ولا يثق بها ولا يرجوها ولا يخافها فإنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخرى تضم إليه وله موانع وعوائق تمنع موجبه وما ثم سبب مستقل بالإحداث إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وما شاء خلقه بالأسباب التي يحدثها ويصرف عنه الموانع فلا يجوز التوكل إلا عليه كما قال تعالى إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (سورة آل عمران). وما سبق من علمه وحكمه فهو حق وقد علم وحكم بأن الششيء الفلاني يحدثه هو سبحانه بالسبب الفلاني فمن نظر إلى علمه وحكمه فليشهد الحدوث بما أحدثه وإذا نظر إلى الحدوث بلا سبب منه لم يكن شهوده مطابقا لعلمه وحكمه فمن شهد أن الله تعالى خلق الولد لا من أبوين لسبق علمه وحكمه فهذا شهوده عمى بل يشهد أن الله تبارك وتعالى سبق علمه وحكمه بأن يخلق الولد من الأبوين والأبوان سبب في وجوده فكيف يجوز أن يقال إنه سبق علمه وحكمه بحدوثه بلا سبب وإذا كان علمه وحكمه قد أثبت السبب فكيف أشهد الأمور بخلاف ما هي عليه في علمه وحكمه والعلل التي تنفي نوعان أحدهما أن تعتمد على الأسباب وتتوكل عليها وهذا شرك محرم والثاني أن تترك ما أمرت به من الأسباب
(5/256)
وهذا أيضا محرم بل عليك أن تعبده بفعل ما أمرك به من الأسباب وعليك أن تتوكل عليه في أن يعينك على ما أمرك به وأن يفعل هو ما لا تقدر أنت عليه بدون سبب منك فليست العلة إلا ترك ما أمرك به الرب أمر إيجاب أو استحباب ومن فعل ما أمر به كما أمر به فليس عنده علة ولكن قد يجهل حقيقة ما أمر به كما أمر به فيكون منه علة وقول القائل يسلك سبيل إسقاط الحدث إن أراد أنى أعتقد نفي حدوث شئ فهذا مكابرة وتكذيب بخلق الرب وجحد للصانع وإن أراد أنى أسقط الحدث من قلبي فلا أشهد محدثا وهو مرادهم فهذا خلاف ما أمرت به وخلاف الحق بل قد أمرت أن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد حدوث المحدثات بمشيئته بما خلقه من الأسباب ولما خلقه من الحكم وما أمرت أن لا أشهد بقلبي حدوث شئ قط وقول القائل يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل إن أراده أنهيبقى على الوجه المأمور به بحيث يشهد أن الحق هو المحدث لكل ما سواه بما أحدثه من الأسباب ولما أراده من الحكمة فهذا حق وإن أراد أنى لا أشهد قط مخلوقا بل لا أشهد إلا القديم فقط فهذا نقص في الإيمان والتوحيد والتحقيق وهذا من باب الجهل والضلال وهذا إذا غلب على قلب العبد كان معذورا أما أن يكون هذا مما أمر الله به ورسوله فهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع ولما كان هذا مرادهم قال هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع فإن المراد بالجمع أن يشهد الأشياء كلها مجتمعة في خلق الرب ومشيئته وأنها صادرة بإرادته لا يرجح مثلا عن مثل فلا يفرق بين مأمور ومحظور وحسن وقبيح وأولياء الله وأعدائه والوقوف عند هذا الجمع هو الذي أنكره الجنيد وغيره من أئمة طريق أهل الله أهل الحق فإنهم أمروا بالفرق الثاني وهو أن يشهد مع هذا الجمع أن الرب فرق بين ما أمر به وبين ما نهى عنه فأحب هذا
(5/257)
وأبغض هذا وأثاب على هذا وعاقب على هذا فيحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ويشهد الفرق في الجمع والجمع في الفرق لا يشهد جمعا محضا ولا فرقا محضا وأما قوله ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع فسيأتي وهؤلاء شربوا من العين التي شرب منها نفاة القدر فإن أولئك الذين قالوا الأمر أنف قالوا إذا سبق علمه وحكمه بشيء امتنع أن يأمر بخلافه ووجب وجوده وفي ذلك إبطال الأمر والنهي لكن أولئك كانوا معظمين للأمر والنهي فظنوا أن إثبات ما سبق من العلم والحكم ينافيه فأثبتوا الشرع ونفوا القدر وهؤلاء اعتقدوا ذلك أيضا لكن أثبتوا القدر ونفوا عمن شاهده أن يستحسن حسنة يأمر بها أو يستقبح سيئة ينهى عنها فأثبتوا القدر وأبطلوا الشرع عمن شاهد القدر وهذا القول أشد منافاة لدين الإسلام من قول نفاة القدر قال وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره إلى آخر كلامه وقد تقدم حكايته فهؤلاء هم الذين أنكر عليهم أئمة الطريق كالجنيد وغيره حيث لم يفرقوا بين القديم والمحدث وحقيقة قول هؤلاء الإتحاد والحلول الخاص من جنس قول النصارى في المسيح وهو أن يكون الموحد هو الموحد ولا يوحد
(5/258)
الله إلا الله وكل من جعل غير الله يوحد الله فهو جاحد عندهم كما قال ما وحد الواحد من واحد أي من واحد غيره إذ كل من وحده جاحد فإنه على قولهم هو الموحد والموحد ولهذا قال توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد يعني إذا تكلم العبد بالتوحيد وهو يرى أنه المتكلم فإنما ينطق عن نعت نفسه فيستعير ما ليس له فيتكلم به وهذه عارية أبطلها الواحد ولكن إذا فنى عن شهود نفسه وكان الحق هو المتكلم على لسانه حيث فنى من لم يكن وبقي من لم يزل فيكون الحق هو الناطق بنعت نفسه لا بنعت العبد ويكون هو الموحد وهو الموحد ولهذا قال توحيده إياه توحيده أي توحيد الحق إياه أي نفسه هو توحيده هو لا توحيد المخلوقين له فإن لا يوحده عندهم مخلوق بمعنى أنه هو الناطق بالتوحيد على لسان خاصته ليس الناطق هو المخلوق كما يقوله النصارى في المسيح إن اللاهوت تكلم بلسان الناسوت وحقيقة الأمر أن كل من تكلم بالتوحيد أو تصوره وهو يشهد غير الله فليس بموحد عندهم وإذا غاب وفنى عن نفسه بالكلية فتم له مقام توحيد الفناء الذي يجذبه إلى توحيد أرباب الجمع صار الحق هو
(5/259)
الناطق المتكلم بالتوحيد وكان هو الموحد وهو الموحد لا موحد غيره وحقيقة هذا القول لا يكون إلا بأن يصير الرب والعبد شيئا واحدا وهو الإتحاد فيتحد اللاهوت والناسوت كما يقول النصارى إن المتكلم بما كان يسمع من المسيح هو الله وعندهم أن الذين سمعوا منه هم رسل الله وهم عندهم أفضل من إبراهيم وموسى ولهذا تكلم بلفظ اللاهوت والناسوت طائفة من الشيوخ الذين وقعوا في الإتحاد والحلول مطلقا ومعينا فكانوا ينشدون قصيدة ابن الفارض ويتحلون بما فيها من تحقيق الإتحاد العام ويرون كل ما في الوجود هو مجلي ومظهر ظهر فيه عين الحق وإذا رأى أحدهم منظرا حسنا أنشد يتجلى في كل طرفة عين بلباس من الجمال جديد وينشد الآخر هيهات يشهد ناظري معكم سوى إذا أنتم عين الجوارح والقوى وينشد الثالث أعاين في كل الوجود جمالكم وأسمع من كل الجهات نداكموتلتذ إن مرت على جسدي يدى لأني في التحقيق لست سواكم ولما كان ظهور قول النصارى بين المسلمين مما يظهر أنه باطل لم يمكن أصحاب هذا الإتحاد أن يتكلموا به كما تكلمت به النصارى بل صار عندهم مما يشهد ولا ينطق به وهو عندهم من الأسرار التي لا يباح بها ومن باح بالسر قتل وقد يقول بعضهم إن الحلاج لما باح بهذا السر وجب قتله ولهذا قال هو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه فيقال أما توحيد الحق نفسه بنفسه وهو علمه بنفسه وكلامه الذي يخبر به عن نفسه كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو (سورة آل عمران). وقوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني (سورة طـــه). فذاك صفته القائمة به كما تقوم به سائر صفاته من حياته وقدرته وغير ذلك وذلك لا يفارق ذات الرب وينتقل إلى غيره أصلا كسائر صفاته بل صفات المخلوق لا تفارق ذاته وتنتقل إلى غيره فكيف بصفات الخالق
(5/260)
ولكن هو سبحانه ينزل على أنبيائه من علمه وكلامه ما أنزله كما أنزل القرآن وهو كلامه على خاتم الرسل وقد قال سبحانه شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (سورة آل عمران). فهو سبحانه يشهد لنفسه بالوحدانية والملائكة يشهدون وأولوا العلم من عباده يشهدون والشهادات متطابقة متوافقة وقد يقال هذه الشهادة هي هذه بمعنى أنها نوعها وليس نفس صفة المخلوق هي نفس صفة الخالق ولكن كلام الله الذي أنزله على رسوله هو القرآن الذي يقرؤه المسلمون وهو كلامه سبحانه مسموعا من المبلغين له ليس تلاوة العباد له وسماع بعضهم من بعض بمنزلة سمع موسى له من الله بلا واسطة فإن موسى سمع نفس كلام الرب كما يسمع كلام المتكلم منه كما يسمع الصحابة كلام الرسول منه وأما سائر الناس فسمعوه مبلغا عن الله كما يسمع التابعون ومن بعدهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم مبلغا عنه ولهذا قال لرسوله بلغ ما أنزل إليك من ربك (سورة المائدة). وقال ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم (سورة الجن). وقال النبي صلى الله عليه وسلم بلغوا عني ولو آية وقالنضر الله أمرا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقال ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي وقول القائل وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه فيقال أفضل صفوته هم الأنبياء وأفضلهم الرسل وأفضل الرسل أولو العزم وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم وما ألاحه الله على أسرار هؤلاء فهو أكمل توحيد عرفه العباد وهم قد تكلموا بالتوحيد ونعتوه وبثوه وما يقدر أحد قط أن ينقل عن نبي من الأنبياء ولا
(5/261)
وارث نبي أنه يدعي أنه يعلم توحيدا لا يمكنه النطق به بل كل ما علمه القلب أمكن التعبير عنه لكن قد لا يفهمه إلا بعض الناس فأما أن يقال إن محمدا صلى الله عليه وسلم عاجز عن أن يبين ما عرفه الله من توحيده فهذا ليس كذلك ثم يقال إن أريد بهذا اللائح أن يكون الرب نفسه هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته لاتحاده بهم أو حلوله فيهم فهذا قول النصارى وهو باطل شرعا وعقلا وإن أريد أنه يعرف صفوته من توحيده ومعرفته والإيمان به ما لا يعرفه غيرهم فهذا حق لكن ما قام بقلوبهم ليس هو نفس الرب الخالق تعالى بل هو العلم به ومحبته ومعرفته وتوحيده وقد يسمى المثل الأعلى ويفسر به قوله تعالى وله المثل الأعلى في السموات والأرض (سورة الروم). أي في قلوب أهل السموات والأرض ويقال له المثال الحبي والمثال العلمي وقد يخيل لناقص العقل إذا أحب شخصا محبة تامة بحيث فني في حبه حتى لا يشهد في قلبه غيره أن نفس المحبوب صار في قلبه وهو غالط في ذلك بل المحبوب في موضع آخر إما في بيته وإما في المسجد وإما فيموضع آخر ولكن الذي في قلبه هو مثاله وكثيرا ما يقول القائل أنت في قلبي وأنت في فؤادي والمراد هذا المثال لأنه قد علم أنه لم يعن ذاته فإن ذاته منفصلة عنه كما يقال أنت بين عيني وأنت دائما على لساني كما قال الشاعر مثالك في عبني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فكيف تغيب وقال آخر ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره فجعله ساكنا عامرا للقلب لا ينسى ولم يرد أن ذاته حصلت في قلبه كما يحصل الإنسان الساكن في بيته بل هذا الحاصل هو المثال العلمي وقال آخر ومن عجب أني احن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي ومن هذا الباب قول القائل القلب بيت الرب وما يذكرونه في الإسرائيليات من قوله ما وسعتني أرضى ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الورع اللين فليس المراد أن الله
(5/262)
نفسه يكون في قلب كل عبد بل في القلب معرفته ومحبته وعبادته والنائم يرى في المنام إنسانا يخاطبه ويشاهده ويجري معه فصولا وذلك المرئي قاعد في بيته أو ميت في قبره وإنما رأى مثاله وكذلك يرى في المرآة الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من المرئيات ويراها تكبر بكبر المرأة وتصغر بصغرها وتستدير باستدارتها وتصفوا بصفائها وتلك مثال المرئيات القائمة بالمرآة وأما نفس الشمس التي في السماء فلم تصر ذاتها في المرآة وقد خاطبني مرة شيخ من هؤلاء في مثل هذا وكان ممن يظن أن الحلاج قال أنا الحق لكونه كان في هذا التوحيد فقال الفرق بين فرعون والحلاج أن فرعون قال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات وهو يشير إلى نفسه وأما الحلاج فكان فانيا عن نفسه والحق نطق على لسانه فقلت لت أفصار الحق في قلب الحلاج ينطق على لسانه كما ينطق الجني على لسان المصروعوهو سبحانه بائن عن قلب الحلاج وغيره من المخلوقات فقلب الحلاج أو غيره كيف يسع ذات الحق ثم الجني يدخل في جسد الإنسان ويشغل جميع أعضائه والإنسان المصروع لا يحس بما يقوله الجني ويفعله بأعضائه لا يكون الجني في قلبه فقط فإن القلب كل ما قام به فإنما هو عرض من الأعراض ليس شيئا موجودا قائما بنفسه ولهذا لا يكون الجني بقلبه الذي هو روحه وهولاء قد يدعون أن ذات الحق قامت بقلبه فقط فهذا يستحيل في حق المخلوق فكيف بالخالق جل جلاله وقد يحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم سمع الله لمن حمده فيقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد ما أردتم من الحلول
(5/263)
والاتحاد ولكن أراد أن الله بلغكم هذا الكلام على لسان رسوله وأخبركم أنه يسمع دعاء من حمده فاحمدوه أنتم وقولوا ربنا ولك الحمد حتى يسمع الله لكم دعاءكم فإن الحمد قبل الدعاء سبب لاستجابة الدعاء وهذا أمر معروف يقول المرسل لرسوله قل على لساني كذا وكذا ويقول الرسول لمرسله قلت على لسانك كذا وكذا ويقول المرسل أيضا قلت لكم على لسان رسولي كذا وكذا وقد قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء (سورة الشورى). فالله تعالى إذا أرسل رسولا من الملائكة أو من البشر برسالة كان مكلما لعباده بواسطة رسوله بما أرسل به رسوله وكان مبينا لهم بذلك كما قال تعالى قد نبأنا الله من أخباركم (سورة التوبة). أي بواسطة رسوله وقال فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (سورة القيامة). وقال نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق (سورة القصص). وقال نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (سورة يوسف). فكانت تلك التلاوة والقراءة والقصص بواسطة جبريل فإنه سبحانه يكلم عباده بواسطة رسول يرسله فيوحي بإذنه ما يشاء ولهذا جاء بلفظالجمع فإن ما فعله المطاع بجنده يقال فيه نحن نفعل كذا والملائكة رسل الله فيما يخلقه ويأمر به فما خلقه وأمر به بواسطة رسله من الملائكة قال فيه نحن فعلنا كما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (سورة القيامة). وفي الصحيحين عن ابن عباس قال إن علينا أن نجمعه في قلبك ثم أن نقرأه بلسانك فإذا قرأه جبريل فاستمع له حتى يفرغ كما قال في الآية الأخرى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه (سورة طـــه). أي لا تعجل بتلاوة ما يقرؤه جبريل عليك من قبل أن يقضي جبريل تلاوته بل استمع له حتى يقضي تلاوته ثم
(5/264)
بعد هذا اقرأ ما أنزله إليك وعلينا أن نجمع ذلك في قلبك وأن تقرأه بلسانك ثم أن تبينه للناس بعد ذهاب جبريل عنك وقوله والذي يشار إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبا القدم فيقال مرادهم بهذا نفي المحدث أي ليس هنا إلا القديم وهذا على وجهين فإن أريد به نفي المحدث بالكلية وأن العبد هو القديم فهذا شر من قول النصارى إلا أنه قريب إلى قول اليعقوبية من النصارى فإن اليعقوبية يقولون إن اللاهوت والناسوت امتزجا واختلطا فصارا جوهرا واحدا وأقنوما واحدا وطبيعة واحدة ويقول بعضهم إن اليدين اللتين سمرتا هما اليدان اللتان خلق بهما آدم وأما النسطورية فيقولون بحلول اللاهوت في الناسوت والملكانية يقولون شخص واحد له أقنوم واحد بطبيعتين ومشيئتين ويشبهونه بالحديدة والنار والنسطورية يشبهونه بالماء في الظروف واليعقوبية يشبهونه باختلاط الماء واللبن والماء والخمر
(5/265)
فقول القائل إسقاط الحدوث إن أراد به أن المحدث عدم فهذا مكابرة وإن أراد به إسقاط المحدث من قلب العبد وأنه لم يبق في قلبه إلا القديم فهذا إن أريد به ذات القديم فهو قول النسطورية من النصارى وإن أريد به معرفته والإيمان به وتوحيده أو قيل مثله أو المثل العلمي أو نوره أو نحو ذلك فهذا المعنى صحيح فإن قلوب أهل التوحيد مملوءة بهذا لكن ليس في قلوبهم ذات الرب القديم وصفاته القائمة به وأما أهل الاتحاد العام فيقولون ما في الوجود إلا الوجود القديم وهذا قول الجهمية وأبو أسماعيل لم يرد هذا فإنه قد صرح في غير موضع من كتبه بتكفير هؤلاء الجهمية الحلولية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان وإنما يشير إلى ما يختص به بعض الناس ولهذا قال ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته والإتحاد والحلول الخاص وقع فيه كثير من العباد والصوفية وأهل الأحوال فإنه يفجؤهم ما يعجزون عن معرفته وتضعف عقولهم عن تمييزه فيظنونه ذات الحق وكثير منهم يظن أنه رأى الله بعينه وفيهم من يحكي مخاطباته له ومعاتباته وذاك كله إنما هو في قلوبهم منالمثال العلمي الذي في قلوبهم بحسب إيمانهم به ومما يشبه المثال العلمي رؤية الرب تعالى في المنام فإنه يرى في صور مختلفة يراه كل عبد على حسب إيمانه ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم إيمانا من غيره رآه في أحسن صورة وهي رؤية منام بالمدينة كما نطقت بذلك الأحاديث المأثورة عنه وأما ليلة المعراج فليس في شيء من الأحاديث المعروفة أنه رآه ليلة المعراج لكن روي في ذلك حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث رواه الخلال من طريق أبي عبيد وذكره القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل والذي نص عليه الإمام أحمد في الرؤية هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه
(5/266)
وسلم وما قاله أصحابه فتارة يقول رآه بفؤاده متبعا لأبي ذر فإنه روى بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده وقد ثبت في صحيح مسلم أن ابا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أني أراه ولم ينقل هذا السؤال عن غير أبي ذر وأما ما يذكره بعض العامة من أن أبا بكر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال نعم رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره فهو كذب لم يروه أحد من أهل العلم ولا يجيب النبي صلى الله عليه وسلم عن مسألة واحدة بالنفي والإثبات مطلقا فهو منزه عن ذلكفلما كان أبو ذر أعلم من غيره أتبعه أحمد مع ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال رآه بفؤاده مرتين وتارة يقول أحمد رآه فيطلق اللفظ ولا يقيده بعين ولا قلب اتباعا للحديث وتارة يستحسن قول من يقول رآه ولا يقول بعين ولا قلب ولم ينقل أحد من أصحاب أحمد الذين باشروه عنه أنه قال رآه بعينه وقد ذكر ما نقلوه عن أحمد الخلال في كتاب السنة وغيره وكذلك لم ينقل أحد بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال رآه بعينه بل الثابت عنه إما الأطلاق وإما التقييد بالفؤاد وقد ذكر طائفة من أصحاب أحمد كالقاضي إبي يعلى ومن اتبعه عن أحمد ثلاث روايات في رؤيته تعالى إحداها أنه رآه بعينه واختاروا ذلك وكذلك اختاره الأشعري وطائفة ولم ينقل هؤلاء عن
(5/267)
أحمد لفظا صريحا بذلك ولا عن ابن عباس ولكن المنقول الثابت عن أحمد من جنس النقول الثابتة عن ابن عباس إما تقييد الرؤية بالقلب وإما إطلاقها وأما تقييدها بالعين فلم يثبت لا عن أحمد ولا عن ابن عباس وأما من سوى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الإمام أحمد اتفاق السلف على أنه لم يره أحد بعينه وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذا لبسطه موضع آخر وإنما المقصود هنا أن كثيرا من السالكين يرد عليه من الأحوال ما يصطلمه حتى يظن أنه هو الحق وأن الحق فيه أو أن الحق يتكلم على لسانه أو أنه يرى الحق أو نحو ذلك وإنما يكون الذي يشاهدونه ويخاطبونه هو الشيطان وفيهم من يرى عرشا عليه نور ويرى الملائكةحول العرش ويكون ذلك الشيطان وتلك الشياطين حوله وقد جرى هذا لغير واحد.
*فصل وقد اعترف طوائف بأنه يستحق أن يحب وأنكروا أنه يحب غيره إلا بمعنى الإرادة العامة فإن محبة المؤمنين لربهم أمر موجود في القلوب والفطر شهد به الكتاب والسنة واستفاض عن سلف الأمة وأهل الصفوة واتفق عليه أهل المعرفة بالله وقد ثبت أن التذاذ المؤمنين يوم القيامة بالنظر إلى الله أعظم لذة في الجنة ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة وفي حديث آخر رواه النسائي وغيره أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة(5/268)
فقوله في الحديث الصحيح فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر إليه يبين أن اللذة الحاصلة بالنظر إليه أعظم من كل لذة في الجنة والإنسان في الدنيا يجد في قلبه بذكر الله وذكر محامده وآلائه وعبادته من اللذة ما لا يجده بشيء آخر وقال النبي صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عيني في الصلاة وكان يقول أرحنا بالصلاة يا بلال وفي الحديث إذا مررتمبرياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة قال مجالس الذكر ومن هذا الباب قوله ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة فإن هذا كان أعظم مجالس الذكر والمنكرون لرؤيته من الجهمية والمعتزلة تنكر هذه اللذة وقد يفسرها من يتأول الرؤية بمزيد العلم على لذة العلم به كاللذة التي في الدنيا بذكره لكن تلك أكمل وهذا قول متصوفة الفلاسفة والنفاة كالفارابي وكأبي حامد وأمثاله فإن ما في كتبه من الإحياء وغيره من لذة النظر إلى وجهه هو بهذا المعنى والفلاسفة تثبت اللذة العقلية وأبو نصر الفارابيوأمثاله من المتفلسفة يثبت الرؤية لله ويفسرها بهذا المعنى وهذه اللذة أيضا ثابتة بعد الموت لكنهم مقصرون في تحقيقها وإثبات غيرها من لذات الآخرة كما هو مبسوط في موضعه وأما أبو المعالي وابن عقيل ونحوهما فينكرون أن يلتذ أحد بالنظر إليه وقال أبو المعالي يمكن أن يحصل مع النظر إليه لذة ببعض
(5/269)
المخلوقات من الجنة فتكون اللذة مع النظر بذلك المخلوق وسمع ابن عقيل رجلا يقول أسألك لذة النظر إلى وجهك فقال هب أن له وجها أفتلتذ بالنظر إليه وهذا ونحوه مما أنكر على ابن عقيل فإنه كان فاضلا ذكيا وكان تتلون آراؤه في هذه المواضع ولهذا يوجد في كلامه كثير مما يوافق فيه قول المعتزلة والجهمية وهذا من ذاك وكذلك أبو المعالي بني هذا على أصل الجهمية الذي وافقهم فيه الأشعري ومن وافقه كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما أن الله لا يحب ذاته ويزعمون أن الخلاف في ذلك مع الصوفية وهذا القول من بقايا أقوال جهم بن صفوان وأول من عرف في الإسلام أنه أنكر أن الله يحب او يحب الجهم بن صفوان وشيخه الجعد ابن درهم وكذلك هو أول من عرف أنه أنكر حقيقة تكليم الله لموسى وغيره وكان جهم ينفي الصفات والأسماء ثم انتقل بعض ذلك إلى المعتزلة وغيرهم فنفوا الصفات دون الأسماء وليس هذا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها بل كلهم متفقون على أن الله يستحق أن يحب وليس شيء أحق بأن يحب من الله سبحانه بل لا يصلح أن يحب غيره إلا لأجله وكل ما يحبه المؤمن من طعام وشراب ولباس وغير ذلك لا ينبغي أن يفعله إلا ليستعين به على عبادته
(5/270)
سبحانه المتضمنة لمحبته فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته وخلق فيهم الشهوات ليتناولوا بها ما يستعينون به على عبادته ومن لم يعبد الله فإنه فاسد هالك والله لا يغفر أن يشرك به فيعبد معه غيره فكيف بمن عطل عبادته فلم يعبده ألبته كفرعون وأمثاله وقد قال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (سورة النساء). والتعطيل ليس دون الشرك بل أعظم منه فالمستكبرون عن عبادته أعظم جرما من الذين يعبدونه ويعبدون معه غيره وهو لا يغفر لهم فأولئك أولى وما من مؤمن إلا وفي قلبه حب الله ولو أنكر ذلك بلسانه وهؤلاء الذين أنكروا محبته من أهل الكلام وهم مؤمنون لو رجعوا إلى فطرتهم التي فطروا عليها واعتبروا أحوال قلوبهم عند عبادته لوجدوا في قلوبهم من محبته ما لا يعبر عن قدره وهم من أكثر الناس نظرا في العلم به وبصفاته وذكره وذلك كله من محبته وإلا فما لا يحب لا تحرص النفوس على ذكره إلا لتعلق حاجتها به ولهذا يقال من أحب شيئا أكثر من ذكره والمؤمن يجد نفسه محتاجة إلى الله في تحصيل مطالبه ويجد في قلبه محبة الله غير هذا فهو محتاج إلى الله من جهة أنه ربه ومن جهة
(5/271)
أن إلهه قال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فلا بد أن يكون العبد عابدا لله ولا بد أن يكون مستعينا به ولهذا كان هذا فرضا على كل مسلم أن يقوله في صلاته وهذه الكلمة بين العبد وبين الرب وقد روي عن الحسن البصري رحمه الله أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع سرها في الأربعة وجمع سر الأربعة في القرآن وجمع سرالقرآن في الفاتحة وجمع سر الفاتحة في هاتين الكلمتين إياك نعبد وإياك نستعين ولهذا ثناها الله في كتابه في غير موضع من القرآن كقوله فاعبده وتوكل عليه (سورة هود). وقوله عليه توكلت وإليه أنيب (سورة هود). وقوله عليه توكلت وإليه متاب (سورة الرعد). وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه (سورة الطلاق). وأمثال ذلك وهم يتأولون محبته على محبة عبادته وطاعته فيقال لهم فيمتنع في الفطرة أن يحب الإنسان طاعة مطاع وعبادته إلا أن يكون محبا لله وإلا فمالا يحب في نفسه لا يحب الإنسان لا
(5/272)
طاعته ولا عبادته ومن كان إنما يحب الطاعة والعبادة للعوض المخلوق فهو لا يحب إلا ذلك العوض ولا يقال أن هذا يحب الله ألا ترى أن الكافر والظالم ومن يبغضه المؤمن قد يستأجر المؤمن على عمل يعمله فيعمل المؤمن لأجل ذلك العوض ولا يكون المؤمن محبا للكافر ولا للظالم إذا عمل له بعوض لأنه ليس مقصوده إلا العوض فمن كان لا يريد من الله إلا العوض على عمله فإنه لا يحبه قط إلا كما يحبر الفاعل لمن يستأجره ويعطيه العوض على عمله فإن كل محبوب إما أن يحبر لنفسه وإما أن يحب لغيره فما أحب لغيره فالمحبوب في نفس الأمر هو ذلك الغير وأما هذا فإنما أحب لكونه وسيلة إلى المحبوب والوسيلة قد تكون مكروهة غاية الكراهة لكن يتحملها الإنسان لأجل المقصود كما يتجرع المريض الدواء الكريه لأجل محبته للعافية ولا يقال إنه يحب ذلك الدواء الكريه فإن كان الرب سبحانه لا يحب إلا لما يخلقه من النعم فإنه لا يحب وقد قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله (سورة البقرة). فأخبر أن المؤمنين أشد حبا لله من المشركين وأن المشركين يحبون الأنداد كحب الله
(5/273)
ومن المعلوم أن المشركين يحبون آلهتهم محبة قوية كما قال تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم (سورة البقرة). وهذا وإن كان يقال إنه لما يظنونه فيهم من أنها تنفعهم فلا ريب أن الشيء يحب لهذا ولهذا ولكن إذا ظن فيه أنه متصف بصفات الكمال كانت محبته أشد مع قطع النظر عن نفعه والحديث الذي يروى أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني بحب الله وأحب أهل بيتي بحبي إسناده ضعيف فإن الله يحب أن يحب لذاته وإن كانت محبته واجبة لإحسانه وقول القائل المحبة للإحسان محبة العامة وتلك محبة الخاصة ليس بشيء بل كل مؤمن فأنه يحب الله لذاته ولو أنكر ذلك بلسانه ومن لم يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لم يكن مؤمنا ومن قال إني لا أجد هذه المحبة في قلبي لله ورسوله فأحد الأمرين لازم إما أن يكون صادقا في هذالخبر فلا يكون مؤمنا فإن أبا جهل وأبا لهب
(5/274)
وأمثالهما إذا قالوا ذلك كانوا صادقين في هذا الخبر وهم كفار أخبروا عما في نفوسهم من الكفر مع أن هؤلاء في قلوبهم محبة الله لكن مع الشرك به فإنهم اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ولهذا أبغضوا الرسول وعادوه لأنه دعاهم إلى عبادة الله وحده ورفض ما يحبونه معه فنهاهم أن يحبوا شيئا كحبة فأبغضوه على هذا فقد يكون بعض هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله يفضل ذلك الند على الله في أشياء وهؤلاء قد يعلمون أن الله أجل وأعظم لكن تهوى نفوسهم ذلك الند أكثر والرب تعالى إذا جعل من يحب الأنداد كحبه مشركين فمن أحب الند أكثر كان أعظم شركا وكفرا كما قال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم (سورة الأنعام). فلولا تعظيمهم لآلهتهم على الله لما سبوا الله إذا سبت آلهتهم وقال تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (سورة الأنعام). وقال أبو سفيان يوم أحد أعل هبل أعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه فقالوا وما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل وقال أبو سفيان إن لنا العزى ولا عزى لكم قال ألا تجيبوه قالوا
(5/275)
وما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ويوجد كثير من الناس يحلف بند جعله لله وينذر له ويوالي في محبته ويعادي من يبغضه ويحلف به فلا يكذب ويوفي بما نذره له وهو يكذب إذا حلف بالله ولا يوفي بما نذره لله ولا يوالي في محبة الله ولا يعادي في الله كما يوالي ويعادي لذلك الند فمن قال إني لا أجد في قلبي أن الله أحد الي مما سواه فأحد الأمرين لازم إما أن يكون صادقا فيكون كافرا مخلدا في النار من الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وإما أن يكون غالطا في قوله لا أجد في قلبي هذا والإنسان قد يكون في قلبه معارف وإرادات ولا يدري أنها في قلبه فوجود الشيء في القلب شيء والدراية به شيء آخر ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء يطلب تحصيل ذلك في قلبه وهو حاصل في قلبه فتراه يتعب تعبا كثيرا لجهله وهذا كالموسوس في الصلاة فإن كل من فعل فعلا باختياره وهو يعلم ما يفعله فلا بد أن ينويه ووجود ذلك بدون النية التي هي الإرادة ممتنع فمن كان يعلم أنه يقوم إلى الصلاة فهو يريد الصلاة ولا يتصور أن يصلي إلا وهو يريد الصلاة
(5/276)
فطلب مثل هذا لتحصيل النية من جهله بحقيقة النية ووجودها في نفسه وكذلك من كان يعلم أن غدا من رمضان وهو مسلم يعتقد وجوب الصوم وهو مريد للصوم فهذا نية الصوم وهو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي شهر رمضان فليلة العيد يعلم أنه لا يصوم فلا يريد الصوم ولا ينويه ولا يتعشى عشاء من يريد الصوم وهذا مثل الذي يأكل ويشرب ويمشي ويركب ويلبس إذا كان يعلم أنه يفعل هذه الأفعال فلا بد أن يريدها وهذه نيتها فلو قال بلسانه أريد أن أضع يدي في هذا الإناء لآخذ لقمة آكلها كان احمق عند الناس فهكذا من يتكلم بمثل هذه الألفاظ في نية الصلاة والطهارة والصيام ومع هذا فتجد خلقا كثيرا من الموسوسين بعلم وعبادة يجتهد في تحصيل هذه النية أعظم مما يجتهد من يستخرج ما في قعر معدته من القيء أو من يبتلع الأدوية الكريهة وكذلك كثير من المعارف قد يكون في نفس الإنسان ضروريا وفطريا وهو يطلب الدليل عليه لإعراضه عما في نفسه وعدم شعوره بشعوره فهكذا كثير من المؤمنين يكون في قلبه محبة لله ورسوله وقد نظر في كلام الجهمية والمعتزلة نفاة المحبة واعتقد ذلك قولا صحيحا لما ظنه من صحة شبهاتهم أو تقليدا لهم فصار يقول بموجب ذلك الاعتقاد
(5/277)
وينكر ما في نفسه فإن نافي محبة الله يقول المحبة لا تكون إلا لما يناسب المحبوب ولا مناسبة بين القديم والحديث وبين الواجب والممكن وبين الخالق والمخلوق فيقال لفظ المناسبة لفظ مجمل فإنه يقال لا مناسبة بين كذا وكذا أي أحدهما أعظم من الأخر فلا ينسب هذا إلى هذا كما يقال لا نسبة لمال فلان إلى مال فلان ولا نسبة لعلمه أو جوده أو ملكه إلى علم فلا وجود فلان وملك فلان يراد به أن هذه النسبة حقيرة صغيرة كلا نسبة كما يقال لا نسبة للخردلة إلى الجبل ولا نسبة للتراب إلى رب الأرباب فإذا أريد بأنه لا نسبة للمحدث إلى القديم هذا المعنى ونحوه فهو صحيح وليست المحبة مستلزمة لهذه النسبة وإن أريد أن ليس في القديم معنى يحبه لأجله المحدث فهذا رأس المسألة فلم قلت إنه ليس بين المحدث والقديم ما يحب المحدث القديم لأجله ولم قلت إن القديم ليس متصفا بمحبة ما يحبه من مخلوقاته والمحبة لا تستلزم نقصا بل هي صفة كمال بل هي أصل الإرادة فكل إرادة فلا بد أن تستلزم محبة فإن الشيء إنما يراد لأنه محبوب أو لأنه وسيلة إلى المحبوب ولو قدر عدم المحبة لامتنعت الإرادة فإن المحبة لازمة للإرادة فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وكذلك المحبة
(5/278)
مستلزمة للإرادة فمن أحب شيئا فلا بد أن يتضمن حبه إياه إرادة لبعض متعلقاته ولهذا كان خلقه تعالى لمخلوقاته لحكمة والحكمة مرادة محبوبة فهو خلق ما خلق لمراد محبوب كما تقدم وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين فيريد الإحسان إليهم وهم يحبونه فيريدون عبادته وطاعته وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وما من مؤمن إلا وهو يجد في قلبه للرسول من المحبة مالا يجد لغيره حتى أنه إذا سمع محبوبا له من أقاربه وأصدقائه يسب الرسول هان عليه عداوته ومهاجرته بل وقتله لحب الرسول وإن لم يفعل ذلك لم يكن مؤمنا قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبه الإيمان وأيدهم بروح منه (سورة المجادلة). بل قدقال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره (سورة التوبة). فتوعد من كان الأهل والمال أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فبه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار فوجود حلاوة الإيمان في القلب لا تكون من محبة العوض الذي لم يحصل بعد بل الفاعل الذي لا يعمل إلا للكراء لا يجد حال العمل إلا التعب والمشقة وما يؤلمه فلو كان لا معنى لمحبة الله ورسوله إلا محبة
(5/279)
ما سيصير إليه العبد من الأجر لم يكن هنا حلاوة إيمان يجدها العبد في قلبه وهو في دار التكليف والإمتحان وهذا خلاف الشرع وخلاف الفطرة التي فطر الله عليها قلوب عباده فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مولود يولد على الفطرة وفي صحيح مسلم عنه أنه قال يقول الله تعالى خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا فالله فطر عباده على الحنيفية مله إبراهيم وأصلها محبة الله وحده فما من فطرة لم تفسد إلا وهي تجد فيها محبة الله تعالى لكن قد تفسد الفطرة إما لكبر وغرض فاسد كما في فرعون وإما بأن يشرك معه غيره في المحبة كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله (سورة البقرة). وأما أهل التوحيد الذين يعبدون الله مخلصين له الدين فإن فيقلوبهم محبة الله لا يماثله فيها غيره ولهذا كان الرب محمودا حمدا مطلقا على كل ما فعله وحمدا خاصا على إحسانه إلى الحامد فهذا حمد الشكر والأول حمده على كل ما فعله كما قال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور (سورة الأنعام). الحمد لله فاطر السموات والأرض الآية (سورة فاطر). والحمد ضد الذم والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته والذم خبر بمساوىء المذموم مقرون ببغضه فلا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته ولا يكون ذم لمذموم إلا مع بغضه وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة وأول ما نطق به آدم الحمد لله رب العالمين وأول ما سمع من ربه يرحمك ربك وآخر دعوى أهل الجنة أن الحمد لله رب العالمين وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب لواء الحمد آدم فمن دونه تحت لوائه وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود ولا يكون حمد إلا بحب المحمود وهو سبحانه المعبود المحمود
(5/280)
وأول نصف الفاتحة الذي للرب حمده وآخره عبادته أوله الحمد لله رب العالمين وآخره إياك نعبد كما ثبت في حديث القسمة يقول الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد الحمد لله رب العالمين فيقول الله حمدني عبدي يقول العبد الرحمن الرحيم فيقول الله تعالى أثنى علي عبدي يقول العبد مالك يوم الدين فيقول الله تبارك وتعالى مجدني عبدي يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فيقول الله تعالى هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد أهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة يقول الله تعالى هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل رواه مسلم في صحيحه وقال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فجمع بين التوحيدوالتحميد كما قال تعالى فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (سورة غافر). وكان ابن عباس يقول إذا قلت لا إله إلا الله فقل الحمد لله رب العالمين يتأول هذه الآية وفي سنن ابن ماجة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد للهوفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم وقال أيضا كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء
(5/281)
فلا بد في الخطب من الحمد لله ومن توحيده ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين وكذلك التشهد في آخر الصلاة أوله ثناء على الله وآخره الشهادتان ولا يكون الثناء إلا على محبوب ولا التأله إلا لمحبوب وقد بسطنا الكلام في حقائق هذه الكلمات في مواضع متعددة وإذا كان العباد يحمدونه ويثنون عليه ويحبونه فهو سبحانه أحق بحمد نفسه والثناء على نفسه والمحبة لنفسه كما قال أفضل الخلق لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فلا ثناء من مثن أعظم من ثناء الرب على نفسه ولا ثناء إلا بحب ولا حب من محبوب لمحبوب أعظم من محبة الرب لنفسه وكل ما يحبه من عباده فهو تابع لحبه لنفسه فهو يحب المقسطين والمحسنين والصابرين والمؤمنين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويفرح بتوبة التائبين كل ذلك تبعا لمحبته لنفسه فإن المؤمن إذا كان يحب ما يحبه من المخلوقات لله فيكون حبه للرسول والصالحين تبعا لحبه لله فكيف الرب تعالى فيما يحبه من مخلوقاته إنما يحبه تبعا لحبه لنفسه وخلق المخلوقات لحكمته التي يحبهافما خلق شيئا إلا لحكمة وهو سبحانه قد قال أحسن كل شيء خلقه ((سورة السجدة).). وقال صنع الله الذي أتقن كل شيء (سورة النمل). وليس في أسمائه الحسنى إلا اسم يمدح به ولهذا كانت كلها حسنى والحسنى بخلاف السوأى فكلها حسنة والحسن محبوب ممدوح فالمقصود بالخلق ما يحبه ويرضاه وذلك أمر ممدوح ولكن قد يكون من لوازم ذلك ما يريده لأنه من لوازم ما يحبه ووسائله فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع كما يمتنع وجود العلم والإرادة بلا حياة ويمتنع وجود المولود مع كونه مولودا بلا ولادة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث الإستفتاح والخير كله بيديك والشر ليس إليك وقد قيل في تفسيره لا يتقرب به إليك بناء على أنه الأعمال المنهي عنها وقد قيل
(5/282)
لا يضاف إليك بناء على أنه المخلوق والشر المخلوق لا يضاف إلى الله مجردا عن الخير قط وإنما يذكر على أحد وجوه ثلاثة إما مع إضافته إلى المخلوق كقوله من شر ما خلق سورة الفلق وإما مع حذف الفاعل كقوله تعالى وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا (سورة الجن). ومنه في الفاتحة صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة فذكر الإنعام مضافا إليه وذكر الغضب محذوفا فاعله وذكر الضلال مضافا إلى العبد وكذلك قوله وإذا مرضت فهو يشفين (سورة الشعراء). وإما أن يدخل في العموم كقوله خالق كل شيء (سورة الأنعام). ولهذا إذا ذكر باسمه الخاص قرن بالخير كقوله في أسمائه الحسنى الضار النافع المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل فجمع بين الأسمين لما فيه من العموم والشمول الدال على وحدانيته وأنه وحده يفعل جميع هذه الأشياء ولهذا لا يدعى بأحد الإسمين كالضار والنافع والخافض والرافع بل يذكران جميعا ولهذا كان كل نعمة منه فضلا وكل نقمة منه عدلاوفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يمين الله ملأى لا يغضيها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع فالإحسان بيده اليمنى والعدل بيده الأخرى وكلتا يديه يمين مباركة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المقسطون عند الله يوم القيامة عن منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذي يعدلون في أهليهم وما ولوا ولبسط هذا موضع آخر والمقصود هنا أنه سبحانه إذا خلق ما يبغضه ويكرهه لحكمة يحبها ويرضاها فهو مريد لكل ما خلقه وإن كان بعض مخلوقاته إنما خلقه لغيره وهو يبغضه ولا يحبه وهذا الفرق بين المحبة والمشيئة هو مذهب السلف وأهل الحديث والفقهاء وأكثر متكلمي أهل السنة كالحنفية والكرامية
(5/283)
والمتقدمين من الحنبلية والمالكية والشافعية كما ذكر ذلك أبو بكر عبد العزيز في كتاب المقنع وهو أحد قولي الأشعري وعليه اعتمد أبو الفرج بن الجوزي ورجحه على قول من قال لا يحب الفساد للمؤمن أو لا يحبه دينا وذكر أبو المعالي أن هذا قول السلف وأن أول من جعلهما سواء من أهل الإثبات هو أبو الحسن والذين قالوا هذا من متأخري المالكية والشافعية والحنبلية كأبي المعالي والقاضي أبي يعلى وغيرهما هم في ذلك تبع للأشعري وبهذا الفرق يظهر أن الإرادة نوعان إرادة أن يخلق وإرادة لما أمر به فأما المأمور به فهو مراد إرادة شرعية دينية متضمنة أنه يحب ما أمر به ويرضاه وهذا معنى قولنا يريد من عبده فهو يريده له كما يريد الأمر الناصح للمأمور المنصوح يقول هذا خير لك وأنفع لك وهو إذا فعله أحبه الله ورضيه والمخلوقات مرادة إرادة خلقية كونية وهذه الإرادة متضمنة لما وقع دون ما لم يقع وقد يكون الشيء مرادا له غير محبوب بل أراده لإفضائه إلى وجود ما هو محبوب له أو لكونه شرطا في وجود ما هو محبوب له
(5/284)
فهذه الإرادة الخلقية هي المذكورة في قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا (سورة الأنعام). وفي قوله ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم (سورة هود). وفي قول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وفي قوله ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ((سورة السجدة).). وأمثال ذلك والإرادة الأمرية هي المذكورة في قوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (سورة البقرة). وفي قوله والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (سورة النساء). وفي قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم (سورة المائدة). وأمثال ذلك وإذا قيل الأمر هل يستلزم الإرادة أم يأمر بما لا يريد قيل هو لا يستلزم الإرادة الأولى وهي إرادة الخلق فليس كل ما أمر الله به أراد أن يخلقه وأن يجعل العبد المأمور فاعلا له والقدرية تنفى أن يريد ذلك لأنه عندهم لا يجعل أحدا فاعلا ولا
(5/285)
يخلق فعل أحد وأما أهل السنة فعندهم هو الذي جعل الأبرار أبرارا والمسلمين مسلمين وعندهم من أمره وجعله فاعلا للمأمور صار فاعلا له وإن لم يجعله فاعلا له لم يصر فاعلا له فأهل الإيمان والطاعة أراد منهم إيمانهم وطاعتهم أمرا وخلقا فأمرهم بذلك وأعانهم عليه وجعلهم فاعلين لذلك ولولا إعانته لهم على طاعته لما أطاعوه وأهل الكفر والمعصية أمرهم ولم يجعلهم مطيعين فلم يرد أن يخلق طاعتهم لكنه أمرهم بها وأرادها منهم إرادة شرعية دينية لكونها منفعة لهم ومصلحة إذا فعلوها ولم يرد هو أن يخلقها لما في ذلك من الحكمة وإذا كان يحبها بتقدير وجودها فقد يكون ذلك مستلزما لأمر يكرهه أو لفوات ما هو أحب إليه منه ودفعه أحب إليه من حصول ذلك المحبوب فيكون ترك هذا المحبوب لدفع المكروه أحب إليه من وجوده كما أن وجود المكروه المستلزم لوجود المحبوب يجعله مرادا لأجله إذا كان محبته له أعظم من محبته لعدم المكروه الذي هو الوسيلة وليس كل من نصحته بقولك عليك أن تعينه على الفعل الذي أمرته به فالأنبياء والصالحون دائما ينصحون الناس ويأمرونهم ويدلونهم على ما إذا فعلوه كان صلاحا لهم ولم يعاونونهم على أفعالهم وقد يكونون قادرين لكن مقتضى حكمتهم أن لا يفعلوا ذلك لأسباب متعددة
(5/286)
والرب تعالى على كل شيء قدير لكن ما من شيء إلا وله ضد ينافيه وله لازم لا بد منه فيمتنع وجود الضدين معا أو وجود الملزوم بدون اللازم كل من الضدين مقدور لله والله قادر على أن يخلقه لكن بشرط عدم الآخر فأما وجود الضدين معا فممتنع لذاته فلا يلزم من كونه قادرا على كل منهما وجود أحدهما مع الآخر والعباد قد لا يعلمون التنافي أو التلازم فلا يكونون عالمين بالامتناع فيظنونه ممكن الوجود مع حصول المحبوب المطلوب للرب وفرق بين العلم بالإمكان وعدم العلم بالإمتناع وإنما عندهم عدم العلم بالامتناع لا العلم بالإمكان والعدم لا فاعل له فأتوا من عدم علمهم وهو الجهل الذي هو أصل الكفر وهو سبحانه إذا اقتضت حكمته خلق شيء فلا بد من خلق لوازمه ونفي أضداده فإذا قال القائل لم لم يجعل معه الضد المنافي أو لم وجد اللازم كان لعدم علمه بالحقائق وهذا مثل أن يقول القائل هلا خلق زيدا قبل أبيه فيقال له يمتنع أن يكون ابنه ويخلق قبله أو يخلق حتى يخلق أبوه والناس تظهر لهم الحكمة في كثير من تفاصيل الأمور التي يتدبرونها كما تظهر لهم الحكمة في ملوحة ماء العين وعذوبة ماء الفم ومرارة
(5/287)
ماء الأذن وملوحة ماء البحر وذلك يدلهم على الحكمة فيما لم يعلموا حكمته فإن من رأى إنسانا بارعا في النحو أو الطب أو الحساب أو الفقه وعلم أنه أعلم منه بذلك إذا أشكل عليه بعض كلامه فلم يفهمه سلم ذلك إليه فرب العالمين الذي بهرت العول حكمته ورحمته الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأرحم بعباده من الوالدة بولدها كيف لا يجب على العبد أن يسلم ما جهله من حكمته إلى ما علمه منها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على المختلفين في الكتاب الذين يرد كل منهم قول الآخر وفي كلام كل منهم حق وباطل وقد ذكرنا مثالين مثالا في الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ومثالا في الشرع والقدر ونذكر مثالا ثالثا في القرآن فإن الأئمة والسلف اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق بل هو الذي تكلم به بقدرته ومشيئته لم يقل أحد منهم إنه مخلوق ولا إنه قديم وصار المختلفون بعدهم على يقولون قوم يقول هو مخلوق خلقه الله في غيره والله لا يقوم به كلام ويقولون الكلام صفة فعل لا صفة ذات ومرادهم بالفعل ما كان منفصلا عن الفاعل غير قائم به وهذا لا يعقل أصلا ولا يعرف متكلم لا يقوم به كلامه
(5/288)
وقوم يقولون بل هو قديم لم يزل قائما بالذات أزلا وأبدا لا يتكلم لا بقدرته ولا مشيئته ولم يزل نداؤه لموسى أزليا وكذلك قوله يا إبراهيم يا موسى يا عيسى ثم صار هؤلاء حزبين حزبا عرفوا أن ما كان قديما لم يزل يمتنع أن يكون حروفا أو حروفا وأصواتا فإن الحروف متعاقبة الباء قبل السين والصوت لا يبقى بل يكون شيئا بعد شيء كالحركة فيمتنع أن يكون الصوت الذي سمعه موسى قديما لم يزل ولا يزال فقالوا كلامه معنى واحد قائم بذاته هو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي عنه والخبر بكل ما أخبر به إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وأن ذلك المعنى هو أمر بكل ما أمر به وهو نهي عن كل ما نهى عنه وهو خبر بكل ما أخبر به وكونه أمرا ونهيا وخبرا صفات له إضافية مثل قولنا زيد أب وعم وخال ليست أنواعا له ولا ينقسم الكلام إلى هذا وهذا قالوا والله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرانية ولا بالإنجيل السريانية ولا سمع موسى ولا غيره منه بأذنه صوتا ولكن القرآن العربي خلقه الله في غيره أو أحدثه جبريل أو محمد ليعبر به عما يراد إفهامه من ذلك المعنى الواحد
(5/289)
فقال لهم جمهور الناس هذا القول مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول فإنا نعلم بالإضطرار أن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين ولا معنى قل هو الله أحد هو معنى تبت يدا أبي لهب وقد عرب الناس التوراة فوجودا فيها معاني ليست هي المعاني التي في القرآن ونحن نعلم قطعا أن المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق ونحو ذلك لم ينزلها الله على موسى ابن عمران كما لم ينزل على محمد تحريم السبت ولا الأمر بقتال عباد العجل فكيف يكون كل كلام الله معنى واحدا ونحن نعلم بالاضطرار أن الكلام معانيه وحروفه تنقسم إلى خبر وإنشاء والإنشاء منه الطلب والطلب ينقسم إلى أمر ونهي وحقيقة الطلب غير حقيقة الخبر فكيف لا تكون هذه أقسام الكلام وأنواعه بل هو موصوف بها كلها وأيضا فالله تعالى يخبر أنه لما أتى موسى الشجرة ناداه فناداه في ذلك الوقت لم يناده في الأزل وكذلك قال ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم (سورة الأعراف). وقال إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (سورة آل عمران). وقال وإذ قال ربك للملائكة (سورة البقرة). إلى مواضع كثيرة من
(5/290)
القرآن تبين أنه تكلم بالكلام المذكور في ذلك الوقت فكيف يكون أزليا أبديا ما زال ولا يزال وكيف يكون لم يزل ولا يزال قائلا يا نوح اهبط بسلام منا (سورة هود). يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي (سورة آل عمران). يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا (سورة طـــه). يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا (سورة المزمل). آية وقال هؤلاء هذا القرآن العربي ليس هو كلام الله وقال هؤلاء كلام الله لا يتعدد ولا يتبعض فقال لهم الناس موسى لما كلمه الله أفهمه كلامه كله أو بعضه إن قلتم كله فقد صار موسى يعلم علم الله وإن قلتم بعضه فقد تبعض وهو عندكم واحد لا يتبعض وكذلك هذا القرآن العربي هو عندكم ليس كلام الله ولكنه عبارة عنه أفهو عبارة عن كله فهذا ممتنع أم عن بعضه فهذا ممتنع أيضا إلى كلام آخر يطول ذكره هنا وقال الحزب الثاني لما رأوا فساد هذا القول بل نقول إن القرآن قديم وإنه حروف أو حروف وأصوات وإن هذا القرآن العربي كلام الله كما دل على ذلك القرآن والسنة وإجماع المسلمين وفي القرآن مواضع كثيرة تبين أن هذا المنزل هو القرآن وهو كلام الله وأنه عربي وأخذوا يشنعون على أولئك إنكارهم أن يكون هذا كلام الله فإن
(5/291)
أولئك أثبتوا قرآنين قرآنا قديما وقرآنا مخلوقا فأخذ هؤلاء يشنعون على أولئك بإثبات قرآنين فقال لهم أولئك فأنتم إذا جعلتم القرآن العربي وهو قديم كلام الله لزم أن يكون مخلوقا وكنتم موافقين للمعتزلة فإن قولكم إن القرآن العربي قديم ممتنع في صرائح العقول ولم يقل ذلك أحد من السلف ونحن وجميع الطوائف ننكر عليكم هذا القول ونقول إنكم ابتدعتموه وخالفتم به المعقول والمنقول وإلا فكيف تكون السين المعينة المسبوقة بالباء المعينة قديمة أزلية وتكون الحروف المتعاقبة قديمة والصوت الذي كان في هذا الوقت قديما ولم يقل هذا أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم وإن كان بعض المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقولونه ويقوله ابن سالم وأصحابه وطائفة من أهل الكلام والحديث فليس في هؤلاء أحد من السلف وإن كان الشهرستاني ذكر في نهاية الإقدام أن هذا قول السلف والحنابلة فليس هو قول السلف ولا قول أحمد بن حنبل ولا أصحابه القدماء ولا جمهورهم فصار كثير من هؤلاء الموافقين للسالمية وأولئك الموافقين للكلابية بينهم منازعات ومخاصمات بل وفتن وأصل ذلك قولهم جميعا إن
(5/292)
القرآن قديم وهي أيضا بدعة لم يقلها أحد من السلف وإنما السلف كانوا يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وكان قولهم أولا إنه كلام الله كافيا عندهم فإما ما كان كلاما لمتكلم لا يجوز أن يكون منفصلا عنه فإن هذا مخالف للمعقول والمنقول في الكلام وفي جميع الصفات يمتنع أن يوصف الموصوف بصفة لا تكون قط قائمة به بل لا تكون إلا بائنة عنه وما يزعمه الجهمية والمعتزلة من أن كلامه وإرادته ومحبته وكراهته ورضاه وغضبه وغير ذلك كل ذلك مخلوقات له منفصلة عنه هو مما أنكره السلف عليهم وجمهور الخلف بل قالوا إن هذا من الكفر الذي يتضمن تكذيب الرسول وجحود ما يستحقه الله من صفاته وكلام السلف في رد هذا القول بل وإطلاق الكفر عليه كثير منتشر وكذلك لم يقل السلف إن غضبه على فرعون وقومه قديم ولا أن فرحه بتوبة التائب قديم وكذلك سائر ما وصف به نفسه من الجزاء لعباده على الطاعة والمعصية من رضاه وغضبه لم يقل أحد منهم إنه قديم فإن الخزاء لا يكون قبل العملوالقرآن صريح بأن أعمالهم كانت سببا لذلك كقوله فلما آسفونا انتقمنا منهم (سورة الزخرف). وقوله ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (سورة محمد). وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله (سورة آل عمران). وأمثال ذلك بل قد ثبت في الصحيحين من حديث الشفاعة أن كلا من الرسل يقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في إثر سماء كانت من الليل فلما انفتل من صلاته قال أتدرون ماذا قال ربكم الليلة قلنا الله ورسوله أعلم قال فإنه قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فمن قال مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ومن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب
(5/293)
وفي الصحيح الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه وفي القرآن والحديث من هذا ما يطول ذكره وقد بسطنا هذا في كتاب درء تعارض العقل والنقل وغيره وقد أخبر الله تعالى في القرآن بندائه لعباده في أكثر من عشرة مواضع والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة وسائر الناس والله أخبر أنه نادى موسى حين جاء الشجرة فقال فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين (سورة النمل). فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك (سورة طـــه). فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة (سورة القصص). وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين (سورة الشعراء). وناديناه من جانب الطور الأيمن (سورة مريم). هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى سورة النازعات وما كنت بجانب الطور إذ نادينا (سورة القصص). ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (سورة القصص).في موضعين ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (سورة القصص). وناداهما ربهما (سورة الأعراف). فمن قال إنه لم يزل مناديا من الأزل إلى الأبد فقد خالف القرآن والعقل ومن قال إنه بنفسه لم يناد ولكن خلق نداء في شجرة أو غيرها لزم أن تكون الشجرة هي القائلة إني أنا الله وليس هذا كقول الناس نادى الأمير إذ أمر مناديا فإن المنادي عن الأمير يقول أمر الأمير بكذا ورسم السلطان بكذا لا يقول أنا أمرتكم ولو قال ذلك لأهانه الناس والمنادي قال لموسى إنني أنا الله لا إله إلا انا فاعبدني (سورة طـــه). إني أنا الله رب العالمين (سورة القصص). وهذا لا يجوز أن يقوله ملك إلا إذا بلغه عن الله كما نقرأ نحن القرآن والملك إذا أمره الله بالنداء قال كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه ثم ينادي جبريل في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فجبريل إذا(5/294)
نادى في السماء قال إن الله يحب فلانا فأحبوه والله إذا نادى جبريل يقول يا جبريل إني أحب فلانا ولهذا لما نادت الملائكة زكريا قال تعالى فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى (سورة آل عمران). وقال وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (سورة آل عمران). ولا يجوز قط لمخلوق أن يقول إني أنا الله رب العالمين ولا يقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له والله تعالى إذا خلق صفة في محل كان المحل متصفا بها فإذا خلق في محل علما أو قدرة أو حياة أو حركة أو لونا أو سمعا أو بصرا كان ذلك المحل هو العالم به القادر المتحرك الحي المتلون السميع البصير فإن الرب لا يتصف بما يخلقه في مخلوقاته وإنما يتصف بصفاته القائمة به بل كل موصوف لا يوصف إلا بما يقوم به لا بما يقوم بغيره ولم يقم به فلو كان النداء مخلوقا في الشجرة لكانت هي القائلة إني أنا الله وإذا كان ما خلقه الرب في غيره كلاما له وليس له كلام إلا ما خلقه لزم أن يكون إنطاقه لأعضاء الإنسان يوم القيامة كلاما له وتسبيح الحصى كلاما له وتسليم الحجر على الرسول كلاما له بل يلزم أن يكون كل كلام في الوجود كلامه لأنه قد ثبت أنه خالق كل شيء
(5/295)
وهكذا طرد قول الحلولية الإتحادية كابن عربي فإنه قال وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ولهذا قال سليمان بن داود الهاشمي من قال إن قوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني (سورة طـــه). مخلوق فقوله من جنس قول فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات فإن هذا مخلوق وهذا مخلوق يقول إن هذا يوجد أن يكون ما خلق فيه هذا القول هو القائل له كما كان فرعون هو القائل لما قام به قالوا وقولهم إن الكلام صفة فعل فيه تلبيس فيقال لهم أتريدون به أنه مفعول منفصل عن المتكلم أم تريدون به أنه قائم به فإن قلتم بالأول فهو باطل فلا يعرف قط متكلم بكلام وكلامه مستلزم كونه منفصلا عنه والفعل أيضا لابد أن لا يكون قائما بالفاعل كما قال السلف والأكثرون وإنما المفعول هو الذي يكون بائنا عنه
(5/296)
والمخلوق المنفصل عن الرب ليس هو خلقه إياه بل خلقه للسموات والأرض ليس هو نفس السموات والأرض والذين قالوا الخلق هو المخلوق فروا من أمور ظنوها محذورة وكان ما فروا إليه شرا مما فروا منه فإنهم قالوا لو كان الخلق غير المخلوق لكان إما قديما وإما حادثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق وإن كان حادثا فلا بد له من خلق آخر فيلزم التسلسل فقال لهم الناس بل هذا منقوض على أصلكم فإنكم تقولون إنه يريد بإرادة قديمة والمرادات كلها حادثة فإن كان هذا جائزا فلماذا لا يجوز أن يكون الخلق قديما والمخلوق حادثا وإن كان هذا غير جائز بل الإرادة تقارن المراد لزم جواز قيام الحوادث به وحينئذ فيجوز أن يقوم به خلق مقارن للمخلوق فلزم فساد قولكم على التقديرين وكذلك إذا قيل إن الخلق حادث فلم قلتم إنه محتاج إلى خلق آخر فإنكم تقولون المخلوقات كلها حادثة ولا تحتاج إلى خلق حادث فلم لا يجوز أن تكون مخلوقة بخلق حادث وهو لا يحتاج إلى خلق آخر ومعلوم أن حدوثها بخلق حادث أقرب إلى العقول من حدوثها كلها بلا خلق أصلا فإن كان كل حادث يفتقر إلى خلق بطل قولكم وإن
(5/297)
كان فيها مالا يفتقر إلى خلق جاز أن يكون الخلق نفسه لا يفتقر إلى خلق آخر وهذه المواضع مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود التمثيل بكلام المختلفين في الكتاب الذين في قول كل واحد منهم حق وباطل وأن الصواب ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان والناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان وطريق شرعي فالطريق الشرعي هو النظر فيما جاء به الرسول والإستدلال بأدلته والعمل بموجبها فلا بد من علم بما جاء به وعمل به لا يكفي أحدهما وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها كما ضرب الله في القرآن من كل مثل وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته وأما الطريقان المبتدعان فأحدهما طريق أهل الكلام البدعي والرأي البدعي فإن هذا فيه باطل كثير وكثير من أهله يفرطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد عمل وهؤلاء منحرفون إلى اليهودية الباطلة والثاني طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية وهؤلاء
(5/298)
منحرفون إلى النصرانية الباطلة فإن هؤلاء يقولون إذا صفى الإنسان نفسه على الوجه الذي يذكرونه فاضت عليه العلوم بلا تعلم وكثير من هؤلاء تكون عبادته مبتدعة بل مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيبقون في فساد من جهة العمل وفساد من نقص العلم حيث لم يعرفوا ما جاء به الرسول وكثير ما يقع من هؤلاء وهؤلاء وتقدح كل طائفة في الأخرى وينتحل كل منهم اتباع الرسول والرسول ليس ما جاء به موافقا لما قال هؤلاء ولا هؤلاء ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (سورة آل عمران). وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه على طريقة أهل البدع من أهل الكلام والرأي ولا على طريقة أهل البدع من أهل العبادة والتصوف بل كان على ما بعثه الله من الكتاب والحكمة وكثير من أهل النظر يزعمون أنه بمجرد النظر يحصل العلم بلا عبادة ولا دين ولا تزكية للنفس وكثير من أهل الإرادة يزعمون أن طريق الرياضة بمجرده تحصل المعارف بلا تعلم ولا نظر ولا تدبر للقرآن والحديث
(5/299)
وكلا الفريقين غالط بل لتزكية النفس والعمل بالعلم وتقوى الله تأثير عظيم في حصول العلم لكن مجرد العمل لا يفيد ذلك إلا بنظر وتدبر وفهم لما بعث الله به الرسول ولو تعبد الإنسان ما عسى أن يتعبد لم يعرف ما خص الله به محمدا صلى الله عليه وسلم إن لم يعرف ذلك من جهته وكذلك لو نظر واستدل ماذا عسى أن ينظر لم يحصل له المطلوب إلا بالتعلم من جهته ولا يحصل التعلم المطابق النافع إلا مع العمل به وإلا فقد قال الله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم (سورة الصف). وقال وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة سورة الآنعام وقال تعالى وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم (سورة النساء). وقال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون سورة المطففين وقال أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون (سورة الأعراف). وقال ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما (سورة النساء).
(5/300)
وقال قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (سورة المائدة). وقال هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين (سورة آل عمران). وقال ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (سورة البقرة). وكذلك لو جاع وسهر وخلا وصمت وفعل ماذا عسى أن يفعل لا يكون مهتديا إن لم يتعبد بالعبادات الشرعية وإن لم يتلق علم الغيب من جهة الرسول قال تعالى لأفضل الخلق الذي كان أزكى الناس نفسا وأكملهم عقلا قبل الوحي وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا (سورة الشورى). وقال قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلي ربي إنه سميع قريب (سورة سبأ). وقال فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (سورة طـــه). وقال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيظ له شيطانا فهو له
(5/301)
قرين (سورة الزخرف). أي عن الذكر الذي أنزلته قال المفسرون يعش عنه فلا يلتفت إلى كلامه ولا يخاف عقابه ومنه قوله وهذا ذكر مبارك أنزلناه (سورة الأنبياء). وقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث (سورة الأنبياء). وشاهده في الآية الأخرى ومن أعرض عن ذكري (سورة طـــه). ثم قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (سورة طـــه). فكل من عشا عن القرآن فإنه يقيض له شيطان يضله ولو تعبد بما تعبد ويعش روى عن ابن عباس يعمى وكذلك قال عطاء وابن زيد ابن أسلم وكذلك أبو عبيدة قال تظلم عينه واختاره ابن قتيبة ورجحه على قول من قال يعرض والعشا ضعف في البصر ولهذا قيل فيه يعش وقالت طائفة يعرض وهو رواية الضحاك عن ابن عباس وقاله قتادة واختاره الفراء والزجاج وهذا صحيح من جهة المعنى فإن قوله يعش ضمن معنى يعرض ولهذا عدى بحرف الجار عن كما يقال أنت أعمى عن محاسن فلان إذا أعرضت فلم تنظر إليها فقوله يعش أي يكن أعشى عنها وهو دون العمى فلم ينظر إليها إلا نظرا ضعيفا
(5/302)
وهذا حال أهل الضلال الذين لم ينتفعوا بالقرآن فإنهم لا ينظرون فيه كما ينظرون في كلام سلفهم لأنهم يحسبون أنه لا يحصل المقصود وهم الذين عشوا عنه فقيضت لهم الشياطين تقترن بهم وتصدهم عن السبيل وهم يحسبون أنهم مهتدون ولهذا لا تجد في كلام من لم يتبع الكتاب والسنة بيان الحق علما وعملا أبدا لكثرة ما في كلامه من وساوس الشياطين وحدثني غير مرة رجل وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي وهو من أكابر أهل الكلام والنظر دروسا من المحصل لابن الخطيب وأشياء من إشارات ابن سينا قال فرأيت حالي قد تغير وكان له نور وهدى ورؤيت له منامات سيئة فرآه صاحب النسخة بحال سيئة فقص عليه الرؤيا فقال هي من كتابك وإشارات ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا بخلاف المحصل يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود قال فبكيت عليه محصل في أصول الدين حاصله من بعد تحصيله أصل بلا دين أصل الضلالات والشك المبين فما فيه فأكثره وحي الشياطين قلت وقد سئلت أن أكتب على المحصل ما يعرف به الحق فيما
(5/303)
ذكره فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه وكذلك تكلمت على ما في الإشارات في مواضع أخر والمقصود هنا التنبيه على الجمل فما في المحصل وسائر كتب الكلام المختلف أهله كتب الرازي وأمثاله من الكلابية ومن حذا حذوهم وكتب المعتزلة والشيعة والفلاسفة ونحو هؤلاء لا يوجد فيها ما بعث الله به رسله في أصول الدين بل يوجد فيها حق ملبوس بباطل ويكفيك نفس مسألة خلق الرب مخلوقاته لا تجد فيها إلا قول القدرية والجهمية والدهرية إما العلة التي تثبتها الفلاسفة الدهرية أو القادر الذي تثبته المعتزلة والجهمية ثم إن كان من الكلابية أثبت تلك الإرادة الكلابية ومن عرف حقائق هذه الأقوال تبين له أنها مع مخالفتها للكتاب والسنة وإجماع السلف مخالفة لصرائح العقول وكذلك قولهم في النبوات فالمتفلسفة تثبت النبوة على أصلهمالفاسد أنها قوة قدسية تختص بها بعض النفوس لكونها أقوى نيلا للعلم وأقوى تأثيرا في العالم وأقوى تخيلا لما تعقله في صور متخيلة وأصواب متخيلة وهذه الثلاثة هي عندهم خاصة النبي ومن اتصف بها فهو نبي القوة القدسية العلمية والتأثير في الهيولي وما يتخيله في نفسه من أصوات هي كلام الله ومن صور هي عندهم ملائكة الله ومعلوم عند من اعتبر العالم أن هذا القدر يوجد بكثير من آحاد الناس وأكثر الناس لهم نصيب من هذه الثلاثة ولهذا طمع كثير من هؤلاء في أن يصير نبيا ولهذا قال هؤلاء إن النبوة مكتسبة وإنما قالوا هنا لأنهم لم يثبتوا الله علما بالجزئيات ولا قدرة ولا كلاما يتكلم به تنزل به ملائكته ثم إن الجهمية والمعتزلة يردون عليهم تارة ردا مقاربا وتارة ردا ضعيفا لكونهم جعلوا صانع العالم يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح وجعلوا القادر المختار يرجح بل مرجح وزعم أكثرهم أنه مع وجود القدرة والداعي التام لا يجب وجود الفعل ففزعوا من الموجب بالذات ولفظ الموجب بالذات مجمل فالذي ادعته المتفلسفة باطل
(5/304)
فإنهم أثبتوا موجبا بذات مجردة عن الصفات يستلزم مفعولاته حتى لا يتأخر عنه شيء وأثبتوا له من الوحدة ما يضمنونه نفي صفاته وأفعاله القائمة به وقالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد والواحد الذي ادعوه لا حقيقة له إلا في الأذهان لا في الأعيان والكلام على مذاهبهم وابطالها مبسوط في موضع آخر وقد بينا أنهم أكثر الناس تناقضا واضطرابا وأن دعواهم أنه علة موجبة للمعلول أزلا وأبدا فاسدة من وجوه كثيرة وأما إذا قيل هو موجب بالذات بمعنى أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما يريد أن يفعله فهذا هو الفاعل بقدرته ومشيئته فتسمية المسمى له موجبا بذاته نزاع لفظي وأكثر الجهمية والقدرية لا يقولون إنه بقدرته ومشيئته يلزم وجود مقدوروه بل قد يحصل وقد لا يحصل فيرجح إن حصل بلا مرجح وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر والمقصود هنا أن الجهمية تثبت نبوة لا تستلزم فصل صاحبها ولا كماله ولا اختصاصه قط بشيء من صفات الكمال بل يجوز أن يجعل من هو من أجهل الناس نبيا ثم الجهمية المحضة عندهم يخلق الله كلاما في غيره فينزل به الملك وأما الكلابية فعندهم النبوة تعلق المعنى القائم بالذات بالنبي بمعنى أنت عبدي ورسولي فيقولون في النبوة من جنس ما قالوه في
(5/305)
أحكام أفعال العباد إنه ليس للحكم معنى إلا تعلق المعنى القائم بالذات به والمعنى القائم بالذات المتعلق به لا يثبتون في الإيمان والتقوى والأعمال الصالحة خاصة تميزت به عن السيئات حتى أمر بها لأجلها وكذلك في النبوة والمعتزلة ومن وافقهم يثبتون لله شريعة بالقياس على عبادة فيوجبون عليه من جنس ما يجب عليهم ويحرمون عليه من جنس ما يحرم عليهم ولا يجعلون أمره ونهيه وحبه وبغضه ورضاه وسخطه له ثأثير في الأعمال بل صفاتها ثابتة بدون الخطاب والخطاب مجرد كاشف بمنزلة الذي يخبر عن الشمس والقمر والكواكب بما هي متصفة به والله سبحانه قد أخبر أنه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس والإصطفاء افتعال من التصفية كما أن الإختيار افتعال من الخيرة فيختار من يكون مصطفى وقد قال الله أعلم حيث يجعل رسالته (سورة الأنعام). فهو أعلم بمن يجعله رسولا ممن لم يجعله رسولا ولو كان كل الناس يصلح للرسالة لامتنع هذا وهو عالم بتعيين الرسول وأنه أحق من غيره بالرسالة كما دل القرآن على ذلك وقد قالت خديجة رضي الله عنها لما فجأ الوحي النبيصلى الله عليه وسلم وخاف من ذلك فقالت له كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وكانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أعقل وأعلم من الجهمية حيث رأت أن من جعله الله على هذه الأخلاق الشريفة المتضمنة لعدله وإحسانه لا يخزيه الله فإن حكمة الرب تأبى ذلك وهؤلاء عندهم هذا لا يعلم بل قد يخزي من يكون كذلك وقد ينبأ شر الناس كأبي جهل وغيره ولهذا أنكر المازري وغيره على خديجة كما أنكروا على هرقل استدلاله بما استدل به في حديث أبي سفيان المشهور لما سأل عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم
(5/306)
والله سبحانه إذا اتخذ رسولا فضله بصفات أخرى لم تكون موجودة فيه قبل إرساله كما كان يظهر لكل من رأى موسى وعيسى ومحمد من أحوالهم وصفاتهم بعد النبوة وتلك الصفات غير الوحي الذي ينزل عليهم فلا يقال إن النبوة مجرد صفة إضافية كأحكام الأفعال كما تقوله الجهمية ولهذا لما صار كثير من أهل النظر كالرازي وأمثاله ليس عندهم إلا قول الجهمية والقدرية والفلاسفة تجدهم في تفسير القرآن وفي سائر كتبهم يذكرون أقوالا كثيرة متعددة كلها باطلة لا يذكرون الحق مثل تفسيره للهلال وقد قال تعالى يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج (سورة البقرة). فذكر قول أهل الحساب فيه وجعله من أقوال الفلاسفة وذكر قول الجهمية الذين يقولون إن القادر المختار يحدث فيه الضوء بلا سبب أصلا ولا لحكمة وكذلك إذا تكلم في المطر يذكر قول أولئك الذين يجعلونه حاصلا عن مجرد البخار المتصاعد والمنعقد في الجو وقول من يقول إنه أحدثه الفاعل المختار بلا سبب ويذكر قول من يقول إنه نزل منالأفلاك وقد يرجح هذا القول في تفسيره ويجزم بفساده في موضع آخر وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين بل سائر أهل العلم من المسلمين من السلف والخلف يقولون إن المطر نزل من السحاب ولفظ السماء في اللغة والقرآن اسم لكل ما علا فهو اسم جنس للعالي لا يتعين في شيء إلا بما يضاف إلى ذلك وقد قال فليمدد بسبب إلى السماء (سورة الحج). وقال أنزل الله من السماء ماء (سورة الأنعام). وقال أمتم من في السماء سورة تبارك والمراد بالجميع العلو ثم يتعين هنا بالسقف ونحوه وهنا بالسحاب وهناك بما فوق العالم كله فقوله أنزل من السماء ماء (سورة الأنعام). أي من العلو مع قطع النظر عن جسم معين لكن قد صرح في موضع آخر بنزوله من السحاب كما قي قوله أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (سورة الواقعة). والمزن السحاب
(5/307)
وقوله ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله (سورة النور). والودق المطر وقال تعالى الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله (سورة الروم). فأخبر سبحانه أنه يبسط السحاب في السماء وهذا مما يبين أنه لم يرد بالسماء هنا الأفلاك فإن السحاب لا يبسط في الأفلاك بل الناس يشاهدون السحاب يبسط في الجو وقد يكون الرجل في موضع عال إما على جبل أو على غيره والسحاب يبسط أسفل منه وينزل منه المطر والشمس فوقه والرازي لا يثبت على قول واحد بل هو دائما ينصر هنا قولا وهناك ما يناقضه لأسباب تقتضي ذلك وكثير من الناس يفهمون من القرآن ما لا يدل عليه وهو معنى فاسد ويجعلون ذلك يعارض العقل وقد بينا في مصنف مفرد درء تعارض العقل والنقل وذكرنا فيه عامة ما يذكرون من العقليات في معارضة الكتاب والسنة وبينا أن التعارض لا يقع إلا إذا كان ما سمى معقولا فاسدا وهذا هو الغالب على كلام أهل البدع أو أن يكون ما أضيف
(5/308)
إلى الشرع ليس منه إما حديث موضوع وإما فهم فاسد من نص لا يدل عليه وإما نقل إجماع باطل ومن هذا كثير من الناس ذم الأحكام النجومية ولا ريب أنها مذمومة بالشرع مع العقل وأن الخطأ فيها أضعاف الصواب وأن من اعتمد عليها في تصرفاته وأعرض عما أمر الله به ورسوله خسر الدنيا والآخرة لكن قد يردونها على طريقة الجهمية ونحوهم بأن يدعوا أنه لا أثر لشيء من العلويات في السفليات أصلا إما على طريقة الجهمية لكن تلك لا تنفي العادات الإقترانية وإن لم تثبت سببا ومسببا وحكمة وإما بناء على نفي العادة في ذلك ثم قد ينازعون في استدارة الأفلاك ويدعون شكلا آخر وقد بينا في جواب المسائل التي سئلت عنها في ذلك أن الأفلاك مستديرة عند علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان كما ثبت ذلك عنهم بالأسانيد المذكورة في موضعها بل قد نقل إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من علماء المسلمين الذين هم من أخبر الناس بالمنقولات كأبي الحسين بن المنادى أحد أكابر الطبقة الثانية منأصحاب الإمام أحمد وله نحو أربعمائة مصنف وأبي محمد بن حزم الأندلسي وأبي الفرج بن الجوزي وقد دل ذلك على الكتاب والسنة كما قد بسط في الإحاطة وغيرها وكذلك المطر معروف عند السلف والخلف بأن الله تعالى يخلقه من الهواء ومن البخار المتصاعد لكن خلقه للمطر من هذا كخلق الإنسان من نطفة وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى فهذا معرفة بالمادة التي خلق منها ونفس المادة لا توجب ما خلق منها باتفاق العقلاء بل لا بد مما به يخلق تلك الصورة على ذلك الوجه وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم الذي يخلق المطر على قدر معلوم وقت الحاجة إليه والبلد الجرز يسوق إليه الماء من حيث أمطر كما قال أو
(5/309)
لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجزر فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون (سورة السجدة). فالأرض الجرز لا تمطر ما يكفيها كأرض مصر لو أمطرت المطر المعتاد لم يكفها فإنها أرض إبليز وإن أمطرت كثيرا مثل مطر شهر خربت المساكن فكان من حكمة الباري ورحمته أن أمطر مطرا أرضا بعيدة ثم ساق ذلك الماء إلى أرض مصر فهذه الآيات يستدل بها على علم الخالق وقدرته ومشيئته وحكمته وإثبات المادة التي خلق منها المطر والشجر والإنسان والحيوان مما يدل على حكمته ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق إلا من مادة وكذلك كون كسوف الشمس وغيره سببا لبعض الحوادث هو مما دلت عليه النصوص الصحيحة ففي الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولالحياته ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وقد ثبت عنه في الصحاح أنه صلى صلاة الكسوف بركوع زائد في كل ركعة وأنه طولها تطويلا لم يطوله في شيء من صلوات الجماعات وأمر عند الكسوف بالصلاة والذكر والدعاء والعتاقة والصدقة والإستغفار وقوله يخوف الله بهما عباده كقوله تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (سورة الإسراء). ولهذا كانت الصلوات مشروعة عند الآيات عموما مثل تناثر الكواكب والزلزلة وغير ذلك والتخويف إنما يكون بما هو سبب للشر المخوف كالزلزلة والريح العاصف وإلا فما وجوده كعدمه لا يحصل به تخويف فعلم أن الكسوف سبب للشر ثم قد يكون عنه شر ثم القول فيه كالقول في سائر الأسباب هل هو سبب كما عليه جمهور الأمة أو هو مجرد اقتران عادة كما يقوله الجهمية وهو صلى الله عليه وسلم أخبر عند أسباب الشر بما يدفعها من
(5/310)
العبادات التي تقوي ما انعقد سببه من الخير وتدفع أو تضعف ما انعقد سببه من الشر كما قال إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض والفلاسفة تعترف بهذا لكن هل ذلك بناء على أن الله يدفع ذلك بقدرته وحكمته أو بناء على أن القوى النفسانية تؤثر هذا مبني على أصولهم في هذا الباب ويحكى عن بطليموس أنه قال ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات وعنأبقراط أنه قال واعلم أن طبنا بالنسبة إلى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة إلى طبنا فالقوم كانوا معترفين بما وراء القوى الطبيعية والفلكية وليس ذلك مجرد القوى النفسانية كما يقوله ابن سينا وطائفة بل ملائكة ملء العالم العلوي والسفلي والجن أيضا لا يحصى عددهم إلا الله والله قد وكل الملائكة بتدبير هذا العالم بمشيئته وقدرته كما دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وكما يستدل على ذلك أيضا بأدلة عقلية والملائكة أحياء ناطقون ليسوا أعراضا قائمة بغيرها كما يزعمه كثير من المتفلسفة ولا هي مجرد العقول العشرة والنفوس التسعة بل هذه باطلة بأدلة كثيرة
(5/311)
وما يثبتونه من المجردات المفارقات لا يحصل معهم منه غير النفس الناطقة فإنها تفارق بدنها وما سوى ذلك فلا يثبت معهم على طريقهم إلا المجردات المعقولة في الأذهان وهي الكليات المعقولة ولكنهم يظنون ثبوت ذلك في الخارج كما يظن شيعة أفلاطون ثبوت المثل الأفلاطونية في الخارج فتثبت كليات قديمة أزلية أبدية مفارقة كإنسان كلي وهذا هو غلطهم حيث ظنوا ما هو في الأذهان موجودا في الأعيان وكذلك ما يثبتونه من الجواهر العقلية وهي أربعة العقل والنفس والمادة والصورة وطائفة منهم كشيعة أفلاطون تثبت جوهرا عقليا هو الدهر وجوهرا عقليا هو الخير وتثبت جوهرا عقليا هو المادة الأولى المعارضة للصورة وكل هذه العقليات التي يثبتونها إذا حققت غاية التحقيق تبين أنها أمور معقولة في النفس فيتصورها في نفسه فهي معقولات في قلبه وهي مجردة عن جزئياتها الموجودة في الخارج فإن العقل دائما ينتزع من الأعيان المعينة المشهودة كليات مشتركة عقلية كما يتصور زيدا وعمرا وبكرا ثم يتصور إنسانا مشتركا كليا ينطبق على زيد وعمر وبكر
(5/312)
ولكن هذا المشترك إنما هو في قلبه وذهنه يعقله بقلبه ليس في الخارج إنسان مشترك كلي يشترك فيه هذا وهذا بل كل إنسان يختص بذاته وصفاته لا يشاركه غيره في شيء مما قام به قط وإذا قيل الإنسانية مشتركة أو الحيوانية فالمراد أن في هذا حيوانية وإنسانية تشابه ما في هذا من الحيوانية والإنسانية ويشتركان في مسمى الإنسانية والحيوانية وذلك المسمى إذا أخذ مشتركا كليا لم يكن إلا في الذهن وهو تارة يوجد مطلقا بشرط الإطلاق فلا يكون إلا في الذهن عند عامة العقلاء إلا من أثبت المثل الأفلاطونية في الخارج وتارة يوجد مطلقا لا بشرط الإطلاق بحيث يتناول المعينات وهذا قد يقال إنه موجود في الخارج وهو موجود في الخارج معينا مقيدا مخصوصا فيقال هذا الإنسان وهذا الحيوان وهذا الفرس وأما وجوده في الخارج مع كونه مشتركا في الخارج فهذا باطل ولهذا كان من المعروف عندهم أن الكليات ثابتة في الأذهان لا في الأعيان ومن قال إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج فمعناه الصحيح أن ما هو كلي إذا كان في الذهن يوجد في الخارج لكن لا يوجد في الخارج كليا وهذا كما يقال ما يتصوره الذهن قد يوجد في
(5/313)
الخارج وقد لا يوجد ولا يراد بذلك أن نفس الصورة الذهنية تكون بعينها في الخارج ولكن يراد به أن ما يتصور في الذهن قد يوجد في الخارج كما يوجد أمثاله في الخارج كما يتصور الإنسان دارا يبنيها وعملا يعمله ويقول الرجل لغيره جئت بما كان في نفسي وفعلت هذا كما كان في نفسي وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه زورت في نفسي مقالة فجاء أبو بكر في بديهته بأحسن منها وهذا كله معروف عند الناس فإن الشيء له وجود في نفسه وله مثال مطابق له في العلم ولفظ يدل على ذلك المثال العلمي وخط يطابق ذلك اللفظ ويقال له وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان ووجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي كالشمس الموجودة والكعبة الموجودة ثم إذا رأى الإنسان الشمس يمثلها في نفسه ثم يقول بلسانه شمس وكعبة ثم يكتب بخطه شمس وكعبة فإذا كتب وقيل هذه الشمس التي في السماء وهذه الكعبة التي يصلي إليها المسلمون لم يرد بذلك أن الخط هو الشمس والكعبة ولكن المعنى معروف كما إذا قال يا زيد فالمنادي لا ينادي الصوت وإذا قال ضربت
(5/314)
زيدا لم يرد أنه ضرب الحروف لكن قد عرف أنه إذا أطلق الأسماء المراد مسمياتها التي جعلت الأسماء دالة عليها وإذا كتبت الأسماء فالمراد بالخط ما يراد باللفظ فإذا قيل لما في الورقة هذه الكعبة من الحجاز فالمراد المسمى بالإسم اللفظي الذي طابقه الخط ومثل هذا كثير يعرفه كل أحد فإذا قيل لما في النفس ليس بعينه هو الموجود في الخارج فهو بهذا الإعتبار أي ما تصورته في النفس موجود في الخارج لكن يطابقه مطابقة المعلوم للعلم فإذا قيل الكلي الطبيعي في الخارج فهو بهذا الإعتبار أي يوجد في الخارج ما يطابقه الكلي الطبيعي فإنه المطلق لا بشرط فيطابق المعينات بخلاف المطلق بشرط الإطلاق فإن هذا لا يطابق المعينات وأما أن يقال إن في الخارج أمرا كليا مشتركا فيه بعينه هو في هذا المعين وهذا المعين فهذا باطل قطعا وإن كان قد قاله طائفة وأثبتوا ماهيات مجردة في الخارج عن المعينات وقالوا إن تلك الماهية غشيتها غواش غريبة وإن أسباب الماهية غير أسباب الوجود وهذا قد بسط الكلام عليه في الكلام على المنطق وعلى الإشارات وغير ذلك وبين أن الذي لا ريب فيه أن ما يتصور في الأذهان ليس هو الموجود في
(5/315)
الأعيان فمن عني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فهو مصيب في قوله الوجود مغاير للماهية وأما إذا عني بالماهية ما في الخارج وبالوجود ما في الخارج وبالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الذهن وإدعى أن في الذهن شيئين وأن في الخارج شيئين وجود وماهية فهذا يتخيل خيالا لا حقيقه له وبهذا التفصيل يزول الإشتباه الحاصل في هذا الموضع ولفظ الماهية مأخود من قول السائل ما هو وما هو سؤال عما يتصوره المسؤل ليجيب عنه وتلك هي الماهية للشيء في نفسه والمعنى المدلول عليه باللفظ لا بد أن يكون مطابقا للفظ فتكون دلالة اللفظ عليه بالمطابقة ودلالة اللفظ على بعض ذلك المعنى بالتضمن ودلالته على لازم ذلك المعنى بالإلتزام وليست دلالة المطابقة دلالة اللفظ على ما وضع له كما يظنه بعض الناس ولا دلالة التضمن استعمال اللفظ في جزء معناه ولا دلالة الإلتزام استعمال اللفظ في لازم معناه بل يجب الفرق بين ما وضع له اللفظ وبين ما عناه المتكلم باللفظ وبين ما يحمل المستمع عليه اللفظ فالمتكلم إذا استعمل اللفظ في
(5/316)
معنى فذلك المعنى هو الذي عناه باللفظ وسمي معنى لأنه عني به أي قصد وأريد بذلك فهو مراد المتكلم ومقصوده بلفظه ثم قد يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له وهو الحقيقة وقد يكون مستعملا في غير ما وضع له وهو المجاز وقد يكون المجاز من باب استعمال لفظ الجميع في البعض ومن باب استعمال الملزوم في اللازم وقد يكون في غير ذلك وذلك كله دلالة اللفظ على مجموع المعنى وهي دلالة المطابقة سواء كانت الدلالة حقيقة أو مجازية أو غير ذلك ثم ذلك المعنى المدلول عليه اللفظ إذا كان له جزء فدلالة اللفظ عليه تضمن لأن اللفظ تضمن ذلك الجزء ودلالته على لازم ذلك المعنى هي دلالة الملزوم وكل لفظ استعمل في معنى فدلالته عليه مطابقة لأن اللفظ طابق المعنى بأي لغة كان سواء سمي ذلك حقيقة أو مجازا فالماهية التي يعنيها المتكلم بلفظه دلالة لفظه عليها دلالة مطابقة ودلالته على ما دخل فيها دلالة تضمن ودلالته على ما يلزمها وهو خارج عنها دلالة الإلتزام
(5/317)
فإذا قيل الصفات الذاتية الداخلة في الماهية والخارجة عن الماهية وعني بالداخل ما دل عليه اللفظ بالتضمن وبالخارج ما دل عليه بالالتزام فهذا صحيح وهذا الدخول والخروج هو بحسب ما تصوره المتكلم فمن تصور حيوانا ناطقا فقال إنسان كانت دلالته على المجموع مطابقة وعلى أحدهما تضمن وعلى اللازم مثل كونه ضاحكا التزام وإذا تصور إنسانا ضاحكا كانت دلالة إنسان على المجموع مطابقة وعلى أحدهما تضمن وعلى اللازم مثل كونه ناطقا التزام وأما أن تكون الصفات اللازمة للموصوف في الخارج بعضها داخل في حقيقته وماهيته وبعضها خارج عن حقيقته وماهيته والداخل هو الذاتي والخارج ينقسم إلى لازم للماهية والوجود وإلى لازم للوجود دون الماهية فهذا كله مما قد بسط الكلام عليه في مواضع وبينا ما في المنطق اليوناني من الأغاليط التي بعضها من معلمهم الأول وبعضها من تغيير المتأخرين وتكلمنا على ما ذكره أئمتهم في ذلك واحدا واحدا كابن سيناوأبي البركات وغيرهما وأنه يوجد من كلامهم أنفسهم ومن رد بعضهم على بعض ما يبين أن ما ذكروه من تقسيم الصفات اللازمة للموصوف إلى هذه الأقسام الثلاثة تقسيم باطل إلا إذا جعل ذلك باعتبار ما في الذهن من الماهية لا باعتبار ماهية موجودة في الخارج وكذلك ما فرعوه على هذا من أن الإنسان مركب من الجنس والفصل فإن هذا التركيب ذهني لا حقيقة له في الخارج وتركبه من الحيوان والناطق من جنس تركبه من الحيوان والضاحك إذا جعل كل من الصفتين لازما ملزوما وأريد الضاحك بالقوة والناطق بالقوة وأما إذا قيل في الخارج الإنسان مركب من هذا وهذا فإن أريد به أن الإنسان موصوف بهذا وهذا فهذا صحيح وكذلك إذا فرق بين الصفات اللازمة للإنسان التي لا يكون إنسانا إلا بها كالحيوانية والناطقية والضاحكية وبين ما يعرض لبعض الناس كالسواد والبياض والعربية والعجمية فهذا صحيح أما إذا قيل هو مركب من صفاته اللازمة له وهي أجزاء له وهي(5/318)
متقدمة عليه تقدما ذاتيا فإن الجزء قبل الكل والمفرد قبل المركب وأريد بذلك التركيب في الخارج فهذا كله تخليط فإن الصفة تابعة للموصوف فكيف تكون متقدمة عليه بوجه من الوجوه وإذا قيل هو مركب من الحيوانية والناطقية أو من الحيوان والناطق فإن أريد أنه مركب من جوهرين قائمين بأنفسهما لزم أن يكون في كل موصوف جواهر كثيرة بعدد صفاته فيكون في الإنسان جوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك بالإرادة وجوهر هو ناطق ومعلوم أن هذا خطأ بل الإنسان جوهر قائم بنفسه موصوف بهذه الصفات فيقال جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق وإن أريد به أنه مركب من عرضين فالإنسان جوهر والجوهر لا يتركب من أعراض لاحقة له فضلا عن أن تكون سابقة له متقدمة عليه وهذا كله قد بسطناه في مواضع وإنما كان المقصود هنا أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما يغلطون في جعل الأمور الذهنية المعقولة في النفس فيجعلون ذلك بعينه أمورا موجودة في الخارج فأصحاب فيثاغورس القائلون بالأعداد المجردة في الخارج من هنا كان غلطهم وأصحابأفلاطون الذي أثبتوا المثل الأفلاطونية من هنا كان غلطهم وأصحاب صاحبه أرسطو الذين أثبتوا جواهر معقولة مجردة في الخارج مقارنة للجواهر الموجودة المحسوسة كالمادة والصورة والماهية الزائدة على الوجود في الخارج من هنا كان غلطهم وهم إذا أثبتوا هذه الماهية قيل لهم أهي في الذهن أم في الخارج ففي أيهما أثبتوها ظهر غلطهم وإذا قالوا نثبتها مطلقة مع قطع النظر
(5/319)
عن هذا وهذا أو أعم من هذا وهذا قيل عدم نظر الناظر لا يغير الحقائق عما هي عليه في نفس الأمر إما في الذهن وإما في الخارج وما كان أعم منها فهو أيضا في الذهن فإنك إذا قدرت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج لم تكن مقدرا إلا في الذهن ومعنى ذلك أن هذا التقدير في الذهن لا أن الماهية التي قيل عنها ليست في الذهن هي في الذهن بل الماهية التي تصورها الإنسان في ذهنه يمكنه تقديرها ليست في ذهنه مع أن تقديرها ليست في ذهنه هو في ذهنه وإن كان تقديرا ممتنعا بل يجب الفرق بين الماهية المقيدة بكونها في الذهن وبين الماهية المطلقة التي لا تتقدر بذهن ولا خارج مع العلم بأن هذه الماهية المطلقة لا تكون أيضا إلا في الذهن وإن أعرض الذهن عن كونها في الذهن فكونها في الذهن شيء والعلم بكونها في الذهن شيء آخر وهؤلاء يتصورون أشياء ويقدرونها وذلك لا يكون إلا في الذهن لكن حال ما يتصور الإنسان شيئا في ذهنه ويقدره قد لا يشعر بكونه في الذهن كمن رأى الشيء في الخارج فاشتغل بالمرئي عن كونه رائيا له وهذا يشبه ما يسميه بعضهم الفناء الذي يفنى بمذكوره عن ذكره
(5/320)
وبمحبوبه عن محبته وبمعبوده عن عبادته ونحو ذلك كما يقدر الشيء بخلاف ما هو عليه كما إذا قدر أن الجبل من ياقوت والبحر من زئبق فتقدير الأمور على خلاف ما هي عليه هو تقدير اعتقادات باطلة والإعتقادات الباطلة لا تكون إلا في الأذهان فمن قدر ماهية لا في الذهن ولا في الخارج فهو مثل من قدر موجودا لا واجبا ولا ممكنا ولا قديما ولا محدثا ولا قائما بنفسه ولا قائما بغيره وهذا التقدير في الذهن وقد بسطنا الكلام على ذلك لما بينا فساد احتجاج كثير من أهل النظر بالتقديرات الذهنية على الإمكانات الخارجية كما يقوله الرازي وغيره إنا يمكننا أن نقول الموجود إما داخل العالم وإما خارج العالم وإما لا داخل العالم ولا خارجه وكل موجود إما مباين لغيره وإما محايث له وإما لا مباين ولامحايث فهذا يدل على إمكان القسم الثالث وكذلك إذا قلنا الموجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز وإما لا متحيز ولا قائم بالمتحيز وهذا يدل على إمكان القسم الثالث وهذا غلط فإن هذا كقول القائل الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما لا قائم بنفسه ولا بغيره فدل على إمكان القسم الثالث فإن هذا غلط
(5/321)
وكذلك إذا قيل إما قديم وإما محدث وإما لا قديم ولا محدث وإما واجب وإما ممكن وإما لا واجب ولا ممكن وكذلك ما أشبه هذا ودخل الغلط على هؤلاء حيث ظنوا أن مجرد تقدير الذهن وفرضه يقتضي إمكان ذلك في الخارج وليس كذلك بل الذهن يفرض أمورا ممتنعة لا يجوز وجودها في الخارج ولا تكون تلك التقديرات إلا في الذهن لا في الخارج وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ولكن المقصود هنا ذكر ما اختلف فيه الناس من جهة الذم والعقاب وبينا أن الحال يرجع إلى أصلين أحدهما أن كل ما تنازع فيه الناس هل يمكن كل أحد اجتهاد يعرف به الحق أم الناس ينقسمون إلى قادر على ذلك وغير قادر والأصل الثاني المجتهد العاجز عن معرفة الصواب هل يعاقبه الله أم لا يعاقب من اتقى الله ما استطاع وعجز عن معرفة بعض الصواب وإذا عرف هذان الأصلان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ما يطعن به فيهم أكثره كذب والصدق منه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ والخطأ مغفور والذنب له أسباب متعددة توجب المغفرة ولا يمكن أحد أن يقطع بأن واحدا منهم فعل من الذنوب ما يوجب النارلا محالة وكثير مما يطعن به على أحدهم يكون من محاسنه وفضائله فهذا جواب مجمل ثم نحن نتكلم على ما ذكرته الرافضة من المطاعن على وجه التفصيل كما ذكره أفضل الرافضة في زمنه صاحب هذا الكتاب لما ذكر أن الكلبي صنف كتابا في المثالب قال الرافضي وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة ونحن نذكر منها شيئا يسيرا منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي وإن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه
(5/322)
والجواب أن يقال هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق رضي الله عنه وأدلها على أنه لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا فلم يكن طالب رياسة ولا كان ظالما وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها وإن زغت عنها فقوموني كما قال أيضا أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم والشيطان الذي يعتريه يعترى جميع بني آدم فإنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قيل وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير وفي الصحيح عنه قال لما مر به بعض الأنصار وهو يتحدث معصفية ليلا قال على رسلكما إنها صفية بنت حيي ثم قال إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئا إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ومقصود الصديق بذلك إني لست معصوما كالرسول صلى الله عليه وسلم وهذا حق وقول القائل كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية كلام جاهل بحقيقة الإمامة فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته حتى يستغني عنهم ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا فلا بد له من إعانتهم ولا بد لهم من إعانته كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق إن سلك بهم الطريق اتبعوه وإن أخطأ عن الطريق نبهوه وأرشدوه وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم علي دفعه لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم
(5/323)
وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلوا بصلاته وإن سها سبحوا به فقوموه إذا زاغ وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه وإن غلط قوموه والناس بعدالرسول لا يتعلمون الدين من الإمام بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة بل قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية(سورة النساء). فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعا لطاعة الرسول ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف وقال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه
(5/324)
وقول القائل كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه وارد في كل متعاونين ومتشاركين يحتاج كل منهما إلى الاخر حتى الشركاء في التجارات والصناعات وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة فإن المأمومين يحتاجون إليه وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقومونه ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتبعوه فيها ونظائره متعددة ثم يقال استعانة علي برغيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك وكانوا إذا أمرهم أطاعوه وعلي رضى الله عنه لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن ثم رأى أن يبعن فقال له قاضيه عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وكان يقول اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي وكانت رعيته كثيرة المعصية له وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي
(5/325)
يخالفهم فيه ثم يتبين له أن الصواب كان معهم كما أشار عليه الحسن بأمور مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة وأن لا يخرج إلى الكوفة وأن لا يقاتل بصفين وأشار عليه أن لا يعزل معاوية وغير ذلك من الأمور وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعلي رضي الله عنهم فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية كانوا هم ورعيتهم أفضل وإن كان لكمال المتولي وحده فهو أبلغ في فضلهم وإن كان ذلك لفرط نقص رعية علي كان رعية علي أنقص من رعية أبي بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان ورعيته هم الذين قاتلوا معه وأقروا بإمامته ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة علي لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه وأيضا فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعلي فيلزم أن تكون رعية معاوية خيرا من رعية علي ورعية معاوية شيعة عثمان وفيهم النواصب المبغضون لعلي فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي فيلزم على كل تقدير إما أن يكون الثلاثة أفضل من علي وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي والروافض وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة فإنهم يدعون أن عليا أكمل
(5/326)
من الثلاثة وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة فضلا عن أصحاب معاوية والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعلي فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة على رأيهم أعظم اضطرابا وأقل انتظاما من الإمام الناقص والرعية الناقصة بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم ولم يكن في أصحاب علي من العلم والدين والشجاعة والكرم إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من علي فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أولى وأحرى فعلم أنهم شر وأنقص من غيرهم وهم يقولون المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة علم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيرهفصل قال الرافضي وقال أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم فإن كانت إمامته حقا كانت استقالته منها معصية وإن كانت باطلة لزم الطعن
*والجواب أن هذا كذب ليس في شيء من كتب الحديث ولا له إسناد معلوم فإنه لم يقل وعلي فيكم بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة بايعوا أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح فقال له عمر بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر كنت والله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من تأمري على قوم فيهم أبو بكر ثم لو قال وعلي فيكم لاستخلفه مكان عمر فإن أمره كان مطاعا
(5/327)
وأما قوله إن كانت إمامته حقا كانت استقالته منها معصية فيقال إن ثبت أنه قال ذلك فإن كونها حقا إما بمعنى كونها جائزة والجائز يجوز تركه وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولوا غيره ولم يقيلوه وأما إذا أقالواه وولوا غيره لم تكن واجبة عليه والإنسان قد يعقد بيعا أو إجارة ويكون العقد حقا ثم يطلب الإقالة وهو لتواضعه وثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة وإن لم يكن هناك من هو أحق بها منه وتواضع الإنسان لا يسقط حقه.
*فصل قال الرافضي وقال عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل، فيلزم تطرق الطعن إلى عمر. وإن كانت باطلة لزم الطعن عليهما معا.
*والجواب أن لفظ الحديث سيأتي قال فيه فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن وقي الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ومعناه أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار لكونهكان متعينا لهذا الأمر كما قال عمر ليس فيكم من تقطع إليه الاعناق مثل أبي بكر وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم له على سائر الصحابة أمرا ظهرا معلوما فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريث بخلاف غيره فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والإنتظار والتريث فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك وهذا قد جاء مفسرا في حديث عمر هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم وقد رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال كنت اقرىء رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إلى عبد الرحمن بن عوف(5/328)
فقال لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت فغضب عمر ثم قال إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمورهم فقال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول مقالتك متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها فقال عمر أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلت بالرواح حين زاغت
(5/329)
الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف فأنكر علي وقال ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتابالله إن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر لبايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل
(5/330)
أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا لا عليكم أن لا تقربوهم أقضوا أمركم فقلت والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا هذا سعد بن عبادة فقلت ما له قالوا يوعكفلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحصنونا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب
(5/331)
نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن فقال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الإختلاف فقلت ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة قال عمر وإنا واللهما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فساد فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا قال مالك وأخبرني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما عويمر بن ساعدة ومعن بن عدي وهما ممن شهد بدرا قال ابن شهاب وأخبرني سعيد بن المسيب أن
(5/332)
الذي قال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب الحباب بن المنذر وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبوبكر بالسنح فقام عمر يقول والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقال عمر والله ما كان يقع في قلبي إلا ذاك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن رسول صلى الله عليه وسلم فقبله فقال بأبي وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج فقال أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبوبكر وأثنى عليه وقال ألا من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال الله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون
(5/333)
(سورة الزمر). وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل أنقلبتم على أعاقبكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله سشيئا شيئا وسيجزي الله الشاكرين (سورة آل عمران). قال فنشج الناس يبكون واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول والله ما أردت بذلك إلا أني هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال حباب ابن المنذر لا والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأعربهم أحسابا فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس فقال قائل قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله وفي صحيح البخاري عن عائشة في هذه القصة قالت ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس وإن فيهم
(5/334)
لنفاقا فردهم الله بذلك ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم قال كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم فإن يكن محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به به هدى الله محمدا وإن إبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين وإنه أولى المسلمين بأموركم فقوموا فبايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قيل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر وعنه قال سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ اصعد المنبر فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامةوفي طريق أخرى لهذه الخطبة أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
*فصل قال الرافضي وقال أبو بكر عند موته، ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق. وهذا يدل على أنه في شك من إمامته ولم تقع صوابا.
*والجواب أن هذا كذب على أبي بكر رضي الله عنه وهو لم يذكر له إسنادا ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل فلا بد أن يذكر إسنادا تقوم به الحجة فكيف بمن يطعن في السابقين الأولين بمجرد حكاية لا إسناد لها ثم يقال هذا يقدح فيما تدعونه من النص على علي فإنه لو كان قد نص عل علي لم يكن للأنصار فيه حق ولم يكن في ذلك شك.(5/335)
*فصل قال الرافضي: وقال عند احتضاره ليت أمي لم تلدني يا ليتني كنت تبنة في لبنة. مع أنهم قد نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار.
*والجواب أن تكلمه بهذا عند الموت غير معروف بل هو باطل فلا ريب.
بل الثابت عنه أنه لما احتضر وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر. فكشف عن وجهه وقال ليس كذلك ولكن قولي وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (سورة ق).
ولكن نقل عنه أنه قال في صحته ليت أمي لم تلدني ونحو هذا قاله خوفا إن صح النقل عنه ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفا وهيبة من أهوال يوم القيامة حتى قال بعضهم لو خيرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة وبين أن أصير ترابا لاخترت أن أصير ترابا.
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال والله لوددت أني شجرة تعضد. وقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء قال حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن علي الصائغ حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا السري بن يحيى قال قال عبد الله بن مسعود لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي اختر في أيهما تكون أو تكون رمادا لاخترت أن أكون رمادا وروى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا يحيي بن سعيد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال رجل عند عبد الله بن مسعود ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين أكون من المقربين أحب إلي فقال عبد الله بن مسعود لكن ها هنا رجل ود أنه إذا مات لم يبعث يعني نفسه والكلام في مثل هذا هل هو مشروع أم لا له موضع آخر لكن(5/336)
الكلام الصادر عن خوف العبد من الله يدل على إيمانه بالله وقد غفر الله لمن خافه حين أمر أهله بتحريقه وتذرية نصفه في البر ونصفه في البحر مع أنه لم يعمل خيرا قط وقال والله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه وقال ما حملك على ما صنعت قال من خشيتك يا رب فغفر له أخرجاه في الصحيحين فإذا كان مع شكه في القدرة والمعاد إذا فعل ذلك غفر له بخوفه من الله علم أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقية إذا قدر أنها ذنوب.
*فصل قال الرافضي وقال أبو بكر ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت الوزير. قال وهو يدل على أنه لم يكن صالحا يرتضي لنفسه الإمامة.
*والجواب أن هذا إن كان قاله فهو أدل دليل على أن عليا لم يكن هو الإمام وذلك إن قائل هذا إنما يقوله خوفا من الله أن يضيع حق الولاية وأنه إذا ولى غيره وكان وزيرا له كان أبرأ لذمته فلو كان علي هو الإمام لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضا وكان يكون وزيرا لظالم غيره وكان قد باع آخرته بدنيا غيره وهذا لا يفعله من يخاف الله ويطلب براءة ذمته وهذا كما لو كان الميت قد وصى بديون فاعتقد الوارث أن المستحق لها شخص فأرسلها إليه مع رسوله ثم قال يا ليتني أرسلتها مع من هو أدين منه خوفا أن يكون الرسول الأول مقصرا في الوفاء تفريطا أو خيانة وهناك شخص حاضر يدعي أنه المستحق للدين دون ذلك الغائب فلو علم الوارث أنه المستحق لكان يعطيه ولا يحتاج إلى الإرسال به إلى ذلك الغائب.(5/337)
*فصل قال الرافضي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته مرة بعد أخرى مكررا لذلك أنفذوا جيش أسامة لعن الله المتخلف عن جيش أسامة وكان الثلاثة معه ومنع أبو بكر وعمر من ذلك.
*والجواب أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة وإنما روي ذلك في عمر.
وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة وقد استخلفه يصلي بالمسلمين مدة مرضه وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الإثنين اثني عشر يوما ولم يقدم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر ولم تكن الصلاة التي صلاها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي صلى الله عليه وسلم صلاة ولا صلاتين ولا صلاة يوم ولا يومين حتى يظن ما تدعيه الرافضة من التلبيس وأن عائشة قدمته بغير أمره بل كان يصلي بهم مدة مرضه فإن الناس متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بهم في مرض موته إلا أبو بكر وعلي أنه صلى بهم عدة أيام وأقل ما قيل إنه صلى بهم سبعة عشرة صلاة صلى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة وخطب بهم يوم الجمعة(5/338)
هذا مما تواترت به الأحاديث الصحيحة ولم يزل يصلي بهم إلى فجر يوم الاثنين صلى بهم صلاة الفجر وكشف النبي صلى الله عليه وسلم الستارة فرآهم يصلون خلف أبي بكر فلما رأوه كادوا يفتنون في صلاتهم ثم أرخى الستارة وكان ذلك آخر عهدهم به وتوفي يوم الإثنين حين اشتد الضحى قريبا من الزوال وقد قيل إنه صلى به أكثر من ذلك من الجمعة التي قبل فيكون قد صلى بهم مدة مرضه كلها لكن خرج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة لما وجد خفة في نفسه فتقدم وجعل أبا بكر عن يمينه فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر وقد كشف الستارة يوم الإثنين صلاة الفجر وهم يصلون خلف أبي بكر ووجهه صلى الله عليه وسلم كأنه ورقة مصحف فسر بذلك لما رأى اجتماع الناس في الصلاة خلف أبي بكر ولم يروه بعدها وقد قيل إن آخر صلاة صلاها كانت خلف أبي بكر وقيل صلى خلفه غيرها فكيف يتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس
(5/339)
وأيضا فإنه جهز جيش أسامة قبل أن يمرض فإنه أمره على جيش عامتهم المهاجرون منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده صلى الله عليه وسلم وكانوا ثلاثة آلاف وأمره أن يغير على أهل مؤتة وعلى جانب فلسطين حيث أصيب أبوه وجعفر وابن رواحة فتجهز أسامة ابن زيد للغزو وخرج في ثقله إلى الجرف وأقام بها أياما لشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فقال اغد على بركة الله والنصر والعافية ثم أغر حيث أمرتك أن تغير قال أسامة يا رسول الله قد أصبحت ضعيفا وأرجو أن يكون الله قد عافاك فاذن لي فأمكث حتى يشفيك الله فإني إن خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي نفسي منك قرحة وأكره أن أسأل عنك الناس فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأيام فلما جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة لأنه ذو رأي ناصح للإسلام فأذن له وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب في ذلك العدو مصيبة عظيمة وغنم هو وأصحابه وقتل قاتل أبيه وردهم الله سالمين إلى المدينة
(5/340)
وإنما أنفذ جيش أسامة أبوبكر الصديق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار عليه غير واحد أن يرد الجيش خوفا عليهم فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع أبو بكر من رد الجيش وأمر بإنفاذه فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك مما أيد الله به الدين وشد به قلوب المؤمنين وأذل به الكفار والمنافقين وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصديق وإيمانه ويقينه وتدبيره ورأيه.
*فصل قال الرافضي وأيضا لم يؤل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ألبتة عملا في وقته بل ولى عليه عمرو بن العاص تارة وأسامة أخرى ولما أنفذه بسورة براءة رده بعد ثلاثة أيام بوحي من الله. وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من براءة.(5/341)
*والجواب أن هذا من أبين الكذب فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسير والحديث والفقه وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج عام تسع وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكن قبله حج في الإسلام إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة فإن مكة فتحت سنة ثمان أقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة ثم أمر أبا بكر سنة تسع للحج بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وفيها أمر أبا بكر بالمناداة في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولاية فولاية أبي بكر كانت من خصائصه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر على الحج أحد كتأمير أبي بكر ولم يستخلف على الصلاة أحدا كاستخلاف أبي بكر وكان علي من رعيته في هذه الحجة فإنه لحقه فقال أمير أو مأمور فقال علي بل مأمور وكان علي يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه ونادى علي مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر وأما ولاية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره كولاية علي(5/342)
وغيره فلم يكن لعلي ولاية إلا ولغيره مثلها بخلاف ولاية أبي بكر فإنها من خصائصه ولم يول النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه وأما قصة عمرو بن العاص فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل عمرا في سرية وهي غزوة ذات السلاسل وكانت إلى بني عذرة وهم أخوال عمرو فأمر عمرا ليكون ذلك سببا لإسلامهم للقرابة التي له منهم ثم أردفه بأبي عبيدة ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين وقال تطاوعا ولا تختلفا فلما لحق عمرا قال أصلي بأصحابي وتصلي بأصحابك قال بل أنا أصلي بكم فإنما أنت مدد لي فقال له أبو عبيدة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أطاوعك فإن عصيتني أطعتك قال فإنى أعصيك فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر فكانوا يصلون خلف عمرو مع علم كل أحد أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أفضل من عمرووكان ذلك لفضلهم وصلاحهم لأن عمرا كانت إمارته قد تقدمت لأجل ما في ذلك من تآلف قومه الذين أرسل إليهم لكونهم أقاربه ويجوز تولية المفضول لمصلحة راجحة كما أمر أسامة بن زيد ليأخذ بثأر أبيه زيد بن حارثة لما قتل في غزوة مؤتة فكيف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر على أبي بكر أحدا في شيء من الأمور بل قد علم بالنقل العام المتواتر أنه لم يكن أحد عنده أقرب إليه ولا أخص به ولا أكثر اجتماعا به ليلا و نهارا سرا وعلانية من أبي بكر
(5/343)
ولا كان أحد من الصحابة يتكلم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم قبله فيأمر فيأمر وينهى ويخطب ويفتي يوقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك راضيا بما يفعل ولم يكن ذلك تقدما بين يديه بل بإذن منه قد علمه وكان ذلك معونة للنبي صلى الله عليه وسلم وتبليغا عنه وتنفيذا لأمره لأنه كان أعلمهم بالرسول وأحبهم إلى الرسول واتبعهم له وأما قول الرافضي إنه لما أنفذه ببراءة رده بعد ثلاثة أيام فهذا من الكذب المعلوم أنه كذب فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا بكر على الحج ذهب كما أمره وأقام الحج في ذلك العام عام تسع للناس ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج وأنفذ فيه ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم فإن المشركين كانوا يحجون البيت وكانوا يطوفون بالبيت عراة وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود مطلقة فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام وكان علي بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود قالوا وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فبعث عليا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة لم يبعثه لشيء آخر ولهذا كان علي يصلي خلف
(5/344)
أبي بكر ويدفع بدفعه في الحج كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم وكان هذا بعد غزوة تبوك واستخلافه له فيها على من تركه بالمدينة وقوله له أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ثم بعد هذا أمر أبا بكر على الموسم وأردفه بعلي مأمورا عليه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان هذا مما دل على أن عليا لم يكن خليفة له إلا مدة مغيبه عن المدينة فقط ثم أمر أبا بكر عليه عام تسع ثم إنه بعد هذا بعث عليا وأبا موسى الأشعري ومعاذا إلى اليمن فرجع علي وأبو موسى إليه وهو بمكة في حجة الوداع وكل منهما قد أهل بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فأما معاذ فلم يرجع إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
*فصل قال الرافضي وقطع يسار سارق ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى.
*والجواب أن قول القائل إن أبا بكر يجهل هذا من أظهر الكذب ولو قدر أن أبا بكر كان يجيز ذلك لكان ذلك قولا سائغالأن القرآن ليس في ظاهره ما يعين اليمين لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود فاقطعوا أيمانهما وبذلك مضت السنة ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع اليسرى وأين الإسناد الثابت بذلك وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك ولا نقل أهل العلم بالإختلاف ذلك قولا مع تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه.
*فصل قال الرافضي وأحرق الفجاءة السلمي بالنار وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار.
*الجواب أن الإحراق بالنار عن علي أشهر وأظهر منه عن أبي بكر وأنه قد ثبت في الصحيح أن عليا أتى بقوم زنادقة من غلاة الشيعة فحرقهم بالنار فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه فبلغ ذلك عليا فقال ويح ابن أم الفضل ما أسقطه على الهنات. فعلي حرق جماعة بالنار فإن كان ما فعله أبو بكر منكرا ففعل علي أنكر منه وإن كان فعل علي مما لا ينكر مثله على الأئمة فأبو بكر أولى أن لا ينكر عليه.(5/345)
*فصل قال الرافضي وخفي عليه أكثر أحكام الشريعة، فلم يعرف حكم الكلالة، وقال أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان. وقضى في الجد بسبعين قضية، وهو يدل على قصوره في العلم.
*والجواب أن هذا من أعظم البهتان كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة ولم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من يقضي ويفتي إلا هو، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأحد من أصحابه منه له ولعمر، ولم يكن أحد أعظم اختصاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم منه ثم عمر.
وقد ذكر غير واحد مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني وغيره إجماع أهل العلم على أن الصديق أعلم الأمة. وهذا بين فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة، كما بين لهم موت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتهم على الإيمان، وقراءته عليهم الآية ثم بين لهم موضع دفنه، وبين لهم قتال مانعي الزكاة لما استراب فيه عمر، وبين لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة لما ظن من ظن أنها تكون في غير قريش.
وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وعلم المناسك أدق ما في العبادات ولولا سعة علمه بها لم يستعمله. وكذلك الصلاة استخلفه فيها ولولا علمه بها لم يستخلفه ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما روي فيها وعليه اعتمد الفقهاء وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسسائل من الشريعة غلط فيها وقد عرف لغيره مائل كثيرة كما بسط في موضعه وقد تنازعت الصحابة بعده في مسائل مثل الجد والإخوة ومثل(5/346)
العمرتين ومثل العول وغير ذلك من مسائل الفرائض وتنازعوا في مسألة الحرام والطلاق الثلاث بكلمة والخلية والبرية والبتة وغير ذلك من مسائل الطلاق وكذلك تنازعوا في مسائل صارت مسائل نزاع بين الأمة إلى اليوم وكان تنازعهم في خلافة عمر نزاع اجتهاد محض كل منهم يقر صاحبه على اجتهاده كتنازع الفقهاء أهل العلم والدين وأما في خلافة عثمان فقوى النزاع في بعض الأمور حتى صار يحصل كلام غليظ من بعضهم لبعض ولكن لم يقاتل بعضهم بعضا باليد ولا بسيف ولا غيره وأما في خلافة علي فتغلظ النزاع حتى تقاتلوا بالسيوفوأما في خلافة أبي بكر فلم يعلم أنه استقر بينهم نزاع في مسألة واحدة من مسائل الدين وذلك لكمال علم الصديق وعدله ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع فلم يكن يقع بينهم نزاع إلا أظهر الصديق من الحجة التي تفصل النزاع ما يزول معها النزاع وكان عامة الحجج الفاصلة للنزاع يأتي بها الصديق ابتداء وقليل من ذلك يقوله عمر أو غيره فيقره أبو بكر الصديق وهذا مما يدل على أن الصديق ورعيته أفضل من عمر ورعيته وعثمان ورعيته وعلي ورعيته فإن أبا بكر ورعيته أفضل الأئمة والأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأقوال التي خولف فيها الصديق بعد موته قوله فيها أرجح من قول من خالفه بعد موته وطرد ذلك الجد والإخوة فإن قول الصديق وجمهور الصحابة وأكابرهم أنه يسقط الإخوة وهو قول طوائف من العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي العباس بن سريج من الشافعية وأبي حفص البرمكي من الحنابلة ويذكر ذلك رواية عن أحمد والذين قالوا بتوريث الإخوة مع الجد كعلي وزيد وابن مسعود اختلفوا اختلافا معروفا وكل منهم قال قولا خالفه فيه الآخر وانفرد بقوله عن سائر الصحابة وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
(5/347)
في مصنف مفرد وبينا أن قول الصديق وجمهور الصحابة هو الصواب وهو القول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية من وجوه كثيرة ليس هذا موضع بسطها وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صديق الأمة رضي الله عنه من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع وأن من طلق ثلاثا بكلمة واحدة لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح دون من يحرم الفسخ ويلزم بالثلاث فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر دون القول المخالف لذلك ومما يدل على كمال حال الصديق وأنه أفضل من كل من ولى الأمة بل وممن ولى غيرها من الأمم بعد الأنبياء أنه من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأولين والأخرين وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال فوا بيعة الأول فالأول ومن المعلوم أنه من تولى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن
(5/348)
سياسة الأول ظهر ذلك النقص ظهورا بينا وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولى ملك بعد ملك أو قاض بعد قاض أو شيخ بعد شيخ أو غير ذلك فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصا بينا ظهر ذلك فيه وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظمها وألفها ثم الصديق تولى بعد أكمل الخلق سياسة فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه بل قاتل المرتدين حتى عاد الأمر إلى ما كان عليه وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه ثم شرع في قتال الكفار من أهل الكتاب وعلم الأمة ما خفي عليهم وقواهم لما ضعفوا وشجعهم لما جبنوا وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم وقدرتهم ودينهم وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها وهذا مما يحقق أنه أحق الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما قول الرافضي لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه فالجواب أن هذا من أعظم علمه فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر بكر وهو من لا ولد له ولا والد والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وابن معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبهأجران كرأي الصديق فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد وقد قال قيس بن عباد لعلي أرأيت مسيرك هذا ألعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته فقال بلى رأي رأيته رواه أبو داود وغيره فإذا كان مثل هذا الرأى الذي حصل به من سفك الدماء ما حصل لا يمنع صاحبه أن يكون إماما فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية فهذا كذب وليس هو قول أبي بكر ولا نقل هذا عن أبي بكر بل نقل هذا عن أبي
(5/349)
بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم ولكن نقل بعض الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضية ومع هذا هو باطل عن عمر فإنه لم يمت في خلافته سبعون جدا كل منهم كان لابن ابنه إخوة وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولا مختلفة بل هذا الاختلاف لا يحتمله كل جد في العالم فعلم أن هذا كذب وأما مذهب أبي بكر في الجد فإنه جعله أبا وهو قول بضعة عشر من الصحابة وهو مذهب كثير من الفقهاء كأبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حفص البرمكي ويذكر رواية عن أحمد كما تقدم وهو أظهر القولين في الدليل ولهذا يقال لا يعرف لأبي بكر خطأ في الفتيا بخلاف غيره من الصحابة فإن قوله في الجد أظهر القولين والذين ورثوا الإخوة مع الجد وهم علي وزيد وابن مسعود وعمر في إحدى الروايتين عنه تفرقوا في ذلك وجمهور الفقهاء على قول زيد وهو قول مالك والشافعي وأحمد فالفقهاء في الجد إما على قول أبي بكر وإما على قول زيد الذي أمضاه عمر ولم يذهب أحد من أئمة الفتيا إلى قول علي في الجد وذلك مما يبين أن الحق لا يخرج عن أبي بكر وعمر فإن زيدا قاضي عمر مع أن قول أبي بكر أرجح من قول زيد
(5/350)
وعمر كان متوقفا في الجد وقال ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا وذلك لأن الله تعالى سمى الجد أبا في غير موضع من كتابه كما قال تعالى أخرج أبويكم من الجنة (سورة الأعراف). وقوله ملة أبيكم إبراهيم (سورة الحج). وقد قال يا بني إسرائيل يا بني آدم في غير موضع وإذا كان ابن الابن ابنا كان أبو الأب أبا ولأن الجد يقوم مقام الأب في غير مورد النزاع فإنه يسقط ولد الأم كالأب ويقدم على جميع العصبات سوى البنين كالأب ويأخذ مع الولد السدس كالأب ويجمع له بين الفرض والتعصيب مع البنات كالأب وأما في العمريتين زوج وأبوين وزوجة وأبوين فإن الأم تأخذ ثلث الباقي والباقي للآب ولو كان معها جد لأخذت الثلث كله عند جمهور الصحابة والعلماء إلا ابن مسعود لأن الأم أقرب من الجد
(5/351)
وإنما الجدة نظير الجد والأم تأخذ مع الأب الثلث والجدة لا تأخذ مع الجد إلا السدس وهذا مما يقوى به الجد ولأن الإخوة مع الجد الأدنى كالأعمام مع الجد الأعلى وقد وقد اتفق المسلمون على أن الجد الأعلى يقدم على الأعمام فكذلك الجد الأدنى يقدم على الإخوة لأن نسبة الإخوة إلى الجد الأدنى كنسبة الأعمام إلى الجد الأعلى ولأن الأخوة لو كانوا لكونهم بني الأب يشاركون الجد لكان بنو الإخوة كذلك كما يقوم بنو البنين مقام آبائهم ولما كان بنو الإخوة لا يشاركون الجد كان آباؤهم الإخوة كذلك وعكسه البنون لما كان الجد يفرض له مع البنين فرض له مع بني البنين وأما الحجة التي تورى عن علي وزيد في أن الإخوة يشاركون الجد حيث شبهوا ذلك بأصل شجرة خرج منها فرع خرج منه غصنان فأخذ الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الأصل وبنهر خرج منه نهر آخر ومنه جدولان فأحدهما إلى الآخر أقرب من الجدول إلى النهر الأول فمضمون هذه الحجة أن الإخوة أقرب إلى الميت من الجد ومن تدبر أصول الشريعة علم أن حجة أبي بكر وجمهور الصحابة لا تعارضها هذه الحجة فإن هذه لو كانت صحيحة لكان بنو الأخ أولى من الجد ولكان العم أولى من جد الأب فإن نسبة الإخوة من الأب إلى
(5/352)
الجد أبي الأب كنسبة الأعمام بني الجد الأعلى إلى الجد الأعلى جد الأب فلما أجمع المسلمون على أن الجد أولى من الأعمام كان الجد الأدنى أولى من الإخوة وهذه حجة مستقلة تقتضي ترجيح الجد على الإخوة وأيضا فالقائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متعارضة متناقضة لا دليل على شيء منها كما يعرف ذلك من يعرف الفرائض فعلم أن قول أبي بكر في الجد أصح الأقوال كما أن قوله دائما أصح الأقوال.
*فصل قال الرافضي فأي نسبة له بمن قال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض قال أبو البختري رأيت عليا صعد المنبر بالكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إصبعه خاتم رسول الله صلىالله عليه وسلم فقعد على المنبر وكشف عن بطنه فقال سلوني من قبل أن تفقدوني فإنما بين الجوانح مني علم جم هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ما زقني رسول الله صلى الله عليه وسلم زقا من غير وحي إلى فوالله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الله التوراة والإنجيل فتقول صدق علي قد أفتاكم بما أنزل الله في وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون.
*والجواب أما قول علي سلوني فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلمهم العلم والدين فإن غالبهم كانوا جهالا لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر(5/353)
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والدين فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأدينها وأما الذين كان علي يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين وكان كثير منهم من شرار التابعين ولهذا كان علي رضي الله عنه يذمهم ويدعو عليهم وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرا منهم وقد جمع الناس الأقضية والفتاوي المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فوجدوا أصوبها وأدلها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثم عمر ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وجد نص يخالفها عن عمر أقل مما وجد عن علي وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم ولم يكن يعرف منهم اختلاف على عهده وعامة ما تنازعوا فيه من الأحكام كان بعد أبي بكر والحديث المذكور عن علي كذب ظاهر لا تجوز نسبة مثله إلى علي فإن عليا أعلم بالله وبدين الله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن كما قال تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب
(5/354)
سماعون لقوم آخرين لم يأتوك (سورة المائدة). إلى قوله تعالى فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (سورة المائدة). إلى قوله فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا (سورة المائدة). إلى قوله وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله من أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (سورة المائدة). وإذا كان من المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع أن الحاكم بين اليهود والنصارى لا يجوز أن يحكم بينهم إلا بما أنزل الله على محمد سواء وافق ما بأيديهم من التوراة والإنجيل أو لم يوافقه كان من نسب عليا إلى أنه يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى أو يفتيهم بذلك ويمدحه بذلك إما أن يكون من أجهل الناس بالدين وبما يمدح به صاحبه وإما أن يكون زنديقا ملحدا أراد القدح في علي بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب دون المدح والثوابفصل قال الرافضي وروى البيهقي بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب فأثبت له ما تفرق فيهم والجواب أن يقال أولا أين إسناد هذا الحديث والبيهقي يروي في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم ويقال ثانيا هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله صلى الله
(5/355)
عليه وسلم بلا ريب عند أهل العلم بالحديث ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث وإن كانوا حراصا على جمع فضائل علي كالنسائي فإنه قصد أن يجمع فضائل علي في كتاب سماه الخصائص والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله وفيها ما هو ضعيف بل موضوع ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه.
*فصل قال الرافضي قال أبو عمر الزاهد قال أبو العباس لا نعلم أحدا قال بعد نبيه سلوني من شيث إلى محمد إلا علي فسأله الأكابر أبو بكر وعمر وأشباههما حتى انقطعالسؤال ثم قال بعد هذا يا كميل ابن زياد إن ههنا العلما جما لو أصبت له حملة.
*والجواب أن هذا النقل إن صح عن ثعلب فثعلب لم يذكر له إسنادا حتى يحتج به وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه حتى يقال قد صح عنده كما إذا قال ذلك أحمد أو يحيى ابن معين أو البخاري ونحوهم بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها فكيف ثعلب وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد وعلي رضي الله عنه لم يكن يقول هذا بالمدينة لا في خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان وإنما كان يقول هذا في خلافته في الكوفة ليعلم أولئك الذين لم يكونوا يعلمون ما ينبغي لهم علمه وكان هذا لتقصيرهم في طلب العلم وكان علي رضي الله عنه يأمرهم بطلب العلم والسؤال وحديث كميل بن زياد يدل على هذا فإن كميلا من النابغين لم(5/356)
يصحبه إلا بالكوفة فدل على أنه كان يرى تقصيرا من أولئك عن كونهم حملة للعلم ولم يكن يقول هذا في المهاجرين والأنصار بل كان عظيم الثناء عليهم وأما أبو بكر فلم يسأل عليا قط عن شيء وأما عمر فكان يشاور الصحابة عثمان وعليا وعبد الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم فكان علي من أهل الشورى كعثمان وابن مسعود وغيرهما ولم يكن أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصان عليا بسؤال والمعروف أن عليا أخذ العلم عن أبي بكر كما في السنن عن علي قال كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله به ما شاء أن ينفعني وإذا حدثني غيره حديثا استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد مؤمن يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله لهفصل قال الرافضي وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حده حيث قتل مالك بن نويرة وكان مسلما وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل والجواب أن يقال أولا أن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر على الأئمة كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان على علي فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نوبرة وهو خليفة المسلمين وقد قتل مظلوما شهيدا بلا تأويل مسوغ لقتله وعلي لم يقتل قتلته وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي
(5/357)
فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعلي أولى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة وترك إنكار ما هو أعظم منها على علي فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم وكذلك إنكارهم على عثمان كونه لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان هو من هذا الباب وإذا قال القائل علي كان معذورا في ترك قتل قتلة عثمان لأن شروط الإستيفاء لم توجد إما لعدم العلم بأعيان القتلة وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة ونحو ذلك قيل فشروط الإستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة وقتل قاتل الهرمزان لوجود الشبهة في ذلك والحدود تدرأ بالشبهاتوإذا قالوا عمر أشار على أبي بكر بقتل خالد بن الوليد وعلي أشار على عثمان بقتل عبيد الله بن عمر قيل وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا على علي بقتل قتلة عثمان مع أن الذين أشاروا على أبي بكر بالقود أقام عليهم حجة سلموا لها إما لظهور الحق معه وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الإجتهاد وعلي لما لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد علم وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفين فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ ففي ذلك أولى وإن قالوا عثمان كان مباح الدم قيل لهم فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نويرة أظهر من إباحة دم عثمان بل مالك بن نويرة لا يعرف أنه كان معصوم الدم
(5/358)
ولم يثبت ذلك عندنا وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى ومن قال إن عثمان كان مباح الدم لم يمكنه أن يجعل عليا معصوم الدم ولا الحسين فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم علي والحسين وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين وشبهة قتلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قتلة علي والحسين فإن عثمان لم يقتل مسلما ولا قاتل أحدا على ولايته ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلا فإن وجب أن يقال من قتل خلقا من السلمين على ولايته إنه معصوم الدم وإنه مجتهد فيما فعله فلأن يقال عثمان معصوم الدم وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأولى والأحرى
(5/359)
ثم يقال غاية ما يقال في قصة مالك ابن نويرة إنه كان معصوم الدم وإن خالدا قتله بتأويل وهذا لا يبيح قتل خالد كما أن أسامة ابن زيد لما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله وقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله فأنكر عليه قتله ولم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة وقد روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية قوله تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا الآية (سورة النساء). نزلت في شأن مرداس رجل من غطفان بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا إلى قومه عليهم غالب الليثي ففر أصحابه ولم يفر قال إني مؤمن فصبحته الخيل فسلم عليهم فقتلوه وأخذوا غنمه فأنزل الله هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم ونهى المؤمنين عن مثل ذلك وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولا ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ومع هذا فلم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولا فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله مع قتله غير واحد من
(5/360)
المسلمين من بني جذيمة للتأويل فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك ابن نويرة بطريق الأولى والأحرى وقد تقدم ما ذكره هذا الرافضي من فعل خالد ببني جذيمة وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله فكيف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله لكن من كان متبعا لهواه أعماه عن اتباع الهدى وقوله إن عمر أشار بقتله فيقال غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالدا وكان رأي عمر فيها قتله وليس عمر بأعلم من أبي بكر لا عند السنة ولا عند الشيعة ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح فكيف يجوز أن يجعل مثل هذا عيبا لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علما ودينا وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله فهذا مما لم يعرفه ثبوته ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة هل تجب للكافر على قولين وكذلك تنازعوا هل يجب على الذمية عدة وفاة على قولين مشهورين للمسلمين بخلاف عدة الطلاق فإن تلك سببها الوطء فلا بد من براءة الرحم وأما عدة الوفاة فتجب
(5/361)
بمجرد العقد فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا فيه نزاع وكذلك إن كان دخل بها وقد حاضت بعد الدخول حيضة هذا إذا كان الكافر أصليا وأما المرتد إذا قتل أو مات على ردته ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة لأن النكاح بطل بردة الزوج وهذه الفرقة ليست طلاقا عند الشافعي وأحمد وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها كما ليس عليها عدة من الطلاق ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتدا فإذا كان لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم وفي الآخر بثلاث حيض وإن كان كافرا أصليا فليس على أمرأته عدة وفاة في أحد قوليهم وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراء لدلالته على براءة الرحم وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم وهذا مما حرمه الله ورسوله
(5/362)
*فصل قال الرافضي وخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في توريث بنت النبي صلى الله عليه وسلم ومنعها فدكا وتسمى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يستخلفه.
*والجواب أما الميراث فجميع المسلمين مع أبي بكر في ذلك ما خلا بعض الشيعة وقد تقدم الكلام في ذلك وبينا أن هذا من العلم الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن قول الرافضة باطل قطعا وكذلك ما ذكر من فدك والخلفاء بعد أبي بكر على هذا القول وأبو بكر وعمر لم يتعلقا من فدك ولا غيرها من العقار بشيء ولا أعطيا أهلهما من ذلك شيئا وقد أعطيا بني هاشم أضعاف أضعاف ذلك ثم لو احتج محتج بأن عليا كان يمنع المال ابن عباس وغيره من بني هاشم حتى أخذ ابن عباس بعض مال البصرة وذهب له لم يكن الجواب عن علي إلا بأنه إمام عادل قاصد للحق لا يتهم في ذلك وهذا الجواب هو في حق أبي بكر بطريق الأولى والأحرى وأبو بكر(5/363)
أعظم محبة لفاطمة ومراعاة لها من علي لابن عباس وابن عباس بعلي أشبه من فاطمة بأبي بكر فإن فضل أبي بكر على فاطمة أعظم من فضل علي على ابن عباس وليس تبرئة الإنسان لفاطمة من الظن والهوى بأولى من تبرئة أبي بكر فإن أبا بكر إمام لا يتصرف لنفسه بل للمسلمين والمال لم يأخذه لنفسه بل للمسلمين وفاطمة تطلب لنفسها وبالضرورة نعلم أن بعد الحاكم عن اتباع الهوى أعظم من بعد الخصم الطالب لنفسه فإن علم أبي بكر وغيره بمثل هذه القضية لكثرة مباشرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من علم فاطمة وإذا كان أبو بكر أولى بعلم مثل ذلك وأولى بالعدل فمن جعل فاطمة أعلم منه في ذلك وأعدل كان من أجهل الناس لا سيما وجميع المسلمين الذين لا غرض لهم هم مع أبي بكر في هذه المسألة فجميع أئمة الفقهاء عندهم أن الأنبياء لا يورثون مالا وكلهم يحب فاطمة ويعظم قدرها رضي الله عنها لكن لا يترك ما علموه من قول النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس ولم يأمرهم الله ورسوله أن يأخذوا دينهم من غير محمد صلى الله عليه وسلم لا عن أقاربه ولا عن غير أقاربه وإنما أمرهم الله بطاعة الرسول وأتباعهوقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال لا أفلح قوم ولوا أمرهم أمرأة فكيف يسوغ للأمة أن تعدل عما علمته من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يحكى عن فاطمة في كونها طلبت الميراث تظن أنها ترث.
*فصل وأما تسميته بخليفة رسول الله فإن المسلمين سموه بذلك فإن كان الخليفة هو المستخلف كما ادعاه هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلفه كما يقول ذلك من يقول من أهل السنة وإن كان(5/364)
الخليفة هو الذي خلف غيره وإن كان لم يستخلفه ذلك الغير كما يقوله الجمهور لم يحتج في هذا الإسم إلى الإستخلاف والإستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا الإسم يتناول كل من خلف غيره سواء استخلفه أو لم يستخلفه كقوله تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعلمون (سورة يونس). وقوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف الأرض الآية سورة الإنعام وقال ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون (سورة الزخرف). وقوله واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح (سورة الأعراف). وفي القصة الأخرى خلفاء من بعد عاد (سورة الأعراف). وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي (سورة الأعراف). فهذا استخلاف وقال تعالى وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر (سورة الفرقان). وقال إن في اختلاف الليل والنهار (سورة يونس). أي هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا فهما يتعاقبان وقال موسى عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف
(5/365)
تعملون (سورة الأعراف). وقال تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم (سورة النور). وقال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة (سورة البقرة). وقال يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض (سورة ص). فغالب هذه المواضع ليكون الثاني خليفة عن الأول وإن كان الأول لم يستخلفه وسمي الخليفة خليفة لأنه يخلف من قبله والله تعالى جعله يخلفه كما جعل الليل يخلف النهار والنهار يخلف الليل ليس المراد أنه خليفة عن الله كما ظنه بعض الناس كما قد بسطناه في موضع آخر والناس يسمون ولاة أمور المسلمين الخلفاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ومعلوم أن عثمان لم يستخلف عليا وعمر لم يستخلف واحدا معينا وكان يقول إن أستخلف فإن أبا بكر استخلف وإن لم استخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف وكان مع هذا يقول لأبي بكر يا خليفة رسول الله وكذلك خلفاء بني أمية وبني العباس كثير منهم لم يستخلفه من قبله فعلم إن الإسم عام فيمن خلف غيرهوفي الحديث إن صح وددت أني رأيت أو قال رحمة الله على خلفائي قالوا ومن خلفاؤك يا رسول الله قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس وهذا إن صح من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة في المسألة وإن لم يكن من قوله فهو يدل على أن الذي وضعه كان من عادتهم استعمال لفظ الخليفة فيمن خلف غيره وإن لم يستخلفه فإذا قام مقامه وسد مسده في بعض الأمور فهو خليفة عنه في ذلك الأمر تم بحمد الله(5/366)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب:منهاج السنة النبوية
///الجزء السادس///
*فصل قال الرافضي ومنها ما رووه عن عمر روى أبو نعيم الحافظ في كتابه حلية الأولياء أنه قال لما احتضر قال يا ليتني كنت كبشا لقومي فسمنوني ما بدا لهم ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني فجعلوا نصفي شواء ونصفي قديدا فأكلوني فأكون عذرة ولا أكون بشرا وهل هذا إلا مساو لقول الكافر يا ليتني كنت ترابا سورة النبأ قال وقال لابن عباس عند احتضاره لو أن لي ملء الأرض ذهبا ومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع وهذا مثل قوله ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب (سورة الزمر). فلينظر المنصف العاقل قول الرجلين عند احتضارهما وقول علي متى ألقى الأحبة محمدا وحزبه متى ألقاها متى يبعث أشقاها وقوله حين قتله ابن ملجم فزت ورب الكعبة.
