوح انتفائه لم يحتج المتقدمون والجمهور إلى ذكر ذلك لان المستدل بدليل ليس عليه ان يذكر كل ما قد يخطر بقلوب الجهال من الاحتمالات ما ينقدح ولا ريب ان انقداح الاحتمالات يختلف باختلاف الاحوال
ولعل هذا هو السبب في ان بعض الناس يذكر في الادلة من
(3/161)
الاحتمالات التي ينفيها مالا يحتاج غيره إلى ذلك ولكن هذا لا ضابط له كما ان الاسولة والمعارضات الفاسدة التي يمكن ان يوردها بعض الناس على الادلة لا نهاية لها فان من باب الخواطر الفاسدة وهذا لا يحصيه أحد إلا الله تعالى لكن إذا وقع مثل ذلك لناظر او مناظر فإن الله ييسر من الهدى ما يبين له فساد ذلك فإن هدايته لخلقه و ارشاده لهم هو بحسب حاجتهم إلى ذلك ويحسب قبولهم الهدى وطلبهم له قصدا وعملا
ولهذا لما شرح الرازي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وقال انه لم يذكر فيها ابطال الدور وذكر ما ذكره في ابطال الدور ثم قال و الانصاف ان الدور معلوم البطلان بالضرورة ولعل ابن سينا إنما تركه لذلك والطريقة التي سلكها ابن سينا في إثبات واجب الوجود ليس هي طريقة ائمة الفلاسفة القدماء كأرسطو وامثاله وهي عند التحقيق لا تفيد إلا إثبات مجرد وجود واجب و اما كونه مغايرا للأفلاك فهو مبنى على نفي الصفات وهو توحيدهم الفاسد الذي
(3/162)
قد بينا فساده في غير هذا الموضع ولهذا كان من سلك هذه الطريقة قد يفضي به الأمر إلى انكار وجود واجب مغاير لوجود الممكنات كما يقوله اهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود من متأخري متصوفة هؤلاء الفلاسفة كابن عربي وابن سبعين و امثالهما والقول بوحدة الوجود قول حكاة أرسطوا واتباعه عن طائفة من الفلاسفة و ابطلوه
والقائلون بوحدة الوجود حقيقة قولهم هو قول ملاحدة الدهرية الطبيعية الذين يقولون ما ثم موجود إلا هذا العالم المشهود وهو واجب بنفسه وهو القول الذي اظهره فرعون لكن هؤلاء ينازعون اولئك في الاسم فأولئك يسمون هذا الموجود بأسماء الله وهؤلاء لا يسمونه بأسماء الله وأولئك يحسبون ان الإله الذي اخبرت عنه الرسل هو هذا الموجود وأولئك لا يقولون هذا وأولئك لهم توجه إلى الوجود المطلق وأولئك ليس لهم توجه اليه
وفساد قول هؤلاء يعرف بوجوه منها العلم بما يشاهد حدوثه كالمطر
(3/163)
والسحاب والحيوان والنبات والمعدن وغير ذلك من الصور والأعراض فإن هذه يمتنع أن يكون وجودها واجبا لكونها كانت معدومة ويمتنع ان تكون ممتنعة لكونها وجدت فهذه مما يعلم بالضرورة أنها ممكنة ليست واجبة ولا ممتنعة
ثم ان الرازي جعل هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا هي العمدة الكبرى في إثبات الصانع كما ذكر ذلك في رسالة إثبات واجب الوجود ونهاية العقول والمطالب العالية وغير ذلك من كتبه
وهذا مما لم يسلكه أحد من ائمة النظار المعروفين من اهل الإسلام بل لم يكن في هؤلاء من سلك هذه الطريقة في إثبات الصانع فضلا عن ان يجعلها هي العمدة ويجعل مبناها على ما سنذكره من المقدمات
وقد رأيت من اهل عصرنا من يصنف في اصول الدين ويجعلون عمدة جميع الدين على هذا الأصل تبعا لهؤلاء لكن منهم من لا يذكر دليلا أصلا بل يجعل عمدته في نفي النهاية امتناع وجود مالا
(3/164)
يتناهى من غير حجة أصلا ولا يفرق بين النوعين ويرتب على ذلك جميع اصول الدين ثم من هؤلاء المصنفين من يدخل مع اهل وحدة الوجود المدعين للتحقيق والعرفان ويعتقد صحة قصيدة ابن الفارض لكونه قرأها على القونوى واعان على شرحها لمن شرحها من اخوانه وهم مع هذا يدعون انهم اعظم العالم توحيدا وتحقيقا ومعرفة
فلينتظر العاقل ما هو الرب الذي اثبته هؤلاء وما هو الطريق لهم إلى اثباته وتناقصهم فيه فان القائلين بوحدة الوجود يقولون بقدم العالم تصريحا او لزوما وذلك مستلزم للتسلسل ودليله الذي اثبت به واجب الوجود وعمدته فيه نفي كل ما يسمى تسلسلا
وايضا ففيما صنفه من اصول الدين يذكر حدوث العالم موافقة للمتكلمين المبطلين للتسلسل مطلقا في المؤثرات والاثار ومع هؤلاء يقول بوحدة الوجود المستلزمة لقدمه وللتسلسل موافقة لمتصوفة الفلاسفة الملاحدة كابن العربي وابن سبعين وابن الفارض وامثالهم
(3/165)
واذا كان ما ذكره ابن سينا واتباعه في إثبات واجب الوجود صحيحا في نفسه وان كان لا حاجة اليه ولا يحصل المقصود من إثبات الصانع به وكان الرازي ونحوه يزعمون ان هذه الطريقة التي سلكها الامدى مع انه اعترض عليها باعتراض ذكر انه لا جواب له عنه فنحن نذكرها على وجهها
قال ابن سينا إشارة كل موجود إذا التفت اليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما ان يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه اولا يكون فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب وجوده من ذاته وهو القيوم وان لم يجب لم يجز ان يقال هو ممتنع بذاته بعدما فرض موجودا بل ان قرن باعتبار ذاته شرط مثل شرط عدم علته صار ممتنعا او مثل شرط وجود
(3/166)
علته صار واجبا وان لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع فكل موجود إما واجب بذاته واما ممكن الوجود بحسب ذاته
إشارة ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجودا من ذاته فإنه ليس وجوده من ذاته اولى من عدمه ومن حيث هو ممكن فان صار أحدهما اولى فلحضور شيء او غيبته فوجود كل ممكن الوجود هو من غيره
ثم قال تنبيه إما ان يتسلسل ذلك إلى غير النهاية فيكون كل واحد من آحاد السلسلة ممكنا في ذاته والجملة معلقة بها فتكون غير واجبة ايضا وتجب بغيرها ولنزد هذا بيانا
(3/167)
شرح كل جملة كل واحد منها معلول فإنها تقتضي علة خارجة عن آحادها وذلك لأنها إما أن تقتضي علة أصلا فتكون واجبة غير معلولة وكيف يتأتى هذا وإنما تجب بآحادها و إما أن تقتضي علة هي الآحاد بأسرها فتكون معلولة لذاتها فإن تلك الجملة والكل شيء واحد وأما الكل بمعنى كل واحد فليس تجب به الجملة وإما أن تقتضي علة هي بعض الآحاد وليس بعض الآحاد أولى بذلك من بعض إن كان كل واحد منها معلولا ولأن علته أولى بذلك وإما أن تقتضي علة خارجة عن الآحاد كلها وهو الثاني
إشارة كل علة جملة هي غير شيء من آحادها فهي علة أولا للآحاد ثم للجملة وإلا فلتكن الآحاد غير محتاجة إليها فالجملة إذا تمت بآحادها لم تحتج إليها بل ربما كان شيء علة لبعض
(3/168)
الآحاد دون بعض ولم يكن علة للجملة على الإطلاق
إشارة كل جملة مترتبة من علل ومعلولات على الولاء وفيها علة غير معلولة فهي طرف لأنها إن كانت وسطا فهي معلولة
إشارة كل سلسلة مترتبة من علل ومعلولات كانت متناهية أو غير متناهية فقد ظهر أنها إذا لم يكن فيها إلا معلول احتاجت إلى علة خارجة عنها لكنها يتصل بها لا محالة طرف فظهر أنه إن كان فيها ما ليس بمعلول فهو طرف ونهاية فكل سلسلة تنتهي إلى واجب الوجود بذاته
قلت مضمون هذا الكلام أن الموجود إما واجب بنفسه وإما ممكن لا يوجد إلا بغيره كما قرر ذلك في الإشارتين لكن قد قيل إن في الكلام تكريرا لا يحتاج إليه و إذا كان الممكن لا يوجد إلا بغيره فهو مفعول معلول ويمتنع تسلسل المعلولات لأن كل واحد من تلك الآحاد ممكن والجملة متعلقة بتلك الممكنات فتكون ممكنة غير
(3/169)
واجبة أيضا فتجب بغيرها وما كان غير جملة الممكنات و آحادها فهو واجب فهذا معنى قوله إما أن يتسلسل ذلك إلى غير النهاية فيكون كل واحد من آحاد السلسلة ممكنا في ذاته والجملة معلقة بها فتكون غير واجبة أيضا وتجب بغيرها لكن قوله إما ان يتسلسل يحتاج ان يقال و إما أن لا يتسلسل فقيل إنه حذف ذلك اختصارا إذ كان هو مقصوده والمعنى وإن لم تتسلسل الممكنات انتهت إلى واجب الوجود وهو المطلوب
ولو قيل بدل هذا اللفظ ان تسلسل ذلك كان هو العبارة المناسبة لمطلوبه
ثم ذكر شرح هذا الدليل على وجه تفصيلي بعد ان ذكره محملا فقال إذا تسلسلت الممكنات وكل منها معلول فإنها تقتضي علة خارجة عن آحادها لأنه إما يكون لها علة و إما أن لا
(3/170)
يكون و اذا كان لها علة فالعلة إما المجموع و إما بعضه و إما خارج عنه و الأقسام ممتنعة إلا الأخير
أما الأول وهو ان لا تقتضي علة اصلا فتكون الجملة واجبة غير معلولة فهذا لا يتأتى لأنها إنما تجب باحادها و ما وجب باحاده كان معلولا واجبا بغيره
وهذا يقرره بعضهم كالرازي بوجهين
أحدهما ان الجملة مركبة من الآحاد و احادها غيرها وما افتقر إلى غيره لم يكن واجبا بنفسه وهو تقرير ضعيف لانه لو قدر ان كل واحد من الاجزاء واجب بنفسه لم يمتنع ان تكون الجملة واجبة بنفسها فإن مجموع الامور الواجبة بنفسها لا يمتنع ان تكون غير محتاجه إلى امور خارجة عنها وهذا هو المرد بكونه واجبا بنفسه ولكن هذا من جنس حجتهم على نفي الصفات بنفي التركيب وهي حجة داحضة
الوجه الثاني ان كل واحد من الآحاد ممكن غير واجب والجملة لا تحصل إلا بها فما لا يحصل إلا بالممكن اولى ان يكون ممكنا وهذا
(3/171)
التقرير خير من ذاك وهذا التقرير الثاني هو الذي ذكره السهر وردى في تلويحاته وهو أحد الوجهين اللذين ذكرهما الرازي وهو أحد وجهي الآمدى أيضا
قال السهروردى لما كان واحد من الممكنات يحتاج إلى العلة فجميعها محتاج لأنه معلول الآحاد الممكنة فيفتقر إلى علة خارجة عنه وهي ممكنة لأنها لو كانت ممكنة لكانت من الجملة فتكون اذا واجبة الوجود
وقد قررها الآمدى بوجه ثالث وهو انها ان كانت الجملة واجبة بذاتها فهو عين المطلوب فقال الجملة إما ان تكون واجبه لذاتها واما ان تكون ممكنة لا جائز ان تكون واجبة وألا لما تكون واجبة وألا لما
(3/172)
كانت آحادها ممكنة وقد قيل انها ممكنة قال ثم وان كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب
وهذا الوجه الثاني الذي ذكره هو وجه ثالث وليس هذا بمحصل للمقصود لانه حينئذ لا يلزم ثبوت واجب بنفسه خارج عن جملة الممكنات
وقد أورد بعضهم على هذا سؤالا فقال إذا كانت الآحاد ممكنة ومعناه افتقار كل واحد إلى علته وكانت الجملة هي مجموع الآحاد فلا مانع من اطلاق الوجوب وعدم الإمكان عليها بمعنى انها غير مفتقرة إلى امر خارج عنها وان كانت ابعاضها مما يفتقر بعضها إلى بعض
قال الامدى وهذا ساقط إذا كانت الجملة غير
(3/173)
ممكنة كانت واجبة بذاتها وهي مجموع الآحاد وكل واحد من الآحاد ممكن فالجملة أيضا ممكنة بذاتها لا يكون ممكنا بذاته
قلت وهذا السؤال يحتمل ثلاثة اوجه
أحدها ان يقال انها واجبة بالآحاد والاجتماع جميعا ومعلوم ان الجملة هي الآحاد واجتماعها فإذا كان ذلك ممكنا كانت الذات ممكنة فيكون السؤال ساقطا كما قال الامدى
الثاني ان يقال المجموع واجب بآحاده الممكنة ولا يجعل المجموع نفسه ممكنا بل يقال المجموع واجب بالآحاد الممكنة وهذا هو السؤال الذي يقصده من يفهم ما يقول وحينئذ فسيأتي جوابه بان الاجتماع الذي للمكنات اولى ان يكون ممكنا لكونه عرضا لها والعرض محتاج إلى موارده فإذا كانت ممكنة كان هو اولى بالإمكان وغير ذلك
الاحتمال الثالث ان يقال كل واحد من الآحاد يترجح بالاخر والمجموع ممكن أيضا لكنه يترجح الآحاد المتعاقبة
وهذا السؤال ذكره الامدى موردا له على هذه الحجة في كتابه المسمى بدقائق الحقائق
(3/174)
قال ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود وبكون ترجحها بترجيح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالاخر إلى غير النهاية
