بسم الله الرحمن الرحيم من احمد بن تيمية إلى سرجوان عظيم اهل ملته ومن تحوط به عنايته من رؤساء الدين وعظماء القسيسين والرهبان والأمراء والكتاب واتباعهم سلام على من اتبع الهدى
اما ان
____________________
(28/601)
{ الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } وقال تعالى { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما }
ونسأله ان يخص بشرائف صلاته وسلامه خاتم المرسلين وخطيبهم اذا وفدوا على ربهم وامامهم اذا اجتمعوا شفيع الخلائق يوم القيامة نبى الرحمة ونبى الملحمة الجامع محاسن الأنبياء الذى بشر به عبد الله وروحه وكلمته التى القاها إلى الصديقة الطاهرة البتول التى لم يمسها بشر قط ( مريم ابنة عمران ( ذلك مسيح الهدى عيسى بن مريم الوجيه فى الدنيا والآخرة المقرب عند الله المنعوت بعوت الجمال والرحمة لما انجر بنو اسرائيل فيما بعث به موسى من نعت الجلال والشدة وبعث الخاتم الجامع بنعت الكمال المشتمل على الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين والمحتوى على محاسن الشرائع والمناهج التى كانت قبله صلى الله عليهم وسلم اجمعين وعلى من تبعهم إلى يوم القيامة
اما بعد فان الله خلق الخلائق بقدرته واظهر فيهم آثار مشيئته
____________________
(28/602)
وحكمته ورحمته وجعل المقصود الذى خلقوا له فيما امرهم به هو عبادته واصل ذلك هو معرفته ومحبته فمن هداه الله صراطه المستقيم آتاه رحمة وعلما ومعرفة باسمائه الحسنى وصفاته العليا ورزقه الانابة إليه والوجل لذكره والخشوع له والتأله له فحن إليه حنين النسور إلى اوكارها وكلف بحبه كلف الصبى بامه لا يعبد الااياه رغبة ورهبة ومحبة واخلص دينه لمن الدنيا والآخرة له رب الأولين وألآخرين مالك يوم الدين خالق ما تبصرون وما لا تبصرون عالم الغيب والشهادة الذى امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون لم يتخذ من دونه اندادا كالذين اتخذوا من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولم يشرك بربه أحدا ولم يتخذ من دونه وليا ولاشفيعا لا ملكا ولا نبيا ولاصديقا فان كل من فى السماوات والارض الا آتى الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا فهنالك اجتباه مولاه واصطفاه وآتاه رشده وهداه لما اختلف فيه الحق باذنه فانه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم
وذلك ان الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والاخلاص كما كان عليه ابوهم آدم ابو البشر عليه السلام حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء
____________________
(28/603)
انفسهم لم ينزل الله بها كتابا ولا ارسل بها رسولا بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة قوم منهم زعموا ان التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الانبياء والصالحين وقوم جعلوها لأجل الارواح السفلية من الجن والشياطين وقوم على مذاهب أخر
واكثرهم لرؤسائهم مقلدون وعن سبيل الهدى ناكبون فابتعث الله نبيه نوحا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه وان زعموا انهم يعبدونهم ليتقربوا بهم إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء فمكث فيهم الف سنة الا خمسين عاما فلما اعلمه الله انه لن يؤمن من قومك الا من قد آمن دعا عليهم فاغرق الله تعالى اهل الارض بدعوته وجاءت الرسل بعده تترى إلى ان عم الارض دين الصائبة والمشركين لما كانت النماردة والفراعنة ملوك الارض شرقا وغربا فبعث الله تعالى امام الحنفاء واساس الملة الخالصة والكلمة الباقية ابراهيم خليل الرحمن فدعا الخلق من الشرك إلى الاخلاص ونهاهم عن عبادة الكواكب والاصنام وقال { وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } وقال لقومه
____________________
(28/604)
{ أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } وقال ابراهيم عليه السلام ومن معه لقومهم { إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }
فجعل الله الانبياء والمرسلين من اهل بيته وجعل لكم منهم خصائص ورفع بعضهم فوق بعض درجات وآتى كلا منهم من الآيات ما آمن على مثله البشر فجعل لموسى العصا حية حتى ابتلعت ما صنعت السحرة الفلاسفة من الحبال والعصى وكانت شيئا كثيرا وفلق له البحر حتى صار يابسا والماء واقفا حاجزا بين اثنى عشر طريقا على عدد الاسباط وارسل معه القمل والضفادع والدم وظلل عليه وعلى قومه الغمام الأبيض يسير معهم وانزل عليهم صبيحة كل يوم المن والسلوى واذا عطشوا ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل اناس مشربهم
وبعث بعده انبياء من بنى اسرائيل منهم من أحي الله على يده الموتى ومنهم من شفى الله على يده المرضى ومنهم من اطلعه على ما شاء من غيبه ومنهم من سخر له المخلوقات ومنهم من بعثه
____________________
(28/605)
بأنواع المعجزات
وهذا مما إتفق عليه جميع أهل الملل وفى الكتب التى بأيدى اليهود والنصارى والنبوات التى عندهم وأخبار الأنبياء عليهم السلام مثل شعياء وأرمياء ودانيال وحبقوق وداود وسليمان وغيرهم وكتاب ( سفر الملوك ( وغيره من الكتب ما فيه معتبر
وكانت بنو إسرائيل أمة قاسية عاصية تارة يعبدون الأصنام والأوثان وتارة يعبدون الله وتارة يقتلون النبيين بغير الحق وتارة يستحلون محارم الله بأدنى الحيل فلعنوا أولا على لسان داود وكان من خراب بيت المقدس ما هو معروف عند أهل الملل كلهم
ثم بعث الله المسيح بن مريم رسولا قد خلت من قبله الرسل وجعله وأمه آية للناس حيث خلقه من غير أب إظهارا لكمال قدرته وشمول كلمته حيث قسم النوع الإنسانى الأقسام الأربعة فجعل آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق زوجه حواء من ذكر بلا أنثى وخلق المسيح بن مريم من أنثى بلا ذكر وخلق سائرهم من الزوجين الذكر والأنثى وآتى عبده المسيح من الآيات البينات ما جرت به سنته فأحى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص وأنبأ الناس بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم ودعا إلى الله وإلى عبادته متبعا سنة
____________________
(28/606)
أخوانه المرسلين مصدقا لمن قبله ومبشرا بمن يأتى بعده
وكان بنوا إسرائيل قد عتوا وتمردوا وكان غالب أمره اللين والرحمه والعفو والصفح وجعل فى قلوب الذين أتبعوه رأفة ورحمة وجعل منهم قسيسين ورهبانا فتفرق الناس فى المسيح عليه السلام ومن إتبعه من الحواريين ثلاثة أحزاب
قوم كذبوه وكفروا به وزعموا أنه إبن بغى ورموا أمة بالقرية ونسبوه إلى يوسف النجار وزعموا أن شريعة التوراة لم ينسخ منها شيء وإن الله لم ينسخ ما شرعه بعد ما فعلوه بالأنبياء وماكان عليهم من الآصار فى النجاسات والمطاعم
وقوم غلوا فيه وزعموا أنه الله أو أبن الله وأن اللاهوت تدرع الناسوت وأن رب العالمين نزل وأنزل إبنه ليصلب ويقتل فداء لخطيئة آدم عليه السلام وجعلوا الاله الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد قد ولد وإتخذ ولدا وأنه إله حي عليم قدير جوهر واحد ثلاثة أقانيم وأن الواحد منها أقنوم الكلمة وهى العلم هي تدرعت الناسوت البشرى مع العلم بأن أحدهما لا يمكن إنفصاله عن الآخرين إلا إذا جعلوه ثلاثة 1 إلهات متباينة وذلك ما لايقولونه
____________________
(28/607)
وتفرقوا فى التثليث والاتحاد تفرقا وتشتتوا تشتتا لا يقر به عاقل ولم يجى نقل إلا كلمات متشابهات فى الإنجيل وماقبله من الكتب قد بينتها كلمات محكمات فى الإنجيل وما قبله كلها تنطق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده ودعائه وتضرعه
ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسوله كما قال خاتم النبين والمرسلين أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ( وقال ( لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ( كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله ولهذا كان الصابئون والمشركون كالبراهمة ونحوهم من منكرى النبوات مشركين بالله فى إقرارهم وعبادتهم وفاسدى الإعتقاد فى رسله
فأرباب التثلث فى الوحدانية والإتحاد فى الرسالة قد دخل فى أصل دينهم من الفساد ماهو بين بفطرة الله التى فطر الناس عليها وبكتب الله التى أنزلها
ولهذا كان عامة رؤسائهم من القسيسين والرهبان وما يدخل فيهم من البطارقة والمطارنة والأساقفة إذا صار الرجل منهم فاضلا مميزا فإنه ينحل عن دينه ويصير منافقا لملوك أهل دينه وعامتهم
____________________
(28/608)
