نقد نسبة التفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية إلى ابن تيمية
(مسألة الاستغاثة أنموذجاً)
سلطان العميري 16/10/1429
15/10/2008
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى
آله وصحبه.. أما بعد:
فََقد سبق لي أن حررت رأي ابن تيمية في حكم المستغيثين بالقبور وتحصل لي أن ابن تيمية يعذر بالجهل في هذه المسألة وقرر أن من استغاث بالقبور وهو جاهل أو متأول فأنه يُعذر بالجهل، ولا يرتفع عنه وصف الإسلام باستغاثته بالقبور ما دام وصف الجهالة ثابت له.
ومع هذا فقد فهِم بعض الناظرين في كلام ابن تيمية أنه لا يعذر بالجهل في الاستغاثة بالقبور فقرروا أنه يحكم على كل من استغاث بالقبور بأنه كافر كفرا أكبر ولا يستثني من ذلك إلا من كان حديث عهد بكفر، أو من كان في بلاد الكفر أو من كان يعيش في بلاد بعيدة عن مواطن العلم وهم إنما نصوا على استثناء هذين الصنفين؛ لأن ابن تيمية يذكرهما كثيرا حين يذكر من يعذر بالجهل، وأما من عدا هؤلاء فإنه لا يتصور فيه أن يكون جاهلا بحكم هذه المسألة، واستند هؤلاء في نسبة هذا القول إلى ابن تيمية إلى أن الاستغاثة بالقبور من المسائل الظاهرة وابن تيمية لا يعذر بالجهل في مثل هذه المسائل وحملوا النصوص التي تدل على أنه يعذر بالجهل على المسائل الخفية فقط فقالوا: إن النصوص التي فيها إطلاق القول بالكفر على القول دون القائل في كلام ابن تيمية محمولة على أصحاب البدع الخفية كبدع المرجئة والمعتزلة وغيرهم وأما دعاء الأموات والاستغاثة بهم فهي لا تدخل في كلامه لأنها من المسائل الظاهرة في دين الله تعالى وما كان من قبيل هذه المسائل فإنه لا يعذر فيه أحد بالجهل ولا بالتأويل.
وممن قرر هذا الفهم الشيخ أبو بطين وغيره من أئمة الدعوة كسليمان بن سحمان وإسحاق بن عبد الرحمن وحمد بن عتيق والشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض كلامه وغيرهم.(1/1)
وسنقتصر هنا على ما ذكره الشيخ عبد الله أبو بطين لأنه من أوسع وأصرح مَن تكلم على هذه المسالة، ومِن أكثر مَن نقل عن ابن تيمية الكلام في تقرير التفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية وسنذكر من كلام غيره ما لا يوجد في كلامه.
وفي نسبة القول بالتفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية في الإعذار بالجهل إلى ابن تيمية يقول أبو بطين عن ابن تيمية :"فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة فقال في المقالات الخفية التي هي كفر "قد يقال إنه مخطئ ظالم لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها" ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة بل قال تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأمور فكانوا مرتدين فحكم بردتهم مطلقا ولم يتوقف في الجاهل" (1) وقال أيضا في معرض بيانه لمعنى كلام ابن تيمية في العذر بالجهل:"فهو لم يقل ذلك في الشرك الأكبر وعبادة غير الله ونحوه من الكفر وإنما قال ذلك في المقالات الخفية " (2) .
وقد اعتمدوا في نسبة هذا القول إلى ابن تيمية على نوعين من كلامه:
النوع الأول: النصوص التي يمكن أن يفهم منها التفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية في الإعذار بالجهل ومن ذلك:(1/2)
1 - قول ابن تيمية:"وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين بل اليهود والنصارى يعلمون: أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك ؛ فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك. ثم تجد كثيرا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور فكانوا مرتدين" (3) فهذا النص من أهم النصوص التي اعتمدوا عليها في نسبة القول بالتفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية إلى ابن تيمية.
2- ومن ذلك أيضا قوله:"وفي الحقيقة فكل رد لخبر الله أو أمره فهو كفر دقّ أو جلّ لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم وكان أمرا يسيرا في الفروع بخلاف ما ظهر أمره وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر " (4) وهناك نصوص أخرى سيأتي ذكرها في المناقشة.
والنوع الثاني: النصوص التي أطلق فيها ابن تيمية بأن من فعل كذا فهو كافر أو مرتد أو مشرك من غير استثناء للجاهل ومن ذلك قوله:"من لم يعتقد وجوب الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الفواحش والظلم والشرك والإفك: فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل باتفاق أئمة المسلمين، ولا يغني عنه التكلم بالشهادتين" (5).(1/3)
قالوا فابن تيمية في هذه النصوص أطلق القول بأن من فعل أمور الشرك فهو كافر ولو كان يرى أن الجاهل معذور في مثل هذه المسائل لنص على استثنائه وفي هذا يقول أبو بطين -رحمه الله- معلقا على كلام لابن تيمية فيه الحكم على من دعى الملائكة بالكفر:" فانظر قوله "فهو كافر بإجماع المسلمين" فجزم بكفر من هذه حاله وأنه إجماع المسلمين ولم يقل في هذا الموضع لم يمكن تكفيره ذلك حتى يبين له ما جاء به الرسول وقوله:" فمن جعل وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب قتله"فجزم بكفره قبل الاستتابة" (6).
وهم لما قرروا أن ابن تيمية يفرق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية أرادوا أن يبينوا الفرق بينهما عنده فقرروا أن المسائل الظاهرة هي: المسائل المعلومة من الدين بالضرورة والمسائل الجلية الظاهرة التي يتناقلها كل المسلمين وقد مثّل أبو العلا الراشد لها فذكر مسائل الألوهية وترك الشرك كالاستغاثة بالقبور وغيرها وكالشرائع الظاهرة كالصلوات الخمس والزكاة والحج وما استفاض حكمه (7).
وقرروا أن المسائل الخفية هي : المسائل غير المعلومة من الدين بالضرورة لخفائها وعدم انتشارها ومثل لها أبو العلا بمسائل الأسماء والصفات التي وقع فيها الخلاف بين المسلمين كالاستواء والرؤية وكالخلاف في مسألة الإيمان.. (8).