قال وهذا شكال مشكل وربما يكون عنده غيري حله
ولقائل ان يقول ان اريد بكون الجملة ممكنة انها ممكنة غير واجبة بل مفتقرة إلى امر خارج عنها فلذلك يوجب افتقارها إلى غيرها وهو المطلوب وإن أريد أنها ممكنة بنفسها واجبة بالآحاد المتسلسلة فهذا السؤال هو في معنى السؤال الذي قبله وإنما الاختلاف بينهما في أن الأول قال لم لا تكون واجبة بنفسها بمعنى أنها غير مفتقرة إلى أمر خارج عن آحادها بل المجموع واجب بآحاده الممكنة
والثاني قال لم لا تكون ممكنة بنفسها واجبة بآحادها على وجه التسلسل
لكن قد يقال انه في أحد التقديرين ادعى وجوب الهيئة الاجتماعية بنفسها مع إمكان الآحاد وفي الثاني ادعى ان الهيئة الاجتماعية ممكنة
(3/175)
بنفسها لكنها واجبة بالآحاد المتسلسلة ومعلوم ان كليهما باطل والاول أظهر بطلانا من الثاني فانه إذا كانت الآحاد كلها ممكنة والاجتماع نسبة واضافة بينها غايته ان يكون عرضا قائما بها امتنع ان يكون واجبا بنفسه فإن الموصوف الممكن يمتنع ان تكون صفته واجبة الوجود بنفسها
واما الثاني فلأن الهيئة الاجتماعية إذا كانت معلول الآحاد الممكنة كانت اولى بالإمكان فان معلول الممكن أولى أن يكون ممكنا وان شئت قلت المفتقر إلى الممكن اولى أن يكون ممكنا و الاحاد ليس فيها إلا ما هو ممكن فلا يكون في الاجتماع و احاده إلا ما هو ممكن لا يوجد بنفسه ومالا يوجد بنفسه يمتنع ان يوجد به غيره إذا لم يحصل له ما يوجد به فإن وجوده في نفسه قبل وجود غيره به فإذا لم يكن وجوده إلا بموجد يوجده فلأن لا يكون وجود غيره به بدون الموجد الذي يوجده اولى واحرى وكل من الممكنات واجتماعها ليس موجودا بنفسه فيمتنع ان يكون شيء منها موجدا لغيره فامتنع ترجح بعضها ببعض وترجح المجموع بالآحاد
وفي الجملة فكلا السؤالين يتضمن افتقار الاجتماع إلى
(3/176)
الآحاد فكلاهما لم يدع فيه إلا وجوبها بالآحاد لم يدع وجوبا بالذات غير الوجوب بالآحاد لكن الامدى وهي هذا السؤال لما اضافه إلى غيره بعبارة اخرى واعتبار ثم انه اعترف بعدم قدرته على حله لما اورده من جهة نفسه بعبارة اخرى واعتبار اخر
ومن اجاب عن الامدى في الفرق بينهما يقول السؤال الاول قيل فيه ان المجموع واجب بنفسه وذلك ممتنع وهذا قيل فيه إنه ممكن وجب بالآحاد
وهذا الجواب بالفرق ضعيف وذلك لأنه إذا قيل هو ممكن واجب بالآحاد فقد قيل انه واجب بتلك الآحاد وتلك الآحاد كلها ممكنة ومعلول الممكن اولى ان يكون ممكنا فيمتنع ان يكون معلول الممكن واجبا بالممكن قبل وجوب الممكن والممكن لا يجب إلا بالواجب بنفسه بل ما كان واحد من الممكنات جزء علة لوجوده فهو ممكن فكيف إذا كان كل من الممكنات التي لا نهاية لها جزء علة
(3/177)
وجوده فان الاجتماع الذي يحصل للممكنات المتسلسلة التي هي علل ومعلولات يتوقف على كل واحد من تلك الامور التي كل منها علة معلول فالاجتماع اولى بالإمكان وابعد عن الوجوب ان قدر ان له حقيقة غير الآحاد
فثبت انه إذا قدر سلسلة العلل والمعلولات كل منها ممكن فلا بد لها من أمر خارج عنها وهذا امر متفق عليه بين العقلاء وهو من اقوى العلوم اليقينة والمعارف القطيعة
ولولا ان طوائف من متأخري النظار طولوا في ذلك وشكك فيه بعضهم كالامدى والابهري لما بسطنا فيه الكلام
واصل هذا السؤال مبناه على ان المجموع ليس هو كل واحد واحد من الآحاد إذا المجموع مغاير لكل واحد من الآحاد فقد يقال هو واجب بكل واحد واحد من الآحاد وحينئذ فالمجموع ممكن من جهة كونه مجموعا واجبا بالآحاد الممكنة لا سيما وهؤلاء الفلاسفة الذين احتجوا بهذا هم واكثر الناس يقولون لا يجب في كل جملة ان توصف بما يوصف به آحادها
قال ابن سينا ليس إذا صح على كل واحد حكمه صح
(3/178)
على كل محصل وإلا لكان يصح ان يقال الكل من غير المتناهي يمكن ان يدخل في الوجود لان كل واحد يمكن ان يدخل في الوجود فيحمل الإمكان على الكل كما حمل على كل واحد
وكذلك قال السهروردي الحكم على الكل بما على كل واحد لا يجوز فإن كل ممكن غير الحركة جائز وقوعه دفعة واحدة وليس كذلك الجميع وكل واحد من الضدين ممكن في محل والكل معا غير ممكن
وهذا السؤال يجاب عنه بأوجه
أحدهما ان يقال نفس الاجتماع يمتنع ان يكون واجبا بنفسه بدون الاجزاء فإن فساد هذا معلوم بالضرورة ولم يقله أحد كيف والاجتماع عرض يفتقر إلى محله فإذا كان محل العرض غير واجب بنفسه كان العرض المفتقر إلى الممكن بنفسه اولى ان يكون ممكنا غير واجب بنفسه وانما يتوهم وجوبه بالأجزاء الممكنة وحينئذ فيكون ذلك الإجتماع ممكنا بنفسه واجبا بالأجزاء واذا كان ممكنا بنفسه فنفس
(3/179)
اجتماع الآحاد من جملة اجزاء المجموع فيقال المجموع هو الآحاد مع الهيئة الاجتماعية وكل واحد من ذلك ممكن ليس واجبا بنفسه وحينئذ فلا يكون هنا مجموع منفصل عن جميع الاجزاء فلو قيل وجب المجموع بالآحاد لكان قولا بوجوب أحد الجزأين الممكنين بالاخر وهو وجوب الجزء الممكن بنفسه الذي هو الصورة الاجتماعية بسائر الاجزاء التي كل منها ممكن بنفسه
و اذا كان كذلك كان هذا مضمونه حصول أحد الممكنين بالاخر من غير شيء واجب بنفسه
ومن المعلوم ان المعلق بالممكن بنفسه اولى ان يكون ممكنا بنفسه والممكن بنفسه لا يوجد إلا بغيره فيلزم ان لا يوجد واحد منهما على هذا التقدير والتقدير ان الممكنات قد وجدت فهمناك شيء خارج عن الممكنات وجدت به
الوجه الثاني بان يقال المجموع الذي هو هيئة اجتماعية نسبه و اضافة بين احاد الممكنات ليس هو جوهرا قائما بنفسه فيمتنع ان تكون واجبة بنفسها فإن العرض مفتقر إلى غيره والنسبة من اضعف
(3/180)
الأعراض وما كان مفتقرا إلى ممكن من الممكنات امتنع وجوبه بنفسه فالمفتقر إلى كل واحد واحد من الممكنات أولى أن لا يكون واجبا بنفسه فإذا كان الاجتماع ممكنا بنفسه وكل واحد من الممكنات ممكن بنفسه ولا يوجد شيء مما هو ممكن بنفسه إلا بغيره لم يوجد شيء من ذلك إلا بغيره ويمتنع وجود الممكن بمجرد ممكن فإن الممكن لا يوجد بنفسه فلا يوجد به غيره بطريق الأولى وهو معنى قولهم المعلق بالممكن أولى أن يكون ممكنا
الوجه الثالث أن يقال المجموع إما أن يكون مغايرا لكل واحد واحد وإما أن لا يكون فإن لم يكن مغايرا بطل هذا السؤال ولم يكن هناك مجموع غير الآحاد الممكنة وإن كان مغايرا لها فهو معلول لها ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكنا
وهذا معنى قول ابن سينا إن الجملة إذا لم تقتض علة أصلا أي لم تستلزم علة تكون موجبة للجملة كانت واجبة غير معلولة وكيف يتأتى هذا وإنما تجب بآحادها يقول هي لم تجب بنفسها وإنما وجبت بآحادها وما وجب بغيره لم يكن واجبا بنفسه
وإيضاح هذا بالكلام على عبارة الآمدي حيث قال هذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله مع أنه يعظم ما يتكلم فيه
(3/181)
من الكلام والفلسفة ويقول في خطبة كتابه أبكار الأفكار ما تقوله الفلاسفة من أنه لما كان كمال كل شيء وتمامه بحصول كمالاته له كان كمال النفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات وهي الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات ولما كانت العلوم متكثرة والمعارف متعددة وكان الزمان لا يتسع لتحصيل جملتها مع تقاصر الهمم وكثرة القواطع كان الواجب السعي في تحصيل أكملها والإحاطة بأفضلها تقديما لما هو الأهم فالأهم وما الفائدة في معرفته أتم ولا يخفى أن أولى ما تترامى إليه بالبصر أبصار البصائر
(3/182)
وتمتد نحوه اعناق الهمم والخواطر ما كان موضوعه احل الموضوعات وغايته اشرف الغايات واليه مرجع العلوم الدينية ومستند النواميس الشرعية وبه صلاح العالم ونظامه وحله وابرامه والطرق الموصلة اليه يقينيات والمسالك المرشدة نحوه قطعيات
وذلك هو العلم الملقب بعلم الكلام الباحث في ذات واجب الوجود وصفاته و افعاله و متعلقاته ولما كنا مع ذلك قد حققنا اصوله ونقحنا فصوله و احطنا بمعانيه و اوضحنا مبانيه و اظهرنا اغواره وكشفنا اسراره وفزنا فيه بقصب سبق الأولين وحزنا غايات افكار المتقدمين والمتأخرين و استنزعنا منه خلاصة الالباب وفصلنا القشر عن اللباب سألني بعض الاصحاب
(3/183)
والفضلاء من الطلاب جمع كتاب لمسائل الاصول جامع لابكار افكار العقول
وذكر تمام الكلام فهو مع هذا الكلام ومع ما في كلامه من ذكر مباحث اهل الفلسفة والكلام يذكر مثل هذا السؤال المشكل الوارد على طريقة معرفة واجب الوجود الذي لم يذكر طريقا سواه ويذكر انه مشكل وليس عنده حله ولكن من عدل عن الطرق الصحيحة الجلية القطيعة القريبة البينة إلى طرق طويلة بعيدة لم يؤمن عليه مثل هذا الانقطاع كما فد نبه العلماء على ذلك غير مرة وذكروا ان الطرق المبتدعة إما ان تكون مخطرة لطولها ودقتها و اما ان تكون فاسدة ولكن من سلك الطريق المخوقة وكانت طريقا صحيحة فإنه يرجى له الوصول إلى المطلوب
ولكن لما فعل هؤلاء ما فعلوا وصاروا يعارضون بمضمون طرقهم
(3/184)
صحيح المنقول وصريح المعقول ويدعون ان لا معرفة إلا من طريقهم او لا يكون عالما كاملا إلا من عرف طريقهم احتيج إلى تبين ما فيها دفعا لمن يحارب الله ورسوله ويسعى في الارض فسادا وبيانا للطرق النافعة غير طريقهم وبيانا لان اهل العلم و الايمان عالمون بحقائق ما عندهم ليسوا عاجزين عن ذلك ولكن من كان قادرا على قطع الطريق فترك ذلك ايمانا واحتسابا وطلبا للعدل والحق وجعل قوته في الجهاد في اعداء الله ورسوله كان خيرا ممن جعل ما اوتيه من القوة فيما يشبه قطع الطريق { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين }
(3/185)
فإن الهدى الذي بعث الله به رسوله لما كان فيه معنى الماء الذي يحصل به الحياة ومعنى النور الذي يحصل به الاشراق ذكر هذين المثلين كما قال تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } سورة الانعام 122 وكما ضرب المثل بهذا وهذا في قوله تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } سورة الرعد 17 وقال تعالى { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } سورة النساء 60 63
ومن اعظم المصائب ان يصاب الانسان فيما لا سعادة له ولا نجاة له
(3/186)
إلا به ويصاب في الطريق الذي يقول انه به يعرف ربه ويرد عليه فيه اشكال لا ينحل له مع انه من كبر رؤوس طوائف اهل الكلام والفلسفة بل قد يقال انه لم يكن في وقته مثله
والمقصود هنا ذكر عبارته في الاشكال الذي اورده وهو قوله ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالاخر إلى غير نهاية
فيقال له و الامور التي شملها وجوب او إمكان او امتناع او غير ذلك ان لم يكن هناك إلا مجرد شمول ذلك الوصف له من غير امر وجودى زائد على الآحاد فليس اجتماعها زائدا على افرادها وان كان هناك اجتماع خاص كالتأليف الخاص فهذا التأليف والاجتماع الخاص زائد على الأفراد وإذا كان كذلك فليس في مجرد تقدير ممكنات شملها الإمكان ما يقتضي أن يكون اشتراكها في ذلك قدرا زائدا على الآحاد كما أن العشرة المطلقة ليست قدرا زائدا على آحاد العشرة
لكن نحن نذكر التقسيمات الممكنة التي تخطر بالبال ليكون الدليل جامعا فنقول إذا قال القائل في مثل المعلولات الممكنة
