فوائد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية
حول تقليد المجتهد
1 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
أما في المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد حتى على العامة والنساء حتى يوجبوه في المسائل التي تنازع فيها فضلاء الأمة قالوا : لأن العلم بها واجب ولا يحصل العلم إلا بالنظر الخاص .
وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك ; فإن ما وجب علمه إنما يجب على من يقدر على تحصيل العلم وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق فكيف يكلف العلم بها ؟
وأيضا فالعلم قد يحصل بلا نظر خاص بل بطرق أخر : من اضطرار وكشف وتقليد من يعلم أنه مصيب وغير ذلك .
وبإزاء هؤلاء قوم من المحدثة والفقهاء والعامة قد يحرمون النظر في دقيق العلم والاستدلال والكلام فيه حتى ذوي المعرفة به وأهل الحاجة إليه من أهله ويوجبون التقليد في هذه المسائل أو الإعراض عن تفصيلها ، وهذا ليس بجيد أيضا ; فإن العلم النافع مستحب وإنما يكره إذا كان كلاما بغير علم أو حيث يضر فإذا كان كلاما بعلم ولا مضرة فيه فلا بأس به وإن كان نافعا فهو مستحب فلا إطلاق القول بالوجوب صحيحا ولا إطلاق القول بالتحريم صحيحا .(1/1)
وكذلك المسائل الفروعية : من غالية المتكلمة والمتفقهة من يوجب النظر والاجتهاد فيها على كل أحد حتى على العامة وهذا ضعيف ; لأنه لو كان طلب علمها واجبا على الأعيان فإنما يجب مع القدرة والقدرة على معرفتها من الأدلة المفصلة تتعذر أو تتعسر على أكثر العامة . وبإزائهم من أتباع المذاهب من يوجب التقليد فيها على جميع من بعد الأئمة : علمائهم ; وعوامهم . ومن هؤلاء من يوجب التقليد بعد عصر أبي حنيفة ومالك مطلقا ثم هل يجب على كل واحد اتباع شخص معين من الأئمة يقلده في عزائمه ورخصه ؟ على وجهين . وهذان الوجهان ذكرهما أصحاب أحمد والشافعي لكن هل يجب على العامي ذلك ؟ والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة ; والتقليد جائز في الجملة لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد . فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد ؟ هذا فيه خلاف والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد : إما لتكافؤ الأدلة وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد وإما لعدم ظهور دليل له ; فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد كما لو عجز عن الطهارة بالماء . وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزي والانقسام فالعبرة بالقدرة والعجز وقد يكون الرجل قادرا في بعض عاجزا في بعض لكن القدرة على الاجتهاد لا تكون إلا بحصول علوم تفيد معرفة المطلوب فأما مسألة واحدة من فن فيبعد الاجتهاد فيها والله سبحانه أعلم .(1/2)
2 - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فرأى أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها : فهل يجوز له العمل بذلك المذهب ؟ أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالأحاديث ويخالف مذهبه ؟
فأجاب : الحمد لله .
قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول : أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم .
واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم ; فقال أبو حنيفة : هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت ; فمن جاء برأي خير منه قبلناه ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع ; وصدقة الخضراوات ; ومسألة الأجناس ; فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك فقال : رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت . ومالك كان يقول : إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة أو كلاما هذا معناه .
والشافعي كان يقول : إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي .(1/3)
وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال : مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء . والإمام أحمد كان يقول : لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا .
وكان يقول : من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال وقال : لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين } ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا .
والتفقه في الدين : معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية . فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه .
وأما القادر على الاستدلال ; فقيل : يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل : يجوز مطلقا وقيل : يجوز عند الحاجة ; كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال .(1/4)
والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين : إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه ; ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره واشتغال على مذهب إمام آخر . وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح . وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال : إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما في هذه المسألة ; لضعف آلة الاجتهاد في حقه . أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول : قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له : قد قال الله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم .(1/5)
وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه - لا سيما إذا كان قد رواه أيضا - فمثل هذا وحده لا يكون عذرا في ترك النص فقد بينا فيما كتبناه في " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " نحو عشرين عذرا للأئمة في ترك العمل ببعض الحديث وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار وأما نحن فمعذورون في تركها لهذا القول . فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح ; أو أن راويه مجهول ونحو ذلك ; ويكون غيره قد علم صحته وثقة راويه : فقد زال عذر ذلك في حق هذا ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه ; أو القياس ; أو عمل لبعض الأمصار ; وقد تبين للآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه ; وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر ; ومقدم على القياس والعمل : لم يكن عذر ذلك الرجل عذرا في حقه ; فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقدا أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار أهل المدينة النبوية وغيرها الذين يقال : إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ أو معارض براجح وقد بلغ من بعده أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه بل عمل به طائفة منهم ; أو من سمعه منهم ; ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص .(1/6)
وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد : أنت أعلم أم الإمام الفلاني ؟ كانت هذه معارضة فاسدة ; لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ولست أعلم من هذا ولا هذا ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة [ كنسبة ] أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع ; وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر : فكذلك موارد النزاع بين الأئمة وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة وتركوا قول عمر في دية الأصابع وأخذوا بقول معاوية لما كان معه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هذه وهذه سواء " . وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة فقال له : قال أبو بكر وعمر فقال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر ؟ . وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوا بقول عمر فتبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم أمر عمر ؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس . ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده .(1/7)
3 - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أن يشرح ما ذكره نجم الدين بن حمدان : من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل ولا تقليد أو عذر آخر ؟ .
فأجاب : هذا يراد به شيئان : أحدهما : أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ; ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله ; فإنه يكون متبعا لهواه وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي فهذا منكر . وهذا المعنى هو الذي أورده الشيخ نجم الدين وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه مثل أن يكون طالبا لشفعة الجوار فيعتقدها أنها حق له ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقدها أنها ليست ثابتة أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد فإذا صار جدا مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الإخوة أو إذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها كشرب النبيذ المختلف فيه ولعب الشطرنج وحضور السماع أن هذا ينبغي أن يهجر وينكر عليه فإذا فعل ذلك صديقه اعتقد ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر فمثل هذا ممكن في اعتقاده حل الشيء وحرمته ووجوبه وسقوطه بحسب هواه هو مذموم بخروجه خارج عن العدالة وقد نص أحمد وغيره على أن هذا لا يجوز . وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا فهذا يجوز بل يجب وقد نص الإمام أحمد على ذلك . وما ذكره ابن حمدان : المراد به القسم الأول ; ولهذا قال : من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر شرعي فدل على أنه إذا خالفه لدليل فتبين له بالقول الراجح أو تقليد يسوغ له أن يقلد في خلافه ; أو عذر شرعي أباح المحظور الذي يباح بمثل ذلك العذر لم ينكر عليه .(1/8)
وهنا مسألة ثانية قد يظن أنه أرادها ولم يردها لكنا نتكلم على تقدير إرادتها وهو أن من التزم مذهبا لم يكن له أن ينتقل عنه قاله بعض أصحاب أحمد وكذلك غير هذا ما يذكره ابن حمدان أو غيره ; يكون مما قاله بعض أصحابه وإن لم يكن منصوصا عنه وكذلك ما يوجد في كتب أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة كثير منه يكون مما ذكره بعض أصحابهم وليس منصوصا عنهم ; بل قد يكون المنصوص عنهم خلاف ذلك . وأصل هذه المسألة أن العامي هل عليه أن يلتزم مذهبا معينا يأخذ بعزائمه ورخصه ؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد وهما وجهان لأصحاب الشافعي والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون ذلك والذين يوجبونه يقولون : إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما له أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه . ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل : أن يلتزم مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك : فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر ; ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه وهو بمنزلة من لا يسلم إلا لغرض دنيوي أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل هاجر لامرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له : مهاجر أم قيس فقال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر في الحديث الصحيح : { إنما الأعمال بالنيات ; وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه } .(1/9)
وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني مثل أن يتبين رجحان قول على قول فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله : فهو مثاب على ذلك ; بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر ألا يعدل عنه ولا يتبع أحدا في مخالفة الله ورسوله فإن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال وقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } وقال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } . وقد صنف الإمام أحمد كتابا في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين فطاعة الله ورسوله وتحليل ما حلله الله ورسوله وتحريم ما حرمه الله ورسوله وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله : واجب على جميع الثقلين : الإنس والجن واجب على كل أحد في كل حال : سرا وعلانية لكن لما كان من الأحكام ما لا يعرفه كثير من الناس رجع الناس في ذلك إلى من يعلمهم ذلك ; لأنه أعلم بما قاله الرسول وأعلم بمراده فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم وقد يخص الله هذا العالم من العلم والفهم ما ليس عند الآخر وقد يكون عند ذلك في مسألة أخرى من العلم ما ليس عند هذا . وقد قال تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فهذان نبيان كريمان حكما في قضية واحدة ; فخص الله أحدهما بالفهم ; وأثنى على كل منهما .(1/10)
والعلماء ورثة الأنبياء واجتهاد العلماء في الأحكام كاجتهاد المستدلين على جهة الكعبة ; فإذا صلى أربعة أنفس كل واحد منهم بطائفة إلى أربع جهات لاعتقادهم أن القبلة هناك : فإن صلاة الأربعة صحيحة والذي صلى إلى جهة الكعبة واحد وهو المصيب الذي له أجران كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر } . وأكثر الناس إنما التزموا المذاهب بل الأديان بحكم ما تبين لهم فإن الإنسان ينشأ على دين أبيه أو سيده أو أهل بلده كما يتبع . الطفل في الدين أبويه وسابيه وأهل بلده ثم إذا بلغ الرجل فعليه أن يقصد طاعة الله ورسوله حيث كانت ولا يكون ممن إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله والرسول إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد . وكذلك من تبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله به رسوله ثم عدل عنه إلى عادته فهو من أهل الذم والعقاب . وأما من كان عاجزا عن معرفة حكم الله ورسوله وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله فهو محمود يثاب لا يذم على ذلك ولا يعاقب وإن كان قادرا على الاستدلال ومعرفة ما هو الراجح ; وتوقى بعض المسائل فعدل عن ذلك إلى التقليد فهو قد اختلف في مذهب أحمد المنصوص عنه . والذي عليه أصحابه أن هذا آثم أيضا وهو مذهب الشافعي وأصحابه وحكي عن محمد بن الحسن وغيره أنه يجوز له التقليد مطلقا وقيل : يجوز تقليد الأعلم .(1/11)
وحكى بعضهم هذا عن أحمد كما ذكره أبو إسحاق في اللمع وهو غلط على أحمد ; فإن أحمد إنما يقول : هذا في أصحابه فقط على اختلاف عنه في ذلك وأما مثل مالك والشافعي وسفيان ; ومثل إسحاق بن راهويه وأبي عبيد فقد نص في غير موضع على أنه لا يجوز للعالم القادر على الاستدلال أن يقلدهم وقال : لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري . وكان يحب الشافعي ويثني عليه ويحب إسحاق ويثني عليه ويثني على مالك والثوري وغيرهما من الأئمة ويأمر العامي أن يستفتي إسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وأبا مصعب وينهى العلماء من أصحابه كأبي داود وعثمان بن سعيد وإبراهيم الحربي ; وأبي بكر الأثرم وأبي زرعة ; وأبي حاتم السجستاني ومسلم وغيرهم : أن يقلدوا أحدا من العلماء . ويقول : عليكم بالأصل بالكتاب والسنة .