والنتيجة الضرورية لهذا التقرير أن ابن تيمية لا يعذر المستغيث بالقبور بالجهل وأن كل من استغاث بالقبور كافر كفرا أكبر ولا يعذر بجهله؛ لأنه خالف في مسألة ظاهرة ولا يستثنى من ذلك إلا حديث العهد بالكفر أو من كان يعيش في مكان بعيد عن ديار المسلمين كما قالوا.(1/4)
ونتيجة لهذا فقد نصوا على أن قاعدة التفريق بين حكم القول وحكم القائل خاصة بالمخالف في المسائل الخفية فقط وأما المسائل الظاهرة فلا تنطبق عليها هذه القاعدة وفي هذا يقول الشيخ ابن سحمان وغيره في معرض ردهم على بعض المخالفين:"وأما قوله: نقول بأن القول كفر، ولا نحكم بكفر القائل; فإطلاق هذا جهل صرف؛ لأن هذه العبارة لا تنطبق إلا على المعين، ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة، إذا قال قولا يكون القول به كفرا ، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين، إذا قال ذلك لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وهذا في المسائل الخفية، التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أمورا كفرية، من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفرا، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل"الدرر (10/432) .
ومما ينبغي أن ينبه عليه هنا هو أن تقرير المانعين من الإعذار بالجهل في الاستغاثة بالقبور قد اختلفت عباراتهم في تحديد المناط الذي تسبب في المنع فمنهم من قرره بناءً على أن الاستغاثة تعتبر من المسائل الظاهرة في دين الله تعالى والمسائل الظاهرة لا يعذر فيها بالجهل ومنهم من قرره بناءً على أن العلم بحكم هذه المسألة قد انتشر بعد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وبلغ حكمها الناس، فلا يقبل قول من قال إنه يجهل حكمها وهذا التقرير يدل عليه بعض عبارات الشيخ عبد اللطيف وكذلك قرر هذا التقرير بعض المعاصرين فقال: إن وسائل العلم قد انتشرت في هذا العصر، فلا يبقى لأحد عذر في الجهل بحكم هذه المسألة ؛ لأنه يمكنه أن يسأل من شاء من العلماء.
ونتيجة كلا التقريرين واحدة وهي أن الجاهل الذي يستغيث بالقبر في هذا العصر لا يعذر بجهله بل يكون كافرا بفعله ذلك.(1/5)
وهذا القول ( التفريق بين المسائل الظاهرة والخفية في الإعذار بالجهل) غير صحيح في نفسه وغير صحيح في نسبته إلى ابن تيمية ويدل على هذا التقرير عدة أمور منها:
الأمر الأول: أن ابن تيمية نص على العذر بالجهل في مسألة الاستغاثة بعينها كما سبق نقل كلامه في البحث السابق مفصلا وكلامه في العذر بالجهل فيها صريح جدا فكيف يحق لنا بعد هذه الصراحة أن نقول إنه لا يعذر فيها بالجهل؟! وها هو ابن تيمية يسأل عمن استغاث بالقبور مع وجود علماء يفتونه فيقول:" وهذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينته وجب قتله كقتل أمثاله من المشركين ولم يدفن في مقابر المسلمين ولم يصلَّ عليه وأما إذا كان جاهلا لم يبلغه العلم ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي صلى الله عليه وسلم المشركين فإنه لا يحكم بكفره ولا سيما وقد كثر هذا الشرك في المنتسبين إلى الإسلام ومن اعتقد مثل هذا قربة وطاعة فإنه ضال باتفاق المسلمين وهو بعد قيام الحجة كافر" (9) فهو في هذا السؤال لم يُسأل عمن هو حديث عهد بكفر أو غيره وإنما سئل عن أناس يعيشون في بلاد المسلمين ولهم علماء يفتونهم –كما هو الحال في عصرنا وغيره من العصور- ومع هذا يجيب بمثل هذا الجواب الصريح في الإعذار بالجهل في مسألة الاستغاثة بالقبور.
فكيف يصح أن نخالف هذا القول الصريح وغيره من الأقوال في الإعذار بالجهل في الاستغاثة بالقبور بناء على ما فهمناه من كلامه العام المطلق؟! وكل أحد يعلم أنه إذا أراد أن يحرر قول عالم ما فإنه سيعتمد أولا على أقواله الخاصة الصريحة في المسألة مع ملاحظة أصوله الكلية أما أن تترك أقواله الصريحة في المسألة المعينة، ويعتمد في تحرير قوله على أقوال أخرى عامة فهذا غير صحيح.(1/6)
الأمر الثاني: أن المسائل التي نصوا على اندراجها في المسائل الظاهرة والتي لا يعذر ابن تيمية فيها بالجهل في قولهم قد نص ابن تيمية في مواطن أخرى بالعذر فيها بالجهل فقد نص على أن الصلاة والزكاة والحج لا يكفر الإنسان بتركها إلا إذا كان عالما بحكمها وفي هذا يقول:"لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" .[النساء:165] وقال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" .[الإسراء:15]ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية" (10) ويقول أيضا :"وأما "الفرائض الأربع" فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم فإن أصروا كفروا حينئذ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك؛ كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل" (11).(1/7)
ومن يتأمل هذا النص يدرك أن المعتبر عند ابن تيمية في انطباق الحكم على المعين هو كونه حين فعل فعله عالما بحكم ما فعل، أما إذا فعل شيئا وهو جاهل بحكمه فإنه لا ينطبق عليه حكم ما فعل ومثّل على ذلك بمن أنكر وجوب الصلوات أو الزكاة، أو اعتقد أن الخمر ليست حراما كما حصل من بعض الصحابة وهذا يدل على أن الحكم ليس خاصا بمن هو حديث عهد بكفر كما قاله بعضهم ؛ لأن الصحابة لم يكونوا حدثاء عهد بكفر كما هو معلوم .
وهذا النص من ابن تيمية يدل على عدة أمور مهمة وهي:
1- أن الجهل والتأويل سواء في الإعذار ولهذا ذكرهما في سياق واحد.
2- أن الإعذار بالجهل والتأويل ليس خاصا بمن هو حديث عهد بكفر أو نحوه وإنما هو عام لكل من تحقق في الجهل المعتبر والتأويل المعتبر.
3- أن ابن تيمية لا يكفر الجاهل والمتأول إذا فعلا ما هو كفر أو شرك بل يثبت له الإسلام وهذا فيه رد على من يقول إنه لا يكفره، ولكنه أيضا لم يثبت له الإسلام!! فهل يصح أن يقال إن ابن تيمية لا يثبت الإسلام لأولئك النفر من الصحابة.