رضى بالرياسة عليهم وبما يناله من الحظوظ كالذى كان لبيت المقدس الذى يقال له ( إبن البورى ( والذى كان بدمشق الذى يقال له ( أين القف ( والذى بقسطنطينية وهو ( البابا ( عندهم وخلق كثير من كبار الباباوات والمطارنة والأساقفة لما خاطبهم قوم من الفضلاء أقروا لهم بأنهم ليسواعلى عقيدة النصارى وإنما بقاؤهم على ماهم عليه لأجل العادة والرياسة كبقاء الملوك والاغنياء على ملكهم وغناهم ولهذا تجد غالب فضلائهم إنما همة أحدهم نوع من العلم الرياضى كالمنطق والهيئة والحساب والنجوم أو الطبيعى كالطب ومعرفة الأركان أو التكلم فى الإلهى على طريقة الصابئة الفلاسفة الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل عليه السلام قد نبذوا دين المسيح والرسل الذين قبله وبعده وراء ظهورهم وحفظوا رسوم الدين لأجل الملوك والعامة
وأماالرهبان فأحدثوا من أنواع المكر والحيل بالعامة ما يظهر لكل عاقل حتى صنف الفضلاء فى حيل الرهبان كتبا مثل النار التى كانت تصنع بقمامة يدهنون خيطا دقيقا بسندروس ويلقون النار عليه بسرعة فتنزل فيعتقد الجهال أنها نزلت من السماء ويأخذونها إلى البحر وهى صنعة ذلك الراهب يراه الناس عيانا وقد إعترف هو وغيره أنهم يصنعونها
وقد إتفق أهل الحق من جميع الطوائف على أنه لا تجوز عبادة الله
____________________
(28/609)
تعالى بشيء ليس له حقيقة وقد يظن المنافقون أن ما ينقل عن المسيح وغيره من المعجزات من جنس النار المصنوعة وكذلك حيلهم فى تعليق الصليب وفى بكاء التماثيل التى يصورنها على صورة المسيح وأمه وغيرهما ونحو ذلك كل ذلك يعلم كل عاقل أنه إفك مفترى وأن جميع أنبياء الله وصالحى عباده برآء من كل زور وباطل لوإفك كبرائتهم من سحر سحرة فرعون
ثم أن هؤلاء عمدوا إلى الشريعة التى يعبدون لله به فناقضو الأولين من اليهود فيها مع أنهم يأمرون بالتمسك بالتوراة إلا ما نسخه المسيح قصر هؤلاء فى الأنبياء حتى قتلوهم وغلا هؤلاء فيهم حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم وقال أولئك إن الله لايصلح له أن يغير ما أمر به فينسخه لا فى وقت آخر ولا على لسان نبى آخر وقال هؤلاء بل الأحبار والقسيسون يغيرون ما شاؤوا ويحرمون ما رأوا ومن أذنب ذنبا وضعوا عليه ما رأوا من العبادات وغفروا له ومنهم من يزعم أنه ينفخ فى المرأة من روح القدس فيجعل البخور قربانا وقال أولئك حرم علينا أشياء كثيرة وقال هؤلاء ما بين البقة والفيل حلال كل ما شئت ودع ما شئت وقال أولئك النجاسات مغلظة حتى أن الحائض لا يقعد معها ولا يؤكل معها وهؤلاء يقولون ما عليك شيء نجس ولا يأمرون بختان ولا غسل من
____________________
(28/610)
جنابة ولا إزالة نجاسة مع أن المسيح والحواريين كانوا على شريعة التوراة ثم أن الصلاة إلى المشرق لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون وإنما إبتدعها قسطنطين أو غيره
وكذلك الصليب إنما إبتدعه قسطنطين برأيه وبمنام زعم رآه وأما المسيح والحواريون فلم يأمروا بشيء من ذلك
والدين الذى يتقرب العباد به إلى الله لابد أن يكون الله أمر به وشرعه على ألسنة رسله وأنبيائه وإلا فالبدع كلها ضلالة وما عبدت الأوثان إلا بالبدع
وكذلك إدخال الألحان فى الصلوات لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون
وبالجملة فعامة أنواع العبادات والأعياد التى هم عليها لم ينزل بها الله كتابا ولا بعث بها رسولا لكن فيهم رأفة ورحمة وهذا من دين الله بخلاف الأولين فإن فيهم قسوة ومقتا وهذا مما حرمه الله تعالى لكن الأولون لهم تمييز وعقل مع العناد والكبر والآخرون فيهم ضلال عن الحق وجهل بطريق الله
____________________
(28/611)
ثم ان هاتين الامتين تفرقتا احزابا كثيرة فى أصل دينهم واعتقادهم فى معبودهم ورسولهم هذا يقول ان جوهر اللاهوت والناسوت صارا جوهرا واحدا وطبيعة واحدة وأقنوما واحدا وهم اليعقوبية وهذا يقول بل هما جوهران وطبيعتان وأقنومان وهم النسطورية وهذا يقول بالاتحاد من وجه دون وجه وهم الملكانية