*والجواب أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله وذلك أن ما ذكره عن علي قد نقل مثله عمن هو دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بل نقل مثله عمن يكفر علي بن أبي طالب من الخوارج كقول بلال عتيق أبي بكر عند الاحتضار وأمرأته تقول واحرباه وهو يقول واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه وكان عمر قد دعا لما عارضوه في قسمة الأرض فقال اللهم اكفني بلالا وذويه فما حال الحول وفيهم عين تطرف(6/1)
وروى أبو نعيم في الحلية حدثنا القطيعي حدثنا الحسن بن عبد الله حدثنا عامر بن سيار حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر ابن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن الحارث بن عمير قال طعن معاذ وأبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد فقال معاذ إنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم وقبض الصالحين قبلكم اللهم آت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة فما أمسى حتى طعن ابنه عبد الرحمن بكره الذي كان يكنى به وأحب الخلق إليه فرجع من المسجد فوجده مكروبا فقال يا عبد الرحمن كيف أنت قال يا أبت الحق من ربك فلا تكونن من الممترين قال وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين فأمسكه ليلة ثم دفنه من الغد وطعن معاذ فقال حين اشتد به النزع نزع الموت فنزع نزعا لم ينزعه أحد وكان كلما أفاق فتح طرفه وقال رب اخنقني خنقك فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك وكذلك قوله فزت ورب الكعبة قد قالها من هو دون علي قالها عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق لما قتل يوم بئر معونة وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع سرية قبل نجد قال العلماء بالسير طعنه جبار بن سلمى فأنفذه فقال عامر فزت والله فقال جبار ما قوله فزت والله قال عروة بن الزبير يرون أن الملائكة دفنته(6/2)
وشبيب الخارجي لما طعن دخل في الطعنة وجعل يقول وعجلت إليك رب لترضى وأعرف شخصا من أصحابنا لما حضرته الوفاة جعل يقول حبيبي ها قد جئتك حتى خرجت نفسه ومثل هذا كثيره وأما خوف عمر ففي صحيح البخاري عن المسور بن مخرمة قال لما طعن عمر جعل يألم فقال ابن عباس وكأنه يجزعه أي يزيل جزعه يا أمير المؤمنين ولئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم كتفارقنهم وهم عنك راضون فقال أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك من من الله من به على وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك من من الله من به علي وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه وفي صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون في حديث قتل عمر يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال الصنع قال نعم قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا الحمد لله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يدعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة وكان العباس أكثرهم رقيقا فقال إن شئت فعلت أي إن شئت قتلنا قال كذبت بعد ما تعلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول لا بأس وقائل يقول أخاف عليه فأتى بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتى بلبن فشربه فخرج من جرحه فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه(6/3)
وجاء الناس يثنون عليه وجاء رجل شاب فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت ووليت فعدلت ثم شهادة قال وددت أن ذلك كفافا لا علي ولا لي فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض فقال ردوا على الغلام قال يا ابن أخي ارفع إزارك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك يا عبد الله بن عمر انظر ما على من الدين فحسبوه فوجوده ستة وثمانين ألفا أو نحوه قال إن وفى له مال آل عمر فأد من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم وإلا فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فاد عني هذا المال انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله ابن عمر وقد جاء فقال ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت قال الحمد لله ما كان شيء أهم من ذلك فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم وقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين وذكر تمام الحديث ففي نفس الحديث أنه يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض ورعيته عنه راضون مقرون بعدله فيهم ولما مات كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل مصيبته لعظمها عندهم(6/4)
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ولم يقتل عمر رضي الله عنه رجل من المسلمين لرضا المسلمين عنه وإنما قتله كافر فارسي مجوسى وخشيته من الله لكمال علمه فإن الله تعالى يقول إنما يخشى الله من عباده العلماء (سورة فاطر). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وقرأ عليه ابن مسعود (سورة النساء). فلما بلغ إلى قوله فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (سورة النساء). قال حسبك فنظرت إلى عينيه وهما تذرفان وقد قال تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم (سورة الأحقاف). وفي صحيح مسلم أنه قال لما قتل عثمان ين مظعون قال ما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم وفي الترمذي وغيره عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله وددت أني كنت شجرة تعضد وقوله وددت أني كنت شجرة تعضد قيل إنه من قول أبي ذر لا من قول النبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون الآية (سورة المؤمنون).(6/5)
وفي الترمذي عن عائشة قالت قلت يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف فقال لا يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه وأما قول الرافضي وهل هذا إلا مساو لقول الكافر يا ليتني كنت ترابا سورة النبأ فهذا جهل منه فإن الكافر يقول ذلك يوم القيامة حين لا تقبل توبة ولا تنفع حسنة وأما من يقول ذلك في الدنيا فهذا يقوله في دار العمل على وجه الخشية لله فيثاب على خوفه من الله وقد قالت مريم يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا (سورة مريم). ولم يكن هذا كتمني الموت يوم القيامة ولا يجعل هذا كقول أهل النار كما أخبر الله عنهم بقوله ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك (سورة الزخرف). وكذلك قوله ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (سورة الزمر). فهذا إخبار عن حالهم يوم القيامة حين لا ينفع توبة ولا خشية وأما في الدنيا فالعبد إذا خاف ربه كان خوفه مما يثيبه الله عليه فمن خاف الله في الدنيا أمنه يوم القيامة ومن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الآخرة فهو كمن جعل الظلمات كالنور والظل كالحرور والأحياء كالأموات ومن تولى أمر المسلمين فعدل فيهم عدلا يشهد به عامتهم وهو في ذلك يخاف الله أن يكون ظلم فهو أفضل ممن يقول كثير من رعيته إنه ظلم وهو في نفسه آمن من العذاب مع أن كليهما من أهل الجنة والخوارج الذين كفروا عليا واعتقدوا أنه ظالم مستحق للقتل مع كونهم ضلالا مخطئين هم راضون عن عمر معظمون لسيرته وعدله وبعدل عمر يضرب المثل حتى يقال سيرة العمرين سواء كانا عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز كما هو قول أهل العلم والحديث كأحمد وغيره أو كانا أبا بكر وعمر كما تقوله طائفة من أهل اللغة كأبي عبيد وغيره فإن عمر بن الخطاب داخل في ذلك على التقديرين(6/6)
ومعلوم أن شهادة الرعية لراعيها أعظم من شهادته هو لنفسه وقد قال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (سورة البقرة). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت وجبت قالوا يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا رسول الله قال بالثناء الحسن وبالثناء السىء ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقا وغربا وكانت رعية عمر خيرا من رعية علي وكانت رعية علي جزءا من رعية عمر ومع هذا فكلهم يصفون عدله وزهده وسياسته ويعظمونه والأمة قرنا بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته ولا يعرف أن أحدا طعن في ذلك(6/7)
والرافضة لم تطعن في ذلك بل لما غلت في علي جعلت ذنب عمر كونه تولى وجعلوا يطلبون له ما يتبين به ظلمه فلم يمكنهم ذلك وأما علي رضي الله عنه فإن أهل السنة يحبونه ويتولونه ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين لكن نصف رعيته يطعنون في عدله فالخوارج يكفرونه وغير الخوارج من أهل بيته وغير أهل بيته يقولون إنه لم ينصفهم وشيعة عثمان يقولون إنه ممن ظلم عثمان وبالجملة لم يظهر لعلي من العدل مع كثرة الرعية وانتشارها ما ظهر لعمر ولا قريب منه وعمر لم يول أحدا من أقاربه وعلي ولى أقاربه كما ولى عثمان أقاربه وعمر مع هذا يخاف أن يكون ظلمهم فهو أعدل وأخوف من الله من علي فهذا مما يدل على أنه أفضل من علي وعمر مع رضا رعيته عنه يخاف أن يكون ظلمهم وعلي يشكو من رعيته وتظلمهم ويدعو عليهم ويقول إني أبغضهم ويبغضوني وسئمتهم وسئموني اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.
*فصل قال الرافضي وروى أصحاب الصحاح الستة من مسند ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرض مرض موته أئتوني بدواة وبياض أكتب لكم كتابا لا تضلون به من بعدي فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله فكثر اللغط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا عني لا ينبغي التنازع لدي فقال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات محمد ولا يموت حتى يقطع أيدي رجال(6/8)
وأرجلهم فلما نهاه أبو بكر وتلا عليه إنك ميت وإنهم ميتون (سورة الزمر). وقوله أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (سورة آل عمران). قال كأني ما سمعت هذه الآية.
*والجواب أن يقال أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله مالم يثبت لأحد غير أبي بكر ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب وفي لفظ للبخاري لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلى عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا ما أولت ذلك يا رسول الله قال الدين(6/9)
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال عمر وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر وللبخاري عن أنس قال قال عمر وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى (سورة البقرة). وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه فدخلت عليهم فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت إحدى نسائه فقالت يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن الآية (سورة التحريم). وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه فقد جاء مبينا كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد قال قالت عائشة وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك قالت عائشة واثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا وارأساه لقد همت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ويدفع الله ويأبى المؤمنون وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة قال سمعت عائشة(6/10)
وسئلت من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلف قالت أبو بكر فقيل لها ثم من بعد أبي بكر قالت عمر قيل لها ثم من بعد عمر قالت أبو عبيدة عامر بن الجراح ثم انتهت إلى هذا وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال ماله أهجر فشك في ذلك ولم يجزم بأنه هجر والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما وقد شك بشبهة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضا فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر وقول ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه وأما الشيعة القائلون بأن عليا كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصا جليا ظاهرا معروفا وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب(6/11)
وإن قيل إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أولى وأحرى وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبا ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله ولو أن عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر ثم تبين له أو شك في بعض الأمور فليس هو أعظم ممن يفتي ويقضي بأمور ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بخلافها مجتهدا في ذلك ولا يكون قد علم حكم النبي صلى الله عليه وسلم فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه وكل هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذه به كما قضى على في الحامل المتوفى عنها زوجها أنها تعتد أبعد الأجلين مع ما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له إن أبا السنابل بن بعكك أفتى بذلك لسبيعة الأسلمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب(6/12)
أبو السنابل بل حللت فانكحى من شئت فقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذي أفتى بهذا وأبو السنابل لم يكن من أهل الاجتهاد وما كان له أن يفتي بهذا مع حضور النبي صلى الله عليه وسلم وأما علي وابن عباس رضي الله عنهما وإن كانا أفتيا بذلك لكن كان ذلك عن اجتهاد وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بلغهما قصة سبيعة وهكذا سائر أهل الاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم إذا اجتهدوا فأفتوا وقضوا وحكموا بأمر والسنة بخلافه ولم تبلغهم السنة كانوا مثابين على اجتهادهم مطيعين لله ورسوله فيما فعلوه من الاجتهاد بحسب استطاعتهم ولهم أجر على ذلك ومن اجتهد منهم وأصاب فله أجران والناس متنازعون هل يقال كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد وفصل الخطاب أنه إن أريد بالمصيب المطيع لله ورسوله فكل مجتهد أتقى الله ما استطاع فهو مطيع لله ورسوله فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وهذا عاجز عن معرفة الحق في نفس الأمر فسقط عنهوان عنى بالمصيب العالم بحكم الله في نفس الأمر فالمصيب ليس إلا واحدا فإن الحق في نفس الأمر واحد وهذا كالمجتهدين في القبلة إذا أفضى اجتهاد كل واحد منهم إلى جهة فكل منهم مطيع لله ورسوله والفرض ساقط عنه بصلاته إلى الجهة التي اعتقد أنها الكعبة ولكن العالم بالكعبة المصلى إليها في نفس الأمر واحد وهذا قد فضله الله بالعلم والقدرة على معرفة الصواب والعمل به فأجره أعظم كما أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك قضى علي رضي الله عنه في المفوضة بأن مهرها يسقط بالموت مع قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق بأن لها مهر نسائها وكذلك طلبه نكاح بنت أبي جهل حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم فرجع عن ذلك وقوله لما ندبه وفاطمة النبي صلى الله عليه وسلم الى الصلاة بالليل فاحتج بالقدر لما قال ألا تصليان فقال
(6/13)
على إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وأمثال هذا إذا لم يقدح في علي لكونه كان مجتهدا ثم رجع إلى ما تبين له من الحق فكذلك عمر لا يقدح فيه ما قاله باجتهاده مع رجوعه إلى ما تبين له من الحق والأمور التي كان ينبغي لعلي أن يرجع عنها أعظم بكثير من الأمور التي كان ينبغي لعمر أن يرجع عنها مع أن عمر قد رجع عن عامة تلك الأمور وعلي عرف رجوعه عن بعضها فقط كرجوعه عن خطبة بنت أبي جهل وأما بعضها كفتياه بأن المتوفى عنها الحامل تعتد أبعد الأجلين وأن المفوضة لا مهر لها إذا مات الزوج وقوله إن المخيرة إذا اختارت زوجها فهي واحدة مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه ولم يكن ذلك طلاقا فهذه لم يعرف إلا بقاؤه عليها حتى مات وكذلك مسائل كثيرة ذكرها الشافعي في كتاب اختلاف علي وعبد الله وذكرها محمد بن نصرالمروزي في كتاب رفع اليدين في الصلاة وأكثرها موجودة في الكتب التي يذكر فيها أقوال الصحابة إما بإسناد وإما بغير إسناد مثل مصنف عبد الرزاق وسنن سعيد بن منصور ومصنف وكيع ومصنف أبي بكر ابن أبي شيبة وسنن الأثرم ومسائل حرب وعبد الله بن أحمد وصالح وأمثالهم مثل كتاب ابن المنذر وابن جرير الطبري والطحاوي ومحمد بن نصر وابن حزم وغير هؤلاء.(6/14)
*فصل قال الرافضي ولما وعظت فاطمة أبا بكر في فدك كتب لها كتابا بها وردها عليها فخرجت من عنده فلقيها عمر بن الخطاب فحرق الكتاب فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤه به وعطل حدود الله فلم يحد المغيرة بن شعبة وكان يعطى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال أكثر مما ينبغي وكان يعطى عائشة وحفصة في كل سنة عشرة آلاف درهم وغير حكم الله في المنفيين وكان قليل المعرفة في الأحكام.
*والجواب أن هذا من الكذب الذي لا يستريب فيه عالم ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم ولا يعرف له إسناد وأبو بكر لم يكتب فدكا قط لأحد لا لفاطمة ولا غيرها ولا دعت فاطمة على عمر وما فعله أبو لؤلؤة كرامة في حق عمر رضي الله عنه وهو أعظم مما فعله ابن ملجم بعلي رضي الله عنه وما فعله قتلة الحسين رضي الله عنه به فإن أبا لؤلؤة كافر قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن وهذه الشهادة أعظم من شهادة من يقتله مسلم فإن قتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين وقتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد موت فاطمة بمدة خلافة أبي بكر وعمر إلا ستة أشهر فمن أين يعرف أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة والداعي إذا دعا على مسلم بأن يقتله كافر كان ذلك دعاء له لا عليه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بنحو ذلك كقوله يغفر الله لفلان فيقولون لو أمتعنا به وكان إذا دعا لأحد بذلك استشهد ولو قال قائل إن عليا ظلم أهل صفين والخوارج حتى دعوا عليه بما فعله ابن ملجم لم يكن هذا أبعد عن المعقول من هذا وكذلك لو قال إن آل سفيان بن حرب دعوا على الحسين بما فعل به(6/15)
وذلك أن عمر لم يكن له غرض في فدك لم يأخذها لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بل كان يقدمهم في العطاء على جميع الناس ويفضلهم في العطاء على جميع الناس حتى انه لما وضع الديوان للعطاء وكتب اسماء الناس قالوا نبدأ بك قال لا ابدأوا بأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا عمر حيث وضعه الله فبدأ ببني هاشم وضم إليهم بني المطلب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام فقدم العباس وعليا والحسن والحسين وفرض لهم أكثر مما فرض لنظرائهم من سائر القبائل وفضل أسامة بن زيد على ابنه عبد الله في العطاء فغضب ابنه وقال تفضل علي أسامة قال فإنه كان أحب إلى رسول الله منك وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيكوهذا الذي ذكرناه من تقديمه بني هاشم وتفضيله لهم أمر مشهور عند جميع العلماء بالسير لم يختلف فيه اثنان فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول وعنزته أيظلم أقرب الناس إليه وسيدة نساء أهل الجنة وهي مصابة به في يسير من المال وهو يعطى أولادها أضعاف
(6/16)
ذلك المال ويعطى من هو أبعد عن النبي صلى الله عليه وسلم منها ويعطى عليا ثم العادة الجارية بأن طلاب الملك والرياسة لا يتعرضون للنساء بل يكرمونهن لأنهن لا يصلحن للملك فكيف يجزل العطاء للرجال والمرأة يحرمها من حقها لا لغرض أصلا لا ديني ولا دنيوي وأما قول الرافضي وعطل حدود الله فلم يحد المغيرة بن شعبة فالجواب أن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة وأن البينة إذا لم تكمل حد الشهود ومن قال بالقول الآخر لم ينازع في أن هذه مسألة اجتهاد وقد تقدم أن ما يرد على علي بتعطيل إقامة القصاص والحدود على قتلة عثمان أعظم فإن كان القادح في علي مبطلا فالقادح في عمر أولى بالبطلان والذي فعله بالمغيرة كان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وأقروه على ذلك وعلي منهم والدليل على إقرار علي له أنه لما جلد الثلاثة الحد أعاد أبو بكرة القذف وقال والله لقد زنى فهم عمر بجلده ثانيا فقال له علي إن كنت جالده فارجم المغيرة يعني أن هذا القول إن كان هو الأول فقد حد عليه وإن جعلته بمنزلة قول ثان فقدتم النصاب أربعة فيجب رجمة فلم يحده عمر وهذا دليل على رضا علي بحدهم أولا دون الحد الثاني وإلا كان أنكر حدهم أولا كما أنكر الثاني وكان من هو دون علي يراجع عمر ويحتج عليه بالكتاب والسنة فيرجع عمر إلى قوله فإن عمر كان وقافا عند كتاب الله تعالى روى البخاري عن ابن عباس قال قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر كهولا كانوا أو شبانا فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه فقال سأستأذن لك عليه قال ابن عباس فاستأذن الحر لعيينة فأذن
(6/17)
له عمر فلما دخل عليه قال هيه يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (سورة الأعراف). وإن هذا من الجاهلين فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان عمر وقافا عند كتاب الله وعمر رضي الله عنه من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذ في الله لومة لائم حتى أنه أقام على ابنه الحد لما شرب بمصر بعد أن كان عمرو ابن العاص ضربه الحد لكن كان ضربه سرا في البيت وكان الناس يضربون علانية فبعث عمرو إلى عمر يزجره ويتهدده لكونه حابي ابنه ثم طلبه فضربه مرة ثانية فقال له عبد الرحمن ما لك هذا فزجر عبد الرحمن وما روى أنه ضربه بعد الموت فكذب على عمر وضرب الميت لا يجوز وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم أكثر من أن تذكر هناوأي غرض كان لعمر في المغيرة بن شعبة وكان عمر عند المسلمين كالميزان العادل الذي لا يميل إلى ذا الجانب ولا ذا الجانب وقوله وكان يعطى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال أكثر مما ينبغي وكان يعطى عائشة وحفصة من المال في كل سنة عشرة آلاف درهم فالجواب أما حفصة فكان ينقصها من العطاء لكونها ابنته كما نقص عبد الله بن عمر وهذا من كمال احتياطه في العدل وخوفه مقام ربه ونهيه نفسه عن الهوى وهو كان يرى التفضيل في العطاء بالفضل فيعطى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مما يعطى غيرهن من النساء كما كان يعطى بني هاشم من آل أبي طالب وأل العباس أكثر مما يعطى أعدادهم من سائر القبائل فإذا فضل شخصا كان لأجل اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم أو لسابقته واستحقاقه وكان يقول
(6/18)
ليس أحد أحق بهذا المال من أحد وإنما هو الرجل وغناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وسابقته والرجل وحاجته فما كان يعطى من يتهم على إعطائه بمحاباة في صداقة أو قرابة بل كان ينقص ابنه وابنته ونحوهما عن نظرائهم في العطاء وإنما كان يفضل بالأسباب الدينية المحضة ويفضل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على جميع البيوتات ويقدمهم وهذه السيرة لم يسرها بعده مثله لا عثمان ولا علي ولا غيرهما فإن قدح فيه بتفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فليقدح فيه بتفضيل رجال أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وتقديمهم على غيرهم.
*فصل وأما قوله وغير حكم الله في المنفيين ... فالجواب أن التغيير لحكم الله بما يناقض حكم الله مثل إسقاط ما أوجبه الله وتحريم ما أحله الله والنفي في الخمر كان من باب التعزير الذي يسوغ فيه الاجتهاد وذلك أن الخمر لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم حدها لا قدره ولا صفته بل جوز فيها الضرببالجريد والنعال وأطراف الثياب وعثكول النخل والضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين وضربوا ثمانين وقد ثبت في الصحيح عن علي رضي الله عنه أنه قال وكل سنة والفقهاء لهم في ذلك قولان قيل الزيادة على أربعين حد واجب كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وقيل هو تعزير للإمام أن يفعله وأن يتركه بحسب المصلحة وهذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى وهو أظهر وكان عمر رضي الله عنه يحلق في شرب الخمر وينفى أيضا وكان هذا من جنس التعزير العارض فيها وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما(6/19)
وقد تنازع العلماء هل هو منسوخ أو محكم أو هو من باب التعزير الذي يفعله الإمام إن احتاج إليه ولا يجب على ثلاثة أقوال وعلي رضي الله عنه كان يضرب في الحد فوق الأربعين وقال ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر فإنه لو مات لوديته فإن شيء فعلناه برأينا رواه الشافعي وغيره واستدل الشافعي بهذا على أن الزيادة من باب التعزير الذي يفعل بالاجتهاد ثم هذا مبنى على مسألة أخرى وهو أن أقيم عليه حد أو تعزير أو قصاص فماتمن ذلك هل يضمن اتفق العلماء على أن الواجب المقدر كالحد لا تضمن سرايته لأنه واجب عليه واختلفوا في المباح كالقصاص وفي غير المقدر كالتعزير وضرب الرجل امرأته وضرب الرائض للدابة والمؤدب للصبي على ثلاثة أقوال فقيل لا يضمن في الجميع لأنه مباح وهو قول أحمد بن حنبل ومالك فيما أظن وقيل يضمن في المباح دون الواجب الذي ليس بمقدر لأن له تركه وهو قول أبي حنيفة وقيل يضمن غير المقدر وهو قول الشافعي لأن غير المقدر يتبين أنه أخطأ إذا تلف به.(6/20)
*فصل قال الرافضي وكان قليل المعرفة بالأحكام أمر برجم حامل فقال له علي إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فأمسك وقال لولا علي لهلك عمر.
*والجواب أن هذه القصة إن كانت صحيحة فلا تخلو من أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل فأخبره علي بحملها ولا ريب أن الأصل عدم العلم والإمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل فعرفه بعض الناس بحالها كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس المغيبات ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية وإما أن يكون عمر قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم فلما ذكره علي ذكر ذلك ولهذا أمسك ولو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها ولم يرجع إلي رأي غيره وقد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما قالت إني حبلى من الزنا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اذهبي حتى تضعيه ولو قدر أنه خفى عليه علم هذه المسألة حتى عرفه لم يقدح ذلك فيه لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمة يعطى الحقوق ويقيم الحدود ويحكم بين الناس كلهم وفي زمنه انتشر الإسلام وظهر ظهورا لم يكن قبله مثله وهو دائما يقضى ويفتى ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأى عيب في ذلك(6/21)
وعلي رضي الله عنه قد خفى عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضعاف ذلك ومنها ما مات ولم يعرفه ثم يقال عمر رضي الله عنه قد بلغ من علمه وعدله ورحمته بالذرية أنه كان لا يفرض للصغير حتى يفطم ويقول يكفيه اللبن فسمع امرأة تكره ابنها على الفطام ليفرض له فأصبح فنادى في الناس أن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع وتضرر الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن إيذائهم فهذا إحسانه إلى ذرية المسلمين ولا ريب أن العقوبة إذا أمكن أن لا يتعدى بها الجاني كان ذلك هو الواجب ومع هذا فإذا كان الفساد في ترك عقوبة الجاني أعظم من الفساد في عقوبة من لم يجن دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما رمى النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بالمنجنيق مع أن المنجنيق قد يصيب النساء والصبيانوفي الصحيحين أن الصعب بن جثامة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم فقال هم منهم ولو صالت المرأة الحامل على النفوس والأموال المعصومة فلم يندفع صيالها إلا بقتلها قتلت وإن قتل جنينها فإذا قدر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظن أن إقامة الحدود من هذا الباب حتى تبين له أنه ليس من هذا الباب لم يكن هذا بأعظم من القتال يوم الجمل وصفين الذي أفضى إلى أنواع من الفساد أعظم من هذا وعلي رضي الله عنه كان مع نظره واجتهاده لا يظن أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ولو علم ذلك لما فعل ما فعل كما أخبر عن نفسه
(6/22)
*فصل قال الرافضي وأمر برجم مجنونة فقال له علي رضي الله عنه إن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق فأمسك وقال لولا على لهلك عمر.
والجواب أن هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث ورجم المجنونة لا يخلو إما أن يكون لم يعلم بجنونها فلا يقدح ذلك في علمه بالأحكام أو كان ذاهلا عن ذلك فذكر بذلك أو يظن الظان أن العقوبات لدفع الضرر في الدنيا والمجنون قد يعاقب لدفع عدوانه على غيره من العقلاء والمجانين والزنا هو من العدوان فيعاقب على ذلك حتى يتبين له أن هذا من باب حدود الله تعالى التي لا تقام إلا على المكلف والشريعة قد جاءت بعقوبة الصبيان على ترك الصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجعوالمجنون إذا صال ولم يندفع صياله إلا بقتله قتل بل البهيمة إذا صالت ولم يندفع صيالها إلا بقتلها قتلت وإن كانت مملوكة لم يكن على قاتلها ضمان للمالك عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم وأبو حنيفة يقول إنه يضمنها للمالك لأنه قتلها لمصلحته فهو كما لو قتلها في المخمصة والجمهور يقولون هناك قتلها بسبب منه لا بسبب عدوانها وهنا قتلها بسبب عدوانها ففي الجملة قتل غير المكلف كالصبي والمجنون والبهيمة لدفع عدوانهم جائز بالنص والاتفاق إلا في بعض المواضع كقتلهم في الإغارة والبيات وبالمنجنيق وقتلهم لدفع صيالهم وحديث رفع القلم عن ثلاثة إنما يدل على رفع الإثم لا يدل على منع الحد إلا بمقدمة أخرى وهو أن يقال من لا قلم عليه لا حد عليه وهذه المقدمة فيها خفاء فإن من لا قلم عليه قد يعاقب أحيانا ولا يعاقب أحيانا والفصل بينهما يحتاج إلى علم خفي ولو استكره المجنون امرأة على نفسها ولم يندفع إلا بقتله فلها قتله بل عليها ذلك بالسنة واتفاق أهل العلم(6/23)
فلو اعتقد بعض المجتهدين أن الزنا عدوان كما سماه الله تعالى عدوانا بقوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (سورة المؤمنون). فيقتل به المجنون حتى يتبين له أن هذا حد الله فلا يقام إلا بعد العلم بالتحريم والمجنون لم يعلم التحريم لم يشنع عليه في هذا إلا من شنع بأعظم منه على غيره فلو قال قائل قتال المسلمين هو عقوبة لهم فلا يعاقبون حتى يعلموا الإيجاب والتحريم وأصحاب معاوية الذين قاتلهم علي لم يكونوا يعلمون أن لهم ذنبا فلم يجز لعلي قتالهم على ما لا يعلمون أنه ذنب وإن كانوا مذنبين فإن غاية ما يقال إنهم تركوا الطاعة الواجبة لكن كثير منهم أو أكثرهم لم يكونوا يعلمون أنه يجب عليهم طاعة علي ومتابعته بل كان لهم من الشبهات والتأويلات ما يمنع علمهم بالوجوب فكيف جاز قتال من لم يعلم أنه ترك واجبا أو فعل محرما مع كونه كان معصوما لم يكن مثل هذا قدحا في إمامة علي فكيف يكون ذلك قدحا في إمامة عمر لا سيما والقتال على ترك الواجب إنما يشرع إذا كانت مفسدة القتال أقل من مفسدة ترك ذلك الواجب والمصلحة بالقتال أعظم من المصلحة بتركه
(6/24)
ولم يكن الأمر كذلك فإن القتال لم يحصل الطاعة المطلوبة بل زاد بذلك عصيان الناس لعلي حتى عصاه وخرج عليه خوارج من عسكره وقاتله كثير من أمراء جيشه وأكثرهم لم يكونوا مطيعين له مطلقا وكانوا قبل القتال أطوع له منهم بعد القتال فإن قيل علي كان مجتهدا في ذلك معتقدا أنه بالقتال يحصل الطاعة قيل فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفورا مع أنه أفضى إلى قتل ألوف من المسلمين بحيث حصل الفساد ولم يحصل المطلوب من الصلاح أفلا يكون الاجتهاد في قتل واحد لو قتل لحصل به نوع المصلحة من الزجر عن الفواحش اجتهادا مغفورا مع أن ذلك لم يقتله بل هم به وتركه وولى الأمر إلى معرفة الأحكام في السياسة العامة الكلية أحوج منه إلى معرفة الأحكام في الحدود الجزئية وعمر رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن المجنون ليس بمكلف لكن المشكل أن من ليس بمكلف هل يعاقب لدفع الفساد هذا موضع مشتبه فإن الشرع قد جاء بعقوبة غير المكلفين في دفع الفساد في غير موضع والعقل يقتضي ذلك لحصول مصلحة الناس والغلام الذي قتله الخضر قد قيل إنه
(6/25)
كان لم يبلغ الحلم وقتله لدفع صوله على أبويه بأن يرهقهما طغيانا وكفرا وقول النبي صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ إنما يقتضي رفع المأثم لا رفع الضمان باتفاق المسلمين فلو أتلفوا نفسا أو مالا ضمنوه وأما رفع العقوبة إذا سرق أحدهما أو زنى أو قطع الطريق فهذا علم بدليل منفصل بمجرد هذا الحديث ولهذا اتفق العلماء على أن المجنون والصغير الذي ليس بمميز ليس عليه عبادة بدنية كالصلاة والصيام والحج واتفقوا على وجوب الحقوق في أموالهم كالنفقات والأثمان واختلفوا في الزكاة فقالت طائفة كأبي حنيفة أنها لا تجب إلا على مكلف كالصلاة وقال الجمهور كمالك والشافعي وأحمد بل الزكاة من الحقوق المالية كالعشر وصدقة الفطر وهذا قول جمهور الصحابة فإذا كان غير المكلف قد تشتبه بعض الواجبات هل تجب في ماله أم لا فكذلك بعض العقوبات قد تشتبه هل يعاقب بها أم لا لأن من الواجبات ما يجب في ذمته بالاتفاق ومنها مالا يجب في ذمته بالاتفاق وبعضها يشتبه هل هو من هذا أو هذا
(6/26)
وكذلك العقوبات منها مالا يعاقب به بالاتفاق كالقتل على الإسلام فإن المجنون لا يقتل على الإسلام فإن المجنون لا يقتل على الإسلام ومنها ما يعاقب به كدفع صياله ومنها ما قد يشتبه ولا نزاع بين العلماء أن غير المكلف كالصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا وكذلك المجنون يضرب على ما فعله لينزجر لكن العقوبة التي فيها قتل أو قطع هي التي تسقط عن غير المكلف وهذا إنما علم بالشرع وليس هو من الأمور الظاهرة حتى يعاب من خفيت عليه حتى يعلمها وأيضا فكثير من المجانين أو أكثرهم يكون له حال إفاقة وعقل فلعل عمر ظن أنها زنت في حال عقلها وإفاقتها ولفظ المجنون يقال على من به الجنون المطبق والجنون الخانق ولهذا يقسم الفقهاء المجنون إلى هذين النوعين والجنون المطبق قليل والغالب هو الخانق وبالجملة فما ذكره من المطاعن في عمر وغيره يرجع إلى شيئين إما نقص العلم وإما نقص الدين ونحن الآن في ذكره فما ذكره من منع فاطمة ومحاباته في القسم ودرء الحد ونحو ذلك يرجع إلى أنه لم يكن
(6/27)
عادلا بل كان ظالما ومن المعلوم للخاص والعام أن عدل عمر رضي الله عنه ملأ الأفاق وصار يضرب به المثل كما قيل سيرة العمرين وأحدهما عمر بن الخطاب والآخر قيل إنه عمر بن عبد العزيز وهو قول أحمد بن حنبل وغيره من أهل العلم والحديث وقيل هو أبو بكر وعمر وهو قول أبي عبيدة وطائفة من أهل اللغة والنحو ويكفي الإنسان أن الخوارج الذين هم أشد الناس تعنتا راضون عن أبي بكر وعمر في سيرتهما وكذلك الشيعة الأولى أصحاب علي كان يقدمون عليه أبا بكر وعمر وروى ابن بطة ما ذكره الحسن بن عرفة حدثني كثير بن مروان الفلسطيني عن أنس بن سفيان عن غالب بن عبد الله العقيلي قال لما طعن عمر دخل عليه رجال منهم ابن عباس وعمر يجود بنفسه وهو يبكي فقال له ابن عباس ما يبكيك يا أميرالمؤمنين فقال له عمر أما والله ما أبكي جزعا على الدنيا ولا شوقا إليها ولكن أخاف هول المطلع قال فقال له ابن عباس فلا تبك يا أمير المؤمنين فوالله لقد أسلمت فكان إسلامك فتحا ولقدأمرت فكانت إمارتك فتحا ولقد ملأت الأرض عدلا وما من رجلين من المسلمين يكون بينهما ما يكون بين المسلمين فتذكر عندهما إلا رضيا بقولك وقنعا به قال فقال عمر أجلسوني فلما جلس قال عمر أعد على كلامك يا ابن عباس قال نعم فأعاده فقال عمر أتشهد لي بهذا عند الله يوم القيامة يا ابن عباس قال نعم يا أمير المؤمنين أنا أشهد لك بهذا عند الله وهذا علي يشهد لك وعلي بن أبي طالب جالس فقال علي بن أبي طالب نعم يا أمير المؤمنين وهؤلاء أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم وليس لهم غرض مع أحد بل يرجحون قول هذا الصاحب تارة وقول هذا الصاحب تارة بحسب ما يرونه من أدلة الشرع كسعيد بن المسيب وفقهاء المدينة مثل عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وعلي بن الحسين وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد وسالم بن عبد الله بن عمر وغير هؤلاء
(6/28)
ومن بعدهم كابن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد وأبي الزناد وربيعة ومالك بن أنس وابن أبي ذئب وعبد العزيز الماجشون وغيرهم ومثل طاووس اليماني ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وعبيد بن عمير وعكرمة مولى ابن عباس ومن بعدهم مثل عمرو بن دينار وابن جريج وابن عيينة وغيرهم من أهل مكة ومثل الحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد أبي الشعثاء ومطرف بن عبد الله بن الشخير ثم أيوب السختياني وعبد الله ابن عون وسليمان التيمي وقتادة وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وأمثالهم مثل علقمة والأسود وشريح القاضي وأمثالهم ثم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي والحكم بن عتيبة ومنصور بن المعتمر إلى سفيان الثوري وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك إلى وكيع بن الجراح وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأمثالهم ثم الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبو عبيد القاسم بن سلام والحميدي عبد الله بن الزبير وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وأبو بكر بن المنذر ومن لايحصى عددهم إلا الله من أصناف علماء المسلمين كلهم خاضعون لعدل عمر وعلمه وقد أفرد العلماء مناقب عمر فإنه لا يعرف في سير الناس كسيرته كذلك قال أبو المعالي الجويني قال ما دار الفلك على شكله قالت عائشة رضي الله عنها كان عمر أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها وكانت تقول زينوا مجالسكم بذكر عمر وقال ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة ابنة صاحب مدين إذ قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين (سورة القصص). وخديجة في النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين استخلف عمر وكل هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم يعلمون أن عدل عمر كان أتم من عدل من ولي بعده وعلمه كان أتم من علم من ولى بعده
(6/29)
وأما التفاوت بين سيرة عمر وسيرة من ولي بعده فأمر قد عرفته العامة والخاصة فإنها أعمال ظاهرة وسيرة بينة يظهر لعمر فيها من حسن النية وقصد العدل وعدم الغرض وقمع الهوى مالا يظهر من غيره ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك لأن الشيطان إنما يستطيل على الإنسان بهواه وعمر قمع هواه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمروقال إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ووافق ربه في غير واحدة نزل فيها القرآن بمثل ما قال وقال ابن عمر كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وهذا لكمال نفسه بالعلم والعدل قال الله تعالى وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا (سورة الأنعام). فالله تعالى بعث الرسل بالعلم والعدل فكل من كان أتم علما وعدلا كان أقرب إلى ما جاءت به الرسل وهذا كان في عمر أظهر منه في غيره وهذا في العمل والعدل ظاهر لكل أحد وأما العلم فيعرف برأيه وخبرته بمصالح المسلمين وما ينفعهم وما يضرهم في دينهم ودنياهم ويعرف بمسائل النزاع التي له فيها قول ولغيره فيها قول فإن صواب عمر في مسائل النزاع وموافقته للنصوص أكثر من صواب عثمان وعليولهذا كان أهل المدينة إلى قوله أميل ومذهبهم أرجح مذاهب أهل الأمصار فإنه لم يكن في مدائن الإسلام في القرون الثلاثة أهل مدينة أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم وهم متفقون على تقديم قول عمر على قول علي وأما الكوفيون فالطبقة الأولى منهم أصحاب ابن مسعود يقدمون قول عمر على قول علي وأولئك أفضل الكوفيين حتى قضاته شريح وعبيدة السلماني وأمثالهما كانوا يرجحون قول عمر وعلي على قوله وحده قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما رأيت عمر قط إلا وأنا يخيل لي أن بين عينيه ملكا يسدده وروى الشعبي عن علي قال ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال حذيفة بن اليمان كان
(6/30)
الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا فلما قتل كان كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدا وقال ابن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر وقال أيضا إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر كا ن إسلامه نصرا وإمارته فتحا وقال أيضا كان عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله وأعرفنا بالله والله لهو أبين من طريق الساعين يعنى أن هذا أمر بين يعرفه الناسوقال أيضا عبد الله بن مسعود لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح عليهم وقال أيضا لما مات عمر إني لأحسب هذا قد ذهب بتسعة أعشار العلم وإني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب مع عمر يوم أصيب وقال مجاهد إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا برأيه وقال أبو عثمان النهدي إنما كان عمر ميزانا لا يقول كذا ولا يقول كذا وهذه الآثار وأضعافها مذكورة بالأسانيد الثابتة في الكتب المصنفة في هذا الباب ليس من أحاديث الكذابين والكتب الموجودة فيها هذه الآثار المذكورة بالأسانيد الثابتة كثيرة جداقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد حدثنا قيس بن أبي حازم قال قال عبد الله بن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه قال اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب قال فغدا عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم يومئذ وفي لفظ أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك وروى النضر عن عكرمة عن ابن عباس قال لما أسلم عمر قال المشركون قد انتصف القوم منا
(6/31)
وروى أحمد بن منيع حدثنا ابن عليه حدثنا أيوب عن أبي معشر عن إبراهيم قال قال ابن مسعود كان عمر حائطا حصينا على الإسلام يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما قتل عمر انثلم الحائط فالناس اليوم يخرجون منه وروى ابن بطة بالإسناد المعروف عن الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أم أيمن قالت وهي الإسلام يوم مات عمر والثوري عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال كان الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا فلما قتل كان كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعداومن طريق الماجشون قال أخبرني عبد الواحد بن أبي عون عن القاسم بن محمد كانت عائشة رضي الله عنها تقول من رأى عمر بن الخطاب علم أنه خلق غناء للإسلام كان والله أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها وقال محمد بن إسحاق في السيرة أسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره فامتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عزوا وكان عبد الله بن مسعود يقول ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه وكذلك رواه مسندا محمد بن عبيد الطنافسى قال حدثنا إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال قال عبد الله بن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر والله لو رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر فقاتلهم حتى تركونا فصلينا
(6/32)
وقد روى من وجوه ثابتة عن مكحول عن غضيف عن أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به وفي لفظ جعل الحق على لسان عمر وقلبه أو قلبه ولسانه وهذا مروى من حديث ابن عمر وأبي هريرة وقد ثبت من غير وجه عن الشعبي عن علي قال ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر ثبت هذا عن الشعبي عن علي وهو قد رأى عليا وهو من أخبر الناس بأصحابه وحديثه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر بن الخطاب وثبت عن طارق بن شهاب قال إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكذب الكذبة فيقول احبس هذه ثم يحدثه الحديث فيقول احبس هذه فيقول كل ما حدثتك به حق إلا ما أمرتني أن أحبسهوروى ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية قال فبينا عمر يخطب في الناس فجعل يصيح على المنبر يا سارية الجبل يا سارية الجبل قال فقدم رسول الجيش فسأله فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا فإذا بصائح يا سارية الجبل يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله فقيل لعمر بن الخطاب إنك كنت تصيح بذلك على المنبر وفي الصحيحين عن عمر أنه قال وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى (سورة البقرة). وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن قال فنزلت آية الحجاب واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك وفي الصحيحين أنه لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول
(6/33)
الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه قال عمر فلما قام دنوت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي عليه وهو منافق فأنزل الله ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره (سورة التوبة). وأنزل الله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (سورة التوبة). وثبت عن قيس عن طارق بن شهاب قال كنا نتحدث أن عمر يتحدث على لسانه ملك وعن مجاهد قال كان عمر إذا رأى الرأي نزل به القرآن وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت كأن الناس عرضوا علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما هو دون ذلك وعرض على عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا فما أولته يا رسول الله قال الدين وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا نائم رأيتني أتيت بقدح فشربت منه حتى أني لا أرى الري يخرج منأظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا ما أولت ذلك يا رسول الله قال العلم وفي الصحيحين عنه قال رأيت كأني أنزع على قليب بدلو فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعة ضعف والله يغفر له ثم أخذ عمر بن الخطاب فاستحالت في يده غربا فلم أر عبقريا من الناس يفرى فريه حتى ضرب الناس بعطن وقال عبد الله بن أحمد حدثنا الحسن بن حماد حدثنا وكيع عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله بن مسعود قال لو أن علم عمر وضع في كفه ميزان ووضع علم خيار أهل الأرض في كفه لرجح عليهم بعلمه قال الأعمش فأنكرت ذلك وذكرته لإبراهيم فقال ما أنكرت من ذلك قد قال ما هو أفضل من ذلك قال إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب مع عمر بن الخطاب وروى ابن بطة بالإسناد الثابت عن ابن عيينة وحماد بن سلمة وهذا لفظه عن عبد الله بن عمير عن زيد بن وهب أن رجلا أقرأه معقل بن مقرن أبو عميرة آية وأقرأها عمر بن الخطاب آخر فسألا ابن مسعود عنها فقال لأحدهما من أقرأكها قال أبو عميرة بن معقل بن مقرن
(6/34)
وقال للآخر من أقرأكها قال عمر بن الخطاب فبكى ابن مسعود حتى كثرت دموعه ثم قال اقرأها كما أقرأكها عمر فإنه كان أقرأنا لكتاب الله وأعلمنا بدين الله ثم قال كان عمر حصنا حصينا على الإسلام يدخل في الإسلام ولا يخرج منه فلما ذهب عمر انثلم الحصن ثلمة لا يسدها أحد بعده وكان إذا سلك طريقا اتبعناه ووجدناه سهلا فإذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر فحيهلا بعمر فحيهلا بعمر وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا هشيم حدثنا العوام عن مجاهد قال إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به وروى ابن مهدي عن حماد بن زيد قال سمعت خالدا الحذاء يقول نرى أن الناسخ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وروى ابن بطة من حديث أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا عبيد بن جناد حدثنا عطاء بن مسلم عن صالح المرادي عن عبد خير قال رأيت عليا صلى العصر فصف له أهل نجران صفين فلما صلى أومأ رجلمنهم إلى رجل فأخرج كتابا فناوله اياه فلما قرآه دمعت عيناه ثم رفع رأسه إليهم فقال يا أهل نجران أو يا أصحابي هذا والله خطى بيدي وإملاء عمر علي فقالوا يا أمير المؤمنين اعطنا ما فيه فدنوت منه فقلت إن كان رادا على عمر يوما فاليوم يرد عليه فقال لست رادا على عمر شيئا صنعه إن عمر كان رشيد الأمر وإن عمر أعطاكم خيرا مما أخذ منكم وأخذ منكم خيرا مما أعطى ولم يجر لعمر نفع مع أخذ لنفسه إنما أخذه لجماعة المسلمين وقد روى أحمد والترمذي وغيرهما قال أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بكر بن عمرو المعافري عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر الجهني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب
(6/35)
ورواه ابن وهب وغيره عن ابن لهيعة عن مشرح فهو ثابت عنه وروى ابن بطة من حديث عقبة بن مالك الخطمى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان غيري نبي لكان عمر بن الخطاب وفي لفظ لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر وهذا اللفظ في الترمذي وقال عبدالله بن أحمد حدثنا شجاع بن مخلد حدثنا يحيى بن يمان حدثنا سفيان عن عمرو بن محمد عن سالم بن عبد الله عن أبى موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر فكلم امرأة في بطنها شيطان فقالت حتى يجيء شيطاني فأسأله فقال رأيت عمر متزرا بكساء يهنأ إبل الصدقة وذلك لا يراه الشيطان إلا خر لمنخرية للملك الذي بين عينيه روح القدس ينطق على لسانه ومثل هذا في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال استأذن عمرعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن فلما استأذن عمر قمن فابتدرن الحجاب فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر أضحك الله سنك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب فقال عمر قلت يا رسول الله أنت أحق أن يهبن ثم قال عمر أي عدوات أنفسهن تهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك وفي حديث آخر أن الشيطان يفر من حس عمر
(6/36)
وقال أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن واصل عن مجاهد قال كنا نتحدث أن الشياطين كانت مصفدة في إمارة عمر فلما قتل عمر وثبت وهذا باب طويل قد صنف الناس فيه مجلدات في مناقب عمر مثل كتاب أبي الفرج بن الجوزي وعمر بن شبه وغيرهما غير ما ذكره الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة العلم مثل ما صنفه خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة والدارقطني والبيهقي وغيرهم ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبى موسى الأشعري تداولها الفقهاء وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فأفهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذله آس بين الناس في مجلسك ووجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من أدعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ومن ادعى حقا غائبا فامدد له أمدا ينتهي إليه فإن جاء ببينة فأعطه حقه وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعمى ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم وليس يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور أو مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب
(6/37)
فإن الله تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك وفيما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك ثم اعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالخصوم فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله عز وجل فإن الله عز وجل لايقبل من العبد إلا ما كان له خالصا فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته وروى ابن بطة من حديث أبي يعلى الناجي حدثنا العتبي عن أبيه قال خطب عمر بن الخطاب يوم عرفة يوم بويع له فقال الحمد لله الذي ابتلاني بكم وابتلاكم بي وأبقاني فيكم من بعد صاحبي من كان منكم شاهدا باشرناه ومن كان غائبا ولينا أمره أهل القوة عندنا فإن أحسن زدناه وإن أساء لم نناظره أيتها الرعية إن للولاة عليكم حقا وإن لكم عليهم حقا واعلموا أنه ليس حلم أحب إلى الله وأعظم نفعا من حلم إمام وعدله وليس جهل أبغض إلى الله تعالى من جهل وال وخرقه وأنه من يأخذ العافية ممن تحت يده يعطه الله العافية ممن هو فوقه قلت وهو معروف من حديث الأحنف عن عمر قال الوالي إذا طلب العافية ممن هو دونه أعطاه الله العافية ممن هو فوقه وروى من حديث وكيع عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن
(6/38)
يحيى بن جعدة قال قال عمر رضي الله عنه لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لحقت بالله لولا أن أسير في سبيلي الله أو أضع جبهتي في التراب ساجدا أو أجالس قوما يلتقطون طيب الكلام كما يلتقط طيب الثمر وكلام عمر رضي الله عنه من أجمع الكلام وأكمله فإنه ملهم محدث كل كلمة من كلامه تجمع علما كثيرا مثل هؤلاء الثلاث التي ذكرهن فإنه ذكر الصلاة والجهاد والعلم وهذه الثلاث هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة قال أحمد بن حنبل أفضل ما تطوع به الإنسان الجهاد وقال الشافعي أفضل ما تطوع به الصلاة وقال أبو حنيفة ومالم العلم والتحقيق أن كلا من الثلاثة لا بد له من الآخرين وقد يكون هذا أفضل في حال وهذا أفضل في حال كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يفعلون هذا وهذا وهذا كل في موضعه بحسب الحاجة والمصلحة وعمر جمع الثلاث ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بنعبد الله عن ابن عباس قال قال لي عمر إنه والله يا ابن عباس ما يصلح لهذا الأمر إلا القوي في غير عنف اللين في غير ضعف الجواد في غير سرف الممسك في غير بخل قال يقول ابن عباس فوالله ما أعرفه غير عمر وعن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان إذا ذكر عمر قال لله در عمر لقل ما سمعته يقول يحرك شفتيه بشيء قط يتخوفه إلا كان حقا.
*فصل قال الرافضي وقال في خطبة له من غالى في مهر أمرأة جعلته في بيت المال فقالت له امرأة كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال وأتيتم إحداهن قنطارا (سورة النساء). فقال كل أحد أفقه من عمر حتى المخدرات.
*والجواب أن هذه القصة دليل على كمال فضل عمر ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له وأنه يقبل الحق حتى من امرأة ويتواضع له وأنه معترف بفضل الواحد عليه ولو في أدنى مسألة وليس من شرط(6/39)
الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمر من الأمور فقد قال الهدهد لسليمان أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين (سورة النمل). وقد قال موسى للخضر هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا (سورة الكهف). والفرق بين موسى والخضر أعطم من الفرق بين عمر وبين أشباهه من الصحابة ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريبا من موسى فضلا عن أن يكون مثله بل الأنبياء المتبعون لموسى كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم أفضل من الخضر وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل فإن الصداق فيه حق لله تعالى ليس من جنس الثمن والأجرة فإن المال والمنفعة يستباح بالإباحة ويجوز بذله بلا عوض وأما البضع فلا يستباح بالإباحة ولا يجوز النكاح بغير صداق لغير النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين واستحلال البضع بنكاح لا صداق فيه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لكن يجوز عقده بدون التسمية ويجب مهر المثل فلو مات قبل أن يفرض لها ففيها قولان للصحابة والفقهاء أحدهما لا يجب شيء وهو مذهب علي ومن اتبعه كمالك والشافعي في أحد قوليه والثاني يجب مهر المثل وهو مذهب عبد الله بن مسعود ومذهب أبي حنيفة وأحمد والشافعي في قوله الآخر والنبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بمثل ذلك فكان هذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمر لم يستقر قوله
(6/40)
على خلاف النص فكان حاله أكمل من حال من استقر قوله على خلاف النص وإذا كان الصداق فيه حق لله أمكن أن يكون مقدرا بالشرع كالزكاة وفدية الأذى وغير ذلك ولهذا ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن أقله مقدر بنصاب السرقة وإذا جاز تقدير أقله جاز تقدير أكثره وإذا كان مقدرا اعتبر بالسنة فلم يتجاوز به ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسائه وبناته وإذا قدر أن هذا لا يسوغ كانت قد بذلت لمن لا يستحقها فلا يعطاها الباذل لحصول مقصوده ولا الآخذ لكونه لا يستحقها فتوضع في بيت المال كما تقوله طائفه من الفقهاء إن المتجر جمال غيره يتصدق بالربح وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات وكما يقوله محققو الفقهاء فيمن باع سلاحا في الفتنة أو عصيرا أو عنبا للخمر إنه يتصدق بالثمن ففي الجملة عمر لو نفذ اجتهاده لم يكن أضعف من كثير من اجتهاد غيره الذي أنفذه وكيف لم ينفذه وقوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا (سورة النساء). يتأول كثير من الناس ما هو أصرح منها بأن يقولوا هذا قيل للمبالغة كما قالوا فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم التمس ولو خاتما من حديد أنه قاله على سبيل المبالغة فإذا كان المقدرون لأدناه يتأولون مثل هذا جاز أن يكون المقدر لأعلاه يتأول مثل هذا وإذا كان في هذا منع للمرأة المتسحقة فكذلك منع المفوضة المهر الذي استحقته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما والمزوجة بلا تسمية لم تغال في الصداق وعمر مع هذا لم يصر على ذلك بل رجع إلى الحق فعلم أن تأييد الله له وهدايته إياه أعظم من تأييده لغيره وهدايته إياه وأن أقواله الضعيفة التي رجع عنها ولم يصر عليها خير من أقوال غيره الضعيفة التي لم يرجع عنها
(6/41)
والله تعالى قد غفر لهذه الأمة الخطأ وإن لم يرجعوا عنه فكيف بمن رجع عنه وقد ثبت في موضع غير هذا أن اجتهادات السلف من الصحابة والتابعين كانت أكمل من اجتهادات المتأخرين وأن صوابهم أكمل من صواب المتأخرين وخطأهم أخف من خطأ المتأخرين فالذين قالوا من الصحابة والتابعين بصحة نكاح المتعة خطؤهم أيسر من خطأ من قال من المتأخرين بصحة نكاح المحلل من أكثر من عشرين وجها قد ذكرناها في مصنف مفرد والذين قالوا من الصحابة والتابعين بجواز الدرهم بدرهمين خطؤهم أخف من خطأ من جوز الحيل الربوية من المتأخرين وأن الذين أنكروا ما قاله الصحابة عمر وغيره في مسألة المفقود من أن زوجها إذا أتى خير بين أمرأته ومهرها قولهم ضعيف وقول الصحابة هو الصواب الموافق لأصول الشرع والذين عدوا هذا خلاف القياس وقالوا لا ينفذ حكم الحاكم إذا حكم به قالوا ذلك لعدم معرفتهم بمآخذ الصحابة ودقة فهمهم فإن هذا مبني على وقف العقود عند الحاجة وهو أصل شريف من أصول الشرع وكذلك ما فعله عمر من جعل أرض العنوة فيئا هو فيه على الصواب دون من لم يفهم ذلك من المتأخرين وأن الذي أشار به علي بن أبي طالب في قتال أهل القبلة كان علي رضي الله عنه فيه على الصواب دون من أنكره عليه من الخوارج وغيرهم
(6/42)
وما أفتى به ابن عباس وغيره من الصحابة في مسائل الأيمان والنذور والطلاق والخلع قولهم فيها هو الصواب دون قول من خالفهم من المتأخرين وبالجملة فهذا باب يطول وصفه فالصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها ولهذا أحسن الشافعي رحمه الله في قوله هم فوقنا في كل علم وفقة ودين وهدى وفي كل سبب ينال به علم وهدى ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا أو كلاما هذا معناه وقال أحمد بن حنبل أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال أيها الناس من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وقال حذيفة رضي الله عنه يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدافصل قال الرافضي ولم يحد قدامة في الخمر لأنه تلا عليه ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا (سورة المائدة). الآية فقال له علي ليس قدامة من أهل هذه الآية فلم يدركم يحده فقال له أمير المؤمنين حده ثمانين إن شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى والجواب أن هذا من الكذب البين الظاهر على عمر رضي الله عنه فإن علم بن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أبين من أن يحتاج إلى دليل فإنه قد جلد في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله وكانوا يضربون فيها تارة أربعين وتارة ثمانين وكان عمر أحيانا يعزر فيها بحلق الرأس والنفي وكانوا يضربون فيها تارة بالجريد وتارة بالنعال والأيدي
(6/43)
وأطراف الثياب وقد تنازع علماء المسلمين في الزائد عن الأربعين إلى الثمانين هل هو حد يجب إقامته أو تعزير يختلف باختلاف الأحوال على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد أحدهما أنه حد لأن أقل الحدود ثمانون وهو حد القذف وأدعى أصحاب هذا القول أن الصحابة أجمعت على ذلك وأن ما نقل من الضرب أربعين كان بسوط له طرفان فكانت الأربعون قائمة مقام الثمانين وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما واختاره الخرقي والقاضي أبو يعلي وغيرهما والثاني أن الزائد على الأربعين جائز فليس بحد واجب وهو قول الشافعي واختاره أبو بكر وأبو محمد وغيرهما وهذا القول أقوى لأنه قد ثبت في الصحيح عن علي رضي الله عنه أنه جلد الوليد أربعين وقال جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي وفي الصحيحين عن أنس قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ثم أتى به أبو بكر ففعل به مثل ذلك ثم أتى به عمر فاستشار الناس في الحدودفقال ابن عوف أخف الحدود ثمانون فضربه عمر ولأنه يجوز الضرب فيه بغير السوط كالجريد والنعال والأيدي وأطراف الثياب فلما لم تكن صفة الضرب مقدرة بل يرجع فيها إلى الاجتهاد فكذلك مقدار الضرب وهذا لأن أحوال الشاربين تختلف ولهذا أمر أولا بقتل الشارب في المرة الرابعة وقد قيل إن هذا منسوخ وقيل بل هو محكم وقيل بل هو تعزير جائز يفعل عند الحاجة إليه وهذا لأن الضرب بالثوب ليس أمرا محدودا بل يختلف باختلاف قلته وكثرته وخفته وغلظته والنفوس قد لا تنتهي فيه عنه مقدار فردت أكثر العقوبة فيه إلى الاجتهاد وإن كان أقلها مقدرا كما أن من التعزيرات ما يقدر أكثره ولا يقدر أقله وأما قصة قدامة فقد روى أبو إسحاق الجوزجاني وغيره حديثه عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر ما يحملك على ذلك فقال إن الله يقول ليس على الذين آمنوا(6/44)
وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات الآية (سورة المائدة). وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد فقال عمر أجيبوا الرجل فسكتوا عنه فقال لابن عباس أجبه فقال إنما أنزلها الله عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه (سورة المائدة). حجة على الناس ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين جلدة فجلد عمر ثمانين ففيه أن عليا أشار بالثمانين وفيه نظر فإن الذي ثبت في الصحيح أن عليا جلد أربعين عند عثمان بن عفان لما جلد الوليد بن عقبة وأنه أضاف الثمانين إلى عمر وثبت في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين فلم يكن جلد الثمانين مما استفاده عمر من علي وعلي قد نقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين فدل على انه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين وروى عن علي أنه قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات لوديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا
(6/45)
وهذا لم يقل به أحد من الصحابة والفقهاء في الأربعين فما دونها ولا ينبغي أن يحمل كلام علي على ما يخالف الإجماع وإنما تنازع الفقهاء فيما إذا زاد على الأربعين فتلف هل يضمن على قولين فقال جمهورهم لا يضمن أيضا وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم وقال الشافعي يضمنه إما بنصف الدية في أحد القولين جعلا له قد تلف بفعل مضمن وغير مضمن وإما أن تقسط الدية على عدد الضربات كلها فيجب من الدية بقدر الزيادة على الأربعين في القول الأخر والشافعي بني هذا على أن الزيادة تعزير غير مقدر ومن أصله أن من مات بعقوبة غير مقدرة ضمن لأنه بالتلف يتبين عدوان المعزر كما إذا ضرب الرجل امرأته والمؤدب الصبي والرائض الدابة وأما الجمهور فمنهم من يخالفه في الأصلين ومنهم من يخالفه في أحدهما فأبو حنيفة ومالك يقولان الثمانون حد واجب وهو قول أحمد في إحدى الروايتين وفي الأخرى يقول كل من تلف بعقوبة جائزة فالحق قتله سواء كانت واجبة أو مباحة وسواء كانت مقدرة أو غير مقدرة إذا لم يتعد وعلى هذا لا يضمن عنده سراية القود في الطرف وإن لم يكن واجبا وقد اتفق الأئمة على أنه إذا تلف في عقوبةمقدرة واجبة لا يضمن كالجلد في الزنا والقطع في السرقة وتنازعوا في غير ذلك فمنهم من يقول يضمن في الجائز ولا يضمن في الواجب كقول أبي حنيفة فإنه يقول يضمن سراية القود ولا يضمن سراية التعزير لحق الله تعالى ومنهم من يقول يضمن غير المقدر ولا يضمن في المقدر سواء كان واجبا أو جائزا كقول الشافعي ومنهم من يقول لا يضمن لا في هذا ولا في هذا كقول مالك وأحمد وغيرهما.
*فصل قال الرافضي وأرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفا فقال له الصحابة نراك مؤدبا ولا شيء عليك ثم سأل أمير المؤمنين فأوجب الدية على عاقلته.
*والجواب أن هذه مسألة اجتهاد تنازع فيها العلماء وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة رضي الله عنهم في الحوادث يشاور عثمان(6/46)
وعليا وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم حتى كان يشاور ابن عباس وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه ولهذا كان من أسد الناس رأيا وكان يرجع تارة إلى رأي هذا وتارة إلى رأى هذا وقد أتى بامرأة قد أقرت بالزنا فاتفقوا على رجمها وعثمان ساكت فقال مالك لا تتكلم فقال أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم فرجع فاسقط الحد عنها لما ذكر له عثمان ومعنى كلامه أنها تجهر به وتبوح به كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحا مثل الأكل والشرب والتزوج والتسرى والاستهلال رفع الصوت ومنه استهلال الصبي وهو رفعه صوته عند الولادة وإذا كانت لا تعلمه قبيحا كانت جاهلة بتحريمه والحد لا يجب إلا على من بلغه التحريم فإن الله تعالى يقول وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (سورة الإسراء). وقال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (سورة النساء). ولهذا لا يجوز قتال الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة حتى يدعوا إلى الإسلام ولهذا من أتى شيئا من المحرمات التي لم يعلم تحريمها لقرب عهده بالإسلام أو لكونه نشأ بمكان جهل لم يقم عليه الحد ولهذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم من أكل من أصحابه حتى يتبين له الخيط
(6/47)
الأبيض من الخيط الأسود لأنهم أخطأوا في التأويل ولم يعاقب أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله لأنه ظن جواز قتله لما اعتقد أنه قالها تعوذا وكذلك السرية التي قتلت الرجل الذي قال إنه مسلم وأخذت ماله لم يعاقبها لأنها كانت متأولة وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة لما قالوا صبأنا لم يعاقبه لتأويله وكذلك الصديق لم يعاقب خالدا على قتل مالك بن نويرة لأنه كان متأولا وكذلك الصحابة لما قال هذا لهذا أنت منافق لم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولا ولهذا قال الفقهاء الشبهة التي يسقط بها الحد شبهة اعتقاد أو شبهة ملك فمن تزوج نكاحا اعتقد أنه جائز ووطىء فيه لم يحد وإن كان حراما في الباطن وأما إذا علم التحريم ولم يعلم العقوبة فإنه يحد كما حد النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك إذ كان قد علم تحريم الزنا ولكنه لم يكن يعلم أن الزاني المحصن يرجم فرجمه النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه بتحريم الفعل وإن لم يعلم أنه يعاقببالرجم والمقصود هنا أن عمر رضي الله عنه كان يشاورهم وأنه من ذكر ما هو حق قبله وذلك من وجهين أحدهما أن يتبين في القصة المعينة مناط الحكم الذي يعرفونه كقول عثمان إنها جاهلة بالتحريم فإن عثمان لم يفدهم معرفة الحكم العام بل أفادهم إن هذا المعين هو من أهله وكذلك قول علي إن هذه مجنونة قد يكون من هذا فأخبره بجنونها أو بحملها أو نحو ذلك والثاني أن يتبين نصا أو معنى نص يدل على الحكم العام كتنبيه المرأة له على قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا (سورة النساء). وكإلحاق عبد الرحمن حد الشارب بحد القاذف ونحو ذلك
(6/48)
*فصل قال الرافضي وتنازعت امرأتان في طفل ولم يعلم الحكم وفزع فيه إلى أمير المؤمنين علي فاستدعى أمير المؤمنين المرأتين ووعظهما فلم ترجعا فقال ائتوني بمنشار فقالت المرأتان ما تصنع به فقال أقده بينكما نصفين فتأخذ كل واحدة نصفا فرضيت واحدة وقالت الأخرى الله الله يا أبا الحسن إن كان ولا بد من ذلك فقد سمحت لها به فقال علي الله أكبر هو ابنك دونها ولو كان ابنها لرقت عليه فاعترفت الأخرى أن الحق مع صاحبتها ففرح عمر ودعا لأمير المؤمنين.
*والجواب أن هذه قصة لم يذكر لها إسنادا ولا يعرف صحتها ولا أعلم أحدا من أهل العلم ذكرها ولو كان لها حقيقة لذكروها ولا تعرف عن عمر وعلي ولكن هي معروفة عن سليمان بن داود عليهما السلام وقد ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت هذه لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكما الى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال أئتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى قال أبو هريرة والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ ما كنا نقول إلا المدية(6/49)
فإن كان بعض الصحابة علي أو غيره سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعها أبو هريرة أو سمعوها من أبي هريرة فهذا غير مستبعد وهذه القصة فيها أن الله تعالى فهم سليمان من الحكم ما لم يفهمه لداود كما فهمه الحكم إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكان سليمان قد سأل ربه حكما يوافق حكمه ومع هذا فلا يحكم بمجرد ذلك بأن سليمان أفضل من داود عليهما السلام.
*فصل قال الرافضي وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فقال له علي إن خاصمتك بكتاب الله تعالى خصمتك إن الله يقول وحمله وفصاله ثلاثون شهرا (سورة الأحقاف). وقال تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة (سورة البقرة)..
*والجواب أن عمر كان يستشير الصحابة فتارة يشير عليه عثمان بما يراه صوابا وتارة يشير عليه علي وتارة يشير عليه عبد الرحمن بن عوف وتارة يشير عليه غيرهم وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله تعالى وأمرهم شورى بينهم (سورة الشورى). والناس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها(6/50)
حمل ولم يكن لها زوج ولا سيد ولا ادعت شبهة هل ترجم فمذهب مالك وغيره من أهل المدينة والسلف أنها ترجم وهو قول أحمد في إحدى الروايتين ومذهب أبي حنيفة والشافعي لا ترجم وهي الرواية الثانية عن أحمد قالوا لأنها قد تكون مستكرهة على الوطء أو موطوءة بشبهة أو حملت بغير وطء والقول الأول هو الثابت عن الخلفاء الراشدين وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب خطب الناس في آخر عمره وقال الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الأعتراف فجعل الحبل دليلا على ثبوت الزنا كالشهود وهكذا هذه القضية وكذلك اختلفوا في الشارب هل يحد إذا تقيأ أو وجدت منه الرائحة على قولين والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أنهم كانوا يحدون بالرائحة وبالقيء وكان الشاهد إذا شهد أنه تقيأها كان كشهادته بأنه شربها والاحتمالات البعيدة هي مثل احتمال غلط الشهود أو كذبهم وغلطه في
(6/51)
الإقرار أو كذبه بل هذه الدلائل الظاهرة يحصل بها من العلم مالا يحصل بكثير من الشهادات والإقرارات والشهادة على الزنا لا يكاد يقام بها حد وما أعرف حدا أقيم بها وإنما تقام الحدود إما باعتراف وإما بحبل ولكن يقام بها ما دون الحد كما إذا رئيا متجردين في لحاف ونحو ذلك فلما كان معروفا عند الصحابة أن الحد يقام بالحبل فلو ولدت المرأة لدون ستة أشهر أقيم عليها الحد والولادة لستة أشهر نادرة إلى الغاية والأمور النادرة قد لا تخطر بالبال فأجرى عمر ذلك على الأمر المعتاد المعروف في النساء كما في أقصى الحمل فإن المعروف من النساء أن المرأة تلد لتسعة أشهر وقد يوجد قليلا من تلد لسنتين ووجد نادرا من ولدت لأربع سنين ووجد من ولدت لسبع سنين فإذا ولدت امرأة بعد إبانة زوجها لهذه المدة فهل يلحقه النسب فيه نزاع معروف وهذه من مسائل الاجتهاد فكثير من العلماء يحد لأقصى الحمل المدة النادرة هذا يحد سنتين وهذا يحد أربعا وهذا يحد سبعا ومنهم من يقول هذا أمر نادر لا يلتفت إليه وإذا أبانها وجاءت بالولد على خلاف المعتاد مع ظهور كونه من غيره لم يجب إلحاقه به
(6/52)
*فصل قال الرافضي وكان يضطرب في الأحكام فقضى في الجد بمائة قضية.
*والجواب أن عمر رضي الله عنه أسعد الصحابة المختلفين في الجد بالحق فإن الصحابة في الجد مع الإخوة على قولين أنه يسقط الإخوة وهذا قول أبي بكر وأكثر الصحابة كأبي بن كعب وأبي موسى وابن عباس وابن الزبير ويذكر عن أربعة عشر منهم وهو مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كابن سريج من أصحاب الشافعي وأبي حفص البرمكي من أصحاب أحمد ويذكر هذا رواية عن أحمد وهذا القول هو الصحيح فإن نسبة بني الإخوة من الأب إلى الجد كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد أبي الأب وقد اتفق المسلمون على أن الجد أبا الأب أولى من الأعمام فيجب أن يكون الجد أبو الأب أولى من الإخوة وأيضا فإن الإخوة لو كانوا لكونهم يدلون ببنوة الأب بمنزلة الجد لكان أبناؤهم وهم بنو الإخوة كذلك كان أولادهم ليسوا(6/53)
بمنزلتهم علم أنهم لا يتقدمون ببنوة الأب ألا ترى أن الابن لما كان أولى من الجد كان ابنه ابن الابن بمنزلته وأيضا فإن الجدة كالأم فيجب أن يكون الجد كالأب ولأن الجد يسمى أبا وهذا القول هو إحدى الروايتين عن عمر والقول الثاني أن الجد يقاسم الإخوة وهذا قول علي وزيد وابن مسعود وروى عن عثمان القولان ولكنهم مختلفون في التفصيل اختلافا متباينا وجمهور أهل هذا القول على مذهب زيد كمالك والشافعي وأحمد وأما قول علي في الجد فلم يذهب إليه أحد من أئمة الفقهاء وإنما يذكر عن ابن أبي ليلى أنه كان يقضى به ويذكر عن علي فيه أقوال مختلفة فإن كان القول الأول هو الصواب فهو قول لعمر وإن كان الثاني فهو قول لعمر وإنما نفذ قول زيد في الناس لأنه كان قاضي عمر وكان عمر ينفذ قضاءه في الجد لورعه لأنه كان يرى أن الجد كالأب مثل قول أبي بكر فلما صار جدا تورع وفوض الأمر في ذلك لزيد وقول القائل إنه قضى في الجد بمائة قضية إن صح هذا لم يرد به أنه قضى في مسألة واحدة بمائة قول فإن هذا غير ممكن وليس في مسائل الجد نزاع أكثر مما في مسألة الخرقاء
(6/54)
أم وأخت وجد والأقوال فيها ستة فعلم أن المراد به إن كان صحيحا أنه قضى في مائة حادثة من حوادث الجد وهذا مع أنه ممكن لكن لم يخرج قوله عن قولين أو ثلاثة وقول علي مختلف أيضا وأهل الفرائض يعلمون هذا وهذا مع أن الأشبه أن هذا كذب فإن وجود جد وإخوة في الفريضة قليل جدا في الناس وعمر إنما تولى عشر سنين وكان قد أمسك عن الكلام في الجد وثبت عنه في الصحيح أنه قال ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا ومن كان متوقفا لم يحكم فيها بشيء ومما يبين هذا أن الناس إنما نقلوا عن عمر في فريضة واحدة قضاءين قضى في المشركة فروى عنه بالإسناد المذكور في كتب أهل العلم أنه قضى فيها مرة بعدم التشريك وهذا قول علي وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل في المشهور عنه وقضى في نظيرها في العام الثاني بالتشريك وقال ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضى وهذا قول زيد وهو قول مالك والشافعي فإنهما وغيرهما مقلدان لزيد في الفرائض وهي رواية حرب عن أحمد ابن حنبل وهذا مما استدل به الفقهاء على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
(6/55)
وعلي رضي الله عنه يوافق على ذلك فإنه قد ثبت عنه أنه قال كان رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم قد رأيت أن يبعن فقال له قاضيه عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة فعلي له في المسألة قولان ومعلوم أن ما قضى به في عتقهن ومنع بيعهن هو وعمر لم يكن ينقضه وإنما كان يرى أن يستأنف فيما بعد أن يجوز بيعهن والمسائل التي لعلي فيها قولان وأكثر كثيرة ونفس الجد مع الإخوة قد نقل عنه فيها اختلاف كثير ونقل عنه أنه كان إذا أرسل إليه بعض نوابه يسأله عن قضية في ذلك يأمره فيها باجتهاده ويقول قطع الكتاب فإنه رضي الله عنه رأى أنه إنما يتكلم فيها بالاجتهاد للضرورة وهو مضطر إلى الاجتهاد في هذه المعينة وكره أن يقلده غيره من غير اجتهاد منه فأمره بتقطيع الكتاب لذلك بخلاف ما إذا كان معه فيها نص فإنه كان يبلغه ويأمره بتبليغه ولا يأمر بقطع كتابه والعلماء مختلفون في بيع الكتب التي فيها العلم بالرأي هل يجوز بيعه وغير ذلك من الأحكام فيه على قولينفصل قال الرافضي وكان يفضل في الغنيمة والعطاء وأوجب الله تعالى التسوية والجواب أما الغنيمة فلم يكن يقسمها هو بنفسه وإنما يقسمها الجيش الغانمون بعد الخمس وكان الخمس يرسل إليه كما يرسل إلى غيره فيقسمه بين أهله ولم يقل عمر ولا غيره إن الغنيمة يجب فيها التفضيل ولكن تنازع العلماء هل للإمام أن يفضل بعض الغانمين على بعض إذا تبين له زيادة نفع فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد إحداهما أن ذلك جائز وهو مذهب أبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفل في بدايته الربع بعد الخمس وفي رجعته الثلث بعد الخمس رواه أبو داود وغيره وهذا تفضيل لبعض الغانمين من أربعة الأخماس ولأن في
(6/56)
الصحيح صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سلمة بن الأكوع سهم راجل وفارس في غزوة الغابة وكان راجلا لأن أتى من القتل والغنيمة وإرهاب العدو بما لم يأت به غيره والقول الثاني لا يجوز ذلك وهو مذهب مالك والشافعي ومالك يقول لا يكون النفل إلا من الخمس والشافعي يقول لا يكون إلا من خمس الخمس وقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل نجد فبلغت سهماننا اثنى عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا وهذا النفل لا يقوم به خمس الخمس وفي الجملة فهذه مسألة اجتهاد فإذا كان عمر يسوغ التفضيل للمصلحة فهو الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وأما التفضيل في العطاء فلا ريب أن عمر كان يفضل فيه ويجعلالناس فيه على مراتب وروى عنه أنه قال لئن عشت إلى قابل لأجعلن الناس بابا واحدا أي نوعا واحدا وكان أبو بكر يسوى في العطاء وكان علي يسوي أيضا وكان عثمان يفضل وهي مسألة اجتهاد فهل للإمام التفضيل فيه للمصلحة على قولين هما روايتان عن أحمد والتسوية في العطاء اختيار أبي حنيفة والشافعي والتفضيل قول مالك وأما قول القائل إن الله أوجب التسوية فيه فهو لم يذكر على ذلك دليلا ولو ذكر دليلا لتكلمنا عليه كما نتكلم في مسائل الاجتهاد والذين أمروا بالتسوية من العلماء احتجوا بأن الله قسم المواريث بين الجنس الواحد بالسواء ولم يفضل أحدا بصفة وأجاب المفضلون بأن تلك تستحق بسبب لا بعمل واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى في المغانم بين الجنس الواحد فأعطى الراجل سهما واحدا وأعطى الفارس ثلاثة أسهم كما ثبت في الصحيحين وهو قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد وقيل
(6/57)
أعطاه سهمين وهو قول أبي حنيفة وقد روى في ذلك أحاديث ضعيفة والثابت في الصحيحين أنه عام خبير أعطى الفارس ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وكانت الخيل مائتي فرس وكانوا أربعة عشر مائة فقسم خيبر على ثمانية عشر سهما كل مائة في سهم فأعطى أهل الخيل ستمائة سهم وكانوا مائتين وأعطى ألفا ومائتين لألف ومائتي رجل وكان أكثرهم ركبانا على الإبل فلم يسهم للإبل عام خيبر والمجوزون للتفضيل قالوا بل الأصل التسوية وكان أحيانا يفضل فدل على جواز التفضيل وهذا القول أصح أن الأصل التسوية وأن التفضيل لمصلحة راجحة جائز وعمر لم يفضل لهوى ولا حابي بل قسم المال على الفضائل الدينية فقدم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ثم من بعدهم من الصحابة ثم من بعدهم وكان ينقص نفسه وأقاربه عن نظرائهم فنقص ابنه وابنته عمن كانا أفضل منه
(6/58)
وإنما يطعن في تفضيل من فضل لهوى أما من كان قصده وجه الله تعالى وطاعة رسوله وتعظيم من عظمه الله ورسوله وتقديم من قدمه الله ورسوله فهذا يمدح ولا يذم ولهذا كان يعطى عليا والحسن والحسين ما لا يعطى لنظرائهم وكذلك سائر أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ولو سوى لم يحصل لهم إلا بعض ذلك وأما الخمس فقد اختلف اجتهاد العلماء فيه فقالت طائفة سقط بموت النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستحق أحد من بني هاشم شيئا بالخمس إلا أن يكون فيهم يتيم أو مسكين فيعطى لكونه يتيما أو مسكينا وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره وقالت طائفة بل هو لذي قربى ولي الأمر بعده فكل ولي أمر يعطى أقاربه وهذا قول طائفة منهم الحسن وأبو ثور فيما أظن وقد نقل هذا القول عن عثمان وقالت طائفة بل الخمس يقسم خمسة أقسام التسوية وهذا قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقالت طائفة بل الخمس إلى اجتهاد الإمام يقسمه بنفسه في طاعة الله ورسوله كما يقسم الفيء وهذا قول أكثر السلف وهو قول عمر بن عبدالعزيز ومذهب أهل المدينة مالك وغيره وهو الرواية الأخرى عن
(6/59)
أحمد وهو أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة كما قد بسطناه في موضعه فمصرف الفيء والخمس واحد فكان ديوان العطاء الذي لعمر يقسم فيه الخمس والعطاء جميعا وأما ما يقوله من أن خمس مكاسب المسلمين يوخذ منهم ويصرف إلى من يرونه هو نائب الإمام المعصوم أو إلى غيره فهذا قول لم يقله قط أحد من الصحابة لا علي ولا غيره ولا أحد من التابعين لهم بإحسان ولا أحد من القرابة لا بني هاشم ولا غيرهم وكل من نقل هذا عن علي أو علماء أهل بيته كالحسن والحسين وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد فقد كذب عليهم فإن هذا خلاف المتواتر من سيرة علي رضي الله عنه فإنه قد تولى الخلافة أربع سنين وبعض أخرى ولم يأخذ من المسلمين من أموالهم شيئا بل لم يكن في ولايته قط خمس مقسوم أما المسلمون فما خمس لا هو ولا غيره أموالهم وأما الكفار فإذا غنمت منهم الأموال خمست بالكتاب والسنة لكن في عهده لم يتفرغ المسلمون لقتال الكفار بسبب ما وقع من الفتنة والاختلاف وكذلك من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس أموال المسلمين ولا طالب أحدا قط من المسلمين بخمس
(6/60)
ماله بل إنما كان يأخذ منهم الصدقات ليس لآل محمد منها شيء وكان يأمرهم بالجهاد بأموالهم وأنفسهم وكان هو صلى الله عليه وسلم يقسم ما أفاء الله على المسلمين يقسم الغنائم بين أهلها ويقسم الخمس والفيء وهذه هي الأموال المشتركة السلطانية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يتولون قسمتها وقد صنف العلماء لها كتبا مفردة وجمعوا بينها في مواضع يذكرون قسم الغنائم والفيء والصدقة والذي تنازع فيه أهل العلم لهم فيه مأخذ فتنازعوا في الخمس لأن الله تعالى قال في القرآن واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير (سورة الأنفال). وقال في الفيء ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (سورة الحشر). وقد قال قبل ذلك وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء (سورة الحشر). وأصل الفيء الرجوع والله خلق الخلق لعبادته وأعطاهم الأموال يستعينون بها على عبادته فالكفار لما كفروا بالله وعبدوا غيره لم يبقوا
(6/61)
(سورة االحشر).(/)
مستحقين للأموال فأباح الله لعباده قتلهم وأخذ أموالهم فصارت فيئا أعاده الله على عباده المؤمنين لأنهم هم المستحقون له وكل مال أخذ من الكفار قد يسمى فيئا حتى الغنيمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم لكن لما قال تعالى وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب (سورة الحشر). وقال ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى (سورة الحشر). صار اسم الفيء عند الإطلاق لما أخذ من الكفار بغير قتال وجمهور العلماء على أن الفيء لا يخمس كقول مالك وأبي حنيفة وأحمد وهذا قول السلف قاطبة وقال الشافعي والخرقي ومن وافقه من أصحاب أحمد يخمس والصواب قول الجمهور فإن السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه تقتضي أنهم لم يخمسوا فيئا قط بل أموال بني النضيركانت أول الفيء ولم يخمسها النبي صلى الله عليه وسلم بل خمس غنيمة بدر وخمس خيبر وغنائم حنين وكذلك الخلفاء بعده لم يكونوا يخمسون الجزية والخراج ومنشأ الخلاف أنه لما كان لفظ آية الخمس وآية الفيء واحدا اختلف فهم الناس للقرآن فرأت طائفة أن آية الخمس تقتضي أن يقسم الخمس بين الخمسة بالسوية وهذا قول الشافعي وأحمد وداود
(6/62)
الظاهري لأنهم ظنوا أن هذا ظاهر القرآن ثم إن آية الفيء لفظها كلفظ آية الخمس فرأى بعضهم أن الفيء كله يصرف أيضا مصرف الخمس إلى هؤلاء الخمسة وهذا قول داود بن علي وأتباعه وما علمت أحدا من المسلمين قال هذا القول قبله وهو قول يقتضي فساد الإسلام إذا دفع الفيء كله إلى هذه الأصناف وهؤلاء يتكلمون أحيانا بما يظنونه ظاهر اللفظ ولا يتدبرون عواقب قولهم ورأى بعضهم أن قوله في آية الفيء فلله وللرسول ولذي القربى (سورة الحشر). المراد بذلك خمس الفيء فرأوا أن الفيء يخمس وهذا قول الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد وقال الجمهور هذا ضعيف جدا لأنه قال فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (سورة الحشر). لم يقل خمسه لهؤلاء ثم قال للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم (سورة الحشر). والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم (سورة الحشر). والذين جاءوا من بعدهم (سورة الحشر). وهؤلاء هم المستحقون للفيء كله فكيف يقول المراد خمسه وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما قرأ هذه الآية قال هذه عمت المسلمين كلهم وأما أبو حنيفة ومن وافقه فوافقوا هؤلاء على أن الخمس يستحقه هؤلاء لكن قالوا إن سهم الرسول كان يستحقه في حياته وذوو قرباه كانوا يستحقونه لنصرهم له وهذا قد سقط بموته فسقط سهمهم كما سقط سهمه
(6/63)
والشافعي وأحمد قالا بل يقسم سهمه بعد موته في مصرف الفيء إما في الكراع والسلاح وإما في المصالح مطلقا واختلف هؤلاء هل كان الفيء ملكا للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته على قولين أحدهما نعم كما قاله الشافعي وبعض أصحاب أحمد لأنه أضيف إليه والثاني لم يكن ملكا له لأنه لم يكن يتصرف فيه تصرف المالك وقالت طائفة ذوو القربى هم ذوو قربى القاسم المتولى وهو الرسول في حياته ومن يتولى الأمر بعده واحتجوا بما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أطعم الله نبيا طعمه إلا كانت لمن يتولى الأمر بعده والقول الخامس قول مالك وأهل المدينة وأكثر السلف أن مصرف الخمس والفيء واحد وأن الجميع لله والرسول بمعنى أنه يصرف فيما أمر الله به والرسول هو المبلغ عن الله فما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (سورة الحشر).
(6/64)
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال إني والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فدل على أنه يعطى المال لمن أمره الله به لا لمن يريد هو ودل على أنه أضافه إليه لكونه رسول الله لا لكونه مالكا له وهذا بخلاف نصيبه من المغنم وما وصى له به فإنه كان ملكه ولهذا سمى الفيء مال الله بمعنى أنه المال الذي يجب صرفه فيما أمر الله به ورسوله أي في طاعة الله أي لا يصرفه أحد فيما يريد وإن كان مباحا بخلاف الأموال المملوكة وهذا بخلاف قوله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم (سورة النور). فإنه لم يضفه إلى الرسول بل جعله مما آتاهم الله قالوا وقوله تعالى ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (سورة الحشر). تخصيص هؤلاء بالذكر للاعتناء بهم لا لاختصاصهم بالمال ولهذا قال كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (سورة الحشر). أي لا تتداولونه وتحرمون الفقراء ولو كان مختصا بالفقراء لم يكن للأغنياء فضلا عن أن يكون دولة وقد قال تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (سورة الحشر). فدل على أن الرسول هو القاسم للفيء والمغانم ولو كانت مقسومة محدودة كالفرائض لم يكن للرسول أمر فيها ولا نهي وأيضا فالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه تدل على هذا القول فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس قط خمسا
(6/65)
خمسة أجزاء ولا خلفاؤه ولا كانوا يعطون اليتامى مثل ما يعطون المساكين بل يعطون أهل الحاجة من هؤلاء وهؤلاء وقد يكون المساكين أكثر من اليتامى الأغنياء وقد كان بالمدينة يتامى أغنياء فلم يكونوا يسوون بينهم وبين الفقراء بل ولا عرف أنهم أعطوهم بخلاف ذوي الحاجة والأحاديث في هذا كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
*فصل قال الرافضي وقال بالرأي والحدس والظن.
*والجواب أن القول بالرأي لم يختص به عمر رضي الله عنه بل علي كان من أقولهم بالرأي وكذلك أبو بكر وعثمان وزيد وابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون بالرأي وكان رأي علي في دماء أهل القبلة ونحوه من الأمور العظائم كما في سنن أبي داود وغيره عن الحسن عن قيس بن عباد قال قلت لعلي أخبرنا عن مسيرك هذا أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته قال ما عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيئا ولكنه رأى رأيته وهذا أمر ثابت ولهذا لم يرو علىرضي الله عنه في قتال الجمل وصفين شيئا كما رواه في قتال الخوارج بل روى الأحاديث الصحيحة هو وغيره من الصحابة في قتال الخوارج المارقين وأما قتال الجمل وصفين فلم يرو أحد منهم فيه نصا إلا القاعدون فإنهم رووا الأحاديث في ترك القتال في الفتنة وأما الحديث الذي يروى أنه أمر بقتل الناكثين والقاسطين والمارقين فهو حديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن الرأي إن لم يكن مذموما فلا لوم على من قال به وإن كان مذموما فلا رأى أعظم ذما من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من(6/66)
المسلمين ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم بل نقص الخير عما كان وزاد الشر على ما كان فإذا كان مثل هذا الرأي لا يعاب به فرأى عمر وغيره في مسائل الفرائض والطلاق أولى أن لا يعاب مع أن عليا شركهم في هذا الرأي وامتاز برأيه في الدماء وقد كان ابنه الحسن وأكثر السابقين الأولين لا يرون القتال مصلحة وكان هذا الرأي أصلح من رأي القتال بالدلائل الكثيرة ومن المعلوم أن قول علي في الجد وغيره من المسائل كان بالرأي وقد قال اجتمع رأيي ورأى عمر على المنع من بيع أمهات الأولاد والآن فقد رأيت أن يبعن فقال له قاضيه عبيده السلماني رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وفي صحيح البخاري عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي قال اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي قال وكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي كذب وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي المسائل التي تركت من قول علي وابن مسعود فبلغت شيئا كثيرا وكثير منها قد جاءت السنة بخلافه كالمتوفى عنها الحامل فإن مذهب علي رضي الله عنه أنها
(6/67)
تعتد أبعد الأجلين وبذلك أفتى أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاءته سبيعة الأسلمية وذكرت ذلك له قال كذب أبو السنابل بل حللت فانكحي من شئت وكان زوجها قد توفي عنها بمكة في حجة الوداع فإن كان القول بالرأي ذنبا فذنب غير عمر كعلي وغيره أعظم فإن ذنب من استحل دماء المسلمين برأي هو ذنب أعظم من ذنب من حكم في قضية جزئية برأيه وإن كان منه ما هو صواب ومنه ما هو خطأ فعمر رضي الله عنه أسعد بالصواب من غيره فإن الصواب في رأيه أكثر منه في رأي غيره والخطأ في رأي غيره أكثر منه في رأيه وإن كان الرأي كله صوابا فالصواب الذي مصلحته أعظم هو خير وأعظم من الصواب الذي مصلحته دون ذلك وآراء عمر رضي الله عنه كانت مصالحها أعظم للمسلمين فعلى كل تقدير عمر فوق القائلين بالرأي من الصحابة فيما يحمد وهو أخف منهم فيما يذم ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر ومعلوم أن رأي المحدث الملهم أفضل من رأي من ليس كذلك وليس فوقه إلا النص الذي هو حال الصديق المتلقى من الرسول ونحن نسلم أن الصديق أفضل من عمر لكن عمر أفضل من سائرهم
(6/68)
وفي المسند وغيره أن الله تعالى ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وقال عبد الله بن عمر ما سمعت عمر يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول فالنصوص والإجماع والاعتبار يدل على أن رأي عمر أولى بالصواب من رأي عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ولهذا كانت آثار رأيه محمودة فيها صلاح الدين والدنيا فهو الذي فتح بلاد فارس والروم وأعز الله به الإسلام وأذل به الكفر والنفاق وهو الذي وضع الديوان وفرض العطاء وألزم أهل الذمة بالصغار والغيار وقمع الفجار وقوم العمال وكان الإسلام في زمنه أعز ما كان وما يتمارى في كمال سيرة عمر وعلمه وعدله وفضله من له أدنى مسكة من عقل وإنصاف ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام وهذا حال المعلم الأول للرافضة أول من ابتدع الرفض وحال أئمه الباطنية وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى وهو الغالب على عامة الشيعة إذا كانوا مسلمين في الباطن وإذا قال الرافضي علي كان معصوما لا يقول برأيه بل كل ما قاله فهو مثل نص الرسول وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته من جهة الرسول
(6/69)
قيل له نظيرك في البدعة الخوارج كلهم يكفرون عليا مع أنهم أعلم واصدق وأدين من الرافضة لا يسترتب في هذا كل من عرف حال هؤلاء وهؤلاء وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم وقد قاتلوه في حياته وقتله واحد منهم ولهم جيوش وعلماء ومدائن وأهل السنة ولله الحمد متفقون على أنهم مبتدعة ضالون وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة وأن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه كان من أفضل أعماله قتاله الخوارج وقد اتفقت الصحابة على قتالهم ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة لا يقاتلون مع أئمة الجور ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه ونقل عنه خلاف ذلك وهو قول الجمهور وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقالوا يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا إذا كان الغزو الذي يفعله
(6/70)
جائزا فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالا مشروعا قوتل معه وإن قاتل قتالا وإن قاتل قتالا غير جائز لم يقاتل معه فيعاون على البر والتقوى ولا يعاون على الإثم والعدوان كما أن الرجل يسافر مع من يحج ويعتمر وإن كان في القافلة من هو ظالم فالظالم لا يجوز أن يعاون على الظلم لأن الله تعالى يقول وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (سورة المائدة). وقال موسى رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين (سورة القصص). وقال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار (سورة هود). وقال تعالى ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها (سورة النساء). والشفيع المعين فكل من أعان شخصا على أمر فقد شفعه فيه فلا يجوز أن يعان أحد لا ولي أمر ولا غيره على ما حرمه الله ورسوله وأما إذا كان للرجل ذنوب وقد فعل برا فهذا إذا أعين على البر لم يكن هذا محرما كما لو أراد مذنب أن يؤدى زكاته أو يحج أو يقضى ديونه أو يرد بعض ما عنده من المظالم أو يوصى على بناته فهذا إذا أعين عليه فهو إعانة على بر وتقوى ليس إعانة على إثم وعدوان فكيف الأمور العامة
(6/71)
والجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور فإن لم يغز معهم لزم أن أهل الخير الأبرار لا يجاهدون فتفتر عزمات أهل الدين عن الجهاد فإما أن يتعطل وإما أن ينفرد به الفجار فيلزم من ذلك استيلاء الكفار أو ظهور الفجار لأن الدين لمن قاتل عليه وهذا الرأي من أفسد الآراء وهو رأي أهل البدع من الرافضة والمعتزلة وغيرهم حتى قيل لبعض شيوخ الرافضة إذا جاء الكفار إلى بلادنا فقتلوا النفوس وسبوا الحريم وأخذوا الأموال هل نقاتلهم فقال لا المذهب أنا لا نغزو إلا مع المعصوم فقال ذلك المستفتى مع عاميته والله إن هذا لمذهب نجس فإن هذا المذهب يفضي إلى فساد الدين والدنيا وصاحب هذا القول تورع فيما يظنه ظلما فوقع في أضعاف ما تورع عنه بهذا الورع الفاسد وأين ظلم بعض ولاة الأمور من استيلاء الكفار بل من استيلاء من هو أظلم منه فالأقل ظلما ينبغي أن يعاون على الأكثر ظلما فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج أعظم من شر الظالم وأما اذا لم يكونوا يظلمون المسلمين والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم فهذا عدوان منه فلا يعاون على العدوانفصل قال الرافضي وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه فإنه لم يفوض الأمر فيه إلى اختيار الناس ولا نص على إمام بعده بل تأسف على سالم مولى أبي حذيفة وقال لو كان حيا لم يختلجني فيه شك وأمير المؤمنين علي حاضر وجمع فيمن يختار بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول ثم طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تقلده حيا ثم تقلده ميتا بأن جعل الإمامة في ستة ثم ناقص فجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه
(6/72)
بالضعف والقصور ثم قال إن اجتمع أمير المؤمنين وعثمان فالقول ما قالاه وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن بن عوف لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد وأن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه وهو عثمان وابن عمه ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام مع أنهم عندهم من العشرة المبشرة بالجنة وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم وأمر بقتل من خالف الثلاثة الذين بينهم عبد الرحمن وكل ذلك مخالف للدين وقال لعلي وإن وليتها وليسوا فاعلين لتركبنهم على المحجة البيضاء وفيه إشارة إلى أنهم لا يولونه إياها قال لعثمان إن وليتها لتركبن آل أبي معيط على رقاب الناس وإن فعلت لتقتلن وفيه إشارة إلى الأمر بقتلهوالجواب أن هذا الكلام كله لا يخرج عن قسمين إما كذب في النقل وإما قدح في الحق فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب أو غير معلوم الصدق وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر رضي الله عنه بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله بها عمله ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون ما وقعت وإلى أمور ما كانت ويعلم أنها ما كانت فيقولون كانت ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح فيقولون هي فساد وإلى الأمور التي هي فساد فيقولون هي خير وصلاح فليس لهم لا عقل ولا نقل بل لهم نصيب من قوله وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (سورة الملك). وأما قول الرافضي وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه فالجواب أن الخلاف نوعان خلاف تضاد وخلاف تنوع فالأول مثل أن يوجب هذا شيئا ويحرمه الآخر والنوع الثاني مثل القراءات التي يجوز كل منها وإن كان هذا يختار قراءة وهذا يختار قراءة كما ثبت في الصحاح بل استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(6/73)
إن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف وثبت أن عمر وهشام بن حكيم بن حزام اختلفا في (سورة الفرقان). فقرأها هذا على وجه وهذا على وجه آخر فقال لكليهما هكذا أنزلت ومن هذا الباب أنواع التشهدات كتشهد ابن مسعود الذي أخرجاه في الصحيحين وتشهد أبي موسى الذي رواه مسلم وألفاظهما متقاربة وتشهد ابن عباس الذي رواه مسلم وتشهد عمر الذي علمه الناس على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وتشهد ابن عمر وعائشة وجابر اللواتيرواها أهل السنن عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو سائغ وجائز وإن اختار كل من الناس بعض التشهدات إما لكونه هو الذي علمه ولاعتياده إياه وإما لاعتقاده رجحانه من بعض الوجوه وكذلك الترجيع في الآذان وترك الترجيع فإن الأول قد ثبت في الصحيح في أذان أبي محذورة وروى في أوله التكبير مرتين كما رواه مسلم وروى أربعا كما رواه أبو داود وترك الترجيح هو الذي رواه أهلالسنن في آذان بلال وكذلك وتر الإقامة هو الذي ثبت في أذان بلال وشفع الإقامة ثبت في الصحيح في أذان أبي محذورة فأحمد وغيره من فقهاء الحديث أخذوا بأذان بلال وإقامته والشافعي أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة وكل هذه الأمور جائزة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان من الفقهاء من يكره بعض ذلك لاعتقاده أنه لم يثبت كونه سن في الأذان فذلك لا يقدح في علم من علم أنه سنة وكذلك أنواع صلاة الخوف فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنواع متعددة كصلاة ذات الرقاع وصلاة عسفان وصلاة نجد فإنه صلى بهم بعسفان جماعة صلاة واحدة لكن جعلهم صفين فالصف الواحد ركعوا معه جميعا وسجد معه الصف الأول وتخلف الصف
(6/74)
الآخر عن المتابعة ليحرسوا ثم أتموا لأنفسهم وفي الركعة الثانية بالعكس فكان في ذلك من خلاف الصلاة المعتادة تخلف أحد الصفين عن السجود معه لأجل الحرس وهذه مشروعة إذا كان العدو وجاه القبلة وصار هذا اصلا للفقهاء في تخلف المأموم لعذر فيما دون الركعة كالزحمة والنوم والخوف وغير ذلك أنه لا يبطل الصلاة وأنه يفعل ما تخلف عنه وأكثر الصلوات كان يجعلهم طائفتين وهذا يتعين إذا كان العدو في غير جهة الكعبة فتارة يصلي بطائفة ركعة ثم يفارقونه ويتمون لأنفسهم ثم يصلى بالطائفة الثانية الركعة الثانية ويتمون لأنفسهم قبل سلامه فيسلم بهم فيكون الأولون أحرموا معه والآخرون سلموا معه كما صلى بهم في ذات الرقاع وهذه أشهر الأنواع وأكثر الفقهاء يختارونها لكن منهم من يختار أن تسلم الثانية بعده كالمسبوق كما يروى عن مالك والأكثرون يختارون ما ثبت به النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن المسبوق قد صلى غيره مع الإمام الصلاة كلها فيسلم بهم بخلاف هذا فإن الطائفة الأولى لم تتم معه الصلاة فلا يسلم إلا بهم ليكون تسليمه بالمأمومينفإن في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم فهذا مروى عن علي وغيره ومنها صلاة نجد صلى بطائفة ركعة ثم ذهبت إلى وجاه العدو وجاءت الطائفة الثانية فصلى بهم الثانية ثم ذهبوا إلى وجاه العدو ورجع الأولون فأتموا بركعة ثم رجع هؤلاء فأتموا بركعة وهذه يختارها أبو حنيفة لأنها على وفق القياس عنده إذ ليس فيها إلا العمل الكثير واستدبار القبلة لعذر وهو يجوز ذلك لمن سبقه الحدث ومنها صلوات أخرى والصحيح الذي لا يجوز أن يقال بغيره أن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو جائز وإن كان المختار يختار بعض ذلك فهذا من اختلاف التنوع ومن ذلك أنواع الاستفتاحات في الصلاة كاستفتاح أبي هريرة الذي
(6/75)
رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيحين واستفتاح علي بن أبي طالب الذي رواه مسلم واستفتاح عمر الذي كان يجهر به في محراب النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه الناس متفق عليه وهو في السنن مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الاستفتاحات ومن ذلك صفات الاستعاذة وأنواع الأدعية في آخر الصلاة وأنواع الأذكار التي تقال في الركوع والسجود مع التسبيح المأمور به ومن ذلك صلاة التطوع يخير فيها بين القيام والقعود ويخير بين الجهر بالليل والمخافتة إلىأمثال ذلك ومن ذلك تخيير الحاج بين التعجيل في يومين من أيام منى وبين التأخر إلى اليوم الثالث وهذا الاختلاف قسمان أحدهما يكون الإنسان مخيرا فيه بين النوعين بدون اجتهاد في أصلحهما والثاني يكون تخييره بحسب ما يراه من المصلحة وتخيير المتصرف لغيره هو من هذا الباب كولي اليتيم وناظر الوقف والوكيل والمضارب والشريك وأمثال ذلك ممن تصرف
(6/76)
لغيره فإنه إذا كان مخيرا بين هذا النقد وهذا أو بين النقد والنسيئة أو بين ابتياع هذا الصنف وهذا الصنف أو البيع في هذا السوق وهذا السوق فهو تخيير مصلحة واجتهاد فليس له أن يعدل عما يراه أصلح لمن أئتمنه إذا لم يكن عليه في ذلك مشقة تسوغ له تركه ومن هذا الباب تصرف ولي الأمر للمسلمين كالأسير الذي يخير فيه بين القتل والاسترقاق وكذلك بين المن والفداء عند أكثر العلماء ولهذا استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيهم يوم بدر فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه بأخذ الفداء وشبهة النبي صلى الله عليه وسلم بإبراهيم وعيسى وأشار عليه عمر رضي الله عنه بالقتل وشبهه النبي صلى الله عليه وسلم بنوح وموسى ولم يعب واحدا منهما بما أشار عليه به بل مدحه وشبهه بالأنبياء ولو كان مأمورا بأحد الأمرين حتما لما استشارهم فيما يفعل وكذلك اجتهاد ولى الأمر فيمن يولى فعليه أن يختار أصلح من يراه ثم إن الاجتهاد يختلف ويكون جميعه صوابا كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان رأيه أن يولى خالد بن الوليد في حروبه وكان عمر يشير عليه بأن يعزله فلا يعزله ويقول إنه سيف سله الله على المشركين ثم إن عمر لما تولى عزله وولى أبا عبيدة بن الجراح وما فعله كل منهما كان أصلح في وقته فإن أبا بكر كان فيه لين وعمر كان فيهشدة وكانا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرهما النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أنه قال إذا اتفقتما على شيء لم أخالفكما وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض مغازيه إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا وفي رواية في الصحيح كيف ترون القوم صنعوا حين فقدوا نبيهم وأرهقتهم صلاتهم قلنا الله ورسوله أعلم قال أليس فيهم أبو بكر وعمر إن يطيعوهما فقد رشدوا ورشدت أمتهم وإن يعصوهما فقد غووا وغوت أمتهم قالها ثلاثا
(6/77)
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس عن عمر قال لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه وهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (سورة الأنفال). فأمده الله بالملائكة قال أبو زميل فحدثني ابن عباس قال بينما رجل منالمسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصارى فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين فقال أبو زميل قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر ما ترون في هؤلاء الأساري فقال أبو بكر يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على المشركين فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب قلت لا والله يا رسول ما أرى
(6/78)
الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكى للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ما كان لنبي أن يكونله أسرى حتى يثخن في الأرض الآية (سورة الأنفال). قال فأحل الله لهم الغنيمة ورواه عبد الله بن مسعود وقال فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (سورة إبراهيم). أو كمثل عيسى قال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (سورة المائدة). وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا (سورة نوح). وقال يا عمر كمثل موسى قال وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم (سورة يونس).وقد روى هذ المعنى من حديث أم سلمة وابن عباس وغيرهما وقد روى أحمد في المسند من حديث أبي معاوية ورواه ابن بطة ورويناه في جزء ابن عرفة عن أبي معاوية وهي لفظه قال لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هؤلاء الأساري فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله يتوب عليهم وقال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قربهم واضرب أعناقهم فذكر الحديث قال فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا قال فخرج رسول
(6/79)
الله صلى الله عليه وسلم فقال إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (سورة إبراهيم). وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (سورة المائدة). وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا (سورة نوح). وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم (سورة يونس). وروى ابن بطة بالإسناد الثابت من حديث الزنجي بن خالد عن إسماعيل بن أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر لولا أنكما تختلفان على ما خالفتكما وكان السلف متفقين على تقديمهما حتى شيعة علي رضي الله عنه وروى ابن بطة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق حدثنا محمد بن حميد حدثنا جرير عن سفيان عن عبد الله بن زياد عن حدير قال قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة قال لنا شمر بنعطية قوموا إليه فجلسنا إليه فتحدثوا فقال أبو إسحاق خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون ولا والله ما أدرى ما يقولون وقال حدثنا النيسابوري حدثنا أبو أسامة الحلبي حدثنا أبي حدثنا ضمرة عن سعيد بن حسن قال سمعت ليث بن أبي سليم يقول أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا وقال أحمد بن حنبل حدثنا ابن عيينة عن خالد بن سلمة عن الشعبي عن مسروق قال حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة ومسروق من أجل تابعي الكوفة وكذلك قال طاووس حب
(6/80)
أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة وقد روى ذلك عن ابن مسعود وكيف لا تقدم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وقد روى هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقا وقد رواه البخاري عنه في صحيحه من حديث الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعلي حتى كان يقول ولو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان أدخلي بسلام وقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو همداني عن منذر وهو همداني عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا بني أو ما تعرف فقلت لا قال أبو بكر فقلت ثم من قال عمر وهذا يقوله لابنه بينه وبينه ليس هو مما يجوز أن يقوله تقية ويرويه عن أبيه خاصة وقال على المنبروعنه أنه كان يقول لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ولهذا كان أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد أن قولهما إذا اتفقا حجة لا يجوز العدول عنها وهذا أظهر القولين كما أن الأظهر أن اتفاق الخلفاء الأربعة أيضا حجة لا يجوز خلافها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم وكان نبينا صلى الله عليه وسلم مبعوثا بأعدل الأمور وأكملها فهو الضحوك القتال وهو نبي الرحمة ونبي الملحمة بل أمته موصوفون بذلك في مثل قوله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم (سورة الفتح). وقوله تعالى أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين (سورة المائدة). فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين شدة هذا ولين هذا فيأمر بما هو العدل وهما يطيعانه فتكون أفعالهما على كمال الاستقامة فلما قبض الله نبيه وصار كل منهما خليفة على المسلمين خلافة نبوة كان من كمال أبي بكر رضي الله عنه أن يولى
(6/81)
الشديد ويستعين به ليعتدل أمره ويخلط الشدة باللين فإن مجرد اللين يفسد ومجرد الشدة تفسد ويكون قد قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم فكان يستعين باستشارة عمر وباستنابة خالد ونحو ذلك وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره حتى روى أن عمر قال له يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تألف الناس فقال علام أتألفهم أعلى حديث مفترى أم على شعر مفتعل وقال أنس خطبنا أبو بكر عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإنا لكالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود وأما عمر رضي الله عنه فكان شديدا في نفسه فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح وسعد ابن أبي وقاص وأبي عبيد الثقفي والنعمان بن مقرن وسعيد بن عامر وأمثال هؤلاء من أهل الصلاح والزهد الذين هم أعظم زهدا وعبادة من مثل خالد بن الوليد وأمثاله ومن هذا الباب أمر الشورى فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين فيه أمر الله ورسوله فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع وقضايا كلية وقواعد عامة يمتنع أن
(6/82)
ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة فلا بد من الاجتهاد في المعينات هل تدخل في كلماته الجامعة أم لا وهذا الاجتهاد يسمى تحقيق المناط وهو مما اتفق عليه الناس كلهم نفاة القياس ومثبتته فإن الله إذا أمر أن يستشهد ذوا عدل فكون الشخص المعين من ذوي العدل لا يعلم بالنص بل باجتهاد خاص وكذلك إذا أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها وأن يولى الأمور من يصلح لها فكون هذا الشخص المعين صالحا لذلك أو راجحا على غيره لا يمكن أن تدل عليه النصوص بل لا يعلم إلا باجتهاد خاص والرافضي إن زعم أن الإمام يكون منصوصا عليه وهو معصوم فليس هو أعظم من الرسول ونوابه وعماله ليسوا معصومين ولا يمكن أن ينص الشارع على كل معينة ولا يمكن النبي ولا الإمام أن يعلم الباطن في كل معينة بل قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يولى الوليد بن عقبة ثم ينزل الله فيه إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة (سورة الحجرات). وقد كان يظن أن الحق في قضيته مع بني أبيرق ثم ينزل اللهإنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (سورة النساء). الآيات وأما علي رضي الله عنه فظهور الأمر له في الجزئيات بخلاف ما ظنه كثير جدا فعلم أنه لا بد من الاجتهاد في ا لجزئيات من المعصومين وغير المعصومين وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فحكمه في القضية المعينة إنما هو باجتهاده ولهذا نهى المحكوم له أن يأخذ ما حكم له به إذا كان الباطن بخلاف ما ظهر للحاكم وعمر رضي الله عنه إمام وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين فاجتهد في ذلك ورأى أن هؤلاء الستة أحق من غيرهم وهو كما رأى فإنه لم يقل أحد أن غيرهم أحق منهم وجعل التعيين إليهم خوفا أن
(6/83)
يعين واحدا منهم ويكون غيره أصلح لهم فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين وقال الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحدا منهم وهذا أحسن اجتهاد إمام عالم عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه وأيضا فقد قال تعالى وأمرهم شورى بينهم (سورة الشورى). وقال وشاورهم في الأمر (سورة آل عمران). فكان ما فعله من الشورى مصلحة وكان ما فعله أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضا فإن أبا بكر تبين له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر مالم يحتج معه إلى الشورى وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو عليا أو طلحة أو الزبير أو سعدا أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أفرس الناس ثلاثه بنت صاحب مدين حيث قالت يا أبت أستأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين (سورة القصص). وأمرأة العزيز حيث قالت عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا (سورة القصص). وأبو بكر حيث استخلف عمروقالت عائشة رضي الله عنها في خطبتها أبي وما أبيه والله لا تعطوه الأيدي ذاك طود منيف وفرع مديد هيهات كذبت الظنون أنجح إذ أكديتم وسبق إذا ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد فتى قريش ناشئا وكهفها كهلا يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعبها حتى حليته قلوبها ثم استشرىفي الله فما برحت شكيمته في ذات الله تعالى تشتد حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون وكان رحمه الله غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجى النشيج فتتقصف عليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (سورة البقرة). فأكبرت ذلك رجالات قريش فحنت له قسيها وفوقت له سهامها وانتبلوه غرضا فما فلوا له
(6/84)
صفاة ولا قصفوا له قناة ومر على سيسائه حتى إذا ضرب الدين بجرانه وألقى بركه ورست أوتاده ودخل الناس فيه أفواجا ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا اختار الله نبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده فلما قبض الله نبيه نصب الشيطان رواقة ومد طنبه ونصب حبائله فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين الذي يرجون وأني والصديق بين أظهرهم فقام حاسرا مشمرا فجمع حاشيته ورفع قطريه فرد نشر الإسلام على غره ولم شعثهبطبه وأقام أوده بثقافة فدق النفاق بوطأته وانتاش الدين فمنعه فلما أراح الحق على أهله وقرر الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها أتته منيته فسد ثلمه بنظيره في الرحمة وشقيقه في السيرة والمعدلة ذاك ابن الخطاب لله ثم حملت به ودرت عليه لقد أوحدت به ففنخ الكفرة وديخها وشرد الشرك شذر مذر وبعج الأرض وبخعهافقاءت أكلها ولفظت خبيئها ترأمه ويصدف عنها وتصدى له ويأباها ثم ورع فيها وودعها كما صحبها فأروني ما تريبون وأي يوم تنقمون أيوم إقامته إذ عدل فيكم أم يوم ظعنه وقد نظر لكم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وروى هذه الخطبة جعفر ابن عون عن أبيه عن عائشة وهؤلاء رواة الصحيحين وقد رواها أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه وبعضهم رواها عن هشام ولم يذكر فيه عروة وأما عمر رضي الله عنه فرأى الأمر في الستة متقاربا فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض فلذلك المفضول مزيه أخرى ليست للآخر ورأى أنه إذا عين واحدا فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوبا إليه فترك التعيين خوفا من الله تعالى وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين بين
(6/85)
تعيينهم إذ لا أحق منهم وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة وإذا كان من الأمور أمور لا يمكن دفعها فتلك لا تدخل في التكليف وكان كما رآه فعلم أنه أن ولى واحدا من الستة فلا بد أن يحصل نوع من التأخر عن سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأن يحصل بسبب ذلك مشاجرة كما جبل الله على ذلك طباع بني آدم وإن كانوا من أولياء الله المتقين وذكر في كل واحد من الستة الأمر الذي منعه من تعيينه وتقديمه على غيره ثم إن الصحابة اجتمعوا على عثمان رضي الله عنه لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة وأقلهما مفسدة وعمر رضي الله عنه خاف أن يتقلد أمرا يكون فيه ما ذكر ورأى أنهم إذا بايعوا واحدا منهم باختيارهم حصلت المصلحة بحسب الإمكان وكان الفرق بين حال المحيا وحال الممات أي في الحياة يتولى أمر
(6/86)
المسلمين فيجب عليه أن يولى عليهم أصلح من يمكنه وأما بعد الموت فلا يجب عليه أن يستخلف معينا إذا كانوا يجتمعون على أمثلهم كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم أنهم يجتمعون على أبي بكر استغنى بذلك عن كتابه الكتاب الذي كان قد عزم على أن يكتبه لأبي بكر وأيضا فلا دليل على أنه يجب على الخليفة أن يستخلف بعده فلم يترك عمر واجبا ولهذا روجع في استخلاف المعين وقيل له أرأيت لو أنك استرعيت فقال إن الله تعالى لم يكن يضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن عجل بى أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ومما ينبغي أن يعلم أن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الناس على غاية ما يمكن من الصلاح لا لرفع الفساد بالكلية فإن هذا ممتنع في الطبيعة الإنسانية إذ لا بد فيها من فساد ولهذا قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك الآية (سورة البقرة). ولهذا لم تكن أمة من الأمم إلا وفيها شر وفساد وأمثل
(6/87)
الأمم قبلنا بنو إسرائيل وكان فيهم من الفساد والشر ما قد علم بعضه وأمتنا خير أمم وأكرمها على الله وخيرها القرون الثلاثة وأفضلهم الصحابة وفي أمتنا شر كثير لكنه أقل من شر بني إسرائيل وشر بني إسرائيل أقل من شر الكفار الذين لم يتبعوا نبيا كفرعون وقومه وكل خير في بني إسرائيل ففي أمتنا خير منه وكذلك أول هذه الأمة وآخرها فكل خير من المتأخرين ففي المتقدمين ما هو خير منه وكل شر في المتقدمين ففي المتأخرين ما هو شر منه وقد قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم (سورة التغابن). ولا ريب أن الستة الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض الذي عينهم عمر لا يوجد أفضل منهم وإن كان في كل منهم ما كرهه فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم ولهذا لم يتول بعد عثمان خير منه ولا أحسن سيرة ولا تولى بعد علي خير منه ولا تولى ملك من ملوك المسلمين أحسن سيرة من معاوية رضي الله عنه كما ذكر الناس سيرته وفضائله وإذا كان الواحد من هؤلاء له ذنوب فغيرهم أعظم ذنوبا وأقل حسنات فهذا من الأمور التي ينبغي أن تعرف فإن الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير ولا يقع على الصحيح والعاقل يزن الأمور جميعا هذا وهذا
(6/88)
وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يعيبون على من يذمونه ما يعاب أعظم منه على من يمدحونه فإذا سلك معهم ميزان العدل تبين أن الذي ذموه أولى بالتفضيل ممن مدحوه وأما ما يروى من ذكره لسالم مولى أبي حذيفة فقد علم أن عمر وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الإمامة في قريش كما استفاضت بذلك السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان وفي لفظ ما بقي منهم اثنان وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في هذا الشأن مؤمنهم تبع لمؤمنهم وكافرهم تبع لكافرهم رواه مسلم وفي حديث جابر قال الناس تبع لقريش في الخير والشر وخرج البخاري عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين
(6/89)
وهذا مما احتجوا به على الأنصار يوم السقيفة فكيف يظن بعمر أنه كان يولى رجلا من غير قريش بل من الممكن أنه كان يوليه ولاية جزئية أو يستشيره فيمن يولى ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى أبي حذيفة فإن سالما كان من خيار الصحابة وهو الذي كان يؤمهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المهاجرون وأما قول الرافضي وجمع بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول فيقال له أولا هؤلاء كانوا متقاربين في الفضيلة ولم يكن تقدم بعضهم على بعض ظاهرا كتقدم أبي بكر وعمر على الباقين ولهذا كان في الشورى تارة يؤخذ برأي عثمان وتارة يؤخذ برأي علي وتارة برأي عبد الرحمن وكل منهم له فضائل لم يشركه فيها الآخر ثم يقال له ثانيا وإذا كان فيهم فاضل ومفضول فلم قلت إن عليا هو الفاضل وعثمان وغيره هم المفضولون وهذا القول خلاف ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار كما قال غير واحد من الأئمة منهمأيوب السختياني وغيره من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وفي لفظ ثم ندع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتا بالنص وإلا فيكون ثابتا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم
(6/90)
قال الإمام أحمد لم يجتمعوا على بيعة أحد ما أجتمعوا على بيعة عثمان وسئل عن خلافة النبوة فقال كل بيعة كانت بالمدينة وهو كما قال فإنهم كانوا في آخر ولاية عمر أعز ما كانوا وأظهر ما كانوا قبل ذلك وكلهم بايع عثمان بلا رغبة بذلها لهم ولا رهبة فإنه لم يعط أحدا على ولايته لا مالا ولا لاية وعبد الرحمن الذي بايعه لم يوله ولم يعطه مالا وكان عبد الرحمن من أبعد الناس عن الأغراض مع أن عبد الرحمن شاور جميع الناس ولم يكن لبني أمية شوكة ولا كان في الشورى منهم أحد غير عثمان مع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كما وصفهم الله عز وجل يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم (سورة المائدة). وقد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا الحق حيثما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم ولم ينكر أحد منهم ولاية عثمان بل كان في الذين بايعوه عمار بن ياسر وصهيب وأبو ذر وخباب والمقداد بن الأسود وابن مسعود وقال ابن مسعود ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل وفيهم العباس بن عبد المطلب وفيهم من النقباء مثل عبادة بن
(6/91)
الصامت وأمثاله وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري وأمثاله وكل من هؤلاء وغيرهم لو تكلم بالحق لم يكن هناك عذر يسقطه عنه فقد كان يتكلم من يتكلم منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولاية من يولى وهو مستحق للولاية ولا يحصل لهم ضرر وتكلم طلحة وغيره في ولاية عمر لما استخلفه أبو بكر وتكلم أسيد بن حضير في ولاية أسامة بن زيد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد كانوا يكلمون عمر فيمن يوليه ويعزله وعثمان بعد ولايته وقوة شوكته وكثرة أنصاره وظهور بني أمية كانوا يكلمونه فيمن يوليه ويعطيه منهم ومن غيرهم ثم في آخر الأمر لما اشتكوا من بعضهم عزله ولما اشتكوا من بعض من يأخذ بعض المال منعه فأجابهم إلى ما طلبوه من عزل ومنع من المال وهم أطراف من الناس وهو في عزة ولايته فكيف لا يسمع كلام الصحابة أئمتهم وكبرائهم مع عزهم وقوتهم لو تكلموا في ولاية عثمان وقد تكلموا مع الصديق في ولاية عمر وقالوا ماذا تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا فقال أبالله تخوفوني أقول وليت عليهم خير أهلك فلم يحابوا الصديق في عهده لعمر مع شدته
(6/92)
ومن شأن الناس أن يراعوا من يرشح للولاية فيحابونه خوفا منه أن ينتقم منهم إذا ولى ورجاء له وهذا موجود فهؤلاء لم يحابوا عمر ولا أبا بكر مع ولايتهما فكيف يحابون عثمان وهو بعد لم يتول ولا شوكة له فلولا علم القوم بأن عثمان أحقهم بالولاية لما ولوه وهذا أمر كلما تدبره الخبير ازداد به خبرة وعلما ولا يشك فيه إلا من لم يتدبره من أهل العلم بالاستدلال أو من هو جاهل بالواقع أو بطريق النظر والاستدلال والجهل بالأدلة أو بالنظر فيها يورث الجهل وأما من كان عالما بما وقع وبالأدلة وعالما بطريقة النظر والاستدلال فإنه يقطع قطعا لا يتمارى فيه أن عثمان كان أحقهم بالخلافة وأفضل من بقي بعده فاتفاقهم على بيعة عثمان بغير نكير دليل على أنهم لم يكن عندهم أصلح منها وإن كان في ذلك كراهية في الباطن من بعضهم لاجتهاد أو هوى فهذا لا يقدح فيها كما لا يقدح في غيرها من الولايات كولاية أسامةبن زيد وولاية أبي بكر وعمر وأيضا فإن ولاية عثمان كان فيها من المصالح والخيرات مالا يعلمها إلا الله وما حصل فيها من الأمور التي كرهوها كتأمير بعض بني
(6/93)
أمية وإعطائهم بعض المال ونحو ذلك فقد حصل من ولاية من بعده ما هو أعظم من ذلك من الفساد ولم يحصل فيها من الصلاح ما حصل في إمارة عثمان وأين إيثار بعض الناس بولاية أو مال من كون الأمة يسفك بعضها دماء بعض وتشتغل بذلك عن مصلحة دينها ودنياها حتى يطمع الكفار في بلاد المسلمين وأين اجتماع المسلمين وفتح بلاد الأعداء من الفرقة والفتنة بين المسلمين وعجزهم عن الأعداء حتى يأخذوا بعض بلادهم أو بعض أموالهم قهرا أو صلحا وأما قول الرافضي إنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تقلده حيا ثم تقلده بأن جعل الإمامة في ستة فالجواب أن عمر لم يطعن فيهم طعن من يجعل غيرهم أحق بالإمامة منهم بل لم يكن عنده أحق بالإمامة منهم كما نص على ذلك بين عذره المانع له من تعيين واحد منهم وكره أن يتقلد ولاية معين ولم يكره أن يتقلد تعيين الستة لأنه قد علم أنه لا أحد أحق بالأمر منهم فالذي علمه وعلم أن الله يثيبه عليه ولا تبعة عليه فيه إن تقلده هو
(6/94)
اختيار الستة والذي خاف أن يكون عليه فيه تبعة وهو تعيين واحد منهم تركه وهذا من كمال عقله ودينه رضي الله عنه وليس كراهته لتقلده ميتا كما تقلده حيا لطعنه في تقلده حيا فإنه إنما تقلد الأمر حيا باختياره وبأن تقلده كان خيرا له وللأمة وإن كان خائفا من تبعة الحساب فقد قال تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (سورة المؤمنون). قالت عائشة يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب قال لا يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه فخوفه من التقصير في الطاعة من كمال الطاعة والفرق بين تقلده حيا وميتا أنه في حياته كان رقيبا على نوابه متعقبا لأفعالهم يأمرهم بالحج كل عام ليحكم بينهم وبين الرعية فكان ما يفعلونه مما يكرهه يمكنه منعهم منه وتلافيه بخلاف ما بعد الموت فإنه لا يمكنه لا منعهم مما يكرهه ولا تلافي ذلك فلهذا كره تقلد الأمر ميتاوأما تعيين الستة فهو عنده واضح بين لعلمه أنهم أحق الناس بهذا الأمر وأما قوله ثم ناقص فجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور فالجواب أولا أنه ينبغي لمن احتج بالمنقول أن يثبته أولا وإذا قال القائل هذا غير معلوم الصحة لم يكن عليه حجة والنقل الثابت في صحيح البخاري وغيره ليس فيه شيء من هذا بل هو يدل على نقيض هذا وأن الستة هم الذين جعلوا الأمر في ثلاثة ثم الثلاثة جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف واحد منهم ليس لعمر في ذلك أمر وفي الحديث الثابت عن عمرو بن ميمون أن عمر بن الخطاب لما طعن قال إن الناس يقولون استخلف وإن الأمر إلى هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك ويشهدهم
(6/95)
عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء فإن أصابت الخلافة سعدا ولا فليستعن به من ولي فإني لم اعزله عن عجز ولا خيانة ثم قال أوصى الخليفة من بعدي بتقوى الله تعالى وأوصيه بالمهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وأوصيه بأهل الامصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وغيظ العدو وجباة الأموال لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضا منهم وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ منهم من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم وأوصيه بذمه الله ورسوله أن يوفى لهم بعدهم ويقاتل من وراءهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم فقد وصى الخليفة من بعده بجميع أجناس الرعية السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وأوصاه بسكان الأمصار من المسلمينوأوصاه بأهل البوادي وبأهل الذمة قال عمرو بن ميمون فلما قيب انطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر وقال يستأذن عمر بن الخطاب قالت أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن بن عوف اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم قال الزبير قد جعلت أمري إلى علي وقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد قد جعلت أمرى إلى عبد الرحمن بن عوف وقال عبد الرحمن أيكم يبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضل من في نفسه فأسكت الشيخان فقال عبد الرحمن أتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكما قالا نعم فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت والله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عليك لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال ارفع يدك يا عثمان فبايعه وبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه وفي الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة قال أن الرهط
(6/96)
الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا وقال لهم عبد الرحمن لست بالذي أنافسكم في هذا الأمر ولكن إن شئتم اخترت لكم منكم فجعلوا ذلك لعبد الرحمن بن عوف فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم مال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحدا من الناس يتبع أولئك الرهط الذين ولاهم عمر ولا يطأ عقبه قال ومال الناس إلى عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها قال المسور طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال أراك نائما والله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم انطلق فادع لي الزبير وسعدا فدعوتهما فشاورهما ثم دعاني فقال ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى آبهار الليل ثم قام على من عنده وهو على طمع وقد كان عبد الرحمن يخشى من عليشيئا ثم قال ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح فلما صلى الناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر أرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا فقال أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون وأما قوله ثم قال إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذين صار فيهم عبد الرحمن لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر وأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه وعثمان وابن عمه فيقال له من الذي قال إن عمر قال ذلك وإن كان قد قال ذلك
(6/97)
فلا يجوز أن يظن به أنه كان غرضه ولاية عثمان محاباة له ومنع علي معاداة له فإنه لو كان قصده هذا لولى عثمان ابتداء ولم ينتطح فيها عنزان كيف والذين عاشوا بعده قدموا عثمان بدون تعيين عمر له فلو كان عمر عينه لكانوا أعظم متابعة له وطاعة سواء كانوا كما يقوله المؤمنون أهل دين وخير وعدل أو كانوا كما يقوله المنافقون الطاعنون فيهم إن مقصودهم الظلم والشر لا سيما عمر كان في حال الحياة لا يخاف أحدا والرافضة تسميه فرعون هذه الأمة فإذا كان في حياته لم يخف من تقديم أبي بكر والأمر في أوله والنفوس لم تتوطن على طاعة أحد معين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا صار لعمر أمر فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته والناس كلهم مطيعوه وقد تمرنوا على طاعته فعلم أنه لو كان له غرض في تقديم عثمان لقدمه ولم يحتج إلى هذه الدورة البعيدة ثم أي غرض يكون لعمر رضي الله عنه في عثمان دون علي وليس بينه وبين عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين علي لا من جهة القبيلة ولا من غير جهة القبيله
(6/98)
وعمر قد أخرج من الأمر ابنه ولم يدخل في الأمر ابن عمه سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لأعيانهم بالجنة في حديث واحد وهم من قبيلة بني عدي ولا كان يولى من بني عدي أحدا بل ولى رجلا منهم ثم عزله وكان باتفاق الناس لا تأخذه في الله لومة لائم فأي داع يدعوه إلى محاباة زيد دون عمر وبلا غرض يحصله من الدنيا فمن أقصى عشيرته وأمر بأن الدين الذي عليه لا يوفى إلا من مال أقاربه ثم من مال بني عدي ثم من مال قريش ولا يؤخذ من بيت المال شيء ولا من سائر الناس فأي حاجة له إلى عثمان أو علي أو غيرهما حتى يقدمه وهو لا يحتاج إليه لا في أهله الذين يخلفهم ولا في دينه الذي عليه والإنسان إنما يحابي من يتولى بعده لحاجته إليه في نحو ذلك فمن لا يكون له حاجة لا إلى هذا ولا إلى هذا فأي داع يدعوه إلى ذلك لا سيما عند الموت وهو وقت يسلم فيه الكافر ويتوب فيه الفاجر فلو علم أن لعلي حقا دون غيره أو أنه أحق بالأمر من غيره لكان الواجب أن يقدمه حينئذ إما توبة إلى الله وإما تخفيفا للذنب فإنه إذا لم يكن له مانع دنيوي لم يبق إلا الدين فلو كان الدين يقتضي ذلك
(6/99)
لفعله وإلا فليس في العادة أن الرجل يفعل ما يعلم أنه يعاقب عليه ولا ينتفع به لا في دين ولا دنيا بل لا يفعل ما لا غرض له فيه أصلا ويترك ما يحتاج إليه في دينه عند الموت مع صحة العقل وحضوره وطول الوقت ولو قدر والعياذ بالله أنه كان عدوا مبغضا للنبي صلى الله عليه وسلم غاية البغضة فلا ريب أنه نال بسبب النبي صلى الله عليه وسلم ما ناله من السعادة ولم يكن عمر ممن يخفي عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق مصدق فإنه كان من أذكى الناس ودلائل النبوة من أظهر الأمور فهو يعلم أنه أن استمر على معاداته يعذب في الآخرة وليس له وقت الموت غرض في ولاية عثمان ونحوه فكيف يصرف الأمر عن مستحقه لغير غرض وإن قيل إنه كان يخاف أن يقال إنه رجع وتاب كما خاف أبو طالب من الإسلام وقت الموت فيقال قد كان يمكنه ولاية على بلا إظهار توبة فإنه لو ولى عليا أو غيره لسمع الناس وأطاعوا ولم ينتطح في ذلك عنزان والإنسان قد يكون عليه مظالم فيؤديها على وجه لا يعرف أنه كان ظالما فيوصي وقت
(6/100)
الموت لفلان بكذا ولفلان بكذا ويجعلها وصية ويكون إما معتقدا وإما خائفا أن يكون حقا واجبا عليه وليس لعمر من يخاف عليه بعد موته فإن أقاربه صرف الأمر عنهم وهو يعلم أن عليا أعدل وأتقى من أن يظلمهم ولو قدر أن عليا كان ينتقم من الذين لم يبايعوه أولا فبنو عدى كانوا أبعد الناس عن ذلك فإنه لم يكن لهم شوكة ولا كانوا كثيرين وهم كلهم محبون لعلي معظمون له ليس فيهم من يبغض عليا أو يبغضه علي ولا قتل على منهم أحدا لا في جاهليه ولا إسلام وكذلك بنو تيم كلهم يحبون عليا وعلي يحبهم ولم يقتل علي منهم أحدا في جاهلية ولا إسلام و يقال ثانيا عمر ما زال إذا روجع رجع وما زال يعترف غير مرة أنه يتبين له الحق فيرجع إليه فإن هذا توبة ويقول رجل أخطأ وامرأة أصابت ويجدد التوبة لما يعلم أنه يتاب منه فهذا كان يفعله في حال الحياة وهو ذو سلطان على الأرض فكيف لا يفعله وقت الموت وقد كان يمكنه أن يحتال لعلي بحيلة يتولى بها ولا يظهر ما به يذم كما أنه احتال لعثمان ولو علم أن الحق كان لعلي دون غيره لكان له طرق كثيرة في تعيينه تخفى على أكثر الناس
(6/101)
وكذلك قول القائل إنه علم أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر كذب على عمر رضي الله عنه ولم يكن بين عثمان وعلي نزاع في حياة عمر أصلا بل كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما كلاهما من بني عبد مناف وما زال بنو عبد مناف يدا واحدة حتى أن أبا سفيان بن حرب أتى عليا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يتولى الأمر لكون على كان ابن عم أبي سفيان وأبو سفيان كان فيه بقايا من جاهلي العرب يكره أن يتولى علي الناس رجل من غير قبيلته وأحب أن تكون الولاية في بني عبد مناف وكذلك خالد بن سعيد كان غائبا فلما قدم تكلم مع عثمان وعلي وقال أرضيتم أن يخرج الأمر عن بني عبد مناف وكل من يعرف الأمور العادية ويعرف ما تقدم من سيرة القوم يعلم أن بني هاشم وبني أمية كانوا في غاية الاتفاق في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر حتى أن أبا سفيان لما خرج من مكة عام الفتح يكشف الخبر ورآه العباس أخذه وأركبه خلفه وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وطلب من النبي أن يشرفه بشيء لما قال له إنأبا سفيان رجل يحب الشرف وكل هذا من محبة العباس لأبي سفيان وبني أمية لأنهم كلهم بنو عبد مناف وحتى أنه كان بين علي وبين رجل آخر من المسلمين منازعة في حد فخرج عثمان في موكب فيهم معاوية ليقفوا على الحد فابتدر معاوية وسأل عن معلم من معالم الحد هل كان هذا على عهد عمر فقالوا نعم فقال لو كان هذا ظلما لغيره عمر فانتصر معاوية لعلي في تلك الحكومة ولم يكن علي حاضرا بل كان قد وكل ابن جعفر وكان علي يقول إن للخصومات قحما وإن الشيطان يحضرها وكان قد وكل عبد الله بن جعفر عنه في المحاكمة وبهذا احتج الشافعي وغير واحد من الفقهاء على جواز التوكيل في الخصومة بدون اختيار الخصم كما هو مذهب الشافعي وأصحاب أحمد وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة فلما رجعوا ذكروا ذلك لعلي فقال أتدري لم فعل ذلك معاوية
(6/102)
فعل لأجل المنافية أي لأجل أنا جميعا من بني عبد مناف وكانت قد وقعت حكومة شاورنى فيها بعض قضاة القضاة وأحضر لي كتابا فيه هذه الحكومة ولم يعرفوا هذه اللفظة لفظة المنافية فبينتها لهم وفسرت لهم معناها والمقصود أن بني عبد مناف كانوا متفقين في أول الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وإنما وقعت الفرقة بينهم وبعد ذلك لما تفرقوا في الإمارة كما أن بني هاشم كانوا متفقين على عهد الخلفاء الأربعة وعهد بني أمية وإنما حصلت الفرقة لما ولي بنو العباس وصار بينهم وبين بعض بني أبي طالب فرقة واختلاف وهكذا عادة الناس يكون القوم متفقين إذا لم يكن بينهم ما يتنازعون عليه من جاه أو مال أو غير ذلك وإن كان لهم خصم كانوا جميعا إلبا واحدا عليه فإذا صار الأمر إليهم تنازعوا واختلفوا فكان بنو هاشم من آل علي والعباس وغيرهم في الخلافة الأموية متفقين لا نزاع بينهم ولما خرج من يدعو إليهم صار يدعو إلى الرضا من آل محمد ولا يعينه وكانت العلوية تطمع أن تكون فيهم وكان جعفر ابن محمد وغيره قد علموا أن هذا الأمر لا يكون إلا في بني العباس فلما أزالوا الدولة الأموية وصارت الدولة هاشمية وبنى السفاح مدينة
(6/103)
سماها الهاشمية ثم تولى المنصور وقع نزاع بين الهاشميين فخرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن على المنصور وسير المنصور إليهما من يقاتلهما وكانت فتنة عظيمة قتل فيها خلق كثير ثم إن العباسيين وقع بينهم نزاع كما وقع بين الأمين والمأمون أمور أخر فهذه الأمور ونحوها من الأمور التي جرت بها العادة ثم إن عثمان وعليا جميعا اتفقا على تفويض الأمر إلى عبد الرحمن بن عوف من غير أن يكره أحدهما الآخر وقوله إن عمر علم أن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه وابن عمه فهذا كذب بين على وعمر وعلى أنسابهم فإن عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلا بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلا منهم إلى بني أميه فإن بني زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم عبد الرحمن بنعوف وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم هذا خالي فليرني امرؤ خاله ولم يكن أيضا بين عثمان وعبد الرحمن مؤاخاة ولا مخالطة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري ولا بين أنصاري وأنصاري وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها يعرفه أهل العلم بذلك ولم يؤاخ قط بين عثمان وعبد الرحمن
(6/104)
وأما قوله ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام فيقال أولا من قال إن هذا الصحيح وأين النقل الثابت بهذا وإنما المعروف أنه أمر الأنصار أن أن لايفارقوهم حتى يبايعوا واحدا منهم ثم يقال ثانيا هذا من الكذب على عمر ولم ينقل هذا أحد من أهل العلم بإسناد يعرف ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة وكيف يأمر بقتلهم وإذا قتلوا كان الأمر بعد قتلهم أشد فسادا ثم لو أمر بقتلهم لقال ولوا بعد قتلهم فلانا وفلانا فكيف يأمر بقتل المستحقين للأمر ولا يولى بعدهم أحدا وأيضا فمن الذي يتمكن من قتل هؤلاء والأمة كلها مطيعة لهم والعساكر والجنود معهم ولو أرادت الأنصار كلهم قتل واحد منهم لعجزوا عن ذلك وقد أعاذ الله الأنصار من ذلك فكيف يأمر طائفة قليلة من الأنصار بقتل هؤلاء الستة جميعا ولو قال هذا عمر فكيف كان يسكت هؤلاء الستة ويمكنون الأنصار منهم ويجتمعون في موضع ليس فيه من ينصرهم ولو فرضنا أن الستة لم يتول واحد منهم لم يجب قتل أحد منهم بذلك بل تولى غيرهم وهذا عبد الله بن عمر كان دائما
(6/105)
تعرض عليه الولايات فلا يتولى وما قتله أحد وقد عين للخلافة يوم الحكمين فتغيب عنه وما آذاه أحد قط وما سمع قط أن أحدا امتنع من الولاية فقتل على ذلك فهذا من اختلاق مفتر لا يدري ما يكتب لا شرعا ولا عادة ثم نقول جوابا مركبا لا يخلو إما أن يكون عمر أمر بهذا أو لم يكن أمر به فإن كان الأول بطل إنكاره وإن كان الثاني فليس كون الرجل من أهل الجنة أو كونه وليا لله مما يمنع قتله إذا اقتضى الشرع ذلك فإنه قد ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية وقال لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله فهذه يشهد لها الرسول بذلك ثم لما كان الحد قد ثبت عليها أمر برجمها ولو وجب على الرجل قصاص وكان من أولياء الله وتاب من قتل العمد توبة نصوحا لوجب أن يمكن أولياء المقتول منه فإن شاءوا قتلوه ويكون قتله كفارة لهوالتعزير بالقتل إذا لم تحصل المصلحة بدونه مسألة اجتهادية كقتل الجاسوس المسلم للعلماء فيه قولان معروفان وهما قولان في مذهب أحمد أحدهما يجوز قتله وهو مذهب مالك واختيار ابن عقيل والثاني لا يجوز قتله وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي واختيار القاضي أبي يعلى وغيره وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه وقال في شارب الخمر إن شربها في الرابعة فاقتلوه وقد تنازع العلماء في هذا الحكم هل هو منسوخ أم لا فلو قدر أن عمر أمر بقتل واحد من المهاجرين الأولين لكان ذلك منه على سبيل الاجتهاد السائغ له ولم يكن ذلك مانعا من كون ذلك الرجل في الجنة ولم يقدح لا في عدل هذا ولا في دخول هذا الجنة فكيف إذا لم يقع شيء من ذلك ثم من العجب أن الرافضة يزعمون أن الذين أمر عمر بقتلهم بتقدير صحة هذا النقل يستحقون القتل إلا عليا فإن كان عمر أمر بقتلهم فلماذا ينكرون عليه ذلك ثم يقولون إنه كان يحابيهم في الولاية ويأمر(6/106)
بقتلهم فهذا جمع بين الضدين وإن قلتم كان مقصوده قتل علي قيل لو بايعوا إلا عليا لم يكن ذلك يضر الولاية فإنما يقتل من يخاف وقد تخلف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر ولم يضربوه ولم يحبسوه فضلا عن القتل وكذلك من يقول إن عليا وبني هاشم تخلفوا عن بيعة أبي بكر ستة أشهر يقول إنهم لم يضربوا أحدا منهم ولا أكرهوه على البيعة فإذا لم يكره أحد على مبايعة أبي بكر التي هي عنده متعينة فكيف يأمر بقتل الناس على مبايعة عثمان وهي عنده غير متعينة وأبو بكر وعمر مدة خلافتهما ما زالا مكرمين غاية الإكرام لعلي وسائر بني هاشم يقدمونهم على سائر الناس ويقول أبو بكر أيها الناس ارقبوا محمدا في أهل بيته وأبو بكر يذهب وحده إلى بيت علي وعنده بنو هاشم فيذكر لهم فضلهم ويذكرون له فضله ويعترفون له باستحقاقه الخلافة ويعتذرون من التأخر ويبايعونه وهو عندهم وحده والآثار المتواترة بما كان بين القوم من المحبة والائتلاف توجب كذب من نقل ما يخالف ذلكولو أراد أبو بكر وعمر في ولايتهما إيذاء علي بطريق من الطرق لكانا أقدر على ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء المفترون يزعمون أنهم ظلموه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه ومنعهما من ظلمه وكانا أعجز عن ظلمه لو أرادا ذلك فهلا ظلماه بعد قوتهما ومطاوعة الناس لهما إن كانا مريدين لظلمه ومن العادة المعروفة أن من تولى ولاية وهناك من هو مرشح لها يخاف أن ينازعه أنه لا يقر حتى يدفعه عن ذلك إما بحبس وإما بقتل سرا أو علانية كما جرت عادة الملوك فإذا كانا يعلمان أنهما ظالمان له وهو مظلوم يعرف أنه مظلوم وهو مريد للولاية فلا بد أن يخافا منه فكان ينبغي لو كان هذا حقا أن يسعيا في قتله أو حبسه ولو بالحيلة وهذا أو أراداه لكان أسهل عليهما من منعه ابتداء مع وجود النص ولو أرادا تأميره على بعض الجيوش وأوصيا بعض أهل الجيوش أن يقتله
(6/107)
ويسمه كان هذا ممكنا ففي الجملة دفع المتولى لمن يعرف أنه ينازعه ويقول إنه أحق بالأمر منه أمر لا بد منه وذلك بأنواع من إهانة وإيذاء وحبس وقتل وإبعاد وعلي رضي الله عنه ما زالا مكرمين له غاية الإكرام بكل طريق مقدمين له بل ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء مقدمين له في المرتبة والحرمة والمحبة والموالاة والثناء والتعظيم كما يفعلان بنظرائه ويفضلانه بما فضله الله عز وجل به على من ليس مثله ولم يعرف عنهم كلمة سوء في علي قط بل ولا في أحد من بني هاشم ومن المعلوم أن المعاداة التي في القلب توجب إرادة الأذى لمن يعادي فإذا كان الإنسان قادرا اجتمعت القدرة مع الإرادة الجازمة وذلك يوجب وجود المقدور فلو كانا مريدين بعلي سوءا لكان ذلك مما يوجب ظهوره لقدرتهما فكيف ولم يظهر منهما إلا المحبة والموالاة وكذلك علي رضي الله عنه قد تواتر عنه من محبتهما وموالاتهما وتعظيمهما وتقديمهما على سائر الأمة ما يعلم به حاله في ذلك ولم يعرف عنه قط كلمة سوء في حقهما ولا أنه كان أحق بالأمر منهما وهذا معروف عند من عرف الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصة والعامة والمنقولة بأخبار الثقات
(6/108)
وأما من رجع إلى ما ينقله من هو من أجهل الناس بالمنقولات وأبعد الناس عن معرفة أمور الإسلام ومن هو معروف بافتراء الكذب الكثير الذي لا يروج إلا على البهائم ويروج كذبه على قوم لا يعرفون الإسلام إما قوم سكان البوادي أو رءوس الجبال أو بلد أهله من أقل الناس علما وأكثرهم كذابا فهذا هو الذي يضل وهكذا الرافضة لا يتصور قط أن مذهبهم يروج على أهل مدينة كبيرة من مدائن المسلمين فيها أهل علم ودين وإنما يروج على جهال سكنوا البوادي والجبال أو على محلة في مدينة أو بليدة أو طائفة يظهرون للناس خلاف ما يبطنون لظهور كذبهم حتى أن القاهرة لما كانت مع العبيديين وكانوا يظهرون التشيع لم يتمكنوا من ذلك حتى منعوا من فيها من أهل العلم والدين من إظهار علمهم ومع هذا فكانوا خائفين من سائر مدائن المسلمين يقدم عليهم الغريب من البلد البعيد فيكتمون عنه قولهم ويداهنونه ويتقونه كما يخاف الملك المطاع وهذا لأنهم أهل فرية وكذب وقد قال تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين (سورة الأعراف). قال ابو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة وكذلك قوله أمر بقتل من خالف الأربعة وأمر بقتل من خالف الثلاثة منهم عبد الرحمن
(6/109)
فيقال هذا من الكذب المفترى ولو قدر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة فلم يأمر عمر بقتل مثل هذا ولا يجوز قتل مثل هذا وكذلك ما ذكره من الإشارة إلى قتل عثمان ومن الإشارة إلى ترك ولاية علي كذب بين على عمر فإن قوله لئن فعلت ليقتلنك الناس إخبار عما يفعله الناس ليس فيه أمر لهم بذلك وكذلك قوله لا يولونه إياها إخبار عما سيقع ليس فيه نهي لهم عن الولاية مع أن هذا اللفظ بهذا السياق ليس بثابت عن عمر بل هو كذب عليه والله تعالى أعلمفصل قال الرافضي وأما عثمان فإنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة وقسم الولايات بين أقاربه وعوتب على ذلك مرارا فلم يرجع واستعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتبه أن يستمر على ولايته سرا خلاف ما كتب إليه جهرا وأمر بقتل محمد بن أبي بكر وولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث وولى عبد الله بن عامر البصرة
(6/110)
ففعل من المناكير ما فعل وولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره ودفع إليه خاتمه فحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار ودفع إلى مروان ألف ألف دينار وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره ولما حكم ضربه حتى مات وضرب عمارا حتى صار به فتق وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة وكان عمار يطعن عليه وطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله تعالى قال لا تجد قوما يؤمنون باللهواليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم الآية (سورة المجادلة). ونفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر وقال إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم فقيل من هم يا رسول الله قال سيدهم علي وسلمان والمقداد وأبو ذر وضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين وقال لا يبطل حد الله وأنا حاضر وزاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة وصار سنة
(6/111)
إلى الآن وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى والجواب أن يقال نواب علي خانوه وعصوه أكثر مما خان عمال عثمان له وعصوه وقد صنف الناس كتبا فيمن ولاه علي فأخذ المال وخانه وفيمن تركه وذهب إلى معاوية وقد ولى علي رضي الله عنه زياد بن أبي سفيان أبا عبيدالله بن زياد قاتل الحسين وولي الأشتر النخعي وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان خيرا من هؤلاء كلهم ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يدعون أن عليا كان أبلغ فيه من عثمان فيقولون إن عثمان ولى أقاربه من بني أمية ومعلوم أن عليا ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه كعبد الله وعبيد الله ابنى العباس فولى عبيد الله بن عباس على اليمن وولى على مكة والطائف قثم ابن العباس وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف وقيل ثمامة بن العباس وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره ثم إن الإمامية تدعي أن عليا نص على أولاده في الخلافة أو علىولده وولده على ولده الآخر وهلم جرا ومن المعلوم أنه إن كان توليه الأقربين منكرا فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم ولهذا كان الوكيل والوالي الذي لا يشترى لنفسه لا يشترى لابنه أيضا في أحد قولي العلماء والذي دفع إليه المال ليعطيه لمن يشاء لا يأخذه لنفسه ولا يعطيه لولده في أحد قوليهم وكذلك تنازعوا في الخلافة هل للخليفة أن يوصي بها لولده على قولين والشهادة لابنه مردودة عند أكثر العلماء ولا ترد الشهادة لبني عمه وهكذا غير ذلك من الأحكام وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنت ومالك لأبيك وقال ليس لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهبه لولده
(6/112)
فإن قالوا إن عليا رضي الله عنه فعل ذلك بالنص قيل أولا نحن نعتقد أن عليا خليفة راشد وكذلك عثمان لكل قبل أن ينعلم حجة كل منهما فيما فعل فلا ريب أن تطرق الظنون والتهم إلى ما فعله على أعظم من تطرق التهم والظنون إلى ما فعله عثمان وإذا قال القائل لعلي حجة فيما فعله قيل له وحجة عثمان فيما فعله أعظم وإذا ادعى لعلي العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين كان ما يدعى لعثمان من الاجتهاد الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول فإن الرافضي يجيء إلى أشخاص ظهر بصريح المعقول وصحيح المنقول أن بعضهم أكمل سيرة من بعض فيجعل الفاضل مذموما مستحقا للقدح ويجعل المفضول معصوما مستحقا للمدح كما فعلت النصارى يجيئون إلى الأنبياء صلوات الله عليهم وقد فضل الله بعضهم
(6/113)
على بعض فيجعلون المفضول إلها والفاضل منقوصا دون الحواريين الذين صحبوا المسيح فيكون ذلك قلبا للحقائق وأعجب من ذلك أنهم يجعلون الحواريين الذين ليسوا أنبياء معصومين عن الخطأ ويقدحون في بعض الأنبياء كسليمان وغيره ومعلوم أن إبراهيم ومحمدا أفضل من نفس المسيح صلوات الله وسلامه عليهم بالدلائل الكثيرة بل وكذلك موسى فكيف يجعل الذين صحبوا المسيح أفضل من إبراهيم ومحمد وهذا من الجهل والغلو الذي نهاهم الله عنه قال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه (سورة النساء). وكذلك الرافضة موصفون بالغلو عند الأمة فإن فيهم من أدعى الإلهية في علي وهؤلاء شر من النصارى وفيهم من أدعى النبوة فيه ومن أثبت نبيا بعد محمد فهو شبيه بأتباع مسيلمة الكذاب وأمثاله من المتنبئين إلا أن عليا رضي الله عنه بريء من هذه الدعوة بخلاف من أدعى النبوة لنفسه كمسيلمة وأمثاله وهؤلاء الإمامية يدعون ثبوت إمامته بالنص وأنه كان معصوما هو وكثير من ذريته وأن القوم ظلموه وغصبوه ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة فإن المعصوم يجب
(6/114)
اتباعه في كل ما يقول لا يجوز أن يخالف في شيء وهذه خاصة الأنبياء ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل اليهم فقال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (سورة البقرة). فأمرنا أن نقول آمنا بما أوتي النبيون وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (سورة البقرة). وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبين (سورة البقرة). فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به وهذا مما اتفق عليه المسلمون أنه يجب الإيمان بكل نبي ومن كفر بنبي واحد فهو كافر ومن سبه وجب قتله باتفاق العلماء وليس كذلك من سوى الأنبياء سواء سموا أولياء أو أئمة أو حكماء أو علماء أو غير ذلك فمن جعل بعد الرسول معصوما يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها ويقال لهذا ما الفرق بين هذا وبين أنبياء بني إسرائيل الذين كانوامأمورين باتباع شريعة التوراة وكثير من الغلاة في المشايخ يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك ويقولون الشيخ محفوظ ويأمرون باتباع الشيخ في كل ما يفعل لا يخالف في شيء أصلا وهذا من جنس غلو الرافضة والنصارى والإسماعيلية تدعى في أئمتها أنهم كانوا معصومين وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدى يقولون إنه معصوم ويقولون في خطبة الجمعة الإمام المعصوم والمهدي المعلوم ويقال إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصوما ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها فإن الله تعالى يقول أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
(6/115)
والرسول الآية (سورة النساء). فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول فمن أثبت شخصا معصوما غير الرسول أوجب رد ما تنازعوا فيه إليه لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول وهذا خلاف القرآن وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقا بلا قيد ومخالفة يستحق الوعيد والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (سورة النساء). وقال ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا (سورة الجن). فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار وبين الأبرار والفجار وبين الحق والباطل وبين الغي والرشاد والهدى والضلال وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقى وسعيد فمن اتبعه فهو السعيد ومن خالفه فهو الشقى وليست هذه المرتبة لغيره ولهذا اتفق أهل العلم أهل الكتاب والسنة على أن كل شخص
(6/116)
سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل أمر فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وهو الذي يسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين (سورة الأعراف). وهو الذي يمتحن به الناس في قبورهم فيقال لأحدهم من ربك وما دينك ومن نبيك ويقال ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فيقول هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه ولو ذكر بدل الرسول من ذكره من الصحابة والأئمة والتابعين والعلماء لم ينفعه ذلك ولا يمتحن في قبره بشخص غير الرسول والمقصود هنا أن ما يعتذر به عن علي فيما أنكر عليه يعتذر بأقوى منه عن عثمان فإن عليا قاتل على الولاية وقتل بسبب ذلك خلق كثير عظيم ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار ولا فتح لبلادهم ولا كان المسلمون في زيادة خير وقد ولى من أقاربه من ولاه فولاية الأقارب مشتركة ونواب عثمان كانوا أطوع من نواب على وأبعد عن
(6/117)
الشر وأما الأموال التي تأول فيها عثمان فكما تأول على في الدماء وأمر الدماء أخطر وأعظم ويقال ثانيا هذا النص الذي تدعونه أنتم فيه مختلفون اختلافا يوجب العلم الضروري بأنه ليس عندكم ما يعتمد عليه فيه بل كل قوم منكم يفترون ما شاءوا وأيضا فجماهير المسلمين يقولون إنا نعلم علما يقينا بل ضروريا كذب هذا النص بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها ويقال فجماهير المسلمين يقولون إنا نعلم علما يقينا بل ضروريا كذب هذا النص بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها ويقال ثالثا إذا كان كذلك ظهرت حجة عثمان فإن عثمان يقول إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته وإستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤدد فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية واستعمل أيضا خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج
(6/118)
وعلى صنعاء اليمن فلم يزل عليها حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط حتى أنزل الله فيه إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة الآية (سورة الحجرات). فيقول عثمان أنا لم استعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم منهم ومن جنسهم ومن قبيلتهم وكذلك أبو بكر وعمر بعده فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية وهذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه بل متواتر عند أهل العلم ومنه متواتر عند علماء الحديث ومنه ما يعرفه العلماء منهم ولا ينكره أحد منهم فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن
(6/119)
النبي صلى الله عليه وسلم أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا على ابن أبي طالب رضي الله عنه على اليمن وولى أيضا على اليمن معاذ ابن جبل وأبا موسى الأشعري وولى جعفر بن أبي طالب على قتال مؤتة وولى قبل جعفر زيد بن حارثة مولاه وقيل عبد الله بن رواحة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم في الولاية زيد بن حارثة مولاه وهو من كلب على جعفر بن أبي طالب وقد روى أن العباس سأله ولاية فلم يوله إياها وليس في بني هاشم بعد علي أفضل من حمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث بن المطلب الذي قتل يوم بدر فحمزة لم يتول شيئا فإنه قتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه وما ينقله بعض الترك بل وشيوخهم من سيرة حمزة ويتداولونها بينهم ويذكرون له حروبا وحصارات وغير ذلك فكله كذب من جنس ما يذكره الذاكرون من الغزوات المكذوبة على علي بن أبيطالب بل وعلى النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما يذكره أبو الحسن البكري صاحب تنقلات الأنوار فيما وضعه من السيرة فإنه من جنس ما يفتريه الكذابون من سيرة داهمة والبطالين والعيارين ونحو ذلك فإن مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة مضبوطة عند أهل العمل وكانت بضعا وعشرين غزوه لكن لم يكن القتال منها إلا في تسع مغاز بدر وأحد والخندق وبني المصطلق والغابة وفتح خيبر وفتح مكة وحنين والطائف وهي آخر غزوات القتال لكن لما حاصر الطائف وكان بعدها غزوة تبوك وهي آخر المغازي وأكثرها عددا وأشقها على الناس وفيها أنزل الله سورة براءة لكن لم يكن فيها قتال وما يذكره جهال الحجاج من حصار تبوك كذب لا أصل له فلم يكن بتبوك حصن ولا مقاتلة وقد أقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6/120)
عشرين ليلة ثم رجع إلى المدينة النبوية وإذا كان جعفر أفضل بني هاشم بعد على في حياته ثم مع هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وهو من كلب عليه علم أن التقديم بفضيلة الإيمان والتقوى وبحسب أمور أخر بحسب المصلحة لا بالنسب ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر على أقاربه لأن رسول الله يأمر بأمر الله ليس من الملوك الذين يقدمون بأهوائهم لأقاربهم ومواليهم وأصدقائهم وكذلك كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حتى قال عمر من أمر رجلا لقرابة أو صداقة بينهما وهو يجد في المسلمين خيرا منهم فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين.