ثم يقال: بل نص ابن تيمية على أن الناشئ في بلاد الإسلام لا يكفر في ترك المباني الخمسة إلا إذا علمنا أن الدعوة قد بلغته أما إذا لم نعلم فإنه لا يجوز لنا تكفيره فإنه ذكر حكم من جحد شيئا من المباني الخمسة، وأنه يعذر بجهله ثم قال:"فأما الناشئ بديار المسلمين ممن يُعلم أنه قد بلغته هذه الأحكام فلا يقبل قوله أي: لم أعلم ذلك" شرح العمدة (51) فهذا النص مهم جدا في إثبات أن ابن تيمية لم يكن المعتبر عنده إلا علم الفاعل فلو كان ابن تيمية يرى أن المسائل الظاهرة لا يعذر فيها بالجهل لما قال هنا "ممن يعلم أنه بلغه الحكم" وإنما يقول إنه كافر مطلقا ولا يعذر بالجهل ولكنه لم يقل ذلك!(1/8)
بل إن ابن تيمية أيضا نص على أن من أنكر معلوما بالتواتر والإجماع لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة في هذا يقول:"وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة" الفتاوى (1/109) فالمعتبر عنده إذن قيام الحجة سواء كانت المسألة ظاهرة (متواترة) أو مسألة خفية.
فهذه النصوص كلها تدل على أن المعتبر عنده إنما هو بلوغ العلم للفاعل وأن عدم بلوغ العلم قد يكون حتى لمن هو في بلاد المسلمين.
الأمر الثالث: ومما يدل على أن المعتبر عند ابن تيمية هو العلم والجهل بالمسألة لا بنوع المسألة من حيث الظهور والخفاء هو أنه يأتي إلى بعض المكفرات، فيصفها بأن من أظهر الأمور المناقضة للدين وأن حكم فعلها ظاهر عند المسلين كما فعل في أقوال الفلاسفة والجهمية ثم بعد ذلك يعذر الجاهل في هذه المسائل كما وُضح ذلك في الطريق الخامس من البحث السابق فابن تيمية هو الذي حكم عليها بالظهور، وهو الذي حكم عليها بالعذر بالجهل وهذا كله يدل على أن المعتبر عنده إنما هو حال الفاعل من حيث العلم والجهل.
ومما يوضح هذا الوجه هو أن ابن تيمية نص على أن بدعة الجهمية الحلولية بدعة ظاهرة في المناقضة لدين المسلمين وكذلك بدع الرافضة والبدعة المناقضة الغالية لا يمكن أن تكون خفية ومع هذا نص على عدم كفر أعيان الجهمية والرافضة وفي بيان وصفه لبدع الجهمية يقول:" فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب وحقيقة قولهم جحود الصانع ففيه جحود الرب وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وقال غير واحد من الأئمة إنهم أكفر من اليهود والنصارى يعنون من هذه الجهة، ولهذا كفروا من يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإن الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته" الفتاوى (12/ 485).(1/9)
ثم هو نفسه ينص على أن أعيانهم لا يكفرون لجهلهم وفي هذا يقول:"كنت أقول للجهمية من الحلولية و النفاة -الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم- أنا لو وافقتكم كنت كافرا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، و أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطابا لعلمائهم و قضاتهم و شيوخهم وأمرائهم، و أصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح و المعقول الصريح الموافق له وكان هذا خطابنا" الرد على البكري (1/381).
وهذا النص من ابن تيمية يدل على أمور مهمة منها : أن التأويل والجهل بابهما واحد في الإعذار وذلك أن التأويل في الحقيقة جهل بحقيقة حكم الله تعالى في المسألة المعينة وهذا يرد على من ينسب إلى ابن تيمية التفريق بين العوام والعلماء، سواء من الرافضة أو القبوريين.(1/10)
بل وينقل ابن تيمية عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنه لم يكن يحكم على أعيان الجهمية بالتكفير مع أن بدعتهم ظاهرة وفي هذا يقول:"طائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقا...... وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة ؛ ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة لكن ما كان يكفر أعيانهم فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك. ويدعون الناس إلى ذلك، ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم. حتى إنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وغير ذلك. ولا يولون متوليا ولا يعطون رزقا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يُبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك". الفتاوى (23/346 – 349).
الأمر الرابع: أن الظهور والخفاء من الأمور النسبية التي تختلف من إنسان إلى آخر عند ابن تيمية وفي هذا يقول:"كون العلم بديهيا أو نظريا هو من الأمور النسبية الإضافية مثل كون القضية يقينية أو ظنية إذ قد يتيقن زيد ما يظنه عمرو وقد يبده زيدا من المعاني ما لا يعرفه غيره إلا بالنظر وقد يكون حسيا لزيد من العلوم ما هو خبري عند عمرو.(1/11)
وإن كان كثير من الناس يحسب أن كون العلم المعين ضروريا أو كسبيا أو بديهيا أو نظريا هو من الأمور اللازمة له بحيث يشترك في ذلك جميع الناس، وهذا غلط عظيم وهو مخالف للواقع.
فإن من رأى الأمور الموجودة في مكانه وزمانه كانت عنده من الحسيات المشاهدات وهي عند من علمها بالتواتر من المتواترات وقد يكون بعض الناس إنما علمها بخبر ظني فتكون عنده من باب الظنيات فإن لم يسمعها فهي عنده من المجهولات وكذلك العقليات فإن الناس يتفاوتون في الإدراك تفاوتا لا يكاد ينضبط طرفاه ولبعضهم من العلم البديهي عنده والضروري ما ينفيه غيره أو يشك فيه وهذا بين في التصورات والتصديقات" (12).