(3/187)
الجملة معلولة بالآحاد فيقال له إما أن لا يكون هنا جملة غير الآحاد كما ليس للعشرة جملة غير آحاد العشرة وإما أن تكون الجملة غير الآحاد كالشكل المثلث فإن اجتماع الأضلاع الثلاثة غير وجودها مفترقة وكالعشرة المصفوفة فإن اصطفافها غير العشرة المطلقة فإن كان الأول فالجملة هي الآحاد المتعاقبة وكلها ممكن فالجملة كلها ممكنة
وإن كان الثاني فالجملة إما أن يراد بها الهيئة الاجتماعية دون أفرادها وإما أن يراد بها الأفراد دون الاجتماع وإما أن يراد بها الأمران والأول هو الذي أراده بالسؤال
لكن ذكرنا كل ما يمكن أن يقال فإذا قال الاجتماع ممكن وترجحه بالآحاد المتعاقبة
قيل له فيكون الاجتماع معلول الآحاد وموجبها ومقتضاها والآحاد ممكنة ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكنا فيكون حينئذ كل من الآحاد ممكنا ونفس الجملة ممكنة لكن هذا الممكن معلول تلك الممكنات وقد علم أن الممكن لا يوجد بنفسه فلا يكون شيء من تلك الآحاد موجودا بنفسه ولا الجملة موجودة بنفسها فلا يكون
(3/188)
في جميع ما ذكر ما يوجد بنفسه وما لا يوجد بنفسه إذا وجد فلا بد له من موجد
ومما يبين ذلك أن الجملة إذا قيل هي ممكنة معلولة الآحاد المتعاقبة كان هناك ممكن زيد على تلك الممكنات فكأن الممكنات التي هي معلولات متعاقبة زيدت معلولا آخر ومعلوم أنها بزيادة معلول آخر تكون أحوج إلى الواجب منها لو لم تزد ذلك المعلول
ولو قيل إنها زيدت علة ممكنة لم يغن عنها شيئا فكيف إذا زيدت معلولا ممكنا
ومما يبين هذا أن الجملة قد تكون مقترنة وقد تكون متعاقبة فالمقترنة مثل اجتماع أعضاء الإنسان واجتماع أبعاض الجسم المركب سواء كان لها ترتيب وضعي كالجسم أو لم يكن كاجتماع الملائكة والناس والجن والبهائم وغير ذلك
وأما المتعاقبة فمثل تعاقب الحوادث كاليوم والأمس والولد مع الوالد ونحو ذلك
والجملة المقترنة أحق بالاجتماع مما تعاقبت أفرادها فإن ما
(3/189)
تعاقبت أفراده قد يقال إنه ليس بموجود لأن الماضي معدوم والمستقبل معدوم ولهذا جوز من جوز عدم التناهي في هذا دون ذاك وفرق من فرق بين الماضي والمستقبل لأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل وفرق قائل ثالث بين ماله اجتماع وترتيب كالجسم وبين ما فقد أحدهما كالنفوس والحركات
وإذا كان كذلك فإذا قال القائل الجملة ممكنة وهي معلولة الآحاد فلو كانت الجملة هنا مقترنة مجتمعة في زمان واحد لكان الأمر فيها أظهر من المتعاقبة التي لا اقتران لآحادها ولا اجتماع لها في زمن واحد والعلل والمعلولات لا تكون إلا مجتمعة لا تكون متعاقبة
لكن المقصود أن ما يذكره يشمل القسمين فلو قدر أنها متعاقبة لكان ذلك يشملها
و الآمدي جعل العمدة في نفي تناهي العلل والمعلولات على أنه قال والأقرب في ذلك أن يقال لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية وكل واحد منها ممكن على ما وقع به الغرض فهي إما متعاقبة
(3/190)
وإما معا فإن قيل بالأول فقد أبطل بثلاثة أوجه ثم زيفها وقال والأقرب في ذلك أن يقال لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة وعند ذلك فلا يخلو ما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل أو لا وجود لشيء منها في الأزل فإن كان الأول فهو ممتنع لأن الأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم والحادث مسبوق بالعدم وإن كان الثاني فجملة العلل والمعلولات مسبوقة بالعدم ويلزم من ذلك أن يكون لها ابتداء ونهاية وما له ابتداء ونهاية فهو متوقف على سبق غيره عليه وأما إن كانت العلل والمعلولات المفروضة موجودة معا
ثم ساق الدليل كما حكيناه عنه وهذه التقاسيم والتطويل لا يحتاج إليها وهي باطلة في نفسها فزاد في الدليل ما يستغني عنه ويكون توقف الدليل عليه مبطلا له إذا لم يبطل إلا بما ذكره
وهذا كثيرا ما يقع في كلام أهل الكلام المذموم يطولون في الحدود
(3/191)
والأدلة بما لا يحتاج التعريف والبيان إليه ثم يكون ما طولوا به به مانعا من التعريف والبيان فيكونون مثل من يريد الحج من الشام فيذهب إلى الهند ليحج من هناك فينقطع عليه الطريق فلم يصل إلى مكة
وبيان ذلك بوجوه
أحدها أن يقال ما ذكره من الدليل على امتناع علل ومعلولات مجتمعة يتناول العلل والمعلولات مطلقا سواء كانت متعاقبة أو لم تكن وإذا كان دليل الامتناع يعم القسمين فلا حاجة إلى التقسيم ولكن زيادة هذا القسم كزيادة القسم فيما ذكره بعد ذلك حيث قال وان كانت العلل والمعلولات معا فالنظر إلى الجملة غير النظر إلى كل من الآحاد وحينئذ فالجملة إما ان تكون واجبة و اما ان تكون ممكنة وهذا لا يحتاج اليه ايضا فإنه قد ذكر ان الآحاد ممكنة مفتقرة إلى الواجب فبتقدير ان لا تكون الجملة زائدة على الآحاد يكون الأمر أقرب
(3/192)
وهو بعد هذا قد أورد انه لا يلزم من كون الأفراد ممكنة كون الجملة ممكنة وأجاب عن ذلك بأن هذا ساقط وهذا السؤال والجواب كاف عن ذلك التطويل بزيادة قسم لا يحتاج اليه لكن هذا القسم وان لم يحتج اليه فإنه لم يضره بخلاف ما ذكره من زيادة تعاقب العلل فإنه زيادة أفسد بها دليله مع استغناء الدليل عنها
وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أنه قال لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة فيلزم ان تكون الأولى حادثة او تكون كلها حادثة مسبوقة بالعدم وهذا قد استدل به طائفة من أهل الكلام على امتناع حوادث لا تتناهى
وقد تقدم الاعتراض عليه وبين الفرق بين ما هو حادث بالنوع وحادث بالشخص وان ما كان لم تزل آحاده متعاقبة كان كل منها بمنزلة الآخر وكل منها مسبوق بالعدم وليس النوع مسبوقا بالعدم
وقول القائل الازلي لا يكون مسبوقا بالعدم لفظ مجمل
فإن أراد به ان الواحد الذي هو بعينه أزلي لا يكون مسبوقا
(3/193)
بالعدم فهذا صحيح وليس الكلام فيه وان اراد ان النوع الازلي الابدي الذي لم يزل ولا يزال لا يكون مسبوقا بالعدم فهذا محل النزاع
فقد صادر على المطلوب بتغيير العبارة وكأنه قال لا يمكن دوام الحوادث كما لو قال الابدي لا يكون منقطعا وكل من أفراد المستقبلات منقطع فلا تكون المستقبلات ابدية
فيقال النوع هو الابدي ليس كل واحد أبديا كذلك يقال في الماضي وهذا الكلام قد بسط في غير هذا الموضع
الوجه الثالث ان يقال هذه المقدمة فيها نزاع مشهور بين العقلاء ولعل أكثر الأمم من أهل الملل والفلاسفة ينازع فيها وأما وجود علل ومعلولات لا نهاية لها فلم يتنازع فيها أحد من العقلاء المعروفين
فلو قدر ان تلك المقدمة المتنازع فيها صحيحة لكان تقدير المقدمة المجمع عليها بمقدمة متنازع فيها خلاف ما ينبغي في التعليم والبيان والاستدلال لا سيما وليست اوضح منها ولا لها دليل يخصها فإنه ربما ذكرت المقدمة المتنازع فيها لاختصاصها بدليل أو وضوح ونحو ذلك وأما بدون ذلك فهو خلاف الصواب في الاستدلال
(3/194)
الوجه الرابع ان الغزالي سلك مسلكا في تعجيز الفلاسفة عن إثبات الصانع بأن قال دليلكم مبني على نفي التناهي عن العلل والمعلولات قال وأنتم لا يمكنكم ذلك مع اثباتكم حوادث لا تتناهى فإن ما تذكرونه من دليل نفي النهاية في العلل يلزم مثله في الحوادث وما تذكرونه مما يسوغ وجود حوادث لا تتناهى يلزمكم نظيره في العلل
وهذا الذي قاله وان كان قد استدركه من استدركه عليه لكن هو أجود مما فعله الامدي فإن مقصوده الزامهم أحد أمرين إما عدم إثبات الواجب واما الإقرار بحدوث العالم وبين ان إثبات الصانع معلول بإثبات الحوادث وان افتقار المحدث إلى المحدث امر ضروري فهذا خير من ان يجعل إثبات الصانع موقوفا على تقسيمها إلى التعاقب والاقتران وان العلل المتعاقبة لا يمكن ابطالها إلا بالتسوية بين امتناع كون الحادث المعين دائما لم يزل وكون نوع الحوادث دائما لم يزل فإن هذا فيه من التطويل ووقف العلم بالصانع على مثل هذه المقدمة ما لا يخفى
الوجه الخامس ان الدليل الذي ذكره غايته ان يثبت ان الحوادث
(3/195)
لها ابتداء إذ لو كانت العلل متعاقبة محدثة وللحوادث أول لزم ان يكون للحادث أول وهذا غايته ان يكون بمنزلة إثبات حدوث العالم
وهو وأمثاله مع كونهم يحتجون على حدوث العالم فلم يقولوا ان المحدث لا بد له من محدث كما هو قول الجمهور ولا أثبتوا ذلك بأن الحدوث مخصص بوقت دون وقت فيفتقر إلى مخصص كما فعله كثير من أهل الكلام بل ولا بأن الممكن يفتقر إلى المرجح لوجوده بل قالوا المحدث ممكن والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ثم اوردوا جواز التسلسل في العلل واجابوا عن ذلك
فإذا كان الجواب عن ذلك لا يتم إلا بإثبات حدوث العلل كان غايتهم ان يثبتوا افتقار الممكن إلى علة حادثة فهم بعد ذلك ان قالوا والمحدث لا بد له من محدث كانوا قد قالوا حقا لكن طولوا بذكر تقسيمات لا فائدة فيها بل تضعف الدليل وكانوا مستغنين عنها في الاول وان لم يقولوا والمحدث لا بد له من محدث لم يكن ما ذكروه نافعا فإن مجرد حدوث العلة ان لم يستلزم وجود المحدث لم يثبت واجب الوجود
(3/196)
فتبين ان ما سلكوه إما ان لا يفيد او يكون فيه من التطويل والتعقيد ما يضر ولا ينفع ومع هذا فمثل هذا التطويل والتعقيد قد يكون فيه منفعة لمن يسفسط ويعاند ولمن لا تنقاد نفسه إلا بمثل ذلك كما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع
ومضمون ما ذكروه دور في الاستدلال فلا يكون استدلالا صحيحا فإنه إذا قدر علل ومعلولات متعاقبة وأثبت امتناع ذلك لأن الحادث لا يكون أزليا لزم ان هذه العلل محدثة
فيقال له فلم لا يجوز ان يكون استناد الممكنات إلى علل محدثة فلا بد ان يقول على طريقته ان المحدث ممكن والممكن يفتقر إلى علة وعلته لا تكون محدثة فيكون حقيقة كلامه المحدث يفتقر إلى محدث لان المحدث يفتقر إلى محدث إذ كان حقيقة ما يقوله ان المحدث لا بد له من علة لأنه ممكن فيفتقر إلى مرجح ومرجحه لا يكون محدثا لأن المحدث ممكن لا بد له من علة
وإن غير العبارة فقال هذا الممكن لا بد له من علة والعلة لا تكون ممكنة لأن الممكن لا بد له من علة كان قد قال الممكن له علة لأن الممكن له علة وكل ذلك إثبات الشيء بنفسه
(3/197)
والمقصود هنا أن ما ذكر من امتناع التسلسل في العلل يشمل ما إذا قدرت متعاقبة كما إذا قدرت مقترنة وأنه حينئذ يكون الاجتماع معلولا للأفراد و اذا كان كل من الأفراد ممكنا لا يوجد بنفسه والاجتماع معلولا لها كان أولى ان يكون ممكنا لا يوجد بنفسه ولا يوجد ممكن بممكن لا موجد له فإن ما لم يوجد نفسه أولى ان لا يوجد غيره فإذا لم يكن في الآحاد ما يوجد نفسه كان أولى ان لا يوجد غيره لا الجملة ولا غيرها من الآحاد
يبين هذا ان الممكن لا يوجد بنفسه بل لا يوجد إلا بغيره فإذا قدر ان ثم ممكنات موجودة سواء كانت عللا أو لم تكن وسواء كانت متناهية أو غير متناهية لم يكن فيها شيء وجد بنفسه فإذا كان المجموع لا يوجد إلا بها وليس فيها شيء موجود بنفسه لم يكن في جميع ما ذكر ما يوجد بنفسه لا جملة ولا تفصيلا واذا وجد ما لا يوجد بنفسه لم يوجد إلا بغيره
إلا ترى انه لو قال الحوادث لا توجد بنفسها لم يكن فرق بين الحوادث التي لها نهاية والتي لا نهاية لها بل كل من الحوادث التي لا تتناهى لا يوجد بنفسه بل لا بد له من محدث
