بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئآت أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله باب ( الخلافة والملك وقتال أهل البغي ) قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله تسليما
أما بعد فهذه قاعدة مختصرة فى وجوب طاعة الله ورسوله فى كل حال على كل أحد وأن ما أمر الله به ورسوله من طاعة الله وولاة
____________________
(35/5)
الأمور ومناصحتهم واجب وغير ذلك من الواجبات قال الله تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } وقال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وأولى الأمر منهم كما أمرهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل وأمرهم إذا تنازعوا فى شيء أن يردوه إلى الله والرسول
قال العلماء الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول بعد موته هو الرد إلى سنته قال الله تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } فجعل الله الكتاب الذى أنزله هو الذى يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
وفى صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي بالليل يقول ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل
____________________
(35/6)
وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ( وفى صحيح مسلم عن تميم الداري رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة ( قالوا لمن يارسول الله قال ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (
وفى صحيح مسلم أيضا عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ( وفى السنن من حديث إبن مسعود رضى الله عنه وزيد بن ثابت رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه غير فقيه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ( و ( يغل ( بالفتح هو المشهور ويقال غلى صدره فغل إذا كان ذا غش وضغن وحقد أي قلب المسلم لا يغل على هذه الخصال الثلاثة وهي الثلاثة المتقدمة فى قوله ( إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ( فإن الله إذا
____________________
(35/7)
كان يرضاها لنا لم يكن قلب المؤمن الذي يحب ما يحبه الله يغل عليها يبغضها ويكرهها فيكون فى قلبه عليها غل بل يحبها قلب المؤمن ويرضاها
وفى صحيح البخارى ومسلم وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول أو نقوم بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم وفى الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ( وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عليك بالسمع والطاعة فى عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ( ومعنى قوله ( وأثرة عليك ( وأثرة علينا ( أي وإن إستأثر ولاة الأمور عليك فلم ينصفوك ولم يعطوك حقك كما فى الصحيحين عن أسيد بن حضير رضي الله عنه أن رجلا من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا تستعملني كما استعملت فلانا فقال ( إنكم ستلقون بعدى أثرة فاصبروا حتى تلقونى على الحوض (
وهذا كما فى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنها تكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها ( قالوا
____________________
(35/8)
يارسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذى لكم ( وفى صحيح مسلم عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا فأعرض عنه ثم سأله فأعرض ثم سأله فى الثانية أو فى الثالثة فحدثه الأشعث بن قيس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ماحملتم (
فذلك ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم هو واجب على المسلم وإن استأثروا عليه وما نهى الله عنه ورسوله من معصيتهم فهو محرم عليه وإن أكره عليه فصل
وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة فإذا حلف على ذلك كان ذلك توكيدا وتثبيتا لما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم فالحالف على هذه
____________________
(35/9)
الأمور لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه سواء حلف بالله أو غير ذلك من الأيمان التي يحلف بها المسلمون فإن ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه وما نهى الله ورسوله عن معصيتهم وغشهم محرم وإن لم يحلف على ذلك
وهذا كما أنه إذا حلف ليصلين الخمس وليصومن شهر رمضان أو ليقضين الحق الذي عليه ويشهدن بالحق فإن هذا واجب عليه وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه وما نهى الله عنه ورسوله من الشرك والكذب وشرب الخمر والظلم والفواحش وغش ولاة الأمور والخروج عما أمر الله به من طاعتهم هو محرم وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه
ولهذا من كان حالفا على ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم أو الصلاة أو الزكاة أو صوم رمضان أو أداء الأمانة والعدل ونحو ذلك لا يجوز لأحد أن يفتيه بمخالفة ما حلف عليه والحنث فى يمينه ولا يجوز له أن يستفتي فى ذلك ومن أفتى مثل هؤلاء بمخالفة ما حلفوا عليه والحنث فى أيمانهم فهو مفتر على الله الكذب مفت بغير دين الإسلام بل لو أفتى آحاد العامة بأن يفعل خلاف ما حلف عليه من الوفاء فى عقد بيع أو نكاح أو إجارة أوغير ذلك مما يجب عليه الوفاء به من
____________________
(35/10)
العقود التى يجب الوفاء بها وإن لم يحلف عليها فإذا حلف كان أوكد فمن أفتى مثل هذا بجواز نقض هذه العقود والحنث فى يمينه كان مفتريا على الله الكذب مفتيا بغير دين الإسلام فكيف إذا كان ذلك فى معاقدة ولاة الأمور التى هي أعظم العقود التى أمر الله بالوفاء بها وهذا كما أن جمهور العلماء يقولون يمين المكره بغير حق لا ينعقد سواء كان بالله أو النذر أو الطلاق أو العتاق وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد ثم إذا أكره ولي الأمر الناس على مايجب عليهم من طاعته ومناصحته وحلفهم على ذلك لم يجز لأحد أن يأذن لهم فى ترك ما أمر الله به ورسوله من ذلك ويرخص لهم فى الحنث فى هذه الأيمان لأن ما كان واجبا بدون اليمين فاليمين تقويه لا تضعفه ولو قدر أن صاحبها أكره عليها ومن أراد أن يقول بلزوم المحلوف مطلقا فى بعض الأيمان لأجل تحليف ولاة الأمور أحيانا قيل له وهذا يرد عليك فيما تعتقده فى يمين المكره فإنك تقول لايلزم وإن حلف بها ولاة الأمور ويرد عليك فى أمور كثيرة تفتى بها فى الحيل مع ما فيه من معصية الله تعالى ورسوله وولاة الأمور
____________________
(35/11)
وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم بوجه من الوجوه كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديما وحديثا ومن سيرة غيرهم وقد ثبت فى الصحيح عن بن عمر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدره ( قال وإن من أعظم الغدر يعنى بإمام المسلمين وهذا حدث به عبد الله بن عمر لما قام قوم من أهل المدينة يخرجون عن طاعة ولي أمرهم ينقضون بيعته وفى صحيح مسلم عن نافع قال جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال إنى لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من خلع يدا لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ( وفى الصحيحين عن بن عباس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبرا فمات عليه إلامات ميتة جاهلية ( وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية
____________________
(35/12)
أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتله جاهلية ( وفى لفظ ( ليس من أمتى من خرج على أمتى يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشا من مؤمنها ولا يوفي لذي عهدها فليس منى ولست منه (
فالأول هو الذي يخرج عن طاعة ولي الأمر ويفارق الجماعة
والثانى هو الذي يقاتل لأجل العصبية والرياسة لا فى سبيل الله كأهل الأهواء مثل قيس ويمن
والثالث مثل الذى يقطع الطريق فيقتل من لقيه من مسلم وذمي ليأخذ ماله وكالحرورية المارقين الذين قاتلهم علي بن أبى طالب الذى قال فيهم النبى صلى الله عليه وسلم ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة (
وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بطاعة ولي الأمر وإن كان عبدا حبشيا كما فى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ( وعن أبى ذر قال ( أوصانى خليلى أن اسمعوا وأطيعوا ولوكان حبشيا مجدع
____________________
(35/13)
الأطراف ( وعن البخارى ( ولو لحبشي كان رأسه زبيبة ( وفى صحيح مسلم عن أم الحصين رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة الوداع وهو يقول ( ولو استعمل عبدا يقودكم بكتاب الله اسمعوا وأطيعوا ( وفى رواية ( عبد حبشي مجدعا ( وفى صحيح مسلم عن عوف بن مالك رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ( قلنا يارسول الله أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك قال ( لا ما أقاموا فيكم الصلاة لا ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وآل فرآه يأتي شيئا من معصية فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة (
وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا ( وفى صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارفق به ( وفى الصحيحين عن الحسن البصري قال عاد عبد الله بن زياد معقل بن يسار فى مرضه الذى مات فيه
____________________
(35/14)
فقال له معقل إنى محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلاحرم الله عليه الجنة ( وفى رواية لمسلم ( ما من أمير يلي من أمر المسلمين شيئا ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة (
وفى الصحيحين عن بن عمر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ألا كلكم راع وكلكم مسئوول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئوول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئوولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسئوول عنه ألا كلكم راع وكلكم مسئوول عن رعيته ( وفى الصحيحين عن علي رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا فأوقد نارا فقال ادخلوها فأراد الناس أن يدخلوها وقال الآخرون إنا فررنا منها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها ( لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة وقال للآخرين قولا حسنا وقال لا طاعة فى معصية الله إنما الطاعة فى المعروف
____________________
(35/15)
فصل
قال الله تعالى ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) وقال الله تعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) وقال تعالى ( فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) وقال تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) وقال تعالى ( يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) وقال تعالى ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا )
فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله ومن كان لايطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن
____________________
(35/16)
منعوه عصاهم فماله فى الآخرة من خلاق وقد روى البخارى ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( ثلاثة لايكلمهم الله يوم القيامة ولاينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من بن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعطه منها لم يف
____________________
(35/17)
(1) وقال قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما قاعدة
قال النبى صلى الله عليه وسلم ( خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه أو الملك من يشاء ( لفظ أبي داود من رواية عبد الوارث والعوام ( تكون الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون الملك ( تكون الخلافة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا ( وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد والعوام بن حوشب وغيره عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أهل السنن كأبى داود وغيره واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره فى تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة وثبته أحمد واستدل به على من توقف فى خلافة علي من
____________________
1- 18 32
(35/18)
أجل افتراق الناس عليه حتى قال أحمد من لم يربع بعلي فى الخلافة فهو أضل من حمار أهله ونهى عن مناكحته وهو متفق عليه بين الفقهاء وعلماء السنة وأهل المعرفة والتصوف وهو مذهب العامة
وإنما يخالفهم فى ذلك بعض ( أهل ) الأهواء من أهل الكلام ونحوهم كالرافضة الطاعنين فى خلافة الثلاثة أو الخوارج الطاعنين فى خلافة الصهرين المنافيين عثمان وعلي أو بعض الناصبة النافين لخلافة علي أو بعض الجهال من المتسننة الواقفين فى خلافته ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فى شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من هجرته وإلى عام ثلاثين سنة كان إصلاح إبن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي السيد بين فئتين من المؤمنين بنزوله عن الأمر عام إحدى وأربعين فى شهر جمادى الأولى وسمي عام الجماعة لاجتماع الناس على معاوية وهو أول الملوك
وفي ا 4 لحديث الذي رواه مسلم ( ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ثم يكون ملك وجبرية ثم يكون ملك عضوض ( وقال صلى الله عليه وسلم فى الحديث المشهور فى السنن وهو صحيح ( إنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة
____________________
(35/19)
ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكا ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل ما رواه البخاري ومسلم فى صحيحيهما عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر قالوا فما تامرنا قال فوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ( فقوله ( فتكثر ( دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيرا وأيضا قوله ( فوا ببيعة الأول فالأول ( دل على أنهم يختلفون والراشدون لم يختلفوا وقوله ( فأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ( دليل على مذهب أهل السنة فى إعطاء الأمراء حقهم من المال والمغنم وقد ذكرت فى غير هذا الموضوع أن مصير الأمر إلى الملوك ونوابهم من الولاة والقضاة والأمراء ليس لنقص فيهم فقط بل لنقص فى الراعي والرعية جميعا فإنه ( كما تكونون يول عليكم ( وقد قال الله تعالى ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا )
وقد استفاض وتقرر فى غير هذا الموضع ماقد أمر به صلى الله عليه وسلم من طاعة الأمراء في غير معصية الله ومناصحتهم والصبر عليهم فى حكمهم وقسمهم والغزو معهم والصلاة خلفهم ونحو ذلك
____________________
(35/20)
من متابعتهم فى الحسنات التي لايقوم بها الأهم فإنه من باب التعاون على البر والتقوى وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم وإعانتهم على ظلمهم وطاعتهم فى معصية الله ونحو ذلك مما هو من باب التعاون على الاثم والعدوان
وما أمر به أيضا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهم ولغيرهم على الوجه المشروع وما يدخل فى ذلك من تبليغ رسالات الله إليهم بحيث لايترك ذلك جبنا ولا بخلا ولا خشية لهم ولا اشتراء للثمن القليل بآيات الله ولا يفعل أيضا للرئاسة عليهم ولاعلى العامة ولاللحسد ولا للكبر ولا للرياء لهم ولا للعامة ولا يزال المنكر بما هو أنكر منه بحيث يخرج عليهم بالسلاح وتقام الفتن كما هو معروف من أصول أهل السنة والجماعة كما دلت عليه النصوص النبوية لما فى ذلك من الفساد الذي يربى على فساد مايكون من ظلمهم بل يطاع الله فيهم وفي غيرهم ويفعل ما أمر به ويترك مانهى عنه وهذه جملة تفصيلها يحتاج إلى بسط كثير
والغرض هنا بيان جماع الحسنات والسيئات الواقعة بعد خلافة النبوة فى الإمارة وفي تركها فإنه مقام خطر وذلك أن خبره بانقضاء خلافة النبوة فيه الذم للملك والعيب له لاسيما وفى حديث أبى
____________________
(35/21)
بكرة أنه استاء للرؤيا وقال ( خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء (
ثم النصوص الموجبة لنصب الأئمة والأمراء ومافى الأعمال الصالحة التى يتولونها من الثواب حمد لذلك وترغيب فيه فيجب تخليص محمود ذلك من مذمومه وفى حكم اجتماع الأمرين وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله خيرنى بين أن أكون عبدا رسولا وبين أن أكون نبيا ملكا فاخترت أن أكون عبدا رسولا (
فإذا كان الأصل فى ذلك شوب الولاية من الامارة والقضاء والملك هل هو جائز فى الأصل والخلافة مستحبة أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم أو نقص قدرة بدونه فنحتج بأنه ليس بجائز فى الأصل بل الواجب خلافة النبوة لقوله صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فكل بدعة ضلالة ( بعد قوله ( من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ( فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء وأمر بالإستمساك بها وتحذير من المحدثات المخالفة لها وهذا الأمر منه والنهي دليل بين فى الوجوب
____________________
(35/22)
ثم اختص من ذلك قوله ( إقتدوا بالذين من بعدي أبى بكر وعمر ( فهذان أمر بالإقتداء بهما والخلفاء الراشدون أمر بلزوم سنتهم وفى هذا تخصيص للشيخين من وجهين
أحدهما أن السنة ماسنوه للناس وأما القدوة فيدخل فيها الإقتداء بهما فيما فعلاه مما لم يجعلوه سنة
الثانى أن السنة أضافها إلى الخلفاء لا إلى كل منهم فقد يقال إما ذلك فيما اتفقوا عليه دون ما انفرد به بعضهم وأما القدوة فعين القدوة بهذا وبهذا وفى هذا الوجه نظر
ويستفاد من هذا أن ما فعله عثمان وعلى من الاجتهاد الذى سبقهما بما هو افضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص وموافقة جمهور الأمة على رجحانه وكان سببه افتراق الأمة لا يؤمر بالإقتداء بهما فيه إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء وذلك أن ابا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة وسلما من التأويل فى الدماء والأموال وعثمان رضى الله عنه غلب الرغبة وتأول فى الأموال وعلي غلب الرهبة وتأول فى الدماء وأبو بكر وعمر كمل زهدهما فى المال والرياسة وعثمان كمل زهده فى الرياسة وعلى كمل زهده فى المال
____________________
(35/23)
وأيضا فكون النبي صلى الله عليه وسلم استاء للملك بعد خلافة النبوة دليل على أنه متضمن ترك بعض الدين الواجب
وقد يحتج من يجوز الملك بالنصوص التى منها قوله لمعاوية ( إن ملكت فأحسن ( ونحو ذلك وفيه نظر ويحتج بأن عمر أقر معاوية لما قدم الشام على ما رآه من أبهة الملك لما ذكر له المصلحة فيه فإن عمر قال لا آمرك ولا أنهاك ويقال فى هذا إن عمر لم ينهه لا أنه أذن له فى ذلك لان معاوية ذكر وجه الحاجة إلى ذلك ولم يثق عمر بالحاجة فصار محل اجتهاد فى الجملة
فهذان القولان متوسطان ان يقال الخلافة واجبة وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة أو إن يقال يجوز قبولها من الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره إذ ما يبعد المقصود بدونه لابد من اجازته وأما ( ملك ) فإيجابه أو استحبابه محل اجتهاد
وهنا طرفان أحدهما من يوجب ذلك فى كل حال وزمان وعلى كل أحد ويذم من خرج عن ذلك مطلقا أو لحاجة كما هو حال أهل البدع من الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسننة والمتزهدة والثانى
____________________
(35/24)
من يبيح الملك مطلقا من غير تقيد بسنة الخلفاء كما هو فعل الظلمة والإباحية وأفراد المرجئة وهذا تفصيل جيد وسيأتي تمامه وتحقيق الأمر أن يقال انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة او اجتهاد سائغ او مع القدرة على ذلك علما وعملا فإن كان مع العجز علما أو عملا كان ذو الملك معذورا فى ذلك وان كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة كما تسقط سائر الواجبات مع العجز كحال النجاشى لما اسلم وعجز عن اظهار ذلك فى قومه بل حال يوسف الصديق تشبه ذلك من بعض الوجوه لكن الملك كان جائزا لبعض الأنبياء كداود وسليمان ويوسف
وإن كان مع القدرة علما وعملا وقدر أن خلافة النبوة مستحبة ليست واجبة وإن اختيار الملك جائز فى شريعتنا كجوازه فى غير شريعتنا فهذا التقدير إذا فرض أنه حق فلا اثم على الملك العادل أيضا
وهذا الوجه قد ذكره القاضي أبو يعلى فى المعتمد لما تكلم فى تثبيت خلافة معاوية وبنى ذلك على ظهور إسلامه وعدالته وحسن سيرته وأنه ثبتت إمامته بعد موت علي لما عقدها الحسن له وسمى ذلك عام الجماعة وذكر حديث عبد الله بن مسعود ( تدور رحا الإسلام على رأس خمس
____________________
(35/25)
وثلاثين ( قال قال أحمد فى رواية بن الحكم يروي عن الزهري أن معاوية كان أمره خمس سنين لا ينكر عليه شيء فكان هذا على حديث النبى ( خمس وثلاثين سنة ( قال بن الحكم قلت لأحمد من قال حديث بن مسعود ( تدور رحا الاسلام لخمس وثلاثين ( أنها من مهاجر النبى صلى الله عليه وسلم قال لقد أخبر هذا وما عليه أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم يصف الإسلام بسير هو بالجناية انما يصف ما يكون بعده من السنين
قال وظاهر هذا من كلام أحمد أنه أخذ بظاهر الحديث وأن خلافة معاوية كانت من جملة الخمس والثلاثين وذكر أن رجلا سأل أحمد عن الخلافة فقال كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة لنا قال القاضي وظاهر هذا أن ما كان بغير المدينة لم يكن خلافة نبوة
قلت نصوص احمد على ان الخلافة تمت بعلى كثيرة جدا
ثم عارض القاضي ذلك بقوله ( الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا ( قال السائل فلما خص الخلافة بعده بثلاثين سنة كان آخرها اخر ايام على وان بعد ذلك يكون ملكا دل على أن ذلك ليس بخلافة فأجاب القاضي بأنه يحتمل أن يكون المراد به الخلافة التى لا يشوبها ملك بعده ثلاثون
____________________
(35/26)
سنة وهكذا كانت خلافة الخلفاء الاربعة ومعاوية قد شابها الملك وليس هذا قادحا فى خلافته كما أن ملك سليمان لم يقدح فى نبوته وان كان غيره من الانبياء فقيرا قلت فهذا يقتضى ان شوب الخلافة بالملك جائز فى شريعتنا وان ذلك لا ينافى العدالة وان كانت الخلافة المحضة افضل وكل من انتصر لمعاوية وجعله مجتهدا فى اموره ولم ينسبه إلى معصية فعليه أن يقول بأحد القولين اما جواز شوبها بالملك أو عدم اللوم على ذلك فيتجه اذا قال ان خلافة النبوة واجبة فلو قدر فان عمل سيئة فكبيرة وان كان دينا او لان الفاسق من غلبت سيئاته حسناته وليس كذلك وهذا رحمته بالملوك العادلين اذ هم فى الصحابة من يقتدى به
واما اهل البدع كالمعتزلة فيفسقون معاوية لحرب على وغير ذلك بناء على أنه فعل كبيرة وهى توجب التفسيق فلابد من منع احدى المقدمتين ثم اذا ساغ هذا للملوك ساغ للقضاة والامراء ونحوهم
وأما اذا كانت خلافة النبوة واجبة وهي مقدورة وقد تركت فترك الواجب سبب للذم والعقاب ثم هل تركها كبيرة او صغيرة
____________________
(35/27)
ان كان صغيرة لم يقدح فى العدالة وان كان كبيرة ففيه القولان لكن يقال هنا اذا كان القائم بالملك والامارة يفعل من الحسنات المامور بها ويترك من السيئات المنهى عنها ما يزيد به ثوابه على عقوبة ما يتركه من واجب او يفعله من محظور فهذا قد ترجحت حسناته على سيئاته فاذا كان غيره مقصرا فى هذه الطاعة التى فعلها مع سلامته عن سيئاته فله ثلاثة أحوال اما أن يكون الفاضل من حسنات الامير اكثر من مجموع حسنات هذا او اقل فإن كانت فاضلة اكثر كان أفضل وان كان اقل كان مفضولا وان تساويا تكافآ هذا موجب العدل ومقتضى نصوص الكتاب والسنة فى الثواب والعقاب
وهو مبنى على قول من يعتبر الموازنة والمقابلة فى الجزاء وفى العدالة ايضا واما من يقول انه بالكبيرة الواحدة يستحق الوعيد ولو كان له حسنات كثيرة عظيمة فلا يجيء هذا وهو قول طائفة من العلماء فى العدالة والاول اصح على ما تدل عليه النصوص
ويتفرع من هنا مسألة وهو ما اذا كان لا يتأتى له فعل الحسنة الراجحة الا بسيئة دونها فى العقاب فلها صورتان
____________________
(35/28)
احداهما اذا لم يمكن الا ذلك فهنا لا يبقى سيئة فان ما لا يتم الواجب او المستحب الا به فهو واجب أو مستحب ثم ان كان مفسدته دون تلك المصلحة لم يكن محظورا كأكل الميتة للمضطر ونحو ذلك من الامور المحظورة التى تبيحها الحاجات كلبس الحرير فى البرد ونحو ذلك وهذا باب عظيم
فإن كثيرا من الناس يستشعر سوء الفعل ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له التى يحصل بها من ثواب الحسنة ما يربى على ذلك بحيث يصير المحظور مندرجا فى المحبوب او يصير مباحا اذا لم يعارضه الا مجرد الحاجة كما أن من الامور المباحة بل والمأمور بها ايجابا او استحبابا ما يعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحة كالصيام للمريض وكالطهارة بالماء لمن يخاف عليه الموت كما قال ( قتلوه قتلهم الله هلا سألوا اذا لم يعلموا فإنما شفاء العى السؤال (
وعلى هذا الاصل يبنى جواز العدول احيانا عن بعض سنة الخلفاء كما يجوز ترك بعض واجبات الشريعة وارتكاب بعض محظوراتها للضرورة وذلك فيما اذا وقع العجز عن بعض سنتهم أو وقعت الضرورة إلى بعض ما نهوا عنه بأن تكون الواجبات المقصودة بالامارة لا تقوم الا بما مضرته أقل
____________________
(35/29)
وهكذا مسألة الترك كما قلناه اولا وبينا انه لا يخالفه الا اهل البدع ونحوهم من اهل الجهل والظلم ( والصورة الثانية اذا كان يمكن فعل الحسنات بلا سيئة لكن بمشقة لا تطيعه نفسه عليها او بكراهة من طبعه بحيث لا تطيعه نفسه إلى فعل تلك الحسنات الكبار المأمور بها ايجابا او استحبابا ان لم يبذل لنفسه ما تحبه من بعض الامور المنهى عنها التى اثمها دون منفعة الحسنة فهذا القسم واقع كثيرا فى اهل الامارة والسياسة والجهاد واهل العلم والقضاء والكلام واهل العبادة والتصوف وفى العامة مثل من لا تطيعه نفسه إلى القيام بمصالح الامارة من الامر بالمعروف والنهى عن المنكر واقامة الحدود وأمن السبل وجهاد العدو وقسمة المال الا بحظوظ منهى عنها من الاستئثار ببعض المال والرياسة على الناس والمحاباة فى القسم وغير ذلك من الشهوات وكذلك فى الجهاد لا تطيعه نفسه على الجهاد الا بنوع من التهور وفى العلم لا تطيعه نفسه على تحقيق علم الفقه وأصول الدين الا بنوع من المنهى عنه من الرأى والكلام ولا تطيعه نفسه على تحقيق علم العبادة المشروعة والمعرفة المأمور بها الا بنوع من الرهبانية
فهذا القسم كثر فى دول الملوك اذ هو واقع فيهم وفى كثير من امرائهم وقضاتهم وعلمائهم وعبادهم اعنى اهل زمانهم وبسببه
____________________
(35/30)