وقد آمن جماعات من علماء أهل الكتاب قديما وحديثا وهاجروا إلى الله ورسوله وصنفوا فى كتب الله من دلالات نبوة النبى خاتم المرسلين وما فى التوراة والزبور والانجيل من مواضع لم يدبروها وكذلك الحواريون فلما اختلف الاحزاب من بينهم هدى الله الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنة فبعث النبى الذى بشر به المسيح ومن قبله من الأنبياء داعيا إلى ملة ابراهيم ودين المرسلين قبله وبعده وهو عبادة الله وحده لا شريك له واخلاص الدين كله لله وطهر الأرض من عبادة الأوثان ونزه الدين عن الشرك دقه وجله بعد ما كانت الاصنام تعبد فى ارض الشام وغيرها فى دولة بنى إسرائيل ودولة الذين قالوا انا نصارى وأمر بالايمان بجميع كتب الله المنزلة كالتوراة والانجيل والزبور والفرقان وبجميع أنبياء الله من آدم إلى محمد
قال الله تعالى { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون }
____________________
(28/612)
) وأمر الله ذلك الرسول بدعوة الخلق إلى توحيده بالعدل فقال تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } وقال تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } وقال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }
وأمره أن تكون صلاته وحجة إلى بيت الله الحرام الذى بناه خليله إبراهيم أبو الأنبياء وأمام الحنفاء وجعل أمته وسطا فلم يغلوا فى
____________________
(28/613)
الأنبياء كغلو من عدلهم بالله وجعل فيهم شيئا من الألهية وعبدهم وجعلهم شفعاء ولم يجفوا جفاء من آذاهم وإستخف بحرماتهم وأعرض عن طاعتهم بل عزروا الأنبياء أى عظموهم ونصروهم وآمنوا بما جاؤوا به وأطاعوهم وإتبعوهم وإئتموا بهم وأحبوهم وأجلوهم ولم يعبدوا إلاالله فلم يتكلوا إلا عليه ولم يستعينوا إلا به مخلصين له الدين حنفاء
وكذلك فى الشرائع قالوا ما أمرناالله به أطعناه وما نهانا عنه إنتهينا وإذا نهانا عما كان أحله كما نهى بنى إسرائيل عما كان أباحه ليعقوب أو أباح لنا ما كان حراما كما أباح المسيح بعض الذى حرم الله على بنى إسرائيل سمعنا وأطعنا
وأما غير رسل الله وأنبيائه فليس لهم أن يبدلوا دين الله ولا يبتدعوا فى الدين مالم يأذن به الله والرسل إنما قالوا تبليغا عن الله فإنه سبحانه له الخلق والأمر فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وتوسطت هذه الأمة فى الطهارة والنجاسة وفى الحلال والحرام وفى الأخلاق ولم يجردوا الشدة كما فعله الأولون ولم يجردوا الرأفة
____________________
(28/614)
كما فعله الآخرون بل عاملوا أعداء الله بالشدة وعاملوا أولياء الله بالرأفة والرحمة وقالوا فى المسيح ما قاله سبحانه وتعالى وما وقاله المسيح والحواريون لا ما إبتدعه الغالون والجافون
وقد أخبر الحواريون عن خاتم المرسلين أنه يبعث من أرض اليمن وأنه يبعث بقضب الأدب وهو السيف وأخبر المسيح أنه يجيء بالبينات والتأويل وأن المسيح جاء بالأمثال وهذا باب يطول شرحه
وإنما نبه الداعى لعظيم ملته وأهله لما بلغنى ما عنده من الديانة والفضل ومحبة العلم وطلب المذاكرة ورأيت الشيخ أبا العباس المقدسى شاكرا من الملك من رفقه ولطفه وإقباله عليه وشاكرا من القسيسين ونحوهم
ونحن قوم نحب الخير لكل أحد ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة فإن أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه وبذلك بعث الله الأنبياء والمرسلين ولا نصيحة أعظم من النصيحة فيما بين العبد وبين ربه فإنه لابد للعبد من لقاء الله ولابد أن الله يحاسب عبده كما قال تعالى { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين }
وأما الدنيا فأمرها حقير وكبيرها صغير وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال وغاية ذى الرياسة أن يكون كفرعون الذى أغرقه
____________________
(28/615)
الله فى اليم إنتقاما منه وغاية ذى المال أن يكون كقارون الذى خسف الله به الأرض فهو بتجلجل فيها إلى يوم القيامة لما أذى نبى الله موسى
وهذه وصايا المسيح ومن قبله ومن بعده من المرسلين كلها تأمر بعبادة الله والتجرد للدار الآخرة والأعراض عن زهرة الحياة الدنيا
ولما كان أمرالدنيا خسيسا رايت ان اعظم ما يهدى لعظيم قومه المفاتحة فى العلم والدين بالمذاكرة فيما يقرب إلى الله والكلام فى الفروع مبنى على الأصول وأنتم تعلمون أن دين الله لا يكون بهوى النفس ولا بعادات الآباء وأهل المدئية وإنما ينظر العاقل فيما جاءت به الرسل وفى ما إتفق الناس عليه وما إختلفوا فيه ويعامل الله تعالى بينه وبين الله تعالى بالإعتقاد الصحيح والعمل الصالح وإن كان لايمكن الإنسان أن يظهر كل ما فى نفسه لكل أحد فينتفع هو بذلك القدر