ومعنى هذا الأصل أنه ليس كل ما كان ظاهرا عند جماعة من الناس يلزم أن يكون ظاهرا عند كل الناس وأنه ليس كل ما كان ظاهرا في مكان ما يلزم أن يكون ظاهرا في كل مكان وأنه ليس كل ما كان ظاهرا في زمان ما يلزم أن يكون ظاهرا في كل زمان فإذا كان وجوب الصلاة ظاهرا في أرض ما أو عند طائفة ما فإنه لا يلزم أن يكون ظاهرا عند كل أحد ممن هو داخل في دائرة الإسلام أو في كل زمان كذلك وإذا كانت حرمة الاستغاثة بالقبور وكونها من الشرك ظاهرة عند جماعة من الناس بحيث لا يشك فيها أحد منهم فإنه لا يلزم أن يكون حكمها ظاهرا عند كل الناس أو في كل زمان أو مكان في هذا يقول ابن تيمية أيضا:"وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقن مراده منه وعند رجل لا تكون ظنية فضلا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته" الفتاوى (23/347).(1/12)
وقد استعمل ابن تيمية هذا الأصل في بناء كثير من أقواله في التكفير وغيره ومن كلامه المهم في هذا الأصل قوله:"وقد ينكر أحد القائلين على القائل الآخر قوله إنكارا يجعله كافرا أو مبتدعا فاسقا يستحق الهجر وإن لم يستحق ذلك وهو أيضا اجتهاد وقد يكون ذلك التغليظ صحيحا في بعض الأشخاص أو بعض الأحوال لظهور السنة التي يكفر من خالفها؛ ولما في القول الآخر من المفسدة الذي يبدع قائله ؛ فهذه أمور ينبغي أن يعرفها العاقل ؛ فإن القول الصدق إذا قيل: فإن صفته الثبوتية اللازمة أن يكون مطابقا للمخبر.
أما كونه عند المستمع معلوما أو مظنونا أو مجهولا أو قطعيا أو ظنيا أو يجب قبوله أو يحرم أو يكفر جاحده أو لا يكفر ؛ فهذه أحكام عملية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال . فإذا رأيت إماما قد غلّظ على قائل مقالته أو كفره فيها فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها، إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له؛ فإن من جحد شيئا من الشرائع الظاهرة، وكان حديث العهد بالإسلام، أو ناشئا ببلد جهل لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية. وكذلك العكس إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له؛ فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول" (13) فهذا النص مهم في هذه المسألة من جهة أنه اعتبر النسبية في حصول العلم ومرادفاته ومن جهة أنه بين المناط الحقيقي في تعلق الحكم وهو بلوغ الحجة فكل من بلغته الحجة البلوغ المعتبر فإن حكم الفعل ينطبق عليه ولو كان حديث عهد بكفر وكل من لم تبلغه الحجة -التي يرتفع بها وصف الجهالة - فإنه حكم الفعل لا ينطبق عليه ولو كان يعيش في بلاد المسلمين.(1/13)
وهذا الأصل اعتمد عليه ابن تيمية كثيرا في تقرير كثير من أقواله وفي نقض كثير من أقوال الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم ولهذا تراه يكرر ذكره في مواطن كثيرة وكثيرا ما كان يكرر ابن تيمية أن الأمور المعلومة من الدين بالضرورة من الأمور النسبية التي تختلف من شخص لآخر ومن ذلك قوله:"كون الشيء معلوما من الدين ضرورة أمر إضافي فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو وقضى بالدية على العاقلة وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة وأكثر الناس لا يعلمه ألبتة" الفتاوى (13/118).
وقد بين ابن تيمية مستنده في هذا الأصل، وهو أن أوصاف الإدراك كالعلم والجهل واليقين والظن والظهور والخفاء ليست أوصافا قائمة بالأشياء، بحيث تكون ملازمة لها لا تنفك عنها وإنما هي أوصاف قائمة بالأنفس عن الأشياء وما يقوم بالأنفس عن الأشياء يختلف باختلاف أحوال تلك الأنفس فقد يكون الشيء ضروريا عن عمرو لقيام الأسباب التي تجعله كذلك عنده ولكنه يكون مظنونا عند زيد لقيام الأسباب التي تجعله كذلك عنده.
وهذا التقرير من ابن تيمية ليس فيه التسليم بالنسبية الذاتية التي يقول بها السوفسطائية والتي تقتضي الحكم على كل الأقوال بالصحة وعدم البطلان وإنما فيها اعتبار لأحوال الأنفس وطبيعة الأوصاف المتعلقة بالإدراك.
وبيان ذلك أن يقال: إن الأوصاف المتعلقة بالإدراك كالعلم والجهل مثلا فيها جانبان مهمان وابن تيمية يفرق بينهما تماما هما:
الجانب الأول: ما يقوم بالنفس وهذا يسمى الجانب الذاتي.(1/14)
والجانب الثاني: التطابق بين ما يقوم في النفس وبين الواقع وهذا يسمى الجانب الموضوعي فالحكم على الجانب الأول بالنسبية (النسبية الذاتية) لا يلزم منه القول بالنسبية في الجانب الثاني (النسبية الموضوعية) بمعنى أن القول بأن العلم بالشيء يختلف من إنسان إلى آخر لا يلزم منه أن قول كل منهما مطابق للواقع بل قد يكون قول أحدهما مطابقا للواقع، والآخر ليس كذلك فهناك فرق بين ما يقوم بالنفس عن الشيء وبين كونه مطابقا للواقع أو يقال هناك فرق بين إثبات النسبية الذاتية وبين إثبات النسبية الموضوعية وأن إثبات النسبية الذاتية لا يلزم منه إثبات النوع الآخر منها وهو النسبية الموضوعية.
وأصل الإشكال عند السوفسطائية هو أنهم لم يفرقوا بين النوعين فجعلوا كل ما ينطبق على النسبية الذاتية منطبقا على النسبية الموضوعية بمعنى أنهم جعلوا كل ما يقوم بالنفس هو في الواقع كذلك ولهذا فقد نفوا أن يكون بعض الأقوال صحيحة وبعضها خاطئا ولا يرتفع ذلك الإشكال إلا بالتفريق بينهما وهو ما فعله ابن تيمية ومن لم يدرك هذا التفريق فإنه سينسب ابن تيمية إلى السوفسطائية كما فعل ذلك علي سامي النشار فإنه قرر أن ابن تيمية يقول بقول السوفسطائية بدليل أنه قال بالنسبية ولم يتفطن أن قول ابن تيمية يختلف عن قولهم من جهة التفريق بين النسبيتين كما سبق بيانه.
فتحصل من كل ما سبق أن ابن تيمية يرى أن كون المسألة ظاهرة عند بعض الناس لا يلزم منه أن تكون ظاهرة عند كل أحد سواهم ولا يعني هذا أنه لا يصح أن يحكم على مسألة ما بأنها ظاهرة أو متواترة ولكننا إذا حكمنا عليها بذلك لا يصح أن نعتقد أن هذا هو حكمها عند كل الناس وإنما لا بد أن تعتبر أحوال الناس المختلفة التي تستلزم انتفاء ذلك الوصف إما بعد عن مواطن العلم، أو تأويل فاسد أو نحو ذلك.(1/15)
الوجه الخامس: أن النصوص التي اعتمدوا عليها من كلام ابن تيمية لا تدل على ما فهموه منها بل هي متراوحة بين عدم الوضوح والاستقامة في الدلالة وبين الظهور في عدم الدلالة أصلا وبيان ذلك كما يلي:
أما النص الأول: وهو قول ابن تيمية:"وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين بل اليهود والنصارى يعلمون: أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك؛ فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس وإيجابه لها وتعظيم شأنها ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك. ثم تجد كثيرا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور فكانوا مرتدين" (14).