*فصل: (العصمة)
والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحدا معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها وقد تكفر عنهم بحسناتهم الكثيرة وقد يبتلون أيضا بمصائب يكفر الله عنهم بهاوقد يكفر عنهم بغير ذلك فكل ما ينقل عن عثمان غايته أن يكون ذنبا أو خطأ وعثمان رضي الله عنه قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعاته وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بل بشره بالجنة على بلوى تصيبه ومنها أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه وأنه ابتلى ببلاء عظيم فكفر الله به خطاياه وصبر حتى قتل شهيدا مظلوما وهذا من أعظم ما يكفر الله به الخطايا وكذلك علي رضي الله عنه ما تنكره الخوارج وغيرهم عليه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ وكان قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعته وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة ومنها أنه تاب من أمور كثيرة أنكرت عليه وندم(6/121)
عليها ومنها أنه قتل مظلوما شهيدا فهذه القاعدة تغنينا أن نجعل كل ما فعل واحد منهم هو الواجب أو المستحب من غير حاجة بنا إلى ذلك والناس المنحرفون في هذا الباب صنفان القادحون الذين يقدحون في الشخص بما يغفره الله له والمادحون الذين يجعلون الأمور المغفورة من باب السعي المشكور فهذا يغلو في الشخص الواحد حتى يجعل سيئاته حسنات وذلك يجفو فيه حتى يجعل السيئة الواحدة منه محبطة للحسنات وقد أجمع المسلمون كلهم حتى الخوارج على أن الذنوب تمحى بالتوبة وأن منها ما يمحى بالحسنات وما يمكن أحد أن يقول إن عثمان أو عليا أو غيرهما لم يتوبوا من ذنوبهم فهذه حجة على الخوارج الذين يكفرون عثمان وعليا وعلى الشيعة الذين يقدحون في عثمان وغيره وعلى الناصبة الذين يخصون عليا بالقدح ولا ريب أن عثمان رضي الله عنه تقابلت فيه طائفتان شيعته من بني أمية وغيرهم ومبغضوه من الخوارج والزيدية والإمامية وغيرهملكن شيعته أقل غلوا فيه من شيعة علي فما بلغنا أن أحدا منهم اعتقد فيه بخصوصه إلاهية ولا نبوة ولا بلغنا أن أحدا اعتقد ذلك في أبي بكر وعمر لكن قد يكون بعض من يغلو في جنس المشايخ ويعتقد فيهم الحلول أو الأتحاد أو العصمة يقول ذلك في هؤلاء لكن لا يخصهم بذلك ولكن شيعة عثمان الذين كان فيهم انحراف عن علي كان كثير منهم يعتقد أن الله إذا استخلف خليفة يقبل منه الحسنات ويتجاوز له عن السيئات وأنه يجب طاعته في كل ما يأمر به وهو مذهب كثير من شيوخ الشيعة العثمانية وعلمائها ولهذا لما حج سليمان بن عبد الملك وتكلم مع أبي حازم في ذلك قال له أبو حازم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (سورة ص). وموعظة أبي حازم لسليمان معروفة
(6/122)
ولما توفى عمر بن عبد العزيز أظهر من السنة والعدل ما كان قد خفى ثم مات فطلب يزيد بن عبد الملك أن يسير سيرته فجاء إليه عشرون شيخا من شيوخ الشيعة العثمانية فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات حتى أمسك عن مثل طريقة عمر بن عبد العزيز ولهذا كانت فيهم طاعة مطلقة لمتولي أمرهم فإنهم كانوا يرون أن الله أوجب عليهم طاعة ولي أمرهم مطلقا وأن الله لا يؤاخذه على سيئاته ولم يبلغنا أن أحدا منهم كان يعتقد فيهم أنهم معصومون بل يقولون إنهم لا يؤاخذون على ذنب كأنهم يرون أن سيئات الولاة مكفرة بحسناتهم كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر فهؤلاء إذا كانوا لا يرون خلفاء بني أمية معاوية فمن بعده مؤاخذين بذنب فكيف يقولون في عثمان مع سابقته وفضله وحسن سيرته وعدله وأنه من الخلفاء الراشدين وأما الخوارج فأولئك يكفرون عثمان وعليا جميعا ولم يكن لهم اختصاص بذم عثمان وأما شيعة علي فكثير منهم أو أكثرهم يذم عثمان حتي الزيدية اللذين يترحمون على أبي بكر وعمر فيهم من يسب عثمان ويذمه وخيارهم الذي يسكت عنه فلا يترحم عليه ولا يلعنه
(6/123)
وقد كان من شيعة عثمان من يسب عليا ويجهر بذلك على المنابر وغيرها لأجل القتال الذي كان بينهم وبينه وكان أهل السنة من جميع الطوائف تنكر ذلك عليهم وكان فيهم من يؤخر الصلاة عن وقتها فكان المتمسك بالسنة يظهر محبة علي وموالاته ويحافظ على الصلاة في مواقيتها حتى رئي عمرو بن مرة الجملي وهو من خيار أهل الكوفة شيخ الثوري وغيره بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال فغر لي بحب علي بن أبي طالب ومحافظتي على الصلاة في مواقيتها وغلت شيعة علي في الجانب الآخر حتى صاروا يصلون العصر مع الظهر دائما قبل وقتها الخاص ويصلون العشاء مع المغرب دائما قبل وقتها الخاص فيجمعون بين الصلاتين دائما في وقت الأولى وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الجمع إنما كان يفعله لسبب لا سيما الجمع في وقت الأولى فإن الذي تواتر عند الأئمة أنه فعله بعرفة وأما ما فعله بغيرها ففيه نزاع ولا خلاف أنه لم يكن يفعله دائما لا في الحضر ولا في السفر بل في حجة الوداع لم يجمع إلا بعرفة ومزدلفة ولكن روى عنه الجمع في غزوة تبوك وروى أيضا أنه جمع بالمدينة لكن نادرا لسبب والغالب عليه ترك الجمع فكيف يجمع بين الصلاتين دائما وأولئك إذا كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر فهو خير من تقديم العصر إلى وقت الظهر فإن جمع التأخير خير من جمع التقديم فإن
(6/124)
الصلاة يفعلها النائم والناسي قضاء بعد الوقت وأما الظهر قبل الزوال فلا تصلى بحال وهكذا تجد في غالب الأمور بدع هؤلاء أشنع من بدع أولئك ولم يكن أحد منهم يتعرض لأبي بكر وعمر إلا بالمحبة والثناء والتعظيم ولا بلغنا أن أحدا منهم كفر عليا كما كفرته الخوارج الذين خرجوا عليه من أصحابه وإنما غاية من يعتدى منهم على علي رضي الله عنه أن يقول كان ظالما ويقولون لم يكن من الخلفاء ويروون عنه أشياء من المعاونة على قتل عثمان والإشارة بقتله في الباطن والرضا بقتله وكل ذلك كذب علي علي رضي الله عنه وقد حلف رضي الله عنه وهو الصادق بلا يمين أنه لم يقتل عثمان ولا مالا على قتله بل ولا رضي بقتله وكان يلعن قتله عثمان وأهل السنة يعلمون ذلك منه بدون قوله فهو أتقى لله من أن يعين على قتل عثمان أو يرضى بذلك فما قالته شيعه على في عثمان أعظم مما قالته شيعة عثمان في علي فإن كثيرا منهم يكفر عثمان وشيعة عثمان لم تكفر عليا ومن لم يكفره يسبه ويبغضه أعظم مما كانت شيعة عثمان تبغض عليا وأهل السنة يتولون عثمان وعليا جميعا ويتبرؤون من التشيع والتفرق في الدين الذي يوجب موالاة أحدهما ومعاداة الآخر وقد استقر أمر أهل السنة على أن هؤلاء مشهود لهم بالجنة ولطلحة الزبير وغيرهما
(6/125)
ممن شهد له الرسول بالجنة كما قد بسط في موضعه وكان طائفة من السلف يقولون لا نشهد بالجنة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي وطائفة أخرى من أهل الحديث كعلي بن المديني وغيره يقولون هم في الجنة ولا يقولون نشهد لهم بالجنة والصواب أنا نشهد لهم بالجنة كما استقر على ذلك مذهب أهل السنة وقد ناظر أحمد بن حنبل لعلي بن المديني في هذه المسألة وهذا معلوم عندنا بخبر الصادق وهذه المسألة لبسطها موضع آخر والكلام هنا فيما يذكر عنهم من أمور يراد بها الطعن عليهم فطائفة تغلو فيهم فتريد أن تجعلهم معصومين أو كالمعصومين وطائفة تريد أن تسبهم وتذمهم بأمور إن كانت صدقا فهم مغفور لهم أو هم غير مؤاخذين بها فإنه ما ثم إلا ذنب أو خطأ في الاجتهاد والخطأ قد رفع الله المؤاخذة به عن هذه الأمة والذنب لمغفرته عدة أسباب كانت موجودة فيهم وهما أصلان عام وخاص أما العام فإن الشخص الواحد يجتمع فيه أسباب الثواب والعقاب عند عامة
(6/126)
المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين والنزاع في ذلك مع الخوارج والمعتزلة الذين يقولون ما ثم إلا مثاب في الآخرة أو معاقب ومن دخل النار لم يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها ويقولون إن الكبيرة تحبط جميع الحسنات ولا يبقى مع صاحبها من الإيمان شيء وقد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخراج قوم من النار بعد ما امتحشوا وثبت أيضا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته والآثار بذلك متواترة عند أهل العلم بالحديث أعظم من تواتر الآثار بنصاب السرقة ورجم الزاني المحصن ونصب الزكاة ووجوب الشفعة وميراث الجدة وأمثال ذلك لكن هذا الأصل لا يحتاج اليه في مثل عثمان وأمثاله ممن شهد له بالجنة وأن الله رضي عنه وأنه لا يعاقبه في الآخرة بل نشهد أن العشرة في الجنة وأن أهل بيعة الرضوان في الجنة وأن أهل بدر في الجنة كما ثبت الخبر بذلك عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن إلهوى إن هو إلا وحي يوحى وقد دخل في الفتنة خلق منهؤلاء المشهود لهم بالجنة والذي قتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وقد قيل إنه من أهل بيعة الرضوان ذكر ذلك ابن حزم فنحن نشهد لعمار بالجنة ولقاتله إن كان من أهل بيعة الرضوان بالجنة وأما عثمان وعلي وطلحة والزبير فهم أجل قدرا من غيرهم ولو كان منهم ما كان فنحن لا نشهد أن الواحد من هؤلاء لا يذنب بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب فإن الله لا يعذبه في الآخرة ولا يدخله النار بل يدخله الجنة بلا ريب وعقوبة الآخر تزول عنه إما بتوبة منه وأما بحسناته الكثيرة وإما بمصائبه المكفرة وأما بغير ذلك كما قد بسطناه في موضعه فإن الذنوب مطلقا من جميع المؤمنين هي سبب العذاب لكن العقوبة بها في الآخرة في جهنم تندفع بنحو عشرة أسباب
(6/127)
السبب الأول التوبة فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والتوبة مقبولة من جميع الذنوب الكفر والفسوق والعصيان قال الله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف (سورة الأنفال). وقال تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين سورة التوربة وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا اله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (سورة المائدة). وقال إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق سورة البروج قال الحسن البصري انظروا إلى هذا الكرم والجود فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار ثم هو يدعوهم إلى التوبة والتوبة عامة لكل عبد مؤمن كما قال تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما (سورة الأحزاب). وقد أخبر الله في كتابه عن توبة أنبيائه ودعائهم بالتوبة كقوله فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم سورة
(6/128)
البقرة وقول إبراهيم وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمه مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (سورة البقرة). وقال موسى أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك (سورة الأعراف). وقوله رب إني ظلمت نفسي فأغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم (سورة القصص). وقوله تبت إليك وأنا أول المؤمنين (سورة الأعراف). وكذلك ما ذكره في قصة داود وسليمان وغيرهما وأما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فكثير مشهور وأصحابه كانوا أفضل قرون الأمة فهم أعرف القرون بالله وأشدهم له خشية وكانوا أقوم الناس بالتوبة في حياته وبعد مماته فمن ذكر ما عيب عليهم ولم يذكر توبتهم التي بها رفع الله درجتهم كان ظالما لهم كما جرى من بعضهم يوم الحديبية وقد تابوا منه مع أنه كان قصدهم الخير وكذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة تاب منها بل زانيهم كان يتوب توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له كما تاب ماعز بن مالك وأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتىطهره بإقامة الحد عليه وكذلك الغامدية بعده وكذلك كانوا زمن عمر وغيره إذا شرب أحدهم الخمر أتى إلى أميره فقال طهرني وأقم على الحد فهذا فعل من يأتي الكبيرة منهم حين يعلمها حراما فكيف إذا أتى احدهم الصغيرة أو ذنبا تأول فيه ثم تبين له خطؤه وعثمان بن عفان رضي الله عنه تاب توبة ظاهرة من الأمور التي صاروا ينكرونها ويظهر له أنها منكر وهذا مأثور مشهور عنه رضي الله عنه وأرضاه وكذلك عائشة رضي الله عنها ندمت على مسيرها إلى البصرة وكانت إذا ذكرته تبكي حتى تبل خمارها وكذلك طلحة ندم على ما ظن من تفريطه في نصر عثمان وعلي غير ذلك والزبير ندم على مسيره يوم الجمل
(6/129)
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ندم على أمور فعلها من القتال وغيره وكان يقول لقد عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها وأستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر وكان يقول ليالي صفين لله در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد ابن مالك إن كان برا إن أجره لعظيم وإن كان إثما إن خطره ليسير وكان يقول يا حسن يا حسن ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة ولما رجع من صفين تغير كلامه وكان يقول لا تكرهوا إمارة معاوية فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تتطاير عن كواهلها وقد روى هذا عن علي رضي الله عنه من وجهين أو ثلاثة وتواترت الاثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر ورؤيته اختلاف الناس وتفرقهم وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل وبالجملة ليس علينا أن نعرف كل واحد تاب ولكن نحن نعلم أن التوبة مشروعة لكل عبد للأنبياء ولمن دونهم وأن الله سبحانه يرفع عبده بالتوبة وإذا ابتلاه بما يتوب منه فالمقصود كمال النهاية لا نقص البداية فإنه تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين وهو يبدل بالتوبة السيئات حسنات
(6/130)
والذنب مع التوبة يوجب لصاحبه من العبودية والخشوع والتواضع والدعاء وغير ذلك مالم يكن يحصل قبل ذلك ولهذا قال طائفة من السلف إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة ويفعل الحسنة فيدخل بها النار يفعل الذنب فلا يزال نصب عينيه إذا ذكره تاب إلى الله ودعاه وخشع له فيدخل به الجنة ويفعل الحسنة فيعجب بها فيدخل النار وفي الأثر لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أعظم من الذنب وهو العجب وفي أثر آخر لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه وفي أثر آخر يقول الله تعالى أهل ذكرى أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا اقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب والتائب حبيب الله سواء كان شابا أو شيخا السبب الثاني الاستغفار فإن الاستغفار هو طلب المغفرة وهو من جنس الدعاء والسؤال وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور
(6/131)
به لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو وقد يدعو ولا يتوب وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال الله تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي وفي رواية لمسلم فليفعل ما شاء والتوبة تمحو جميع السيئات وليس شىء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وأما التوبة فإنه قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ((سورة الزمر).). وهذه لمن تاب ولهذا قال لا تقنطوا من رحمة الله بل توبوا إليه وقال بعدها وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكمالعذاب ثم لا تنصرون ((سورة الزمر).). وأما الاستغفار بدون التوبة فهذا لا يستلزم المغفرة ولكن هو سبب من الأسباب السبب الثالث الأعمال الصالحة فإن الله تعالى يقول إن الحسنات يذهبن السيئات (سورة هود). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل يوصيه يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر أخرجاه في الصحيحين وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من صام رمضان
(6/132)
إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وقال من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وقال أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى من دونه شىء قالوا لا قال كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا كما يمحو الماء الدرن وهذا كله في الصحيحوقال الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار رواه الترمذي وصححه وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم (سورة الصف). وفي الصحيح يغفر للشهيد كل شىء إلا الدين وما روى أنشهيد البحر يغفر له الدين فإسناده ضعيف والدين حق لآدمى فلابد من استيفائه وفي الصحيح صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة ومثل هذه النصوص كثير وشرح هذه الأحاديث يحتاج إلى بسط كثيرفإن الإنسان قد يقول إذا كفر عنى بالصلوات الخمس فأي شىء تكفر عني الجمعة أو رمضان وكذلك صوم يوم عرفة وعاشوراء وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجد ما تكفره من السيئات فيقال أولا العمل الذي يمحو الله به الخطايا ويكفر به السيئات هو العمل المقبول والله تعالى إنما يتقبل من المتقين والناس لهم في هذه الآية وهي قوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين (سورة المائدة). ثلاثة أقوال طرفان ووسط فالخوارج والمعتزلة يقولون لا يتقبل الله إلا ممن اتقى الكبائر وعندهم صاحب الكبيرة لا يقبل منه حسنة بحال والمرجئة يقولون من اتقى الشرك والسلف والأئمة يقولون لا يتقبل إلا ممن اتقاه في ذلك العمل ففعله
(6/133)
كما أمر به خالصا لوجه الله تعالى قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا (سورة هود). قال أخلصه وأصوبه قيل يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة فصاحب الكبائر إذا اتقى الله في عمل من الأعمال تقبل الله منه ومن هو أفضل منه إذا لم يتق الله في عمل لم يتقبله منه وإن تقبل منه عملا آخر وإذا كان الله يتقبل ممن يعمل العمل على الوجه المأمور به ففي السنن عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن العبد لينصرف عن صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها حتى قال إلا عشرها وقال ابن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها وفي الحديث رب صائم حظه من صيامه العطش ورب قائم حظه من قيامه السهر وكذلك الحج والجهاد وغيرهما
(6/134)
وفي حديث معاذ موقوفا ومرفوعا وهو في السنن الغزو غزوان فغزو يبتغى به وجه الله ويطاع فيه الأمير وتنفق فيه كرائم الأموال ويياسر فيه الشريك ويجتنب فيه الفساد ويتقى فيه الغلول فذلك الذيلا يعدله شىء وغزو لا يبتغى به وجه الله ولا يطاع فيه الأمير ولا تنفق فيه كرائم الأموال ولا يياسر فيه الشريك ولا يجتنب فيه الفساد ولا يتقى فيه الغلول فذاك حسب صاحبه أن يرجع كفافا وقيل لبعض السلف الحاج كثير فقال الداج كثير والحاج قليل ومثل هذا كثير فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال وأكثر الناس يقصرون في الحسنات حتى في نفس صلاتهم فالسعيد منهم من يكتب له نصفها وهم يفعلون السيئات كثيرا فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء وبما يقبل من الجمعة شيء وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر وكذلك سائر الأعمال وليس كل حسنة تمحو كل سيئة بل المحو يكون للصغائر تارة ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيهإخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقال هل تنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقول لا ظلم عليك فتخرج له بطاقة قدر الكف فيها شهادة أن لا إله إلا الله فيقول أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات فتوضع هذه البطاقة في كفيه والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص وإلا فأهل الكبائر الذين دخلواالنار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله
(6/135)
ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجم قول صاحب البطاقة وكذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه فيها العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له وفي لفظ في الصحيحين إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها فسقته به فغفر لها وفي لفظ في الصحيحين أنها كانت بغيا من بغايا بني إسرائيل وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال بينما رجل يمشي في طريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال دخلت أمرأة النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت فهذه سقط الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها وإلا فليس كل ما بغى سقت كلبا يغفر لها وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق فعله إذ ذاك بإيمان خالص وإخلاص قائم بقلبه فغفر له بذلك فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين
(6/136)
صلاتيهما كما بين السماء والأرض وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق يغفر له قال الله تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم (سورة الحج). فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا والله لا يناله الدم المهراق ولا اللحم المأكول والتصدق به لكن يناله تقوى القلوب وفي الأثر أن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب وما في القلوب يتفاضل لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق ولم يضرب بعضه ببعض وقد قال تعالى والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (سورة المؤمنون). وفي الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله أهو الرجل يزنى ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب قال لايا ابنه الصديق بل هو الرجل يصوم ويصلى ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل منه وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقله أهله وكثرة الصوارف عنه وضعف الدواعي إليه لا يمكن أحدا أن يحصل له مثله ممن بعدهم وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمور وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة وهذا مما يعرف به أنا أبا بكر رضي الله عنه لن يكون أحد مثله فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد قال أبو بكر بن عياش ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشىء وقر في قلبه وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول مؤمنين به مجاهدين معه إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم
(6/137)
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنه للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنه لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدونوفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ليأتين على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال نعم فيفتح لهم وفي لفظ هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صحب من صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم هذا لفظ بعض الطرق والثلاث الطبقات متفق عليها في جميع الطرق وأما الطبقة الرابعة فهي مذكورة في بعضها وقد ثبت ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة في عدة أحاديث صحيحة من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين يقول فيها
(6/138)
خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ويشك بعض الرواة هل ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة بل لحقائقها التي في القلوب والناس يتفاضلون ذلك تفاضلا عظيما وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين لكن هل يفضل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز ذكر القاضي عياض وغيره في ذلك قولين وأن الأكثرين يفضلون كل واحد من الصحابة وهذا مأثور عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه قالوا فنحن قد نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن جبل ذهب من الذين
(6/139)
أسلموا بعد الحديبية لا يساوي نصف مد من السابقين ومعلوم فضل النفع المتعدى بعمر بن عبد العزيز أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم فلو قدر أن الذي أعطاهم ملكه وقد تصدق به عليهم لم يعدل ذلك مما أنفقه السابقون إلا شيئا يسيرا وأين مثل جبل أحد ذهبا حتى ينفقه الإنسان وهو لا يصير مثل نصف مد ولهذا يقول من يقول من السلف غبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه إذ المقصود هنا أن الله سبحانه مما يمحو به السيئات الحسنات وأن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى وحينئذ فيعرف أن من هو دون الصحابة قد تكون له حسنات تمحو مثل ما يذم من أحدهم فكيف الصحابة السبب الرابع الدعاء للمؤمنين فإن صلاة المسلمين على الميت ودعاءهم له من أسباب المغفرة وكذلك دعاؤهم واستغفارهم في غير صلاة الجنازة والصحابة ما زال المسلمون يدعون لهم السبب الخامس دعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره في حياته وبعد مماته كشفاعته يوم القيامة فإنهم أخص الناس بدعائه وشفاعته في محياه ومماته
(6/140)
السبب السادس ما يفعل بعد الموت من عمل صالح يهدي له مثل من يتصدق عنه ويحج عنه ويصوم عنه فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ذلك يصل إلى الميت وينفعه وهذا غير دعاء ولده فإن ذلك من عمله قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم فولده من كسبه ودعاؤه محسوب من عمله بخلاف دعاء غير الولد فإنه ليس محسوبا من عمله والله ينفعه به السبب السابع المصائب الدنيوية التي يكفر الله بها الخطايا كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مثلالمؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقومها تارة وتميلها أخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة وهذا المعنى متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبتلون بالمصائب الخاصة وابتلوا بمصائب مشتركة كالمصائب التي حصلت في الفتن ولو لم يكن إلا أن كثيرا منهم قتلوا والأحياء أصيبوا بأهليهم وأقاربهم وهذا أصيب في ماله وهذا أصيب بجراحته وهذا أصيب بذهاب ولايته وعزهإلى غير ذلك فهذه كلها مما يكفر الله بها ذنوب المؤمنين من غير الصحابة فكيف الصحابة وهذا مما لا بد منه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لايسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها
(6/141)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه لما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم (سورة الأنعام). قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هذا أهون وأيسر فهذا أمر لا بد منه للأمة عموما والصحابة رضي الله عنهم كانوا أقل فتنا من سائر من بعدهم فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف ولهذا لم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان بدعة الخوارج المكفرين لعلي وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو الإهيته ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدر به ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة والمشبهة الممثلة ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك وكذلك فتن السيف فإن الناس كانوا في ولاية معاوية رضي الله عنه متفقين يغزون العدو فلما مات معاوية قتل الحسين وحوصر ابن الزبير بمكة ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة
(6/142)
ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله وجرت فتنة ثم جاء مصعب بن الزبير فقتل المختار وجرت فتنة ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه ابن الأشعث مع خلق عظيم من العراق وكانت فتنة كبيرة فهذا كله بعد موت معاوية ثم جرت فتنة ابن المهلب بخراسان وقتل زيد بن علي بالكوفة وقتل خلق كثير آخرون ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان وجرت حروب وفتن يطول وصفها ثم هلم جرا فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده وأما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل وقد روى أبو بكر الأثرم ورواه ابن بطة من طريقه حدثنا محمد بنعمرو بن جبلة حدثنا محمد بن مروان عن يونس عن قتادة قال لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي وكذلك رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي ورواه الأثرم حدثنا محمد بن حواش حدثنا أبو هريرة المكتب قال كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش فكيف لو أدركتم معاوية قالوا في حلمة قال لا والله بل في عدله وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال لما قدم معاوية فرض للناس على أعطيه آبائهم حتى انتهى الى فأعطاني ثلثمائة درهم وقال عبد الله أخبرنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة ثنا الثقفي عن أبي إسحاق يعني السبيعي أنه ذكر معاوية
(6/143)
فقال لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم كان المهدي وروى الأثرم حدثنا محمد بن العلاء عن أبي بكر بن عياش عن ابي إسحاق قال ما رأيت بعده مثله يعني معاوية وقال البغوي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا ضمام بن إسماعيل عن ابي قيس قال كان معاوية قد جعل في كل قبيل رجلا وكان رجل منا يكنى أبا يحيى يصبح كل يوم فيدور على المجالس هل ولد فيكم الليلة ولد هل حدث الليلة حدث هل نزل اليوم بكم نازل قال فيقولون نعم نزل رجل من أهل اليمن بعياله يسمونه وعياله فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان فأوقع أسماءهم في الديوان وروى محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا أبن أبي مريم عن عطية بن قيس قال سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم فإن كان يأتينا فضل عاما قابلا قسمناه عليكم وإلا فلا عتبة علي فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكموفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة وفي الصحيح أن رجلا قال لابن عباس هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه أوتر بركعة قال أصاب إنه فقيه وروى البغوي في معجمه بإسناده ورواه ابن بطة من وجه آخر كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر عن قيس بن الحارث عن الصنابحي عن أبي الدرداء قال ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم هذا يعني معاوية فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشاهد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة
(6/144)
هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين بل قد قيل إنه من مسلمة الفتح وقيل أسلم قبل ذلك وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء الصحابة وهذه سيرته مع عموم ولايته فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب ومن قبرص إلى اليمن ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي فضلا عن أبي بكر وعمر فكيف يشبه غير الصحابة بهم وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة معاوية رضي الله عنه والمقصود أن الفتن التي بين الأمة والذنوب التي لها بعد الصحابة أكثر وأعظم ومع هذا فمكفرات الذنوب موجودة لهم وأما الصحابة فجمهورهم وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة قال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا أبي حدثنا إسماعيل يعني ابن علية حدثنا أيوب يعني السختياني عن محمد بن سيرين قال هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف فما حضرها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين وهذا الإسنادمن أصح إسناد على وجه الأرض ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقة ومراسيله من أصح المراسيل وقال عبد الله حدثنا أبي حدثنا اسماعيل حدثنا منصور بن عبد الرحمن قال قال الشعبي لم يشهد الجمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير علي وعمار وطلحة والزبير فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا أمية بن خالد قال قيل لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا فقال كذب والله لقد ذاكرت الحكم بذلك وذاكرناه في بيته فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت قلت هذا النفي يدل على قلة من حضرها وقد قيل إنه حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب وكلام ابن سيرين مقارب فما يكاد يذكر مائة واحد وقد روى ابن بطة عن بكير بن الأشج قال إما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم
(6/145)
السبب الثامن ما يبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة الملكين السبب التاسع ما يحصل له في الآخرة من كرب أهوال يوم القيامة السبب العاشر ما ثبت في الصحيحين أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا اذن لهم في دخول الجنة فهذه الأسباب لا تفوت كلها من المؤمنين إلا القليل فكيف بالصحابة رضوان الله عليهم الذين هم خير قرون الأمة وهذا في الذنوب المحققة فكيف بما يكذب عليهم فكيف بما يجعل من سيئاتهم وهو من حسناتهم وهذا كما ثبت في الصحيح أن رجلا أراد أن يطعن في عثمان عند ابن عمر فقال إنه قد فر يوم أحد ولم يشهد بدرا ولم يشهد بيعة الرضوان فقال ابن عمر أما يوم أحد فقد عفا الله عنه وفي لفظ فر يوم أحد فعفا الله عنه وأذنب عندكم ذنبا فلم تعفوا عنه وأما يومبدر فإن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على ابنته وضرب له بسهمه وأما بيعة الرضوان فإنما كانت بسبب عثمان فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مكة وبايع عنه بيده ويد النبي صلى الله عليه وسلم خير من يعد عثمان فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلونه عيبا ما كان منه عيبا فقد عفا الله عنه والباقي ليس بعيب بل هو من الحسنات وهكذا عامة ما يعاب به على سائر الصحابة هو إما حسنة وإما معفو عنه وحينئذ فقول الرافضي إن عثمان ولى من لا يصلح للولاية إما أن يكون هذا باطلا ولم يول إلا من يصلح وإما أن يكون ولى من لا يصلح في نفس الأمر لكنه كان مجتهدا في ذلك فظن أنه كان يصلح وأخطأ ظنه وهذا لا يقدح فيه وهذا الوليد بن عقبة الذي أنكر عليه ولايته قد اشتهر في التفسير
(6/146)
والحديث والسير أن النبي صلى الله عليه وسلم ولاه على صدقات ناس من العرب فلما قرب منهم خرجوا إليه فظن أنهم يحاربونه فأرسل الى النبي صلى الله عليه وسلم يذكر محاربتهم له فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم جيشا فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (سورة الحجرات). فإذا كان حال هذا خفي على النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يخفى على عثمان وإذا قيل إن عثمان ولاه بعد ذلك فيقال باب التوبة مفتوح وقد كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد عن الإسلام ثم جاء تائبا وقبل النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه وثبوته بعد أن كان أهدر دمه وعلي رضي الله عنه تبين له من عماله مالم يكن يظنه فيهم فهذا لا يقدح في عثمان ولا غيره وغاية ما يقال إن عثمان ولي من يعلم أن غيره أصلح منه وهذا من موارد الاجتهاد أو يقال إن محبته لأقاربه ميلته إليهم حتى صار يظنهم أحق من
(6/147)
غيرهم أو أن ما فعله كان ذنبا وقد تقدم أن دنبه لا يعاقب عليه في الآخرة وقوله حتى ظهر من بعضهم الفسق ومن بعضهم الخيانة فيقال ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتا حين الولاية ولا على أن المولى علم ذلك وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد وكان يعزل من يراه مستحقا للعزل ويقيم الحد على من رآه لإقامة الحد عليه وأما قوله وقسم المال بين أقاربه فهذا غايته أن يكون ذنبا لا يعاقب عليه في الآخرة فكيف إذا كان من موارد الاجتهاد فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته هل يستحقه ولي الأمر بعده على قولين وكذلك تنازعوا في ولى اليتيم هل له أن يأخذ من مال اليتيم إذا كان غنيا أجرته مع غناه والترك أفضل أو الترك واجب على قولين ومن جوز الأخذ من مال اليتم مع الغني جوزه للعامل على بيت مال المسلمين وجوزه للقاضي وغيره من الولاة ومن قال لا يجوز ذلك من مال اليتيم فمنهم من يجوزه من مال بيت المال كما يجوز للعامل على الزكاة الأخذ مع الغني فإن العامل على الزكاة يجوز له أخذ جعالته مع غناه
(6/148)
وولي اليتيم قد قال تعالى فيه ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف (سورة النساء). وأيضا فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية وسقط حق ذوي قرباه بموته كما يقول ذلك كثير من العلماء كأبي حنيفة وغيره ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط قيل إنه يصرف في الكراع والسلاح والمصالح كما كان يفعل أبو بكر وعمر وقيل هو لمن ولى الأمر بعده وقيل إن هذا مما تأوله عثمان ونقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا وأنه يأخذ بعمله وأن ذلك جائز وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل فكان له الأخذ بهذا وهذا وكان يعطي أقرباءه مما يختص به فكان يعطيهم لكونهم ذوى قربى الإمام على قول من يقول ذلك وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال وعلي ولي أقاربه أيضا وأما قوله استعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران
(6/149)
فيقال لا جرم طلبه وأقام عليه الحد بمشهد من علي بن أبي طالب وقال لعلي قم فاضربه فأمر علي الحسن بضربه فامتنع وقال لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه أربعين ثم قال إمسك ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم وغيره فإذا أقام الحد برأي علي وأمره فقد فعل الواجب وكذلك قوله إنه استعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها فيقال مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذاك فإن القوم كانوا يقومون على كل وال قد قاموا على سعد بن أبي وقاص وهو الذي فتح البلاد وكسر جنود كسرى وهو أحد أهل الشورى ولم يتول عليهم نائب مثله وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وغيرهم ودعا عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال اللهم إنهم قد لبسوا علي فلبس عليهم وإذا قدر أنه أذنب ذنبا فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضيا بذنبه ونواب علي قد أذنبوا ذنوبا كثيرة بل كان غير واحد من نواب النبي صلى الله عليه وسلم يذنبون ذنوبا كثيرة وإنما يكون الإمام مذنبا
(6/150)
إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد أو استيفاء حق أو اعتداء ونحو ذلك وإذا قدر أن هناك ذنبا فقد علم الكلام فيه وأما قوله وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتبه أن يستمر على ولايته سرا خلاف ما كتب إليه جهرا والجواب أن هذا كذب على عثمان وقد حلف عثمان أنه لم يكتب شيئا من ذلك وهو الصادق البار بلا يمين وغاية ما قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا أن يسلم إليهم مروان ليقتلوه فامتنع فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل الواجب وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز وإن كان قتله واجبا فذاك من موارد الاجتهاد فإنه لم يثبت لمروان ذنب يوجب قتله شرعا فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل وبتقدير أن يكون ترك الواجب فقد قدمنا الجواب العام وأما قوله أمر بقتل محمد بن أبي بكر فهذا من الكذب المعلوم على عثمان وكل ذي علم بحال عثمان وإنصاف له يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله ولا عرف منه قط أنه قتل أحدا من هذا الضرب وقد سعوا فيقتله ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم دفعا عن نفسه فكيف يبتدىء بقتل معصوم الدم وإن ثبت أن عثمان أمر بقتل محمد بن أبي بكر لم يطعن على عثمان بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب علي سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بالقتل وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد وغايتهم أن يكونوا ظلموا في بعض الأمور وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه بل ولا يقيم الحد وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هو أشهر بالعلم والدين منه بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا واختلف في صحبته
(6/151)
ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس ولم يدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا اشهرا قليلة من ذي القعدة إلى أول شهر ربيع الأول فإنه ولد بالشجرة لخمس بقين من ذي القعدة عام حجة الوداع ومروان من أقران ابن الزبير فهو قد أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن أنه رآه عام فتح مكة أو عام حجة الوداع والذين قالوا لم ير النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إن أباه كان بالطائف فمات النبي صلى الله عليه وسلم وأبوه بالطائف وهو مع أبيه ومن الناس من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى إباه إلى الطائف وكثير من أهل العلم ينكر ذلك ويقول إنه ذهب باختياره وإن نفيه ليس له إسناد وهذا إنما يكون بعد فتح مكة فقد كان أبوه بمكة مع سائر الطلقاء وكان هو قد قارب سن التمييز وأيضا فقد يكون أبوه حج مع الناس فرآه في حجة الوداع ولعله قدم إلى المدينة فلا يمكن الجزم بنفي رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم وأما أقرانه كالمسور بن مخرمة وعبد الله بن الزبير فهؤلاء كانوا بالمدينة وقد ثبت أنهم سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وأما قوله ولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدثه فالجواب أن معاوية إنما ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاه عمر مكان أخيه واستمر في ولاية
(6/152)
عثمان وزاده عثمان في الولاية وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة وكانت رعيته يحبونه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونه ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم وإنما ظهر الأحداث من معاوية في الفتنة لما قتل عثمان ولما قتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس لم يختص بها معاوية بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثير منهم وأبعد عن الشر من كثير منهم ومعاويةكان خيرا من الأشتر النخعي ومن محمد بن أبي بكر ومن عبيد الله بن عمر بن الخطاب ومن أبى الأعور السلمى ومن هاشم بن هاشم بن هاشم المرقال ومن الأشعث بن قيس الكندي ومن بسر بن أبي أرطاة وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع علي بن أبي طالب رضي الله عنهماوأما قوله وولى عبد الله بن عامر البصرة ففعل من المناكير ما فعل فالجواب أن عبد الله بن عامر له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس مالا ينكر وإذا فعل منكرا فذنبه عليه فمن قال إن عثمان رضي بالمنكر الذي فعله وأما قوله وولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره ودفع إليه خاتمه وحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث فالجواب أن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده بل اجتمعت أمور متعددة من جملتها أمور تنكر من مروان وعثمان رضي الله عنه كان قد كبر وكانوا يفعلون أشياء لا يعلمونه بها فلم يكن آمرا لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه بل كان يأمر بإبعادهم وعزلهم فتارة يفعل ذلك وتارة لا يفعل ذلك وقد تقدم الجواب العام ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان وشكوا أمورا أزالها كلها عثمان حتى أنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه وأنه لا يعطي أحدا من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم ولم يبق لهم طلب ولهذا قالت عائشة
(6/153)
رضي الله عنها مصصتموه كما يمص الثوب ثم عمدتم إليه فقتلتموه وقد قيل إنه زور عليه كتاب بقتلهم وأنهم أخذوه في الطريق فأنكر عثمان الكتاب وهو الصادق وأنهم اتهموا به مروان وطلبوا تسليمه إليهم فلم يسلمه وهذا بتقدير أن يكون صحيحا لا يبيح شيئا مما فعلوه بعثمان وغايته أن يكون مروان قد أذنب في إرادته قتلهم ولكن لم يتم غرضه ومن سعى في قتل إنسان ولم يقتله لم يجب قتله فما كان يجب قتل مروان بمثل هذا نعم ينبغي الاحتراز ممن يفعل مثل هذا وتأخيره وتأديبه ونحو ذلك أما الدم فأمر عظيم وأما قوله وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار ودفع إلى مروان ألف ألف دينار فالجواب أولا أن يقال أين النقل الثابت بهذا نعم كان يعطي أقاربه عطاء كثيرا ويعطي غير أقاربه أيضا وكان محسنا إلى جميع المسلمين وأما هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت
(6/154)
ثم يقال ثانيا هذا من الكذب البين فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحدا ما يقارب هذا المبلغ ومن المعلوم أن معاوية كان يعطي من يتألفه أكثر من عثمان ومع هذا فغاية ما أعطى الحسن بن علي مائة ألف أو ثلاثمائة ألف درهم وذكروا أنه لم يعط أحدا قدر هذا قط نعم كان عثمان يعطي بعض أقاربه ما يعطيهم من العطاء الذي أنكر عليه وقد تقدم تأويله في ذلك والجواب العام يأتي على ذلك فإنه كان له تأويلان في إعطائهم كلاهما مذهب طائفة من الفقهاء أحدهما أنه ما أطعم الله لنبي طعمة إلا كانت طعمة لمن يتولى الأمر بعده وهذا مذهب طائفة من الفقهاء ورووا في ذلك حديثا معروفا مرفوعا وليس هذا موضع بسط الكلام في جزئيات المسائل وقالوا إن ذوي القربي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ذوو قرباه وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده وقالوا إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما أقارب كما كان لعثمان فإن بني عبد شمس من أكبر قبائل قريش ولم يكن من يوازيهم إلا بنو مخزوم والإنسان مأمور بصلة رحمه من ماله فإذا اعتقدوا أن ولي الأمر يصله من مال بيت المال مما جعله الله لذوي القربى استحقوا بمثل هذا أن يوصلوا من
(6/155)
بيت المال ما يستحقونه لكونهم أولى قربى الإمام وذلك أن نصر ولى الأمر والذب عنه متعين وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه مالا يفعله غيرهم وبالجملة فلا بد لكل ذوي أمر من أقوام يأتمنهم على نفسه ويدفعون عنه من يريد ضرره فإن لم يكن الناس مع إمامهم كما كانوا مع أبي بكر وعمر احتاج الأمر إلى بطانة يطمئن إليهم وهم لا بد لهم من كفاية فهذا أحد التأويلين والتأويل الثاني أنه كان يعمل في المال وقد قال الله تعالى والعاملين عليها (سورة التوبة). والعامل على الصدقة الغنى له أن يأخذ بعمالته باتفاق المسلمين والعامل في مال اليتيم قد قال الله تعالى فيه ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف (سورة النساء). وهل الأمر للغنى بالاستعفاف أمر إيجاب أو أمر استحباب على قولين وولى بيت المال وناظر الوقف هل هو كعامل الصدقة أو كولي اليتيم على قولين وإذا جعل ولي الأمر كعامل الصدقة استحق مع الغنى وإذا جعل كولي اليتيم ففيه القولان فهذه ثلاثة أقوال وعثمان على قولين كان له الأخذ مع الغنى وهذا مذهب الفقهاء ليست كأغراض الملوك التي لم يوافق عليها أحد من أهل العلم
(6/156)
ومعلوم أن هذه التأويلات إن كانت مطابقة فلا كلام وإن كانت مرجوحة فالتأويلات في الدماء التي جرت من على ليست بأوجه منها والاحتجاج لهذه الأقوال أقوى من الاحتجاج لقول من رأى القتال وأما قوله وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره فالجواب أن هذا من الكذب البين على ابن مسعود فإن علماء أهل النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما ولى عثمان وذهب ابن مسعود إلى الكوفة قال ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل وكان عثمان في السنين الأول من ولايته لا ينقمون منه شيئا ولما كانت السنين الآخرة نقموا منه أشياء بعضها هم معذورون فيه وكثير منها كان عثمان هو المعذور فيه من جملة ذلك أمر ابن مسعود فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف لما فوض كتابته إلى زيد دونه وأمر الصحابة أن يغسلوا مصاحفهم وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان وكان زيد بن ثابت قد انتدبه قبل ذلك أبو بكر وعمر لجمع المصحف في
(6/157)
الصحف فندب عثمان من ندبه أبو بكر وعمر وكان زيد بن ثابت قد حفظ العرضة الأخيرة فكان اختيار تلك أحب إلى الصحابة فإن جبريل عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في العام الذي قبض فيه مرتين وأيضا فكان ابن مسعود أنكر على الوليد بن عقبة لما شرب الخمر وقد قدم ابن مسعود إلى المدينة وعرض عليه عثمان النكاح وهؤلاء المبتدعة غرضهم التكفير أو التفسيق للخلفاء الثلاثة بأشياء لا يفسق بها واحد من الولاة فكيف يفسق بها أولئك ومعلوم أن مجرد قول الخصم في خصمه لا يوجب القدح في واحد منها وكذلك كلام أحد المتشاجرين في الآخر ثم يقال بتقدير أن يكون ابن مسعود طعن على عثمان رضي الله عنهما فليس جعل ذلك قدحا في عثمان بأولى من جعله قدحا في ابن مسعود وإذا كان كل واحد منهما مجتهدا فيما قاله أثابه الله على حسناته وغفر له خطأه وإن كان صدر من أحدهما ذنب فقد علمنا أن كلا منهما ولى لله وأنه من أهل الجنة وأنه لا يدخل النار فذنب كل واحد منهما لا يعذبه الله عليه في الآخرة
(6/158)
وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه هو أفضل من ابن مسعود وعمار وأبي ذر ومن غيرهم من وجوه كثيرة كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة فليس جعل كلام المفضول قادحا في الفاضل بأولى من العكس بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل وإلا تكلم بما يعلم من فضلهما ودينهما وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله ولهذا أوصوا بالإمساك عما شجر بينهم لأنا لا نسأل عن ذلك كما قال عمر بن عبد العزيز تلك دماء طهر الله منها يدى فلا أحب أن أخضب بها لساني وقال آخر تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (سورة البقرة). لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلا بد من الذب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان وقول الحسن فيه ونقل عنه أنه قال لقد كفر عثمان كفره صلعاء وأن الحسن بن علي أنكر ذلك عليه وكذلك على وقال له يا عمار أتكفر برب آمن به عثمان وقد تبين أن الرجل المؤمن الذي هو ولى لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي لله ويكون مخطئا في هذا الاعتقاد ولا يقدح
(6/159)
هذا في إيمان واحد منهما وولايته كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم إنك منافق تجادل عن المنافقين وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فعمر أفضل من عمار وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل الجنة وإن قال أحدهما للآخر ما قال مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمار قال ذلك وأما قوله إنه لما حكم ضرب ابن مسعود حتى مات فهذا كذب باتفاق أهل العلم فإنه لما ولى أقر ابن مسعود على ما كان عليه من الكوفة إلى أن جرى من ابن مسعود ما جرى وما مات ابن مسعود من ضرب عثمان أصلا وفي الجملة فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمارا فهذا لا
(6/160)
يقدح في أحد منهم فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين وقد قدمنا أن ولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية فكيف بالتعزير وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه فقال ما هذا يا أمير المؤمنين قال هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع فإن كان عثمان أدب هؤلاء فإما أن يكون عثمان مصيبا في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك أو يكون ذلك الذي عزروا عليه تابوا منه أو كفر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك وإما أن يقال كانوا مظلومين مطلقا فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة فإنه أفضل منهم وأحق بالمغفرة والرحمة وقد يكون الإمام مجتهدا في العقوبة مثابا عليها وأولئك مجتهدون فيما فعلوه لا يأثمون به بل يثابون عليه لاجتهادهم مثل شهادة أبي بكرة على المغيرة فإن أبا بكرة رجل صالح من خيار المسلمين وقد كان محتسبا في شهادته معتقدا أنه يثاب على ذلك وعمر أيضا محتسب في إقامة الحد مثاب على ذلك
(6/161)
فلا يمتنع أن يكون ما جرى من عثمان في تأديب ابن مسعود وعمار من هذا الباب وإذا كان المقتتلون قد يكون كل منهم مجتهدا مغفورا له خطؤه فالمختصمون أولى بذلك وإما أن يقال كان مجتهدا وكانوا مجتهدين فمثل هذا يقع كثيرا يفعل الرجل شيئا باجتهاده ويرى ولي الأمر أن مصلحة المسلمين لا تتم إلا بعقوبته كما أنها لا تتم إلا بعقوبة المتعدى وإن تاب بعد رفعه إلى الإمام فالزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام وثبوت الحد عليهم لم يسقط الحد عنهم بالتوبة بل يعاقبون مع كونهم بالتوبة مستحقين للجنة ويكون الحد مما يثابون عليه ويؤجرون عليه ويكفر الله به ما يحتاج إلى التكفير ولو أن رجلا قتل من اعتقده مستحقا لقتله قصاصا أو أخذ مالا يعتقد أنه له في الباطن ثم ادعى أهل المقتول وأهل المال بحقهم عند ولي الأمر حكم لهم به وعاقب من امتنع من تسليم المحكوم به إليهم وإن كانوا متأولا فيما فعله بل بريئا في الباطنوأكثر الفقهاء يحدون من شرب النبيذ المتنازع فيه وإن كان متأولا وكذلك يأمرون بقتال الباغي المتأول لدفع بغيه وإن كانوا مع ذلك لا يفسقونه لتأويله وقد ثبت في الصحيح أن عمار بن ياسر لما أرسله علي إلى الكوفة هو والحسن ليعينوا على عائشة قال عمار بن ياسر إنا لنعلم أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم بها لينظر إياه تطيعون أم إياها فقد شهد لها عمار بأنها من أهل الجنة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة ومع هذا دعا الناس إلى دفعها بما يمكن من قتال وغيره فإذا كان عمار يشهد لها بالجنة ويقاتلها فكيف لا يشهد له عثمان بالجنة ويضربه وغاية ما يقال إن ما وقع كان هذا وهذا وهذا مذنبين فيه وقد قدمنا القاعدة الكلية أن القوم مشهود لهم بالجنة وإن كان لهم ذنوب وأما قوله وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة
(6/162)
فيقال الذي في الصحيح تقتل عمار الفئة الباغية وطائفة العلماء ضعفوا هذا الحديث منهم الحسين الكرابيسى وغيره ونقل ذلك عن أحمد أيضا وأما قوله لا أنالهم الله شفاعتي فكذب مزيد في الحديث لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد معروف وكذلك قوله عمار جلدة بين عيني لا يعرف له إسناد ولو قيل مثل ذلك فقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال إنما فاطمة بضعة منى يريبنى ما يربيها وفي الصحيح عنه أنه قال لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وثبت عنه في الصحيح أنه كا يحب أسامة ثم يقول اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه ومع هذا لما قتل ذلك الرجل أنكر عليه إنكار شديدا وقاليا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ وثبت عنه في الصحيح أنه قال يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا الحديث وثبت عنه في عبد الله حمار أنه كان يضربه على شرب الخمر مرة بعد مرة وأخبر عنه أنه يحب الله ورسولهوقال في خالد سيف من سيوف الله ولما فعل في بني جذيمة ما فعل قال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد وثبت عنه أنه قال لعلي أنت مني وأنا منك ولما خطب بنت أبي جهل قال إن بني المغيرة استأذنوني في أن يزوجوا ابنتهم عليا وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد وفي حديث آخر أنه رأى أبا بكر يضرب عبده وهو محرم فقال انظروا ما يفعل المحرم ومثل هذا كثير
(6/163)
فكون الرجل محبوبا لله ورسوله لا يمنع أن يؤدب بأمر الله ورسوله فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه أخرجاه في الصحيحين ولما نزل قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به (سورة النساء). قال أبو بكر يا رسول الله قد جاءت قاصمة الظهر فقال ألست تحزن ألست تنصب ألست تصيبك اللأواء فهو مما تجزون به رواه أحمد وغيره وفي الحديث الحدود كفارات لأهلهاوفي الصحيحين عن عبادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له فإذا كانت المصائب السماوية التي تجري بغير فعل بشر مما يكفر الله بها الخطايا فما يجري من أذى الخلق والمظالم بطريق الأولى كما يصيب المجاهدين من أذى الكفار وكما يصيب الأنبياء من أذى من يكذبهم وكما يصيب المظلوم من أذى الظالم
(6/164)
إذا كان هذا مما يقع معصية لله ورسوله فما يفعله ولى الأمر من إقامة حد وتعزير يكون تكفير الخطايا به أولى وكانوا في زمن عمر إذا شرب أحدهم الخمر جاء بنفسه إلى الأمير وقال طهرني وقد جاء ماعز بن مالك والغامدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبا منه التطهير وإذا كان كذلك فكون الرجل وليا لله لا يمنع أن يحتاج إلى ما يكفر الله به سيئاته من تأديب ولي الأمر الذي أمره الله عليه وغير ذلك وإذا قيل هم مجتهدون معذورون فيما أدبهم عليه عثمان فعثمان أولى أن يقال فيه كان مجتهدا معذورا فيما أدبهم عليه فإنه إمام مأمور بتقويم رعيته وكان عثمان أبعد عن الهوى وأولى بالعلم والعدل فيما أدبهم عليه رضي الله عنهم أجمعين ولو قدح رجل في علي بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية وأصحابه وقاتل طلحة والزبير لقيل له علي بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه فلا يجوز أن يجعل الذين قاتلوه هم العادلين وهو ظالم لهم كذلك عثمان فيمن أقام عليه حدا أو تعزيرا هو أولى بالعلم والعدل منهم وإذا وجب الذب عن علي لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك فالذب عن عثمان لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك أولى
(6/165)
وقوله وطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما ولى عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الآية (سورة المجادلة). والجواب أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفى رجل ومروان ابنه كان صغيرا إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا هو ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ولا لها إسناد يعرف به أمرها ومن الناس من يروي أنه حاكى النبي صلى الله عليه وسلم في مشيته ومنهم من يقول غير ذلك ويقولون إنه نفاه إلى الطائف
(6/166)
والطلقاء ليس فيهم من هاجر بل قال النبي صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ولما قدم صفوان بن أمية مهاجرا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة ولما أتاه العباس برجل ليبايعه على الهجرة وأقسم عليه أخذ بيده وقال إني أبررت قسم عمي ولا هجرة بعد الفتح وكان العباس قد خرج من مكة إلى المدينة قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إليها عام الفتح فلقيه في الطريق فلم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم وقالوا هو ذهب باختياره والطرد هو النفي والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين وكانوا يعزرون بالنفي وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان فإن هذا لا يعرف في شىء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه
(6/167)
منفيا دائما بل غاية النفي المقدر سنة وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث فإن كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب منه فإذا تاب سقطت العقوبة عنه وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادى لم يقدر فيه قدر ولم يوقت فيه وقت وإذا كان كذلك فالنفي كان في آخر الهجرة فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر فلما كان عثمان طالت مدته وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان كاتبا للوحي وارتد عن الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه فيمن أهدر ثم جاء به عثمان فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم وقد رووا أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده فأذن له في ذلك ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعيد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد الثابت وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها إنما ذكرها مرسلة وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه وقل أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان فلم يكن هنا نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان
(6/168)
والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعة له عنه لما أرسله إلى مكة وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا يعرف حقيقته بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ الذين يبتغون الفتنة ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة الذين ذمهم الله ورسوله وبالجملة فنحن نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمر بنفي أحد دائما ثم يرده عثمان معصية لله ورسوله ولا ينكر ذلك عليه المسلمون وكان عثمان رضي الله عنه أتقى لله من أن يقدم على مثل هذا بل هذا مما يدخله الاجتهاد فلعل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يرداه لأنه لم يطلب ذلك منهما وطلبه من عثمان فأجابه إلى ذلك أو لعله لم يتبين لهما توبته وتبين ذلك لعثمان وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنبا وقد تقدم الكلام على ذلك
(6/169)
وأما استكتابه مروان فمروان لم يكن له في ذلك ذنب لأنه كان صغيرا لم يجر عليه القلم ومات النبي صلى الله عليه وسلم ومروان لم يبلغ الحلم باتفاق أهل العلم بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها وكان مسلما باطنا وظاهرا يقرأ القرآن ويتفقه في الدين ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشىء يعاب به فلا ذنب لعثمان في استكتابه وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان ولم يكن مروان ممن يحاد الله ورسوله وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء والطلقاء حسن إسلام أكثرهم وبعضهم فيه نظر ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن والمنافقون تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام ولم يكن أحد من الطلقاء بعد الفتح يظهر المحادة لله ورسوله بل يرث ويورث ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين وتجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على غيره وقد عرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي بين يدى رسول الله صلى الله عليهوسلم وقال لسعد بن معاذ والله لا تقتله ولا تقدر على قتله وهذا وإن كان ذنبا من سعد لم يخرجه ذلك عن الإيمان بل سعد من أهل الجنة ومن السابقين الأولين من الأنصار فكيف بعثمان إذا آوى رجلا لا يعرف أنه منافق ولو كان منافقا لم يكن الإحسان إليه موجبا للطعن في عثمان فإن الله تعالى يقول لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (سورة الممتحنة). وقد ثبت في الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر قالت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها قال نعم صلى أمك وقد أوصت صفية بنت حيى بن أخطب لقرابة لها من اليهود فإذا كان الرجل المؤمن قد يصل أقاربه الكفار ولا يخرجه ذلك عن الإيمان فكيف إذا وصل أقاربه المسلمين وغاية ما فيهم أن يتهموا بالنفاق
(6/170)
و أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب كان أبوها من رءوس اليهود المحادين لله ورسوله وكانت هي امرأة صالحة من أمهات المؤمنين المشهود لها بالجنة ولما ماتت أوصت لبعض أقاربها من اليهود وكان ذلك مما تحمد عليه لا مما تذم عليه وهذا مما احتج به الفقهاء على جواز صلة المسلم لأهل الذمة بالصدقة عليهم والوصية لهم فكيف بأمير المؤمنين إذا أحسن إلى عمه المظهر للإسلام وهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة لشهوده بدرا والحديبية وقال لمن قال إنه منافق ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأين حاطب من عثمان فلو قدر والعياذ بالله أن عثمان فعل مع أقاربه ما هو من هذا الجنس لكان إحساننا القول فيه والشهادة له بالجنة أولى بذلك من حاطب بن أبي بلتعة وأما قوله إنه نفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا مع أن
(6/171)
النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبي ذر وقال إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم فقيل له من هم يا رسول الله قال علي سيدهم وسلمان والمقداد وأبو ذر فالجواب أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس فإن أبا ذر رضي الله عنه كان رجلا صالحا زاهدا وكان من مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوي به في النار واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة احتج بقوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله (سورة التوبة). وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه قال يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين وأنه قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذاولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب ووافق عثمان فضربه أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك كما يذكر عن عبد الواحد ابن زيد ونحوه ومن الناس من يجعل الشبلي من أرباب هذا القول وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة فنفى الوجوب فيما دون المائتين ولم يشترط كون صاحبها محتاجا إليها أم لا وقال جمهور الصحابة الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه وقد قسم
(6/172)
الله تعالى المواريث في القرآن ولا يكون الميراث إلا لمن خلف مالا وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إيجاب إنما قال ما أحب أن يمضي على ثالثة وعندي منه شىء فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه وكذا قوله المكثرون هم المقلون دليل على أن من كثر ماله قلت حسناته يوم القيامة إذا لم يكثر الإخراج منه وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويما تاما فلا يعتدي لا الأغنياء والفقراء فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقداروالنوع وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض وأما كون أبي ذر من أصدق الناس فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره بل كان أبو ذر مؤمنا ضعيفا كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لاتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير وأهل الشورى مؤمنون أقوياء وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء
(6/173)
فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة كعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف أفضل من أبي ذر وأمثاله والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف بل موضوع وليس له إسناد يقوم به وأما قوله إنه ضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين وقال لا تبطل حدود الله وأنا حاضر فالجواب أما قوله إن الهرمزان كان مولى علي فمن الكذب الواضح فإن الهرمزان كان من الفرس الذين استنابهم كسرى على قتال المسلمين فأسره المسلمون وقدموا به على عمرفأظهر الإسلام فمن عليه عمر وأعتقه فإن كان عليه ولاء فهو للمسلمين وإن كان الولاء لمن باشر العتق فهو لعمر وإن لم يكن عليه ولاء بل هو كالأسير إذا من عليه فلا ولاء عليه فإن العلماء تنازعوا في الأسير إذا أسلم هل يصير رقيقا بإسلامه أم يبقى حرا يجوز المن عليه والمفاداة كما كان قبل الإسلام مع اتفاقهم على أنه عصم بالإسلام دمه وفي المسألة قولان مشهوران هما قولان في مذهب أحمد وغيره وليس لعلي سعى لا في استرقاقه ولا في إعتاقه ولما قتل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة الكافر المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة وذكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤى عند الهرمزان حين قتل عمر فكان ممن أتهم بالمعاونة على قتل عمر وقد قال عبد الله بن عباس لما قتل عمر وقال له عمر قد كنت
(6/174)
أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة فقال إن شئت أن نقتلهم فقال كذبت أما بعد إذ تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا فكيف لا يعتقد عبد الله جواز قتل الهرمزان فلما استشار عثمان الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة أن لا تقتله فإن أباه قتل بالامس ويقتل هو اليوم فيكون في هذا فساد في الإسلام وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل وقد تنازع الفقهاء في المشتركين في القتل إذا باشر بعضهم دونبعض فقيل لا يجب القود إلا على المباشر خاصة وهو قول أبي حنيفة وقيل إذا كان السبب قويا وجب على المباشر والمتسبب كالمكره والمكره وكالشهود بالزنا والقصاص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا وهذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد ثم إذا أمسك واحد وقتله الآخر فمالك يوجب القود على الممسك والقاتل وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت كما روى عن ابن عباس وقيل لا قود إلا على القاتل كقول أبي حنيفة والشافعي وقد تنازعوا أيضا في الآمر الذي لم يكره إذا أمر من يعتقد أن القتل محرم هل يجب القود على الآمر على قولين وأما الردء فيما يحتاج فيه إلى المعاونة كقطع الطريق فجمهورهم على أن الحد يجب على الردء والمباشرة جميعا وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وكان عمر بن الخطاب يأمر بقتل الربيئة وهو الناطور لقطاع الطريق
(6/175)
وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر جاز قتله في أحد القولين قصاصا وعمر هو القائل في المقتول بصنعاء لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وأيضا فقد تنازع الناس في قتل الأئمة هل يقتل قاتلهم حدا أو قصاصا على قولين في مذهب أحمد وغيره أحدهما أنهم يقتلون حدا كما يقتل القاتل في المحاربة حدا لأن قتل الأئمة فيه فساد عام أعظم من فساد قطاع الطريق فكان قاتلهم محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا وعلى هذا خرجوا فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما لما قتل ابن ملجم قاتل علي وكذلك قتل قتلة عثمان وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولا يعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل كما أن أسامة بن زيد لما قتل ذلك الرجل بعدما قال لا إله إلا الله واعتقد أن هذا القول لا يعصمه عزره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولا لكن الذي قتله أسامة كان مباحا قبل القتل فشك في العاصم
(6/176)
وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولا يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص فإن مسائل القصاص فيها مسائل كثيرة اجتهادية وأيضا فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون دمه وإنما وليه ولي الأمر ومثل هذا إذا قتله قاتل كان للإمام قتل قاتله لأنه وليه وكان له العفو عنه إلى الديه لئلا تضيع حقوق المسلمين فإذا قدر أن عثمان عفا عنه ورأى قدر الدية أن يعطيها لآل عمر لما كان على عمر من الدين فإنه كان عليه ثمانون ألفا وأمر أهله أن يقضوا دينه من أموال عصبته عاقلته بني عدي وقريش فإن عاقلة الرجل هم الذين يحملون كله والدية لو طالب بها عبيد الله أو عصبة عبيد الله إذا كان قتله خطأ أو عفا عنه إلى الدية فهم الذين يؤدون دين عمر فإذا أعان بها في دين عمر كان هذا من محاسن عثمان التي يمدح بها لا يذم وقد كانت أموال بيت المال في زمن عثمان كثيرة وكان يعطى الناس عطاء كثيرا أضعاف هذا فكيف لا يعطى هذا لآل عمروبكل حال فكانت مسألة اجتهادية وإذا كانت مسألة اجتهادية وقد رأى طائفة كثيرة من الصحابة أن لا يقتل ورأى آخرون أن يقتل لم ينكر على عثمان ما فعله باجتهاده ولا على علي ما قاله باجتهاده وقد ذكرنا تنازع العلماء في قتل الأئمة هل هو من باب الفساد الذي يجب قتل صاحبه حتما كالقاتلين لأخذ المال أم قتلهم كقتل الآحاد الذين يقتل أحدهم الآخر لغرض خاص فيه فيكون على قاتل أحدهم القود وذكرنا في ذلك قولين وهما قولان في مذهب أحمد وغيره وذكرهما القاضي أبو يعلى وغيره فمن قال إن قتلهم حد قال إن جنايتهم توجب من الفتنة والفساد أكثر مما يوجبه جناية بعض قطاع الطريق لأخذ المال فيكون قاتل الأئمة من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله
(6/177)
عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان فأمر بقتل الواحد المريد لتفريق الجماعة ومن قتل إمام المسلمين فقد فرق جماعتهم ومن قال هذا قال إن قاتل عمر يجب قتله حتما وكذلك قتله عثمان يجب قتلهم حتما وكذلك قاتل علي يجب قتله حتما وبهذا يجاب عن ابنه الحسن بن علي وغيره من يعترض عليهم فنقول كيف قتلوا قاتل علي وكان في ورثته صغار وكبار والصغار لم يبلغوا فيجاب عن الحسن بجوابين أحدهما أن قتله كان واجبا حتما لأن قتل علي وأمثاله من أعظم المحاربة لله ورسوله والفساد في الأرض ومنهم من يجيب بجواز انفراد الكبار بالقود كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وإذا كان قتل عمر وعثمان وعلي ونحوهم من باب المحاربة فالمحاربة يشترك فيها الردء والمباشر عند الجمهور فعلى هذا من أعانعلى قتل عمر ولو بكلام وجب قتله وكان الهرمزان ممن ذكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجبا ولكن كان قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه وأما قوله إن عليا كان يريد قتل عبيد الله بن عمر فهذا لو صح كان قدحا في علي والرافضة لا عقول لهم يمدحون بما هو إلى الذم أقرب فإنها مسألة اجتهاد وقد حكم حاكم بعصمة الدم فكيف يحل لعلي نقضه وعلي ليس ولي المقتول ولا طلب ولي المقتول القود وإذا كان حقه لبيت المال فللإمام أن يعفو عنه وهذا مما يذكر في عفو عثمان وهو أن الهرمزان لم يكن له عصبة إلا السلطان وإذا قتل من لا ولى له كان الإمام أن يقتل قاتله وله أن لا يقتل قاتله ولكن يأخذ الدية والدية حق للمسلمين فيصرفها في مصارف الأموال وإذا ترك لآل عمر دية مسلم كان هذا بعض ما يستحقونه على المسلمين وبكل حال فلم يكن بعد عفو عثمان وحكمه بحقن دمه يباح قتله
(6/178)
أصلا وما أعلم في هذا نزاعا بين المسلمين فكيف يجوز أن ينسب إلى علي مثل ذلك ثم يقال يا ليت شعري متى عزم علي على قتل عبيد الله ومتى تمكن علي من قتل عبيد الله أو متى تفرغ له حتى ينظر في أمره وعبيد الله كان معه ألوف مؤلفة من المسلمين مع معاوية وفيهم خير من عبيد الله بكثير وعلي لم يمكنه عزل معاوية وهو عزل مجرد أفكان يمكنه قتل عبيد الله ومن حين مات عثمان تفرق الناس وعبد الله بن عمر الرجل الصالح لحق بمكة ولم يبايع أحدا ولم يزل معتزل الفتنة حتى اجتمع الناس على معاوية مع محبته لعلي ورؤيته له أنه هو المستحق للخلافة وتعظيمه له وموالاته له وذمه لمن يطعن عليه ولكن كان لا يرى الدخول في القتال بين المسلمين ولم يمتنع عن موافقة على إلا في القتال وعبيد الله بن عمر لحق معاوية بعد مقتل عثمان كما لحقه غيره ممن كانوا يميلون إلى عثمان وينفرون عن علي ومع هذا فلم يعرف لعبيدالله من القيام في الفتنة ما عرف لمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي وأمثالهما فإنه بعد القتال وقع الجميع في الفتنة وأما قبل مقتل عثمان فكان أولئك ممن أثار الفتنة بين المسلمين
(6/179)
ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان يجعل لا حرمة له وهو إمام المسلمين المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبين ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء وأصبر الناس على من نال من عرضه وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروى أنه قال لمماليكه من كف يده فهو حر وقيل له تذهب إلى مكة فقال لا أكون ممن الحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال لا أفارق دار هجرتي فقيل له فقاتلهم فقال لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين ومعلوم أن الدماء الكثيرة التي سفكت باجتهاد علي ومن قاتله لم يسفك قبلها مثلها من دماء المسلمين فإذا كان ما فعله علي مما لا يوجب القدح في علي بل كان دفع الظالمين لعلي من الخوارج وغيرهم من النواصب
(6/180)
القادحين في علي واجبا فلأن يجب دفع الظالمين القادحين في عثمان بطريق الأولى والأحرى إذ كان بعد عثمان عن استحلال دماء المسلمين أعظم من بعد علي عن ذلك بكثير كثير وكان من قدح في عثمان بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل الحدود كان قد طرق من القدح في علي ماهو أعظم من هذا وسوغ لمن أبغض عليا وعاداه وقاتله أن يقول إن عليا عطل الحدود الواجبة على قتلة عثمان وتعطيل تلك الحدود إن كانت واجبة أعظم فسادا من تعطيل حد وجب بقتل الهرمزان وإذا كان من الواجب الدفع عن علي بأنه كان معذورا باجتهاد أو عجز فلأن يدفع عن عثمان بأنه كان معذورا بطريق الأولى وأما قوله أراد عثمان تعطيل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين فهذا كذب عليهما بل عثمان هو الذي أمر عليا بإقامة الحد عليهكما ثبت ذلك في الصحيح وعلي خفف عنه وجلده أربعين ولو جلده ثمانين لم ينكر عليه عثمان وقول الرافضي إن عليا قال لا يبطل حد الله وأنا حاضر فهو كذب وإن كان صدقا فهو من أعظم المدح لعثمان فإن عثمان قبل قول علي ولم يمنعه من إقامة الحد مع قدرة عثمان على منعه لو أراد فإن عثمان كان إذا أراد شيئا فعله ولم يقدر على علي منعه وإلا
(6/181)
فلو كان علي قادرا على منعه مما فعله من الأمور التي أنكرت عليه ولم يمنعه مما هو عنده منكر مع قدرته كان هذا قدحا في علي فإذا كان عثمان أطاع عليا فيما أمره به من إقامة الحد دل ذلك على دين عثمان وعدله وعثمان ولى الوليد بن عقبة هذا على الكوفة وعندهم أن هذا لم يكن يجوز فإن كان حراما وعلي قادر على منعه وجب على علي منعه فإذا لم يمنعه دل على جوازه عند علي أو على عجز علي وإذا عجز عن منعه عن الإمارة فكيف لا يعجز عن ضربه الحد فعلم أن عليا كان عاجزا عن حد الوليد لولا أن عثمان أراد ذلك فإذا أراده عثمان دل على دينه وقائل هذا يدعي أن الحدود ما زالت تبطل وعلي حاضر حتى في ولايته يدعون أنه كان يدع الحدود خوفا وتقية فإن كان قال هذا ولم يقله إلا لعلمه بأن عثمان وحاشيته يوافقونه على إقامة الحدود وإلا فلو كان يتقي منهم لما قال هذا ولا يقال إنه كان أقدر منهم على ذلك فإن قائل هذا يدعي أنه كان عاجزا لا يمكنه إظهار الحق بينهم
(6/182)
ودليل هذا أنه لم يمكنه عندهم إقامة الحد على عبيد الله بن عمر وعلى نواب عثمان وغيرهم والرافضة تتكلم بالكلام المتناقض الذي ينقض بعضه بعضا وأما قوله إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة فصار سنة إلى الآن فالجواب أن عليا رضي الله عنه كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة هذا الأذان كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقاتلتهم التي عجز عنها فكان علي إزالة هذه البدعة من الكوفة ونحوها من أعماله أقدر منه على إزالة أولئك ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه فإن قيل كان الناس لا يوافقونه على إزالتها قيل فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وإلا فهؤلاء الذين هم أكابر الصحابة لو أنكروا لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر
(6/183)
هذا ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان وقول القائل هي بدعة إن أراد بذلك أنه لم يكن يفعل قبل ذلك فكذلك قتال أهل القبلة بدعة فإنه لم يعرف أن إماما قاتل أهل القبلة قبل علي وأين قتال أهل القبلة من الأذان فإن قيل بل البدعة ما فعل بغير دليل شرعي قيل لهم فمن أين لكم أن عثمان فعل هذا بغير دليل شرعي وإن عليا قاتل أهل القبلة بدليل شرعي وأيضا فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحدث في خلافته العيد الثاني بالجامع فإن السنة المعروفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أنه لا يصلي في المصر إلا جمعة واحدة ولا يصلى يوم النحر والفطر إلا عيد واحد والجمعة كانوا يصلونها في المسجد والعيد يصلونه بالصحراء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة وعرفة قبل الصلاة وفي العيد بعد الصلاة واختلف عنه في الاستسقاء فلما كان على عهد علي قيل له إن بالبلد ضعفاء لا يستطيعون
(6/184)
الخروج إلى المصلى فاستخلف عليهم رجلا صلى بالناس بالمسجد قيل إنه صلى ركعتين بتكبير وقيل بل صلى أربعا بلا تكبير وأيضا فإن ابن عباس عرف في خلافة علي بالبصرة ولم يرو عن علي أنه أنكر ذلك وما فعله عثمان من النداء الأول اتفق عليه الناس بعده أهل المذاهب الأربعة وغيرهم كما اتفقوا على ما سنه أيضا عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد وأما ما سنة علي من إقامة عيدين فتنازع العلماء فيه وفي الجمعة على ثلاثة أقوال قيل إنه لا يشرع في المصر إلا جمعة واحدة وعيد واحد كقول مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة لأنه السنة وقيل بل يشرع تعدد صلاة العيد في المصر دون الجمعة كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين لكل قائل هذا بناه على أن صلاة العيد لا يشترط لها الإقامة والعدد كما يشترط للجمعة وقالوا إنها تصلى في الحضر والسفر وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وقيل بل يجوز عند الحاجة أن تصلي جمعتان في المصر كما صلى على عيدين للحاجة وهذا مذهب أحمد بن حنبل في المشهور عنه وأكثر أصحاب أبي حنيفة وأكثر المتأخرين من
(6/185)
أصحاب الشافعي وهؤلاء يحتجون بفعل علي بن أبي طالب لأنه من الخلفاء الراشدين وكذلك أحمد بن حنبل جوز التعريف بالأمصار واحتج بأن ابن عباس فعله بالبصرة وكان ذلك في خلافة علي وكان ابن عباس نائبه بالبصرة فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون عليا فيما سنه كما يتبعون عمر وعثمان فيما سناه وآخرون من العلماء كمالك وغيره لا يتبعون عليا فيما سنه وكلهم متفقون على اتباع عمر وعثمان فيما سناه فإن جاز القدح في عمر وعثمان فيما سناه وهذا حاله فلأن يقدح في علي فيما سنه وهذا حاله بطريق الأولى وإن قيل بأن ما فعله على سائغ لا يقدح فيه لأنه باجتهاده أو لأنه سنة يتبع فيه فلأن يكون ما فعله عمر وعثمان كذلك بطريق الأولى ومن هذا الباب ما يذكر مما فعله عمر مثل تضعيف الصدقة التي هي جزية في المعنى على نصارى بني تغلب وأمثال ذلك ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئا فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين ولم ينكروه عليه واتبعه المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة وهم قد زادوا في الأذان شعارا لم يكن يعرف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقل أحد أن النبي صلى الله عليه
(6/186)
وسلم أمر بذلك في الأذان وهو قولهم وحي على خير العمل وغاية ما ينقل إن صح النقل أن بعض الصحابة كابن عمر رضي الله عنهما كان يقول ذلك أحيانا على سبيل التوكيد كما كان بعضهم يقول بين النداءين حي على الصلاة حي على الفلاح وهذا يسمى نداء الأمراء وبعضهم يسميه التثويب ورخص فيه بعضهم وكرهه أكثر العلماء ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة ذلك ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان الذي كان يؤذنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأبو محذورة بمكة وسعد القرظ في قباء لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه كما نقلوا ما هو أيسر منه فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان من ذكر هذه الزيادة علم أنها بدعة باطلة وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذنون بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ومنه تعلموا الأذان وكانوا يؤذنون في أفضل المساجد مسجة مكة ومسجد المدينة ومسجد قباء وأذانهم متواتر عند العامة والخاصةومعلوم أن نقل المسلمين للأذان أعظم من نقلهم إعراب آية كقوله وأرجلكم ونحو ذلك ولا شيء أشهر في شعائر الإسلام من الأذان فنقله أعظم من نقل سائر شعائر الإسلام وإن قيل فقد اختلف في صفته قيل بل كل ما ثبت به النقل فهو صحيح سنة ولا ريب أن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة الأذان وفيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان ولا ريب أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولم يكن في أذانه ترجيع فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب ونقل تثنيتها صحيح بلا ريب وأهل العلم بالحديث يصححون هذا وهذا وهذا مثل أنواع التشهدات المنقولات ولكن اشتهر بالحجاز آخرا إفراد الإقامة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم بلالا وأما الترجيع فهو يقال سرا وبعض الناس يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم علمه لأبي محذورة ليثبت الإيمان في قلبه لا أنه من الأذان فقد اتفقوا على
(6/187)
أنه لقنه أبا محذورة فلم يبق بين الناس خلاف في نقل الأذان المعروف وأما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى فالجواب أما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل فإن أراد أنهم خالفوه خلافا يبيح قتله أو أنهم كلهم أمروا بقتله ورضوا بقتله وأعانوا على قتله فهذا مما يعلم كل أحد أنه من أظهر الكذب فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة قال ابن الزبير لعنت قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب يعني هربوا ليلا وأكثر المسلمين كانوا غائبين وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله أو في كل ما أنكر عليه فهذا أيضا كذب فما من شىء أنكر عليه إلا وقد وافقه عليه
(6/188)
كثير من المسلمين بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة والذين وافقوا عثمان على ما أنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليا على ما أنكر عليه إما في كل الأمور وإما في غالبها وبعض المسلمين أنكر عليه بعض الأمور وكثير من ذلك يكون الصواب فيه مع عثمان وبعضه يكون فيه مجتهدا ومنه ما يكون المخالف له مجتهدا إما مصيبا وإما مخطئا وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون وإن قدر أن فيهم من قد يغفر الله له فهذا لا يمنع كون عثمان قتل مظلوما والذي قال له غبت عن بدر وبيعة الرضوان وهربت يوم أحد قليل جدا من المسلمين ولم يعين منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك وقد اجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال وقالوا يوم بدر غاب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليخلفه عن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ويوم الحديبية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بيده ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير له من يده لنفسه وكانت البيعة
(6/189)
بسببه فإنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولا إلى أهل مكة بلغه انهم قتلوه فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت فكان عثمان شريكا في البيعة مختصا بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فامتنع من ذلك وقال حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة فهم يحمونه وأما التولي يوم أحد فقد قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ماكسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (سورة آل عمران). فقد عفا الله عن جميع المتولين يوم أحد فدخل في العفو من هو دون عثمان فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناتهفصل قال الرافضي وقد ذكر الشهرستاني وهو من أشد المتعصبين على الإمامية أن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فأول تنازع وقع في مرضه ما رواه البخاري بإسناده إلى أبن عباس قال لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه فقال ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله وكثر اللغط فقال النبي صلى الله عليه وسلم قوموا عني لا ينبغي عند التنازع الجواب أن يقال ما ينقله الشهرستاني وأمثاله من المصنفين في الممل والنحل عامته مما ينقله بعضهم عن بعض وكثير من ذلك لم يحرر فيه
(6/190)
أقوال المنقول عنهم ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله بل هو ينقل من كتب من صنف المقالات قبله مثل أبي عيسى الوراق وهو من المصنفين للرافضة المتهمين في كثر مما ينقلونه ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة وينقل أيضا من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة ولهذا تجد نقل الأشعري أصح من نقل هؤلاء لأنه أعلم بالمقالات وأشد احترازا من كذب الكذابين فيها مع أنه يوجد في نقله ونقل عامة من ينقل المقالات بغير ألفاظ أصحابها ولا إسناد عنهم من الغلط ما يظهر به الفرق بين قولهم وبين ما نقل عنهم حتى في نقل الفقهاء بعضهم مذاهب بعض فإنه يوجد فيها غلط كثير وإن لم يكن الناقل ممن يقصد الكذاب بل يقع الغلط على من ليس له غرض في الكذب عنه بل هو معظم له أو متبع له ورسول الله صلى الله عليه وسلم كل المؤمنين متفقون على موالاته وتعظيمه ووجوب الباعة ومع هذا فغير علماء الحديث يكثر في نقلهم الغلط عليه ويزيدون في كلامه وينقصون نقصا يفسد المعنى الذي قصده بل يغلطون في معرفة أموره المشهورة المتواترة عند العامة وغيرهم
(6/191)
ونحن وإن كنا قد بينا كذب كثير مما ينقله هذا الرافضي فمعلوم أن كثيرا ممن ينقل ذلك لم يتعمد الكذب لا هذا ولا نحوه لكن وقع إما تعمدا للكذب من بعضهم وإما غلطا وسوء حفظ ثم قبله الباقون لعدم علمهم ولهواهم فإن الهوى يعمى ويصم وصاحب الهوى يقبل ما وافق هواه بلا حجة توجب صدقة ويرد ما خالف هواه بلا حجة توجب رده وليس في الطوائف أكثر تكذيبا بالصدق وتصديقا بالكذب من الرافضة فإن رؤوس مذهبهم وأئمته والذين ابتدعوه وأسسوه كانوا منافقين زنادقة كما ذكر ذلك عن غير واحد من أهل العلم وهذا طاهر لمن تأمله بخلاف قول الخوارج فإنه كان عن جهل بتأول القرآن وغلو في تعظيم الذنوب وكذلك قول الوعيدية والقدرية كان عن تعظيم الذنوب وكذلك قول المرجئة كان أصل مقصودهم نفى التكفير عمن صدق الرسل ولهذا رؤوس المذاهب التي ابتدعوها لم يقل أحد أنهم زنادقة منافقون بخلاف الرافضة فإن رؤوسهم كانوا كذلك مع أن كثيرا منهم ليسوا منافقين ولا كفارا بل بعضهم له إيمان وعمل صالح ومنهم من هو مخطىء يغفر له خطاياه ومنهم من هو صاحب ذنب يرجى له مغفرة الله لكن الجهل بمعنى القرآن والحديث
(6/192)
شامل لهم كلهم فليس فيهم إمام من أئمة المسلمين في العلم والدين وأصل المذهب إنما ابتدعه زنادقة منافقون مرادهم إفساد دين الإسلام وقد رأيت كثيرا من كتب أهل المقالات التي ينقلون فيها مذاهب الناس ورأيت أقوال أولئك فرأيت فيها اختلافا كثيرا وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه ونفس ما بعث الله به رسوله وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل الذي حكوا فيه أقوال الناس لا ينقلونه لا تعمدا منهم لتركه بل لأنهم لم يعرفوه بل ولا سمعوه لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها وفيه من الأقوال وتحريرها ما لا يوجد في غيرها وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب ما فهمه وظنه قولهم وذكر أنه يقول بكل ما نقله عنهم وجاء بعده من أتباعه كابن فورك من لم يعجبه ما نقله عنهم فنقص
(6/193)
من ذلك وزاد مع هذا فلكون خبرته بالكلام أكثر من خبرته بالحديث ومقالات السلف وأئمة السنة قد ذكر في غير موضع عنهم أقوالا في النفي والإثبات لا تنقل عن أحد منهم أصلا مثل ذلك الإطلاق لا لفظا ولا معنى بل المنقول الثابت عنهم يكون فيه تفصيل في نفي ذلك اللفظ والمعنى المراد وإثباته وهم منكرون الإطلاق الذي أطلقه من نقل عنهم ومنكرون لبعض المعنى الذي أراده بالنفي والإثبات والشهرستاني قد نقل في غير موضع أقوالا ضعيفة يعرفها من يعرف مقالات الناس مع أن كتابه أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات وأجود نقلا لكن هذا الباب وقع فيه ما وقع ولهذا لما كان خبيرا بقول الأشعرية وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين وأما الصحابة والتابعون وائمة السنة والحديث فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة وإنما سمعوا جملا تشتمل على حق وباطل ولهذا إذا اعتبرت مقالاتهم الموجودة في مصنفاتهم الثابتة بالنقل
(6/194)
عنهم وجد من ذلك ما يخالف تلك النقول عنهم وهذا من جنس نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات والمقاطيع وغيرهما مما فيه صحيح وضعيف وإذا كان كذلك فنقول ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يدفع بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم فإن اليقين لا يزول بالشك ونحن قد تيقنا ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا وما يصدق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم بطلانها وأما قوله إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية فليس كذلك بل يميل كثير إلى أشياء من أمورهم بل يذكر أحيانا أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه بعض الناس بأنه من الإسماعيلية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه شواهد من كلامه وسيرته وقد يقال هو مع الشيعة بوجه ومع أصحاب الأشعرى بوجهوقد وقع في هذا كثير من أهل الكلام والوعاظ وكانوا يدعون بالأدعية المأثورة في صحيفة علي بن الحسين وإن كان أكثرها كذبا على علي ابن الحسين وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم فإن هذا الكتاب كتاب الملل والنحل صنفه لرئيس من رؤسائهم وكانت له ولاية ديوانية وكان للشهرستاني مقصود في استعطافه له وكذلك صنف له كتاب المصارعة بينه وبين ابن سينا لميله إلى التشيع والفلسفة وأحسن أحواله أن يكون من الشيعة إن لم يكن من الإسماعيلية أعني المصنف له ولهذا تحامل فيه للشيعة تحاملا بينا
(6/195)
وإذا كان في غير ذلك من كتبه يبطل مذهب الإمامية فهذا يدل على المداهنة لهم في هذا الكتاب لأجل من صنفه له وأيضا فهذه الشبهة التي حكاها الشهرستاني في أول كتاب الملل والنحل عن إبليس في مناظرته للملائكة لا تعلم إلا بالنقل وهو لم يذكر لها إسنادا بل لا إسناد لها أصلا فإن هذه لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة ولا عن أئمة المسلمين المشهورين ولا هي أيضا مما هو معلوم عند أهل الكتاب وهذه لا تعلم إلا بالنقل عن الأنبياء وإنما توجد في شيء من كتب المقالات وبعض كتب النصارى والشهرستاني أكثر ما ينقله من المقالات من كتب المعتزلة وهم يكذبون بالقدر فيشبه والله أعلم أن يكون بعض المكذبين بالقدر وضع هذه الحكاية ليجعلها حجة على المثبتين للقدر كما يضعون شعرا على لسان يهودي وغير ذلك فإنا رأينا كثيرا من القدرية يضعون على لسان الكفار ما فيه حجة على الله ومقصودهم بذلك التكذيب بالقدر
(6/196)
وأن من صدق به فقد جعل للخلق حجة على الخالق كما وجدنا كثيرا من الشيعة يضع حججا لهم على لسان بعض اليهود ليقال لأهل السنة أجيبوا هذا اليهودي ويخاطب بذلك من لا يحسن أن يبين فساد تلك الحجة من جهال العامة وأما قول القائل إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من أظهر الكذب الباطل فإنه إن كان قصده أن هذا أول ذنب أذنب فهذا باطل ظاهر البطلان وإن كان قصده أن هذا أول اختلاف وقع بعد تلك الشبهة فهو باطل من وجوه أحدها أن شبهة إبليس لم توقع خلافا بين الملائكة ولا سمعها الآدميون منه حتى يوقع بينهم خلافا والثاني أن الخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح واختلاف الناس قبل المسلمين أعظم بكثير من اختلاف المسلمين وقد قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (سورة البقرة). قال ابن عباس كان بين آدم
(6/197)
ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك وقال تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا (سورة يونس). وقال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم (سورة هود). وقالت المائكة لما قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك (سورة البقرة). وقد أخبر الله تعالى أن ابني آدم قتل أحدهما أخاه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها فإنه أول من سن القتل وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (سورة البقرة).
(6/198)
وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات (سورة آل عمران). فهذه نصوص القرآن تخبر بالاختلاف والتفرق الذي كان في الأمم قبلنا وقال صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وقد أخبر الله من تكذيب قوم عاد وثمود وفرعون لأنبيائهم ما فيه عبرة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذروني ماتركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وقال تعالى عن أهل الكتاب قبلنا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله (سورة المائدة). وقال تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة (سورة المائدة). وأمثال ذلك مما يعلم بالاضطرار في الأمم قبلنا من الاختلاف
(6/199)
والنزاع والخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في أهل الملل فكل من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب كان الخلاف بينهم أقل فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثالهم أمرلا يحصيه إلا الله وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعا كالرافضة فينا وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم ثم بعد ذلك اختلاف أهل الحديث وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم لأن ميراثهم من النبوة أعظم من ميراث غيرهم فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به فقال واعتصموا بحبل الله جميعا (سورة آل عمران). فكيف يقال مع الاختلاف الذي في الأمم قبلنا إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وكم قد وقع من الفساد والاختلاف قبل هذا والتحديد يشبهة إبليس والاختلاف الواقع في المرض باطل فأما شبهة إبليس فلا يعرف لها أثر إسناد كما تقدم والكذب ظاهر عليها وأما ما وقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يقع قبل ذلك ما هو أعظم منه وقد وقع قتال بين أهل قباء حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم
(6/200)
وقد تنازع المسلمون يوم بدر في الأنفال فقال الآخذون هي لنا وقال الذاهبون خلف العدو هي لنا وقال الحافظون لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي لنا حتى أنزل الله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم (سورة الأنفال). وقد كان بين الأنصار خلاف في قصة الإفك حتى هم الحيان بالاقتتال فسكنهم النبي صلى الله عليه وسلم في شخص هل يجوز قتله أم لا يجوز وقد وقع نزاع بين الأنصار مرة بسبب يهودي كان يذكرهم حروبهم في الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج حتى أختصموا وهموا بالقتال حتى أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هوي إلى صراط مستقيم آل عمران وقد ثبت في الصحيح أنهم كانوا في سفر فاقتتل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم دعوها فإنها منتنةوقد كان الصحابة يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كما ثبت في الصحيحين عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في الطريق فقال بعضهم نصلي ولا نترك الصلاة وقال بعضهم لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا بعد غروب الشمس فما عنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم وفي البخاري عن ابن الزبير أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد تميم قال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد وقال عمر أمر الأقرع بن حابس فقال ما أردت إلا خلافي فقال ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية (سورة الحجرات). فكان عمر بعد ذلك لا يحدثه إلا كأخي السرار
(6/201)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء أو يأذن فيه فيراجع فيه فينسخ الله ذلك الأمر الأول كما أنه لما أمرهم بكسر الأواني التي فيها لحوم الحمر قالوا ألا نريقها قال أريقوها ولما كانوا في سفر استأذنوه في نحر ظهورهم فأذن لهم حتى جاه عمر فقال يا رسول الله إن أذنت في ذلك نفد ظهرهم ولكن اجمع ما معهم وادع الله تبارك وتعالى فيه ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ومن ذلك حديث أبي هريرة لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بغلته وقال اذهب فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فبشره بالجنة فلقيه عمر فقال فضربه في صدره وقال ارجع فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له عمر فلا تفعل فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهميعملون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلهم وأمثال ذلك كثير الوجه الثالث أن الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فلما كان يوم الخميس هم أن يكتب كتابا فقال عمر ماله أهجر فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمي أو هو مما يقول على عادته فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى فكان هذا مما خفى على عمر كما خفى عليه موت النبي صلى الله عليه وسلم بل أنكره ثم قال بعضهم هاتوا كتابا وقال بعضهم لا تأتوا بكتاب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة لأنهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك فلا يرفع النزاع فتركه ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك
(6/202)
الوقت إذ لو كان كذلك لما ترك صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر ورأى أن الخلاف لا بد أن يقع وقد سأل ربه لأمته ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه إياها وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه إياها وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعه إياها وهذا ثبت في الصحيح وقال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب فإنها رزية أي مصيبة في حق الذين شكوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وطعنوا فيها وابن عباس قال ذلك لما ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم وإلا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يجد في سنة رسول الله صلىالله عليه وسلم فبما أفتى أبو بكر وعمر وهذا ثابت من حديث ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس ومن عرف حال ابن عباس علم أنه كان يفضل أبا بكر وعمر على علي رضي الله عنه ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك كتابة الكتاب باختياره فلم يكن في ذلك نزاع ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه ومثل هذا النزاع قد كان يقع في صحته ما هو أعظم منه والذي وقع بين أهل قباء وغيرهم كان أعظم من هذا بكثير حتى أنزل فيه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (سورة الحجرات). لكن روى أنه كان بينهم قتال بالجريد والنعال ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في
(6/203)
شىء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة على نصا جليا قاطعا للعذر فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا وأما قوله الخلاف الثاني الواقع في مرضه أنه قال جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه فقال قوم يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز وقال قوم قد اشتد مرضه ولا يسع قلوبنا المفارقة فالجواب أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لعن الله من تخلف عنه ولا نقل هذا بإسناد ثبت بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلا ولا امتنع أحد من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج بل كان أسامة
(6/204)
هو الذي توقف في الخروج لما خاف أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف أذهب وأنت هكذا أسأل عنك الركبان فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في المقام ولو عزم على أسامة في الذهاب لأطاعة ولو ذهب أسامة لم يتخلف عنه أحد ممن كان معه وقد ذهبوا جميعهم معه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم لكن روى أن عمر كان فيهم وكان عمر خارجا مع أسامة لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه فأذن له مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان أحرص الناس على تجهيز أسامة هو وأبو بكر وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأن لا يجهزه خوفا عليهم من العدو فقال أبو بكر رضي الله عنه والله لا أحل راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم وكان إنفاذه من أعظم المصالح التي فعلها أبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته ولم يكن في شىء من ذلك نزاع مستقر أصلا والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقله من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول
(6/205)
الكبار لأنه لم يكن يعرف هذا هو وأمثاله من أهل الكلام وإنما ينقلون ما يحدثونه في كتب المقالات وتلك فيها أكاذيب كثيرة من جنس مافي التواريخ ولكن أهل الفرية يزعمون أن الجيش كان فيه أبو بكر وعمر وأن مقصود الرسول كان إخراجهما لئلا ينازعا عليا وهذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة وأعظم الناس تعمدا للكذب وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس والناس كلهم حاضرون ولو ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس من ولاه لأطاعوه وكان المهاجرون والأنصار يحاربون من نازع أمر الله ورسوله وهم الذين نصروا دينه أولا وآخرا ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف عليا في الصلاة هل كا يمكن أحدا أن يرده ولو أراد تأميره على الحج على أبي بكر ومن معه هل كان ينازعه أحد ولو قال لأصحابه هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي هل كان يقدر أحد أن يمنعه ذلك ومعه جماهير المسلمين من المهاجرين والأنصار كلهم مطيعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من يبغض عليا ولا من قتل علي أحدا من أقاربه وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح في عشرة آلاف سليم ألف مزينة ألف وجهينة ألف وغفار ألف ونحو ذلك والنبيصلى الله عليه وسلم يقول أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها ويقول قريش والأنصار وأسلم وغفار وجهينة موالى دون الناس ليس لهم مولى دون الله ورسوله وهؤلاء لم يقتل على أحدا منهم ولا أحدا من الأنصار وقد كان عمر رضي الله عنه أشد عداوة منذ أسلم للمشركين من على فكانوا يبغضونه أعظم من بغضهم لسائر الصحابة وكان الناس ينفرون عن عمر لغلظته وشدته أعظم من نفورهم عن علي حتى كره بعضهم توليه أبي بكر له وراجعوه لبغض النفوس للحق لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم فلم
(6/206)
يكن قط سبب يدعو المسلمين إلى تأخير من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ونص عليه وتقدم من يريد تأخيره وحرمانه ولو أراد إخراجهما في جيش أسامة خوفا منهما لقال للناس لا تبايعوهما فياليت شعري ممن كان يخاف الرسول فقد نصره الله وأعزه وحوله المهاجرون والأنصار الذين لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لفعلوا وقد أنزل الله سورة براءة وكشف فيها حال المنافقين وعرفهم المسلمين وكانوا مدحوضين مذمومين عند الرسول وأمته وأبو بكر وعمر كانا أقرب الناس عنده وأكرم الناس عليه وأحبهم إليه وأخصهم به وأكثر الناس له صحبة ليلا ونهارا وأعظمهم موافقة له ومحبة له وأحرص الناس على امتثال أمره وإعلاء دينه فكيف يجوز عاقل أن يكون هؤلاء عند الرسول من جنس المنافقين الذين كان أصحابه قد عرفوا إعراضه عنهم وإهانته لهم ولم يكن يقرب أحدا منهم بعد سورة براءة بل قال الله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (سورة الأحزاب). فانتهوا عن إظهار النفاق وانقمعوا هذا وأبو بكر عنده أعز الناس وأكرمهم وأحبهم إليه
(6/207)
وأما قوله الخلاف الثالث في موته فالجواب لا ريب أن عمر خفي عليه موته أولا ثم أقر به من الغد واعترف بأنه كان مخطئا في إنكار موته فارتفع الخلاف وليس لفظ الحديث كما ذكره الشهرستاني ولكن في الصحيحين عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمر فأبي أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه الآية (سورة آل عمران). قال والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله قد أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها فأخبرني ابن المسيب أن عمر قال والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويتإلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وأما قوله الخلاف الرابع في الإمامة وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينيه مثل ما سل على الإمامة في كل زمان فالجواب أن هذا من أعظم الغلط فإنه ولله الحمد لم يسل سيف على خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة فضلا عن السيف ولا كان بينهم سيف مسلول علىشىء من الدين والأنصار تكلم بعضهم بكلام أنكره عليهم
(6/208)
أفاضلهم كأسيد بن حضير وعباد بن بشر وغيرهما ممن هو أفضل من سعد بن عبادة نفسا وبيتا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه قال خير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني عبد الأشهل ثم دار بني الحارث بن الخزرج ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير فأهل الدور الثلاثة المفضلة دار بني النجار وبني عبد الأشهل وبني الحارث بن الخزرج لم يعرف منهم من نازع في الإمامة بل رجال بني النجار كأبي أيوب الأنصارى وأبي طلحة وأبي بن كعب وغيرهم كلهم لم يختاروا إلا أبا بكر وأسيد بن حضير هو الذي كان مقدم الأنصار يوم فتح مكة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عن يمينه وهو كان من بني عبد الأشهل وهو كان يأمر ببيعة أبي بكر رضي الله عنه وكذلك غيره من رجال الأنصار وإنما نازع سعد بن عبادة والحباب بن المنذر وطائفة قليلة ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق ولم يعرف أنه تخلف منهم إلا سعد بن عبادة
(6/209)
وسعد وإن كان رجلا صالحا فليس هو معصوما بل له ذنوب يغفرها الله وقد عرف المسلمون بعضها وهو من أهل الجنة السابقين الأولين من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم فما ذكره الشهرستاني من أن الأنصار اتفقوا على تقديمهم سعد بن عبادة هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك وهو وأمثاله وإن لم يتعمدوا الكذب لكن ينقلون من كتب من ينقل عمن يتعمد الكذب وكذلك قول القائل إن عليا كان مشغولا بما أمره النبي صلى الله عليه وسلم من دفنه وتجهيزه وملازمة قبره فكذب ظاهر وهو مناقض لما يدعونه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن إلا بالليل لم يدفن بالنهار وقيل إنه إنما دفن من الليلة المقبلة ولم يأمر أحدا بملازمة قبره ولا لازم على قبره بل قبر في بيت عائشة وعلي أجنبي منها ثم كيف يأمر بملازمة قبره وقد أمر بزعمهم أن يكون إماما بعده ولم يشتغل بتجهيزه على وحده بل علي والعباس وبنو العباس ومولاه شقران وبعض الأنصار وأبو بكر وعمر وغيرهما على باب البيت حاضرين غسله وتجهيزه لم يكونوا حينئذا في بني ساعدة لكن السنة أن يتولى الميت أهله فتولى أهله غسله وأخروا دفنه ليصلي المسلمون عليه فإنهم صلوا عليه أفرادا واحدا بعد واحد
(6/210)
رجالهم ونساؤهم خلق كثير فلم يتسع يوم الاثنين لذلك مع تغسيله وتكفينه بل صلوا عليه يوم الثلاثاء ودفن يوم الأربعاء وأيضا فالقتال الذي كان في زمن علي لم يكن على الإمامة فإن أهل الجمل وصفين والنهروان لم يقاتلوا على نصب إمام غير على ولا كان معاوية يقول أنا الإمام دون على ولا قال ذلك طلحة والزبير فلم يكن أحد ممن قاتل عليا قبل الحكمين نصب إماما يقاتل علي طاعته فلم يكن شىء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعنا في خلافة الثلاثة ولا ادعاء للنص على غيرهم ولا طعنا في جواز خلافة علي فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة كنزاع الرافضة والخوارج المعتزلة وغيرهم ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلا ولا قال أحد منهم إن الإمام المنصوص عليه هو علي ولا قال إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة ولا قال أحد منهم إن عثمان وعليا وكل من والاهما كافر فدعوى المدعي أن أول سيف سل بين أهل القبلة كان مسلولا على قواعد الإمامة التي تنازع فيها الناس دعوى كاذبة ظاهرة الكذب يعرف كذبها بأدنى تأمل مع العلم بما وقع
(6/211)
وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العذل والبغي وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام لا على قاعدة دينية ولو أن عثمان نازعه منازعون في الإمامة وقاتلهم لكان قتالهم من جنس قتال علي وإن كان ليس بينه وبين أولئك نزاع في القواعد الدينية ولكن أول سيف سل على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج وقتالهم من أعظم القتال وهم الذين ابتدعوا أقوالا خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها وهم الذين تواترت النصوص بذكرهم كقوله صلى الله عليه وسلم تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وعلي رضي الله عنه لم يقاتل أحدا على إمامة من قاتله ولا قاتله أحد على إمامته نفسه ولا ادعى أحد قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه لا عائشة ولا طلحة ولا الزبير ولا معاوية وأصحابه ولا الخوارج بل كل الأمة كانوا معترفين بفضل علي وسابقته بعد قتل
(6/212)
عثمان وأنه لم يبق في الصحابة من يماثله في زمن خلافته كما كان عثمان كذلك لم ينازع قط أحد من المسلمين في إمامته وخلافته ولا تخاصم اثنان في أن غيره أحق بالإمامة منه فضلا عن القتال على ذلك وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وبالجملة فكل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علما ضروريا أنه لم يكن بين المسلمين مخاصمة بين طائفتين في إمامة الثلاثة فضلا عن قتال وكذلك علي لم يتخاصم طائفتان في أن غيره أحق بالإمامة منه وإن كان بعض الناس كارها لولاية أحد من الأربعة فهذا لا بد منه فإن من الناس من كان كارها لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف لا يكون فيهم من يكره إمامة بعض الخلفاء لكن لم يكن بين الطوائف نزاع ظاهر في ذلك بالقول فضلا عن السيف كما بين أهل العلم نزاع في مقالات معروفة بينهم في المسائل العملية والعقائد العلمية وقد تجتمع طائفتان فيتنازعون ويتناظرون في بعض المسائل والخلفاء الأربعة لم يكن على عهدهم طائفتان يظهر بينهم النزاع
(6/213)
لا في تقديم أبي بكر على من بعده وصحة إمامته ولا في تقديم عمر وصحة إمامته ولا في تقديم عثمان وصحة إمامته ولا في أن عليا مقدم بعد هؤلاء وليس في الصحابة بعدهم من هو أفضل منه ولا تنازع طائفة من المسلمين بعد خلافة عثمان في أنه ليس في جيش علي أفضل منه لم تفضل طائفة معروفة عليه طلحة والزبير فضلا أن يفضل عليه معاوية فإن قاتلوه مع ذلك لشبهة عرضت لهم فلم يكن القتال له لا على أن غيره أفضل منه ولا أنه الإمام دونه ولم يتسم قط طلحة والزبير باسم الإمارة ولا بايعهما أحد على ذلك وعلي بايعه كثير من المسلمين وأكثرهم بالمدينة على أنه أمير المؤمنين ولم يبايع طلحة والزبير أحد على ذلك ولا طلب أحد منهما ذلك ولا دعا إلى نفسه فإنهما رضي الله عنهما كانا أفضل وأجل قدرا من أن يفعلا مثل ذلك وكذلك معاوية لم يبايعه أحد لما مات عثمان على الإمامة ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة ولا تسمى بأمير المؤمنين ولا سماه أحد بذلك ولا ادعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين وعلي يسمى نفسه أمير المؤمنين في مدة خلافته والمسلمون معه
(6/214)
يسمونه أمير المؤمنين لكن الذين قاتلوه مع معاوية ما كانوا يقرون له بذلك ولا دخلوا في طاعته مع اعترافهم بأنه ليس في القوم أفضل منه ولكن ادعوا موانع تمنعهم عن طاعته ومع ذلك فلم يحاربوه ولا دعوه وأصحابه إلى أن يبايع معاوية ولا قالوا أنت وإن كنت أفضل من معاوية لكن معاوية أحق بالإمامة منك فعليك أن تتبعه وإلا قاتلناك كما يقول كثير من خيار الشيعة الزيدية إن عليا كان أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ولكن كانت المصلحة الدينية تقتضي خلافة هؤلاء لأنه كان في نفوس كثير من المسلمين نفور عن على بسبب من قتله من أقاربهم فما كانت الكلمة تتفق على طاعته فجاز توليه المفضول لأجل ذلك فهذا القول يقوله كثير من خيار الشيعة وهم الذين ظنوا أن عليا كان أفضل وعلموا أن خلافة أبي بكر وعمر حق لا يمكن الطعن فيها فجمعوا بين هذا وهذا بهذا الوجه وهؤلاء عذرهم آثار سمعوها وأمور ظنوها تقتضي فضل على عليهم كما يقع مثل ذلك في عامة المسائل المتنازع فيها بين الأمة يكون الصواب مع أحد القولين ولكن الآخرون معهم منقولات ظنوها صدقا ولم يكن لهم خبرة بأنها كذب ومعهم من الآيات والأحاديث الصحيحة تأويلات ظنوها مرادة ومن النص ولم تكن كذلك ومعهم نوع من القياس والرأي ظنوه حقا وهو باطل
(6/215)
فهذا مجموع ما يورث الشبه في ذلك إذا خلت النفوس عن الهوى وقل أن يخلو أكثر الناس عن الهوي إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (سورة النجم). والمقصود أن جواز تولية المفضول لأسباب مانعه من توليه الفاضل هو قول ذهب إليه طوائف من السنة والشيعة ومع هذا فلم يكن الذين مع معاوية يقولون إنه الإمام والخليفة وإن على علي وأصحابه مبايعته وطاعته وإن كان علي أفضل لأن توليته أصلح فهذا لم يكونوا يقولونه ولا يقاتلون عليه وهذا مما هو معلوم لعموم أهل العلم ولا بدأوا عليا وأصحابه بقتال أصلا ولأن الخوارج بدأوه بذلك فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب لما اجتاز بهم فسألوه أن يحدثهم عن أبيه خباب بن الأرت فحدثهم حديثا في ترك الفتن وكان قصده رحمه الله رجوعهم عن الفتنة فقتلوه وبقي دمه مثل الشراك في الدماء فأرسل إليهم علي يقول سلموا إلينا قاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله ثم أغاروا على سرح الناس وهي الماشية التي أرسلوها تسرح مع الرعاء فلما رأى علي أنهم استحلوا دماء المسلمين وأموالهم ذكر النصوص التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم في صفتهم وفي الأمر بقتالهم ورأى تلك الصفة منطبقة عليهم فقاتلهم ونصره الله عليهم وفرح بذلك وسجد لله شكرا لما جاءه خبر المخدج أنه معهم فإنه هو كان العلامة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم واتفق الصحابة على قتالهم فقتاله للخوارج كان بنص من الرسول وبإجماع الصحابة
(6/216)
وأما قتال الجمل وصفين فقد ذكر علي رضي الله عنه أنه لم يكن معه نص من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان رأيا وأكثر الصحابة لم يوافقوه على هذا القتال بل أكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان مع أنهم معظمون لعلي يحبونه ويوالونه ويقدمونه على من سواه ولا يرون أن أحدا أحق بالإمامة منه في زمنه لكن لم يوافقوه في رأيه في القتال وكان معهم نصوص سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم تدلهم على أن ترك القتال والدخول في الفتنة خير من القتال وفيها ما يقتضى النهي عن ذلك والآثار بذلك كثيرة معروفة وأما معاوية فلم يقاتل معه من السابقين الأولين المشهورين أحد بل كان مع علي بعض السابقين ولم يكن مع معاوية أحد وأكثرهم اعتزلوا الفتنة وقيل كان مع معاوية بعض السابقين الأولين وإن قاتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وكان ممن بايع تحت الشجرة وهم السابقون الأولون ذكر ذلك ابن حزم وغيره
(6/217)
والمقصود أن عليا لم يقاتله أحد على إمامة غيره ولا دعاه إلى أن يكون تحت ولاية غيره ثم إنه لما رفعت المصاحف ودعوا إلى التحكيم واتفقوا على ذلك وأجمعوا في العام القابل واتفق الحكمان على عزل علي ومعاوية وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين وقال أحد الحكمين هذا عزل صاحبه وأنا لم أعزل صاحبي ومال أبو موسى إلى تولية عبد الله بن عمر فغضب عبد الله لذلك ولم يكن اتفاقهما على عزل معاوية عن كونه أمير المؤمنين فإنه لم يكن قبل هذا أمير المؤمنين بل عزله عن ولايته على الشام فإنه كان يقول أنا ولاني الخليفتان عمر وعثمان فأنا باق على ولايتي حتى يجتمع الناس على الإمام فاتفق الحكمان على أن يعزل علي عن إمرة المؤمنين ومعاوية عن إمرة الشام وكان مقصود أحدهما إبقاء صاحبه ولم يظهر ما في نفسه فلما أظهر ما في نفسه تفرق الناس عن غير اتفاق ولم يقع بعد هذا قتال فلو قدر أن معاوية في هذا الحال صار يدعى أصحابه أنه أمير المؤمنين دون علي فلم يمكنهم أن يقولوا إن عليا بعد ذلك قوتل على إمامة معاوية فتبين أن عليا لم يقاتله أحد على أن يكون غيره إماما وهو مطيع له فإن الذين كانوا يستحقون الإمامة أبو بكر وعمر وعثمان وكان هو أتقى لله من أن يخرج عليهم بقول أو فعل بل عثمان كان علي هو أول من بايعه قبل جمهور الناس
(6/218)
وأما معاوية فكان المسلمون أعلم وأعدل من أن يقولوا لعلي بايع معاوية بل يقولوا له بايع طلحة والزبير وهما من أهل الشورى فعبد الرحمن بن عوف مات في خلافة عثمان وبقي بعد موت عثمان أربعة فأما سعد فاعتزل الفتنة ولم يدخل في قتال أحد من المسلمين وعاش بعدهم كلهم وهو آخر العشرة موتا واعتزل بالعقيق ولما مات حمل على الأعناق فدفن بالبقيع وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص كان سعد ابن أبي وقاص في إبله فجاء ابنه عمر فلما رآه سعد قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون في الملك بينهم فضرب سعد في صدره وقال اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي وابنه عمر هذا كان يحب الرياسة ولو حصلت على الوجه المذموم ولهذا لما ولى ولاية وقيل له لا نوليك حتى تتولى قتال الحسين وأصحابه كان هو أمير تلك السرية وأما سعد رضي الله عنه فكان مجاب الدعوة وكان مسددا في زمنه
(6/219)
وهو الذي فتح العراق وكسر جنود كسرى وكان يعلم أنه لا بد من وقوع فتن بين المسلمين وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام أصلا ولم يختلفوا في شىء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا مسائل الأسماء والأحكام ولا مسائل الإمامة لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال فضلا عن الاقتتال بالسيف بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله مثبتين للأمر والنهى والوعد والوعيد مثبتين لحكمة الله في خلقه وأمره مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله مع إثباتهم للقدر ثم لم يكن في زمنهم من يحتج للمعاصي بالقدر ويجعل القدر حجة لمن عصى أو كفر ولا من يكذب بعلم الله ومشيئته الشاملة
(6/220)
وقدرته العامة وخلقه لكل شىء وينكر فضل الله وإحسانه ومنه على أهل الإيمان والطاعة وأنه هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة وخصهم بهذه النعمة دون أهل الكفر والمعصية ولا من ينكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين وأنه لا حول ولا قوة إلا به في كل دق وجل ولا من يقول إن الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن يدخل إبليس وفرعون الجنة ويدخل الأنبياء النار وأمثال ذلك فلم يكن فيهم من يقول بقول القدرية النافية ولا القدرية الجبرية الجهمية ولا كان فيهم من يقول بتخليد أحد من أهل القبلة في النار ولا من يكذب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر ولا من يقول إيمان الفساق كإيمان الأنبياء بل قد ثبت عنهم بالنقول الصحيحة القول بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأن إيمان الناس يتفاضل وأن الإيمان يزيد وينقص ومن نقل عن ابن عباس أنه كان يقول بتخليد قاتل النفس فقد كذب عليه كما ذكر ذلك ابن حزم وغيره وأما المنقول عن ابن
(6/221)
عباس ففي توبة القاتل لا القول بتخليده وتوبته فيها روايتان عن أحمد كما قد بسط في موضعه فأين هذا من هذا ولا كان في الصحابة من يقول إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا أئمة ولا كانت خلافتهم صحيحة ولا من يقول إن خلافتهم ثابتة بالنص ولامن يقول إن بعد مقتل عثمان كان غير علي أفضل منه ولا أحق منه بالإمامة فهذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخصومات فضلا عن السيف ولا قاتل أحد منهم على قاعدة في الإمامة فقبل خلافة علي لم يكن بينهم قتال في الإمامة ولا في ولايته لم يقاتله أحد على أنه يكون تابعا لذاك والذين قاتلوا عليا لم يقاتلوا لاختصاص علي دون الأئمة قبله بوصف بل الذين قاتلوا معه كانوا يقرون بإمامة من قبله وشائعا بينهم أن أبا بكر أفضل منه وقد تواتر عنه نفسه أنه كان يقول ذلك على المنبر ولم يظهر عن الشيعة الأول تقديم علي على أبي بكر وعمر فضلا عن الطعن في إمامتهما
(6/222)
وبكل حال فمن المعلوم للخاصة والعامة أهل السنة وأهل البدعة أن القتال في زمن علي لم يكن لمعاوية ومن معه إلا لكونهم لم يبايعوا عليا لم يكن لكونهم بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه لم يكن لعلي غرض في قتالهم ولا لهم غرض في قتاله بل كانوا قبل قدوم على يطلبون قتله عثمان وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم فلم يتمكنوا منهم فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم عرفهم أن هذا أيضا رأيه لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر فلما علم بعض القتلة ذلك حمل على أحد العسكرين فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين ثم وقع قتال على الملك فلم يكن ما وقع قدحا في خلافة الثلاثة مثل الفتنة التي وقعت بين ابن الزبير وبين يزيد ثم بين مروان وابنه وهؤلاء كلهم كانوا متفقين على موالاة عثمان وقتال من قاتله فضلا عن أبي بكر وعمر وكذلك الفتنة التي وقعت بين يزيد وأهل المدينة فتنة الحرة فإنما كانت من بعض أهل المدينة أصحاب السلطان من بني أمية وأصحاب يزيد لم تكن لأجل أبي بكر وعمر أصلا بل كان كل من بالمدينة والشام من الطائفتين متفقين على ولاية أبي بكر وعمر
(6/223)
والحسين رضي الله عنه لما خرج إلى الكوفة إنما كان يطلب الولاية مكان يزيد لم يكن يقاتل على خلافة أبي بكر وعمر وكذلك الذين قتلوه ولم يكن هو حين قتل طالبا للولاية ولا كان معه جيش يقاتل به وإنما كان قد رجع منصرفا وطلب أن يرد إلى يزيد ابن عمه أو أن يرد إلى منزله بالمدينة أو يسير إلى الثغر فمنعه أولئك الظلمة من الثلاثة حتى يستأسر لهم فلم يقتل رضي الله عنه وهو يقاتل على ولاية بل قتل وهو يطلب الدفع عن نفسه لئلا يؤسر ويظلم والحسن أخوه قد كانت معه الجيوش العظيمة ومع هذا فقد نزل عن الأمر وسلم إلى معاوية وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثنى عليه بذلك وقال إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ثم لما قتل الحسين قام من يطلب بدمه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي وقتلوا عبيد الله بن زياد ثم لما قدم مصعب بن الزبير قتل المختار فإنه كذب وادعى أنه يوحى إليه وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون من ثقيف كذاب ومبير وكان الكذاب هو الذي سمى المختار
(6/224)
ولم يكن بالمختار والمبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي والفتنة التي وقعت في زمنه فتنة ابن الاشعث خرج عليه ومعه القراء كانت بظلمة وعسفه فلم يكن شىء من هذه لأجل خلافة أبي بكر وعمر بل كل هؤلاء كانوا متفقين على خلافة أبي بكر وعمر وإنما كانت على ولاية سلطان الوقت فإذا جاء قوم ينازعونه قام معه ناس وقام عليه أناس وهكذا كانت الفتن التي وقعت بعد هذا في زمن بني أمية فان زيد ابن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام وطلب الأمر لنفسه كان ممن يتولى أبا بكر وعمر فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة ولما خرج أبو مسلم وشيعة بني هشام على بني أمية إنما قاتلوا من كان متوليا في ذلك الوقت وهو مروان بن محمد وأنصاره وما زال بنو العباس مثبتين لخلافة الأربعة مقدمين لأبي بكر وعمر وعثمان على المنابر فلم يقاتل أحد من شيعتهم ولا من شيعة بني أمية قدحا في خلافة الثلاثة والذين خرجوا عليهم مثل محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة إنما خرجا ومن معهما على المنصور لا
(6/225)
على من يتولى أبا بكر وعمر بل الذين كانوا معهما بالمدينة والبصرة كلهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر فهذه وأمثالها الفتن الكبار التي كانت في السلف وكذلك لما صار عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ودامت ولايته مدة طويلة لم يكن النزاع بينه وبين العباسيين على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان فهذه الولايات الكبار التي كانت في الإسلام القائمون فيها والخارجون على الولاة لم يكن قتالهم فيها على قاعدة الإمامة التي يختلف فيها أهل السنة والرافضة وإنما ظهر من دعا إلى الرفض وتسمى بأمير المؤمنين وأظهر القتال على ذلك وحصل لهم ملك وأعوان مدة بني عبيد الله القداح الذين أقاموا بالمغرب مدة وبمصر نحو مائتي سنة وهؤلاء باتفاق أهل العلم والدين كانوا ملاحدة ونسبهم باطل فلم يكن لهم بالرسول اتصال نسب في الباطن ولا دين وإنما أظهروا النسب الكاذب وأظهروا التشيع ليتوسلوا بذلك إلى متابعة الشيعة إذ كانت أقل الطوائف عقلا ودينا وأكثرها جهلا وإلا فأمر
(6/226)
هؤلاء العبيدية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر أظهر من أن يخفي على مسلم ولهذا جميع المسلمين الذين هم مؤمنون في طوائف الشيعة يتبرأون منهم فالزيدية والإمامية تكفرهم وتتبرأ منهم وإنما ينتسب إليهم الإسماعيلية الملاحدة الذين فيهم من الكفر ما ليس لليهود والنصارى كابن الصباح الذي أخرج لهم السكين وشر منهم قرامطة البحرين أصحاب أبي سعيد الجنابى فإن أولئك لم يكونوا يتظاهرون بدين الإسلام بالكلية بل قتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود فهذه وأمثالها الملاحم والفتن التي كانت في الإسلام ليس فيها ما وقع القتال فيه حقيقة على قاعدة الإمامة التي تدعيها الرافضة وإن ذكر بعض الخارجين ببعض البلاد من يدعو إلى نفسه ومعه من يقاتل فهؤلاء من جنس سكان الجبال وأهل البوادي ولأمصار الصغار من الرافضة وهم طائفة قليلة مقموعون مع جمهور المسلمين ليس لهم سيف مسلول على الجمهور حتى يقول القائل أعظم خلاف وقع بين الأمة خلاف الإمامة أو ما سل في الإسلام سيف مثل ما سل علي الإمامة في كل زمان
(6/227)
وإن كان صاحب هذا القول يعني به أنه إنما يقتتل الناس على الإمامة التي هي ولاية شخص في ذلك الزمان فقوم يقاتلون معه وقوم يخرجون عليه فهذا ليس من مذهب السنة والشيعة في شىء فإن من المعلوم أن الناس الذين دينهم واحد ونبيهم واحد إذا اقتتلوا فلا بد أن يكون لهؤلاءمن يقدمونه فيجعلونه متوليا ولهؤلاء من يقدمونه فيجعلونه متوليا فيقاتل كل قوم على إمارة من جعلوه هم إمامهم لكن هؤلاء لا يقاتلون على القاعدة الدينية من كون الإمامة ثبتت بالنص لعلي ولا أن خلافة الثلاثة باطلة بل عامة هؤلاء معترفون بإمامة الثلاثة ثم قد تبين أن الصحابة لم يقتتلوا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والنزاع بينهم فتبين أن خلافتهم كانت بلا سيف مسلول أصلا وإنما كان السيف مسلول في خلافة علي فإن كان هذا قدحا فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الأمة وهذه حجة للخوارج وحجتهم أقوى من حجة الشيعة كما أن سيوفهم أقوى من سيوف الشيعة ودينهم أصح وهم صادقون لا يكذبون ومع هذا فقد ثبت بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليهوسلم واتفاق أصحابه أنهم مبتدعون مخطئون ضلال فكيف بالرافضة الذين هم أبعد منهم عن العقل والعلم والدين والصدق والشجاعة والورع وعامة خصال الخير ولم يعرف في الطوائف أعظم من سيف الخوارج ومع هذا فلم يقاتل القوم على خلافة أبي بكر وعمر بل هم متفقون على إمامتهما وموالاتهما وقوله الخلاف الخامس في فدك والتوارث رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة فيقال هذا أيضا اختلاف في مسألة شرعية وقد زال الخلاف فيها والخلاف في هذه دون الخلاف في ميراث الإخوة مع الجد وميراث الجدة مع ابنها وحجب الأم الأخوين وجعل الجد مع الأم كالأب وأمثال ذلك من مسائل الفرائض التي تنازعوا فيها فالخلاف في هذا أعظم لوجوه أحدها أنهم تنازعوا في ذلك ثم
(6/228)
لم يجتمعوا على قول واحد كما اجتمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث الثاني أنهم لم يرو لهم من النصوص الصريحة في هذه المسائل ماروى لهم في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم الثالث الخلاف هنا في قصة واحدة لا يتعدد والنزاع في هذه المسائل من جنس متعدد وعامة النزاع في تلك هي نزاع في قليل من المال هل يختص به ناس معينون وأولئك القوم قد أعطاهم أبو بكر وعمر من مال الله بقدر ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم أضعافا مضاعفة ولو قدر أنها كانت ميراثا مع أن هذا باطل فإنما أخذ منهم قرية ليست كبيرة لم يأخذ منهم مدينة ولا قرية عظيمة وقد تنازع العلماء في مسائل الفرائض وغيرها ويكون النزاع في مواريث الهاشميين وغيرهم من أضعاف أموال فدك ولا ينسب المتنازعون فيها إلى ظلم إذا كانوا قائلين باجتهادهم فلو قدر أن الخلفاء اجتهدوا فأعطوا الميراث من لا يستحقه كان أضعاف هذا يقع من العلماء المجتهدين الذين هم دون الأئمة ولا يقدح ذلك في دينهم وإن قدر أنهم مخطئون في الباطن لأنهم تكلموا باجتهادهم فكيف بالخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم أجمعين
(6/229)
وإنما يعظم القول في مثل هذه الأمور أهل الجهل والهوى الذين لهم غرض في فتح باب الشر على الصحابة بالكذب والبهتان وقد تولى على بعد ذلك وصار فدك وغيرها تحت حكمه ولم يعطها لأولاد فاطمة ولا أخذ من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس شيئا من ميراثه فلو كان ذلك ظلما وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتالمعاوية وجيوشه أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطى هؤلاء قليلا من المال وأمره أهون بكثير وأما قوله الخلاف السادس في قتال مانعى الزكاة قاتلهم أبو بكر واجتهد عمر في ايام خلافته فرد السبايا والأموال إليهم وأطلق المحبوسين فهذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين فإن مانعى الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم بعد أن راجعه عمر في ذلك كما في الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلمأمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها وحسابهم على الله فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق وفي الصحيحين تصديق فهم أبي بكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فعمر وافق أبا بكر على قتال أهل الردة مانعي الزكاة وكذلك سائر الصحابة وأقر أولئك بالزكاة بعد امتناعهم منها ولم تسب لهم
(6/230)
ذرية ولا حبس منهم أحد ولا كان بالمدينة حبس لا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أبي بكر فكيف يمون وهم في حبسه وأول حبس اتخذ في الإسلام بمكة اشترى عمر من صفوان بن أمية داره وجعلها حبسا بمكة ولكن من الناس من يقول سبى أبو بكر نساءهم وذراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما فإنه قد يكون عمر كان موافقا على جواز سبيهم لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن سبيهم بعد أن قسمه بين المسلمين فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم مسلمين فطلبوا رد ذلك إليهم وأهل الردة كان قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لأنه جائز وقوله الخلاف السابع في تنصيص أبي بكر على عمر في الخلافة فمن الناس من قال وليت علينا فظا غليظا
(6/231)
والجواب أن يقال إن جعل مثل هذا خلافا فقد كان مثل هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد طعن بعض الصحابة في إمارة زيد ابن حارثة وبعضهم في إمارة أسامة ابنه وقد كان غير واحد يطعن فيمن يوليه أبو بكر وعمر ثم إن القائل لها كان طلحة وقد رجع عن ذلك وهو من أشد الناس تعظيما لعمر كما أن الذين طعنوا في إمارة زيد وأسامة رجعوا عن طعنهم طاعة لله ورسوله وقوله الخلاف الثامن في إمرة الشورى واتفقوا بعد الاختلاف على إمارة عثمان والجواب أن هذا من الكذب الذي اتفق أهل النقل على أنه كذب فإنه لم يختلف أحد في خلافة عثمان ولكن بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان وأنه شاور حتى العذاري في خدورهن وإن كان في نفس أحد كراهة لم ينقل أو قال أحد شيئا ولم ينقل إلينا فمثل هذا قد يجري في مثل هذه الأمور والأمر الذي يتشاور فيه الناس لا بد فيه من كلام لكن لا يمكن الجزم بذلك بمجرد الحزر
(6/232)
فلما علمنا نقلا صحيحا أنه ما كان اختلاف في ولاية عثمان ولا أن طائفة من الصحابة قالت ولوا عليا أو غيره كما قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير ولو وجد شيء من ذلك لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله كما نقل نزاع بعض الأنصار في خلافة أبي بكر فالمدعي لذلك مفتر ولهذا قال الإمام أحمد لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان وعثمان ولاه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام وهو مؤتلفون متفقون متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعا وقد أظهرهم الله وأظهر بهم ما بعث به نبيه من الهدى ودين الحق ونصرهم على الكفار وفتح بهم بلاد الشام والعراق وبعض خراسان فلم يعدلوا بعثمان غيره كما أخبر بذلك عبد الرحمن بن عوف ولهذا بايعه عبد الرحمن كما ثبت هذا في الأحاديث الصحيحة وأما ما ذكره بعض الناس من أنه اشترط على عثمان سيرة الشيخين فلم يجب إما لعجزه عن مثل سيرتهما وإما لأن التقليد غير واجب أو غير جائز وأنه اشترط على علي سيرة الشيخين فأجابه لإمكان متابعتهما أو جواز تقليدهما فهذا النقل باطل ليس له إسناد ثابت
(6/233)
فإنه مخالف للنقل الثابت في الصحيح الذي فيه أن عبد الرحمن بقي ثلاثة أيام لم يغتمض في لياليها بكثير نوم في كل ذلك يشاور المسلمين ولم يرهم يعدلون بعثمان غيره بل رأوه أحق وأشبه بالأمر من غيره وأن عبد الرحمن لم يشترط على علي إلا العدل فقال لكل منهما الله عليك إن وليتك لتعدلن وإن وليت عليك لتسمعن ولتطيعن فيقول نعم فشرط على المتولي العدل وعلى المتولي عليه السمع والطاعة وهذا حكم الله ورسوله كما دل عليه الكتاب والسنة وأما قوله ووقعت اختلافات كثيرة منها ردة الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا فيقال مثل هذا إن جعله اختلافا جعل كلما حكم خليفة بحكم ونازعه فيه قوم اختلافا وقد كان ذكرك لما اختلفوا فيه من المواريث
(6/234)
والطلاق وغير ذلك أصح وأنفع فإن الخلاف في ذلك ثابت منقول عند أهل العلم ينتفع الناس بذكره والمناظرة فيه وهو خلاف في أمر كلي يصلح أن تقع فيه المناظرة وأما هذه الأمور فغايتها جزئية ولا تجعل مسائل خلاف يتناظر فيها الناس هذا مع أن فيما ذكره كذبا كثيرا منه ما ذكره من أمر الحكم وأنه طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه استشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك وأن عمر نفاه من مقامة باليمن أربعين فرسخا فمن الذي نقل ذلك وأين إسناده ومتى ذهب هذا إلى اليمن وما الموجب لنفيه إلى اليمن وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما يدعونه بالطائف وهي أقرب إلى مكة والمدينة من اليمن فإذا كان الرسول أقره قريبا منه فما الموجب لنفيه بعد ثبوته إلى اليمن وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن نفى الحكم باطل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفه إلى الطائف بل هو ذهب بنفسه وذكر بعض الناس أنه نفاه ولم يذكروا إسنادا صحيحا بكيفية القصة وسببها وعلى هذا التقدير فليس فيمن يجب نفيه في الشريعة من يستحقالنفي الدائم بل ما من ذنب يستحق صاحبه النفي إلا ويمكن أن يستحق بعد ذلك الإعادة إلى وطنه فإن النفي إما مؤقت كنفي الزاني البكر عند جمهور العلماء سنة فهذا يعاد بعد السنة وإما نفي مطلق كنفي المخنث فهذا ينفي إلى أن يتوب وكذلك نفى عمر في تعزير الخمر وحينئذ فلا يمكن أن يقال إن ذنب الحكم الذي نفى من أجله لم يتب منه في مدة بضع عشرة سنة وإذا تاب من ذنبه مع طول هذه المدة جاز أن يعاد وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة ثم تاب الله عليهم وكلمهم المسلمون وعمر رضي الله عنه نفى صبيغ بن عسل التميمي لما أظهر اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وضربه وأمر المسلمين بهجرة سنة بعد أن أظهر التوبة فلما تاب أمر المسلمين بكلامه(6/235)
وبهذا أخذ أحمد وغيره في أن الداعي إلى البدعة إذا تاب يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغا وكذلك الفاسق إذا تاب واعتبر مع التوبة صلاح العمل كما يقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ثم لو قدر أنه كان يستحق النفي الدائم فغاية ذلك أن يكون اجتهادا اجتهده عثمان في رده لصاحبه أجر مغفور له أو ذنبا له أسباب كثيرة توجب غفرانه وقوله ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وتسليمه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فيقال أما قصة أبي ذر فقد تقدم ذكرها وأما تزويجه مروان ابنته فأي شيء في هذا مما يجعل اختلافا وأما إعطاؤه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فمن الذي نقل ذلك وقد تقدم قوله إنه أعطاه ألف ألف دينار والمعروف أن خمس إفريقية لم يبلغ ذلكونحن لا ننكر أن عثمان رضي الله عنه كان يحب بني أمية وكان يواليهم ويعطيهم أموالا كثيرة وما فعله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين ليس لهم غرض كما أننا لا ننكر أن عليا ولى أقاربه وقاتل وقتل خلقا كثيرا من المسلمين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون ويصلون لكن من هؤلاء من قاتله بالنص والإجماع ومنهم من كان قتاله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين لا غرض لهم وأمر الدماء أخطر من أمر الأموال والشر الذي حصل في الدماء بين الأمة أضعاف الشر الذي حصل بإعطاء الأموال فإذا كنا نتولى عليا ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة من فضائله مع أن الذي جرى في خلافته أقرب إلى الملام مما جرى في خلافة عثمان وجرى في خلافة عثمان من الخير مالم يجر مثله في خلافته فلأن نتولى عثمان ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة بطريق الأولى وقد ذكرنا أن ما فعله عثمان في المال فله ثلاثة مآخذ أحدها أنه عامل عليه والعامل يستحق مع الغنى
(6/236)
الثاني أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام الثالث أنهم كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى توليه أقاربهما وإعطائهما وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به وقد قدمنا أنا لا ندعي عصمة في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذنب فضلا عن الخطأ في الاجتهاد وقد قال سبحانه وتعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ((سورة الزمر).). وقال تعالى أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (سورة الأحقاف). وقوله ومنها ايواؤه عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه وتوليته مصر فالجواب إن كان المراد أنه لم يزل مهدر الدم حتى ولاه عثمان كما
(6/237)
يفهم من الكلام فهذا لا يقوله إلا مفرط في الجهل بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته فإن الناس كلهم متفقون على أنه في عام فتح مكة بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دم جماعة منهم عبد الله بن سعد أتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم بعد مراجعة عثمان له في ذلك وحقن دمه وصار من المسلمين المعصومين له ما لهم وعليه ما عليهم وقد كان هو من أعظم الناس معاداة للنبي عليه الصلاة والسلام وأسلم وحسن إسلامه وإنما كان صلى الله عليه وسلم أهدر دمه كما أهدر دماء قوم بغلظ كفرهم إما بردة مغلظة كمقيس ابن صبابة وعبد الله هذا كان كاتبا للوحي فارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه ثم لما قدم به عثمان عفا عنه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول بايع عبد الله فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا ثم بايعه فقال أما فيكم رجل رشيد ينظر إلى وقد أعرضت عن هذا فيضرب عنقه فقال رجل من الأنصار يا رسول الله هلا أومضت إلى فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين
(6/238)
ثم لما بايعه حسن إسلامه ولم يعلم منه بعد ذلك إلا الخير وكان محمودا عند رعيته في مغازيه وقد كانت عداوة غيره من الطلقاء أشد من عداوته مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأبي سفيان بن حرب وغيرهم وذهب ذلك كله كما قال تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم موده والله قدير والله غفور رحيم (سورة الممتحنة). فجعل بين أولئك وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة تجب تلك العداوة والله قدير على تقليب القلوب وهو غفور رحيم غفر الله ما كان من السيئات بما بدلوه من الحسنات وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون وأما قوله كان عامل جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام وعامل الكوفة سعيد بن العاص وبعده عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة عامل البصرة فيقال أما معاوية فولاه عمر بن الخطاب لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان مكانه ثم ولاه عثمان رضي الله عنه الشام كله وكانت سيرتهفي أهل الشام من أحسن السير وكانت رعيته من أعظم الناس محبة له وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وكان معاوية تحبه رعيته وتدعو له وهو يحبها ويدعو لها وأما توليته لسعيد بن العاص فأهل الكوفة كانوا دائما يشكون من ولاتهم ولى عليهم سعد بن أبي وقاص وأبو موسى الأشعري وعمار ابن ياسر والمغيرة بن شعبة وهم يشكون منهم وسيرهم في هذا مشهورة ولا شك أنهم كانوا يشكون في زمن عثمان أكثر وقد علم أن عثمان وعليا رضي الله عنه كل منهما ولى أقاربه وحصل له بسبب ذلك من كلام الناس وغير ذلك ما حصل وأما قوله الخلاف التاسع في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له فأولا خروج طلحة والزبير إلى مكة ثم حمل عائشة إلى البصرة ثم نصب
(6/239)
القتال معه ويعرف ذلك بحرب الجمل والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري وكذا الخلاف بينه وبين الشراة المارقين بالنهروان وبالجملة كان على مع الحق والحق معه وظهر في زمانه الخوارج عليه مثل الأشعث بن قيس ومسعر بن فدكى التميمي وزيد بن حصين الطائي وغيرهم وظهر في زمنه الغلاة كعبد الله بن سبأ ومن الفرقتين ابتدأت الضلالة والبدع وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم يهلك فيه اثنان محب غال ومبغض قالفانظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم والجواب أن يقال هذا الكلام مما يبين تحامل الشهرستاني في هذا الكتاب مع الشيعة كما تقدم وإلا فقد ذكر أبا بكر وعمر وعثمان ولم يذكر من أحوالهم أن الحق معهم دون من خالفهم ولما ذكر عليا قال وبالجملة كان الحق مع علي وعلي مع الحق والناقل الذي لا غرض له إما أن يحكى الأمور بالأمانة وإما أن يعطى كل ذي حق حقه فأما دعوى المدعي أن الحق كان مع علي وعلي مع الحق وتخصيصه بهذا دون أبي بكر وعمر وعثمان فهذا لا يقوله أحد من المسلمين غير الشيعة ومما يبين فساد هذا الكلام قوله إن الاختلاف وقع في زمن علي بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له ومن المعلوم أن كثيرا من المسلمين لم يكونوا بايعوه حتى كثير من أهل المدينة ومكة الذين رأوه لم يكونوا بايعوه من دع الذين كانوا بعيدين كأهل الشام ومصر والمغرب العراق وخراسان وكيف يقال مثل هذا في بيعة علي ولا يقال في بيعة عثمان التي اجتمع عليها المسلمون كلهم ولم يتنازع فيها اثنان
(6/240)
وكذلك ما ذكره من التعريض بالطعن على طلحة والزبير وعائشة من غير أن يذكر لهم عذرا ولا رجوعا وأهل العلم يعلمون أن طلحة والزبير لم يكونا قاصدين قتال علي ابتداء وكذلك أهل الشام لم يكن قصدهم قتاله وكذلك علي لم يكن قصده قتال هؤلاء ولا هؤلاء ولكن حرب الجمل جرى بغير اختياره ولا اختيارهم فإنهم كانوا قد اتفقوا على المصالحة وإقامة الحدود على قتله عثمان فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة آخرا كما أقاموها أولا فحملوا على طلحة والزبير وأصحابهما فحملوا دفعا عنهم وأشعروا عليا أنهما حملا عليه فحمل على دفعا عن نفسه وكان كل منهما قصده دفع الصيال لا ابتداء القتال هكذا ذكر غير واحد من أهل العلم بالسير فإن كان الأمر قد جرى على وجه لا ملام فيه فلا كلام وإن كان قد وقع خطأ أو ذنب من أحدهما أو كليهما فقد عرف أن هذا لا يمنع ما دل عليه الكتاب والسنة من أنهم من خيار أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباهة الصالحين وأنهم من أهل الجنة
(6/241)
وقول هذا الرافضي انظر بعين الانصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم فالجواب أن يقال أما الفتنة فإنما ظهرت في الإسلام من الشيعة فإنهم أساس كل فتنة وشر وهم قطب رحى الفتن فإن أول فتنة كانت في الإسلام قتل عثمان وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من نجا فقد نجا منهن موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقا على الهدى والرشد وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك إذ يقول تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (سورة آل عمران). كما لم يكن في الأمم أعظم اجتماعا على الهدى وأبعد عن التفرق والاختلاف من هذه الأمة لأنهم أكمل اعتصاما بحبل الله الذي هو كتابه المنزل وما جاء به من نبيه المرسل وكل من كان أقرب إلى الإعتصام
(6/242)
بحبل الله وهو اتباع الكتاب والسنة كان أولى بالهدى والاجتماع والرشد والصلاح وأبعد عن الضلال والافتراق والفتنة واعتبر ذلك بالأمم فأهل الكتاب أكثر اتفاقا وعلما وخيرا من الخارجين عن الكتب والمسلمون أكثر أتفاقا وهدى ورحمة وخيرا من اليهود والنصارى فإن أهل الكتابين قبلنا تفرقوا وبدلوا ما جاءت به الرسل وأظهروا الباطل وعادوا الحق وأهله وإنه وإن كان يوجد في أمتنا نظير ما يوجد في الأمم قبلنا كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن الناس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك لكن أمتنا لا تزال فيها طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ولهذا لا يسلط الله عليهم عدوا من
(6/243)
غيرهم فيجتاحهم كما ثبت هذا وهذا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة وأخبر أنه سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم شديدا فمنعه ذلك ومن قبلنا كان الحق يغلب فيهم حتى لا تقوم به طائفة ظاهرة منصورة ولهذا كان العدو يسلط عليهم فيجتاحهم كما سلط على بني إسرائيل وخرب بيت المقدس مرتين فلم يبق لهم ملك ونحن ولله الحمد لم يزل لأمتنا سيف منصور يقاتلون على الحق فيكونون على الهدى ودين الحق الذي بعث الله به الرسول فلهذا لم نزل ولا نزال وأبعد الناس عن هذه الطائفة المهدية المنصورة هم الرافضة لأنهم أجهل وأظلم طوائف أهل الأهواء المنتسبين إلى القبلة وخيار هذه الأمة هم الصحابة فلم يكن في الأمة أعظم اجتماعا على الهدى ودين الحق ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم وكل ما يذكر عنهم مما فيه نقص فهذا إذا قيس إلى ما يوجد في غيرهم من الأمة كان قليلا من كثير وإذا قيس ما يوجد في الأمة إلى ما يوجد في سائر الأمم
(6/244)
كان قليلا من كثير وإنما يغلط من يغلط أنه ينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ولا ينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض وهذا من الجهل والظلم بل يوزن هؤلاء بنظرائهم فيظهر الفضل والرجحان وأما ما يقترحه كل أحد في نفسه مما لم يخلق فهذا لا اعتبار به فهذا يقترح معصوما في الأئمة وهذا يقترح ما هو كالمعصوم وإن لم يسمه معصوما فيقترح في العالم والشيخ والأمير والملك ونحو ذلك مع كثرة علمه ودينه ومحاسنه وكثرة ما فعل الله على يديه من الخير يقترح مع ذلك أن لا يكون قد خفى عليه شيء ولا يخطىء في مسألة وأن يخرج عن حد البشرية فلا يغضب بل كثير من هؤلاء يقترح فيهم مالا يقترح في الأنبياء وقد أمر الله تعالى نوحا ومحمدا أن يقولا لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك (سورة هود). فيريد الجهال من المتبوع أن يكون عالما بكل ما يسئل عنه قادرا على كل ما يطلب منه غنيا عن الحاجات البشرية كالملائكة وهذا الاقتراح من ولاة الأمر كاقتراح الخوارج في عموم الأمة أن لا يكون لأحدهم ذنب ومن كان له ذنب كان عندهم كافرا مخلدا في النار
(6/245)
وكل هذا باطل خلاف ما خلقه الله وخلاف ما شرعه الله فاقتراح هؤلاء فيمن يوليه كاقتراح أولئك عليه فيمن يرسله وكاقتراح هؤلاء فيمن يرحمه ويغفر له والبدع مشتقة من الكفر فما من قول مبتدع إلا وفيه شعبة من شعب الكفر وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة وأدخل في الفتنة فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خاصته وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله ومقصودهم نصر الله ورسوله وإذا كان الصحابة ثم أهل الحديث والسنة المحضة أولى
(6/246)
بالهدى ودين الحق وأبعد الطوائف عن الضلال والغي فالرافضة بالعكس وقد تبين أن هذا الكلام الذي ذكره هذا الرجل فيه من الباطل ما لا يخفى على عاقل ولا يحتج به إلا من هو جاهل وأن هذا الرجل كان له بالشيعة إلمام واتصال وأنه دخل في هواهم بما ذكره في هذا الكتاب مع أنه ليس من علماء النقل والآثار وإنما هو من جنس نقلة التواريخ التي لا يعتمد عليها أولو الأبصار ومن كان علمه بالصحابة وأحوالهم من مثل هذا الكتاب فقد خرج عن جملة أولى الألباب ومن الذي يدع كتب النقل التي اتفق أهل العلم بالمنقولات على صحتها ويدع ما تواتر به النقل في كتب الحديث على بعضها كالصحاح والسنن والمساند والمعجمات والأسماء والفضائل وكتب أخبار الصحابة وغير ذلك وكتب السير والمغازي وأن كانت دون ذلك وكتب التفسير والفقه وغير ذلك من الكتب التي من نظر فيها علم بالتواتر اليقيني ضد ما في النقل الباطل وعلم أن
(6/247)
الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأن أصل كل فتنة وبليه هم الشيعة ومن انضوى إليهم وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كانت من جهتهم وعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون اختلقوا أكاذيب وابتدعوا آراء فاسدة ليفسدوا بها دين الإسلام ويستزلوا بها من ليس من أولى الأحلام فسعوا في قتل عثمان وهو أول الفتن ثم انزووا إلا على لا حبا فيه ولا في أهل البيت لكن ليقيموا سوق الفتنة بين المسلمين ثم هؤلاء الذين سعوا معه منهم من كفره بعد ذلك وقاتله كما فعلت الخوارج وسيفهم أول سيف سل على الجماعة ومنهم من أظهر الطعن على الخلفاء الثلاثة كما فعلت الرافضة وبهم تسترت الزنادقة كالغالية من النصيرية وغيرهم ومن القرامطة الباطنية والإسماعيلية وغيرهم فهم منشأ كل فتنة والصحابة رضي الله عنهم منشأ كل علم وصلاح وهدى ورحمة في الإسلام ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين كبني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب ويقولون إنهم كانوا مظلومين كما ذكر صاحب هذا الكتاب وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي ومنهم من يقول اللهم أرض عن أبي لؤلؤة واحشرني معه ومنهم من يقول في بعض
(6/248)
ما يفعله من محاربتهم واثارات أبي لؤلؤة كما يفعلونه في الصورة التي يقدرون فيها صورة عمر من الجبس أو غيره وأبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام كان مجوسيا من عباد النيران وكان مملوكا للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء وعليه خراج للمغيرة كل يوم أربعة دراهم وكان قد رأى ما عمله المسلمون بأهل الذمة وإذا رأى سبيهم يقدم إلى المدينة يبقى في نفسه من ذلك وقد روى أنه طلب من عمر أن يكلم مولاه في خراجه فتوقف عمر وكان من نيته أن يكلمه فقتل عمر بغضا في الإسلام وأهله وحبا للمجوس وانتقاما للكفار لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم وقتل رؤساءهم وقسم أموالهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث الصحيح حيث يقول إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وعمر هو الذي أنفق كنوزهما وهذا الحديث الصحيح مما يدل على صحةخلافته وأنه كان ينفق هذين الكنزين في سبيل الله الذي هو طاعته وطاعة رسوله وما يقرب إلى الله لم ينفق الأموال في أهواء النفوس المباحة فضلا عن المحرمة فهل ينتصر لأبي لؤلؤة مع هذا إلا من هو أعظم الناس كفرا بالله ورسوله وبغضا في الإسلام ومفرط في الجهل لا يعرف حال أبي لؤلؤة ودع ما يسمع وينقل عمن خلا فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة وتجدهم من أعظم الناس فتنا وشرا وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة ونحن نعرف بالعيان والتواتر العام وما كان في زماننا من حين خرج جنكزخان ملك الترك الكفار وما جرى في الإسلام من الشر فلا يشك عاقل أن استيلاء الكفار المشركين الذين لا يقرون بالشهادتين ولا بغيرها من المباني الخمس ولا يصومون شهر رمضان ولا يحجون البيت العتيق ولا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ورسله واليوم الآخر(6/249)
وأعلم من فيهم وأدين مشرك يعبد الكواكب والأوثان وغايته أن يكون ساحرا أو كاهنا له رئي من الجن وفيهم من الشرك والفواحش ما هم به شر من الكهان الذين يكونون في العرب فلا يشك عاقل أن استيلاء مثل هؤلاء على بلاد الإسلام وعلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم كذرية العباس وغيرهم بالقتل وسفك الدماء وسبي النساء وإستحلال فروجهن وسبي الصبيان واستعبادهم وإخراجهم عن دين الله إلى الكفر وقتل أهل العلم والدين من أهل القرآن والصلاة وتعظيم بيوت الأصنام التي يسمونها البذخانات والبيع والكنائس على المساجد ورفع المشركين وأهل الكتاب من النصارى وغيرهم على المسلمين بحيث يكون المشركون وأهل الكتاب أعظم عزا وأنفذ كلمة وأكثر حرمة من المسلمين إلى أمثال ذلك مما لا يشك عاقل أن هذا أضر على المسلمين من قتال بعضهم بعضا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما جرى على أمته من هذا كان كراهته له وغضبه منه أعظم من كراهته لإثنين مسلمين تقاتلا على الملك ولم يسب
(6/250)
أحدهما حريم الآخر ولا نفع كافرا ولا أبطل شيئا من شرائع الإسلام المتواترة وشعائره الظاهرة ثم مع هذا الرافضة يعاونون أولئك الكفار وينصرونهم على المسلمين كما قد شاهده الناس لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ومن أهل دمشق وما حولها وغيرهم كانوا من أعظم الناس أنصارا وأعوانا على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكون إلى العراق وقتل الخليفة وسفك فيها من الدماء مالا يحصيه إلا الله فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها وهكذا ذكر أنهم كانوا مع جنكزخان وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى ينصرونهم بحسب الإمكان ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى أنهم لما انكسر
(6/251)
عسكر المسلمين سنة غازان سنة تسع وتسعين وخمسمائة وخلت الشام من جيش المسلمين عاثوا في البلاد وسعوا في أنواع من الفساد من القتل وأخذ الأموال وحمل راية الصليب وتفضيل النصارى على المسلمين وحمل السبي والأمول والسلاح من المسلمين إلى النصارى أهل الحرب بقبرس وغيرها فهذا وأمثاله قد عاينه الناس وتواتر عند من لم يعاينه ولو ذكرت أنا ما سمعته ورأيته من آثار ذلك لطال الكتاب وعند غيري من أخبار ذلك وتفاصيله مالا أعلمه فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقه ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سب علي وعثمان لكان العاقل ينظر في خير الخيرين وشر الشرين ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون لكن لا يعاونون الكفار على دينهم ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك والرافضة إذا تمكنوا لا يتقون وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا الذي صنف له هذا الكتاب كيف ظهر فيهم من الشر الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون
(6/252)
وأما الخلفاء والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة رضي الله عنهم عليه فضل إلى يوم القيامة وكل خير فيه الشيعة وغيرهم فهو ببركة الصحابة وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين فهم كانوا أقوم بكل خير في الدين والدنيا من سائر الصحابة فكيف يكون هؤلاء منبع الشر ويكون أولئك الرافضة منبع الخير ومعلوم أن الرافضي يوالي أولئك الرافضة ويعادي الصحابة فهل هذا إلا من شر من أعمى الله بصيرته فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وإذا قال القائل الجمهور الذين يتولون الثلاثة فيهم من الشر والفتن ما لم ينقل مثله عن علي فلا يقابل بين الرافضة والصحابة والجمهور فنقول الجواب من وجهين الأول أنا لم نذكر هذا للمقابلة بل ردا على من زعم أن الفتنة لم تخرج إلا عن الخلفاء الراشدين ونحن قد علمنا بالمعاينة والتواتر أن الفتن والشرور العظيمة التي لا تشابهها فتن
(6/253)
إنما تخرج عن طائفته التي يتولاها ويزعم أنهم هم المؤمنون أهل الجنة وعلمنا أن الخير العظيم الذي لا يوازيه خير إنما ظهر عن الصحابة والخلفاء الراشدين لنبين عظيم افتراء هذا المفترى وان مثله في ذلك مثل من قال من أتباع إخوانه الكذابين الذين يعظمون غير الأنبياء على الأنبياء كأئمة العبيديين وغيرهم من الملادحة وأتباع مسيلمة الكذاب وأبى لؤلؤة قاتل عمر ونحوهما ممن يعظمه هذا المفترى إذا قال انظر هل ظهرت الفتن إلا من موسى وعيسى ومحمد فيقال له بل الفتن إنما ظهرت عن أصحابك وإخوانك الذين يفترون على الله الكذب ويعظمون الكذابين المفترين كتعظيم العبيديين الملاحدة وتعظيم مسيلمة الكذاب وتعظيم الطوسي الملحد وأمثاله وقد رأيناك وأمثالك تعظمون هؤلاء الملاحدة علماءهم وولاتهم على أتباع الأنبياء فلكم أوفر نصيب من قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا
(6/254)
هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (سورة النساء). فإن مسيلمة الكذاب من أكابر الأئمة الذين كفروا وكذلك أمثاله من الملاحدة العبيديين وأمثالهم الذين كانوا يدعون الإلهية والنبوة أو يدعى أن الفيلسوف أعظم من الأنبياء ونحو ذلك من مقالات الذين كفروا فإن المبتدعة من الجهمية والرافضة وغيرهم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فيحق عليهم ما وعد الله به حيث قال أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (سورة النساء). ومن هؤلاء من يعظم الشرك والسحر والأحوال الشيطانية مما هو من الإيمان بالجبت والطاغوت فإن الجبت هو السحر والطاغوت الشيطان والأوثان الوجه الثاني أنا لو فرضنا المقابلة بين الجمهور والرافضة فما بين خير الطائفتين وشرهما نسبة فإنا لا ننكر أن في الجمهور شرا كثيرا لكن إذا جاءت المقابلة فلا بد من المعادلة كما أنا إذا قابلنا بين المسلمين والنصارى واليهود لم نستكثر ما في المسلمين من الشر لكن يجب العدل فإن الله أمر بالقسط والعدل وهو مما اتفقت العقول والشرائع على وجوبه وحسنه فتقول ما من شر يوجد في الجمهور إلا وفي الرافضة من جنسه ما هو
(6/255)
أعظم منه كما أنه مامن شر يكون في المسلمين إلا وفي اليهود والنصارى من جنسه ما هو أعظم منه وما من خير يكون في الشيعة إلا وفي الجمهور من جنسه ما هو أعظم منه كما أنه مامن خير يكون في بعض أهل الكتاب إلا وفي المسلمين من جنسه ما هو خير منه وأمهات الفضائل العلم والدين والشجاعة والكرم فاعتبر هذا في هؤلاء وهؤلاء فالجمهور فيهم من العلم بالقرآن ومعانيه وعلومه ما لا يوجد منه شيء عند الشيعة بعضهم تعلمه من أهل السنة وهم مع هذا مقصرون فمن صنف منهم تفسير القرآن فمن تفاسير أهل السنة يأخذ كما فعل الطوسي والموسوي فما في تفسيره من علم يستفاد هو مأخوذ من تفاسير أهل السنة وأهل السنة في هذا الموضع من يقر بخلافة الثلاثة فالمعتزلة داخلون في أهل السنة وهم إنما يستعينون في التفسير والمنقولات بكلام المعتزلة وكذلك بحوثهم العقلية فما كان فيها صوابا فإنما أخذوه عن أهل السنة والذين يمتازون به هو كلامهم في ثلب الصحابة والجمهور ودعوى النص ونحو ذلك مما هم به أخلق وهو بهم أشبه وأما الحديث فهم من أبعد الناس عن معرفته لا إسناده ولا متنه ولا يعرفون الرسول واحواله ولهذا إذا نقلوا شيئا من الحديث كانوا من
(6/256)
أجهل الناس به وأي كتاب وجدوا فيه ما يوافق هواهم نقلوه من غير معرفة بالحديث كما نجد هذا المصنف وأمثاله ينقلون ما يجدونه موافقا لأهوائهم ولو أنهم ينقلون ما لهم وعليهم من الكتب التي ينقلون منها مثل تفسير الثعلبي وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل وفضائل الصحابة لأبي نعيم وما في كتاب أحمد من زيادات القطيعي وزيادات ابن أحمد لانتصف الناس منهم لكنه لا يصدقون إلا بما يوافق قلوبهم وأما الفقه فهم من أبعد الناس عن الفقه وأصل دينهم في الشريعة هي مسائل ينقلونها عن بعض علماء أهل البيت كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر محمد وابنه جعفر بن محمد وهؤلاء رضي الله عنهم من أئمة الدين وسادات المسلمين لكن لا ينظرون في الإسناد إليهم هل ثبت النقل إليهم أم لا فإنه لا معرفة لهم بصناعة الحديث والإسناد ثم إن الواحد من هؤلاء إذا قال قولا لا يطلب دليله من الكتاب والسنة ولا ما يعارضه ولا يردون ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول كما أمر الله به ورسوله بل قد أصلوا لهم ثلاثة أصول أحدها أن هؤلاء معصومون والثاني أن كل ما يقولونه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم والثالث أن إجماع العترة حجة وهؤلاء هم العترة
(6/257)
فصاروا لذلك لا ينظرون في دليل ولا تعليل بل خرجوا عن الفقه في الدين كخروج الشعرة من العجين وإذا صنف واحد منهم كتابا في الخلاف وأصول الفقه كالموسوي وغيره فإن كانت المسألة فيها نزاع بين العلماء أخذوا حجة من يوافقهم واحتجوا بما احتج به أولئك وأجابوا عما يعارضهم بما يجيب به أولئك فيظن الجاهل منهم أن هذا قد صنف كتابا عظيما في الخلاف أو الفقه أو الأصول ولا يدري الجاهل أن عامته استعارة من كلام علماء أهل السنة الذين يكفرهم ويعاديهم وما انفردوا به فلا يساوى مداده فإن المداد ينفع ولا يضر وهذا يضر ولا ينفع وإن كانت المسألة مما انفردوا به اعتمدوا على ذلك الأصول الثلاثة التي فيها من الجهل والضلال ما لا يخفى وكذلك كلامهم في الأصول والزهد والرقائق والعبادات والدعوات وغير ذلك وكذلك إذا نظرت ما فيهم من العبادة والأخلاق المحمودة تجده جزءا مما عليه الجمهور.