وإن رأيت من الملك رغبة فى العلم والخير كاتبته وجاوبته عن مسائل يسألها وقد كان خطر لى أن أجىء إلى قبرص لمصالح فى الدين والدنيا لكن إذا رأيت من الملك ما فيه رضى الله ورسوله عاملته بما يقتضيه عمله فإن الملك وقومه يعلمون أن الله قد أظهر من معجزات
____________________
(28/616)
رسله عامة ومحمد خاصة ما أيد به دينه وأذل الكفار والمنافقين
ولما قدم مقدم المغول غازان وإتباعه إلى دمشق وكان قد إنتسب إلى الإسلام لكن لم يرض الله ورسوله والمؤمنون بما فعلوه حيث لم يلتزموا دين الله وقد إجتمعت به وبأمرأته وجرى لى معهم فصول يطول شرحها لابد أن تكون قد بلغت الملك فأذلة الله وجنوده لنا حتى يقينا نضربهم بأيدينا ونصرخ فيهم بأصواتنا وكان معهم صاحب سيس مثل أصغر غلام يكون حتى كان بعض المؤذنين الذين معنا يصرخ عليه ويشتمه وهو لا يجترئ أن يجاوبه حتى أن وزراء غازان ذكروا ما ينم عليه من فساد النية له وكنت حاضرا لما جاءت رسلكم إلى ناحية الساحل وأخبرنى التتار بالأمر الذى أراد صاحب سيس أن يدخل بينكم وبينه فيه حيث مناكم بالغرور وكان التتارمن أعظم الناس شتيمة لصاحب سيس وإهانة له ومع هذا فإنا كنا نعامل أهل ملتكم بالإحسان إليهم والذب عنهم
وقد عرف النصارى كلهم أنى لما خاطبت التتار فى إطلاق الأسرى وأطلقهم غازان وقطلوشاه وخاطبت مولاى فيهم فسمح بإطلاق المسلمين قال لى لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون فقلت له بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا فإنا نفتكهم ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة
____________________
(28/617)
ولا من أهل الذمة وأطلقنا من النصارى من شاء الله فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله
وكذلك السبى الذى بأيدينا من النصارى يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم كما أوصانا خاتم المرسلين حيث قال فى آخر حياته ( الصلاة وما ملكت إيمانكم قال الله تعالى فى كتابة { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } ومع خضوع التتار لهذه الملة وإنتسابهم إلى هذه الملة فلم نخادعهم ولم نافقهم بل بينا لهم ما هم عليه من الفساد والخروج عن الإسلام الموجب لجهادهم وإن جنود الله المؤيدة وعساكره المنصورة المستقرة بالديار الشامية والمصرية ما زالت منصورة على من ناواها مظفرة على من عاداها وفى هذه المدة لما شاع عند العامة أن التتار مسلمون إمسك العسكر عن قتالهم فقتل منهم بضعة عشر ألفا ولم يقتل من المسلمين مائان فلما إنصرف العسكر إلى مصر وبلغه ما عليه هذه الطائفة الملعونة من الفساد وعدم الدين خرجت جنود الله وللأرض منها وئيد قد ملأ السهل والجبل فى كثرة وقوة وعدة وإيمان وصدق قد بهرت العقول والألباب محفوفة بملائكة الله التى ما زال يمد بها الأمة الحنيفية المخلصة لبارئها فإنهزم العدو بين أيديها ولم يقف لمقابلتها ثم أقبل العدو ثانيا فأرسل عليه من
____________________
(28/618)
العذاب ما أهلك النفوس والخيل وإنصرف خاسئا وهو حسير وصدق الله وعده ونصر عبده وهو الآن فى البلاء الشديد والتعكيس العظيم والبلاء الذى أحاط به والإسلام فى عز متزايد وخير مترافد فإن النبى قد قال ( إن الله يبعث لهذه الأمة فى رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينه ( ا وهذا الدين فى إقبال وتجديد وأنا ناصح للملك وأصحابه والله الذى لا إله إلا هو الذى أنزل التوراة والأنجيل والفرقان ) 9
ويعلم الملك أن وفد بحران وكانوا نصارى كلهم فيهم الأسقف وغيره لما قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله ورسوله وإلى الإسلام خاطبوه فى أمر المسيح وناظروه فلما قامت عليهم الحجة جعلوا يراوغون فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى المباهلة كما قال { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } فلما ذكر النبى ذلك إستشدروا بينهم فقالوا تعلمون أنه نبى وأنه ما باهل أحد نبيا فأفلح فأدوا إليه الجزية ودخلوا فى الذمة وإستعفوا من المباهلة
وكذلك بعث النبى صلى الله عليه وسلم كتابه إلى قيصر الذى كان ملك النصارى بالشام والبحر إلى قسطنطينية وغيرهاوكان ملكا