فهذا النص لا يدل على التفريق يبين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية في العذر بالجهل ولا يصح أن يؤخذ منه ذلك وذلك لأمرين:(1/16)
الأمر الأول: أن من يتأمل سياق النص يدرك أن ابن تيمية لم يقل هذا القول ليثبت التفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية في أصل الإعذار بالجهل ولم يقله ليحقق الحكم على أعيان أئمة المتكلمين وإنما قاله في سياق وصفه لحال أهل البدع والكلام من جهة الوقوع في المخالفات الشرعية الكبيرة فذكر أنه ما من إمام من أئمتهم إلا وله قول يكفر به وهذا الوصف يذكره ابن تيمية في مواطن متعددة من كتبه ثم ذكر أن هذه الكفريات التي وقع فيها أئمة الكلام ليست من الأمور الخفية فإنها لو كانت في هذه الأمور لهان الأمر ولقلنا إنهم معذورون في عدم الوصول إلى حكمها، ولكن تلك الكفريات تكون في أمور ظاهرة يعلم كل أحد أنها مخالفة لدين الله تعالى حتى اليهود والنصارى! فهو يريد أن يصف حال هؤلاء الأئمة فقط وليس هو في معرض تقسيمه للمسائل ولا في معرض تحديد سبب حكمه على هؤلاء وإنما يريد أن يبين فضل حال أهل السنة على حال هؤلاء وهذا ما يدل عليه سياق كلامه وهو كما يلي:"وأيضا المخالفون لأهل الحديث هم مظنة فساد الأعمال: إما عن سوء عقيدة ونفاق، وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان . ففيهم من ترك الواجبات واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب ما هو ظاهر لكل أحد، وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم، وإن كان فيهم من هو معروف بزهد وعبادة، ففي زهد بعض العامة من أهل السنة وعبادته ما هو أرجح مما هو فيه... وأيضا فإنه لا يعرف من أهل الكلام أحد إلا وله في الإسلام مقالة يُكَفر قائلها عموم المسلمين حتى أصحابه وفي التعميم ما يغني عن التعيين فأي فريق أحق بالحشو والضلال من هؤلاء؟.(1/17)
وذلك يقتضي وجود الردة فيهم كما يوجد النفاق فيهم كثيرا وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال : إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها ؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين؛ بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك؛ فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ومثل أمره بالصلوات الخمس وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك.
ثم تجد كثيرا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور فكانوا مرتدين وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام "فابن تيمية هنا لا يريد أن يقول إن المسائل الظاهرة لا يعذر فيها بالجهل، ولا يريد أن يقول إن سبب ارتداد هؤلاء هو لأنهم خالفوا في تلك المسائل الظاهرة فقط لا يريد أن يقرر هذا كله وإنما يريد أن يصف حالهم ومخالفتهم لدين الله تعالى أما الحكم عليهم وتحقيق السبب في ارتدادهم فهو ليس من قصده هنا ولا يدل عليه سياق كلامه وعليه فلا يصح أن نأخذ منه قاعدة في التفريق يبن المسائل الظاهرة والمسائل الخفية كما فعل من فهم ذلك ونترك كلامه الآخر الصريح في المسألة.(1/18)
وهذا الوصف للمتكلمين ذكره ابن تيمية في مواطن أخرى من كتبه ومن أصرحها قوله:" فإن نفاة كونه على العرش لا يعرف فيهم إلا من هو مأبون في عقله ودينه عند الأمة وإن كان قد تاب من ذلك بل غالبهم أو عامتهم حصل منهم نوع ردة عن الإسلام وإن كان منهم من عاد إلى الإسلام كما ارتد عنه قديما شيخهم الأول الجهم بن صفوان، وبقي أربعين يوما شاكا في ربه لا يقر بوجوده ولا يعبده وهذه ردة باتفاق المسلمين وكذلك ارتد هذا الرازي حين أمر بالشرك وعبادة الكواكب والأصنام، وصنف في ذلك كتابه المشهور وله غير ذلك بل من هو أجل منه من هؤلاء بقي مدة شاكا في ربه غير مقر بوجوده مدة حتى آمن بعد ذلك، وهذا كثير غالب فيهم". بيان تلبيس الجهمية (3/472).
فهذا النص ذكره ابن تيمية في سياق وصف حال المتكلمين وليس في تحقيق السبب الذي ارتدوا به.
الأمر الثاني: أن يقال: مع التسليم بأن ابن تيمية قد حكم على أعيان المتكلمين الذين ذكرهم هنا بالكفر فهو لم يحكم عليهم لأنه لا يعذر بالجهل في مثل هذه المسائل وإنما حكم عليهم لأن من كان في مثل من الاطلاع على تفاصيل النصوص وكلام أهل العلم مما لا يُتصور معه جهل بمثل هذه القضايا فهذا حالهم لا يعذر بالجهل فيها أو أنه قد ظهر له أن الشروط قد توفرت فيهم والموانع قد انتفت عنهم ومن كان كذلك فإنه يصح أن يكفر بعينه ولهذا كفرهم فهو إنما كفرهم لأنهم قد توفرت فيهم الشروط، وانتفت الموانع عنده لا لأنه لا يعذر بالجهل مطلقا في هذه المسائل.(1/19)
وهذا الأسلوب استعمله ابن تيمية في تفقهه في كلام الإمام أحمد فإنه روي عنه أنه قال:" من قال القرآن مخلوق فهو كافر"ومع ذلك ظهر من أقواله أنه لم يكفر كل أعيان الجهمية ونُقل عنه ما يقتضي كفر بعض أعيانهم فحمل كلامه في تكفير الأعيان على أن من كفره الإمام بعينه فهو إنما كفره لأنه توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع ولم يأخذ منه أن الإمام أحمد لا يعذر المعين في القول بخلق القرآن فقد قال ابن تيمية بعدما قرر أن الإمام أحمد لم يكفر أعيان الجهمية:"وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل. فيقال: من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه"الفتاوى (12/489).