*فصل قال الرافضي: الفصل الثالث في الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رسول صلى الله عليه وسلم. الأدلة في ذلك كثيرة لا تحصى لكن نذكر المهم منها وننظم أربعة مناهج.
المنهج الأول في الأدلة العقلية وهي خمسة الأول أن الإمام يجب أن يكون معصوما ومتى كان ذلك كان الإمام هو عليا عليه السلام أما المقدمة الأولى فلأن الإنسان مدني بالطبع لا يمكن أن يعيش منفردا لافتقاره في بقائه إلى ما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن ولا يمكن أن يفعلها بنفسه بل يفتقر إلى مساعدة(6/258)
غيره بحيث يفرغ كل واحد منهم إلى ما يحتاج إليه صاحبه حتى يتم قيام النوع ولما كان الاجتماع في مظنه التغالب والتغابن بأن كل واحد من الأشخاص قد يحتاج إلى ما في يد غيره فتدعوه قوته الشهوانية إلى أخذه وقهره عليه وظلمه فيه فيؤدى ذلك إلى وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن فلا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدى ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية وإلا لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى نصب الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فإن كان معصوما كان هو الإمام وإلا لزم التسلسل وأما المقدمة الثانية فظاهرة لأن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا معصومين اتفاقا وعلي معصوم فيكون هو الإمام.
*والجواب عن ذلك أن نقول كلتا المقدمتين باطلة...
أما الأولى: فقوله لا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدي ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية.
فيقال له نحن نقول بموجب هذا الدليل إن كان صحيحا فإن الرسول هو المعصوم وطاعته واجبة في كل زمان على كل أحد وعلم الأمة بأمره ونهيه أتم من علم آحاد الرعية بأمر الإمام الغائب كالمنتظر ونحوه بأمره ونهيه فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام معصوم والأمة تعرف أمره ونهيه ومعصومهم ينتهي إلى الغائب المنتظر الذي لو كان معصوما لم يعرف أحد لا أمره و لا نهية بل ولا كانت رعية على تعرف أمره ونهيه كما تعرف الأمة نبيها ونهيه بل عند أمه محمد صلى الله عليه وسلم من علم أمره ونهيه ما أغناهم عن كل إمام سواه بحيث أنهم لا يحتاجون قط إلى المتولى عليهم في شيء من معرفة دينهم ولا يحتاجون في العمل إلى ما يحتاجون فيه إلى التعاون وهم يعلمون أمره ونهيه أعظم من معرفة آحاد رعية المعصوم ولو قدر(6/259)
وجوده بأمره فإنه لم يتول على الناس ظاهر من أدعيت له العصمة إلا علي ونحن نعلم قطعا أنه كان في رعيته باليمن وخراسان وغيرهما من لا يدري بماذا أمر ولا عماذا نهى بل نوابه كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو وأما الورثة الذين ورثوا علم محمد صلى الله عليه وسلم فهم يعرفون أمره ونهيه ويصدقون في الإخبار عنه أعظم من علم نواب علي بأمره ونهيه ومن صدقهم في الإخبار عنه وهم إنما يريدون أنه لا بد من إمام معصوم حي فنقول هذا الكلام باطل من وجوه أحدها أن هذا الإمام الموصوف لم يوجد بهذه الصفة أما في زماننا فلا يعرف إمام معروف يدعى فيه هذا ولا يدعي لنفسه بل مفقود غائب عند متبعيه ومعدوم لا حقيقة له عند العقلاء ومثل هذا لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة أصلا بل من ولى على الناس ولو كان فيه بعض الجهل وبعض الظلم كان أنفع لهم ممن لا ينفعهم بوجه من الوجوه وهؤلاء المنتسبون إلى الإمام المعصوم لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره بل هم ينتسبون إلى المعصوم وإنما يستعينون بكفور أو ظلوم فإذا كان المصدقون لهذا المعصوم المنتظر لم ينتفع به أحد(6/260)
منهم لا في دينه ولا في دنياه لم يحصل لأحد به شيء من مقاصد الإمامة وإذا كان المقصود لا يحصل منه شيء لم يكن بنا حاجة إلى إثبات الوسيلة لأن الوسائل لا تراد إلا لمقاصدها فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد وكان هذا بمنزلة من يقول الناس يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم وينبغي أن يكون الطعام صفته كذا والشراب صفته كذا وهذا عند الطائفة الفلانبة وتلك الطائفة قد علم أنها من أفقر الناس وأنهم معروفون بالإفلاس وأي فائدة في طلب ما يعلم عدمه واتباع مالا ينتفع به أصلا والإمام يحتاج إليه في شيئين إما في العلم لتبليغه وتعليمه وإما في العمل به ليعين الناس على ذلك بقوته وسلطانه وهذا المنتظر لا ينفع لا بهذا ولا بهذا بل ما عندهم من العلم فهو من كلام من قبله ومن العمل إن كان مما يوافقهم عليه المسلمون استعانوا بهم وإلا استعانوا بالكفار والملاحدة ونحوهم فهم أعجز الناس في العمل وأجهل الناس في العلم مع دعواهم ائتمامهم بالمعصوم الذي مقصوده العلم والقدرة ولم يحصل لهم لا علم ولا قدرة فعلم انتفاء هذا مما يدعونه(6/261)
وأيضا فالأئمة الاثنا عشر لم يحصل لأحد من الأمة بأحد منهم جميع مقاصد الإمامة أما من دون على فإنما كان يحصل للناس من علمه ودينه مثل ما يحصل من نظرائه وكان علي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنه جعفر ابن محمد يعلمون الناس ما علمهم الله كما علمه و علماء زمانهم وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة وهذا معروف عند أهل العلم ولو قدر أنهم كانوا أعلم وأدين فلم يحصل من أهل العلم والدين ما يحصل من ذوي الولاية من القوة والسلطان وإلزام الناس بالحق ومنعهم باليد عن الباطل وأما من بعد الثلاثة كالعسكريين فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة ولا كان لهم يد تستعين به الأمة بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين لهم حرمة ومكانة وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين وأما ما يختص به أهل العلم فهذا لم يعرف عنهم ولهذا لم يأخذ عنهم أهل العلم كما أخذوا عن أولئك الثلاثة ولو وجدوا ما يستفاد لأخذوا ولكن طالب العلم يعرف مقصوده وإذا كان للإنسان نسب شريف كان ذلك مما يعينه على قبول(6/262)
الناس منه ألا ترى أن ابن عباس لما كان كثير العلم عرفت الأمه له ذلك واستفادت منه وشاع ذكره بذلك في الخاصة والعامة وكذلك الشافعي لما كان عنده من العلم والفقه ما يستفاد منه عرف المسلمون له ذلك واستفادوا ذلك منه وظهر ذكره بالعلم والفقه ولكن إذا لم يجد الإنسان مقصوده في محل لم يطلبه منه ألا ترى أنه لو قيل عن أحد إنه طبيب أو نحوي وعظم حتى جاء إليه الأطباء أو النحاة فوجدوه لا يعرف من الطب والنحو ما يطلبون أعرضوا عنه ولم ينفعه مجرد دعوى الجهال وتعظيمهم وهؤلاء الإمامية أخذوا عن المعتزلة أن الله يجب عليه الإقدار والتمكين واللطف بما يكون المكلف عنده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد مع تمكنه في الحالين ثم قالوا والإمامة واجبة وهي أوجب عندهم من النبوة لأن بها لطفا في التكاليف قالوا إنا نعلم يقينا بالعادات واستمرار الأوقات أن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإذا لم يكن لهم رئيس وقع الهرج والمرج بينهم وكانوا عن الصلاح أبعد ومن الفساد أقرب وهذه الحال مشعرة بقضية العقل معلومة لا ينكرها إلا من جهل(6/263)
العادات ولم يعلم استمرار القاعدة المستمرة في العقل قالوا وإذا كان هذا لطفا في التكليف لزم وجوبه ثم ذكروا صفاته من العصمة وغيرها ثم أورد طائفة منهم على أنفسهم سؤالا فقالوا إذا قلتم إن الإمام لطف وهو غائب عنكم فأين اللطف الحاصل مع غيبته وإذا لم يكن لطفه حاصلا مع الغيبة وجاز التكليف بطل أن يكون الإمام لطفا في الدين وحينئذ يفسد القول بإمامة المعصوم وقالوا في الجواب عن هذا السؤال إنا نقول إن لطف الإمام حاصل في حالة الغيبة للعارفين به في حال الظهور وإنما فات اللطف لمن لم يقل بإمامته كما أن لطف المعرفة لم يحصل لمن لم يعرف الله تعالى وحصل لمن كان عارفا به قالوا وهذا يسقط هذا السؤال ويوجب القول بإمامة المعصومين فقيل لهم لو كان اللطف حاصلا في حال الغيبة كحال الظهور لوجب أن يستغنوا عن ظهوره ويتبعوه إلى أن يموتوا وهذا خلاف ما يذهبون إليه فأجابوا بأنا نقول إن اللطف في غيبته عند العارف به من باب التنفير والتبعيد عن القبائح مثل حال الظهور لكن نوجب ظهوره لشيء غير ذلك وهو رفع أيدي المتغلبين عن المؤمنين وأخذ الأموال ووضعها في مواضعها من أيدي الجبابرة ورفع ممالك الظلم التي لا يمكننا رفعها إلا بطريقة وجهاد الكفار الذي لا يمكن إلا مع ظهوره(6/264)
فيقال لهم هذا كلام ظاهر البطلان وذلك أن الإمام الذي جعلتموه لطفا هو ما شهدت به العقول والعادات وهو ما ذكرتموه قلتم إن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد واشترطتم فيه العصمة قلتم لأن مقصود الأنزجار لا يحصل إلا بها ومن المعلوم أن الموجودين الذين كانوا قبل المنتظر لم يكن أحد منهم بهذه الصفة لم يكن أحد منهم منبسط اليد ولا متصرفا وعلي رضي الله عنه تولى الخلافة ولم يكن تصرفه وانبساطه تصرف من قبله وانبساطهم وأما الباقون فلم تكن أيديهم منبسطة ولا متصرفون بل كان يحصل بأحدهم ما يحصل بنظرائه وأما الغائب فلم يحصل به شيء فإن المعترف بوجوده إذا عرف أنه غاب من أكثر من أربعمائة سنة وستين سنة وأنه خائف لا يمكنه الظهور فضلا عن إقامة الحدود ولا يمكنه أن يأمر أحدا ولا ينهاه لم يزل الهرج والفساد بهذا ولهذا يوجد طوائف الرافضة أكثر الطوائف هرجا وفسادا واختلافا بالألسن والأيدي ويوجد من الإقتتال والاختلاف وظلم بعضهم لبعض ما لا يوجد فيمن لهم متول كافر فضلا عن متول مسلم فأي لطف حصل لمتبعيه به(6/265)
واعتبر المدائن والقرى التي يقر أهلها بإمامة المنتظر مع القرى التي لا يقرون به تجد حال هؤلاء أعظم انتظاما وصلاحا في المعاش والمعاد حتى أن الخبير بأحوال العالم يجد بلاد الكفار لوجود رؤسائهم يقيمون مصلحة دنياهم أكثر انتظاما من كثير من الأرض التي ينسبون فيها إلى متابعة المنتظر لا يقيم لهم سببا من مصلحة دينهم ودنياهم ولو قدر أن اعترافهم بوجوده يخافون معه أن يظهر فيعاقبهم على الذنوب كان من المعلوم أن خوف الناس من ولاة أمورهم المشهورين أن يعاقبوهم أعظم من خوف هؤلاء من عقوبة المنتظر لهم ثم الذنوب قسمان منها ذنوب ظاهرة كظلم الناس والفواحش الظاهرة فهذه تخاف الناس فيها من عقوبة ولاة أمورهم أعظم مما يخافه الإمامية من عقوبة المنتظر فعلم أن اللطف الذي أوجبوه لا يحصل بالمنتظر أصلا للعارف به ولا لغيره وأما قولهم إن اللطف به يحصل للعارفين به كما يحصل في حال الظهور فهذه مكابرة ظاهرة فإنه إذا ظهر حصل به من إقامة الحدود والوعظ وغير ذلك ما يوجب أن يكون في ذلك لطف لا يحصل مع عدم الظهور(6/266)
وتشبيههم معرفته بمعرفة الله في باب اللطف وأن اللطف به يحصل للعارف دون غيره قياس فاسد فإن المعرفة بأن الله موجود حى قادر يأمر بالطاعة ويثيب عليها وينهى عن المعصية ويعاقب عليها من أعظم الأسباب في الرغبة والرهبة منه فتكون هذه المعرفة داعية إلى الرغبة في ثوابه بفعل المأمور وترك المحظور والرهبة من عقابه إذا عصى لعلم العبد بأنه عالم قادر وأنه قد جرت سنته بإثابة المطيعين وعقوبة العاصين وأما شخص يعرف الناس أنه مفقود من أكثر من أربعمائة سنة وأنه لم يعاقب أحدا وأنه لم يثب أحدا بل هو خائف على نفسه إذا ظهر فضلا عن أن يأمر وينهى فكيف تكون المعرفة به داعية إلى فعل ما أمر وترك ما حظر بل المعرفة بعجزه وخوفه توجب الإقدام على فعل القبائح لا سيما مع طول الزمان وتوالي الأوقات وقتا بعد وقت وهو لم يعاقب أحدا ولم يثب أحدا بل لو قدر أنه يظهر في كل مائة سنة مرة فيعاقب لم يكن ما يحصل به من اللطف مثل ما يحصل بآحاد ولاة الأمر بل ولو قيل إنه يظهر في كل عشر سنين بل ولو ظهر في السنة مرة فإنه لا تكون منفعته كمنفعة ولاة الأمور الظاهرين للناس في كل وقت بل هؤلاء مع(6/267)
ذنوبهم وظلمهم في بعض الأمور شرع الله بهم وما يفعلونه من العقوبات وما يبذلونه من الرغبات في الطاعات أضعاف ما يقام بمن يظهر بعد كل مدة فضلا عمن هو مفقود يعلم جمهور العقلاء أنه لا وجود له والمقرون به يعلمون أنه عاجز خائف لم يفعل قط ما يفعله آحاد الناس فضلا عن ولاة أمرهم وأي هيبة لهذا وأي طاعة وأي تصرف وأي يد منبسطة حتى إذا كان للناس رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا أقرب إلى الصلاح بوجوده ومن تدبر هذا علم أن هؤلاء القوم في غاية الجهل والمكابرة والسفسطه حيث جعلوا اللطف به في حال عجزه وغيبته مثل اللطف به في حال ظهوره وأن المعرفة به مع عجزه وخوفه وفقده لطف كما لو كان ظاهرا قادرا آمنا وأن مجرد هذه المعرفة لطف كما أن معرفة الله لطف الوجه الثاني أن يقال قولكم لا بد من نصب إمام معصوم يفعل هذه الأمور أتريدون أنه لا بد أن يخلق الله ويقيم من يكون متصفا بهذه الصفات أم يجب على الناس أن يبايعوا من يكون كذلك فإن أردتم الأول فالله لم يخلق أحدا متصفا بهذه الصفات فإن غاية ما عندكم أن تقولوا إن عليا كان معصوما لكن الله لم يمكنه ولم يؤيده(6/268)
لا بنفسه ولا بجند خلقهم له حتى يفعل ما ذكرتموه بل أنتم تقولون إنه كان عاجزا مقهورا مظلوما في زمن الثلاثة ولما صار له جند قام له جند آخرون قاتلوه حتى لم يتمكن أن يفعل ما فعل الذين كانوا قبله الذين هم عندكم ظلمة فيكون الله قد أيد أولئك الذين كانوا قبله حتى تمكنوا من فعل ما فعلوه من المصالح ولم يؤيده حتى يفعل ذلك وحينئذ فما خلق الله هذا المعصوم المؤيد الذي اقترحتموه على الله وإن قلتم إن الناس يجب عليهم أن يبايعوه ويعاونوه قلنا أيضا فالناس لم يفعلوا ذلك سواء كانوا مطيعين أو عصاة وعلى كل تقدير فما حصل لأحد من المعصومين عندكم تأييد لا من الله ولا من الناس وهذه المصالح التي ذكرتموها لا تحصل إلا بتأييد فإذا لم يحصل ذلك لم يحصل مابه تحصل المصالح بل حصل أسباب ذلك وذلك لا يفيد المقصود الوجه الثالث أن يقال إذا كان لم يحصل مجموع مابه تحصل هذه المطالب بل فات كثير من شروطها فلم لا يجوز أن يكون الفائت هو العصمة وإذا كان المقصود فائتا إما بعدم العصمة وإما بعجز المعصوم فلا فرق بين عدمها بهذا أو بهذا فمن أين يعلم بدليل العقل أنه يجب على الله أن يخلق إماما معصوما وهو إنما يخلقه ليحصل به مصالح عباده وقد خلقه عاجزا لا يقدر على تلك المصالح بل حصل به من الفساد مالم يحصل إلا بوجوده(6/269)
وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أنه لو لم يخلق هذا المعصوم لم يكن يجري في الدنيا من الشر أكثر مما جرى إذ كان وجوده لم يدفع شيئا من الشر حتى يقال وجوده دفع كذا بل وجوده أوجب أن كذب به الجمهور وعادوا شيعته وظلموه وظلموا أصحابه وحصل من الشرور التي لا يعلمها إلا الله بتقدير أن يكون معصوما فإنه بتقدير أن لا يكون علي رضي الله عنه معصوما ولا بقية الاثنى عشر ونحوهم لا يكون ما وقع من تولية الثلاثة وبني أمية وبني العباس فيه من الظلم والشر ما فيه بتقدير كونهم أئمة معصومين وبتقدير كونهم معصومين فما أزالوا من الشر إلا ما يزيله من ليس بمعصوم فصار كونهم معصومين إنما حصل به الشر لا الخير فكيف يجوز على الحكيم أن يخلق شيئا ليحصل به الخير وهو لم يحصل به إلا الشر لا الخير وإذا قيل هذا الشر حصل من ظلم الناس له قيل فالحكيم الذي خلقه إذا كان خلقه لدفع ظلمهم وهو يعلم أنه إذا خلقه زاد ظلمهم لم يكن خلقه حكمة بل سفها وصار هذا كتسليم إنسان ولده إلى من يأمره بإصلاحه وهو يعلم أنه لا يطيعه بل يفسده فهل يفعل هذا حكيم ومثل أن يبنى إنسان خانا في الطريق لتأوى إليه القوافل ويعتصموا(6/270)
به من الكفار وقطاع الطريق وهو يعلم أنه إذا بناه اتخذه الكفار حصنا والقطاع مأوى لهم ومثل من يعطى رجلا مالا ينفقه في الغزاة والمجاهدين وهو يعلم أنه إنما ينفقه في الكفار والمحاربين أعداء الرسول ولا ريب أن هؤلاء الرافضة القدرية أخذوا هذه الحجج من أصول المعتزلة القدرية فلما كان أولئك يوجبون على الله الصلاح والأصلح أخذ هؤلاء ذلك منهم وأصل أولئك في أنه يجب على الله أن يفعل بكل مكلف ما هو الأصلح له في دينه ودنياه وهو أصل فاسد وإن كان الرب تعالى بحكمته ورحمته يفعل بحكمة لخلقه ما يصلحهم في دينهم ودنياهم والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال فالقدرية يقولون يجب على الله رعاية الأصلح أو الصلاح في كل شخص معين ويجعلون ذلك الواجب من جنس ما يجب على الإنسان فغلطوا حيث شبهوا الله بالواحد من الناس فيما يجب عليه ويحرم عليه وكانوا هم مشبهة الأفعال فغلطوا من حيث لم يفرقوا بين المصلحة العامة الكلية وبين مصلحة آحاد الناس التي قد تكون مستلزمة لفساد عام ومضاده لصلاح عام(6/271)
والقدرية المجبرة الجهمية لا يثبتون له حكمة ولا رحمة بل عندهم يفعل بمشيئة محضة لا لها حكمة ولا رحمة والجهم بن صفوان رأس هؤلاء كان يخرج إلى المبتلين من الجذمى وغيرهم فيقول أرحم الراحمين يفعل هذا يريد أنه ليس له رحمة فهؤلاء وأولئك في طرفين متقابلين والثالث قول الجمهور إن الله عليم حكيم رحيم قائم بالقسط وإنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها كما نطقت بذلك نصوص الكتاب والسنة وكما يشهد به الاعتبار حسا وعقلا وذلك واقع منه بحكمته ورحمته وبحكم أنه كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم لا بأن الخلق يوجبون عليه ويحرمون ولا بأنه يشبه المخلوق فيما يجب ويحرم بل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وليس لمخلوق عليه حق إلا ما أحقه هو على نفسه المقدسة كقوله كتب ربكم على نفسه الرحمة (سورة الأنعام). وقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين (سورة الروم). وذلك بحكم وعده وصدقه في خبره وهذا متفق عليه بين المسلمين وبحكم كتابه على نفسه وحكمته ورحمته وهذا فيه تفصيل ونزاع مذكور في غير هذا الموضع ثم القدرية القائلون برعاية الأصلح يقولون إنما خلقهم لتعريضهم للثواب(6/272)
فإذا قيل لهم فهو كان يعلم أن هذا الذي عرضه لا ينتفع مما خلقه له بل يفعل ما يضره فكان كمن يعطى شخصا مالا لينفقه في سبيل الله وسيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه ينفقه في حرب المسلمين وقتالهم قالوا المكلف إنما أتى من جهة نفسه فهو الذي فرط بترك الطاعة أجابهم أهل السنة بجوابين أحدهما مبني على إثبات العلم والثاني مبني على إثبات المشيئة والقدرة التامة وأنه خالق كل شيء فقالوا على الأول إذا كان هو يعلم أن مقصوده بالفعل لم يحصل لم يكن فعله حكمة وإن كان بتفريط غيره والثاني أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو خالق كل شيء وهو يعلم أنه لا يشاء ويخلق ما به يكون ما ذكروه من المطلوب فيمتنع مع هذا أن يكون ما ذكروه هو المطلوب بالخلق وكل جواب للقدرية فهو جواب للرافضة ويجابون بأجوبة أخرى تجيبهم بها القدرية وإن وافقوهم على قاعدة التعليل والتجوير فيقولون إنما يجب خلق إمام معصوم إذا لم يكن قد خلق لهم ما يغنيهم عنه وبالجملة فحقيقة هذه الحجة أنها استدلال بالواجب على الواقع(6/273)
فيقولون يجب عليه كذا فلا بد أن يكون قد فعل الواجب وليس هذا إلا هكذا والعلم بالواقع له طرق كثيرة قطعية يقينية تبين انتفاء هذا الذي ذكروا أنه واقع فإذا علمنا انتقاء الفائدة المطلوبة قطعا لم يمكن إثبات لازمها وهو الوسيلة فإنا نستدل على إثبات اللازم بإثبات الملزوم فإذا كان الملزوم قد علمنا انتفاءه قطعا لم يمكن إثبات لازمه ثم بعد ذلك آن أن نقدح في الإيجاب جملة وتفصيلا أو نقول الواجب من الجملة لا يتوقف على ما ادعوه من المعصوم ما لم يكن مثله في نواب معاوية وقول الرافضة من جنس قول النصارى إن الإله تجسد ونزل وإنه أنزل ابنه ليصلب ويكون الصلب مغفره لذنب آدم ليدفع الشيطان بذلك لهم فقيل لهم إذا كان قتله وصلبه وتكذيبه من أعظم الشر والمعصية فيكون قد أراد أن يزيل ذنبا صغيرا بذنب هو أكبر منه وهو مع ذلك لم يغير الشر بل زاد على ما كان فكيف يفعل شيئا لمقصود والحاصل إنما هو ضد المقصود الوجه الخامس إذا كان الانسان مدنيا بالطبع وإنما وجب نصب
(6/274)
المعصوم ليزيل الظلم والشر عن أهل المدينة فهل تقولون إن لم يزل في كل مدينة خلقها الله تعالى معصوم يدفع ظلم الناس أم لا فإن قلتم بالأول كان هذا مكابرة ظاهرة فهل في بلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب معصوم وهل كان في الشام عند معاوية معصوم وإن قلتم بل نقول هو في كل مدينة واحد وله نواب في سائر المدائن قيل فكل معصوم له نواب في جميع مدائن الأرض أم في بعضها فإن قلتم في الجميع كان هذا مكابرة وإن قلتم في البعض دون البعض قيل فما الفرق إذا كان ما ذكرتموه واجبا على الله وجميع المدائن حاجتهم إلى المعصوم واحدة الوجه السادس أن يقال هذا المعصوم يكون وحده معصوما أو كل من نوابه معصوما وهم لا يقولون بالثاني والقول به مكابرة فإن نواب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معصومين ولا نواب علي بل كان في بعضهم من الشر والمعصية ما لم يكن مثله في نواب معاوية لأميرهم فأين العصمة وأن قلت يشترط فيه وحده قيل فالبلاد الغائبة عن الإمام لا سيما إذا لم يكن المعصوم قادرا على قهر نوابه بل هو عاجز ماذا ينتفعون بعصمة الإمام وهم يصلون
(6/275)
خلف غير معصوم ويحكم بينهم غير معصوم ويطيعون غير معصوم ويأخذ أموالهم غير معصوم فإن قيل الأمور ترجع إلى المعصومين قيل لو كان المعصوم قادرا ذا سلطان كما كان عمر وعثمان ومعاوية وغيرهم لم يتمكن أن يوصل إلى كل من رعيته العدل الواجب الذي يعلمه هو وغاية ما يقدر عليه أن يولى أفضل من يقدر عليه لكن إذا لم يجد إلا عاجزا أو ظالما كيف يمكنه تولية قادر عادل فإن قالوا إذا لم يخلق الله إلا هذا سقط عنه التكليف قيل فإذا لم يجب على الله أن يخلق قادرا عادلا مطلقا بل أوجب على الإمام أن يفعل ما يقدر عليه فكذلك الناس عليهم أن يولوا أصلح من خلقه الله تعالى وإن كان فيه نقص إما من قدرته وإما من عدله وقد كان عمر رضي الله عنه يقول اللهم إليك اشكو جلد الفاجر وعجز الثقة وما ساس العالم أحد مثل عمر فكيف الظن بغيره هذا إذا كان المتولى نفسه قادرا عادلا فكيف إذا كان المعصوم عاجزا بل كيف إذا كان مفقودا من الذي يوصل الرعية إليه حتى يخبروه بأحوالهم ومن الذي يلزمها بطاعته حتى تطيعه وإذا أظهر بعض نوابه
(6/276)
طاعته حتى يوليه ثم أخذ ما شاء من الأموال وسكن في مدائن الملوك فأي حيلة للمعصوم فيه فعلم أن المعصوم الواحد لا يحصل به المقصود إذا كان ذا سلطان فكيف إذا كان عاجزا مقهورا فكيف إذا كان مفقودا غائبا لا يمكنه مخاطبة أحد فكيف إذا كان معدوما لا حقيقه له الوجه السابع أن يقال صد غيره عن الظلم وإنصاف المظلوم منه وإيصال حق غيره إليه فرع على منع ظلمه واستيفاء حقه فإذا كان عاجزا مقهورا لا يمكنه دفع الظلم عن نفسه ولا استيفاء حقه من ولاية ومال لا حق امرأته من ميراثها فأي ظلم يدفع وأي حق يوصل فكيف إذا كان معدوما أوخائفا لا يمكنه أن يظهر في قرية او مدينة خوفا من الظالمين أن يقتلوه وهو دائما على هذه الحال أكثر من اربعمائة وستين سنة والأرض مملوءة من الظلم والفساد وهو لا يقدر أن يعرف بنفسه فكيف يدفع الظلم عن الخلق أو يوصل الحق إلى المستحق وما أخلق هؤلاء بقوله تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون أن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا (سورة الفرقان). الوجه الثامن أن يقال الناس في باب ما يقبح من الله على قولين منهم من يقول الظلم ممتنع منه وفعل القبيح مستحيل ومهما
(6/277)
فعله كان حسنا فهؤلاء يمتنع عندهم أن يقال يحسن منه كذا فضلا عن القول بالوجوب والقول الثاني قول من يقول إنه يجب عليه العدل والرحمة بإيجابه على نفسه كما قال تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة (سورة الأنعام). ويحرم الظلم بتحريمه على نفسه كما قال في الصحيح يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ويقول إن ذلك واجب بالعقل وعلى كل قول فهو سبحانه لم يقع منه ظلم ولم يخل بواجب فقد فعل ما يجب عليه وهو مع هذا لم يخلق ما تحصل به هذه المصالح المقصودة من المعصوم فإن كانت هذه المصالح تحصل بمجرد خلقه وهي لم تحصل لزم أن لا يكون خلقه واجبا وهو المطلوب وإن كانت لا تحصل إلا بخلقه وخلق أمور أخرى حتى يحصل بالمجموع المطلوب فهو لم يخلق ذلك المجموع سواء كان لم يخلق شيئا منه أو لم يخلق بعضه والإخلال بالواجب ممتنع عليه في القليل والكثير فلزم علي التقديرين أنه لا يجب عليه خلق الموجب لهذه المطالب وإذا لم يجب عليه ذلك فلا فرق بين أن يخلق معصوما لا يحصل به ذلك وبين أن لا يخلقه فلا يكون ذلك واجبا عليه وحينئذ فلا يلزم أن يكون موجودا فالقول بوجوب وجوده باطل على كل تقدير وإن قيل إن المطلوب يحصل بخلقه وبطاعة المكلفين له
(6/278)
قيل إن كانت طاعة المكلفين مقدورة لله ولم يخلقها فلم يخلق المصلحة المطلوبة بالمعصوم فلا تكون واجبه عليه وإن لم تكن مقدورة امتنع الوجوب بدونها في حق المكلف فكيف في حق الله وما لا يتم الوجوب إلا به وهو غير موجود فليس الأمر حينئذ بواجب ألا ترى أن الإنسان لا يجب عليه تحصيل مصلحة لا تحصل بدون فعل غيره إلا إذا أعانه ذلك الغير كالجمعة التي لا تجب إلا خلف إمام أو مع عدد فلا يجب على الإنسان أن يصليها إلا إذا حصل الإمام وسائر العدد والحج الذي لا يجب عليه السفر إليه إلا مع رفقة يأمن معهم أو مع من يكريه دابته فلا يجب عليه إذا لم يحصل من يفعل معه ذلك ودفع الظلم عن المظلوم إذا لم يمكن إلا بأعوان لم يجب على من لا أعوان له فإذا قالوا إن الرب يجب عليه تحصيل هذه المصالح لعباده الحاصلة بخلق المعصوم وهي لا تحصل إلا بوجود من يطيعه والله تعالى على هذا التقدير لا يمكنه أن يجعل الناس يطيعونه لم يكن خلق المعصوم واجبا عليه لعدم وجوب ما لا يحصل الواجب إلا به وعدم حصول المطلوب بالمعصوم وحده وإن قيل يخلقه لعل بعض الناس يطيعه قيل أولا هذا ممتنع ممن يعلم عواقب الأمور
(6/279)
وقيل ثانيا إذا كان شرط المطلوب قد يحصل وقد لا يحصل وهو في كثير من الأوقات أو غالبها أو جميعها لا يحصل أمكن أن يخلق غير المعصوم يكون عادلا في كثير من الأوقات أو بعضها فإن حصول المقصود ممن يعدل في كثير من الأمور ويظلم في بعضها إذا كانت مصلحة وجوده أكثر من مفسدته خير ممن لا يقدر على أن يعدل بحال ولا يدفع شيئا من الظلم فإن هذا لا مصلحة فيه بحال وإن قالوا الرب فعل ما يجب عليه من خلق المعصوم ولكن الناس فوتوا المصلحة بمعصيتهم له قيل أولا إذا كان يعلم أن الناس لا يعاونونه حتى تحصل المصلحة بل يعصونه فيعذبون لم يكن خلقه واجبا بل ولا حكمة على قولهم ويقال ثانيا ليس كل الناس عصاه بل بعض الناس عصوه ومنعوه وكثير من الناس تؤثر طاعته ومعرفة ما يقوله فكيف لا يمكن هؤلاء من طاعته فإذا قيل أولئك الظلمة منعوا هؤلاء قيل فإن كان الرب قادرا على منع الظلمة فهلا منعهم على قولهم وإن لم يكن ذلك مقدورا فهو يعلم أن حصول المصلحة غير مقدورة فلا يفعله فلم قلتم على هذا التقدير إنه يمكن خلق معصوم غير نبي
(6/280)
وهذا لازم لهم فإنهم إن قالوا إن الله خالق أفعال العباد أمكنه صرف دواعي الظلمة حتى يتمكن الناس من طاعته وإن قالوا ليس خالق أفعال العباد قيل فالعصمة إنما تكون بأن يريد الفاعل الحسنات ولا يريد السيئات وهو عندكم لا يقدر أن يغير إرادة أحد فلا يقدر على جعله معصوما وهذا أيضا دليل مستقل على إبطال خلق أحد معصوما على قول القدرية فإن العصمة إنما تكون بأن يكون العبد مريدا للحسنات غير مريد للسيئات فإذا كان هو المحدث للإرادة والله تعالى عند القدرية لا يقدر على إحداث إرادة أحد امتنع منه أن يجعل أحدا معصوما وإذا قالوا يخلق ما تميل به إرادته إلى الخير قيل إن كان ذلك ملجئا زال التكليف وإن لم يكن ملجئا لم ينفع وإن كان ذلك مقدورا عندكم فهلا فعله بجميع العبادة فإنه أصلح لهم إذا أوجبتم على الله أن يفعل الأصلح بكل عبد وذلك لا يمنع الثواب عندكم كما لا يمنعه في حق المعصوم الوجه التاسع أن يقال حاجة الإنسان إلى تدبير بدنه بنفسه أعظم من حاجة المدينة إلى رئيسها وإذا كان الله تعالى لم يخلق نفس الإنسان معصومة فكيف يجب عليه أن يخلق رئيسا معصوما مع أن الإنسان يمكنه أن يكفر بباطنه ويعصي بباطنه وينفرد بأمور
(6/281)
كثيرة من الظلم والفساد والمعصوم لا يعلمها وإن علمها لا يقدر على إزالتها فإذا لم يجب هذا فكيف يجب ذاك الوجه العاشر أن يقال المطلوب من الأئمة أن يكون الصلاح بهم أكثر من الفساد وأن يكون الإنسان معهم أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة مما لو عدموا ولم يقم مقامهم أم المقصود بهم وجود صلاح لا فساد معه أم مقدار معين من الصلاح فإن كان الأول فهذا المقصود حاصل لغالب ولاة الأمور وقد حصل هذا المقصود على عهد أبي بكر وعمر وعثمان أعظم مما حصل على عهد علي وهو حاصل بخلفاء بني أمية وبني العباس أعظم مما هو حاصل بالاثنى عشر وهذا حاصل بملوك والترك والهند أكثر مما هو حاصل بالمنتظر الملقب صاحب الزمان فإنه ما من أمير يتولى ثم يقدر عدمه بلا نظير إلا كان الفساد في عدمه أعظم من الفساد في وجوده لكن قد يكون الصلاح في غيره أكثر منه كما قد قيل ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام وإن قيل بل المطلوب وجود صلاح لا فساد معه قيل فهذا لم يقع ولم يخلق الله ذلك ولا خلق أسبابا توجب ذلك لا محالة فمن أوجب ذلك وأوجب ملزوماته على الله كان إما مكابرا لعقله وإما ذاما لربه وخلق ما يمكن معه وجود ذلك لا يحصل به ذلك إن لم يخلق مايكون به ذلك
(6/282)
ومثل هذا يقال في أفعال العباد لكن القول في المعصوم أشد لأن مصلحته تتوقف على أسباب خارجة عن قدرته بل عن قدرة الله عند هؤلاء الذين هم معتزلة رافضة فإيجاب ذلك على الله أفسد من إيجاب خلق مصلحة كل عبد له الوجه الحادي عشر أن يقال قوله لو لم يكن الإمام معصوما لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فيقال له لم لا يجوز أن يكون إذا أخطأ الإمام كان في الأمة من ينبهه على الخطأ بحيث لا يحصل اتفاق المجموع على الخطأ لكن إذا أخطأ بعض الأمة نبهه الإمام أو نائبه أو غيره وإن أخطأ الإمام أو نائبه نبهه آخر كذلك وتكون العصمة ثابتة للمجموع لا لكل واحد من الأفراد كما يقوله أهل الجماعة وهذا كما أن كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ وربما جاز عليه تعمد الكذب لكن المجموع لا يجوز عليهم ذلك في العادة وكذلك الناظرون إلى الهلال أو غيره من الأشياء الدقيقة قد يجوز الغلط على الواحد منهم ولا يجوز على العدد الكثير وكذلك الناظرون في الحساب والهندسة ويجوز على الواحد منهم الغلط في مسألة أو مسألتين فأما إذا كثر أهل المعرفة بذلك امتنع في العادة غلطهم
(6/283)
ومن المعلوم أن ثبوت العصمة لقوم اتفقت كلمتهم أقرب إلى العقل والوجود من ثبوتها لواحد فإن كانت العصمة لا تمكن للعدد الكثير في حال اجتماعهم على الشىء المعين فأن لا تمكن للواحد أولى وإن أمكنت للواحد مفردا فلأن تمكن له ولأمثاله مجتمعين بطريق الأولى والأحرى فعلم أن اثبات العصمة للمجموع أولى من إثباتها للواحد وبهذه العصمة يحصل المقصود المطلوب من عصمة الإمام فلا تتعين عصمة الإمام ومن جهل الرافضة إنهم يوجبون عصمة واحد من المسلمين ويجوزون على مجموع المسلمين الخطأ إذا لم يكن فيهم واحد معصوم والمعقول الصريح يشهد أن العلماء الكثيرين مع اختلاف اجتهاداتهم إذا اتفقوا على قول كان أولى بالصواب من واحد وأنه إذا أمكن حصول العلم بخبر واحد فحصوله بالأخبار المتواترة أولى ومما يبين ذلك أن الإمام شريك الناس في المصالح العامة إذ كان هو وحده لا يقدر أن يفعلها إلا أن يشترك هو وهم فيها فلا يمكنه أن يقيم الحدود ويستوفى الحقوق ولا يوفيها ولا يجاهد عدوا إلا أن يعينوه بل لا يمكنه أن يصلي بهم جمعة ولا جماعة إن لم يصلوا معه ولا يمكن أن يفعلوا ما يأمرهم به إلا بقواهم وإرادتهم فإذا كانوا مشاركين
(6/284)
له في الفعل والقدرة لا ينفرد عنهم بذلك فكذلك العلم والرأي لا يجب أن ينفرد به بل يشاركهم فيه فيعاونهم ويعاونونه وكما أن قدرته تعجز إلا بمعاونتهم فكذلك علمه يعجز إلا بمعاونتهم الوجه الثاني عشر أن يقال العلم الديني الذي يحتاج إليه الأئمة والأمة نوعان علم كلي كإيجاب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة والحج وتحريم الزنا والسرقة والخمر ونحو ذلك وعلم جزئي كوجوب الزكاة على هذا ووجوب إقامة الحد على هذا ونحو ذلك فأما الأول فالشريعة مستقلة به لا تحتاج فيه إلى الإمام فإن النبي إما أن يكون قد نص على كليات الشريعة التي لا بد منها أو ترك منها ما يحتاج إلى القياس فإن كان الأول ثبت المقصود وإن كان الثاني فذلك القدر يحصل بالقياس وإن قيل بل ترك فيها مالا يعلم بنصه ولا بالقياس بل بمجرد قول المعصوم كان هذا المعصوم شريكا في النبوة لم يكن نائبا فإنه إذا
(6/285)
كان يوجب ويحرم من غير إسناد إلى نصوص النبي كان مستقلا لم يكن متبعا له وهذا لا يكون إلا نبيا فأما من لا يكون إلا خليفة لنبي فلا يستقل دونه وأيضا فالقياس إن كان حجة جاز إحالة الناس عليه وإن لم يكن حجة وجب أن ينص النبي على الكليات وأيضا فقد قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (سورة المائدة). وهذا نص في أن الدين كامل لا يحتاج معه إلى غيره والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال منهم من يقول النصوص قد انتظمت جميع كليات الشريعة فلا حاجة إلى القياس بل لا يجوز القياس ومنهم من يقول بل كثير من الحوادث لا يتناولها النصوص فالحاجة داعية إلى القياس ومن هؤلاء من قد يدعي أن أكثر الحوادث كذلك وهذا سرف منهم ومنهم من يقول بل النصوص تناولت الحوادث بطرق جلية أو خفية فمن الناس من لا يفهم تلك الأدلة أو لا يبلغه النص فيحتاج إلى القياس وإن كانت الحوادث قد تناولها النص أو يقول إن كل واحد من عموم النص القطعي والقياس المعنوي حجة وطريق يسلك السالك
(6/286)
إليه ما أمكنه وهما متفقان لا يتناقضان إلا لفساد أحدهما وهذا القول أقرب من غيره وأما الجزئيات فهذه لا يمكن النص على أعيانها بل لا بد فيها من الاجتهاد المسمى بتحقيق المناط كما أن الشارع لا يمكن أن ينص لكل مصل على جهة القبلة في حقه ولكل حاكم على عدالة كل شاهد وأمثال ذلك وإذا كان كذلك فإن ادعوا عصمة الإمام في الجزئيات فهذه مكابرة ولا يدعيها أحد فإن عليا رضي الله عنه كان يولى من تبين له خيانته وعجزه وغير ذلك وقد قطع رجلا بشهادة شاهدين ثم قالا أخطأنا فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ففى الصحيحين عنه أنه قال إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد ادعى قوم من أهل الخير على ناس من أهل الشر يقال لهم
(6/287)
بنو أبيرق أنهم سرقوا لهم طعاما ودروعا فجاء قوم فبرأوا أولئك المتهمين فظن النبي صلى الله عليه وسلم صدق أولئك المبرئين لهم حتى أنزل الله تعالى عليه إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما الآيات (سورة النساء). وبالجملة الأمور نوعان كلية عامة وجزئية خاصة فأما الجزئيات الخاصة كالجزئى الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه مثل ميراث هذا الميت وعدل هذا الشاهد ونفقة هذه الزوجة ووقوع الطلاق بهذا الزوج وإقامة الحد على هذا المفسد وأمثال ذلك فهذا مما لا يمكن لا نبيا ولا إماما ولا أحدا من الخلق أن ينص على كل فرد فرد منه لأن أفعال بني آدم وأعيانهم يعجز عن معرفة أعيانها الجزئية علم واحد من البشر وعبارته لا يمكن بشر أن يعلم ذلك كله بخطاب الله له وإنما الغاية الممكنة ذكر الأمور الكلية العامة كما قال صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم فالإمام لايمكنه الأمر والنهي لجميع رعيته إلا بالقضايا الكلية العامة وكذلك إذا ولى نائبا لا يمكنه أن يعهد إليه إلا بقواعد كلية عامة ثم النظر في دخول الأعيان تحت تلك الكليات أو دخول نوع خاص تحت أعم منه لا بد فيه من نظر المتولى واجتهاده وقد يصيب تارة ويخطىء أخرى فإن اشترط عصمة كل واحد اشترط عصمة النواب في تلك الأعيان وهذا منتف بالضرورة واتفاق العقلاء وإن اكتفى بالكليات فالنبي يمكنه أن ينص على الكليات كما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ ذكر ما يحرم من النساء وما يحل فجميع أقارب الرجل من النساء حرام عليه إلا بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته كما ذكر هؤلاء الأربع في (سورة الأحزاب). وكذلك في الأشربة حرم كل مسكر دون مالا يسكر وأمثال ذلك بل قد حصر المحرمات في قوله قل إنما حرم ربي الفواحش
(6/288)
ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (سورة الأعراف). فكل ما حرم تحريما مطلقا عاما لا يباح في حال فيباح في أخرى كالدم والميتة ولحم الخنزير وجميع الواجبات في قوله قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين (سورة الأعراف). الآية فالواجب كله محصور في حق الله وحق عبادة وحق الله على عبادة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقوق عباده العدل كما في الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم على الله أن لا يعذبهم ثم إنه سبحانه فصل أنواع الفواحش والبغي وأنواع حقوق العباد في مواضع أخر ففصل المواريث وبين من يستحق الإرث ممن لا يستحقه وما يستحق الوارث بالفرض والتعصيب وبين ما يحل من المناكح وما يحرم وغير ذلك فإن كان يقدر على نصوص كلية تتناول الأنواع فالرسول أحق بهذا من الإمام وإن قيل لا يمكن فالإمام أعجز عن هذا من الرسول
(6/289)
والمحرمات المعينة لا سبيل إلى النص عليها لا لرسول الله ولا إمام بل لا بد فيها من الاجتهاد والمجتهد فيها يصيب تارة ويخطىء أخرى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وكما قال لسعد بن معاذ وكان حكما في قضية معينة يؤمر فيها الحاكم أن يختار الأصلح فلما حكم بقتل المقاتلة وسبي الذرية من بني قريظة قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة وكما كان يقول لمن يرسله أميرا على سرية أو جيش إذا حاصرت أهل الحصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك والأحاديث الثلاثة ثابتة في الصحيح فتبين بذلك أنه لا مصلحة في عصمة الإمام إلا وهي حاصلة بعصمة الرسول ولله الحمد والمنة والواقع يوافق هذا وإنا رأينا كل من كان إلى اتباع السنة والحديث واتباع الصحابة أقرب كانت مصلحتهم في الدنيا والدين أكمل وكل من كان أبعد من ذلك كان بالعكس ولما كانت الشيعة أبعد الناس عن اتباع المعصوم الذي لا ريب في
(6/290)
عصمته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد الذي فرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والنور والظلمة وأهل السعادة وأهل الشقاوة وجعله القاسم الذي قسم به عباده إلى شقى وسعيد فأهل السعادة من آمن به وأهل الشقاوة من كذب به وتولى عن طاعته فالشيعة القائلون بالإمام المعصوم ونحوهم من أبعد الطوائف عن اتباع هذا المعصوم فلا جرم تجدهم من أبعد الناس عن مصلحة دينهم ودنياهم حتى يوجد ممن هو تحت سياسة أظلم الملوك وأضلهم من هو أحسن حالا منهم ولا يكونون في خير إلا تحت سياسة من ليس منهم ولهذا كانوا يشبهون اليهود في أحوال كثيرة منها هذا أنه ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وضربت عليهم المسكنة فلا يعيشون في الأرض إلا بأن يتمسكوا بحبل بعض ولاة الأمور الذي ليس بمعصوم ولا بد لهم من نسبة إلى الإسلام يظهرون بها خلاف ما في قلوبهم فما جاء به الكتاب والسنة يشهد له ما يرينا الله من الآيات في الآفاق وفي أنفسنا قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (سورة فصلت).
(6/291)
ومما أرانا أن رأينا آثار سبيل المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم أصلح في دينهم ودنياهم من سبيل الإمام المعصوم بزعمهم وإن زعموا أنهم متبعون للرسول فهم من أجهل الناس بأقواله وأفعاله وأحواله وهذا الذي ذكرته كل من استقرأة في العالم وجده وقد حدثني الثقات الذين لهم خبرة بالبلاد الذين خبروا حال أهلها بما يبين ذلك ومثال ذلك أنه يوجد في الحجاز وسواحل الشام من الرافضة من ينتحلون المعصوم وقد رأينا حال من كان بسواحل الشام مثل جبل كسروان وغيره وبلغنا أخبار غيرهم فما رأينا في العالم طائفة أسوأ من حالهم في الدين والدنيا ورأينا الذين هم تحت سياسة الملوك على الإطلاق خيرا من حالهم فمن كان تحت سياسة ملوك الكفار حالهم في الدين والدنيا أحسن من أحوال ملاحدتهم كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم من الغلاة الذين يدعون الإلهية والنبوة في غير الرسول أو يتخلون عن هذا كله ويعتقدون دين الإسلام كالإمامية والزيدية فكل طائفة تحت سياسة ملوك السنة ولو أن الملك كان أظلم الملوك في الدين والدنيا حاله خير من حالهم فإن الأمر الذي يشترك
(6/292)
فيه أهل السنة ويمتازون به عن الرافضة تقوم به مصالح المدن وأهلها على بعض الوجوه وأما الأمر الذي يشترك فيه الرافضة ويمتازون عن به أهل السنة فلا تقوم به مصلحة مدينة واحدة ولا قربة ولا تجد أهل مدينة ولا قرية يغلب عليهم الرفض إلا ولا بد لهم من الاستعانة بغيرهم إما من أهل السنة وإما من الكفار وإلا فالرافضة وحدهم لا يقوم أمرهم قط كما أن اليهود وحدهم لا يقوم أمرهم قط بخلاف أهل السنة فإن مدائن كثيرة من أهل السنة يقومون بدينهم ودنياهم لا يحوجهم الله سبحانه وتعالى إلى كافر ولا رافضي والخلفاء الثلاثة فتحوا الأمصار وأظهروا الدين في مشارق الأرض ومغاربها ولم يكن معهم رافضي بل بنو أمية بعدهم مع إنحراف كثير منهم عن علي وسب بعضهم له غلبوا على مدائن الإسلام كلها من مشرق الأرض إلى مغربها وكان الإسلام في زمنهم أعز منه فيما بعد ذلك بكثير ولم ينتظم بعد انقراض دولتهم العامة لما جاءتهم الدولة العباسية صار إلى الغرب عبد الرحمن بن هشام الداخل إلى المغرب الذي يسمى صقر قريش واستولى هو ومن بعده على بلاد الغرب وأظهروا الإسلام فيها
(6/293)
وأقاموه وقمعوا من يليهم من الكفار وكانت لهم من السياسة في الدين والدنيا ما هو معروف عند الناس وكانوا من أبعد الناس عن مذاهب أهل العراق فضلا عن أقوال الشيعة وإنما كانوا على مذهب أهل المدينة وكان أهل العراق على مذهب الأوزاعي وأهل الشام وكانوا يعظمون مذهب أهل الحديث وينصره بعضهم في كثير من الأمور وهم من أبعد الناس عن مذهب الشيعة وكان فيهم من الهاشميين الحسينيين كثير ومنهم من صار من ولاة الأمور على مذهب أهل السنة والجماعة ويقال إن فيهم من كان يسكت ممن علي فلا يربع به في الخلافة لأن الأمة لم تجتمع عليه ولا يسبونه كما كان بعض الشيعة يسبه وقد صنف بعض علماء الغرب كتابا كبيرا في الفتوح فذكر فتوح النبي صلى الله عليه وسلم وفتوح الخلفاء بعده أبي بكر وعمر وعثمان ولم يذكر عليا مع حبه له وموالاته له لأنه لم يكن في زمنه فتوح وعلماء السنة كلهم مالك وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وغير هؤلاء كلهم يحب الخلفاء ويتولاهم ويعتقد إمامتهم وينكر على من يذكر أحدا منهم بسوء فلا يستجيزون ذكر علي ولا عثمان ولا غيرهما بما يقوله الرافضة والخوارج
(6/294)
وكان صار إلى المغرب طوائف من الخوارج والروافض كما كان هؤلاء في المشرق وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام ولكن قواعد هذه المدائن لا تستمر على شيء من هذه المذاهب بل إذا ظهر فيها شيء من هذه المذاهب مدة أقام الله ما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق الذي يظهر على باطلهم وبنو عبيد يتظاهرون بالتشيع واستولوا من المغرب على ما استولوا عليه وبنوا المهدية ثم جاءوا إلى مصر واستولوا عليها مائتي سنة واستولوا على الحجاز والشام نحو مائة سنة وملكوا بغداد في فتنة البساسيرى وانضم إليهم الملاحدة في شرق الأرض وغربها وأهل البدع والأهواء تحب ذلك منهم ومع هذا فكانوا محتاجين إلى أهل السنة ومحتاجين إلى مصانعتهم والتقية لهم ولهذا رأس مال الرافضة التقية وهي أن يظهر خلاف ما يبطن كما يفعل المنافق وقد كان المسلمون في أول الإسلام في غاية الضعف والقلة وهم يظهرون دينهم لا يكتمونه والرافضة يزعمون أنهم يعملون بهذه الآية قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه (سورة آل عمران). ويزعمون أنهم هم المؤمنون وسائر أهل القبلة كفار مع أن لهم في تكفير الجمهور قولين لكن قد رأيت غير واحد من أئمتهم يصرح في كتبه
(6/295)
وفتاويه بكفر الجمهور وأنهم مرتدون ودارهم دار ردة يحكم بنجاسة مائعها وأن من أنتقل إلى قول الجمهور منهم ثم تاب لم تقبل توبته لأن المرتد الذي يولد على الفطرة لا يقبل منه الرجوع إلى الإسلام وهذا في المرتد عن الإسلام قول لبعض السلف وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا لأن المرتد من كان كافرا فأسلم ثم رجع إلى الكفر بخلاف من يولد مسلما فجعل هؤلاء هذا في سائر الأمة فهم عندهم كفار فمن صار منهم إلى مذهبهم كان مرتدا وهذه الآية حجة عليهم فإن هذه الآية خوطب بها أولا من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين فقيل لهم لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين (سورة آل عمران). وهذه الآية مدنية باتفاق العلماء فإن (سورة آل عمران). كلها مدنية وكذلك البقرة والنساء والمائدة ومعلوم أن المؤمنين بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد منهم يكتم إيمانه ولا يظهر للكفار أنه منهم كما يفعله الرافضة مع الجمهور وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت بسبب أن بعض المسلمين أراد إظهار مودة الكفار فنهوا عن ذلك وهم لا يظهرون المودة للجمهور وفي رواية الضحاك عن ابن عباس أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من
(6/296)
اليهود فقال يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية وفي رواية أبي صالح أن عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر على النبي صلى الله عليه وسلم فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم وروى عن ابن عباس أن قوما من اليهود كانوا يباطنون قوما من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك وقال اجتنبوا هؤلاء فأبوا فنزلت هذه الآية وعن مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم الله عن ذلك والرافضة من أعظم الناس إظهارا لمودة أهل السنة ولا يظهر أحدهم دينه حتى إنهم يحفظون من فضائل الصحابة والقصائد التي في مدحهم وهجاء الرافضة ما يتوددون به إلى أهل السنة ولا يظهر أحدهما دينه كما كان المؤمنون يظهرون دينهم للمشركين وأهل الكتاب فعلم أنهم من أبعد الناس عن العمل بهذه الآية وأما قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة (سورة آل عمران). قال مجاهد إلا مصانعة والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي فإن هذا نفاق ولكن أفعل ما أقدر عليه
(6/297)
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وأمرأة فرعون وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل كان يكتم إيمانه وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإن هذا الإكراه لا يكون
(6/298)
عاما من جمهور بني آدم بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا في بلاد الكفر ولا أحد يكرهه على كلمه الكفر ولا يقولها ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل يكتم ما في قلبه وفرق بين الكذب وبين الكتمان فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار كمؤمن آل فرعون وأما الذي يتكلم بالكفر فلا يعذره إلا إذا أكره والمنافق الكذاب لا يعذر بحال ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح وإرادة الخير بهم وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ومع هذا كان يعظم موسى ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله (سورة غافر). وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة وغش الناس وإرادة السوء بهم فهو لا يألوهم خبالا ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم وهو ممقوت عند من لا يعرفه وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه
(6/299)
والمؤمن معه عزة الإيمان فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ثم هم يدعون الإيمان دون الناس والذلة فيهم أكثر منها في سائر الطوائف من المسلمين وقد قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (سورة غافر). وهم أبعد طوائف أهل الإسلام عن النصرة وأولاهم بالخذلان فعلم أنهم أقرب طوائف أهل الإسلام إلى النفاق وأبعدهم عن الإيمان وآية ذلك أن المنافقين حقيقة الذين ليس فيهم إيمان من الملاحدة يميلون إلى الرافضة والرافضة تميل إليهم أكثر من سائر الطوائف وقد قال صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وقال ابن مسعود رضي الله عنه اعتبروا الناس بأخدانهم فعلم أن بين أرواح الرافضة وأرواح المنافقين اتفاقا محضا قدرا مشتركا وتشابها وهذا لما في الرافضة فإن النفاق شعب كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أربع
(6/300)
من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي رواية لمسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم والقرآن يشهد لهذا فإن الله وصف المنافقين في غير موضع بالكذب والغدر والخيانة وهذه الخصال لا توجد في طائفة أكثر منها في الرافضة ولا أبعد منها عن أهل السنة المحضة المتبعين للصحابة فهؤلاء أولى الناس بشعب الإيمان وأبعدهم عن شعب النفاق والرافضة أولى الناس بشعب النفاق وأبعدهم عن شعب الإيمان وسائر الطوائف قربهم إلى الإيمان وبعدهم عن النفاق بحسب سنتهم وبدعتهم وهذا كله مما يبين أن القوم أبعد الطوائف عن اتباع المعصوم الذي لا شك في عصمته وهو خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق كما قد ذكر ذلك أهل العلم
(6/301)
ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقا زنديقا أراد فساد دين الإسلام وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع بولص بالنصارى لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص لضعف دين النصارى وعقلهم فإن المسيح صلى الله عليه وسلم رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علما وعملا فلما ابتدع بولص ما ابتدعه من الغو في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ودخلت معهم ملوك فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك بعضهم وداهن الملوك بعضهم وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديارات وهذه الأمة ولله الحمد لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على أهل الحق ولكن يضل من يتبعه على ضلاله وأيضا فنواب المعصوم الذي يدعونه غير معصومين في الجزئيات وإذا كان كذلك فيقال إذا كانت العصمة في الجزئيات غير واقعة وإنما الممكن العصمة في الكليات فالله تعالى قادر أن ينص على الكليات بحيث لا يحتاج في معرفتها إلى الإمام ولا غيره وقادر أيضا أن يجعل نص النبي أكمل من نص الإمام وحينئذ فلا يحتاج إلى عصمة الإمام لا في الكليات ولا في الجزئيات
(6/302)
الوجه الثالث عشر أن يقال العصمة الثابتة للإمام أهي فعله للطاعات باختياره وتركه للمعاصي باختياره مع أن الله تعالى عندكم لا يخلق اختياره أم هي خلق الإرادة له أم سلبة القدرة على المعصية فإن قلتم بالأول وعندكم أن الله لا يخلق اختيار الفاعلين لزمكم أن الله لا يقدر على خلق معصوم وإن قلتم بالثاني بطل أصلكم الذي ذهبتم إليه في القدرة وإن قلتم سلب القدرة على المعصية كان المعصوم عندكم هو العاجز عن الذنب كما يعجز الأعمى عن نقط المصاحف والمقعد عن المشي والعاجز عن الشيء لا ينهى عنه ولا يؤمر به وإذا لم يؤمر وينه لم يستحق ثوابا على الطاعة فيكون المعصوم عندكم لا ثواب له على ترك معصية بل ولا على فعل طاعة وهذا غاية النقص وحينئذ فأي مسلم فرض كان خيرا من هذا المعصوم إذا أذنب ثم تاب لأنه بالتوبة محيت سيئاته بل بدل بكل سيئة حسنة مع حسناته المتقدمة فكان ثواب المكلفين خيرا من المعصوم عند هؤلاء وهذا يناقض قولهم غاية المناقضة
(6/303)
وأما المقدمة الثانية فلو قدر أنه لا بد من معصوم فقولهم ليس بمعصوم غير علي اتفاقا ممنوع بل كثير من الناس من عبادهم وصوفيتهم وجندهم وعامتهم يعتقدون في كثير من شيوخهم من العصمة من جنس ما تعتقده الرافضة في الاثنى عشر وربما عبروا هو ذلك بقولهم الشيخ محفوظ وإذا كانوا يعتقدون هذا في شيوخهم مع اعتقادهم أن الصحابة أفضل منهم فاعتقادهم ذلك في الخلفاء من الصحابة أولى وكثير من الناس فيهم من الغلو في شيوخهم من جنس ما في الشيعة من الغلو في الأئمة وأيضا فالإسماعيلية يعتقدون عصمة أئمتهم وهم غير الاثنى عشر وأيضا فكثير من أتباع بني أمية أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء والله أمرهم بذلك وكلامهم في ذلك معروف كثير وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن العزيز فجاء إليه جماعة من شيوخهم فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أنه اذا ولى الله على الناس إماما تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات
(6/304)
ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقا وأن من أطاعه فقد أطاع الله ولهذا كان يضرب بهم المثل يقال طاعة شامية وحينئذ فهؤلاء يقولون إن إمامهم لا يأمرهم إلا بما أمرهم الله به وليس فيهم شيعة بل كثير منهم يبغض عليا ويسبه ومن كان اعتقاده أن كل ما يأمر الإمام به فإنه مما أمر الله به وأنه تجب طاعته وأن الله يثيبه على ذلك ويعاقبه على تركه لم يحتج مع ذلك إلى معصوم غير إمامه وحينئذ فالجواب من وجهين أحدهما أن يقال كل من هذه الطوائف إذا قيل لها إنه لا بد لها من إمام معصوم تقول يكفيني عصمة الإمام الذي ائتممت به لا احتاج إلى عصمة الأثنى عشر لا علي ولا غيره ويقول هذا شيخي وقدوتي وهذا يقول إمامي الأموي والإسماعيلي بل كثير من الناس يعتقدون أن من يطيع الملوك لا ذنب له في ذلك كائنا من كان ويتأولون قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (سورة النساء). فإن قيل هؤلاء لا يعتد بخلافهم قيل هؤلاء خير من الرافضة الإسماعيلية
(6/305)
وأيضا فإن أئمة هؤلاء وشيوخهم خير من معدوم لا ينتفع به بحال فهم بكل حال خير من الرافضة وأيضا فبطلت حجة الرافضة بقولهم لم تدع العصمة إلا في علي وأهل بيته فإن قيل لم يكن في الصحابة من يدعي العصمة لأبي بكر وعمر وعثمان قيل إن لم يكن فيهم من يدعي العصمة لعلي بطل قولكم وإن كان فيهم من يدعي العصمة لعلي لم يمتنع أن يكون فيهم من يدعي العصمة للثلاثة بل دعوى العصمة لهؤلاء أولى فإنا نعلم يقينا أن جمهور الصحابة كانوا يفضلون أبا بكر وعمر بل على نفسه كان يفضلهما عليه كما تواتر عنه وحينئذ فدعواهم عصمة هذين أولى من دعوى عصمة علي فإن قيل فهذا لم ينقل عنهم قيل لهم ولا نقل عن واحد منهم القول بعصمة علي ونحن لا نثبت عصمة لا هذا ولا هذا لكن نقول ما يمكن أحدا أن ينفي نقل أحد منهم بعصمة أحد الثلاثة مع دعواهم أنهم كانوا يقولون بعصمة علي فهذا الفرق لا يمكن أحدا أن يدعيه ولا ينقله عن واحد منهم وحينئذ فلا يعلم زمان أدعى فيه العصمة لعلي أو لأحد من الاثنى عشر
(6/306)
ولم يكن من ذلك الزمان من يدعي عصمة غيرهم فبطل أن يحتج بانتفاء عصمة الثلاثة ووقوع النزاع في عصمة علي الوجه الرابع عشر أن يقال إما أن يجب وجود المعصوم في كل زما أن لا يجب فإن لم يجب بطل قولهم وإن وجب لم نسلم على هذا التقدير أن عليا كان هو المعصوم دون الثلاثة بل إذا كان هذا القول حقا لزم أن يكون أبو بكر وعمر وعثمان معصومين فإن أهل السنة متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر وأنهما أحق بالعصمة من علي فإن كانت العصمة ممكنة فهي إليهما أقرب وإن كانت ممتنعة فهي عنه أبعد وليس أحد من أهل السنة يقول بجواز عصمة علي دون أبي بكر وعمر وهم لا يسلمون انتفاء العصمة عن الثلاثة إلا مع انتفائها عن علي فأما انتفاؤها عن الثلاثة دون علي فهذا ليس قول أحد من أهل السنة وهذه كنبوة موسى وعيسى فإن المسلمين لا يسلمون نبوة أحد من هذين إلا مع نبوة محمد وليس في المسلمين من يقر بنبوتهما منفردة عن نبوة محمد بل المسلمون متفقون على كفر من أقر بنبوة بعضهم دون بعض وأن من كفر بنبوة محمد وأقر بأحد هذين فهو أعظم كفرا ممن أقر بمحمد وكفر بأحد هذين وإذا قيل إن الإيمان بمحمد مستلزم للإيمان بهما وكذلك
(6/307)
الإيمان بهما مستلزم للإيمان بمحمد وهكذا نفى العصمة وثبوت الإيمان والتقوى وولاية الله فأهل السنة لا يقولون بإيمان علي وتقواه وولايته لله إلا مقرونا بإيمان الثلاثة وتقواهم وولايتهم لله ولا ينفون العصمة عنهم إلا مقرونا بنفيها عن علي ومعنى ذلك أن الفرق باطل عندهم وإذا قال الرافضى لهم الإيمان ثابت لعلي بالإجماع والعصمة منتفية عن الثلاثة بالإجماع كان كقول اليهودي نبوة موسى ثابتة بالإجماع أو قول النصراني الإلهية منتفية عن محمد بالإجماع والمسلم يقول نفى الإلهية عن محمد وموسى كنفيها عن المسيح فلا يمكن أن أنفيها عن موسى ومحمد وأسلم ثبوتها للمسيح وإذا قال النصراني اتفقنا على أن هؤلاء ليسوا آلهة وتنازعنا في النصراني أن الله لا بد أن يظهر له في صورة البشر ولم يدع ذلك إلا في المسيح كان كتقرير الرافضى أنه لا بد من إمام معصوم ولم يدع ذلك إلا لعلي ونحن نعلم بالاضطرار أنه ليس لعيسى مزية يستحق أن يكون بها إلها دون موسى ومحمد كما يعلم بالاضطرار أن عليا لم يكن له مزية يستحق أن يكون بها معصوما دون أبي بكر وعمر ومن أراد التفريق منعناه ذلك وقلنا لا نسلم إلا التسوية في الثبوت أو الانتفاء
(6/308)
وإذا قال أنتم تعتقدون انتفاء العصمة عن الثلاثة قلنا نعتقد انتفاء العصمة عن علي ونعتقد أن انتفاءها عنه أولى من انتفائها عن غيره وأنهم أحق بها منه إن كانت ممكنة فلا يمكن مع هذا أن يحتج علينا بقولنا وأيضا فنحن إنما نسلم انتفاء العصمة عن الثلاثة لاعتقادنا أن الله لم يخلق إماما معصوما فإن قدر أن الله خلق إماما معصوما فلا يشك أنهم أحق بالعصمة من كل من جاء بعدهم ونفينا لعصمتهم لاعتقادنا هذا التقدير وهنا جواب ثالث عن أصل الحجة وهو أن يقال من أين علمتم أن عليا معصوم ومن سواه ليس بمعصوم فإن قالوا بالإجماع على ثبوت عصمة علي وانتفاء عصمة غيره كما ذكروه من حجتهم قيل لهم إن لم يكن الإجماع حجة بطلت هذه الحجة وإن كان حجة في إثبات عصمة علي التي هي الأصل أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة من حفظ الشرع ونقله ولكن هؤلاء يحتجون بالإجماع ويردون كون الإجماع حجة فمن أين علموا أن عليا هو المعصوم دون من سواه فإن ادعوا التواتر عندهم عن النبي في عصمته كان القول في ذلك
(6/309)
كالقول في تواتر النص على إمامته وحينئذ فلا يكون لهم مستند آخر الجواب الرابع أن يقال الإجماع عندهم ليس بحجة إلا أن يكون قول المعصوم فيه فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور فإنه لا يعرف أنه معصوم إلا بقوله ولا يعرف أن قوله حجة إلا إذا عرف أنه معصوم فلا يثبت واحد منهما فعلم بطلان حجتهم على إثبات المعصوم وهذا يبين أن القوم ليس لهم مستند علمي أصلا فيما يقولون فإن الإجماع عندهم ليس بحجة بل لا يجوز عندهم أن تجتمع الأمة إلا إذا كان المعصوم فيهم فإن قول المعصوم وحده هو الحجة فيحتاجون حينئذ إلى العلم بالشخص المستقل حتى يعلم أن قوله حجة فإذا احتجوا بالإجماع لم تكن الحجة عندهم في الإجماع إلا قول المعصوم فيصير هذا مصادرة على المطلوب ويكون حقيقة قولهم فلان معصوم لأنه قال إني معصوم فغذا قيل لهم بم عرفتم أنه معصوم وأن من سواه ليسوا معصومين قالوا بأنه قال أنا معصوم ومن سواى ليس بمعصوم وهذا مما يمكن كل أحد أن يقوله فلا يكون حجة وصار هذا كقول القائل أنا صادق في كل ما أقوله فإن لم يعلم صدقه بغير قوله لم يعلم صدقه فيما يقوله
(6/310)
وحجتهم هذه من جنس حجة إخوانهم الملاحدة والإسماعيلية فإنهم يدعون إلى الإمام المعلم المعصوم ويقولون إن طرق العلم من الأدلة السمعية والعقلية لا يعرف صحتها إلا بتعليم المعلم المعصوم وكأنهم أخذوا هذا الأصل الفاسد عن إخوانهم الرافضة فلما ادعت الرافضة أنه لا بد من إمام معصوم في حفظ الشريعة وأقرت بالنبوة ادعت الإسماعيلية ما هو أبلغ فقالوا لا بد في جميع العلوم السمعية والعقلية من المعصوم وإذا كان هؤلاء ملاحدة في الباطن يقرون بالنبوات في الظاهر والشرائع ويدعون أن لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه الناس منها ويقولون بسقوط العبادات وحل المحرمات للخواص الواصلين فإن لهم طبقات في الدعوة ليس هذا موضعها وإنما المقصود أن كلتا الطائفتين تدعي الحاجة إلى معصوم غير الرسول لكن الاثنى عشرية يجعلون المعصوم أحد الأثنى عشر وتجعل الحاجة إليه في حفظ الشريعة وتبليغها وهؤلاء ملاحدة كفار
(6/311)
والإمامية في الجملة يعتقدون صحة الإسلام في الباطن إلا من كان منهم ملحدا فإن كثير من شيوخ الشيعة هو في الباطن على غير اعتقادهم إما متفلسف ملحد وإما غير ذلك ومن الناس من يقول إن صاحب هذا الكتاب ليس هو في الباطن على قولهم وإنما احتاج أن يتظاهر بهذا المذهب لما له في ذلك من المصلحة الدنيوية وهذا يقوله غير واحد ممن يحب صاحب هذا الكتاب ويعظمه والأشبه أنه وأمثاله حائرون بين أقوال الفلاسفة وأقوال سلفهم المتكلمين ومباحثهم تدل في كتبهم على الحيرة والاضطراب ولهذا صاحب هذا الكتاب يعظم الملاحدة كالطوسي وابن سينا وأمثالهما ويعظم شيوخ الإمامية ولهذا كثير من الإمامية تذمه وتسبه وتقول إنه ليس على طريق الإمامية وهكذا أهل كل دين تجد فضلاءهم في الغالب إما أن يدخلوا في دين الإسلام الحق وإما أن يصيروا ملاحدة مثل كثير من علماء النصارى هم في الباطن زنادقة ملاحدة وفيهم من هو في الباطن يميل إلى دين الإسلام وذلك لما ظهر لهم من فساد دين النصارى فإذا قدر أن الحاجة إلى المعصوم ثابتة فالكلام في تعينه فإذا طولب الإسماعيلي بتعيين معصومه وما الدليل على أن هذا هو
(6/312)
المعصوم دون غيره لم يأت بحجة أصلا وتناقضت أقواله وكذلك الرافضي أخذ من القدرية كلامهم في وجوب رعاية الأصلح وبني عليه أنه لا بد من معصوم وهي أقوال فاسدة ولكن إذا طولب بتعيينه لم يكن له حجة أصلا إلا مجرد قول من لم تثبت بعد عصمته إني معصوم فإن قيل إذا ثبت بالعقل أنه لا بد من معصوم فإذا قال علي أني معصوم لزم أن يكون هو المعصوم لأنه لم يدع هذا غيره قيل لهم لو قدر ثبوت معصوم في الوجود لم يكن مجرد قول شخص أنا معصوم مقبولا لإمكان كون غيره هو المعصوم وإن لم نعلم نحن دعواه وإن لم يظهر دعواه بل يجوز أن يسكت عن دعوى العصمة وإظهارها على أصلهم كما جاز للمنتظر أن يخفى نفسه خوفا من الظلمة وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يكون في الأرض معصوم غير الاثنى عشر وإن لم يظهر ذلك ولم نعلمه كما أدعوا مثل ذلك في المنتظر فلم لم يبق معهم دليل على التعيين لا إجماع ولا دعوىومع هذا كله بتقدير دعوى على العصمة فإنما يقبل هذا لو كان علي قال ذلك وحاشاه من ذلك وهذا جواب خامس وهو أنه إذا لم تكن الحجة على العصمة إلا قول المعصوم إني معصوم فنحن راضون بقول علي في هذه المسألة فلا يمكن أحد أن ينقل عنه بإسناد ثابت أنه قال ذلك بل النقول المتواترة عنه تنفى اعتقاده في نفسه العصمة وهذا جواب سادس فإن إقراره لقضاته على أن يحكموا بخلاف رأيه دليل على أنه لم يعد نفسه معصوما وقد ثبت بالإسناد الصحيح أن عليا قال اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن وقد رأيت الآن أن يبعن فقال له عبيدة السلماني قاضيه رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وكان شريح يحكم باجتهاده ولا يراجعه ولا يشاوره وعلي يقره على ذلك وكان يقول اقضوا كما كنتم تقضون وكان يفتي ويحكم باجتهاده ثم يرجع عن ذلك باجتهاده كأمثاله من الصحابة وهذه أقواله المنقولة عنه بالأسانيد الصحاح موجودة
(6/313)
ثم قد وجد من أقواله التي تخالف النصوص أكثر مما وجد من أقوال عمر وعثمان وقد جمع الشافعي من ذلك كتابا فيه خلاف علي وابن مسعود لما كان أهل العراق يناظرونه في المسألة فيقولون قال علي وابن مسعود ويحتجون بقولهما فجمع الشافعي كتابا ذكر فيه ما تركوه من قول علي وابن مسعود وجمع بعده محمد بن نصر المروزي كتابا أكبر من ذلك بكثير ذكره في مسألة رفع اليدين في الصلاة لما احتج عليه فيها بقول ابن مسعود وهذا كلام مع علماء يحتجون بالأدلة الشرعية من أهل الكوفة كأصحاب أبي حنيفة محمد بن الحسن وأمثاله فإن أكثر مناظرة الشافعي كانت مع محمد بن الحسن وأصحابه لم يدرك أبا يوسف ولا ناظره ولا سمع منه بل توفي أبو يوسف قبل أن يدخل الشافعي العراق توفي سنة ثلاث وثمانين وقدم الشافعي العراق سنة خمس وثمانين ولهذا إنما يذكر في كتبه أقوال أبي يوسف عن محمد بن الحسن عنه
(6/314)
وهؤلاء الرافضة في احتجاجهم على أن عليا معصوم بكون غيرهم ينفي العصمة عن غيرة احتجاجا لقولهم بقولهم وإثبات الجهل بالجهل ومن توابع ذلك ما رأيته في كتب شيوخهم أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين وكان أحد القولين يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله فالصواب عندهم القول الذى لا يعرف قائله قالوا لأن قائله إذا لم يعرف كان من أقوال المعصوم فهل هذا إلا من أعظم الجهل ومن أين يعرف أن القول الآخر وإن لم يعرف قائله إنما قاله المعصوم ولو قدر وجوده أيضا لم يعرف أنه قاله كما لم يعرف أنه قاله الآخر ولم لا يجوز أن يكون المعصوم قد قال القول الذي يعوف وأن غيره قاله كما أنه يقول أقوالا كثيرة يوافق فيها غيره وأن القول الآخر قد قاله من لا يدري ما يقول بل قاله شيطان من شياطين الجن والإنس فهم يجعلون عدم العلم بالقول وصحته دليلا على صحته كما قالوا هنا عدم القول بعصمة غيره دليل على عصمته وكما جعلوا عدم العلم بالقائل دليلا على أنه قول المعصوم وهذا حال من أعرض عن نور السنة التي بعث الله بها رسوله فإنه يقع في ظلمات البدع ظلمات بعضها فوق بعضفصل قال الرافضى الوجه الثاني أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه لما بينا من بطلان الاختيار وأنه ليس بعض المختارين لبعض الأمة أولى من البعض المختار الآخر ولادائه إلى التنازع والتشاجر والتشاجر فيؤدى نصب الإمام إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبنا نصبه وغير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع فتعين أن يكون هو الإمام والجواب عن هذا بمنع المقدمتين أيضا لكن النزاع هنا في الثانية أظهر وأبين فإنه قد ذهب طوائف كثيرة من السلف والخلف من أهل الحديث والفقه والكلام إلى النص على أبي بكر وذهبت طائفة من الرافضة إلى النص على العباس
(6/315)
وحينئذ فقوله غير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع كذب متيقن فإنه لا إجماع على نفي النص عن غير علي وهذا الرافضي المصنف وإن كان من أفضل بني جنسه ومن المبرزين على طائفته فلا ريب أن الطائفة كلها جهال وإلا فمن له معرفة بمقالات الناس كيف يدعى مثل هذا الإجماع ونجيب هنا بجواب ثالث مركب وهو أن نقول لا يخلوا إما أن يعتبر النص في الإمامة وإما أن لا يعتبر فإن اعتبر منعنا المقدمة الثانية إن قلنا إن النص ثابت لأبي بكر وإن لم يعتبر بطلت المقدمة الأولى وهنا جواب رابع وهو أن نقول الإجماع عندكم ليس بحجة وإنما الحجة قول المعصوم فيعود الأمر إلى إثبات النص بقول الذي يدعى له العصمة ولم يثبت بعد لا نص ولا عصمة بل يكون قول القائل لم يعرف صحة قوله أنا المعصوم وأنا المنصوص على إمامتي حجة وهذا من أبلغ الجهل وهذه الحجة من جنس التي قبلها وجواب خامس وهو أن يقال ما تعنى بقولك يجب أن يكون منصوصا عليه لأنه لا بد من أن يقول هذا هو الخليفة من بعدي
(6/316)
فاسمعوا له وأطيعوا فيكون الخليفة بمجرد هذا النص أم لا يصير هذا إماما حتى تعقد له الإمامة مع ذلك فإن قلت بالأول قيل لا نسلم وجوب النص بهذا الاعتبار والزيدية مع الجماعة تنكر هذا النص وهم من الشيعة الذين لا يتهمون على علي وأما قوله إنه إذا لم يكن كذلك أدى إلى التنازع والتشاجر فيقال النصوص التي تدل على استحقاقه الإمامة وتعلم دلالتها بالنظر والاستدلال يحصل بها المقصود في الأحكام فليست كل الأحكام منصوصة نصا جليا يستوي في فهمه العام والخاص فإذا كانت الأمور الكلية التي تجب معرفتها في كل زمان يكتفي فيها بهذا النص فلأن يكتفي بذلك في القضية الجزئية وهو تولية إمام معين بطريق الأولى والأحرى فإنا قد بينا أن الكليات يمكن نص الأنبياء عليها بخلاف الجزئيات وأيضا فيه إذا كانت الأدلة ظاهرة في أن بعض الجماعة أحق بها من غيره استغنى بذلك عن استخلافه والدلائل الدالة على أن أبا بكر كان أحقهم بالإمامة ظاهرة بينة لمينازع فيها أحد من الصحابة ومن نازع من الأنصار لم ينازع في أن أبا بكر أفضل المهاجرين وإنما طلب أن يولى واحد من الأنصار مع واحد من المهاجرين فإن قيل إن كان لهم هوى منعوا ذلك بدلالة النصوص قيل وإذا كان لهم هوى عصوا تلك النصوص وأعرضوا عنها كما ادعيتم أنتم عليهم فمع قصدهم القصد الحق يحصل المقصود بهذا وبهذا ومع العناد لا ينفع هذا ولا هذا وجواب سادس أن يقال النص على الأحكام على وجهين نص كلي عام يتناول أعيانها ونص على الجزئيات فإذا قلتم لا بد من النص على الإمام إن أردتم النص على العام الكلي على ما يشترط للإمام وما يجب عليه وما يجب له كالنص على الحكام والمفتين والشهود وأئمة الصلاة والمؤذنين وأمراء الجهاد وغير هؤلاء ممن يتقلد شيئا من أمور المسلمين فهذه النصوص ثابتة ولله الحمد كثيره كما هي ثابتة على سائر الأحكام وإن قلتم لا بد من نص على أعيان من يتولى
(6/317)
قيل قد تقدم أن النص على جزئيات الأحكام لا يجب بل ولا يمكن والإمامة حكم من الأحكام فإن النص على كل من يتولى على المسلمين ولاية ما إلى قيام الساعة غير ممكن ولا واقع والنص على معين دون معين لا يحصل به النص على كل معين بل يكون نصا على بعض المعينين وحينئذ فإذا قيل يمكن النص على إمام ويفوض إليه النص على من يستخلفه قيل ويمكن أن ينص على من يستخلفه الإمام وعلى من يتخذه وزيرا والنص على ذلك أبلغ في المقصود وأيضا فالإمام المنصوص على عينه أهو معصوم فيمن يوليه أو ليس بمعصوم فإن كان معصوما لزم أن يكون نوابه كلهم معصومين وهذا كله باطل بالضرورة وإن لم يكن كذلك أمكن أن يستخلف غير معصوم فلا يحصل المقصود في سائر الأزمنة بوجود المعصوم فإن قيل هو معصوم فيمن يستخلفه بعده دون من يستخلفه في حياتهقيل الحاجة داعية إلى العصمة في كليهما وعلمه بالحاضر أعظم من علمه بالمستقبل فكيف يكون معصوما فيما يأتي وليس معصوما في الحاضر فإن قيل فالنص ممكن فلو نص النبي صلى الله عليه وسلم على خليفة قيل فنصه على خليفة بعده كتولية واحد في حياته ونحن لا نشترط العصمة لا في هذا ولا في هذا وجواب سابع وهو أن يقال أنتم أوجبتم النص لئلا يفضى إلى التشاجر المفضي إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فيقال الأمر بالعكس فإن أبا بكر رضي الله عنه تولى بدون هذا الفساد وعمر وعثمان توليا بدون هذا الفساد فإنما عظم هذا الفساد في الإمام الذي ادعيتم أنه منصوص عليه دون غيره فوقع في ولايته من أنواع التشاجر والفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فكان ما جعلتموه وسيلة إنما حصل معه نقيض المقصود وحصل المقصود بدون وسيلتكم فبطل كون ما ذكرتموه وسيلة إلى المقصود
(6/318)
وهذا لأنهم أوجبوا على الله ما لا يجب عليه وأخبروا بما لم يكن فلزم من كذبهم وجهلهم هذا التناقض وجواب ثامن وهو أن يقال النص الذي يزيل هذا الفساد يكون على وجوه أحدها أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بولاية الشخص ويثنى عليه في ولايته فحينئذ تعلم الأمة أن هذا إن تولى كان محمودا مرضيا فيرتفع النزاع وإن لم يقل ولوه وهذا النص وقع لأبي بكر وعمر الثاني أن يخبر بأمور تستلزم صلاح الولاة وهذه النصوص وقعت في خلافة أبي بكر وعمر الثالث أن يأمر من يأتيه أن يأتي بعد موته شخصا يقوم مقامه فيدل على أنه خليفة من بعده وهذا وقع لأبي بكر الرابع أن يريد كتابة كتاب ثم يقول إن الله والمؤمنين لا يولون إلا فلانا وهذا وقع لأبي بكر الخامس أن يأمر بالاقتداء بعده بشخص فيكون هو الخليفة بعده السادس أن يأمر باتباع سنة خلفائه الراشدين المهديين ويجعلخلافتهم إلى مدة معينة فيدل على أن المتولين في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون السابع أن يخص بعض الأشخاص بأمر يقتضي أنه هو المقدم عنده في الاستخلاف وهذا موجود لأبي بكر وهنا جواب تاسع وهو أن يقال ترك النص على معين أولى بالرسول فإنه إن كان النص ليكون معصوما فلا معصوم بعد الرسول وإن كان بدون العصمة فقد يحتج بالنص على وجوب اتباعه في كل مايقول ولا يمكن أحد بعد موت الرسول أن يراجع الرسول في أمره ليرده أو يعزله فكان أن لا ينص على معين أولى من النص وهذا بخلاف من يوليه في حياته فإنه إذا أخطأ أو أذنب أمكن الرسول بيان خطئه ورد ذنبه وبعد موته لا يمكنه ذلك ولا يمكن الأمة عزله لتولية الرسول إياه فكان عدم النص على معين مع علم المسلمين بدينهم أصلح للأمة وكذلك وقع وأيضا لو نص على معين ليؤخذ الدين منه كما تقوله الرافضة
(6/319)
بطلت حجة الله فإن ذلك لا يقوم به شخص واحد غير الرسول إذ لا معصوم إلا هو ومن تدبر هذه الأمور وغيرها علم أن ما اختاره الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته أكمل الأمور وجواب عاشر وهو أن النص على الجزئيات لا يمكن والكليات قد نص عليها فلو نص على معين وأمر بطاعته في تعيين الكليات كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات سواء وافقت الكليات أو خالفتها كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات إذا طابقت الكليات فهذا حكم كل متول وأيضا فلو نص على معين لكان من يتولى بعده إذا لم يكن منصوصا عليه يظن الظان أنه لا تجوز طاعته إذ طاعه الأول إنما وجبت بالنص ولا نص معه وإن قيل كل واحد ينص على الآخر فهذا إنما يكون إذا كان الثاني معصوما والعصمة منتفية عن غير الرسول وهذا مما يبين أن القول بالنص فرع على القول بالعصمة وذلك من أفسد الأقوال فكذلك هذا أعنى النص الذي تدعيه الرافضة وهو الأمر بطاعة المتولى في كل مايقوله من غير رد ما يقوله الكتاب إلى الكتابة والسنة إذا نوزع
(6/320)
وأما إذا كان يرد ما تنوزع فيه إلى الكتاب والسنة لم يحتج حينئذ إلى نص عليه لحفظ الدين فإن الدين محفوظ بدونه وبالجملة فالنص على معين إن أريد به أنه يطاع كما يطاع الرسول في كل ما يأمر به وينهى عنه ويبيحه وليس لأحد أن ينازعه في شىء كما ليس له أن ينازع الرسول وأنه يستبد بالأحكام والأمة معه كما كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا يكون لأحد بعد الرسول ولا يمكن هذا لغيره فإن أحدا بعده لا يأتيه الوحي كما كان يأتيه ولم يعرف أحد كل ما عرفه الرسول فلم يبق سبيل إلى مماثلته لا من جهته ولا من جهة الرب تعالى وإن أريد بالنص أنه يبين للأمة أن هذا أحق بأن يتولى عليكم من غيره وولاية هذا أحب إلى الله ورسوله وأصلح لكم في دينكم ودنياكم ونحو هذا مما يبين أنه أحق بالتقدم في خلافة النبوة فلا ريب أن النصوص الكثيرة بهذه المعاني دلت على خلافة أبي بكر وإن أريد أنه أمرهم أن يتابعوه كما أمرهم أبو بكر أن يتابعوا عمر ويعهد إليهم في ذلك فهذا إذا علم أن الأمة تفعله كان تركه خيرا
(6/321)
من فعله وإن خاف أن لا تفعله إلا بأمره كان الأمر أولى به ولهذا لما خشى عليهم أبو بكر رضي الله عنه أن يختلفوا بعده عهد إلى عمر ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يبايعون أبا بكر لم يأمرهم بذلك كما في الصحيحين أنه قال لعائشة ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فعلم أن الله لا يولى إلا أبا بكر والمؤمنون لا يبايعون إلا أبا بكر وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة تدل على أنه علم ذلك وإنما كان ترك الأمر مع علمه أفضل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن الأمة إذا ولته طوعا منها بغير التزام وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله كان أفضل للأمة ودل على علمها ودينها فإنها لو ألزمت بذلك لربما قيل إنها أكرهت على الحق وهي لا تختاره كما كان يجري مثل ذلك لبني إسرائيل ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقدم بالأنساب فإنهم كانوا يريدون أن لا يتولى إلا من هو من بني عبد مناف كما كان أبو سفيان وغيره
(6/322)
يختارون ذلك فلو ألزم المهاجرين والأنصار بهذا لظن الظان أنهم كانوا من جنس أبي سفيان وأمثاله وكانوا يعرفون اختصاص الصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم أولا وآخرا وموافقته له باطنا وظاهرا فقد يقول القائل إنهم كانوا في الباطن كارهين لمن يأمرهم بمثل ما أمرهم به الرسول لكن لما ألزمهم بذلك احتاجوا إلى التزامه لو لم يقدح فيهم بذلك لم يمدحوا إلا بمجرد الطاعة للأمر فإذا كانوا برضاهم واختيارهم اختاروا ما يرضاه الله ورسوله من غير إلزام كان ذلك أعظم لقدرهم وأعلى لدرجتهم وأعظم في مثوبتهم وكان ما اختاره الله ورسوله للمؤمنين به هو أفضل الأمور له ولهم ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن حارثة وبعده أسامة بن زيد وطعن بعض الناس في إمارتهما واحتاجوا مع ذلك إلى لزوم طاعتهما فلو ألزمهم بواحد لكان يظن بهم أن مثل هذا كان في نفوسهم وأنه ليس الصديق عندهم بالمنزلة التي لا يتكلم فيها أحد فلما اتفقوا على بيعته ولم يقل قط أحد إني أحق بهذا الأمر منه
(6/323)
لا قرشى ولا أنصارى فإن من نازع أولا من الأنصار لم تكن منازعته للصديق بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير وهذه منازعة عامة لقريش فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة وقال لهم الصديق رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح قال عمر فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر وقال له بمحضر الباقين أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلت لهم ولا رهبة فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين بايعوه ليلة العقبة والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرهم ولم يقل أحد قط إني أحق بهذا من أبي بكر ولا قاله أحد في أحد بعينه إن فلانا أحق بهذا الأمر من أبي بكر وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية إن بيت الرسول أحق
(6/324)
بالولاية لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا كما نقل عن أبي سفيان وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي وإن قدر أنه رجح عليا فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ولا خالف أحد من هؤلاء ولا من هؤلاء في أنه ليس في القوم أعظم إيمانا وتقوى من أبي بكر فقدموه مختارين له مطيعين فدل ذلك على كمال إيمانهم وتقواهم واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى وكان ما اختاره الله لنبيهم صلى الله عليه وسلم ولهم أفضل لهم والحمد لله على أن هدى هذه الأمة وعلى أن جعلنا من أتباعهمفصل قال الرافضى الثالث أن الإمام يجب أن يكرن حافظا للشرع لانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام الجزئية الواقعة إلى يوم القيامة فلا بد من إمام منصوب من الله تعالى معصوم من الزلل والخطأ لئلا يترك بعض الأحكام أو يزيد فيها عمدا أو سهوا وغير علي لم يكن كذلك بالإجماع والجواب من وجوه أحدها أنا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من أن ينقله واحد منهم وإذا كان كل طائفة تقوم بهم الحجة تنقل بعصمة حصل المقصود وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من ليس بنبي فإن أبا بكر وعمر وعثمان
(6/325)
وعليا ولو قيل إنهم معصومون فما نقله المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء وأيضا فإن كان أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل ا فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفرة والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم الوجه الثاني أن يقال أتريد به من يكون حافظا للشرع وإن لم يكن معصوما أو من يكون معصوما فإن اشترطت العصمة فهذا هو الوجه الأول وقد كررته وتقدم الجواب عليه وإن اشترطت مجرد الحفظ فلا نسلم أن عليا كان أحفظ للكتاب والسنة وأعلم بهما من أبي بكر وعمر بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه فبطل ما ادعاه من الإجماع الوجه الثالث أن يقال أتعني بكونه حافظا للشرع معصوما أنه لا يعلم صحة شىء من الشرع إلا بنقله أم يمكن أن يعلم صحة شىء من الشرع بدون نقله إن قلت بالثاني لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته فإنهإذا أمكن حفظ شىء من الشرع بدونه أمكن حفظ الآخر حتى يحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه وإن قلت بل معناه أنه لا يمكن معرفة شىء من الشرع إلا بحفظه فيقال حينئذ لا تقوم حجة على أهل الأرض إلا بنقله ولا يعلم صحة نقله حتى يعلم أنه معصوم ولا يعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به وإن لم يكن معصوما لم تعلم عصمته الوجه الرابع أن يقال فبماذا تثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند من يقر بنبوته فإن قيل بما نقله الإمام من معجزاته قيل من لم يقر بنبوة محمد لم يقر بإمامة علي رضي الله عنه بطريق الأولى بل يقدح في هذا وهذا وإن قيل بما تنقله الأمة نقلا متواترا من معجزاته كالقرآن وغيره قيل فإذا كان نقل الأمة المتواتر حجة يثبت بها أصل نبوته فكيف لا يكون حجة يثبت بها فروع شريعته الوجه الخامس أن الإمام هل يمكنه تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر أم لا يزال منقولا نقل الآحاد من إمام إلى إمام
(6/326)
فإن كان الإمام يمكنه ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يمكنه ذلك بطريق الأولى وحينئذ فلا حاجة إلى نقل الإمام وإن قيل لا يمكنه ذلك لزم أن يكون دين الإسلام لا ينقله إلا واحد بعد واحد والنقلة لا يكونون إلا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم يقولون عليه مايشاؤون ويصير دين المسلمين شرا من دين النصارى واليهود الذين يدعون أن أئمتهم يختصون بعلمه ونقله الوجه السادس أن ما ذكروه ينقص من قدر النبوة فإنه إذا كان الذي يدعي العصمة فيه وحفظ من عصبته كان ذلك من أعظم التهم التي توجب القدح في نبوته ويقال إن كان طالب ملك أقامه لأقاربه وعهد إليهم مايحفظون به الملك وأن لا يعرف ذلك غيرهم فإن هذا بأمر الملك أشبه منه بأمر الأنبياء الوجه السابع أن يقال الحاجة ثابتة إلى معصوم في حفظ الشرع ونقله وحينئذ فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة الذين حفظوا القرآن والحديث وبلغوه هم المعصومين الذين حصل بهم مقصود حفظ
(6/327)
الشرع وتبليغه ومعلوم أن العصمة إذا حصلت في الحفظ والتبليغ من النقلة حصل المقصود وإن لم يكونوا هم الأئمة الوجه الثامن أن يقال لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفه بحسب ماحملته من الشرع فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على الأحكام وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم الوجه التاسع أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه إلا واحد بعد واحد معصوم عن معصوم وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة لم يأخذ عنه أحد شيئا من الشرع فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة ولم لا يجوز ان يكون هذا القرآن الذي تقرؤونه ليس فيه شىء من كلام الله وكذلك من أين لكم العلم بشىء من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم لأن المعصوم إما مفقود وإما معدوم
(6/328)
فإن قالوا تواتر ذلك عند أصحابنا بنقلهم عن الأئمة المعصومين قيل فإذا كان تواتر أصحابكم عن الأئمة يوجب حفظ الشرع ونقله فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أولى بحفظ الشرع ونقله من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد وهم يقولون إن ما بأيديهم من العلم الموروث عمن قبل المنتظر يغنيهم عن أخذ شىء من المنتظر فلماذا لا يكون ما بأيدي الأمة عن نبيها يغنيها عن أخذ شىء عمن بعده وإذا كانوا يدعون أن ماينقلونه عن واحد من الاثنى عشر ثابت فلماذا لا يكون ما تنقله الأمة عن نبيها ثابتا ومن المعلوم أن مجموع الأمة أضعاف أضعاف الرافضة بكثير وأنهم أحرص على حفظ دين نبيهم وتبليغه أقدر على ذلك من الرافضة على حفظ ما يقوله هؤلاء ونقله وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور الوجه العاشر أن يقال قولك لانقطاع الوحى وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام أتريد به قصورها عن بيان جزئى جزئى بعينه أو قصورها عن البيان الكلي المتناول للجزئيات
(6/329)
فإن ادعيت الأول قيل لك وكلام الإمام وكل أحد بهذه المنزلة فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعم الأعيان والأفعال وغير ذلك فإنه من الممتنع أن يعين بخطابه كل فعل من كل فاعل في كل وقت فإن هذا غير ممكن فإذا لا يمكنه إلا الخطاب العام الكلي والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول وإن ادعيت أن نفس نصوص الرسول ليست عامة كلية قيل لك هذا ممنوع وبتقدير أن يمنع هذا في نصوص الرسول الذي هو أكمل من الإمام فمنع ذلك من نصوص الإمام أولى وأحرى فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى أحد أمرين إما ثبوت عموم الألفاظ وإما ثبوت عموم المعاني بالاعتبار وأيهما كان أمكن إثباته في خطاب الرسول فلا يحتاج في بيانه الأحكام إلى الإمام الوجه الحادي عشر أن يقال وقد قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (سورة إبراهيم). وقال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (سورة النساء). وقال تعالى وما على الرسول إلا البلاغ المبين (سورة النور). وأمثال ذلك فيقال وهل قامت الحجة على الخلق ببيان الرسوم أم لا
(6/330)
فإن لم تقم بطلت هذه الآيات وما كان في معناها وإن قامت الحجة ببيان الرسول علم أنه لا يحتاج إلى معين آخر يفتقر الناس إلى بيانه فضلا عن حفظ تبليغه وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر فصار ذلك مأمونا أن يبدل أو يغير وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يحفظ ولا يفهم إلا بواحد معين من أعظم الإفساد لأصول الدين وهذا لا يقوله وهو يعلم لوازمه إلا زنديق ملحد قاصد لإبطال الدين ولا يروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال الوجه الثاني عشر أن يقال قد علم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل علي فإن عمر رضي الله عنه لما فتح الأمصار بعث إلى الشام والعراق من علماء الصحابة من علمهم وفقههم واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين ولم يكن ما بلغه علي للمسلمين أعظم مما بلغه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأمثالهما وهذا أمر معلوم ولو لم يحفظ الدين إلا بالنقل عن علي لبطل عامة الدين فإنه لا يمكن أن ينقل عن علي إلا أمر قليل لا يحصل به المقصودوالنقل عنه ليس متواترا وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه فلا حول ولا قوة إلا بالله ما أسخف عقول الرافضة.
*فصل قال الرافضي الرابع أن الله تعالى قادر على نصب إمام معصوم وحاجة العالم داعية إليه ولا مفسدة فيه فيجب نصبه وغير علي لم يكن كذلك إجماعا فتعين أن يكون الإمام هو علي أما القدرة فظاهرة وأما الحاجة فظاهرة أيضا لما بينا من وقوع التنازع بين العالم وأما انتفاء المفسدة فظاهر أيضا لأن المفسدة لازمة لعدمه وأما وجوب نصبه فلأن عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل.(6/331)
*والجواب أن هذا هو الوجه الأول بعينه ولكن قرره وقد تقدمت الأجوبة عنه بمنع المقدمة الأولى وبيان فساد هذا الاستدلال فإن مبناه على الاحتجاج بالإجماع فإن كان الإجماع معصوما أغنى عن عصمة علي وإن لم يكن معصوما بطلت دلالته على عصمة علي فبطل الدليل على التقديرين ومن العجب أن الرافضة تثبت أصولها على ما تدعيه من النص والإجماع وهم أبعد الأمة عن معرفة النصوص والإجماعات والاستدلال بها بخلاف السنة والجماعة فإن السنة تتضمن النص والجماعة تتضمن الإجماع فأهل السنة والجماعة هم المتبعون للنص والإجماع ونحن نتكلم على هذا التقرير ببيان فساده وذلك من وجوه أحدها أن يقال لا نسلم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم وذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة قالوا لأن من كان من الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا دينهم بعث الله نبيايبين الحق وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة فلا يمكن أحدا منهم أن يبدل شيئا من الدين إلا أقام الله من يبين خطأه فيما بدله فلا تجتمع الأمة على ضلال كما قال صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة وقال إن الله أجاركم على لسان نبيكم أن تجتمعوا على ضلالة إلى غير ذلك من الدلائل الدالة على صحة الإجماع الثاني إن أريد بالحاجة أن حالهم مع وجوده أكمل فلا ريب أن حالهم مع عصمة نواب الإمام أكمل وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل وليس كل ما تقدره الناس أكمل لكل منهم يفعله الله ولا يجب عليه فعله وإن أريد أنهم مع عدمه يدخلون النار أو لا يعيشون في الدنيا أو يحصل لهم نوع من الأذى(6/332)
فيقال هب أن الأمر كذلك فلم قلت إن أزالة هذا واجب ومعلوم أن الأمراض والهموم والغموم موجودة والمصائب في الأهل والمال والغلاء موجود والجوائح التي تصيب الثمار موجودة وليس ما يصيب المظلوم من الضرر بأعظم مما يصيبه من هذه الأسباب والله تعالى لم يزل ذلك الثالث أن قوله عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل يقال له لم قلت إن الداعي ثابت والصارف منتف وقوله حاجة العالم داعية إليه يقال له الداعي هو الذي يكون داعيا للفاعل فلم قلت إن مجرد الحاجة داعية للرب تعالى فيها وكذلك قوله وانتفاء الصارف وأنت لم تدع إلا عدم المفسدة التي ادعيتها فلم قلت لا مفسدة في ذلك كما يقال إن الواحد منا يحتاج إلى المال والصحة والقوة وغير ذلكالرابع أن قوله إن الله قادر على نصب إمام معصوم أتريد به معصوما بفعل الطاعات باختياره والمعاصي باختياره والله تعالى لم يخلق اختياره كما هو قولهم أم تريد به أنه معصوم يفعل الطاعات بغير اختيار يخلقه الله فيه فإن قالوا بالأول كان باطلا على أصلهم فإن الله عندهم لا يقدر على خلق مؤمن معصوم بهذا التفسير كما لا يقدر على خلق مؤمن وكافر عندهم بهذا التفسير فإن الله عندهم لا يقدر على فعل الحي المختار ولا يخلق إرادته المختصة بالطاعة دون المعصية وإن قالوا بهذا الثاني لم يكن لهذا المعصوم ثواب على فعل الطاعة ولا على ترك المعصية وحينئذ فسائر الناس يثابون على طاعتهم وترك معاصيهم أفضل منه فكيف يكون الإمام المعصوم الذي لا ثواب له أفضل من أهل الثواب فتبين انتقاض مذهبهم حيث جمعوا بين متناقضين بين إيجاب خلق معصوم على الله وبين قولهم إن الله لا يقدر على جعل أحد معصوما باختياره بحيث يثاب على فعله للطاعات وتركه للمعاصي الوجه الخامس أن يقال قولك يقدر على نصب إمام معصوم
(6/333)
لفظ مجمل فإنه يقال إن الله يقدر على جعل هذا الجسم أسود وأبيض ومتحركا وساكنا وميتا وحيا وهذا صحيح بمعنى أن الله إن شاء سوده وإن شاء بيضه وإن شاء أحياه وإن شاء أماته لكن ليس المراد أنه يصير أبيض وأسود في حال واحدة فإن اجتماع الضدين ممتنع لذاته فليس بشيء ولا يسمى شيئا باتفاق الناس ولا يدخل في عموم قوله والله على كل شيء قدير (سورة البقرة). وإذا كان كذلك فقولك قادر على نصب إمام معصوم إن أردت أنه قادر على أن ينصب إماما ويلهمه فعل الطاعات وترك المعاصي فلا ريب أن الله قادر على ذلك غيره كما هو قادر على أن يجعل جميع البشر معصومين كالإمام بجعل كل واحد من البشر نبيا وأمثال ذلك من مقدورات الله تعالى وإن أردت أنه مع ذلك تحصل حكمته المنافية لوجود ذلك التي يمتنع وجودها إلا مع عدم ذلك فهذا يستلزم الجمع بين الضدين فمن أين تعلم انتفاء جميع أنواع الحكمة التي تنافي وجود ذلك ولو لم يكن الأعظم أجر المطيعين إذا لم يكن لهم إمام معصوم فإن معرفة الطاعة والعمل بها حينئذ أشق فثوابه أكبر وهذا الثواب يفوت بوجود المعصوموأيضا فحفظ الناس للشرع وتفقههم في الدين واجتهادهم في معرفة الدين والعمل به تقل بوجود المعصوم فتفوت هذه الحكم والمصالح وأيضا فجعل غير النبي مماثلا للنبي في ذلك قد يكون من أعظم الشبه والقدح في خاصة النبي فإنه إذا وجب أن يؤمن بجميع ما يقوله هذا كما يجب الإيمان بجميع ما يقوله النبي لم تظهر خاصة النبوة فإن الله أمرنا أن نؤمن بجميع ما أتى به النبيون فلو كان لنا من يساويهم في العصمة لوجب الإيمان بجميع ما يقوله فيبطل الفرق الوجه السادس أن يقال المعصوم الذي تدعو الحاجة اليه أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد أم هو عاجز عن ذلك الثاني ممنوع فإن العاجز لا يحصل به وجود المصلحة ولا دفع المفسدة بل القدرة شرط في ذلك فإن العصمة تفيد وجود داعية إلى
(6/334)
الصلاح لكن حصول الداعي بدون القدرة لا يوجب حصول المطلوب وإن قيل بل المعصوم القادر قيل فهذا لم يوجد وإن كان هؤلاء الاثنا عشر قادرين على ذلك ولم يفعلوه لزم أن يكونوا عصاه لا معصومين وإن لم يقدروا لزم أن يكونوا عاجزين فأحد الأمرين لازم قطعا أو كلاهما العجز وانتفاء العصمة وإذا كان كذلك فنحن نعلم بالضرورة انتفاء ما استدل به على وجوده والضروريات لا تعارض بالاستدلال الوجه السابع أن يقال هذا موجود في هذا الزمان وسائر الأزمنة وليس في هذا الزمان أحد يمكنه العلم بما يقوله فضلا عن كونه يجلب مصلحة أو يدفع مفسدة فكان ما ذكروه باطلا الوجه الثامن أنه سبحانه وإن كان قادرا على نصب معصوم فلا نسلم أنه لا مفسده في نصبه وهذا النفي العام لا بد له من دليل ولا يكفي في ذلك عدم العلم بالمفسدة فإن عدم العلم ليس علمابالعدم ثم من المفاسد في ذلك أن يكون طاعة من ليس بنبي وتصديقه مثل طاعة النبي مطلقا وإذا ساوى النبي في وجوب طاعته في كل شيء ووجوب تصديقه في كل شيء ونفى كل غلط منه فيقال فأي شيء خاصة النبي التي انفرد بها عنه حتى صار هذا نبيا وهذا ليس بنبي فإن قيل بنزول الوحي عليه قيل إذا كان المقصود بنزول الوحي عليه قد حصل له فقد استراح من التعب الذي كان يحصل للنبي وقد شاركه في المقصود وأيضا فعصمته إنما تكون بإلهام الحق له وهذا وحي وأيضا فإما أن يخبر بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بما أمر به أو يخبر بأخبار وأوامر زائدة فإن كان الأول لم يكن إليه حاجة ولا فيه فائدة فإن هذا قد عرف بأخبار الرسول وأوامره وإن كان غير ذلك وهو معصوم فيه فهذا نبي فإنه ليس بمبلغ عن الأول وإذا قيل بل يحفظ ما جاء به الرسول
(6/335)
قيل يحفظه لنفسه أو للمؤمنين فإن كان لنفسه فلا حاجة بالناس إليه وإن كان للناس فبأي شىء يصل إلى الناس ما يحفظه أفبالتواتر أم بخبر الواحد فبأى طريق وصل ذلك منه إلى الناس الغائبين وصل من الرسول إليهم مع قلة الوسائط ففي الجملة لا مصلحة في وجود معصوم بعد الرسول إلا وهي حاصلة بدونه وفيه من الفساد مالا يزول إلا بعدمه فقولهم الحاجة داعية إليه ممنوع وقولهم المفسدة فيه معدومة ممنوع بل الأمر بالعكس فالمفسدة معه موجودة والمصلحة معه منتفية وإذا كان اعتقاد وجوده قد أوجب من الفساد ما أوجب فما الظن بتحقق وجوده.
*فصل قال الرافضى الخامس أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته وعلي أفضل أهل زمانه على ما يأتي فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا قال تعالى أفمن يهدي إلىالحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون (سورة يونس).(6/336)
*والجواب من وجوه أحدها منع المقدمة الثانية الكبرى فإنا لا نسلم أن عليا أفضل أهل زمانه بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما ثبت ذلك عن علي وغيره وسيأتي الجواب عما ذكروه وتقرير ما ذكرناه الثاني أن الجمهور من أصحابنا وغيرهم وإن كانوا يقولون يجب توليه الأفضل مع الإمكان لكن هذا الرافضي لم يذكر حجة على هذه المقدمة وقد نازعه فيها كثير من العلماء وأما الآية المذكورة فلا حجة فيها له لأن المذكور في الآية من يهدي إلى الحق ومن لا يهدي إلا أن يهدي والمفضول لا يجب أن يهدي إلا أن يهديه الفاضل بل قد يحصل له هدى كثير بدون تعلم من الفاضل وقد يكون الرجل يعلم ممن هو أفضل منه وإن كان ذلك الأفضل قد مات وهذا الحي الذي هو أفضل منه لم يتعلم منه شيئا وأيضا فالذي يهدي إلى الحق مطلقا هو الله والذي لا يهدي إلا أن يهدي صفة كل مخلوق لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى وهذا هو المقصود بالآية وهي أن عبادة الله أولى من عبادة خلقه كما قال في سياقها قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل(6/337)
الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى (سورة يونس). فافتتح الآيات بقوله قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت (سورة يونس). الى قوله قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق (سورة يونس). وأيضا فكثير من الناس يقول ولاية الأفضل واجبة إذا لم تكن في ولاية المفضول مصلحة راجحة ولم يكن في ولاية الأفضل مفسدة وهذه البحوث يبحثها من يرى عليا أفضل من أبي بكر وعمر كالزيدية وبعض المعتزلة أو من يتوقف في ذلك كطائفة من المعتزلة وأما أهل السنة فلا يحتاجون إلى منع هذه المقدمة بل الصديق عندهم أفضل الأمة لكن المقصود أن نبين أن الرافضة وإن قالوا حقا فلا يقدرون أن يدلوا عليه بدليل صحيح لأنهم سدوا على أنفسهم كثيرا من طرق العلم فصاروا عاجزين عن بيان الحق حتى أنه لا يمكنهم تقرير إيمان علي على الخوارج ولا تقرير إمامته على المروانية ومن قاتله فإن ما يستدل به على ذلك قد أطلق جنسه على أنفسهم لأنهم لا يدرون ما يلزم أقوالهم الباطلة من التناقض والفساد لقوة جهلهم واتباعهم الهوى بغير علم(6/338)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب:منهاج السنة النبوية
///الجزء السابع///
*قال الرافضي المنهج الثاني في الأدلة المأخوذة من القرآن والبراهين الدالة على إمامة علي من الكتاب العزيز كثيرة الأول قوله تعالى أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و قد أجمعوا أنها نزلت في علي قال الثعلبي في إسناده إلى أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم بهاتين و إلا صمتا و رايته بهاتين و إلا عميتا يقول علي قائد البررة و قاتل الكفرة فمنصور من نصره و مخذول من خذله أما أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما صلاة الظهر فسال سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء و قال اللهم أنك تشهد أني سالت في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يعطني أحد شيئا و كان علي راكعا فأومأ بخنصره اليمنى و كان متختما فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم و ذلك بعين النبي صلى الله عليه و سلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال اللهم أن موسى سألك و قال رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري فأنزلت عليه قرأنا ناطقا سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا اللهم وأنا محمد نبيك و صفيك اللهم فاشرح لي صدري و يسر لي أمري و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري قال أبو ذر فما استتم كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال يا محمد اقرأ(7/1)
قال وما اقرأ قال اقرأ أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و نقل الفقيه ابن المغازلي الو اسطي الشافعي أن هذه نزلت في علي و الولي هو المتصرف وقد اثبت له الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه و لرسوله.*و الجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا بل كل ما ذكره كذب و باطل من جنس السفسطة و هو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة فإن البرهان في القرآن و غيره يطلق على ما يفيد العلم و اليقين كقوله تعالى و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين. و قال تعالى آمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين. فالصادق لا بد له من برهان على صدقه و الصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل و سنبين أن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها فتسميه هذه براهين من أقبح الكذب.
ثم أنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس مع أنه قد يكون كذبا عليه و أن كان صدقا فقد خالف أكثر الناس فأن كان قول الواحد الذي لم يعلم صدقه و قد خالفه الأكثرون برهانا فأنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض و البراهين لا تتناقض بل سنبين أن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين و أن الكذب في عامتها كذب ظاهر(7/2)
لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق و أن القرآن حق و أن دين الإسلام حق تناقض ما ذكره من البراهين فإن غاية ما يدعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب و تأمل لوازمه وجده يقدح في الأيمان والقرآن و الرسول و هذا لأن اصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين مقصودهم الطعن في القرآن و الرسول ودين الإسلام فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام و روجوها على أقوام فمنهم من كان صاحب هوى و جهل فقبلها لهواه و لم ينظر في حقيقتها و منهم من كان له نظر فتدبرها فوجدها تقدح في حق الإسلام فقال بموجبها و قدح بها في دين الإسلام أما لفساد اعتقاده في الدين وأما لاعتقاده أن هذه صحيحة و قدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام و لهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب فأن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلطوا به على الطعن في الإسلام و صارت شبها عند من لم يعلم أنه كذب و كان عنده خبرة بحقيقة الإسلام و ضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية و النصيرية و غيرهم من الزنادقة(7/3)
الملاحدة المنافقين و كان مبدأ ضلالهم تصديق اللرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن و الحديث كأئمة العبيديين أنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضلال ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة إلى القدح في علي ثم في النبي صلى الله عليه و سلم ثم في إلالاهية كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر و الناموس الأعظم و لهذا كان الرفض اعظم باب و دهليز إلى الكفر و الإلحاد.ثم نقول ثانيا الجواب عن هذه الآية حق من وجوه:
الأول: أنا نطالبه بصحة هذا النقل أو لايذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة فأن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات الصادقين في نقلها ليس بحجة باتفاق أهل العلم أن لم نعرف ثبوت إسناده و كذلك إذا روى فضيلة لأبي بكر و عمر لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم فالجمهور أهل السنة لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته لا حكما و لا فضيلة و لا غير ذلك. و كذلك الشيعة وإذا كان بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها بطل الاحتجاج به و هكذا القول في كل ما نقله و عزاه إلى أبي نعيم أو الثعلبي أو النقاش أو ابن المغازلي و نحوهم.الثاني: قوله قد أجمعوا أنها نزلت في علي من اعظم الدعاوى الكاذبة بل اجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه و أن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة و اجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع(7/4)
و أما ما نقله من تفسير الثعلبي فقد اجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي إمامة في فضل تلك السورة و كأمثال ذلك و لهذا يقولون هو كحاطب ليل. وهكذا الواحدي تلميذه و أمثالهما من المفسرين زيادة ينقلون الصحيح و الضعيف.
و لهذا لما كان البغوي عالما بالحديث اعلم به من الثعلبي و الواحدي و كان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي لم يذكر في تفسيره شيئا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي و لا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبي مع أن الثعلبي فيه خير و دين لكنه لا خبرة له بالصحيح من الأحاديث زيادة ولا يميز بين السنة و البدعة في كثير من الأقوال.
و أما أهل العلم الكبار أهل التفسير مثل تفسير محمد بن جرير الطبري و بقي بن مخلد و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم و أمثالهم فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات دع من هو اعلم منهم مثل تفسير احمد بن حنبل و اسحق بن راهويه بل و لا يذكر مثل هذا عند ابن حميد و لا عبد الرزاق مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع و يروي كثيرا من فضائل علي و أن كانت ضعيفة لكنه اجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر.
وقد اجمع أهل العلم بالحديث إلى أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلبي و النقاش و الواحدي و أمثال هؤلاء المفسرين لكثرة ما يروونه من الحديث و يكون ضعيفا بل موضوعا فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى لم يجز أن نعتمد عليه لكون الثعلبي و أمثاله رووه فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب وسنذكر أن شاء الله تعالى ما يبين كذبه عقلا و نقلا و إنما المقصود هنا(7/5)
بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله حيث قال قد أجمعوا أنها نزلت في علي فيا ليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم والعالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يقبل من غير اهل العلم بالمنقولات و ما فيها من إجماع و اختلاف.
فالمتكلم و المفسر و المؤرخ و نحوهم لو ادعى أحدهم نقلا مجردا بلا إسناد ثابت لم يعتمد عليه فكيف إذا ادعى إجماعا.الوجه الثالث: أن يقال هؤلاء المفسرون الذين نقل من كتبهم هم و من هم اعلم منهم قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدعى.
و الثعلبي قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول نزلت في أبي بكر ونقل عن عبد الملك قال سألت أبا جعفر قال هم المؤمنون قلت فأن أناسا يقولون هو علي قال فعلي من الذين آمنوا.
و عن الضحاك مثله و روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه قال حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح حدثنا علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه قال كل من آمن فقد تولى الله و رسوله الذين آمنوا قال و حدثنا أبو سعيد إلاشج عن المحاربي عن عبد الملك بن أبي سليمان قال سالت أبا جعفر محمد بن علي عن هذه الآية فقال هم الذين آمنوا قلت نزلت في علي قال علي من الذين آمنوا.و عن السدي مثله.الوجه الرابع: أنا نعفيه من الإجماع و نطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح و هذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناده ضعيف فيه رجال متهمون و أما نقل ابن المغازلي الو اسطي فاضعف و اضعف فأن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب على من له أدنى معرفة بالحديث والمطالبة بإسناد يتناول هذا و هذا.(7/6)
الوجه الخامس: أن يقال لو كان المراد بالآية أن يؤتى الزكاة حال ركوعه كما يزعمون أن عليا تصدق بخاتمه في الصلاة لوجب أن يكون ذلك شرطا في الموالاة و أن لا يتولى المسلمون إلا عليا وحده فلا يتولى الحسن و لا الحسين و لا سائر بني هاشم و هذا خلاف إجماع المسلمين.الوجه السادس: أن قوله الذين صيغة جمع فلا يصدق على علي وحده.الوجه السابع: أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده أما واجب و أما مستحب والصدقة والعتق و الهدية و الهبة و الإجارة و النكاح و الطلاق و غير ذلك من العقود في الصلاة ليست واجبة و لا مستحبة باتفاق المسلمين بل كثير منهم يقول أن ذلك يبطل الصلاة و أن لم يتكلم بل تبطل بإلاشارة المفهمة. و آخرون يقولون لا يحصل الملك بها لعدم الإيجاب الشرعي و لو كان هذا مستحبا لكان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله و يحض عليه أصحابه و لكان علي يفعله في غير هذه الواقعة فلما لم يكن شيء من ذلك علم أن التصدق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة و إعطاء السائل لا يفوت فيمكن المتصدق إذا سلم أن يعطيه و أن في الصلاة لشغلا.الوجه الثامن: أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع بل يكون في القيام و القعود أولى منه في الركوع فكيف يقال لا ولي لكم إلا الذين يتصدقون في كل الركوع فلو تصدق المتصدق(7/7)
في حال القيام و القعود أما كان يستحق هذه الموالاة فأن قيل هذه أراد بها التعريف بعلي على خصوصه قيل له أوصاف علي التي يعرف بها كثيرة ظاهرة فكيف يترك تعريفه الأمور المعروفة و يعرفه بأمر لا يعرفه إلا من سمع هذا و صدقه وجمهور إلامة لم تسمع هذا الخبر و لا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة لا الصحاح و لا السنن و لا الجوامع ولا المعجمات و لا شيء من أمهات أحد الأمرين لازم أن قصد به المدح بالوصف فهو باطل و أن قصد به التعريف فهو باطل.الوجه التاسع: أن يقال قوله و يؤتون الزكاة و هم راكعون على قولهم يقتضي أن يكون قد أتى الزكاة في حالة ركوعه و علي رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فأنه كان فقيرا و زكاة الفضة أنما تجب على من ملك النصاب حولا و علي لم يكن من هؤلاء.(7/8)
الوجه العاشر: أن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزي عند كثير من الفقهاء إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي و قيل أنه يخرج من جنس الحلي و من جوز ذلك بالقيمة فالتقويم في الصلة متعذر و القيم تختلف باختلاف الأحوال.الوجه الحادي عشر: أن هذه آلية بمنزلة قوله و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اركعوا مع الراكعين هذا أمر بالركوع وكذلك قوله يا مريم اقنتي لربك و اسجدي و اركعي مع الراكعين وهذا أمر بالركوع قد قيل ذكر ذلك ليبين أنهم يصلون الجماعة لأن المصلي في الجماعة أنما يكون مدركا للركعة بادراك ركوعها بخلاف الذي لم يدرك إلا السجود فأنه قد فاتته الركعة و أما القيام فلا يشترط فيه الإدراك و بالجملة الواو أما واو الحال و أما واو العطف و العطف هو الأكثر و هي المعروفة في مثل هذا الخطاب. و قوله أنما يصح إذا كانت واو الحال فأن لم يكن ثم دليل على تعيين ذلك بطلت الحجة فكيف إذا كانت الأدلة تدل على خلافة.الوجه الثاني عشر: أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير خلفا عن سلف أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار و الأمر بموالاة المؤمنين لما كان بعض المنافقين مثل كعبد الله بن أبي يوالي اليهود و يقول أني أخاف الدوائر فقال بعض المؤمنين و هو عبادة بن الصامت أني(7/9)
يا رسول الله أتولى الله و رسوله و أبرا إلى الله و رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ولهذا لمل جاءتهم بنو قينقاع و سبب تأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول فأنزل الله هذه الآية يبين فيها وجوب موالاة المؤمنين زيادة عموما و ينهى عن موالاة الكفار عموما. و قد تقدم كلام الصحابة و التابعين أنها عامة لا تختص بعلي.الوجه الثالث عشر: أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر القرآن فأنه قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فأنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين فهذا نهى عن موالاة اليهود و النصارى. ثم قال فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده إلى قوله فاصبحوا خاسرين فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض الذين يوالون الكفار المنافقين. ثم قال يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع(7/10)
عليم.
فذكر فعل المرتدين و أنهم لن يضروا الله شيئا و ذكر من يأتي به بدلهم ثم قال أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين رسوله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة و هم راكعون و من يتولى الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون. فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين و ممن يرتد عنه وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهرا و باطنا فهذا السياق مع أتيناه أتى بصيغة الجمع مما يوجب لمن تدبر ذلك علما يقينا لا يمكنه دفعه عن نفسه أن الآية عامة في كل المؤمنين المتصنفين بهذه الصفات لا تختص بواحد بعينه لا أبي بكر و لا عمر و لا عثمان و لا علي و لا غيرهم لكن هؤلاء أحق إلامة بالدخول فيها.الوجه الرابع عشر: أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي صلى الله عليه و سلم فأن عليا ليس قائدا لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا هو أيضا قاتلا لكل الكفره بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم و ما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا و هو قاتل لبعض الكفرة و كذلك قوله منصور من نصره و مخذول من خذله هو خلاف(7/11)
الواقع و النبي صلى الله عليه و سلم لا يقول إلا حقا لا سيما على قول الشيعة فأنهم يدعون أن إلامة كلها خذلته إلى قتل عثمان و من المعلوم أن الأمة كانت منصورة في أعصار الخلفاء الثلاثة نصرا لم يحصل لها بعده مثله ثم لما قتل عثمان و صار الناس ثلاثة أحزاب حزب نصره و قاتل معه و حزب قاتلوه و حزب خذلوه لم يقاتلوا لا مع هؤلاء و لا مع هؤلاء لم يكن الذين قاتلوا معه منصورين على الحزبين الآخرين و لا على الكفار بل أولئك الذين نصروا عليهم و صار الأمر لهم لما تولى معاوية فانتصروا على الكفار و فتحوا البلاد أنما كان علي منصورا كنصر أمثاله في قتال الخوارج و الكفار والصحابة الذين قاتلوا الكفار و المرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما فالنصر وقع كما وعد الله به حيث قال أنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد. فالقتال الذي كان بأمر الله و أمر رسوله من المؤمنين للكفار و المرتدين و الخوارج كانوا فيه منصورين نصرا عظيما إذا اتقوا و صبروا فإن التقوى والصبر من تحقيق الإيمان الذي علق به النصر.