والذهن إذا قدر ممكنات محصورة ومحدثات محصورة ليس لها
(3/198)
محدث ولا مبدع علم امتناع ذلك فإذا قدرها لا تتناهى لم تكن هذه الحال توجب استغناءها عن المحدث المبدع وتجعلها غنية عن مبدع خارج عنها بل كلما كثر ذلك كان أولى بالحاجة إلى المبدع فما لا يوجد بنفسه إذا ضم اليه ما لا يوجد بنفسه مرات متناهية او غير متناهية كان ذلك مثل ضم المعدومات بعضها إلى بعض وذلك لا يغني عنها شيئا بل المعدومات لا تفتقر حال عدمها إلى فاعل وأما هذه التي لا بد لها من فاعل إذا كثرت كان احتياجها إلى الفاعل أوكد وأقوى وتسلسل الممكنات لا يخرجها عن طبيعة الإمكان الموجب لفقرها إلى المبدع كما ان طبيعة الحدوث لا تخرج المحدثات عن طبيعة الحدوث الموجبة لفقرها إلى الفاعل
ومن جوز تسلسل الحوادث وقال كل منها حادث والنوع ليس بحادث لا يمكنه ان يقول كل من الممكنات ممكن والجملة ليست ممكنة كما لا يمكنه ان يقول كل من الموجودات موجود والجملة ليست موجودة ولا يقول كل من الممتنعات ممتنع والجملة ليست ممتنعة بل الامتناع لجملة الممتنعات اولى منه لآحادها وكذلك الإمكان لجملة الممكنات اولى منه لآحادها والفقر إلى الصانع الذي يستلزمه الإمكان لجملة الممكنات أولى منه لآحادها وأما الوجود لجملة الموجودات فليس هو أولى منه لآحادها
(3/199)
وان قيل هو واجب للجملة وذلك ان جملة الموجودات موقوفة على وجود كل منها بخلاف وجود الواحد منها فإنها لا تتوقف على وجود الجملة وأما الممتنعات فامتناع جملتها ليس موقوفا على امتناع كل منها بل كل منها ممتنع لذاته فامتناع الجملة لذاتها أولى وأحرى اللهم إلا ان يكون الامتناع مشروطا بأفرادها كالمتلازمين اللذين يمتنع وجود أحدهما دون الآخر ولا يمتنع اجتماعهما
وكذلك الممكنات إذا كان كل منها ممكنا لذاته بحيث يفتقر إلى الفاعل ولا يوجد بنفسه فليس إمكان كل منها مشروطا بالاخر ولا معلقا به ولا لامكان هذا تأثير في إمكان هذا كما في الامتناع بخلاف الموجودات فإنه قد يكون وجود أحد الامرين إما مشروطا واما علة للاخر بخلاف ما إذا قدر موجودات واجبة بأنفسها فإنه حينئذ لا يكون وجود بعضها موقوفا على وجود البعض وأما ما هو ممكن بنفسه أو ممتنع بنفسه فليس امكانه وامتناعه مشروطا بغيره بل نفس تصور حقيقته يوجب العلم بامتناعه وامكانه
وحينئذ فكلما كثر افراد هذه الحقيقة كان العلم بامتناعها او امكانها
(3/200)
أكثر والعلم بامتناع الجملة او امكانها أولى وأحرى ولو قدرنا واجبات بأنفسها غنية عن الغير بحيث لا يكون بعضها شرطا في البعض لكانت الجملة واجبة ولم يكن وجوبها بدون وجوب الآحاد وامتنع ان يقال الجملة ممتنعة او ممكنة مع وجوب كل من الآحاد بنفسه وجوبا لا يقف فيه على غيره
فتبين انه إذا كان من الامور ما هو ممكن في نفسه لا يقف امكانه على غيره ومعنى امكانه أنه لا يستحق بنفسه وجودا ويمتنع وجوده بنفسه وهو بالنظر إلى نفسه فقير محض أي الفقر الذاتي الذي يمتنع معه غناه بنفسه وسواء قلنا ان عدمه لا يفتقر إلى مرجح او قلنا ان عدمه لعدم المرجح وقدرنا عدم المرجح فهو في الموضعين لا يستحق إلا العدم لا يستحق وجودا أصلا
فكثرة مثل هذا وتقدير ما لا يتناهى من هذا الضرب لا يقتضي حصول وجود له او غنى في وجوده عن غيره ولا وجود بعض هذه الامور ببعض فإن كثرة هذه الامور التي لا تستحق إلا العدم توجب كثرة استحقاقها للعدم وكثرة افتقارها إلى موجد يكون موجودا بنفسه
فإذا قدر امور لا نهاية لها ليس فيها شيء يستحق الوجود كان قول القائل ان بعضها يوجد بعضا في غاية الجهل فإن ما لا يستحق في نفسه ان يكون موجودا كيف يستحق ان يكون موجدا
(3/201)
لغيره وكيف يكون وجوده بوجود ما هو مساو له في أنه لا يستحق الوجود
يبين هذا أنه إذا كان هذا لا يستحق الوجود وهذا لا يستحق الوجود لم يكن جعل هذا علة والآخر معلولا بأولى من العكس فإن شرط الفاعل أن يكون موجودا فإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون فاعلا وكل منهما لا يستحق أن يكون موجودا فلا يكون فاعلا
وإذا قال إن أحد هذين وجد بالآخر فهذا إنما يعقل إذا كان الآخر موجودا وذاك الآخر لا يكون موجودا بنفسه لا يكون موجودا إلا بغيره وذلك الغير الذي يفتقر إليه الممكن ليس هو أي غير كان بل لا بد من غير يحصل به وجوده ووجوده بحيث يستغنى به عما سواه فذلك الغير الذي يفتقر إليه الممكن من شرطه أن يكون مستقلا بإبداع الممكن لا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه فمتى قدر أنه محتاج إلى غيره كان الممكن محتاجا إلى هذا الغير وإلى هذا الغير فلا يحصل وجوده بأحد الغيرين بل لا بد منهما وكذلك لو قدر من الأغيار ما يقدر فلا بد أن يكون ما يفتقر إليه الممكن غير محتاج إلى غيره بوجه من الوجوه وليس في الممكنات ما هو بهذا الشرط بل كل منها يحتاج إلى غيره فلو قدر أن الممكن يوجد بممكن إلى نهاية أو غير نهاية والجملة
(3/202)
الممكنة توجد بالأفراد لكان الغير الذي يفتقر إليه الممكن محتاجا إلى غيره مع أن كلا من المحتاجين لا يغني عن نفسه شيئا أصلا البتة
يزيد هذا إيضاحا أن الممكن مع عدم المقتضى التام يكون ممتنعا لا ممكنا وأعني بالمقتضى التام الذي يلزم من وجوده وجود المقتضى لكن يكون ممتنعا لغيره فإذا كان كل من الممكنات له علة ممكنة والعلة الممكنة ليست مقتضيا تاما فإنها لا توجد إلا بغيرها إذ الممكن مفتقر إلى غيره فوجوده مجردا عن مقتضيه ممتنع فضلا عن أن يكون مقتضيا لغيره فإذا لم يكن مع شيء من الممكنات مقتض تام كان كل منها ممتنعا وتقدير ممتنعات لا نهاية لها يوجب قوة امتناعها ويمتنع مع ذلك أن تكون جملتها ممكنة فضلا عن أن تكون واجبة فتبين بذلك أن جملة العلل الممكنات التي لا تتناهى جملة ممتنعة فامتنع أن يقال هي موجودة معلولة للأفراد لأن الممتنع لا يكون موجودا لا معلولا ولا غير معلول
يبين ذلك أن تقدير معلول لا علة له ممتنع والممكن الموجود معلول لغيره فإذا قدر علل ممكنة لا تتناهى كان كل منها معلولا فقد قدر معلولات لا تتناهى ومن المعلوم بالضرورة أن وجود معلولات لا تتناهى لا يقتضي استغناءها عن العلة وإذا قيل إن الجملة معلولة للآحاد فقد ضم معلول إلى معلولات لا تتناهى وذلك لا يقتضى استغناءها عن العلة
(3/203)
فتبين أن من توهم كون العلل الممكنة التي لا تتناهى التي هي معلولات لا تتناهى يمكن أن يكون لها معلول لا يتناهى فإنما قدر ثبوت معلولات لا تتناهى ليس فيها علة وإذا كانت المعلولات المتناهية لا بد لها من علة فالمعلولات التي لا تتناهى أولى بذلك فإن طبيعة المعلول تستلزم الافتقار إلى العلة وهذا يظهر باعتبار المعاني التي يوصف بها الممكن فإنه معلول مفتقر مبدع مصنوع مدبر مفعول لا يوجد بنفسه لا يستحق الوجود فإذا قدر واحد من هذا النوع كان ذلك مستلزما لعلته وموجبه وصانعه وفاعله ومبدعه وإذا قدر اثنان كان الاستلزام أعظم وإذا قدر ما لا يتناهى كان الاستلزام أعظم فإنه إذا كان الواحد منها بدون الواجب ممتنعا فالاثنان ممتنع وممتنع وتقدير ما لا يتناهى من هذا تقدير ممتنعات لا تتناهى
وإن قيل إن وجود الواحد منها يستلزم وجود الواجب فتقدير
(3/204)
اثنين أولى أن يستلزم وجود الصانع ولو أمكن وجود ما لا يتناهى من العلل الممكنة كان ذلك أعظم في امتناعها فكيف بما يتناهى كما يقدر من يقدر أن العقل الأول أبدع الثاني والثاني أبدع الثالث وفلكه إلى العاشر المبدع لما تحت الفلك وإذا قدر ما لا يتناهى كان الاستلزام أعظم
فتبين أنه كلما كثرت الممكنات وتسلسلت كان ذلك أعظم في دلالتها على ثبوت الواجب و استلزامها له والإنسان قد يتوهم إذا فرض علل هي معلولات لا تتناهى وتوهم أن العلة تكون وحدها مؤثرة في المعلول أو مقتضية له أو موجبة فهذا ممتنع فإن العلة إذا كانت معلولة لزم أنها لا تقوم بنفسها بل تفتقر إلى غيرها فالمعلول المفتقر إليها مفتقر إلى علة علتها التي هي مفتقرة إليه فيكون معلولها كما أنه مفتقر إليها فهو مفتقر إلى كل ما هي مفتقرة إليه فإذا قدر من ذلك ما لا يتناهى قدر أنه محتاج إلى أمور لا تتناهى وليس فيها ما هو موجود بنفسه ولا غنى عن غيره
(3/205)
ومن المعلوم أنه كلما كثرت الأمور المشروطة في وجود الموجود كان وجوده موقوفا عليها كلها وكان أبعد عن الوجود من الموجود الذي لا يتوقف وجوده إلا على بعض تلك الأمور فإذا كان الممكن لا يوجد بعلة واحدة ممكنة بل يمتنع وجوده بها فإذا كثرت العلل الممكنة التي يتوقف وجوده عليها كان وجوده أعظم في الامتناع وأبعد عن الجواز وإذا كانت الممكنات قد وجدت فقد وجد قطعا مقتض لها مستغن عن غيره وكلما تدبر المتدبر هذه المعاني ازداد لها تبينا وعلم أن كل ما يقدر وجوده من الممكنات فإنه دال على الواجب الغني بنفسه عن كل ممكن مباين له
ومن العجب أن هؤلاء يذكرون في إثبات واجب الوجود من الشبهات ما يذكرون وإن كانوا يجيبون عنها ثم إذا أخذوا وجوده إما مبرهنا وإما مسلما وصفوه من الصفات السلبية بأمور لم يدل عليها ما دل على وجوده بل يصفونه بما يمتنع معه وجوده حتى يعلم أن ما وصفوا به واجب الوجود لا يكون إلا ممتنع الوجود كما قد بسط في غير هذا الموضع ولا يذكرون من القوادح المعارضة لتلك السلوب بعض ما يذكرونه في إثبات وجوده وإن توهموا بطلانها مع أن تلك المعارضات
(3/206)
هي صحيحة قادحة فيما ينفي صفاته بل الشيطان يلقى إليهم من الشبهات القادحة في الحق ما لو حصل لهم نظير من الأمور القادحة في الباطل لما اعتقدوه
فهذا كله إذا أريد بالجملة الاجتماع المغاير لكل واحد واحد وإن أريد بها كل واحد واحد كان الأمر أظهر وأبين فإن كل واحد واحد ممكن مفتقر إلى الفاعل فإذا لم يكن هناك جملة غير الآحاد امتنع أن يكون هناك غير الآحاد الممكنة مما يوصف بوجوب أو إمكان
وإن أريد بالجملة مجموع الأمرين الآحاد والاجتماع كان الاجتماع جزءا من أجزاء المجموع فيكون هناك أجزاء متعاقبة وجزء هو الاجتماع وهذا الجزء يمتنع أن يكون واجبا بنفسه لأنه مفتقر إلى الممكنات ولأنه عرض قائم بغيره وأحسن أحواله أن يكون كالتأليف مع المؤلف فإذا كان المؤلف ممكنا بنفسه فتأليفه أولى بل قد يقال ليس للجملة هنا أمر وجودي مغاير للأفراد المتعاقبة وإنما لها أمر نسبي اعتباري كالنسبة التي بين أفراد العشرة وهذا وغيره مما يبين امتناع وجوبها بنفسها فيبقى هذا الجزء ممكنا بنفسه فقيرا إلى غيره كسائر الأجزاء فيكون حينئذ هناك ممكنات كل منها محتاج إلى الموجد فيحتاج كل منها إلى الموجد والجملة هنا داخل في قولنا كل منها فإنه جزء من هذا الكل
(3/207)
فتبين أنه كيفما أدير الأمر ليس في الممكنات المتعاقبة لا واجب بنفسه ولا بغيره إلا أن يكون هناك واجب بنفسه خارج عن الممكنات إذا كان كل فرد فرد ممكنا والاجتماع أيضا ممكن بطريق الأولى والأمران ممكنان بطريق الأولى والأحرى وكل من الأفراد مستغن عن الهيئة الاجتماعية فإنه موجود بدونها وما احتاج إلى الممكن المستغن عنه كان أحق بالإمكان