وقد أجاب بعض الناظرين في هذا بجواب آخر فذكر أن كلام ابن تيمية هذا محمول على التعميم في الحكم لا على التعيين فكلامه إنما هو في الحكم المطلق لا في حكم المعين واستند في ذلك على قوله:"وفي التعميم ما يغني عن التعيين"ففهم من هذا أن النص يقتضي التكفير في المسائل الظاهرة، ولكنه يحمل على حالة الإطلاق وهذا ما ذكره الشريف هزاع في كتابه (العذر بالجهل 137).
ولكن هذا التخريج غير صحيح لأمور:
1- أن هذا النص ليس في مسألة الإعذار أصلا وإنما هو وصف حال رؤوس أهل البدع كما سبق في الوجه الأول.
2- أن قوله:"وفي التعميم ما يغني عن التعيين"لم يقصد به ما ذكره ذلك المخرج وإنما قصد ابن تيمية بذلك أنه لما أطلق القول بأنه ما من إمام من أئمة أهل الكلام إلا وله قول يكفر به أراد ألا يذكر أعيان هؤلاء الناس وأسماءهم فقال وفي إطلاق القول في ذلك ما يغني عن تحديد أعيان الذين وقعوا في الكفريات وهذا ما يظهر من سياق كلامه.
3- أن ابن تيمية قد عين في هذا النص، فذكر الجهم بن صفوان والرازي.(1/20)
وأما النص الثاني: وهو قوله :"وفي الحقيقة فكل رد لخبر الله أو أمره فهو كفر دق أو جل لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم وكان أمرا يسيرا في الفروع بخلاف ما ظهر أمره وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر".
فهو لا يدل على ما فهم منه أيضا بل الاعتماد عليه في نسبة التفريق يبن المسائل الظاهرة والخفية إلى ابن تيمية فيه إشكال كبير وذلك من وجوه:
1 - أن هذا النص لا يوجد في الموطن الذي أضيف إليه فقد نُسب هذا النص إلى شرح عمدة الفقه لابن تيمية عند كلامه على حكم تارك الصلاة كما ذكر ذلك أبو بطين فقد قال:" وقد قال رحمه الله – ابن تيمية - في "شرح العمدة" لما تكلم في كفر تارك الصلاة" وعند الرجوع إلى هذا الموطن نجد أن ابن تيمية لم يذكر هذا النص وقد استعنت ببرامج البحث فلم تخرج لي نتيجة تثبت وجوده في كلام ابن تيمية وهذا الحال يوجب عدم الجزم بنسبة هذا النص إلى ابن تيمية.
ثم يقال: كيف يصح أن أترك النصوص الواضحة في السياق واللحاق، إلى نص لا يُعرف سياقه ولحاقه؟!، وليس في هذا تشكيك في فهم أهل العلم لهذا النص، فإن الداعي لقول هذا الكلام أننا وجدنا نصوصاً صريحة لابن تيمية بخلاف هذا التقرير فلا يصح لي في البحث العلمي أن أتركها متعمداً على نص لا يمكنني معرفة ما يحتف به من أمور.
2 - أن هذا النص غير كامل في دلالته بل هو ناقص في آخره وقد أكمله أبو بطين فقال:"يعني: فإنه لا يقال قد يعفى عنه" وهذا الإكمال لا دليل عليه فلماذا لا يكون الإكمال هو "بخلاف ما ظهر أمره وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر فإنه لا يعذر فيه إلا من علمنا جهله"أو يكون الإكمال:"فإنه لا يعذر فيها كل من ادعى الجهل بها بل لا بد أن يحتاط فيها"أو نحو ذلك من العبارات التي تدل على الإعذار فما الذي يرجح ذلك الإكمال على هذا الإكمال؟!.(1/21)
3 - أن هذا النص لا يدل على تمام ما فهموا منه بل هو مخالف لما فهموه منه وبيان ذلك : أن هذا النص قرر أن الإعذار إنما يكون في ما خفي أمره، وكان أمرا يسيرا في الفروع والمسائل الخفية عندهم ليست هي ما كان يسيرا في الفروع وإنما هي أوسع من ذلك فقد أدخلوا فيها البدع الواقعة في الصفات كالاستواء والرؤية وبدع المرجئة والخوارج فهل هذه البدع من الأمور اليسيرة في الفروع حتى يقال إن هذا النص دل على الإعذار فيها بالجهل؟! فلو أخذ هذا النص بعمومه لدل على خلاف تقرير من يستند عليه في فهم كلام ابن تيمية ، لأنه يلزم من استند عليه أن ينسب لابن تيمية أنه لا يعذر مطلقاً حتى في مسائل الرؤية ونحوها من مسائل الصفات.
4- أن يقال: على فرض أنه من كلام ابن تيمية وأنه يدل على التكفير في المسائل الظاهرة فإنه ليس في الأعيان وإنما هو من النصوص التي فيها الكلام على التكفير بالإطلاق التي هي في الحقيقة بيان لحكم في الفعل في الشرع لا لبيان حكم كل فاعل.
وأما النص الثالث: وهو قوله:" لفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين: - أحدهما هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته والثاني دعاؤه وشفاعته وهذا أيضا نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين.
ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضا كافر لكن هذا أخفى من الأول فمن أنكره عن جهل عرف ذلك؛ فإن أصر على إنكاره فهو مرتد" الفتاوى (1/ 153).(1/22)
فهذا النص لا يصح الاعتماد عليه أيضا؛ لأنه ليس فيه تقسيم لمسائل التوسل إلى مسائل ظاهرة ومسائل خفية وإنما فيه أن أنواع التوسل متفاوتة فبعضها ظاهرة وبعضها أخفى منها وهناك فرق بين الخفي والأخفى فابن تيمية لا يقول إن النوع الثاني من التوسل من المسائل الخفية في دين الله تعالى وإنما يقول إنه أخفى من النوع الأول وكون الشيء أخفى من غيره لا يعني أنه خفي في نفس الأمر وهذا هو ما يقتضيه أسلوب المفاضلة في العربية فإنك تقول زيد قوي ثم تقول بعد ذلك ولكن صالحا أضعف منه فهذا القول ليس فيه إثبات الضعف لصالح وإنما فيه إثبات أن قوته أقل من قوة زيد فقط.