نشأت الفتن بين الامة فاقوام نظروا إلى ما ارتكبوه من الامور المنهى عنها فذموهم وأبغضوهم واقوام نظروا إلى ما فعلوه من الامور المامور بها فأحبوهم ثم الاولون ربما عدوا حسناتهم سيئات والاخرون ربما جعلوا سيئاتهم حسنات وقد تقدم اصل هذه المسالة وهو انه اذا تعسر فعل الواجب فى الامارة الا بنوع من الملك فهل يكون الملك مباحا كما يباح عند التعذر ذكرنا فيه القولين فإن اقيم التعسر مقام التعذر لم يكن ذلك اثما وان لم يقم كان اثما واما ما لا تعذر فيه ولا تعسر فان الخروج فيه عن سنة الخلفاء اتباع للهوى فالتحقيق أن الحسنات حسنات والسيئات سيئات وهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وحكم الشريعة أنهم لايؤذن لهم فيما فعلوه من السيئات ولا يؤمرون به ولا يجعل حظ أنفسهم عذرا لهم فى فعلهم إذا لم تكن الشريعة عذرتهم لكن يؤمرون بما فعلوه من الحسنات ويحضون على ذلك ويرغبون فيه وإن علم أنهم لا يفعلونه إلا بالسيئات المرجوحة كما يؤمر الأمراء بالجهاد وإن علم أنهم لا يجاهدون إلا بنوع من الظلم الذى تقل مفسدته بالنسبة إلى مصلحة الجهاد
ثم إذا علم أنهم إذا نهوا عن تلك السيئات تركوا الحسنات الراجحة الواجبة لم ينهوا عنها لما فى النهي عنها من مفسدة ترك الحسنات الواجبة إلا أن يمكن الجمع بين الأمرين فيفعل حينئذ تمام الواجب كما كان
____________________
(35/31)
عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور لرجحان المصلحة فى عمله ثم يزيل فجوره بقوته وعدله
ويكون ترك النهي عنها حينئذ مثل ترك الانكار باليد أو بالسلاح إذا كان فيه مفسدة راجحة على مفسدة المنكر فإذا كان النهي مستلزما فى القضية المعينة لترك المعروف الراجح كان بمنزلة أن يكون مستلزما لفعل المنكر الراجح كمن أسلم على أن لايصلي إلا صلاتين كما هو مأثور عن ( بعض من أسلم على عهد ) النبي أو أسلم بعض الملوك المسلطين وهو يشرب الخمر أو يفعل بعض المحرمات ولو نهي عن ذلك إرتد عن الاسلام
ففرق بين ترك العالم أو الأمير لنهي بعض الناس عن الشيء إذا كان فى النهي مفسدة راجحة وبين إذنه فى فعله وهذا يختلف باختلاف الأحوال ففى حال أخرى يجب اظهار النهي إما لبيان التحريم واعتقاده والخوف من فعله أو لرجاء الترك أو لاقامة الحجة بحسب الأحوال ولهذا تنوع حال النبى صلى الله عليه وسلم فى أمره ونهيه وجهاده وعفوه واقامته الحدود وغلظته ورحمته
____________________
(35/32)
وقال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى فصل
قد ذكرت فيما تقدم الكلام على الملك هل هو جائز فى شريعتنا ولكن خلافة النبوة مستحبة وأفضل منه أم خلافة النبوة واجبة وانما تجويز تركها إلى الملك للعذر كسائر الواجبات تكلمت على ذلك
وأما فى شرع من قبلنا فإن الملك جائز كالغنى يكون للأنبياء تارة وللصالحين أخرى قال الله تعالى فى داود ( وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ) وقال عن سليمان ( رب اغفرلى وهب لى ملكا لاينبغى لأحد من بعدى إنك أنت الوهاب ) وقال عن يوسف ( رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث ) فهؤلاء ثلاثة أنبياء أخبر الله أنه آتاهم الملك وقال ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ) فهذا ملك لآل إبراهيم وملك لآل داود وقد قال مجاهد فى قوله ( تؤتى الملك من تشاء ) قال النبوة فجعل النبوة نفسها ملكا
____________________
(35/33)
والتحقيق أن من النبوة مايكون ملكا فإن النبى له ثلاثة أحوال إما أن يكذب ولا يتبع ولايطاع فهو نبي لم يؤت ملكا وإما أن يطاع فنفس كونه مطاعا هو ملك لكن إن كان لايأمر إلا بما أمر به فهو عبد رسول ليس له ملك وإن كان يأمر بما يريده مباحا له ذلك بمنزلة الملك كما قيل لسليمان ( هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب ) فهذا نبي ملك فالملك هنا قسيم العبد الرسول كما قيل للنبى صلى الله عليه وسلم ( اختر إما عبدا رسولا وإما نبيا ملكا (
وأما بالتفسير الأول وهو الطاعة والاتباع فقسم من النبوة والرسالة وهؤلاء أكمل وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه كان عبدا رسولا مؤيدا مطاعا متبوعا فأعطى فائدة كونه مطاعا متبوعا ليكون له مثل أجر من اتبعه ولينتفع به الخلق ويرحموا به ويرحم بهم ولم يختر أن يكون ملكا لئلا ينقص لما فى ذلك من الاستمتاع بالرياسة والمال ( عن ) نصيبه فى الآخرة فإن العبد الرسول أفضل عند الله من النبى الملك ولهذا كان أمر نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم أفضل من داود وسليمان ويوسف حتى إن من أهل الكتاب من طعن فى نبوة داود وسليمان كما يطعن كثير من الناس فى ولاية بعض أهل الرياسة والمال وليس الأمر كذلك
____________________
(35/34)
وأما الملوك الصالحون فقوله سبحانه ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشاء والله واسع عليم وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ) وقوله سبحانه ( ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له فى الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ) الآية قال مجاهد ملك الأرض مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان وذو القرنين والكافران بختنصر ونمرود وسيملكها خامس من هذه الأمة وقوله تعالى ( يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا )
وأما جنس الملوك فكثيرة كقوله ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) وقوله ( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف
____________________
(35/35)
(1) وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه
أعلم أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأكمل لأمته الدين وأتم عليهم النعمة وجعله على شريعة من الأمر وأمره أن يتبعها ولا يتبع سبيل الذين لايعلمون وجعل كتابه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب ومصدقا لها وجعل له شرعة ومنهاجا وشرع لأمته سنن الهدى ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد كتاب يهدى به وحديد ينصره كما قال تعالى ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) فالكتاب به يقوم العلم والدين والميزان به تقوم الحقوق فى العقود المالية والقبوض والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين
ولهذا كان فى الأزمان المتأخرة الكتاب للعلماء والعباد والميزان للوزراء والكتاب وأهل الديوان والحديد للأمراء والأجناد والكتاب له الصلاة والحديد له الجهاد ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية فى الصلاة والجهاد وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى عيادة المريض ( اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكألك عدوا ( وقال عليه السلام ( رأس الأمر الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله
____________________
1- 36 47
(35/36)
ولهذا جمع بينهما فى مواضع من القرآن كقوله تعالى ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله ) والصلاة أول أعمال الاسلام وأصل أعمال الايمان ولهذا سماها إيمانا فى قوله ( وما كان الله ليضيع ايمانكم ) أى صلاتكم إلى بيت المقدس هكذا نقل عن السلف وقال تعالى ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد فى سبيل الله لايستوون عند الله ) وقال ( فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) فوصفهم بالمحبة التى هي حقيقة الصلاة كما قال ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) فوصفهم بالشدة على الكفار والضلال
وفى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل أى العمل أفضل قال ( إيمان بالله وجهاد فى سبيله ( فقيل ثم ماذا قال ( ثم حج مبرور ( مع قوله فى الحديث الصحيح لما سأله إبن مسعود أي العمل أفضل قال ( الصلاة فى وقتها ( قال ثم ماذا قال ( بر الوالدين ( قال ثم ماذا قال ( الجهاد فى سبيل الله ( فإن قوله ( إيمان بالله ( دخل فيه الصلاة ولم يذكر فى الأول بر الوالدين إذ ليس لكل أحد والدان فالأول مطلق والثانى مقيد بمن له والدان
____________________
(35/37)
ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر خلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم من ولاة الأمور فى الدولة الأموية والعباسية أن الإمام يكون إماما فى هذين الأصلين جميعا الصلاة والجهاد فالذى يؤمهم فى الصلاة يؤمهم فى الجهاد وأمر الجهاد والصلاة واحد فى المقام والسفر وكان النبى صلى الله عليه وسلم إذا استعمل رجلا على بلد مثل عتاب بن أسيد على مكة وعثمان بن أبى العاص على الطائف وغيرهما كان هو الذي يصلى بهم ويقيم الحدود وكذلك إذا استعمل رجلا على مثل غزوة كإستعماله زيد بن حارثة وابنه أسامة وعمرو بن العاص وغيرهم كان أمير الحرب هو الذي يصلي بالناس ولهذا استدل المسلمون بتقديمه أبا بكر فى الصلاة على أنه قدمه فى الامامة العامة
وكذلك كان أمراء الصديق كيزيد بن أبى سفيان وخالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص وغيرهم أمير الحرب هو إمام الصلاة
وكان نواب عمر بن الخطاب كإستعماله على الكوفة عمار بن ياسر على الحرب والصلاة وبن مسعود على القضاء وبيت المال وعثمان بن حنيف على الخراج
ومن هنا أخذ الناس ولاية الحرب وولاية الخراج وولاية القضاء فإن عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين فلما انتشر المؤمنون وغلبوا الكافرين على البلاد وفتحوها واحتاجوا إلى زيادة فى الترتيب وضع
____________________
(35/38)
لهم الديوان ديوان الخراج للمال المستخرج وديوان العطاء والنفقات للمال المصروف ومصر لهم الأمصار فمصر الكوفة والبصرة ومصر الفسطاط فإنه لم يؤثر أن يكون بينه وبين جند المسلمين نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل فجعل هذه الأمصار مما يليه فصل وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد فإن النبى صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوي ففيه الصلاة والقراءة والذكر وتعليم العلم والخطب وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم
وكذلك عماله فى مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى وكذلك عماله على البوادى فإن لهم مجمعا فيه يصلون وفيه يساسون كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( إن بنى اسرائيل كان تسوسهم الأنبياء كلما ذهب نبي خلفه نبى وإنه لانبي بعدى وستكون خلفاء تعرفون وتنكرون ( قالوا فما تأمرنا قال ( أوفوا ببيعة الأول فالأول واسألوا الله لكم فإن الله سائلهم عما استرعاهم
____________________
(35/39)
وكان الخلفاء والأمراء يسكنون فى بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين فى بيوتهم لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع وكان سعد بن أبى وقاص قد بنى له بالكوفة قصرا وقال أقطع عنى الناس فأرسل إليه عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة وأمره أن يحرقه فاشترى من نبطي حزمة حطب وشرط عليه حملها إلى قصره فحرقه فإن عمر كره للوالي الاحتجاب عن رعيته ولكن بنيت قصور الأمراء فلما كانت إمارة معاوية احتجب لما خاف أن يغتال كما اغتيل علي واتخذ المقاصير فى المساجد ليصلي فيها ذو السلطان وحاشيته واتخذ المراكب فاستن به الخلفاء الملوك بذلك فصاروا مع كونهم يتولون الحرب والصلاة بالناس ويباشرون الجمعة والجماعة والجهاد واقامة الحدود لهم قصور يسكنون فيها ويغشاهم رؤوس الناس فيها كما كانت الخضراء لبنى أمية قبلى المسجد الجامع والمساجد يجتمع فيها للعبادات والعلم ونحو ذلك فصل
طال الأمد وتفرقت الأمة وتمسك كل قوم بشعبة من الدين بزيادات زادوها فأعرضوا عن شعبة منه أخرى أحدثت الملوك والأمراء القلاع والحصون وإنما كانت تبنى الحصون والمعاقل قديما فى الثغور خشية
____________________
(35/40)
أن يدهمها العدو وليس عندهم من يدفعه عنها وكانوا يسمون الثغور الشامية ( العواصم ( وهي قنسرين وحلب
وأحدثت ( المدارس ( لأهل العلم
وأحدثت ( الربط والخوانق ( لأهل التعبد وأظن مبدأ انتشار ذلك فى ( دولة السلاجقة ( فأول ما بنيت المدارس والرباطات للمساكين ووقفت عليها وقوف تجرى على أهلها فى وزارة ( نظام الملك ( وأما قبل ذلك فقد وجد ذكر المدارس وذكر الربط لكن ما أظن كان موقوفا عليها لأهلها وانما كانت مساكن مختصة وقد ذكر الإمام معمر بن زياد من أصحاب الواحدى فى ( أخبار الصوفية ( أن أول دويرة بنيت لهم فى البصرة وأما ( المدارس فقد رأيت لها ذكرا قبل دولة السلاجقة فى أثناء المائة الرابعة ودولتهم إنما كانت فى المائة الخامسة وكذلك هذه ( القلاع والحصون ( التى بالشام عامتها محدث كما بنى الملك العادل قلعة دمشق وبصرى وحران وذلك أن النصارى كانوا كثيرى الغزو إليهم وكان الناس بعد المائة الثالثة قد ضعفوا عن دفاع النصارى عن السواحل حتى استعلوا على كثير من ثغور الشام الساحلية
____________________
(35/41)
فصل فى ( الخلافة والسلطان ( وكيفية كونه ظل الله فى الأرض قال الله تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة ) وقال الله تعالى ( ياداود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله )
وقوله ( انى جاعل فى الأرض خليفة ) يعم آدم وبنيه لكن الإسم متناول لآدم عينا كقوله ( لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقويم ) وقوله ( خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ) وقوله ( وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) ( ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ) إلى أمثال ذلك
ولهذا كان بين داود وآدم من المناسبة ما أحب به داود حين أراه ذريته وسأل عن عمره فقيل أربعون سنة فوهبه من عمره الذي هو ألف سنة ستين سنة والحديث صحيح رواه الترمذي وغيره وصححه ولهذا كلاهما ابتلى بما ابتلاه به من الخطيئة كما أن كلا منهما
____________________
(35/42)