4 – وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : عن الاجتهاد ; والاستدلال : والتقليد ; والاتباع ؟
فأجاب :
أما التقليد الباطل المذموم فهو : قبول قول الغير بلا حجة قال الله تعالى :
{(1/12)
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } في البقرة وفي المائدة وفي لقمان { أولو كان الشيطان يدعوهم } وفي الزخرف : { قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } وفي الصافات : { إنهم ألفوا آباءهم ضالين } { فهم على آثارهم يهرعون } وقال : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول } { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل } الآيات . وقال : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } وقال : { فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار } وفي الآية الأخرى : { من عذاب الله من شيء } وقال : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } . فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله هو اتباع الهوى إما للعادة والنسب كاتباع الآباء وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين فهذا مثل تقليد الرجل لأبيه أو سيده أو ذي سلطانه وهذا يكون لمن لم يستقل بنفسه وهو الصغير : فإن دينه دين أمه فإن فقدت فدين ملكه وأبيه : فإن فقد كاللقيط فدين المتولي عليه وهو أهل البلد الذي هو فيه فأما إذا بلغ وأعرب لسانه فإما شاكرا وإما كفورا . وقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزل الله على رسله ; فإنهم حجة الله التي أعذر بها إلى خلقه . والكلام في التقليد في شيئين : في كونه حقا ; أو باطلا من جهة الدلالة . وفي كونه مشروعا ; أو غير مشروع من جهة الحكم .(1/13)
أما الأول فإن التقليد المذكور لا يفيد علما ؟ فإن المقلد يجوز أن يكون مقلده مصيبا : ويجوز أن يكون مخطئا وهو لا يعلم أمصيب هو أم مخطئ ؟ فلا تحصل له ثقة ولا طمأنينة فإن علم أن مقلده مصيب كتقليد الرسول أو أهل الإجماع فقد قلده بحجة وهو العلم بأنه عالم وليس هو التقليد المذكور وهذا التقليد واجب ; للعلم بأن الرسول معصوم ; وأهل الإجماع معصومون . وأما تقليد العالم حيث يجوز فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن . كخبر الواحد والقياس ; لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد كما يغلب على ظنه صدق المخبر لكن بين اتباع الراوي والرأي فرق يذكر إن شاء الله في موضع آخر . فإن اتباع الراوي واجب لأنه انفرد بعلم ما أخبر به : بخلاف الرأي فإنه يمكن أن يعلم من حيث علم ولأن غلط الرواية بعيد ; فإن ضبطها سهل ; ولهذا نقل عن النساء والعامة بخلاف غلط الرأي فإنه كثير ; لدقة طرقه وكثرتها وهذا هو العرف لمن يجوز قبول الخبر مع إمكان مراجعة المخبر عنه ولا يجوز قبول المعنى مع إمكان معرفة الدليل . وأما العرف الأول فمتفق عليه بين أهل العلم ; ولهذا يوجبون اتباع الخبر ولا يوجب أحد تقليد العالم على من أمكنه الاستدلال وإنما يختلفون في جوازه ; لأنه يمكنه أن يعلم من حيث علم فهذه جملة . وأما تفصيلها فنقول : الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة : أصولها وفروعها على كل أحد . ومنهم من يحرم الاستدلال في الدقيق على كل أحد وهذا في الأصول والفروع وخيار الأمور أوساطها .
5 - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة : كحماد بن أبي سليمان وابن المبارك وسفيان الثوري والأوزاعي وقد قال عنهم رجل - أعني هؤلاء الأئمة المذكورين - هؤلاء لا يلتفت إليهم . فصاحب هذا الكلام ما حكمه ؟ .(1/14)
فأجاب : وأما الأئمة المذكورون فمن سادات أئمة الإسلام ; فإن الثوري إمام أهل العراق وهو عند أكثرهم أجل من أقرانه كابن أبي ليلى والحسن بن صالح بن حي وأبي حنيفة وغيره وله مذهب باق إلى اليوم بأرض خراسان . والأوزاعي إمام أهل الشام وما زالوا على مذهبه إلى المائة الرابعة بل أهل المغرب كانوا على مذهبه قبل أن يدخل إليهم مذهب مالك وحماد بن أبي سليمان هو شيخ أبي حنيفة . ومع هذا فهذا القول هو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما . ومذهبه باق إلى اليوم وهو مذهب داود بن علي وأصحابه . ومذهبهم باق إلى اليوم فلم يجمع الناس اليوم على خلاف هذا القول ; بل القائلون به كثير في المشرق والمغرب ليس في الكتاب والسنة فرق في الأئمة المجتهدين بين شخص وشخص . فمالك والليث بن سعد والأوزاعي والثوري : هؤلاء أئمة في زمانهم وتقليد كل منهم كتقليد الآخر ; لا يقول مسلم إنه يجوز تقليد هذا دون هذا ولكن من منع من تقليد أحد هؤلاء في زماننا فإنما يمنعه لأحد شيئين . ( أحدهما اعتقاده أنه لم يبق من يعرف مذاهبهم وتقليد الميت فيه نزاع مشهور . فمن منعه قال هؤلاء موتى ومن سوغه قال لا بد أن يكون في الأحياء من يعرف قول الميت . و ( الثاني أن يقول : الإجماع اليوم قد انعقد على خلاف هذا القول وينبني ذلك على مسألة معروفة في أصول الفقه وهي أن الصحابة مثلا أو غيرهم من أهل الأعصار إذا اختلفوا في مسألة على قولين ثم أجمع التابعون أو أهل العصر الثاني على أحدهما فهل يكون هذا إجماعا يرفع ذلك الخلاف ؟ وفي المسألة نزاع مشهور في مذهب أحمد وغيره من العلماء . فمن قال : إن مع إجماع أهل العصر الثاني لا يسوغ الأخذ بالقول الآخر واعتقد أن أهل العصر أجمعوا على ذلك يركب من هذين الاعتقادين المنع .(1/15)
ومن علم أن الخلاف القديم حكمه باق ; لأن الأقوال لا تموت بموت قائلها : فإنه يسوغ الذهاب إلى القول الآخر للمجتهد الذي وافق اجتهاده وأما التقليد فينبني على مسألة تقليد الميت وفيها قولان مشهوران أيضا في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما .
وأما إذا كان القول الذي يقول به هؤلاء الأئمة أو غيرهم قد قال به بعض العلماء الباقية مذاهبهم فلا ريب أن قوله مؤيد بموافقة هؤلاء ويعتضد به ويقابل بهؤلاء من خالفه من أقرانهم : فيقابل بالثوري والأوزاعي أبا حنيفة ومالكا ; إذ الأمة متفقة على أنه إذا اختلف مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة لم يجز أن يقال قول هذا هو صواب دون هذا إلا بحجة . والله أعلم .
6 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
الذي عليه الأئمة الأربعة وسائر أئمة العلم أنه ليس على أحد ولا شرع له التزام قول شخص معين في كل ما يوجبه ويحرمه ويبيحه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لكن منهم من يقول : على المستفتي أن يقلد الأعلم الأروع ممن يمكنه استفتاؤه . ومنهم من يقول : بل يخير بين المفتين ، وإذا كان له نوع تمييز فقد قيل : يتبع أي القولين أرجح عنده بحسب تمييزه فإن هذا أولى من التخيير المطلق . وقيل : لا يجتهد إلا إذا صار من أهل الاجتهاد . والأول أشبه . فإذا ترجح عند المستفتي أحد القولين : إما لرجحان دليله بحسب تمييزه وإما لكون قائله أعلم وأروع : فله ذلك وإن خالف قوله المذهب .(1/16)
7 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : من صار إلى قول مقلدا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله ; لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت. ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل ، ولا يتعصب لقول على قول ولا قائل على قائل بغير حجة ; بل من كان مقلدا لزم حكم التقليد ; فلم يرجح ; ولم يزيف ; ولم يصوب ; ولم يخطئ : ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه فقبل ما تبين أنه حق ورد ما تبين أنه باطل ووقف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين . والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان كما فاوت بينهم في قوى الأبدان .
المصدر : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ
[ مبحث من الموسوعة الفقهية الكويتية ]
التَّقْلِيدُ قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ , كَأَخْذِ الْعَامِّيِّ مِنْ الْمُجْتَهِدِ فَالرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ تَقْلِيدًا , وَالرُّجُوعُ إلَى الْإِجْمَاعِ لَيْسَ تَقْلِيدًا كَذَلِكَ , لِأَنَّ ذَلِكَ رُجُوعٌ إلَى مَا هُوَ الْحُجَّةُ فِي نَفْسِهِ .
حُكْمُ التَّقْلِيدِ :
أَهْلُ التَّقْلِيدِ لَيْسُوا طَبَقَةً مِنْ طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ , فَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ فَقِيهًا , فَإِنَّ الْفِقْهَ مَمْدُوحٌ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّقْلِيدُ مَذْمُومٌ , وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنْ التَّقْصِيرِ .
أ - حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ :(1/17)
التَّقْلِيدُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ فِي الْعَقَائِدِ , كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَوُجُوبِ إفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ , وَمَعْرِفَةِ صِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ وَإِلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ , وَمَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ ذَلِكَ . وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقِيدَةِ بِمِثْلِ قَوْله تَعَالَى : { بَلْ قَالُوا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } , وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ . وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا } . وَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ فِي ذَلِكَ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى مُقَلَّدِهِ , وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي إخْبَارِهِ , وَلَا يَكْفِي التَّعْوِيلُ فِي ذَلِكَ عَلَى سُكُونِ النَّفْسِ إلَى صِدْقِ الْمُقَلَّدِ , إذْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سُكُونِ أَنْفُسِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَلَّدُوا أَسْلَافَهُمْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ , فَعَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ , وَنُسِبَ ذَلِكَ إلَى الظَّاهِرِيَّةِ .(1/18)
ثُمَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يُلْحَقُ بِالْعَقَائِدِ فِي هَذَا الْأَمْرِ كُلُّ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ , فَلَا تَقْلِيدَ فِيهِ , لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَحْصُلُ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ , وَمِنْ ذَلِكَ الْأَخْذُ بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ .
ب - حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْفُرُوعِ :
اُخْتُلِفَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى رَأْيَيْنِ :
الْأَوَّلُ : جَوَازُ التَّقْلِيدِ فِيهَا وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ , قَالُوا : لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِيهَا إمَّا مُصِيبٌ وَإِمَّا مُخْطِئٌ مُثَابٌ غَيْرُ آثِمٍ , فَجَازَ التَّقْلِيدُ فِيهَا , بَلْ وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ , وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا خَفَاءٌ يُحْوِجُ إلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ , وَتَكْلِيفُ الْعَوَّامِ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ يُؤَدِّي إلَى انْقِطَاعِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ , وَتَعْطِيلِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ , فَيُؤَدِّي إلَى الْخَرَابِ , وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ يُفْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَيُفْتُونَ غَيْرَهُمْ , وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْلِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .(1/19)
الثَّانِي : إنَّ التَّقْلِيدَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ . قَالَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ , وَابْنُ الْقَيِّمِ , وَالشَّوْكَانِيُّ , وَغَيْرُهُمْ . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ , وَإِنَّ الْأَئِمَّةَ قَدْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ , قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ : اخْتَصَرْت هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ , وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ مَعَ إعْلَامِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيُنْظَرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ : لَا تُقَلِّدْنِي , وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ , وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ , وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا .
وَفِي بَعْضِ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي يَرَى امْتِنَاعَهُ هُوَ ( اتِّخَاذُ أَقْوَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلٍ سِوَاهُ , بَلْ لَا إلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ , إلَّا إذَا وَافَقَتْ نُصُوصَ قَوْلِهِ . قَالَ فَهَذَا هُوَ التَّقْلِيدُ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ , وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ ) .(1/20)
وَأَثْبَتَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالشَّوْكَانِيُّ فَوْقَ التَّقْلِيدِ مَرْتَبَةً أَقَلَّ مِنْ الِاجْتِهَادِ , هِيَ مَرْتَبَةُ الِاتِّبَاعِ , وَحَقِيقَتُهَا الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ , عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا ) . غَيْرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ . وَمِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَظْفَرْ الْعَالِمُ بِنَصٍّ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ , وَلَمْ يَجِدْ إلَّا قَوْلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , فَيُقَلِّدُهُ . أَمَّا التَّقْلِيدُ الْمُحَرَّمُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ , ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُ إلَى التَّقْلِيدِ , فَهُوَ كَمَنْ يَعْدِلُ إلَى الْمَيْتَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُذَكَّى .
وَالتَّقْلِيدُ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الِاجْتِهَادِ , أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يَجِدْ الْوَقْتَ لِذَلِكَ , فَهِيَ حَالُ ضَرُورَةٍ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ . وَقَدْ أَفْتَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ , وَقَالَ : إذَا سُئِلْت عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ أَعْرِفْ فِيهَا خَبَرًا أَفْتَيْت فِيهَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ , لِأَنَّهُ إمَامٌ عَالِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَسُبُّوا قُرَيْشًا , فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلَأُ طِبَاقَ الْأَرْضِ عِلْمًا }.
شُرُوطُ مَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ :(1/21)
لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَسْتَفْتِيَ إلَّا مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ , أَمَّا مَنْ عَرَفَهُ بِالْجَهْلِ فَلَا يَسْأَلُهُ اتِّفَاقًا , وَكَذَا لَا يَسْأَلُ مَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , لِمَا يَرَاهُ مِنْ انْتِصَابِهِ لِلْفُتْيَا وَأَخْذِ النَّاسِ عَنْهُ بِمَشْهَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَمَا يَلْمَحُهُ فِيهِ مِنْ سِمَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالسَّتْرِ , أَوْ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ ثِقَةٌ . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى إلَّا مَنْ يُفْتِي بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ . أَمَّا مَجْهُولُ الْحَالِ فِي الْعِلْمِ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ إذْ قَدْ يَكُونُ أَجْهَلَ مِنْ السَّائِلِ . وَأَمَّا مَجْهُولُ الْحَالِ فِي الْعَدَالَةِ فَقَدْ قِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ عَنْهُ مِنْ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ كَذِبَهُ وَتَدْلِيسَهُ , وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُ السُّؤَالُ عَنْ الْعَدَالَةِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ . وَلَا يُقَلِّدُ مُتَسَاهِلًا فِي الْفُتْيَا , وَلَا مَنْ يَبْتَغِي الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ , وَلَا مَنْ يَذْهَبُ إلَى الْأَقْوَالِ الشَّاذَّةِ الَّتِي يُنْكِرُهَا الْجُمْهُورُ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
مَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ :(1/22)
تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ هُوَ الْعَامِّيُّ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ مِنْ غَيْرِ الْقَادِرِينَ عَلَى الِاجْتِهَادِ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ إذَا اسْتَشْعَرَ الْفَوَاتَ لَوْ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ , فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا . فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ لَوْ أَرَادَ التَّقْلِيدَ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ . وَقِيلَ : يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ .(1/23)
وَدَلِيلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يُضَاهِي النَّصَّ , فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ إمْكَانِهِ , كَمَا لَا يَعْدِلُ عَنْ النَّصِّ إلَى الْقِيَاسِ . أَمَّا إنْ اجْتَهَدَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ , فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَصِيرَ إلَى الْعَمَلِ أَوْ الْإِفْتَاءِ بِقَوْلِ غَيْرِهِ تَقْلِيدًا لِمَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ , قَالَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ : " إجْمَاعًا " أَيْ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ , لِأَنَّ مَا عَلِمَهُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ فَلَا يَتْرُكُهُ لِقَوْلِ أَحَدٍ . وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ نَفَذَ حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةٍ , وَلَمْ يَنْفُذْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى , وَلَا عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا , وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِتَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ يَجِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُقَلِّدَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ , فَيَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي الْبَعْضِ مُقَلِّدًا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ , وَلَكِنْ قِيلَ : إنَّهُ مَا دَامَ عَالِمًا فَلَا يُقَلِّدُ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصِّحَّةِ , بِأَنْ يُظْهِرَهُ لَهُ الْمُجْتَهِدُ الْآخَرُ . وَأَيْضًا قَدْ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ فِي الثُّبُوتِ , كَمَنْ قَلَّدَ الْبُخَارِيَّ فِي تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ , ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدَّلَالَةِ أَوْ الْقِيَاسِ أَوْ دَفْعِ التَّعَارُضِ بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِ .(1/24)
تَعَدُّدُ الْمُفْتِينَ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى الْمُقَلِّدِ :
إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ وَجَبَ عَلَى الْمُقَلِّدِ مُرَاجَعَتُهُ وَالْعَمَلُ بِمَا أَفْتَاهُ بِهِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ . وَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُفْتُونَ وَكُلُّهُمْ أَهْلٌ , فَلِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ , وَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ الْأَعْلَمِ , وَذَلِكَ لِمَا عُلِمَ أَنَّ الْعَوَامَّ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْأَلُونَ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ , وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَى أَحَدٍ فِي سُؤَالِ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَلَا يَلْزَمُ إلَّا مُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ .
لَكِنْ إذَا تَنَاقَضَ قَوْلُ عَالِمَيْنِ , فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْآخَرُ , فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ مَنْ يَرَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ مِنْهُمَا فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ . فَوَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمُقَلَّدِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ . قَالَ صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى : يَحْرُمُ الْحُكْمُ وَالْفُتْيَا بِقَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ إجْمَاعًا . وَهَذَا لِأَنَّ الْغَلَطَ عَلَى الْأَعْلَمِ أَبْعَدُ وَمِنْ الْأَقَلِّ عِلْمًا أَقْرَبُ . وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ , وَخَاصَّةً إذَا تَتَبَّعَ الرُّخَصَ لِيَأْخُذَ بِمَا يَهْوَاهُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي . وَذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ وَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَلَيْسَ لَهُ التَّخَيُّرُ مِنْهَا اتِّفَاقًا . وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا التَّخَيُّرَ - وَهُمْ قِلَّةٌ - إنَّمَا أَجَازُوهُ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ التَّرْجِيحِ .
تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ :(1/25)
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ : اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّقْلِيدِ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ , فَقَالَ جَمَاعَةٌ : يَلْزَمُهُ , وَاخْتَارَهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَلْزَمُهُ , وَرَجَّحَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَالنَّوَوِيُّ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَبَعْضِهِمْ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ . وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَنْ شَاءُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ , إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنْهُ . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ , وَلَا يَتْبَعُ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا الْخُرُوجُ عَنْهُ بِتَقْلِيدٍ سَائِغٍ , أَيْ بِتَقْلِيدِ عَالِمٍ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَفْتَاهُ .
أَثَرُ الْعَمَلِ بِالتَّقْلِيدِ الصَّحِيحِ :(1/26)
مَنْ عَمِلَ بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ فَلَا إنْكَارَ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ لَا إنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ . وَدَعْوَى الْحِسْبَةِ أَيْضًا لَا تَدْخُلُ فِيهَا , وَلِذَلِكَ فَلَا يَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مَا فَعَلَ . وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا ضَرَرُهُ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ نَفْسِهِ , كَمَنْ مَسَّ فَرْجَهُ ثُمَّ صَلَّى دُونَ أَنْ يَتَوَضَّأَ . لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي فِعْلِهِ ضَرَرٌ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ , فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْحَاكِمَ أَوْ الْمُحْتَسِبَ إنْ كَانَ يَرَى حُرْمَةَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ . وَلَيْسَ مَعْنَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ تَرْكَ الْبَيَانِ لَهُ مِنْ عَالِمٍ يَرَى مَرْجُوحِيَّةَ فِعْلِهِ , وَكَانَ الْبَيَانُ دَأْبَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يَزَالُ , فَضْلًا عَنْ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَقَدْ يُخَطِّئُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَخَاصَّةً مَنْ خَالَفَ نَصًّا صَحِيحًا سَالِمًا مِنْ الْمُعَارَضَةِ . وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ , وَهُمْ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ تَخْطِئَةِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ . إلَّا أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ يَكُونُ مَعَ تَمْهِيدِ الْعُذْرِ لِلْمُخَالِفِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَحِفْظِ رُتْبَتِهِ وَإِقَامَةِ هَيْبَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَيْضًا لَا تَمْنَعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مُقَلِّدٍ رُفِعَ إلَيْهِ أَمْرُهُ بِمَا يَرَاهُ طِبْقًا لِاجْتِهَادِهِ , إذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِخِلَافِ مُعْتَقَدِهِ
إفْتَاءُ الْمُقَلِّدِ :(1/27)
يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا , وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطَ صِحَّةٍ وَلَكِنَّهُ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ , تَسْهِيلًا عَلَى النَّاسِ . وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ إفْتَاءَ الْمُقَلِّدِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ وُجُودِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ , وَقَيَّدَهُ ابْنُ حَمْدَانَ - مِنْ الْحَنَابِلَةِ - بِالضَّرُورَةِ . وَنَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ اشْتِرَاطَ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي أَهْلًا لِلنَّظَرِ مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ مَا يُفْتِي بِهِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : الْمُفْتِي يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا سَمِعَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُفْتِيًا فِي تِلْكَ الْحَالِ وَإِنَّمَا هُوَ مُخْبِرٌ , فَيَحْتَاجُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا بِخَبَرِهِ لَا بِفُتْيَاهُ . وَصَحَّحَ الشَّوْكَانِيُّ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الْمُقَلِّدُ عَنْ مُقَلَّدِهِ إلَى الْمُسْتَفْتِي لَيْسَ مِنْ الْفُتْيَا فِي شَيْءٍ , وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ نَقْلِ قَوْلٍ . قَالَ : الَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْمُفْتِيَ الْمُقَلِّدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ , أَوْ عَنْ الْحَقِّ , أَوْ عَمَّا يَحِلُّ لَهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ , لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يَدْرِي بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ , بَلْ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا الْمُجْتَهِدُ . وَهَذَا إنْ سَأَلَهُ السَّائِلُ سُؤَالًا مُطْلَقًا . وَأَمَّا إنْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ قَوْلِ فُلَانٍ وَرَأْيِ فُلَانٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْقُلَ إلَيْهِ ذَلِكَ وَيَرْوِيهِ لَهُ إنْ كَانَ عَارِفًا بِمَذْهَبِهِ.(1/28)
وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ الْحَلِيمِيِّ وَالرُّويَانِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ , ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ فِي صُورَةِ مَا يَقُولُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ , بَلْ يُضَيِّفُهُ وَيَحْكِيهِ عَنْ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ . قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : فَعَلَى هَذَا مَنْ عَدَدْنَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُفْتِينَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ لَيْسُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ الْمُفْتِينَ , وَلَكِنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَهُمْ وَأَدَّوْا عَنْهُمْ .