فكذلك كلام ابن تيمية هنا فهو لا يثبت الظهور لنوع وينفيه عن نوع آخر ويثبت له الخفاء وإنما يثبت الظهور لنوع ويثبت للنوع الآخر ظهورا أقل منه وعلى هذا: فهذا النص في الحقيقة يدل على العذر بالجهل في المسائل الظاهرة لا العكس كما فهم من فهم ولكننا لا نريد أن نعتمد عليه في هذه المسألة؛ لأن ثمة نصوصا أخرى أوضح منه وأصرح في العذر بالجهل.
وأما النص الرابع: وهو الذي أطلق فيه ابن تيمية بأن من فعل كذا فهو كافر أو مرتد أو مشرك من غير استثناء للجاهل ومن ذلك قوله:"من لم يعتقد وجوب الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الفواحش والظلم والشرك والإفك: فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل باتفاق أئمة المسلمين، ولا يغني عنه التكلم بالشهادتين" (15) .(1/23)
فهذا النص وغيره من النصوص المشابهة له لا يصح الاعتماد عليها في القول بأن المعين لا يعذر بالجهل في المسائل الظاهرة؛ لأن هذه النصوص إنما هي في حالة الإطلاق والتعميم لا في حالة الكلام على المعين وما كان من هذا القبيل من النصوص فإنه لا يذكر فيه الشروط ولا الموانع؛ لأنه في الحقيقة بيان لحكم الفعل في الشرع من غير نظر إلى ما يتعلق بفاعله وحكم الفعل في الشرع لا ينظر فيه إلى الأوصاف التي تحقق مقتضاها في المعين وإنما ينظر فيه في الأوصاف التي تؤثر في حكمه من جهته فقط.
وهذا المعنى ذكره ابن تيمية فقد ذكر لبعضهم:"أن ما نُقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة"الوعيد" فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما".[النساء:10] الآية وكذلك سائر ما ورد: من فعل كذا فله كذا. فإن هذه مطلقة عامة. وهي بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا: فهو كذا. ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه: بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة" الفتاوى (3/230).(1/24)
وقرر أن هذا هو فعل الأئمة فإن الأئمة قد أطلقوا القول بأن من قال القرآن مخلوق فهو كافر ولم يستثنوا الجاهل ولا غيره ومع هذا فهم لم يكفروا كل واحد ممن قال بذلك القول وفي هذا يقول:"التكفير له شروط وموانع قد تنتقي في حق المعين وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة: الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه فإن الإمام أحمد -مثلا- قد باشر "الجهمية" الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر فلا يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئا من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب.(1/25)
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة" الفتاوى (12/487).
وقبل ذلك كله فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل هذا الأسلوب أيضا فعن أنس بن مالك قال: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها" . فاللعن هنا لعن مطلق ولم يذكر أنس أنه استثنى أحدا في هذا النص ومع هذا فقد استثنى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة مع أن كلامه مطلق وهذه الأحاديث اعتمد عليها ابن تيمية في بناء القاعدة في التفريق بين حكم الفعل وحكم الفاعل وفي هذا يقول:" ثبت في صحيح البخاري أن رجلا كان يدعى حمارا، وكان يشرب الخمر، وكان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه فأتى به إليه مرة فقال رجل لعنة الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" . فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنة هذا المعين الذي كان يكثر شرب الخمر معللا ذلك بأنه يحب الله ورسوله، مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر مطلقا فدل ذلك على أنه يجوز أن يُلعن المطلق، ولا تجوز لعنة المعين الذي يحب الله ورسوله" المنهاج (4/569).
ثم قال بعد ذلك:"ولو كان كل ذنب لُعن فاعله يُلعَن المعين الذي فعله لَلُعن جمهور الناس وهذا بمنزلة الوعيد المطلق لا يستلزم ثبوته في حق المعين إلا إذا وجدت شروطه وانتفت موانعه وهكذا اللعن" المنهاج (4/573).(1/26)
فتحصل إذن أن النصوص الشرعية أو النصوص التي نُقلت عن الأئمة وفيها الحكم على الفعل بالكفر أو الحكم على من فعلها بالكفر والردة وحل الدم والمال لا تقتضي الحكم على كل من فعل ذلك الفعل حتى يقال: إن هذه النصوص تقتضي عدم الإعذار بالجهل في هذه الأفعال إذ لو كانت كذلك لكفر الأئمة كل من فعل الفعل الذي أطلقوا التكفير فيه ولعلقوا الوعيد بكل من فعل شيئا من الأمور التي جاءت في نصوص الوعيد ؛ لأنها نصوص مطلقة لم تستثن أحدا.
هذا هو حاصل النصوص التي اعتمد عليها من نسب التفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية في أصل الإعذار بالجهل إلى ابن تيمية وقد ظهر حالها في الدلالة على ما ذكروا من جهة عدم الانضباط في الدلالة وعدم الوضوح والاستقامة فيها.
وبعد هذا كله ليتأمل الناظر في كلام ابن تيمية ولينظر كم مرة ذكر ابن تيمية مسألة العذر بالجهل وكم مرة استدل عليها وكم مرة قررها وكم مرة ذكر تطبيقات العلماء لها ويلاحظ مع ذلك اختلاف المواطن التي يذكرها فيها والأشخاص الذين طبقها عليهم والمراحل العمرية لابن تيمية والأماكن المختلفة والطرق المتنوعة في عرضه لها ثم هو مع هذا كله لا يذكر ولا في موطن واحد في تأصيله لهذه المسألة التفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية أو ينبه على أن التفريق بين الإطلاق والتعيين في التكفير إنما هو في المسائل الخفية فقط وليس في المسائل الظاهرة! فما الذي منع ابن تيمية أن يقول صراحة ولو في موطن واحد من تلك المواطن الكثيرة إن هناك فرقا بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية في مسألة العذر بالجهل؟! أو يقول: إن التفريق بين حكم الفعل وحكم الفاعل إنما هو في المسائل الخفية فقط؟!.