وإيضاح ذلك أنه إذا قدر كل موجود معلول مفعول مفتقر وليس في الوجود إلا ما هو كذلك كما إذا قدر أن الممكنات ليس لها مقتض واجب بنفسه فإنه يكون الأمر كذلك وإن لم يجعل بعضها معلولا لبعض فهذا التقدير يقتضي أن لا يوجد شيء منها لأنها لا توجد بأنفسها إذ التقدير كذلك وما لم يكن موجودا بنفسه فهو أولى أن لا يوجد غيره فلا يكون شيء منها موجودا بنفسه ولا موجودا بغيره ومعلوم أن الموجود إما موجود بنفسه وإما موجود بغيره فإذا قدر أنها موجودة وقدر مع ذلك أنها لا موجودة بأنفسها ولا بموجود أوجدها لزم الجمع بين النقيضين ولو قدر تسلسلها فتسلسلها لا يوجب أن يكون شيء منها موجودا بنفسه فلا يقتضي أن يكون موجدا لغيره والمعدوم لا يوجد غيره فإذا لم يكن فيها ما هو موجود بنفسه لم يكن فيها ما هو
(3/208)
موجد لغيره وهذا أعظم امتناعا من تقدير أفعال لا فاعل لها وحوادث لا محدث لها فإن تلك يكون التقدير فيها أنها وجدت بأنفسها والتقدير هنا أنها لم توجد بأنفسها ولا هناك ما هو موجود بنفسه يوجدها ولا هناك غير موجود يوجدها وإنما التقدير معلولات مفتقرات والمعلول من حيث هو معلول والمفتقر من حيث هو مفتقر ليس فيه ما يقتضي وجوده واذا لم يكن لها وجود ولا لمقتضيها وجود لزم انتفاء الوجود عنها كلها وهذا مع كونها موجودة جمع بين النقيضين
وهذا كلام محقق وتنبيه للإنسان بأن يعلم ان مجرد تقدير معلولات ممكنة لا هي موجودة بنفسها ولا فيها علة موجودة بنفسها لا يقتضي وجود ذلك في الخارج فليس كل ما قدرته الاذهان امكن وجوده في الاعيان لا سيما مع سلب الوجود عنها من نفسها ومن موجد يوجدها و اذا قدر ان المعلول الممكن له علة ممكنة فهي أيضا معدومة من تلقاء نفسها فليس فيما قدر قط شيء موجود فمن اين يحصل لها الوجود
(3/209)
فصل
وقد أورد الابهري ومن اتبعه على هذه الحجة المذكورة لقطع التسلسل في العلل اعتراضا زعم انه يبين ضعفها فقال في كلامه على ملخص الرازي وغيره قول القائل مجموع تلك العلل الممكنة يحتاج إلى كل واحد منها الخ قلنا لم لا يجوز ان يكون المؤثر في ذلك المجموع واحدا منها إما قوله بان ذلك لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله فلا يكون علة للمجموع قلنا لا نسلم وانما يلزم أن لو كان علة المجموع علة لكل واحدة من أجزائه فلم قلتم إنه كذلك وهذا لان الشيء جاز ان يكون علة للمجموع من هو حيث مجموع فلا يكون علة لكل واحد من اجزائه فان الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وليس علة لكل واحد من اجزائه لاستحالة كونه علة لنفسه لا يقال بأن مجموع تلك العلل المتسلسلة ممكن وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجية فذلك المجموع افتقر إلى علة خارجية عنه لانا نقول لا نسلم ان كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجية عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس مفتقرا إلى علة خارجية عنه لا يقال بأن المجموع المركب من آحاد كل واحد منها ممكن محتاج إلى علة خارجية لانا
(3/210)
نقول لا نسلم وانما يكون كذلك ان لو لم يكن كل واحد منها معلولا لاخر إلى غير النهاية لا يقال ان جملة ما يفتقر اليه المجموع إما ان يكون نفس المجموع او داخلا فيه او خارجا عنه و الاول محال وألا لكان الشيء علة نفسه والثاني محال وألا لكان بعض الاجزاء كافيا في المجموع والثالث حق قلنا ان اردتم بجملة ما يفتقر اليه المجموع جملة الامور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر اليه فلم قلتم بأنه لا يجوز ان يكون هو نفس المجموع والذي يدل عليه ان جملة الامور التي يفتقر اليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع وان اردتم العلة الفاعلية فلم قلتم انه يلزم ان يكون بعض الاجزاء كافيا في المجموع و اذا كان المجموع ممكنا في نفسه فهو مفتقر إلى غيره فما يفتقر اليه المجموع إما ان يكون هو المجموع او داخلا فيه او خارجا منه و الاول محال وألا لكان الشيء علة لنفسه والثاني محال وألا لكان بعض الاجزاء كافيا في المجموع لان المجموع إذا كان ممكنا وانما يفتقر إلى البعض لزم ان يكون البعض هو المقتضي للمجموع فليلزم ان يكون مقتضيا لنفسه ولعلته وان كان ما
(3/211)
يفتقر اليه المجموع خارجا عن المجموع فهو المطلوب وهذا التحرير يوجب ان يكون البعض علة فاعلة للمجموع والعلة الفاعلة كافية للمجموع
وقوله ان اردتم بجملة ما يفتقر اليه المجموع جملة الامور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر اليه فلم قلتم بأنه لا يجوز ان يكون هو نفس المجموع
فيقال له لأن المجموع إن لم يكن زائدا على تلك الأمور التي كل منها معلول فليس هنا مجموع غير المعلولات والمعلولات التي لا يوجد شيء منها بنفسه بل لا بد له من موجد موجود إذا لم يكن فيها موجد موجود وامتنع أن يكون مجموعها حاصلا بمجموعها وإن كان المجموع معلولا لها فهو أولى بالافتقار وهذا أمر معلوم بالضرورة وما قدح فيه كان قدحا في الضروريات فلا يسمع
الوجه الثالث الجواب عن معارضته وهو قوله إن جملة الأمور التي يتوقف عليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع
وملخص هذا الكلام أن مجموع الموجودات ليس متوقفا على بعض الأجزاء لتوقفه على الجميع ولا متوقفا على ما خرج عن المجموع فالمجموع متوقف على المجموع
(3/212)
فيقال له هذا يناقض ما ذكرتم أولا من أن المؤثر في مجموع الموجودات واحد منها وزعمت أن هذا معارضة لقولهم مجموع الممكنات لا يجوز أن يكون المؤثر فيها واحدا وإذا كان هذا يناقض ذاك فإما أن تقول المؤثر في المجموع جزؤه أو المؤثر فيه هو المجموع فإن قلت إنه جزؤه بطل هذا الاعتراض وسلم هذا الدليل الدال على امتناع معلولات ممكنة ليس لها علة واجبة وبذلك يحصل المقصود من إثبات واجب الوجود وإن قلت إن المؤثر هو المجموع بطل اعتراضك على ذلك الدليل وسلم ذلك الدليل عن المعارضة فحصل به المقصود
الوجه الرابع أن يقال قولك جملة الأمور أو مجموع الأمور الذي يفتقر إليه الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع يتضمن أن مجموع الموجودات يفتقر إلى أمر من الأمور وانت لم تذكر على ذلك دليلا فلم قلت إن مجموع الموجودات يفتقر إلى أمر وأولئك إنما ادعوا أن مجموع الممكنات يفتقر إلى أمر من الأمور وهذا معلوم بأدلة متعددة بل بالضرورة وما ذكرته ليس بمعلوم
الوجه الخامس أن يقال مجموع الموجود المتضمن للواجب
(3/213)
لا يقبل العدم وما لا يقبل العدم فليس بممكن وما ليس بممكن فهو واجب فالمجموع حينئذ واجب وما كان واجبا لم يفتقر إلى أمر من الأمور وقولك إن المجموع مفتقر إلى المجموع هو معنى قول القائل إنه واجب بنفسه فإن الواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه بل لا بد له من نفسه وإذا كنت قد أقررت أنه واجب بنفسه بطل قولك إنه يفتقر إلى أمر وهذا بخلاف مجموع العلل الممكنة فإنه لا يمكن أن يكون واجبا بنفسه لأنه ليس فيها ما هو موجود بنفسه وإذا لم يكن في المجموع ما هو موجود بنفسه كان امتناع المجموع أن يكون واجبا بنفسه أولى وأحرى
وهذا السؤال الذي أورده هذا من جنس السؤال الذي أورده الآمدي بل هو هو ولعل أحدهما أخذه من الآخر وهو أن تكون الجملة مترجحة بالآحاد وكل منها مترجح بالآخر إلى غير نهاية وأجاب عنه الآمدي في أحد كتابيه وقال في الآخر إنه لا يعرف عنه جوابا وذكر عن قوم أنهم قالوا المجموع واجب بنفسه بهذا الاعتبار واستفسط هذا الاعتراض
ومقصود الجميع أن مجموع المعلولات التي لا تتناهى لا تفتقر إلى شيء غير آحادها المتعاقبة وفساد هذا معلوم بالاضطرار بعد جودة التصور وإنما أشكل على من أشكل لعدم التصور التام فإنه إذا قال القائل علل
(3/214)
لا تتناهى أو ممكنات لا تتناهى كل منها مترجح أو معلول بالآخر توهم الذهن أن هذا يتضمن تقدير موجودات في الخارج كل منها معلول الموجود الآخر وأن الأمر هكذا إلى غير نهاية
ولهذا أراد طائفة أن يبطلوا هذا التسلسل بجنس ما يبطلون به الآثار التي لا تتناهى كالحركات التي لا تتناهى وهذا غلط فإن المقدر هو أمور ليس فيها ما يوجد بنفسه بل لا يوجد إلا بعلة مباينة له موجودة وكلها بهذه المثابة إلى غير نهاية
وهذا في الحقيقة تقدير معدومات بعضها علة لبعض في وجوده إلى غير نهاية من غير أن يوجد شيء منها وكما أن المعدوم إذا قدر أنه معلل يعلل معدومة إلى غير نهاية مع أنه لم يوجد ولم يوجد شيء منها كان باطلا وإن قدر وجوده مع ذلك كان جمعا بين النقيضين وإذا كان تقدير معلول معدوم بعلة معدومة تقتضي وجوده ولم يوجد ممتنع في بديهة العقل من جهة أنه لم يوجد ومن جهة أن علته ليست موجودة فكثرة هذه العلل أولى بالامتناع وتسلسلها إلى غير نهاية أعظم وأعظم في الامتناع فكذلك إذا قدر ما هو معلول ممكن لا يوجد إلا بموجد يوجده وقدر أنه ليس هناك موجود يوجده فإن وجوده يكون ممتنعا فإن قدر موجودا كان
(3/215)
جمعا بين النقيضين وتسلسل هذه المعلولات من غير أن تنتهي إلى موجود بنفسه أعظم في الامتناع لكن من توهم أنها موجودات متسلسلة التبس عليه الأمر وتقدير كونها موجودات متسلسة ممتنع في نفسه بل هو جمع بين النقيضين لأن التقدير أنه ليس فيها ما يوجد بنفسه ولا يوجد إلا بموجد موجود وإذا لم يكن فيها موجود بنفسه ولا موجد امتنع أن يكون فيها إلا معدوم فتقدير وجودها جمع بين النقيضين
وبيان ذلك أن كلا منها هو مفتقر إلى موجد يوجده فلا يوجد بنفسه وعلته لم توجد بنفسها فليس فيها موجود بنفسه وليس هنا علة موجودة بنفسها فإذا قدر في كل منها أنه موجود بغيره فذلك الغير هو بمنزلته أيضا لا وجود له من نفسه فليس هناك موجود يوجدها إلا ما يقدر منها وكل منها إذا لم يكن له من نفسه وجود فأن لا يكون موجدا لغيره بطريق الأولى والأحرى فلا له من نفسه وجود ولا إيجاد وغيره من جنسه ليس له من نفسه وجود ولا إيجاد فمن أين يكون لشيء منها وجود بلا وجود لنفسه ولا إيجاد إذ الإيجاد فرع الوجود
قلت وهذا الاعتراض فاسد جدا وبيان فساده من وجوه
(3/216)
أحدها أن يقال هو اعتراض على قولهم مجموع العلل الممكنة ممكن لافتقار المجموع إلى الآحاد الممكنة ولا يجوز أن يكون المؤثر في المجموع واحدا من العلل الممكنة لأن ذلك لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله من العلل فامتنع أن يكون مؤثرا في المجموع فقال المعترض إنما يلزم هذا أن لو كان علة المجموع علة لكل واحد من أجزائه فلم قلتم إنه كذلك
فيقال له أولا نحن لا نعني بالمجموع مجرد الهيئة الاجتماعية بل نعني به كل واحد من الأفراد والهيئة الاجتماعية وحينئذ فتكون علة المجموع علة كل واحد من أجزائه وهذا معلوم بالضرورة فإن المؤثر إذا كان مؤثرا في مجموع الآحاد مع الهيئة الاجتماعية فقد أثر في كل جزء من أجزائه فإنه لو لم يؤثر في كل جزء من الأجزاء لجاز انتفاء ذلك الجزء وإذا انتفى انتفى المجموع والتقدير أنه أثر في المجموع بحيث جعل المجموع موجودا والمجموع هو الأفراد والهيئة الاجتماعية فلو قدر أنه غير موجود لزم الجمع بين النقيضين وهو الممتنع وهذا الممتنع لزم من تقدير كونه مؤثرا في المجموع بحيث جعل المجموع موجودا مع تقدير عدم بعض أجزاء المجموع فعلم أنه يستلزم من كونه أثر في المجموع وجود
(3/217)