مناسبة للأخرى إذ جنس الشهوتين واحد ورفع درجته بالتوبة العظيمة التى نال بها من محبة الله له وفرحه به ما نال ويذكر عن كل منهما من البكاء والندم والحزن ما يناسب بعضه بعضا
والخليفة هو من كان خلفا عن غيره فعيلة بمعنى فاعلة كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول ( اللهم أنت الصاحب فى السفر والخليفة فى الأهل ( وقال صلى الله عليه وسلم ( من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه فى أهله بخير فقد غزا ( وقال ( أو كلما خرجنا فى الغزو خلف أحدهم وله نبيب كنبيب التيس يمنح احداهن اللبنة من اللبن لئن أظفرنى الله بأحد منهم لأجعلنه نكالا ( وفى القرآن ( سيقول لك المخلفون من الأعراب ) وقوله ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله )
والمراد ( بالخليفة ( أنه خلف من كان قبله من الخلق والخلف فيه مناسبة كما كان أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خلفه على أمته بعد موته وكما كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا سافر لحج أو عمرة أو غزوة يستخلف على المدينة من يكون خليفة له مدة معينة فيستخلف تارة بن أم مكتوم وتارة غيره واستخلف على بن أبى طالب فى غزوة تبوك وتسمى الأمكنة التى يستخلف فيها الامام ( مخاليف ( مثل مخاليف اليمن ومخاليف أرض الحجاز ومنه الحديث ( حيث خرج من مخلاف إلى مخلاف ( ومنه قوله تعالى ( وهو الذى جعلكم خلائف فى الأرض ورفع بعضكم
____________________
(35/43)
فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ) وقوله تعالى ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا إلى قوله تعالى ثم جعلناكم خلائف فى الأرض ومنه قوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم ) الآية وقد ظن بعض القائلين الغالطين كابن عربى أن ( الخليفة ( هو الخليفة عن الله مثل نائب الله وزعموا أن هذا بمعنى أن يكون الانسان مستخلفا وربما فسروا ( تعليم آدم الأسماء كلها ( التى جمع معانيها الانسان ويفسرون ( خلق آدم على صورته ( بهذا المعنى أيضا وقد أخذوا من الفلاسفة قولهم الانسان هو العالم الصغير وهذا قريب وضموا إليه أن الله هو العالم الكبير بناء على أصلهم الكفرى فى وحدة الوجود وأن الله هو عين وجود المخلوقات فالانسان من بين المظاهر هو الخليفة الجامع للأسماء والصفات ويتفرع على هذا ما يصيرون إليه من دعوى الربوبية والألوهية المخرجة لهم إلى الفرعونية والقرمطية والباطنية
وربما جعلوا ( الرسالة ( مرتبة من المراتب وأنهم أعظم منها فيقرون بالربوبية والوحدانية والألوهية وبالرسالة ويصيرون فى الفرعونية هذا إيمانهم أو يخرجون فى أعمالهم أن يصيروا ( سدى ) لا أمر عليهم ولانهى ولا إيجاب ولاتحريم
____________________
(35/44)
والله لا يجوز له خليفة ولهذا لما قالوا لأبى بكر ياخليفة الله قال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبي ذلك بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره قال النبى صلى الله عليه وسلم ( اللهم أنت الصاحب فى السفر والخليفة فى الأهل اللهم اصحبنا فى سفرنا واخلفنا فى أهلنا ( وذلك لأن الله حى شهيد مهيمن قيوم رقيب حفيظ غني عن العالمين ليس له شريك ولا ظهير ولا يشفع أحد عنده الا بإذنه والخليفة أنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف وسمى ( خليفة ( لأنه خلف عن الغزو وهو قائم خلفه وكل هذه المعانى منتفية فى حق الله تعالى وهو منزه عنها فإنه حي قيوم شهيد لا يموت ولا يغيب وهو غنى يرزق ولا يرزق يرزق عباده وينصرهم ويهديهم ويعافيهم بما خلقه من الأسباب التى هي من خلقه والتى هي مفتقرة إليه كافتقار المسببات إلى أسبابها فالله هو الغنى الحميد له ما فى السماوات وما فى الأرض وما بينهما ( يسأله من فى السماوات والأرض كل يوم هو فى شأن ) ( وهو الذي فى السماء إله وفى الأرض إله ) ولا يجوز أن يكون أحد خلفا منه ولايقوم مقامه لأنه لا سمى له ولا كفء له فمن جعل له خليفة فهو مشرك به
وأما الحديث النبوي ( السلطان ظل الله فى الأرض يأوى إليه كل ضعيف وملهوف ) وهذا صحيح فإن الظل مفتقر إلى آو وهو رفيق له
____________________
(35/45)
مطابق له نوعا من المطابقة والآوى إلى الظل المكتنف بالمظل صاحب الظل فالسلطان عبد الله مخلوق مفتقر إليه لا يستغنى عنه طرفة عين وفيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معانى السؤدد والصمدية التى بها قوام الخلق ما يشبه أن يكون ظل الله فى الأرض وهو أقوى الأسباب التى بها يصلح أمور خلقه وعباده فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس وإذا فسد فسدت بحسب فساده ولا تفسد من كل وجه بل لابد من مصالح إذ هو ظل الله لكن الظل تارة يكون كاملا مانعا من جميع الأذى وتارة لايمنع الا بعض الأذى وأما إذا عدم الظل فسد الأمر كعدم سر الربوبية التى بها قيام الأمة الانسانية والله تعالى أعلم
____________________
(35/46)
(1) وقال رحمه الله تعالى فصل
حكا أصحابنا كالقاضى أبى يعلى وغيره عن الإمام أحمد فى خلافة أبى بكر هل ثبتت باختيار المسلمين له أو بالنص الخفى عن النبى صلى الله عليه وسلم أو البين
( أحدهما ( بالاختيار وهو قول جمهور العلماء والفقهاء وأهل الحديث والمتكلمين كالمعتزلة والأشعرية وغيرهم
و ( الثانية ( بالنص الخفي وهو قول طوائف أهل الحديث والمتكلمين ويروى عن الحسن البصرى وبعض أهل هذا القول يقولون بالنص الجلي
وأما قول ( الامامية ( أنها ثبتت بالنص الجلى على علي وقول ( الزيدية الجارودية ( أنها بالنص الخفى عليه وقول ( الراوندية ( أنها بالنص على العباس فهذه أقوال ظاهرة الفساد عند أهل العلم والدين وإنما يدين بها إما جاهل وإما ظالم وكثير ممن يدين بها زنديق
____________________
1- 47 49
(35/47)
والتحقيق فى خلافة أبى بكر وهو الذي يدل عليه كلام أحمد أنها انعقدت باختيار الصحابة ومبايعتهم له وأن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوعها على سبيل الحمد لها والرضى بها وأنه أمر بطاعته وتفويض الأمر إليه وأنه دل الأمة وأرشدهم إلى بيعته فهذه الأوجه الثلاثة الخبر والأمر والارشاد ثابت من النبى صلى الله عليه وسلم
( فالأول ( كقوله ( رأيت كأنى على قليب أنزع منها فأتى بن أبى قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين ( الحديث وكقوله ( كأن ميزانا دلي من السماء إلى الأرض فوزنت بالأمة فرجحت ثم وزن عمر ( الحديث وكقوله ( إدعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدى ( ثم قال ( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ( فهذا إخبار منه بأن الله والمؤمنون لا يعقدونها إلا لأبى بكر الذي هم بالنص عليه وكقوله ( أري الليلة رجل صالح كان أبا بكر نيط برسول الله ( الحديث وقوله ( خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا (
وأما ( الأمر ( فكقوله ( اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر وعمر ( وقوله عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى ( وقوله للمرأة التى سألته إن لم أجدك قال ( فاتى أبا بكر ( وقوله لأصحاب الصدقات ( إذا لم تجدوه أعطوها لأبى بكر ( ونحو ذلك
____________________
(35/48)
و ( الثالث ( تقديمه له فى الصلاة وقوله ( سدوا كل خوخة فى المسجد إلا خوخة أبى بكر ( وغير ذلك من خصائصه ومزاياه وهذه الوجوه الثلاثة الثابتة بالسنة دل عليها القرآن
( فالأول ( فى قوله ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم ) الآية وقوله ( فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه ) وقوله ( وسيجزي الله الشاكرين )
والثاني قوله ( ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون )
الآية والثالث كقوله ( وسيجنبها الأتقى ) وقوله ( النبيين والصديقين ) وقوله ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) ونحو ذلك
فثبتت صحة خلافته ووجوب طاعته بالكتاب والسنة والاجماع وإن كانت انما انعقدت بالاجماع والاختيار كما أن الله إذا أمر بتولية شخص أو إنكاحه أو غير ذلك من الأمور معه فإن ذلك الأمر لايحصل إلا بعقد الولاية والنكاح والنصوص قد دلت على أمر الله بذلك العقد ومحبته له فالنصوص دلت على أنهم مأمورون باختياره والعقد له وأن الله يرضى ذلك ويحبه وأما حصول المأمور به المحبوب فلا يحصل إلا بالامتثال فلما امتثلوا ما أمروا به عقدوا له بإختيارهم وكان هذا أفضل فى حقهم وأعظم فى درجتهم
____________________
(35/49)
(1) وقال رحمه الله فصل
أهل الأهواء فى ( قتال علي ومن حاربه ( على أقوال
أما ( الخوارج ( فتكفر الطائفتان المقتتلان جميعا وأما ( الرافضة ( فتكفر من قاتل عليا مع المتواتر عنه من أنه حكم فيهم بحكم المسلمين ومنع من تكفيرهم
ولهم فى قتال طلحة والزبير وعائشة ثلاثة أقوال ( أحدها ( تفسيق الطائفتين لابعينها وهو قول عمرو بن عبيد وأصحابه و ( الثاني ( تفسيق من قاتله إلا من تاب ويقولون إن طلحة والزبير وعائشة تابوا وهذا مقتضى ما حكى عن جمهورهم كأبى الهذيل وأصحابه وأبى الحسين وغيرهم
وذهب بعض الناس إلى تخطئته فى قتال طلحة والزبير دون قتال أهل الشام
ففى الجملة ( أهل البدع ( من الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم يجعلون القتال موجبا لكفر أو لفسق
____________________
1- 50 51
(35/50)
(1)
وأما ( أهل السنة ( فمتفقون على عدالة القوم ثم لهم فى التصويب والتخطئة مذاهب لأصحابنا وغيرهم
( أحدها ( أن المصيب علي فقط و ( الثانى ( الجميع مصيبون و ( الثالث ( المصيب واحد لابعينه و ( الرابع ( الامساك عما شجر بينهم مطلقا مع العلم بأن عليا وأصحابه هم أولى الطائفتين بالحق كما فى حديث أبى سعيد لما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين فيقتلهم أولى الطائفتين بالحق ( وهذا فى حرب أهل الشام والأحاديث تدل على أن حرب الجمل فتنة وأن ترك القتال فيها أولى فعلى هذا نصوص أحمد وأكثر أهل السنة وذلك الشجار بالألسنة والأيدى أصل لما جرى بين الأمة بعد ذلك في الدين والدنيا فليعتبر العاقل بذلك وهو مذهب أهل السنة والجماعة وسئل رحمه الله
عن طائفتين من الفلاحين اقتتلتا فكسرت إحداهما الأخرى وانهزمت المكسورة وقتل منهم بعد الهزيمة جماعة فهل يحكم للمقتولين من المهزومين بالنار ويكونون داخلين فى قول النبى ( القاتل والمقتول فى النار ( أم لا وهل يكون حكم المنهزم حكم من يقتل منهم فى المعركة أم
____________________
1- 51 54
(35/51)
لا فأجاب الحمد لله إن كان المنهزم قد انهزم بنية التوبة عن المقاتلة المحرمة لم يحكم له بالنار فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات
وأما إن كان انهزامه عجزا فقط ولو قدر على خصمه لقتله فهو فى النار كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار ( قيل يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال ( إنه أراد قتل صاحبه ( فإذا كان المقتول فى النار لأنه أراد قتل صاحبه فالمنهزم بطريق الأولى لأنهما اشتركا فى الارادة والفعل والمقتول أصابه من الضرر مالم يصب المهزوم ثم إذا لم تكن هذه المصيبة مكفرة لاثم المقاتلة فلأن لا تكون مصيبة الهزيمة مكفرة أولى بل إثم المنهزم المصر على المقاتلة أعظم من إثم المقتول فى المعركة واستحقاقه للنار أشد لأن ذلك انقطع عمله السيء بموته وهذا مصر على الخبث العظيم ولهذا قالت طائفة من الفقهاء إن منهزم البغاة يقتل إذا كان له طائفة يأوى إليها فيخاف عوده بخلاف المثخن بالجرح منهم فإنه لايقتل وسببه أن هذا انكف شره والمنهزم لم ينكف شره
وأيضا فالمقتول قد يقال إنه بمصيبة القتل قد يخفف عنه العذاب وإن كان من أهل النار ومصيبة الهزيمة دون مصيبة القتل فظهر أن المهزوم أسوء حالا من المقتول إذا كان مصرا على قتل أخيه ومن تاب فإن الله غفور رحيم
____________________
(35/52)
وسئل رحمه الله
عن ( البغاة والخوارج ( هل هي الفاظ مترادفة بمعنى واحد أم بينهما فرق وهل فرقت الشريعة بينهما فى الأحكام الجارية عليهما أم لا وإذا إدعى مدع أن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهم إلا فى الاسم وخالفه مخالف مستدلا بأن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه فرق بين أهل الشام وأهل النهروان فهل الحق مع المدعي أو مع مخالفه
فأجاب الحمد لله أما قول القائل إن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا فى الاسم فدعوى باطلة ومدعيها مجازف فإن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبى حنيفة والشافعى وأحمد وغيرهم مثل كثير من المصنفين فى ( قتال أهل البغى ( فإنهم قد يجعلون قتال أبى بكر لمانعى الزكاة وقتال على الخوارج وقتاله لأهل الجمل وصفين إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الاسلام من باب ( قتال أهل البغي
____________________
(35/53)
ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة لايجوز أن يحكم عليهم بكفر ولافسق بل مجتهدون إما مصيبون وإما مخطئون وذنوبهم مغفورة لهم ويطلقون القول بأن البغاة ليسوا فساقا
فإذا جعل هؤلاء وأولئك سوآء لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة ( سواء ) ولهذا قال طائفة بفسق البغاة ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة
وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين ( الخوارج المارقين ( وبين ( أهل الجمل وصفين ( وغير أهل الجمل وصفين ممن يعد من البغاة المتأولين وهذا هو المعروف عن الصحابة وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة واتباعهم من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم
وذلك أنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ( وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا
____________________
(35/54)
من جنس أولئك فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية وقال فى حق الخوارج المارقين ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لايجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ( وفى لفظ ( لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل ( وقد روى مسلم أحاديثهم فى الصحيح من عشرة أوجه وروى هذا البخارى من غير وجه ورواه أهل السنن والمسانيد وهي مستفيضة عن النبى متلقاة بالقبول أجمع عليها علماء الأمة من الصحابة ومن اتبعهم واتفق الصحابة على قتال هؤلاء الخوارج
وأما ( أهل الجمل وصفين ( فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ولا من هذا الجانب واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ترك القتال فى الفتنة وبينوا أن هذا قتال فتنة
وكان على رضي الله عنه مسرورا لقتال الخوارج ويروى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الأمر بقتالهم وأما قتال ( صفين ( فذكر أنه ليس معه فيه نص وإنما هو رأى رآه وكان أحيانا يحمد من لم ير القتال
____________________
(35/55)
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى الحسن ( إن ابنى هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ( فقد مدح الحسن وأثنى عليه باصلاح الله به بين الطائفتين أصحاب على وأصحاب معاوية وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن وأنه لم يكن القتال واجبا ولا مستحبا
( وقتال الخوارج ( قد ثبت عنه أنه أمر به وحض عليه فكيف يسوى بين ما أمر به وحض عليه وبين ما مدح تاركه واثنى عليه فمن سوى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين وبين قتال ذى الخويصرة التميمى وأمثاله من الخوارج المارقين والحرورية المعتدين كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين ولزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يكفرون أو يفسقون المتقاتلين بالجمل وصفين كما يقال مثل ذلك فى الخوارج المارقين فقد اختلف السلف والأئمة فى كفرهم على قولين مشهورين مع اتفاقهم على الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين والامساك عما شجر بينهم فكيف نسبة هذا بهذا
وأيضا فالنبى صلى الله عليه وسلم أمر بقتال ( الخوارج ( قبل أن يقاتلوا وأما ( أهل البغي ( فإن الله تعالى قال فيهم ( وان طائفتان من المؤمنين
____________________
(35/56)
اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان الله يحب المقسطين ) فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فالاقتتال ابتداء ليس مأمورا به ولكن إذا اقتتلوا أمر بالاصلاح بينهم ثم إن بغت الواحدة قوتلت ولهذا قال من قال من الفقهاء إن البغاة لا يبتدءون بقتالهم حتى يقاتلوا وأما الخوارج فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فيهم ( أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ( وقال ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد
وكذلك مانعوا الزكاة فإن الصديق والصحابة ابتدءوا قتالهم قال الصديق والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقروا بالوجوب ثم تنازع الفقهاء فى كفر من منعها وقاتل الامام عليها مع إقراره بالوجوب على قولين هما روايتان عن أحمد كالروايتين عنه فى تكفير الخوارج وأما أهل البغى المجرد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين فإن القرآن قد نص على ايمانهم واخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي والله أعلم
____________________
(35/57)
وسئل رحمه الله
عمن يلعن ( معاوية ( فماذا يجب عليه وهل قال النبى صلى الله عليه وسلم هذه الأحاديث وهى إذا ( اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون ( وأيضا ( ان عمارا تقتله الفئة الباغية ( وقتله عسكر معاوية وهل سبوا أهل البيت أو قتل الحجاج شريفا
فأجاب الحمد لله من لعن أحدا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم كمعاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص ونحوهما ومن هو أفضل من هؤلاء كأبى موسى الأشعرى وأبى هريرة ونحوهما أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة والزبير وعثمان وعلى بن أبى طالب أو أبى بكر الصديق وعمر أو عائشة أم المؤمنين وغير هؤلاء من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين وتنازع العلماء هل يعاقب بالقتل أو ما دون القتل كما قد بسطنا ذلك فى غير هذا الموضع
وقد ثبت فى الصحيحين عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لاتسبوا أصحابى فوالذي نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل
____________________
(35/58)
أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ( واللعنة أعظم من السب وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لعن المؤمن كقتله فقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيار المؤمنين كما ثبت عنه أنه قال ( خير القرون القرن الذى بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ( وكل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به فله من الصحبة بقدر ذلك كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ( يغزو جيش فيقول هل فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو جيش فيقول هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم وذكر الطبقة الثالثة ( فعلق الحكم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما علقه بصحبته
ولما كان لفظ ( الصحبة ( فيه عموم وخصوص كان من اختص من الصحابة بما يتميز به عن غيره يوصف بتلك الصحبة دون من لم يشركه فيها قال النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى سعيد المتقدم لخالد بن الوليد لما اختصم هو وعبد الرحمن ( يا خالد لا تسبوا أصحابى فوالذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا مابلغ مد أحدهم ولا نصيفه ( فإن عبد الرحمن بن عوف هو وأمثاله من السابقين الأولين من الذين أنفقوا قبل الفتح فتح الحديبية وخالد بن الوليد وغيره ممن اسلم بعد الحديبية وأنفقوا وقاتلوا دون أولئك قال 4 تعالى { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى }
____________________
(35/59)
والمراد ( بالفتح ( فتح الحديبية لما بايع النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة وكان الذين بايعوه أكثر من ألف وأربعمائة وهم الذين فتحوا خيبر وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لايدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ( وسورة الفتح ( الذى فيها ذلك أنزلها الله قبل أن تفتح مكة بل قبل أن يعتمر النبى صلى الله عليه وسلم وكان قد بايع أصحابه تحت الشجرة عام الحديبية سنة ست من الهجرة وصالح المشركين صلح الحديبية المشهور وبذلك الصلح حصل من الفتح مالا يعلمه إلا الله مع أنه قد كان كرهه خلق من المسلمين ولم يعلموا مافيه من حسن العاقبة حتى قال سهل بن حنيف أيها الناس اتهموا الرأى فقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت رواه البخارى وغيره فلما كان من العام القابل اعتمر النبى صلى الله عليه وسلم ودخل هو ومن اعتمر معه مكة معتمرين وأهل مكة يؤمئذ مع المشركين ولما كان فى العام الثامن فتح مكة فى شهر رمضان وقد أنزل الله فى سورة الفتح ( لتدخلن المسجد الحرام ان شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لاتخافون فعلم مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ) فوعدهم فى سورة الفتح أن يدخلوا مكة آمنين وانجز موعده من
____________________
(35/60)
العام الثاني وأنزل فى ذلك ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ) وذلك كله قبل فتح مكة فمن توهم أن ( سورة الفتح ( نزلت بعد فتح مكة فقد غلط غلطا بينا
( والمقصود ( أن أولئك الذين صحبوه قبل الفتح اختصوا من الصحبة بما استحقوا به التفضيل على من بعدهم حتى قال لخالد ( لا تسبوا أصحابى ( فانهم صحبوه قبل أن يصحبه خالد وأمثاله
ولما كان ( لأبى بكر الصديق ( رضي الله عنه من مزية الصحبة ما تميز به على جميع الصحابة خصه بذلك فى الحديث الصحيح الذى رواه البخارى عن أبى الدرداء أنه كان بين أبى بكر وعمر كلام فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فامتنع عمر وجاء أبو بكر إلى النبى صلى الله عليه وسلم فذكر له ما جرى ثم إن عمر ندم فخرج يطلب أبا بكر فى بيته فذكر له أنه كان عند النبى صلى الله عليه وسلم فلما جاء عمر أخذ النبى صلى الله عليه وسلم يغضب لأبى بكر وقال ( أيها الناس إنى جئت إليكم فقلت انى رسول الله إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركوا لي صاحبى فهل أنتم تاركوا لي صاحبي فما أوذي بعدها فهنا خصه باسم الصحبة كما خصه به القرآن فى قوله تعالى
____________________
(35/61)
{ ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } وفى الصحيحين عن أبى سعيد أن النبى قال ( إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فإختار ذلك العبد ماعند الله ( فبكى أبو بكر فقال بل نفديك بأنفسنا وأموالنا قال فجعل الناس يعجبون أن ذكر النبى صلى الله عليه وسلم عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إن أمن الناس علينا فى صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخى وصاحبى سدوا كل خوخة فى المسجد الا خوخة أبى بكر ( وهذا من أصح حديث يكون باتفاق العلماء العارفين بأقوال النبى صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله
( والمقصود ( أن الصحبة فيها خصوص وعموم وعمومها يندرج فيه كل من رآه مؤمنا به ولهذا يقال صحبته سنة وشهرا وساعة ونحو ذلك
و ( معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهم ( من المؤمنين لم يتهمهم أحد من السلف بنفاق بل قد ثبت فى الصحيح أن عمرو بن العاص لما بايع النبى صلى الله عليه وسلم قال على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبى فقال
____________________
(35/62)
( ياعمرو أما علمت أن الاسلام يهدم ماكان قبله ( ومعلوم أن الاسلام الهادم هو اسلام المؤمنين لا إسلام المنافقين
وأيضا فعمرو بن العاص وأمثاله ممن قدم مهاجرا إلى النبى بعد الحديبية هاجروا إليه من بلادهم طوعا لا كرها والمهاجرون لم يكن فيهم منافق وانما كان النفاق فى بعض من دخل من الأنصار وذلك أن الأنصار هم أهل المدينة فلما أسلم اشرافهم وجمهورهم احتاج الباقون أن يظهروا الاسلام نفاقا لعز الإسلام وظهوره فى قومهم وأما أهل مكة فكان اشرافهم وجمهورهم كفارا فلم يكن يظهر الايمان إلا من هو مؤمن ظاهرا وباطنا فإنه كان من أظهر الاسلام يؤذى ويهجر وانما المنافق يظهر الاسلام لمصلحة دنياه وكان من أظهر الاسلام بمكة يتأذى فى دنياه ثم لما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر معه أكثر المؤمنين ومنع بعضهم من الهجرة إليه كما منع رجال من بنى مخزوم مثل الوليد بن المغيرة أخو خالد أخو أبي جهل لأمه ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يقنت لهؤلاء ويقول فى قنوته ( اللهم نج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنينا كسني يوسف ( والمهاجرون من أولهم إلى آخرهم ليس فيهم من اتهمه أحد بالنفاق بل كلهم مؤمنون مشهود لهم بالايمان ( ولعن المؤمن كقتله
____________________
(35/63)
وأما ( معاوية بن أبى سفيان وأمثاله ) من الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة كعكرمة بن أبى جهل والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب هؤلاء وغيرهم ممن حسن إسلامهم باتفاق المسلمين ولم يتهم أحد منهم بعد ذلك بنفاق ومعاوية قد إستكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ( اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب
وكان أخوه يزيد بن أبى سفيان خيرا منه وأفضل وهو أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى فتح الشام ووصاه بوصية معروفة وأبو بكر ماش ويزيد راكب فقال له ياخليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل فقال لست براكب ولست بنازل إنى احتسب خطاي فى سبيل الله وكان عمرو بن العاص هو الأمير الآخر والثالث شرحبيل بن حسنة والرابع خالد بن الوليد وهو أميرهم المطلق ثم عزله عمر وولى أبا عبيدة عامر بن الجراح الذى ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم شهد له أنه أمين هذه الأمة فكان فتح الشام على يد أبى عبيدة وفتح العراق على يد سعد بن أبى وقاص ثم
لما مات يزيد بن أبى سفيان فى خلافة عمر استعمل أخاه معاوية وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة وأخبرهم بالرجال وأقومهم
____________________
(35/64)
بالحق وأعلمهم به حتى قال على بن أبى طالب رضى الله عنه كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( أن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ( وقال ( لولم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ( وقال بن عمر ماسمعت عمر يقول فى الشيء أنى لأراه كذا وكذا إلا كان كما رآه وقد قال له النبى صلى الله عليه وسلم ( مارآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك ( ولا استعمل عمر قط بل ولا أبو بكر على المسلمين منافقا ولا استعملا من أقاربهما ولا كان تأخذهما فى الله لومة لائم بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلى الاسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح حتى تظهر صحة توبتهم وكان عمر يقول لسعد بن أبى وقاص وهو أمير العراق لاتستعمل أحدا منهم ولا تشاورهم فى الحرب فإنهم كانوا أمراء أكابر مثل طليحة الأسدى والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والأشعث بن قيس الكندى وأمثالهم فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولهم على المسلمين