هَلْ الْمُقَلِّدُ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ ؟
يَرَى جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يُعْتَبَرُ فَقِيهًا , وَلِذَا قَالُوا : إنَّ رَأْيَهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِالْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ , إذْ الْجَامِعُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ هُوَ الرَّأْيُ , وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ رَأْيٌ إذْ رَأْيُهُ هُوَ عَنْ رَأْيِ إمَامِهِ . وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ , فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى أَسَاسِ قَاعِدَةِ جَوَازِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ , يُعْتَدُّ بِالْمُقَلِّدِ فِي الْإِجْمَاعِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يَجْتَهِدُ فِيهَا .
قَضَاءُ الْمُقَلِّدِ :(1/29)
يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا . وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ , وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وقَوْله تَعَالَى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَفَاقِدُ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا يَحْكُمُ بِالتَّقْلِيدِ وَلَا يَعْرِفُ الرَّدَّ إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ .
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيَحْكُمَ بِقَوْلِ سِوَاهُ , سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ , وَسَوَاءٌ ضَاقَ الْوَقْتُ أَمْ لَمْ يَضِقْ . وَقَالَ سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُقَلِّدًا , لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ أَحْكَامُ النَّاسِ , وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ غَرَضَ الْقَضَاءِ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ فَإِذَا تَحَقَّقَ بِالتَّقْلِيدِ جَازَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ جَازَ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَتَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ بِأَمْرَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يُوَلِّيَهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ , بِخِلَافِ نَائِبِ السُّلْطَانِ , كَالْقَاضِي الْأَكْبَرِ , فَلَا تُعْتَبَرُ تَوْلِيَتُهُ لِقَاضٍ مُقَلِّدٍ ضَرُورَةً . وَيَحْرُمُ عَلَى السُّلْطَانِ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ . ثُمَّ لَوْ زَالَتْ الشَّوْكَةُ انْعَزَلَ الْقَاضِي بِزَوَالِهَا .(1/30)
الثَّانِي : أَنْ لَا يُوجَدَ مُجْتَهِدٌ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ , فَإِنْ وُجِدَ مُجْتَهِدٌ صَالِحٌ لِلْقَضَاءِ لَمْ يَجُزْ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ , وَلَمْ تَنْفُذْ تَوْلِيَتُهُ . وَعَلَى قَاضِي الضَّرُورَةِ أَنْ يُرَاجِعَ الْعُلَمَاءَ , وَهَذَا مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ , وَعَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَذْكُرَ مُسْتَنَدَهُ فِي أَحْكَامِهِ .
مَا يَفْعَلُهُ الْمُقَلِّدُ إذَا تَغَيَّرَ الِاجْتِهَادُ :
إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ أَنْ فَعَلَ الْمُقَلِّدُ طِبْقًا لِمَا أَفْتَاهُ بِهِ , لَمْ يَلْزَمْ الْمُقَلِّدَ مُتَابَعَةُ الْمُقَلَّدِ فِي اجْتِهَادِهِ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفٍ أَمْضَاهُ , كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِلَا وَلِيٍّ - مَثَلًا - مُقَلِّدًا لِمُجْتَهِدٍ يَرَى صِحَّةَ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ , ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ إلَى الْبُطْلَانِ , وَهَذَا كَمَا لَوْ حَكَمَ لَهُ حَاكِمٌ بِذَلِكَ , إذْ لَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِمِثْلِهِ . وَلَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ أَنْ يُعْلِمَ مَنْ قَلَّدَهُ بِذَلِكَ . وَهَذَا إنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ مُعْتَبَرًا , بِخِلَافِ مَا لَوْ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ يَقِينًا , بِأَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ صَحِيحٍ سَالِمٍ مِنْ الْمُعَارَضَةِ , أَوْ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ , أَوْ لِقِيَاسٍ جَلِيٍّ , فَيُنْقَضُ . وَقِيلَ بِالتَّفْرِيقِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ , فَفِي النِّكَاحِ يُنْقَضُ وَفِي غَيْرِهِ لَا يُنْقَضُ . أَمَّا قَبْلَ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُقَلِّدُ بِنَاءً عَلَى الْفُتْيَا , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْفُتْيَا مُسْتَنَدَهُ الْوَحِيدَ .
المصدر : الموسوعة الفقهية الكويتية(1/31)
بحث للدكتور سيد إمام عن تقليد المجتهد
أولا: تعريف التقليد.
وفيه ثلاث مسائل:
1 ــ تعريف التقليد. ... ...
2 ــ تعريف الحجة.
3 ــ التقليد ليس علما.
1 ــ تعريف التقليد.
أ ــ التقليد في اللغة: هو جعل القلادة في العنق، والقلادة مايحيط بالعنق، ومنه تقليد الولاة: هو جعل الولايات قلائد في أعناقهم لكونها أمانات في أعناقهم.
ومنه تقليد الهَدْى: وهو مايُهدي للحرم بجعل قلادة في عنقه ليتميز عن غيره.
وشُبِّه بالقلادة كل ما يُتطوَّق وكل مايحيط بشئ، يُقال تقلَّد سيفه تشبيها بالقلادة وإن لم يعلقه حول عنقه.
(المفردات للراغب الأصفهاني صـ 411)، و(النهاية لابن الأثير، 4/99)، و(إرشاد الفحول للشوكاني، صـ 246)، و (أضواء البيان للشنقيطي، 7 / 485).
ب ــ التقليد في الاصطلاح :
هو قبول قول الغير من غير حجة أو من غير معرفة دليله.
وسُمي هذا تقليداً، استعارة من المعنى اللغوي، كأن المستفتي المقلِّد جعل هذا الحكم كالقلادة في عنق المفتي، أي كأنه طوَّق المفتي مافي هذا الحكم من تبعه وإثم إن كان قد غشه وجعل ذلك في عنق المفتي، ومن هنا نشأ الخلاف بين أهل العلم في جواز التقليد، لأنه في حقيقته اعتقاد وعمل بغير علم.
قال ابن حزم رحمه الله (التقليد: ما اعتقده المرء بغير برهان صح عنده، لأن بعض من دون النبي صلى الله عليه وسلم قاله) (الإحكام) 6 / 60.
وقال ابن عبد البر رحمه الله (التقليد عند جماعة العلماء غير الاتباع، لأن الاتباع: هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد: أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا وجه القول ولامعناه)
(جامع بيان العلم) 2/37.(1/32)
وقال ابن عبد البر أيضا (قال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع: الرجوع إلي قول لاحجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة. والاتباع: ماثبت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مُقلّده، والتقليد في دين الله غير صحيح. وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه. والاتباع في الدين مسوّغ والتقليد ممنوع)
(جامع بيان العلم) 2/117.
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله (التقليد هو قبول القول من غير دليل) (الفقيه والمتفقه) 2/66.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله (التقليد هو اتباع القول لأن قائلا قال به من غير علم بصحته من فساده)
نقله السيوطي في كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض) ط دار الكتب العلمية 1403هـ، صـ 125.
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله (التقليد هو قبول قول ٍ بلا حجة، وليس ذلك طريقا إلى العلم لافي الأصول ولا في الفروع)
(المستصفى) جـ 2 صـ 387.
وقال الشوكاني رحمه الله (التقليد هو العمل بقول الغير من غير حجة. فيخرج العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل بالإجماع، ورجوع العامي إلى المفتي، ورجوع القاضي إلى شهادة العدول. فإنه قد قامت الحجة في ذلك.
أما العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالإجماع فقد تقدم الدليل على ذلك في مقصد السنة وفي مقصد الإجماع.
وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود فالدليل عليه مافي الكتاب والسنة من الأمر بالشهادة والعمل بها، وقد وقع الإجماع على ذلك.
وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فللإجماع على ذلك.
إلى أن قال الشوكاني: وقال ابن الهُمام ــ في التحرير ــ التقليد: العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة. وهذا الحد ّ أحسن من الذي قبله) (إرشاد الفحول) صـ 246 ــ 247.(1/33)
وقد نبّه الشوكاني بما استثناه على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة في ذاته فالأخذ به ليس تقليداً، وكذلك الإجماع المعتبر حجة في ذاته، وكذلك قبول القاضي قول الشاهد بغير حجة ليس تقليدا لأن الله أمر القضاة بقبول شهادة الشهود العدول، وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فالمقصود بذلك سؤال العامي للمفتي فهذا واجب عليه لقوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) وللإجماع على ذلك، فالمقصود السؤال لا قبول قول المفتي بغير دليل فهذا محل النزاع هنا كما سيأتي بيانه.
وهذا الذي ذكره الشوكاني، ذكره الآمدي في (الإحكام) 4/227، وأغلب الظن أن كلاهما نقله عن أبي حامد الغزالي (المستصفى) 2/387.
2 ــ تعريف الحُجّة:
الحُجَّة: هي ما يحتج به المرء على صحة قوله ومذهبه، وتسمى أيضا بالبرهان والسلطان. والمقصود بها هنا الدليل الشرعي على صحة قول المفتي.
وقد وردت هذه الأسماء كلها في كتاب الله تعالى كأسماء لما يُحتج به:
فالحجة: وردت في قوله تعالى (قل فلله الحجة البالغة) الأنعام 149،
وقوله تعالى (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) الأنعام 83،
وقوله تعالى (فلم تحاجّون فيم ليس لكم به علم) آل عمران 66.
وغيرها من الآيات.
والبرهان: ورد في قوله تعالى (ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) النساء 174،
وقوله تعالى (تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) البقرة 111.
والسلطان: ورد في قوله تعالى (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) الروم 35،
وقوله تعالى (أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) الصافات 156.
فالبرهان والسلطان في هذه الآيات كلها بمعنى الحجة.
والحجة في الشريعة هى الأدلة الشرعية، والمتفق عليه منها أربعة: الكتاب والسنة والإجماع المعتبر والقياس الصحيح.
والأصل في الأدلة: الكتاب والسنة ثم إنهما قد دلاّ على حُجّية الإجماع والقياس.(1/34)
قال تعالى (فإن تنازعتم في شئ فردّوه إلى الله والرسول) النساء 59.
أي إلى الكتاب وإلى السنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإجماع.