____________________
(28/619)
فاضلا فلما قرأ كتابة وسأل عن علامته عرف أنه النبى الذى بشر به المسيح وهو الذى كان وعد الله به إبراهيم فى إبنه إسماعيل وجعل يدعوه قومه النصارى إلى متابعته وأكرم كتابة وقبله ووضعه على عينيه وقال وددت أنى أخلص إليه حتى أغسل عن قدميه ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه
وأما النجاشى ملك الحبشة النصرانى فإنه لما بلغه خبر النبى من أصحابه الذين هاجروا إليه آمن به وصدقه وبعث إليه إبنه وأصحابه مهاجرين وصلى الله النبى صلى الله عليه وسلم عليه لما مات ولما سمع سورة ( كهيعص ( بكى ولما أخبره عما يقولون فى المسيح قال والله ما يزيد عيسى على هذا مثل هذا العود وقال أن هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة
وكانت سيرة النبى أن من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من النصارى صار من أمته له مالهم وعليه ما عليهم وكان له أجران أجر على إيمانه بالمسيح وأجر على إيمانه بمحمد ومن لم يؤمن به من الأمم فإن الله أمر بقتاله كما قال فى كتابته { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }
____________________
(28/620)
فمن كان لا يؤمن بالله بل يسب الله ويقول أنه ثالث ثلا وأنه صلب ولا يؤمن برسله بل يزعم أن الذى حمل وولد وكان يأكل ويشرب ويغوط وينام هو الله وإبن الله وإن الله أو إبنه حل فيه وتدرعه ويجحد ما جاء به محمد خاتم المرسلين ويحرف نصوص التوراة والأنجيل فإن فى الأناجيل الأربعة من التناقض والإختلاف بين ما أمر الله به أوجبه ما فيها ولايدين الحق ودين الحق هو الإقرار بما أمر الله به وأوجبه من عبادته وطاعته ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الدم والميتة ولحم الخنزير الذى ما زال حراما من لون آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أباحه نبى قط بل علماء النصارى يعلمون أنه محرم وما يمنع بعضهم من إظهار ذلك إلا الرغبة والرهبة وبعضهم يمنعه العناد والعادة ونحو ذلك ولا يؤمنون باليوم الآخر لأن عامتهم وان كانوا يقرون بقيامة الابدان لكنهم لا يقرون بما أخبر الله به من الاكل والشرب واللباس والنكاح والنعيم والعذاب فى الجنة والنار بل غاية ما يقرون به من النعيم السماع والشم ومنهم متفلسفة ينكرون معاد الاجساد واكثر علمائهم زنادقة وهم يضمرون ذلك ويسخرون بعوامهم لاسيما بالنساء والمترهبين منهم بضعف العقول فمن هذا حاله فقد امر الله رسوله بجهاده حتى يدخل فى دين الله او يؤدى الجزية وهذا دين محمد
ثم المسيح صلوات الله عليه لم يأمر بجهاد لاسيما بجهاد الأمة
____________________
(28/621)
الحنيفية ولا الحواريون بعد
فيا أيها الملك كيف تستحل سفك الدماء وسبى الحريم وأخذ الأموال بغير حجة بأحدهما
____________________
(28/622)
فرشها وعلى افراسها من قد بلغ الملك خبرهم قديما وحديثا وفيهم الصالحون الذين لا يرد الله دعواتهم ولا يخيب طلباتهم الذين يغضب الرب لغضبهم ويرضى لرضاهم وهؤلاء التتار مع كثرتهم وانتسابهم إلى المسلمين لما غضب المسلمون عليهم أحاط بهم من البلاء ما يعظم عن الوصف فكيف يحسن أيها الملك بقوم يجاورون المسلمين من اكثر الجهات أن يعاملوهم هذة المعاملة التى لايرضاها عاقل لامسلم ولا معاهد
هذا وأنت تعلم ان المسلمين لا ذنب لهم أصلا بل هم المحمودون على مافعلوه فان الذى أطبقت العقلاء على الاقرار بفضله هو دينهم حتى الفلاسفة أجمعوا على أنه لم يطرق العالم دين أفضل من هذا الدين فقد قامت البراهين على وجوب متابعته
ثم هذة البلاد ما زالت بأيديهم الساحل بل وقبرص أيضا ما أخذت منهم الا من أقل من ثلاثمائة سنة وقد وعدهم النبى أنهم لايزالون ظاهرين إلى يوم القيامة فما يؤمن الملك ان هؤلاء الاسرى المظلومين ببلدتة ينتقم لهم رب العباد والبلاد كما ينتقم لغيرهم وما يؤمنة أن تأخذ المسلمين حمية اسلامهم فينالوا منها ما نالوا من غيرها ونحن اذا رأينا من الملك وأصحابه ما يصلح عاملناهم بالحسنى والا فمن بغى علية لينصرنه الله
____________________
(28/623)