أليس اللائق بابن تيمية أن يقول ذلك؟! وهو ذلك العالم المتمرس على المجادلة والمناظرة والدقيق في التأصيل لمسائل العلم والبارع في بيان أصول الأقوال وحقائقها.(1/27)
كل هذه الأمور مع ما سبق في المسألة الأولى تؤكد أن حقيقة مذهب ابن تيمية هو أنه لا فرق يبن المسائل الظاهرة والمسائل الخفية في أصل الإعذار بالجهل وأن الإعذار بالجهل يشمل كل المسائل وأن المعتبر عنده إنما هو ما يقوم في نفس الفاعل من العلم والجهل فمن فعل ما فعل وهو عالم بحكم فعله فإنه ينطبق عليه ذلك الحكم إذا انتفت عنه الموانع ولا فرق في ذلك بين حديث العهد بالكفر وبين غيره ومن فعل ما فعل وهو لا يعلم بحكم فعله فإنه لا ينطبق عليه ذلك الحكم ولا فرق في ذلك أيضا بين حديث العهد بالكفر وبين غيره.
الوجه السادس: وهو في الجواب عن قولهم إن الإعذار بالجهل في كلام ابن تيمية محمول على من كان حديث عهد بكفر، أو نشأ في بلاد بعيدة فيقال: إن من يتأمل كلام ابن تيمية يدرك أن العذر بالجهل في مسائل الشرك ليس خاصا بحديث العهد بالكفر، أو بمن كان يعيش في بلاد بعيدة عن العلم بل هو حكم عام في كل من جهل الحكم الشرعي جهلا معتبرا وهذا التقرير يدل عليه عدة أمور منها:
الأمر الأول: صِيَغُ كلام ابن تيمية وعباراته فإن ابن تيمية كثيرا ما يقرر العذر بالجهل ثم يضرب أمثلة على من يعذر بالجهل بمن كان حديث عهد بكفر، أو من كان في بلاد بعيدة وهو إنما ذكر هؤلاء هنا على جهة التمثيل لا على جهة قصر الحكم عليهم وهذا ما يدل عليه ظاهر عباراته فإنه تارة يستعمل كلمة "مثل" وتارة يقول بعد ذكره لحديث العهد بالكفر: "أو نحو ذلك" وهذا يدل على أنه إنما ذكر ما ذكر للتمثيل لا لقصر الحكم عليهم فقط.
فمن يتأمل في جميع النصوص التي يذكر فيها العذر بالجهل يدرك أنه إنما يذكر حديث العهد بالكفر، ومن يعيش في بلاد بعيدة عن العلم للتمثيل فقط وليس لقصر الحكم عليهم فلو كان ابن تيمية يرى أن الحكم مقتصرا عليهم فما الذي منعه من التصريح بذلك مع كثرة كلامه في هذه المسألة.(1/28)
الأمر الثاني: أنه لو كان يرى أن الحكم خاص بمن ذكر لما استدل بقصة قدامة بن مظعون في الإعذار في مثل المسائل الظاهرة فإنه رضي الله عنه لم يكن حديث عهد بكفر ولا أصحابه فدل هذا على أن ابن تيمية يرى أن الإعذار في مثل تلك المسائل عام لكل من قام به وصف الجهالة الذي يعذر به مثله ولا فرق عنده بين حديث العهد بالكفر، وبين من كان أبواه مسلمين في أصل الإعذار بالجهل.
الوجه السابع: وهو في الجواب على من يقول إنه لا يعذر أحد بالجهل في هذا العصر؛ لتيسُّر سبل العلم وانتشارها فيقال: إن هذا القول اشتمل على خطأ منهجي كبير أكثر ابن تيمية من نقده وبيان الغلط فيه وهذا الخطأ هو: الاستدلال على وجود الشيء بمجرد الإمكان ومعنى هذا: أن بعض الناس حين يريد أن يثبت تحقق وجود الشيء في الخارج لا يذكر من الأدلة إلا ما يفيد أنه أمر ممكن وهذا ما وقع فيه الذين يقولون بأنه لا يعذر أحد بالجهل في مسائل الاستغاثة؛ لأن العلم قد انتشر في هذه الأزمان وذلك أن حقيقة قولهم أنهم حكموا بتحقق العلم عند كل الناس اعتمادا على إمكان العلم فدليلهم الذي استندوا عليه هو إمكان العلم في هذا العصر، أو من بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فلما كان التحصل على العلم ممكناً فإنه لا بد أن يحكم ببلوغه لكل أحد وهذا مكمن الغلط في ذلك التقرير.
ثم يقال: من ذا الذي يستطيع أن يجزم بأن العلم الصحيح الذي يرتفع به العذر قد بلغ كل المسلمين فمن يستطيع أن يقول إن العلم الصحيح قد بلغ إخواننا من العرب والعجم في أفريقيا الذين يستغيثون بالقبور أو بلغ إخواننا في آسيا أو غيرها من أصقاع الأرض؟!.(1/29)
ثم يقال: إن الإحساس بضرورة طلب العلم إنما تنشأ بعد شعور الإنسان بكون ما هو عليه مخالف للشريعة فبالله عليكم كيف يمكن لمن يفتيه عالم بلده، ومفتي دياره، وخطيب مسجده بأن ما هو عليه عين الصواب، وأنه مبلغه لا محالة إلى الجنة كيف يمكن لمن هذه حاله أن يستشعر ضرورة السؤال، أو يستشعر أن ما هو عليه مخالف لدين الله تعالى أو حتى يقبل ما يخالف ما أفتاه به شيخه الذي وثق به وسلم له أمر دينه.
ولا يصح أن يقال هنا إنه لا يشترط أن يبلغه العلم لأن التوحيد أمر فطري لأنه يقال إن الفطرة لا تعني أن يعرف الإنسان المسلم كل ما هو من أصول التوحيد، وأن يعرف كل ما يخالفه وإنما تعني فقط أن الإنسان مخلوق خلقة تقتضي عبادة الله وحده دون ما سواه وهذا القدر لا يلزم منه أن يعرف الإنسان حكم الاستغاثة بالقبور، وأنها كفر أكبر يخرج من الملة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
---
(1) الدرر السنية (10/355)
(2) الدرر السنية (10/389)
(3) الفتاوى (4/54) .
(4) الدرر السنية (10/388) .
(5) الفتاوى (35/105)
(6) فتاوى الأئمة النجدية (3/307) .
(7) انظر : ضوابط تكفير المعين لأبي العلا (67) .
(8) انظر : المرجع السابق (68) .
(9) جامع المسائل لابن تيمية جمع عزير شمس (3/145 – 151) .
(10) الفتاوى (11/406) .
(11) الفتاوى (7/609) .
(12) الرد على المنطقيين ( 13 – 14) .
(13) الفتاوى (6/61) .
(14) الفتاوى (4/54) .
(15) الفتاوى (35/105)(1/30)