قال ابن عبد البر (قال الشافعي ليس لأحد أن يقول في شئ حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم مانص في الكتاب أو في السنة أو في الإجماع أو القياس على هذه الأصول مافي معناها. قال أبو عمر: أما الإجماع فمأخوذ من قول الله (ويتبع غير سبيل المؤمنين) لأن الاختلاف لا يصح معه هذا الظاهر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تجتمع أمتي على ضلالة» وعندي أن إجماع الصحابة لا يجوز خلافهم والله أعلم لأنه لا يجوز على جميعهم جهل التأويل، وفي قول الله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) دليل على أن جماعتهم إذا اجتمعوا حجة على من خالفهم كما أن الرسول حجة على جميعهم ودلائل الإجماع من الكتاب والسنة كثير ليس كتابنا هذا موضعا لتقصيها وبالله التوفيق)
(جامع بيان العلم) 2 / 26.(1/35)
وقال أبو عمر بن عبدالبر (وقال محمد بن الحسن: العلم على أربعة أوجه ماكان في كتاب الله الناطق وماأشبهه، وماكان في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المأثورة وماأشبهها، وماكان فيما أجمع عليه الصحابة رحمهم الله وماأشبه، وكذلك مااختلفوا فيه لايخرج عن جميعه، فإن أوقع الاختيار فيه على قول فهو علم تقيس عليه ماأشبه، وماأستحسنه عامة فقهاء المسلمين وماأشبهه وكان نظيراً له قال: ولا يخرج العلم عن هذه الوجوه الأربعة. قال أبو عمر: قول محمد بن الحسن وماأشبهه يعني ماأشبه الكتاب وكذلك قوله في السنة وإجماع الصحابة يعني ماأشبه ذلك كله فهو القياس المختلف فيه الأحكام وكذلك قول الشافعي أو كان في معنى الكتاب والسنة هو نحو قول محمد بن الحسن ومراده من ذلك القياس عليها وليس هذا موضع القول في القياس وسنفرد لذلك بابا كافيا في كتابنا هذا إن شاء الله. وانكار العلماء للاستحسان أكثر من انكارهم للقياس وليس هذا موضع بيان ذلك.)
(المصدر السابق).
فهذه هي الأدلة الشرعية المتفق عليها عند جمهور أهل العلم كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهى الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع المعتبر والقياس على النص والإجماع (مجموع الفتاوى) 11/339 ــ 341. وهذه الأدلة هى المقصودة بالحجة في قول العلماء في حد التقليد (هو قبول قول ٍ بلا حجة).
3 ــ التقليد ليس علما:
إذا كان التقليد هو (قبول قول بلا حجة) فهو ليس علما، لأن العلم هو ماثبت بالحجة، قال تعالى (إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله مالا تعلمون) يونس 68، فدلت الآية على أن من تكلم بسلطانٍ فقد تكلم بعلم وأن من تكلم بغير سلطان فقد قال بغير علم، والسلطان: الحجة كما سبق.
وقال ابن تيمية (العلم ماقام عليه الدليل) (مجموع الفتاوي) 13/136.
فإذا كان التقليد هو قبول قول ليس عليه حجة ولادليل، فليس هو بعلمٍ، وهذا لاخلاف عليه بين العلماء سواء منهم من أوجب التقليد أو حَرَّمه.(1/36)
قال ابن عبدالبر (قال أهل العلم والنظر: حد العلم: التَّبيُّن وإدراك المعلوم على ماهو به، فمن بان له الشئ فقد علمه.، والمقلِّد لا علم له، ولم يختلفوا في ذلك) (جامع بيان العلم) 2 / 117.
وقال أبو حامد الغزالي (التقليد هو قبول قول ٍ بلا حجة، وليس ذلك طريقاً إلى العلم لافي الأصول ولافي الفروع) (المستصفى) 2/387.
وقال القاضي عبدالوهاب المالكي (التقليد لايُثمر علماً، فالقول به ساقط، وهذا الذي قلناه قول كافة أهل العلم) نقله السيوطي في (الرد على من أخلد إلى الأرض) صـ 126.
وقال ابن القيم رحمه الله (التقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم) (اعلام الموقعين) 2/169، ومثله في (اعلام الموقعين) 1/45.
وفي الجملة فالمقلد قد قَبِل قولاً من غير علم بصحته من فساده.
ومن هنا نشأ الخلاف بين أهل العلم في جواز العمل بالتقليد، سواء في الإفتاء أو الاستفتاء.
............................................
ثانيا: تعريف الاتباع
هو اتباع القول الذي شهد الدليل بصحته، فيكون المتبع عاملا بعلم وعلى بصيرة بصحة ما يعمل به ويكون متبعاً للدليل الشرعي.
قال تعالى (اتبعوا ماأنزل إليكم من ربكم ولاتتبعوا من دونه أولياء) الأعراف 3.
وقال تعالى (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) الأنعام 155.
وقال تعالى (اتبع ماأوحي إليك من ربك) الأنعام 106، وقال تعالى (قل إنما اتبع مايوحى إلي من ربي) الأعراف 203.
فالعمل بالوحي من الكتاب والسنة هو الاتباع كما دلت عليه هذه الآيات.
قال ابن عبدالبر (الاتباع: هو أن تتبع القائل على مابان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد: أن تقول بقوله وأنت لاتعرفه ولا وجه القول ولا معناه) (جامع بيان العلم) 2/37.(1/37)
وقال ابن عبدالبر (قال أبو عبدالله بن خويز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع: الرجوع إلى قول لاحجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع: ماثبت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مُقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح. وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه. والاتباع في الدين مسوّغ والتقليد ممنوع) (جامع بيان العلم) 2/117. فالاتباع هو العمل بالدليل الشرعي، ويكون المفتي مخبراً بالدليل.
هذا، وقد اعترض البعض على هذا الحد، وقالوا إن التقليد المذموم سُمِّي اتباعا أيضا في كتاب الله، كما في قوله تعالى (ولاتتبعوا من دونه أولياء) الأعراف 3، وقوله تعالى (إذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا ورأوا العذاب) البقرة 166. ولامشاحة في الاصطلاح طالما عُلم المعنى وعُرِف الفرق بين الاتباع والتقليد. قال ابن حزم (وقد استحى قوم من أهل التقليد من فعلهم فيه، وهم يقرّون ببطلان المعنى الذي يقع عليه هذا الإسم، فقالوا: لانقلّد بل نتبع. قال ابن حزم: ولم يتخلصوا بهذا التمويه من قبيح فعلهم، لأن المحرَّم إنما هو المعنى فليسموه بأي اسم شاءوا) (الإحكام)6 / 60.
..........................................
ثالثا: القائلون بوجوب التقليد
لا خلاف بين العلماء في وجوب الاستفتاء على الجاهل حيث يجب، أما التقليد ففيه خلاف، والمستفتي قد يكون مُقلداً وقد يكون متبعاً، ولكن لما غلب التقليد على المستفتين فقد غلب اسم المقلِّد على المستفتي.
وسوف نذكر هنا أقوال من أوجبوا التقليد ثم نشير إلى أدلتهم مع الرد عليها.
1 ــ القائلون بوجوب التقليد
أي أنه يجب على العامي (الجاهل) قبول قول المفتي بغير حجة، وهؤلاء منهم من قال لا يسأل عن الحجة، ومنهم من قال إن قول المفتي في حقه كالحجة والدليل الشرعي.(1/38)
قال الخطيب البغدادي رحمه الله (وأما الجواب عن تقليد العامي، فهو أن فرضه تقليد مَن هو مِن أهل الاجتهاد، وقال أبو علي الطبري: فرضه اتباع عالمه بشرط أن يكون عالمه مصيباً، كما يتبع عالمه بشرط أن لايكون مخالفا للنص. وقد قيل إن العامي يقلد أوثق المجتهدين في نفسه، ولايُكلف أكثر من ذلك لأنه لاسبيل له إلى معرفة الحق والوقوف على طريقه)
(الفقيه والمتفقه) 2/65.
وما نقله الخطيب عن أبي علي الطبري لايؤيد قوله بوجوب التقليد، بل حقيقة قول الطبري هو وجوب الاتباع، فإن العامي لايعلم أن عالمه مصيب غير مخالف للنص إلا إذا ذكر له الدليل، وهذا هو الاتباع.
وقال الخطيب أيضا (ليس ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أجابه به، ولا يقول لم ولا كيف؟. قال الله سبحانه وتعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) وفرق تبارك وتعالى بين العامة وبين أهل العلم فقال (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون). فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك سأل عنها في زمان آخر ومجلس ثان أو بعد قبول الفتوى من المفتي مجردة.) (الفقيه والمتفقه) 2/180.
وقد تابعه على هذا ــ في أن لاينبغي للعامي مطالبة المفتي بالدليل ــ كلاً من النووي (المجموع، 1/57) وابن حمدان (صفة الفتوى، صـ 84).
وزاد النووي (وقال السمعاني: لا يُمنع من طلب الدليل وأنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعا به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر فهم العامي عنه) قال النووي (والصواب الأول).
وقال الآمدي رحمه الله (العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد، وإن كان مُحصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، يلزمه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه، عند المحققين من الأصوليين) (الإحكام) 4/234.(1/39)
وقال الشاطبي رحمه الله (فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء، إذ كانوا لايستفيدون منها شيئاً، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولايجوز ذلك لهم ألبتة، وقد قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) والمقلد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق. فهم إذاً القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام الشارع.
وأيضا فإنه إذا كان فقد المفتي يسقط التكليف، فذلك مساو لعدم الدليل، إذ لاتكليف إلا بدليل، فإذا لم يوجد دليل على العمل سقط التكليف به، فكذلك إذا لم يوجد مفت في العمل فهو غير مكلف به. فثبت أن قول المجتهد دليل العامي. والله أعلم.) (الموافقات) 4/292 ــ 293.
2 ــ أدلة القائلين بوجوب التقليد والرد عليها.
اعلم أن أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم قد ذموا التقليد ونهوا عنه، ثم توسع ابن حزم (456هـ) في نقض التقليد، وكذلك ابن عبدالبر (463 هـ)، إلا أنه لايوجد أحد استوفى حجج المقلدين ورد عليها كما فعل ابن القيم رحمه الله (751هـ). وذلك في (اعلام الموقعين) جـ 2 صـ 182 ــ 260، وبدأ كلامه بقوله (فصل في عقد مجلس مناظرة بين مقلدٍ وبين صاحب حجة ــ وذكر ثمانين وجهاً في الرد على المقلدين ونقض التقليد، إلى أن قال ــ وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما ومالهم وماعليهم من المنقول والمعقول مالا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها، ولايظفر به في غير هذا الكتاب أبداً) أهـ.
ويلي ابن القيم في الجودة والاتقان ماذكره ابن حزم في إبطال التقليد (الباب السادس والثلاثون من كتابه الإحكام) جـ 5 صـ 59 ــ 182.(1/40)
ثم إن جميع من تكلموا في الرد على المقلدين بعد ذلك هم عالة على هؤلاء. فالفلاّني (1218هـ) في كتابه (ايقاظ همم أولي الأبصار)، والشوكاني (1250هـ) في كتابه (القول المفيد) وغيره، وصديق حسن خان في كتابه (الدين الخالص) جـ 4، والشنقيطي في (أضواء البيان) جـ 7، كلهم نقلوا عن ابن عبدالبر وابن القيم، وكذلك فعل المعصومي في كتابه (هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين؟).
ولسنا هنا بصدد بسط أدلة من أوجبوا التقليد فمن أراد ذلك فليطالع (اعلام الموقعين) لابن القيم، ولكنا نوجز هنا أهم مااستدلوا به.
فقد قالوا إن وجوب التقليد يدل عليه النص والإجماع والمعقول (الإحكام) للآمدي، 4 / 234.
أ ــ أما النصوص التي استدلوا بها على وجوب التقليد.
فمنها قوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) النحل 43،
قالوا فيجب على العامي الذي لايعلم أن يقبل ماأجابه به المفتي، وأجاب مَن منع مِن التقليد: بأن الذكر هو الكتاب والسنة، بدليل قوله تعالى ــ في الآية التالية لهذه ــ (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم) النحل 44، فأهل الذكر هم العالمون بالكتاب والسنة وأنهم يجب عليهم إذا سُئلوا أن يجيبوا بما علموه منهما كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (ليبلغ الشاهد الغائب) فعليهم تبليغ ماشاهدوه من العلم لا آراءهم المجردة.