و أيضا فالدعاء الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم عقب التصدق بالخاتم من اظهر الكذب فمن المعلوم أن الصحابة أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه ما هو اعظم قدرا و نفعا من إعطاء سائل خاتما. و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما نفعني مال كمال أبي بكر أن آمن الناس علي في صحبته و ذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. و قد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم(7/12)
والأنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام اعظم من صدقة على سائل محتاج و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لا تسبوا أصحابي فوا الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه أخرجاه في الصحيحين. قال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك اعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و كلا وعد الله الحسنى. فكذلك الإنفاق الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه و أما إعطاء السؤال لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء فكيف يدعوا به لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذبا في سؤاله. ولا ريب أن هذا و مثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى. بأن يذكر لعلي شيئا من هذا الجنس فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على مفرط في الجهل. وأيضا فكيف يجوز أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم في المدينة بعد الهجرة و النصرة و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري مع أن الله قد اعزه بنصره و بالمؤمنين كما قال تعالي هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين. و قال إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا فالذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبو بكر و كانا اثنين الله ثالثهما و كذلك لما كان يوم بدر لما صنع له عريش كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبو بكر و كل من الصحابة له في نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم سعي مشكور و عمل مبرور و روي أنه لما جاء علي بسيفه يوم أحد قال لفاطمة اغسليه يوم أحد(7/13)
غير ذميم فقال النبي صلى الله عليه و سلم أن تك أحسنت فقد أحسن فلأن و فلأن و فلأن فعدد جماعة من الصحابة و لم يكن لعلي اختصاص بنصر النبي صلى الله عليه و سلم دون أمثاله و لا عرف موطن احتاج النبي صلى الله عليه و سلم فيه إلى معونة علي و حده لا باليد و لا باللسان و لا كان إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه و سلم و طاعتهم له لأجل علي بسبب دعوة علي لهم و غير ذلك من الأسباب الخاصة كما كان هارون و موسى فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى و كان هارون يتألفهم و الرافضة تدعي أن الناس كانوا يبغضون عليا و أنهم لبغضهم له لم يبايعوه فكيف يقال أن النبي صلى الله عليه و سلم احتاج إليه كما احتاج موسى إلى هارون و هذا أبو بكر الصديق اسلم على يديه ستة أو خمسة من العشرة عثمان و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيده و لم يعلم أنه اسلم على يد علي و عثمان و غيرهما أحد من السابقين الأولين من المهاجرين و إلأنصار و مصعب بن عمير هو الذي بعثه النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لما بايعه إلأنصار ليلة العقبة و اسلم على يده رؤوس إلأنصار كسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته و اسيد بن حضير و غير هؤلاء
(7/14)
و كان أبو بكر يخرج مع النبي صلى الله عليه و سلم يدعو معه الكفار إلى الإسلام في الموسم و يعاونه معاونة عظيمة في الدعوة بخلاف غيره و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الصحيح لو كنت متخذا من أهل الأرضى خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و قال أيها الناس أني جئت إليكم فقلت أني رسول الله فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركو لي صاحبي ثم أن موسى دعا بهذا الدعاء قبل أن يبلغ الرسالة إلى الكفار ليعاون عليها و نبينا صلى الله عليه و سلم قد بلغ الرسالة لما بعثه الله بلغها وحده و أول من آمن به باتفاق أهل الأرض أربعة أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة و من الصبيان علي و من الموالي زيد و كان أنفع الجماعة في الدعوه باتفاق الناس أبو بكر ثم خديجة لأن أبا بكر هو أول رجل حر بالغ آمن به باتفاق الناس و كان له قدر عند قريش لما كان فيه من المحاسن فكان آمن الناس عليه في صحبته و ذات يده و مع هذا فما دعا الله أن يشد أزره بأحد لا بأبي بكر و لا بغيره(7/15)
بل قام مطيعا لربه متوكلا عليه صابرا له كما أمر بقوله قم فأنذر و ربك فكبر و ثيابك فطهر و الرجز فاهجر و لا تمنن تستكثر و لربك فاصبر و قال فاعبده و توكل عليه فمن زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل الله عز و جل أن يشد أزره بشخص من الناس كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون فقد افترى على رسول الله صلى الله عليه و سلم و بخسه حقه ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك و الإلحاد و النفاق لكن تارة يظهر لهم ذلك فيه و تارة يخفى.الوجه الخامس عشر: أن يقال غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله و رسوله و المؤمنين فيوالون عليا و لا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن كما يجب على كل مؤمن مولاة أمثاله من المؤمنين قال تعالى و أن تظاهرا عليه فأن الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين فبين الله أن كل صالح من المؤمنين فهو مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم الله مولاه و جبريل مولاه الصالح من المؤمنين متوليا على رسول الله كما أن الله مولاه وجبريل مولاه يأن يكون صالح المؤمنين متوليا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا متصرفا فيه و أيضا قال تعالى و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض(7/16)
فجعل كل مؤمن وليا لكل مؤمن و ذلك لا يوجب أن يكون أميرا عليه معصوما لا يتولى عليه إلا هو و قال تعالى إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون فكل مؤمن تقي فهو ولي الله و الله وليه كما قال تعالى الله ولي الذين آمنوا و قال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم و قال أن الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله ثم آووا و نصروا إلى قوله و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فهذه النصوص كلها ثبتت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض و أن هذا ولي هذا وهذا ولي هذا وأنهم أولياء الله و أن الله و ملائكته و المؤمنين موالي رسوله كما أن الله و رسوله و الذين آمنوا هم أولياء المؤمنين و ليس في شيء من هذه النصوص أن من كان وليا للآخر كان أميرا عليه دون غيره و أنه يتصرف فيه دون سائر الناس.الوجه السادس عشر: أن الفرق بين الولاية بالفتح و الولاية بالكسر معروف فالولاية ضد العداوة و هي المذكوره في هذه النصوص ليست هي الولاية بالكسر التي هي الإمارة و هؤلاء الجهال يجعلون الولي هو الأمير و لم يفرقوا بين الولاية و الولاية و الأمير يسمى(7/17)
الوالي لا يسمى الولي و لكن قد يقال هو ولي الأمر كما يقال وليت أمركم و يقال أولو الأمر و أما إطلاق القول بالمولى وإراده الولي فهذا لا يعرف بل يقال في الولي المولى و لا يقال الوالي و لهذا قال الفقهاء إذا اجتمع في الجنازة الوالي و الولي فقيل يقدم الوالي وهو قول أكثرهم و قيل يقدم الولي فبين أن الولاية دلت على الموالاة المخالفة للمعاداة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض و هذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة و سائر أهل بدر و أهل بيعة الرضوان فكلهم بعضهم أولياء بعض و لم تدل الآية على أحد منهم يكون أميرا على غيره بل هذا باطل من وجوه كثيرة إذ لفظ الولي و الولاية غير لفظ الوالي و الآية عامة في المؤمنين و المارة لا تكون عامة.الوجه السابع عشر: أنه لو أراد الولاية التي هي إلا مارة لقال أنما يتولى عليكم الله و رسوله و الذين آمنوا و لم يقل و من يتولى الله و رسوله فأنه لا يقال لمن ولي عليهم وال أنهم يقولون تولوه بل يقال تولى عليهم(7/18)
الوجه الثامن عشر: أن الله سبحانه و تعالى لا يوصف بأنه متول على عباده و أنه أمير عليهم جل جلاله و تقدست أسماؤه فأنه خالقهم و رازقهم و ربهم و مليكهم له الخلق و الأمر و لا يقال أن الله أمير المؤمنين كما يسمى المتولي مثل علي و غيره أمير المؤمنين بل الرسول صلى الله عليه و سلم أيضا لا يقال أنه متول على الناس و أنه أمير عليهم فأن قدره اجل من هذا بل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكونوا يسمونه إلا خليفة رسول الله و أول من سمي من الخلفاء أمير المؤمنين هو عمر رضي الله عنه و قد روي أن عبد الله بن جحش كان أميرا في سرية فسمي أمير المؤمنين لكن إمارة خاصة في تلك السرية لم يسم أحد بإمارة المؤمنين عموما قبل عمر و كان خليقا بهذا الاسم و أما الولاية المخالفة للعداوة فأنه يتولى عباده المؤمنين فيحبهم و يحبونه و يرضى عنهم و يرضون عنه و من عادى له وليا فقد بارزه بالمحاربة وهذه الولاية من رحمته و إحسانه ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه قال تعالى و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل فالله تعالى ليس له ولي من الذل بل هو القائل من كان يريد العزة فلله العزة جميعا بخلاف الملوك و غيرهم ممن يتولاه لذاته إذا لم يكن له ولي ينصره
(7/19)
الوجه التاسع عشر: أنه ليس كل من تولى عليه إمام عادل يكون من حزب الله و يكون غالبا فأن أئمة العدل يتولون على المنافقين و الكفار كما كان في مدينة النبي صلى الله عليه و سلم تحت حكمه ذميون و منافقون و كذلك كان تحت ولاية علي كفار و منافقون و الله تعالى يقول ومن يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون فلو أراد الإمارة لكان المعنى أن كل من تأمر عليهم الذين آمنوا يكونون من حزبه الغالبين و ليس كذلك و كذلك الكفار و المنافقون تحت أمر الله الذي هو قضاؤه و قدره مع كونه لا يتولاهم بل يبغضهم.
*فصل قال الرافضي البرهان الثاني قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و أن لم تفعل فما بلغت رسالته اتفقوا في نزولها في علي و روى أبو نعيم الحافظ من الجمهور بإسناده عن عطية قال نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم في علي بن أبي طالب ومن تفسير الثعلبي قال معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي فلما نزلت هذه الآيه اخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه و النبي صلى الله عليه و سلم مولى أبي بكر و عمر و باقي الصحابة بالإجماع فيكون علي مولاهم فيكون هو الإمام و من تفسير الثعلبي لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فاخذ بيد علي و قال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك و طار في البلاد فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته وأناخها فعقلها فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في ملا من أصحابه فقال يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا اله إلا الله و أنك رسول الله فقبلنا منك و أمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك و أمرتنا أن نزكي أموالنا فقبلناه منك و أمرتنا أن نصوم شهرا فقبلناه منك و أمرتنا أن نحج البيت فقبلناه منك ثم لم ترض(7/20)
بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك و فضلته علينا و قلت من كنت مولاه فعلي مولاه و هذا منك أم من الله قال النبي صلى الله عليه و سلم و الله الذي لا اله إلا هو هو من أمر الله فولى الحارث يريد راحلته و هو يقول اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره فقتله و أنزل الله تعالى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله و قد روي هذه الرواية النقاش من علماء الجمهور في تفسيره.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: أن هذا اعظم كذبا و فرية من الأول كما سنبينه أن شاء الله تعالى و قوله اتفقوا على نزولها في علي اعظم كذبا مما قاله في تلك الآيه فلم يقل لا هذا و لا ذاك أحد من العلماء الذين يدرون ما يقولون و أما ما يرويه أبو نعيم في الحلية أو في فضائل الخلفاء و النقاش و الثعلبي و الواحدي و نحوهم في التفسير فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يروونه كثيرا من الكذب الموضوع واتفقوا على أن هذا الحديث المذكور الذي رواه الثعلبي في تفسيره هو من الموضوع وسنبين أدلة يعرف بها أنه موضوع و ليس الثعلبي من أهل العلم بالحديث ولكن المقصود هنا أنا نذكر قاعدة فنقول المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب والمرجع في التمييز بين هذا و هذا إلى أهل علم الحديث كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك فلكل علم رجال يعرفون به(7/21)
و العلماء بالحديث اجل هؤلاء قدرا و أعظمهم صدقا و أعلاهم منزلة و اكثر دينا وهم من اعظم الناس صدقا و أمانة و علما و خبرة فيما يذكرونه عن الجرح و التعديل مثل مالك و شعبة و سفيان و يحيى بن سعيد و عبد الرحمن بن المهدي و ابن المبارك ووكيع و الشافعي و احمد و إسحاق بن راهويه و أبي عبيد و ابن معين وابن المديني و البخاري ومسلم و أبي داود و أبي زرعة و أبي حاتم و النسائي و العجلي و أبي احمد بن عدي و أبي حاتم البستي و الدار قطني و أمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصى عددهم من أهل العلم بالرجال و الجرح و التعديل و أن كان بعضهم اعلم بذلك من بعض و بعضهم اعدل من بعض في وزن كلامه كما أن الناس في سائر العلوم كذلك و قد صنف للناس كتبا في نقلة الأخبار كبارا و صغارا مثل الطبقات لابن سعد و تاريخي البخاري و الكتب المنقولة عن احمد بن حنبل و يحيى بن معين و غيرهما و قبلها عن يحيى بن سعيد القطان و غيره و كتاب يعقوب بن سفيان و ابن أبي خيثمة و ابن أبي حاتم و كتاب بن عدي و كتب أبي حازم و أمثال ذلك وصنفت كتب الحديث تارة على المساند فتذكر ما اسنده الصاحب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كمسند احمد و إسحاق و أبي داود(7/22)
الطيالسي و أبي بكر بن أبي شيبة و محمد بن أبي عمر و العدني و احمد بن منيع و أبي يعلى الموصلي و أبي بكر البزار البصري و غيرهم وتارة على الأبواب فمنهم من قصد مقصده الصحيح كالبخاري و مسلم و ابن خزيمة و أبي حاتم و غيرهم و كذلك من خرج على الصحيحين كإلاسماعيلي و البرقاني و أبي نعيم غيرهم و منهم من خرج أحاديث السنن كأبي داود والنسائي ابن ماجة و غيرهم و منهم من خرج الجامع الذي يذكر فيه الفضائل و غيرها كالترمذي و غيره و هذا علم عظيم من اعظم علوم الإسلام و لا ريب أن الرافضة اقل معرفة بهذا الباب و ليس في أهل الأهواء و البدع اجهل منهم به فأن سائر أهل الأهواء كالمعتزلة و الخوارج مقصورون وفي معرفة هذا ولكن المعتزلة اعلم بكثير من الخوارج و الخوارج اعلم بكثير من الرافضة و الخوارج اصدق من الرافضة و أدين اورع بل الخوارج لا نعرف عنهم أنهم يتعمدون الكذب بل هم من اصدق الناس والمعتزلة مثل سائر الطوائف فيهم من يكذب و فيهم من يصدق لكن ليس لهم من العناية بالحديث و معرفته ما لأهل الحديث و السنة فأن هؤلاء يتدينون به فيحتاجون إلى أن يعرفوا ما هو الصدق(7/23)
وأهل البدع سلكوا طريقا آخر ابتدعوها اعتمدوا عليها و لا يذكرون الحديث بل و لا القرآن في أصولهم للاعتضاد لا للاعتماد والرافضة اقل معرفة و عناية بهذا إذ كانوا لا ينظرون في الإسناد و لا في سائر الأدلة الشرعية و العقلية هل توافق ذلك أو تخالفه و لهذا لا يوجد لهم أسانيد متصلة صحيحة قط بل كل إسناد متصل لهم فلا بد من أن يكون فيه من هو معروف بالكذب أو كثرة الغلط وهم في ذلك شبيه باليهود و النصارى فأنه ليس لهم إسناد و الإسناد من خصائص هذه الأمة و هم من خصائص الإسلام ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة و الرافضة من اقل الناس عناية إذ كانوا لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم و علامة كذبه أنه يخالف هواهم و لهذا قال عبد الرحمن بن مهدي أهل العلم يكتبون ما لهم و ما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ثم أن أولهم كانوا كثيري الكذب فانتقلت أحاديثهم إلى قوم لا يعرفون الصحيح من السقيم فلم يمكنهم التمييز إلا بتصديق الجميع أو تكذيب الجميع و الاستدلال على ذلك بدليل منفصل غير الإسناد(7/24)
فيقال ما يرويه مثل أبي نعيم و الثعلبي و النقاش و غيرهم أتقبلونه مطلقا أم تردونه مطلقا أم تقبلونه إذا كان لكم لا عليكم و تردونه إذ كان عليكم فأن تقبلوه مطلقا ففي ذلك أحاديث كثيره في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان تناقض قولكم و قد روى أبو نعيم في أول الحلية في فضائل الصحابة و في كتاب مناقب أبي بكر و عمر و عثمان و علي أحاديث بعضها صحيحة و بعضها ضعيفة بل منكرة و كان رجلا عالما بالحديث فيما ينقله لكن هو و أمثاله يروون ما في الباب لا يعرف أنه روى كالمفسر الذي ينقل أقوال الناس في التفسير و الفقيه الذي يذكر الأقوال في الفقه و المصنف الذي يذكر حجج الناس ليذكر ما ذكروه و أن كان كثير من ذلك لا يعتقد صحته بل يعتقد ضعفه لأنه يقول أنا نقلت ما ذكر غيري فالعهدة على القائل لا على الناقل و هكذا كثير ممن صنف في فضائل العبادات و فضائل الأوقات و غير ذلك يذكرون أحاديث كثيرة و هي ضعيفة بل موضوعة باتفاق أهل العلم كما يذكرون أحاديث في فضل صوم رجب كلها ضعيفة بل موضوعة عند أهل العلم و يذكرون صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة منه و ألفية نصف شعبان و كما يذكرون في فضائل عاشوراء ما ورد من التوسعة على العيال و فضائل المصافحة و الحناء و الخضاب و الاغتسال و نحو ذلك و يذكرون فيها صلاة و كل هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يصح في عاشوراء إلا فضل صيامه قال حرب الكرماني قلت لأحمد بن حنبل الحديث الذي يروى من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته فقال لا اصل له وقد صنف في فضائل الصحابة علي و غيره غير واحد مثل خيثمة بن سليمان إلاطرابلسي و غيره و هذا قبل أبي نعيم يروي عنه إجازة و هذا و أمثاله جروا على العادة المعروفة لأمثالهم ممن يصنف في الأبواب أنه يروي ما سمعه في هذا الباب
(7/25)
و هكذا المصنفون في التواريخ مثل تاريخ دمشق لابن عساكر و غيره إذا ذكر ترجمة واحد من الخلفاء الأربعة أو غيره يذكر كل ما رواه في ذلك الباب فيذكر لعلي و معاوية من الأحاديث المروية في فضلهما ما يعرف أهل العلم بالحديث أنه كذب و لكن لعلي من الفضائل الثابتة في الصحيحين و غيرهما و معاوية ليست له بخصوصه فضيلة في الصحيح لكن قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حنينا و الطائف و تبوك و حج معه حجة الوداع و كان يكتب الوحي فهو ممن ائتمنه النبي صلى الله عليه و سلم على كتابة الوحي كما ائتمن غيره من الصحابة فإذا كان المخالف يقبل كل ما رواه هؤلاء و أمثالهم في كتبهم فقد رووا أشياء كثيرة تناقض مذهبهم و أن كان يرد الجميع بطل احتجاجه بمجرد عزوه الحديث بدون المذهب إليهم و أن قال أقبل ما يوافق مذهبي وارد ما يخالفه أمكن منازعه أن يقول له مثل هذا و كلاهما باطل لا يجوز أن يحتج على صحة مذهب بمثل هذا فأنه يقال أن كنت أنما عرفت صحة هذا الحديث بدون المذهب فاذكر ما يدل على صحته و أن كنت إنما عرفت صحته لأنه يوافق المذهب امتنع تصحيح الحديث بالمذهب لأنه يكون حينئذ صحة المذهب موقوفة على صحة الحديث و صحة الحديث موقوفة على صحة المذهب فيلزم الدور الممتنع(7/26)
و أيضا فالمذهب أن كنت عرفت صحته بدون هذا الطريق لم يلزم صحة هذا الطريق فأن الإنسان قد يكذب على غيره قولا و أن كان ذلك القول حقا فكثير من الناس يروي عن النبي صلى الله عليه و سلم قولا هو حق في نفسه لكن لم يقله رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يلزم من كون الشيء صدقا في نفسه أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قاله و أن كنت أنما عرفت صحته بهذا الطريق امتنع أن تعرف صحة الطريق بصحته لإفضائه إلى الدور فثبت أنه على التقديرين لا يعلم صحة هذا الحديث لموافقته للمذهب سواء كان المذهب معلوم الصحة أو غير معلوم الصحه وأيضا فكل من له أدنى علم و أنصاف يعلم أن المنقولات فيها صدق و كذب و أن الناس كذبوا في المثالث و المناقب كما كذبوا في غير ذلك و كذبوا فيما يوافقه و يخالفه و نحن نعلم أنهم كذبوا في كثير مما رووه في فضائل أبى بكر وعمر وعثمان كما كذبوا في كثير مما رووه في فضائل علي و ليس في أهل الأهواء اكثر كذبا من الرافضة بخلاف غيرهم فأن الخوارج لا يكادون يكذبون بل هم من اصدق الناس مع بدعتهم و ضلالهم(7/27)
و أما أهل العلم و الدين فلا يصدقون بالنقل و يكذبون به بمجرد موافقة ما يعتقدون بل قد ينقل الرجل أحاديث كثيرة فيها فضائل النبي صلى الله عليه و سلم و أمته و أصحابه فيردونها لعلمهم بأنها كذب و يقبلون أحاديث كثيرة لصحتها و أن كان ظاهرها بخلاف ما يعتقدونه أما لاعتقادهم أنها منسوخة أو لها تفسير لا يخالفونه و نحو ذلك فالأصل في النقل أن يرجع فيه إلى أئمة النقل و علمائه و من يشركهم في علمهم علم ما يعلمون و أن يستدل على الصحة و الضعف بدليل منفصل عن الرواية فلا بد من هذا و هذا و إلا فمجرد قول القائل رواه فلان لا يحتج به لا أهل السنة و لا الشيعة و ليس في المسلمين من يحتج بكل حديث رواه كل مصنف فكل حديث يحتج به نطالبه من أول مقام بصحته و مجرد عزوه إلى رواية الثعلبي و نحوه ليس دليلا على صحته باتفاق أهل العلم بالنقل و لهذا لم يروه أحد من علماء الحديث في شيء من كتبهم التي ترجع الناس إليها في الحديث لا في الصحاح ولا في السنن و لا المسانير و لاغير ذلك لان كذب مثل هذا لا يخفى على من له أدنى معرفة بالحديث وإنما هذا عند اهل العلم بمنزلة ظن من يظن من العامة و بعض من يدخل في غمار الفقهاء أن النبي صلى الله عليه و سلم كان على أحد المذاهب الأربعة و أن أبا حنيفة و نحوه كانوا من قبل النبي صلى الله عليه و سلم(7/28)
أو كما يظن طائفة من التركمان أن حمزة له مغاز عظيمة و ينقلونها بينهم و العلماء متفقون على انه لم يشهد إلا بدرا و أحدا قتل يوم أحد و مثل ما يظن كثير من الناس أن في مقابر دمشق من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أم سلمة و غيرها و من أصحابه أبي بن كعب و أويس القرني و غيرهما وأهل العلم يعلمون أن أحدا من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم لم يقدم دمشق و لكن كان في الشام أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاري و كان أهل الشام يسمونها أم سلمة فظن الجهال أنها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بن كعب مات بالمدينة و أويس تابعي لم يقدم الشام ومثل من يظن من الجهال أن قبر علي بباطن النجف و أهل العلم بالكوفة و غيرها يعلمون بطلان هذا و يعلمون أن عليا و معاوية و عمرو بن العاص كل منهم دفن في قصر الإمارة ببلده خوفا عليه من الخوارج أن ينبشوه فانهم كانوا تحالفوا على قتل الثلاثة فقتلوا عليا و جرحوا معاوية و كان عمرو بن العاص قد استخلف رجلا يقال له خارجة فضربه القاتل يظنه عمرا فقتله فتبين انه خارجة فقال أردت عمرا و أراد الله خارجة فصار مثلا و مثل هذا كثير مما يظنه كثير من الجهال و أهل العلم بالمنقولات يعلمون خلاف ذلك(7/29)
الوجه الثاني: أن نقول في نفس هذا الحديث ما يدل على انه كذب من وجوه كثيرة فان فيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما كان بغدير يدعى خما نادى الناس فاجتمعوا فاخذ بيدي علي و قال من كنت مولاه فعلي مولاه و أن هذا قد شاع و طار في بالبلاد و بلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري و انه أتى النبي صلى الله عليه و سلم على ناقته و هو في الأبطح و أتى و هو في ملا من الصحابه فذكر انهم امتثلوا أمره بالشهادتين و الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج ثم قال ألم ترضى بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا و قلت من كنت مولاه فعلي مولاه و هذا منك أم من الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم هو من أمر الله فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته و هو يقول اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فما و صل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره فقتله و انزل الله سال سائل بعذاب واقع للكافرين الآيه فيقال لهؤلاء الكذابين اجمع الناس كلهم على أن ما قاله النبي صلى الله عليه و سلم بغدير خم كان مرجعه من حجة الوداع و الشيعة تسلم هذا و تجعل ذلك اليوم عيدا و هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة و النبي صلى الله عليه و سلم لم يرجع إلى مكة بعد ذلك بل رجع من حجة الوداع إلى المدينة و عاش تمام ذي الحجة و المحرم و صفر و توفي في أول ربيع الأول(7/30)
و في هذا الحديث يذكر انه بعد أن قال هذا بغدير خم و شاع في البلاد جاءه الحارث و هو بالأبطح و الأبطح بمكة فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصة غدير خم و أيضا فان هذه السورة سورة سأل سائل مكية باتفاق أهلا العلم نزلت بمكة قبل الهجرة فهذه نزلت قبل غدير خم قبل بعشر سنين أو اكثر من ذلك فكيف تكون نزلت بعده و أيضا قوله و غذ قالوا اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك في (سورة الأنفال). و قد نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل غدير خم بسنين كثيرة و أهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي صلى الله عليه و سلم قبل الهجرة كأبي جهل و أمثاله و أن الله ذكر نبيه بما كانوا يقولونه بقوله و إذ قالوا الله أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أي اذكر قولهم كقوله و إذ قال ربك للملائكة و إذ غدوت من أهلك و نحو ذلك يأمره بان يذكر كل ما تقدم فدل على أن هذا القول كان قبل نزول هذه السورة و أيضا فانهم لما استفتحوا بين الله انه لا ينزل عليهم العذاب محمد صلى الله عليه و سلم فيهم فقال و إذ قالوا اللهم أن كان هذا هو الحق
(7/31)
من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ثم قال الله تعالى و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون و اتفق الناس على أن أهل مكة لم تنزل عليهم حجارة من السماء لما قالوا ذلك فلو كان هذا آية لكان من جنس آية أصحاب الفيل و مثل هذا مما تتوفر الهمم و الدواعي على نقله و لو أن الناقل طائفة من أهل العلم فلما كان هذا لا يرويه أحد من المصنفين في العلم لا المسند و لا الصحيح و لا الفضائل و لا التفسير و لا السير و نحوها إلا ما يروى بمثل هذا الإسناد المنكر علم انه كذب و باطل و أيضا فقد ذكر في هذا الحديث أن هذا القائل أمر بمباني الإسلام الخمس و على هذا فقد كان مسلما فانه قال فقبلناه منك و من المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه و سلم لم يصبه هذا و أيضا فهذا الرجل لا يعرف في الصحابة بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية من جنس الأحاديث التي في سيرة عنترة و دلهمة و قد صنف الناس كتبا كثيرة في أسماء الصحابة الذين ذكروا في شيء من الحديث حتى في الأحاديث الضعيفة مثل كتاب الاستيعاب لابن
(7/32)
عبد البر و كتاب ابن منده و أبي نعيم الأصبهاني و الحافظ أبي موسى و نحو ذلك و لم يذكر أحد منهم هذا الرجل فعلم انه ليس له ذكر في شيء من الروايات فان هؤلاء لا يذكرون إلا ما رواه أهل العلم لا يذكرون أحاديث الطرقية مثل تنقلات الأنوار للبكري الكذاب و غيره.
الوجه الثالث: أن يقال أنتم ادعيتم أنكم إثبتم بالقرآن و القران ليس في ظاهره ما يدل على ذلك أصلا فانه قال بلغ ما انزل إليك من ربك و هذا اللفظ عام في جميع ما انزل إليه من ربه لا يدل على شيء معين فدعوى المدعى أن إمامة علي هي مما بلغها أو مما أمر بتبليغها لا تثبت بمجرد القران فان القران ليس فيه دلالة على شيء معين فان ثبت ذلك بالنقل كان ذلك إثباتا بالخبر لا بالقران فمن ادعى أن القران يدل على أن إمارة علي مما أمر بتبليغه فقد افترى على القران فالقران لا يدل على ذلك عموما و لا خصوصا.
الوجه الرابع: أن يقال هذه الآية مع ما علم من أحوال النبي صلى الله عليه و سلم تدل على نقيض ما ذكروه و هو أن الله لم ينزلها عليه و لم يأمره بها فأنها لو كانت مما أمره الله بتبليغه لبلغه فانه لا يعصي الله في ذلك(7/33)
و لهذا قالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب و الله تعالى يقول يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك و أن لم تفعل فما بلغت رسالته لكن أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يبلغ شيئا من إمامة علي و لهم على هذا طرق كثيرة يثبتون بها هذا العلم منها أن هذا مما تتوفر الهمم و الدواعي على نقله فلو كان له أصل لنقل كما نقل أمثاله من حديثه لا سيما مع كثرة ما ينقل من فضائل علي من الكذب الذي لا أصل له فكيف لا ينقل الحق الصدق الذي قد بلغ للناس ولان النبي صلى الله عليه و سلم أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه و منها أن النبي صلى الله عليه و سلم لما مات و طلب بعض الأنصار ان يكون منهم أمير و من المهاجرين أمير فأنكر ذلك عليه و قالوا الإمارة لا تكون إلا في قريش و روى الصحابة في مواطن متفرقة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم في أن الأمامه في قريشو لم يرو واحد منهم لا في ذلك المجلس و لا غيره ما يدل على إمامة علي و بايع المسلمون أبا بكر و كان اكثر بني عبد مناف من بني أمية و بني هاشم و غيرهم لهم ميل قوي إلى علي بن أبي طالب يختارون ولايته و لم يذكر أحد منهم هذا النص و هكذا اجري الأمر في عهد عمر و عثمان و في عهده أيضا لما صارت له ولآية و لم يذكر هو ولا أحد من أهل بيته و لا من الصحابة المعروفين هذا النص و إنما ظهر هذا النص بعد ذلك و أهل العلم بالحديث و السنة الذين يتولون عليا و يحبونه و يقولون انه كان الخليفة بعد عثمان كأحمد بن حنبل و غيره من الأئمة قد نازعهم في ذلك طوائف من أهل العلم و غيرهم و قالوا كان زمانه زمان فتنة و اختلاف بين الأمة لم تتفق الأمة فيه لا عليه و لا على غيره
(7/34)
و قال طوائف من الناس كالكرامية بل هو كان إماما و معاوية إماما و جوزوا أن يكون للناس إمامان للحاجة و هكذا قالوا في زمن ابن الزبير و يزيد حيث لم يجدوا الناس اتفقوا على إمام وأحمد بن حنبل مع انه اعلم أهل زمانه بالحديث احتج على إمامة علي بالحديث الذي في السنن تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا و بعض الناس ضعف هذا الحديث لكن أحمد و غيره يثبتونه فهذا عمدتهم من النصوص على خلافة علي فلو ظفروا بحديث مسند أو مرسل موافق لهذا لفرحوا به فعلم أن ما تدعيه الرافضة من النص هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال الرسول صلى الله عليه و سلم لا قديما و لا حديثا و لهذا كان أهل العلم بالحدث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل كما ليعلمون كذب غيره من المنقولات المكذوبة و قد جرى تحكيم الحكمين و معه اكثر الناس فلم يكن في المسلمين من أصحابه و لا غيرهم من ذكر هذا النص مع كثرة شيعته ولا فيهم من احتج به في مثل هذا المقام الذي تتوفر فيه الهمم و الدواعي على إظهار مثل هذا النص ومعلوم انه لو كان النص معروفا عند شيعة علي فضلا عن غيرهم لكانت العادة المعروفة تقتضي أن يقول أحدهم هذا نص رسول الله صلى الله عليه و سلم على خلافته فيجب تقديمه على معاوية و أبو موسى نفسه كان من خيار المسلمين لو علم أن النبي صلى الله
(7/35)
عليه وسلم نص عليه لم يستحل عزله و لو عزله لكان من أنكر عزله عليه يقول كيف تعزل من نص النبي صلى الله عليه و سلم على خلافته و قد احتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم تقتل عمارا الفئة الباغية و هذا الحديث خبر وأحد أو اثنين أو ثلاثة و نحوهم و ليس هذا متواترا و النص عند القائلين به متواتر فيا لله العجب كيف ساغ عند الناس احتجاج شيعة علي بذلك الحديث و لم يحتج أحد منهم بالنص.
*فصل قال الرافضي البرهان الثالث قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا روى أبو نعيم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا الناس إلى غدير خم و أمر بإزالة ما تحت الشجر من الشوك فقام فدعاعليا فاخذ بضبعيه فرفعهما حتى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الله اكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضا الرب برسالتي و بالولاية لعلي من بعدي ثم قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: أن المستدل عليه بيان صحة الحديث و مجرد عزوه إلى رواية أبي نعيم لا تفيد الصحة باتفاق الناس علماء السنة و الشيعة فان أبا نعيم روى كثيرا من الأحاديث التي هي ضعيفة بل موضوعة باتفاق علماء أهل الحديث السنة و الشيعة و هو وأن كان حافظا كثير الحديث واسع الرواية لكن روى كما عادة المحدثين أمثاله يروون جميع ما في الباب لأجل المعرفة بذلك و أن كان لا يحتج من ذلك إلا ببعضه و الناس في مصنفاتهم منهم من لا يروي عمن يعلم انه يكذب مثل مالك و شعبة و يحيى بن سعيد و عبد الرحمن بن مهدي و أحمد بن حنبل فان هؤلاء لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم(7/36)
و لا يروون حديثا يعلمون انه عن كذاب فلا يروون أحاديث الكذابين الذين يعرفون بتعمد الكذب لكن قد يتفق فيما يروونه ما يكون صاحبه أخطأ فيه و قد يروي الإمام أحمد و اسحاق و غيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم لاتهام رواتها بسوء الحفظ و نحو ذلك ليعتبر بها و يستشهد بها فانه قد يكون لذلك الحديث ما يشهد له انه محفوظ و قد يكون له ما يشهد بأنه خطا و قد يكون صاحبها كذبها في الباطن ليس مشهورا بالكذب بل يروى كثيرا من الصدق فيروى حديثه و ليس كل ما رواه الفاسق يكون كذبا بل يجب التبين من خبره كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فيروى لتنظر سائر الشواهد هل تدل على الصدق أو الكذب و كثير من المصنفين يعز عليه تمييز ذلك على وجهه بل يعجز عن ذلك فيروي ما سمعه كما سمعه و الدرك على غيره لا عليه و أهل العلم ينظرون في ذلك و في رجاله و إسناده.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات و هذا يعرفه أهل العلم بالحديث و المرجع إليهم في ذلك و لذلك لا يوجد هذا في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها أهل العلم بالحديث.(7/37)
الوجه الثالث: انه قد ثبت في الصحاح و المساند و التفسير أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه و سلم و هو واقف بعرفة و قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال له عمر و أي آية هي قال قوله اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا فقال عمر أني لأعلم أي يوم نزلت و في أي مكان نزلت نزلت يوم عرفة بعرفة و رسول الله صلى الله عليه و سلم واقف بعرفة و هذا مستفيض من زيادة و وجوه أخر و هو منقول في كتب المسلمين الصحاح و المساند و الجوامع و السير و التفسير و غير ذلك وهذا اليوم كان قبل غدير خم بتسعة أيام فانه كان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة فكيف يقال أنها نزلت يوم الغدير.
لوجه الرابع:أن هذه الأيه ليس فيها دلالة على علي و لا إمامته بوجه(7/38)
من الوجوه بل فيها إخبار الله بإكمال الدين و إتمام النعمة على المؤمنين و رضا الإسلام دينا فدعوى المدعي أن القران يدل على إمامته من هذا الوجه كذب ظاهر و أن قال الحديث يدل على ذلك فيقال الحديث أن كان صحيحا فتكون الحجة من الحديث لا من الآية و أن لم يكن صحيحا فلا حجة في هذا و لا في هذا فعلى التقديرين لا دلالة في الآية على ذلك و هذا مما يبين به كذب الحديث فان نزول الأية لهذا السبب و ليس فيها ما يدل عليه أصلا تناقض.
الوجه الخامس:أن هذا اللفظ و هو قوله اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله كذب باتفاق أهل المعروفة بالحديث و أما قوله من كنت مولاه فعلي مولاه فلهم فيه قولان و سنذكره فان شاء الله في موضعه.
الوجه السادس:أن دعاء النبي صلى الله عليه و سلم مجاب و هذا الدعاء ليس بمجاب فعلم انه ليس من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم فإنه من المعلوم انه لما تولى كان الصحابة و سائر المسلمين ثلاثة أصناف صنف قاتلوا معه و صنف قاتلوه و صنف قعدوا عن هذا و هذا و اكثر السابقين الأولين كانوا من القعود و قد قيل أن بعض السابقين الألين قاتلوه و ذكر ابن حزم أن عمار بن ياسر قتله أبو الغادية و أن أبا الغادية(7/39)
هذا من السابقين ممن بايع تحت الشجرة و أولئك جميعهم قد ثبت في الصحيحين انه لا يدخل النار منهم أحد ففي صحيح مسلم و غيره عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة و في الصحيح أن غلام حاطب بن ابي بلتعة قال يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال كذبت انه شهد بدرا و الحديبية و حاطب هذا هو الذي كاتب المشركين بخبر النبي صلى الله عليه و سلم و بسبب ذلك نزل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة الأية و كان مسيئا إلى مماليكه و لهذا قال مملوكه هذا القول و كذبه النبي صلى الله عليه و سلم و قال انه شهد بدرا و الحديبية و في الصحيح لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة و هؤلاء فيهم ممن قاتل عليا كطلحة و الزبير و أن كان قاتل عمار فيهم فهو ابلغ من غيره وكان الذين بايعوه تحت الشجرة نحو ألف و أربعمائة و هم الذين فتح الله عليهم خيبر كما وعدهم الله بذلك في (سورة الفتح). و قسمها بينهم
(7/40)
النبي صلى الله عليه و سلم على ثمانية عشر سهما لأنه كان فيهم مائتا فارس فقسم للفارس ثلاثة اسهم سهما له و سهمين لفرسه فصار لأهل الخيل ستمائة سهم و لغيرهم ألف و مائتا سهم هذا هو الذي ثبت في الأحاديث الصحيحة و عليه اكثر أهل العلم كمالك و الشافعي و أحمد و غيرهم و قد ذهب طائفة إلى أنه أسهم للفارس سهمين وأن الخيل كانت ثلاثمائة كما يقول ذلك من يقول من أصحاب أبي حنيفة وأما على فلا ريب أنه قاتل معه طائفة من السابقين لأولين كسهل بن حنيف و عمار بن ياسر لكن الذين لم يقاتلوا معه كانوا افضل فان سعد بن أبي وقاص لم يقاتل معه و لم يكن قد بقي من الصحابة بعد علي افضل منه و كذلك محمد بن مسلمة من الأنصار و قد جاء في الحديث أن الفتنة لا تضره فاعتزل و هذا مما استدل به على أن القتال كان قتال فتنة بتأويل لم يكن من الجهاد الواجب و لا المستحب وعلي و من معه أولى بالحق من معاوية و أصحابه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق فدل هذا الحديث على أن عليا أولى بالحق ممن قاتله فانه هو الذي قتل الخوارج لما افترق المسلمون فكان قوم معه و قوم عليه ثم أن هؤلاء الذين قاتلوه لم يخذلوا بل ما زالوا
(7/41)
منصورين يفتحون البلاد و يقتلون الكفار و في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم و لا من خذلهم حتى تقوم الساعة قال معاذ بن جبل و هم بالشام و في مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة قال أحمد بن حنبل و غيره أهل الغرب هم أهل الشام و هذا كما ذكروه فان كل بلد له غرب و شرق والاعتبار في لفظ النبي صلى الله عليه و سلم بغرب مدينته و من الفرات هو غرب المدينة فالبيرة و نحوها على سمت المدينة كما أن حران و الرقة و سميساط و نحوها على سمت مكة و لهذا يقال أن قبلة هؤلاء اعدل القبل بمعنى انك تجعل القطب الشمالي خلف ظهرك فتكون مستقبل الكعبة فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة إلى آخر الأرض و أهل الشام أول هؤلاءو العسكر الذين قاتلوا مع معاوية ما خذلوا قط بل و لا في قتال علي فكيف يكون النبي صلى الله عليه و سلم قال اللهم اخذل من خذله و انصر من نصره و الذين قاتلوا معه لم ينصروا على هؤلاء بل الشيعة الذين تزعمون انهم مختصون بعلي ما زالوا مخذولين مقهورين لا ينصرون إلا مع غيرهم أما مسلمين وإما كفار و هم يدعون انهم أنصاره فأين نصر الله لمن نصره و هذا و غيره مما يبين كذب هذا الحديث.
*فصل قال الرافضي البرهان الرابع قوله تعالى و النجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى روى الفقيه علي بن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس قال كنت جالسا مع فتية من بني هاشم عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ انقض كوكب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من انقض هذا النجم في منزله فهو الوصي من بعدي فقام فتية من بني هاشم فنظروا فإذا الكوكب قد انقض في منزل علي قالوا يا رسول الله قد غويت في حب علي فانزل الله تعالى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى.(7/42)
*و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحته كما تقدم و ذلك أن القول بلا علم حرام بالنص و الإجماع قال تعالى و لا تقف ما ليس لك به علم وقال قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق و أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم و قال ومن الناس من يجادل في الله بغير علم و قال الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله و عند الذين آمنوا والسلطان الذي أتاهم هو الحجة الآتية من عند الله كما قال أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون و قال أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم أن كنتم صادقين و قال أن هي إلا أسماء سميتموها انتم و آباؤكم ما انزل الله بها من سلطان(7/43)
فما جاءت به الرسل عن الله فهو سلطان فالقرآن سلطان و السنة سلطان لكن لا يعرف أن النبي صلى الله عليه و سلم جاء به إلا بالنقل الصادق عن الله فكل من احتج بشيء منقول عن النبي صلى الله عليه و سلم فعليه أن يعلم صحته قبل أن يعتقد موجبه و يستدل به و إذا احتج به على غيره فعليه بيان صحته و إلا كان قائلا بلا علم مستدلا بلا علم و إذا علم أن في الكتب المصنفة في الفضائل ما هو كذب صار الاعتماد على مجرد ما فيها مثل الاستدلال بشهادة الفاسق الذي يصدق تارة و يكذب أخرى بل لو لم يعلم أن فيها كذبا لم يفدنا علما حتى نعلم ثقة من رواها و بيننا و بين الرسول مئون من السنين و نحن نعلم بالضرورة أن فيما ينقل الناس عنه و عن غيره صدقا و كذبا و قد روى عنه انه قال سيكذب علي فان كان هذا الحديث صدقا فلا بد أن يكذب عليه و أن كان كذبا فقد كذب عليه و أن كان كذلك لم يجز لأحد أن يحتج في مسالة فرعية بحديث حتى يبين ما به يثبت فكيف يحتج في مسائل الأصول التي يقدح فيها خيار القرون و جماهير المسلمين و سادات أولياء الله المقربين بحيث لا يعلم المحتج به صدقه
(7/44)
و هو لو قيل له أتعلم أن هذا واقع فان قال اعلم ذلك فقد كذب فمن أين يعلم و قوعه و يقال له من أين علمت صدق ذلك و ذلك مما لا يعرف إلا بالإسناد و معرفة أحوال الرواة و أنت لا تعرفه و لو انك عرفته لعرفت أن هذا كذب و أن قال لا اعلم ذلك فكيف يسوغ لك الاحتجاج بما لا تعلم صحته.
الثاني: أن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالحديث و هذا المغازلي ليس من أهل الحديث كابي نعيم و أمثاله و لا هو أيضا من جامعي العلم الذين يذكرون ما غالبه حق و بعضه باطل كالثعلبي و أمثاله بل هذا لم يكن الحديث من صنعته فعمد إلى ما وجده من كتب الناس من فضائل علي فجمعها كما فعل اخطب خوار زم و كلاهما لا يعرف الحديث و كل منهما يروي فيما جمعه من الأكاذيب الموضوعة ما لا يخفى انه كذب على اقل علماء النقل و الحديث و لسنا نعلم أن أحدهما يتعمد الكذب فيما ينقله لكن الذيتيقناه أن الأحاديث التي يروونها فيها ما هو كذب كثير باتفاق أهل العلم و ما قد كذبه الناس قبلهم و هما و أمثالهما قد يروون ذلك و لا يعلمون أنه كذب و قد يعلمون أنه كذب فلا ادري هل كانا من أهل العلم بان هذا كذب أو كانا مما لا يعلمان ذلك و هذا الحديث ذكره الشيخ أبو الفرج في الموضوعات لكن بسياق آخر من حديث محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال لما عرج بالنبي صلى الله عليه و سلم إلى السماء السابعة و أراه الله من العجائب في كل سماء فلما اصبح جعل يحدث الناس عن عجائب ربه فكذبه من أهل مكة من كذبه و صدقه من صدقه فعند ذلك انقض نجم من السماء فقال النبي صلى الله عليه و سلم في دار من و قع هذا النجم فهو خليفتي من بعدي فطلبوا ذلك النجم فوجدوه في دار علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال أهل مكة(7/45)
ضل محمد و غوى و هوى أهل بيته و مال إلى ابن عمه على بن أبي طالب رضي الله عنه فعند ذلك نزلت هذه السورة و النجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى قال أبو الفرج هذا حديث موضوع لا شك فيه و ما ابرد الذي وضعه و ما ابعد ما ذكر و في إسناده ظلمات منها أبو صالح و كذلك الكلبي و محمد بن مروان السدي و المتهم به الكلبي قال أبو حاتم بن حبان كان الكلبي من الذين يقولون أن عليا لم يمت و أنه يرجع إلى الدنيا و أن راو سحابة قالوا أمير المؤمنين فيها لا يحل الاحتجاج به قال و العجب من تغفيل من وضع هذا الحديث كيف رتب ما لا يصح في المعقول من أن النجم يقع في دار و يثبت إلى أن يرى و من بلهه أنه وضع هذا الحديث على ابن عباس و كان ابن عباس زمن المعراج ابن سنتين فكيف يشهد تلك الحالة و يرويهاقلت إذا لم يكن هذا الحديث في تفسير الكلبي المعروف عنه فهو مما وضع بعده و هذا هو الأقرب قال أبو الفرج و قد سرق هذا الحديث بعينه قوم و غيروا إسناده و رووه بإسناد غريب من طريق أبي بكر العطار عن سليمان بن احمد المصري و من طريق أبي قضاعة ربيعة بن محمد حدثنا ثوبان بن إبراهيم حدثنا مالك بن غسان النهشلي عن انس قال انقض كوكب على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم انظروا ألي هذا الكوكب فمن انقض في داره فهو خليفة من بعدي قال فنظرنا فإذا هو قد انقض في منزل علي فقال جماعة قد غوى محمد في حب علي فانزل الله تعالى و النجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى
(7/46)
قال أبو الفرج و هذا الحديث هو المتقدم سرقه بعض هؤلاء الرواة فغير إسناده و من تغفيله وضعه إياه على انس فان أنسا لم يكن بمكة زمن المعراج و لا حين نزول هذه السورة لأن المعراج كان قبل الهجرة بسنة و انس أنما عرف رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة و في هذا الإسناد ظلمات أما مالك النهشلي فقال ابن حبان يأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الإثبات وأما ثوبان فهو أخو ذي النون المصري ضعيف في الحديث و أبو قضاعة منكر الحديث متروكه و أبو بكر العطار و سليمان بن أحمد مجهولان.
الوجه الثالث: أنه مما يبين أنه كذب أن فيه ابن عباس شهد نزول (سورة النجم). حين انقض الكوكب في منزل علي و (سورة النجم). باتفاق الناس من أول ما نزل بمكة و بن عباس حين مات النبي صلى الله عليه و سلم كان مراهقا للبلوغ لم يحتلم بعد هكذا ثبت عنه في الصحيحين فعند نزول هذه إلآيه أما أن ابن عباس لم يكن ولد بعد و أما أنه كان طفلا لا يميز فان النبي صلى الله عليه و سلم لما هاجر كان لابن عباس نحو خمس سنين و الأقرب أنه لم يكن ولد عند نزول (سورة النجم). فإنها من أوائل ما نزل من القران.(7/47)
الوجه الرابع: أنه لم ينقض قط كوكب إلى الأرض بمكة و لا بالمدينة و لا غيرهما و لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم كثر الرمي بالشهب و مع هذا فلم ينزل كوكب إلى الأرض و هذا ليس من الخوارق التي تعرف في العالم بل هو من الخوارق التي لا يعرف مثلها في العالم و لا يروي مثل هذا ألا من هو من اوقح الناس و أجرئهم على الكذب و اقلهم حياء و دينا و لا يروج ألا على من هو من اجهل الناس و أحمقهم و اقلهم معرفة و علما.
الوجه الخامس: أن نزول سورة النجم كان قي أول الإسلام و علي إذ ذاك كان صغيرا و الأظهر أنه لم يكن احتلم و لا تزوج بفاطمة و لا شرع بعد فرائض الصلاة أربعا و ثلاثا و اثنين و لا فرائض الزكاة و لا حج البيت و لا صوم رمضان و لا عأمةقواعد الإسلام و أمر الوصية بالإمأمة لو كان حقا أنما يكون في آخر الأمر كما ادعوه يوم غدير خم فكيف يكون قد نزل في ذلك الوقت.
الوجه السادس: أن أهل العلم بالتفسير متفقون على خلاف هذا و أن النجم المقسم به أما نجوم السماء و أما نجوم القران و نحو ذلك و لم يقل أحد أنه كوكب نزل في دار أحد بمكة.
الوجه السابع: أن من قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم غويت فهو كافر و الكفار لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يأمرهم بالفروع قبل الشهادتين و الدخول في الإسلام.(7/48)
الوجه الثامن: أن هذا النجم أن كان صاعقة فليس نزول الصاعقة في بيت شخص كرأمةله و أن كان من نجوم السماء فهذه لا تفارق الفلك و أن كان من الشهب فهذه يرمى بها رجوما للشياطين و هي لا تنزل إلى الأرض و لو قدر أن الشيطان الذي رمي بها وصل إلى بيت علي حتى احترق بها فليس هذا كرأمةله مع أن هذا لم يقع قط.
*فصل: قال الرافضي البرهان الخامس قوله تعالى أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا فروى احمد بن حنبل في مسنده عن واثلة بن الاسقع قال طلبت عليا في منزله فقالت فاطمة رضي الله عنها ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فجاءا جميعا فدخلا و دخلت معهما فاجلس عليا عن يساره و فاطمة عن يمينه و الحسن و الحسين بين يديه ثم التفع عليهم بثوبهو قال أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا اللهم أن هؤلاء أهلي حقا و عن أم سلمة قالت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في بيتها فاتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه فقال ادعي زوجك و ابنيك قالت فجاء علي و الحسن و الحسين فدخلوا و جلسوا يأكلون من تلك الحريرة و هو و هم على منام له علي و كان تحته كساء خيبري قالت و أنا في الحجرة أصلي فانزل الله تعالى هذه الآية أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا قالت فاخذ فضل الكساء و كساهم به ثم اخذ يده فألوى بها إلى السماء و قال هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس(7/49)
و طهرهم تطهيرا و كرر ذلك قالت فأدخلت رأسي و قلت و أنا معهم يا رسول الله قال انك إلى خير وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظه أنما و إدخال اللام في الخبر و الاختصاص في الخطاب بقوله أهل البيت والتكرير بقوله ويطهركم والتأكيد بقوله تطهيرا و غيرهم ليس بمعصوم فتكون الإمأمةفي علي و لأنه ادعاها في عدة من أقواله كقوله و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة و هو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى و قد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا فيكون هو الإمام.
*و الجواب: أن هذا الحديث صحيح في الجملة فانه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعلي و فاطمة و حسن و حسين اللهم أن هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراو روى ذلك مسلم عن عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة و عليه مرط مرحل من شعر اسود فجاء الحسن بن علي فادخله معه ثم جاءت فاطمة فادخلها معه ثم جاء علي فادخله ثم قال ثم لاجاء الحسين فأدخله معه أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا و هو مشهور من رواية أم سلمة من رواية احمد و الترمذي لكن ليس في هذا دلالة على عصمتهم و لا إمامتهم و تحقيق ذلك في مقامين أحدهما أن قوله أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا كقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و كقوله يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و كقوله يريد الله ليبن لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم و يتوب عليكم و الله عليم حكيم و الله يريد أن يتوب عليكم و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما فان أرادة الله في هذه الآيات متضمنة المحبة الله لذلك المراد و رضاه به و أنه شرعه للمؤمنين و أمرهم به ليس في ذلك أنه خلق ذلك المراد و لا أنه قضاه و قدره و لا أنه يكون لا محالة والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم بعد نزول هذه الآية(7/50)
قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا فطلب من الله لهم إذهاب الرجس و التطهير فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد اذهب عنهم الرجس و طهرهم لم يحتج إلى الطلب و الدعاء وهذا على قول القدرية أظهر فان أرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد بل قد يريد ما لا يكون و يكون ما لا يريد فليس في كونه تعالى مريدا لذلك ما يدل على وقوعه و هذا الرافضي و أمثاله قدرية فكيف يحتجون بقوله أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت على وقوع المراد و عندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض فلم يقع مراده و أما على قول أهل الإثبات فالتحقيق في ذلك أن الأرادة في كتاب الله نوعان أرادة شرعية دينية تتضمن محبته و رضاه و أرادة كونية قدرية تتضمن خلقه و تقديره الأولى مثل هؤلاء الآيات و الثانية مثل قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح زيارده صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء و قول نوح و لا ينفعكم نصحي أن أردت أن انصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم
(7/51)
و كثير من المثبة و القدرية يجعل الأرادة نوعا واحدا كما يجعلون الأرادة و المحبة شيئا واحدا ثم القدرية ينفون أرادته لما بين أنه مراد في آيات التقدير وأولئك ينفون إرادته لما بين أنه مراد في آيات التشريع فان عندهم كل ما قيل أنه مراد فلا بدان يكون كائنا و الله قد اخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين و أن يطهرهم و فيهم من تاب و فيهم من لم يتب و فيهم من تطهر و فيهم من لم يتطهر و إذا كانت الآية دالة على وقوع ما أراده من التطهير و إذهاب الرجس لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه و مما يبين ذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مذكورات في الآية و الكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه و وعد الثواب على فعله و العقاب على تركه قال تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على الله يسيرا و من يقنت منكن لله و رسوله و تعمل صالحا نؤتها اجرها مرتين و اعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض إلى قوله و اطعن الله و رسوله أنما يريد الله
(7/52)
ليذهب الرجس عنكم أهل البيت و يطهركم تطهيرا فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه و سلم و معهن الأمر و النهي و الوعد والوعيد لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن و تعم غيرهن من أهل البيت جاء التطهير بهذا الخطاب و غيره و ليس مختصا بأزواجه بل هو متناول لأهل البيت كلهم و علي و فاطمة و الحسن و الحسين أخص من غيرهم بذلك و لذلك خصهم النبي صلى الله عليه و سلم بالدعاء لهم و هذا كما أن قوله لمسجد أسس على التقوى من أول يوم نزلت بسبب مسجد قباء لكن الحكم يتناوله و يتناول ما هو أحق منه بذلك و هو مسجد المدينة وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال هو مسجدي هذا و ثبت عنه في الصحيح أنه كان يأتي قباء كل سبت ماشيا و راكبا فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة و يأتي قباء يومالسبت و كلاهما مؤسس على التقوى و هكذا أزواجه و علي و فاطمة و الحسن و الحسين كلهم من أهل البيت لكن عليا و فاطمة و الحسن و الحسين أخص بذلك من أزواجه و لهذا خصهم بالدعاء و قد تنازع الناس في آل محمد من هم فقيل هم أمته و هذا قول طائفة من أصحاب مالك و احمد و غيرهم و قيل المتقون من أمته و رووا حديثا آل محمد كل مؤمن تقي رواه الخلال و تمام في الفوائد له و قد احتج به طائفة من أصحاب احمد و غيرهم و هو حديث موضوع و بنى على ذلك طائفة من الصوفية أن آل محمد هم خواص الأولياء كما ذكر الحكيم الترمذي والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته و هذا هو المنقول عن الشافعي و احمد و هو اختيار الشريف أبي جعفر و غيرهم لكن هل أزواجه من أهل
(7/53)
بيته على قولين هما روايتان عن احمد أحدهما أنهن لسن من أهل البيت و يروى هذا عن زيد بن أرقم و الثاني هو الصحيح أن أزواجه من آله فانه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه علمهم الصلاة عليه الله صل على محمد و أزواجه و ذريته و لأن أمرأة إبراهيم من آله و أهل بيته و أمرأة لوط من آله و أهل بيته بدلالة القران فكيف لا يكون أزواج محمد من آله و أهل بيته و لأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته و ألا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى و أما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه كما ثبت في الصحيح أنه قال أن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء و أنما وليي الله و صالح المؤمنين فبين أن أولياءه صالح المؤمنين و كذلك في حديث آخر أن أوليائي المتقون حيث كانوا و اين كانواو قد قال تعالى و أن تظاهرا عليه فان الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و في الصحاح عنه أنه قال وددت أنى رأيت إخواني قالوا أولسنا إخوانك قال بل انتم أصحابي و إخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي و لم يروني
(7/54)
و إذا كان كذلك فأولياؤه المتقون بينه و بينهم قرابة الدين و الإيمان و التقوى و هذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطينية و القرب بين القلوب و الأرواح أعظم من القرب بين الأبدان و لهذا كان افضل الخلق أولياؤه المتقون و أما أقاربه ففيهم المؤمن و الكافر و البر و الفاجر فان كان فاضلا منهم كعلي رضي الله عنه و جعفر و الحسن و الحسين فتفضيلهم بما فيهم من الإيمان و التقوى و هم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب فأولياؤه أعظم درجة من آله و أن صلى على آله تبعا له لم يقتض ذلك أن يكونوا افضل من أوليائه الذين لم يصل عليهم فان الأنبياء و المرسلين هم من أوليائه و هم افضل من أهل بيته و أن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا فالمفضول قد يختص بأمر و لا يلزم أن يكون افضل من الفاضل و دليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلي عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين فقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء افضل منهن كلهن
(7/55)
فان قيل فهب أن القران لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير و إذهاب الرجس لكن دعاء النبي صلى الله عليه و سلم لهم بذلك يدل على وقوعه فان دعاءه مستجاب قيل المقصود ان القرآن لا يدل ما ادعاه من ثبوت الطهارة و إذهاب الرجس فضلا عن ان يدل على العصمة و الإمأمة و أما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر ثم نقول في المقام الثاني هب أن القران دل على طهارتهم و إذهاب الرجس عنهم كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يتحقق معه طهارة المدعو لهم و إذهاب الرجس عنهم لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ و الدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ فأن الخطأ مغفور لهن و لغيرهن و سياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث كالفواحش و يطهرهم تطهيرا من الفواحش و غيرها من الذنوب و التطهير من الذنب على وجهين كما في قوله و ثيابك فطهر و قوله إنهم أناس يتطهرون فإنه قالفيها من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و التطهير عن الذنب أما بأن لا يفعله العبد و أما بأن يتوب منه كما في قوله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها لكن ما أمر الله به من الطهارة ابتداء و أرادة فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة لا يتضمن الإذن فيها بحال لكن هو سبحانه ينهى عنها و يأمر من فعلها بأن يتوب منها و في الصحيح عن النبي انه كان يقول اللهم باعد بيني و بين خطاياي كما باعدت بين المشرق و المغرب و اغسلني بالثلج و البرد و الماء البارد اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس و في الصحيحين أنه قال لعائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قبل أن يعلم النبي براءتها و كان قد ارتاب في أمرها فقال يا عائشة أن كنت بريئة فسيبرئك الله و أن كنت الممت بذنب
(7/56)
فاستغفري الله وتوبي إليه فان العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب الله عليه و بالجملة لفظ الرجس أصله القذر و يراد به الشرك كقوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان و يراد به الخبائث المحرمة كالمطعومات و المشروبات كقوله قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ألا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسق و قوله أنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان و إذهاب ذلك إذهاب لكله و نحن نعلم أن الله اذهب عن أولئك السادة الشرك و الخبائث و لفظ الرجس عام يقتضي أن الله يريد أن يذهب جميع الرجس فإن النبي صلى الله عليه و سلم دعا بذلك و أما قوله و طهرهم تطهيرا فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة و بعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة و يقول مثل ذلك في قوله فاعتبروا يا أولى الأبصار و نحو ذلك و التحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق كما إذا قيل اكرم هذا أي افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراما و كذلك
(7/57)
ما يسمى عند الإطلاق اعتبارا و الإنسان لا يسمى معتبرا إذا اعتبر في قصة و ترك ذلك في نظيرها و كذلك لا يقال هو طاهر أو متطهرا أو مطهرا إذا كان متطهرا من شيء متنجسا بنظيره و لفظ الطاهر كلفظ الطيب قال تعالى و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات كما قال الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و قد روى أنه قال لعمار ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب و هذا أيضا كلفظ المتقي و لفظ المزكي قال تعالى قد افلح من زكاها و قد خاب من دساها و قال خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و قال قد افلح من تزكى و قال و لولا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد و لكن الله يزكي من يشاء و ليس من شرط المتقين و نحوهم أن لا يقع منهم ذنب و لا أن يكونوا معصومين من الخطأ و الذنوب فإن هذا لو كان كذلك لم يكن في الأمة متق بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين و من فعل ما يكفر سيئاته دخل في المتقين كما قال أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا كريما
(7/58)
فدعاء النبي صلى الله عليه و سلم بان يطهرهم تطهيرا كدعائه بان يزكيهم و يطيبهم و يجعلهم متفقين و نحو ذلك و معلوم أن من استقر أمره على ذلك فهو داخل في هذا لا تكون الطهارة التي دعا بها بأعظم مما دعا به لنفسه و قد قال اللهم طهرني من خطاياي بالثلج و البرد و الماء البارد فمن وقع ذنبه مغفورا أو مكفرا فقد طهره الله منه تطهيرا و لكن من مات متوسخا بذنوبه فانه لم يطهر منها في حياته و قد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس و النبي صلى الله عليه و سلم إذا دعا بدعاء أجابه الله بحسب استعداد المحل فإذا استغفر للمؤمنين و المؤمنات لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب فإن هذا لو كان واقعا لما عذب مؤمن لا في الدنيا و لا في الآخرة بل يغفر الله لهذا بالتوبة و لهذا بالحسنات الماحية و يغفر الله لهذا ذنوبا كثيرة و أن واحدة بأخرى و بالجملة فالتطهير الذي أراده الله و الذي دعا به النبي صلى الله عليه و سلم ليس هو العصمة بالإتفاق فان أهل السنة عندهم لا معصوم ألا النبي صلى الله عليه و سلم و الشيعة يقولون لا معصوم غير النبي صلى الله عليه و سلم و الإمام فقد وقع الاتفاق على انتفاء العصمة المختصة بالنبي صلى الله عليه و سلم و الإمام عن أزواجه و بناته و غيرهن من النساء
(7/59)
و إذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة متضمنا للعصمة التي يختص بها النبي صلى الله عليه و سلم و الإمام عندهم فلا يكون من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم بهذه العصمة لا لعلي و لا لغيره فإنه دعا بالطهارة لأربعة مشتركين لم يختص بعضهم بدعوة و أيضا فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية بل و بالتطهير أيضا فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات و ترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب و لا يمكنه أن يجعل العبد مطيعا و لا عاصيا و لا متطهرا من الذنوب و لا غير متطهر فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بان يجعله فاعلا للواجبات تاركا للمحرمات و أنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير و الشر كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم و الكافر و المال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة و المعصية ثم العبد يفعل باختياره أما الخير و أما الشر بتلك القدرة و هذا الأصل يبطل حجتهم و الحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل حيث دعا النبي صلى الله عليه و سلم لهم بالتطهير فإن قالوا المراد بذلك أنه يغفر لهم و لا يؤاخذهمكان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة فتبين أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة و العصمة مطلقا التي هي فعل المأمور و ترك المحظور ليست مقدورة عندهم لله و لا يمكنه أن يجعل أحدا فاعلا لطاعة و لا تاركا لمعصية لا لنبي و لا لغيره فيمتنع عندهم أن من يعلم انه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه لا بإعانة الله و هدايته و هذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة كما تقدم و لو قدر ثبوت العصمة فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة و لا إجماع على انتفاء العصمة في غيرهم و حينئذ فتبطل حجتهم بكل طريق و أما قوله أن عليا ادعاها و قد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا فجوابه من وجوه أحدها أنا لا نسلم أن عليا ادعاها بل نحن نعلم بالضرورة علما متيقنا أن عليا ما ادعاها قط حتى قتل عثمان و أن
(7/60)
كان قد يميل بقلبه إلى أن يولي لكن ما قال إني أنا الإمام و لا أنى معصوم و لا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعلني إلإمام بعده و لا أنه أوجب على الناس متابعتي و لا نحو هذه الألفاظ بل نحن نعلم بالاضطرار أن من نقل هذا و نحوه عنه فهو كاذب عليه و نحن نعلم أن عليا كان اتقى لله من أن يدعي الكذب الظاهر الذي تعلم الصحابة كلهم أنه كذب و أما نقل الناقل عنه أنه قال لقد تقمصها ابن أبي قحافة و هو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى فنقول أولا أين إسناد هذا النقل بحيث ينقله ثقة عن ثقة متصلا إليه و هذا لا يوجد قط و أنما يوجد مثل هذا في كتاب نهج البلاغة و أمثاله و أهل العلم يعلمون أن اكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي و لهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم و لا لها إسناد معروف فهذا الذي نقلها من أين نقلها و لكن هذه الخطب بمنزلة من يدعي أنه علوي أو عباسي و لا نعلم أحدا من سلفه ادعى ذلك قط ولا ادعى ذلك له فيعلم كذبه فإن النسب يكون معروفا من أصله حتى يتصل بفرعه و كذلك المنقولات لا بد أن تكون ثابته معروفة عمن نقل عنه حتى تتصل بنا فإذا صنف واحد كتابا ذكر فيه خطبا كثيرة للنبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر
(7/61)
و عمر و عثمان و لم علي و لم يرو أحد منهم تلك الخطب قبله بإسناد معروف علمنا قطعا أن ذلك كذب و في هذه الخطب أمور كثيرة قد علمنا بقينا من علي ما يناقضها و نحن في هذا المقام ليس علينا أن نبين أن هذا كذب بل يكفينا المطالبة بصحة النقل فإن الله لم يوجب على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه بل هذا ممتنع بالاتفاق لا سيما على القول بامتناع تكليف ما لا يطاق فإن هذا من أعظم تكليف ما لا يطاق فكيف يمكن الإنسان أن يثبت ادعاء علي للخلافة بمثل حكاية ذكرت عنه في اثناء المائة الرابعة لما كثر الكذابون عليه و صار لهم دولة تقبل منهم ما يقولون سواء كان صدقا أو كذبا و ليس عندهم من يطالبهم بصحة النقل و هذا الجواب عمدتنا في نفس الأمر و فيما بيننا و بين الله تعالى ثم نقول هب أن عليا قال ذلك فلم قلت أنه أراد اني إمام معصوم منصوص عليه و لم لا يجوز أنه أراد اني كنت احق بها من غيري لاعتقاده في نفسه أنه افضل و احق من غيره و حينئذ فلا يكون مخبرا عن أمر تعمد فيه الكذب و لكن يكون متكلما باجتهاده و الاجتهاد يصيب و يخطئ
(7/62)
و نفي الرجس لا يوجب أن يكون معصوما من الخطإ بالاتفاق بدليل أن الله لم يرد من أهل البيت أن يذهب عنهم الخطإ فإن ذلك غير مقدور عليه عندهم و الخطإ مغفور فلا يضر وجوده و أيضا فالخطأ لا يدخل فيه عموم الرجس وأيضا فانه لا معصوم من أن يقر على خطأ ألا رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم يخصون ذلك بالأئمة بعده و إذهاب الرجس قد اشترك فيه علي و فاطمة و غيرهما من أهل البيت و أيضا فنحن نعلم أن عليا كان اتقى لله من أن يتعمد الكذب كما أن أبا بكر و عمر و عثمان و غيرهم كانوا اتقى لله من أن يتعمدوا للكذب لكن لو قيل لهذا المحتج بالآلية أنت لم تذكر دليلا على أن الكذب من الرجس و إذا لم تذكر على ذلك دليلا لم يلزم من إذهاب الرجس إذهاب الكذبة الواحدة إذا قدر أن الرجس ذاهب فهو فيمن يحتج بالقران و ليس في القران ما يدل على إذهاب الرجس و لا ما يدل على أن الكذب و الخطأ من الرجس و لا أن عليا قال ذلك و لكن هذا كله لو صح شيء منه لم يصح ألا بمقدمات ليست في القران فأين البراهين التي في القران على الإمامة و هل يدعي هذا إلا من هو من أهل الخزي و الندامة.
*فصل قال الرافضي البرهان السادس في قوله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال إلى قوله يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الأبصار قال الثعلبي بإسناده عن انس و بريده قالا قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية فقام رجل فقال أي بيوت هذه يا رسول الله فقال بيوت الأنبياء فقام إليه أبو بكر فقال يا رسول الله هذا البيت منها يعني بيت علي و فاطمة قال نعم من أفضلها وصف فيها الرجال بما يدل على أفضليتهم فيكون علي هو الإمام و ألا لزم تقديم المفضول على الفاضل.(7/63)
*والجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل و مجرد عزو ذلك إلى الثعلبي ليس بحجة باتفاق أهل السنة و الشيعة و ليس كل خبر رواه واحد من الجمهور يكون حجة عند الجمهور بل علماء الجمهور متفقون على أن ما يرويه الثعلبي و أمثاله لا يحتجون به لا في فضيلة أبي بكر و عمر و لا في إثبات حكم من الأحكام ألا أن يعلم ثبوته بطريق فليس له أن يقول أنا نحتج عليكم بالأحاديث التي يرويها واحد من الجمهور فإن هذا بمنزلة من يقول أنا احكم عليكم بمن يشهد عليكم من الجمهور فهل يقول أحد من علماء الجمهور أن كل من شهد منهم فهو عدل أو قال أحد من علمائهم أن كل من روى منهم حديثا كان صحيحا ثم علماء الجمهور متفقون على أن الثعلبي و أمثاله يروون الصحيح و الضعيف و متفقون على أن مجرد روايته لا توجب اتباع ذلك و لهذا يقولون في الثعلبي و أمثاله أنه حاطب ليل يروي ما وجد سواء كان صحيحا أو سقيما فتفسيره و أن كان غالب الأحاديث التي فيه صحيحة ففيه ما هو كذب موضوع باتفاق أهل العلم(7/64)
و لهذا اختصره أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي و كان اعلم بالحديث و الفقه منه و الثعلبي اعلم بأقوال المفسرين ذكر البغوي عنه أقوال المفسرين و النحاة و قصص الأنبياء فهذه الأمور نقلها البغوي من الثعلبي و أما الأحاديث فلم يذكر في تفسيره شيئا من الموضوعات التي رواها الثعلبي بل يذكر الصحيح منها و يعزوه إلى البخاري و غيره فإنه مصنف كتاب شرح السنة و كتاب المصابيح و ذكر ما في الصحيحين و السنن و لم يذكر الأحاديث التي تظهر لعلماء الحديث إنها موضوعة كما يفعله غيره من المفسرين كالوا حدي صاحب الثعلبي و هو اعلم بالعربية منه و كالزمخشري و غيرهم من المفسرين الذين يذكرون من الأحاديث ما يعلم أهل الحديث أنه موضوع.
الثاني: أن هذا الحديث موضوع عند أهل المعرفة بالحديث و لهذا لم يذكره علماء الحديث في كتبهم التي يعتمد في الحديث عليها كالصحاح و السنن و المساند مع أن في بعض هذه ما هو ضعيف بل ما يعلم أنه كذب لكن هذا قليل جدا و أما هذا الحديث و أمثاله فهو أظهر كذبا من أن يذكروه في مثل ذلك.(7/65)
الثالث: أن يقال الآية باتفاق الناس هي في المساجد كما قال في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال و بيت علي و غيره ليس موصوفا بهذه الصفة.
الرابع: أن يقال بيت النبي صلى الله عليه و سلم افضل من بيت علي باتفاق المسلمين و مع هذا لم يدخل في هذه الآية لأنه ليس في بيته رجال و أنما فيه هو و الواحدة من نسائه و لما أراد بيت النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تدخلوا بيوت النبي و قال و اذكرن ما يتلى في بيوتكن.
الوجه الخامس: أن قوله هي بيوت الأنبياء كذب فانه لو كان كذلك لم يكن لسائر المؤمنين فيها نصيب و قوله يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال لا تليهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله متناول لكل من كان بهذه الصفة.
الوجه السادس: أن قوله في بيوت أذن الله أن ترفع نكرة موصوفة ليس فيها تعيين وقوله أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه أن أراد بذلك ما لا يختص به المساجد من الذكر في البيوت و الصلاة فيها دخل ذلك بيوت اكثر المؤمنين المتصفين بهذه الصفة فلا تختص بيوت الأنبياء(7/66)
وان أراد بذلك ما يختص به المساجد من وجود الذكر في الصلوات الخمس و نحو ذلك كانت مختصة بالمساجد و أما بيوت الأنبياء فليس فيها خصوصية المساجد و أن كان لها فضل بسكنى الأنبياء فيها.
الوجه السابع: أن يقال أن أريد ببيوت الأنبياء ما سكنه النبي صلى الله عليه و سلم فليس في المدينة من بيوت الأنبياء ألا بيوت أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فلا يدخل فيها بيت علي و أن أريد ما دخله الأنبياء فالنبي صلى الله عليه و سلم قد دخل بيوت كثير من الصحابة و أي تقدير قدر في الحديث لا يمكن تخصيص بيت علي بأنه من بيوت الأنبياء دون بيت أبي بكر و عمر و عثمان و نحوهم و إذا لم يكن له اختصاص فالرجال مشتركون بينه و بين غيره.
الوجه الثامن: أن يقال قوله الرجال المذكورون موصوفون بأنهم لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله ليس في الآية ما يدل على انهم افضل من غيرهم و ليس فيها ذكر ما وعدهم الله به من الخير و فيها الثناء عليهم و لكن ليس كل من اثني عليه أو وعد بالجنة يكون افضل من غيره و لهذا لم يلزم أن يكون هو افضل من الأنبياء.(7/67)
الوجه التاسع: أن يقال هب أن هذا يدل على انهم افضل ممن ليس كذلك من هذا الوجه لكن لم قلت أن هذه الصفة مختصة بعلي بل كل من كانت لا تلهيه التجارة و البيع عن ذكر الله و اقام الصلاة و إيتاء الزكاة و يخاف بوم القيامة فهو متصف بهذه الصفة فلم قلت أنه ليس متصف بذلك ألا عليا و لفظ الآية يدل على انهم رجال ليسوا رجلا واحدا فهذا دليل على أن هذا لا يختص بعلي بل هو و غيره مشتركون فيها و حينئذ فلا يلزم أن يكون افضل من المشاركين له فيها.
الوجه العاشر: أنه لو سلم أن عليا افضل من غيره في هذه الصفة فلم قلت أن ذلك يوجب الإمامة و أما امتناع تقديم المفضول على الفاضل إذا سلم فإنما هو في مجموع الصفات التي تناسب الإمامة و ألا فليس كل من فضل في خصلة من الخير استحق أن يكون هو الإمام و لو جاز هذا لقيل ففي الصحابة من قتل من الكفار اكثر مما قتل علي و فيهم من انفق من ماله اكثر مما انفق علي و فيهم من كان اكثر صلاة و صياما من علي و فيهم من أوذي في الله اكثر من علي و فيهم من كان أسن من علي و فيهم من كان عنده من العلم ما ليس عند علي و بالجملة لا يمكن أن يكون واحد من الأنبياء له مثل ما لكل واحد من الأنبياء من كل وجه و لا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل أحد(7/68)
من الصحابة من كل وجه بل يكون في المفضول نوع من الأمور التي يمتاز بها عن الفاضل و لكن الاعتبار في التفضيل بالمجموع.
*فصل قال الرافضي البرهان السابع قوله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا ألا المودة في القربى روى احمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس قال لما نزلت قل لا أسألكم عليه أجرا ألا المودة في القربى قالوا يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم قال علي و فاطمة و ابناهما و كذا في تفسير الثعلبي و نحوه في الصحيحين و غير علي من الصحابة و الثلاثة لا تجب مودته فيكون علي افضل فيكون هو الإمام و لأن مخالفته تنافي المودة و بامتثال أوامره تكون مودته فيكون واجب الطاعة و هو معنى الإمامة.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة هذا الحديث و قولهأن احمد روى هذا في مسنده كذب بين فان هذا مسند احمد موجود به من النسخ ما شاء الله و ليس فيه هذا الحديث و أظهر من ذلك كذبا قوله أن نحو هذا في الصحيحين و ليس هو في الصحيحين بل فيهما و في المسند ما يناقض ذلك ولا ريب أن هذا الرجل و أمثاله جهال بكتب أهل العلم لا يطالعونها و لا يعلمون ما فيها و رأيت بعضهم جمع لهم كتابا في أحاديث من كتب متفرقة معزوة تارة إلى الصحيحين و تارة إلى مسند احمد و تارة إلى المغازلي و الموفق خطيب خوارزم و الثعلبي و أمثاله و سماه الطرائف في الرد على الطوائف و آخر صنف كتابا لهم سماه العمدة و اسم مصنفه ابن البطريق و هؤلاء مع كثرة الكذب فيما يروونه فهم امثل حالا من أبي جعفر محمد بن علي الذي صنف لهم و أمثاله فان هؤلاء يروون من الأكاذيب ما لا يخفى ألا على من هو من اجهل الناس و رأيت كثيرا من ذلك المعزو الذي عزاه أولئك إلى المسند و الصحيحين و غيرهما باطلا لا حقيقة له يعزون إلى مسند احمد ما ليس فيه أصلا لكن احمد صنف كتابا في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان و علي و غيرهم وقد يروي في هذا الكتاب ما ليس في المسند و ليس كل(7/69)
ما رواه احمد في المسند و غيره يكون حجة عنده بل يروي ما رواه أهل العلم و شرطه في المسند أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده و أن كان في ذلك ما هو ضعيف و شرطه في المسند مثل شرط أبي داود في سننه و أما كتب الفضائل فيروي ما سمعه من شيوخه سواء كان صحيحا أو ضعيفا فانه لم يقصد أن لا يروي في ذلك إلا ما ثبت عنده ثم زاد ابن احمد زيادات وزاد أبو بكر القطيعى زيادات و في زيادات القطيعي زيادات كثيرة كذب موضوعة فظن الجاهل أن تلك من رواية احمد و انه رواها في المسند و هذا خطأ قبيح فإن الشيوخ المذكورين شيوخ القطيعي و كلهم متأخر عن احمد وهم ممن يروى عن أحمد لا ممن يروي احمد عنه و هذا مسند احمد و كتاب الزهد له و كتاب الناسخ و المنسوخ و كتاب التفسير و غير ذلك من كتبه يقول حدثنا و كيع حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان حدثنا عبد الرزاق فهذا احمد و تارة يقول حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا علي بن الجعد حدثنا أبو نصر التمار فهذا عبد الله و كتابه في فضائل الصحابة له فيه هذا و هذا و فيه من زيادات القطيعي يقول حدثنا احمد بن عبد الجبار الصوفي و أمثاله ممن هو مثل عبد الله بن احمد في الطبقة و هو ممن غايته أن يروي عن احمد فإن احمد ترك الرواية في آخر عمره لما طلب الخليفة أن يحدثه و يحدث ابنه
(7/70)
و يقيم عنده فخاف على نفسه من فتنة الدنيا فامتنع من الحديث مطلقا ليسلم من ذلك و لأنه كان قد حدث بما كان عنده قبل ذلك فكان يذكر الحديث بإسناده بعد شيوخه و لا يقول حدثنا فلان فكان من يسمعون منه ذلك يفرحون بروايته عنه فهذا القطيعي يروي عن شيوخه زيادات و كثير منها كذب موضوع و هؤلاء قد وقع لهم هذا الكتاب و لم ينظروا ما فيه من فضائل سائر الصحابة بل اقتصروا على ما فيه من فضائل علي و كلما زاد حديثا ظنوا أن القائل ذلك هو احمد بن حنبل فإنهم لا يعرفون الرجال و طبقاتهم و أن شيوخ القطيعي يمتنع أن يروي احمد عنهم شيئا ثم انهم لفرط جهلهم ما سمعوا كتابا إلا المسند فلما ظنوا أن احمد رواه و انه إنما يروي في المسند صاروا يقولون لما رواه القطيعي رواه احمد في المسند هذا أن لم يزيدوا على القطيعي ما لم يروه فإن الكذب عندهم غير مأمون و لهذا يعزو صاحب الطرائف و صاحب العمدة أحاديث يعزوها إلى احمد لم يروها احمد لا في هذا و لا في هذا و لا سمعها أحد
(7/71)
قط و احسن حال هؤلاء أن تكون تلك مما رواه القطيعي و ما رواه القطيعي فيه من الموضوعات القبيحة الوضع ما لا يخفى على عالم و نقل هذا الرافضي من جنس صاحب كتاب العمدة و الطرائف فما ادري نقل منه أو عمن ينقل عنه و إلا فمن له بالنقل أدنى معرفة يستحي ان يعزو مثل هذا الحديث إلى مسند احمد و الصحيحين والصحيحان و المسند نسخهما ملء الأرض و ليس هذا في شيء منها و هذا الحديث لم يرو في شيء من كتب العلم المعتمدة أصلا و إنما يروي مثل هذا من يحطب بالليل كالثعلبي و أمثاله الذين يروون الغث و السمين بلا تمييز.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث و هم المرجوع إليهم في هذا و هذا لا يوجد في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها.
الوجه الثالث: أن هذه الأيه في (سورة الشورى). و هي مكية باتفاق أهل السنة بل جميع آل حم مكيات و كذلك آل طس و من المعلوم أن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر و الحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة و الحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن و الحسين بسنين متعددة فكيف يفسر النبي صلى الله عليه و سلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف و لم تخلق بعد.(7/72)
الوجه الرابع: ان تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك ففي الصحيحين عن سعيد بن جبير قال سئل ابن عباس عن قوله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى فقلت أن لا تؤذوا محمدا في قرابته فقال ابن عباس عجلت انه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم قرابة فقال لا أسألكم عليه أجرا لكن أسألكم ان تصلوا القرابة التي بيني و بينكم فهذا ابن عباس ترجمان القران و اعلم أهل البيت بعد علي يقول ليس معناها مودة ذوي القربى لكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب و يا معشر قريش عليه أجرا لكن أسألكم ان تصلوا القرابة التي بيني و بينكم فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولا ان يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلغ رسالة ربه.
الوجه الخامس: انه قال لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى لم يقل إلا المودة في للقربى و لا المودة لذوي القربى فلو أراد المودة لذوي القربى لقال المودة لذوى القربى كما قال و اعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه و للرسول و لذوي القربى و قال ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لذي القربى وكذلك قوله فآت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل و قوله و أتى المال على حبه ذوي القربى و هكذا في غير موضع فجميع ما في القران من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه و سلم و ذوي قربى الإنسان إنما قيل فيها ذوي القربى لم يقل في القربى فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم دل على انه لم يرد ذوي القربى.
الوجه السادس: انه لو أريد المودة لهم لقال المودة لذوي القربى و لم يقل في القربى فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره أسألك المودة في فلان و لا في قربى فلان و لكن أسألك المودة لفلان و المحبة لفلان فلما قال المودة في القربى علم انه ليس المراد لذوي القربى.(7/73)
الوجه السابع: ان يقال إن النبي صلى الله عليه و سلم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرا ألبته بل أجره على الله كما قال قل ما أسألكم عليه من أجر و ما انا من المتكلفين و قوله أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون و قوله قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله و لكن الاستثناء هنا منقطع كما قال قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء ان يتخذ إلى ربه سبيلا ولا ريب ان محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه و سلم واجبة لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية و لا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه و سلم بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات و في الصحيح عنه انه خطب أصحابه بغدير يدعى خما بين مكة و المدينة فقال أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي و في السنن عنه انه قال و الذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله و لقرابتي فمن جعلمحبة أهل بيته أجرا له يوفيه إياه فقد اخطأ خطأ عظيما و لو كان أجرا له لم نثب عليه نحن لانا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة فهل يقول مسلم مثل هذا.
الوجه الثامن: ان القربى معرفة باللام فلا بد ان يكون معروفا عند المخاطبين الذين أمر ان يقول لهم قل لا أسألكم عليه أجرا و قد ذكرنا أنها لما نزلت لم يكن قد خلق الحسن و لا الحسين و لا تزوج علي بفاطمة فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها يمتنع ان تكون هذه بخلاف القربى التي بينه و بينهم فإنها معروفة عندهم كما تقول لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا و كما تقول لا أسألك إلا العدل بيننا و بينكم و لا أسألك إلا ان تتقي الله في هذا الأمر.(7/74)
الوجه التاسع: أنا نسلم أن عليا تجب مودته و موالاته بدون الاستدلال بهذه الآية لكن ليس في وجوب موالاته و مودته ما يوجب اختصاصه بالامامة ولا الفضيله بالفضيلة و أما قوله و الثلاثة لا تجب موالاتهم فممنوع بل يجب أيضا مودتهم و موالاتهم فإنه قد ثبت ان الله يحبهم و من كان الله يحبه وجب علينا ان نحبه فإن الحب في الله و البغض في الله واجب و هو أوثق عرى الإيمان و كذلك هم من أكابر أولياء الله المتقين و قد أوجب الله موالاتهم بل قد ثبت ان الله رضي عنهم و رضوا عنه بنص القران وكل من رضي الله عنه فانه يحبه و الله يحب المتقين والمحسنين والمقسطين و الصابرين و هؤلاء أفضل من دخل في هذه النصوص من هذه الأمة بعد نبيها و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد ان اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر فهو اخبرنا المؤمنين يتوادون و يتعاطفون و يتراحمون و انهم في ذلك كالجسد ال و هؤلاء قد ثبت إيمانهم بالنصوص و الإجماع كما قد ثبت إيمان علي و لا يمكن من قدح في إيمانهم يثبت إيمان علي بل كل طريق دل(7/75)
على إيمان علي فإنها على إيمانهم أدل و الطريق التي يقدح بها فيهم يجاب عنها كما يجاب عن القدح في علي و أولى فان الرافضي الذي يقدح فيهم و يتعصب لعلي فهو منقطع الحجة كاليهود و النصارى الذين يريدون إثبات نبوة موسى و عيسى و القدح في نبوة محمد صلى الله عليه و سلم و لهذا لا يمكن الرافضي أن يقيم الحجة على النواصب الذين يبغضون عليا أو يقدحون في إيمانه من الخوارج و غيرهم فإنهم إذا قالوا له بأي شيء علمت ان عليا مؤمن أو ولي لله تعالى فان قال بالنقل المتواتر بإسلامه و حسناته قيل له هذا النقل موجود في أبي بكر و عمر و عثمان و غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بل النقل المتواتر بحسنات هؤلاء السليمة عن المعارض اعظم من النقل المتواتر في مثل ذلك لعلي وإن قال بالقران الدال على إيمان علي قيل له القران إنما دل بأسماء عامة كقوله لقد رضي الله عن المؤمنين و نحو ذلك و أنت تخرج من ذلك أكابر الصحابة فإخراج واحد ان اسهل و قال بالأحاديث الدالة على فضائله أو نزول القران فيه قيل أحاديث أولئك أكثر و اصح و قد قدحت فيهم
(7/76)
و قيل له تلك الأحاديث التي في فضائل علي إنما رواها الصحابة الذين قدحت فيهم فان كان القدح صحيحا بطل النقل و كان النقل صحيحا بطل القدح و قال بنقل الشيعة أو تواترهم قيل له الصحابة لم يكن فيهم من الرافضة أحد و الرافضة تطعن في جميع الصحابة إلا نفرا قليلا بضعة عشر و مثل هذا قد يقال انهم قد تواطأوا على ما نقلوه فمن قدح في نقل الجمهور كيف يمكنه إثبات نقل نفر قليل و هذا مبسوط في موضعه و المقصود ان قوله و غير علي من الثلاثة لا تجب مودته كلام باطل عند الجمهور بل مودة هؤلاء أوجب عند أهل السنة من مودة علي لان وجوب المودة على مقدار الفضل فكل من كان أفضل كانت مودته اكمل وقد قال تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا قالوا يحبهم ويحببهم إلى عباده وهؤلاء أفضل من آمن وعمل صالحا من هذه الأمة بعد نبيها كما قال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود إلى السورة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل أي الناس احب إليك قال عائشة قيل فمن الرجال قال أبوها
(7/77)
وفي الصحيح أن عمر قال لأبي بكر رضي الله عنهما يوم السقيفة بل أنت سيدنا وخيرنا واحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديق ذلك ما استفاض في الصحاح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن مودة الإسلام فهذا يبين انه ليس في أهل الأرض أحق بمحبته ومودته من أبي بكر وما كان احب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو احب إلى الله وما كان احب إلى الله ورسوله فهو أحق ان يكون احب إلى المؤمنين الذين يحبون ما احبه الله ورسوله كما احب الله ورسوله والدلائل الدالة على انه أحق بالمودة كثيرة فضلا عن ان يقال ان المفضول تجب مودته وان الفاضل لا تجب مودته وأما قوله إن مخالفته تنافي المودة وامتثال أوامره هو مودته فيكون واجب الطاعة وهو معنى الإمامة فجوابه من وجوه أحدها ان كان المودة توجب الطاعة فقد وجبت مودة ذوى القربى فتجب طاعتهم فيجب ان تكون فاطمة أيضا إماما وان كان هذا باطلا فهذا مثله الثاني ان المودة ليست مستلزمة للإمامة في حال وجوب المودة فليس
(7/78)
من وجبت مودته كان إماما حينئذ بدليل ان الحسن والحسين تجب مودتهما قبل مصيرهما إمامين وعلي تجب مودته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن إماما بل تجب وان تأخرت إمامته إلى مقتل عثمان الثالث ان وجوب المودة ان كان ملزوم الإمامة وانتفاء الملزوم يقتضي انتفاء اللازم فلا تجب المودة إلا من يكون إماما معصوما فحينئذ لا يود أحد آمن المؤمنين ولا يحبهم فلا تجب مودة أحد من المؤمنين ولا يحبهم فلا ولا محبته إذا لم يكونوا أئمة لا شيعة على ولا غيرهم وهذا خلاف الإجماع وخلاف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام الرابع ان قوله والمخالفة تنافى المودة يقال متى كان ذلك واجب الطاعة أو مطلقا الثاني ممنوع و إلا لكان من أوجب على غيره شيئا لم يوجبه الله عليه أن خالفه فلا يكون محبا له فلا يكون مؤمن محبا لمؤمن حتى يعتقد وجوب طاعته وهذا معلوم الفسادأما و الأول فيقال إذا لم تكن المخالفة قادحة في المودة إلا إذا كان واجب الطاعة فحينئذ يجب ان يعلم أولا وجوب الطاعة حتى تكون مخالفته قادحة في مودته فإذا ثبت وجوب الطاعة بمجرد وجوب المودة
(7/79)
باطلا وكان ذلك دورا ممتنعا فانه لا يعلم ان المخالفة تقدح في المودة حتى يعلم وجوب الطاعة ولا يعلم وجوب الطاعة إلا إذا علم انه إمام ولا يعلم انه إمام حتى يعلم ان مخالفته تقدح في مودته الخامس ان يقال المخالفة تقدح في المودة إذا أمر بطاعته أم لم يؤمروالثاني منتف ضرورة وأما الأول فإنا نعلم ان عليا لم يأمر الناس بطاعته في خلافة أبي بكر ان وعثمان السادس يقال هذا بعينه يقال في حق أبي بكر وعمر وعثمان فان مودتهم ومحبتهم وموالاتهم واجبة كما تقدم ومخالفتهم تقدح في ذلك السابع الترجيح من هذا الحديث لان القوم دعوا الناس إلى ولايتهم وطاعتهم وادعوا الإمامة والله أوجب طاعتهم فمخالفتهم تقدح في مودتهم بل تقدح في محبة الله ورسوله ولا ريب ان الذي ابتدع الرفض لم يكن محبا لله ولرسوله بل كان عدوا لله وهؤلاء القوم مع أهل السنة بمنزلة النصارى مع المسلمين فالنصارى يجعلون المسيح إلها و يجعلون إبراهيم و موسى و محمدا اقل من الحواريين الذين كانوا مع عيسى و هؤلاء يجعلون عليا هو الإمام المعصوم أو هو النبي أو اله و الخلفاء الأربعةاقل من مثل الاشتر النخعي و أمثاله الذين قاتلوا معه و لهذا كان جهلهم و ظلمهم اعظم من ان يوصف و يتمسكون بالمنقولات المكذوبة و الألفاظ المتشابهة و الاقيسة الفاسدة و يدعون المنقولات الصادقة بل المتواترة و النصوص البينة و المعقولات الصريحة.
*فصل قال الرافضي البرهان الثامن قوله تعالى و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله قال الثعلبي ان رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب لقضاء ديونه و رد الودائع التي كانت عنده و أمره ليلة خرج إلى الغار و قد أحاط المشركون بالدار ان ينام على فراشه فقال له يا علي اتشح ببردي الحضرمي الأخضر و نم على فراشي فانه لا يخلص إليك منهم مكروه ان شاء الله(7/80)
تعالى ففعل ذلك فأوحى الله تعالى إلى جبريل و ميكائيل أنى قد آخيت بينكما و جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختاره كلامهماالحياه فأوحى الله إليها إلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه و بين محمد عليه الصلاة و السلام فبات على فراشه يفديه بنفسه و يؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فنزلا فكان جبريل عند رأسه و ميكائيل عند رجليه فقال جبريل بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة فأنزل الله عز و جل على رسوله صلى الله عليه و سلم و هو متوجه إلى المدينة في شان علي و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله و قال ابن عباس إنما نزلت في علي لما هرب النبي صلى الله عليه و سلم من المشركين إلى الغار و هذهفضيلة لم تحصل لغيره تدل على أفضلية علي على جميع الصحابة فيكون هو الإمام.
*الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل و مجرد نقل الثعلبي و أمثاله لذلك بل روايتهم ليس بحجة باتفاق طوائف أهل السنة و الشيعة لان هذا مرسل متأجر و لم يذكر إسناده و في نقله من هذا الجنس للإسرائيليات و الأسلاميات أمور أنها يعلم باطلة و أن كان هو لم يتعمد الكذب.
ثانيها: ان هذا الذي نقله من هذا الوجه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث و السيرة و المرجع إليهم في هذا الباب.
الثالث: ان النبي صلى الله عليه و سلم لما هاجر هو و أبو بكر إلى المدينة لم يكن للقوم غرض في طلب علي و إنما كان مطلوبهم النبي صلى الله عليه و سلم و أبا بكر و جعلوا في كل واحد منهما ديته لمن جاء به كما ثبت ذلك في الصحيح الذي لا يستريب أهل العلم في صحته و ترك عليا في(7/81)
فراشه ليظنوا ان النبي صلى الله عليه و سلم في البيت فلا يطلبوه فلما اصبحوا وجدوا عليا فظهرت خيبتهم و لم يؤذوا عليا بل سألوه عن النبي صلى الله عليه و سلم فاخبرهم انه لا علم له به و لم يكن هناك خوف على علي من أحد و إنما كان الخوف على النبي صلى الله عليه و سلم و صديقه و لو كان لهم في علي غرض لتعرضوا له لما وجدوه فلما لم يتعرضوا له دل على انهم لا غرض لهم فيه فأرى فداء هنا بالنفس و الذي كان يفديه بنفسه بلا ريب و يقصد ان يدفع بنفسه عنه و يكون الضرر به دونه هو أبو بكر كان يذكر الطلبة فيكون خلفه و يذكر الرصد فيكون إمامه وكان يذهب فيكشف له الخبر وإذا كان هناك ما يخاف احب أن يكون به لا بالنبي صلى الله عليه وسلم و غير واحد من الصحابة قد فداه بنفسه في مواطن الحروب فمنهم من قتل بين يديه و منهم من شلت يده كطلحة بن عبد الله و هذا واجب على المؤمنين كلهم فلو قدر انه كان هناك فداء بالنفس لكان هذا من الفضائل المشتركة بينه و بين غيره من الصحابة فكيف إذا لم يكن هناك خوف على علي قال ابن إسحاق في السيرة مع انه من المتولين لعلي المائلين إليه وذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم من منزله واستخلاف علي على فراشه ليلة مكر الكفار به قال فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم
(7/82)
فقال له لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه قال فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم مقامهم قال لعلي نم على فراشي و اتشح ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم و عن محمد بن كعب القرظي قال لما اجتمعوا له و فيهم أبو جهل فقال و هم على بابه أن محمدا يزعم أنكم أن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب و العجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنات كجنات الأردن و أن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها قال وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فاخذ حفنةمن تراب في يده ثم قال نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم و اخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه و لم يبق منهم رجلا إلا وضع على رأسه ترأبا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فاتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنتظرون هاهنا قالوا محمدا قال خيبكم الله قد و الله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا و قد وضع على رأسه ترأبا و انطلق لحاجته افما ترون ما بكم قال فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقولون و الله أن هذا لمحمد نائما عليه بردة فلم يبرحوا كذلك حتى اصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا و الله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا و كان مما انزل الله من القران ذلك اليوم و إذ يمكر بك الذين كفروا
(7/83)
ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين و قوله أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون و أذن الله لنبيه في الهجرة عند ذلك فهذا يبين أن القوم لم يكن لهم غرض في علي أصلا و أيضا فان النبي صلى الله عليه و سلم قد قال اتشح ببردي هذا الأخضر فنم فيه فانه لن يخلص إليك منهم رجل بشيء تكرهه فوعده و هو الصادق انه لا يخلص إليه مكروه و كان طمأنينته بوعد الرسول صلى الله عليه و سلم.
الرابع: أن هذا الحديث فيه من الدلائل على كذبه ما لا يخفى فان الملائكة لا يقال فيهم مثل هذا الباطل الذي لا يليق بهم و ليس أحدهما جائعا فيؤثره الآخر بالطعام و لا هناك خوف فيؤثر أحدهما صاحبه بالآمن فكيف يقول الله لهما أيكما يؤثر صاحبه بالحياة و لا للمؤاخاة بين الملائكة اصل بل جبريل له عمل يختص به دون ميكائيل و ميكائيل له عمل يختص به دون جبريل كما جاء في الآثار أن الوحي و النصر لجبريل و أن الرزق و المطر لميكائيلثم أن كان الله قضى بان عمر أحدهما أطول من الآخر فهو ما قضاه وان قضاه لواحد واراد منهما أن يتفقا على تعيين الأطول أو يؤثر به أحدهما الآخر و هما راضيان بذلك فلا كلام و أما أن كانا يكرهان ذلك فكيف يليق بحكمة الله و رحمته أن يحرش بينهما و يلقي بينهما العداوة و لو كان ذلك حقا تعالى الله عن ذلك ثم هذا القدر لو وقع مع انه باطل فكيف تأخر من حين خلقهما الله قبل آدم إلى حين الهجرة و إنما كان يكون ذلك لو كان عقب خلقهما.
الخامس: أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يؤاخ عليا و لا غيره بل كل ما روي في هذا فهو كذب و حديث المؤاخاة الذي يروى في ذلك مع ضعفه و بطلانه إنما فيه مؤاخاته له في المدينة هكذا رواه الترمذي فأما بمكة فمؤاخاته له باطلة على التقديرين وأيضا فقد عرف انه لم يكن فداء بالنفس و لا إيثار بالحياة باتفاق علماء النقل.(7/84)
السادس: أن هبوط جبريل و ميكائيل لحفظ واحد من الناس من اعظم المنكرات فان الله يحفظ من شاء من خلقه دون هذا و إنما روي هبوطهما يوم بدر للقتال و في مثل تلك الأمور العظام و لو نزلا لحفظ واحد من الناس النزلا لحفظ النبي صلى الله عليه و سلم و صديقه اللذين كان الأعداء يطلبانهما من كل وجه و قد بذلوا في كل واحد منهما ديته و هم عليهما غلاظ شداد سود الكباد.
السابع: أن هذه الآية في (سورة البقرة). و هي مدنية بلا خلاف و إنما نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لم تنزل وقت هجرته و قد قيل أنها نزلت لما هاجر صهيب و طلبه المشركون فأعطاهم ماله و أتى المدينة فقال النبي صلى الله عليه و سلم ربح البيع أبا يحيى و هذه القصة مشهورة في التفسير نقلها غير واحد و هذا ممكن فان صهيبا هاجر من مكة إلى المدينة قال ابن جرير اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه و من عني بهافقال بعضهم نزلت في المهاجرين و الأنصار و عني بها المجاهدون في سبيل الله و ذكر بإسناده هذا القول و عن قتادة وقال بعضهم نزلت في قوم بأعيانها وروى عن القاسم قال حدثنا الحسين حدثنا حجاج حدثنا ابن جريح عن عكرمة قال نزلت في صهيب و أبي ذر جندب اخذ أهل أبي ذر أبا ذر فانفلت منهم فقدم على النبي صلى الله عليه و سلم فلما رجع مهاجرا عرضوا له و كانوا بمر الطهران فانفلت أيضا حتى قدم عليه و أما صهيب فاخذ أهله فافتدى منهم بماله ثم خرج مهاجرا فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان(7/85)
فخرج له مما بقي من ماله فخلى سبيله و قال آخرون عني بذلك كل شار نفسه في طاعة الله و جهاد في سبيل الله و أمر بمعروف و نسب هذا القول إلى عمر بل و ابن عباس و أن صهيبا كان سبب النزول.
الثامن: أن لفظ الآية مطلق ليس فيه تخصيص فكل من باع نفسه ابتغاء مرضات الله فقد دخل فيها و أحق من دخل فيها النبي و صديقه فانهما شريا نفسهما ابتغاء مرضات الله و هاجرا في سبيل الله و العدو يطلبهما من كل وجه.
التاسع :أن قوله هذه فضيلة لم تحصل لغيره فدل على أفضليته فيكون هو الإمام فيقال لا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر قي الهجرة لم تحصل لغيره من الصحابة بالكتاب و السنة و الإجماع فتكون هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر و عثمان و علي و غيرهم من الصحابة فيكون هو الإمام فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه يقول الله إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا و مثل هذه الفضيلة لم تحصل لغير أبي بكر قطعا بخلاف الوقاية بالنفس فإنها لو كانت صحيحة فغير واحد من الصحابة وقى النبي صلى الله عليه و سلم بنفسه و هذا واجب على كل مؤمن ليس من الفضائل المختصة بالأكابر من الصحابة و الأفضلية إنما تثبت بالخصائص لا بالمشتركات يبين ذلك انه لم ينقل أحد أن عليا أوذي في مبيته على فراش النبي و قد أوذي غيره في وقايتهم النبي صلى الله عليه و سلم تارة بالضرب و تارة بالجرح و تارة بالقتل فمن فداه و أوذي اعظم ممن فداه و لم يؤذ و قد قال العلماء ما صح لعلي من الفضائل فهي مشتركة شاركه فيها غيره بخلاف الصديق فان كثيرا من فضائله و أكثرها خصائص له لا يشركه فيها غيره و هذا مبسوط في موضعه.(7/86)
*فصل قال الرافضي البرهان التاسع قوله تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم ونساءنا ونساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين نقل الجمهور كافة أن أبناءنا إشارة إلى الحسن والحسين ونساءنا إشارة إلى فاطمة و أنفسنا إشارة إلى على وهذه الآية دليل على ثبوت الإمامة لعلى لأنه تعالى قد جعل نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم والاتحاد محال فيبقى المراد بالمساواة له الولاية وأيضا لو كان غير هؤلاء مساويا لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضع الحاجة وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم وهل تخفى دلالة هذه الآية على المطلوب إلا على من استحوذ الشيطان عليه واخذ بمجامع قلبه وحببت إليه الدنيا التي لا ينالها إلا بمنع أهل الحق من حقهم.
*والجواب أن يقال أما أخذه عليا وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة فحديث صحيح رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال في حديث طويل لما نزلت هذه الآية فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم ونساءنا ونساءكم و أنفسنا و أنفسكم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهل ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة و لا على الأفضلية.
وقوله قد جعله الله نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم والاتحاد محال فبقى المساواة له وله الولاية العامة فكذا المساوية قلنا لا نسلم انه لم يبق إلا المساواة ولا دليل على ذلك، بل حمله على ذلك ممتنع لان أحدا لا يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عليا ولا غيره(7/87)
وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة قال تعالى في قصة الإفك لولا إذا سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ولم يوجب ذلك أن يكون المؤمنون والمؤمنات متساوين وقد قال الله تعالى في قصة بني إسرائيل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم أي يقتل بعضكم بعضا ولم يوجب ذلك أن يكونوا متساوين ولا أن يكون من عبد العجل مساويا لمن لم يعبده وكذلك قد قيل في قوله ولا تقتلوا أنفسكم أي لا يقتل بعضكم بعضا وان كانوا غير متساوين وقال تعالى ولا تلمزوا أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضا فيطعن عليه ويعيبه وهذا نهي لجميع المؤمنين أن لا يفعل بعضهم ببعض هذا الطعن و العيب مع انهم غير متساوين لا في الأحكام ولا في الفضيلة ولا الظالم كالمظلوم ولا الإمام كالمأموم ومن هذا الباب قوله تعالى ثم انتم هؤلاء تقتلون وأنفسكم أي يقتل بعضكم بعضا وإذا كان اللفظ وأنفسنا كأنفسكم كاللفظ في قوله ولا تلمزوا أنفسكم وقوله تعالى لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ونحو ذلك مع أن التساوي هنا ليس بواجب بل ممتنع فكذلك هناك واشد بل هذا اللفظ يدل على المجانسة والمشابهة والتجانس والمشابهة يكون بالاشتراك(7/88)
في بعض الأمور كالاشتراك في الإيمان فالمؤمنون اخوة في الإيمان وهو المراد بقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا، وقوله ولا تلمزوا أنفسكم، وقد يكون الاشتراك في الدين وان كان فيهم المنافق كاشتراك المسلمين في الإسلام الظاهر، وان كان مع ذلك الاشتراك في النسب فهو أوكد وقوم موسى كانوا أنفسنا بهذا الاعتبار قوله تعالى تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم، أي رجالنا ورجالكم أي الرجال الذين هم من جنسنا في الدين والنسب والرجال الذين هم من جنسكم، أو المراد التجانس في القرابة فقط لأنه قال أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم، فذكر الأولاد وذكر والنساء والرجال فعلم انه أراد الأقربين إلينا من الذكور والإناث من الأولاد والعصبة. ولهذا دعا الحسن والحسين من الأبناء ودعا فاطمة من النساء ودعا عليا من رجاله ولم يكن عنده أحد أقرب إليه نسبا من هؤلاء وهم الذين أدار عليهم الكساء والمباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه و إلا فلو بأهلهم بالابعدين في(7/89)
النسب وان كانوا أفضل عند الله لم يحصل المقصود فان المراد انهم يدعون الأقربين كما يدعوا هو الأقرب إليه والنفوس تحنوا على أقاربها مالا تحنوا على غيرهم. وكانوا يعلمون انه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمون انهم أن باهلوه نزلت البهلة عليهم وعلى أقاربهم واجتمع خوفهم على أنفسهم وعلى أقاربهم فكان ذلك أبلغ في امتناعهم، و إلا فالإنسان قد يختار أن يهلك ويحيا ابنه والشيخ الكبير قد يختار الموت إذا بقى أقاربه في نعمة ومال وهذا موجود كثير فطلب منهم المباهلة بالأبناء والنساء والرجال والأقربين من الجانبين فلهذا دعا هؤلاء.
وآية المباهلة نزلت سنة عشر لما قدم وفد نجران ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد بقي من أعمامه إلا العباس والعباس لم يكن من السابقين الأولين ولا كان له به اختصاص كعلي و أما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي وكان جعفر قد قتل قبل ذلك. فان المباهلة كانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر وجعفر قتل بمؤتة سنة ثمان فتعين علي رضي الله عنه وكونه تعين للمباهلة إذ ليس في الأقارب من يقوم مقامه لا يوجب أن يكون مساويا للنبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء بل ولا أن يكون أفضل من سائر الصحابة مطلقا بل له بالمباهلة نوع فضيلة(7/90)
وهي مشتركة بينه وبين فاطمة وحسن وحسين ليست من خصائص الإمامة، فان خصائص الإمامة لا تثبت للنساء ولا يقتضي أن يكون من بأهل به أفضل من جميع الصحابة، كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن وحسين أفضل من جميع الصحابة.
و أما قول الرافضي لو كان غير هؤلاء مساويا لهم أو أفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضع الحاجة. فيقال في الجواب لم يكن المقصود إجابة الدعاء فان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وحده كاف ولو كان المراد بمن يدعوه معه أن يستجاب دعاؤه لدعا المؤمنين كلهم ودعا بهم كما كان يستسقى بهم وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وكان يقول وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم و إخلاصهم ومن المعلوم أن هؤلاء وان كانوا مجابين فكثرة الدعاء ابلغ في الإجابة لكن لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل ونحن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه(7/91)
وسلم لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان و طلحة و الزبير وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة لكانوا من اعظم الناس استجابة لأمره وكان دعاء هؤلاء وغيرهم ابلغ في إجابة الدعاء، لكن لم يأمره الله سبحانه بأخذهم معه لان ذلك لا يحصل به المقصود فان المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعا كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم.
فلو دعا النبي صلى الله عليه وسلم قوما أجانب لأتى أولئك بأجانب ولم يكن يشتد عليه نزول البهلة بأولئك الأجانب كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين إليهم، فان طبع البشر يخاف على أقربيه مالا يخاف على الأجانب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوا قرابته وأن يدعوا أولئك قرابتهم و الناس عند المقابلة تقوا كل طائفة للأخرى ارهنوا عندنا أبناءكم و نساءكم فلو رهنت إحدى الطائفتين أجنبيا لم يرض أولئك كما أنه لو دعا النبيي الأجانب لم يرض أولئك المقابلون له و لا يلزم أن يكون أهل الرجل أفضل عند الله إذا قابل بهم لمن يقابله بأهله.
فقد تبين أن الآية لا دلالة فيها أصلا على مطلوب الرافضي لكنه و أمثاله ممن في قلبه زيغ كالنصارى الذين يتعلقون بالألفاظ المجملة و يدعون النصوص الصريحة ثم قدحه في خيار الأمة بزعمه الكاذب(7/92)
حيث زعم أن المراد بالأنفس المساوون و هو خلاف المستعمل في لغة العرب و مما يبين ذلك أن قوله نساءنا لا يختص بفاطمة بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة فإن رقية و أم كلثوم و زينب كن قد توفين قبل ذلك. فكذلك أنفسنا ليس مختصا بعلي بل هذه صيغة جمع كما انه صيغة جمع، و كذلك أبناءنا صيغة جمع و إنما دعا حسنا و حسينا لأنه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوة سواهما فان إبراهيم أن كان موجودا إذ ذاك فهو طفل لا يدعى فان إبراهيم هو ابن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب مصر و أهدى له البغلة و مارية و سيرين فأعطى سيرين لحسان بن ثابت و تسرى مارية فولدت له إبراهيم و عاش بضعة عشر شهرا و مات فقال النبي صلى الله عليه و سلم أن له مرضعا في الجنة تتم إرضاعه. و كان إهداء المقوقس بعد الحديبية بل بعد حنين.
*فصل قال الرافضي البرهان العاشر قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس قال سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه قال سأله بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين أن يتوب عليه فتاب عليه و هذه فضيلة لم يلحقه أحد من الصحابة فيها فيكون هو الإمام لمساواته النبي صلى الله عليه و سلم في التوسل به إلى الله تعالى.
و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل فقد عرف أن مجرد رواية ابن المغازلي لا يسوغ الاحتجاج بها باتفاق أهل العلم.(7/93)
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم و ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات عن طريق الدار قطني فان له كتبا في الأفراد و الغرائب قال الدار قطني تفرد به عمرو بن ثابت عن أبيه عن أبي المقدام لم يروه عنه غير حسن الأشقر قال يحيى بن معين عمرو بن ثابت ليس ثقة و لا مأمونا و قال ابن حبان يروي الموضوعات عن الأثبات.
الثالث: إن الكلمات التي تلقاها آدم قد جاءت مفسرة في قوله تعالى ربنا ظلمنا أنفسنا و أن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين وقد روي عن السلف هذا و ما يشبهه و ليس في شيء من النقل الثابت عنهم ما ذكره من القسم.
الرابع: انه معلوم بالاضطرار أن من هو دون آدم من الكفار و الفساق إذا تاب أحدهم إلى الله تاب الله عليه و أن لم يقسم عليه بأحد فكيف يحتاج آدم في توبته إلى ما لا يحتاج إليه أحد من المذنبين لا مؤمن و لا كافر و طائفة قد رووا انه توسل بالنبي صلى الله عليه و سلم حتى قبل توبته و هذا كذب و روي عن مالك في ذلك حكاية في خطابه للمنصور و هو كذب على مالك و إن كان ذكرها القاضي عياض في الشفا(7/94)
الخامس: أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر أحدا بالتوبة بمثل هذا الدعاء بل و لا أمر أحدا بمثل هذا الدعاء في توبة و لا غيرها بل و لا شرع لامته أن يقسموا على الله بمخلوق و لو كان هذا الدعاء مشروعا لشرعه لامته.
السادس: أن الأقسام على الله بالملائكة و الأنبياء أمر لم يرد به كتاب و لا سنة بل قد نص غير واحد من أهل العلم كأبي حنيفة و أبي يوسف و غيرهما على انه لا يجوز أن يقسم على الله بمخلوق و قد بسطنا الكلام على ذلك.
السابع: أن هذا لو كان مشروعا فآدم نبي كريم كيف يقسم على الله بمن هو اكرم عليه منه و لا ريب أن نبينا صلى الله عليه و سلم أفضل من آدم لكن آدم أفضل من علي و فاطمة وحسن و حسين.
الثامن: أن يقال هذه ليست من خصائص الأئمة فأنها قد ثبتت لفاطمة و خصائص الأئمة لا تثبت للنساء و ما لم يكن من خصائصهم لم يستلزم الإمأمةفان دليل الإمأمةلا بد أن يكون ملزوما لها يلزم من وجوده استحقاقها فلو كان هذا دليلا على الإمأمة لكان من يتصف به يستحقها و المرأة لا تكون إماما بالنص و الإجماع.(7/95)
*فصل قال الرافضي البرهان الحادي عشر قوله تعالى إني جاعلك للناس إماما و من ذريتي روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن ابن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه و سلم انتهت الدعوة إلى و إلى علي لم يسجد أحدنا لصنم قط فاتخذني نبيا و اتخذ عليا وصيا و هذا نص في الباب.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة هذا كما تقدم.
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع بإجماع أهل العلم بالحديث.
الثالث: أن قوله انتهت الدعوة إلينا كلام لا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه و سلم فانه إن أريد أنها لم تصب من قبلنا كان ممتنعا لأن الأنبياء من ذرية إبراهيم دخلوا في الدعوة قال تعالى و وهبنا له اسحق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و أقام الصلاة و إيتاء الزكاة و قال تعالى و آتينا موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل و قال عن بني إسرائيل و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون(7/96)
و قال نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين و نمكن لهم في الأرض فهذه عدة نصوص من القران في جعل الله أئمة من ذرية إبراهيم قبل امتنا و إن أريد انتهت الدعوة إلينا انه لا إمام بعدنا لزم أن إلا يكون الحسن و الحسين و لا غيرهما أئمة و هو باطل بالإجماع ثم التعليل بكونه لم يسجد لصنم هو علة موجودة في سائر المسلمين بعدهم.
الوجه الرابع: أن كون الشخص لم يسجد لصنم فضيلة يشاركه فيها جميع من ولد على الإسلام مع أن السابقين الأولين أفضل منه فكيف يجعل المفضول مستحقا لهذه المرتبة دون الفاضل.
الخامس: انه لو قيل انه لم يسجد لصنم لأنه اسلم قبل البلوغ فلم يسجد بعد إسلامه فهكذا كل مسام و الصبي غير مكلف و إن قيل انه لم يسجد قبل إسلامه فهذا النفي غير معلوم و لا قائله ممن يوثق به و يقال ليس كل من لم يكفر أو من لم يأت بكبيرة أفضل ممن تاب عنها مطلقا بل قد يكون التائب من الكفر و الفسوق أفضل ممن لم يكفر و لم يفسق كما دل على ذلك الكتاب العزيز فان الله فضل الذين أنفقوا من فبل الفتح و قاتلوا على الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و أولئك كلهم اسلموا بعد الكفر و هؤلاء فيهم من ولد على الإسلام و فضل(7/97)
السابقين الأولين على التابعين لهم بإحسان و أولئك آمنوا بعد الكفر و أكثر التابعين ولدوا على الإسلام و قد ذكر الله في القران أن لوطا آمن لإبراهيم و بعثه الله نبيا و قال شعيب قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها و ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا و قال تعالى و قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا و قد اخبر الله عن اخوة يوسف بما اخبر ثم نباهم بعد توبتهم و هم الأسباط الذين امرنا أن نؤمن بما أوتوا في (سورة البقرة). و آل عمران و النساء و إذا كان في هؤلاء من صار نبيا فمعلوم أن الأنبياء أفضل من غيرهم و هذا مما تنازع فيه الرافضة و غيرهم و يقولون من صدر منه ذنب لا يصير نبيا و النزاع فيمن اسلم أعظم لكن الاعتبار بما دل عليه الكتاب و السنة و الذين منعوا من هذا عمدتهم أن التائب من الذنب يكون ناقصا مذموما لا يستحق النبوة و لو صار من أعظم الناس طاعة و هذا هو الأصل الذي نوزعوا فيه و الكتاب و السنة و الإجماع يدل على بطلان قولهم فيه.(7/98)
*فصل قال الرافضي البرهان الثاني عشر قوله تعالى إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا روى الحافظ أبو نعيم الاصبهاني بإسناده إلى ابن عباس قال نزلت في علي و الود محبة في القلوب المؤمنة و في تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا لعلي قل اللهم اجعل لي عندك عهدا و اجعل لي في صدور المؤمنين مودة فانزل الله إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا و لم يثبت لغيره ذلك فيكون هو الإمام.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: انه لا بد من إقأمة الدليل على صحة المنقول إلا فالاستدلال بما لا تثبت مقدماته باطل بالاتفاق و هو من القول بلا علم و من قفو الإنسان بما ليس له به علم و من المحاجة بغير علم و العزو المذكور لا يفيد الثبوت باتفاق أهل السنة و الشيعة.
الوجه الثاني: أن هذين الحديثين من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
الثالث: أن قوله إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات عام في جميع المؤمنين فلا يجوز تخصيصها بعلي بل هي متناولة لعلي و غيره و الدليل عليه أن الحسن و الحسين و غيرهما من المؤمنين الذين تعظمهم الشيعة داخلون في الآية فعلم بذلك الإجماع على عدم اختصاصها بعلي و أما قوله و لم يثبت مثل ذلك لغيره من الصحابة فممنوع كما تقدم فانهم خير القرون فالذين آمنوا و عملوا الصالحات فيهم أفضل منهم في سائر القرون و هم بالنسبة إليهم أكثر منهم في كل قرن بالنسبة إليه.
الرابع: أن الله قد اخبر انه سيجعل للذين آمنوا و عملوا الصالحات ودا و هذا وعد منه صادق و معلوم أن الله قد جعل للصحابة مودة في قلب كل مسلم لا سيما الخلفاء رضي الله عنهم لا سيما أبو بكر و عمر فان عأمةالصحابة و التابعين كانوا يودونهما و كانوا خير القرون و لم يكن كذلك علي فان كثيرا من الصحابة و التابعين كانوا يبغضونه(7/99)
و يسبونه و يقاتلونه و أبو بكر و عمر رضي الله عنهما قد ابغضهما و سبهما الرافضة و النصيرية و الغالية و الإسماعيلية لكن معلوم أن الذين احبوا دينك أفضل و أكثر و أن الذين ابغضوهما ابعد عن الإسلام و اقل بخلاف علي فان الذين ابغضوه و قاتلوه هم خير من الذين ابغضوا أبا بكر و عمر بل شيعة عثمان الذين يحبونه و يبغضون عليا وان كانوا مبتدعين ظالمين فشيعة علي الذين يحبونه و يبغضون عثمان انقص منهم علما و دينا و أكثر جهلا و ظلما فعلم أن المودة التي جعلت للثلاثة أعظم و إذا قيل علي قد ادعيت فيه الاهية و النبوة قيل قد كفرته الخوارج كلها و أبغضته المر وانية و هؤلاء خير من الرافضة الذين يسبون أبا بكر و عمر رضي الله عنهما فضلا عن الغالية.
*فصل: قال الرافضي البرهان الثالث عشر قوله تعالى إنما أنت منذر و لكل قوم هاد من كتاب الفردوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أناالمنذر و علي الهادي بك يا علي يهتدي المهتدون و نحوه رواه أبو نعيم و هو صريح في ثبوت الولاية و الإمأمة.
*و الجواب من وجوه...
و أحدها: أن هذا لم يقم دليل على صحته فلا يجوز الاحتجاج به و كتاب الفردوس للديلمي فيه موضوعات كثيرة اجمع أهل العلم على أن مجرد كونه رواه لا يدل على صحة الحديث و كذلك رواية أبي نعيم لا تدل على الصحة.
الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث فيجب تكذيبه و رده.(7/100)
الثالث: أن هذا الكلام لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فان قوله أنا المنذر و بك يا علي يهتدى المهتدون ظاهره انهم بك يهتدون دوني و هذا لا يقوله مسلم فان ظاهره أن النذارة و الهداية مقسومة بينهما فهذا نذير لا يهتدي به و هذا هاد و هذا لا يقوله مسلم الرابع أن الله تعالى قد جعل محمدا هاديا فقال و انك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله فكيف يجعل الهادي من لم يوصف بذلك دون من وصف به الخامس أن قوله بك يهتدي المهتدون ظاهره أن كل من اهتدى من أمةمحمد فبه اهتدى و هذا كذب بين فانه قد آمن بالنبي صلى الله عليه و سلم خلق كثير و اهتدوا به و دخلوا الجنة و لم يسمعوا من علي كلمة واحدة و أكثر الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه و سلم و اهتدوا به لم يهتدوا بعلي في شيء و كذلك لما فتحت الأمصار و آمن و اهتدى الناس بمن سكنها من الصحابة و غيرهم كان جماهير المؤمنين لم يسمعوا من علي شيئا فكيف يجوز أن يقال بك يهتدي المهتدون.
السادس: انه قد قيل معناه إنما أنت نذير و لكل قوم هاد و هو الله تعالى و هو قول ضعيف و كذلك قول من قال أنت نذير و هاد لكل قوم قول ضعيف و الصحيح أن معناها إنما أنت نذير كما أرسل من قبلك نذير و لكل أمةنذير يهديهم أن يدعوهم كما في قوله و إن من أمةإلا خلا فيها نذير و هذا قول جماعة من المفسرين مثل قتادة و عكرمة و أبي الضحى و عبد الرحمن بن زيد قال ابن جرير الطبري حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة و حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن السدي عن عكرمة و منصور عن أبي الضحى إنما أنت منذر و لكل قوم هاد قالا محمد هو المنذر و هو الهادي حدثنا يونس حدثنا ابن وهب قال قال ابن زيد لكل قوم نبي الهادي النبي و المنذر النبي أيضا و قرا وأن من أمة(7/101)
إلا خلا فيها نذير و قرا نذير من النذر الأولى قال نبي من الأنبياء حدثنا بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن ليث عن مجاهد قال المنذر محمد و لكل قوم هاد قال نبي و قوله يوم ندعوا كل أناس بإمامهم إذ الإمام هو الذي يؤتم به أي يقتدي به و قد قيل أن المراد به هو الله الذي يهديهم و الأول اصح و أما تفسيره بعلي فانه باطل لأنه قال و لكل قوم هاد و هذا يقتضي أن يكون هادي هؤلاء غيرها دي هؤلاء فيتعدد الهداة فكيف يجعل علي هاديا لكل قوم من الأولين و الآخرين السابع أن الاهتداء بالشخص قد يكون بغير تاميره عليهم كما يهتدي بالعالم و كما جاء في الحديث الذي فيه أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم فليس هذا صريحا في أن الإمأمةكما زعمه هذا المفتريالثامن أن قوله لكل قوم هاد نكرة في سياق الإثبات و هذا لا يدل على معين فدعوى دلالة القران على علي باطل و الاحتجاج بالحديث ليس احتجاجا بالقرآن مع انه باطل التاسع أن قوله كل قوم صيغة عموم و لو أريد أن هاديا واحدا للجميع لقيل لجميع الناس هاد لا يقال لكل قوم فان هؤلاء القوم غير هؤلاء القوم و هو لم يقل لجميع القوم و لا يقال ذلك بل أضاف كلا إلى نكرة لم يضفه إلى معرفة كما في قولك كل الناس يعلم أن هنا قوما و قوما متعددين و أن كل قوم لهم هاد ليس هو هادي الآخرين و هذا يبطل قول من يقول أن الهادي هو الله تعالى و دلالته على بطلان قول من يقول هو علي اظهر.(7/102)
*فصل قال الرافضي البرهان الرابع عشر قوله تعالى قفوهم انهم مسؤولون من طريق أبي نعيم عن الشعبي عن ابن عباس قال في قوله تعالى و قفوهم انهم مسئولون عن ولآية علي و كذا في كتاب الفردوس عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم و إذا سئلوا عن الولاية وجب ان تكون ثابتة له و لم يثبت لغيره من الصحابة ذلك فيكون هو الإمام.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة النقل و العزو إلى الفردوس و إلى أبي نعيم لا تقوم به حجة باتفاق أهل العلم.
الثاني: أن هذا كذب موضوع بالاتفاق.
الثالث: أن الله تعالى قال بل عجبت و يسخرون و إذا ذكروا لا يذكرون و إذا رأوا آية يستسخرون و قالوا إن هذا إلا سحر مبين أإذا متنا و كنا ترأبا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم و انتم دآخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون و قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا و أزواجهم و ما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم و قفوهم انهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون و اقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن أليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين و ما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فانهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين انهم كانوا إذا(7/103)
قيل لهم لا اله إلاالله يستكبرون و يقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق و صدق المرسلين فهذا خطاب عن المشركين المكذبين بيوم الدين و هؤلاء يسألون عن توحيد الله و الأيمان برسله و اليوم الآخر و أي مدخل لحب علي في سؤال هؤلاء تراهم لو أحبوه مع هذا الكفر و الشرك أكان ذلك ينفعهم أو تراهم لو ابغضوه أين كان بغضهم له في بغضهم لأنبياء الله و لكتابه و دينه و ما يفسر القران بهذا و يقول النبي صلى الله عليه و سلم فسره بمثل هذا إلا زنديق ملحد متلاعب بالدين قادح في دين الإسلام أو مفرط في الجهل لا يدري ما يقول و أي فرق بين حب علي و طلحة و الزبير و سعد و أبي بكر و عمر و عثمان و لو قال قائل انهم مسئولون عن حب أبي بكر لم يكن قوله ابعد من قول من قال عن حب علي و لا في الآية ما يدل على أن ذلك القول ارجح بل دلالتها على ثبوتهما و انتفائهما سواء و الأدلة الدالة على وجوب حب أبي بكر أقوى.
الرابع: أن قوله مسئولون لفظ مطلق لم يوصل به ضمير يخصه بشيء و ليس في السياق ما يقتضي ذكر حب علي فدعوى المدعي دلالة اللفظ على سؤالهم عن حب علي من أعظم الكذب و البهتان.
الخامس: انه لو ادعى مدع انهم مسئولون عن حب أبي بكر و عمر لم يكن إبطال ذلك بوجه إلا و إبطال السؤال عن حب علي أقوى و اظهر.
*فصل قال الرافضي البرهان الخامس عشر قوله تعالى و لتعرفنهم في لحن القول روى أبو نعيم بإسناده عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى و لتعرفنهم في لحن القول قال ببغضهم عليا و لم يثبت لغيره من الصحابة ذلك فيكون أفضل منهم فيكون هو الإمام.
*و الجواب المطالبة بصحة النقل أولا.
و الثاني: أن هذا من الكذب على أبي سعيد عند أهل المعرفة بالحديث.
الثالث: أن يقال لو ثبت انه قاله فمجرد قول أبي سعيد قول واحد من الصحابة و قول الصاحب إذا خالفه صاحب آخر ليس بحجة باتفاق(7/104)
أهل العلم و قد علم قدح كثير من الصحابة في علي و إنما احتج عليهم بالكتاب و السنة لا بقول آخر من الصحابة.
الرابع: إنا نعلم بالاضطرار أن عأمةالمنافقين لم يكن ما يعرفون به من لحن القول هو بغض علي فتفسير القران بهذا فرية ظاهرة.
الخامس: أن عليا لم يكن أعظم معاداة للكفار و المنافقين من عمر بل و لا نعرف انهم كانوا يتأذون منه كما يتأذون من عمر بل و لا نعرف انهم كانوا يتأذون منه إلا و كان بغضهم لعمر اشد.
السادس: انه في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال آية الأيمان حب الأنصار و آية النفاق بغض الأنصار و قال لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله و اليوم الآخر فكان معرفة المنافقين في لحنهم ببغض الأنصار أولى فان هذه الأحاديث اصح مما يروى عن علي انه قال انه لعهد النبي الأمي إلي انه لا يحبني إلا مؤمن و لا يبغضني لا منافق فان هذا من أفراد مسلم و هو من رواية عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن علي و البخاري عن هذا الحديث بخلاف أحاديث الأنصار(7/105)
فأنها مما اتفق عليه أهل الصحيح كلهم البخاري غيره و أهل العلم يعلمون يقينا أن النبي قاله و حديث علي قد شك فيه بعضهم.
السابع: أن علامات النفاق كثيرة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب و إذا وعد اخلف و إذا ائتمن خان فهذه علامات ظاهرة فعلم أن علامات النفاق لا تختص بحب شخص أو طائفة و لا بغضهم إن كان ذلك من العلامات و لا ريب أن من حب عليا لله بما يستحقه من المحبة لله فذلك من الدليل على أيمانه و كذلك من احب الأنصار لأنهم نصروا الله و رسوله فذلك من علامات أيمانه و من ابغض عليا و الأنصار لما فيهم من الأيمان بالله و رسوله و الجهاد في سبيله فهو منافق و أما من احب الأنصار أو عليا أو غيرهم لأمر طبيعي مثل قرابة بينهما فهو كمحبة أبي طالب للنبي و ذلك لا ينفعه عند الله و من غلا في الأنصار أو في علي أو في المسيح أو في نبي فاحبه و اعتقد فيه فوق مرتبته فانه لم يحبه في الحقيقة إنما احب مالا وجود له كحب النصارى للمسيح فان المسيح أفضل من علي و هذه المحبة لا تنفعهم فإنه إنما ينفع الحب لله لا الحب مع الله قال تعالى و من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله و الذين آمنوا اشد حبا لله(7/106)
و من قدر انه سمع عن بعض الأنصار أمرا يوجب بغضه فابغضه لذلك كان ضالا مخطئا و لم يكن منافقا بذلك و كذلك من اعتقد في بعض الصحابة اعتقادا غير مطابق و ظن فيه انه كان كافرا أو فاسقا فابغضه لذلك كان جاهلا ظالما و لم يكن منافقا و هذا مما يبين به كذب ما يروى عن بعض الصحابة كجابر انه قال ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه و سلم إلا ببغضهم علي بن أبي طالب فان هذا النفي من اظهر الأمور كذبا لا يخفى بطلان هذا النفي على آحاد الناس فضلا عن أن يخفى مثل ذلك على جابر أو نحوه فان الله قد ذكر في (سورة التوبة). و غيرها من علامات المنافقين و صفاتهم أمورا متعددة ليس في شيء منها بغض علي كقوله و منهم من يقول ائذن لي و لا تفتني إلا في الفتنة سقطوا و قوله و منهم من يلمزك في الصدقات فان أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون و قوله و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله و قوله و منهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن و لنكونن منالصالحين إلى قوله وبما كانوا يكذبون إلى أمثال ذلك من الصفات التي يصف بها المنافقين وذكر علاماتهم وذكر الأسباب الموجبة للنفاق وكل ما كان موجبا للنفاق فهو دليل عليه وعلامة له فكيف يجوز لعاقل أن يقول لم يكن للمنافقين علامة يعرفون بها غير بغض علي وقد كان من علامتهم التخلف عن الجماعة كما في الصحيح عن ابن مسعود انه قال أيها الناس حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى وان الله شرع لنبيه سنن الهدى وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رايتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف
(7/107)
وعامة علا مات النفاق وأسبابه ليست في أحد من أصناف الأمة اظهر منها في الرافضة حتى يوجد فيهم من النفاق الغليظ الظاهر ما لا يوجد في غيرهم وشعار دينهم التقية التي هي أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه وهذا علامة النفاق كما قال الله تعالى وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبأذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ اقرب منهم للأيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله اعلم بما يكتمون وقال تعالى يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وقال تعالى في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وفيها قراءتان يكذبون و يكذبون وفي الجملة فعلامات النفاق مثل الكذب والخيانة و إخلاف الوعد والغدر لا يوجد في طائفة أكثر منها في الرافضة وهذا من صفاتهم القديمة حتى انهم كانوا يغدرون بعلي والحسن والحسين
(7/108)
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب و إذا وعد اخلف و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر وهذا لبسطه موضوع آخر والمقصود هنا أنه يمتنع أن يقال لا علامة للنفاق إلا بغض على ولا يقول هذا أحد من الصحابة لكن الذي قد يقال أن بغضه من علا مات النفاق كما في الحديث المرفوع لا يبغضني إلا منافق فهذا يمكن توجيهه فانه من علم ما قام به على رضى الله عنه من الأيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ثم ابغضه على ذلك فهو منافق ونفاق من يبغض الأنصار اظهر فان الأنصار قبيلة عظيمة لهم مدينة وهم الذين تبؤاالدار الدار والأيمان من قبل المهاجرين وبالهجرة إلى دارهم عز الأيمان واستظهر أهله وكان لهم من نصر الله ورسوله ما لم يكن لأهل مدينة غيرهم ولا لقبيلة سواهم فلا يبغضهم إلا منافق ومع هذا فليسوا بأفضل من المهاجرين بل المهاجرون أفضل منهم فعلم انه لا يلزم من كون بغض الشخص من علامات النفاق أن يكون أفضل من غيره ولا يشك من عرف أحوال الصحابة أن عمر كان اشد عداوة للكفار والمنافقين من على وان تأثيره في نصر الإسلام و إعزازه
(7/109)
وإذلال الكفار والمنافقين أعظم من تأثير على وان الكفار والمنافقين أعداء الرسول يبغضونه أعظم مما يبغضون علي ولهذا كان الذي قتل عمر كافرا يبغض دين الإسلام ويبغض الرسول و أمته فقتله بغضا للرسول ودينه و أمته و الذي قتل عليا كان يصلى ويصوم ويقرأ القران وقتله معتقدا أن الله ورسوله يحب قتل على وفعل ذلك محبة لله ورسول في زعمه وان كان في ذلك مبتدعا ضالا والمقصود أن النفاق في بغض عمر اظهر منه في بغض علي ولهذا لما كان الرافضة من أعظم الطوائف نفاقا كانوا يسمون عمر فرعون الأمة و كانوا يوالون أبا لؤلؤة قاتله الله الذي هو من اكفر الخلق و أعظمهم عداوة لله ولرسوله.
*فصل قال الرافضي البرهان السادس عشر قوله تعالى والسابقون السابقون أولئك المقربون روى أبو نعيم عن ابن عباس في هذه الآية سابق هذه الأمةعلي بن أبي طالب روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن مجاهد عن ابن عباس في قوله والسابقون السابقون قال سبق يوشع بن نون إلى موسى وسبق موسى إلى هارون وسبق صاحب يس إلى عيسى وسبق على إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة فيكون هو الإمام.
*والجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة النقل فان الكذب كثير فيما يرويه هذا وهذا.
الثاني: أن هذا باطل عن ابن عباس ولو صح عنه لم يكن حجة إذا خالفه من هو أقوى منه.
الثالث: أن الله يقول والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار(7/110)
وقال تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بأذن الله الآيه والسابقون الأولون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا الذين هم أفضل ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل ودخل فيهم أهل بيعة الرضوان وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة فكيف يقال أن سابق هذه الأمة واحد.
الرابع: قوله وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة ممنوع فان الناس متنازعون في أول من اسلم فقيل أبو بكر أول من اسلم فهو اسبق إسلاما من على وقيل أن عليا أسلم قبله لكن علي كان صغيرا وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وانفع فيكون هو أكمل سبقا بالاتفاق واسبق على الإطلاق على القول الآخر فكيف يقال على اسبق منه بلا حجة تدل على ذلك.
الخامس: أن هذه الآية فضلت السابقين الأولين ولم تدل على أن كل من كان اسبق إلى الإسلام كان أفضل من غيره وإنما يدل على أن السابقين أفضل قوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى فالذين سبقوا إلى الإنفاق والقتال قبل الحديبية أفضل ممن بعدهم فان الفتح فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية و إذا كان أولئك السابقون قد سبق بعضهم بعضا إلى الإسلام فليس(7/111)
في الآيتين ما يقتضي أن يكون أفضل مطلقا بل قد يسبق إلى الإسلام من سبقه غيره إلى الإنفاق والقتال ولهذا كان عمر رضي الله عنه ممن اسلم بعد تسعة وثلاثين وهو أفضل من أكثرهم بالنصوص الصحيحة وبإجماع الصحابة والتابعين وما علمت أحدا قط قال أن الزبير ونحوه أفضل من عمر و الزبير اسلم قبل عمر ولا قال من يعرف من أهل العلم إن عثمان أفضل من عمر وعثمان اسلم قبل عمر وان كان الفضل بالسبق إلى الإنفاق والقتال فمعلوم أن أبا بكر أخص بهذا فانه لم يجاهد قبله أحد لا بيده ولا بلسانه بل هو من حين آمن بالرسول ينفق ماله ويجاهد بحسب الإمكان فاشترى من المعذبين في الله غير واحد وكان يجاهد مع الرسول قبل الأمر بالقتال وبعد الأمر بالقتال كما قال تعالى وجاهدهم به جهادا كبيرا فكان أبو بكر اسبق الناس و أكملهم في أنواع الجهاد بالنفس والمال ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن آمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر والصحبة بالنفس وذات اليد هو المال فاخبر النبي صلى الله عليه وسلم انه آمن الناس عليه في النفس والمال.
*فصل قال الرافضي البرهان السابع عشر قوله تعالى الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله روى رزين بن معاوية في الجمع بين الصحاح الستة أنها نزلت في علي لما افتخر طلحة بن شيبة والعباس وهذه لم ثبت لغيره من الصحابة فيكون أفضل فيكون هو الإمام.
*والجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة النقل ورزين قد ذكر في كتابه أشياء ليست في الصحاح.
الثاني: أن الذي في الصحيح ليس كما ذكره عن رزين بل الذي في الصحيح ما رواه النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل لا أبالي أن لا اعمل عملا بعد الإسلام إلا أن اسقي الحاج وقال آخر لا أبالي أن لا اعمل عملا بعد الإسلام إلا أن(7/112)
اعمر المسجد الحرام وقال آخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فانزل الله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله الآية إلى آخرها أخرجه مسلم وهذا الحديث يقتضي أن قول على الذي فضل به الجهاد على السدانة والسقامة اصح من قول من فضل السدانة والسقاية وان عليا كان اعلم بالحق في هذه المسالة ممن نازعه فيها وهذا صحيح وعمر قد وافق ربه في عدة أمور يقول شيئا وينزل القران بموافقته قال للنبي صلى الله عليه وسلم لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقال إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن بالحجاب فنزلت آية الحجاب وقال عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات فنزلت كذلك وأمثال ذلك وهذا كله ثابت في الصحيح وهذا أعظم من تصويب علي في مسالة واحدة وأما التفضيل بالأيمان والهجرة والجهاد فهذا ثابت لجميع الصحابة الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فليس هاهنا فضيلة اختص بها علي حتى يقال أن هذا لم يثبت لغيره
(7/113)
الثالث: انه لو قدر انه اختص بمزية فهذه ليست من خصائص الإمامة ولا موجبة لأن يكون أفضل مطلقا فان الخضر لما علم ثلاث مسائل لم يعلمها موسى لم يكن أفضل من موسى مطلقا والهدهد لما قال لسليمان أحطت بما لم تحط به لم يكن اعلم من سليمان مطلقا.
الرابع: أن عليا كان يعلم هذه المسألة فمن أين يعلم أن غيره من الصحابة لم يعلمها فدعوى اختصاصه بعلمها باطل فبطل الاختصاص على التقديرين بل من المعلوم بالتواتر أن جهاد أبي بكر بماله أعظم من جهاد على فان أبا بكر كان موسرا قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما نفعني مال كمال أبي بكر وعلي كان فقيرا وأبو بكر أعظم جهادا بنفسه كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
*فصل قال الرافضي البرهان الثامن عشر قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقهمن طريق الحافظ أبي نعيم إلى ابن عباس قال أن الله حرم كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بتقديم الصدقة و بخلوا أن يتصدقوا قبل كلامه و تصدق علي و لم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره و من تفسير الثعلبي قال ابن عمر كان لعلي ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم تزويجه فاطمة و إعطاؤه الراية يوم خيبر و آية النجوى و روى رزين بن معاوية في الجمع بين الصحاح الستة عن علي ما عمل بهذه الآية غيري و بي خفف الله عن هذه الأمة و هذا يدل على فضيلته عليهم فيكون هو أحق بالإمامة.
*و الجواب أن يقال أما الذي ثبت فهو أن عليا رضي الله عنه تصدق و ناجى ثم نسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره لكن الآيه لم توجب الصدقة عليهم لكن أمرهم إذا ناجوا أن يتصدقوا فمن لم يناج لم يكن عليه أن يتصدق و إذا لم تكن المناجاة واجبة لم يكن أحد ملوما إذا ترك ما ليس بواجب و من كان فيهم عاجزا عن الصدقة و لكن لو قدر لناجى(7/114)
فتصدق فله نيته و اجره و من لم يعرض له سبب يناجي لأجله لم يجعل ناقصا و لكن من عرض له سبب اقتضى المناجاة فتركه بخلا فهذا قد ترك المستحب و لا يمكن أن يشهد على الخلفاء أنهم كانوا من هذا الضرب و لا يعلم أنهم كانوا ثلاثتهم حاضرين عند نزول هذه الآية بل يمكن غيبة بعضهم و يمكن حاجة بعضهم و يمكن عدم الداعي إلى المناجاة و لم يطل زمان عدم نسخ الآية حتى يعلم أن الزمان الطويل لا بد أن يعرض فيه حاجة إلى المناجاة و بتقدير أن يكون أحدهم ترك المستحب فقد بينا غير مرة أن من فعل مستحبا لم يجب أن يكون أفضل من غيره مطلقا و قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه من اصبح منكم اليوم صائما فقال أبو بكر أنا قال فمن تبع منكم جنازة قال أبو بكر أنا قال هل فيكم من عاد مريضا قال أبو بكر أنا قال هل فيكم من تصدق بصدقة فقال أبو بكر أنا قال ما اجتمع لعبد هذه الخصال إلا و هو من أهل الجنة و هذه الأربعة لم ينقل مثلها لعلي و لا غيره في يوم و في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فإن كان من
(7/115)
أهل الصلاة دعي من باب الصلاة و أن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد و أن كان من اهل الصدقة دعي من باب الصدقة فقال أبو بكر يا رسول الله فما على من دعى من تلك الأبواب كلها من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها قال نعم و ارجوا أن تكون منهم و لم يذكر هذا لغير أبي بكر رضي الله عنه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه و قالت إني لم اخلق لهذا و لكني أنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإني أؤمن به أنا و أبو بكر و عمر و ما هما ثم قال أبو هريرة و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما راع في غنمه عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها منه فالتفت إليه الذئب فقال من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري فقال الناس سبحان الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإني أؤمن بذلك أنا و أبو بكر و عمر و هما ثمو قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما نفعني مال كمال أبي بكر و هذا صريح في اختصاصه بهذه الفضيلة لم يشركه فيها علي و لا غيره و كذلك قوله في الصحيحين أن آمن الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر و لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا لكن اخوة الإسلام و مودته لا يبقين باب في المسجد إلا سد إلا بارك أبي بكر و في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي بكر أما أنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي
(7/116)
و في الترمذي و سنن أبي داود عن عمر رضي الله عنه قال امرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتصدق فوافق منى مالا فقلت اليوم اسبق أبا بكر أن سبقته قال فجئت بنصف مالي فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما أبقيت لأهلك قلت مثله و اتى أبو بكر بكل ما عنده فقال يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك قال الله و رسوله قلت لا أسابقه إلى شيء أبدا و في البخاري عن أبي الدرداء قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ اقبل أبو بكر أخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي الله عليه و سلم أما صاحبكم فقد غامر فسلم و قال أنه كان بيني و بين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم أن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر قالوا لا فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فسلم عليه فجعل وجه النبي صلى الله عليه و سلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه و قاليا رسول الله و الله أنا كنت اظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدق وواسني بنفسه و ماله فهل أنتم تاركون لي صاحبي فهل أنتم تاركون لي صاحبي فما أوذي بعدها و في لفظ آخر إني قلت أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدقت و في الترمذي مرفوعا لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره و تجهيز عثمان بألف بعير اعظم من صدقة علي بكثير كثير فإن الأنفاق في الجهاد كان فرضا بخلاف الصدقة إمام النجوى فإنه مشروط بمن يريد النجوى فمن لم يردها لم يكن عليه أن يتصدق و قد أنزل الله في بعض الأنصار و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة
(7/117)
و في الصحيحين عن أبي هريرة رضي لله عنه قال جاء رجل إلى النبي النبي الله عليه و سلم فقال إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت و الذي بعثك بالحق نبيا ما عندي إلا ماء ثم إلى أخرى فقالت مثل ذلك حتى قلن كلهن مثل ذلك لا و الذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال من يضيفه هذه الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال أنا يا رسول الله و أنطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء فقالت لا قوت صبياننا فقال فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئ السراج و أريه أنا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال فقعدوا فأكل الضيف فلما اصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قد عجب الله صنعكما بضيفكما الليلة و في رواية فنزلت هذه الآية و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصةو بالحملة فباب الإنفاق في سبيل الله و غيره لكثير من المهاجرين و الأنصار فيه من الفضيلة ما ليس لعلي فإنه لم يكن له مال على عهد رسول الله صلى عليه و سلم.