المجموع ويلزم من وجود المجموع أنه لا ينتفي شيء من أجزائه فعلم أن ما استلزم ثبوت المجموع استلزم ثبوت كل من أجزائه وإن لم يكن المستلزم علة فاعلة فكيف إذا كان المستلزم علة فاعلة فكيف إذا كان المجموع علة فاعلة فتبين أن ثبوت العلة الفاعلة للمجموع يتضمن أن يكون علة لكل من أجزائه ولو تخيل متخيل أن الواحد من الجملة علة لسائر الأجزاء والأجزاء علة للمجموع أو أنه علة للمجموع والمجموع علة للآحاد فيكون ذلك الواحد علة العلة
قلنا هذا لا يضر لأن علة العلة علة وكما يمتنع في الواحد أن يكون علة نفسه فيمتنع أن يكون علة علة نفسه بطريق الأولى فلو كان بعض الأجزاء علة للمجموع والمجموع علة لكل من الأجزاء أو بالعكس لزم أن يكون ذلك الجزء علة علة نفسه وعلة علة علل نفسه وهو ما قبل ذلك الجزء من العلل التي قدر أنه لا نهاية لها وهذا بين لا يتصوره أحد إلا يعلم امتناعه بالبديهة ومن نازع فيه كان إما لعدم تصوره له وإما لعنادة وحينئذ فيكفي أن يقال هذا معلوم بالبديهة فالشبهة الواردة عليه من جنس شبه السوفسطائية فلا يستحق جوابا
(3/218)
الوجه الثاني أن يحل ما ذكره من المعارضة وهي قوله وهذا لأن الشيء جاز أن يكون علة للمجموع من حيث هو علة للمجموع من حيث هو مجموع ولا يكون علة لكل واحد من أجزائه فإن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وليس علة لكل واحد من أجزائه لاستحالة كونه علة لنفسه
قلنا لا نسلم أن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وإنما هو علة لبعض الموجودات وهي الممكنات وأما الموجود الواجب بنفسه فلا علة له وهو من الموجودات وإذا كانت الموجودات منقسمة إلى واجب وممكن والواجب علة للمكن لم يكن الواجب علة لمجموع الموجودات بل علة لبعضها وبعضها لا علة له
فإن قيل إنما قلنا الواجب علة للمجموع من حيث هو مجموع لا لكل واحد فهو علة للهيئة الاجتماعية
قيل أولا لا نسلم أن المجموع له وجود يزيد على الآحاد
ويقال ثانيا إذا قدر أن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية أمر مغاير للأفراد فالواحد من تلك الأفراد إذا كان علة للهيئة الاجتماعية فالعلة مغايرة للمعلول ليست العلة بعض المعلول
(3/219)
وهذا بين إذا تصوره المتصور معلوم بالبديهة ولكن لفظ المجموع فيه إجمال قد يعنى به الأفراد المجتمعة وقد يعنى به اجتماعها وقد يعنى به الأمران ومعلوم أنه يمتنع أن يكون بعض الأفراد المجتمعة علة لكل من الأفراد المجتمعة وهذا هو المطلوب
وأما الاجتماع إذا قدر أنه مغاير للأفراد فالواحد منها يكون علة لذلك الاجتماع المغاير لذلك المفرد وغيره وإن أريد الإفراد والاجتماع كان الاجتماع جزءا من أجزاء المجموع فيكون الواحد من ذلك المجموع علة لسائر الأجزاء وهذا ممكن فالواجب سبحانه وتعالى هو المبدع لسائر الموجودات ومبدع للاجتماع الحاصل منها ومنه إذا قدر ذلك الاجتماع مغايرا للأفراد لكن ذلك الاجتماع هو من جملة سائر الموجودات
فإذا قيل إنه مبدع لسائر الموجودات دخل في ذلك كل ما سواه من الموجودات أعيانها وأعراضها ودخل في ذلك الاجتماع الحاصل منه ومنها وهو الهيئة الاجتماعية إذا قدر أنها موجودة فإن ذلك الاجتماع أمر مغاير للواجب بنفسه فهو داخل في سائر الموجودات سواه فهو من جملة مصنوعاته
ومما يوضح ذلك أن الاجتماع إذا قدر أمرا مغايرا للأفراد أمرا يحدث بحدوث ما يحدث من الممكنات فكلما حدث ممكن كان له مع سائر الممكنات اجتماع وذلك الاجتماع حادث بحدوثه فإذا قدر أن ما سوى الله حادث فاجتماع وجود الحوادث مع وجود الله وهو أيضا حادث وهو كمعية المخلوقات مع خالقها وهذه المعية ونحوها هو مما يجوز حدوثه باتفاق العقلاء بل هم متفقون على جواز حدوث النسب
(3/220)
والإضافات بين الخالق والمخلوق سواء قيل إنها وجودية أو عدمية ولو قدر أن من الممكنات ما هو قديم أزلي كما يقوله من يقول بقدم شيء من العالم فاجتماع ذلك الممكن مع ذلك الواجب معلول للواجب كما أن الممكن نفسه معلول للواجب والواجب ليس هو بعض ذلك الاجتماع بل هو بعض الأمور المجتمعة إذا كان علة لسائر الأبعاض كان هذا ممكنا وذلك الاجتماع هو بعض آخر الواجب الذي هو بعض الأمور المجتمعة التي منها الاجتماع علة لسائر الأبعاض والاجتماع واحد منها فليس في ذلك امتناع كون بعض الجملة علة لجميع أبعاض الجملة وهذا هو المطلوب انتفاؤه فتبين أن امتناع كون بعض الممكنات علة لجميع الممكنات أعظم مما يتبين امتناع كونه علة لغيره من الممكنات فإن الأول يقتضي كونه علة لنفسه وكون الممكن المفعول المصنوع مبدع نفسه ويخلقها أظهر امتناعا من كونه يخلق غيره بعد وجوده ولهذا قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } سورة الطور 35 فإنه من المعلوم في بدائه الفطر امتناع كونهم حدثوا من غير محدث وامتناع كونهم أحدثوا أنفسهم فعلم أن لهم محدثا أحدثهم
ويقال ثالثا لا نسلم أن المجموع المركب من الواجب والممكن يكون الواجب وحده علة له بل علته الأجزاء جميعها وذلك لأن
(3/221)
المجموع متوقف على كل من الأجزاء الواجب والممكنات فالمجموع من حيث هو مجموع توقفه على كل جزء كتوقفه على الجزء الآخر إذ كان لا يوجد إلا بوجود كل من الأجزاء ثم إذا كان بعض الأجزاء علة لبعض كان المجموع مفتقرا إلى الجزء الواجب وإلى الجزء المفتقر إلى الجزء الواجب ولا يلزم من ذلك أن يكون مجرد الواجب مقتضيا للمجموع بلا واسطة بل لولا الجزء الآخر الممكن لما حصل المجموع فتبين ان الواجب لا يكون وحده علة للمجموع من حيث هو مجموع وإنما يكون علة لسائر الأجزاء وهو وسائر الأجزاء علة للمجموع
نعم يلزم أن يكون علة بنفسه للمكنات وهو بتوسط الممكنات أو مع الممكنات علة للمجموع من حيث هو مجموع ومثل هذا منتف في الأجزاء الممكنة فإنه لا يمكن أن يكون علة للمجموع ى بنفسه ولا بتوسط غيره
أما الأول فلأن الجزء الواجب إذا لم يكن وحده علة للمجموع فالجزء الممكن أولى ولأن المجموع متوقف على جميع الأجزاء قلا يستقل به واحد منها
وأما الثاني فلأن الممكن لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله من العلل ولأن المجموع متوقف على جميع الأجزاء بالضرورة فإن المعلول لا يكون علة علته وإذا امتنع كونه علة لنفسه ولسائر الأجزاء المتقدمة
(3/222)
عليه لم يحصل به وحده هذه الأجزاء والمجموع متوقف على هذه الأجزاء فلا يكون شيء من الأجزاء الممكنة علة للمجموع لا بنفسه ولا بتوسط معلولاته بخلاف الجزء الواجب فإنه إذا قيل عنه إنه علة للمجموع بنفسه وبتوسط معلولاته كان هذا المعنى ممتنعا في الممكن فالمعنى الذي يمكن أن يجعل فيه الواجب علة للمجموع الذي هو واحد منه يمتنع مثله في الممكنات فلا يتصور أن يكون علة للمجموع الذي هو واحد منه وهذا يكشف ما في الاعتراض من التلبيس والغلط
الوجه الرابع أن يقال لا نسلم أن الواجب علة للمجموع من حيث هو مجموع بل الواجب علة للممكنات من الأجزاء والآحاد علة للمجموع ومثل هذا لا يمكن أن يقال في مجموع العلل الممكنة ولا في مجموع الممكنات فإنه لا يمكن أن يكون شيء منها علة لسائر الأجزاء إذ كل منها معلول لا يكون علة لنفسه ولا لعلله وإذا كان كل من الأجزاء معلولا والمجموع معلول الآحاد كان المجموع أولى بأن يكون معلولا
الوجه الخامس أن يقال في إبطال هذا الاعتراض نحن إنما ذكرنا هذه الحجة لإثبات أن يكون في الوجود واجب بنفسه فإما أن يكون في الموجودات واجب بنفسه وإما أن لا يكون فإن كان فيها واجب بنفسه حصل المقصود وإن لم يكن فيها واجب بنفسه بطل الاعتراض
(3/223)
الوجه السادس أن يقال الاعتراض مبناه على أن مجموع الموجودات له علة هو بعضه وهو الواجب فإن لم يكن في المجموع بعض واجب بطل الاعتراض وهذا الاعتراض مذكور على سبيل المعارضة لأنا قد ذكرنا أنا نعلم بالضرورة أن مجموع العلل الممكنة إذا كان له علة كان علة لكل منها وأن العلم بذلك ضروري وبيناه بيانا لا ريب فيه وإذا تبين أن صحة الاعتراض مستلزمة لثبوت واجب الوجود كان واجب الوجود ثابتا على تقدير صحة الاعتراض وعلى تقدير فساده وإذا كان ثابتا على التقديرين تقدير النفي وتقدير الإثبات ثبت أنه ثابت في نفس الأمر وهو المطلوب وهذا بين لمن تأمله ولله الحمد
وهذا الجواب يمكن إيراده على وجوه
أحدها أن يقال إما أن يقدر ثبوت الواجب في نفسه وإما أن يقدر انتفاؤه فإن قدر ثبوته في نفس الأمر حصل المقصود وامتنع أن يكون في نفس الأمر ما ينفي وجوده وإن قدر انتفاؤه لزم بطلان الاعتراض المذكور على دليل ثبوته وإذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على ثبوته سليما عما يعارضه فيجب ثبوت مدلوله وهو الواجب الوجود فلزم ثبوت وجود سواء قدر المعترض ثبوته او قدر اتنفاءه وما
(3/224)
لزم ثبوته على تقدير ثبوته وتقدير انتفائه كان ثابتا في نفس الأمر قطعا وهو المطلوب
فان قيل كيف يمكن تقدير ثبوته مع تقدير انتفائه وفي ذلك جمع بين النقيضين
قيل نعم هذا لان تقدير انتفائه لما كان ممتنعا في نفس الأمر جاز ان يلزمه ما هو ممتنع في نفس الأمر وهذا مما يقرر ثبوته
و ايضا فإذا كان تقدبر انتفائه يستلزم الجمع بين النقيضين كان تقديرا ممتنعا في نفس الأمر ويكون تقدير انتفائه ممتنعا في نفس الأمر و إذا كان انتفاءه ممتنعا كان ثبوته واجبا وهو المطلوب
فإن قيل إذا كان انتفاءه في نفس الأمر ممتنعا قطعا وكان بطلان الاعتراض معلقا بانتفائه لم يلزمه بطلان الاعتراض و اذا صح الاعتراض بطل الدليل المذكور
قلنا تقدير انتقائه هو جزء الدليل على بطلان الاعتراض ليس هو بطلان الاعتراض ومن المعلوم ان انتفاء الدليل لا يوجب انتفاء ول عليه في نفس الأمر فإن الدليل لا يجب عكسه فلو كان انتفاءه بس الأمر وحده دليلا على بطلان الاعتراض لم يلزم صحة الاعتراض بتقدير نقيض هذا الدليل فكيف إذا كان جزء دليل
(3/225)
فإن قيل بطلان جزء الدليل يوجب بطلان الدليل فيبطل ما ذكر من الدليل على فساد الاعتراض
قيل لفظ جزء الدليل مجمل فان أريد بالجزء قسم من الأقسام المقدرة كان هذا باطلا فإنه لا يلزم من بطلان قسم في الأقسام المقدرة بطلان الدليل إذا كان غيره من الأقسام صحيحا وان أريد بجزء الدليل مقدمة من مقدماته فهذا صحيح فإنه إذا بطلت مقدمة الدليل بطل لكن مقدمة الدليل هنا صحيحة فإنها تقسيم دائر بين النفي و الاثبات ومن المعلوم ان التقسيم الدائر بين النقيضين يستلزم بطلان أحد القسمين في نفس الأمر ومقدمة الدليل ليست اجتماع النقيضين فإن هذا ممتنع وانما هي صحة التقسيم إلى النفي و الاثبات
والمقدمة الثانية بيان حصول المطلوب على كل من التقديرين فإذا كان التقسيم دائرا بين النفي و الاثبات والمطلوب حاصل على كل منهما ثبت حصوله في نفس الأمر وان كان أحد القسمين منتفيا في نفس الأمر فإن المطلوب حاصل على التقدير الآخر فلا يضر انتفاء هذا التقدير وانما ذكرت هذه التقديرات ليتبين ان ما ذكره المعترض لا يقدح في صحة الدليل المذكور على واجب الوجود بل الدليل صحيح على تقدير النقيضين وهذا من احسن الدورات في النظر والمناظرة لابطال الاعتراضات الفاسدة بمنزلة عدو قدم يريد محاربه
(3/226)
الحجيج وهناك عدة طرق يمكن ان ياتي من كل منها فإذا وكل بكل طريق طائفة يأخذونه كان من المعلوم ان الذي يصادفه طائفة ولكن ارسال تلك الطوائف ليعلم انه منع المحذور على كل تقدير إذ كان من الناس من هو خائف ان يأتي من طريقة فيرسل اليه من يزيل خوفه ويوجب امنه