ومنها قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة ٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122.
قال أنصار التقليد: فأوجب الله على الناس قبول قول الفقهاء، فأجاب مَن منع مِن التقليد: بأن الله أوجب على الفقهاء أن ينذروا قومهم، والإنذار لايكون إلا بالدليل الشرعي كما قال تعالى (قل إنما أنذركم بالوحي) الأنبياء 45.
وفي الجملة فما مِن نص استدل به أنصار التقليد إلا وقد رد عليه مَن منع مِن التقليد.(1/41)
ب ــ وأما الإجماع: فقال الآمدي (فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير، فكان إجماعا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقاً) (الإحكام) 4/235. وهذا القول رد عليه ابن القيم بقوله (قولكم «إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد، وكان الناس حديثي عهد بالإسلام، وكانوا يفتونهم، ولم يقولوا لأحد منهم عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل» جوابه أنهم لم يُفْتُوهم بآرائهم، وإنما بلغوهم ماقاله نبيهم وفعله وأمر به، فكان ماأفْتَوْهم به هو الحكم وهو الحجة، وقالوا لهم: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، فكان مايخبرونهم به هو نفس الدليل وهو الحكم، فإن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحكم وهو دليل الحكم، وكذلك القرآن، وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ماقاله نبيهم وفَعَلَه وأَمَر به، وإنما تُبَلغهم الصحابة ذلك، فأين هذا من زمان ٍ إنما يحرص أشباه الناس فيه على ماقاله الآخر فالآخر، وكلما تأخر الرجل أخذوا كلامه؟)
(اعلام الموقعين) 2/247.(1/42)
وقال الشوكاني أيضا في نقض كلام الآمدي وغيره ممن ادعى الإجماع على جواز التقليد، قال (وأعجب من هذا أن بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول نسب هذا القول إلى الأكثر وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين. فإن أراد إجماع خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فتلك دعوى باطلة فإنه لا تقليد فيهم البتة، ولاعرفوا التقليد ولاسمعوا به بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسئلة التي تعرض له فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة، وهذا ليس من التقليد في شئ بل هو من باب طلب حكم الله في المسئلة والسؤال عن الحجة الشرعية، وقد عرفت في أول هذا الفصل أن التقليد إنما هو العمل بالرأي لا بالرواية).
(إرشاد الفحول) صـ 249.
جـ ــ وأما المعقول: فقولهم إن العامي لايفهم الأدلة فلا فائدة في ذكرها له، كما قال الخطيب البغدادي (لأنه لا سبيل له إلى معرفة الحق والوقوف عليه) (الفقيه والمتفقه) 2/65، وكما قال الشاطبي (إن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء، إذ كانوا لايستفيدون منها شيئا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولايجوز ذلك لهم البتة) (الموافقات) 4/293.
وقالوا أيضا إنه لايجوز النظر في الأدلة إلا لمن كانت له أهلية الاجتهاد ولو كُلِّف العامة طلب رتبة الاجتهاد لتعطلت الحِرف والصنائع ولانقطع الحرث والنسل وخربت الدنيا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم. ذكر هذا الغزالي في (المستصفى) 2/389، وتابعه الآمدي في (الإحكام) 4/235، وابن حمدان في (صفة الفتوى) صـ 53، وغيرهم.(1/43)
والجواب عن هذا: أن قولهم إن العامي لا يستفيد من الأدلة شيئا ولا يفهمها، قول مردود عليه بقوله تعالى (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر، وقوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد 24، ولعل أفضل من رد هذا القول هو الشنقيطي في تفسير هذه الآية من سورة محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال إن هذا خطاب توبيخ للكفار لإعراضهم عن تدبر القرآن فكيف بعوام المسلمين؟، أفليس من الأولى أن يكونوا مطالبين بتدبر القرآن وفهم الأدلة؟ هذا مجمل كلامه في (أضواء البيان) جـ 7 صـ 430.
وذكر صالح الفُلاّني مثله في (ايقاظ همم أولي الأبصار) صـ 60 ــ 61، فقال إن الله تعالى وصف المشركين بأنهم (أولئك كالأنعام بل هم أضل) ومع هذا فقد أقام عليهم الحجة بكتابه الكريم فالاعتذار بأن العامة لايفهمون النصوص باطل قطعا. انتهى ماذكره ملخصاً.
فالحقيقة إن إعراض العلماء عن ذكر الأدلة للعامة وتفهيمهم إياها جعل العامة يعرضون عن طلبها، والذي يبعد فهمه عن العامة من الأدلة أقل بكثير مما يمكنهم فهمه. ثم إن الذين حَرّموا التقليد وأوجبوا الاتباع لم يشترطوا أن يعرف العامي دليل الفتوى على التفصيل ويفهمه كفهم المفتي له. وإنما اكتفوا بأن يقول العامي للمفتي. أهكذا أمر الله ورسوله؟ فإن قال له: نعم قبل قوله. وسيأتي هذا في كلام ابن حزم وابن دقيق العيد إن شاء الله.(1/44)
وأما قولهم إن في تكليف العامة معرفة دليل الفتوى تكليفا لهم بطلب رتبة الاجتهاد، وهذا محال. فهذا قول مردود إذ لم يقل أحد إنه لايفهم أي دليل إلا مجتهد، فكثير من الأدلة يمكن للعامة فهمها دون عناء كما ذكرنا أعلاه، وهناك أدلة يمكن للعالم أن يقرِّب فهمها للعامة كما ذكرنا من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب الأمثال أحيانا ليقرب فهم الجواب للسائل. كما أن العامي ليس مكلفا بمعرفة أدلة جميع مسائل الفقه أو معظمها كالمفتي، وإنما العامي يكفيه أن يعلم الدليل في مسألته ونازلته. بل قد قال ابن حزم وابن دقيق العيد إنه يكفيه أن يعلم أن ماأفتى به المفتي هو ماأمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذا مجمل مااحتج به من أوجب التقليد على العامة مع الرد عليهم بايجاز، ومنه تعلم أن من أوجب التقليد لا حجة له يستند إليها. ومن هنا قال الشوكاني (والحاصل أنه لم يأت من جوَّز التقليد فضلا عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط)
(إرشاد الفحول) صـ 249.
........................................
رابعا: القائلون بوجوب الاتباع
وهم الذين أوجبوا على المستفتي معرفة دليل الفتوى، وحَرَّموا التقليد ولم يرخصوا فيه بحال، فمنهم:
1 ــ ابن خويز منداد المالكي رحمه الله ــ كما نقل عنه ابن عبد البر قوله ــ (والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع) (جامع بيان العلم) 2/117. وقد سبق بطوله.
2 ــ ابن حزم رحمه الله، قال (ونحن لم ننكر فتيا العلماء للمستفتين، وإنما أنكرنا أن يؤخذ بها دون برهان يعضدها ودون ردّ لها إلى نص القرآن والسنة، لأن ذلك يوجب الأخذ بالخطأ، وإذا كان في عصره عليه السلام من يفتي بالباطل فهُم من بعد موته عليه السلام أكثر وأفشى، فوجب بذلك ضرورة أن نتحفظ من فتيا كل مفت ٍ، ما لم تستند فتياه إلى القرآن والسنة والإجماع) (الإحكام) 6 /100 ــ 101.(1/45)
وقال ابن حزم أيضا (فالتقليد كله حرام في جميع الشرائع أولها عن آخرها، من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام. فإن قال قائل: فما وجه قوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون)؟ قيل له وبالله التوفيق: إنه تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم عما حكم به الله تعالى في هذه المسألة، وماروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ولم يأمرنا أن نسألهم عن شريعة جديدة يحدثونها لنا من آرائهم، وقد بيّن ذلك عليه السلام بقوله « فليبلغ الشاهد الغائب ») (الإحكام) 6 /150 ــ 151.(1/46)
وقال ابن حزم أيضا (فإن قال قائل: فكيف يصنع العامي إذا نزلت به النازلة؟ فالجواب وبالله تعالى التوفيق: أنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة، ولم يخص الله تعالى بذلك عامياً من عالم، ولا عالماً من عامي، وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد، فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده، والعامي، والعذراء المخدّرة، والراعي في شعف الجبال، كما هو حرام على العالم المتبحر ولافرق. والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله عليه السلام في كل ماخص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا، كلزومه للعالم المتبحر ولافرق. فمن قلّد مِن كل مَن ذكرنا فقد عصى الله عزوجل وأثم، ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد، فلا يلزم المرء منه إلا مقدار مايستطيع عليه، لقوله تعالى: (لايكلف الله نفسا إلا وسعها)، ولقوله تعالى (فاتقوا الله مااستطعتم) ــ إلى أن قال ابن حزم ــ فاجتهاد العامي إذا سأل العالم عن أمور دينه فأفتاه ــ: أن يقول له: هكذا أمر الله ورسوله: فإن قال له: نعم، أخذ بقوله، ولم يلزمه أكثر من هذا البحث، وإن قال له: لا، أو قال له: هذا قولي، أو قال له: هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحداً من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم، أو انتهره أو سكت عنه، فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه، وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء، وأن يطلبه حيث كان، إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك، ومايجب في دين الإسلام في تلك المسألة.) (الإحكام) 6 / 151 ــ 152.(1/47)
3 ــ وقال صالح بن محمد الفُلاّني (1218 هـ) في كتابه (إيقاظ همم أولي الأبصار) (نقل الأصفهاني في تفسيره عن الإمام ابن دقيق العيد ما ملخصه ان اجتهاد العامي عند من قال به من العلماء هو أنه إذا سئل في هذه الاعصار التي غلب فيها الفتوى بالاختيارات البشرية غير المعصومة بل المختلفة المتضادة أن يقول للمفتي هكذا أمر الله تعالى ورسوله، فإن قال نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا البحث، ولايلزم المفتي أن يذكر له الآية والحديث وما دلا عليه واستُخرِج منها بطريق الأصول الصحيح. وإن قال له هذا قولي أو رأيي أو رأي فلان أو مذهبه فَعيَّن واحداً من الفقهاء أو انتهره أو سكت عنه فله طلب عالم غيره حيث كان يفتيه بحكم الله تعالى وحكم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك وما يجب في دين الإسلام في تلك المسئلة ومن تأمل أقوال السلف والأئمة الأربعة في الحث على أن لايستفتي إلا العالم بالكتاب والسنة عرف ماذكرناه.) (إيقاظ همم أولي الأبصار) ط دار المعرفة، صـ 39.
4 ــ وقال الشوكاني رحمه الله (1250 هـ) (وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد في الرسالة التي سميتها «القول المفيد في حكم التقليد» فلا نطول المقام بذكر ذلك. وبهذا تعلم أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور) (ارشاد الفحول) صـ 248 ــ 249.(1/48)
وقال الشوكاني أيضا (وأما ماذكروه من استبعاد أن يفهم المقصِّرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوّغا للتقليد، فليس الأمر كما ذكروه، فههنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد، وهى سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له، لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض. وعلى هذا كان عمل المقصِّرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن لم يسعه ما وسع أهل هذه القرون الثلاثة الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق فلا وسَّع الله عليه. وقد ذم الله تعالى المقلدين في كتابه العزيز في كثير من (إنا وجدنا آباءنا على أمة) و(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) و و(إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)
(ارشاد الفحول) صـ 249ــ250.