فلو كان ( عمرو بن العاص ( ومعاوية بن أبى سفيان وأمثالهما ( ممن يتخوف منهما النفاق لم يولوا على المسلمين بل عمرو بن العاص قد أمره النبى صلى الله عليه وسلم فى غزوة ذات السلاسل والنبى صلى الله عليه وسلم لم يول على المسلمين منافقا وقد استعمل على نجران أبا سفيان بن حرب أبا معاوية ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان
____________________
(35/65)
نائبه على نجران وقد اتفق المسلمون على أن اسلام معاوية خير من اسلام أبيه أبى سفيان فكيف يكون هؤلاء منافقين والنبى صلى الله عليه وسلم يأتمنهم على أحوال المسلمين فى العلم والعمل وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان ولم يتهمهم أحد من أوليائهم لا محاربوهم ولا غير محاربيهم بالكذب على النبى صلى الله عليه وسلم بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله مأمونون عليه فى الرواية عنه والمنافق غير مأمون على النبى صلى الله عليه وسلم بل هو كاذب عليه مكذب له
وإذا كانوا مؤمنين محبين لله ورسوله فمن لعنهم فقد عصى الله ورسوله وقد ثبت فى صحيح البخارى ما معناه أن رجلا يلقب حمارا وكان يشرب الخمر وكان كلما شرب أتى به إلى النبى صلى الله عليه وسلم جلده فأتى به إليه مرة فقال رجل لعنه الله ما أكثر مايؤتى به إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( لاتلعنوه فإنه يحب الله ورسوله ( وكل مؤمن يحب الله ورسوله ومن لم يحب الله ورسوله فليس بمؤمن وأن كانوا متفاضلين فى الايمان وما يدخل فيه من حب وغيره هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم ( لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها ( وقد نهى عن لعنه هذا المعين لأن اللعنة من ( باب الوعيد ( فيحكم به
____________________
(35/66)
عموما وأما المعين فقد يرتفع عنه الوعيد لتوبة صحيحة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة أو غير ذلك من الأسباب التى ضررها يرفع العقوبة عن المذنب فهذا فى حق من له ذنب محقق
وكذلك حاطب بن أبى بلتعة ( فعل مافعل وكان يسيء إلى مماليكه حتى ثبت فى الصحيح أن غلامه قال يارسول الله والله ليدخلن حاطب بن أبى بلتعة النار قال ( كذبت إنه شهد بدرا والحديبية ( وفى الصحيح عن على بن أبى طالب أن النبى صلى الله عليه وسلم أرسله والزبير بن العوام وقال لهما ( إئتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب ( قال على فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى لقينا الظعينة فقلنا أين الكتاب فقالت ما معي كتاب فقلنا لها لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب قال فاخرجته من عقاصها فاتينا به النبى صلى الله عليه وسلم وإذا كتاب من حاطب إلى بعض المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبى صلى الله عليه وسلم فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( ما هذا يا حاطب ( فقال والله يارسول الله مافعلت هذا ارتدادا عن دينى ولا رضاء بالكفر بعد الاسلام ولكن كنت امرأ ملصقا فى قريش ولم أكن من انفسها وكان من معك من المسلمين لهم قرابات يحمون بهم أهاليهم بمكة فاحببت إذ فاتنى ذلك منهم ان اتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى وفى لفظ وعلمت أن ذلك لايضرك يعنى لأن الله ينصر رسوله والذين آمنوا فقال عمر دعنى
____________________
(35/67)
أضرب عنق هذا المنافق فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إنه قد شهد بدرا ومايدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم ( فهذه السيئة العظيمة غفرها الله له بشهود بدر
فدل ذلك على أن الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة والمؤمنون يؤمنون بالوعد والوعيد لقوله صلى الله عليه وسلم ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ( وأمثال ذلك مع قوله ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) ولهذا لا يشهد لمعين بالجنة إلا بدليل خاص ولايشهد على معين بالنار إلا بدليل خاص ولا يشهد لهم بمجرد الظن من اندراجهم فى العموم لأنه قد يندرج فى العمومين فيستحق الثواب والعقاب لقوله تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) والعبد إذا اجتمع له سيئات وحسنات فإنه وإن استحق العقاب على سيئاته فإن الله يثيبه على حسناته ولا يحبط حسنات المؤمن لأجل ما صدر منه وإنما يقول بحبوط الحسنات كلها بالكبيرة الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر وأنهم لايخرجون منها بشفاعة ولا غيرها وأن صاحب الكبيرة لا يبقى معه من الايمان شيء وهذه أقوال فاسدة مخالفة للكتاب والسنة المتواترة واجماع الصحابة
____________________
(35/68)
وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لايعتقدون عصمة أحد من الصحابة ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم والله تعالى يغفر لهم بالتوبة ويرفع بها درجاتهم ويغفر لهم بحسنات ماحية أو بغير ذلك من الأسباب قال تعالى ( والذى جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم مايشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذى عملوا ويجزيهم أجرهم باحسن الذى كانوا يعملون ) وقال تعالى ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ماعملوا ونتجاوز عن سيئاتهم فى أصحاب الجنة )
ولكن الأنبياء صلوات الله عليهم هم الذين قال العلماء إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين وهذا فى الذنوب المحققة وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون فإذا إجتهدوا فأصابوا فلهم أجران وإذا اجتهدوا واخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم وخطؤهم مغفور لهم وأهل الضلال يجعلون الخطأ والاثم متلازمين فتارة يغلون فيهم ويقولون إنهم معصومون وتارة يجفون عنهم ويقولون أنهم باغون بالخطأ وأهل العلم والايمان لا يعصمون ولا يؤثمون
____________________
(35/69)
ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال فطائفة سبت السلف ولعنتهم لاعتقادهم أنهم فعلوا ذنوبا وأن من فعلها يستحق اللعنة بل قد يفسقونهم أو يكفرونهم كما فعلت الخوارج الذين كفروا على بن أبى طالب وعثمان بن عفان ومن تولاهما ولعنوهم وسبوهم واستحلوا قتالهم وهؤلاء هم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لايجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية ( وقال صلى الله عليه وسلم ( تمرق مارقة على فرقة من المسلمين فتقاتلها أولى الطائفتين لأجل الحق ( وهؤلاء هم المارقة الذين مرقوا على أمير المؤمنين على بن أبى طالب وكفروا كل من تولاه وكان المؤمنون قد افترقوا فرقتين فرقة مع على وفرقه مع معاوية فقاتل هؤلاء عليا وأصحابه فوقع الأمر كما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم وكما ثبت عنه أيضا فى الصحيح أنه قال عن الحسن إبنه ( إن ابنى هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين ( فأصلح الله به بين شيعة على وشيعة معاوية
وأثنى النبى صلى الله عليه وسلم على الحسن بهذا الصلح الذى كان على يديه وسماه سيدا بذلك لأجل أن ما فعله الحسن يحبه الله ورسوله ويرضاه الله ورسوله ولو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذى أمر الله به ورسوله لم يكن الأمر كذلك بل يكون الحسن قد ترك الواجب أو الأحب إلى
____________________
(35/70)
الله وهذا النص الصحيح الصريح يبين أن مافعله الحسن محمود مرضي لله ورسوله وقد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يضعه على فخذه ويضع أسامة بن زيد ويقول ( اللهم اني أحبهما وأحب من يحبهما ( وهذا أيضا مما ظهر فيه محبته ودعوته صلى الله عليه وسلم فإنهما كانا أشد الناس رغبة فى الأمر الذى مدح النبى صلى الله عليه وسلم به الحسن وأشد الناس كراهة لما يخالفه
وهذا مما يبين أن القتلى من أهل صفين لم يكونوا عند النبى صلى الله عليه وسلم بمنزلة الخوارج المارقين الذين أمر بقتالهم وهؤلاء مدح الصلح بينهم ولم يأمر بقتالهم ولهذا كانت الصحابة والأئمة متفقين على قتال الخوارج المارقين وظهر من علي رضى الله عنه السرور بقتالهم ومن روايته عن النبى صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ماقد ظهر عنه وأما قتال الصحابة فلم يرو عن النبى صلى الله عليه وسلم فيه أثر ولم يظهر فيه سرور بل ظهر منه الكآبة وتمنى أن لايقع وشكر بعض الصحابة وبرأ الفريقين من الكفر والنفاق وأجاز الترحم على قتلى الطائفتين وأمثال ذلك من الأمور التى يعرف بها إتفاق على وغيره من الصحابة على أن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة
وقد شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لايخرجهم عن الايمان بقوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون }
____________________
(35/71)
فسماهم ( مؤمنين ( وجعلهم ( إخوة ( مع وجود الاقتتال والبغي
والحديث المذكور ( إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون ( كذب مفترى لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث ولا هو فى شيء من دواوين الاسلام المعتمدة
و ( معاوية ( لم يدع الخلافة ولم يبايع له بها حين قاتل عليا ولم يقاتل على أنه خليفة ولا أنه يستحق الخلافة ويقرون له بذلك وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه ولاكان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدوا عليا وأصحابه بالقتال ولا يعلوا
بل لما رأى على رضى الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته إذلا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب فتحصل الطاعة والجماعة
وهم قالوا إن ذلك لايجب عليهم وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين قالوا لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين وقتلته فى عسكر على وهم غالبون
____________________
(35/72)
لهم شوكة فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا وعلى لايمكنه دفعهم كما لم يمكنه الدفع عن عثمان وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف
وكان فى جهال الفريقين من يظن بعلي وعثمان ظنونا كاذبة برأ الله منها عليا وعثمان كان يظن بعلي أنه أمر بقتل عثمان وكان علي يحلف وهو البار الصادق بلا يمين أنه لم يقتله ولا رضى بقتله ولم يمالئ على قتله وهذا معلوم بلا ريب من علي رضى الله عنه فكان أناس من محبى علي ومن مبغضيه يشيعون ذلك عنه فمحبوه يقصدون بذلك الطعن على عثمان بأنه كان يستحق القتل وأن عليا أمر بقتله ومبغضوه يقصدون بذلك الطعن على علي وأنه أعان على قتل الخليفة المظلوم الشهيد الذى صبر نفسه ولم يدفع عنها ولم يسفك دم مسلم فى الدفع عنه فكيف فى طلب طاعته وأمثال هذه الأمور التى يتسبب بها الزائغون على المتشيعين العثمانية والعلوية
وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفأ لعلى بالخلافة ولا يجوز أن يكون خليفة مع امكان استخلاف علي رضى الله عنه فإن فضل على وسابقيته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معروفة كفضل إخوانه أبى بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضى الله عنهم
____________________
(35/73)
و لم يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد وسعد كان قد ترك هذا الأمر وكان الأمر قد إنحصر فى عثمان وعلى فلما توفى عثمان لم يبق لها معين إلا على رضى الله عنه وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والايمان حتى حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه من غيره أولى منه بالطاعة ولهذا أمر الله بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف ولهذا قيل مايكرهون فى الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة
وأما الحديث الذى فيه ( أن عمارا تقتله الفئة الباغية ( فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم لكن رواه مسلم فى صحيحه وهوفى بعض نسخ البخاري قد تأوله بعضهم على أن المراد بالباغية الطالبة بدم عثمان كما قالوا نبغى إبن عفان بأطراف الأسل وليس بشيء بل يقال ماقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق كما قاله وليس فى كون عمارا تقتله الفئة الباغية ماينافى ما ذكرناه فإنه قد قال الله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغى مؤمنين إخوة بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين وليس كل ما كان
____________________
(35/74)
بغيا وظلما أو عدوانا يخرج عموم الناس عن الايمان ولايوجب لعنتهم فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون
وكل من كان باغيا أو ظالما أومعتديا أو مرتكبا ماهو ذنب فهو ( قسمان ( متأول وغير متاول فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حل أمور وأعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة وأمثال ذلك فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون وقد قال الله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت فى الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما فى الحرث وخص أحدهما بالعلم والحكم مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم والعلماء ورثة الأنبياء فإذا فهم أحدهم من المسألة مالم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملوما ولا مانعا لما عرف من علمه ودينه وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثما وظلما والاصرار عليه فسقا بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا فالبغي هو من هذا الباب