وأنت تعلم ان ذلك من أيسر الامور على المسلمين وأنا ما غرضى الساعة الا مخاطبتكم بالتى هي احسن والمعاونة على النظر فى العلم وإتباع الحق وفعل ما يجب فان كان عند الملك من يثق بعقله ودينه فليبحث معه عن أصول العلم وحقائق الأديان ولا يرضى أن يكون من هؤلاء النصارى المقلدين الذين لا يسمعون ولايعقلون أن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا
وأصل ذلك أن تستعين بالله وتسأله الهداية وتقول اللهم أرنى الحق حقا وأعنى على أتباعه وأرنى الباطل باطلا وأعنى على إجتنابه ولا تجعله مشتبها على فإتبع الهوى فأضل وقل اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون أهدنى لما إختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم
والكتاب لايحتمل البسط أكثر من هذا لكن أنا ما أريد للملك إلا ما ينفعه فى الدنيا والآخرة وهما شيئان ( أحدهما ) له خاصة وهو معرفته بالعلم والدين وإنكشاف الحق وزوال الشبهة وعبادة الله كما أمر فهذا خير له من ملك الدنيا بحذافيرها وهو الذى بعث به المسيح وعلمه الحواريين ( الثانى ) له وللمسلمين وهو مساعدته للأسرى الذين فى بلاده وإحسانه إليهم وأمر رعيته بالإحسان إليهم
____________________
(28/624)
والمعاونة لنا على خلاصهم فإن فى الإساءة إليهم دركا على الملك فى دينه ودين الله تعالى ودركا من جهة المسلمين وفى المعاونة على خلاصهم حسن له فى دينه ودين الله تعالى وعند المسلمين وكان المسيح أعظم الناس توصية بذلك
ومن العجب كل العجب أن يأسر النصارى قوما غدرا أو غير غدر ولم يقاتلوهم والمسيح يقول ( من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ومن أخذ رداءك فأعطه قميصك ( وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين فى قبرص سيما وعامة هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء ليس لهم من يسعى فيهم وهذا أبو العباس مع أنه من عباد المسلمين وله عبادة وفقر وفيه مشيخة ومع هذا فما كاد يحصل له فداؤه إلا بالشدة ودين الإسلام يأمرنا أن نعين الفقير والضعيف فالملك أحق أن يساعد على ذلك من وجوه كثيرة لا سيما والمسيح يوصى بذلك فى الإنجيل ويأمر بالرحمة العامة والخير الشامل كالشمس والمطر
والملك وأصحابه إذا عاونونا على تخليص الأسرى والإحسان إليهم كان الحظ الأوفر لهم فى ذلك فى الدنيا والآخرة أما فى الآخرة فإن الله يثيب على ذلك ويأجر عليه وهذا مما لا ريب فيه عند العلماء المسيحيين
____________________
(28/625)
الذين لا يتبعون الهوى بل كل من إتقى الله وأنصف علم أنهم أسروا بغير الحق لاسيما من أخذ غدرا والله تعالى لم يأمر المسيح ولا أحدا من الحواريين ولا من إتبع المسيح على دينه لا بأسر أهل ملة إبراهيم ولا بقتلهم وكيف وعامة النصارى يقرون بأن محمدا رسول الأميين فكيف يجوز أن يقاتل أهل دين إتبعوا رسولهم
فإن قال قائل هم قاتلونا أول مرة قيل هذا باطل فيمن غدرتم به ومن بدأتموه بالقتال وأما من بدأكم منهم فهو معذور لأن الله تعالى أمره بذلك ورسوله بل المسيح والحواريون أخذ عليهم المواثيق بذلك ولا يستوى من عمل بطاعة الله ورسله ودعا إلى عباده ودينه وأقر بجميع الكتب والرسل وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله ومن قاتل فى هوى نفسه وطاعة شيطانه على خلاف أمر الله
ورسله وما زال فى النصارى من الملوك والقسيسين والرهبان والعامة من له مزية على غيره فى المعرفة والدين فيعرف بعض الحق وينقاد لكثير منه ويعرف من قدر الإسلام وأهله ما يجهله غيره فيعاملهم معاملة تكون نافعة له فى الدنيا والآخرة ثم فى فكاك الأسير وثواب العتق من كلام الأنبياء والصديقين ما هو معروف لمن طلبه فمهما عمل الملك معهم وجد ثمرته
____________________
(28/626)
وأما فى الدنيا فإن المسلمين أقدر على المكأفاة فى الخير والشر من كل أحد ومن حاربوه فالويل كل الويل له والملك لابد أن يكون سمع السير وبلغه أنه ما زال فى المسلمين النفر القليل منهم من يغلب أضعافا مضاعفة من النصارى وغيرهم فكيف إذا كانوا أضعافهم وقد بلغه الملاحم المشهورة فى قديم الدهر وحديثه مثل أربعين ألفا يغلبون من النصارى أكثر من أربعمائة ألف أكثرهم فارس وما زال المرابطون بالثغور مع قلتهم وإشتغال ملوك الاسلام عنهم يدخلون بلاد النصارى فكيف وقد من الله تعالى على المسلمين باجتماع كلمتهم وكثرة جيوشهم وبأس مقدميهم وعلو هممهم ورغبتهم فيما يقرب إلى الله تعالى واعتقادهم ان الجهاد أفضل الاعمال المطوعة وتصديقهم بما وعدهم نبيهم حيث قال ( يعطى الشهيد ست حصال يغفر لة باول قطرة من دمة ويرى مقعدة فى الجنة ويكسى حلة الايمان ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين ويوقى فتنة القبر ويؤمن من الفزع الاكبر يوم القيامة (