وقال الشوكاني أيضا (إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم، والمقصر يسأل الكامل، فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما المطلع على مايحتاج إليه في فهمهما من العلوم الآلية حتى يدلّوه عليه ويرشدوه إليه، فيسأله عن حادثته طالبا منه أن يذكر له فيها مافي كتاب الله سبحانه أو مافي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينئذ يأخذ الحق من معدنه، ويستفيد الحكم من موضعه، ويستريح من الرأي الذي لايأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع) (ارشاد الفحول) صـ 252.
فهذه أقوال من أوجبوا الاتباع وحرّموا التقليد البته، وملخصها أن المستفتي يجب عليه أن يسأل المفتي عن حكم الشرع في مسألته وأن يسأله عن دليل قوله أو يكتفي بقول المفتي إن هذا حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مسألته وإن لم يذكر له عين الدليل. فإن لم يفعل المستفتي هذا فهو آثم.
.............................................
خامسا: القائلون بوجوب الاتباع مع جواز التقليد للضرورة
وهؤلاء منهم: ابن عبدالبر وابن تيمية وابن القيم والشنقيطي، وإليك أقوالهم:(1/49)
1 ــ قال ابن عبدالبر رحمه الله (باب فساد التقليد ونفيه، والفرق بين التقليد والاتباع).
(قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، وروى عن حذيفة وغيره قالوا لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم، وقال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب فقال لي «ياعدي ألقِ هذا الوثن من عنقك وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال: قلت يارسول الله إنا لم نتخذهم أرباباً قال: بلى أليس يحلون لكم ماحرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ماأحل الله لكم فتحرمونه، فقلت: بلى، فقال: تلك عبادتهم»، حدثنا عبدالوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا يوسف بن عدي قال حدثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن أبي البختري في قوله عزوجل (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال إما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ماأطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية، قال وحدثنا ابن وضاح حدثنا موسى بن معاوية حدثنا وكيع حدثنا سفيان والأعمش جميعا عن حبيب ابن أبي ثابت عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة في قوله (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) أكانوا يعبدونهم، فقال لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه.(1/50)
وقال جل وعز (وكذلك ماأرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم) فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء فقالوا (إنا بما أرسلتم به كافرون) وفي هؤلاء ومثلهم قال الله جل وعز (إن شر الدوابَّ عند الله الصم البكم الذين لايعقلون) وقال (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) وقال جل وعز عائبا لأهل الكفر وذاما لهم (ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) وقال (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء وقد احتج العلماء بهذه الآيات في ابطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل فكفر، وقلد آخر فأذنب، فقلد آخر في مسئلة دنياه فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه: وقال الله جل وعز (وماكان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم مايتقون) وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا وفي ثبوته إبطال التقليد أيضا فإذا بطل التقليد بكل ماذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهى الكتاب والسنة أو ماكان في معناهما بدليل جامع بين ذلك.(1/51)
ــ ثم ذكر ابن عبدالبر بعض الآثار في ذم التقليد والنهي عنه، إلى أن قال ــ وهذا كله لغير العامة فإن العامة لابد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها لأنها لاتتبين موقع الحجة ولاتصل بعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات لاسبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة والله أعلم. ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عزوجل (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) وأجمعوا على أن الأعمى لابد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه، فكذلك من لاعلم له ولا بصر بمعنى مايدين به لابد له من تقليد عالمه. وكذلك لم يختلف العلماء ان العامة لايجوز لها الفتيا وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم والقول في العلم) (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 109 ـ 115.
وبهذا ترى أن ابن عبد البر بعدما بيّن فساد التقليد وخطره عاد فنقض ما أسسه إذ أجاز التقليد للعامة وهم أكثر الأمة، وكأنه يحظر التقليد على المفتين فقط.
ولم يوافقه من يأت ذكرهم على توسّعه في إجازة التقليد للعامة وإنما قصروه على حال الضرورة كما سيأتي في كلام ابن تيمية وابن القيم والشنقيطي وهو الذي نراه صوابا والله أعلم.(1/52)
كما رد الفُلاّني دعوى ابن عبد البر الإجماع على جواز التقليد للعامة، فقال (وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عزوجل (فاسئلوا أهل الذكر) الخ، فيه نظر، فإن دعوى الإجماع فيه غير مُسَلم فقد نقل الأصفهاني في تفسيره عن الإمام ابن دقيق العيد ما ملخصه أن اجتهاد العامي عند من قال به من العلماء هو أنه إذا سئل في هذه الأعصار التي غلب فيها الفتوى بالاختيارات البشرية غير المعصومة بل المختلفة المتضادة أن يقول للمفتي هكذا أمر الله تعالى ورسوله فإن قال نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا البحث ــ إلى قوله ــ ومن تأمل أقوال السلف والأئمة الأربعة في الحث على أن لايستفتي إلا العالم بالكتاب والسنة عرف مصداق ما ذكرناه) إلى آخر مانقله الفلاني وقد ذكرناه من قبل (ايقاظ همم أولي الأبصار) صـ 39.
2 ــ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال:
(وكذلك المسائل الفروعية: من غالية المتكلمين والمتفقهة من يوجب النظر والاجتهاد فيها على كل أحد، حتى على العامة ! وهذا ضعيف، لأنه لو كان طلب علمها واجباً علي الأعيان فإنما يجب مع القدرة، والقدرة على معرفتها من الأدلة المفصلة تتعذر أو تتعسر على أكثر العامة.
وبازائهم من أتباع المذاهب من يوجب التقليد فيها على جميع من بعد الأئمة: علمائهم. وعوامهم.
ومن هؤلاء من يوجب التقليد بعد عصر أبي حنيفة ومالك مطلقاً ثم هل يجب على كل واحد اتباع شخص معين من الأئمة يقلده في عزائمه ورخصه؟ على وجهين. وهذان الوجهان ذكرهما أصحاب أحمد والشافعي، لكن هل يجب على العامي ذلك؟(1/53)
والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائر في الجملة، لايوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولايوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد. فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد: إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء.
وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد، فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزي والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز، وقد يكون الرجل قادراً في بعض عاجزاً في بعض، لكن القدرة على الاجتهاد لاتكون إلا بحصول علوم تفيد معرفة المطلوب، فأما مسألة واحدة من فن فيبعد الاجتهاد فيها، والله سبحانه أعلم.) (مجموع الفتاوى) 20 /203 ــ 204.
وقال ابن تيمية أيضا (وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل مايقولونه، وذلك هو الواجب عليهم، فقال أبو حنيفة: هذا رأيي وهذا أحسن مارأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع، وصدقة الخضروات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت إلى قولك ياأباعبدالله، ولو رأي صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت.
ومالك كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة، أو كلاما هذا معناه.
والشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهى قولي. وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.(1/54)
والإمام أحمد كان يقول: لاتقلدوني ولاتقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا. وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال، وقال: لاتقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»، ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيراً، فيكون التفقه في الدين فرضا. والتفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية. فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين، لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره، فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه، ويلزمه مايقدر عليه. وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقاً، وقيل: يجوز مطلقاً، وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال.)
(مجموع الفتاوى) 20 / 211 ــ 212.
فهذا ابن تيمية رحمه الله قد قصر جواز التقليد على العاجز عن الاستدلال، وليس هذا حال جميع العامة، كما أن من أوجب الاتباع ــ كابن حزم والشوكاني ــ لم يوجب الاستدلال والاجتهاد على الجميع، فتأمل هذا الفرق بين الاتباع والاجتهاد، وأن أدنى مايحتاط المرء به لدينه في الاتباع هو أن يسأل المفتي أهكذا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن قال نعم، قبل منه.(1/55)
3 ــ أما ابن القيم رحمه الله فقد أشرنا من قبل إلى رده على المقلدة وإبطاله لحججهم، ومع هذا فقد قال إن التقليد إنما يباح للضرورة، فقال في الرد على أنصار التقليد (إن مَن ذكرتم مِن الأئمة لم يقلدوا تقليدكم، ولا سوّغوه بتَّة، بل غاية مانقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول مَنْ هو أعلم منهم فقلدوه، وهذا فعل أهل العلم، وهو الواجب، فإن التقليد إنما يباح للمضطر، وأما من عَدَلَ عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد فهو كمن عَدَل إلى المَيْتَة مع قُدْرته على المُذَكَّي، فإن الأصل أن لايقبل قول الغير إلا بدليل إلا عند الضرورة، فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم.) (اعلام الموقعين) 2/241.
وقال ابن القيم أيضا (وأما تقليد من بذل جَهْده في اتباع ماأنزل الله وخفي عليه بعضه فقلّد فيه من هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور) (اعلام الموقعين) 2/169.
4 ــ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، في تفسير قول الله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها) من سورة محمد صلى الله عليه وسلم، قال رحمه الله (اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين: إن تدبر هذا القرآن العظيم، وتفهمه والعمل به. لايجوز إلا للمجتهدين خاصة، وأن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولاسنة ولا إجماع ولاقياس جلي، ولاأثر عن الصحابة، قول لامستند له من دليل شرعي أصلا.
بل الحق لاشك فيه، أن كل من له قدرة من المسلمين، على التعلم والتفهم، وإدراك معاني الكتاب والسنة، يجب عليه تعلمهما، والعمل بما علم منهما.
أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعاً.(1/56)
وأما ما علمه منهما علماً صحيحاً ناشئاً عن تعلم صحيح، فله أن يعمل به، ولو آية واحدة أو حديثاً واحداً.
ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من لم يتدبر كتاب الله عام لجميع الناس.
ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار، ليس أحد منهم مستكملا لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول، بل ليس عندهم شيء منها أصلا. فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به، والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالاصطلاح الأصولي لما وبّخ الله الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين، كما ترى.
ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، وإذاً فدخول الكفار والمنافقين، في الآيات المذكورة قطعي، ولو كان لايصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله، وعدم عملهم به.
وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعاً، ولايخفى أن شروط الاجتهاد لاتشترط إلا فيما فيه مجال للاجتهاد، والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة، من الكتاب والسنة، لايجوز الاجتهاد فيها لأحد، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد، بل ليس فيها إلا الاتباع. ــ إلى أن قال ــ ومن المعلوم، أنه لايصح تخصيص عمومات الكتاب والسنة، إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
ومن المعلوم أيضا، أن عمومات الآيات والأحاديث، الدالة على حث جميع الناس، على العمل بكتاب الله، وسنة رسوله، أكثر من أن تحصى، كقوله صلى الله عليه وسلم:«تركت فيكم ماإن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي» وقوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي» الحديث. ونحو ذلك مما لا يحصى.(1/57)
فتخصيص جميع تلك النصوص، بخصوص المجتهدين وتحريم الانتفاع بهدي الكتاب والسنة على غيرهم، تحريماً باتا يحتاج إلي دليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولايصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرين على أنفسهم بأنهم من المقلدين) (أضواء البيان) 7 /430 ــ 431.
وقد أضفت لكلامه حرف (لم) في قوله (ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من يتدبر كتاب الله) إذ لا يستقيم الكلام إلا بإضافة لم (على من لم يتدبر).
وقال الشنقيطي أيضا (وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لايقدر عليه، فهم أيضا زعم باطل، لأن تعلم الكتاب والسنة، أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة، مع كونها في غاية التعقيد والكثرة، والله جل وعلا يقول في سورة القمر مرات متعددة: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر). ويقول تعالى في الدخان: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون). ويقول في مريم: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لداً). فهو كتاب ميسر، بتيسير الله، لمن وفقه الله للعمل به) (أضواء البيان) 7/435.