ويمكن ايراد الجواب على وجه اخر هو ان يقال إما ان يقدر فساد هذا الاعتراض في نفس الأمر و اما ان يقدر صحته فإنه لا يخلو من أحدهما وذلك انه إما ان يكون مفسدا للدليل المذكور على بطلان تسلسل المؤثرات و اما ان بكون مبطلا مفسدا فإن لم بكن مفسدا للدليل لفساده في نفسه ثبت صحة الدليل وهو المطلوب
و ان كان مفسدا للدليل فلا يفسده إلا إذا كان متوجها صحيحا وألا فالاعتراض الفاسد لا يفسد الدليل و اذا كان متوجها صحيحا لزم ثبوت واجب الوجود فانه لا يصح ان لم يكن مجموع الموجودات فيها واجب و اذا صح ان فيها واجبا حصل المقصود فيلزم ثبوت الموجود الواجب على تقدير صحته وفساده
ويمكن ايراد الجواب على صورة ثالثة وهو ان يقال إما ان يقدر ان في الموجودات ما هو واجب بنفسه و اما ان لا يكون فان كان فيها
(3/227)
واجب بنفسه حصل المقصود وان لم يقدر ان فيها ما هو واجب بنفسه لم يكن لها مجموع يكون جزء علة له فبطل الاعتراض
واذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على واجب الوجود مستلزما لمدلوله وهو الموجود الواجب فيلزم ثبوت واجب الوجود
واصل الغلط في هذا الاعتراض الذي يظهر به الفرق ان التقدير المستدل به قدر فيه امور ليس فيها موجود بنفسه بل كل منها مفتقر إلى غيره واجتماعها أيضا مفتقر فليس هناك إلا فقير محتاج والتقدير المعترض به قدر ان موجودا واجبا بنفسه معه ممكنات موجودة به ولكن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية يفتقر إلى بعض الجملة وذلك البعض هو واجب بنفسه فهنا في الجملة واحد واجب بنفسه هو علة لسائر الاجزاء وللمجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية وتلك ليس فيها واجب بنفسه بل كان من الأجزاء والمجموع ممكن بنفسه فكيف يجعل افتقار هذا إلى خارج عنه كافتقار ذاك إلى خرج عنه والهندي لم يجب عليه
(3/228)
فان قيل فقد قدرتم عدم وجوب واجب الوجود فكيف الوجود فكيف يكون موجودا بتقدير عدمه لما ذكرتم من الدليل
قلنا لان التقدير الممتنع قد يستلزم امرا موجودا واجبا وجائزا كما قد يستلزم امرا ممتنعا لان التقدير هو شرط مستلزم للجزاء والملزوم يلزم من تحققه اللازم ولا يلزم من انتفائه انتفاء اللازم
وهذا كما لو قيل لو جاز ان يحدث اجتماع الضدين لافتقر إلى محدث بل قد يكون اللازم ثابتا على تقدير النقيضين كوجود الخالق مع كل واحد من مخلوقاته فإنه موجود سواء كان موجودا او لم يكن
وحينئذ فيجوز ان يكون التقدير الممتنع وهو تقدير عدم الواجب يستلزم وجوده كما يكون التقدير الممكن فإذا قدر عدمه لزم بطلان الاعتراض المذكور وذلك يستلزم سلامة الدليل عن المعارض والدليل يستلزم وجوده
وايضا فان تقدير عدمه ممتنع في نفس الأمر والتقدير الممتنع قد يستلزم امرا ممتنعا فاستلزم تقدير عدمه الجمع بين النقيضين وهو ثبوت وجوده مع ثبوت عدمه وهذا ممتنع فعلم ان تقدير عدمه ممتنع وهو المطلوب وعلم انه لا بد من وجوده وان قدر في الاذهان عدم وجوده فتقدير عدمه في الاذهان لا يناقض وجوده في الخارج وقد ثبت وجوده فلا بد من وجوده على كل تقدير وبهذا وغيره يظهر
(3/229)
الجواب عن اعتراضه على سائر ما ذكروه من التقديرات في احتياج مجموع الممكنات إلى واجب خارج عنها
ونحن نبين ذلك
قوله لا يقال بان مجموع تلك السلسة ممكن وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه وذلك المجموع مفتقر إلى علة خارجة عنه لانا نقول لا نسلم ان كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقار إلى الممكن وليس إلى علة خارجة عنه
والجواب عن هذا ان يقال قول القائل كل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه قضية بديهة ضرورية بعد تصورها فان المعنى بالممكن مالا يوجد بنفسه بل لا بد له من موجد مقتض سواء سمى فاعلا او علة فاعلة او مؤثرا و اذا كان كذلك فإذا كان المجموع ممكنا لا يوجد بنفسه لم يكن له بد من موجد يوجده وقد علم ان المجموع لا يوجد بنفسه إذ لو كان كذلك لكان واجبا بنفسه
ومن المعلوم بالضرورة ان المجموع الذي هو الأفراد واجتماعها إذا لم يكن موجدا مقتضيا فبعض المجموع اولى ان لا يكون مقتضيا موجدا
(3/230)
فإنه من المعلوم ببدائه العقول ان المجموع إذا لم يجز ان يكون موجدا ولا مقتضيا ولا فاعلا ولا علة فاعلة فبعضه اولى ان لا يكون كذلك فإن المجموع يدخل فيه بعضه فإذا كان بجميع ابعاضه لا يكفي في الاقتضاء والفعل و الايجاد فكيف يكفي بعضه في ذلك
وهذا دليل مستقل في هذا المقام وهو ان المجموع إذا لم يكن علة فاعلة بل هو معلول مفتقر فبعضه اولى ان لا يكون علة فاعلة بل معلول مفتقر فعلم ان مجموع الممكنات إذا كان مفتقرا إلى المؤثر فكل من ابعاض المجموع اولى بالافتقار إلى المؤثر فتبين ان كل ممكن ومجموع الممكنات مفتقر إلى المؤثر وهو المطلوب ولله الحمد والمنة
واما قول المعترض لا نسلم ان كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة عنه
فيقال له اولا منشأ هذه الشبهة ان لفظ المجموع فيه اجمال يراد به نفسه الهيئة الاجتماعية ويراد به جميع الأفراد ويراد به المجموع والمجموع المركب الذي هو كل واحد واحد من الأفراد لا يفتقر
(3/231)
إلى الممكن فإن منها الواجب وهو لا يفتقر إلى الممكن ولكن الهيئة الاجتماعية إذا قدر ان لها تحققا في الخارج فهي التي يقال انها متوقفة على الممكن وحينئذ فيظهر الفرق بين مجموع الممكنات ومجموع الموجودات فإن مجموع الممكنات هو نفس الهيئة الممكنة وكل من الأفراد ممكن والمجموع المتوقف على الممكن اولى بالإمكان و اما مجموع الموجودات فليس كل منها ممكنا بل منها الواجب فليس المجموع ممكنا بمعنى ان كل واحد منها ممكن فظهر الفرق
وحينئذ فيقال له هذا باطل من وجوه
أحدهما ان يقال انت قد قلت في الاعتراض على الدليل الأول ان الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وقلت هنا ان المجموع مفتقر إلى الممكن فإن كان معلول الواجب يجب استغناؤه عن الممكنات بطل اعتراضك الأول وصح الدليل الأول لانه حينئذ لا يكون المجموع مستغنيا بالواجب بل هو محتاج إلى الممكنات فلا يكون الواجب علة للمجموع إلا مع اقتضائه لجميع الممكنات ثم هو مع الممكنات إما المجموع و اما علة المجموع ومثل هذا منتف في مجموع الممكنات فإن الواحد منها لا يجوز ان يكون علة لسائرها إذ ليس علة لنفسه ولا لعلته وعلة علته و اذا لم يكن في الممكنات إلا ما هو
(3/232)
معلول لم يكن فيها ما يوجب سائرها فلم يكن فيها ما يصلح ان يكون علة للمجموع بوجه من الوجوه
وان قلت ان معلول الواجب يجب استغناؤه عن الممكنات سواء اقتضاه بوسط او بغير وسط وانه لما كان الواجب مقتضيا للوسط كانت الحاجة في الحقيقة إلى الواجب والغنى به إذ كان هو مبدع الممكنات التي هي لغيرها شروط او وسائط او علل او ما قيل من الامور
فيقال لك على هذا التقدير فمجموع الموجودات التي فيها الواجب بنفسه ليس مفتقرا إلى شيء من الممكنات بل افتقاره إلى الواجب وحده فبطل اعتراضك على هذا الدليل الثاني واي الدليلين صح حصل المقصود
وتلخيص هذا الجواب ان مجموع الموجودات من حيث هو مجموع ان قال هو معلول الواجب وحده او بوسط بحيث لا يقال مفتقر إلى غيره بطل هذا الاعتراض وهو كونه مفتقرا إلى الممكن
وان قال هو معلول الواجب لكون الممكن معلول الواجب وهو معلول الممكن والواجب كان هذا مفسدا لاعتراضه على الدليل الأول لكون مجموع الممكنات لا يكون معلولا لواحد منها بوجه من الوجوه
(3/233)
الوجه الثاني ان يقال قولك لا نسلم ان كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة لان المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة غلط
وذلك ان لفط الممكن فيه اجمال
قد يراد بالممكن ما ليس بممتنع فيكون الواجب بنفسه ممكنا ويراد بالممكن ما ليس بموجود مع إمكان وجوده فيكون ما وجد ليس بممكن بل واجب بغيره ثم ما يقبل الوجود والعدم هو المحدث عند جمهور العقلاء بل جميعهم وبعضهم تناقض فجعله يعم المحدث والقديم الذي زعم انه واجب بغيره
ويراد بالممكن ما ليس له من نفسه وجود بل يكون قابلا للعدم هو وكل جزء من اجزائه
وانت قد سميت مجموع الموجود ممكنا ومرادك ان المجموع يقبل العدم ولا يقبله كل جزء من اجزائه
وهؤلاء الذين قالوا ان مجموع الممكنات او مجموع العلل الممكنة ممكن مرادهم ان كل كا ما كان لا يقبل الوجود بنفسه بل يكون قابلا للعدم بنفسه وكل جزء من اجزائه قابل للعدم يفتقر
(3/234)
إلى علة خارجة عنه وهذا هو المفهوم عند اطلاقهم من الممكن بنفسه المفتقر إلى علة خارجة فان الممكن بنفسه مالا يوجد بنفسه أي نفسه قابلة للعدم
وهذا لا يكون عند وجوب بعضها فإن القابل للعدم حينئذ إنما هو بعض نفسه لا جملة نفسه فغلطك او تغليطك حصل مما في لفظ الممكن بنفسه من الاجمال
و الادلة العقلية إنما يعترض على معانيها فإن كنت أوردت هذا سؤالا لفظيا كان قليل الفائدة وان كان سؤالا معنويا كان باطلا في نفسه والقوم لما قالوا الموجود إما ان يكون واجبا بنفسه و اما ان يكون ممكنا بنفسه جعلوا الوجود منحصرا في هذين القسمين أي جعلوا كل واحد واحد من الموجودات منحصرا في هذين القسمين
و اما الجملة الجامعة لهذا وهذا فهي جامعة للقسمين ومرادهم بالممكن في أحد القسمين ما يكون كل شيء منه لا يوجد إلا بشيء منفصل عنه ومرادهم بالواجب بنفسه ما لا يفتقر إلى مباين له بوجه من الوجوه
ومن المعلوم أن الأول مفتقر إلى مقتض خارج عنه وأن مجموع تلك الممكنات ممكن مفتقر إلى ما هو مفتقر إلى مقتض مباين له
والمفتقر إلى المفتقر المباين له أولى أن يكون مفتقرا إلى المباين وأما
(3/235)
الثاني فلا يجوز أن يكون مفتقرا إلى مباين له وأما افتقاره إلى نفسه أو جزئه فهذا لا ينافي كونه غنيا عما يباينه
وحينئذ فمجموع الموجودات التي بعضها واجب وبعضها ممكن ليس هو من الممكن بهذا التفسير بل هو من الواجب لعدم افتقاره إلى مباين له
وإذا قيل إن المجموع واجب بنفسه لكونه واجبا بما هو واجب بنفسه أو قيل هو واجب بنفسه وأريد بذلك أن فيه ما هو واجب بنفسه و سائره مستغن بذلك الواجب بنفسه فالمجموع واجب ببعضه والواجب ببعضه يدخل بهذا الاعتبار في الواجب بنفسه تبين مغلطة المعترض
وقيل له قولك المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن أتعنى به أنه مفتقر إلى أمر مباين أم تعنى به أنه مفتقر إلى بعضه
أما الأول فباطل وأما الثاني فحق ولكن إذا قيل إن مجموع الممكنات التي كل منها مفتقر إلى مباين للمجموع هو أيضا ممكن
(3/236)
مفتقر إلى مباين لهذا المجموع لم يعارض هذا بمجموع الموجودات فإن مجموع الموجودات لا يصح أن يكون ممكنا بمعنى أنه مفتقر إلى مباين له إذ ليس في أجزائه ما هو مفتقر إلى مباين للمجموع فإذا كان هو متوقفا على آحاده وليس في آحاده ما هو متوقف على أمر مباين له لم يجب أن يكون هو متوقفا على أمر مباين له
وأيضا فمن المعلوم بالضرورة أن مجموع الموجودات لا يتوقف على أمر مباين له إذ المباين لمجموع الموجودات ليس بموجود ومجموع الموجودات لا يكون معلولا لأمر غير موجود بخلاف مجموع الممكنات فإنه يكون معلولا لأمر غير ممكن فكيف بقاس أحدهما بالآخر أم كيف يعارض هذا بهذا ويقال إذا كان مجموع الموجودات لا يفتقر إلى أمر خارج عنها ليس بموجود فكذلك يجوز أن يكون مجموع الممكنات لا يفتقر إلى أمر خارج عنها ليس بممكن