ثم إن فى بلادهم من النصارى أضعاف ما عندكم من المسلمين فان فيهم من رؤوس النصارى من ليس فى البحر مثلهم الا قليل وأما أسراء المسلمين فليس فيهم من يحتاج الية المسلمون ولا من ينتفعون بة وانما نسعى فى تخليصهم لاجل الله تعالى رحمة لهم وتقربا الية يوم يجزى
____________________
(28/627)
الله المصدقين ولا يضيع أجر المحسنين
وأبو العباس حامل هذا الكتاب قد بث محاسن الملك وإخوتة عندنا واستعطف قلوبنا الية فلذلك كاتبت الملك لما بلغتنى رغبتة فى الخير وميلة إلى العلم والدين وأن من نواب المسيح وسائر الأنبياء فى مناصحة الملك واصحابة وطلب الخير لهم فان أمة محمد خير أمة أخرجت للناس يريدون للخلق خير الدنيا والآخرة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعونهم إلى الله ويعينونهم على مصالح دينهم ودنياهم وان كان الملك قد بلغة بعض الاخبار التى فيها طعن على بعضهم او طعن على دينهم فاما ان يكون المخبر كاذبا او ما فهم التأويل وكيف صورة الحال وان كان صادقا عن بعضهم بنوع من المعاصى والفواحش والظلم فهذا لابد منة فى كل أمة بل الذى يوجد فى المسلمين من الشر أقل مما فى غيرهم بكثير والذى فيهم من الخير لايوجد مثلة فى غيرهم
والملك وكل عاقل يعرف ان اكثر النصارى خارجون عن وصايا المسيح والحواريين ورسائل بولص وغيره من القديسين وان كان اكثر ما معهم من النصرانية شرب الخمر وأكل الخنزير وتعظيم الصليب ونواميس مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان وأن بعضهم يستحل بعض ما حرمته الشريعة النصرانية هذا فيما يقرون به وأما
____________________
(28/628)
مخالفتهم لما لا يقرون به فكلهم داخل فى ذلك بل قد ثبت عندنا عن الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسيح عيسى بن مريم ينزل عندنا بالمنارة البيضاء فى دمشق واضعا كفيه على منكبى ملكين فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل من احد إلا الاسلام ويقتل مسيح الضلالة الأعور الدجال الذى يتبعه اليهود ويسلط المسلمون على اليهود حتى يقول الشجر والحجر يامسلم هذا يهودى ورائى فاقتله وينتقم الله للمسيح بن مريم مسيح الهدى من اليهود ما آذوه وكذبوه لما بعث اليهم
وأما ما عندنا فى أمر النصارى وما يفعل الله بهم من ادالة المسلمين عليهم وتسليطه عليهم فهذا مما لا أخبر به الملك لئلا يضيق صدره ولكن الذى أنصحه به ان كل من أسلف إلى المسلمين خيرا ومال اليهم كانت عاقبته معهم حسنة بحسب ما فعله من الخير فان الله يقول { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }
والذى اختم به الكتاب الوصية بالشيخ ابى العباس وبغيره من الاسرى والمساعدة لهم والرفق بمن عندهم من أهل القرآن والامتناع من تغيير دين واحد منهم وسوف يرى الملك عاقبة ذلك كله ونحن نجزى الملك على ذلك باضعاف ما فى نفسه والله يعلم انى قاصد للملك الخير لان الله تعالى أمرنا بذلك وشرع لنا ان نريد الخير لكل
____________________
(28/629)
أحد ونعطف على خلق الله وندعوهم إلى الله والى دينه وندفع عنهم شياطين الانس والجن
والله المسئول ان يعين الملك على مصلحته التى هي عند الله المصلحة وأن يخير له من الأقوال ما هو خير له عند الله ويختم له بخاتمة خير والحمد لله رب العالمين وصلواته على انبيائه المرسلين ولا سيما محمد خاتم النبيين والمرسلين والسلام عليهم أجمعين
وسئل هل المدينة من الشام
فأجاب مدينة النبى من الحجاز باتفاق أهل العلم ولم يقل أحد من المسلمين ولا غيرهم ان المدينة النبوية من الشام وانما يقول هذا جاهل بحد الشام والحجاز جاهل بما قاله الفقهاء وأهل اللغة وغيرهم ولكن يقال المدينة شامية ومكة يمانية أى المدينة اقرب إلى الشام ومكة اقرب إلى اليمن وليست مكة من اليمن ولا المدينة من الشام
وقد أمر النبى فى مرض موته أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وهى الحجاز فاخرجهم عمر
____________________
(28/630)