*فصل قال الرافضي البرهان التاسع عشر و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا قال ابن عبد البر و أخرجه أبو نعيم أيضا أن النبي الله عليه و سلم ليلة اسري به جمع الله بينه و بين الأنبياء ثم قال سلهم يا محمد علام بعثتم قالوا بعثنا على شهادة ا ن لا اله إلا الله و على الإقرار بنبوتك و الولاية لعلي بن أبي طالب و هذا صريح بثبوت الإمامة لعلي.
*والجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة في هذا وأمثاله بالصحة وقولنا في هذا الكذب القبيح وأمثاله المطالبة بالصحة ليس بشك منا في أن هذا وأمثاله من اسمج الكذب أقبحه لكن علي طريق التنزل في المناظرة وأن هذا لو لم يعلم أنه كذب ولم يجز أن يحتج به حتى يثبت صدقه فإن(7/118)
الاستدلال بما لا تعلم صحته لا يجوز بالإتفاق فإنه قول بلا علم وهو حرام بالكتاب بالسنة والإجماع.
الوجه الثاني: أن مثل هذا مما أتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع.
الوجه الثالث: أن هذا مما يعلم من له علم ودين أنه من الكذب الباطل الذي لا يصدق به من له عقل ودين وإنما يختلق مثل هذا أهل الوقاحة والجراءة في الكذب فإن الرسل صلوات الله عليهم كيف يسألون عما لا يدخل في اصل الإيمان وقد اجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعه ومات في حياته قبل أن يعلم أن الله خلق أبا بكر وعمر وعثمان وعليا لم يضره ذلك شيئا ولم يمنعه ذلك من دخول الجنة فإذا كان هذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يقال أن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة والله تعالى قد أخذ الميثاق عليهم لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه هكذا قال ابن عباس وغيره كما قال تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول إلى قوله تعالى أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين(7/119)
فأما الإيمان بتفصيل ما بعث به محمد فلم يؤخذ عليهم فكيف يؤخذ عليهم موالاة واحد من الصحابة دون غيره من المؤمنين.
الرابع: أن لفظ الآية و سأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ليس في هذا سؤال لهم بماذا بعثوا.
الخامس: أن قول القائل أنهم بعثوا بهذه الثلاثة أن أراد أنهم لم يبعثوا إلا بها فهذا كذب على الرسل وأن أراد أنها أصول ما بعثوا به فهذا أيضا كذب فإن أصول الدين التي بعثوا بها من الإيمان بالله واليوم الآخر و أصول الشرائع أهم عندهم من ذكر الإيمان بواحد من أصحاب نبي غيرهم بل ومن الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الإقرار بمحمد يجب عليهم مجملا كما يجب علينا نحن الإقرار بنبواتهم مجملا لكن من أدركه منهم وجب عليه الإيمان بشرعه على التفصيل كما يجب علينا و أما الإيمان بشرائع الأنبياء على التفصيل فهوواجب على أممهم فكيف يتركون ذكر ما هو واجب على أممهم ويذكرون ما ليس هو الأوجب.
الوجه السادس: أن ليلة الإسراء كانت بمكة قبل الهجرة بمدة قيل أنها سنة ونصف وقيل أنها خمس سنين وقيل غير ذلك وكان على صغيرا ليلة المعراج لم يحصل له هجرة ولا جهاد ولا أمر يوجب أن يذكره به الأنبياء والأنبياء لم يكن يذكر على في كتبهم أصلا وهذه كتب الأنبياء الموجودة التي اخرج الناس ما فيها من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليس في شيء منها ذكر على بل ذكروا أن في التابوت الذي كان فيه عند المقوقس صور الأنبياء صورة أبي بكر وعمر مع صورة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بها يقيم الله أمره وهؤلاء الذين أسلموا من أهل الكتاب لم يذكر أحد منهم أنه ذكر علي عندهم فكيف يجوز أن يقال أن كلا من الأنبياء بعثوا بالإقرار بولاية علي ولم يذكروا ذلك لأممهم ولا نقله أحد منهم.(7/120)
*فصل قال الرافضي البرهان العشرون قوله تعالى وتعيها أذن واعية في تفسير الثعلبي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سالت الله عز و جل أن يجعلها أذنك يا علي و من طريق أبي نعيم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا علي أن الله امرني أن أدنيك و أعلمك يا علي أن الله امرني أن أدنيك و أعلمك لتعي و أنزلت علي هذه الآية و تعيها أذن واعية فأنت أذن واعية و هذه الفضيلة لم تحصل لغيره فيكون هو الإمام.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: بيان صحة الإسناد و الثعلبي و أبو نعيم يرويان ما لا يحتج به بالإجماع.
الثاني: أن هذا موضوع باتفاق أهل العلم.
الثالث: أن قوله لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة و تعيها أذن واعية لم يرد به أذن واحد من الناس فقط فإن هذا خطاب لبني آدم و حملهم في السفينة من اعظم الآيات قال تعالى و آية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون و خلقنا لهم من مثله ما يركبون(7/121)
و قال ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته أن في ذلك لآيات لكل صبار شكور فكيف يكون ذلك كله ليعي ذلك واحد من الناس نعم أذن علي من الأذن الواعية كأذن أبي بكر و عمر و عثمان و غيرهم و حينئذ فلا اختصاص لعلي بذلك و هذا مما يعلم بالاضطرار أن الآذان الواعية ليست أذن علي وحدها أترى أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليست واعية و لا أذن الحسن و الحسين و عمار و أبي ذر و المقداد و سلمان الفارسي و سهل بن حنيف و غيرهم ممن يوافقون على فضيلتهم و إيمانهم و إذا كانت الأذن الواعية له و لغيره لم يجز أن يقال هذه الأفضلية لم تحصل لغيره و لا ريب أن هذا الرافضي الجاهل الظالم يبني أمره على مقدمات باطلة فإنه لا يعلم في طوائف أهل البدع أوهى من حجج الرافضة بخلاف المعتزلة و نحوهم فإن لهم حججا و أدلة قد تشبه على كثير من أهل العلم و العقل أما الرافضة فليس لهم حجة قط تنفق إلا على جاهل أو ظالم صاحب هوى يقبل ما يوافق هواه سواء كان حقا أو باطلا و لهذا يقال فيهم ليس لهم عقل و لا نقل و لا دين صحيح و لا دنيا منصورة
(7/122)
و قالت طائفة من العلماء لو علق حكما بأجهل الناس لتناول الرافضة مثل أن يحلف إني ابغض اجهل الناس و نحو ذلك و أما لو وصى لأجهل الناس فلا تصح الوصية لأنها لا تكون إلا قربة فإذا وصى لقوم يدخل فيهم الكافر جاز بخلاف ما لو جعل الكفر و الجهل جهة و شرطا في الاستحقاق ثم الرافضي يدعي في شيء أنه من فضائل علي و قد لا يكون كذلك ثم يدعي أن تلك الفضيلة ليست لغيره و قد تكون من الفضائل المشتركة فإن فضائل علي الثابتة عامتها مشتركة بينه و بين غيره بخلاف فضائل أبي بكر و عمر فإن عامتها خصائص لم يشاركا فيها ثم يدعي أن تلك الفضيلة توجب الإمامة و معلوم أن الفضلية الجزئية في أمر من الأمور ليست مستلزمة للفضيلة المطلقة و لا للإمامة و لا مختصة بالإمام بل تثبت للإمام و لغيره و للفاضل المطلق و لغيره فبنى هذا الرافضي أمره على هذه المقدمات الثلاث و الثلاث باطلة ثم يردفها بالمقدمة الرابعة و تلك فيها نزاع لكن نحن لا ننازعه فيها بل نسلم أنه من كان أفضل كان أحق بالإمامة لكن الرافضي لا حجة معه على ذلك.
*فصل قال الرافضي البرهان الحادي و العشرون سورة هل اتى في تفسير الثعلبي من طرق مختلفة قال مرض الحسن و الحسين فعادهما جدهما رسول الله صلى الله عليه و سلم و عامة العرب فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر صوم ثلاثة أيام و كذا نذرت أمهما فاطمة و جاريتهم فضة فبرئا و ليس عند آل محمد قليل و لا كثير فاستقرض علي ثلاثة آصع من شعير فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته و خبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصا و صلى علي مع النبي صلى الله عليه و سلم المغرب ثم اتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فقال السلام عليكم أهل بيت محمد صلى(7/123)
الله عليه و سلم مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فسمعه علي فأمر بإعطائه فأعطوه الطعام و مكثوا يومهم و ليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة فخبزت صاعا و صلى علي مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم اتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فاتاهم يتيم فوقف بالباب و قال السلام عليكم أهل بيت محمد صلى الله عليه و سلم يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فسمعه علي فأمر بإعطائه فأعطوه الطعام و مكثوا يومين و ليلتين لم يذوقوا إلا الماء القراح فلما كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الثالث فطحنته و خبزته و صلى علي مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم اتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ اتى أسير فقال أتأسروننا و تشردوننا و لا تطعموننا أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله من موائد الجنة فسمعه علي فأمر بإعطائه فأعطوه الطعامو مكثوا ثلاثة أيام بلياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح فلما كان اليوم الرابع و قد وفوا نذورهم أخذ علي الحسن بيده اليمنى و الحسين بيده اليسرى و اقبل على رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع فلما بصرهما النبي صلى الله عليه و سلم قال يا أبا الحسن ما اشد ما يسوؤني ما أرى بكم أنطلق بنا إلى منزل ابنتي فاطمة فانطلقوا أليها و هي في حجرتها قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع و غارت عيناها فلما رآها النبي صلى الله عليه و سلم قال و اغوثاه بالله أهل بيت محمد يموتون جوعا فهبط جبريل على محمد صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد خذ
(7/124)
ما هنأك الله في أهل بيتك فقال ما أخذ يا جبريل فأقراه هل اتى على الإنسان حين و هي تدل على فضائل جمة لم يسبقه أليها أحد و لا يلحقه أحد فيكون أفضل من غيره فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل كما تقدم و مجرد رواية الثعلبي و الواحدي و أمثالهما لا تدل على أنه صحيح باتفاق أهل السنة و الشيعة و لو تنازع اثنان في مسالة من مسائل الأحكام و الفضائل و احتج أحدهما بحديث لم يذكر ما يدل على صحته إلا رواية الواحد من هؤلاء له في تفسيره لم يكن ذلك دليلا على صحته و لا حجة على منازعه باتفاق العلماء و هؤلاء من عادتهم يروون ما رواه غيرهم و كثير من ذلك لا يعرفون هل هو صحيح أم ضعيف و يروون من الأحاديث الإسرائيليات ما يعلم غيرهم أنه باطل في نفس الأمر لأن وصفهم النقل لما نقل أو حكاية أقوال الناس و أن كان كثير من هذا و هذا باطلا و ربما تكلموا على صحة بعض المنقولات و ضعفها و لكن لا يطردون هذا و لا يلتزمونه الثاني أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث الذي هم أئمة هذا الشأن و حكامه و قول هؤلاء هو المنقول في
(7/125)
هذا الباب و لهذا لم يرو هذا الحديث في شيء من الكتب التي يرجع أليها في النقل لا في الصحاح و لا في المساند و لا في الجوامع و لا السنن و لا رواه المصنفون في الفضائل و أن كانوا قد يتسامحون في رواية أحاديث ضعيفة كالنسائي فإنه صنف خصائص علي و ذكر فيها عدة أحاديث ضعيفة و لم يرو هذا و أمثاله و كذلك أبو نعيم في الخصائص و خيثمة بن سليمان و الترمذي في جامعة روى أحاديث كثيرة في فضائل علي كثير منها ضعيف و لم يرو مثل هذا لظهور كذبه و أصحاب السير كابن اسحق و غيره يذكرون من فضائله أشياء ضعيفة و لم يذكروا مثل هذا و لا رووا ما قلنا فيه أنه موضوع باتفاق أهل النقل من أئمة أهل التفسير الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة كتفسير ابن جريج و سعيد بن أبي عروبة و عبد الرزاق و عبد بن حميدو أحمد و إسحاق و تفسير بقي بن مخلد و ابن جرير الطبري و محمد بن أسلم الطوسي و ابن أبي حاتم و أبي بكر بن المنذر و غيرهم من العلماء الأكابر الذين لهم في الإسلام لسان صدق و تفاسيرهم متضمنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير الوجه الثالث أن الدلائل على كذب هذا كثيرة منها أن عليا أنما تزوج فاطمة بالمدينة و لم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر كما ثبت ذلك في الصحيح و الحسن و الحسين ولدا بعد ذلك سنة ثلاث أو أربع و الناس متفقون على أن عليا لم يتزوج فاطمة إلا بالمدينة لم يولد له ولد إلا بالمدينة وهذا من العم العام المتواتر الذي يعرفه كل من عنده طرف من العلم بمثل هذه الأمور و سورة هل اتى مكية باتفاق أهل التفسير و النقل لم يقل أحد منهم أنها مدنية و هي على طريقة السور المكية في تقرير أصول الدين المشتركة بين الأنبياء كالإيمان بالله و اليوم الآخر و ذكر الخلق والبعث و لهذا قيل أنه كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرؤها مع ألم تنزيل
(7/126)
في فجر يوم الجمعة لأن فيه خلق آدم و فيه دخل الجنة و فيه تقوم الساعة و هاتان السورتان متضمنتان لابتداء خلق السماوات و الأرض و خلق الإنسان إلى أن يدخل فريق الجنة و فريق النار و إذا كانت السورة نزلت بمكة قبل أن يتزوج علي بفاطمة تبين أن نقل أنها نزلت بعد مرض الحسن و الحسين من الكذب و البين الوجه الرابع أن سياق هذا الحديث و ألفاظه من وضع جهال الكذابين فمنه قوله فعادهما جدهما و عامة العرب فإن عامة العرب لم يكونوا بالمدينة و العرب الكفار ما كانوا يأتونهما يعودونهما و منه قوله فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك و علي لا يأخذ الدين من أولئك العرب بل يأخذه من النبي صلى الله عليه و سلم فإن كان هذا أمرا بطاعة فرسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن يأمره به من أولئك العرب و أن لم يكن طاعة لم يكن علي يفعل ما يأمرون به ثم كيف يقبل منهم ذلك من غير مراجعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك الوجه الخامس أن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن النذر و قال أنه لا يأتي بخير و أنما يستخرج به من البخيل
(7/127)
و في طريق آخر ا أن النذر يرد ابن آدم إلى القدر فيعطى على النذر ما لا يعطى غيره و إذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن النذر و يقول أنه لا يأتي بخير و إنما يرد ابن آدم إلى القدر فإن كان علي و فاطمة و سائر أهلهما لم يعلموا مثل هذا و علمه عموم الأمة فهذا قدح في علمهم فأين المدعي للعصمة و أن كانوا علموا بذلك و فعلوا ما لا طاعة فيه لله و لرسوله و لا فائدة لهما فيه بل قد نهيا عنه إما نهي تحريم و أما نهي تنزيل كان هذا قدحا أما في دينهم و أما في عقلهم و علمهم فهذا الذي يروي مثل هذا في فضائلهم جاهل يقدح فيهم من حيث يمدحهم و يخفضهم من حيث يرفعهم و يذمهم من حيث يحمدهم و لهذا قال بعض أهل البيت للرافضة ما معناه أن محبتكم لنا صارت معرة علينا و في المثل السائر عدو عاقل خير من صديق جاهلو الله تعالى أنما مدح على الوفاء بالنذر لا على نفس عقد النذر و الرجل ينهى عن الظهار و أن ظاهر وجبت عليه كفارة للظهار و إذا عاود مدح على فعل الواجب و هو التكفير لا على نفس الظهار المحرم و كذلك إذا طلق امرأته ففارقها بالمعروف مدح على فعل ما أوجبه الطلاق لا نفس الطلاق المكروه و كذلك من باع أو اشترى فأعطى ما عليه مدح على فعل ما أوجبه العقد لا على نفس العقد الموجب و نظائر هذا كثيرة الوجه السادس أن عليا و فاطمة لم يكن لهما جارية اسمها فضة بل و لا لأحد من أقارب النبي صلى الله عليه و سلم و لا نعرف أنه كان بالمدينة جارية اسمها فضة و لا ذكر ذلك أحد من أهل العلم الذين ذكروا أحوالهم دقها و جلها و لكن فضة هذه بمنزلة ابن عقب الذي يقال أنه كان معلم الحسن و الحسين و أنه أعطى تفاحة كان فيها علم الحوادث المستقبلة و نحو ذلك من الأكاذيب التي تروج على الجهال و قد اجمع أهل العلم على أنهما لم يكن لهما معلم و لم يكن في الصحابة أحد يقال له أب عقب و هذه الملاحم المنظومة المنسوبة إلى ابن عقب هي من نظم بعض(7/128)
متأخري الجهال الرافضة الذين كانوا زمن نور الدين و صلاح الدين لما كان كثير من الشام بأيدي النصارى و مصر بأيدي القرامطة الملاحدة بقايا بني عبيد فذكر من الملاحم ما يناسب تلك الأمور بنظم جاهل عامي و هكذا هذه الجارية فضة و قد ثبت في الصحيحين عن علي أن فاطمة سالت النبي صلى الله عليه و سلم خادما فعلمها أن تسبح عند المنام ثلاثا و ثلاثين وتكبر ثلاثا وثلاثين و تحمد أربعا و ثلاثين و قال هذا خير لك من خادم قال علي فما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلى الله عليه و سلم قيل له و لا ليلة صفين قال و لا ليلة صفين و هذا خبر صحيح باتفاق أهل العلم و هو يقتضي أنه لم يعطها خادما فإن كان بعد ذلك حصل خادم فهو ممكن لكن لم يكن اسم خادمها فضة بلا ريب الوجه السابع أنه قد ثبت في الصحيح عن بعض الأنصار أنه آثرضيفه بعشائهم و نوم الصبية و بات هو و امرأته طاويين فأنزل الله سبحانه و تعالى و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و هذا المدح اعظم من المدح بقوله و يطعمون الطعام على حبه مسكينا فإن هذا كقوله وآتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل أي الصدقة أفضل قال أن تصدق و أنت صحيح شحيح تأمل البقاء و تخاف الفقر و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا و قد كان لفلان و قال تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فالتصدق بما يحبه الإنسان جنس تحته أنواع كثيرة و أما الإيثار مع الخصاصة فهو اكمل من مجرد التصدق مع المحبة فإنه ليس كل متصدق محبا مؤثرا و لا كل متصدق يكون به خصاصة بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه مع محبة لا تبلغ به الخصاصة
(7/129)
فإذا كان الله مدح الأنصار بإيثار الضيف ليلة بهذا المدح و الإيثار المذكور في قصة أهل البيت هو اعظم من ذلك فكان ينبغي أن يكون المدح عليه اكثر أن كان هذا مما يمدح عليه و أن كان مما لا يمدح عليه فلا يدخل في المناقب الثامن أن في هذه القصة ما لا ينبغي نسبته إلى علي و فاطمة رضي الله عنهما فإنه خلاف المأمور به المشروع و هو إبقاء الأطفال ثلاثة أيام جياعا و وصالهم ثلاثة أيام و مثل هذا الجوع قد يفسد العقل و البدن و الدين و ليس هذا مثل قصة الأنصاري فإن ذلك بيتهم ليلة واحدة بلا عشاء و هذا قد يحتمله الصبيان بخلاف ثلاثة أيام بلياليها التاسع أن في هذه القصة أن اليتيم قال استشهد والدي يوم العقبة و هذا من الكذب الظاهر فإن ليلة العقبة لم يكن فيها قتال و لكن النبي صلى الله عليه و سلم بايع الأنصار ليلة العقبة قبل الهجرة و قبل أن يؤمر بالقتال و هذا يدل على أن الحديث مع أنه كذب فهو من كذب اجهل الناس بأحوال النبي صلى الله عليه و سلم و لو قال استشهد والدي يوم أحد لكان اقرب العاشر أن يقال أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يكفي أولاد من قتل معه و لهذا قال لفاطمة لما سألته خادما لا ادع يتامى بدر و أعطيك
(7/130)
فقول القائل أنه كان من يتامى المجاهدين الشهداء من لا يكفيه النبي صلى الله عليه و سلم كذب عليه و قدح فيه الحادي عشر أنه لم يكن في المدينة قط أسير يسال الناس بل كان المسلمون يقومون بالأسير الذي يستاسرونه فدعوى المدعي أن أسراهم كانوا محتاجين إلى مسالة الناس كذب عليهم و قدح فيهم و الإسراء الكثيرون أنما كانوا يوم بدر قبل أن يتزوج علي بفاطمة رضي الله عنها و بعد ذلك فالأسرى في غاية القلة الثاني عشر أنه لو كانت هذه القصة صحيحة و هي من الفضائل لم تستلزم أن يكون صاحبها أفضل الناس و لا أن يكون هو الإمام دون غيره فقد كان جعفر اكثر إطعاما للمساكين من غيره حتى قال له النبي صلى الله عليه و سلم أشبهت خلقي و خلقي و كان أبو هريرة يقول ما احتذى النعال بعد النبي صلى الله عليه و سلم أحد أفضل من جعفر يعني في الأحسان إلى المساكين إلى غير ذلك من الفضائل فلم يكن بذلك أفضل من علي و لا غيره فضلا عن أن يكون مستحقا للإمامة الثالث عشر أنه من المعلوم أن أنفاق الصديق أمواله اعظم و أحب إلى الله و رسوله فإن إطعام الجائع من جنس الصدقة المطلقة التي يمكن كل واحد فعلها إلى يوم القيامة بل و كل أمة يطعمون جياعهم من المسلمين و غيرهم و أن كانوا لا يتقربون إلى الله بذلك بخلاف المؤمنين
(7/131)
فإنهم يفعلون ذلك لوجه الله بهذا تميزوا كما قال تعالى عنهم أنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء و لا شكورا و أما أنفاق الصديق و نحوه فإنه كان في أول الإسلام لتخليص من آمن و الكفار يؤذونه أو يريدون قتله مثل اشترائه بماله سبعة كانوا يعذبون في الله منهم بلال حتى قال عمر أبو بكر سيدنا و اعتق سيدنا يعني بلالا و أنفاقه على المحتاجين من أهل الإيمان و في نصر الإسلام حيث كان أهل الأرض قاطبة أعداء الإسلام و تلك النفقة ما بقي يمكن مثلها و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ أحدهم و لا نصيفه و هذا في النفقة التي اختصوا بها و أما جنس إطعام الجائع مطلقا فهذا مشترك يمكن فعله إلي يوم القيامة.
*فصل قال الرافضي البرهان الثاني و العشرون قوله تعالى و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون من طريق أبي نعيم عن مجاهد في قوله و الذي جاءبالصدق محمد صلى الله عليه و سلم و آله و صدق به قال علي بن أبي طالب و من طريق الفقيه الشافعي عن مجاهد و الذي جاء بالصدق و صدق به قال جاء به محمد صلى الله عليه و سلم و صدق به علي و هذه فضيلة اختص بها فيكون هو الإمام.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: أن هذا ليس منقولا عن النبي صلى الله عليه و سلم و قول مجاهد وحده ليس بحجة يجب اتباعها على كل مسلم لو كان هذا النقل صحيحا عنه فكيف إذا لم يكن ثابتا عنه فإنه قد عرف بكثرة الكذب و الثابت عن مجاهد خلاف هذا و هو أن الصدق هو القرآن و الذي صدق به هو المؤمن الذي عمل به فجعلها عامة رواه الطبري و غيره عن مجاهد قال هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة(7/132)
فيقولون هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه و رواه أبو سعيد الأشج قال حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد فذكره و حدثنا المحاربي عن جويبر عن الضحاك و صدق به قال المؤمنون جميعا قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس و صدق به قال رسول الله صلى الله عليه و سلم.
الوجه الثاني: أن هذا معارض بما هو اشهر منه عند أهل التفسير و هو أن الذي جاء بالصدق محمد و الذي صدق به أبو بكر فإن هذا يقوله طائفة و ذكره الطبري بإسناده إلى علي قال جاء به محمد و صدق به أبو بكر و في هذا حكاية ذكرها بعضهم عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر غلام أبي بكر الخلال أن سائلا سأله عن هذه الآية فقال له هو أو بعض الحاضرين نزلت في أبي بكر فقال السائل بل في علي فقال أبو بكر ابن جعفر اقرأ ما بعدها أولئك هم المتقون إلى قوله ليكفر الله عنهم اسوأ الذي عملوا الآية فبهت السائل.
الثالث: أن يقال لفظ الآية عام مطلق لا يختص بابي بكر و لا بعلي(7/133)
بل كل من دخل في عمومها دخل في حكمها و لا ريب أن أبا بكر و عمر و عثمان و عليا أحق هذه الأمة بالدخول فيها لكنها لا تختص بهم و قد قال تعالى فمن اظلم ممن كذب على الله و كذب بالصدق إذا جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون الآية فقد ذم الله سبحانه و تعالى الكاذب على الله و المكذب بالصدق و هذا ذم عام و الرافضة اعظم أهل البدع دخولا في هذا الوصف المذموم فإنهم اعظم الطوائف افتراء للكذب على الله و أعظمهم تكذيبا بالصدق لما جاءهم وأبعد الطوائف عن المجيء بالصدق و التصديق به و أهل السنة المحضة أولى الطوائف بهذا فإنهم يصدقون و يصدقون بالحق في كل ما جاء به و ليس لهم هوى إلا مع الحق و الله تعالى مدح الصادق فيما يجئ به و المصدق بهذا الحق فهذا مدح للنبي صلى الله عليه و سلم و لكل من آمن به و بما جاء به و هو سبحانه لم يقل و الذي جاء بالصدق و الذي صدق به فلم يجعلهما صنفين بل جعلهما صنفا واحدا لأن المراد مدح النوع الذي يجئ بالصدق و يصدق بالصدق فهو ممدوح على اجتماع الوصفين على أن لا يكون من شأنه إلا أن يجيء بالصدق و من شأنه أن يصدق بالصدق و قوله جاء بالصدق اسم جنس لكل صدق و أن كان القرآن أحق بالدخول في ذلك من غيره و لذلك صدق به أي بجنس الصدق و قد
(7/134)
يكون الصدق الذي صدق به ليس هو عين الصدق الذي جاء به كما تقول فلان يسمع الحق و يقول الحق و يقبله و يأمر بالعدل و يعمل به أي هو موصوف بقول الحق لغيره و قبول الحق من غيره وأنه يجمع بين الأمر بالعدل و العمل به وإن كان كثير من العدل الذي يأمر به ليس هو عين العدل الذي يعمل به فلما ذم الله سبحانه من اتصف بأحد الوصفين الكذب على الله و التكذيب بالحق إذ كل منهما يستحق به الذم مدح ضدهما الخالي عنهما بأن يكون يجيء بالصدق لا بالكذب و أن يكون مع ذلك مصدقا بالحق لا يكون ممن يقوله هو و إذا قاله غيره لم يصدقه فإن من الناس من يصدق و لا يكذب لكن يكره أن غيره يقوم مقامه في ذلك حسدا و منافسة فيكذب غيره في غيره أو لا يصدقه بل يعرض عنه و فيهم من يصدق طائفة فيما قالت قبل أن يعلم ما قالوه اصدق هو أم كذب و الطائفة الأخرى لا يصدقها فيما تقول و أن كان صادقا بل إما أن يصدقها وإما أن يعرض عنها و هذا موجود في عامة أهل الأهواء تجد كثيرا منهم صادقا فيما ينقله لكن ما ينقله عن طائفته يعرض عنه فلا يدخل هذا في المدح بل في الذم لأنه لم يصدق بالحق الذي جاءه
(7/135)
والله قد ذم الكاذب والمكذب بالحق لقوله في غير آية ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه وقال ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ولهذا لما كان مما وصف الله به الأنبياء الذين هم أحق الناس بهذه الصفة أن كلا منهم يجيء بالصدق فلا يكذب فكل منهم صادق في نفسه مصدق لغيره ولما كان قوله و الذي صنفا من الأصناف لا يقصد به واحد بعينه أعاد الضمير بصيغة الجمع فقال و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون وأنت تجد كثيرا من المنتسبين إلى علم و دين لا يكذبون فيما يقولونه بل لا يقولون إلا الصدق لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من الصدق بل يحملهم الهوى و الجهل على تكذيب غيرهم وإن كان صادقا أما تكذيب نظيره وإما تكذيب من ليس من طائفته و نفس تكذيب الصادق هو من الكذب ولهذا قرنه بالكاذب على الله فقال فمن اظلم ممن كذب على الله و كذب بالصدق إذ جاءه فكلاهما كاذب هذا كاذب فيما يخبر به عن الله و هذا كاذب فيما يخبر به عن المخبر عن الله
(7/136)
و النصارى يكثر فيهم المفترون للكذب على الله و اليهود يكثر فيهم المكذبون بالحق و هو سبحانه ذكر المكذب بالصدق نوعا ثانيا لأنه أولا لم يذكر جميع أنواع الكذب بل ذكر من كذب على الله و أنت إذا تدبرت هذا و علمت أن كل واحد من الكذب على الله و التكذيب بالصدق مذموم و أن المدح لا يستحقه إلا من كان آتيا بالصدق مصدقا للصدق علمت أن هذا مما هدى الله به عباده إلى صراطه المستقيم إذا تأملت هذا تبين لك أن كثيرا من الشر أو أكثره يقع من أحد هذين فتجد إحدى الطائفتين أو الرجلين من الناس لا يكذب فيما يخبر به من العلم لكن لا يقبل ما تأتي به الطائفة الأخرى فربما جمع بين الكذب على الله و التكذيب بالصدق و هذا وإن كان يوجد في عامة الطوائف شيء منه فليس في الطوائف ادخل في ذلك من الرافضة فإنما اعظم الطوائف كذبا على الله و على رسوله و على الصحابة و على ذوي القربى و كذلك هم من اعظم الطوائف تكذيبا بالصدق فيكذبون بالصدق الثابت المعلوم من المنقول الصحيح و المعقول الصريح فهذه الآية و لله الحمد ما فيها من مدح فهو يشتمل على الصحابة الذين افترت عليهم الرافضة و ظلمتهم فإنهم جاءوا بالصدق و صدقوا بهو هم من اعظم أهل الأرض دخولا في ذلك و علي منهم و ما فيها من ذم فالرافضة ادخل الناس فيه فهي حجة عليهم من الطرفين و ليس فيها حجة على اختصاص علي دون الخلفاء الثلاثة بشيء فهي حجة عليهم من كل وجه و لا حجة لهم فيها بحال.
*فصل قال الرافضي البرهان الثالث و العشرون قوله تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين من طريق أبي نعيم عن أبي هريرة قال مكتوب على العرش لا اله إلا الله وحده لا شريك له محمد عبدي و رسولي أيدته بعلي بن أبي طالب و ذلك قوله في كتابه هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين يعني بعلي و هذه من اعظم الفضائل التي لم تحصل لغيره من الصحابة فيكون هو الإمام.(7/137)
*و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة النقل و أما مجرد العزو إلى رواية أبي نعيم فليس حجة بالإتفاق و أبو نعيم له كتاب مشهور في فضائل الصحابة و قد ذكر قطعة من الفضائل في أول الحلية فإن كانوا يحتجون بما رواه فقد روى في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان ما ينقض بنيانهم و يهدم أركانهم وإن كانوا لا يحتجون بما رواه فلا يعتمدون على نقله و نحن نرجع فيما رواه هو و غيره إلى أهل العلم بهذا الفن و الطرق التي بها يعلم صدق الحديث و كذبه من النظر في إسناده و رجاله و هل هم ثقات سمع بعضهم من بعض أم لا و ننظر إلى شواهد الحديث و ما يدل عليه على أحد الأمرين لا فرق عندنا بين ما يروى في فضائل علي أو فضائل غيره فما ثبت أنه صدق صدقناه و ما كان كذبا كذبناه فنحن نجيء بالصدق و نصدق به و لا نكذب صادقا و هذا معروف عند أئمة السنة و أما من افترى على الله كذبا أو كذب بالحق فعلينا أن نكذبه في كذبه وتكذيبه للحق كاتباع مسيلمة(7/138)
الكذاب و المكذبين بالحق الذي جاء به الرسول و اتبعه عليه المؤمنون به صديقه الأكبر و سائر المؤمنين و لهذا نقول في.
الوجه الثاني: إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث و هذا الحديث و أمثاله مما جزمنا أنه كذب موضوع نشهد أنه كذب موضوع فنحن و الله الذي لا اله إلا هو نعلم علما ضروريا في قلوبنا لا سبيل لنا إلى دفعه أن هذا الحديث كذب ما حدث به أبو هريرة و هكذا نظائره مما نقول فيه مثل ذلك وكل من كان عارفا بعلم الحديث و بدين الإسلام يعرف و كل من لم يكن له بذلك علم لا يدخل معنا كما أن أهل الخبرة بالصرف يحلفون على ما يعلمون يعلمون أنه مغشوش وإن كان من لا خبرة له لا يميز بين المغشوش والصحيح.
الثالث: أن الله تعالى قال هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما الفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم و هذا نص في أن المؤمنين عدد مؤلف بين قلوبهم و علي واحد منهم ليس له قلوب يؤلف بينها و المؤمنون صيغة جمع فهذا نص صريح لا يحتمل أنه أراد به واحدا(7/139)
معينا و كيف يجوز أن يقال المراد بهذا علي وحده.
الوجه الرابع: أن يقال من المعلوم بالضرورة و التواتر أن النبي صلى الله عليه و سلم ما كان قيام دينه بمجرد موافقة علي فإن عليا كان من أول من أسلم فكان الإسلام ضعيفا فلولا أن الله هدى من هداه إلى الأيمان و الهجرة و النصرة لم يحصل بعلي وحده شيء من التأييد و لم يكن إيمان الناس و هجرتهم و لا نصرتهم على يد علي و لم يكن علي منتصبا لا بمكة و لا بالمدينة للدعوة إلى الإيمان كما كان أبو بكر منتصبا لذلك و لم ينقل أنه أسلم على يد علي أحد من السابقين الأولين لا من المهاجرين ولا من الأنصار بل لا نعرف أنه على يد علي أحد من الصحابة لكن لما بعثه النبي صلى الله عليه و سلم إلى اليمن قد يكون قد أسلم على يديه من أسلم إن كان وقع ذلك و ليس أولئك من الصحابة وإنما أسلم أكابر الصحابة على يد أبي بكر و لا كان يدعو المشركين و يناظرهم كما كان أبو بكر يدعوهم و يناظرهم و لا كان المشركون يخافونه كما يخافون أبا بكر و عمر بل قد ثبت في الصحاح و المساند و المغازي واتفق عليه الناس أنه لما كان يوم أحد وانهزم المسلمون صعد أبو سفيان على الجبل و قال أفي القوم محمد أفي القوم محمد فقال النبي صلى الله عليه و سلم(7/140)
لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا تجيبوه فقال لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه أن قال كذبت يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء و قد بقي لك ما يسوؤك فقال يوم بيوم بدر فقال عمر لا سواء قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار ثم أخذ أبو سفيان يرتجز و يقول اعل هبل اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم ألا تجيبوه فقالوا و ما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل فقال إن لنا العزى و لا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه و سلم ألا تجيبوه فقالوا و ما نقول قال قولوا الله مولانا و لا مولى لكم فقال ستجدون في القوم مثله لم آمر بها و لم تسؤني فهذا جيش المشركين إذ ذاك لا يسال إلا على النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر و عمر فلو كان القوم خائفين من علي أو عثمان أو طلحة أو الزبير أو نحوهم أو كان للرسول تأييد بهؤلاء كتأييده بابي بكر و عمر لكان يسال عنهم كما يسال عن هؤلاء فإن المقتضى للسؤال قائم و المانع
(7/141)
منتف و مع وجود القدرة و الداعي و انتفاء الصارف يجب معه وجود الفعل.
الوجه الخامس: أنه لم يكن لعلي في الإسلام اثر حسن إلا و لغيره من الصحابة مثله و لبعضهم آثار اعظم من آثاره و هذا معلوم لمن عرف السيرة الصحيحة الثابتة بالنقل و أما من يأخذ بنقل الكذابين و أحاديث الطرقية فباب الكذب مفتوح و هذا الكذب يتعلق بالكذب على الله و من اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه و مجموع المغازي التي كان فيها القتال مع النبي صلى الله عليه و سلم تسع مغاز و المغازي كلها بضع و عشرون غزاة و أما السرايا فقد قيل إنها تبلغ سبعين و مجموع من قتل من الكفار في غزوات الرسول صلى الله عليه و سلم يبلغون ألفا أو اكثر أو اقل و لم يقتل علي منهم عشرهم و لا نصف عشرهم وأكثر السرايا لم يكن يخرج فيها و أما بعد النبي صلى الله عليه و سلم فلم يشهد شيئا من الفتوحات لا هو و لا عثمان و لا طلحة(7/142)
و لا الزبير إلا أن يخرجوا مع عمر حين خرج إلى الشام و أما الزبير فقد شهد فتح مصر و سعد شهد فتح القادسية و أبو عبيدة فتح الشام فكيف يكون تأييد الرسول بواحد من أصحابه دون سائرهم و الحال هذه و أين تأييده بالمؤمنين كلهم من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار الذين بايعوه تحت الشجرة و التابعين لهم بإحسان و قد كان المسلمون يوم بدر ثلاثمائة و ثلاث عشر و يوم أحد نحو سبعمائة و يوم الخندق اكثر من ألف أو قريبا من ذلك و يوم بيعة الرضوان ألفا و أربع مائة و هم الذين شهدوا فتح خيبر و يوم فتح مكة كانوا عشرة آلاف و يوم حنين كانوا اثني عشر ألفا تلك العشرة و الطلقاء ألفان و أما تبوك فلا يحصى من شهدها بل كانوا اكثر من ثلاثين ألفا و أما حجة الوداع فلا يحصى من شهدها معه و كان قد أسلم على عهده أضعاف من رآه و كان من أصحابه و أيده الله بهم في حياته باليمن و غيرها و كل هؤلاء من المؤمنين الذين أيده الله بهم بل كل من آمن و جاهد إلى يوم القيامة دخل في هذا المعنى.
*فصل قال الرافضي البرهان الرابع و العشرون قوله تعالى يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين من طريق أبي نعيم قال نزلت في علي و هذه فضيلة لم تحصل لأحد من الصحابة غيره فيكون هو الإمام.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: منع الصحة.
الثاني: أن هذا القول ليس بحجة.
الثالث: أن يقال هذا الكلام من اعظم الفرية على الله و رسوله و ذلك أن قوله حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين معناه أن الله حسبك و حسب من اتبعك من المؤمنين فهو وحده كافيك و كافي من معك من المؤمنين و هذا كما تقول العرب حسبك و زيدا درهم و منه قول الشاعر فحسبك و الضحاك سيف مهند(7/143)
و ذلك أن حسب مصدر فلما أضيف لم يحسن العطف عليه إلا بإعادة الجار فإن العطف بدون ذلك وإن كان جائزا في اصح القولين فهو قليل و إعادة الجار احسن وأفصح فعطف على المعنى و المضاف إليه في معنى المنصوب فإن قوله فحسبك و الضحاك معناه يكفيك و الضحاك وزياده المصدر يعمل عمل الفعل لكن إذا أضيف عمل في غير المضاف إليه و لهذا أن أضيف إلى الفاعل نصب المفعول و أن أضيف إلى المفعول رفع الفاعل فتقول أعجبني دق القصار الثوب و هذا وجه الكلام و تقول أعجبني دق الثوب القصار و من النحاة من يقول أعماله منكرا احسن من أعماله مضافا لأنه بالإضافة قوي شبهه بالأسماء و الصواب أن إضافته إلى أحدهما و أعماله في الآخر احسن من تنكيره و أعماله فيهما فقول القائل أعجبني دق القصار الثوب احسن من قوله دق الثوب القصار فإن التنكير أيضا من خصائص الأسماء و الإضافة أخف لأنه اسم و الأصل فيه أن يضاف و لا يعمل لكن لما تعذرت إضافته إلى الفاعل و المفعول جميعا أضيف إلى أحدهما و اعمل في الآخر و هكذا في المعطوفات أن أمكن إضافتها أليها كلها كالمضاف إلى الظاهر فهو احسن كقول النبي صلى الله عليه و سلم أن الله حرم بيعالخمر والميتة والدم والخنزير والأصنام وكقولهم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة وإن تعذر لم يحسن ذلك كقولك حسبك وزيدا درهم عطفا على المعنى ومما يشبه هذا قوله وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا نصب هذا على محل الليل المجرور فإن اسم الفاعل كالمصدر ويضاف تارة ويعمل تارة أخرى
(7/144)
وقد ظن بعض الغالطين أن معنى الآية أن الله والمؤمنين حسبك ويكون من اتبعك رفعا عطفا على الله وهذا خطا قبيح مستلزم للكفر فإن الله وحده حسب جميع الخلق كما قال تعالى الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل أي الله وحده كافينا كلنا و في البخاري عن ابن عباس في هذه الكلمة قالها إبراهيم حين القي في النار و قالها محمد حين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل فكل من النبيين قال حسبي الله فلم يشرك بالله غيره في كونه حسبه فدل على أن الله وحده حسبه ليس معه غيره و مه قوله تعالى أليس الله بكاف عبده و قوله تعالى و لو أنهم رضوا ما أتاهم الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله و رسوله الآية فدعاهم إلى أن يرضوا ما اتاهم الله و رسوله و إلى أن يقولوا حسبنا الله و لا يقولوا حسبنا الله و رسوله لأن الإيتاء يكون بأذن الرسول كما قال و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا
(7/145)
و أما الرغبة فإلى الله كما قال تعالى فإذا فرغت فانصب و إلى ربك فارغب و كذلك التحسب الذي هو التوكل على الله وحده فلهذا أمروا أن يقولوا حسبنا الله و لا يقولوا و رسوله فإذا لم يجز أن يكون الله و رسوله حسب المؤمن كيف يكون المؤمنون مع الله حسبا لرسوله و أيضا فالمؤمنون محتاجون إلى الله كحاجة الرسول إلى الله فلا بد لهم من حسبهم و لا يجوز أن يكون معونتهم و قوتهم من الرسول و قوة الرسول منهم فإذا هذا يستلزم الدور بل قوتهم من الله وقوة الرسول من الله فالله وحده يخلق قوتهم و الله وحده يخلق قوة الرسول فهذا كقوله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين و ألف بين قلوبهم فإنه وحده هو المؤيد للرسول بشيئين أحدهما نصره الذي ينصر به و الثاني بالمؤمنين الذين اتى بهم و هناك قال حسبك الله و لم يقل نصر الله فنصر الله منه كما أن المؤمنين من مخلوقاته أيضا فعطف ما منه على ما منه إذ كلاهما منه و أما هو سبحانه فلا يكون معه غيره في إحداث شيء من الأشياء بل هو وحده الخالق لكل ما سواه و لا يحتاج في شيء من ذلك إلى غيره و إذا تبين هذا فهؤلاء الرافضة رتبوا جهلا على جهل فصاروا في
(7/146)
ظلمات بعضها فوق بعض فظنوا أن قوله حسبك الله و من أتبعك من المؤمنين معناه أن الله و من اتبعك من المؤمنين حسبك ثم جعلوا المؤمنين الذين اتبعوه هم علي بن أبي طالب و جهلهم في هذا اظهر من جهلهم في الأول فإن الأول قد يشتبه على بعض الناس و أما هذا فلا يخفى على عاقل فإن عليا لم يكن وحده من الخلق كافيا لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لو لم يكن معه إلا علي لما اقام دينه و هذا علي لم يغن عن نفسه و معه أكثر جيوش الأرض بل لما حاربه معاوية مع أهل الشام كان معاوية مقاوما له أو مستظهرا سواء كان ذلك بقوة قتال أو قوة مكر و احتيال فالحرب خدعة الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول و هي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة بلغت من العلياء كل مكان فإذا لم يغن عن نفسه بعد ظهور الإسلام و اتباع اكثر أهل الأرض له فكيف يغني عن الرسول صلى الله عليه و سلم و أهل الأرض كلهم أعداؤه و إذا قيل أن عليا أنما لم يغلب معاوية و من معه لأن جيشه لا يطيعونه بل كانوا مختلفين عليه
(7/147)
قيل فإذا كان من معه من المسلمين لم يطيعوه فكيف يطيعه الكفار الذين يكفرون بنبيه و به و هؤلاء الرافضة يجمعون بين النقيضين لفرط جهلهم و ظلمهم يجعلون عليا اكمل الناس قدرة و شجاعة حتى يجعلوه هو الذي اقام دين الرسول و أن الرسول كان محتاجا إليه و يقولون مثل هذا الكفر إذ يجعلونه شريكا لله في إقامة دين محمد ثم يصفونه بغاية العجز و الضعف و الجزع و التقية بعد ظهور الإسلام و قوته و دخول الناس فيه أفواجا و من المعلوم قطعا أن الناس بعد دخولهم في الدين الإسلام أتبع للحق نمهم قبل دخولهم فيه فمن كان مشاركا لله في إقامة دين محمد حتى قهر الكفار و أسلم الناس كيف لا يفعل هذا في قهر طائفة بغوا عليه هم اقل من الكفار الموجودين عند بعثة الرسول و اقل منهم شوكة و اقرب إلى الحق منهم فإن الكفار حين بعث الله محمدا كانوا اكثر ممن نازع عليا ابعد عن الحق فإن أهل الحجاز و الشام و اليمن و مصر و العراق و خرا سان و المغرب كلهم كانوا كفارا ما بين مشرك و كتابي و مجوسي و صابئ و لما مات النبي صلى الله عليه و سلم كانت جزيرة العرب قد ظهر فيها الإسلام و لما قتل عثمان كان الإسلام قد ظهر في الشام و مصر و العراق و خرا سان و المغرب فكان أعداء الحق عند موت النبي صلى الله عليه و سلم اقل منهم
(7/148)
و اضعف و اقل عداوة منهم له عند مبعثه و كذلك كانوا عند مقتل عثمان اقل منهم و اضعف و اقل عداوة منهم له حين بعث محمد صلى الله عليه و سلم فإن جميع الحق الذي كان يقاتل عليه علي هو جزء من الحق الذي قاتل عليه النبي صلى الله عليه و سلم فمن كذب بالحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه و سلم و قاتله عليه كذب بما قاتل عليه علي من ذلك فإذا كان على في هذه الحال قد ضعف وعجز عن نصر الحق ودفع الباطل فكيف يكون حاله حين المبعث وهو اضعف واعجز و أعداء الحق اعظم واكثر واشد عداوة ومثل الرافضة في ذلك مثل النصارى ادعوا في المسيح الإلهية وأنه رب كل شيء ومليكه وهو على كل شيء قدير ثم يجعلون أعداءه صفعوه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه وأنه جعل يستغيث فلا يغيثوه فلا افلحوا بدعوى تلك القدرة القاهرة ولا بإثبات هذه الذلة التامة وأن قالوا كان هذا برضاه قيل فالرب أنما يرضى بأن يطاع لا بأن يعصى فإن كان قتله وصلبه برضاه كان ذلك عبادة وطاعة لله فيكون اليهود الذين صلبوه عابدين
(7/149)
لله مطيعين في ذلك فيمدحون على ذلك لا يذمون وهذا من اعظم الجهل والكفر وهكذا يوجد من فيه شبه من النصارى والرافضة من الغلاة في أنفسهم وشيوخهم تجدهم في غاية الدعوى وفي غاية العجز كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم شيخ زان وملك كذاب وفقير مختال وفي لفظ عائل مزهو وفي لفظ وعائل مستكبر وهذا معنى قول بعض العامة الفقر والزنطرة فهكذا شيوخ الدعاوى والشطح يدعى أحدهم الإلهية وما هو اعظم من النبوة ويعزل الرب عن ربوبيته والنبي عن رسالته ثم آخرته شحاذ يطلب ما يقيته أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته فيفتقر إلى لقمة ويخاف من كلمة فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبية المتضمنة للغنى والعز وهذه حال المشركين الذين قال الله فيهم ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق
(7/150)
وقال مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون وقال سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا والنصارى فيهم شرك بين كما قال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا اله إلا هو سبحانه عما يشركون وهكذا من أشبههم من الغالية من الشيعة والنساك فيه شرك وغلو كما في النصارى شرك وغلو واليهود فيهم كبر والمستكبر معاقب بالذل قال تعالى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وقال تعالى أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون فتكذيبهم وقتلهم للأنبياء كان استكبارا فالرافضة فيهم شبه من اليهود من وجه وشبه من النصارى من وجه ففيهم شرك وغلو وتصديق بالباطل كالنصارى وفيهم من جبن وكبر وحسد وتكذيب بالحق كاليهود
(7/151)
وهكذا غير الرافضة من أهل الأهواء والبدع تجدهم في نوع من الضلال ونوع من الغي فيهم شرك وكبر لكن الرافضة ابلغ من غيرهم في ذلك ولهذا تجدهم من اعظم الطوائف تعطيلا لبيوت الله ومساجده من الجمع والجماعات التي هي أحب الاجتماعات إلى الله وهم أيضا لا يجاهدون الكفار أعداء الدين بل كثيرا ما يوالونهم ويستعينون بهم على عداوة المسلمين فهم أولياء الله المؤمنين ويوالون أعداءه المشركين وأهل الكتاب كما يعادون أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ويوالون اكفر الخلق من الإسماعيلية و النصيرية ونحوهم من الملاحدة وأن كانوا يقولون هم كفار فقلوبهم وابدأنهم إليهم أميل منها إلى المهاجرين والأنصار والتابعين وجماهير المسلمين وما من أحد من أهل الأهواء والبدع حتى المنتسبين إلى العلم والكلام والفقه والحديث والتصوف إلا وفيه شعبة من ذلك كما يوجد أيضا شعبة من ذلك في أهل الأهواء من اتباع الملوك والوزراء والكتاب والتجار لكن الرافضة ابلغ في الضلال والغي من جميع الطوائف أهل البدع.
*فصل قال الرافضي البرهان الخامس و العشرون قوله تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه قال الثعلبي أنما نزلت في علي و هذا يدل على أنه أفضل فيكون هو الإمام.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: أن هذا كذب على الثعلبي فإنه قال في تفسيره في هذه الآيه قال علي و قتادة و الحسن أنهم أبو بكر و أصحابه و قال مجاهد هم أهل اليمن و ذكر حديث عياض بن غنم أنهم أهل اليمن و ذكر الحديث أتاكم أهل اليمن فقد نقل الثعلبي أن عليا فسر هذه الآية بأنهم أبو بكر و أصحابه و أما أئمة التفسير فروى الطبري عن المثنى حدثنا عبد الله بن هاشم حدثنا سيف بن عمر عن أبي روق عن الضحاك عن أبي أيوب عن علي في قوله يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه قال علم الله المؤمنين و وقع معنى السوء(7/152)
على الحشو الذي فيهم من المنافقين و من في علمه أن يرتدوا فقال من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله المرتدة في دورهم بقوم يحبهم و يحبونه بابي بكر و أصحابه رضي الله عنهم و ذكر بإسناده هذا القول عن قتادة و الحسن و الضحاك و ابن جريج و ذكر قوم أنهم الأنصار و عن آخرين أنهم أهل اليمن و رجح هذا الآخر و أنهم رهط أبي موسى قال و لولا صحة الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال هم أبو بكر و أصحابه قال لما ارتد المرتدون جاء الله بهؤلاء على عهد عمر رضي الله عنه.
الثاني: أن هذا قول بلا حجة فلا يجب قبوله.
الثالث: أن هذا معارض بما هو اشهر منه واظهر و هو أنها نزلت في أبي بكر و أصحابه الذين قاتلوا معه أهل الردة و هذا هو المعروف عند الناس كما تقدم لكن هؤلاء الكذابون أرادوا أن يجعلوا الفضائل التي جاءت في أبي بكر يجعلونها لعلي و هذا من المكر السيء الذي لا يحيق إلا بأهله و حدثني الثقة من أصحابنا أنه اجتمع بشيخ اعرفه و كان فيه دين و زهد و أحوال معروفة لكن كان فيه تشيع قال و كان عنده كتاب يعظمه و يدعي أنه من الأسرار و أنه أخذه من خزائن الخلفاء و بالغ في وصفه فلما أحضره فإذا به كتاب قد كتب بخط حسن و قد عمدوا إلى الأحاديث التي في البخاري و مسلم جميعها في فضائل أبي بكر و عمر و نحوهما جعلوها لعلي و لعل هذا الكتاب كان من خزائن بني عبيد المصريين فإن خواصهم كانوا ملاحدة زنادقة غرضهم قلب الإسلام و كانوا قد وضعوا من الأحاديث المفتراة التي يناقضون بها الدين ما لا يعلمه إلا الله و مثل هؤلاء الجهال يظنون ان الاحداث التي في البخاري و مسلم أنما أخذت عن البخاري و مسلم كما يظن مثل ابن الخطيب و نحوه ممن لا يعرف حقيقة الحال و أن البخاري و مسلما كان الغلط يروج عليهما أو(7/153)
كانا يتعمد أن الكذب و لا يعلمون أن قولنا رواه البخاري و مسلم علامة لنا على ثبوت صحته لا أنه كان صحيحا بمجرد رواية البخاري و مسلم بل أحاديث البخاري و مسلم رواها غيرهما من العلماء و المحدثين من لا يحصي عدده إلا الله و لم ينفرد واحد منهما بحديث بل ما من حديث إلا و قد رواه قبل زمانه و في زمانه و بعد زمانه طوائف و لو لم يخلق البخاري و مسلم لم ينقص من الدين شيء و كانت تلك الأحاديث موجوده بأسانيد يحصل بها المقصود و فوق المقصود و أنما قولنا رواه البخاري و مسلم كقولنا قراه القراء السبعة و القرآن منقول بالتواتر لم يختص هؤلاء السبعة بنقل شيء منه و كذلك التصحيح لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري و مسلما بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقي بالقبول و كذلك في عصرهما و كذلك بعدهما قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما و وافقوهما على تصحيح ما صححاه إلا مواضع يسيرة نحو عشرين حديثا غالبها في مسلم أنتقدها عليهما طائفة من الحفاظ و هذه
(7/154)
المواد المنتقدة غالبها في مسلم و قد أنتصر طائفة لهما فيها وطائف قررت قول المنتقدة و الصحيح التفصيل فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب مثل حديث أم حبيبة و حديث خلق الله البرية يوم السبت و حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات و اكثر و فيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري فإنه ابعد الكتابين عن الانتقاد و لا يكاد يروي لفظا فيه انتقاد إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد فما في كتابه لفظ منتقد إلا و في كتابه ما يبين أنه منتقد و في الجملة من نقد سبعة آلاف درهم فلم يرج عليه فيها إلا دراهم يسيرة و مع هذا فهي مغيرة ليست مغشوشة محضة فهذا إمام في صنعته و الكتابان سبعة آلاف حديث و كسر و المقصود أن أحاديثهما أنتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم بعدهم و رواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله فلم ينفردا لا برواية و لا بتصحيح و الله سبحانه و تعالى هو الكفيل بحفظ هذا الدين كما قال تعالى أنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون و هذا مثل غالب المسائل التي توجد في الكتب المصنفة في مذاهب الأئمة مثل القدوري و التنبيه و الخرقي و الجلاب غالب ما فيها إذا
(7/155)
قيل ذكره فلأن علم أنه مذهب ذلك الإمام و قد نقل ذلك سائر أصحابه و هم خلق كثير ينقلون مذهبه بالتواتر و هذه الكتب فيها مسائل أنفرد بها بعض أهل المذهب وفيها نزاع بينهم لاكن غالبا هو قول أهل المذهب و أما البخاري و مسلم فجمهور ما فيهما أتفق عليه أهل العلم بالحديث الذين هم اشد عناية بألفاظ الرسول و ضبطا لها و معرفة بها من اتباع الأئمة لألفاظ أئمتهم وعلماء الحديث أعلم بمقاصد الرسول في ألفاظه من أتباع الأئمة بمقاصد أئمتهم و النزاع بينهم في ذلك اقل من تنازع اتباع الأئمة في مذاهب أئمتهم و الرافضة لجهلهم يظنون أنهم إذا قبلوا ما في نسخة من ذلك و جعلوا فضائل الصديق لعلي أن ذلك يخفى على أهل العلم الذين حفظ الله بهم الذكر.
الرابع:أن يقال أن الذي تواتر عند الناس أن الذي قاتل أهل الردة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي قاتل مسيلمة الكذاب المدعي للنبوة و اتباعه بني حنيفة و أهل اليمامة ز قد قيل كانوا نحو مائة ألف أو اكثر و قاتل طليحة الاسدي و كان قد ادعى النبوة بنجد و اتبعه من أسد تميم وغطفات ما شاء الله ادعت النبوة سجاح امرأة تزوجها مسيلمة الكذاب فتزوج الكذاب بالكذابة(7/156)
و أيضا فكان من العرب من ارتد عن الإسلام و لم يتبع متنبئا كذابا و منهم قوم اقروا بالشهادتين لكن امتنعوا من أحكامهما كمانعي الزكاة و قصص هؤلاء مشهورة متواترة يعرفها كل من له بهذا الباب أدنى معرفة و المقاتلون للمرتدين هم من الذين يحبهم الله و يحبونه و هم أحق الناس بالدخول في هذه الآية و كذلك الذين قاتلوا سائر الكفار من الروم و الفرس و هؤلاء أبو بكر و عمر و من اتبعهما من أهل اليمن و غيرهم و لهذا روي أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن هؤلاء فأشار إلى أبي موسى الاشعري و قال هم قوم هذا فهذا أمر يعرف بالتواتر و الضرورة أن الذين أقاموا الإسلام و ثبتوا عليه حين الردة وقاتلوا المرتدين و الكفار هم داخلون في قوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون في الله لومة لائم و أما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله و يحبه الله لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر و عمر و عثمان و لا كان جهاده للكفار و المرتدين اعظم من جهاد هؤلاء و لا حصل به من المصلحة للدين اعظم مما حصل بهؤلاء بل كل منهم له سعي مشكور و عمل مبرور و آثار صالحة في الإسلام و الله يجزيهم عن الإسلام و أهله خير جزاء فهم
(7/157)
الخلفاء الراشدون و الأئمة المهديون الذين قضوا بالحق و به كانوا يعدلون و أما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين و الدنيا اعظم فيجعلهم كفارا أو فساقا ظلمة و يأتي إلى من لم يجر على يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم فيجعله الله أو شريكا لله أو شريك رسول الله صلى الله عليه و سلم أو الإمام المعصوم الذي لا يؤمن إلا من جعله معصوما منصوصا عليه و من خرج عن هذا فهو كافر و يجعل الكفار المرتدين الذي قاتلهم أولئك كانوا مسلمين و يجعل المسلمين الذين يصلون الصلوات الخمس و يصومون شهر رمضان و يحجون البيت و يؤمنون بالقرآن يجعلهم كفارا لأجل قتال هؤلاء فهذا عمل أهل الجهل و الكذب و الظلم و الإلحاد في دين الإسلام عمل من لا عقل له و لا دين و لا إيمان و العلماء دائما يذكرون أن الذي ابتدع الرفض كان زنديقا ملحدا مقصوده إفساد دين الإسلام و لهذا صار الرفض مأوى الزنادقة الملحدين من الغالية و المعطلة كالنصيرية و الإسماعيلية و نحوهم و أول الفكرة آخر العمل فالذي ابتدع الرفض كان مقصوده إفساد
(7/158)
دين الإسلام ونقض عراه وقلعه بعروشه اخرا لكن صار يظهر منه ما يكنه من ذلك ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وهذا معروف عن ابن سبا واتباعه وهو الذي ابتدع النص في علي وابتدع أنه معصوم فالرافضة الأمامية هم اتباع المرتدين وغلمان الملحدين وورثة المنافقين لم يكونوا أعيان المرتدين الملحدين.
الوجه الخامس: أن يقال هب أن الآية نزلت في علي أيقول القائل أنها مختصة به ولفضها يصرح بأنهم جماعة قال تعالى من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه إلى قوله لومة لائم أفليس هذا صريحا في أن هؤلاء ليسوا رجلا فإن الرجل لا يسمى قوما في لغة العرب لا حقيقة ولا مجازا ولو قال المراد هو وشيعته لقيل إذا كانت الآية أدخلت مع على غيره فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها ممن لم يقاتل إلا أهل القبلة فلا ريب أن أهل اليمن الذين قاتلوا مع أبي بكر وعمر وعثمان أحق بالدخول فيها من الرافضة الذين يوالون اليهود والنصارى والمشركين ويعادون السابقين الأولين فإن قيل الذين قاتلوا مع علي كان كثير منهم من أهل اليمن قيل والذين قاتلوه أيظا كان كثير منهم من أهل اليمن فكلا(7/159)
العسكرين كانت اليمانية والقيسية فيهم كثيرة جدا واكثر اذواء اليمن كانوا مع معاوية كذى كلاع وذى وذي رعين عمرو ونحوهم وهم الذين يقال لهم الذوين كما قال الشاعر وما أعني بذلك أصغريهم ولكنى أريد به الذوينا.
الوجه السادس: قوله فسوف يأتي الله بقوم بحبهم ويحبونه لفظ مطلق ليس فيه تعيين وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائنا ما كان لا يختص ذلك بابي بكر ولا بعلي وإذا لم يكن مختصا بإحداهما لم يكن هذا من خصائصه فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه فضلا عن أن يستوجب بذلك الإمامة بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد عن الدين إلى يوم القيامة إلا اقام الله قوما يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون هؤلاء المرتدين والردة قد تكون عن اصل الإسلام كالغالية من النصيرية والإسماعيلية فهؤلاء مرتدون باتفاق أهل السنة والشيعة وكالعباسيةوقد تكون الردة عن بعض الدين كحال أهل البدع الرافضة وغيرهم والله تعالى يقيم قوما يحبهم ويحبونه ويجاهدون من ارتد عن الدين أو عن بعضه كما يقيم من يجاهد الرافضة المرتدين عن الدين أو عن بعضه في كل زمان والله سبحانه المسؤول أن يجعلنا من الذين يحبهم ويحبونه الذين يجاهدون المرتدين واتباع المرتدين ولا يخافون لومة لائم.
*فصل قال الرافضي البرهان السادس والعشرون قوله تعالى والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم روى أحمد بن حنبل بإسناد عن أبي ليلى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(7/160)
الصديقون ثلاثة حبيب بن موسى النجار مؤمن آل ياسين الذي قال يا قوم اتبعوا المرسلين وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال اتقتلوا رجلا أن يقول ربي الله وعلي بن أبي طالب الثالث وهو أفضلهم ونحوه روى أبن المغازلي الفقيه الشافعي وصاحب كتاب الفردوس هذه وفضيلة تدل على إمامته.
*والجواب من وجوه إحدهما المطالبة بصحة الحديث وهذا ليس في مسند أحمد ومجرد روايته له في الفضائل لو كان رواه لا يدل على صحته عنده باتفاق أهل العلم فإنه يروي ما رواه الناس وأن لم تثبت صحته وكل من عرف العلم يعلم أنه ليس كل حديث رواه أحمد في الفضائل ونحوه يقول أنه صحيح بل ولا كل حديث رواه في مسنده يقول أنه صحيح بل أحاديث مسنده هي التي رواها الناس عمن هو معروف عند الناس بالنقل ولم يظهر كذبه وقد يكون في بعضها علة تدل على أنه ضعيف بل باطل لكن غالبها وجمهورها أحاديث جيدة يحتج بها وهي أجود من أحاديث سنن أبي داود و أما ما رواه في الفضائل فليس من هذا الباب عنده والحديث قد يعرف أن محدثه غلط فيه أو كذبه من غير علم بحال المحدث بل بدلائل آخروالكوفيون كان قد اختلط كذبهم بصدقهم فقد يخفى كذب أحدهم أو غلطه على المتأخرين ولكن يعرف ذلك بدليل آخر فكيف وهذا الحديث لم يروه أحمد لا في المسند ولا في كتاب الفضائل وإنما هو من زيادات القطيعى رواه عن محمد بن يونس القرشي حدثنا الحسن بن محمد الأنصاري حدثنا عمرو بن جميع حدثنا بن أبي ليلى عن أخيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره(7/161)
ورواه القطيعي أيضا من طريق آخر قال كتب إلينا عبد الله بن غنام الكوفي يذكر أن الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى المكفوف حدثهم قال حدثنا عمرو بن جميع حدثنا محممد بن أبي ليلى عن عيسى ثم ذكر الحديث وعمرو بن جميع ممن لا يحتج بنقله بل قال بن عدي يتهم بالوضع قال يحيى كذاب خبيث وقال النسائي والدار قطني متروك وقال بن حبان يروي الموضوعات عن الإثبات والمناكير عن المشاهير لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار الثاني أن هذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أن في الصحيح من غير وجه تسميه غير علي صديقا كتسمية أبي بكر الصديق فكيف يقال الصديقون الثلاثة وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداوتبعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اثبت أحد فما عليك إلا نبي أو صديق وشهيدان ورواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد عن قتادة عن أنس وفي رواية ارتج بهم أحد وفي الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
الوجه الرابع: أن الله تعالى قد سمى مريم صديقة فكيف يقال الصديقون ثلاثة(7/162)
الوجه الخامس: أن قول قول القائل الصديقون ثلاثة أن أراد به أنه لا صديق إلا هؤلاء فإنه كذب مخالف للكتاب والسنة و إجماع المسلمين وأن أراد أن الكامل في الصديقية هم الثلاثة فهو أيضا خطا لأن امتنا خير أمة أخرجت للناس فكيف يكون المصدق بموسى ورسل عيسى أفضل من المصدقين بمحمد والله تعالى لم يسم مؤمن آل فرعون صديقا ولا يسمى صاحب آل ياسين صديقا ولكنهم صدقوا بالرسل والمصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم وقد سمى الله الأنبياء صديقين في مثل قوله واذكر في الكتاب إبراهيم أنه كان صديقا نبيا واذكر في الكتاب إدريس أنه كان صديقا نبيا وقوله عن يوسف أيها الصديق.
الوجه السادس: أن الله تعالى قال والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم وهذا يقتضي أن كل مؤمن آمن بالله ورسله فهو صديق.
السابع: أن يقال أن كان الصديق هو الذي يستحق الإمامة فأحق الناس بكونه صديقا أبو بكر فإنه الذي ثبت له هذا الاسم بالدلائل الكثيرة وبالتواتر الضروري عند الخاص والعام حتى أن أعداء الإسلام يعرفون ذلك فيكون هو المستحق للإمامة وأن لم يكن كونه صديقا يستلزم الإمامة بطلت الحجة.
*فصل قال الرافضي البرهان السابع والعشرون قوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية من طريق أبي نعيم بإسناده إلى ابن عباس نزلت في على كان معه أربعة دراهم فأنفق درهما بالليل ودرهما بالنهار ودرهما سرا ودرهما علانية وروى الثعلبي ذلك ولم يحصل ذلك لغيره فيكون أفضل فيكون هو الإمام.(7/163)
*والجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة النقل ورواية أبي نعيم والثعلبي لا تدل على الصحة.
الثاني: أن هذا كذب ليس بثابت.
الثالث: أن الآية عامة في كل من ينفق بالليل والنهار سرا وعلانية فمن عمل بها دخل فيها سواء كان عليا أو غيره ويمتنع أن لا يراد بها إلا واحد معين.
الرابع: أن ما ذكر من الحديث يناقض مدلول الآية فإن الآية تدل على الأنفاق في الزمانين اللذين لا يخلو الوقت عنهما وفي الحالين اللذين لا يخلو الفعل منهما فالفعل لابد له من زمان والزمان أما ليل و أما نهار والفعل أما سرا و أما علانية فالرجل إذا أنفق بالليل سرا كان قد أنفق ليلا سرا وإذا أنفق علانية نهارا كان قد أنفق علانية نهارا وليس الأنفاق سرا وعلانية خارجا عن الأنفاق بالليل والنهار فمن قال أن المراد من أنفق درهما بالسر ودرهما في العلانية ودرهما بالليل ودرهما بالنهار كان جاهلا فإن الذي أنفقه سرا وعلانية قد أنفقه ليلا ونهارا والذي قد أنفقه ليلا ونهارا قد أنفقه سرا وعلانية فعلم أن الدرهم الواحد يتصف بصفتين لا يجب أن يكون المراد أربعة لكن هذه التفاسير الباطلة يقول مثلها كثير من الجهال كما يقولون(7/164)
محمد رسول الله والذين معه أبو بكر أشداء على الكفار عمر رحماء بينهم عثمان تراهم ركعا سجدا على يجعلون هذه الصفات لموصوفات متعددة ويعينون الموصوف في هؤلاء الأربعة والآية صريحة في أبطال هذا وهذا فإنها صريحة في ان هذه الصفات كلها لقوم يتصفون بها كلها وأنهم كثيرون ليسوا واحدا ولا ريب أن الأربعة أفضل هؤلاء وكل من الأربعة موصوف بهذا كله وأن كان بعض الصفات في بعض أقوى منها في آخر واغرب من ذلك قول بعض جهال المفسرين والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين أنهم الأربعة فإن هذا مخالف للعقل والنقل لكن الله اقسم بالأماكن الثلاثة التي أنزل فيها كتبه الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن وظهر منها موسى وعيسى ومحمد كما قال في التوراة جاء الله من طور سينا واشرق من ساعين واستعلن من جبال فاران فالتين والزيتون الأرض التي بعث فيها المسيح وكثيرا ما تسمى الأرض بما ينبت فيها فيقال فلأن خرج إلى الكرم والى الزيتون و إلى الرمان ونحو ذلك ويراد الأرض التي فيها ذلك فإن الأرض تتناول ذلك فعبر عنها ببعضها وطور سينين حيث كلم الله موسى وهذا البلد الأمين مكة أم القرى التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم
(7/165)
والجاهل بمعنى الآية لتوهمه أن الذي أنفقه سرا وعلانية غير الذي أنفقه في الليل والنهار يقول نزلت فيمن أنفق أربعة دراهم أما على و إما غيره ولهذا قال الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية لم يعطف بالواو فيقول سرا وعلانية بل هذأن داخلان في الليل والنهار سواء قيل هما منصوبان على المصدر لأنهما نوعان من الأنفاق أو قيل على الحال فسواء قدرا سرا وعلانية أو مسرا ومعلنا فتبين أن الذي كذب هذا كان جاهلا بدلالة القرآن والجهل في الرافضة ليس بمنكر.
الخامس: أنا لو قدرنا أن عليا فعل ذلك ونزلت فيه الآية فهل هنا إلا أنفاق أربعة دراهم في أربعة أحوال وهذا عمل مفتوح بابه ميسر إلى يوم القيامة والعاملون بهذا و أضعافه اكثر من أن يحصوا وما من أحد فيه خير إلا ولا بد أن ينفق ان إنشاء الله تارة بالليل وتارة بالنهار وتارة في السر وتارة في العلانية فليس هذا من الخصائص فلا يدل على فضيلة الإمامة.(7/166)
* فصل قال الرافضي البرهان الثامن والعشرون ما رواه أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال ليس من آية في القرآن يا أيها الذين آمنوا إلا علي رأسها وأميرها وشريفها وسيدها ولقد عاتب الله تعالى أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليا إلا بخير وهذا يدل على أنه أفضل فيكون هو الإمام.
والجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة النقل وليس هذا في مسند أحمد ولا مجرد روايته له لو رواه في الفضائل يدل على أنه صدق فكيف ولم يروه أحمد لا في المسند ولا في الفضائل وإنما هو من زيادات القطيعي رواه عن إبراهيم عن شريك الكوفي حدثنا زكريا بن يحيى الكسائى حدثنا عيسى عن على بن بذيمة عن عكرمة عن بن عباس ومثل هذا الإسناد لا يحتج به باتفاق أهل العلم فإن زكريا بن يحيى الكسائى قال فيه يحيى رجل سوء يحدث بأحاديث يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها وقال الدارقطني قطني متروك وقال ابن عدي كان يحدث بأحاديث في مثالب الصحابة.
الثاني: أن هذا كذب على ابن عباس والمتواتر عنه أنه كان يفضل عليه أبا بكر وعمر وله معايبات يعيب بها عليا ويأخذ عليه في أشياء من(7/167)
أموره حتى أنه لما حرق الزنادقة الذين ادعوا فيه الإلهية قال لو كنت أنا لم احرقهم لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاتتلوه رواه البخاري وغيره ولما بلغ عليا ذلك عليا قال ويح أم ابن عباس ومن الثابت أن ابن عباس أنه كان يفتي إذا لم يكن معه نص بقول أبي بكر وعمر فهذا اتباعه لأبي بكر وعمر وهذه معارضته لعلي وقد ذكر غير واحد منهم الزبير بن بكار مجاوبته لعلي لما أخذ ما أخذ من مال البصرة فأرسل إليه رسالة فيها تغليط عليه فأجاب عليا بجواب يتضمن أن ما فعلته دون ما فعلته من سفك دماء المسلمين على الإمارة ونحو ذلك.
الثالث: أن هذا الكلام ليس فيه مدح لعلي فإن الله كثيرا ما يخاطب الناس بمثل هذا في مقام عتاب كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون فإن كان علي راس هذه الآية فقد وقع منه هذا الفعل الذي أنكره الله وذمه وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وثبت في الصحاح أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بمكة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا والزبير ليأتيا بالمرأة التي كان معها الكتاب وعلي كان بريئا(7/168)
من ذنب حاطب فكيف يجعل راس المخاطبين الملامين على هذا الذنب وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن القي إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا وهذه الآية نزلت في الذين وجدوا رجلا في غنيمة له فقال أنا مسلم فلم يصدقوه وأخذوا غنمه فأمرهم الله سبحانه وتعالى بالتثبت والتبين ونهاهم عن تكذيب مدعي الإسلام طمعا في دنياه وعلي رضي الله عنه بري من ذنب هؤلاء فكيف يقال هو رأسهم و أمثال هذا كثير في القرآن.
الرابع: هو ممن شمله لفظ الخطاب وأن لم يكن هو سبب الخطاب فلا ريب أن اللفظ شمله كما يشمل غيره وليس في لفظ الآية تفريق بين مؤمن ومؤمن.
الخامس: أن قول القائل عن بعض الصحابة أنه راس الآيات وأميرها وشريفها وسيدها كلام لا حقيقة له فإن أريد أنه أول من خوطب بها فليس كذلك فإن الخطاب يتناول المخاطبين تناولا واحدا لا تتقدم بعضهم بما تناوله عن بعض وأن قيل أنه أول من عمل بها فليس كذلك فإن في الآيات آيات قد عمل بها من قبل علي وفيها آيات لم يحتج علي أن يعمل بها وأن قيل أن تناولها لغيره أو عمل غيره بها مشروط به كالإمام في الجمعة فليس الأمر كذلك فإن شمول الخطاب لبعضهم ليس مشروطا(7/169)
بشموله لآخرين ولا وجوب العمل على بعضهم مشروط على آخرين بوجوبه وأن قيل أنه أفضل من عنى بها فهذا يبنى على كونه أفضل الناس فإن ثبت ذلك فلا حاجة إلى الاستدلال بهذه الآية وأن لم يثبت لم يجز الاستدلال بها فكان الاستدلال بها باطلا على التقديرين وغاية ما عندكم أن تذكروا أن ابن عباس كان يفضل عليا وهذا مع أنه هذا كذب على ابن عباس وخلاف المعلوم عنه فلو أنه قدر أنه قال ذلك مع مخالفة جمهور الصحابة لم يكن حجة.
السادس: أن قول القائل لقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليا إلا بخير كذب معلوم فإنه لا يعرف أن الله عاتب أبا بكر في القرآن بل ولا أنه ساء رسول الله بل روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في خطبته أيها الناس اعرفوا أبي بكر حقه فإنه لم يسؤني يوما قط والثابت من الأحاديث الصحيحة يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتصر لأبي بكر وينهى الناس عن معارضته ولم ينقل أنه ساءه كما نقل ذلك عن غيره فإن عليا لما خطب بنت أبي جهل خطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة المعروفة وما حصل مثل هذا في حق أبي بكر قط(7/170)
وأيضا فعلي لم يكن يدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور العامة كما كان يدخل معه أبو بكر مثل المشاوره في وولايته وحربه وعطائه وغير ذلك فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل الوزيرين له شاورهما في أسرى بدر ما يصنع بهم وشاورهما في وفد بني تميم لمن يولي عليهم وشاورهما في غير ذلك من الأمور العامة يخصهما بالشورى وفي الصحيحين عن علي أن عمر لما مات قال له والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك فإني كنت كثيرا ما اسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا و أبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر وكان يشاور أبا بكر بأمور حروبه يخصه كما شاوره في قصة الإفك كما استشار أسامة بن زيد وكما سال بريرة وهذا أمر يخصه فإنه لما اشتبه عليه أمر عائشة رضي الله عنها وتردد هل يطلق لما بلغه عنها أم يمسكها صار يسال عنها بريرة لتخبره بباطن أمرها ويشاور فيها عليا أيمسكها أم يطلقها فقال له أسامة أهلك ولا نعلم إلا خيرا وقال على لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير و اسأل الجارية تصدقك ومع
(7/171)
هذا فنزل القرآن ببراءتها وإمساكها موافقة لما أشار به أسامة بن زيد حب النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمر يدخل في مثل هذه الشورى ويتكلم مع نسائه فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالت له أم سلمة يا عمر لقد دخلت في كل شيء حتى دخلت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه و أما الأمور العامة الكلية التي تعم المسلمين إذا لم يكن فيها وحي خاص فكان يشاور فيها أبا بكر وعمر وأن دخل غيرهما في الشورى لكن هما الأصل في الشورى وكان عمر تاره ينزل القرآن بموافقته فيما يراه وتارة يتبين له الحق في الخلاف ما رآه فيرجع عنه و أما الأمور العامة الكلية التي تعم المسلمين إذا لم يكن فيها وحي خاص فكان يشاور فيها أبا بكر وعمر وأن دخل غيرهما في الشورى لكن هما الأصل في الشورى وكان عمر تارة ينزل القرآن بموافقته فيما يراه وتارة يتبين له الحق في خلاف ما رآه فيرجع عنه و أما أبو بكر فلم يعرف أنه أنكر عليه شيئا ولا كان أيضا يتقدم في شيء اللهم إلا لما تنازع هو وعمر فيمن يولى من بني تميم حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول وليس تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بأكثر من تأذيه في قصة فاطمة وقد قال تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله وقد أنزل الله تعالى في على يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون لما صلى فقرا وخلطوقال النبي صلى الله عليه وسلم وكان الإنسان اكثر شيء جدلا لما قال له ولفاطمة إلا تصليان فقالا أنما أنفسنا بيد الله سبحانه وتعالى.(7/172)
*فصل قال الرافضي البرهان التاسع والعشرون قوله تعالى أن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما من صحيح البخاري عن كعب بن عجرة قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله علمنا كيف نسلم قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وفي صحيح مسلم قلنا يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ولا شك أن عليا أفضل آل محمد فيكون أولى بالإمامة.
*والجواب أنه لا ريب أن هذا الحديث صحيح متفق عليه وأن عليا من آل محمد الداخلين في قوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ولكن ليس هذا من خصائصه فإن جميع بني هاشم داخلون في هذا كالعباس وولده والحارث بن عبد المطلب وولده وكبنات النبي صلى الله عليه وسلم زوجتي عثمان رقية و أم كلثوم وبنته فاطمة وكذلك(7/173)
أزواجه كما في الصحيحين فيه قوله اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته بل يدخل فيه سائر أهل بيته إلى يوم القيامة ويدخل فيه اخوة علي كجعفر وعقيل ومعلوم أن دخول هؤلاء في الصلاة والتسليم لا يدل على أنه أفضل من كل من لم يدخل في ذلك ولا أنه يصلح بذلك للإمامة فضلا عن أن يكون مختصا بها إلا ترى أن عمارا والمقداد وأبا ذر وغيرهم ممن أتفق أهل السنة والشيعة على فضلهم لا يدخلون في الصلاة على إلال ويدخل فيها عقيل والعباس وبنوه وأولئك أفضل من هؤلاء باتفاق أهل السنة والشيعة وكذلك يدخل فيها عائشة وغيرها من أزواجه ولا تصلح امرأة لإمامه وليست أفضل الناس باتفاق أهل السنة والشيعة فهذه فضيلة مشتركة بينه وبين غيره وليس كل من اتصف بها أفضل ممن لم يتصف بها وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم فالتابعون أفضل من القرن الثالث وتفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم تفصيل الأفراد على كل فرد فإن القرن الثالث والرابع فيهم من هو أفضل من كثير ممن أدرك الصحابةكالاشتر النخعي وأمثاله من رجال الفتن وكالمختار بن أبي عبيد و أمثاله من الكذابين والمفترين والحجاج بن يوسف وأمثاله من أهل الظلم والشر وليس على أفضل أهل البيت بل أفضل أهل البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه داخل في أهل البيت كما قال للحسن أما علمت أنا أهل بيت لا نأكل الصدقة وهذا الكلام يتناول المتكلم ومن معه وكما قالت الملائكة رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت وإبراهيم فيهم وكما قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم آل إبراهيم وإبراهيم داخل فيهم وكما في قوله تعالى إلا آل لوط نجيناهم فإن لوطا دخل فيهم وكذلك قوله أن الله اصطفى آدم ونوحا وال إبراهيم وال عمران على العالمين فقد دخل إبراهيم في الاصطفاء
(7/174)
وكذلك قوله سلام على آل ياسين فقد دخل ياسين في السلام وكذلك قول النبي اللهم صل عرلى آل أبي أوفى دخل في ذلك أبو أوفى وكذلك قوله لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود وليس إذا كان علي أفضل أهل البيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أفضل الناس بعده لأن بني هاشم أفضل من غيرهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم و أما إذا خرج منهم فلا يجب أن يكون أفضلهم بعده أفضل ممن سواهم كما أن التابعين إذا كانوا أفضل من تابعي التابعين وكان فيهم واحد أفضل لم يجب أن يكون الثاني أفضل من أفضل تابعي التابعين بل الجملة إذا فضلت على الجملة فكان أفضلهما أفضل من الجملة الأخرى حصل مقصود التفضيل وما بعد ذلك فموقوف على الدليل بل قد يقال لا يلزم أن يكون أفضلها أفضل من فاضل الأخرى إلا بدليلوفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم فإذا كان جملة قريش أفضل من غيرها لم يلزم أن يكون كل منهم أفضل من غيرهم بل في سائر العرب وغيرهم من المؤمنين من هو أفضل من اكثر قريش والسابقون الأولون من قريش نفر معدودون وغالبهم أنما أسلموا عام الفتح وهم الطلقاء وليس كل المهاجرين من قريش بل المهاجرون من قريش وغيرهم كابن مسعود الهزلي وعمران بن حصين الخزاعي والمقداد بن الاسود الكندي وهؤلاء وغيرهم من البدريين أفضل من اكثر بني هاشم فالسابقون من بني هاشم حمزة وعلى وجعفر وعبيدة بن الحارث أربعة أنفس وأهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر فمنهم من بني هاشم ثلاثة وسائرهم أفضل من سائر بني هاشم وهذا كله بناء على أن الصلاة والسلام على آل محمد وأهل بيته تقتضي
(7/175)
أن يكونوا أفضل من سائر أهل البيوت وهذا مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقولون بنو هاشم أفضل قريش وقريش أفضل العرب والعرب أفضل بني آدم وهذا هو المنقول عن أئمة السنة كما ذكره حرب الكرماني عمن لقيهم مثل أحمد وإسحاق وسعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي وغيرهم وذهبت طائفة إلى منع التفضيل بذلك كما ذكره القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى في المعتمد وغيرهما و الأول اصح فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريش من كنانة واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم وروي أن الله اصطفى بني إسماعيل وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
*فصل قال الرافضي البرهان الثلاثون قوله تعالى مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيانمن تفسير الثعلبي وطريق أبي نعيم عن ابن عباس في قوله مرج البحرين يلتقيان قال علي وفاطمة بينهما برزخ لا يبغيان النبي صلى الله عليه وسلم وآله يخرج منها اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين ولم يحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة فيكون أولى بالإمامة.
*والجواب أن هذا وأمثاله أنما يقوله من لا يعقل ما يقول وهذا بالهذيان أشبه منه بتفسير القرآن وهو من جنس تفسير الملاحدة والقرامطة الباطنية للقرآن بل هو شر من كثير منه والتفسير بمثل هذا طريق للملاحدة على القرآن والطعن فيه بل تفسير القرآن بمثل هذا من اعظم القدح فيه والطعن فيه و لجهال المنتسبين إلى السنة تفاسير في الأربعة وهي أن كانت باطلة فهي امثل من هذا كقولهم الصابرين محمد والصادقين أبو بكر والقانتين عمر والمنفقين عثمان والمستغفرين بالأسحار علي وكقوله محمد رسول الله والذين معه أبو بكر أشداء على الكفار عمر رحماء بينهم عثمان تراهم ركعا سجدا على(7/176)
وكقولهم والتين أبو بكر والزيتون عمر وطور سينين عثمان وهذا البلد الأمين علي وكقولهم والعصر أن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا أبو بكر وعملوا الصالحات عمر وتواصوا بالحق عثمان وتواصوا بالصبر علي فهذه التفاسير من جنس تلك التفاسير وهي أمثل من الحادات الرافضة كقولهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين علي وكقولهم وأنه في أم الكتاب لدنيا لعلي حكيم أنه علي بن أبي طالب والشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية و أمثال هذا الكلام الذي لا يقوله من يرجو لله وقارا ولا يقوله من يؤمن بالله وكتابه وكذلك قول القائل مرج البحرين يلتقيان علي وفاطمة بينهما برزخ لا يبغيان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين وكل من له أدنى علم وعقل يعلم بالاضطرار بطلان هذا التفسير وأن ابن عباس لم يقل هذا وهذا من التفسير الذي في تفسير الثعلبي وذكره بإسناد رواته مجهولون لا يعرفون عن سفيان الثوري وهو كذب على سفيان قال
(7/177)
الثعلبي أخبرني الحسن بن محمد الدينوري حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال قرا أبي على أبي محمد بن الحسن بن علوية القطان من كتابه و أنا اسمع حدثنا بعض أصحابنا حدثنا رجل من أهل مصر يقال له طسم حدثنا أبو حذيفة عن أبيه عن سفيان الثوري في قوله مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان قال فاطمة و علي يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان الحسن و الحسين و هذا الإسناد ظلمات بعضها فوق بعض لا يثبت بمثله شيء و مما يبين كذب ذلك وجوه أحدها أن تسمية هذين بحرين و هذا لؤلؤا هذا في سورة الرحمان وهي مكية بإجماع المسلمين والحسن والحسين إنما ولدا بالمدينة الثاني أن عن عيسى ثم ذكر و هذا مرجانا و جعل النكاح مرجا أمر لا تحتمله لغة العرب بوجه لا حقيقة و لا مجازا بل كما أنه كذب على الله و على القرآن فهو كذب على اللغة الثالث أنه ليس في هذا شيء زائد على ما يوجد في سائر بني آدم فإن كل من تزوج امرأة و ولد لهما ولدان فهما من هذا الجنس فليس في ذكر هذا ما يستعظم من قدرة الله و آياته
(7/178)
إلا ما في نظائره من خلق الآدميين فلا موجب للتخصيص و إن كان ذلك لفضيلة الزوجين و الولدين فإبراهيم و اسحق و يعقوب افضل من علي و في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل أي الناس اكرم فقال اتقاهم فقالوا ليس عن هذا نسألك فقال يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله و آل إبراهيم الذين امرنا أن نسأل لمحمد و أهل بيته من الصلاة مثل ما صلى الله عليهم و نحن و كل مسلم نعلم أن آل إبراهيم افضل من آل علي لكن محمد افضل من إبراهيم و لهذا ورد هنا سؤال مشهور و هو انه إذا كان محمد افضل فلم قيل كما صليت على إبراهيم و المشبه دون المشبه به و قد أجيب عن ذلك بأجوبه منها أن يقال أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء و محمد فيهم قال ابن عباس محمد من آل إبراهيم فمجموع آل إبراهيم بمحمد افضل من آل محمد و محمد قد دخل في الصلاة على
(7/179)
آل إبراهيم ثم طلبنا له من الله و لأهل بيته دونه مثل ما صلى على إبراهيم فيأخذ أهل بيته ما يليق بهم و يبقى سائر ذلك لمحمد صلى الله عليه و سلم فيكون قد طلب له من الصلاة ما جعل للأنبياء من آل إبراهيم و الذي يأخذه الفاضل من أهل بيته لا يكون مثلما يحصل لنبي فتعظم الصلاة عليه بهذا الاعتبار صلى الله عليه و سلم و قيل أن التشبيه في الأصل لا في القدر الرابع أن الله ذكر انه مرج البحرين في آية أخرى فقال في الفرقان و هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات و هذا ملح أجاج فلو أريد بذلك علي و فاطمة لكان ذلك ذما لأحدهما و هذا باطل بإجماع أهل السنة و الشيعة الخامس انه قال بينهما برزخ لا يبغيان فلو أريد بذلك علي و فاطمة لكان البرزخ الذي هو النبي صلى الله عليه و سلم بزعمهم أو غيره هو المانع لأحدهما أن يبغي على الآخر و هذا بالذم أشبه منه بالمدح السادس أن أئمة التفسير متفقون على خلاف هذا كما ذكره ابن جرير و غيره فقال ابن عباس بحر السماء و بحر الأرض يلتقيان كل عام و قال الحسن مرج البحرين يعني بحر فارس و الروم بينهما برزخ هو الجزائر
(7/180)
و قوله يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان قال الزجاج إنما يخرج من البحر الملح و إنما جمعهما لانه إذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما مثل و جعل القمر فيهن نورا و قال الفارسي أراد من أحدهما فحذف المضاف و قال ابن جرير إنما قال منهما لانه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء و أما اللؤلؤ و المرجان ففيهما قولان أحدهما أن المرجان ما صغر من اللؤلؤ و اللؤلؤ العظام قاله الأكثر ون منهم ابن عباس و قتادة و الفراء و الضحاك و قال الزجاج اللؤلؤ اسم جامع للحب الذي يخرج من البحر و المرجان صغاره الثاني أن اللؤلؤ الصغار و المرجان الكبار قاله مجاهد و السدى و مقاتل قال ابن عباس إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها فما و قع فيها من المطر فهو لؤلؤ و قال ابن جرير حيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة و قال ابن مسعود المرجان الخرز الأحمر و قال الزجاج المرجان ابيض شديد البياض و حكى عن أبي يعلى أن المرجان ضرب من اللؤلؤ كالقضبان.(7/181)
*فصل قال الرافضي البرهان الحادي و الثلاثون قوله تعالى و من عنده علم الكتاب من طريق أبي نعيم عن ابن الحنفية قال هو علي بن أبي طالب و في تفسير الثعلبي عن عبد الله بن سلام قال قلت من هذا الذي عنده علم الكتاب قال ذلك علي بن أبي طالب و هذا يدل على انه افضل فيكون هو الإمام.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة النقل عن ابن سلام و ابن الحنفية.
الثاني: انه بتقدير ثبوته ليس بحجة مع مخالفة الجمهور لها.
الثالث: أن هذا كذب عليهما.
الرابع: أن هذا باطل قطعا و ذلك أن الله تعالى قال قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب و لو أريد به علي لكان المراد أن محمدا يستشهد على ما قاله بابن عمه علي و معلوم أن عليا لو شهد له بالنبوة و بكل ما قال لم ينتفع محمد بشهادته له و لا يكون ذلك حجة له على الناس و لا يحصل بذلك دليل المستدل و لا ينقاد بذلك أحد لأنهم يقولون من أين لعلي بذلك و إنما هو استفاد ذلك من محمد فيكون محمد هو الشاهد لنفسه و منها أن يقال أن هذا ابن عمه و من أول من آمن به فيظن به(7/182)
المحاباة والمداهنة والشاهد أن لم يكن عالما بما يشهد به بريئا من التهمه لم يحكم بشهادته ولم يكن حجة على المشهود عليه فكيف إذا لم يكن له علم بها إلا من المشهود له ومعلوم انه لو شهد له بتصديقه فيما قاله أبو بكر وعمر وغيرهما كان انفع له لان هؤلاء ابعد عن ا لتهمة ولان هؤلاء قد يقال انهم كانوا رجالا وقد سمعوا من أهل الكتاب ومن الكهان أشياء علموها من غير جهة محمد بخلاف على فانه كان صغيرا فكان الخصوم يقولون لا يعلم ما شهد به إلا من جهة المشهود له و أما أهل الكتاب فإذا شهدوا بما تواتر عندهم عن الأنبياء وبما علم صدقه كانت تلك شهادة نافعة كما لو كان الأنبياء موجودين وشهدوا له لان ما ثبت نقله عنهم بالتواتر وغيره كان بمنزلة شهادتهم أنفسهم ولهذا نحن نشهد على الأمم بما علمناه من جهة نبينا كما قال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا فهذا الجاهل الذي جعل هذا فضيلة لعلى قدح بها فيه وفي النبي الذي صار به على من المؤمنين وفي الأدلة الدالة على الإسلام ولا يقول هذا إلا زنديق أو جاهل مفرط في الجهل
(7/183)
فان كنت لا تدري فتلك مصيبة وان كنت تدري فالمصيبة اعظم.
الخامس: أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر الاستشهاد بأهل الكتاب في غير آية كقوله تعالى قل ارأيتم أن كان من عند الله ثم كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل علي مثله افترى عليا هو من بني إسرائيل وقال تعالى فان كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك فهل كان على من الذين يقرؤون الكتاب من قبله وقال وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر فهل أهل الذكر الذين يسألونهم هل أرسل الله إليهم رجالا هم علي بن أبي طالب.
السادس: انه لو قدر أن عليا هو الشاهد لم يلزم أن يكون افضل من غيره كما أن أهل الكتاب الذين يشهدون بذلك مثل عبد الله بن سلام وسلمان وكعب الأحبار وغيرهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كابي بكر وعمر وعثمان وعلى وجعفر وغيرهم.
*فصل قال الرافضي البرهان الثاني والثلاثون قوله تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه روى أبو نعيم مرفوعا إلى ابن عباس قال أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم عليه السلام بخلته من الله ومحمد صلى الله عليه وسلم لانه صفوة الله ثم على يزف بينهما إلى الجنان ثم قرا ابن عباس يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه قال علي و أصحابه وهذا يدل على انه افضل من غيره فيكون هو الإمام.(7/184)
*والجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة النقل لا سيما في مثل هذا الذي لا اصل له.
الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
الثالث: أن هذا باطل قطعا لان هذا يقتضي أن يكون علي افضل من إبراهيم ومحمد لانه وسط و هما طرفان و افضل الخلق إبراهيم و محمد فمن فضل عليهما عليا كان اكفر من اليهود و النصارى.
الرابع: انه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم و ليس فيه ذكر محمد و لا علي و تقديم إبراهيم بالكسوة لا يقتضي انه افضل من محمد مطلقا كما أن قوله أن الناس يصعقون يوم القيامة فاكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بالعرش فلا ادري هل استفاق قبلي أم كان من الذين استثنى اللهفتجويز أن يكون سبقه في الإفاقة أو لم يصعق بحال لا يمنعنا أن نعلم أن محمدا افضل من موسى ولكن إذا كان التفضيل على وجه الغض من المفضول في النقص له نهى عن ذلك كما نهى في هذا الحديث عن تفضيله على موسى وكما قال لمن قال يا خير البرية قال ذاك إبراهيم وصح قوله أنا سيد ولد آدم ولا فخر آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر(7/185)
وكذلك الكلام في تفضيل الصحابة يتقى فيه نقص أحد عن رتبته أو الغض من درجته أو دخول الهوى والفرية في ذلك كما فعلت الرافضة و النواصب الذين يبخسون بعض الصحابة حقوقهم.
الخامس: أن قوله تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا انك على كل شيء قدير وقوله يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم نص عام في المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم وسياق الكلام يدل على عمومه والآثار المروية في ذلك تدل على عمومه قال ابن عباس ليس أحد من المسلمين إلا يعطى نورا يوم القيامة فأما المنافق فيطفأ نوره يوم القيامة والمؤمن يشفق مما يرى من إطفاء نور المنافق فهو يقول ربنا أتمم لنا نورنا فان العموم في ذلكيعلم قطعا ويقينا وانه لم يرد به شخص واحد فكيف يجوز أن يقال انه على وحده ولو أن قائلا قال في كل ما جعلوه عليا انه أبو بكر أو عمر أو عثمان أي فرق كان بين هؤلاء وهؤلاء إلا محض الدعوى والافتراء بل يمكن ذكر شبه لمن يدعي اختصاص ذلك بابي بكر وعمر اعظم من شبه الرافضة آلتي تدعى اختصاص ذلك بعلى وحينئذ فدخول على في هذه الآية كدخول الثلاثة بل هم أحق بالدخول فيها فلم يثبت بها أفضليته ولا إمامته.
*فصل قال الرافضي البرهان الثالث والثلاثون قوله تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية روى الحافظ أبو نعيم بإسناده إلى ابن عباس لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي تأتى أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي خصماؤك غضابا مفحمين وإذا كان خير البرية وجب أن يكون هو الإمام.(7/186)
*والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل وان كنا غير مرتابين في كذب ذلك لكن مطالبة المدعي بصحة النقل لا يأباه إلا معاند ومجرد رواية أبي نعيم ليست بحجة باتفاق طوائف المسلمين.
الثاني أن هذا مما هو كذب موضوع باتفاق العلماء وأهل المعرفة بالمنقولات.
الثالث: أن يقال هذا معارض بمن يقول أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم النواصب كالخوارج وغيرهم ويقولون أن من تولاه فهو كافر مرتد فلا يدخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويحتجون على ذلك بقوله ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون قالوا ومن حكم الرجال في دين الله فقد حكم بغير ما انزل الله فيكون كافرا ومن تولى الكافر فهو كافر لقوله ومن يتولهم منكم فانه منهم وقالوا انه هو وعثمان ومن تولاهما مرتدون بقول النبي صلى الله عليه وسلم ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال فأقول أي رب أصحابي أصحابي فيقال انك لا تدري ما أحدثوا بعدك انهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهمقالوا وهؤلاء هم الذين حكموا في دماء المسلمين و اموالهم بغير ما انزل الله واحتجوا بقوله لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض قالوا والذين ضرب بعضهم رقاب بعض رجعوا بعده كفارا فهذا و أمثاله من حجج الخوارج وهو وان كان باطلا بلا ريب فحجج الرافضة ابطل منه والخوارج اعقل واصدق واتبع للحق من الرافضة فانهم صادقون لا يكذبون أهل دين ظاهرا وباطنا لكنهم ضالون جاهلون مارقون مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية و أما الرافضة فالجهل والهوى والكذب غالب عليهم وكثير من أئمتهم وعامتهم زنادقة ملا حدة ليس لهم غرض في العلم ولا في الدين بل أن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى(7/187)
والمر وانية الذين قاتلوا عليا وان كانوا لا يكفرونه فحججهم أقوى من حجج الرافضة وقد صنف الجاحظ كتابا للمر وانية ذكر فيه من الحجج التي لهم ما لا يمكن الرافضة نقضه بل لا يمكن الزيدية نقضه دع الرافضة أهل السنة والجماعة لما كانوا معتدلين متوسطين صارت الشيعة تنتصر بهم فيما يقولونه في حق علي من الحق ولكن أهل السنة قالوا ذلك بأدلة يثبت بها فضل الأربعة وغيرهم من الصحابة ليس مع أهل السنة ولا غيرهم حجة تخص عليا بالمدح وغيره بالقدح فان هذا ممتنع لا ينال إلا بالكذب المحال لا بالحق المقبول في ميدان النظر والجدال.
الوجه الرابع: أن يقال قوله أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات عام في كل من اتصف بذلك فما الذي أوجب تخصيصه بالشيعة فان قيل لان من سواهم كافر قيل أن ثبت كفر من سواهم بدليل كان ذلك مغنيا لكم عن هذا التطويل وان لم يثبت لم ينفعكم هذا الدليل فانه من جهة النقل لا يثبت فان أمكن إثباته بدليل منفصل فذاك هو الذي يعتمد عليه لا هذه الآية.(7/188)
الوجه الخامس: أن يقال من المعلوم المتواتر أن ابن عباس كان يوالي غير شيعة علي اكثر مما يوالي كثيرا من الشيعة حتى الخوارج كان يجالسهم و يفتيهم و يناظرهم فلو اعتقد أن الذين آمنوا و عملوا الصالحات هم الشيعة فقط و أن من سواهم كفار لم يعمل مثل هذا و كذلك بنو أمية كانت معاملة ابن عباس و غيره لهم من اظهر الأشياء دليلا على انهم مؤمنون عنده لا كفار فان قبل نحن لا نكفر من سوى الشيعة لكن نقول هم خير البرية قيل الآية تدل على أن الذين آمنوا و عملوا الصالحات هم خير البرية فان قلتم أن من سواهم لا يدخل في ذلك فأما أن تقولوا هو كافر أو تقولوا فاسق بحيث لا يكون من الذين آمنوا و عملوا الصالحات و أن دخل اسمهم في الإيمان و إلا ممن كان مؤمنا فليس بفاسق فهو داخل في الذين آمنوا و عملوا الصالحات فان قلتم هو فاسق قيل لكم أن ثبت فسقهم كفاكم ذلك في الحجة و أن لم يثبت لم ينفعكم ذلك في الاستدلال و ما تذكرون به فسق طائفة من الطوائف إلا و تلك الطائفة تبين لكم أنكم أولى بالفسق منهم من وجوه كثيرة و ليس لكم حجة صحيحة تدفعون بها هذا(7/189)
و الفسق غالب عليكم لكثرة الكذب فيكم و الفواحش و الظلم فان ذلك اكثر فيكم منه في الخوارج و غيرهم من خصومكم و اتباع بني أمية كانوا اقل ظلما و كذبا و فواحش ممن دخل في الشيعة بكثير و أن كان في بعض الشيعة صدق و دين و زهد فهذا في سائر الطوائف اكثر منهم و لو لم يكن إلا الخوارج الذين قيل فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم و قراءته مع قراءتهم الوجه السادس انه قال قبل ذلك أن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ثم قال أن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية و هذا يبين أن هؤلاء من سوى المشركين و أهل الكتاب و في القران مواضع كثيرة ذكر فيها الذين آمنوا و عملوا الصالحات و كلها عامة فما الموجب لتخصيص هذه الآية دون نظائرها و إنما دعوى الرافضة أو غيرهم من أهل الاهواء الكفر في كثير ممن سواهم كالخوار و كثير من المعتزلة و الجهمية و انهم هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات دون من سواهم كقول اليهود و النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين بلى من اسلم وجهه لله و هو محسن فله اجره عند ربه و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون و هذا عام في كل من عمل
(7/190)
لله بما أمره الله فالعمل الصالح هو المأمور به و إسلام وجهه لله إخلاص قصده لله
*فصل قال الرافضي البرهان الرابع و الثلاثون قوله تعالى و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا و في تفسير الثعلبي عن ابن سيرين قال نزلت في النبي صلى الله عليه و سلم و علي بن أبي طالب زوج فاطمة عليا و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهر ولم يثبت لغيره ذلك فكان افضل فيكون هو الإمام.
*و الجواب من وجوه...
أولا: المطالبة بصحة النقل.
و ثانيا: أن هذا كذب على ابن سيرين بلا شك.
و ثالثا: أن مجرد قول ابن سيرين الذي خالفه فيه الناس ليس بحجة.
الرابع: أن يقال هذه الآية في (سورة الفرقان). و هي مكية و هذا من الآيات المكية باتفاق الناس قبل أن يتزوج علي بفاطمة فكيف يكون ذلك قد أريد به علي و فاطمة.
الخامس: أن الآية مطلقة في كل نسب و صهر لا اختصاص لها بشخص دون شخص و لا ريب أنها تتناول مصاهرته لعلي كما تتناول مصاهرته لعثمان مرتين كما تتناول مصاهرة أبي بكر و عمر للنبي صلى الله عليه و سلم فان النبي صلى الله عليه و سلم تزوج عائشة بنت أبي بكر و حفصة بنت عمر من أبويهما و زوج عثمان برقية و أم كلثوم بنتيه و زوج عليا بفاطمة فالمصاهرة ثابتة بينه و بين الأربعة و روي عنه انه قال لو كانت عندنا ثالثة لزوجناها عثمان و حينئذ فتكون المصاهرة مشتركة بين علي و غيره فليست من خصائصه فضلا عن أن توجب أفضليته و إمامته عليهم.
السادس: انه لو فرض انه أريد بذلك مصاهرة علي فمجرد المصاهرة لا تدل على انه افضل من غيره باتفاق أهل السنة و الشيعة فان المصاهرة ثابتة لكل من الأربعة مع ان بعضهم افضل من بعض فلو كان المصاهرة توجب الأفضلية للزم التناقض(7/191)
*فصل قال الرافضي البرهان الخامس و الثلاثون قوله تعالى يا آيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق و ليس إلا المعصوم لتجويز الكذب في غيره فيكون هو عليا إذ لا معصوم من الأربعة سواه و في حديث أبي نعيم عن ابن عباس أنها نزلت في علي.
و الجواب من وجوه...
أحدها: أن الصديق مبالغة في الصادق فكل صديق صادق و ليس كل صادق صديقا و أبو بكر رضي الله عنه قد ثبت انه صديق بالأدلة الكثيرة فيجب أن تتناوله الآية قطعا و أن تكون معه بل تناولها له أولى من تناولها لغيره من الصحابة و إذا كنا معه مقرين بخلافته امتنع أن نقر بان عليا كان هو الإمام دونه فالآية تدل على نقيض مطلوبهم.
الثاني: أن يقال علي أما أن يكون صديقا و أما أن لا يكون فان لم يكن صديقا فأبو بكر الصديق فالكون مع الصادق الصديق أولى من الكون مع الصادق الذي ليس بصديق و أن كان صديقا فعمر و عثمان أيضا صديقون و حينئذ فإذا كان الأربعة صديقين لم يكن علي مختصا(7/192)
بذلك ولا بكونه صادقا فلا يتعين الكون مع واحد دون الثلاثة بل لو قدرنا التعارض لكان الثلاثة أولى من الواحد فانهم اكثر عددا لا سيما وهم اكمل في الصدق.
الثالث: أن يقال هذه الآية نزلت في قصة كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك وصدق النبي صلى الله عليه وسلم في انه لم يكن له عذر وتاب الله عليه ببركة الصدق وكان جماعة أشاروا عليه بان يعتذر ويكذب كما اعتذر غيره من المنافقين وكذبوا وهذا ثابت في الصحاح والمساند وكتب التفسير والسير والناس متفقون عليه ومعلوم انه لم يكن لعلي اختصاص في هذه القصة بل قال كعب بن مالك فقام إلي طلحة يهرول فعانقني والله ما قام إلي من المهاجرين غيره فكان كعب لا ينساها لطلحة وإذا كان كذلك بطل حملها على علي وحده.
الوجه الرابع: أن هذه الآية نزلت في هذه القصة ولم يكن أحد يقال انه معصوم لا علي ولا غيره فعلم أن الله أراد مع الصادقين ولم يشترط كونه معصوما.
الخامس: انه قال مع الصادقين وهذه صيغة جمع وعلي واحد فلا يكون هو المراد وحده.
السادس: أن قوله تعالى مع الصادقين أما أن يراد كونوا معهم في(7/193)
الصدق وتوابعه فاصدقوا كما يصدق الصادقون ولا تكونوا مع الكاذبين كما في قوله واركعوا مع الراكعين وقوله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وكما في قوله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما وأما أن يراد به كونوا مع الصادقين في كل شيء وان لم يتعلق بالصدق والثاني باطل فان الانسان لا يجب عليه أن يكون مع الصادقين في المباحات كالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك فإن كان الأول هو الصحيح فليس في هذا أمر بالكون مع شخص معين بل المقصود اصدقوا ولا تكذبوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عليكم بالصدق فان الصدق يهدي إلى البر وان البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياك والكذب فان الكذب يهدي إلى الفجور وان الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا
(7/194)
وهذا كما يقال كن مع المؤمنين كن مع الأبرار أي ادخل معهم في هذا الوصف وجامعهم عليه ليس المراد انك مأمور بطاعتهم في كل شيء.
الوجه السابع: أن يقال إذا أريد كونوا مع الصادقين مطلقا فذلك لان الصدق مستلزم لسائر البر كقول النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالصدق فان الصدق يهدي إلى البر الحديث وحينئذ فهذا وصف ثابت لكل من اتصف به.
الثامن: أن يقال أن الله امرنا أن نكون مع الصادقين ولم يقل مع المعلوم فيهم الصدق كما انه قال واشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله لم يقل من علمتم انهم ذوو عدل منكم وكما قال أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها لم يقل إلى من علمتم انهم أهلها وكما قال وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل لم يقل بما علمتم انه عدل لكن علق الحكم بالوصف ونحن علينا الاجتهاد بحسب الإمكان في معرفة الصدق والعدالة وأهل الأمانة والعدل ولسنا مكلفين في ذلك بعلم الغيب كما أن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور أن يحكم بالعدل قال إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ان يكون الحن بحجته من بعض و إنما اقضي بنحو مما اسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما اقطع له من النار.(7/195)
الوجه التاسع: هب أن المراد من المعلوم فيهم الصدق لكن العلم كالعلم في قوله فان علمتموهن مؤمنات والإيمان أخفى من الصدق فإذا كان العلم المشروط هناك يمتنع أن يقال فيه ليس إلا العلم بالمعصوم كذلك هنا يمتنع أن يقال لا يعلم إلا صدق المعصوم.
الوجه العاشر: هب أن المراد علمنا صدقه لكن يقال أن أبا بكر وعمر وعثمان ونحوهم ممن علم صدقهم وانهم لا يتعمدون الكذب وان جاز عليهم الخطأ أو بعض الذنوب فان الكذب اعظم ولهذا ترد شهادة الشاهد بالكذبة الواحدة في أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن احمد وقد روى في ذلك حديث مرسل ونحن قد نعلم يقينا أن هؤلاء لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ولا يتعمدون الكذب بحال و لا نسلم أنا لا نعلم انتفاء الكذب إلا عمن يعلم انه معصوم مطلقا بل كثير من الناس إذا اختبرته تيقنت انه لا يكذب وان كان يخطىء ويذنب ذنوبا أخرى ولا نسلم أن كل من ليس بمعصوم يجوز أن يتعمد الكذب وهذا خلاف الواقع فان الكذب لا بتعمده إلا من هو من شر الناس وهؤلاء الصحابة لم يكن فيهم من يتعمد الكذب على رسول البنبي الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم يعلمون بالاضطرار أن مثل مالك وشعبة ويحيى بن(7/196)
سعيد والثوري والشافعي واحمد ونحوهم لم يكونوا يتعمدون الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا على غيره فكيف بابن عمر وابن عباس وأبى سعيد وغيرهم.
الوجه الحادي عشر: انه لو قدر أن المراد به المعصوم لا نسلم الإجماع على انتفاء العصمة من غير على كما تقدم بيان ذلك فان كثيرا من الناس الذين هم خير من الرافضة يدعون في شيوخهم هذا المعنى وان غيروا عبارته وأيضا فنحن لا نسلم انتفاء عصمتهم مع ثبوت عصمته بل أما انتفاء الجميع وأما ثبوت الجميع.
*فصل قال الرافضي البرهان السادس والثلاثون قوله تعالى واركعوا مع الراكعين من طريق أبي نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي خاصة وهما أول من صلى وركع وهذا يدل على فضيلته فيدل على إمامته.
*الجواب من وجوه...
أحدها: أنا لا نسلم صحة هذا ولم يذكر دليلا على صحته.
الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم الحديث.
الثالث: أن هذه الآية في (سورة البقرة). وهي مدنية باتفاق المسلمين وهي في سياق مخاطبة لبني إسرائيل وسواء كان الخطاب لهم أو لهم وللمؤمنين فهو خطاب انزل بعد الهجرة وبعد أن كثر المصلون والراكعون ولم تنزل في أول الإسلام حتى يقال أنها مختصة بأول من صلى وركع.
الرابع: أن قوله مع الراكعين صيغة جمع ولو أريد النبي صلى الله عليه وسلم وعلي لقيل مع الراكعين بالتثنية وصيغة الجمع لا يراد بها اثنان فقط باتفاق الناس بل أما الثلاثة فصاعدا وأما الاثنان فصاعدا أما إرادة اثنين فقط فخلاف الإجماع.
الخامس: انه قال لمريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ومريم كانت قبل الإسلام فعلم انه كان راكعون قبل الإسلام فليس فيهم علي فكيف لا يكون راكعون في أول الإسلام ليس فيهم علي وصيغة الاثنين واحدة.(7/197)
السادس: أن الآية مطلقة لا تخص شخصا بعينه بل أمر الرجل المؤمن أن يصلي مع المصلين وقيل المراد به الصلاة في الجماعة لان الركعة لا تدرك إلا بادراك الركوع.
السابع: انه لو كان المراد الركوع معهما لا نقطع حكمها بموتهما فلا يكون أحد مأمورا أن يركع مع الراكعين الثامن أن قول القائل علي أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ممنوع بل اكثر الناس على خلاف ذلك وان أبا بكر صلى قبله التاسع انه لو كان أمرا بالركوع معه لم يدل ذلك على ان من ركع معه يكون هو الإمام فان عليا لم يكن إماما مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يركع معه.
*فصل قال الرافضي البرهان السابع والثلاثون قوله تعالى واجعل لي وزيرا من أهلي من طريق أبي نعيم عنابن عباس قال اخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي وبيدي ونحن بمكة وصلى أربع ركعات ورفع يده إلى السماء فقال اللهم موسى بن عمران سألك وأنا محمد نبيك أسألك أن تشرح لي صدري وتحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي علي بن أبي طالب أخي اشدد به أزرى أشركه في أمري قال ابن عباس سمعت مناديا ينادي يا احمد قد أوتيت ما سالت وهذا نص في الباب.
*والجواب... المطالبة بالصحة كما تقدم أولا.
الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث بل هم يعلمون أن هذا من أسمج الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة في اكثر الأوقات لم يكن ابن عباس قد ولد وابن عباس ولد وبنو هاشم في الشعب(7/198)
محصور ون ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ابن عباس بلغ سن التمييز ولا كان ممن يتوضأ ويصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فان النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو لم يحتلم بعد وكان له عند الهجرة نحو خمس سنين أو اقل منها وهذا لا يؤمر بوضوء ولا صلاة فان النبي صلى الله عليه وسلم قال مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ومن يكون بهذا السن لا يعقل الصلاة ولا يحفظ مثل هذا الدعاء إلا بتلقين لا يحفظ بمجرد السماع.
الرابع: انهم قد قدموا في قوله إنما وليكم الله ورسوله وحديث التصدق بالخاتم في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بهذا الدعاء وهنا قد ذكروا انه قد دعا بهذا الدعاء بمكة قبل تلك الواقعة بسنين متعددة فان تلك كانت في (سورة المائدة). والمائدة من آخر القران نزولا وهذا في مكة فإذا كان قد دعا بهذا في مكة وقد استجيب له فأي حاجة إلى الدعاء به بعد ذلك بالمدينة بسنين متعددة.(7/199)
الخامس: أنا قد بينا فيما تقدم وجوها متعددة في بطلان مثل هذا فان هذا الكلام كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ولكن هنا قد زادوا فيه زيادات كثيرة لم يذكروها هناك وهي قوله أشركه في أمري فصرحوا هنا بان عليا كان شريكه في أمره كما كان هارون شريك موسى وهذا قول من يقول بنبوته وهذا كفر صريح وليس هو قول الأمامية و إنما هو من قول الغالية و ليس الشريك في الأمر هو الخليفة من بعده فانهم يدعون إمامته بعده و مشاركته له في أمره في حياته و هؤلاء الأمامية و إن كانوا يكفرون من يقول بمشاركته له في النبوة لكنهم يكثرون سوادهم في المقال و الرجال بمن يعتقدون فيه الكفر و الضلال و بما يعتقدون انه من الكفر و الضلال لفرط منابذتهم للدين و مخالفتهم لجماعة المسلمين و بغضهم لخيار أولياء الله المتقين و اعتقادهم فيهم انهم من المرتدين فهم كما قيل في المثل رمتني بدائها و انسلت و هذا الرافضي الكذاب يقول و هذا نص في الباب فيقال له يا دبير هذا نص في أن عليا شريكه في أمره في حياته كما كان هارون شريكا لموسى فهل تقول بموجب هذا النص أم ترجع عن الإحتجاج بأكاذيب المفترين و ترهات إخوانك المبطلينفصل قال الرافضي البرهان الثامن و الثلاثون قوله تعالى إخوانا على سرر متقابلين من مسند احمد بإسناده إلى زيد بن أبي أوفى قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم مسجده فذكر قصة مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال علي لقد ذهبت روحي و انقطع ظهري حين فعلت بأصحابك فان كان هذا من سخط الله علي فلك العقبى و الكرامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي بعثني بالحق نبيا ما اخترتك لا لنفسي فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي و أنت أخي(7/200)
و وارثي و أنت معي في قصري في الجنة و مع ابنتي فاطمة فأنت أخي و رفيقي ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم إخوانا على سرر متقابلين المتحابين في الله ينظر بعضهم إلى بعض و المؤاخاة تستدعي المناسبة و المشاكلة فلما اختص علي بمؤاخاة النبي صلى الله عليه و سلم كان هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة هذا الإسناد و ليس هذا الحديث في مسند احمد و لا رواه احمد قط لا في المسند و لا في الفضائل و لا ابنه فقول هذا الرافضي من مسند احمد كذب و افتراء على المسند و إنما هو من زيادات القطيعي التي فيها من الكذب الموضوع ما اتفق أهل العلم على انه كذب موضوع رواه القطيعي عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا حسين بن محمد الذارع حدثنا عبد المؤمن بن عباد حدثنا يزيد بن معن عن عبد الله بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفىو هذا الرافضي لم يذكره بتمامه فان فيه عند قوله و أنت أخي و وارثي قال و ما ارث منك يا رسول الله قال ما ورث الأنبياء من قبلي قال و ما ورث الأنبياء من قبلك قال كتاب الله و سنة نبيهم و هذا الإسناد مظلم انفرد به عبد المؤمن بن عباد أحد المجروحين ضعفه أبو حاتم عن يزيد بن معن و لا يدري من هو فلعله الذي اختلقه عن عبد الله بن شرحبيل و هو مجهول عن رجل من قريش عن زيد بن أبي أوفى الوجه الثاني أن هذا مكذوب مفترى باتفاق أهل المعرفة الثالث أن أحاديث المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض والانصار بعضهم مع بعض كلها كذب و النبي صلى الله عليه و سلم لم يؤاخ عليا و لا آخى بين أبي بكر و عمر و لا بين مهاجري و مهاجري لكن آخى بين المهاجرين و الأنصار كما آخى بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن الربيع و بين سلمان الفارسي و أبي الدرداء و بين علي و سهل بن حنيف
(7/201)
وكانت المؤاخاة في دور بني النجار كما اخبر بذلك انس في الحديث الصحيح لم تكن في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم كما ذكر في الحديث الموضوع و إنما كانت في دار كان لبعض بني النجار و بناه في محلتهم فالمؤاخاة التي اخبر بها انس ما في الصحيحين عن عاصم بن سليمان الأحول قال قلت لأنس أبلغت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا حلف في الإسلام فقال انس قد حالف رسول الله صلى الله عليه و سلم بين قريش و الأنصار في داري الرابع أن قوله في هذا الحديث أنت أخي و وارثي باطل على قول أهل السنة و الشيعة فانه أن أراد ميراث المال بطل قولهم أن فاطمة ورثته و كيف يرث ابن العم مع وجود العم و هو العباس و ما الذي خصه بالإرث دون سائر بني العم الذين هم في درجة واحدة و أن أراد وارث العلم و الولاية بطل احتجاجهم بقوله و ورث سليمان داود و قوله فهب لي من لدنك وليا يرثنيإذ لفظ الإرث إذا كان محتملا لهذا و لهذا أمكن أن أولئك الأنبياء ورثوا كما ورث علي النبي صلى الله عليه و سلم و أما أهل السنة فيعلمون أن ما ورثه النبي صلى الله عليه و سلم من العلم لم يختص به علي بل كل من أصحابه حصل له نصيب بحسبه و ليس العلم كالمال بل الذي يرثه هذا يرثه هذا و لا يتزاحمان إذ لا يمتنع أن يعلم هذا ما علمه هذا كما يمتنع أن يأخذ هذا المال الذي أخذه هذا الوجه الخامس أن النبي صلى الله عليه و سلم قد اثبت الاخوة لغير علي كما في الصحيحين انه قال لزيد أنت أخونا و مولانا و قال له أبو بكر لما خطب ابنته الست أخي قال أنا أخوك و بنتك حلال لي و في الصحيح انه قال في حق أبي بكر و لكن اخوة الإسلام
(7/202)
وقال في الصحيح أيضا وددت أن قد رأيت إخواني قالوا اولسنا إخوانك يا رسول الله قال لا انتم أصحابي و لكن إخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي و لم يروني يقول انتم لكم من الاخوة ما هو أخص منها و هو الصحبة و أولئك لهم اخوة بلا صحبة وقد قال تعالى إنما المؤمنون اخوة و قال صلى الله عليه و سلم لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا و لا تحاسدوا و كونوا عباد الله إخوانا أخرجاه في الصحيحين و قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه و قال والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسهوهذه الأحاديث و أمثالها في الصحاح و إذا كان كذلك علم أن مطلق المؤاخاة لا يقتضي التماثل من كل وجه و لا يقتضي المناسبة و المشاكلة من كل وجه بل من بعض الوجوه و إذا كان كذلك فلم قيل أن مؤاخاة علي لو كانت صحيحة اقتضت الإمامة و الأفضلية مع أن المؤاخاة مشتركة و ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في الصحاح من غير وجه انه قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و لكن صاحبكم خليل الله لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر أن أمن الناس علينا في صحبته و ذات يده أبو بكر و في هذا إثبات لخصائص لأبي بكر لا يشركه فيها أحد غيره و هو صريح في انه ليس من أهل الأرض من هو احب إليه و لا أعلى منزلة عنده و لا ارفع درجة و لا اكثر اختصاصا به من أبي بكر كما في الصحيحين قيل له أي الناس احب إليك قال عائشة قيل و من الرجال قال أبوها وفي الصحيحين عن عمر
(7/203)
انه قال أنت سيدنا و خيرنا و احبنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذه الأحاديث التي اجمع أهل العلم على صحتها و تلقيها بالقبول و لم يقدح فيها أحد من العلم تبين أن أبا بكر كان احب إليه و أعلى عنده من جميع الناس و حينئذ فان كانت المؤاخاة دون هذه المرتبة لم تعارضها و أن كانت أعلي كانت هذه الأحاديث الصحيحة تدل على كذب أحاديث المؤاخاة و أن كنا نعلم أنها كذب بدون هذه المعارضة لكن المقصود أن هذه الأحاديث الصحيحة تبين أن أبا بكر كان احب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من علي و أعلى قدرا عنده منه و من كل من سواه و شواهد هذا كثيرة و قد روى بضعة و ثمانون نفسا عن علي انه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رواها البخاري في الصحيح عن علي رضي الله عنه و هذا هو الذي يليق بعلي رضي الله عنه فانه من اعلم الصحابة بحق أبي بكر و عمر و اعرفهم بمكانهما من الإسلام و حسن تأثيرهما في الدين حتى انه تمنى أن يلقى الله بمثل عمل عمر رضي الله عنهم أجمعينوروى الترمذي وغيره مرفوعا عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين و الآخرين لا تخبرهما يا علي وهذا الحديث وأمثاله لو عورض بها أحاديث المؤاخاة وأحاديث الطير ونحوه لكانت باتفاق المسلمين اصح منها فكيف إذا انضم إليها سائر الأحاديث التي لا شك في صحتها مع الدلائل الكثيرة المتعددة التي توجب علما ضروريا لمن علمها أن أبا بكر كان احب الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وافضل عنده من عمر وعثمان وعلي وغيرهم وكل من كان بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله اعلم كان بهذا اعرف وإنما يستريب فيه من لا يعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة فأما أن يصدق الكل أو يتوقف في الكل
(7/204)
وأما أهل العلم بالحديث الفقهاء فيه فيعلمون هذا علما ضروريا دع هذا فلا ريب أن كل من له في الأمة لسان صدق من علمائها و عبادها متفقون على تقديم أبي بكر و عمر كما قال الشافعي رضي الله عنه فيما نقله عنه البيهقي بإسناده قال لم يختلف أحد من الصحابة و التابعين في تفضيل أبي بكر و عمر رضي الله عنهما و تقديمهما على جميع الصحابة و كذلك أيضا لم يختلف علماء الإسلام في ذلك كما هو قول مالك و أصحابه و أبي حنيفة وأصحابه واحمد وأصحابه وداود وأصحابه والثورى وأصحابه والليث وأصحابه والاوزاعي و أصحابه و إسحاق و أصحابه وابن جرير وأصحابه وأبي ثور وأصحابه و كما هو قول سائر العلماء المشهورين إلا من لا يؤبه له و لا يلتفت إليه وما علمت من نقل عنه في ذلك نزاع من أهل الفتيا إلا ما نقل عن الحسن بن صالح بن حي انه كان يفضل عليا و قيل أن هذا كذب عليه و لو صح هذا عنه لم يقدح فيما نقله الشافعي من الإجماع فان الحسن بن صالح لم يكن مكن التابعين ولا من الصحابة والشافعي ذكر إجماع الصحابة و التابعين على تقديم أبي بكر و لو قاله الحسن فإذا أخطأ واحد من مائة ألف إمام أو اكثر لم يكن ذلك بمنكر و ليس في شيوخ الرافضة إمام في شيء من علوم الإسلام لا علم
(7/205)
الحديث و لا الفقه و لا التفسير و لا القرآن بل شيوخ الرافضة أما جاهل و أما زنديق كشيوخ أهل الكتاب بل السابقون الأولون و أئمة السنة و الحديث متفقون على تقديم عثمان و مع هذا انهم لم يجتمعوا على ذلك رغبة و لا رهبة بل مع تباين آرائهم و أهوائهم و علومهم و اختلافهم و كثرة اختلافاتهم فيما سوى ذلك من مسائل العلم فأئمة الصحابة و التابعين رضي الله عنهم متفقون على هذا ثم من بعدهم كمالك بن انس و ابن أبي ذئب و عبد العزيز بن الماجشون و غيرهم من علماء المدينة و مالك يحكي الإجماع عمن لقيه انهم لم يختلفوا في تقديم أبي بكر و عمر و ابن جريج و ابن عيينة و سعد بن سالم و مسلم بن خالد و غيرهم من علماء مكة و أبي حنيفة و الثوري و شريك بن عبد الله و ابن أبي ليلى و غيرهم من فقهاء الكوفة و هي دار الشيعة حتى كان الثوري يقول من قدم عليا على أبي بكر ما أرى أن يصعد له إلى الله عمل رواه أبو داود في سننه و حماد بن زيد و حماد بن سلمة و سعيد بن أبي عروبة و أمثالهم من علماء البصرة و الاوزاعي و سعيد بن عبد العزيز و غيرهم من علماء الشام
(7/206)
و الليث و عمرو بن الحارث و ابن وهب و غيرهم من علماء مصر ثم مثل عبد الله بن المبارك و وكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي و أبي يوسف و محمد بن الحسن و مثل الشافعي و احمد بن حنبل و اسحق ابن إبراهيم وإبي عبيد ومثل لالبخاري وأبي داود وإبراهيم الحربي و مثل الفضيل بن عياض و أبي سليمان الداراني و معروف الكرخي و السرى السقطي و الجنيد و سهل بن عبد الله التستري و من لا يحصي عدده إلا الله ممن له في الإسلام لسان صدق كلهم يجزمون بتقديم أبي بكر و عمر كما يجزمون بإمامتهما مع فرط اجتهادهم في متابعة النبي صلى الله عليه و سلم و موالاته فهل يوجب هذا إلا ما علموه من تقديمه هو لأبي بكر و عمر و تفضيله لهما بالمحبة و الثناء و المشاورة و غير ذلك من أسباب التفضيل.(7/207)
*فصل قال الرافضي البرهان التاسع و الثلاثون قوله تعالى و إذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم الست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة أنا كنا عن هذا غافلين في كتاب الفردوس لابن شيرويه يرفعه عن حذيفة بن اليمان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو يعلم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله سمي أمير المؤمنين و آدم بين الروح و الجسد قال تعالى و إذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم و أشهدهم على انفسهم الست بربكم قالت الملائكة بلى فقال تبارك و تعالى أنا ربكم و محمد نبيكم و علي أميركم و هو صريح في الباب.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: منع الصحة و المطالبة بتقريرها و قد اجمع أهل العلم بالحديث على أن مجرد رواية صاحب الفردوس لا تدل على أن الحديث صحيح فابن شيرويه الديلمي الهمذاني ذكر في هذا الكتاب أحاديث كثيرة صحيحة و أحاديث حسنة و أحاديث موضوعة و أن كان من أهل العلم و الدين و لم يكن ممن يكذب هو لكنه نقل ما في كتب الناس و الكتب فيها الصدق و الكذب ففعل كما فعل كثير من الناس في جمع الأحاديث أما بالأسانيد و أما محذوفة الأسانيد.(7/208)
الثاني أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
الثالث: أن الذي في القران انه قال الست بربكم قالوا بلى ليس فيه ذكر النبي و لا الأمير و فيه قوله أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم فدل على أنه ميثاق التوحيد خاصة ليش فيه ميثاق النبوة فكيف ما دونها.
الرابع: أن الأحاديث المعروفة في هذا التي في المسند و السنن و الموطأ و كتب التفسير و غيرها ليس فيها شيء من هذا و لو كان ذلك مذكورا في الأصل لم يهمله جميع الناس و ينفرد به من لا يعرف صدقه بل يعرف انه كذب.
الخامس: أن الميثاق اخذ على جميع الذرية فيلزم أن يكون علي أميرا على الأنبياء كلهم من نوح إلى محمد صلى الله عليه و سلم و هذا كلام المجانين فان أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله عليا فكيف يكون أميرا عليهم و غاية ما يمكن أن يكون أميرا على أهل زمانه أما الإمارة على من خلق قبله و على من يخلق بعده فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول و لا يستحي فيما يقول و من العجب أن هذا الحمار الرافضي الذي هو احمر من عقلاء اليهود الذين قال الله فيهم مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا و العامة معذورون في(7/209)
قولهم الرافضي حمار اليهودي و ذلك أن عقلاء اليهود يعلمون أن هذا ممتنع عقلا و شرعا و أن هذا كما يقال خر عليهم السقف من تحتهم فيقال لا عقل و لا قران و كذلك كون علي أميرا على ذرية آدم كلهم و إنما ولد بعد موت آدم بألوف السنين و أن يكون أميرا على الأنبياء الذين هم متقدمون عليه في الزمن و المرتبة و هذا من جنس قول ابن عربي الطائي و أمثاله من ملا حدة المتصوفة الذين يقولون أن الأنبياء كانوا يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء الذي وجد بعد محمد بنحو ستمائة سنة فدعوى هؤلاء في الإمامة من جنس دعوى هؤلاء في الولاية و كلاهما يبني أمره على الكذب و الغلو و الشرك و الدعاوي الباطلة و مناقضة الكتاب و السنة و إجماع سلف الأمة ثم أن هذا الحمار الرافضي يقول و هو صريح في الباب فهل يكون هذا حجة عند أحد من أولي الألباب أو يحتج بهذا من يستحقأو يؤهل للخطاب فضلا عن أن يحتج به في تفسيق خيار هذه الأمة و تضليلهم و تكفيرهم و تجهيلهم و لولا أن هذا المعتدي الظالم قد اعتدى على خيار أولياء الله و سادات أهل الأرض خير خلق الله بعد النبيين اعتداء يقدح في الدين و يسلط الكفار و المنافقين و يورث الشبه و الضعف عند كثير من المؤمنين لم يكن بنا حاجة إلى كشف أسراره و هتك أستاره و الله حسيبه و حسيب أمثاله.
*فصل قال الرافضي البرهان الأربعون قوله تعالى فان الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير اجمع المفسرون أن صالح المؤمنين هو علي روى أبو نعيم بإسناده إلى أسماء بنت عميس قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ هذه الآية و أن تظاهرا عليه فان الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين قال صالح المؤمنين علي بن أبي طالب و اختصاصه(7/210)
بذلك يدل عل أفضليته فيكون هو الإمام و الآيات في هذا المعنى كثيرة اقتصرنا على ما ذكرنا للاختصار.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: قوله اجمع المفسرون على أن صالح المؤمنين هو علي كذب مبين فانهم لم يجمعوا على هذا ولا نقل الإجماع على هذا أحد من علماء التفسير ولا علماء الحديث ونحوهم ونحن نطالبهم بهذا النقل ومن نقل هذا الإجماع.
الثاني: أن يقال كتب التفسير مملوءة بنقيض هذا قال ابن مسعود وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم هو أبو بكر وعمر وذكر هذا جماعة من المفسرين كابن جرير الطبري وغيره وقيل هو أبو بكر رواه مكحول عن أبي امامة وقيل عمر قاله سعيد بن جبير ومجاهد وقيل خيار المؤمنين قاله الربيع بن انس وقيل هم الأنبياء قاله قتادة والعلاء بن زياد وسفيان وقيل هو علي حكاه الماوردي ولم يسم قائله فلعله بعض الشيعة.
الثالث: أن يقال لم يثبت هذا القول بتخصيص علي به عمن قوله حجة والحديث المذكور كذب موضوع وهو لم يذكر دلالة علي صحته ومجرد رواية أبي نعيم له لا تدل على الصحة.
الرابع: أن يقال قوله وصالح المؤمنين اسم يعم كل صالح من المؤمنين كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال أن آل أبي فلان ليسو لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين.
الخامس: أن يقال أن الله جعل في هذه الآية صالح المؤمنين مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اخبر أن الله مولاه والمولى يمنع أن يراد به الموالي عليه فلم يبق المراد به إلا الموالي ومن المعلوم أن كل من كان صالحا من المؤمنين كان مواليا للنبي صلى الله عليه وسلم قطعا فانه لو لم يواله لم يكن من صالح المؤمنين بل قد يواليه المؤمن وان لم يكن صالحا لكن لا تكون موالاة كاملة وأما الصالح فيواليه موالاة كاملة فانه إذا كان صالحا احب ما احبه الله ورسوله وابغض ما ابغضه الله ورسوله و أمر بما أمر به الله ورسوله ونهى عما نهى الله عنه ورسوله وهذا يتضمن الموالاة(7/211)
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر أن عبد الله رجل صالح لو كان يصلي من الليل فما نام بعدها وقال عن أسامة بن زيد انه من صالحيكم فاستوصوا به خيرا وأما قوله والآيات في هذا المعنى كثيرة فغايته أن يكون المتروك من جنس المذكور والذي ذكره خلاصة ما عندهم وباب الكذب لا ينسد ولهذا كان من الناس من يقابل كذبهم بما يقدر عليه من الكذب ولكن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمعه فإذا هو زاهق وللكذابين الويل مما يصفونوما ذكر وقال أريد به علي إذا ذكر انه أريد به أبو بكر أو عمر أو عثمان لم يكن هذا القول بأبعد من قولهم بل يرجح على قوله لا سيما في مواضع كثيرة وإذا قال فهذا لم يقله أحد بخلاف قولنا كان الجواب من وجهين أحدهما أن هذا ممنوع بل من الناس من يخص أبا بكر وعمر ببعض ما ذكره من الآيات وغيرهما الثاني أن قول القائل خص هذا بواحد من الصحابة إذا أمكن غيره أن يخصه بآخر تكون حجته من جنس حجته فانه يدل على فساد قوله وان كان لم يقله فان الإنسان إذا كذب كذبة لم يمكن مقابلتها بمثلها ولم يمكنه دفع هذا إلا بما يدفع به قوله ووجب أما تصديق الاثنين وأما كذب الاثنين كالحكاية المشهورة عن قاسم بن زكريا المطرز قال دخلت على بعض الشيعة وقد قيل انه عباد بن يعقوب فقال لي من حفر البحر فقلت الله تعالى فقال تقول من حفره قلت من حفره قال علي ابن أبي طالب قال من جعل فيه الماء قلت الله قال تقول من هو الذي جعل فيه الماء قلت من هو قال الحسن قال فلما أردت أن أقوم قال من حفر البحر قلت معاوية قال ومن الذي جعل فيه الماء قلت يزيد فغضب من ذلك وقام
(7/212)
وكان غرض القاسم أن يقول هذا القول مثل قولك وأنت تكره ذلك وتدفعه وبما به يدفع ذلك يدفع به قولك وكذلك ما تذكره الناس من المعارضات لتأويلات القرامطة والرافضة ونحوهم كقولهم في قوله فقاتلوا أئمة الكفر طلحة والزبير وأبو بكر وعمر ومعاوية فيقابل هذا بقول الخوارج انهم علي الحسن والحسين وكل هذا باطل لكن الغرض انهم يقابلون بمثل حجتهم والدليل على فسادها يعم النوعين فعلم بطلان الجميع.
*فصل قال الرافضي المنهج الثالث في الأدلة المستندة إلى السنة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي اثنا عشر الأول ما نقله الناس كافة انه لما نزل قوله تعالى وانذر عشيرتك الاقربين جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلا و امر أن يصنع لهم فخذ شاه مع مد من البر ويعد لهمصاعا من اللبن و كان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد و يشرب الفرق من الشراب في ذلك المقام فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا و لم يتبين ما أكلوه فبهرهم النبي صلى الله عليه و سلم بذلك و تبين لهم آية نبوته فقال يا بني عبد المطلب أن الله بعثني بالحق إلى الخلق كافة و بعثني إليكم خاصة فقال و انذر عشيرتك الاقربين و أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان تقيلتن في الميزان تملكون بهما العرب و العجم و تنقاد لكم بهما الأمم و تدخلون بهما الجنة و تنجون بهما من النار شهادة أن لا اله إلا الله و أني رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر و يؤازرني على القيام به يكن(7/213)
أخي و وزيري و وصيي و وارثي و خليفتي من بعدي فلم يجبه أحد منهم فقال أمير المؤمنين أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر فقال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا فقال علي فقمت فقلت مثل مقالتي الأولى فقال اجلس ثم أعاد القول ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف فقمت فقلت أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر فقال اجلس فأنت أخي و وزيري و وصيي و وارثي و خليفتي من بعدي فنهض القوم و هم يقولون لأبي طالب ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك فقد جعل ابنك أميرا عليك.
*و الجواب من وجوه...
الأول: المطالبة بصحة النقل و ما ادعاه من نقل الناس كافة من اظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث فان هذا الحديث ليس في شيء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل لا في الصحاح و لا في المساند و السنن و المغازي و التفسير التييذكر فيها الإسناد الذي يحتج به و إذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح و الضعيف مثل تفسير الثعلبي و الواحدي و البغوي بل و ابن جرير و ابن أبي حاتم لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء دليلا على صحته باتفاق أهل العلم فانه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح و ضعيف فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف و هذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث و السمين و فيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير و ابن أبي حاتم و الثعلبي و البغوي ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا مثل بعض المفسرين الذين ذكروا هذا في سبب نزول الآية فانهم ذكروا مع ذلك بالأسانيد الصحيحة الثابتة باتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك و لكن هؤلاء المفسرون ذكروا ذلك على عادتهم في انهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة و الضعيفة و لهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال ليذكر(7/214)
أقوال الناس و ما نقلوه فيها و أن كان بعض ذلك هو الصحيح و بعضه كذب و إذا احتج بمثل هذا الضعيف و أمثاله واحد بذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات و ترك سائر ما ينقل مما يناقض ذلك كان هذا من افسد الحجج كمن احتج بشاهد يشهد له و لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه و قد ناقضه عدول كثيرون يشهدون بما يناقض شهادته أو يحتج برواية واحد لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ويدع روايات كثيرين عدول وقد رووا ما يناقض ذلك بل لو قدر أن هذا الحديث من رواية أهل الثقة والعدالة وقد روى آخرون من أهل الثقة والعدالة ما يناقض ذلك لوجب النظر في الروايتين أيهما اثبت وارجح فكيف إذا كان أهل العلم بالنقل متفقين على أن الروايات المناقضه لهذا الحديث هي الثابتة الصحيحة بل هذا الحديث مناقض لما علم بالتواتر وكثير من أئمة التفسير لم يذكروا هذا بحال لعلمهم انه باطل.(7/215)
الثاني: أنا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين أما بإسناد يذكره مما يحتج به أهل العلم في مسائل النزاع ولو انه مسالة فرعية وأما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم فانه لو تناظر فقيهان في فرع من الفروع لم تقم الحجة على المناظرة إلا بحديث يعلم انه مسند إسنادا تقوم به الحجة أو يصححه من يرجع إليه في ذلك فأما إذا لم يعلم إسناده ولم يثبته أئمة النقل فمن أين يعلم لا سيما في مسائل الأصول التي يبنى عليها الطعن في سلف الأمة وجمهورها ويتوسل بذلك إلى هدم قواعد المسالة فكيف يقبل في مثل ذلك حديث لا يعرف إسناده ولا يثبته أئمة النقل ولا يعرف أن عالما صححه.
الثالث: أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم انه كذب موضوع ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات لان أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب وقد رواه بن جرير والبغوي بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه كذبه سماك بن حرب وأبو داودوقال احمد ليس بثقة عامة أحاديث بواطيل قال يحيى ليس بشيء قال ابن المدينى كان يضع الحديث وقال النسائي وأبو حاتم متروك الحديث وقال ابن حبان البستي كان عبد الغفار بن قاسم يشرب الخمر حتى يسكر وهو مع ذلك يقلب الأخبار لا يجوز الاحتجاج به وتركه احمد ويحيى ورواه ابن أبي حاتم وفي إسناده عبد الله بن عبد القدوس وهو ليس بثقة وقال فيه يحيى بن معين ليس بشيء رافضي خبيث وقال النسائي ليس بثقة وقال الدار قطني ضعيف وإسناد الثعلبي اضعف لان فيه من لا يعرف وفيه من الضعفاء والمتهمين من لا يجوز الاحتجاج بمثله في اقل مسالة.(7/216)
الرابع: أن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية فإنها نزلت بمكة في أول الأمر ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم فان بني عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة العباس وأبو طالب والحارث وأبو لهب وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة وهم بنو هاشم ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة العباس وحمزة وأبو طالب وأبو لهب فآمن اثنان وهما حمزة والعباس وكفر اثنان أحدهما نصره وأعانه وهو أبو طالب والآخر عاداه وعان أعداءه وهو أبو لهب وما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين طالب وعقيل وجعفر وعلي وطالب لم يدرك الإسلام وأدركه الثلاثة فآمن علي وجعفر في أول الإسلام وهاجر جعفر إلى ارض الحبشة ثم إلى المدينة عام خيبر وكان عقيل قد استولى على رباع بني هاشم لما هاجروا وتصرف فيها ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته ننزل غدا في دارك بمكة قال وهل ترك لنا عقيل من داروأما العباس فبنوه كلهم صغار إذ لم يكن فيهم بمكة رجل وهب انهم كانوا رجالا فهم عبد الله وعبيد الله والفضل وأما قثم فولد بعدهم وأكبرهم الفضل وبه كان يكنى وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله وانذر عشيرتك الاقربين وكان له في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين ولم يولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الفضل وعبد الله وعبيد الله وأما سائرهم فولدوا بعده وأما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما اقل والحارث كان له ابنان أبو سفيان وربيعة وكلاهما تأخر إسلامه وكان من مسلمة الفتح وكذلك بنو أبي لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح وكان له ثلاثة ذكور فاسلم منهم اثنان عتبة ومغيث وشهد الطائف وحنينا وعتيبة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكله الكلب فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافرا(7/217)
فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين رجلا فأين الأربعون.
الخامس: قوله أن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن فكذب على القوم ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقا.
السادس: أن قوله للجماعة من يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي كلام مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز نسبته إليه فان مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله فان جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين وأعانوه على هذا الأمر وبذلوا أنفسهم وأموالهم في اقامته وطاعته وفارقوا أوطانهم وعادوا إخوانهم وصبروا على الشتات بعد الألفة وعلى الذل بعد العز وعلى الفقر بعد الغنى وعلى الشدة بعد الرخاء وسيرتهم معروفة مشهورة ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك خليفة له(7/218)
وأيضا فان كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلا أمكن أن يجيبوه أو أكثرهم أو عدد منهم فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده أيعين واحدا بلا موجب أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد وذلك انه لم يعلق الوصية والخلافة والاخوة والمؤازرة إلا بأمر سهل وهو الإجابة على الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة إلا وله من هذا نصيب وافر ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
السابع: أن حمزة وجعفر وعبيده بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه علي من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر فان هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر بل حمزة اسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا وكان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم ابن أبي الأرقم وكان اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم به في دار الأرقم ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة فان أبا لهب كان مظهرا لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب.