وهل هذا إلا بمنزلة من قال إذا كان مجموع الموجودات لا تفتقر في وجودها إلى ما ليس بموجود فمجموع المعدومات لا تفتقر في وجودها إلى ما ليس بمعدزم وهل هذا إلا مجرد مقايسة لفظية مع فرط التباين في المعنى
وهل يقول عاقل إن الموجود الواجب بنفسه والموجود الذي
(3/237)
وجب بغيره إذا لم يحتج إلى معدوم فالمعدوم الذي لم يجب بنفسه ولا بغيره يكون موجودا بأمر معدوم والممكن ليس له من نفسه وجود بل لا وجود له إلا من غيره سواء قيل إن عدمه لا يفتقر إلى علة أو قيل إن عدمه لعدم مقتضيه فمجموع الممكنات التي ليس فيها ما وجوده بنفسه لا تكون إلا معدومة وكل منها لا يكون موجودا إلا إذا كان وجوده بغيره سواء سمى هو معلولا لغيره أو مفعولا لغيره كيف تكون موجودة بغيرها
ونكتة هذا الجواب أن لفظ الممكن يراد به الممكن بالإمكان الذي توصف به الممكنات المفتقرة إلى مقتض مباين فيلزم أن لا يكون لها ولا لشيء منها وجود بوجه من الوجوه إلا من المباين وأما الإمكان الذي وصف به مجموع الموجودات فمعناه أن ذلك المجموع لم يجب إلا بوجوب ما هو داخل فيه فبعض ذلك المجموع واجب بنفسه فلا يكون ذلك المجموع مفتقرا إلى مباين له
ويتضح هذا بالوجه الثالث وهو أنا نقول ابتداء كل موجود فإما أن يكون وجوده بأمر مباين له وإما أن لا يكون وجوده بأمر مباين له وكل ما كان وجوده بأمر مباين له لا يكون موجودا إلا بوجود ما
(3/238)
يباينه ومجموع الممكنات لا توجد إلا بمباين لها فلا يوجد شيء منها إلا بمباين لها وبعضها ليس بمباين لها فلا يوجد ببعضها بخلاف مجموع الموجودات فإنها لا تفتقر إلى مباين لها وإنما تفتقر إلى بعضها
وحينئذ فإذا صيغت الحجة هذه على هذا الوجه تبين أنه لا بد من موجود مباين للممكنات خارج عنها وهو المطلوب وأن مجموع الموجودات لا بد لها من موجود هو بعضها فوجد به مجموعها وحينئذ فيلزم ثبوت واجب الوجود على التقديرين فكان ما ذكروه من الاعتراض دليلا على إثبات واجب الوجود لا على نفيه فصل
واعلم أن هؤلاء غلطوا في مسمى واجب الوجود وفيما يقتضيه الدليل من ذلك حتى صاروا في طرفي نقيض فتارة يثبتونه ويجردونه عن الصفات حتى يجعلوه وجودا مطلقا ثم يقولون هو الوجود الذي في الموجودات فيجعلون وجود كل ممكن وحادث هو الوجود الواجب
(3/239)
بنفسه كما يفعل ذلك محققة صوفيتهم كابن عربي وابن سبعين و القونوي و التلمساني وأمثالهم
وتارة يشككون في نفس الوجود الواجب ويقدرون أن يكون كل موجود ممكنا بنفسه لا فاعل له وأن مجموع الوجود ليس فيه واجب بنفسه بل هذا معلول مفعول وهذا معلول مفعول وليس في الوجود إلا ما هو معلول مفعول فلا يكون في الوجود ما هو فاعل مستغن عن غيره فتارة يجعلون كل موجود واجبا بنفسه وتارة يجعلون كل موجود ممكنا بنفسه
ومعلوم بضرورة العقل بطلان كل من القسمين وأن من الموجودات ما هو حادث كان تارة موجودا وتارة معدوما وهذا لا يكون واجبا بنفسه وهذا لا بد له من موجود واجب بنفسه
ومن غلطهم في مسمى واجب الوجود أنهم لم يعرفوا ما هو الذي قام عليه الدليل والذي قام عليه الدليل أنه لا بد من واجب بنفسه لا يحتاج إلى شيء مباين له فلا يكون وجوده مستفادا من أمر مباين له بل وجوده بنفسه وكون وجوده بنفسه لا ينفي أن يكون موجودا بنفسه وأن يكون ما دخل في مسمى نفسه من صفاته لازما له فالدليل دل على أنه لا بد للممكنات من أمر خارج عنها يكون
(3/240)
موجودا بنفسه فلا يكون وجوده بأمر خارج عنه وحينئذ فاتصافه بصفاته سواء سمى ذلك تركيبا أو لم يسم لا يمنعه أن يكون واجبا بنفسه لا يفتقر إلى أمر خارج عنه ولهذا كانت صفاته واجبة الوجود بهذا الاعتبار وإن لزم من ذلك تعدد مسمى واجب الوجود بهذا المعنى بخلاف ما إذا عني به أنه الموجود الفاعل للممكنات فإن هذا واحد سبحانه لا شريك له
وأما إذا عني به الموجود بنفسه القائم بنفسه فالصفات اللازمة تكون ممكنة لكن هذا يقتضي أن يكون في الممكنات ما هو قديم أزلي وهذا باطل كما قد بسطناه في موضع آخر
الوجه الثالث أن يقال قولك المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن ممنوع بأن يقال ليس المجموع إلا الأفراد الموجودة في الخارج والمجموع هو جميع تلك الأفراد وتلك الأفراد بعضها واجب وبعضها ممكن والجميع ليس هو صفة ثبوتية قائمة بالأفراد وإنما هو أمر نسبي إضافي كالعدد الموجود في الخارج فليست جملته غير آحاده المعنية ومعلوم أن الجملة ليست هي كل واحد من الآحاد بعينه لكن هي الآحاد جميعها فالآحاد
(3/241)
جميعها هي الجملة والمجموع وهذا لا حقيقة له غير الآحاد والآحاد بعضها واجب وبعضها ممكن
يبين ذلك أنه قد قال بعد هذا إن جملة الأمور التي يتوقف عليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منها ولا خارجا عنه فهي نفس المجموع
فإن قال بل المجموع هو الهيئة الاجتماعية الحاصلة باجتماع الواجب والممكن وتلك ممكنة لتوقفها على غيرها
قيل تلك النسبة ليست أعيانا قائمة بأنفسها ولا صفات ثبوتية قائمة بالأعيان بل أمر نسبي إضافي سواء كانت نسبة عدمية أو ثبوتية إذا قيل هي ممكنة لم يضر فإن الواجب الذي هو واحد من المجموع موجب لسائر الممكنات وتلك النسبة من الممكنات ولا يكون جزء المجموع موجبا للمجموع بمعنى أنه موجب لكل واحد من الأفراد فإن هذا يقتضي أن يكون موجبا لنفسه وهو ممتنع بل بمعنى أنه موجب لما سواه وللهيئة الاجتماعية وهذا صحيح
(3/242)
أو يقال هو موجب لما سواه و الهيئة الاجتماعية إن كانت ثبوتية فهي ممكنة من جملة الممكنات التي هي سواه وان كانت عدمية فالأمر ظاهر
الوجه الرابع أن يقال مجموع الموجودات إما أن يكون فيها واجب بنفسه واما أن لا يكون أي إما أن يقدر ذلك وإما أن لا يقدر فان قدر فيها واجب بن ثبت ووجوب الواجب بنفسه وهو المطلوب وان لم يقدر ذلك بطلت هذه الحجة وقد تقدم تقرير هذا الكلام
وأما الدليل الثالث على إبطال التسلسل وهو قولهم ان جملة ما يفتقر اليه المجموع إما أن يكون نفس المجموع أو داخلا فيه أو خارجا عنه
و الأول محال وألا لكان الشيء علة نفسه
والثاني محال وألا لكان بعض أجزائه كافيا في المجموع
والثالث حق
فقد اعترض عليه بقوله قلنا إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة الامور التي يصدق على كل واحد منها أنه مفتقر اليه فلم قلتم بأنه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع والذي يدل عليه أن جملة الأمور التي يفتقر إليه الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع
(3/243)
وإن أردتم العلة الفاعلية فلم قلتم أنه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع
والجواب عنه من وجوه
أحدها أن نقول العلم بكون مجموع المعلولات الممكنة معلولا ممكنا أمر معلول بالاضطرار فإن المجموع مفتقر إلى المعلولات الممكنة والمفتقر إلى المعلول أولى أن يكون معلولا وحينئذ فما أورده من القدح في تلك الحجة لا يضر إذ كان قدحا في الضروريات فهو من جنس شبه السوفسطائية
الوجه الثاني أن مجموع المعلولات الممكنة إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا فالمقتضي له إما نفسه أو جزؤه أو أمر خارج عنه
أما كون مجموع المعلولات الممكنات واجبا بنفسه فهو معلوم الفساد بالضرورة لأن المجموع إما كل واحد واحد من الأفراد وإما الهيئة الاجتماعية وإما مجموعهما وكل من ذلك ممكن
فإذا ليس الأفراد ممكنة وكل منها معلول ولو قدر ما لا غاية له
(3/244)
والمعلول من حيث هو معلول لا بد له من علة فكل منها لا بد له من علة وتعاقب معلولات لا تتناهى لا يمنع أن يكون كل منها محتاجا إلى العلة فإذا لم يكن ثم مجموع إلا هذه الآحاد التي كل منها معلول محتاج لزم أن لا يكون في الوجود إلا ما هو معلول محتاج ومن المعلوم بالضرورة أن المعلول المحتاج لا يوجد بنفسه
فعلى هذا التقدير لا يكون في الوجود ما يوجد بنفسه وما لا يوجد بنفسه لا يوجد إلا بموجد والموجد إذا لم يكن موجودا بنفسه كان مما لا يوجد بنفسه فلا يوجد فيلزم أن لا يوجد شيء وقد وجدت الموجودات فيلزم الجمع بين النقيضين وهو أن لا يكون شيء من الموجودات موجودا إذا قدر أنه ليس فيها شيء موجود بنفسه وهي كلها موجودة فلا بد من غير موجود بنفسه فيكون الموجود موجودا بنفسه غير موجود بنفسه وهو جمع بين النقيضين
الوجه الثالث أن يقال أردنا بجملة ما يفتقر إليه المجموع العلة الفاعلة فإن الكلام إنما هو في إثبات الفاعل لمجموع الممكنات ليس هو فيما هو أعم من ذلك قوله إن أردتم العلة الفاعلة التامة فلم قلتم إنه يستلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع
فيقال قلنا ذلك لأنه إذا وجدت العلة الفاعلة التامة لزم وجود المعلول فإنا إنما نعني بالعلة مجموع ما يلزم من وجوده وجود المعلول فإن الممكن لا يوجد حتى يحصل المرجح التام المستلزم لوجوده فإذا
(3/245)
كان الفاعل فاعلا باختياره فلا بد من القدرة التامة والإرادة الجازمة فلا يحصل الممكن بدون ذلك ومتى وجد ذلك وجب حصول المفعول الممكن فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ الله امتنع وجوده فإن حصل للممكن المؤثر التام وجب وجوده بغيره وإن لم يحصل امتنع وجوده لانتفاء المؤثر التام فوجوده لا يحصل إلا بغيره وأما عدمه فقد قيل إنه أيضا لا بد له من علة وهو قول ابن سينا وأتباعه المتأخرين الذين يقولون إن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وقيل لا يحتاج عدمه إلى علة وهو قول نظار السنة المشهورين كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي والقاضي أبي يعلي وابن عقيل وهو آخر قولي الرازي فإنه يقول بقول هؤلاء تارة وهؤلاء تارة لكن هذا آخر قوليه فإن العدم عندهم لا يفتقر إلى علة وإذا قيل عدم لعدم علته فمعناه أن عدم علته مستلزم لعدمه لا أنه هو الذي أوجب عدمه بل إذا عدمت علته علمنا أنه معدوم فكان ذلك دليلا على عدمه لا أن أحد العدمين
(3/246)
أوجب الآخر فإن العدم لا تأثير له في شيء أصلا بل عدمه يستلزم عدم علته وعدم علته يستلزم عدمه من غير أن يكون أحد العدمين مؤثرا في الآخر
وأما وجوده فلا بد له من المؤثر التام وإذا حصل المؤثر التام وجب وجوده وإلا امتنع وجوده
ولهذا تنازع الناس في الممكن هل من شرطه أن يكون معدوما فالذي عليه قدماء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين كابن رشد وغيره حتى الفارابي معلمهم الثاني فإن أرسطو معلمهم الأول وحتى ابن سينا وأتباعه وافقوا هؤلاء أيضا لكن تناقضوا وعليه جمهور نظار أهل الملل من المسلمين وغيرهم أن من شرطه أن يكون معدوما وأنه لا يعقل الإمكان فيما لم يكن معدوما
وذهب ابن سينا وأتباعه إلى أن القديم الموجود بغيره يوصف بالإمكان وإن كان قديما أزليا لم يزل واجبا بغيره لكنه قد صرح هو وأصحابه في غير موضع بنقيض ذلك كما قاله الجمهور وقد ذكرت بعض ألفاظه في كتابه المسمى بالشفاء في غير هذا الموضع وأصحابه الفلاسفة المتبعين لأرسطو وأصحابه مع الجمهور أنكروا ذلك عليه وقالوا إنه خالف به سلفهم كما خالف به جمهور النظار وخالف به ما ذكره هو مصرحا به في غير موضع
(3/247)