____________________
(35/75)
أما إذا كان الباغى مجتهدا ومتأولا ولم يتبين له أنه باغ بل اعتقد أنه على الحق وإن كان مخطئا فى اعتقاده لم تكن تسميته ( باغيا ( موجبة لإثمه فضلا عن أن توجب فسقه والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم لاعقوبة لهم بل للمنع من العدوان ويقولون إنهم باقون على العدالة لايفسقون ويقولون هم كغير المكلف كما يمنع الصبي والمجنون والناسى والمغمى عليه والنائم من العدوان أن لايصدر منهم بل تمنع البهائم من العدوان ويجب على من قتل مؤمنا خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه فى ذلك وهكذا من رفع إلى الامام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة
عليه فاقام عليه الحد والتائب من الذنب كمن لاذنب له والباغى المتأول يجلد عند مالك والشافعى وأحمد ونظائره متعددة ثم بتقدير أن يكون ( البغى ( بغير تأويل يكون ذنبا والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة بالحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك
ثم ( إن عمارا تقتله الفئة الباغية ( ليس نصا فى أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التى حملت عليه حتى قتلته وهي طائفة من العسكر ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها ومن المعلوم أنه
____________________
(35/76)
كان فى العسكر من لم يرض بقتل عمار كعبد الله بن عمرو بن العاص وغيره بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار حتى معاوية وعمرو
ويروى أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذى جاء به دون مقاتليه وأن عليا رد هذا التأويل بقوله فنحن إذا قتلنا حمزة ولاريب أن ماقاله على هو الصواب لكن من نظر فى كلام المتناظرين من العلماء الذين ليس بينهم قتال ولا ملك وأن لهم فى النصوص من التأويلات ماهو أضعف من معاوية بكثير ومن تأول هذا التأويل لم ير أنه قتل عمارا فلم يعتقد أنه باغ ومن لم يعتقد أنه باغ وهو فى نفس الأمر باغ فهو متأول مخطئ
والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارا لكن لهم قولان مشهوران كما كان عليهما أكابر الصحابة منهم من يرى القتال مع عمار وطائفته ومنهم من يرى الامساك عن القتال مطلقا وفى كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين ففي القول الأول عمار وسهل بن حنيف وأبو أيوب وفى الثانى سعد بن أبى وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر ونحوهم ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا على هذا الرأى ولم يكن فى العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبى وقاص وكان من القاعدين
____________________
(35/77)
و ( حديث عمار ( قد يحتج به من رأى القتال لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فالله يقول ( فقاتلوا التى تبغى ) والمتمسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ( أن القعود عن الفتنة خير من القتال فيها ( وتقول إن هذا القتال ونحوه هو قتال الفتنة كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك وأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال ولم يرض به وإنما رضي بالصلح وإنما أمر الله بقتال الباغى ولم يأمر بقتاله ابتداء بل قال ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) قالوا والاقتتال الأول لم يأمر الله به ولا أمر كل من بغى عليه أن يقاتل من بغى عليه فإنه إذا قتل كل باغ كفر بل غالب المؤمنين بل غالب الناس لايخلو من ظلم وبغى ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب الإصلاح بينهما وإن لم تكن
واحدة منهما مأمورة بالقتال فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت لأنها لم تترك القتال ولم تجب إلى الصلح فلم يندفع شرها إلا بالقتال فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لايندفع ظلمه عن غيره إلا بالقتال كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد ( قالوا فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء بل أمرنا بالاصلاح
____________________
(35/78)
بينهم و ( أيضا ( فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين معهم ناكلين عن القتال فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفى الطاعة
له و ( المقصود ( أن هذا الحديث لايبيح لعن أحد من الصحابة ولا يوجب فسقه وأما ( أهل البيت ( فلم يسبوا قط ولله الحمد ولم يقتل الحجاج أحدا من بنى هاشم وإنما قتل رجالا من أشراف العرب وكان قد تزوج بنت عبد الله بن جعفر فلم يرض بذلك بنو عبد مناف ولا بنو هاشم ولا بنو أمية حتى فرقوا بينه وبينها حيث لم يروه كفؤا والله أعلم وسئل رحمه الله
عن الفتن التى تقع من أهل البر وأمثالها فيقتل بعضهم بعضا ويستبيح بعضهم حرمة بعض فما حكم الله تعالى فيهم
فأجاب الحمد لله هذه الفتن وأمثالها من أعظم المحرمات وأكبر المنكرات قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله }
____________________
(35/79)
وهؤلاء الذين تفرقوا وإختلفوا حتى صار عنهم من الكفر ما صار وقد قال النبى ( لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فهذا من الكفر وإن كان المسلم لا يكفر بالذنب قال تعالى ( وإن طائفتان من المؤمنين إقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الآخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوه فأصلحوا بين أخويكم وإتقوا الله لعلكم ترحمون ( فهذا حكم الله بين المقتتلين من المؤمنين أخبر أنهم إخوة وأمر أولا بالإصلاح بينهم إذا إقتتلوا ( فإن بغت إحداهما على الأخرى ) ولم يقبلوا الإصلاح ( فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ) فأمر بالإصلاح بينهم بالعدل بعد أن ( تفىء إلى أمر الله ) أى ترجع إلى أمر الله فمن رجع إلى أمر الله وجب أن يعدل بينه وبين خصمه ويقسط بينهما فقبل أن نقاتل الطائفة الباغية وبعد إقتتالهما أمرنا بالإصلاح بينهما مطلقا لأنه لم تقهر إحدى الطائفتين بقتال
____________________
(35/80)
وإذا كان كذلك فالواجب أن يسعى بين هاتين الطائفتين بالصلح الذى أمر الله به ورسوله ويقال لهذه ما تنقم من هذه ولهذه ما تنقم من هذه فإن ثبت على إحدى الطائفتين أنها إعتدت على الآخرى بإتلاف شيء من الأنفس والأموال كان عليها ضمان ما أتلفته وإن كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء تقاصوا بينهم كما قال الله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى } بالأنثى وقد ذكرت طائفة من السلف أنها أنزلت فى مثل ذلك فى طائفتين إقتتلتا فأمرهم الله بالمقاصة قال ( فمن عفى له من أخيه شيء ) والعفو الفضل فإذا فضل لواحدة من الطائفتين شيء على الأخرى ( فإتباع بالمعروف ) والذى عليه الحق يؤديه بإحسان وإن تعذر أن تضمن واحدة للأخرى فيجوز أن يتحمل الرجل حمالة يؤديها لصلاح ذات البين وله أن يأخذها بعد ذلك من زكاة المسلمين ويسأل الناس فى إعانته على هذه الحالة وان كان غنيا قال النبى صلى الله عليه وسلم لقبيصة بن مخارق الهلالى ( يا قبيصة ان المسألة لا تحل الا لثلاثة رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فيسأل حتى يجد سدادا من عيش ثم يمسك ورجل اصابته فاقة فانه يقوم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه فيقولون قد اصاب فلانا فاقة فيسأل حتى يجد قواما من عيش وسدادا من عيش ثم يمسك ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك ( والواجب على كل مسلم قادر ان يسعى فى الإصلاح بينهم ويأمرهم بما أمر الله به مهما أمكن
____________________
(35/81)
ومن كان من الطائفتين يظن انه مظلوم مبغى عليه فاذا صبر وعفى اعزه الله ونصره كما ثبت فى الصحيح عن النبى انه قال ( ما زاد الله عبدا بعفو الا عزا وما تواضع احد لله الا رفعه الله ولا نقصت صدقة من مال ( وقال تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } وقال تعالى { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } فالباغى الظالم ينتقم الله منه فى الدنيا والآخرة فان البغى مصرعه قال بن مسعود ولو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغى منهما دكا ومن حكمة الشعر ** قضى الله ان البغى يصرع اهله ** وان الباغى تدور الدوائر ** ويشهد لهذا قوله تعالى { إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } الآية وفى الحديث ( ما من ذنب أحرى أن يعجل لصاحبه العقوبة فى الدنيا من البغى وما حسنة احرى ان يعجل لصاحبها الثواب من صلة الرحم ( فمن كان من احدى الطائفتين باغيا ظالما فليتق الله وليتب ومن كان مظلوما مبغيا عليه وصبر كان له البشرى من الله قال تعالى { وبشر الصابرين } قال عمرو بن اوس هم الذين لا يظلمون اذا ظلموا وقد قال تعالى للمؤمنين فى حق عدوهم { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }
____________________
(35/82)
وقال يوسف عليه السلام لما فعل به اخوته ما فعلوا فصبر واتقى حتى نصره الله ودخلوا عليه وهو فى عزه { قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فمن إتقى الله من هؤلاء وغيرهم بصدق وعدل ولم يتعد حدود الله وصبر على اذى الآخر وظلمه لم يضره كيد الآخر بل ينصره الله عليه
وهذه الفتن سببها الذنوب والخطايا فعلى كل من الطائفتين ان يستغفر الله ويتوب إليه فإن ذلك يرفع العذاب وينزل الرحمة قال الله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } وفى الحديث عن النبى ( من اكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب قال الله تعالى { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله } (
____________________
(35/83)
وسئل رحمه الله تعالى
عن طائفتين يزعمان أنهما من أمة محمد يتداعيان بدعوة الجاهلية كأسد وهلال وثعلبة وحرام وغير ذلك وبينهم أحقاد ودماء فإذا تراءت الفئتان سعى المؤمنون بينهم لقصد التأليف وإصلاح ذات البين فيقول أولئك الباغون إن الله قد أوجب علينا طلب الثأر بقوله { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } إلى قوله { والجروح قصاص } ثم إن المؤمنين يعرفونهم أن هذا الأمر يفضى إلى الكفر من قتل النفوس ونهب الأموال فيقولون نحن لنا عليهم حقوق فلا نفارق حتى نأخذ ثأرنا بسيوفهم ثم يحملون عليهم فمن إنتصر منهم بغى وتعدى وقتل النفس ويفسدون فى الأرض فهل يجب قتال الطائفة الباغية وقتلها بعد أمرهم بالمعروف أو ماذا يجب على الإمام أن يفعل بهذه الطائفة الباغية
فأجاب الحمد لله قتال هاتين الطائفتين حرام بالكتاب والسنة والإجماع حتى قال صلى الله عليه وسلم ( إذا إلتقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فى النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال
____________________
(35/84)
أنه أراد قتل صاحبه ( وقال ( لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ( وقال ( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا فى شهركم هذا إلا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (
والواجب فى مثل هذا ما أمر الله به ورسوله حيث قال { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } فيجب الإصلاح بين هاتين الطائفتين كما أمر الله تعالى والإصلاح له طرق
( منها ( أن تجمع أموال الزكوات وغيرها حتى يدفع فى مثل ذلك فإن الغرم لإصلاح ذات البين يبيح لصاحبه أن يأخذ من الزكاة بقدر ما غرم كما ذكره الفقهاء من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهما كما قال النبى لقبيصة بن مخارق ( إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة لرجل تحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك ورجل أصابته جائحة إجتاحت ماله فيسأل حتى يجد سدادا من عيش ثم يمسك ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه فيقولون قد أصابت فلانا فاقة فيسأل
____________________
(35/85)
حتى يجد قواما من عيش وسدادا من عيش ثم يمسك وما سوى ذلك من المسألة فإنه يأكله صاحبه سحتا (
ومن طرق الصلح أن تعفو إحدى الطائفتين أو كلاهما عن بعض مالها عند الأخرى من الدماء والأموال { فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين }
ومن طرق الصلح أن يحكم بينهما بالعدل فينظر ما أتلفته كل طائفة من الأخرى من النفوس والأموال فيتقاصان ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) وإذا فضل لإحداهما على الأخرى شيء فإتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان فإن كان يجهل عدد القتلى أو مقدار المال جعل المجهول كالمعدوم وإذا إدعت إحداهما على الأخرى بزيادة فإما أن تحلفها على نفى ذلك وإما أن تقيم البينة وإما تمتنع عن اليمين فيقضى برد اليمين أو النكول
فإن كانت احدى الطائفتين تبغى بأن تمتنع عن العدل الواجب ولا تجيب إلى أمر الله ورسوله وتقاتل على ذلك أو تطلب قتال الأخرى واتلاف النفوس والأموال كما جرت عادتهم به فإذا لم يقدر على كفها إلا بالقتل قوتلت حتى تفىء إلى أمر الله وان امكن ان تلزم بالعدل بدون القتال
____________________
(35/86)