الثامن: أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبي هريرة واللفظ له عن النبي صلى الله(7/219)
عليه وسلم لما نزلت و انذر عشيرتك الاقربين دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فاجتمعوا فخص و عم فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا املك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها و في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا لما نزلت هذه الآية قال يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا اغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد المطلب لا اغني عنكم من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا اغني عنك من الله شيئا يافاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا سلاني ما شئتما من مالي و خرجه مسلم من حديث ابنالمخارق و زهير بن عمرو و من حديث عائشة و قال فيه قام علي الصفا و قال في حديث قبيصة انطلق إلى رضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا ثم نادى يا بني عبد مناف إني لكم نذير إنما مثلي و مثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف يا صباحاه و في الصحيحين من حديث ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله و سلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا الذي يهتف قالوا محمد فاجتمعوا إليه فجعل ينادي يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب و في رواية يا بني فهر يا بني عدي يا بني فلان لبطون قريش فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو فاجتمعوا فقال ارايتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل اكنتم
(7/220)
مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا فقام فنزلت هذه السورة تبت يدا أبي لهب و تب و في رواية ارأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم و يمسيكم اكنتم تصدقوني قالوا بلى فان قيل فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين و المصنفين في الفضائل كالثعلبي و البغوي و أمثالهما و المغازلي قيل له مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث فان في كنت هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على انه كذب موضوع و فيها شيء كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية و العقلية أنها كذب بل فيها ما يعلم بالاضطرار انه كذب و الثعلبي و أمثاله لا يتعمدون الكذب بل فيهم من الصلاح و الدين ما يمنعهم من ذلك لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب و يروون ما سمعوه و ليس لاحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لائمة الحديث كشعبة و يحيى بن سعيد القطان و عبد الرحمن بن مهدي و احمد بن حنبل و علي بن
(7/221)
المديني و يحيى بن معين و إسحاق و محمد بن يحيى الذهلي و البخاري و مسلم و أبي داود و النسائي و أبي حاتم و أبي زرعة الرازيين و أبي عبد الله بن منده و الدار قطني و أمثال هؤلاء من أئمة الحديث و نقاده ومكامه و حفاظه الذين لهم خبرة و معرفة تامة بأحوال النبي و سلم وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي من الصحابة و التابعين و تابعيهم و من بعدهم من نقلة العلم و قد صنفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار و أسماءهم و ذكروا أخبارهم و أخبار من اخذوا عنه و من اخذ عنهم مثل كتاب العلل و أسماء الرجال عن يحيى القطان و ابن المديني و احمد و ابن معين و البخاري و مسلم و أبي زرعة و أبي حاتم زو النسائي و الترمذي و احمد بن عدي و ابن حبان و أبي الفتح الازدي و الدار قطين قطني و غيرهم و تفسير الثعلبي فيه أحاديث موضوعة و أحاديث صحيحة و من الموضوع فيه الأحاديث التي في فضائل السور سورة و قد ذكر هذا الحديث الزمخشري و الواحدي و هو كذب موضوع باتفاق أهل الحديث و كذلك غير هذا
(7/222)
و كذلك الواحدي تلميذ الثعلبي و البغوي اختصر تفسيره من تفسير الثعلبي و الواحدي لكنهما اخبر بأقوال المفسرين منه و الواحدي اعلم بالعربية من هذا و هذا و البغوي اتبع للسنة منهما و ليس لكون الرجل من الجمهور الذين يعتقدون خلافة الثلاثة يوجب له أن كل ما رواه صدق كما أن كونه من الشيعة لا يوجب أن يكون كل ما رواه كذبا بل الاعتبار بميزان العدل و قد وضع الناس أحاديث كثيرة مكذوبة على رسول الله و سلم في الأصول والأحكام و الزهد و الفضائل و وضعوا كثيرا من فضائل الخلفاء الأربعة و فضائل معاوية و من الناس من يكون قصده رواية كل ما روي في الباب من غير تمييز بين صحيح و ضعيف كما فعله أبو نعيم في فضائل الخلفاء و كذلك غيره ممن صنف في الفضائل و مثل مل جمعه أبو الفتح بن أبي الفوارس و أبو علي الاهوازي و غيرهما في فضائل معاوية و مثل ما جمعه النسائي في فضائل علي و كذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في فضائل علي و غيره فان هؤلاء و أمثالهم قصدوا أن يرووا ما سمعوا من غير تمييز بين صحيح ذلك و ضعيفه فلا يجوز أن يجزم بصدق الخبر بمجرد رواية الواحد من هؤلاء باتفاق أهل العلم و أما من يذكر الحديث بلا إسناد ومن المصنفين في الأصول و الفقه و الزهد و الرقائق فهؤلاء يذكرون أحاديث كثيرة صحيحة و يذكر بعضهم أحاديث كثيرة ضعيفة و موضوعة كما يوجد ذلك في كتب الرقائق و الرأي و غير ذلك.(7/223)
*فصل قال الرافضي الثاني الخبر المتواتر عن النبي و سلم انه لما نزل قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك خطب الناس في غدير خم وقال للجمع كله يا أيها الناس الست أولى منكم بأنفسكم قالوا بلى قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله فقال عمر بخ بخ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن و مؤمنة والمراد بالمولى هنا الأولى بالتصرف لتقدم التقرير منه صلى الله عليه وسلم بقوله الست أولى منكم بأنفسكم.
*والجواب عن هذه الآية والحديث المذكور قد تقدم وبينا أن هذا كذب وأن قوله بلغ ما انزل إليك من ربك نزل قبل حجة الوداع بمدة طويلة ويوم الغدير إنما كان ثامن عشر ذي الحجة بعد رجوعه من الحج وعاش بعد ذلك شهرين وبعض الثالث ومما يبين ذلك أن آخر المائدة نزولا قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي وهذه الآية نزلت بعرفة تاسع ذي الحجة في حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة كما ثبت ذلك في الصحاح والسنن وكما قاله العلماء قاطبة من أهل التفسير والحديث وغيرهم وغدير خم كان بعد رجوعه إلى المدينة ثامن عشر ذي الحجة بعد نزول هذه الآية بتسعة أيام فكيف يكون قوله بلغ ما انزل إليك من ربك نزل ذلك الوقت ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت قبل ذلك وهي من أوائل ما نزل بالمدينة وإن كان ذلك في (سورة المائدة). كما أن فيها تحريم الخمر والخمر حرمت في أوائل الأمر عقب غزوة أحد وكذلك فيها الحكم بين أهل الكتاب بقوله فان جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم وهذه الآية نزلت إما في الحد لما رجم اليهوديين وإما في الحكم بين قريظة والنضير لما تحاكموا إليه في الدماء ورجم اليهوديين كان أول ما(7/224)
فعله بالمدينة وكذلك الحكم بين قريظة والنضير فان بني النضير أجلاهم قبل الخندق وقريظة قتلهم عقب غزوة الخندق والخندق باتفاق الناس كان قبل الحديبية وقبل فتح خيبر وذلك كله قبل فتح مكة وغزوة حنين وذلك كله قبل حجة الوداع وحجة الوداع قبل خطبة الغدير فمن قال أن المائدة نزل فيها شيء بغدير خم فهو كاذب مفتر باتفاق أهل العلم وأيضا فان الله تعالى قال في كتابه يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس فضمن له سبحانه انه يعصمه من الناس إذا بلغ الرسالة ليؤمنه بذلك من الأعداء ولهذا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول هذه الآية يحرس فلما نزلت هذه الآية ترك ذلكوهذا إنما يكون قبل تمام التبليغ وفي حجة الوداع تم التبليغ وقال في حجة الوداع ألا هل بلغت ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد وقال لهم أيها الناس إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وأنتم تسألون عني فما انتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت وأديت ونصحت فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إلى الأرض ويقول اللهم اشهد اللهم اشهد وهذا لفظ حديث جابر في صحيح مسلم وغيره في الأحاديث الصحيحة وقال ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فتكون العصمة المضمونة موجودة وقت التبليغ المتقدم فلا تكون هذه الآية نزلت بعد حجة الوداع لانه قد بلغ قبل ذلك ولأنه حينئذ لم يكن خائفا من أحد يحتاج أن يعصم منه بل بعد حجة الوداع كان أهل مكة والمدينة وما حولهما كلهم مسلمين منقادين له ليس فيهم
(7/225)
كافر والمنافقون مقموعون مسرون للنفاق ليس فيهم من يحاربه ولا من يخاف الرسول منه فلا يقال له في هذه الحال بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس وهذا مما يبين أن الذي جرى يوم الغدير لم يكن مما أمر بتبليغه كالذي بلغه في حجة الوداع فإن كثيرا من الذين حجوا معه أو أكثرهم لم يرجعوا معه إلى المدينة بل رجع أهل مكة إلى مكة أهل الطائف إلى الطائف وأهل اليمن إلى اليمن وأهل البوادي القريبة من ذاك إلى بواديهم وإنما رجع معه أهل المدينة ومن كان قريبا منها فلو كان ما ذكره يوم الغدير مما أمر بتبليغه كالذي بلغه في الحج لبلغه في حجة الوداع كما بلغ غيره فلما لم يذكر في حجة الوداع امامة ولا ما يتعلق بالإمامة أصلا ولم ينقل أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف انه في حجة الوداع ذكر امامة علي بل ولا ذكر عليا في شيء من خطبته وهو المجمع العام الذي أمر فيه بالتبليغ العام علم أن امامة علي لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه بل ولا حديث الموالاة وحديث الثقلين ونحو ذلك مما يذكر في إمامته
(7/226)
والذي رواه مسلم انه بغدير خم قال إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله فذكر كتاب الله وحض عليه ثم قال وعثرتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثا وهذا مما انفرد به مسلم ولم يروه البخاري وقد رواه الترمذي وزاد فيه وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض وقد طعن غير واحد من الحفاظ في هذه الزيادة وقال إنها ليست من الحديث والذين اعتقدوا صحتها قالوا إنما يدل على أن مجموع العترة الذين هم بنو هاشم لا يتفقون على ضلالة وهذا قاله طائفة من أهل السنة وهو من أجوبة القاضي أبي يعلى وغيره والحديث الذي في مسلم إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله فليس فيه إلا الوصية باتباع كتاب الله وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك وهو لم يأمر باتباع العترة لكن قال أذكركم الله في أهل بيتي وتذكير الأمة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدم الأمر به قبل ذلك من إعطائهم حقوقهم والامتناع من ظلمهم وهذا أمر قد تقدم بيانه قبل غدير خمفعلم انه لم يكن في غدير خم أمر يشرع نزل إذ ذاك لا في حق علي ولا غيره لا إمامته ولا غيرها لكن حديث الموالاة قد رواه الترمذي وأحمد والترمذي في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال من كنت مولاه فعلى مولاه وأما الزيادة وهي قوله اللهم وال من والاه وعاد من عاداه الخ فلا ريب انه كذب ونقل الأثرم في سننه عن احمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر وأنه حدث بحديثين أحدهما قوله لعلي انك ستعرض على البراءة مني فلا تبرا والآخر اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فأنكره أبو عبيد الله جدا لم يشك أن هذين كذب وكذلك قوله أنت أولى بكل مؤمن ومؤمنة كذب أيضا وأما قوله من كنت مولاه فعلي مولاه فليس هو في الصحاح لكن هو مما رواه العلماء وتنازع الناس في صحته فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث انهم طعنوا فيه
(7/227)
وضعفوه ونقل عن احمد بن حنبل انه حسنه كما حسنه الترمذي وقد صنف أبو العباس بن عقدة مصنفا في جميع طرقه وقال ابن حزم الذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي وقوله لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهذه صفة واجبة لكل مسلم مؤمن وفاضل وعهده صلى الله عليه وسلم أن عليا لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وقد صح مثل هذا في الأنصار انهم لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر قال وأما من كنت مولاه فعلى مولاه فلا يصح من طريقالثقات أصلا وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلها فان قيل لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله أنت مني وأنا منك وحديث المباهلة والكساء قيل مقصود ابن حزم الذي في الصحيح من الحديث الذي لا يذكر فيه إلا علي وأما تلك ففيها ذكر غيره فإنه قال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي وقال لزيد أنت أخونا ومولانا وحديث المباهلة والكساء فيهما ذكر علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم فلا يرد هذا على ابن حزم ونحن نجيب بالجواب المركب فنقول أن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام وإن كان قاله فلم يرد به قطعا الخلافة بعده إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلغ بلاغا مبينا
(7/228)
و ليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة و ذلك أن المولى كالمولى والله تعالى قال إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا وقال وإن تظاهرا عليه فان الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير فبين أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضا كما بين أن الله ولي المؤمنين وأنهم أولياؤهم وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فالموالاة ضد المعاداة و هي تثبت من الطرفين وإن كان أحد المتواليين اعظم قدرا و ولايته إحسان وتفضل وولاية الآخر طاعة وعبادة كما أن الله يحب المؤمنين و المؤمنون يحبونه فإن الموالاة ضد المعاداة و المحاربة و المخادعة و الكفار لا يحبون الله و رسوله و يحادون الله و رسوله و يعادونه و قد قال تعالى لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء و هو يجازيهم على ذلك كما قال تعالى فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله و هو ولي المؤمنين و هو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور و إذا كان كذلك فمعنى كون الله ولي المؤمنين و مولاهم و كون الرسول وليهم و مولاهم و كون علي مولاهم هي الموالاة التي هي ضد المعاداة
(7/229)
و المؤمنون يتولون الله و رسوله الموالاة المضادة للمعاداة و هذا حكم ثابت لكل مؤمن فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين و يتولونه و في هذا الحديث إثبات إيمان علي في الباطن و الشهادة له بأنه يستحق المولاة باطنا و ظاهرا و ذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج و النواصب لكن ليس فيه انه ليس للمؤمنين مولى غيره فكيف و رسول الله صلى الله عليه و سلم له موالي و هم صالحو المؤمنين فعلي أيضا له مولى بطريق الأولى و الأحرى و هم المؤمنون الذين يتولونه و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم أن اسلم و غفارا و مزينة و جهينة و قريشا و الأنصار ليس لهم مولى دون الله و رسوله و جعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه و سلم كما جعل صالح المؤمنين مواليه و الله و رسوله مولاهم
(7/230)
و في الجملة فرق بين الولي و المولى و نحو ذلك و بين الوالي فباب الولاية التي هي ضد العداوة شيء و باب الولاية التي هي الإمارة شيء و الحديث إنما هو في الأولى دون الثانية و النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل من كنت واليه فعلي واليه و إنما اللفظ من كنت مولاه فعلي مولاه و أما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل فان الولاية تثبت من الطرفين فان المؤمنين أولياء الله و هو مولاهم و أما كونه أولى بهم من أنفسهم فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه و سلم و كونه أولى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته و لو قدر انه نص على خليفة من بعده لم يكن ذلك موجبا أن يكون أولى بكل مؤمن من نفسه كما انه لا يكون أزواجه أمهاتهم و لو أريد هذا المعنى لقال من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه و هذا لم يقله و لم ينقله أحد و معناه باطل قطعا لان كون النبي صلى الله عليه و سلم أولى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته و مماته و خلافة علي لو قدر وجودها لم تكن إلا بعد موته لم تكن في حياته فلا يجوز أن يكون علي خليفة في زمنه فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه بل و لا يكون مولى أحد من المؤمنين إذا أريد به الخلافة
(7/231)
و هذا مما يدل على انه لم يرد الخلافة فإن كونه ولي كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخر حكمه إلى الموت وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت فعلم أن هذا ليس هذا وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة وإذا استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته أو قدر انه استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته أو قدر انه استخلف أحدا بعد موته وصار له خليفة بنص أو إجماع فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه لا سيما في حياته وأما كون علي وغيره مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته وبعد ممات علي فعلي اليوم مولى كل مؤمن وليس اليوم متوليا على الناس وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياء وامواتا.
*فصل قال الرافضي الثالث قوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي اثبت له عليه السلام جميعمنازل هارون من موسى عليه السلام للاستثناء ومن جملة منازل هارون انه كان خليفة لموسى ولو عاش بعده لكان خليفة أيضا وإلا لزم تطرق النقض إليه ولأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فبعد موته وطول مدة الغيبة أولى بأن يكون خليفته.
*والجواب أن هذا الحديث ثبت في الصحيحين بلا ريب وغيرهما كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك في غزوة تبوك وكان صلى الله عليه وسلم كلما سافر في غزوة أو عمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة كما استخلف على المدينة في غزوة ذي أمر عثمان وفي غزوة بني قينقاع(7/232)
بشير بن عبد المنذر ولما غزا قريشا ووصل إلى الفرع استعمل ابن أم مكتوم وذكر ذلك محمد بن سعد وغيره وبالجملة فمن المعلوم انه كان لا يخرج من المدينة حتى يستخلف وقد ذكر المسلمون من كان يستخلفه فقد سافر من المدينة في عمرتين عمرة الحديبية وعمرة القضاء وفي حجة الوداع وفي مغازيه اكثر من عشرين غزاة وفيها كلها استخلف وكان يكون بالمدينة رجال كثيرون يستخلف عليهم من يستخلفه فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لاحد في التخلف عنها وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعمعه أحد كما اجتمع معه فيها فلم يتخلف عنه إلا النساء و الصبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق و تخلف الثلاثة الذين تيب عليهم و لم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم كما كان يستخلف عليهم في كل مرة بل كان هذا الاستخلاف اضعف من الاستخلافات المعتادة منه لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحدا كما كان يبقى في جميع مغازيه فإنه كان يكون بالمدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم من يستخلف فكل استخلاف استخلفه في مغازيه مثل استخلافه في غزوة بدر الكبرى و الصغرى و غزوة بني المصطلق و الغابة و خيبر و فتح مكة و سائر مغازيه التي لم يكن فيها قتال و مغازيه بضع عشرة غزوة و قد استخلف فيها كلها إلا القليل و قد استخلف في حجة الوداع و عمرتين قبل غزوة تبوك و في كل مرة يكون بالمدينة افضل ممن بقي في غزوة تبوك فكان كل استخلاف قبل هذه يكون علي افضل ممن استخلف عليه عليا فلهذا خرج إليه علي رضي الله عنه يبكي و قال أتخلفني مع النساء و الصبيان د و قيل أن بعض المنافقين طعن فيه و قال أنما خلفه لانه يبغضه فبين له النبي صلى الله عليه و سلم اني إنما استخلفتك لأمانتك عندي
(7/233)
و أن الاستخلاف ليس بنقص و لا غض فإن موسى استخلف هارون على قومه فكيف يكون نقصا و موسى ليفعله بهارون فطيب بذلك قلب علي و بين أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلف و أمانته لا يقتضي إهانته ولا تخوينه و ذلك لان المستخلف يغيب عن النبي صلى الله عليه و سلم و قد خرج معه جميع الصحابة و الملوك و غيرهم إذا خرجوا في مغازيهم اخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به و معاونته لهم و يحتاجون إلى مشاورته و الانتفاع برأيه و لسانه و يده و سيفه و المتخلف إذا لم يكن له في المدينة سياسة كثيرة لا يحتاج إلى هذا كله فظن من ظن أن هذا غضاضة من علي و نقص منه و خفض من منزلته حيث لم يأخذه معه في المواضع المهمة التي تحتاج إلى سعي و اجتهاد بل تركه في المواضع التي لا تحتاج إلى كثير سعي و اجتهاد فكان قول النبي صلى الله عليه و سلم مبينا أن جنس الاستخلاف ليس نقصا و لا غضا إذ لو كان نقصا أو غضا لما فعله موسى بهارون و لم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون لان العسكر كان مع هارون و إنما ذهب موسى وحده و أما استخلاف النبي صلى الله عليه و سلم فجميع العسكر كان معه
(7/234)
و لم يخلف بالمدينة غير النساء و الصبيان إلا معذور أو عاص و قول القائل هذا بمنزلة هذا و هذا مثل هذا هو كتشبيه الشيء بالشيء و تشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دل عليه السياق لا يقتضي المساواة في كل شيء ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الأسارى لما استشار أبا بكر و أشار بالفداء و استشار عمر فاشار بالقتل قال سأخبركم عن صاحبيكم مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال فمن تبعني فانه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم و مثل عيسى إذ قال أن تعذبهم فانهم عبادك و أن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم و مثلك يا عمر مثل نوح إذ قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا و مثل موسى إذ قال ربنا اطمس على أموالهم و اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فقوله هذا مثلك كمثل إبراهيم و عيسى و لهذا مثل نوح و موسى اعظم من قوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى فان نوحا و إبراهيم و موسى و عيسى اعظم من هارون و قد جعل هذين مثلهم و لم
(7/235)
يرد انهما مثلهم في كل شيء لكن فيما دل عليه السياق من الشدة في الله و اللين في الله و كذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه السياق و هو استخلافه في مغيبه كما استخلف موسى هارون و هذا الاستخلاف ليس من خصائص علي بل و لا هو مثل استخلافاته فضلا عن أن يكون افضل منها و قد استخلف من علي افضل منه في كثير من الغزوات و لم تكن تلك الاستخلافات توجب تقديم المستخلف على علي إذا قعد معه فكيف يكون موجبا لتفضيله على علي بل قد استخلف على المدينة غير واحد و أولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى من جنس استخلاف علي بل كان ذلك الاستخلاف يكون علي اكثر و أفضل ممن استخلف عليه عام تبوك و كانت الحاجة إلى الاستخلاف اكثر فإنه كان يخاف من الأعداء على المدينة فأما عام تبوك فإنه كان قد أسلمت العرب بالحجاز و فتحت مكة و ظهر الإسلام و عز و لهذا أمر الله نبيه أن يغزو أهل الكتاب بالشام و لم تكن المدينة تحتاج إلى من يقاتل بها العدو و لهذا لم يدع النبي صلى الله عليه و سلم عند علي أحدا من المقاتلة كما كان يدع بها في سائر الغزوات بل اخذ المقاتلة كلهم معه و تخصيصه لعلي بالذكر هنا هو مفهوم اللقب و هو نوعان لقب هو جنس و لقب يجري مجرى العلم مثل زيد و أنت و هذا المفهوم
(7/236)
اضعف المفاهيم و لهذا كان جماهير أهل الأصول و الفقه على انه لا يحتج به فإذا قال محمد رسول الله لم يكن هذا نفيا للرسالة عن غيره لكن إذا كان في سياق الكلام ما يقتضي التخصيص فإنه يحتج به على الصحيح كقوله ففهمناها سليمان و قوله كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون و أما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه فلا يحتج به باتفاق الناس فهذا من ذلك فإنه إنما خص عليا بالذكر لأنه خرج إليه يبكي و يشتكي تخليفه مع النساء و الصبيان و من استخلفه سوى علي لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصا لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام و التخصيص بالذكر إذا كان لسبب يقتضي ذاك لم يقتض الاختصاص بالحكم فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى كما أنه لما قال للمضروب الذي نهى عن لعنه دعه فإنه يحب الله و رسوله لم يكن هذا دليلا على أن غيره لا يحب الله و رسوله بل ذكر ذلك لاجل الحاجة إليه لينهى بذلك عن لعنه و لما استأذنه عمر رضي الله عنه في قتل حاطب بن أبي بلتعة قال دعه فانه قد شهد بدرا و لم يدل هذا على أن غيره لم يشهد بدرا بل ذكر المقتضى لمغفرة ذنبهو كذلك لما شهد للعشرة بالجنة لم يقتض أن غيرهم لا يدخل الجنة لكن ذكر ذلك لسبب اقتضاه و كذلك لما قال للحسن و أسامة اللهم إني احبهما فأحبهما و أحب من يحبهما لا يقتضي انه لا يحب غيرهما بل كان يحب غيرهما اعظم من محبتهما و كذلك لما قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة لم يقتض أن من سواهم يدخلها و كذلك لما شبه أبا بكر بإبراهيم و عيسى لم يمنع ذلك أن يكون في أمته و أصحابه من يشبه إبراهيم و عيسى و كذلك لما شبه عمر بنوح و موسى لم يمتنع أن يكون في أمته من يشبه نوحا و موسى فان قيل أن هذين افضل من يشبههم من أمته قيل الاختصاص بالكمال لا يمنع المشاركة في اصل التشبيه و كذلك لما قال عن عروة بن مسعود إنه مثل صاحب ياسين
(7/237)
و كذلك لما قال للأشعريين هم مني و أنا منهم لم يختص ذلك بهم بل قال لعلي أنت مني و أنا منك و قال لزيد أنت أخونا و مولانا و ذلك لا يختص بزيد بل أسامة أخوهم و مولاهم و بالجملة الأمثال و التشبيهات كثيرة جدا و هي لا توجب التماثل من كل وجه بل فيما سيق الكلام له و لا يقتضي اختصاص المشبه بالتشبيه بل يمكن أن يشاركه غيره له في ذلك قال تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة و قال تعالى و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية و قال مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر و قد قيل أن في القران اثنين و أربعين مثلا و قول القائل انه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل فان قوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسىدليل على انه يسترضيه بذلك و يطيب قلبه لما توهم من وهن الاستخلاف و نقص درجته فقال هذا على سبيل الجبر له قوله بمنزلة هارون من موسى أي مثل منزلة هارون فإن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره و إنما يكون له ما يشابهها فصار هذا كقوله هذا مثل هذا و قوله عن أبي بكر مثله مثل إبراهيم و عيسى و عمر مثله مثل نوح و موسى و مما يبين ذلك أن هذا كان عام تبوك ثم بعد رجوع النبي صلى الله عليه و سلم بعث أبا بكر أميرا على الموسم و أردفه بعلي فقال لعلي أمير أم مأمور فقال بل مأمور فكان أبو بكر أميرا عليه و علي معه كالمأمور مع أميره يصلي خلفه و يطيع أمره و ينادي خلفه مع الناس بالموسم ألا لا يحج بعد العام مشرك و لا يطوف بالبيت عريان
(7/238)
وإنما اردفه به لينبذ العهد إلى العرب فإنه كان من عادتهم أن لا يعقد العقود وينبذها إلا السيد المطاع أو رجل من أهل بيته فلم يكونوا يقبلون نقض العهود إلا من رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومما يبين ذلك انه لو أراد أن يكون خليفة على أمته بعده لم يكن هذا خطابا بينهما يناجيه به ولا كان أخره حتى يخرج إليه على ويشتكي بل كان هذا من الحكم الذي يجب بيانه وتبليغه للناس كلهم بلفظ يبين المقصود ثم من جهل الرافضة انهم يتناقضون فان هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب عليا بهذا الخطاب إلا ذلك اليوم في غزوة تبوك فلو كان علي قد عرف انه المستخلف من بعده كما رووا ذلك في ما تقدم لكان علي مطمئن القلب انه مثل هارون بعده وفي حياته ولم يخرج إليه يبكي ولم يقل له أتخلفني مع النساء والصبيان ولو كان علي بمنزلة هارون مطلقا لم يستخلف عليه أحدا وقد كانيستخلف على المدينة غيره وهو فيها كما استخلف على المدينة عام خيبر غير علي وكان علي بها ارمد حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية حين قدم وكان قد أعطى الراية رجلا فقال لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وأما قوله لانه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فبعد موته وطول مدة الغيبة أولى بان يكون خليفته فالجواب انه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير علي استخلافا اعظم من استخلاف علي و استخلف أولئك على افضل من الذين استخلف عليهم عليا و قد استخلف بعد تبوك على المدينة غير علي في حجة الوداع فليس جعل علي هو الخليفة بعده لكونه استخلفه على المدينة بأولى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه و اعظم مما استخلفه و آخر الاستخلاف كان على المدينة كان عام حجة الوداع و كان علي باليمن و شهد معه الموسم لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير علي
(7/239)
فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أولى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك و بالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائصه و لا تدل على الأفضلية و لا على الإمامة بل قد استخلف عددا غيره لكن هؤلاء جهال يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين علي و غيره خاصة بعلي و إن كان غيره اكمل منه فيها كما فعلوا في النصوص و الوقائع و هكذا فعلت النصارى جعلوا ما اتى به المسيح من الآيات دالا على شيء يختص به من الحلول و الاتحاد و قد شاركه غيره من الأنبياء فيما اتى به و كان ما اتى به موسى من الآيات اعظم مما جاء به المسيح فليس هناك سبب يوجب اختصاص المسيح دون إبراهيم و عيسى لا بحلول و لا اتحاد بل إن كان ذلك كله ممتنعا فلا ريب انه كله ممتنع في الجميع و إن فسر ذلك بأمر ممكن كحصول معرفة الله و الإيمان به و الأنوار الحاصلة بالإيمان به و نحو ذلك فهذا قدر مشترك و أمر ممكن و هكذا الأمر مع الشيعة يجعلون الأمور المشتركة بين علي و غيره التي تعمه و غيره مختصة به حتى رتبوا عليه ما يختص به من العصمة و الإمامة و الأفضلية و هذا كله منتف
(7/240)
فمن عرف سيرة الرسول و أحوال الصحابة و معاني القرآن و الحديث علم انه ليس هناك اختصاص بما يوجب أفضليته و لا إمامته بل فضائله مشتركة و فيها من الفائدة إثبات إيمان علي و ولايته و الرد على النواصب الذين يسبونه أو يفسقونه أو يكفرونه و يقولون فيه من جنس ما تقوله الرافضة في الثلاثة ففي فضائل علي الثابتة رد على النواصب كما أن في فضائل الثلاثة ردا على الروافض و عثمان رضي الله عنه تقدح فيه الروافض و الخوارج ولكن شيعته يعتقدون إمامته و يقدحون في إمامة علي و هم في بدعتهم خير من شيعة علي الذين يقدحون في غيره و الزيدية الذين يتولون أبا بكر و عمر مضطربون فيه و أيضا فالاستخلاف في الحياة نوع نيابة لا بد منه لكل ولي أمر و ليس كل من يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يصلح إن يستخلف بعد الموت فإن النبي صلى الله عليه و سلم استخلف في حياته غير واحد و منهم من لا يصلح للخلافة بعد موته و ذلك كبشير بن عبد المنذر و غيره و أيضا فإنه مطالب في حياته بما يجب عليه من القيام بحقوق الناس
(7/241)
كما يطالب بذلك ولاة الأمور و أما بعد موته فلا يطالب بشيء لانه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه ففي حياته يجب عليه جهاد الأعداء وقسم الفيء و إقامة الحدود واستعمال العمال وغير ذلك مما يوجب على ولاة الأمور بعده وبعد موته لا يجب عليه شيء من ذلك فليس الاستخلاف في الحياة كالاستخلاف بعد الموت والإنسان إذا استخلف أحدا في حياته على أولاده وما يأمر به من البر كان المستخلف وكيلا محضا يفعل ما أمر به الموكل وان استخلف أحدا على أولاده بعد موته كان وليا مستقلا يعمل بحسب المصلحة كما أمر الله ورسوله ولم يكن وكيلا للميت وهكذا أولو الأمر إذا استخلف أحدهم شخصا في حياته فانه يفعل ما يأمره به في القضايا المعينة و أما إذا استخلفه بعد موته فإنه يتصرف بولايته كما أمر الله ورسوله فإن هذا التصرف مضاف إليه لا إلى الميت بخلاف ما فعله في الحياة بأمر مستخلفه فإنه يضاف إلى من استخلفه لا إليه فأين هذا من هذا ولم يقل أحد من العقلاء إن من استخلف شخصا على بعض الأمور وانقضى ذلك الاستخلاف انه يكون خليفة بعد موته علىشيء ولكن الرافضة من اجهل الناس بالمعقول والمنقول.
*فصل قال الرافضي الرابع انه صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة مع قصر مدة الغيبة فيجب أن يكون خليفة له بعد موته وليس غير علي إجماعا و لأنه لم يعزله عن المدينة فيكون خليفة له بعد موته فيها وإذا كان خليفة فيها كان خليفة في غيرها إجماعا.
*والجواب أن هذه الحجة و أمثالها من الحجج الداحضة التي هي من جنس بيت العنكبوت، والجواب عنها من وجوه...
أحدها: أن نقول على أحد القولين انه استخلف أبا بكر بعد موته كما تقدم وإذا قالت الرافضة بل استخلف عليا قيل الراوندية من جنسكم قالوا استخلف العباس وكل من كان له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالة على استخلاف أحد بعد موته إنما تدل(7/242)
على استخلاف أبي بكر ليس فيها شيء يدل على استخلاف علي ولا العباس بل كلها تدل على انه لم يستخلف واحدا منهما فيقال حينئذ إن كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أحدا فلم يستخلف إلا أبا بكر وان لم يستخلف أحدا فلا هذا ولا هذا فعلى تقدير كون الاستخلاف واجبا على الرسول لم يستخلف إلا أبا بكر فان جميع أهل العلم بالحديث والسيرة متفقون على أن الأحاديث الثابتة لا تدل على استخلاف غير آبي بكر و إنما يدل ما يدل منها على استخلاف آبي بكر وهذا معلوم بالاضطرار عند العالم بالأحاديث الثابتة.
الوجه الثاني: أن نقول انتم لا تقولون بالقياس وهذا احتجاج بالقياس حيث قستم الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب و أما نحن إذا فرضنا على أحد القولين فنقول الفرق بينهما ما نبهنا عليه في استخلاف عمر في حياته وتوقفه في الاستخلاف بعد موته لان الرسول في حياته شاهد على الأمة مأمور بسياستها بنفسه أو نائبه وبعد موته انقطع عنه التكليف كما قال المسيح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم الآية لم يقل كان خليفتي الشهيد عليهم وهذا دليل على أن المسيح لم يستخلف فدل على أن الأنبياء لا يجب عليهم الاستخلاف بعد الموت وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال فأقول كما قال(7/243)
العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم وقد قال تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل افإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين فالرسول بموته انقطع عنه التكليف وهو لو استخلف خليفة في حياته لم يجب إن يكون معصوما بل كان يولي الرجل ولاية ثم يتبين كذبه فيعزله كما ولى الوليد بن عقبة بن آبي معيط وهو لو استخلف رجلا لم يجب إن يكون معصوما وليس هو بعد موته شهيدا عليه ولا مكلفا برده عما يفعله بخلاف الاستخلاف في الحياة.
الوجه الثالث: أن يقال الاستخلاف في الحياة واجب على كل ولي أمر فإن كل ولي أمر رسولا كان أو إماما عليه إن يستخلف فيما غاب عنه من الأمور فلا بد له من إقامة الأمر إما بنفسه و إما بنائبه فما شهده من الأمر أمكنه إن يقيمه بنفسه و أما ما غاب عنه فلا يمكنه إقامته إلا بخليفة يستخلفه عليه فيولى على من غاب عنه من رعيته من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويأخذ منهم الحقوق ويقيم فيهم(7/244)
الحدود ويعدل بينهم في الأحكام كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه فيولي الأمراء على السرايا يصلون بهم ويجاهدون بهم ويسوسونهم ويؤمر أمراء على الأمصار كما أمر عتاب بن اسيد على مكة أمر خالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وأبا سفيان بن حرب ومعاذا وأبا موسى على قرى عرينة وعلى نجران وعلى اليمن وكما كان يستعمل عمالا على الصدقة فيقبضونها ممن تجب عليه ويعطونها لمن تحل له كما استعمل غير واحد وكان يستخلف في إقامة الحدود كما قال لأنيس يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها وكان يستخلف على الحج كما استخلف أبا بكر على إقامة الحج عام تسع بعد غزوة تبوك وكان علي من جملة رعية أبي بكر يصلي خلفه ويأتمر بأمره وذلك بعد غزوة تبوك وكما استخلف على المدينة مرات كثيرة فإنه كان كلما خرج في غزاة
(7/245)
استخلف ولما حج واعتمر استخلف فاستخلف في غزوة بدر وبنى المصطلق وغزوة خيبر وغزوة الفتح واستخلف في غزوة الحديبية وفي غزوة القضاء وحجة الوداع وغير ذلك وإذا كان الاستخلاف في الحياة واجبا على متولي الأمر وإن لم يكن نبيا مع انه لا يجب عليه الاستخلاف بعد موته لكون الاستخلاف في الحياة أمرا ضروريا لا يؤدى الواجب إلا به بخلاف الاستخلاف بعد الموت فإنه قد بلغ الأمة وهو الذي يجب عليهم طاعته بعد موته فيمكنهم إن يعينوا من يؤمرونه عليهم كما يمكن ذلك في كل فروض الكفاية التي تحتاج إلى واحد معين علم انه لا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة وجوبه بعد الموت.
الرابع: أن الاستخلاف في الحياة واجب في أصناف الولايات كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف على من غاب عنهم من يقيم فيهم الواجب ويستخلف في الحج وفي قبض الصدقات حفظ مال الفيء وفي إقامة الحدود وفي الغزو وغير ذلك ومعلوم إن هذا الاستخلاف لا يجب بعد الموت باتفاق العقلاء بل ولا يمكن فإنه لا يمكن إن يعين للأمة بعد موته من يتولى كل أمر جزئي فإنهم يحتاجون إلى واحد بعد واحد وتعيين ذلك متعذر و لأنه لو عين واحدا فقد يختلف حاله ويجب عزله فقد كان يولي في حياته من يشكى إليه فيعزله كما عزل الوليد بن عقبة وعزل سعد بن عبادة(7/246)
عام الفتح وولى ابنه قيسا وعزل إماما كان يصلي بقوم لما بصق في القبلة وولى مرة رجلا فلم يقيم بالواجب فقال أعجزتم إذا وليت من لا يقوم بأمري إن تولوا رجلا يقوم بأمري فقد فوض إليهم عزل من لا يقوم بالواجب من ولاته فكيف لا يفوض إليهم ابتداء تولية من يقوم بالواجب وإذا كان في حياته من يوليه ولا يقوم بالواجب فيعزله أو يأمر بعزله كان لو ولى واحدا بعد موته يمكن فيه أن لا يقوم بالواجب وحينئذ فيحتاج إلى عزله فإذا ولته الأمة وعزلته كان خيرا لهم من إن يعزلوا من ولاه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يتبين به حكمة ترك الاستخلاف وعلى هذا فنقول في.
الوجه الخامس: إن ترك الاستخلاف بعد مماته كان أولى من الاستخلاف كما اختاره الله لنبيه فإنه لا يختار له إلا افضل الأمور وذلك لأنه إما أن يقال يجب إن لا يستخلف في حياته من ليس(7/247)
بمعصوم وكان يصدر من بعض نوابه أمور منكرة فينكرها عليهم ويعزل من يعزل منهم كما استعمل خالد بن الوليد على قتال بني جذيمة فقتلهم فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم بنصف دياتهم و أرسل علي بن آبي طالب فضمن لهم حتى ميلغة الكلب ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد واختصم خالد وعبد الرحمن بن عوف حتى قال صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ولكن مع هذا لم يعزل النبي صلى الله عليه وسلم خالدا واستعمل الوليد بن عقبة على صدقات قوم فرجع فاخبره إن القوم امتنعوا وحاربوا فأراد غزوهم فأنزل الله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا إن تصيبوا قوما بجهالة وولى سعد بن عبادة يوم الفتح فلما بلغه إن سعدا قال اليوم يوم الملحمة اليوم تستباح الحرمة عزله وولى ابنه قيسا و أرسل بعمامته علامة على عزله ليعلم سعد أن ذلك أمر من النبي صلى الله عليه وسلم وكان يشتكى إليه بعض نوابه فيأمره بما أمر الله به كما اشتكى أهلقباء معاذا لتطويله الصلاة بهم لما قرأ البقرة في صلاة العشاء فقال افتان أنت يا معاذ اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى ونحوها وفي الصحيح إن رجلا قال له إني أتخلف عن صلاة الفجر مما يطول بنا فلان فقال يا أيها الناس إذا أم أحدكم فليخفف فإن من ورائه الضعيف والكبير وذي الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ورأى إماما قد بصق في قبلة المسجد فعزله عن الإمامة وقال انك آذيت الله ورسوله
(7/248)
وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه يسأله عنه فكان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته يعلم خلفاءه ما جهلوا ويقومهم إذا زاغوا ويعزلهم إذا لم يستقيموا ولم يكونوا مع ذلك معصومين فعلم انه لم يكن يجب عليه إن يولي المعصوم وأيضا فإن هذا تكليف ما لا يمكن فإن الله لم يخلق أحدا معصوما غير الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كلف إن يستخلف معصوما لكلف ما لا يقدر عليه وفات مقصود الولايات وفسدت أحوال الناس في الدين والدنيا وإذا علم انه كان يجوز بل يجب إن يستخلف في حياته من ليس بمعصوم فلو استخلف بعد موته كما استخلف في حياته لاستخلف أيضا غير معصوم وكان لا يمكن إن يعلمه و يقومه كما كان يفعل في حياته فكان أن لا يستخلف خيرا من ان يستخلف و الأمة قد بلغها أمر الله ونهيه وعلموا ما أمر الله به نهى عنه فهم يستخلفون من يقوم بأمر الله ورسوله ويعاونونه على إتمامهم القيام
(7/249)
بذلك إذا كان الواحد لا يمكنه القيام بذلك فما فاته من العلم بينه له من يعلمه وما احتاج إليه من القدرة عاونه عليه من يمكنه الإعانة وما خرج فيه عن الصواب أعادوه إليه بحسب الإمكان بقولهم وعملهم وليس على الرسول ما حملوه كما انهم ليس عليهم ما حمل فعلم أن ترك الاستخلاف من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت اكمل في حق الرسول من الاستخلاف وان من قاس وجوب الاستخلاف بعد الممات على وجوبه في الحياة كان من اجهل الناس وإذا علم الرسول إن الواحد من الأمة هو أحق بالخلافة كما كان يعلم أن أبا بكر هو أحق بالخلافة من غيره كان في دلالته للأمة على انه أحق مع علمه بأنهم يولونه ما يغنيه عن استخلافه لتكون الأمة هي القائمة بالواجب ويكون ثوابها على ذلك اعظم من حصول مقصود الرسول و اما أبو بكر فلما علم انه ليس في الأمة مثل عمر وخاف إن لا يولوه إذا لم يستخلفه لشدته فولاه هو كان ذلك هو المصلحة للأمة فالنبي صلى الله عليه وسلم علم إن الأمة يولون أبا بكر فاستغنى بذلك عن توليته مع دلالته لهم على أنه أحق الأمة بالتولية وأبو بكر لم يكن يعلم إن الأمة يولون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر فكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو اللائق به لفضل علمه وما فعله صديق الأمة هو اللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم.(7/250)
الوجه السادس: أن يقال هب إن الاستخلاف واجب فقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على قول من يقول انه استخلفه ودل على استخلافه على القول الآخر وقوله لانه لم يعزله عن المدينة قلنا هذا باطل فانه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم انعزل علي بنفس رجوعه كما كان غيره ينعزل إذا رجع وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن حتى وافاه بالموسم في حجة الوداع واستخلف على الدينة في حجة الوداع غيره افترى النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقيما وعلي باليمن وهو خليفة بالمدينة ولا ريب إن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم كأنهم ظنوا إن عليا ما زال خليفة على المدينة حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا أن عليا بعد ذلك أرسله النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود وأمر عليه أبا بكر ثم بعد رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن كما أرسل معاذا وأبا موسى ثم لما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع استخلف على المدينة غير علي ووافاه علي بمكة ونحر النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة نحر بيده ثلثيها ونحر علي ثلثها وهذا كله معلوم عند أهل العلم متفق عليه بينهم وتواترت به(7/251)
الأخبار كأنك تراه بعينك ومن لم يكن له عناية بأحوال الرسول لم يكن له أن يتكلم في هذه المسائل الأصولية والخليفة لا يكون خليفة إلا مع مغيب المستخلف أو موته فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالمدينة امتنع أن يكون له خليفة فيها كما أن سائر من استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع انقضت خلافته وكذلك سائر ولاة الأمور إذا استخلف أحدهم على مصره في مغيبه بطل استخلافه ذلك إذا حضر المستخلف ولهذا لا يصلح إن يقال إن الله يستخلف أحدا عنه فانه حي قيوم شهيد مدبر لعباده منزه عن الموت والنوم والغيبة ولهذا لما قالوا لأبى بكر يا خليفة الله قال لست خليفة الله بل خليفة رسول الله وحسبي ذلك والله تعالى يوصف بأنه يخلف العبد كما قال صلى الله عليه وسلم اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل وقال في حديث الدجال والله خليفتي على كل مسلم وكل من وصفه الله بالخلافة في القرآن فهو خليفة عن مخلوق كان قبله كقوله ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و كذلك قوله إني جاعل في الأرض خليفة أي عن خلق كان في الأرض قبل ذلك كما ذكر المفسرون و غيرهم و أما ما يظنه طائفة من الاتحادية و غيرهم أن الإنسان خليفة الله فهذا جهل و ضلال.(7/252)
*فصل قال الرافضي الخامس ما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لأمير المؤمنين أنت أخي و وصيي و خليفتي من بعدي و قاضي ديني و هو نص في الباب.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بصحة هذا الحديث فان هذا الحديث ليس في شيء من الكتب التي تقوم الحجة بمجرد إسناده إليها و لا صححه إمام من أئمة الحديث و قوله رواه الجمهور إن أراد بذلك إن علماء الحديث رووه في الكتب التي يحتج بما فيها مثل كتاب البخاري و مسلم و نحوهما و قالوا انه صحيح فهذا كذب عليهم و إن أراد بذلك إن هذا يرويه مثل آبي نعيم في الفضائل و المغازلي و خطيب خوارزم و نحوهم أو يروى في مكتب الفضائل فمجرد هذا ليس بحجة باتفاق أهل العلم في مسألة فروع فكيف في مسألة الإمامة التي قد أقمتم عليها القيامة.
الثاني: إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث و قد تقدم كلام ابن حزم إن سائر هذه الأحاديث موضوعة يعلم ذلك من له أدنى علم بالأخبار و نقلتها و قد صدق في ذلك فإن من له أدنى معرفة بصحيح الحديث و ضعيفة ليعلم إن هذا الحديث و مثله ضعيف بل و كذب موضوع و لهذا لم يخرجه أحد من أهل الحديث في الكتب التي يحتج بما فيها و إنما يرويه من يرويه في(7/253)
الكتب التي يجمع فيها بين الغث و السمين التي يعلم كل عالم إن فيها ما هو كذب مثل كثير من كتب التفسير تفسير الثعلبي و الواحدي و نحوهما و الكتب التي صنفها في الفضائل من يجمع الغث و السمين لا سيما خطيب خوارزم فإنه من أروى الناس للمكذوبات و ليس هو من أهل العلم بالحديث و لا المغازلي قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات لما روى هذا الحديث من طريق آبي حاتم البستي حدثنا محمد بن سهل بن أيوب حدثنا عمار بن رجاء حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا مطر بن ميمون الإسكاف عن انس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن أخي و وزيري و خليفتي من أهلي و خير من اترك بعدي يقضي ديني و ينجز موعدي علي بن آبي طالب قال هذا حديث موضوع قال ابن حبان مطر بن ميمون يروى الموضوعات عن الأثبات لا تحل الرواية عنه رواه أيضا من طريق احمد بن عدي بنحو هذا اللفظ و مداره على عبيد الله بن موسى عن مطر بن ميمون و كان عبيد الله بن موسى في نفسه صدوقا روى عنه البخاري لكنه معروف بالتشيع فكان لتشيعه يروي عن غير الثقات ما يوافق هواه كما روى عن مطر بن ميمون هذا و هو كذب و قد يكون علم انه كذب ذلك و قد يكون لهواه لم يبحث عن كذبه و لو بحث عنه لتبين له انه كذب هذا مع انه ليس في اللفظ الذي رواه هؤلاء المحدثون و خليفتي من بعدي و إنما في تلك الطريق و خليفتي في أهلي و هذا استخلاف خاص و أما اللفظ الآخر الذي رواه ابن عدي فإنه قال حدثنا ابن آبي سفيان حدثنا عدي بن سهل حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا مطر عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم علي أخي و صاحبي و ابن عمي و خير من اترك من بعدي يقضي ديني و ينجز موعدي و لا ريب أن مطرا هذا كذاب لم يرو عنه أحد من علماء الكوفة(7/254)
مع روايته عن انس فلم يرو عنه يحيى بن سعيد القطان و لا وكيع و لا أبو معاوية و لا أبو نعيم و لا يحيى بن آدم و لا أمثالهم مع كثرة من بالكوفة من الشيعة و مع أن كثيرا من عوامها يفضل عليا على عثمان و يروى حديثه أهل الكتب الستة حتى الترمذي و ابن ماجة قد يرويان عن ضعفاء و لم يرووا عنه و إنما روى عنه عبيد الله بن موسى لانه كان صاحب هوى متشيعا فكان لأجل هواه يروي عن هذا و نحوه و إن كانوا كذابين و لهذا لم يكتب احمد عن عبيد الله بن موسى بخلاف عبد الرزاق و ذكر احمد إن عبيد الله كان يظهر ما عنده بخلاف عبد الرزاق و مما افتراه مطر هذا ما رواه أبو بكر الخطيب في تاريخه من حديث عبيد الله بن موسى عند مطر عن انس قال كنت عند النبي صلى الله عليه و سلم فرأي عليا مقبلا فقال أنا و هذا حجة الله على أمتي يوم القيامة قال ابن الجوزي هذا حديث موضوع و المتهم بوضعه مطر قال أبو حاتم يروي الموضوعات عن الأثبات لا تحل الرواية عنه.
الوجه الثالث: أن دين النبي صلى الله عليه و سلم لم يقضه علي بل في الصحيح إن النبي صلى الله عليه و سلم مات و درعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين و سقا من شعير ابتاعها لأهله فهذا الدين الذي كان عليه يقضي من الرهن الذي رهنه و لم يعرف عن النبي صلى الله عليه و سلم دين آخر و في الصحيح عنه انه قال لا يقتسم ورثتي دينارا و لا درهما ما تركت بعد نفقة نسائي و مؤنة عاملي فهو صدقة فلو كان عليه دين قضي مما تركه و كان ذلك مقدما على الصدقة كان ثبت ذلك في الحديث الصحيح.(7/255)
*فصل قال الرافصي السادس حديث المؤاخاة روى انس إن النبي صلى الله عليه و سلم لما كان يوم المباهلة و أخي بين المهاجرين و الأنصار و علي واقف يراه و يعرفه و لم يؤاخ بينه و بين أحد فانصرف باكيا فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما فعل أبو الحسن قالوا انصرف باكي العين قال يا بلال اذهب فائتني به فمضى إليه و دخل منزله باكي العين فقالت له فاطمة ما يبكيك قال أخي النبي صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين و الأنصار و لم يؤاخ بيني و بين أحد قالت لا يخزيك الله لعله إنما ادخرك لنفسه فقال بلال يا علي اجب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتى فقال ما يبكيك يا أبا الحسن فأخبره فقال إنما ادخرك لنفسي ألا يسرك أن تكون أخا نبيك قال بلى فأخذ بيده فأتى المنبر فقال اللهم هذا مني و أنا منه إلا انه مني بمنزلة هارون من موسى إلا من كنت مولاه فعلي مولاه فانصرف فاتبعه عمر فقال بخ بخ يا أبا الحسن أصبحت مولاي و مولى كل مسلم فالمؤاخاة تدل على الأفضلية فيكون هو الإمام.
*و الجواب...
أولا: المطالبة بتصحيح النقل فإنه لم يعز هذا الحديث إلى كتاب أصلا كما عادته يعزو و إن كان عادته يعزو إلى كتب لا تقوم بها الحجة و هنا أرسله إرسالا على عادة أسلافه شيوخ الرافضة يكذبون و يروون الكذب بلا إسناد و قد قال ابن المبارك الإسناد من الدين لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء فإذا سئل وقف و تحير.
الثاني: إن هذا الحديث موضوع عند أهل الحديث لا يرتاب أحد من أهل المعرفة بالحديث أنه موضوع وواضعه جاهل كذب كذبا(7/256)
ظاهرا مكشوفا يعرف انه كذب من له أدنى معرفة بالحديث كما سيأتي بيانه.
الثالث: إن أحاديث المؤاخاة لعلي كلها موضوعة و النبي صلى الله عليه و سلم لم يؤاخ أحدا و لا أخي بين مهاجري و مهاجري و لا بين آبي بكر و عمر و لا بين أنصاري و أنصاري و لكن أخي بين المهاجرين و الأنصار في أول قدومه المدينة وأما المباهلة فكانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر من الهجرة.
الرابع: إن دلائل الكذب على هذا الحديث بينة منها انه قال لما كان يوم المباهلة و أخي بين المهاجرين و الأنصار و المباهلة كانت لما قدم وفد نجران النصارى و أنزل الله (سورة آل عمران). و كان ذلك في آخر الأمر سنة عشر أو سنة تسع لم يتقدم على ذلك باتفاق الناس و النبي صلى الله عليه و سلم لم يباهل النصارى لكن دعاهم إلى المباهلة فاستنظروه حتى يشتوروا فلما اشتوروا قالوا هو نبي و ما باهل قوم نبيا إلا استؤصلوا فأقروا له بالجزية و لم يباهلوا و هم أول من اقر بالجزية من أهل الكتاب و قد اتفق الناس على انه لم يكن في ذلك اليوم مؤاخاة.
الخامس: إن المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار كانت في السنة الأولى من الهجرة في دار بني النجار و بين المباهلة و ذلك عدة سنين.
السادس: انه كان قد أخي بين المهاجرين و الأنصار و النبي صلى الله عليه و سلم و علي كلاهما من المهاجرين فلم يكن بينهم مؤاخاة بل أخي بين علي و سهل بن حنيف فعلم انه لم يؤاخ عليا و هذا مما يوافق ما في الصحيحين من أن المؤاخاة إنما كانت بين المهاجرين و الأنصار لم تكن بين مهاجري و مهاجري.
السابع: إن قوله أما ترضى إن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إنما قاله في غزوة تبوك مرة واحدة لم يقل ذلك في غير ذلك المجلس أصلا باتفاق أهل العلم بالحديث و أما حديث الموالاة فالذين رووه ذكروا انه قاله بغدير خم مرة واحدة لم يتكرر في غير ذلك المجلس أصلا.(7/257)
الثامن: انه قد تقدم الكلام على المؤاخاة و إن فيها عموما و إطلاقا لا يقتضي الأفضلية و الإمامة و أن ما ثبت للصديق من الفضيلة لا يشركه فيه غيره كقوله لو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا و أخباره إن احب الرجال إليه أبو بكر و شهادة الصحابة له انه احبهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و غير ذلك مما يبين أن الاستدلال بما روى من المؤاخاة باطل نقلا و دلالة.
التاسع: أن من الناس من يظن أن المؤاخاة وقعت بين المهاجرين بعضهم مع بعض لأنه روى فيها أحاديث لكن الصواب المقطوع به أن هذا لم يكن و كل ما روي في ذلك فإنه باطل إما إن يكون من رواية من يتعمد الكذب وإما إن يكون اخطأ فيه و لهذا لم يخرج أهل الصحيح شيئا من ذلك و الذي في الصحيح إنما هو المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار و معلوم انه لو آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض و بين الأنصار بعضهم مع بعض لكان هذا مما تتوفر الهمم و الدواعي على نقله و لكان يذكر في أحاديث المؤاخاة و يذكر كثيرا فكيف و ليس في هذا حديث صحيح و لا خرج أهل الصحيح من ذلك شيئا و هذه الأمور يعرفها من كان له خبرة بالأحاديث الصحيحة و السيرة(7/258)
المتواترة و أحوال النبي صلى الله عليه و سلم و سبب المؤاخاة و فائدتها و مقصودها وأنهم كانوا يتوارثون بذلك فآخى النبي صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين و الأنصار كما آخى بين سعد بن الربيع و عبد الرحمن بن عوف و بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء ليقعد الصلة بين المهاجرين و الأنصار حتى انزل الله تعالى و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله و هي المحالفة التي انزل الله فيها و الذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم و قد تنازع الفقهاء هل هي محكمة يورث بها عند عدم النسب أو لا يورث بها على قولين هما روايتان عن احمد الأول مذهب أبي حنيفة و الثاني مذهب مالك و الشافعي.
*فصل قال الرافضي السابع ما رواه الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه و سلم لما حاصر خيبر تسعا و عشرين ليلة و كانت الراية لأمير المؤمنين علي فلحقه رمد أعجزه عن الحرب و خرج مرحب يتعرض للحرب فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر فقال له خذ الراية فأخذها في جمع من المهاجرين فاجتهد و لم يغن شيئا و رجع منهزما فلما كان من الغد تعرض لها عمر فسار غير بعيد ثم رجع يخبر أصحابه فقال النبي صلى الله عليه و سلم جيؤني بعلي فقيل انه أرمد فقال ارونيه اروني رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله ليس بفرار فجاءوا بعلي فتفل في يده و مسحها على عينيه و رأسه فبرئ فأعطاه الراية ففتح الله على يديه و قتل مرحبا و وصفه عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره و هو يدل على أفضليته فيكون هو الإمام.(7/259)
*و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بتصحيح النقل و أما قوله رواه الجمهور فان الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا بل الذي في الصحيح إن عليا كان غائبا عن خيبر لم يكن حاضرا فيها تخلف عن الغزاة لأنه كان ارمد ثم انه شق عليه التخلف عن النبي صلى الله عليه و سلم فلحقه فقال النبي صلى الله عليه و سلم قبل قدومه لأعطين الراية رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله يفتح الله علي يديه و لم تكن الراية قبل ذلك لأبى بكر و لا لعمر و لا قربها واحد منهما بل هذا من الأكاذيب و لهذا قال عمر فما أحببت الإمارة إلا يومئذ و بات الناس كلهم يرجون إن يعطاها فلما اصبح دعا عليا فقيل له انه ارمد فجاءه فتفل في عينيه حتى برأ فأعطاه الراية و كان هذا التخصيص جزاء مجيء علي مع الرمد و كان أخبار النبي صلى الله عليه و سلم بذلك و علي ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته صلى الله عليه و سلم فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلا.
الثاني: إن أخباره أن عليا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله حق و فيه رد على النواصب لكن الرافضة الذين يقولون إن الصحابة ارتدوا بعد موته لا يمكنهم الاستدلال بهذا لأن الخوارج تقول لهم هو ممن ارتد أيضا كما قالوا لما حكم الحكمين انك قد ارتددت عن الإسلام فعد إليه قال الأشعري في كتاب المقالات أجمعت الخوارج على كفر علي(7/260)
و أما أهل السنة فيمكنهم الاستدلال على بطلان قول الخوارج بأدلة كثيرة لكنها مشتركة تدل على إيمان الثلاثة و الرافضة تقدح فيها فلا يمكنهم إقامة دليل على الخوارج على إن عليا مات مؤمنا بل أي دليل ذكروه قدح فيه ما يبطله على أصلهم لان أصلهم فاسد و ليس هذا الوصف من خصائص علي بل غيره يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله لكن فيه الشهادة لعينه بذلك كما شهد لاعيان العشرة بالجنة و كما شهد لثابت بن قيس بالجنة و شهد لعبد الله حمار بأنه يحب الله و رسوله و قد كان ضربه في الحد مرات و قول القائل إن هذا يدل على انتفاء هذا الوصف عن غيره فيه جوابان أحدهما انه إن سلم ذلك فانه قال لأعطين الراية رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله يفتح الله علي يديه فهذا المجموع اختص به و هو أن ذلك الفتح كان على يديه ولا يلزم إذا كان ذلك الفتح المعين على يديه أن يكون افضل من غيره فضلا عن إن يكون مختصا بالإمامة الثاني إن يقال لا نسلم إن هذا يوجب التخصيص كما لو قيل لأعطين هذا المال رجلا فقيرا أو رجلا صالحا و لأدعون اليوم رجلا مريضا صالحا أو لأعطين هذه الراية رجلا شجاعا و نحو ذلك لم(7/261)
يكن في هذه الألفاظ ما يوجب إن تلك الصفة لا توجد إلا في واحد بل هذا يدل على أن ذلك الواحد موصوف بذلك و لهذا لو نذر إن يتصدق بألف درهم على رجل صالح أو فقير فأعطى هذا المنذور لواحد لم يلزم إن يكون غيره ليس كذلك و لو قالوا أعطوا هذا المال لرجل قد حج عني فأعطوه رجلا لم يلزم أن غيره لم يحج عنه.
الثالث: انه لو قدر ثبوت أفضليته في ذلك الوقت فلا يدل ذلك على أن غيره لم يكن افضل منه بعد ذلك.
الرابع: انه لو قدرنا أفضليته لم يدل ذلك على انه إمام معصوم منصوص عليه بل كثير من الشيعة الزيدية و متأخري المعتزلة و غيرهم يعتقدون أفضليته وأن الإمام هو أبو بكر و تجوز عندهم ولاية المفضول و هذا مما يجوزه كثير من غيرهم ممن يتوقف في تفضيله بعض الأربعة على بعض أو ممن يرى إن هذه المسألة ظنية لا يقوم فيها دليل قاطع على فضيلة واحد معين فإن من لم يكن له خبره بالسنة الصحيحة قد يشك في ذلك وأما أئمة المسلمين المشهورون فكلهم متفقون على أن أبا بكر و عمر افضل من عثمان و علي و نقل هذا الإجماع غير واحد كما روى البيهقي في كتب مناقب الشافعي مسنده عن الشافعي قال ما اختلف أحد من الصحابة و التابعين في تفضيل أبي بكر و عمر و تقديمهما على جميع الصحابة و روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فنقول خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر و قد تقدم نقل البخاري عن علي هذا الكلام و الشيعة الذين صحبوا عليا كانوا يقولون ذلك و تواتر ذلك عن علي من نحو ثمانين وجها و هذا مما يقطع به أهل العلم ليس هذا مما يخفى على من كان عارفا بأحوال الرسول و الخلفاء.(7/262)
*فصل قال الرافضي الثامن خبر الطائر روى الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بطائر فقال اللهم ائتني بأحب خلقك إليك و إلي يأكل معي من هذا الطائر فجاء علي فدق الباب فقال انس إن النبي صلى الله عليه و سلم على حاجة فرجع ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم كما قال أولا فدق الباب فقال انس ألم اقل لك انه علي حاجة فانصرف فعاد النبي صلى الله عليه و سلم فعاد علي فدق الباب اشد من الأولين فسمعه النبي صلى الله عليه و سلم فأذن له بالدخول و قال ما ابطأك عني قال جئت فردني انس ثم جئت فردني انس ثم جئت فردني الثالثة فقال يا انس ما حملك على هذا فقال رجوت أن يكون الدعاء لرجل من الأنصار فقال يا انس أو في الأنصار خير من علي أو في الأنصار افضل من علي فإذا كان احب الخلق إلى الله وجب أن يكون هو الإمام.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بتصحيح النقل و قوله روى الجمهور كافة كذب عليهم فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح و لا صححه أئمة الحديث و لكن هو مما رواه بعض الناس كما رووا أمثاله في فضل غير علي بل قد روي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة و صنف في ذلك مصنفات و أهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا و لا هذا.
الثاني: أن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم و المعرفة بحقائق النقل قال أبو موسى المديني قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار و المعرفة كالحاكم النيسابوري وأبي نعيم وابن مردويه و سئل الحاكم عن حديث الطير فقال لا يصح.(7/263)
هذا مع إن الحاكم منسوب إلى التشيع و فد طلب منه إن يروي حديثا في فضل معاوية فقال ما يجيء من قلبي ما يجيء من قلبي و قد ضربوه على ذلك فلم يفعل و هو يروي في الأربعين أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أئمة الحديث كقوله بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين لكن تشيعه و تشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث كالنسائي و ابن عبد البر و أمثالهما لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر و عمر فلا يعرف في علماء الحديث من يفضله عليهما بل غاية المتشيع منهم أن يفضله على عثمان أو يحصل منه كلام أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله و نحو ذلك لأن علماء الحديث قد عصمهم و قيدهم ما يعرفون من الأحاديث الصحيحة الدالة على أفضلية الشيخين و من ترفض ممن له نوع اشتغال بالحديث كابن عقدة و أمثاله فهذا غايته أن يجمع ما يروى في فضائله من المكذوبات و الموضوعات لا يقدر إن يدفع ما تواتر من فضائل الشيخين(7/264)
فإنها باتفاق أهل العلم بالحديث اكثر مما صح في فضائل علي و اصح و أصرح في الدلالة وأحمد بن حنبل لم يقل انه صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره بل احمد اجل من إن يقول مثل هذا الكذب بل نقل عنه انه قال روي له ما لم يرو لغيره مع إن في نقل هذا عن احمد كلاما ليس هذا موضعه.
الثالث: إن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب إن يجيء احب الخلق إلى الله ليأكل منه فان إطعام الطعام مشروع للبر و الفاجر و ليس في ذلك زيادة و قربة عند الله لهذا الآكل و لا معونة على مصلحة دين و لا دينا فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله.
الرابع: إن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة فانهم يقولون إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعلم إن عليا احب الخلق إلى الله و انه جعله خليفة من بعده و هذا الحديث يدل على انه ما كان يعرف احب الخلق إلى الله.
الخامس: إن يقال إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن عليا احب الخلق إلى الله أو ما كان يعرف فان كان يعرف ذلك كان يمكنه إن يرسل يطلبه كما كان يطلب الواحد من الصحابة أو يقول اللهم ائتني بعلي فإنه احب الخلق إليك فأي حاجة إلى الدعاء و الإبهام في ذلك و لو سمى عليا لاستراح انس من الرجاء الباطل و لم يغلق الباب في وجه علي(7/265)
و إن كان النبي صلى الله عليه و سلم لم يعرف ذلك بطل ما يدعونه من كونه كان يعرف ذلك ثم ان في لفظه احب الخلق إليك و إلي فكيف لا يعرف احب الخلق إليه.
السادس: إن الأحاديث الثابتة في الصحاح التي اجمع أهل الحديث على صحتها و تلقيها بالقبول تناقض هذا فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه يبين هذا لكل متأمل ما في صحيح البخاري و مسلم و غيرهما من فضائل القوم كما في الصحيحين انه قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و هذا الحديث مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث فإنه قد اخرج في الصحاح من وجوه متعددة من حديث ابن مسعود وأبي سعيد و ابن عباس و ابن الزبير و هو صريح في انه لم يكن عنده من أهل الأرض أحد احب إليه من آبي بكر فإنه الخلة هي كمال الحب و هذا لا يصلح إلا لله فإذا كانت ممكنة و لم يصلح لها إلا أبو بكر علم انه احب الناس إليه و قوله في الحديث الصحيح لما سئل أي الناس احب إليك قال عائشة قيل من الرجال قال أبوها و قول الصحابة أنت خيرنا و سيدنا وأحب إلى رسول الله صلى الله(7/266)
عليه و سلم يقوله عمر بين المهاجرين و الأنصار و لا ينكر ذلك منكر و أيضا فالنبي صلى الله عليه و سلم محبته تابعة لمحبة الله و أبو بكر احبهم إلى الله تعالى فهو احبهم إلى رسوله و إنما كان كذلك لأنه اتقاهم و أكرمهم وأكرم الخلق علي الله تعالى اتقاهم بالكتاب و السنة و إنما كان اتقاهم لأن الله تعالى قال و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى و أئمة التفسير يقولون إنه أبو بكر و نحن نبين صحة قولهم بالدليل فنقول الأتقى قد يكون نوعا و قد يكون شخصا وإذا كان نوعا فهو يجمع أشخاصا فإن قيل انهم ليس فيهم شخص هو اتقى كان هذا باطلا لأنه لا شك إن بعض الناس اتقى من بعض مع أن هذا خلاف قول أهل السنة و الشيعة فإن هؤلاء يقولون إن اتقى الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم من هذه الأمة هو أبو بكر و هؤلاء يقولون هو علي و قد قال بعض الناس هو عمر و يحكى عن بعض الناس غير ذلك و من توقف أو شك لم يقل(7/267)
انهم مستوون في التقوى فإذا قال انهم متساوون في الفضل فقد خالف إجماع الطوائف فتعين إن يكون هذا اتقى و إن كان الأتقى شخصا فإما إن يكون أبا بكر أو عليا فإنه إذا كان اسم جنس يتناول من دخل فيه و هو النوع و هو القسم الأول أو معينا غيرهما و هذا القسيم منتف باتفاق أهل السنة و الشيعة و كونه عليا باطل أيضا لأنه قال الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى و هذا الوصف منتف في علي لوجوه أحدها إن هذه السورة مكية بالاتفاق و كان علي فقيرا بمكة في عيال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن له مال ينفق منه بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضمه إلى عياله لما أصابت أهل مكة سنة الثاني انه قال و ما لأحد عنده من نعمة تجزى و علي كان للنبي صلى الله عليه و سلم عنده نعمة تجزى و هو إحسانه إليه لما ضمه إلى عياله بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له عنده نعمة دنيوية لكن كان له عنده نعمة الدين و تلك لا تجزى فإن اجر النبي(7/268)
صلى الله عليه و سلم فيها على الله لا يقدر أحد يجزيه فنعمة النبي صلى الله عليه وسلم عند آبي بكر دينية لا تجزى و نعمته عند علي دنيوية تجزى ودينية و هذا الأتقى ليس لأحد عنده نعمة تجزى و هذا الوصف لأبى بكر ثابت دون علي فان قيل المراد به انه انفق ماله لوجه الله لا جزاء لمن انعم عليه و إذا قدر أن شخصا أعطى من احسن إليه أجرا و أعطى شيئا آخر لوجه الله كان هذا مما ليس لأحد عنده من نعمة تجزى قيل هب إن الأمر كذلك لكن علي لو انفق لم ينفق إلا فيما يأمره به النبي صلى الله عليه و سلم و النبي له عنده نعمة تجزى فلا يخلص إنفاقه عن المجازاة كما يخلص إنفاق أبي بكر و علي اتقى من غيره لكن أبا بكر اكمل في وصف التقوى مع إن لفظ الآية انه ليس عنده قط لمخلوق نعمة تجزى و هذا وصف من يجازي الناس على إحسانهم إليه فلا يبقى لمخلوق عليه منة و هذا الوصف منطبق على أبي بكر انطباقا لا يساويه فيه أحد من المهاجرين فإنه لم يكن في المهاجرين عمر و عثمان و علي و غيرهم رجل اكثر إحسانا إلى الناس قبل الإسلام و بعده بنفسه و ماله من أبي بكر كان مؤلفا محببا يعاون الناس على مصالحهم كما قال فيه ابن الدغنة سيد القارة لما أراد إن يخرج من مكة مثلك يا أبا بكر لا يخرج و لا يخرج فإنك تحمل الكل و تقري الضيف و تكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق و في صلح الحديبية لما قال لعروة بن مسعود امصص بظر اللات أنحن نفر عنه و ندعه قال لأبى بكر لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك و ما عرف قط إن أحدا كانت له يد على أبي بكر في الدنيا لا قبل(7/269)
الإسلام و لا بعده فهو أحق الصحابة وما لأحد عنده من نعمة تجزى فكان أحق الناس بالدخول في الآية و أما علي رضي الله عنه فكان للنبي صلى الله عليه و سلم عليه نعمة دنيوية و في المسند لأحمد أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه و يقول إن خليلي امرني أن لا أسال الناس شيئا و في المسند و الترمذي وأبي داود حديث عمر قال عمر امرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم اسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أبقيت لأهلك فقلت مثله قال و اتى أبو بكر بكل ما عنده فقال ما أبقيت لأهلك قال أبقيت لهم الله و رسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا فأبو بكر رضي الله عنه جاء بماله كله و مع هذا فلم يكن يأكل من أحد لا صدقة و لا صلة و لا نذرا بل كان يتجر و يأكل من كسبه و لما(7/270)
ولي الناس و اشتغل عن التجارة بعمل المسلمين أكل من مال الله و رسوله الذي جعله الله له لم يأكل من مال مخلوق و أبو بكر لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يعطيه شيئا من الدنيا يخصه به بل كان في المغازي كواحد من الناس بل يأخذ من ماله ما ينفقه على المسلمين و قد استعمله النبي صلى الله عليه و سلم و ما عرف انه أعطاه عمالة و قد أعطى عمر عمالة و أعطى عليا من الفيء و كان يعطي المؤلفة قلوبهم من الطلقاء و أهل نجد و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار لا يعطيهم كما فعل في غنائم حنين و غيرها و يقول إني لأعطي رجالا و ادع رجالا و الذي ادع احب إلي من الذي أعطي أعطى رجالا لما في قلوبهم من الجزع و الهلع و أكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى و الخير و لما بلغه عن الأنصار كلام سألهم عنه فقالوا يا رسول الله أما ذوو الرأي منا فلم يقولوا شيئا و أما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا و يتركنا و سيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون إن يذهب الناس بالأموال و ترجعوا إلى رحالكم برسول الله فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا بلى يا رسول
(7/271)
الله قد رضينا قال فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله و رسوله على الحوض قالوا سنصبر و قوله تعالى و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى استثناء منقطع و المعنى لا يقتصر في العطاء على من له عنده يد يكافئه بذلك فان هذا من العدل الواجب للناس بعضهم على بعض بمنزلة المعاوضة في المبايعة و المؤاجرة و هذا واجب لكل أحد على كل أحد فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعادلة فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج إن يجزيه لها فإنه يحتاج أن يعطيه مجازاة له على ذلك و هذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكى فانه في معاملته للناس يكافئهم دائما و يعاونهم و يجازيهم فحين أعطاه الله ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزىو فيه أيضا ما يبين أن التفضيل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجبات من المعاوضات كما قال تعالى و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو و من تكون عليه ديون و فروض و غير ذلك أداها و لا يقدم الصدقة على قضاء هذه الواجبات و لو فعل ذلك فهل ترد صدقته على قولين معروفين للفقهاء و هذه الآية يحتج بها من ترد صدقته لأن الله إنما أثنى على من اتى ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه إن يجزيها قبل إن يؤتي ماله يتزكى فإما إذا آتى ماله يتزكى قبل إن يجزيها لم يكن ممدوحا فيكون عمله مردودا لقوله عليه الصلاة والسلام من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد الثالث انه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ما نفعني مال كمال أبي بكر و قال إن أمن الناس علينا في صحبته و ذات يده أبو بكر بخلاف علي رضي الله عنه فإنه لم يذكر عنه النبي
(7/272)
صلى الله عليه و سلم شيئا من إنفاق المال و قد عرف إن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين في الله في أول الإسلام و فعل ذلك ابتغاء لوجه ربه الأعلى لم يفعل ذلك كما فعله أبو طالب الذي أعان النبي صلى الله عليه و سلم لأجل نسبه وقرابته لا لأجل الله تعالى و لا تقربا إليه و إن كان الأتقى اسم جنس فلا ريب انه يجب أن يدخل فيه اتقى الأمة و الصحابة خير القرون فأتقاها اتقى الأمة وأتقى الأمة إما أبو بكر وإما علي وإما غيرهما و الثالث منتف بالإجماع و علي إن قيل انه يدخل في هذا النوع لكونه بعد أن صار له مال اتى ماله يتزكى فيقال أبو بكر فعل ذلك في أول الإسلام وقت الحاجة إليه فيكون اكمل في الوصف الذي يكون صاحبه هو الأتقى و أيضا فالنبي صلى الله عليه و سلم إنما كان يقدم الصديق في المواضع التي لا تحتمل المشاركة كاستخلافه في الصلاة و الحج و مصاحبته وحده في سفر الهجرة و مخاطبته و تمكينه من الخطاب و الحكم والإفتاء بحضرته و رضاه بذلك إلى غير ذلك من الخصائص التي يطول وصفهاو من كان اكمل في هذا الوصف كان اكرم عند الله فيكون احب إليه فقد ثبت بالدلائل الكثيرة إن أبا بكر هو اكرم الصحابة في الصديقية و افضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون و من كان اكمل في ذلك كان افضل و أيضا فقد ثبت في النقل الصحيح عن علي انه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر و عمر و استفاض ذلك و تواتر عنه و توعد بجلد المفتري من يفضله عليه و روي عنه انه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه و سلم و لا ريب أن عليا لا يقطع بذلك إلا عن علم و أيضا فإن الصحابة اجمعوا على تقديم عثمان الذي عمر افضل منه و أبو بكر افضل منهما و هذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع و تقدم بعض ذلك و لكن ذكر هذا لنبين إن حديث الطير من الموضوعات.(7/273)
*فصل قال الرافضي التاسع ما رواه الجمهور انه أمر الصحابة بان يسلموا على علي بإمرة المؤمنين و قال انه سيد المسلمين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين و قال هذا ولي كل مؤمن بعدي و قال في حقه إن عليا مني و أنا منه أولى بكل مؤمن و مؤمنة فيكون علي وحده هو الإمام لذلك و هذه نصوص في الباب.
*والجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بإسناده و بيان صحته و هو لم يعزه إلى كتاب على عادته فإما قوله رواه الجمهور فكذب فليس هذا في كتب الأحاديث المعروفة لا الصحاح و لا المساند و لا السنن و غير ذلك فإن كان رواه بعض حاطبي الليل كما يروي أمثاله فعلم مثل هذا ليس بحجة يجب اتباعها باتفاق المسلمين و الله تعالى قد حرم علينا الكذب وأن نقول عليه ما لا نعلم و قد تواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
الوجه الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث و كل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتاب يعتمد عليه لا الصحاح و لا السنن و لا المساند المقبولة.
الثالث: أن هذا مما لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإن قائل هذا كاذب و النبي صلى الله عليه و سلم منزه عن الكذب و ذلك إن سيد المسلمين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين هو رسول الله صلى الله عليه و سلم باتفاق المسلمين فان قيل علي هو سيدهم بعده قيل ليس في لفظ الحديث ما يدل على هذا التأويل بل هو مناقض لهذا لأن افضل المسلمين المتقين المحجلين هم القرن الأول و لم يكن لهم على عهد النبي صلى الله عليه و سلم سيد و لا إمام(7/274)
و لا قائد غيره فكيف يخبر عن شيء بعد إن لم يحضر و يترك الخبر عما هو أحوج إليه و هو حكمهم في الحال ثم القائد يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن يقود علي و أيضا فعند الشيعة جمهور المسلمين المحجلين كفار أو فساق فلمن يقود و في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال وددت إني قد رأيت إخواني قالوا اولسنا إخوانك يا رسول الله قال انتم أصحابي و إخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله قال أرأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم إلا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء و أنا فرطهم على الحوض الحديث فهذا يبين إن كل من توضأ و غسل وجهه و يديه و رجليه فإنه من الغر المحجلين و هؤلاء جماهيرهم إنما يقدمون أبا بكر و عمر و الرافضة لا تغسل بطون أقدامها و لا أعقابها فلا يكونون من المحجلين في الأرجل و حينئذ فلا يبقى أحد من الغر المحجلين يقودهم و لا يقادون(7/275)
مع الغر المحجلين فإن الحجلة لا تكون إلا في ظهر القدم وإنما الحجلة في الرجل كالحجلة في اليد و قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ويل للأعقاب و بطون الأقدام من النار و معلوم إن الفرس لو لم يكن البياض إلا لمعة في يده أو رجله لم يكن محجلا و إنما الحجلة بياض اليد أو الرجل فمن لم يغسل الرجلين إلى الكعبين لم يكن من المحجلين فيكون قائد الغر المحجلين بريئا منه كائنا من كان ثم كون علي سيدهم و إمامهم و قائدهم بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم مما يعلم بالاضطرار انه كذب وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقل شيئا من ذلك بل كان يفضل عليه أبا بكر و عمر تفضيلا بينا ظاهرا عرفه الخاصة و العامة حتى أن المشركين كانوا يعرفون منه ذلك و لما كان يوم أحد قال أبو سفيان و كان حينئذ أمير المشركين أفي القوم محمد أفي القوم محمد ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه(7/276)
و سلم لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن آبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا تجيبوه فقال أبو سفيان لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه إن قال كذبت يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء و قد بقي لك ما يسوءك وقد ذكر باقي الحديث رواه البخاري و غيره فهذا مقدم الكفار إذ ذاك لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر و عمر لعلمه و علم الخاص و العام إن هؤلاء الثلاثة هم رؤوس هذا الأمر وأن قيامه بهم و دل ذلك على انه كان ظاهرا عند الكفار إن هذين وزيراه و بهما تمام أمره و أنها أخص الناس به و إن لهما من السعي في إظهار الإسلام ما ليس لغيرهما و هذا أمر كان معلوما للكفار فضلا عن المسلمين و الأحاديث الكثيرة متواترة بمثل هذا و كما في الصحيحين عن ابن عباس قال وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون له و يثنون عليه و يصلون عليه قبل إن يرفع و أنا فيهم فلم يرعني إلا برجل قد اخذ بمنكبي من ورائي فالتفت فإذا هو علي فترحم على عمر و قال ما خلفت أحدا(7/277)
احب إلي إن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن إن يجعلك الله مع صاحبيك و ذلك أني كثيرا ما كنت اسمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول جئت أنا و أبو بكر و عمر و دخلت أنا و أبو بكر و عمر و خرجت أنا و أبو بكر و عمر فإن كنت لأرجوا إن يجعلك الله معهما فلم يكن تفضيلهما عليه و على أمثاله مما يخفى على أحد و لهذا كانت الشيعة القدماء الذين أدركوا عليا يقدمون أبا بكر و عمر عليه إلا من الحد منهم و إنما كان نزاع من نازع منهم في عثمان و كذلك قوله هو ولي كل مؤمن بعدي كذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم بل هو في حياته و بعد مماته ولي كل مؤمن و كل مؤمن وليه في المحيا و الممات فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان وأما الولاية التي هي الإمارة فيقال فيها والي كل مؤمن بعدي كما يقال في صلاة الجنازة إذا اجتمع الولي و الوالي قدم الوالي في قول الأكثر و قيل يقدم الولي فقول القائل علي ولي كل مؤمن بعدي كلام يمتنع نسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإنه إن أراد الموالاة لم يحتج ان يقول بعدي و إن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقول وال على كل مؤمن و أما قوله لعلي أنت مني و أنا منك فصحيح في غير هذا الحديث ثبت انه قال له ذلك عام القضية لما تنازع هو و جعفر و زيد ابن حارثة في حضانة بنت حمزة فقضى النبي صلى الله عليه و سلم بها لخالتها و كانت تحت جعفر و قال الخالة أم و قال لجعفر أشبهت خلقي و خلقي و قال لعلي أنت مني و أنا منك و قال لزيد أنت أخونا و مولانا و في الصحيحين عنه انه قال إن الأشعريين إذا أرملوا في السفر أو نقصت نفقة عيالاتهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد فقسموه بينهم بالسوية هم مني و أنا منهم فقال للاشعريين هم مني و أنا منهم كما قال لعلي أنت مني و أنا منك و قال لجليبيب هذا مني و أنا منه فعلم إن هذه اللفظة لا تدل على الإمامة و لا على أن من قيلت له كان هو افضل الصحابة(7/278)
*فصل قال الرافضي العاشر ما رواه الجمهور من قول النبي صلى الله عليه و سلم إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله و عترتي أهل بيتي و لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. و قال أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق. و هذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته و علي سيدهم فيكون واجب الطاعة على الكل فيكون هو الإمام.
*والجواب من وجوه...
أحدها: أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فقال أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك ان يأتيني رسول ربي فأجيب ربي و إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب الله و استمسكوا به فحث على كتاب الله و رغب فيه ثم قال و أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي. و هذا اللفظ يدل على إن الذي امرنا بالتمسك به و جعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله.
وهكذا جاء في غير هذا الحديث كما في صحيح مسلم عن جابر في حجة الوداع لما خطب يوم عرفة وقال قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عنى فما انتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس اللهم اشهد ثلاث مرات.
وأما قوله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض فهذا رواه الترمذى وقد سئل عنه احمد بن حنبل فضعفه(7/279)
وضعفه غير واحد من أهل العلم، وقالوا لا يصح.
وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة قالوا ونحن نقول بذلك كما ذكر القاضي أبو يعلي وغيره ولكن أهل البيت لم يتفقوا ولله الحمد على شيء من خصائص مذهب الرافضة بل هم المبرؤون المنزهون عن التدنس بشيء منه.
وأما قوله مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح فهذا لا يعرف له إسناد لا صحيح ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها فإن كان قد رواه مثل من يروي أمثاله من حطاب الليل الذين يروون الموضوعات فهذا ما يزيده.
وهنا الوجه الثاني: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عترته أنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض وهو الصادق المصدوق فيدل على إن اجماع العترة حجة وهذا قول طائفة من أصحابنا وذكره القاضي في المعتمد لكن العترة هم بنو هاشم كلهم ولد العباس وولد علي وولد الحارث بن عبد المطلب وسائر بني أبي طالب وغيرهم وعلي وحده ليس هو العترة وسيد العترة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ذلك إن علماء العترة كابن عباس وغيره لم يكونوا يوجبون اتباع علي في كل ما يقوله ولا كان علي يوجب على الناس طاعته في(7/280)
كل ما يفتي به ولا عرف أن أحدا من أئمة السلف لا من بنى هاشم ولا غيرهم قال انه يجب اتباع علي في كل ما يقوله.
الوجه الثالث: أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته بل أئمة العترة كابن عباس وغيره يقدمون أبا بكر وعمر في الإمامة والأفضلية وكذلك سائر بنو هاشم من العباسيين والجعفريين واكثر العلويين وهم مقرون بإمامة أبي بكر وعمر وفيهم من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي واحمد وغيرهم أضعاف من فيهم من الإمامية.
والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين وتابعيهم من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما انهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر وكانوا يفضلونهما على علي والنقول عنهم ثابتة متواترة وقد صنف الحافظ أبو الحسن الدارقطني كتاب ثناء الصحابة على القرابة وثناء القرابة على الصحابة وذكر فيه من ذلك قطعة وكذلك كل من صنف من أهل الحديث في السنة مثل كتاب السنة لعبد الله ابن احمد و السنة للخلال و السنة لابن بطة والسنة للآجري واللالكائي والبيهقي وابن ذر الهروي والطلمنكي وابن حفص بن شاهين و أضعاف هؤلاء الكتب التي يحتج هذا بالعزو إليها مثل كتاب فضائل الصحابة للإمام احمد ولأبي نعيم وتفسير الثعلبي وفيها من(7/281)
ذكر فضائل الثلاثة ما هو من اعظم الحجج عليه فان كان هذا القدر حجة فهو حجة له وعليه و الا فلا يحتج به.
الوجه الرابع: إن هذا معارض بما هو أقوى منه وهو أن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع والعترة بعض الأمة فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة. وأفضل الأمة أبو بكر كما تقدم ذكره ويأتي وإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب اتباع قول أفضلها مطلقا وان لم يكن هو الإمام ثبت أن أبا بكر هو الإمام وإن لم يجب إن يكون الأمر كذلك بطل ما ذكروه في إمامة علي فنسبة آبي بكر إلى جميع الأمة بعد نبيها كنسبة علي إلى العترة بعد نبيها على قول هذا.
*فصل قال الرافضي الحادي عشر ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته روى احمد بن حنبل في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اخذ بيد حسن وحسين فقال من احبني وأحب هذين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة. وروى ابن خالويه عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من احب إن يتمسك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده ثم قال لها كوني فكانت فليتول علي بن أبي طالب من بعدي وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي حبك إيمان وبغضك نفاق و أول من يدخل الجنة محبك و أول من يدخل النار مبغضك وقد جعلك الله أهلا لذلك فأنت مني وأنا منك ولا نبي بعدي وعن شقيق بن سلمة عن عبد الله قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو اخذ بيد علي وهو يقول هذا وليي وأنا وليه عاديت من عادى وسالمت من سالم وروى اخطب خوارزم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءني جبريل من(7/282)
عند الله بورقة خضراء مكتوب فيها ببياض إني قد افترضت محبة علي على خلقي فبلغهم ذلك عني والأحاديث في ذلك لا تحصى كثرة من طرق المخالفين وهي تدل على أفضليته واستحقاقه للإمامة.
*والجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بتصحيح النقل وهيهات له بذلك و أما قوله رواه احمد فيقال أولا احمد له المسند المشهور وله كتاب مشهور في فضائل الصحابة روى فيه أحاديث لا يرويها في المسند لما فيها من الضعف لكونها لا تصلح إن تروى في المسند لكونها مراسيل أو ضعافا بغير الإرسال ثم إن هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات ثم إن القطيعى الذي رواه عن ابنه عبد الله زاد عن شيوخه زيادات وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة وهذا الرافضي وأمثاله من شيوخ الرافضة جهال فهم ينقلون من هذا المصنف فيظنون إن كل ما رواه القطيعي أو عبد الله قد رواه احمد نفسه ولا يميزون بين شيوخ احمد وشيوخ القطيعي ثم يظنون إن احمد إذا رواه فقد رواه في المسند فقد رأيتهم في كتبهم يعزون إلى مسند احمد أحاديث ما سمعها احمد قط كما فعل ابن البطريق وصاحب الطرائف منهم وغيرهما بسبب هذا الجهل منهم وهذا غير ما يفترونه من الكذب فان الكذب كثير منهم وبتقدير إن يكون احمد روى الحديث فمجرد رواية احمد لا توجب إن يكون صحيحا يجب العمل به بل الإمام احمد روى أحاديث كثيرة ليعرف ويبين للناس ضعفها وهذا في كلامه وأجوبته اظهر وأكبر من أن يحتاج إلى بسط لا سيما في مثل هذا الأصل العظيم مع إن هذا الحديث الأول من زيادات القطيعي رواه عن نصر بن علي الجهضمي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر والحديث الثاني ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وبين انه موضوع وأما رواية ابن خالويه فلا تدل على إن هذا الحديث صحيح(7/283)
باتفاق أهل العلم وكذلك رواية خطيب خوارزم فان في روايته من الأكاذيب المختلفة ما هو من اقبح الموضوعات باتفاق أهل العلم.
الوجه الثاني: إن هذه الأحاديث التي رواها ابن خالويه كذب موضوعة عند أهل الحديث و أهل المعرفة يعلمون علما ضروريا يجزمون به إن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه ليست في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها علماء الحديث لا الصحاح ولا المساند ولا السنن ولا المعجمات ولا نحو ذلك من الكتب.
الثالث: إن من تدبر ألفاظها تبين له أنها مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله من احب أن يتمسك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده ثم قال لها كوني فكانت فهذه من خرافات الحديث وكأنهم لما سمعوا إن الله خلق آدم بيده من تراب ثم قال له كن فكان قاسوا هذه الياقوتة على خلق آدم و آدم خلق من تراب ثم قال له كن فكان فصار حيا بنفخ الروح فيه فإما هذا القصب فبنفس خلقه كمل ثم لم يكن له بعد هذا حال يقال له فيها كن ولم يقل أحد من أهل العلم إن الله خلق بيده ياقوتة بل قد روي في عدة آثار إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء آدم والقلم وجنة عدن(7/284)
ثم قال لسائر خلقه كن فكان فلم يذكر فيها هذه الياقوتة ثم أي عظيم في إمساك هذه الياقوتة حتى يجعل على هذا وعدا عظيما و كذلك قوله أول من يدخل النار مبغضك فهل يقول مسلم إن الخوارج يدخلون النار قبل أبي جهل بن هشام و فرعون وأبي لهب و أمثالهم من المشركين و كذلك قوله أول من يدخل الجنة محبك فهل يقول عاقل إن الأنبياء و المرسلين سبب دخولهم الجنة أولا هو حب علي دون حب الله و رسوله و سائر الأنبياء و رسله و حب الله و رسله ليس هو السبب في ذلك و هل تعلق السعادة و الشقاوة بمجرد حب علي دون حب الله و رسوله إلا كتعلقها بحب أبي بكر و عمر و عثمان و معاوية رضي الله عنهم فلو قال قائل من احب عثمان و معاوية دخل الجنة و من ابغضهما دخل النار كان هذا من جنس قول الشيعة.
*فصل قال الرافضي الثاني عشر روى اخطب خوارزم بإسناده عن أبي ذر الغفاري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من ناصب عليا الخلافة فهو في كافر و قد حارب الله و رسوله و من شك في علي فهو كافر وعن انس قال كنت عند النبي صلى الله عليه و سلم فرأي عليا مقبلا فقال أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة و عن معاوية بن حيدة القشيري قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول لعلي من مات و هو يبغضك مات يهوديا أو نصرانيا.
*و الجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بتصحيح النقل و هذا على سبيل التنزل فإن مجرد رواية الموفق خطيب خوارزم لا تدل على أن الحديث ثابت قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم و هذا لو لم يعلم ما في الذي جمعه من الأحاديث من الكذب و الفرية فأما من تأمل ما في جمع هذا الخطيب فإنه يقول سبحانك هذا بهتان عظيم.
الثاني: إن كل من له معرفة بالحديث يشهد أن هذه الأحاديث كذب مفتراة على رسول الله صلى الله عليه و سلم.(7/285)
الثالث: أن هذه الأحاديث إن كانت مما رواها الصحابة و التابعون فأين ذكرها بينهم و من الذي نقلها عنهم و في أي كتاب وجد انهم رووها و من كان خبيرا بما جرى بينهم علم بالاضطرار إن هذه الأحاديث مما ولدها الكذابون بعدهم وأنها مما عملت أيديهم.
الوجه الرابع: إن يقال علمنا بان المهاجرين والأنصار كانوا مسلمين يحبون الله و رسوله و إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحبهم و يتولاهم اعظم من علمنا بصحة شيء من هذه الأحاديث و إن أبا بكر الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف يجوز أن يرد ما علمناه بالتواتر المتيقن بأخبار هي اقل و أحقر من إن يقال لها أخبار آحاد لا يعلم لها ناقل صادق بل أهل العلم بالحديث متفقون على أنها من اعظم المكذوبات ولهذا لا يوجد منها شيء في كتب الأحاديث المعتمدة بل أئمة الحديث كلهم يجزمون بكذبها.
الوجه الخامس: إن القران يشهد في غير موضع برضا الله عنهم و ثنائه عليهم كقوله تعالى و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه(7/286)
و قوله لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح و قاتل أولئك اعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى و قوله محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا و قوله لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يباعيونك تحت الشجرة و قوله للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و أمثال ذلك فكيف يجوز إن يرد ما علمنا دلالة القران عليه يقينا بمثل هذه الأخبار المفتراة التي رواها من لا يخاف مقام ربه و لا يرجو لله وقارا.
الوجه السادس: أن هذه الأحاديث تقدح في علي و توجب انه كان مكذبا بالله و رسوله فيلزم من صحتها كفر الصحابة كلهم هو و غيره أما الذين ناصبوه الخلافة فإنهم في هذا الحديث المفترى كفار و أما علي فإنه لم يعمل بموجب هذه النصوص بل كان يجعلهم مؤمنين مسلمين و شر من قاتلهم علي هم الخوارج و مع هذا فلم يحكم فيهم بحكم الكفار بل حرم أموالهم و سبيهم و كان يقول لهم قبل قتالهم إن لكم علينا إن لا نمنعكم مساجدنا و لا حقكم من فيئنا و لما قتله ابن(7/287)
ملجم قال إن عشت فأنا ولي دمي و لم يجعله مرتدا بقتله و أما أهل الجمل فقد تواتر عنه انه نهى عن أن يتبع مدبرهم وأن يجهز على جريحهم وأن يقتل أسيرهم وأن تغنم أموالهم وأن تسبى ذراريهم فإن كان هؤلاء كفارا بهذه النصوص فعلي أول من كذب بها فيلزمهم ان يكون علي كافرا و كذلك أهل صفين كان يصلي على قتلاهم ويقول إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف و لو كانوا عنده كفارا لما صلى عليهم و لا جعلهم إخوانه و لا جعل السيف طهرا لهم و بالجملة نحن نعلم بالاضطرار من سيرة علي رضي الله عنه انه لم يكن يكفر الذين قاتلوه بل و لا جمهور المسلمين و لا الخلفاء الثلاثة و لا الحسن و لا الحسين كفروا أحدا من هؤلاء و لا علي بن الحسين و لا أبو جعفر فإن كان هؤلاء كفارا فأول من خالف النصوص علي و أهل بيته و كان يمكنهم إن يفعلوا ما فعلت الخوارج فيعتزلوا بدار غير دار الإسلام و إن عجزوا عن القتال و يحكموا على أهل دار الإسلام بالكفر و الردة كما يفعل ذلك كثير من شيوخ الرافضة و كان الواجب
(7/288)
على علي إذا رأى أن الكفار لا يؤمنون أن يتخذ له و لشيعته دار غير أهل الردة و الكفر و يباينهم كما باين المسلمون لمسيلمة الكذاب و أصحابه و هذا نبي الله صلى الله عليه و سلم كان بمكة هو و أصحابه في غاية الضعف و مع هذا فكانوا يباينون الكفار و يظهرون مباينتهم بحيث يعرف المؤمن من الكافر و كذلك هاجر من هاجر منهم إلى ارض الحبشة مع ضعفهم و كانوا يباينون النصارى و يتكلمون بدينهم قدام النصارى و هذه بلاد الإسلام مملوءة من اليهود و النصارى و هم مظهرون لدينهم متحيزون عن المسلمين فان كان كل من يشك في خلافة علي كافرا عنده و عند أهل بيته و ليس بمؤمن عندهم إلا من اعتقد انه الإمام المعصوم بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و من لم يعتقد ذلك فهو مرتد عند علي و أهل بيته فعلي أول من بدل الدين و لم يميز المؤمنين من الكافرين و لا المرتدين من المسلمين و هب انه كان عاجزا عن قتالهم و إدخالهم في طاعته فلم يكن عاجزا عن مباينتهم ولم يكن اعجز من الخوارج الذين هم شرذمة قليلة من عسكره و الخوارج اتخذوا لهم دارا غير دار الجماعة و باينوهم كما كفروهم و جعلوا أصحابهم هم المؤمنين
(7/289)
و كيف كان يحل للحسن إن يسلم أمر المسلمين إلى من هو عنده من المرتدين شر من اليهود و النصارى كما يدعون في معاوية و هل يفعل هذا من يؤمن بالله و اليوم الآخر وقد كان الحسن يمكنه إن يقيم بالكوفة ومعاوية لم يكن بدأه بالقتال وكان قد طلب منه ما أراد فلو قام مقام أبيه لم قاتله معاوية وأين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في فضل الحسن إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فإن كان علي و أهل بيته والحسن منهم يقولون لم يصلح الله به بين المؤمنين والمرتدين فهذا قدح في الحسن وفي جده الذي أثنى على الحسن إن كان الأمر كما يقوله الرافضة فتبين إن الرافضة من اعظم الناس قدحا وطعنا في أهل البيت وأنهم هم الذين عادوا أهل البيت في نفس الأمر ونسبوهم إلى اعظم المنكرات التي من فعلها كان من الكفار وليس هذا ببدع من جهل الرافضة و حماقاتهم ثم إن الرافضة تدعي أن الإمام المعصوم لطف من الله بعباده ليكون ذلك ادعى إلى إن يطيعوه فيرحموا وعلى ما قالوه فلم يكن على أهل الأرض نقمة اعظم من علي فإن الذين خالفوه وصاروا مرتدين كفارا والذين وافقوه أذلاء مقهورين تحت النقمة لا يد ولا لسان وهم مع
(7/290)
ذلك يقولون إن خلقه مصلحة ولطف وان الله يجب عليه أن يخلقه وإنه لا تتم مصلحة العالم في دينهم ودنياهم إلا به وأي صلاح في ذلك على قول الرافضة ثم انهم يقولون إن الله يجب عليه ان يفعل اصلح ما يقدر عليه للعباد في دينهم و دنياهم و هو يمكن الخوارج الذين يكفرون به بدار لهم فيها شوكة و من قتال أعدائهم و يجعلهم هم و الأئمة المعصومين في ذل اعظم من ذل اليهود و النصارى و غيرهم من أهل الذمة فإن أهل الذمة يمكنهم إظهار دينهم و هؤلاء الذين يدعي انهم حجج الله على عباده و لطفه في بلاده وأنه لا هدى إلا بهم و لا نجاة إلا بطاعتهم و لا سعادة إلا بمتابعتهم قد غاب خاتمتهم من اكثر من أربعمائة و خمسين سنة فلم ينتفع به أحد في دينه و لا دنياه و هم لا يمكنهم إظهار دينهم كما تظهر اليهود و النصارى دينهم و لهذا ما زال أهل العلم يقولون إن الرفض من إحداث الزنادقة الملاحدة الذين قصدوا إفساد الدين دين الإسلام و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون فإن منتهى أمرهم تكفير علي و أهل بيته بعد أن كفروا الصحابة و الجمهور
(7/291)
و لهذا كان صاحب دعوى الباطنية الملاحدة رتب دعوته مراتب أول ما يدعو المستجيب إلى التشيع ثم إذا طمع فيه قال له علي مثل الناس و دعاه إلى القدح في علي أيضا ثم إذا طمع فيه دعاه إلى القدح في الرسول ثم إذا طمع فيه دعاه إلى إنكار الصانع هكذا ترتيب كتابهم الذي يسمونه البلاغ الأكبر و الناموس الأعظم و واضعه الذي أرسل به إلى القرمطي الخارج بالبحرين لما استولى على مكة و قتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود و استحلوا المحارم وأسقطوا الفرائض و سيرتهم مشهورة عند أهل العلم و كيف يقول النبي صلى الله عليه و سلم من مات و هو يبغض عليا مات يهوديا أو نصرانيا و الخوارج كلهم تكفره و تبغضه و هو نفسه لم يكن يجعلهم مثل اليهود و النصارى بل يجعلهم من المسلمين أهل القبلة و يحكم فيهم بغير ما يحكم به بين اليهود و النصارى و كذلك من كان يسبه و يبغضه من بني أمية وأتباعهم فكيف يكون من يصلي الصلوات و يصوم شهر رمضان و يحج البيت و يؤدي الزكاة مثل اليهود و النصارى و غايته إن يكون قد خفي عليه كون هذا إماما أو عصاه بعد معرفته و كل أحد يعلم أن أهل الدين و الجمهور ليس لهم غرض مع علي و لا لأحد منهم غرض في تكذيب الرسول وأنهم لو علموا أن الرسول جعله إماما كانوا اسبق الناس إلى التصديق بذلك
(7/292)
و غاية ما يقدر انهم خفي عليهم هذا الحكم فكيف يكون من خفي عليه جزء من الدين مثل اليهود و النصارى و ليس المقصود هنا الكلام في التكفير بل التنبيه على أن هذه الأحاديث مما يعلم بالاضطرار أنها كذب على النبي صلى الله عليه و سلم و أنها مناقضة لدين الإسلام و أنها تستلزم تكفير علي و تكفير من خالفه وأنه لم يقلها من يؤمن بالله و اليوم الآخر فضلا عن أن تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم بل إضافتها و العياذ بالله إلى رسول الله من اعظم القدح و الطعن فيه و لا شك أن هذا فعل زنديق ملحد لقصد إفساد دين الإسلام فلعن الله من افتراها و حسبه ما وعده به الرسول حيث قال من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
*فصل قال الرافضي قالت الامامية إذا رأينا المخالف لنا يورد مثل هذه الأحاديث و نقلنا نحن أضعافها عن رجالنا الثقات وجب علينا المصير إليها و حرم العدول عنها.(7/293)
*و الجواب إن يقال لا ريب أن رجالكم الذين وثقتموهم غايتهم أن يكونوا من جنس من يروي هذه الأحاديث من الجمهور فإذا كان أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن هؤلاء كذابون، وأنتم اكذب منهم وأجهل، حرم عليكم العمل بها و القضاء بموجبها.
والاعتراض على هذا الكلام من وجوه...
أحدها: إن يقال لهؤلاء الشيعة من أين لكم أن الذين نقلوا هذه الأحاديث في الزمان القديم ثقات وأنتم لم تدركوهم و لم تعلموا أحوالهم و لا لكم كتب مصنفة تعتمدون عليها في أخبارهم التي يميز بها بين الثقة و غيره و لا لكم أسانيد تعرفون رجالها بل علمكم بكثير مما في أيديكم شر من علم كثير من اليهود و النصارى بما في أيديهم بل أولئك معهم كتب وضعها لهم هلال و شماس وليس عند جمهورهم ما يعارضها وأما انتم فجمهور المسلمين دائما يقدحون في روايتكم و يبينون كذبكم وأنتم ليس لكم علم بحالهم ثم قد علم بالتواتر الذي لا يمكن حجبه كثرة الكذب و ظهوره في الشيعة من زمن علي و إلى اليوم وأنتم تعلمون أن أهل الحديث يبغضون الخوارج و يروون فيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة و قد روى البخاري(7/294)
بعضها مسلم عشرة منها و أهل الحديث متدينون بما صح عندهم عن النبي صلى الله عليه و سلم و مع هذا فلم يحملهم بغضهم للخوارج على الكذب عليهم بل جربوهم فوجدوهم صادقين وأنتم يشهد عليكم أهل الحديث و الفقهاء و المسلمون و التجار و العامة و الجند و كل من عاشركم و جربكم قديما و حديثا إن طائفتكم اكذب الطوائف و إذا وجد فيها صادق فالصادق في غيرها اكثر و إذا وجد في غيرها كاذب فالكاذب فيها اكثر و لا يخفى هذا على عاقل منصف و أما من اتبع هواه فقد اعمى الله قلبه و من يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا و هذا الذي ذكرناه معروف عند أهل العلم قديما و حديثا كما قد ذكرنا بعض أقوالهم حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك الدين لأهل الحديث و الكذب للرافضة و الكلام للمعتزلة و الحيل لأهل الرأي أصحاب فلان و سوء التدبير لآل أبي فلان وهو كما قال فإن الدين هو ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم وأعلم الناس به أعلمهم بحديثه و سنته و أما الكلام فأشهر الطوائف به هم المعتزلة و لهذا كانوا اشهر الطوائف بالبدع عند الخاصة و أما الرافضة فهم المعروفون بالبدعة عند الخاصة و العامة حتى أن اكثر العامة لا تعرف في مقابلة الشيء إلا الرافضي لظهور
(7/295)
مناقضتهم لما جاء به الرسول عليه السلام عند الخاصة و العامة فهم عين على ما جاء به حتى الطوائف الذين ليس لهم من الخبرة بدين الرسول ما لغيرهم إذا قالت لهم الرافضة نحن مسلمون يقولون انتم جنس آخر و لهذا الرافضة يوالون أعداء الدين الذين يعرف كل أحد معاداتهم من اليهود و النصارى و المشركين مشركي الترك و يعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين و سادات المتقين و هم الذين أقاموه و بلغوه و نصروه و لهذا كان الرافضة من اعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد الإسلام و أما قصة الوزير ابن العلقمي و غيره كالنصير الطوسي مع الكفار و ممالأتهم على المسلمين فقد عرفها الخاصة والعامة و كذلك من كان منهم بالشام ظاهروا المشركين على المسلمين و عاونوهم معاونة عرفها الناس و كذلك لما انكسر عسكر المسلمين لما قدم غازان ظاهروا الكفار النصارى و غيرهم من أعداء المسلمين و باعوهم أولاد المسلمين بيع العبيد و أموالهم و حاربوا المسلمين محاربة ظاهرة و حمل بعضهم راية الصليب و هم كانوا من اعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديما على بيت المقدس حتى استنقذه المسلمون منهم
(7/296)
و قد دخل فيهم اعظم الناس نفاقا من النصيرية و الإسماعيلية و نحوهم ممن هو اعظم كفرا في الباطن و معاداة لله و رسوله من اليهود و النصارى فهذه الأمور و أمثالها مما هي ظاهرة مشهورة يعرفها الخاصة و العامة توجب ظهور مباينتهم للمسلمين و مفارقتهم للدين و دخولهم في زمرة الكفار و المنافقين حتى يعدهم من رأى أحوالهم جنسا آخر غير جنس المسلمين فإن المسلمين الذين يقيمون دين الإسلام في الشرق و الغرب قديما و حديثا هم الجمهور و الرافضة ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام و نقض عراه و إفساد قواعده و القدر الذي عندهم من الإسلام إنما قام بسبب قيام الجمهور به و لهذا قراءة القرآن فيهم قليلة و من يحفظه حفظا جيدا فإنما تعلمه من أهل السنة و كذلك الحديث إنما يعرفه و يصدق فيه و يؤخذ عن أهل السنة و كذلك الفقه و العبادة و الزهد و الجهاد و القتال إنما هو لعساكر أهل السنة و هم الذين حفظ الله بهم الدين علما و عملا بعلمائهم و عبادهم و مقاتليهم و الرافضة من اجهل الناس بدين الإسلام و ليس للإنسان منهم شيء يختص به إلا ما يسر عدو الإسلام و يسوء وليه فأيامهم في الإسلام
(7/297)
كلها سود وأعرف الناس بعيوبهم و ممادحهم أهل السنة لا تزال تطلع منهم على أمور غيرها عرفتها كما قال تعالى في اليهود و لا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم و لو ذكرت بعض ما عرفته منهم بالمباشرة و نقل الثقات و ما رايته في كتبهم لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير و هم الغاية في الجهل و قلة العقل يبغضون من الأمور ما لا فائدة لهم في بغضه ويفعلون من الأمور ما لا منفعة لهم فيه إذا قدر انهم على حق مثل نتف النعجة حتى كأن لهم عليها ثأرا كأنهم ينتفون عائشة و شق جوف الكبش كأنهم يشقون جوف عمر فهل فعل هذا أحد من طوائف المسلمين بعدوه غيرهم و لو كان مثل هذا مشروعا لكان بأبي جهل و أمثاله أولى و مثل كراهتهم للفظ العشرة لبغضهم للرجال العشرة و قد ذكر الله لفظ العشرة في غير موضع من القرآن كقوله و الفجر و ليال عشر و قوله و أتممناها بعشر تلك عشرة كاملة
(7/298)
و أما التسعة فذكرها في معرض الذم كقوله و كان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض و لا يصلحون فهل كره المسلمون التكلم بلفظ التسعة لأجل أولئك التسعة و هم يختارون التكلم بلفظ التسعة على لفظ العشرة و كذلك كراهيتهم لأسام سمي بها من يبغضونه و قد كان من الصحابة من تسمي بأسماء تسمى بها عدو الإسلام مثل الوليد الذي هو الوحيد و كان ابنه من خيار المسلمين و اسمه الوليد و كان النبي صلى الله عليه و سلم يقنت له في الصلاة و يقول اللهم نج الوليد بن الوليد كما رواه أهل الصحيحين و مثل آبي بن خلف الذي قتله النبي صلى الله عليه و سلم و في المسلمين آبي بن كعب و غيره و مثل عمرو بن ود العامري و في الصحابة عمرو بن أمية و عمرو بن العاص و مثل هذا كثير و لم يغير النبي صلى الله عليه و سلم اسم رجل من الصحابة لكون كافر سمي به فلو قدر كفر من يبغضونه لكان كراهتهم لمثل أسمائهم في غاية الجهل مع إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعوهم بها و يقال لهم كل من جرب من أهل العلم و الدين الجمهور علم انهم
(7/299)
لا يرضون بالكذب و لو وافق أغراضهم فكم يروون لهم في فضائل الخلفاء الثلاثة و غيرها أحاديث بأسانيد خير من أسانيد الشيعة و يرويها مثل ابي نعيم و الثعلبي و آبي بكر النقاش و الاهوازي و ابن عساكر و أمثال هؤلاء و لا يقبل علماء الحديث منها شيئا بل إذا كان الراوي عندهم مجهولا توقفوا في روايته و أما انتم معاشر الرافضة فقد رأيناكم تقبلون كل ما يوافق رأيكم و أهواءكم لا تردون غثا و لا سمينا و يقال لكم إذا كان عند الجمهور من الأحاديث الصحيحة المعروفة عند من يعلم المسلمون كلهم صدقة و علمه و أنتم ممن يعلم ذلك أحاديث متلقاة بالقبول بل متواترة توجب العلم الضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب تناقض هذه الأدلة التي رواها طائفة مجهولة أو معروفة بالكذب منكم ومن الجمهور فهل يمكن أن يدفع الناس ما علموه بالضرورة و ما علموه مستفيضا بنقل الثقات الإثبات الذين يعرف صدقهم و ضبطهم هل يمكن دفع هذا بمثل هذه الروايات المسيبة التي لا زمام لها و لا خطام و لو روى رجل إن الصلوات كانت اكثر من خمس و إن الصوم الواجب شهران و إن على المسلمين حج بيت آخر هل كان الطريق إلى تكذيب هذا إلا من جنس الطريق إلى تكذيبهم و قد نبهنا في هذا الرد على طرق مما به يعلم كذب ما يعتمدون عليه
(7/300)
غير طرق أهل الحديث وبينا كذبهم تارة بالعقل وتارة بما علم بالقران وتارة بما علم بالتواتر وتارة بما اجمع الناس كلهم عليه ومن المعلوم إن الأخبار المخالفة للقران والتواتر والإجماع والمخالفة للعقل يعلم بطلانها وهذا من جملة الطرق التي يعلم بها طرق ما يناقضون به مذهب أهل السنة من الأخبار وهم لا يعتمدون في أدلتهم إلا على أحد ثلاثة أشياء أما نقل كاذب و أما دلالة مجملة مشبهة و أما قياس فاسد وهذا حال كل من احتج بحجة فاسدة نسبها إلى الشريعة فان عمدته أما نص و أما قياس والنص يحتاج إلى صحة الإسناد ودلالة المتن فلا بد إن يكون النص ثابتا عن الرسول ولا بد إن يكون دالا على المطلوب والحجج الباطلة السمعية أما نقل كاذب و أما نقل صحيح لا يدل و أما قياس فاسد وليس للرافضة وغيرهم من أهل الباطل حجة سمعية إلا من هذا الجنس وقولنا نقل يدخل فيه كلام الله ورسوله وكلام أهل الإجماع عند من يحتج به فان الرافضة لا تحتج بالإجماع و الأفعال والإقرار و الإمساك يجري مجرى ذلك.(7/301)
*فصل واعلم انه ليس كل أحد من أهل النظر والاستدلال خبيرا بالمنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها وصوابها وخطئها فضلا عن العامة وقد علم من حيث الجملة إن المنقول منه صدق ومنه كذب وليس لهم خبرة أهل المعرفة علماء الحديث فهؤلاء يحتاجون في الاستدلال على الصدق والكذب إلى طرق أخرى والله سبحانه الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى الذي اخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة يهدي من يشاء من عباده بما تيسر له من الأدلة التي تبين له الحق من الباطل والصدق من الكذب كما في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ولهذا تنوعت الطرق التي بها يعلم الصدق من الكذب حتى في أخبار المخبر عن نفسه بأنه رسول الله وهو دعوى النبوة فالطرق التي يعلم بها صدق الصادق وكذب المتنبئ الكذاب كثيرة متنوعة كما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع وكذلك بما يعلم به صدق المنقول عن الرسول وكذبه يتعدد ويتنوع وكذلك ما به يعلم صدق الذين حملوا العلم فان أهل العلم يعلمون صدق مثل مالك والثوري وشعبة ويحيى(7/302)
ابن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي واحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وأبي داود و أمثال هؤلاء علما يقينا يجزمون بانهم لا يتعمدون الكذب في الحديث ويعلمون كذب محمد بن سعيد المصلوب وأبي البختري القاضي واحمد بن عبد الله الجويباري وعتاب بن إبراهيم بن عتاب وأبي داود النخعي ونحوهم ممن يعلمون انهم يتعمدون الكذب و أما الخطأ فلا يعصم من الإقرار عليه إلا نبي لكن أهل الحديث يعلمون إن مثل الزهري والثوري ومالك ونحوهم من اقل الناس غطا في أشياء خفيفة لا تقدح في مقصود الحديث ويعرفون رجالا دون هؤلاء يغلطون أحيانا والغالب عليهم الحفظ والضبط ولهم دلائل يستدلون بها على غلط الغالط ودون هؤلاء قوم كثير غلطهم فهؤلاء لا يحتجون بهم إذا انفردوا لكن يعتبرون بحديثهم ويستشهدون به بمعنى انهم ينظرون فيما رووه هل رواه غيرهم فإذا تعددت الطرق واللفظ واحد مع العلم بانهم لم يتواطأ ولا يمكن في العادة اتفاق الخطأ في مثل ذلك كان هذا مما يدلهم على صدق الحديث ولهذا قال احمد اكتب حديث الرجل لاعتبر به مثل ابن لهيعة ونحوه فانه كان عالما دينا قاضيا لكن احترقت كتبه فصار يحدث بعد
(7/303)
ذلك بأشياء دخل فيها غلط لكن اكثر ذلك صحيح يوافقه عليها الثقات كالليث و امثاله و اهل الحديث يعلمون صدق متون الصحيحين ويعلمون كذب الأحاديث الموضوعة التي يجزمون بأنها كذب بأسباب عرفوا بها ذلك من شركهم فيها علم ما علموه ومن لم يشركهم لم يعلم ذلك كما إن الشهود الذين يتحملون الشهادة ويؤدونها يعرف من جربهم وخبرهم وصدق صادقهم وكذب كاذبهم و كذلك أهل المعاملات في البيع و الإجارة يعلم من جربهم و خبرهم صادقهم و كاذبهم و امينهم و خائنهم و كذلك الأخبار قد يعلم الناس صدق بعضها و كذب بعضها و يشكون في بعضها و باب المعرفة بأخبار النبي صلى الله عليه و سلم و أقواله و أفعاله و ما ذكره من توحيد و أمر و نهي و وعد و وعيد و فضائل لأعمال أو لأقوام أو أمكنة أو أزمنة و مثالب لمثل ذلك اعلم الناس به أهل العلم بحديثه الذين اجتهدوا في معرفة ذلك و طلبه من وجوهه و علموا أحوال نقلة ذلك و أحوال الرسول صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة و جمعوا بين رواية هذا و هذا و هذا فعلموا صدق الصادق و غلط الغالط و كذب الكاذب و هذا علم أقام الله له من حفظ به على الأمة ما حفظ من دينها و غير
(7/304)
هؤلاء لهم تبع فيه أما مستدل بهم و أما مقلد لهم كما إن الاجتهاد في الأحكام أقام الله له رجالا اجتهدوا فيه حتى حفظ الله بهم على الأمة ما حفظ من الدين و غيرهم لهم تبع فيه أما استدل بهم و أما مقلد لهم مثال ذلك إن خواص أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم اعلم به ممن هو دونهم في الاختصاص مثل آبي بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و عبد الرحمن بن عوف و سعد و آبي بن كعب و معاذ بن جبل و ابن مسعود و بلال و عمار بن ياسر و آبي ذر الغفاري و سلمان و آبي الدرداء و آبي أيوب الأنصاري و عبادة بن الصامت و حذيفة وأبي طلحة و أمثال هؤلاء من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم اكثر اختصاصا به ممن ليس مثلهم لكن قد يكون بعض الصحابة أحفظ وأفقه من غيره وان كان غيره أطول صحبة وقد يكون اكثر مما اخذ عن غيره أيظا أخذ عن بعضهم من العلم لطول عمره وان كان غيره اعلم منه كما اخذ عن آبي هريرة وابن عمر وابن عباس وعائشة وجابر وأبي سعيد من الحديث اكثر مما اخذ عمن هو افضل منهم كطلحة والزبير ونحوهم و اما الخلفاء الأربعة فلهم في تبليغ كليات الدين ونشر أصوله واخذ الناس ذلك عنهم ما ليس لغيرهم وان كان يروى عن صغار الصحابة
(7/305)
من الأحاديث المفردة اكثر مما يروى عن بعض الخلفاء فالخلفاء لهم عموم التبليغ وقوته التي لم يشركهم فيها غيرهم ثم لما قاموا بتبليغ ذلك شاركهم فيه غيرهم فصار متواترا كجمع آبي بكر وعمر القران في الصحف ثم جمع عثمان له في المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار فكان الاهتمام بجمع القران وتبليغه أهم مما سواه وكذلك تبليغ شرائع الإسلام إلى أهل الأمصار ومقاتلتهم على ذلك واستنابتهم في ذلك الأمراء والعلماء وتصديقهم لهم فيما بلغوه عن الرسول فبلغ من أقاموه من أهل العلم حتى صار الدين منقولا نقلا عاما متواترا ظاهرا معلوما قامت به الحجة ووضحت به المحجة وتبين به إن هؤلاء كانوا خلفاءه المهديين الراشدين الذين خلفوه في أمته علما وعملا وهو صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى في حقه والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فهو ما ضل وما غوى وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين قال فيهم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ فانهم خلفوه في ذلك فانتفى عنهم بالهدى الضلال وبالرشد الغي
(7/306)
وهذا هو الكمال في العلم والعمل فان الضلال عدم العلم والغي اتباع الهوى ولهذا امرنا الله تعالى إن نقول في صلاتنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقال النبي صلى الله عليه وسلم اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون فالمهتدي الراشد الذي هداه الله الصراط المستقيم فلم يكن من أهل الضلال الجهال ولا من أهل الغي المغضوب عليهم والمقصود هنا إن بعض الصحابة اعلم بالرسول من بعض وبعضهم اكثر تبليغا لما علمه من بعض ثم قد يكون عند المفضول علم قضية معينة لم يعلمها الأفضل فيستفيدها منه ولا يوجب هذا ذلك إن يكون هذا اعلم منه مطلقا ولا إن هذا الأعلم يتعلم من ذلك المفضول ما امتاز به ولهذا كان الخلفاء يستفيدون من بعض الصحابة علما لم يكن عندهم كما استفاد أبو بكر رضي الله عنه علم ميراث الجدة من محمد ابن مسلمة والمغيرة بن شعبة واستفاد عمر رضي الله عنه علم دية
(7/307)
الجنين والأستأذان وتوريث المرأة من دية زوجها وغير ذلك من غيره واستفاد عثمان رضي الله عنه حديث مقام المتوفى عنها في بيتها حتى يبلغ الكتاب اجله من غيره واستفاد علي رضي الله عنه حديث صلاة التوبة من غيره وقد يخفى ذلك العلم عن الفاضل حتى يموت ولم يعلمه ويبلغه من هو دونه وهذا كثير ليس هذا موضعه لكن المقصود إن نبين طرق العلم فالصحابة الذين اخذ الناس عنهم العلم بعد الخلفاء الأربعة مثل آبي بن كعب وابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وحذيفة وعمران بن حصين وأبي موسى وسلمان وعبد الله بن سلام و أمثالهم وبعد هؤلاء مثل عائشة وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد وجابر وغيرهم ومن التابعين مثل الفقهاء وغيرهم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعلي بن الحسين وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن اليسار ومثل علقمة والاسود وشريح القاضي وعبيدة السلماني والحسن البصري ومحمد بن سيرين و أمثالهم ثم من بعد هؤلاء مثل الزهري و قتادة ويحيى بن آبي كثير
(7/308)
و مكحول الشامي و أيوب السختياني و يحيى بن سعيد الأنصاري و يزيد بن أبي حبيب المصري و أمثالهم ثم من بعد هؤلاء مثل مالك و الثوري و حماد بن زبد وحماد ابن سلمة و الليث والاوزاعي و شعبة و زائدة و سفيان بن عيينة و أمثالهم ثم من بعد هؤلاء مثل يحيى القطان و عبد الرحمن بن مهدي و ابن المبارك و عبد الله بن وهب و وكيع بن الجراح و إسماعيل بن علية و هشيم بن بشير و آبي يوسف القاضي و الشافعي و احمد و الحميدي وإسحاق بن راهويه والقاسم بن سلام وأبي ثور وابن معين وابن المديني و آبي بكر بن آبي شيبة و آبي خيثمة زهير بن حرب و بعد هؤلاء البخاري و مسلم و أبو داود و أبو زرعة و أبو حاتم و عثمان بن سعيد الدارمي و عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي و محمد بن مسلم بن واره و أبو بكر الاثرم و إبراهيم الحربي و بقي بن مخلد الأندلسي و محمد بن وضاحو مثل أبي عبد الرحمن النسائي و الترمذي و ابن خزيمة و محمد بن نصر المروزي و محمد بن جرير الطبري و عبد الله بن احمد ابن حنبل و عبد الرحمن بن أبي حاتم ثم من بعد هؤلاء مثل أبي حاتم ألبستي و أبي بكر النجاد و أبي بكر النيسابوري و أبي قاسم الطبراني و أبي الشيخ الاصبهاني وأبي احمد العسال الاصبهاني و أمثالهم ثم من بعد هؤلاء مثل أبي الحسن الدارقطني و ابن منده و الحاكم أبي عبد الله و عبد الغني بن سعيد و أمثال هؤلاء ممن لا يمكن إحصاؤهم فهؤلاء و أمثالهم اعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه و سلم من غيرهم و إن كان في هؤلاء من هو اكثر رواية و فيهم من هو اكثر منهم معرفة بصحيحه من وسقيمه و منهم من هو افقه فيه من غيره قال احمد بن حنبل معرفة الحديث و الفقه فيه احب إلي من حفظه و قال علي بن المديني اشرف العلم الفقه في متون الأحاديث و معرفة أحوال الرواة فان يحيى بن معين و علي بن المديني و نحوهما اعرف بصحيحيه و سقيمه من مثل أبي عبيد و أبي ثور و أبو عبيد و أبو ثور
(7/309)
و نحوهما افقه من أولئك و احمد كان يشارك هؤلاء و هؤلاء و كان أئمة هؤلاء و هؤلاء ممن يحبهم و يحبونه كما كان مع الشافعي و أبي عبيد و نحوهما من أهل الفقه في الحديث و مع يحيى بن معين و علي بن المديني و نحوهما من أهل المعرفة في الحديث و مسلم بن الحجاج له عناية بصحيحه اكثر من أبي داود و أبو داود له عناية بالفقه أكثر والبخاري له عناية بهذا و هذا وليس المقصود هنا توسعة الكلام في هذا بل المقصود أن علماء أهل العلم بالحديث لهم من المعرفة بأحوال الرسول ما ليس لغيرهم فهم أئمة هذا الشان وقد يكون الرجل صادقا كثير الحديث كثير الرواية فيه لكن ليس من أهل العناية بصحيحه وسقيمه فهذا يستفاد منه نقله فانه صادق ضابط و أما المعرفة بصحيحه وسقيمه فهذا علم آخر وقد يكون مع ذلك فقيها مجتهدا وقد يكون صالحا من خيار المسلمين وليس له كثير معرفة لكن هؤلاء وان تفاضلوا في العلم فلا يروج عليهم من الكذب ما يروج على من لم يكن له علمهم فكل من كان بالرسول اعرف كان تمييزه بين الصدق والكذب أتم فقد يروج على أهل التفسير والفقه والزهد والنظر أحاديث كثيرة إما يصدقون بها و إما يجوزون بصدقها وتكون معلومة الكذب عند علماء الحديث وقد يصدق بعض هؤلاء بما يكون كذبا عند أهل المعرفة مثل ما
(7/310)
يروي طائفة من الفقهاء حديث لا تفعلي يا حميراء فانه يورث البرص وحديث زكاة الأرض نبتها وحديث نهى عن بيع وشرط ونهى عن بيع المكاتب والمدبر و أم الولد وحديث نهى عن قفيز الطحان وحديث لا يجتمع العشر والخراج على مسلم وحديث ثلاث هن على فريضة وهن لكم تطوع الوتر والنحر وركعتا الفجر وحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر يتم ويقصر وحديث ثلاث هن علي فريضة وهن لكم تطوع الوتر والنحر وركعتا الفجر وحديث لا تقطع اليد إلا في عشر دراهم وحديث لا مهر دون عشرة دراهم وحديث الفرق بين الطلاق والعتاق في الاستثناء وحديث اقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة وحديث نهى عن البتراء وحديث يغسل الثوب من المنى والدم وحديث الوضوء مما خرج لامما دخل وحديث نهى عن البتراء وحديث كان يرفع يديه في ابتداء الصلاة ثم لا يعود إلى أمثال ذلك من الأحاديث التي يصدق بعضها طائفة من الفقهاء ويبنون عليها الحلال والحرام وأهل العلم بالحديث متفقون على إنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم موضوعة عليه وكذلك أهل العلم من الفقهاء يعلمون ذلك وكذلك أحاديث يرويها كثير من النساك ويظنها صدقا مثل قولهم
(7/311)
أن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا ومثل قولهم أن قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه نزل في أهل الصفة ومثل حديث غلام المغيرة بن شعبة أحد الإبدال الأربعين وكذلك حديث فيه ذكر الإبدال والأقطاب و الاغواث وعدد الأولياء و أمثال ذلك مما يعلم أهل العلم بالحديث انه كذب وكذلك أمثال هذه الأحاديث قد تعلم من غير طريق أهل الحديث مثل أن نعلم أن قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي في (سورة الأنعام). وفي (سورة الكهف). وهما سورتان مكيتان باتفاق الناس والصفة إنما كانت بالمدينة ومثل ما يروون في أحاديث المعراج انه رأي ربه في صورة كذا
(7/312)
و أحاديث المعراج التي في الصحاح ليس فيها شيء من أحاديث ذكر الرؤية وإنما الرؤية في أحاديث مدنية كانت في المنام كحديث معاذ ابن جبل أتاني البارحة ربي في احسن صورة إلى آخره فهذا منام رآه في المدينة و كذلك ما شابههه كلها كانت في المدينة في المنام و المعراج كان بمكة بنص القرآن و اتفاق المسلمين و قد يروج على طائفة من الناس من الحديث ما هو اظهر كذبا من هذا مثل تواجد النبي صلى الله عليه و سلم حتى سقطت البردة عنه فهذا من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة و طافة يظنون هذا صدقا لما رواه محمد بن طاهر المقدسي فانه رواه في مسالة السماع و رواه أبو حفص السهرودي لكن قال يخالج سري أن هذا الحديث ليس دون اجتماع النبي صلى الله عليه و سلم بأصحابه و هذا الذي ظنه و خالج سره هو يقين عند غيره قد خالط قلبه فإن أهل العلم بالديث متفقون على أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم و اعظم من هذا ظن طائفة أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه و سلم و انه يجوز للأولياء قتال الأنبياء إذا كان الغدر عليهم و هذا مع انه من اعظم الكفر و الكذب فقد راج على كثير ممن ينتسب إلى الأحوال و المعارف و الحقائق و هم في الحقيقة لهم أحوال شيطانية و الشياطين التي تقترن بهم قد تخبرهم ببعض الغائبات و تفعل بعض
(7/313)
أغراضهم و تقضي بعض حوائجهم و يظن كثير من الناس انهم بذلك أولياء الله و إنما هم من أولياء الشياطين و كذلك قد يروج على كثير ممن ينتسب إلى السنة أحاديث يظنونها من السنة و هي كذب كالأحاديث المروية في فضائل عاشوراء غير الصوم و فضل الكحل فيه و الاغتسال و الحديث و الخضاب و المصافحة و توسعة النفقة على العيال فيه و نحو ذلك و ليس في عاشوراء حديث صحيح غير الصوم و كذلك ما يروى في فضل صلوات معينة فيه فهذا كله كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة و لم ينقل هذه الأحاديث أحد من أئمة أهل العلم في كتبهم و لهذا لما سئل الإمام احمد عن الحديث الذي يروى من وسع على أهله يوم عاشوراء فقال لا اصل له و كذلك الأحاديث المروية في فضل رجب بخصوصه أو فضل صيامه أو صيام شيء منه أو فضل صلاة مخصوصة فيه كالرغائب كلها كذب مختلق و كذلك ما يروى في صلاة الأسبوع كصلاة يوم الأحد و الاثنين
(7/314)
و غيرهما كذب و كذلك ما يروى من الصلاة المقدرة ليلة النصف و أول ليلة جمعة من رجب أو ليلة سبع و عشرين منه و نحو ذلك كلها كذب و كذلك كل صلاة فيها الأمر بتقدير عدد الآيات أو السور أو التسبيح فهي كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث إلا صلاة التسبيح فان فيها قولين لهم و اظهر القولين إنها كذب و إن كان قد اعتقد صدقها طائفة من أهل العلم و لهذا لم يأخذها أحد من أئمة المسلمين بل احمد بن حنبل و أئمة الصحابة كرهوها و طعنوا في حديثها و إما مالك و أبو حنيفة و الشافعي و غيرهم فلم يسمعوها بالكلية و من يستحبها من أصحاب الشافعي و احمد و غيرهما فإنما هو اختيار منهم لا نقل عن الأئمة و أما ابن المبارك فلم يستحب الصفة المذكورة المأثورة التي فيها التسبيح قبل القيام بل استحب صفة أخرى توافق المشروع لئلا تثبت سنة بحديث لا اصل له و كذلك أيضا في كتب التفسير أشياء منقولة عن النبي صلى الله عليه و سلم يعلم أهل العلم بالحديث إنها كذب مثل حديث فضائل سور القرآن الذي يذكره الثعلبي و الواحدي في أول كل سورة و يذكره الزمخشري في آخر كل سورة و يعلمون أن اصح ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في فضائل السور أحاديث قل هو الله أحد و لهذا رواها أهل الصحيح فافرد
(7/315)
الحفاظ لها مصنفات كالحافظ أبي محمد الخلال وغيره ويعلمون أن الأحاديث المأثورة في فضل فاتحة الكتاب و آية الكرسي وخواتيم البقرة والمعوذتين أحاديث صحيحة فلهم فرقان يفرقون به بين الصدق والكذب و أما أحاديث سبب النزول فغالبها مرسل ليس بمسند ولهذا قال الإمام احمد بن حنبل ثلاث علوم لا إسناد لها وفي لفظ ليس لها اصل التفسير والمغازي والملاحم ويعني أن أحاديثها مرسلة والمراسيل قد تنازع الناس في قبولها وردها وحسب الأقوال أن منها المقبول ومنها المردود الموقوف فمن علم من حاله انه لا يرسل إلا عن ثقة قبل مرسله ومن عرف انه يرسل عن ثقة وغير الثقة كان إرساله رواية عمن لا يعرف حاله فهذا موقوف وما كان من المراسيل مخالفا لما رواه الثقات كان مردودا وإذا جاء المرسل من وجهين كل من الراويين اخذ العلم عن شيوخ الآخر فهذا مما يدل على صدقه فان مثل ذلك لا يتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب كان هذا مما يعلم انه صدق فان المخبر إنما يؤتي من جهة تعمد الكذب ومن جهة
(7/316)
الخطأ فإذا كانت القصة مما يعلم انه لم يتواطأ فيه المخبران والعادة تمنع تماثلهما في الكذب عمدا والخطأ مثل أن تكون القصة طويلة فيها أقوال كثيرة رواها هذا مثل ما رواها هذا فهذا يعلم انه صدق وهذا ما يعلم به صدق محمد صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام فان كلا منهما اخبر عن الله وملائكته وخلقه للعالم وقصة آدم ويوسف وغيرهما من قصص الأنبياء عليهم السلام بمثل ما اخبر به الآخر مع العلم بانه واحدا منهما لم يستفد ذلك من الآخر وانه يمتنع في العادة تماثل الخبرين الباطلين في مثل ذلك فان من اخبر بأخبار كثيرة مفصلة دقيقه عن مخبر معين لو كان مبطلا في خبره لاختلف خبره لامتناع أن مبطلا يختلق ذلك من غير تفاوت لا سيما في أمور لا تهتدي العقول إليها بل ذلك بين كلا إن كلا منهما اخبر بعلم وصدق وهذا مما يعلمه الناس من أحوالهم فلو جاء رجل من بلد إلى آخر واخبر عن حوادث مفصلة حدثت فيه تنتطم أقوالا وأفعالا مختلفة وجاء من علمنا انه لم يوطئه على الكذب فحكي مثل ذلك علم قطعا أن الأمر كان كذلك فان الكذب قد يقع في مثل ذلك لكن على سبيل المواطأة وتلقي بعضهم عن بعض كما يتوارث أهل الباطل المقالات الباطلة مثل مقالة النصارى والجهمية والرافضة ونحوهم فإنها وان كان يعلم بضرورة العقل إنها باطلة لكنها تلقاها بعضهم عن بعض
(7/317)
فلما تواظأوا عليها جاز اتفاقهم فيها على الباطل والجماعة الكثيرون يجوز اتفاقهم على جحد الضروريات على سبيل التواطؤ إما عمدا للكذب و إما خطأ في الاعتقاد و إما اتفاقهم على جحد الضروريات من دون هذا وهذا فممتنع.
*فصل في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول منها أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة واتبعه طوائف كثيرة من بني حنيفة فكانوا مرتدين لايمانهم بهذا المتنبئ الكذاب وان أبا لؤلؤة قاتل ععر كان مجوسيا كافرا وان أبا الهرمزان كان مجوسيا اسلم وان أبا بكر كان يصلي بالناس مدة مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ويخلفه بالإمامة بالناس لمرضه وان أبا بكر وعمر دفن في حجرة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ما يعلم من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي كان فيها القتال كبدر واحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف والتي لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها وما نزل من القران(7/318)
في الغزوات كنزول الأنفال بسبب بدر ونزول آخر آل عمران بسبب أحد ونزول أولها بسبب نصارى نجران ونزول (سورة الحشر). بسبب بني النضير ونزول الأحزاب بسبب الخندق ونزول (سورة الفتح). بسبب صلح الحديبية ونزول براءة بسبب غزوة تبوك وغيرها و أمثال ذلك فإذا روى في الغزوات وما يتعلق بها ما يعلم انه خلاف الواقع علم انه كذب مثل ما يروي هذا الرافضي و أمثاله من الرافضة وغيرهم من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات كما تقدم التنبيه عليه ومثل أن يعلم نزول القران في أي وقت كان كما يعلم أن (سورة البقرة). وال عمران والنساء والمائدة و الأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة وان الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة وان المعراج كان بمكة وان الصفة كانت بالمدينة وان أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا ناسا معينين بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين وممن دخل فيهم سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحي المؤمنين وكالعرنيين الذين ارتدوا عن الإسلامفبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون و أمثال ذلك من الأمور المعلومة فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم انه كذب ومن الطرق التي يعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم انه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعي على نقله فانه من المعلوم انه لو اخبر الواحد ببلد عظيم بقدر بغداد والشام وبغداد والعراق لعلمنا كذبه في ذلك لانه لو كان موجودا لأخبر به الناس
(7/319)
وكذلك لو اخبرنا بأنه تولى رجل بين عمر وعثمان أو تولى بين عثمان وعلي أو اخبرنا بان النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في العيد أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء أو انه كان يقام بمدينته يوم الجمةاكثر من جمعة واحدة أو يصلى يوم العيد اكثر من عيد واحد أو انه كان يصلي العيد بمنى يوم العيد أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه أو انه كان يجمع الصلاتين بمنى كما كان يقصر أو انه فرض صوم شهر آخر غير رمضان أو انه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل أو انه فرض حج بيت آخر غير الكعبة أو أن القران عارضه طائفة من العرب وعيرهم بكلام يشابهه ونحو هذه الأمور لكنا نعلم كذب هذا الكاذب فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها فان هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعي على نقلها عامة لبني آدم وخاصة لامتنا شرعا فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم فضلا عن أن تتواتر علم إنها كذب ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علي فإنا نعلم انه كذب من طرق كثيرة فان هذا النص لم ينقله أحد من أهل العلم بإسناد صحيح فضلا عن أن يكون متواترا ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد
(7/320)
الخلفاء مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة وحين موت عمر وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على علي فمن المعلوم أن مثل هذا النص و لو كان كما تقوله الرافضة من انه نص على على نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون لكان من المعلوم بالضرورة انه لا بد أن ينقله الناس نقل مثله وانه لابد أن يذكره لكثير من الناس بل أكثرهم في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر فانتفاء ما يعلم انه لازم يقتضي انتفاء ما يعلم انه ملزوم ونظائر ذلك كثيرة ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق واحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه والكلام مع الشيعة أكثره مبني على النقل فمن كان خبيرا بما وقع وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقيني علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية إلا ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إمامتهما وكذب ما تدعيه الرافضةثم كل من كان اعلم بالرسول وأحواله كان اعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم ممن يدعي نصا خفيا وان عليا كان افضل من الثلاثة أو يتوقف في التفضيل فان هؤلاء إنما وقعوا بالجهل المركب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار.