ثم تكلم الشنقيطي فيما يجوز من التقليد فقال: (أما التقليد الجائز الذي لايكاد يخالف فيه أحد من المسلمين فهو تقليد العامي عالماً أهلا للفتيا في نازلة ٍ نزلت به، وهذا النوع من التقليد كان شائعاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولاخلاف فيه.
فقد كان العامي، يسأل من شاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن حكم النازلة تنزل به فيفتيه فيعمل بفتياه.
وإذا نزلت به نازلة أخرى لم يرتبط بالصحابي الذي أفتاه أولا بل يسأل عنها من شاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعمل بفتياه.) (أضواء البيان) 7 / 487.(1/58)
إلا أن الشنقيطي رحمه الله بيَّن بعد ذلك المراد بالتقليد الجائز في كلامه السابق، وهو ماكان محلاً للاجتهاد من المسائل، أما مافيه نص كتاب أو سنة أو إجماع فلا تقليد فيه، فقال رحمه الله (اعلم أن مما لابد منه معرفة الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن محل الاتباع لايجوز التقليد فيه بحال.
وإيضاح ذلك: أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، لايجوز فيه التقليد بحال. لأن كل اجتهاد يخالف النص، فهو اجتهاد باطل، ولاتقليد إلا في محل الاجتهاد. لأن نصوص الكتاب والسنة، حاكمة على كل المجتهدين، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنا من كان.
ولا يجوز التقليد فيما يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً إذ لا أسوة في غير الحق.
فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط. ولااجتهاد، ولاتقليد فيما دل عليه نص، من كتاب أو سنة، سالم من المعارض.
والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم، لايكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم. وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبدالبر في جامعه. وهو قوله: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة. ــ إلى أن قال الشنقيطي ــ وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد، وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد، فجَعْل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط، كما ترى.
والتحقيق أن اتباع الوحي لايشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه.وأنه يصح علم حديث والعمل به، وعلم آية والعمل بها. ولايتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد. فيلزم المكلف أن يتعلم مايحتاج إليه من الكتاب والسنة، ويعمل بكل ماعلم من ذلك، كما كان عليه أول هذه الأمة، من القرون المشهود لها بالخير.) (أضواء البيان) 7 / 547 ــ 550.(1/59)
ورغم كلامه هذا، فقد أجاز الشنقيطي التقليد بالمعنى الاصطلاحي الذي قدمناه وذلك في حال الضرورة، فقال رحمه الله (لاخلاف بين أهل العلم، في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاماً غير أحكام الاختيار. فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاء صحيحاً حقيقياً، فهو في سعة من أمره فيه. وقد استثنى الله جل وعلا، حالة الاضطرار في خمس آيات من كتابه، ذكر فيها المحرمات الأربع التي هى من أغلظ المحرمات، تحريماً وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وماأهلّ لغير الله به. فإن الله تعالى كلما ذكر تحريمها استثنى منها حالة الضرورة، فأخرجها من حكم التحريم. ــ ثم ذكر الآيات، وقال ــ وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقياً، بحيث يكون لاقدرة له البتة على غيره مع عدم التفريط لكونه لاقدرة له أصلا على الفهم.
أو له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم.
أو هو في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجاً لأنه لايقدر على تعلم كل مايحتاجه في وقت واحد.
أو لم يجد كفئا يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة. لأنه لا مندوحة له عنه.
أما القادر على التعلم المفرط فيه. والمقدم آراء الرجال على ماعلم من الوحي، فهذا الذي ليس بمعذور) (أضواء البيان) 7/553 ــ 555.
5 ــ الراجح في مسألة الاتباع والتقليد - والله أعلم - أن الاتباع واجب على كل مسلم ولايجوز التقليد إلا للضرورة كما قال ابن القيم والشنقيطي وغيرهما، وهذا الرأي مبني على مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن الله تعالى يقول (ولاتقف ما ليس لك به علم) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة علي كل مسلم). فهذا خطاب لجميع المؤمنين لافرق بين عالم وعامي، فالكل مخاطب بألا يتبع ما ليس له به علم، والكل مخاطب بطلب علم ماوجب عليه، وهو فرض العين من العلم. والعلم هو الدليل الشرعي كما ذكرنا، فمعرفة دليل القول والعمل واجب على كل مسلم، وهذا هو الاتباع.(1/60)
المقدمة الثانية: أنه قد تبين لك مما سبق أنه لايوجد دليل شرعي واحد يوجب التقليد أو يجيزه، ــ كما قرره الشوكاني فيما نقلناه عنه ــ حتى يخصص هذا الدليل أدلة وجوب الاتباع المذكورة في المقدمة الأولى.
بناء على هاتين المقدمتين: يكون الاتباع واجباً على كل مسلم، ولهذا الاتباع مرتبتان في حق المستفتي، وهما:
المرتبة الأولى: لمن لديه قدرة على فهم الأدلة، فالاتباع الواجب عليه: أن يسأل المفتي عن دليل الفتوى من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس أو غيرها، ويعرف وجه الدلالة فيه على الحكم.
المرتبة الثانية: لمن يعجز عن فهم الأدلة، فالاتباع الواجب عليه: أن يسأل المفتي عن فتواه فيقول له: أهذا حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟، فإن أجابه بنعم، قَبِل فتواه. كما ذكره ابن حزم والشوكاني وابن دقيق العيد. والحق أن هذه المرتبة لايعجز عنها أحد، وإنما ينقص الناس أن يعلموا بوجوبها.
وعلى هذا لا يبقى موضع لجواز التقليد إلا موضعاً واحداً، وهو عجز المستفتي عجزاً حقيقياً عن الوصول إلى من يفتيه بالدليل الشرعي تفصيلا كما في المرتبة الأولى أو إجمالا كما في المرتبة الثانية، مع قدرته على الوصول إلى من يفتيه بالتقليد بغير حجة ولا دليل. وبهذا تعلم أن الاتباع هو الحكم الأصلي وأن التقليد إنما هو استثناء للمضطر العاجز عن الاتباع بمرتبتيه.
ومع هذا فإن المقلد ــ حيث يسوغ له التقليد للضرورة ــ يأثم ويُذم في مواضع سيأتي ذكرها إن شاء الله.
وليس إيجابنا للاتباع إيجاباً للإجتهاد، لما ذكرناه من الفرق بينهما، خاصة فيما سبق من كلام الشنقيطي.(1/61)
ويجب على كل مشتغل بالعلوم الشرعية أن يحض الناس على الاتباع وأن يبدأ بنفسه، كما يجب على الشباب المتدين إحياء هذا الأمر، لنشر العلم ورفع الجهل، وقطع الطريق على أدعياء العلم الذين يضلون الناس بأهوائهم بغير علم ، وبهذا يصلح حال الأمة إذ لن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وبهذا لا يقع المسلمون في الذم الوارد في قوله تعالى (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) الفرقان 30، والتوبيخ الوارد في قوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد 24.
أما قول البعض إن المفتي قد يخدع المستفتي فيذكر له دليلا وهو خلاف الحق في المسألة ــ كما هو شأن الفرق المبتدعة ــ والمستفتي لايميز ذلك، فجوابه أن سنة الله تعالى في هذا أن الله يقيض له من يفضحه ويكشف ضلاله حتى يصير عبرة لأمثاله، قال تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) الأنبياء. هذا والله تعالى أعلم.
...................................................
سادسا: متى يُذم المقلد؟
يأثم المقلد في أحوال ويُنكر عليه فيها، منها:
1 ــ إذا كان قادراً على الاجتهاد (الاستدلال) وعدل عنه إلى التقليد المحض، قال الشنقيطي رحمه الله (أما ما ليس من التقليد بجائز بلا خلاف؟ فهو تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاده، مجتهداً آخر يرى خلاف ماظهر له هو، للإجماع على أن المجتهد إذا ظهر له الحكم باجتهاده لايجوز له أن يقلد غيره المخالف لرأيه) (أضواء البيان) 7 / 488.(1/62)
2 ــ إذا كان قادراً على الاتباع (أي السؤال عن دليل مسألته وفهمه) فاكتفى بالتقليد المحض. كما قال الشنقيطي رحمه الله (أما القادر على التعلم المفرّط فيه، والمقدّم آراء الرجال على ماعلم من الوحي، فهذا الذي ليس بمعذور) (أضواء البيان) 7 / 554 ــ 555. وإنما أثِمَ هذا لأنه ترك الاتباع الواجب عليه، وفعله هذا نوع من أنواع الإعراض عما أنزل الله تعالى، وقد ذكر ابن القيم من أنواع التقليد المحرّم (الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء) (اعلام الموقعين) 2 / 168. وقال ابن تيمية رحمه الله (فكل من عَدَل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله والرسول إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد) (مجموع الفتاوي) 20/225.
3 ــ إذا ظهر للمقلد بالحجة والدليل أن الحق بخلاف قول من قلّده، فلم يرجع عنه، أثِمَ إثماً عظيماً، قال تعالى (وماكان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرآً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله، فقد ضل ضلالا مبينا ً) الأحزاب 36، ويُخشى على هذا المعانِد أن يزيغ الله قلبه ويطبع عليه، قال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف 5. وهذا والعياذ بالله شأن كثير من المقلدين. قال ابن حزم (وأما إن قامت عليه الحجة فعاند تقليداً ففاسق) (الإحكام) 6 / 154.
وقال ابن تيمية (وكذلك من تبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله به رسوله ثم عدل عنه إلى عادته، فهو من أهل الذم والعقاب) (مجموع الفتاوي) 20 / 225. وقال ابن تيمية أيضا (فمن صار إلى قولٍ مقلداً لقائله لم يكن له أن ينكر علي من صار إلى القول الآخر مقلداً لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت) (مجموع الفتاوي) 35 / 233.
وذكر ابن القيم من أنواع التقليد الحرام (التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد) (اعلام الموقعين) 2 / 168.(1/63)
4 ــ إذا قلّد ــ من يجوز له التقليد ــ غيرَ مؤهل للفتيا أو لم يتحرّ أهلية من قلّده، وقد سبق الكلام في هذا في (صفة من يستفتيه العامي) ومابعدها من مسائل. وقال ابن القيم في أنواع التقليد المحرم (تقليد من لايعلم المقلد أنه أهلٌُ لأن يؤخذ بقوله) (اعلام الموقعين) 2/168.
5 ــ إذا اعتقد المقلد وجوب تقليد شخص بعينه.
قال ابن تيمية رحمه الله (فمن فعل هذا كان جاهلاً ضالا، بل قد يكون كافراً، فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل، بل غاية ما يقال: إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحداً لا بعينه، من غير تعيين زيد ولا عمرو. وأما أن يقول قائل: إنه يجب على العامة تقليد فلان أو فلان، فهذا لايقوله مسلم) (مجموع الفتاوي) 22/249.
وقال ابن تيمية أيضا (ولو فتح هذا الباب لوجب أن يُعرض عن أمر الله ورسوله، ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، وهذا تبديل للدين يشبه ماعاب الله به النصارى في قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون) ــ التوبة 31 ــ، والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله وحده.) (مجموع الفتاوي) 20 /216.
6 ــ ويُذم المقلد أيضا إذا ابتُلي بقولٍ آخر في مسألته فلم يتحرّ أيهما الصواب.(1/64)