مثل ان يعاقب بعضهم او يحبس او يقتل من وجب قتله منهم ونحو ذلك عمل ذلك ولا حاجة
إلى القتال وأما قول القائل ان الله اوجب علينا طلب الثأر فهو كذب على الله ورسوله فان الله لم يوجب على من له عند أخيه المسلم المؤمن مظلمة من دم او مال او عرض ان يستوفى ذلك بل لم يذكر حقوق الآدميين فى القرآن الا ندب فيها إلى العفو فقال تعالى { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } وقال تعالى { فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } وأما قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } فهذا مع انه مكتوب على بنى اسرائيل وان كان حكمنا كحكمهم مما لم ينسخ من الشرائع فالمراد بذلك التسوية فى الدماء بين المؤمنين كما قال النبى ( المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ( فالنفس بالنفس ( وان كان القاتل رئيسا مطاعا من قبيلة شريفة والمقتول سوقى طارف وكذلك ان كان كبيرا وهذا صغيرا او هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا عربيا وهذا عجميا او هذا هاشميا وهذا قرشيا وهذا رد لما كان عليه
____________________
(35/87)
أهل الجاهلية من انه اذا قتل كبير من القبيلة قتلوا به عددا من القبيلة الأخرى غير قبيلة القاتل واذا قتل ضعيف من قبيلة لم يقتلوا قاتله اذا كان رئيسا مطاعا فأبطل الله ذلك بقوله { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فالمكتوب عليهم هو العدل وهو كون النفس بالنفس اذ الظلم حرام واما استيفاء الحق فهو إلى المستحق وهذا مثل قوله { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } أي لا يقتل غير قاتله
وأما إذا طلبت احدى الطائفتين حكم الله ورسوله فقالت الأخرى نحن نأخذ حقنا بأيدينا فى هذا الوقت فهذا من أعظم الذنوب الموجبة عقوبة هذا القاتل الظالم الفاجر واذا امتنعوا عن حكم الله ورسوله ولهم شوكة وجب على الأمير قتالهم وان لم يكن لهم شوكة عرف من امتنع من حكم الله ورسوله والزم بالعدل
وأما قولهم لنا عليهم حقوق من سنين متقادمة فيقال لهم نحن نحكم بينكم فى الحقوق القديمة والحديثة فان حكم الله ورسوله يأتى على هذا
وأما من قتل احدا من بعد الاصطلاح او بعد المعاهدة والمعاقدة فهذا يستحق القتل حتى قالت طائفة من العلماء انه يقتل حدا ولا يجوز العفو عنه لأولياء المقتول وقال الأكثرون بل قتله قصاص والخيار فيه إلى أولياء المقتول
____________________
(35/88)
وان كان الباغى طائفة فانهم يستحقون العقوبة وان لم يمكن كف صنيعهم الا بقتالهم قوتلوا وإن امكن بما دون ذلك عوقبوا بما يمنعهم من البغى والعدوان ونقض العهد والميثاق قال ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته فيقال هذه غدرة فلان ( وقد قال تعالى { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قالت طائفة من العلماء المعتدى هو القاتل بعد العفو فهذا يقتل حتما وقال آخرون بل يعذب بما يمنعه من الاعتداء والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى
عن أقوام لم يصلوا ولم يصوموا والذى يصوم لم يصل ومالهم حرام ويأخذون اموال الناس ويكرمون الجار والضعيف ولم يعرف لهم مذهب وهم مسلمون
فأجاب الحمد لله هؤلاء وان كانوا تحت حكم ولاة الأمور فانه يجب ان يأمروهم بإقامة الصلاة ويعاقبوا على تركها وكذلك الصيام وان اقروا بوجوب الصلاة الخمس وصيام رمضان والزكاة المفروضه والا فمن لم يقر بذلك فهو كافر وان اقروا بوجوب الصلاة وامتنعوا عن اقامتها عوقبوا حتى
____________________
(35/89)
يقيموها ويجب قتل كل من لم يصل اذا كان بالغا عاقلا عند جماهير العلماء كمالك والشافعى واحمد وكذلك تقام عليهم الحدود
وان كانوا طائفة ممتنعة ذات شوكة فانه يجب قتالهم حتى يلتزموا اداء الواجبات الظاهرة والمتواترة كالصلاة والصيام والزكاة وترك المحرمات كالزنا والربا وقطع الطريق ونحو ذلك ومن لم يقر بوجوب الصلاة والزكاة فإنه كافر يستتاب فان تاب والا قتل ومن لم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافر اكفر من اليهود والنصارى وعقوق الوالدين من الكبائر الموجبة للنار وسئل رحمه الله تعالى
عن أقوام مقيمون فى الثغور يغيرون على الأرمن وغيرهم ويكسبون المال ينفقون على الخمر والزنا هل يكونون شهداء اذا قتلوا
فأجاب الحمد لله ان كانوا انما يغيرون على الكفار المحاربين فانما الأعمال بالنيات وقد قالوا يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأى ذلك فى سبيل الله فقال ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو فى سبيل الله ( فان كان احدهم لا يقصد الا اخذ المال
____________________
(35/90)
وانفاقه فى المعاصى فهؤلاء فساق مستحقون للوعيد وان كان مقصودهم ان تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين لله فهؤلاء مجاهدون لكن إذا كانت لهم كبائر كان لهم حسنات وسيئات واما ان كانوا يغيرون على المسلمين الذين هناك فهؤلاء مفسدون فى الأرض محاربون لله ورسوله مستحقون للعقوبة البليغة فى الدنيا والآخرة والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى
عن جندى مع أمير وطلع السلطان إلى الصيد ورسم السلطان بنهب ناس من العرب وقتلهم فطلع إلى الجبل فوجد ثلاثين نفرا فهربوا فقال الأمير سوقوا خلفهم فردوا عليهم ليحاربوا فوقع من الجندى ضربة فى واحد فمات فهل عليه شيء ام لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين اذا كان هذا المطلوب من الطائفة المفسدة الظلمة الذين خرجوا عن الطاعة وفارقوا الجماعة وعدوا على المسلمين فى دمائهم واموالهم بغير حق وقد طلبوا ليقام فيهم أمر الله ورسوله فهذا الذى عاد منهم مقاتلا يجوز قتاله ولا شيء على من قتله على الوجه المذكور بل المحاربون يستوى فيهم المعاون والمباشر عند جمهور الأئمة كأبى حنيفة ومالك واحمد فمن كان معاونا كان حكمة حكمهم
____________________
(35/91)
وسئل رحمه الله تعالى
عن ( الأخوة ( التى يفعلها بعض الناس فى هذا الزمان والتزام كل منهم بقوله ان مالي مالك ودمي دمك وولدى ولدك ويقول الآخر كذلك ويشرب احدهم دم الاخر فهل هذا الفعل مشروع ام لا واذا لم يكن مشروعا مستحسنا فهل هو مباح ام لا وهل يترتب على ذلك شيء من الاحكام الشرعية التى تثبت بالاخوة الحقيقية ام لا وما معنى الاخوة التى اخى بها النبى بين المهاجرين والانصار
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذا الفعل على هذا الوجه المذكور ليس مشروعا باتفاق المسلمين وانما كان أصل الاخوة ان النبى اخى بين المهاجرين والانصار وحالف بينهم فى دار انس بن مالك كما أخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف حتى قال سعد لعبد الرحمن خذ شطر مالي واختر إحدى زوجتي حتى اطلقها وتنكحها فقال عبد الرحمن بارك الله لك فى مالك واهلك دلونى على السوق وكما أخى بين سلمان الفارسى وأبى الدرداء وهذا كله فى الصحيح
____________________
(35/92)
وأما ما يذكر بعض المصنفين فى ( السيرة ( من ان النبى اخى بين على وابى بكر ونحو ذلك فهذا باطل باتفاق اهل المعرفة بحديثه فانه لم يؤاخ بين مهاجر ومهاجر وانصاري وانصاري وإنما اخى بين المهاجرين والانصار وكانت المؤاخاة والمحالفة يتوارثون بها دون أقاربهم حتى انزل الله تعالى ( وأولو الارحام بعضهم اولى ببعض فى كتاب الله ) فصار الميراث بالرحم دون هذه المؤاخاة والمحالفة
وتنازع العلماء فى مثل هذه المحالفة والمؤاخاة هل يورث بها عند عدم الورثة من الأقارب والموالى على قولين ( احدهما ( يورث بها وهو مذهب ابى حنيفة واحمد فى احدى الروايتين لقوله تعالى ( والذين عقدت ايمانكم فآتوهم نصيبهم ) ( والثانى ( لا يورث بها بحال وهو مذهب مالك والشافعى واحمد فى الرواية المشهورة عند اصحابه وهؤلاء يقولون هذه الآية منسوخة
وكذلك تنازع الناس هل يشرع فى الاسلام ان يتآخى اثنان ويتحالفا كما فعل المهاجرون والانصار فقيل ان ذلك منسوخ لما رواه مسلم فى صحيحه عن جابر ان النبى قال ( لا حلف فى الاسلام وما كان من حلف فى الجاهلية فلم يزده الاسلام الا شدة ( ولأن الله قد جعل المؤمنين اخوة بنص القرآن وقال النبى ( المسلم اخو
____________________
(35/93)
المسلم لا يسلمه ولا يظلمه والذي نفسي بيده لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه فمن كان قائما بواجب الايمان كان اخا لكل مؤمن ووجب على كل مؤمن ان يقوم بحقوقه وان لم يجر بينهما عقد خاص فان الله ورسوله قد عقدا الاخوة بينهما بقوله { إنما المؤمنون إخوة } وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( وددت انى قد رأيت اخوانى (
ومن لم يكن خارجا عن حقوق الايمان وجب ان يعامل بموجب ذلك فيحمد على حسناته ويوالى عليها وينهى عن سيئاته ويجانب عليها بحسب الامكان وقد قال النبى ( انصر اخاك ظالما او مظلوما ( قلت يا رسول الله انصره مظلوما فكيف انصره ظالما قال ( تمنعه من الظلم فذلك نصرك اياه (
والواجب على كل مسلم ان يكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته تابعا لأمر الله ورسوله فيحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما ابغضه الله ورسوله ويوالى من يوالى الله ورسوله ويعادى من يعادى الله ورسوله ومن كان فيه ما يوالى عليه من حسنات وما يعادى عليه من سيئات عومل بموجب ذلك كفساق اهل الملة اذ هم مستحقون للثواب والعقاب والموالاة والمعاداة والحب والبغض بحسب ما فيهم من البر والفجور فان ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
____________________
(35/94)
وهذا مذهب اهل السنة والجماعة بخلاف الخوارج والمعتزلة وبخلاف المرجئة والجهمية فان اولئك يميلون إلى جانب وهؤلاء إلى جانب واهل السنة والجماعة وسط ومن الناس من يقول تشرع تلك المؤاخاة والمحالفة وهو يناسب من يقول بالتوارث بالمحالفة
لكن لا نزاع بين المسلمين فى أن ولد احدهما لا يصير ولد الآخر بارثه مع أولاده والله سبحانه قد نسخ التبنى الذي كان فى الجاهلية حيث كان يتبنى الرجل ولد غيره قال الله تعالى { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم } وقال تعالى { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين }
وكذلك لا يصير مال كل واحد منهما مالا للآخر يورث عنه ماله فان هذا ممتنع من الجانبين ولكن اذا طابت نفس كل واحد منهما بما يتصرف فيه الآخر من ماله فهذا جائز كما كان السلف يفعلون وكان احدهما يدخل بيت الآخر ويأكل من طعامه مع غيبته لعلمه بطيب نفسه بذلك كما قال تعالى { أو صديقكم }
وأما شرب كل واحد منهما دم الآخر فهذا لا يجوز بحال واقل ما فى ذلك مع النجاسة التشبيه باللذين يتآخيان متعاونين على الاثم والعدوان
____________________
(35/95)
اما على فواحش او محبه شيطانية كمحبه المردان ونحوهم وان اظهروا خلاف ذلك من اشتراك فى الصنائع ونحوها واما تعاون على ظلم الغير واكل مال الناس بالباطل فان هذا من جنس مؤاخاة بعض من ينتسب إلى المشيخة والسلوك للنساء فيواخى احدهم المرأة الاجنبية ويخلو بها وقد أقر طوائف من هؤلاء بما يجري بينهم من الفواحش فمثل هذه المواخاة وأمثالها مما يكون فيه تعاون على ما نهى الله عنه كائنا ما كان حرام بإتفاق المسلمين
وإنما النزاع فى مواخاة يكون مقصودهما بها التعاون على البر والتقوى بحيث تجمعهما طاعة الله وتفرق بينهما معصية الله كما يقولون تجمعنا السنة وتفرقنا البدعة فهذه التى فيها النزاع فأكثر العلماء لا يرونها إستغناء بالمواخاة الايمانية التى عقدها الله ورسوله فان تلك كافية محصلة لكل خير فينبغي ان يجتهد فى تحقيق اداء واجباتها اذ قد اوجب الله للمؤمن على المؤمن من الحقوق ما هو فوق مطلوب النفوس ومنهم من سوغها على الوجه المشروع اذا لم تشتمل على شيء من مخالفة الشريعة
وأما أن تقال على المشاركة فى الحسنات والسيئات فمن دخل منهما الجنة ادخل صاحبه ونحو ذلك مما قد يشرطه بعضهم على بعض فهذه الشروط وأمثالها لا تصح ولا يمكن الوفاء بها فان الشفاعة لا تكون
____________________
(35/96)
الا بإذن الله والله اعلم بما يكون من حالهما وما يستحقه كل واحد منهما فكيف يلزم المسلم ما ليس إليه فعله ولا يعلم حاله فيه ولا حال الآخر ولهذا نجد هؤلاء الذين يشترطون هذه الشروط لا يدرون ما يشرطون ولو إستشعر احدهم انه يؤخذ منه بعض ماله فى الدنيا فالله أعلم هل كان يدخل فيها ام لا
وبالجملة فجميع ما يقع بين الناس من الشروط والعقود والمحالفات فى الأخوة وغيرها ترد إلى كتاب الله وسنة رسوله فكل شرط يوافق الكتاب والسنة يوفى به و ( من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرطه أوثق ( فمتى كان الشرط يخالف شرط الله ورسوله كان باطلا مثل ان يشترط ان يكون ولد غيره ابنه أو عتق غيره مولاه او ان ابنه او قريبه لا يرثه أو أنه يعاونه على كل ما يريد وينصره على كل من عاداه سواء كان بحق او بباطل او يطيعه فى كل ما يامره به او انه يدخله الجنه ويمنعه من النار مطلقا ونحو ذلك من الشروط واذا وقعت هذه الشروط وفي منها بما امر الله به ورسوله ولم يوف منها بما نهى الله عنه ورسوله وهذا متفق عليه بين المسلمين وفى المباحات نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه
____________________
(35/97)
وكذا فى شروط البيوع والهبات والوقوف والنذور وعقود البيعة للأئمة وعقود المشايخ وعقود المتآخيين وعقود اهل الانساب والقبائل وامثال ذلك فانه يجب على كل احد ان يطيع الله ورسوله فى كل شيء ويجتنب معصية الله ورسوله فى كل شيء ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ويجب ان يكون الله ورسوله احب إليه من كل شيء ولا يطيع الا من آمن بالله ورسوله والله أعلم
____________________
(35/98)