*فصل واعلم انه ثم أحاديث آخر لم يذكرها هذا الرافضي لو كانت صحيحة لدلت على مقصوده وفيها ما هو أدل من بعض ما ذكره لكنها كلها كذب والناس قد رووا أحاديث مكذوبة في فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعلى ومعاوية رضي الله عنهم وغيرهم لكن المكذوب في فضل علي اكثر لان الشيعة أجرا على الكذب من النواصب قال أبو الفرج بن الجوزي فضائل علي الصحيحة كثيرة غير أن الرافضة لم تقنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل قال فاعلم أن الرافضة ثلاث أصناف صنف منهم سمعوا(7/321)
أشياء من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق ويقولون قال جعفر وقال فلان وصنف ثالث عوام جهله يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل ومما لا يسوغ فمن أماثل الموضوعات ما رواه ابن الجوزي من طريق النسائي في كتابه الذي وضعه في خصائص علي من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الاسدي قال قال علي رضي الله عنه أنا عبد الله و أخو رسول الله و أنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب صليت قبل الناس سبع سنين ورواه احمد في الفضائل وفي رواية له ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين ورواه من حديث العلاء بن صالح أيضا عن المنهال بن عبادقال أبو الفرج هذا حديث موضوع والمتهم به عابد بن عبد الله قال علي بن المديني كان ضعيف الحديث وقال أبو الفرج حماد الازدي روى أحاديث لا يتابع عليها و إما المنهال فتركه شعبة قال أبو بكر الاثرم سألت أبا عبد الله عن حديث علي أنا عبد الله و أخو رسول الله فقال اضرب عليه فانه حديث منكر قلت وعباد يروي من طريقه عن علي ما يعلم انه كذب عليه قطعا مثل هذا الحديث فإننا نعلم أن عليا كان ابر واصدق واتقى لله من أن يكذب ويقول مثل هذا الكلام الذي هو كذب ظاهر معلوم بالضرورة انه كذب وما علمنا أنه كذب ظاهر لا يشتبه فقد علمنا أن عليا لم يقله لعلمنا بأنه اتقى الله من أن يتعمد هذا الكذب القبيح وانه ليس مما
(7/322)
يشتبه حتى يخطئ فيه فالناقل عنه إما متعمد الكذب و إما مخطئ غالط وليس قدح المبغض لعلي من الخوارج والمتعصبين لبني مروان وغيرهم مما يشككنا في صدقه وبره وتقواه كما انه ليس قدح الرافضة في أبي بكر وعمر بل وقدح الشيعة في عثمان لا يشككنا في العلم بعرقهم وبرهم وتقواهم بل نحن نجزم بان واحدا منهم لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا هو فيما دون ذلك فإذا كان المنقول عنه مما لا يغلط في مثله وقد علمنا انه كذب جزمنا بكذب الناقل متعمدا أو مخطئا مثل ما رواه عبد الله في المناقب حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله عن علي وحدثنا أبو خيثمة حدثنا الأسود بن عامر حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الاسدي عن علي قال لما نزلت وانذر عشيرتك الاقربين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من أهل بيته إن كان الرجل منهم لأكلا جذعة وان كان شاربا فرقا إلى آخر الحديثوهذا كذب على علي رضي الله عنه لم يروه قط وكذبه ظاهر من وجوه وهذا الحديث رواه احمد في الفضائل حدثنا عثمان حدثنا أبو عوانة عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجز عن علي وهؤلاء يعلم انهم يروون الباطل وروى أبو الفرج من طريق اجلح عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين قال سمعت عليا يقول أنا عبدت الله عز وجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين قال أبو الفرج حبة لا يساوي حبة فانه كذاب قال يحيى ليس بشيء وقال السعدي غير ثقة وقال ابن حبان كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث و إما الاجلح فقال احمد قد روى غير حديث منكر قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به وقال بن حبان كان لا يدري ما يقول
(7/323)
قال أبو الفرج ومما يبطل هذه الأحاديث انه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبي بكر وزيد وان عمر اسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا فكيف يصح هذا وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنا الصديق الأكبر وهو مما عملته يد احمد بن نصر الذراع فانه كان كذابا يضع الحديث وحديثا فيه أنا أولهم إيمانا وأوفاهم بعهد الله و أقومهم بأمر الله و أقسمهم بالسوية و أعدلهم في الرعية و أبصرهم بالقضية قال وهو موضوع والمتهم به بشر بن إبراهيم قال بن عدي وابن حبان كان يضع الحديث على الثقات ورواه الابرازي الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن مأمون عن الرشيد قال وهذا الابرازي كان كذاباوذكر حديثا أنت أول من آمن بي وأنت أول من يصافحني يوم القيامة وأنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل وأنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكافرين أو يعسوب الظلمة قال وهذا حديث موضوع وفي طريقه الأول عباد بن يعقوب قال ابن حبان يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك وفيه علي ابن هاشم قال ابن حبان كان يروي المناكير عن المشاهير وكان غاليا في التشيع وفيه محمد بن عبد الله قال يحيى ليس بشيء و إما الطريق الثاني ففيه أبو الصلت الهروي كان كذابا رافضيا خبيثا فقد اجتمع عباده وأبو الصلت في روايته والله اعلم بهما وأيهما سرقه من صاحبه قلت لعل الآفة فيه من محمد بن عبد الله وروي عن طريق ابن عباس وفيه عبد الله بن زاهر قال بن معين ليس بشيء لا يكتب عنه إنسان في خير قال أبو الفرج بن الجوزي كان غاليا في الرفض.(7/324)
*فصل و هنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة فان كثيرا من الخاصة فضلا عن العامة يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق و الكذب من جهة الإسناد في اكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب و غيره و إنما يعرف ذلك علماء الحديث و لهذا عدل كثير من أهل الكلام و النظر عن معرفة الأخبار بالإسناد و أحوال الرجال لعجزهم عنها و سلكوا طريقا آخر و لكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث العالمين بما بعث الله به رسوله و لكن نحن نذكر طريقا آخر فنقول نقدر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد أو لم يعلم أيها الصحيح و نترك الاستدلال بها في الطرفين و نرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر و ما يعلم من العقول و العادات و ما دلت عليه النصوص المتفق عليها فنقول من المعلوم المتواتر عند الخاصة و العامة الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات و السير أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة لا برغبة و لا برهبة لا بذل فيها ما يرغب الناس به و لا شهر(7/325)
عليهم سيفا يرهبهم به و لا كانت له قبيلة و لا موال تنصره و تقيمه في ذلك كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم و مواليهم يعاونونهم و لا طلبها أيضا بلسانه و لا قال بايعوني بل أمر بمبايعة عمر و أبي عبيدة و من تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه و لا اكرهه على المبايعة و لا منعه حقا له و لا حرك عليهم ساكنا و هذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة ثم إن المسلمين بايعوه و دخلوا في طاعته و الذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة و هم السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و هم أهل الإيمان و الهجرة و الجهاد و لم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة و إما علي و سائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس انهم بايعوه لكن تخلف فانه كان يريد الإمرة لنفسه رضي الله عنهم أجمعين ثم انه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين و المشركين لم يقاتل
(7/326)
مسلمين بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة و اخذ يزيد الإسلام فتوحا و شرع في قتال فارس و الروم و مات و المسلمون محاصرو دمشق و خرج منها ازهد مما دخل فيها لم يستأثر عنهم بشيء و لا أمر له قرابة ثم ولي عليهم عمر بن الخطاب ففتح الأمصار و قهر الكفار و اعز أهل الإيمان و أذل أهل النفاق و العدوان و نشر الإسلام و الدين و بسط العدل في العالمين و وضع ديوان الخراج و العطاء لأهل الدين و مصر الأمصار للمسلمين و خرج منها ازهد مما دخل فيها لم يتلوث لهم بمال و لا ولى أحدا من أقاربه ولاية فهذا أمر يعرفه كل أحد و إما عثمان فانه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة و حلم و هدى و رحمة و كرم و لم يكن فيه قوة عمر و لا سياسته و لا فيه كمال عدله و زهده فطمع فيه بعض الطمع و توسعوا في الدنيا و ادخل من أقاربه في الولاية و المال و دخلت بسبب أقاربه في الولايات و الأموال أمور أنكرت عليه فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا و ضعف
(7/327)
خوفهم من الله و منه و من ضعفه هو و ما حصل من أقاربه في الولاية و المال ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا و تولى علي على اثر ذلك و الفتنة قائمة و هو عند كثير منهم متلطخ بدم عثمان و الله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه المبغضون لغيره من الصحابة فان عليا لم يعن على قتل عثمان و لا رضي به كما ثبت عنه و هو الصادق انه قال ذلك فلم تصف له قلوب كثير منهم و لا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه و لا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر بل اقتضى رأيه القتال و ظن انه به تحصل الطاعة و الجماعة فما زاد الأمر إلا شدة و جانبه إلا ضعفا و جانب من حاربه إلا قوة و الأمة إلا افتراقا حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله كما كان في أول الأمر يطلب منه الكف و ضعفت خلافة النبوة ضعفا أوجب أن تصير ملكا فأقامها معاوية ملكا برحمة و حلم كما في الحديث المأثور تكون نبوة و رحمة ثمتكون خلافة نبوة و رحمة ثم يكون ملك و رحمة ثم يكون ملك و لم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية فهو خير ملوك الإسلام و سيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده و على آخر الخلفاء الراشدين الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة وةكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من افضل أولياء الله المتقين بل هؤلاء الأربعة افضل خلق الله بعد النبيين لكن إذا جاء القادح فقال في أبي بكر و عمر انهما كانا ظالمين متعدين طمالبين للرئاسه مانعين للحقوق وإنهما كانا من احرص الناس على الرئاسة و انهما و من أعانهما ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول و انهم منعوا أهل البيت ميراثهم و انهما كانا من احرص الناس على الرئاسة و الولاية
(7/328)
الباطلة مع ما قد عرف من سيرتهما كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غلب و سفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه و بين منازعه و لم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين و لا مصلحة الدنيا و لا قوتل في خلافته كافر و لا فرح مسلم فان عليا لا يفرح بالفتنة بين المسلمين و شيعته لم تفرح بها لأنها لم تغلب و الذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب و شدة و إذا كنا ندفع من يقدح في علي من الخوارج مع ظهور هذه الشبهة فلان ندفع من يقدح في أبي بكر و عمر بطريق الأولى و الأحرى و إن جاز أن يظن بابي بكر انه كان قاصدا للرئاسة بالباطل مع انه لم يعرف منه إلا ضد ذلك فالظن بمن قاتل على الولاية و لم يحصل له مقصوده أولى و أحرى فإذا ضرب مثل هذا و هذا بإمامي مسجد و شيخي مكان أو مدرسي مدرسة كانت العقول كلها تقول أن هذا ابعد عن طلب الرئاسة و اقرب إلى قصد الدين و الخير فإذا كنا نظن بعلي انه كان قاصدا للحق و الدين و غير مريد علوا في الأرض و لا فسادا فظن ذلك بابي بكر و عمر رضي الله عنهما أولى و أحرى
(7/329)
وان ظن ظان بابي بكر انه كان يريد العلو في الأرض والفساد فهذا الظن بعلي اجدر و أولى إما أن يقال أن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد وعلي لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا مع ظهور السيرتين فهذا مكابرة وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبي بكر افضل ولهذا كان الذين ادعوا هذا لعلي احالوا على ما لم يعرف وقالوا ثم نص على خلافته كتم وثم عداوة باطنة لم تظهر بسببها منع حقه ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما علم وتيقن وتواتر عند العامة والخاصة و إما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس وهو من جنس الكفار وأهل الباطل وهي مقابلة بالأحاديث من الطرق الآخر ونحن لم نحتج بالأخبار التي رويت من الطرفين فكيف بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا فالمعلوم المتيقن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان ابعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعلي فضلا عن علي وحده وانه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة
(7/330)
بعده فضلا عن علي وانه كان اكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة وان ولايته الأمة خير من ولاية علي وان منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم اعظم من منفعة علي رضي الله عنهم أجمعين وإذا كنا نعتقد انه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل وان ما تركه من المصلحة كان عاجزا عنه وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه وانه لم يكن مريدا للعلو في الأرض ولا الفساد كان هذا الاعتقاد بابي بكر وعمر أولى واخلق وأحرى فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن انه نقل خاص كالنقل لفضائل علي ولما يقتضي انه أولى بالإمامة أو أن إمامته منصوص عليها وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة الذين هم اصدق واكثر لفضائل الصديق التي تقتضي انه أولى بالإمامة وان النصوص إنما دلت عليه فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبازائها للسني حجة من جنسها أولى منها فان السنة في الإسلام كالإسلام في الملل فما من حجة يسلكها كتابي إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها قال تعالى ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق واحسن تفسيرا
(7/331)
لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه قال تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن وهنا طريق آخر وهو أن يقال دواعي المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق وليس لهم ما يصرفهم عنه وهم قادرون على ذلك فإذا حصل الداعي إلى الحق وانتفى الصارف مع القدرة وجب الفعل فعلم أن المسلمين اتبعوا فيما فعلوه الحق وذلك انهم خير الأمم وقد اكمل الله لهم الدين و أتم عليهم النعمة ولم يكن عند الصديق غرض دنيوي يقدمونه لأجله ولا عند علي غرض دنيوي يأخرونه لأجله بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدموا عليا وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتبع رجلا من بني هاشم احب إليها من أن تتبع رجلا من بني تيم وكذلك عامة قبائل قريش لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم فان طاعتهم لمنافي كانت احب إليهم من طاعه تيمي لو اتبعوا الهوى وكان أبو سفيان بن حرب و أمثاله يختارون تقديم علي وقد روي أن أبا سفيان طلب من علي أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما وقد قال أبو قحافة لما قيل له أن ابنك تولى قال أو رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو مخزوم قالوا نعم فعجب من ذلك لعلمه
(7/332)
بأن بني تيم كانوا من اضعف القبائل وان إشراف قريش كانت من تينك القبيلتين وهذا و أمثاله مما إذا تدبره العاقل علم انهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله لانه كان خيرهم وسيدهم واحبهم إلى الله ورسوله فان الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب وأبو بكر كان اتقاهم وهنا طريق آخر وهو انه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة هي خير الأمم كما دل عليها الكتاب والسنة وأيضا فانه من تأمل أحوال المسلمين في خلافة بني أمية فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين علم أن أهل ذلك الزمان كان خيرا وافضل من أهل هذا الزمان وان الإسلام كان في زمنهم أقوى واظهر فان كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم وولوا فاسقا وظالما ومنعوا عادلا عالما مع علمهم بالحق فهؤلاء من شر الخلق وهذه الأمة شر الأمم لان هذا فعل خيارها فكيف بفعل شرارها وهنا طريق آخر وهو انه قد عرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى
(7/333)
الله عليه وسلم اختصاص عظيم وكانوا من اعظم الناس اختصاصا به وصحبة له وقربا إليه واتصالا به وقد صاهرهم كلهم وما عرف عنه انه كان يذمهم ولا يلعنهم بل المعروف عنه انه كان يحبهم ويثني عليهم وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا في حياته وبعد موته و إما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته أو بعد موته فان كانوا على غير الاستقامة مع هذا التقرب فأحد الأمرين لازم إما عدم علمه بأحوالهم أو مداهنته لهم وأيهما كان فهو اعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل فان كنت لا تدري فتلك مصيبة وان كنت تدري فالمصيبة اعظم وان كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته و أكابر أصحابه و من قد اخبر بما سيكون بعد ذلك أين كان عن علم ذلك و أين الاحتياط للامة حتى لا يولي مثل هذا أمرها و من وعد أن يظهر دينه على الدين كله فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين فهذا و نحوه من اعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول كما قال مالك و غيره إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء و لو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين و لهذا قال أهل العلم أن الرافضة دسيسة الزندقة و انه وضع عليها و طريق آخر أن يقال الأسباب الموجبة لعلي أن كان هو المستحق
(7/334)
قوية و الصوارف منتفية و القدرة حاصلة و مع وجود الداعي و القدرة و انتفاء الصارف يجب الفعل و ذلك أن عليا هو ابن عم نبيهم و من أفضلهم نسبا و لم يكن بينه و بين أحد عداوة لا عداوة نسب و لا إسلام بأن يقول القائل قتل أقاربهم في الجاهلية و هذا المعنى منتف في الأنصار فانهم لم يقتل أحدا من أقاربهم و لهم الشوكة و لم يقتل من بني تيم و لا عدي و لا كثير من القبائل أحدا و القبائل التي قتل منها كبني عبد مناف كانت تواليه و تختار ولايته لانه إليها اقرب فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم نص على ولايته أو كان هو الأفضل المستحق لها لم يكن هذا مما يخفى عليهم و علمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته إذا لم يكن هناك صارف يمنع و الأسباب كانت مساعدة لهذا الداعي و لا معارض لها و لا صارف أصلا و لو قدر أن الصارف كان في نفر قليل فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه بل هم قادرون على ولايته و لو قالت الأنصار علي أحق بها من سعد و من أبي بكر ما أمكن أولئك
(7/335)
النفر من المهاجرين أن يدافعوهم و قام اكثر الناس مع علي لا سيما و كان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم و بغض الكفار و المنافقين لعمر اعظم من بغضهم لعلي بما لا نسبة بينهما بل لم يعرف أن عليا كان يبغضه الكفار و المنافقون إلا كما يبغضون أمثاله بخلاف عمر فانه كان شديدا عليهم و كان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر و لهذا لما استخلفه أبو بكر كره خلافته طائفة حتى قال طلحة ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا فقال أبالله تخوفني أقول و ليت عليهم خير اهلك فإذا كان أهل الحق مع علي و أهل الباطل مع علي فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه و هب انهم إذا قاموا لم يغلبوا إما كانت الدواعي المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجري في ذلك قيل و قال و نوع من الجدال أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد فإذا كانت الأنصار بشبهة لا اصل لها طمعوا أن يتآمر سعد فمكن يكون فيهم المحق و نص الرسول الجلي كيف لا يكون أعوانه اطمع في الحق فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك و لم يدع داع إلى علي
(7/336)
لا هو و لا غيره و استمر الأمر على ذلك إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان فحينئذ قام هو و أعوانه فطلبوا و قاتلوا و لم يسكتوا حتى كادوا يغلبوا علم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى لا لوجود المانع و أن القوم لم يكن عندهم علم بان عليا هو الأحق فضلا عن نص جلي و انه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه مع وجود المانع و قد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير لو كان لعلي حق فان أبا بكر لم يدع إلى نفسه و لا ارغب و لا ارهب و لا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه و لا كان في أول الأمر يمكن أحدا القدح في علي كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان فانه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى انه أعان على قتله و بعضهم يقول خذله و كان قتلة عثمان في عسكره و كان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته و هذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر فكان جنده اعظم و حقه إذا ذاك لو كان مستحقا اظهر و منازعوه اضعف داعيا و اضعف قوة و ليس هناك داع قوي يدعوا إلى منعه كما كان بعد مقتل عثمان و لا جند يجمع علي مقاتلته كما كان بعد مقتل عثمان
(7/337)
و هذه الأمور و أمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذا ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه فلو تبين أن الحق لعلي و طلبه علي لكان أبو بكر إما أن يسلم إليه و إما أن يجامله و إما أن يعتذر إليه و لو قام أبو بكر و هو ظالم يدافع عليا و هو محق لكانت الشريعة و العادة و العقل توجب أن يكون الناس مع علي المحق المعصوم على أبي بكر المعتدي الظلوم لو كان الأمر كذلك لا سيما و النفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية اعظم من نفرتها عن مبايعته أهل بيت المطاع فالدواعي لعلي من كل وجه كانت اعظم و اكثر لو كان أحق و هي عن أبي بكر من كل وجه كانت ابعد لو كان ظالما لكن لما كان المقتضي مع أبي بكر و هو دين الله قويا و الإسلام في جدته و طراوته و إقباله كان اتقى لله إلا يصرفوا الحق عمن يعلمون انه الأحق إلى غيره و لو كان لبعضهم هوى مع الغير و إما أبو بكر فلم يكن لأحد معه هوى إلا هوى الدين الذي يحبه الله و يرضاه فهذه الأمور و أمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة و أن ولايته أرضى لله و رسوله فبايعوه
(7/338)
و أن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا و يحرفوا و كلاهما ممتنع عادة و دينا و الأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقيني لا يندفع بأخبار لا يعلم صحتها فكيف إذا علم كذبها و ألفاظ لا تعلم دلالتها و مقاييس فكيف إذا علم انتفاء دلالتها و مقاييس لا نظام لها يعارضها من المعقول و المنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى و أولى بالحق و أحرى و هؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علما لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف هم من اعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ الذين يتبعون المتشابه و يدعون المحكم كالنصارى و الجهمية و أمثالهم من أهل البدع و الأهواء الذين يدعون النصوص الصحيحة التي توجب العلم و يعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك لو تعرض لم تثبت و هذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات و هو القدح فيما علم بالحس و العقل بشبه تعارض ذلك فمن أراد أن يدفع العلم اليقيني المستقر في القلوب بالشبه فقد سلك مسلك السفسطة فان السفسطة أنواع أحدها النفي و الجحد و التكذيب إما بالوجود و إما بالعلم به و الثاني الشك و الريب و هذه طريقة اللاأدرية الذين يقولون لا ندري فلا يثبتون و لا ينفون لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم و هو نوع
(7/339)
من النفي فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به الثالث قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد فيقول من اعتقد العالم قديما فهو قديم و من اعتقده محدثا فهو محدث و إذا أريد بذلك انه قديم عنده و محدث عنده فهذا صحيح فان هذا هو اعتقاده لكن السفسطة أن يراد انه كذلك في الخارج و إذا كان كذلك فالقدح فيما علم من أحوال الرسول صلى الله عليه و سلم مع الخلفاء الثلاثة و ما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة يكذبهم فيها جماهير الأمة من اعظم السفسطة و من روى لمعاوية و أصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علي و أصحابه كان كاذبا مبطلا مسفسطا و مع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة و يوجب عصمة علي اعظم من كذب من يروي ما يفضل به معاوية على علي و سفسطتهم اكثر فان ظهور إيمان الثلاثة اعظم من ظهور فضل على علي معاوية من وجوه كثيرة و إثبات عصمة علي ابعد عن الحق من إثبات فضل معاوية
(7/340)
ثم خلافة أبي بكر و عمر هي من كمال نبوة محمد صلى الله عليه و سلم و رسالته و مما يظهر انه رسول حق ليس ملكا من الملوك فان عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات لوجوه أحدها محبتهم لأقاربهم اكثر من الجانب لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته و الثاني لان أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي لان في عز قريب الإنسان عز لنفسه و من لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه و مواليه فقربهم و استعان بهم و هذا موجود في ملوك المسلمين و الكفار و لهذا لما كان ملوك بنو أمية و بنو العباس ملوكا كانوا يريدون أقاربهم و مواليهم بالولايات اكثر من غيرهم و كان ذلك مما يقيمون به ملكهم و كذلك ملوك الطوائف كبني بويه و بني سلجق و سائر الملوك بالشرق و الغرب و الشام و اليمن و غير ذلك و هكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب و المشركين كما يوجد في ملوك الفرنج و غيرهم و كما يوجد في آل جنكشخان بان الملوك تبقى في أقارب الملك و يقولون هذا من العظم و هذا ليس من العظم أي من أقارب الملك و إذا كان كذلك فتوليه أبي بكر و عمر بعد النبي صلى الله عليه و سلم دون عمه العباس و بني عمه على و عقيل و ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب
(7/341)
و أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و غيرهم و دون سائر بني عبد مناف كعثمان بن عفان و خالد بن سعيد بن العاص و إبان بن سعيد بن العاص و غيرهم من بني عبد مناف الذين كانوا اجل قريش قدرا و اقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه و سلم من اعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله و رسوله و انه ليس ملكا حيث لم يقدم في خلافته أحدا لا بقرب نسب منه و لا بشرف بيته بل إنما قدم بالإيمان و التقوى و دل ذلك على أن محمدا صلى الله عليه و سلم و أمته من بعده إنما يعبدون الله و يطيعون أمره لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض و لا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك فان الله خير محمدا بين أن يكون عبدا رسولا و بين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبدا رسولا و تولية أبي بكر و عمر بعده من تمام ذلك فانه لو قدم أحدا من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن انه كان ملكا كما انه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن انه جمع المال لورثته فلما لم يستخلف أحدا من أهل بيته و لا خلف لهم مالا كان هذا مما يبين انه كان من ابعد الناس عن طلب الرياسة و المال و أن كان ذلك مباحا و انه لم يكن من الملوك الأنبياء بل كان عبد الله و رسولهكما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح إني و الله لا أعطي أحدا و لا امنع أحدا و إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت و قال أن ربي خيرني بين أن أكون عبدا رسولا أو نبيا ملكا فقلت بل عبدا رسولا و إذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء فدلالة ذلك على نبوته و نزاهته عن الكذب و الظلم اعظم و اعظم و لو تولى بعده علي أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح و الالطافات العظيمة و أيضا فانه من المعلوم أن الإسلام في زمن علي كان اظهر و اكثر مما كان في خلافة أبي بكر و عمر و كان الذين قاتلهم علي ابعد عن الكفر من
(7/342)
الذين قاتلهم أبو بكر و عمر فان أبا بكر قاتل المرتدين و أهل الكتاب مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه و سلم من الضعف العظيم و ما حصل من الارتداد لأكثر البوادي و ضعف قلوب أهل الأمصار و شك كثيرهم في جهاد مانعي الزكاة و غيرهم ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز و اليمن يقهرونهم و هما فارس و الروم فقهرهم و فتح بلادهم و تمم عثمان ما تمم من فتح المشرق و المغرب ثم فتح بعد ذلك في خلافة بني أمية ما فتح بالمشرق و المغرب كما وراء النهر و الأندلس و غيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك فمعلوم انه لو تولى غير أبي بكر و عمر موت النبي صلى الله عليه و سلم مثل علي أو عثمان لم يمكنه أن يفعل ما فعلا فان عثمان لم يفعل ما فعلا مع قوة الإسلام في زمانه و علي كان اعجز من عثمان و كان اعوانه اكثر من أعوانهما و عدوه اقل و اقرب إلى الإسلام من عدوهما و مع هذا فلم يقهر عدوه فكيف كان يمكنه قهر المرتدين و قهر فارس و الروم مع قلة الأعوان و قوة العدو و هذا مما يبين فضل أبي بكر و عمر و تمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه و سلم و على الناس بعده و أن من اعظم نعم الله تولية
(7/343)
أبي بكر و عمر بعد النبي صلى الله عليه و سلم فانه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا إما لعدم القدرة و إما لعدم الإرادة فانه إذا قيل لم لم يغلب علي معاوية و أصحابه فلا بد أن يكون سبب ذلك إما عدم كمال القدرة و إما عدم كمال الإرادة و إلا فمع كمال القدرة و كمال الإرادة يجب وجود الفعل و من تمام القدرة طاعة الاتباع له و من تمام الإرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله و لرسوله و أبو بكر و عمر كانت قدرتهما اكمل و إرادتهما افضل فبهذا نصر الله بهما الإسلام و أذل بهما الكفر و النفاق و علي رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة و الإرادة ما أوتيا و الله تعالى كما فضل بعض النبيين على بعض فضل بعض الخلفاء على بعض فلما لم يؤت ما أوتيا لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا و حينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه و سلم اعجز و اعجز فانه على أي وجه قدر ذلك فان غاية ما يقول المتشيع أن اتباعه لم يكونوا يطيعونه فيقال إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه فكيف يطيعه من لم يبايعه و إذا قيل لو بايعوه بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم لفعل بهم اعظم مما فعل أبو بكر و عمر
(7/344)
فيقال قد بايعه اكثر ممن بايع أبا بكر و عمر و نحوهما و عدوه اضعف و اقرب إلى الإسلام من عدو أبي بكر و عمر و لم يفعل ما يشبه فعلهما فضلا عن أن يفعل افضل منه و إذا قال القائل أن اتباع أبي بكر و عمر رضي الله عنهما اعظم إيمانا و تقوى فنصرهم الله لذلك قيل هذا يدل على فساد قول الرافضة فانهم يقولون أن اتباع أبي بكر و عمر كانوا مرتدين أو فاسقين و إذا كان نصرهم و تأييدهم لإيمانهم و تقواهم دل ذلك على أن الذين بايعوهما افضل من الشيعة الذين بايعوا عليا و إذا كان المقرون بإمامتهما افضل من المقرين بإمامة علي دل ذلك على انهما افضل منه و أن قالوا أن عليا إنما لم ينتصر لان اتباعه كانوا يبغضونه و يختلفون عليه قيل هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة أن الذين بايعوا عليا و اقروا بإمامته افضل ممن بايع أبا بكر و عمر و اقر بإمامتهما فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم كانوا من اشر
(7/345)
الناس فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ولا طائفة ينتصر بها على العدو فيمتنع أن يكون علي مع الشيعة قادرا على قهر الكفار وبالجملة فلا بد من كمال حال أبي بكر وعمر واتباعهما فالنقص الذي حصل في خلافة علي من إضافة ذلك إما إلى الإمام و إما إلى اتباعه و إما إلى المجموع وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبي بكر وعمر واتباعهما افضل من علي وإتباعه فانه أن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه وان كان من اتباعه كان المقرون بإمامتها أفضل من المقرين بإمامته فتكون أهل السنة افضل من الشيعة وذلك يستلزم كونهما افضل منه لان ما امتاز به الأفضل افضل مما امتاز به المفضول وهذا بين لمن تدبره فان الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم هم افضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فان أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه
(7/346)
وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان و إما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه كسعد بن أبي وقاص و أسامة بن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وأبي هريرة و أمثال هؤلاء من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان ومنهم من قاتله كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة و معاوية من السابقين والتابعين وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم افضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه لزم أن يكون كل من الثلاثة افضل لان عليا كان موجودا على عهد الثلاثة فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره كما تقوله الرافضة أو كان افضل و أحق بها كما يقوله من يقوله من الشيعة لكان افضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله به إلى ما لم يؤمروا به بل ما نهوا عنه وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان افضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون اتباع علي
(7/347)
افضل وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم افضل من الثلاثة لزم أن يكون ما فعلوه من الخير افضل مما فعله الثلاثة وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار الذي تواترت به الأخبار وعلمته البوادي والحضار فانه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه وقمع المرتدين وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ما لم يجر بعدهم مثله وعلي رضي الله عنه فضله الله وشرفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث بخلاف أبي بكر وعمر وعثمان فانهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله و إنفاق كنوز كسرى وقيصر وغير ذلك من الحوادث المشكورة والأعمال المبرورة وكان أبو بكر وعمر افضل سيرة واشرف سريرة من عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين فلهذا كانا ابعد عن الملام و أولى بالثناء العام حتى لم يقع في زمنهما شيء من الفتن فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار وأهل الإيمان في إقبال وأهل الكفر في إدبار
(7/348)
ثم أن الرافضة أو أكثرهم لفرط جهلهم وضلالهم يقولون انهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين وان اليهود والنصارى كانوا خيرا منهم لان الكافر الأصلي خير من المرتد وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم وهذا القول من اعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال من المعلوم بالاضطرار والمتواتر من الأخبار أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة وهاجر طائفة منهم كعمر وعثمان وجعفر بن أبي طالب هجرتين هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة وكان الإسلام إذ ذاك قليلا والكفار مستولون على عامة الأرض وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله وهم صابرون على الأذى متجرعون لمرارة البلوى وفارقوا الأوطان وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله كما وصفهم الله تعالى بقوله للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم لم يكرههم عليه مكره ولا الجاهم إليه أحد فانه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك هو ومن اتبعه منهيين عن القتال مأمورين بالصفح والصبر فلم يسلم
(7/349)
أحد إلا باختياره ولا هاجر أحد إلا باختياره ولهذا قال احمد بن حنبل وغيره من العلماء انه لم يكن من المهاجرين من نافق و إنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة ودخل فيه من قبائل الأوس والخزرج ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية وكانوا منافقين كما قال تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية و إما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين فان من اسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق و الذين هاجروا لم يكن فيهم منافق بل كانوا مؤمنين بالله و رسوله محبين لله و لرسوله و كان الله و رسوله احب إليهم من أولادهم و أهلهم و أموالهم و إذا كان كذلك علم أن رميهم أو رمي أكثرهم أو بعضهم بالنفاق كما يقوله من يقوله من الرافضة من اعظم البهتان الذي هو نعت الرافضة و إخوانهم من اليهود فان النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود و لا يوجد في الطوائف اكثر و اظهر نفاقا منهم حتى يوجد فيهم النصيرية و الإسماعيلية و أمثالهم ممن هو من اعظم الطوائف نفاقا و زندقة و عداوة لله و لرسوله
(7/350)
و كذلك دعواهم عليهم الردة من اعظم الأقوال بهتانا فان المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة و معلوم أن الشبهات و الشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته و انتشار أعلامه و إما الشهوة فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك كانت في أول الإسلام أولى بالأتباع فمن خرجوا من ديارهم و أموالهم و تركوا ما كانوا عليه من الشرف و العز حبا لله و رسوله طوعا غير إكراه كيف يعادون الله و رسوله طلبا للشرف و المال ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة و قيام المقتضي للمعاداة لم يكونوا معادين لله و رسوله بل موالين لله و رسوله معادين لمن عادى الله و رسوله فحين قوي المقتضي للموالاة و ضعفت القدرة على المعاداة يفعلون نقيض هذا هل يظن هذا إلا من هو من اعظم الناس ضلالا و ذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه و كمال الإرادة له وجب وجوده و هم في أول الإسلام كان المقتضي لإرادة معاداة الرسول أقوى لكثرة أعدائه و قلة أوليائه و عدم ظهور دينه و كانت القدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى حتى كان يعاديه آحاد الناس
(7/351)
و يباشرون أذاه بالأيدي و الألسن و لما ظهر الإسلام و انتشر كان المقتضى للمعاداة اضعف و القدرة عليها اضعف و من المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته و معلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولا أقوى و الموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى و لم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم فعلم يقينا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبته و الذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن اسلم بالسيف كأصحاب مسيلمة و أهل نجد فأما المهاجرون الذين اسلموا طوعا فلم يرتد منهم والله الحمد احد وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها هم طئفة منهم بالردة ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو و أهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه و سلم بعد فتح مكة ثم رأوا ظهور الإسلام فاسلموا مغلوبين فهموا بالردة فثبتهم الله بعثمان بن أبي العاص فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه و سلم فإنما اسلموا طوعا و المهاجرون منهم و الأنصار و هم قاتلوا الناس على الإسلام و لهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه و سلم و ذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه حتى ثبتهم الله و قواهم بابي بكر الصديق رضي الله عنه فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين
(7/352)
و جهاد الكافرين فالحمد لله الذي من على الإسلام و أهله بصديق الأمة الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله و حفظه به بعد وفاته فالله يجزيه عن الإسلام و أهله خير الجزاء.
*فصل قال الرافضي المنهج الرابع في الأدلة الدالة على إمامته المستنبطة من أحواله و هي اثنا عشر ثم ذكر كان ازهد الناس و اعبدهم و أعلمهم و أشجعهم و ذكر أنواعا من خوارق العادات له و اجتماع الفضائل على اوجه تقدم بها عليهم فقال الأول انه كان ازهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم.
*و الجواب المنع فان أهل العلم بحالهما يقولون ازهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم الزهد الشرعي أبو بكر و عمر. و ذلك أن أبا بكر كان له مال يكتسبه فأنفقه كله في سبيل الله و تولى الخلافةفذهب إلى السوق يبيع و يتكسب فلقيه عمر و على يده ابراد فقال له أين تذهب فقال أظننت إني تارك طلب المعيشة لعيالي فاخبر بذلك أبا عبيدة و المهاجرين ففرضوا له شيئا فاستحلف عمر و أبا عبيدة فحلفا له انه يباح له اخذ درهمين كل يوم ثم ترك ماله في بيت المال ثم لما حضرته الوفاة أمر عائشة أن ترد إلى بيت المال ما كان قد دخل في ماله من مال المسلمين فوجدت جرد قطيفة لا يساوي خمسة دراهم و حبشية ترضع ابنه أو عبدا حبشيا و بعيرا ناضحا فأرسلت بذلك إلى عمر فقال عبد الرحمن بن عوف له أتسلب هذا عيال أبي بكر فقال كلا و رب الكعبة لا يتأثم منه أبو بكر في حياته و أتحمله أنا بعد موته و قال بعض العلماء علي كان زاهدا و لكن الصديق ازهد منه لان أبا بكر كان له المال الكثير في أول الإسلام و التجارة الواسعة فأنفقه في سبيل الله و كان حاله في الخلافة ما ذكر ثم رد ما تركه لبيت المال قال ابن زنجويه و إما علي فانه كان في أول الإسلام فقيرا يعال و لا يعول ثم استفاد المال الرباع و المزارع و النخيل و الأوقاف و استشهد و عنده تسع عشرة سرية و أربع نسوة و هذا كله مباح و لله(7/353)
الحمد و لم يأمر برد ما تركه لبيت المال و خطب الحسن الناس بعد وفاته فقال ما ترك صفراء و لا بيضاء إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه و روى الأسود بن عامر حدثنا شريك النخعي عن عاصم بن كليب عن محمد بن كعب القرظي قال قال علي لقد رأيتني على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم اربط الحجر على بطني من شدة الجوع و أن صدقة مالي لتبلغ اليوم أربعين ألفا رواه احمد عن حجاج عن شريك و رواه إبراهيم بن سعيد الجوهري و فيه لتبلغ أربعة آلاف دينار فأين هذا من زهد أبي بكر و أن كانا رضي الله عنهما زاهدين و قال ابن حزم و قال قائلون علي كان أزهدهم قال و كذب هذاالجاهل و برهان ذلك أن الزهد إنما هو عزوف النفس عن حب الصوت و عن المال و عن اللذات و عن الميل إلى الولد و الحاشية ليس للزهد معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى فأما عزوف النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن أبا بكر اسلم و له مال عظيم قيل أربعين ألفا أنفقها في سبيل الله كلها و اعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله و لم يعتق عبيدا أجلادا يمنعونه لكن كل معذب و معذبة في الله عز و جل حتى هاجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يبق لأبي بكر من جميع ماله إلا ستة آلاف درهم حملها كلها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يبق لبنيه منها درهما ثم أنفقها كلها في سبيل الله حتى لم يبق له منها شيء و بقي في عباءة له قد خللها بعود إذا نزل فرشها و إذا ركب لبسها إذ تمول غيره من الصحابة و اقتنى الرباع الواسعة و الضياع العظيمة من حلها و حقها إلا أن من آثر بذلك الله في سبيل الله ازهد ممن انفق و امسك ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية و لا توسع في مال و عد عند موته ما انفق على نفسه و ولده من مال الله الذي لم يستوف منه
(7/354)
إلا بعض حقه و أمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي و المقاسم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا هو الزهد في اللذات و المال الذي لا يدانيه فيه أحد من الصحابة لا علي و لا غيره أن إلا يكون أبا ذر و أبا عبيدة من المهاجرين الأولين فانهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم و لقد تلا أبا بكر عمر في هذا الزهد و كان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال و اللذات و إما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا المال من حله و مات عن أربع زوجات و تسع عشرة أم ولد سوى الخدم و العبيد و توفي عن أربعة و عشرين ولدا من ذكر و أنثى و ترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم و مياسيرهم هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له اقل علم بالأخبار و الآثار و من جملة عقاره ينبع التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمر زرعها فأين هذا من هذا و إما حب الولد و الميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا أبين من أن
(7/355)
يخفى على أحد له اقل علم بالأخبار فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من القرابة و الولد مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين و السابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضائل في الإسلام و مثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر و له مع النبي صلى الله عليه و سلم صحبة قديمة و هجرة سابقة و فضل ظاهر فما استعمل أبو بكر أحدا منهم على شيء من الجهات و هي بلاد اليمن كلها على سعتها و كثرة أعمالها و عمان و حضر موت و البحرين واليمامة و الطائف و مكة و خيبر و سائر اعمل الحجاز و لو استعملهم لكانوا لذلك أهلا و لكن خشي المحاباة و توقع أن يميله إليهم شيء من الهوى ثم جرى عمر رضي الله عنه على مجراه في ذلك لم يستعمل من بني عدي بن كعب أحدا على سعة البلاد و كبرها و قد فتح الشام و مصر و جميع مملكة الفرس إلى خراسان إلا النعمان بن عدي وحده على ميسان ثم أسرع عزله و فيهم من الهجرة ما ليس في شيء من أفخاذ قريش لان بني عدي لم يبق منهم أحد بمكة إلا هاجر و كان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد المهاجرين الأولين ذي السوابق و أبي الجهم بن حذيفة و خارجة بن حذافة و معمر بن عبد الله و ابنه عبد الله بن عمر
(7/356)
ثم لم يستخلف أبو بكر ابنه عبد الرحمن و هو أحد الصحابة و لا استعمل عمر ابنه في حياته و لا بعد موته و هو من فضلاء الصحابة و خيارهم و قد رضي بخلافته بعض الناس و كان أهلا لذلك و لو استخلفه لما اختلف عليه أحد فما فعل و وجدنا عليا إذ ولي قد استعمل أقاربه ابن عباس على البصرة و عبيد الله بن عباس على اليمن و قثما و معبدا ابني العباس على مكة و المدينة و جعدة بن هبيرة و هو ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب على خراسان و محمد بن أبي بكر و هو ابن امرأته و أخو ولده على مصر و رضي ببيعة الناس الحسن ابنه بالخلافة بعده و لسنا ننكر استحقاق الحسن للخلافة و لا استحقاق عبد الله بن عباس للخلافة فكيف بإمارة البصرة لكنا نقول أن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر و الناس متفقون عليه و في تأمير مثل طلحة بنعبيد الله و سعيد بن زيد فلا شك انه أتم زهدا و اعزف عن جميع معاني الدنيا نفسا ممن يأخذ ما أبيح له أخذه فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه ازهد من جميع الصحابة ثم عمر رضي الله عنه.
*فصل قال الرافضي علي قد طلق الدنيا ثلاثا و كان قوته جريش الشعير و كان يختمه لئلا يضع الإمامان فيه أدما و كان يلبس خشن الثياب و قصيرها و رقع مدرعته حتى استحى من رقعها و كان حمائل سيفه ليفا و كذا نعله و روى اخطب خوارزم عن عمار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يا علي أن الله زينك بزينة لم يزين العباد بزينة حب إلى الله منها زهدك في الدنيا و بغضها إليك(7/357)
و حبب إليك الفقراء فرضيت بهم اتباعا و رضوا بك إماما يا علي طربى لمن احبك و صدق عليك و الويل لمن أبغضك و كذب عليك إما من احبك و صدق عليك فإخوانك في دينك و شركاؤك في جنتك و إما من أبغضك و كذب عليك فحقيق على الله أن يقيمهم مقام الكذابين قال سويد بن غفلة دخلت علي علي العصر فوجدته جالسا بين يديه صفحة فيها لبن حار و أجد ريحه من شدة حموضته و في يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه و هو يكسر بيده أحيانا فإذا غلبه كسره بركبته فطرحه فيه فقال ادن فاصب من طعامنا هذا فقلت إني صائم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من منعه الصيام عن طعام يشتهيه كان حقا على الله أن يطعمه من طعام الجنة و يسقيه من شرابها قال قلت لجاريته و هي قائمة و يحك يا فضة إلا تتقين الله في هذا الشيخ إلا تنخلين طعامه مما أرى فيه من النخال فقالتلقد عهد إلينا أن لا ننخل له طعاما قال ما قلت لها فأخبرته قال بأبي و أمي من لم ينخل له طعام و لم يشبع خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله عز و جل و اشترى يوما ثوبين غليظين فخير قنبرا فيهما فاخذ واحدا و لبس هو الآخر و رأي في كمه طولا عن أصابعه فقطعه قال ضرار بن ضمرة دخلت على معاوية بعد قتل أمير المؤمنين علي فقال صف لي عليا فقلت اعفني فقال لا بد من ذلك فقلت إما إذ لا بد فكأنه كان و الله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا و يحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه و تنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا و زينتها و يستأنس بالليل وحشته وكان و الله غزير العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما خشن و من الطعام ما قشب و كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه و يأتينا إذا دعوناه و نحن
(7/358)
و الله مع تقريبه لنا و قربه منا لا نكلمه هيبة له يعظم أهل الدين و يقرب المساكين لا يطمع القوي في باطله و لا ييأس الضعيف من عدله فاشهد بالله لقد رأيته و هو يقول يا دنيا غري غيري إلي تعرضت أم إلي تشوفت هيهات قد بنتك ثلاثا لا رجعة فيك عمرك قصير و خطرك كثير و عيشك حقير آه من قلة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق فبكى معاوية و قال رحم الله أبا الحسن كان و الله كذلك فما حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها و لا يسكن حزنها.
*و الجواب إما زهد علي رضي الله عنه في المال فلا ريب فيه لكن الشأن انه كان ازهد من أبي بكر و عمر و ليس فيما ذكره ما يدل علىذلك بل ما كان فيه حقا فلا دليل فيه على ذلك و الباقي إما كذب و إما ما لا مدح فيه إما كونه طلق الدنيا ثلاثا فمن المشهور عنه انه قال يا صفراء يا بيضاء قد طلقتك ثلاثا غري غيري لا رجعة لي فيك لكن هذا لا يدل على انه ازهد منه ممن لم يقل هذا فان نبينا و عيسى ابن مريم و غيرهما كانوا ازهد منه و لم يقولوا هذا و لان الإنسان إذا زهد لم يجب أن يقول بلسانه قد زهدت و ليس كل من قال زهدت يكون قد زهد فلا عدم هذا الكلام يدل على عدم الزهد و لا وجوده يدل على وجوده فلا دلالة فيه و إما قوله انه كان دائما يقتات جريش الشعير بلا آدم فلا دلالة في هذا لوجهين أحدهما انه كذب و الثاني انه لا مدح فيه فرسول الله صلى الله عليه و سلم إمام الزهد كان لا يرد موجودا و لا يتكلف مفقودا بل أن حضر لحم دجاج أكله أو لحم غنم أكله أو حلواء أو عسل أو فاكهة أكله و أن لم يجد شيئا لم يتكلفه و كان إذا حضر طعاما فان اشتهاه أكله و إلا تركه و لا يتكلف ما لا يحضر(7/359)
و ربما ربط على بطنه الحجر من الجوع و قد كان يقيم الشهر و الشهرين لا يوقد في بيته نار و قد ثبت في الصحيحين أن رجالا قال أحدهم أما أنا فأصوم و لا افطر و قال الآخر أما أنا فأقوم و لا أنام و قال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء و قال الآخر أما أنا فلا آكل اللحم فقال النبي صلى الله عليه و سلم لكني أصوم و افطر و أقوم و أنام و أتزوج النساء و آكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني فكيف يظن بعلي انه رغب عن سنة النبي صلى الله عليه و سلم و يجعل ذلك من مناقبه و أي مدح لمن رغب عنها ثم كيف يقال أن عليا كان بالعراق و لا يقتات إلا شعيرا مجروشا لا آدم له و لا يأكل خبز بر و لا لحما و النقل المتواتر بخلاف ذلك و هل من الصحابة من فعل ذلك أو هل قال أحد منهم أن ذلك مستحب و إما قوله كان حمائل سيفه ليفا و نعله ليفا فهذا أيضا كذب و لا مدح فيه فقد روي أن نعل رسول الله صلى الله عليه و سلم كان من الجلود و حمائل سيف النبي صلى الله عليه و سلم كانت ذهبا و فضة و الله قد يسر الرزق عليهم فأي مدح في أن يعدلوا عن الجلود مع تيسرها و إنما يمدح هذا عند العدم
(7/360)
كما قال أبو أمامة الباهلي لقد فتح البلاد أقوام كانت خطم خيلهم ليفا و ركبهم العلابي رواه البخاري و حديث عمار من الموضوعات و كذلك حديث سويد بن غفلة ليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم و إما حديث الثوب الذي اشتراه فهو معروف و حديث ضرار بن ضمرة قد روي و ليس في واحد منهما ما يدل على انه ازهد من أبي بكر و عمر بل من عرف المنقول من سيرة عمر و عدله و زهده و صرفه الولايات عن أقاربه و نقصه لابنه في العطاء عن نظيره و لابنته في العطاء عن نظيرتها و أكله الخشن مع كونه هو الذي قسم كنوز كسرى و قيصر و إنما كان الذي يقسمه علي جزءا من فتوح عمر و انه مات و عليه ثمانون ألف درهم تبين له من وجوه كثيرة أن عمر كانت ازهد من علي و لا ريب أن أبا بكر ازهد من عمر.
*فصل قال الرافضي و بالجملة زهده لم يلحقه أحد فيه و لا سبقهأحد إليه و إذا كان ازهد كان هو الإمام لامتناع تقدم المفضول عليه.
*و الجواب أن كلتا القضيتين باطلة لم يكن ازهد من أبي بكر و عمر و لا كل من كان ازهد كان أحق بالإمامة و ذلك أن عليا كان له من المال و السرارى و لأهله ما لم يكن لأبي بكر و عمر و قد روي عبد الله بن احمد حدثنا علي بن حكيم حدثنا شريك عن عاصم بن كليب عن محمد بن كعب القرظي قال سمعت عليا قال كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم و إني لأربط الحجر على بطني من الجوع و أن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألفا و هذا و أن كان ضعيفا فهو يقابل لمن قال انه كان لا يأكل في العراق إلا خبز الشعير مع أن ذلك النقل لا إسناد له و لا ريب أن عليا كان له مال اعظم من مال أبي بكر و عمر و لو لم يكن إلا ما كان عمر يعطيه و أولاده و أهل بيته فانه كان يعطيهم من المال اعظم مما يعطي سائر قبائل قريش و لم يكن عمر يعطي أحدا من بني عدي و لا تيم و لا غيرهم من القبائل مثل ما كان يعطي اقارب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا وحده يوجب سعة أموالهم(7/361)
و علي له وقف معروف فهل يوقف الوقوف من لم يكن له مال و عمر إنما وقف نصيبه من خيبر لم يكن له عقار غير ذلك و علي كان له عقار بالينبع و غيرها.
*فصل قال الرافضي الثاني انه كان اعبد الناس يصوم النهار و يقوم الليل و منه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار و اكثر العبادات و الأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت و كان يصلي في ليله و نهاره ألف ركعة و لم يخل في صلاة الليل حتى في ليلة الهرير و قال ابن عباس رايته في حربه و هو يرقب الشمس فقلت يا أمير المؤمنين ماذا تصنع قال انظر إلى الزوال لأصلي فقلت في هذا الوقت فقال إنما نقاتلهم على الصلاة فلم يغفل عن فعل العبادات في أول وقتها في اصعب الأوقات و كان إذا أريد إخراج الحديد من جسده يترك إلى أن يدخلفي الصلاة فيبقى متوجها إلى الله غافلا عما سواه غير مدرك للآلام التي تفعل به و جمع بين الصلاة و الزكاة و تصدق و هو راكع فانزل الله تعالى فيه قرآنا يتلى و تصدق بقوته و قوت عياله ثلاثة أيام حتى انزل الله فيهم هل أتى على الإنسان و تصدق ليلا و نهارا سرا و علانية و ناجى الرسول فقدم بين يدي نجواه صدقة فانزل الله فيه قرآنا و اعتق ألف عبد من كسب يده و كان يؤجر نفسه و ينفق على رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب و إذا كان اعبد الناس كان افضل فيكون هو الإمام.
*و الجواب أن يقال هذا الكلام فيه من الأكاذيب المختلفة ما لا يخفى إلا على اجهل الناس بأحوال القوم و مع انه كذب و لا مدح فيه و لا في عامة الأكاذيب.
فقوله انه كان يصوم النهار و يقوم الليل كذب عليه و قد تقدم قول النبي صلى الله عليه و سلم لكني أصوم و افطر و أقوم و أنام و أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني(7/362)
و في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له ألم أخبر انك تقول لأصومن النهار و لأقومن الليل ما عشت قال بلى قال فلا تفعل و في رواية ألم أخبر انك تصوم الدهر و تقرأ القرآن كل ليلة فقلت يا نبي الله لم أرد بذلك إلا الخير قال فان حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فقلت يا نبي الله إني أطيق اكثر من ذلك قال فان لزوجك عليك حقا ولزورك عليك حقا لجسدك عليك حقا قال فصم صوم داود نبي الله فانه كان اعبد الناس كان يصوم يوما و يفطر يوما و اقرأ القرآن في كل شهر قلت إني أطيق اكثر من ذلك قال اقرأه في عشرين إلى أن قال في سبع و لا تزد على ذلك و قال في الصوم إني أطيق افضل من ذلك و في الصحيحين عن علي قال طرقني رسول الله صلى الله عليه و سلم و فاطمة فقال إلا تقومان فتصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا بعثنا قال فولى و هو يضرب فخذه و يقول و كان الإنسان اكثر شيء جدلا فهذا
(7/363)
الحديث دليل على نومه في الليل مع إيقاظ النبي صلى الله عليه و سلم و مجادلته حتى ولى و هو يقول و كان الإنسان اكثر شيء جدلا و قول القائل و منه تعلم الناس صلاة الليل و نوافل النهار إن أراد أن بذلك أن بعض المسلمين تعلم ذلك منه فكهذا كل من بالصحابة علم بعض الناس أن أراد بذلك أن بعض المسلمين تعلموا ذلك منه فهذا من الكذب البارد فاكثر المسلمين ما رأوه و قد كانوا يقومون الليل و يتطوعون بالنهار فاكثر بلاد المسلمين التي فتحت في خلافة عمر و عثمان رضي الله عنهما كالشام و مصر و المغرب و خراسان ما رأوه فكيف يتعلمون منه و الصحابة كانوا كذلك في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و منه تعلموا ذلك و لا يمكن أن يدعى ذلك إلا في أهل الكوفة ومعلوم انهم كانوا تعلموا ذلك من ابن مسعود رضي الله عنه و غيره قبل أن يقدم إليهم و كانوا من اكمل الناس علما و دينا قبل قدوم علي رضي الله عنه إليهم و الصحابة كانوا كذلك و أصحاب ابن مسعود كانوا كذلك قبل أن يقدم إليهم العراق
(7/364)
و إما قوله الأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت فعامتها كذب عليه و هو كان اجل قدرا من أن يدعو بهذه الأدعية التي لا تليق بحاله و حال الصحابة و ليس لشيء من هذه إسناده و الأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم هي افضل ما دعا به أحد و بها يدعو خيار هذه الأمة من الأولين و الآخرين و كذلك قوله انه كان يصلي في اليوم و الليلة ألف ركعة من الكذب الذي لا مدح فيه فان النبي صلى الله عليه و سلم كان مجموع صلاته في اليوم و الليلة أربعين ركعة فرضا و نفلا و الزمان لا يتسع لألف ركعة لمن ولي أمر المسلمين مع سياسة الناس و أهله إلا أن تكون صلاته نقرا كنقر الغراب و هي صلاة المنافقين التي نزه الله عنها عليا و إما ليالي صفين فالذي ثبت في الصحيح انه قال الذكر الذي علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم لفاطمة قال ما تركته منذ سمعته عن النبي صلى الله عليه و سلم قيل و لا ليلة صفين قال و لا ليلة صفين ذكرته من السحر فقلته و ما ذكر من إخراج الحديد من جسده فكذب فان عليا لم يعرف انه
(7/365)
دخل فيه حديد و ما ذكره من جمعه بين الصلاة و الزكاة فهذا كذب كما تقدم و لا مدح فيه فان هذا لو كان مستحبا لشرع للمسلمين و لو كان يستحب للمسلمين أن يتصدقوا و هم في الصلاة لتصدقوا فلما لم يستحب هذا أحد من المسلمين علمنا انه ليس عبادة بل مكروه و كذلك ما ذكره من أمر النذر و الدراهم الأربعة قد تقدم أن هذا كله كذب و ليس فيه كبير مدح و قوله اعتق ألف عبد من كسب يده من الكذب الذي لا يروج إلا على اجهل الناس فان عليا لم يعتق ألف عبد بل و لا مائة و لم يكن له كسب بيده يقوم بعشر هذا فانه لم تكن له صناعة يعملها و كان مشغولا إما بجهاد و إما بغيره و كذلك قوله كان يؤجر نفسه و ينفق على النبي صلى الله عليه و سلم في الشعب كذب بين من وجوه أحدها انهم لم يكونوا يخرجون من الشعب و لم يكن في الشعب من يستأجره و الثاني أن أباه أبا طالب كان معهم في الشعب و كان ينفق عليه و الثالث أن خديجة كانت موسرة تنفق من مالها و الرابع أن عليا لم يؤجر نفسه بمكة قط و كان صغيرا حين كان في الشعب إما مراهقا و إما محتلما فكان علي في الشعب ممن ينفق
(7/366)
عليه إما النبي صلى الله عليه و سلم و إما أبوه لم يكن ممن يمكنه أن ينفق على نفسه فكيف ينفق على غيره فان دخوله في الشعب كان في حياة أبي طالب بالنقل المتواتر و أبو طالب مات قبل ذهاب النبي صلى الله عليه و سلم إلى الطائف باتفاق الناس و كان موته و موت خديجة متقاربين فدخوله في الشعب كان في أول الإسلام فانه قد ثبت أن ابن عباس ولد و هم في الشعب و مات النبي صلى الله عليه و سلم و ابن عباس مراهق و علي عاش بعد الهجرة أربعين سنة باتفاق الناس و المبعث قبل ذلك بثلاث عشرة و أقصى ما قيل في موته انه كان ابن ثلاث و ستين فغايته أن يكون حين الإسلام كان له عشر سنين.
*فصل قال الرافضي الثالث انه كان اعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم.
*و الجواب أن اهل السنة يمنعون ذلك و يقولون ما اتفق عليه علماؤهم أن اعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر و قد ذكر غير واحد الإجماع على أن أبا بكر اعلم الصحابة كلهم و دلائل ذلك مبسوطة في موضعها. فانه لم يكن أحد يقضي و يخطب و يفتي بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم إلا أبو بكر رضي الله عنه و لم يشتبه على الناس شيء من أمر دينهم إلا فصله أبو بكر فانهم شكوا في موت النبي صلى الله عليه و سلم فبينه أبو بكر ثم شكوا في مدفنه فبينه ثم شكوا في قتال مانعي الزكاة فبينه أبو بكر. و بين لهم النص في قوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام أن شاء الله آمنين، و بينت لهم أن عبدا خيره الله بين الدنيا و الآخرة و نحو ذلك، و فسر الكلالة، فلم يختلفوا عليه.
و كان علي و غيره يروون عن أبي بكر كما في السنن عن علي قال: كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه فإذا حدثني غيره تاستحلفه فإذا حلف لي صدقته حدثني أبو بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ و يصلي ركعتين يستغفر الله تعالى إلا غفر له(7/367)
و لم يحفظ لأبي بكر فتيا تخالف نصا و قد وجد لعمر و علي و غيرهما فتاوى كثير ة تخالف النصوص حتى جمع الشافعي مجلدا في خلاف علي و ابن مسعود، و جمع محمد بن نصر المروزي كتابا كبيرا في ذلك.
و قد خالفوا الصديق في الجد و الصواب في الجد قول الصديق كما قد بينا ذلك في مصنف مفرد و ذكرنا فيه عشرة وجوه تدل على صحة قوله و جمهور الصحابة معه في الجد نحو بضعة عشر منهم و الذين نقل عنهم خلافة كزيد و ابن مسعود و اضطربت أقوالهم اضطرابا يبين أن قوله هو الصواب دون قولهم.
و قد نقل غير واحد الإجماع على أن أبا بكر اعلم من علي منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد أئمة الشافعية و ذكر في كتابه تقويم الأدلة الإجماع من علماء السنة أن أبا بكر اعلم من علي، كيف و أبو بكر كان بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم يفتي و يأمر و ينهى و يخطب كما كان يفعل ذلك إذا خرج النبي صلى الله عليه و سلم هو و إياه يدعو الناس إلى الإسلام و لما هاجرا و يوم حنين و غير ذلك من المشاهد و هو ساكت يقره، و لم تكن هذه المرتبة لغيره و كان النبي صلى الله عليه و سلم في مشاورته لأهل الفقه و الرأي يقدم في الشورى أبا بكر و عمر فهما اللذان يتكلمان في العلم و يتقدمان(7/368)
بحضرته على سائر الصحابة، مثل مشاورته في أسارى بدر، و غير ذلك.
و قد روى في الحديث انه قال إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما و في السنن عنه انه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر و لم يحصل هذا لغيرهما. بل قال عليكم بسنتي و سنة الخلفاء فأمر باتباع سنة الخلفاء الأربعة و خص أبا بكر و عمر بالاقتداء و مرتبة المقتدي به في أفعاله و فيما سنه للمسلمين فوق مرتبة المتبع فيما سنه فقط.
و في صحيح مسلم أن أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كانوا معه في سفره فذكر الحديث و فيه أن يطع القوم أبا بكر و عمر يرشدوا و ثبت عن ابن عباس انه كان يفتي بكتاب الله فان لم يجد فبما في سنة رسول الله فان لم يجد أفتى بقول أبي بكر و عمر و لم يكن يفعل ذلك بعثمان و لا بعلي و ابن عباس هو حبر الأمة و اعلم الصحابة في زمانه و هو يفتي بقول أبي بكر و عمر مقدما لهما على قول غيرهما و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل.(7/369)
و أبو بكر و عمر اكثر اختصاصا بالنبي صلى الله عليه و سلم من سائر الصحابة و أبو بكر اكثر اختصاصا به فانه كان يسمر عنده عامة الليل يحدثه في العلم و الدين و مصالح المسلمين، كما روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش حدثنا إبراهيم حدثنا علقمة عن عمر قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمر المسلمين و أنا معه. و في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء و أن النبي صلى الله عليه و سلم قال مرة من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث و من كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس و سادس و أن أبا بكر جاء بثلاثة و انطلق نبي الله صلى الله عليه و سلم بعشرة و أن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه و سلم ثم لبث حتى صليت العشاء ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءنا بعد ما مضى من الليل ما شاء قالت امرأته ما
حبسك عن أضيافك قال أو ما عشيتهم قالت أبو حتى تجيء عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم و ذكر الحديث. و في رواية قال كان أبي يتحدث إلى النبي صلى الله عليه و سلم من الليل و في سفر الهجرة لم يصحب غير أبي و يوم بدر لم يبق معه في العريش غيره. و قال أن أمن الناس علينا في صحبته و ذات يده أبو بكر و لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و هذا من أصح في الأحاديث الصحيحة المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة. و في الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كنت جالسا(7/370)
عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ اقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى من ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه و سلم إما صاحبكم فقد غامر فسلم و قال انه كان بيني و بين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي و إني أتيتك فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم أن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فلم يجده فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه و سلم يتمعر و غضب حتى أشفق أبو بكر و قال أنا كنت اظلم يا رسول الله مرتين فقال النبي صلى الله عليه و سلم أن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدقت و واساني بنفسه و ماله فهل انتم تاركوا لي صاحبي فهل انتم تاركوا لي صاحبي فما أوذي بعدها قال البخاري سبق بالخير. و قد تقدم ما في الصحيحين أن أبا سفيان يوم أحد لم يسال إلا عن النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر و عمر لعلمه و علم سائر الناس أن هؤلاء هم رؤوس الإسلام و أن قيامه بهم و لهذا لما سال الرشيد مالك بن انس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه و سلم فقال منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه في مماته فقال شفيتني يا مالك شفيتني يامالك(7/371)
و كثرة الاختصاص و الصحبة مع كمال المودة و الائتلاف و المحبة و المشاركة في العلم و الدين تقتضي انهما أحق بذلك من غيرهما و هذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم إما الصديق فانه مع قيامه بأمور من العلم و الفقه عجز عنهما غيره حتى بينها لهم لم يحفظ له قول يخالف فيه نصا و هذا يدل على غاية البراعة و العلم.
و أما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النصوص لكون النصوص لك تبلغه و الذي وجد لعمر من موافقته النصوص اكثر من موافقة علي، يعرف هذا من عرف مسائل العلم و أقوال العلماء فيها و الأدلة الشرعية و مراتبها و ذلك مثل عدة المتوفي عنها زوجها فان قول عمر فيها هو الذي وافق النص دون القول الآخر، و كذلك مسالة الحرام قول عمر و غيره فيها هو الأشبه بالنصوص من القول الآخر الذي هو قول علي، و كذلك المخيرة التي خيرها زوجها و المفوضة للمهر و مسالة الخلية و البرية و البائن و البتة، و كثير من مسائل الفقه.
و في الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم انه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي أحد فعمر.(7/372)
و في الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم انه قال رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظافري ثم ناولت فضلي عمر قالوا ما أولته يا رسول الله قال العلم. و في الترمذي و غيره عنه عليه الصلاة و السلام انه قال لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر و لفظ الترمذي لو كان بعدي نبي لكان عمر قال الترمذي حديث حسن.
و أيضا فان الصديق استخلفه النبي صلى الله عليه و سلم على الصلاة التي هي عمود الإسلام و على إقامة المناسك قبل أن يحج النبي صلى الله عليه و سلم فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك و لا يطوف بالبيت عريان و أردفه بعلي فقال أمير أم مأمور فقال بل مأمور فأمر أبا بكر على على فكان ممن أمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يسمع و يطيع لأبي بكر و هذا بعد غزوة تبوك التي استخلف فيها عليا على المدينة و كتاب أبي بكر في الصدقات اصح الكتب و آخرها و لهذا عمل به عامة الفقهاء و غيره في كتابه ما هو متقدم منسوخ فدل على انه اعلم بالسنة الناسخة و في الصحيحين عن أبي سعيد قال كان أبو بكر أعلمنا بالنبي صلى الله عليه و سلم(7/373)
و أيضا فالصحابة لم يتنازعوا في زمن أبي بكر في مسالة إلا فصلها و ارتفع النزاع فلا يعلم بينهم في زمانه مسالة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه كتنازعهم في وفاة النبي صلى الله عليه و سلم و دفنه و ميراثه و تجهيزه جيش أسامة و قتال مانعي الزكاة و غير ذلك من المسائل الكبار. بل كان رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم حقا يعلمهم و يقومهم و يشجعهم و يبين لهم من الأدلة ما تزول معه الشبهة فلم يكونوا معه يختلفون و بعده فلم يبلغ علم أحد و كماله علم أبي بكر و كماله، فصاروا يتنازعون في بعض المسائل كما تنازعوا في الجد و الاخوة و في الحرام و الطلاق الثلاث و في متعة الحج و نفقة المبتوتة و سكناها و غير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر و كانوا يخالفون عمر و عثمان و عليا في كثير من أقوالهم و لم يعرف انهم خالفوا الصديق في شيء مما كان يفتي به و يقضي و هذا يدل على غاية العلم.(7/374)
و قام رضي الله عنه مقام رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقام الإسلام فلم يخل بشيء بل ادخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين و غيرهم و كثرة الخاذلين فكمل به من علمهم و دينهم ما لا يقاومه فيه أحد و كانوا يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته قال أبو القاسم السهيلي ظهر سر قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا في اللفظ و المعنى فانهم قالوا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انقطع هذا بموته.
و أيضا فعلي تعلم من أبي بكر بعض السنة و أبو بكر لم يتعلم من علي شيئا و مما يبين هذا أن علماء الكوفة الذين صحبوا عمر و عليا كعلقمة و الأسود و شريح وغيرهم كانوا يرجحون قول عمر على قول علي و إما تابعو المدينة و مكة و البصرة فهذا عندهم اظهر و اشهر من أن يذكر و إنما ظهر علم علي و فقهه في الكوفة بحسب مقامه فيها عندهم مدة خلافته و كل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر و عمر لا في فقه و لا علم و لا دين، بل كل شيعته الذين قاتلوا معه كانوا مع سائر المسلمين متفقين على تقديم أبي بكر وعمر إلا من كان ينكر عليه و يذمه مع قلتهم و حقارتهم و خمولهم و هم ثلاث طوائف طائفة غلت فيه و ادعت فيه الإلهية و هؤلاء حرقهم بالنار(7/375)
و طائفة سبت أبا بكر رأسهم عبد الله بن سبأ فطلب علي قتله حتى هرب منه إلى المدائن و طائفة كانت تفضله حتى قال لا يبلغني عن أحد انه فضلني على أبي بكر و عمر إلا جلدته جلد المفتري و قد روي عن علي من نحو ثمانين وجها انه قال على منبر الكوفة خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر و عمر. و في صحيح البخاري و غيره من رواية رجال همدان خاصته التي يقول فيهم و لو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي بسلام انه قال و قد سأله ابنه محمد بن الحنفية يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أبو بكر قال ثم من قال ثم عمر قال ثم أنت قال إنما أبوك رجل من المسلمين. قال البخاري حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان الثوري حدثنا جامع بن شداد حدثنا أبو يعلى منذر الثوري عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا بني أو ما تعرف فقلت لا فقال أبو بكر قلت ثم من قال ثم عمر و هذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه و لخاصته و يتقدم بعقوبة من يفضله عليهما و يراه مفتريا و المتواضع لا يجوز أن يتقدم بعقوبة من يفضله عليهما يقول الحق و لا يسميه مفتريا و كل من كان افضل من غيره من الأنبياء و الصحابة و غيرهم فانه اعلم و رأس الفضائل العلم قال تعالى هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون و الدلائل على ذلك كثيرة و كلام العلماء كثير في ذلك.(7/376)
و أما قوله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اقضاكم علي والقضاء يستلزم العلم و الدين، فهذا الحديث لم يثبت و ليس له إسناد تقوم به الحجة و قوله أعلمكم بالحلال و الحرام معاذ بن جبل أقوى إسنادا منه و العلم بالحلال و الحرام ينتظم القضاء اعظم مما ينتظم للحلال و الحرام و هذا الثاني قد رواه الترمذي و احمد و الأول لم يروه أحد في السنن المشهورة و لا المساند المعروفة لا بإسناد صحيح و لا ضعيف و إنما يروي من طريق من هو معروف بالكذب.
و قول عمر علي أقضانا إنما هو في فصل الخصومات في الظاهر مع جواز أن يكون في الباطن بخلافه كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال إنكم تختصمون إلي و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فاقضي له بنحو ما اسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعة من النار فقد اخبر سيد القضاة أن قضاءه لا يحل الحرام و علم الحلال و الحرام يتناول الظاهر و الباطن فكان الأعلم به اعلم بالدين و أيضا فالقضاء نوعان أحدهما الحكم عند تجاحد الخصمين مثل أن يدعي أحدهما أمرا ينكره الآخر فيحكم فيه بالبينة و نحوها و الثاني ما لا يتجاحدان فيه بل يتصادقان لكن لا يعلمان ما يستحق كل منهما كتنازعهما في قسمة فريضة أو فيما يجب لكل من الزوجين على الآخر أو فيما يستحقه كل من المتشاركين و نحو ذلك فهذا الباب هو من باب الحلال و الحرام فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما و لم يحتاجا إلى من يحكم بينهما و إنما يحتاجان إلى الحاكم عند التجاحد و ذلك غالبا إنما يكون مع الفجور و قد يكون مع النسيان فما لا يختص بالقضاء لا يحتاج إليه إلا قليل من الأبرار فأما الحلال و الحرام فيحتاج إليه البر و الفاجر و لهذا لما أمر أبو بكر عمر أن يقضي بين الناس مكث سنة لم يتحاكم إليه اثنان و لو عد مجموع ما قضى به النبي صلى الله عليه و سلم من هذا النوع لم يبلغ عشر حكومات فأين هذا من كلامه في الحلال و الحرام الذي هو قوام دين الإسلام(7/377)
و إذا كان قوله اعلم أمتي بالحلال و الحرام معاذ بن جبل اصح إسنادا و اظهر دلالة علم أن المحتج بذلك على أن عليا اعلم من معاذ جاهل فكيف من أبي بكر و عمر اللذين هما اعلم من معاذ مع أن الحديث الذي فيه ذكر معاذ و زيد بعضهم يضعفه و بعضهم يحسنه و الذي فيه ذكر علي فضعيف أو باطل و حديث أنا مدينة العلم و علي بابها اضعف و أوهى و لهذا إنما يعد في الموضوعات و أن رواه الترمذي و ذكره ابن الجوزي و بين أن سائر طرقه موضوعة و الكذب يعرف من نفس متنه فإن النبي صلى الله عليه و سلم إذا كان مدينة العلم و لم يكن لها إلا باب واحد و لم يبلغ عنه العلم إلا واحد فسد أمر الإسلام و لهذا اتفق المسلمون على أنه لايجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب(7/378)
و خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن اكثر الناس فلا يحصل لهم العلم بالقران والسنن المتواترة وإذا قالوا ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبرة قيل لهم فلا بد من العلم بعصمته أولا وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته فانه دور ولا تثبت بالإجماع فانه لا إجماع فيها وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة لان فيهم الإمام المعصوم فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه فعلم أن عصمته لو كانت حقا لا بد أن تعلم بطريق آخر غير خبره فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام إذ لم يبلغه إلا واحد ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر فان جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر وكذلك الشام والبصرة فان هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئا قليلا وإنما كان غالب علمه في الكوفة ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القران والسنة قبل أن يتولى عثمان فضلا عن علي
(7/379)
وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم اكثر من علي ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل اكثر مما رووا عن علي وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا وهو وعبيدة السلماني نفقها على غيره فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة وقال ابن حزم واحتج من احتج من الرافضة بان عليا كان أكثرهم علما قال وهذا كذب وإنما يعرف علم الصحابي بأحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما كثرة روايته وفتاويه والثاني كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له وهذا اكبر شهادة على العلم وسعته فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته وجميع أكابر الصحابة حضور كعمر وعلي وابن مسعود وأبي وغيرهم وهذا بخلاف استخلاف علي إذا غزا لان ذلك على النساء وذوي الأعذار فقط فوجب ضرورة أن يكون أبو بكر اعلم الناس بالصلاة وشرائعها واعلم المذكورين بها وهي عمود الإسلام ووجدناه أيضا قد استعمله على الصدقات فوجب ضرورة
(7/380)
أن يكون عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا اقل وربما كان اكثر إذ قد استعمل غيره وهو لا يستعمل إلا عالما بما استعمله فيه والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة وبرهان ما قلناه من تمام علم أبي بكر بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها والذي يلزم العمل به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبي بكر ثم الذي من طريق عمر و إما من طريق علي فمضطرب وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الشياه وأيضا فوجدناه صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج فصح ضرورة انه اعلم من جميع الصحابة بالحج وهذه دعائم الإسلام ثم وجدناه قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على البعوث إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل فعند أبي بكر من علم الجهاد كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث لا اقل وإذا صح التقدم لأبي بكر على علي وغيره في العلم بالصلاة
(7/381)
والزكاة والحج وساواه في الجهاد فهذه عمدة للعلم ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد الزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه و إقامته أبا بكر فشاهد أحكامه وفتاويه اكثر من مشاهدة علي لها فصح ضرورة انه اعلم بها فهل بقيت من العلم بقية إلا و أبو بكر المقدم فيها الذي لا يلحق أو المشارك الذي لا يسبق فبطلت دعواهم في العلم والحمد لله رب العالمين و أما الرواية و الفتيا فان أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وستة اشهر ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لان كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك كله فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنين و أربعين حديثا مسندة ولم يرو عن علي إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثا مسندة يصح منها نحو خمسين حديثا وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيد من ثلاثين سنة فكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى ما عنده لذهاب جمهور الصحابة وكثر سماع أهل الافاق منه مرة بصفين وأعواما بالكوفة ومرة بالبصرة ومرة
(7/382)
بالمدينة فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته واضفنا تفري على البلاد بلدا بلدا وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وانه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه وفتاويه من فتاويه علم كل ذي حظ من علم أن الذي عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه وبرهان ذلك أن من قبل عمر من الصحابة عغفمر قليلا قل النقل عنه ومن طال عمره كثر النقل عنه إلا اليسير ممن اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس وقد عاش علي بعد عمر سبعة عشر عاما غير اشهر ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا يصح منها نحو خمسين كالذي عن علي سواء فكل ما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة و أربعون حديثا في هذه المدة ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان وفتاوى عمر موازية لفتاوي علي في أبواب الفقه فإذا نسبنا مدة من مدة وضربا في البلاد من ضرب فيها واضفنا حديثا إلى حديثوفتاوى إلى فتاوى علم كل ذي حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي ووجدنا مسند عائشة ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريرة خمسة آلاف مسند وثلاثمائة مسند و أربعة وسبعون مسندا ووجدنا مسند ابن عمر وانس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما ووجدنا مسند جابر وابن عباس لكل واحد منهما أزيد من ألف وخمسمائة ووجدنا لابن مسعود ثمانمائة مسند ونيفا ولكل من ذكرنا حاشا أبي هريرة وانس من الفتاوى اكثر من فتاوى علي أو نحوها فبطل قول هذا الجاهل إلى أن قال فان قالوا قد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عليا على الأخماس علما والقضاء باليمن قلنا نعم لكن مشاهدة أبي بكر لأقضية النبي صلى الله عليه وسلم أقوى في العلم واثبت مما عند علي وهو باليمن وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم
(7/383)
أبا بكر على بعوث فيها الأخماس فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك إذ لا يستعمل النبي إلا عالما بما يستعمله عليه وقد صح أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ذلك ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما اعلم من غيرهما وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا على القضاء باليمن مع علي معاذا و أبا موسى الاشعري فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر وعمر ثم انفرد أبو بكر بالجمهور والأغلب من العلم.
*فصل قال الرافضي وفيه نزل قوله تعالى وتعيها أذن واعية.
*والجواب انه حديث موضوع باتفاق أهل العلم ومعلوم بالاضطرار أن الله تعالى لم يرد بذلك أن لا تعيها إلا أذن واعية واحدة من الأذان ولا أذن شخص معين لكن المقصود النوع فيدخل في ذلك كل أذن واعية.
*فصل قال الرافضي وكان في غاية الذكاء شديد الحرص على التعلم ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو اكمل الناس ملازمة ليلا ونهارا من صغره إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*والجواب أن يقال من أين علم انه أذكى من عمر ومن أبي بكر أو انه كان ارغب في العلم منهما أو أن استفادته من النبي صلى الله عليه وسلم اكثر منهما وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال انه كان في الأمم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي أحد فعمر والمحدث الملهم يلهمه الله وهذا قدر زائد على تعليم البشر وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال رأيت كأني أتيت بلبن فشربت منه حتى رأيت الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر قالوا فما أولته قال العلم ولم يرو مثل هذا لعلي(7/384)
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم رأيت الناس يعرضون علي وعلهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض علي عمر وعليه قميص يجره قالوا فما أولته يا رسول الله قال الدين فهذان حديثان صحيحان يشهدان له بالعلم والدين ولم يرو مثل هذا لعلي وقال ابن مسعود لما مات عمر أني لأحسب هذا قد ذهب بتسعة أعشار العلم وشارك الناس في العشر الباقي ولا ريب أن أبا بكر كان ملازما للنبي صلى الله علي وسلم اكثر من علي ومن كل أحد و اكن أبو بكر و عمر رضي الله عنهما اكثر اجتماعا بالنبي صلى الله عليه و سلم من علي بكثير كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وضع عمر رضي الله عنه على سريره فتكنفه الناس يدعون و يثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع فلم يرعني إلا رجل قد اخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي و ترحم على على عمر و قال ما خلفت أحدا احب إلى أن ألقى الله عز و جل بمثل عمله منك و أيم الله أن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك و ذلك أني كثيرا ما كنت اسمع النبي صلى
(7/385)
الله عليه وسلم يقول جئت أنا و أبو بكر و عمر و دخلت أنا و أبو بكر و عمر و خرجت أنا و أبو بكر و عمر فان كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك و كان النبي صلى الله عليه وسلم و أبو بكر يسمران في أمر المسلمين بالليل و المسائل التي تنازع فيها عمر و علي في الغالب يكون فيها قول عمر ارجح كمسألة الحامل المتوفي عنها زوجها و مسالة الحرام كما تقدم و لا ريب أن مذهب أهل المدينة ارجح من مذهب أهل العراق و هؤلاء يتبعون عمر و زيدا في الغالب و أولئك يتبعون عليا و ابن مسعود و كان ما يقوله عمر يشاور فيه عثمان و عليا و غيرهما و علي مع هؤلاء أقوى من علي وحده كما قال له قاضيه عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة احب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وقال ابن مسعود كان عمر إذا فتح لنا بابا دخلناه فوجدناه سهلا آتى في زوج و أبوين و امرأة و أبوين فقال للام ثلث الباقي ثم أن عثمان و عليا و ابن مسعود و زيدا اتبعوه و سعيد بن المسيب كان من اعلم التابعين باتفاق المسلمين و كان عمدة فقهه قضايا عمر و كان ابن عمر يسأله عنها و في الترمذي عنالنبي صلى الله عليه وسلم انه قال لو كان بعدي نبي لكان عمر قال الترمذي حديث حسن و اعلم أن أهل الكوفة و أصحاب ابن مسعود كعلقمة و الأسود و شريح و الحارث بن قيس و عبيدة السلماني و مسروق و زر بن حبيش و أبي وائل و غيرهم هؤلاء كانوا يفضلون علم عمر و علم ابن مسعود على علم علي و يقصدون في الغالب قول عمر و ابن مسعود دون قول علي.
*فصل قال الرافضي و قال صلى الله عليه وسلم العلم في الصغر كالنقش في الحجر. فتكون علومه اكثر من علوم غيره لحصول القابل الكامل و الفاعل التام.
*و الجواب أن هذا من عدم علم الرافضي بالحديث فان هذا مثل سائر ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه أيدهم الله تعالى فتعلموا الإيمان و القرآن و السنن و يسر الله ذلك عليهم و كذلك(7/386)
علي فان القرآن لم يكمل حتى صار لعلي نحوا من ثلاثين سنة فإنما حفظ اكثر ذلك في كبره لا في صغره و قد اختلف في حفظه لجميع القران على قولين و الأنبياء اعلم الخلق و لم يبعث الله نبيا إلا بعد الأربعين إلا عيسى صلى الله عليه وسلم.
و تعليم النبي صلى الله علي وسلم كان مطلقا لم يكن يخص به أحدا و لكن بحسب استعداد الطالب و لهذا حفظ عنه أبو هريرة في ثلاث سنين و بعض أخرى ما لم يحفظه غيره و كان اجتماع أبي بكر به اكثر من سائر الصحابة.
و أما قوله أن الناس منه استفادوا العلوم فهذا باطل فان أهل الكوفة التي كانت داره كانوا قد تعلموا الإيمان و القران و تفسيره و الفقه و السنة من ابن مسعود و غيره قبل أن يقدم علي الكوفة. و إذا قيل أن أبا عبد الرحمن قرأ عليه فمعناه عرض عليه و إلا فأبو عبد الرحمن كان قد حفظ القران قبل أن يقدم علي الكوفة و هوو غيره من علماء الكوفة مثل علقمة و الأسود و الحارث التيمي و زر ابن حبيش الذي قرأ عليه عاصم بن أبي النجود اخذوا القران عن ابن مسعود و كانوا يذهبون إلى المدينة فيأخذون عن عمر وعائشه ولم يأخذوا عن علي كما اخذوا عن عمرو عائشة و شريح قاضيه إنما تفقه على معاذ بن جبل باليمن و كان يناظره في الفقه و لا يقلده و كذلك عبيدة السلماني كان لا يقلده بل يقول له رأيك مع عمر في الجماعة احب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة و أما أهل المدينة و مكة فعلمهم أيضا ليس مأخوذا عنه و كذلك أهل الشام و البصرة فهذه الأمصار الخمسة الحجازان و العراقان و الشام هي التي خرج منها علوم النبوة من العلوم الإيمانية و القرآنية و الشريعة و ما اخذ هؤلاء عنه فان عمر رضي الله عنه كان قد أرسل إلى كل مصر من يعلمهم القران و السنة و أرسل إلى أهل الشام معاذ بن جبل و عبادة بن الصامت و غيرهما و أرسل إلى العراق ابن مسعود و حذيفة بن اليمان و غيرهما.(7/387)
*فصل قال الرافضي و أما النحو فهو واضعه، قال لأبي الأسود الكلام كله ثلاثة أشياء اسم و فعل و حرف، و علمه وجوه الأعراب.
*و الجواب أن يقال أولا هذا ليس من علوم النبوة و إنما هو علم مستنبط و هو وسيلة في حفظ قوانين اللسان الذي نزل به القران و لم يكن في زمن الخلفاء الثلاثة لحن فلم يحتج إليه فلما سكن علي الكوفة و بها الأنباط روي انه قال لأبي الأسود الدؤلي الكلام اسم و فعل و حرف و قال انح هذا النحو ففعل هذا للحاجة كما أن من بعد علي أيضا استخرج للخط النقط و الشكل و علامة المد و الشد و نحوه للحاجة ثم بعد ذلك بسط النحو نحاة الكوفة و البصرة و الخليل استخرج علم العروض.
*فصل قال الرافضي و في الفقه الفقهاء يرجعون إليه.
*و الجواب أن هذا كذب بين فليس في الأئمة الأربعة و لا غيرهم من أئمة الفقهاء من يرجع إليه في فقهه أما مالك فان علمه عن(7/388)
أهل المدينة و أهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي بل اخذوا فقههم عن الفقهاء السبعة عن زيد و عمر و ابن عمر و نحوهم.
أما الشافعي فانه تفقه أولا على المكيين أصحاب ابن جريج كسعيد بن سالم القداح و مسلم بن خالد الزنجي و ابن جريج اخذ ذلك عن أصحاب ابن عباس كعطاء و غيره و ابن عباس كان مجتهدا مستقلا و كان إذا أفتى بقول الصحابة أفتى بقول أبي بكر و عمر لا بقول علي و كان ينكر على علي أشياء. ثم أن الشافعي اخذ عن مالك ثم كتب كتب أهل العراق و اخذ مذاهب أهل الحديث و اختار لنفسه.
و أما أبو حنيفة فشيخه الذي اختص به حماد بن أبي سليمان و حماد عن إبراهيم و إبراهيم عن علقمة و علقمة عن ابن مسعود و قد اخذ أبو حنيفة عن عطاء و غيره.
و أما الإمام احمد فكان على مذهب أهل الحديث اخذ عن ابن عيينة و ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس و ابن عمر و اخذ عن هشام بن بشير و هشام عن أصحاب الحسن و إبراهيم النخعي و اخذ عن عبد الرحمن بن مهدي و وكيع بن الجراح و أمثالهما و جالس الشافعي و اخذ عن أبي يوسف و اختار لنفسه قولا و كذلك إسحاق بن راهويه وابو عبيد ونحوهمو الاوزاعي و الليث اكثر فقههما عن أهل المدينة و أمثالهم لا عن الكوفيين.
*فصل قال الرافضي أما المالكية فاخذوا علمهم عنه و عن أولاده.
*و الجواب أن هنا كذب ظاهر فهذا موطأ مالك ليس فيه عنه و لا عن أحد أولاده إلا قليل جدا و جمهور ما فيه عن غيرهم فيه عن جعفر تسعة أحاديث و لم يرو مالك عن أحد من ذريته إلا عن جعفر و كذلك الأحاديث التي في الصحاح و السنن و المساند منها قليل عن ولده و جمهور ما فيها عن غيرهم.(7/389)
*فصل قال الرافضي و أما أبو حنيفة فقرأ على الصادق.
*و الجواب أن هذا من الكذب الذي يعرفه من له أدنى علم فان أبا حنيفة من أقران جعفر الصادق توفي الصادق سنة ثمان و أربعين و توفي أبو حنيفة سنة خمسين و مائة و كان أبو حنيفة يفتي في حياة أبي جعفر والد الصادق و ما يعرف أن أبا حنيفة اخذ عن جعفر الصادق و لا عن أبيه مسألة واحدة بل اخذ عمن كان أسن منهما كعطاء بن أبي رباح و شيخه الأصلي حماد بن أبي سليمان و جعفر بن محمد كان بالمدينة.
*فصل قال الرافضي و أما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن.
*الجواب أن هذا ليس كذلك بل جالسه و علاف عرف طريقته و ناظره و أول من اظهر الخلاف لمحمد بن الحسن و الرد عليه هو الشافعي ان محمد بن الحسن اظهر الرد على مالك و أهل المدينة و هو أول من عرف منه رد على مخالفيه فنظر الشافعي في كلامه و انتصر لما تبين له انه الحق من قول أهل المدينة و كان انتصاره في الغالب لمذهب أهل الحجاز و أهل الحديث ثم أن عيسى بن إبان صنف كتابا تعرض فيه بالرد على الشافعي فصنف ابن سريج كتابا في الرد على عيسى بن إبان و كذلك احمد بن حنبل لم يقرأ على الشافعي لكن جالسه كما جالس الشافعي محمد بن الحسن و استفاد كل منهما من صاحبه و كان الشافعي و احمد يتفقان في أصولهما اكثر من اتفاق الشافعي و محمد بن الحسن و كان الشافعي أسن من احمد ببضع عشرة سنة و كان الشافعي قدم بغداد أولا سنة بضع و ثمانين في حياة محمد بن الحسن بعد موت أبي يوسف ثم قدمها ثانية سنة بضع و تسعين و في هذه القدمة اجتمع به احمد و بالجملة فهؤلاء اللاأمة الأربعة ليس فيهم من اخذ عن جعفر شيئا من قواعد الفقه لكن رووا عنه أحاديث كما رووا عن غيره و أحاديث غيره أضعاف أحاديثه و ليس بين حديث الزهري و حديثه نسبة لا في القوة و لا في الكثرة و قد استراب البخاري في بعض حديثه لما بلغه عن يحيى بن سعيد(7/390)
القطان فيه كلام فلم يخرج له و لم يكذب على أحد ما كذب على جعفر الصادق مع براءته كما كذب عليه فنسب إليه علم البطاقة و الهفت و الجدول و اختلاج الأعضاء و منافع القران و الكلام على الحوادث و أنواع من الإشارات في تفسير القران وتفسير قراءة السورة في المنام وكل ذلك كذب عليه وأيضا جعفر الصادق اخذ عن أبيه وعن غيره كما قدمنا وكذلك أبوه اخذ عن علي بن الحسين وغيره وكذلك علي بن الحسين اخذ العلم عن غير الحسين اكثر مما اخذ عن الحسين فان الحسين قتل سنة إحدى وستين وعلي صغير فلما رجع إلى المدينة اخذ عن علماء أهل المدينة فإن علي بن الحسين اخذ عن أمهات المؤمنين عائشة وأم سلمة وصفية واخذ عن ابن عباس والمسور بن مخرمة وأبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم ومروان بن الحكم وسعيد بن المسيب وغيرهم وكذلك الحسن كان يأخذ عن أبيه وغيره حتى اخذ عن التابعين وهذا من علمه ودينه رضي الله عنه و أما ثناء العلماء على علي بن الحسين ومناقبه فكثيرة وقال الزهري لم أدرك بالمدينة افضل من علي بن الحسين وقال يحيى بن سعيد الأنصاري هو افضل هاشمي رايته بالمدينة وقال حماد بن زيد سمعت عن علي بن الحسين وكان افضل هاشمي أدركته يقولأيها الناس أحبونا حب الإسلام فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا ذكره محمد بن سعد في الطبقات أنبأنا عارم بن الفضل أنبأنا حماد ثم قال بن سعد قالوا وكان علي بن الحسين ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا وروى عن شيبة بن نعامة قال كان علي بن الحسين يبخل فلما مات وجدوه يقوت أهل مائة بيت بالمدينة في السر.(7/391)
*فصل قال الرافضي ومالك قرا على ربيعة وربيعة على عكرمة وعكرمة على ابن عباس وابن عباس تلميذ علي.
*والجواب أن هذا من الكذب فان ربيعة لم يأخذ عن عكرمة شيئا، بل ولا ذكر مالك عن عكرمة في كتبه إلا أثرا أو اثرين ولا ذكر اسم عكرمة في كتبه أصلا لأنه بلغه عن ابن عمر وابن المسيب انهما تكلما فيه فتركه لذلك وكذلك لم يخرج له مسلم ولكن ربيعة اخذ عن سعيد بن المسيب و أمثاله من فقهاء أهل المدينة وسعيد كان يرجع علمه إلى عمر وكان قد اخذ عن زيد بن ثابت وأبي هريرة وتتبع قضايا عمر من أصحابه وكان ابن عمر يسأله عنها ولهذا يقال أن موطأ مالك أخذت أصوله عن ربيعة عن سعيد بن المسيب عن عمر وقال الرشيد لمالك قد أكثرت في موطئك عن ابن عمر وأقللت عن ابن عباس فقال كان أورع الرجلين يا أمير المؤمنين فهذا موطأ مالك يبين أن ما ذكره عن مالك من اظهر الكذب وقول ابن عباس تلميذ علي كلام باطل فان رواية ابن عباس عن علي قليلة وغالب أخذه عن عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة وكان يفتي بقول أبي بكر وعمر ونازع عليا في مسائل مثل ما اخرج البخاري في صحيحه قال أتى علي بقوم زنادقة فحرقهم فبلغ ذلك بن عباس فقال أما لو كنت لم احرقهم لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه فبلغ ذلك عليا فقال ويح ابن عباس ما أسقطه على الهنات تم بحمد الله(7/392)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب: منهاج السنة النبوية
///الجزء الثامن///
*فصل قال الرافضي وأما علم الكلام فهو أصله ومن خطبة تعلم الناس وكل الناس تلاميذه.
*والجواب أن هذا الكلام كذب لا مدح فيه فإن الكلام المخالف للكتاب والسنة باطل وقد نزه الله عليا عنه ولم يكن في الصحابة والتابعين أحد يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام ويثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون والأجسام مستلزمة لذلك لا تنفك عنه وما لا يسبق الحوادث فهو حادث ويبنى ذلك على حوادث لا أول لها بل أول ما ظهر هذا الكلام في الإسلام بعد المائة الأولى من جهة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان ثم صار إلى أصحاب عمرو بن عبيد كأبي الهذيل العلاف وأمثاله وعمرو بن عبيد واصل بن عطاء إنما كانا يظهران الكلام في إنفاذ الوعيد وأن النار لا يخرج منها من دخلها وفي التكذيب بالقدر وهذا كله مما نزه الله عنه عليا وليس في الخطب الثابتة عن علي شيء من أصول المعتزلة الخمسة بل كل ذلك إذا نقل عنه فهو كذب عليه وقدماء المعتزلة لم يكونوا يعظمون عليا بل كان فيهم من يشك في عدالته ويقول قد فسق عند إحدى الطائفتين لا بعينها إما علي وإما طلحة والزبير فإذا شهد أحدهما لم أقبل شهادته وفي قبول شهادة علي منفردة قولان لهم وهذا معروف عن عمرو بن عبيد وأمثاله من المعتزلة والشيعة القدماء كلهم كالهشامين وغيرهما يثبتون الصفات ويقرون بالقدر على خلاف قول متأخري الشيعة بل يصرحون بالتجسيم ويحكى عنهم فيه شناعات وهم يدعون أنهم أخذوا ذلك عن أهل البيت(8/1)
وقد ثبت عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن أخالق هو أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق لكنه كلام الله وأما قول الرافضي إن واصل بن عطاء أخذ عن أبي هاشم ابن محمد بن الحنفية فيقال إن الحسن بن محمد بن الحنفية قد وضع كتابا في الإرجاء نقيض قول المعتزلة ذكر هذا غير واحد من أهل العلم وهذا يناقض مذهب المعتزلة الذي يقول به واصل بن عطاء ويقال إنه أخذه عن أبي هاشموقيل إن أبا هاشم هذا صنف كتابا أنكر عليه لم يوافقه عليه أخوه ولا أهل بيته ولا أخذه عن أبيه وبكل حال الكتاب الذي نسب إلى الحسن يناقض ما ينسب إلى أبي هاشم وكلاهما قد قيل إنه رجع عن ذلك ويمتنع أن يكونا أخذا هذين المتناقضين عن أبيهما محمد بن الحنفية وليس نسبة أحدهما إلى محمد بأولى من الآخر فبطل القطع بكون محمد بن الحنفية كان يقول بهذا وبهذا يل المقطوع به أن محمدا مع براءته من قول المرجئة فهو من قوله المعتزلة أعظم براءة وأبو علي أعظم براءة من المعتزلة والمرجئة منه وأما الأشعري فلا ريب عنه أنه كان تلميذا لأبي علي الجبائي لكنه
(8/2)
فارقه ورجع عن جمل مذهبه وإن كان قد بقي عليه شيء من أصول مذهبه لكنه خالفه في نفي الصفات وسلك فيها طريقة ابن كلاب وخالفهم في القدر ومسائل الإيمان والأسماء والأحكام وناقضهم في ذلك أكثر من مناقضة حسين النجار وضرار بن عمرو ونحوهما ممن هو متوسط في هذا الباب كجمهور الفقهاء وجمهور أهل الحديث حتى مال في ذلك إلى قول جهم وخالفهم في الوعيد وقال بمذهب الجماعة وانتسب إلى مذهب أهل الحديث والسنة كأحمد بن حنبل وأمثال وبهذا اشتهر عند الناس فالقدر الذي يحمد من مذهبه هو ما وافق فيه أهل السنة والحديث كالجمل الجامعة وأما القدر الذي يذم من مذهبه فهو ما وافق فيه المخالفين للسنة والحديث من المعتزلة والمرجئة والجهمية والقدرية ونحو ذلك وأخذ مذهب أهل الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي بالبصرة وعن طائفة ببغداد من أصحاب أحمد وغيرهم وذكر في المقالات ما اعتقد أنه مذهب أهل السنة والحديث وقال بكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهبوهذا المذهب هو من أبعد المذاهب عن مذهب الجهمية والقدرية وأما الرافضة كهذا المصنف وأمثاله من متأخري الإمامية فإنهم جمعوا أخس المذاهب مذهب الجهمية في الصفات ومذهب القدرية في أفعال العباد ومذهب الرافضة في الإمامة والتفضيل فتبين أن ما نقل عن علي من الكلام فهو كذب عليه ولا مدح فيه وأعظم من ذلك أن القرامطة الباطنية ينسبون قولهم إليه وأنه أعطى علما باطنا مخالفا للظاهر وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس إلا ما في هذه الصحيفة وكان فيها العقل وفكاك الأسرى وأن لا يقتل مسلم بكافر إلا فهما يؤتيه الله عبدا في الكتاب ومن الناس من ينسب إليه الكلام في الحوادث كالجفر وغيره وآخرون ينسبون إليه البطاقة وأمورا أخرى يعلم أن عليا بريء منها
(8/3)
وكذلك جعفر الصادق قد كذب عليه من الأكاذيب مالا يعلمه إلا الله حتى نسب إليه القول في أحكام النجوم والرعود والبروق والقرعة التي هي من الاستقسام بالأزلام ونسب إليه كتاب منافع سور القرآن وغير ذلك مما يعلم العلماء أن جعفرا رضي الله عنه بريء من ذلك وحتى نسب إليه أنواع من تفسير القرآن على طريقة الباطنية كما ذكر ذلك عنه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب حقائق التفسير فذكر قطعة من التفاسير التي هي من تفاسيره وهي من باب تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل مراد الله تعالى من الآيات بغير مراده وكل ذي علم بحاله يعلم أنه كان بريئا من هذه الأقوال والكذب على الله في تفسير كتابه العزيز وكذلك قد نسب إليه بعضهم الكتاب الذي يسمى رسائل إخوان الكدر وهذا الكتاب صنف بعد جعفر الصادق بأكثر من مائتي سنة فإن جعفرا توفي سنة ثمان وأربعين ومائة وهذا الكتاب صنف في أثناء الدولة العبيدية الباطنية الإسماعيلية لما استولوا على مصر وبنوا القاهرة صنفه طائفة من الذين أرادوا أن يجمعوا بين الفلسفة والشريعة والتشيع كما كان يسلكه هؤلاء العبيديون الذين كانوا يدعون أنهم من ولد علي
(8/4)
وأهل العلم بالنسب يعلمون أن نسبهم باطل وأن جدهم يهودي في الباطن وفي الظاهر وجدهم ديصاني من المجوس تزوج أمرأة هذا اليهودي وكان ابنه ربيبا لمجوسي فانتسب إلى زوج أمه المجوسي وكانوا ينتسبون إلى بأهله على أنهم من مواليهم وادعى هو أنه من ذرية محمد بن إسماعيل بن جعفر وإليه انتسب الإسماعيلية وادعوا أن الحق معهم دون الاثني عشرية فإن الإثنى عشرية يدعون إمامه موسى ابن جعفر وهؤلاء يدعون إمامه إسماعيل بن جعفر وأئمة هؤلاء في الباطن ملاحدة زنادقة شر من الغالية ليسوا من جنس الاثنى عشرية لكن إنما طرقهم على هذا المذاهب الفاسدة ونسبتها إلى علي ما فعلته الاثنا عشرية وأمثالهم كذب أولئك عليه نوعا من الكذب ففرعه هؤلاء وزادوا عليه حتى نسبوا الإلحاد إليه كما نسب هؤلاء إليه مذهب الجهمية والقدرية وغير ذلك ولما كان هؤلاء الملاحدة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم ينتسبون إلى علي وهم طرقية وعشرية وغرباء وأمثال هؤلاء صاروا يضيفون إلى علي ما براه الله منه حتى صار اللصوص من العشرية يزعمون أن معهم كتابا من علي بالإذن لهم في سرقة أموال الناس كما ادعت اليهود الخيابرة أن معهم كتابا من على بإسقاط الجزية عنهم
(8/5)
وإباحة عشر أموال أنفسهم وغير ذلك من الأمور المخالفة لدين الإسلام وقد أجمع العلماء على أن هذا كله كذب على علي وهو من أبرأ الناس من هذا كله ثم صار هؤلأء يعدون ما افتروه عليه من هذه الأمور مدحا له يفضلونه بها على الخلفاء قبله ويجعلون تنزه أولئك من مثل الإباطيل عيبا فيهم وبغضا حتى صار رؤوس الباطنية تجعل منتهى الإسلام وغايته هو الإقرار بربوبية الأفلاك وأنه ليس وراء الأفلاك صانع لها ولا خالق ويجعلون هذا هو باطن دين الإسلام الذي بعث به الرسول وأن هذا هو تأويله وأن هذا التأويل ألقاه على إلى الخواص حتى اتصل بمحمد ابن إسماعيل بن جعفر وهو عندهم القائم ودولته هي القائمة عندهم وأنه ينسخ ملة محمد بن عبدالله ويظهر التأويلات الباطنة التي يكتمها التي أسرها إلى علي وصار هؤلاء يسقطون عن خواص أصحابهم الصلاة والزكاة والصيام والحج ويبيحون لهم المحرمات من الفواحش والظلم والمنكر وغير ذلك
(8/6)
وصنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبا معروفة لما علموه من إفسادهم الدين والدنيا وصنف فيهم القاضي عبد الجبار والقاضي أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى والغزالي وابن عقيل وأبو عبد الله الشهرستاني وطوائف غير هؤلاء وهم الملاحدة الذين ظهروا بالمشرق والمغرب واليمن والشام ومواضع متعددة كأصحاب الألموت وأمثالهم وكان من أعظم ما به دخل هؤلاء على المسلمين وأفسدوا الدين هو طريق الشيعة لفرط جهلهم وأهوائهم وبعدهم من دين الإسلام وبهذا وصوا دعاتهم أن يدخلوا على المسلمين من باب التشيع وصاروا يستعينون بما عند الشيعة من الأكاذيب والأهواء ويزيدون هم على ذلك ما ناسبهم من الافتراء حتى فعلوا في أهل الإيمان مالم يفعله عبدة الأوثان والصلبان وكان حقيقة أمرهم دين فرعون الذي هو شر من دين اليهود والنصارى وعباد الأصنام وأول دعوتهم التشيع وآخرها الانسلاخ من الإسلام بل من الملل كلها ومن عرف أحوال الإسلام وتقلب الناس فيه فلا بد أنه قد عرف شيئا من هذا
(8/7)
وهذا تصديق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وفي الحديث الآخر المتفق عليه لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال ومن الناس إلا هولاء وهذا بعينه صار في هؤلاء المنتسبين إلى التشيع فإن هؤلاء الإسماعيلية أخذوا من مذاهب الفرس وقولهم بالأصلين النور والظلمة وغير ذلك أمورا وأخذوا من مذاهب الروم من النصرانية وما كانوا عليه قبل النصرانية من مذهب اليونان وقولهم بالنفس والعقل وغير ذلك امورا ومزجوا هذا بهذا وسموا ذلك باصطلاحهم السابق والتالي وجعلوه هو القلم واللوح وأن القلم هو العقل الذي يقول هؤلاء إنه أول المخلوقات واحتجوا بحديث يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطى وبك الثواب وبك العقاب وهذا الحديث رواه بعض من صنف في فضائل العقل كداود بنالمحبر ونحوه وهو حديث موضوع كذب على النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك أبو حاتم بن حبان البستي والدارقطني وابن الجوزي وغيرهم لكن لما وافق رأي هؤلاء استدلوا به على عادتهم مع أن لفظ الحديث يناقض مذهبهم فإن لفظه أول بالنصب وروى أنه لما خلق الله العقل أي أنه قال له هذا الكلام في أول أوقات خلقه فالمراد به أنه خاطبه حين خلقه لا أنه أول المخلوقات ولهذا قال في أثنائه ما خلقت خلقا أكرم علي منك فدل على أنه خلق قبله غيره ووصفه بأنه يقبل ويدبر
(8/8)
والعقل الأول عندهم يمتنع عليه هذا وقال بك آخذ وبك أعطى وبك الثواب وهذا العقل عندهم هو رب العالم كله هو المبدع له كله وهو معلول الأول لا يختص به أربعة أعراض بل هو عندهم مبدع الجواهر كلها العلوية والسفلية والحسية والعقلية والعقل في لغة المسلمين عرض قائم بغيره وإما قوة في النفس وأما مصدر العقل عقل يعقل عقلا وأما العاقل فلا يسمى في لغتهم العقل وهؤلاء في اصطلاحهم العقل جوهر قائم بنفسه وقد بسطنا الكلام على هذا وبينا حقيقة أمره بالمعقول والمنقول وأن ما يثبتونه من المفارقات عند التحقيق لا يرجع إلا إلى أمر وجودها في الأذهان لا في الأعيان إلا النفس الناطقة وقد أخطأوا في بعض صفاتها وهؤلاء قولهم إن العالم معلول علة قديمة أزلية واجبة الوجود وإن العالم لازم لها لكن حقيقة قولهم إنه علة غائية وإن الأفلاك تتحرك حركة إرادية شوقية للتشبه به وهو محرك لها كما يحرك
(8/9)
المحبوب المتشبه به لمحبه الذي يتشبه به ومثل هذا لا يوجب أن يكون هو المحدث لتصوراته وإرادته وحركاته فقولهم في حركة الفلك من جنس قول القدرية في أفعال الحيوان لكن هؤلاء يقولون حركة الفلك هي سبب الحوادث فحقيقة قولهم إن الحوادث كلها تحدث بلا محدث أصلا وإن الله لا يفعل شيئا ولكل مقام مقال وهم جعلوا العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الباطن في الوجود ولواحقه وقسموا الوجود إلى جوهر وعرض ثم قسموا الأعراض إلى تسعة أجناس ومنهم من ردها إلى خمسة ومنهم من ردها إلى ثلاثة فإنه لم يقم لها دليل على الحصر وقسموا الجواهر إلى خمسة أنواع العقل والنفس والمادة والصورة والجسم وواجب الوجود تارة يسمونه جوهرا وهو قول قدمائهم كأرسطو وغيره وتارة لا يسمونه بذلك كما قاله ابن سينا وكان قدماء القوم يتصورون في أنفسهم أمورا عقلية فيظنونها ثابتة في الخارج كما يحكى عن شيعة فيثاغورس وأفلاطون وأن أولئك أثبتوا أعدادا مجردة في الخارج وهؤلاء أثبتوا المثل الأفلاطونية وهي الكليات المجردة عن الأعيان وأثبتوا المادة المجردة وهي الهيولي الأولية وأثبتوا المدة
(8/10)
المجردة وهي الدهر العقلي المجرد عن الجسم وأعراضه وأثبتوا الفضاء المجرد عن الجسم وأعراضه وارسطو وأتباعه خالفوا سلفهم في ذلك ولم يثبتعوا من هذه شيئا مجردا ولكن أثبتوا المادة المقارنة للصورة وأثبتوا الكليات المقارنة للأعيان وأثبتوا العقول العشرة وأما النفس الفلكية فأكثرهم يجعلها قوة جسمانية ومنهم من يقول هي جوهر قائم بنفسه كنفس الإنسان ولفظ الصورة يريدون به تارة ما هو عرض كالصورة الصناعية مثل شكل السرير والخاتم والسيف وهذه عرض قائم بمحله والمادة هنا جوهر قائم بنفسه ويريدون بالصورة تارة الصورة الطبيعية وبالمادة المادة الطبيعية ولا ريب أن الحيوان والمعادن والنبات لها صورة هي خلقت من مواد لكن يعنون بالصورة جوهرا قائما بنفسه وبالمادة جوهرا آخر مقارنا لهذه وآخرون في مقابلتهم من أهل الكلام القائلين بالجوهر الفرد ويزعمون أنه ما ثم من حادث يعلم حدوثه بالمشاهدة إلا الأعراض وأنهم لا يشهدون حدوث جوهر من الجواهر
(8/11)
وكلا القولين خطأ وقد بسطنا عليهما في غير هذا الموضع وقد يراد بالمادة الكلية المشتركة بين الأجسام وبالصورة الصورة الكلية المشتركة بين الأجسام ويدعون أن كليهما جوهر عقلي وهو غلط فإن المشترك بين الأجسام أمر كلي والكليات لا توجد كليات إلا في الأذهان لا في الأعيان وكل ما وجد في الخارج فهو مميز بنفسه عن غيره لا يشركه فيه غيره إلا في الذهن إذا أخذ كليا والأجسام يعرض لها الاتصال والانفصال وهو الاجتماع والافتراق وهما من الأعراض ليس الانفصال شيئا قائما بنفسه كما أن الحركة ليست شيئا قائما بنفسه غير الجسم المحسوس يرد عليه الاتصال والانفصال ويسمونه الهيولي والمادة وهذا وغيره مبسوط في غير هذا الموضع وكثير من الناس قد لا يفهمون حقيقة ما يقولون وما يقول غيرهم وما جاءت به الرسل حتى يعرفوا ما فيه من حق وباطل فيعلمون هل هم موافقون لصريح المعقول أو هم مخالفون له ومن أراد التظاهر بالإسلام منهم عبر عن ذلك بالعبارات الإسلامية فيعبر عن الجسم بعالم الملك وعن النفس بعالم الملكوت وعن العقل بعالم الجبروت أو بالعكس ويقولون إن العقول والنفوس هي الملائكة
(8/12)
وقد يجعلون قوى النفس التي تقتضي فعل الخير هي الملائكة وقواها التي تقتضي الشر هي الشياطين وأن الملائكة التي تنزل على الرسل والكلام الذي سمعه موسى بن عمران إنما هو في نفوس الأنبياء ليس في الخارج بمنزله ما يراه النائم وما يحصل لكثير من الممرورين وأصحاب الرياضة حيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية ويسمع في نفسه أصواتا فتلك هي عندهم ملائكة الله وذلك هو كلام الله ليس له كلام منفصل ولهذا يدعى أحدهم أن الله كلمة كما كلم موسى بن عمران أو أعظم مما كلم موسى لأن موسى كلم عندهم بحروف وأصوات في نفسه وهم يكلمون بالمعاني المجردة العقلية وصاحب مشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها وقع في كلامه قطعة من هذا النمط وقد كفرهم بذلك في مواضع آخر ورجع عن ذلك واستقر أمرة على مطالعة البخاري ومسلم وغيرهما ومن هنا سلك صاحب خلع النعلين ابن قسى وأمثاله وكذلكابن عربي صاحب فصوص الحكم والفتوحات المكية ولهذا أدعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الأنبياء والنبي عنده يأخذ من الملك الذي يوحى به إلى الرسل لأن النبي عنده يأخذ من الخيالات التي تمثلت في نفسه لما صورت له المعاني العقلية في الصور الخيالية وتلك الصور عنده هي الملائكة وهي بزعمه تأخذ عن عقله المجرد قبل أن تصير خيالا ولهذا يفضل الولاية على النبوة ويقول مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولى والولى على أصله الفاسد يأخذ عن الله بلا واسطة لأنه يأخذ عن عقله وهذا عندهم هو الأخذ عن الله بلا واسطة إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل بالوحي والرب عندهم ليس هو موجودا مباينا
(8/13)
للمخلوقات بل هو وجود مطلق أو مشروط بنفي الأمور الثبوتية عن الله أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية وقد يقولون هو وجود المخلوقات أو حال فيها أو لا هذا ولا هذا فهذا عندهم غاية كل رسول ونبي النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية ويسمونها القوة القدسية فلهذا جعلوها الولاية فوق النبوة وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق والتأله وأولئك ظهروا في قالب التشيع والموالاة فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة وهؤلاء يعظمون أمر الإمامة حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء والإمام أعظم من النبي كما يقوله الإسماعيلية وكلاهما أساطين الفلاسفة الذين يجعلون النبي فيلسوفا ويقولون إنه يختص بقوة قدسية ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي ويزعمون أن النبوة
(8/14)
مكتسبة وهؤلاء يقولون إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات من حصلت له فهو نبي أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولى العالم وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله ومرئيا في نفسه ومسموعا في نفسه هذا كلام ابن سينا وأمثاله في النبوة وعنه أخذ ذلك العزالي في كتبه المضنون بها على غير أهلها وهذا القدر الذي ذكروه يحصل لخلق كثير من آحاد الناس ومن المؤمنين وليس هو من أفضل عموم المؤمنين فضلا عن كونه نبيا كما بسط في موضعه وهؤلاء قالوا هذا لما احتاجوا إلى الكلام في النبوة على أصول سلفهم الدهرية القائلين بأن الأفلاك قديمة أزلية لا مفعولة لفاعل بقدرته واختياره وأنكروا علمه بالجزئيات ونحو ذلك من أصولهم الفاسدة فتكلم هؤلاء في النبوة على أصول أولئك وأما القدماء ارسطو وأمثاله فليس لهم في النبوة كلام محصل والواحد من هؤلاء يطلب أن يصير نبيا كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبيا وكان قد جمع بين النظر والتأله وسلك نحوا من مسلك الباطنية وجمع بين فلسفة الفرس واليونان وعظم أمر الأنوار وقرب دين المجوس الأول وهو نسخة الباطنية الإسماعيلية وكان له
(8/15)
يد في السحر والسيمياء فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمن صلاح الدين وكذلك ابن سبعين الذي جاء من المغرب إلى مكة وكان يطلب أن يصير نبيا وجدد غار حراء الذي نزل فيه الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء وحكى عنه أنه كان يقول لقد ذرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدي وكان بارعا في الفلسفة وفي تصوف المتفلسفة وما يتعلق بذلك وهو وابن عربي وأمثالهما كالصدر القونوي وابن الفارض والتلمساني منتهى أمرهم القول بوحدة الوجود وأن الوجود الواجب القديم الخالق هو الوجود الممكن المحدث المخلوق ما ثم لا غير ولا سوى لكن لما رأوا تعدد المخلوقات صاروا تارة يقولون مظاهر ومجالي فإذا قيل لهم فإن كانت المظاهر أمرا وجوديا تعدد الوجود وإلا لم يكن لها حينئذ حقيقة وما هو نحو هذا الكلام الذي يبين أن الوجود نوعان خالق ومخلوق قالوا نحن نثبت عندنا في الكشف ما يناقص صريح العقل ومنأراد أن يكون محققا مثلنا فلا بد أن يلتزم الجمع بين النقيضين وأن الجسم الواحد يكون في وقت واحد في موضعين وهؤلاء الأصناف قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع فإن هؤلاء يكثرون في الدول الجاهلية وعامتهم تميل إلى التشيع كما عليه ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما فاحتاج الناس إلى كشف حقائق هؤلاء وبيان أمورهم على الوجه الذي يعرف به الحق من الباطل فإن هؤلاء يدعون في أنفسهم أنهم أفضل أهل الأرض وأن الناس لا يفهمون حقيقة إشاراتهم فلما يسر الله أني بينت لهم حقائقهم وكتبت في ذلك من المصنفات ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم وتبين لهم بطلانه بالعقل الصريح والنقل الصحيح والكشف المطابق رجع عن ذلك من علمائهم وفضلائهم من رجع وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم ويردونهم إلى الحق وكان من أصول ضلالهم ظنهم أن الوجود المطلق يوجد في الخارج إما مطلق لا بشرط وإما مطلق بشرط فالمطلق لا
(8/16)
بشرط الذي يسمونه الكلي الطبيعي إذا قيل إنه موجود في الخارج فإن الذي يوجد في الخارج مقيدا معينا هو مطلق في الذهن مقيد في الخارج وأما من زعم أن في الذهن شيئا مطلقا وهو مطلق حال تحققه في الخارج فهو غالط غلطا ضل فيه كثير من أهل المنطق والفلسفة وأما المطلق بشرط الإطلاق فهو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية والسلبية كما يوجد الإنسان مجردا عن كل قيد فإذا قلت موجود أو معدوم أو واحد أو كثير أو في الذهن أو في الخارج كان ذلك قيدا زائدا على الحقيقة المطلقة بشرط الإطلاق وهكذا الوجود تأخذه عن كل قيد ثبوتي وسلبي فلا تصفه لا بالصفات السلبية ولا الثبوتية وهذا هو واجب الوجود عند أئمة الباطنية كأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله لكن من هؤلاء من لا يعرف يرفع النقيضين فيقول لا موجود ولا معدوم ومنهم من يقول بل أمسك عن إثبات أحد النقيضين فلا أقول موجود ولا معدوم كأبي يعقوب وهو منتهى تجريد هؤلاء القائلين بوحدة الوجود
(8/17)
وابن سينا وأتباعه يقولون الوجود الواجب هو الوجود المقيد بسلب الأمور الثبوتية دون السلبية وهذا أبعد عن الوجود في الخارج من المقيد بسلب الوجود والعدم وإن كان ذلك ممتنعا في الموجود والمعدوم فقلت لأولئك المدعين للتحقيق أنتم بنيتم أمركم على القوانين المنطقية وهذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق المقيد بسلب النقيضين عنه لا يوجد في الخارج باتفاق العقلاء وإنما يقدر في الذهن تقديرا وإلا فإذا قدرنا إنسانا مطلقا واشترطنا فيه أن لا يكون موجودا ولا معدوما ولا واحدا ولا كثيرا لم يوجد في الخارج بل نفرض في الذهن كما نفرض الجمع بين النقيضين ففرض رفع النقيضين كفرض الجمع بين النقيضين ولهذا كان هؤلاء تارة يصفونه بجمع النقيضين أو الإمساك عنهما كما يفعل ابن عربي وغيره كثيرا وتارة يجمعون بين هذا وهذا كما يوجد أيضا في كلام اصحاب البطاقة وغيرهم فإذا قالوا مع ذلك إنه مبدع العالم وشرطوا فيه أنه لا يوصف بثبوت ولا انتفاء كان تناقضا فإن كونه مبدعا لا يخرج عن هذا وهذا وكذلك إذا قالوا موجود واجب وشرطوا فيه التجريد عن النقيضين كان تناقضا
(8/18)
وحقيقة قولهم موجود لا موجود وواجب لا واجب وهذا منتهى أمرهم وهو الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين ولهذا يصيرون إلى الحيرة ويعظمونها وهي عندهم منتهى معرفة الأنبياء والأولياء والأئمة والفلاسفة ومن أصول ضلالهم ظنهم أن هذا تنزيه عن التشبيه وأنهم متى وصفوا بصفة إثبات أو نفي كان فيه تشبيه بذلك ولم يعلموا أن التشبيه المنفي عن الله هو ما كان وصفه بشيء من خصائص المخلوقين أو أن يجعل شيء من صفاته مثل صفات المخلوقين بحيث يجوز عليه ما يجوز عليهم أو يجب له ما يجب لهم أو يمتنع عليه ما يمتنع عليهم مطلقا فإن هذا هو التمثيل الممتنع المنفى بالعقل مع الشرع فيمتنع وصفه بشيء من النقائض ويمتنع مماثلة غيره له في شيء من صفات الكمال فهذان جماع لما ينزه الرب تعالى عنه كما بسطنا ذلك في مواضع كثيرة وعلى هذا وهذا دل قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد في تفسير هذه الشواهد فأما الموافقة في الاسم كحي وحي وموجود وموجود وعليم وعليم فهذا لا بد منه ويلزم من نفى هذا التعطيل المحض فإن كل
(8/19)
موجودين قائمين بأنفسهما فحينئذ لا بد أن يجمعهما اسم عام يدل على معنى عام لكن المعنى العام لا يوجد عاما إلا في الذهن لا في الخارج فإذا قيل هذا الموجود وهذا الموجود مشتركان في مسمى الوجود كان ما اشتركا فيه لا يوجد مشتركا إلا في الذهن لا في الخارج وكل موجود فهو يختص بنفسه وصفات نفسه لا يشركه غيره في شيء من ذلك في الخارج وإنما الاشتراك هو نوع من التشابه والاتفاق والمشترك فيه الكلي لا يوجد كذلك إلا في الذهن فإذا وجد في الخارج لم يوجد إلا متميزا عن نظيره لا يكون هو إياه ولا هما في الخارج مشتركان في شيء في الخارج فاسم الخالق إذا وافق اسم المخلوق كالموجود والحي وقيل إن هذا الاسم عام كلي وهو من الأسماء المتواطئة أو المشككة لم يلزم من ذلك أن يكون ما يتصف به الرب من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه المخلوق بل ولا يكون ما يتصف به أحد المخلوقين من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه مخلوق آخر بل وجود هذا يخصه
(8/20)
ووجود هذا يخصه لكن ما يتصف به المخلوق قد يماثل ما يتصف به المخلوق ويجوز على أحد المثلين ما يجوز على الآخر وأما الرب سبحانه وتعالى فلا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته بل التباين الذي بينه وبين كل واحد من خلقه في صفاته أعظم من التباين الذي بين أعظم المخلوقات وأحقرها وأما المعنى الكلي العام المشترك فيه فذاك كما ذكرنا لا يوجد كليا إلا في الذهن وإذا كان المتصفان به بينهما نوع موافقة ومشاركة ومشابهة من هذا الوجه فذاك لا محذور فيه فإنه ما يلزم ذلك القدر المشترك من وجوب وجواز وامتناع فإن الله متصف به فالموجود من حيث هو موجود أو العليم أو الحي مهما قيل إنه يلزمه من وجوب وامتناع وجواز فالله موصوف به بخلاف وجود المخلوق وحياته وعلمه فإن الله لا يوصف بما يختص به المخلوق من وجوب وجواز واستحالة كما أن المخلوق لا يوصف بما يختص به الرب من وجوب وجواز واستحالة فمن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة يعثر فيها كثير من الأذكياء الناظرين في العلوم الكلية والمعارف الإلهية فهذا أحد أقوالهم في الوجود الواجب وهو المطلق بشرط الإطلاق عن النفي والإثبات وهو أكملها في التعطيل والإلحاد والثاني قول ابن سينا وأتباعه إنه هو الوجود المقيد بالقيود السلبية
(8/21)
لا الثبوتية وقد يعبر عنه بأنه الوجود المقيد تارة لا يعرض له شيء من الماهيات كما يعبر الرازي وغيره وهذه العبارات بناء على قولهم إن الوجود يعرض للماهية الممكنة فإن للناس ثلاثة أقوال قيل إن الوجود زائد على الماهية في الواجب والممكن كما يقول ذلك أبو هاشم وغيره وهو أحد قولي الرازي وقد يقوله بعض النظار من أصحاب أحمد وغيرهم وقيل بل الوجود في الخارج هو الحقيقة الثابتة في الخارج ليس هناك شيئان وهذا قول الجمهور من أهل الإثبات وهذا قول عامة النظار من مثبتة الصفات من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم لكن ظن الشهرستاني والرازي والأمدي ونحوهم أن قائل هذا القول يقول إن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي ونقلوا ذلك عن الأشعري وغيره وهو غلط عليهم فإن أصحاب هذا القول هم جماهير الخلق من الأولين والآخرين وليس فيهم من يقول بأن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي إلا طائفة قليلة وليس هذا قول الأشعري وأصحابه بل هم متفقون على أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث واسم الوجود يعمهما لكن الأشعري ينفي الأحوال ويقول العموم والخصوص يعود إلى الأقوال ومقصوده أنه ليس في الخارج معنى كلي عام ليس مقصوده أن الذهن لا يقوم به معنى عام كلي
(8/22)
وهؤلاء االذين قالوا إن من قال وجود كل شيء هو نفس حقيقته الموجودة إنما هذا هو قول بالاشتراك اللفظي لأنهم قالوا إذا جعلنا الوجود عاما من الألفاظ المتواطئة المتساوية أو المتفاضلة التي تسمى المشككة وقلنا إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث كان النوعان قد اشتركا في مسمى الوجود وهو كلي مطلق فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهو حقيقة فيلزم أن يكون لكل منهما حقيقة غير الوجود فمن قال إن الشيء الموجود في الخارج ليس شيئا غير الحقيقة الموجودة في الخارج لم يمكنه أن يقول لفظ الوجود يعمهما بل يقول هو مقول عليهما بالاشتراك اللفظي وهذا غلط ضلت فيه طوائف كالرازي وأمثاله بيان ذلك من ثلاثة وجوه أحدها أن يقال لفظ الوجود كلفظ الحقيقة وكلفظ الماهية وكلفظ الذات والنفس فإذا قلتم الوجود ينقسم إلى واجب وممكن أو قديم ومحدث كان بمنزلة قولكم الحقيقة تنقسم إلى واجبة وممكنة أو إلى قديمة ومحدثة وبمنزلة قولهم الذات تنقسم إلى هذا وهذا وهذا والماهية تنقسم إلى هذا وهذا ونحو ذلك من الأسماء العامة وبمنزلة قولهم الشيء ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث وحينئذ فإذا قلتم يشتركان في الوجود أو الوجوب ويمتاز أحدهما
(8/23)
عن الآخر بالحقيقة أو الماهية كان بمنزلة أن يقال يشتركان في الماهية أو الحقيقة ويمتاز أحدهما عن الآخر بالوجود أو الوجوب فإن قلتم إنما اشتركا في الرجود العام الكلي وامتاز كل منهما بالحقيقة التي تخصه قيل وكذلك يقال إنما اشتركا في الحقيقة العامة الكلية وامتاز كل منهما بالوجود الذي يخصه فلا فرق حينئذ بين ما جعلتموه كليا مشتركا كالجنس والعرض العام وبين ما جعلتموه مختصا مميزا جزئيا كالفصل والخاصة لكن عمدتم إلى شيئين متساويين في العموم والخصوص فقدرتم أحدهما في حال عمومه والآخر في حال خصوصه فهذا كان من تقديركم وإلا فكل منهما يمكن فيه التقدير كما أمكن في الآخر وكل منهما في نفس الأمر مساو للآخر في عمومه وخصوصه وكونه مشتركا ومميزا فلا فرق في نفس الأمر بين ما جعلتموه جنسا أو عرضا عاما وما جعلتموه فصلا أو خاصة إلا أنكم قدرتم أحد المتساويين عاما والاخر خاصا الوجه الثاني أن يقال إذا قلتم الموجودان يشتركان في مسمى الوجود فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بأمر آخر قيل لكم المميز أن يكون وجودا خاصا فلم قلتم إنه
(8/24)
يكون شيء خارج عن مسمى الوجود حتى تثبتون حقيقة أخرى وهذا كما إذا قلنا الإنسانان يشتركان في مسمى الإنسانية وأحدهما يمتاز عن الآخر بخصوصية أخرى كان المميز إنسانيتة التي تخصه لم يحتج أن يجعل المميز شيئا غير الإنسانية يعرض له الإنسانية ولكن هؤلاء يظنون أن الأنواع المشتركة في كلي لا يفصل بينها إلا مواد أخرى وفي هذا الموضع كلام مبسوط على غلط أهل المنطق فيما غلطوا فيه في الكلمات وتقسيم الكليات وتركيب الحدود من الذاتيات وغير ذلك ومواد الأقيسة والفرق بين اليقيني وغير اليقيني منها وغير ذلك مما هو مكتوب في غير هذا الموضع الوجه الثالث أن يقال إذا قلنا الموجودان يشتركان في مسمى الوجود وأحدهما لا بد أن يمتاز عن الآخر فليس المراد أنهما اشتركا في أمر بعينه موجود في الخارج فإن هذا ممتنع بل المراد أنهما اتفقا في ذلك وتشابها فيه من هذه الجهة ونفس ما اشتركا فيه لا يكون بعينه مشتركا فيه إلا في الذهن لا في الخارج وإلا فنفس وجود هذا لم يشركه فيه هذا وحينئذ فإذا قلنا لفظ الوجود من الألفاظ العامة الكلية المتواطئة أو المشككة وهي المتواطئة التي تتفاضل معانيها لا تتماثل مع الاتفاق في أصل المسمى كالبياض المقول على بياض الثلج القوي وبياض
(8/25)
العاج الضعيف والسواد المقول على سواد القار وعلى سواد الحبشة والعلو المقول على علو السماء وعلى علو السقف والواسع المقول على البحر وعلى الدار الواسعة والوجود المقول على الواجب بنفسه وعلى الممكن الموجود بغيره وعلى القائم بنفسه والقائم بغيره والقديم المقول على العرجون وعلى ما لا أول له والمحدث المقول على ما أحدث في اليوم وعلى كل ما خلقه الله بعد أن لم يكن والحي الذي يقال على الإنسان والحيوان والنبات وعلى الحي القيوم الذي لا يموت أبدا بل أسماء الله الحسنى تعالى التي تسمى بها خلقه كالملك والسميع والبصير والعليم والخبير ونحو ذلك كلها من هذا الباب فإذا قيل في جميع الألفاظ العامة ومعانيها العامة سواء كانت متماثلة أو متفاضلة إن أفرادها اشتركت فيها أو اتفقت ونحو ذلك لم يرد به أن في الخارج معنى عاما يوجد عاما في الخارج وهو نفسه مشترك بل المراد أن الموجودات المعينة اشتركت في هذا العام الذي لا يكون عاما إلا في علم العالم كما أن اللفظ العام لا يكون عاما إلا في لفظ اللافظ والخط العام لا يكون عاما إلا في خط الكاتب والمراد بكونه عاما شموله للأفراد الخارجة لا أنه نفسه شيء
(8/26)
موجود يكون هو نفسه مع هذا المعين وهو نفسه مع هذا المعين فإن هذا مخالف للحس والعقل والمقصود هنا أن ابن سينا مذهبه أن الوجود الواجب لنفسه هو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية لا بجعله مقيدا بسلب النقيضين أو بالإمساك عن النقيضين كما فعل السجستاني وأمثاله من القرامطة وغيرهم وعبر ابن سينا عن قولهم بأنه الوجود المقيد بأنه لا يعرض لشيء من الحقائق أو لشيء من الماهيات لاعتقادهم أن الوجود يعرض للممكنات وهو يقول وجود الواجب نفس ماهيته والجمهور من أهل السنة يقولون ذلك لكن الفرق بينهما أن عنده هو وجود مطلق بشرط سلب الماهيات عنه فليس له ماهية سوى الوجود المقيد بالسلب وأما الأنبياء وأتباعهم وجماهير العقلاء فيعلمون أن الله له حقيقة يختص بها لا تماثل شيئا من الحقائق وهي موجودة وطائفة من المعتزلة ومن وافقهم يقولون هي موجودة بوجود زائد على حقيقتها
(8/27)
وأما الجمهور فيقولون الحقائق المخلوقة ليست في الخارج إلا الموجود الذي هو الحقيقة التي في الخارج وإنما يحصل الفرق بينهما بأن يجعل أحدهما ذهنيا والآخر خارجيا فإذا جعلت الماهية أو الحقيقة أسما لما في الذهن كان ذلك غير ما في الخارج وأما إذا قيل الوجود الذهني فهو الماهية الذهنية وإذا قيل الماهية الخارجية فهي الوجود الخارجي فإذا كان هذا في المخلوق فالخالق أولى ومذهب ابن سينا معلوم الفساد بضرورة العقل بعد التصور التام فإنه إذا اشترك الموجودان في مسمى الوجود لم يميز أحدهما عن الآخر بمجرد السلب فإن التمييز في نفس الأمر بين المشتركين لا يكون بمجرد العدم المحض إذ العدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء لا يحصل منه الامتياز في نفس الأمر ولا يكون الفاصل بين الشيئين الموجودين الذي يختص بأحدهما إلا أمرا ثبوتيا أو متضمنا لأمر ثبوتي وهذا مستقر عندهم في المنطق فكيف يكون وجود الرب مماثلا لوجود الممكنات في مسمى الوجود ولا يمتاز عن المخلوقات إلا بعدم محض لا ثبوت فيه بل على هذا التقدير يكون أي موجود قدر أكمل من هذا الموجود فإن ذلك الموجود مختص مع وجوده بأمر ثبوتي عنده والوجود الواجب لا يختص عنده إلا بأمر عدمي مع تماثلهما في مسمى الوجود فهذا القول يستلزم مماثلة الوجود الواجب لوجود كل ممكن في
(8/28)
الوجود وأن لا يمتاز عنه إلا بسلب الأمور الثبوتية والكمال هو في الوجود لا في العدم إذ العدم المحض لا كمال فيه فحينئذ يمتاز عن الممكنات بسلب جميع الكمالات وتمتاز عنه بإثبات جميع الكمالات وهذا غاية ما يكون من تعظيم الممكنات في الكمال والوجود ووصف الوجود الواجب بالنقص والعدم وأيضا فهذا الوجود الذي لا يمتاز عن غيره إلا بالأمور العدمية يمتنع وجودة في الخارج بل لا يمكن إلا في الذهن لأنه إذا شارك سائر الموجودات في مسمى الوجود كان هذا كليا والوجود لا يكون كليا إلا في الذهن لا في الخارج والأمور العدمية المحضة لا توجب ثبوته في الخارج فإن ما في الذهن هو بسلب الحقائق الخارجية عنه أحق بسلبها عما في الخارج لو كان ذلك ممكنا في الخارج فكيف إذا كان ممتنعا فإذا كان الكلي لا يكون إلا ذهنيا والقيد العدمي لا يخرجه عن أن يكون كليا ثبت أنه لا يكون في الخارج وأيضا فإن ما في الخارج لا يكون إلا معينا له وجود يخصه فما لا يكون كذلك لا يكون إلا في الذهن
(8/29)
فثبت بهذه الوجوه الثلاثة وغيرها أن ما ذكره في واجب الوجود لا يتحقق إلا في الذهن لا في الخارج فهذا قول من قيده بالأمور العدمية ولهم قول ثالث وهو الوجود المطلق لا بشرط الإطلاق الذي يسمونه الكلي الطبيعي وهذا لا يكون في الخارج إلا معينا فيكون من جنس القولين قبله ومنهم من يظن أنه ثابت في الخارج وأنه جزء من المعينات فيكون الوجود الواجب المبدع لكل ما سواه إما عرضا قائما بالمخلوقات وإما جزءا منها فيكون الواجب مفتقرا إلى الممكن عوضا فيه أو جزءا منه بمنزلة الحيوانية في الحيوانات لا تكون هي الخالقة للحيوان ولا الإنسانية هي المبدعة للإنسان فإن جزء الشئ وعرضه لا يكون هو الخالق له بل الخالق مباين له منفصل عنه إذ جزؤه وعرضه داخل فيه والداخل في الشئ لا يكون هو المبدع له كله فما وصفوا به رب العالمين يمتنع معه أن يكون خالقا لشئ من الموجودات فضلا عن أن يكون خالقا لكل شئ وهده الأمور مبسوطة في موضع آخر
(8/30)
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة حقيقة قولهم تعطيل الخالق وجحد حقيقة النبوات والمعاد والشرائع وينتسبون إلى موالاة علي ويدعون أنه كان على هذه الأقوال كما تدعى القدرية والجهمية والرافضة أنه كان على قولهم أيضا ويدعون أن هذه الأقوال مأخوذة عنه وهذا كله باطل كذب على علي رضي الله عنه.
*فصل قال الرافضي وعلم التفسير إليه يعزي لأن ابن عباس كان تلميذه فيه.
قال ابن عباس حدثنى أمير المؤمنين في تفسير الباء من بسم الله الرحمن الرحيم من أول الليل إلى آخره.
*والجواب أن يقال...
أولا: أين الإسناد الثابت بهذا النقل عن ابن عباس فإن أقل مايجب على المحتج بالمنقولات أن يذكر الإسناد الذي يعلم به صحة النقل، وإلا فمجرد ما يذكر في الكتب من المنقولات لا يجوز الاستدلال به، مع العلم بأن فيه شيئا كثير من الكذب.
ويقال ثانيا: أهل العلم بالحديث يعلمون أن هذا من الكذب فإن هذا الأثر المأثور عن ابن عباس كذب عليه وليس له إسناد يعرف وإنما(8/31)
يذكر مثل هذه الحكايات بلا إسناد وهذه يرويها أهل المجهولات الذين يتكلمون بكلام لا حقيقة له ويجعلون كلام علي وابن عباس من جنس كلامهم كما يقولون عن عمر أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما فإن هذا كذب على عمر باتفاق أهل العلم وكما ينقلون عن عمر أنه تزوج امرأة أبي بكر ليسألها عن علمه في السر فقالت كنت أشم من فيه رائحة الكبد المحترقة وهذا أيضا كذب وعمر لم يتزوج امرأة أبي بكر وإنما تزوجها علي تزوج أسماء بنت عميس ومعها ربيبه محمد بن أبي بكر فتربى عنده وهذا ابن عباس نقل عنه من التفسير ما شاء الله بالأسانيد الثابتة ليس في شيء منها ذكر علي وابن عباس يروى عن غير واحد من الصحابة يروى عن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وعن زيد بن ثابت وأبي بن كعب وأسامة بن زيد وغير واحد من المهاجرين والأنصار وروايته عن علي قليلة جدا ولم يخرج أصحاب الصحيح شيئا من حديثه عن علي وخرجوا حديثه عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم وأيضا فالتفسير أخذ عن غير ابن عباس أخذ عن ابن مسعود وغيره
(8/32)
من الصحابة الذين لم يأخذوا عن علي شيئا وما يعرف بأيدي المسلمين تفسير ثابت عنه وهذه كتب الحديث والتفسير مملوءة بالآثار عن الصحابة والتابعين والذي فيها عن علي قليل جدا وما ينقل في حقائق السلمى من التفسير عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر كما قد كذب عليه غير ذلك كما تقدم.
*فصل قال الرافضي وأما علم الطريقة فإليه منسوب فإن الصوفية كلهم يسندون الخرقة إليه.
*والجواب أن يقال...
أولا: أما أهل المعرفة وحقائق الإيمان المشهورين في الأمة بلسان الصدق فكلهم متفقون على تقديم أبي بكر، وأنه أعظم الأمة في الحقائق الإيمانية والأحوال العرفانية وأين من يقدمونه في الحقائق التي هي أفضل الأمور عندهم إلى من ينسب إليه الناس لباس الخرقة، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم فأين حقائق القلوب من لباس الأبدان.(8/33)
ويقال ثانيا: الخرق متعددة أشهرها خرقتان خرقة إلى عمر وخرقة إلى علي فخرقة عمر لها إسنادان إسناد إلى أويس القرني وإسناد إلى أبي مسلم الخولاني وأما الخرقة المنسوبة إلى علي فإسنادها إلى الحسن البصري والمتأخرون يصلونها بمعروف الكرخي فإن الجنيد صحب السري السقطى والسري صحب معروفا الكرخي بلا ريب وأما الإسناد من جهة معروف فينقطع فتارة يقولون إن معروفا صحب علي بن موسى الرضا وهذا باطل قطعا لم يذكره المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل كأبي نعيم وأبي الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في فضائل معروف ومعروف كان منقطعا في الكرخ وعلي بن موسى كان المأمون قد جعله ولي العهد بعده وجعل شعاره لباس الخضرة ثم رجع عن ذلك وأعد شعار السواد ومعروف لم يكن ممن يجتمع بعلي بن موسى ولا نقل عنه ثقة أنه اجتمع به أوأخذ عنه شيئا بل ولا يعرف أنه رآه ولا كان معروف بوابه ولا أسلم على يديه وهذا كله كذب وأما الإسناد الآخر فيقولون إن معروفا صحب داود الطائي وهذا أيضا لا أصل له وليس في أخباره المعروفة ما يذكر فيها وفي إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي صحب حبيبا العجمي وهذا أيضا لم يعرف له حقيقة(8/34)
وفيها أن حبيبا العجمي صحب الحسن البصري وهذا صحيح فإن الحسن كان له أصحاب كثيرون مثل أيوب السختياني ويونس بن عبيد وعبد الله بن عوف ومثل محمد بن واسع ومالك بن دينار وحبيب العجمي وفرقد السبخي وغيرهم من عباد البصرة وفيها أن الحسن صحب عليا وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة فإنهم متفقون على أن الحسن لم يجتمع بعلي وإنما أخذ عن أصحاب علي أخذ عن الأحنف بن قيس وقيس بن عباد وغيرهما عن علي وهكذا رواه أهل الصحيح والحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وقتل عثمان وهو بالمدينة كانت أمه أمة لأم سلمة فلما قتل عثمان حمل إلى البصرة وكان علي بالكونة والحسن في وقته صبي من الصبيان لا يعرف ولا له ذكر والأثر الذي يروى عن علي أنه دخل إلى جامع البصرة وأخرج القصاص إلا الحسن كذب باتفاق أهل المعرفة ولكن المعروف أن عليا دخل المسجد فوجد قاصا يقص فقال ما اسمك قال أبو يحيى قال هل تعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قالهلكت وأهلكت إنما أنت أبو اعرفوني ثم أخذ بأذنه فأخرجه من المسجد فروى أبو حاتم في كتاب الناسخ والمنسوخ حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمى قال انتهى علي إلى قاص وهو يقص فقال أعلمت الناسخ والمنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت قال وحدثنا زهير بن عباد الرواسي حدثنا أسد بن حمران عن جويبر عن الضحاك أن علي بن أبي طالب دخل مسجد الكوفة فإذا قاص يقص فقام على رأسه فقال يا هذا تعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال أفتعرف مدنى القرآن من مكيه قال لا قال هلكت وأهلكت قال أتدرن من هذا هذا يقول اعرفوني اعرفوني اعرفوني وقد صنف ابن الجوزي مجلدا في مناقب الحسن البصري
(8/35)
وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءا فيمن لقيه من الصحابة وأخبار الحسن مشهورة في مثل تاريخ البخاري وقد كتبت أسانيد الخرقة لأنه كان لنا فيها أسانيد فبينتها ليعرف الحق من الباطل ولهم إسناد آخر بالخرقة المنسوبة إلى جابر وهو منطقع جدا وقد عقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريديهم خرقة ولا يقصون شعورهم ولا التابعون ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين وأخبار الحسن مذكورة بالأسانيد الثابتة من كتب كثيرة يعلم منها ما ذكرنا وقد أفرد أبو الفرج بن الجوزي له كتابا في مناقبه وأخباره وأضعف من هذا نسبة الفتوة إلى علي وفي إسنادها من الرجال المجهولين الذين لا يعرف لهم ذكر ما يبين كذبها وقد علم كل من له علم بأحوال الصحابة والتابعين أنه لم يكن فيهم أحد يلبس سراويل ولا يسقى ملحا ولا يختص أحد بطريقة تسمى الفتوة لكن كانوا قد اجتمع بهم التابعون وتعلموا منهم وتأدبوا بهم واستفادوا منهم وتخرجوا على أيديهم وصحبوا من صحبوه منهم وكانوا يستفيدون من جميع الصحابة
(8/36)
وأصحاب ابن مسعود كانوا يأخذون من عمر وعلي وأبي الدرداء وغيرهم وكذلك أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه كانوا يأخذون عن ابن مسعود وغيره وكذلك أصحاب ابن عباس يأخذون عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما وكذلك أصحاب زيد بن ثابت يأخذون عن أبي هريرة وغيره وقد انتفع بكل منهم من نفعه الله وكلهم متفقون على دين واحد وطريق واحدة وسبيل واحدة يعبدون الله ويطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن بلغهم من الصادقين عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قبلوه ومن فهم من القرآن والسنة ما دل عليه القرآن والسنة استفادوه ومن دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله ورسوله أجابوه ولم يكن أحد منهم يجعل شيخه ربا يستغيث به كالإله الذي يسأله ويرغب إليه ويعبده ويتوكل عليه ويستغيث به حيا وميتا ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كل ما أمر فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه فإن هذا ونحوه دين النصارى الذين قال الله فيهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (سورة التوبة). وكانوا متعاونين على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان متواصين بالحق متواصين بالصبر
(8/37)
والإمام والشيخ ونحوهما عندهم بمنزلة الإمام في الصلاة وبمنزلة دليل الحاج فالإمام يفتدى به المأمومون فيصلون بصلاته لا يصلى عنهم وهو يصلى بهم الصلاة التي أمر الله ورسوله بها فإن عدل عن ذلك سهوا أو عمدا لم يتبعوه ودليل الحاج يدل الوفد على طريق البيت ليسلكوه ويحجوه بأنفسهم فالدليل لا يحج عنهم وإن أخطأ الدلالة لم يتبعوه وإذا اختلف دليلان وإمامان نظر أيهما كان الحق معه اتبع فالفاصل بينهم الكتاب والسنة قال تعالى يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر الآية (سورة النساء). وكل من الصحابة الذين سكنوا الأمصار أخذ عنه الناس الإيمان والدين وأكثر المسلمين بالمشرق والمغرب لم يأخذوا عن علي شيئا فإنه رضي الله عنه كان ساكنا بالمدينة وأهل المدينة لم يكونوا يحتاجون إليه إلا كما يحتاجون إلى نظرائه كعثمان في مثل قصة شاورهم فيها عمر ونحو ذلك ولما ذهب إلى الكوفة كان أهل الكوفة قبل أن يأتيهم قد أخذوا الدين
(8/38)
عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وحذيفة وعمار وأبي موسى وغيرهم ممن أرسله عمر إلى الكوفة وأهل البصرة أخذوا الدين عن عمران بن حصين وأبي بكرة وعبد الرحمن بن سمرة وأنس وغيرهم من الصحابة وأهل الشام أخذوا الدين عن معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وبلال وغيره من الصحابة والعباد والزهاد من أهل هذه البلاد أخذوا الدين عمن شاهدوه من الصحابة فكيف يجوز أن يقال إن طريق أهل الزهد والتصوف متصل به دون غيره وهذه كتب الزهد مثل الزهد للإمام أحمد والزهد لابن المبارك ولوكيع بن الجراح ولهناد بن السري ومثل كتب أخبار الزهاد كحلية الأولياء وصفوة الصفوة وغير ذلك فيها من أخبار الصحابة والتابعين أمور كثيرة وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر وعمر ومعاذ وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي ذر وأبي الدرداء وأبي أمامة وأمثالهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.(8/39)
*فصل قال الرافضي وأما علم الفصاحة فهو منبعه حتى قيل كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، ومنه تعلم الخطباء.
*والجواب أن يقال لا ريب أن عليا كان من أخطب الصحابة، وكان أبو بكر خطيبا، وعمر خطيبا، وكان ثابت بن قيس بن شماس خطيبا معروفا بأنه خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان حسان ابن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة شعراءه.
ولكن كان أبو بكر يخطب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حضوره وغيبته فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في الموسم يدعو الناس إلى الإسلام وأبو بكر معه يخطب معه ويبين بخطابه ما يدعو الناس إلى متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، ونبي الله ساكت يقره على ما يقول، وكان كلامه تمهيدا وتوطئة لما يبلغه الرسول معونة له، لا تقدما بين يدي الله ورسوله كما كان ثابت بن قيس بن شماس يخطب أحيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يسمى خطيب رسول الله وكان عمر من أخطب الناس وأبو بكر أخطب منه يعترف له عمر بذلك وهو الذي خطب المسلمين وكشف لهم عن موت النبي صلى الله عليه وسلم وثبت الإيمان في قلوب المسلمين حتى لا يضطرب الناس لعظيم المصيبة التي نزلت بهم.(8/40)
ولما قدم هو وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أبو بكر يخاطب الناس عنه، حتى ظن من لم يعرفهما أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن عرف بعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القاعد، وكان يخرج معه إلى الوفود فيخاطب الوفود وكان يخاطبهم في مغيبه.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي خطب الناس وخطب يوم السقيفة خطبة بليغة انتفع بها الحاضرون كلهم، حتى قال عمر كنت قد زورت في نفسي مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر وكان أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة اعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها. وقال أنس خطبنا أبو بكر رضي الله عنه ونحن كالثعالب فما زال يثبتنا حتى صرنا كالأسود وكان زياد بن أبيه من أخطب الناس وأبلغهم حتى قال الشيعي ما تكلم أحد فأحسن إلا تمنيت أن يسكت خشية أن يزيد فيسيء إلا زيادا كان كلما أطال أجاد أو كما قال وقد كتب الناس خطب زياد(8/41)
وكان معاوية خطيبا، وكانت عائشة من أخطب الناس حتى قال الأحنف بن قيس سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فما سمعت الكلام من مخلوق أفحم ولا أحسن من عائشة.
وكان الخطباء الفصحاء كثيرين في العرب قبل الإسلام وبعده وجماهير هؤلاء لم يأخذوا عن علي شيئا فقول القائل إنه منبع علم الفصاحة كذب بين، ولو لم يكن إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخطب منه وأفصح ولم يأخذ منه شيئا وليست الفصاحة التشدق في الكلام والتقعير في الكلام ولا سجع الكلام ولا كان في خطبة علي ولا سائر خطباء العرب من الصحابة وغيرهم تكلف الأسجاع ولا تكلف التحسين الذي يعود إلى مجرد اللفظ الذي يسمى علم البديع كما يفعله المتأخرون من أصحاب الخطب والرسائل والشعر وما يوجد في القرآن من مثل قوله وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (سورة الكهف). و إن ربهم بهم سورة العاديات ونحو ذلك. فلم يتكلف لأجل التجانس بل هذا تابع غير مقصود بالقصد الأول كما يوجد في القرآن من أوزان الشعر ولم يقصد به الشعر كقوله تعالى وجفان كالجواب وقدور راسيات (سورة سبأ).(8/42)