وإذا قال أحمد أو غيره من العلماء إن الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه لأنه لا إستثناء فيه لزم من هذا القول أن الإستثناء فى الحلف بهما
وأما من فرق من أصحاب أحمد فقال يصح فى الحلف بهما الإستثناء ولا تصح الكفارة فهذا الفرق لم أعلمه منصوصا عليه عن أحمد ولكنهم معذورون فيه من قوله حيث لم يجدوه نص فى تكفير الحلف بهما على روايتين كما نص فى الإستثناء فى الحلف بهما على روايتين لكن هذا القول لازم على إحدى الروايتين عنه التى ينصرونها ومن سوى الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها أو لا يلتزمها بل يرجع عن الملزوم أو لا يرجع عنه ويعتقد أنها غير لوازم
والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه فإما أن لا يكون نص على ذلك اللازم لا بنفى ولا إثبات أو نص على نفيه وإذا نص على نفيه فأما أن يكون نص على نفى لزومه أو لم ينص فإن كان قد نص على نفى ذلك اللازم وخرجوا عنه خلاف المنصوص عنه فى تلك المسألة مثل أن ينص فى مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين أو يعلل مسألة بعلة ينقضها فى موضع آخر كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الإستثناء وعنه فى الإستثناء روايتان فهذا مبنى على تخريج ما لم يتكلم فيه بنفى ولا إثبات هل يسمى ذلك مذهبا أو لا يسمى ولاصحابنا فيه خلاف مشهور
____________________
(35/288)
فالأثرم والخرقى وغيرهما يجعلونه مذهبا له والخلال وصاحبه وغيرهما لا يجعلونه مذهبا له والتحقيق إن هذا قياس قوله ولازم قوله فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه ولا أيضا بمنزلة ما ليس بلازم قوله بل هو منزلة بين منزلتين هذا حيث أمكن أن لا يلازمه
وأيضا فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرا به أو ملزما له إذا أوقعه صاحبه وكذلك العتق وكذلك النذر وهذه العقود من النذور والطلاق والعتاق تقتضى وجوب أشياء على العبد أو تحريم أشياء عليه والوجوب والتحريم إنما يلزم العبد إذا قصده أو قصد سببه فإنه لو جرى على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شيء بالإتفاق ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة لأن مقصوده إنما هو دفع المكروه عنه لم يقصد حكمها ولا قصد التكلم بها إبتداء فكذلك الحالف إذا قال إن لم أفعل كذا فعلى الحج أو الطلاق ليس يقصد إلتزام حج ولا طلاق ولا تكلم بما يوجبه إبتداء وإنما قصده الحض على ذلك الفعل أو منع نفسه منه كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه ثم قال على طريق المبالغة فى الحض والمنع إن فعلت كذا فهذا لي لازم أو هذا على حرام لشدة إمتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به فقصده منعهما جميعا لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه وإذا لم يكن قاصدا للحكم ولا لسببه وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم
و
____________________
(35/289)
أيضا ( فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة فى الأمة لم يبلغنى أنه كان يحلف بها على عهد قدماء الصحابة ولكن قد ذكروها فى أيمان البيعة التى رتبها الحجاج بن يوسف وهى تشتمل على اليمين بالله وصدقة المال والطلاق والعتاق ولم أقف إلى الساعة على كلام لأحد من الصحابة فى الحلف بالطلاق وإنما الذى بلغنا عنهم الجواب فى الحلف بالعتق كما تقدم
ثم هذه ( البدعة قد شاعت فى الأمة وإنتشرت إنتشارا عظيما ثم لما إعتقد من إعتقد أن الطلاق يقع بها لا محالة صار فى وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التى كانت على بنى اسرائيل ونشأ عن ذلك ( خمسة انواع من الحيل والمفاسد ( فى الايمان حتى اتخذوا آيات الله هزوا وذلك انهم يحلفون بالطلاق على ترك امور لابد لهم من فعلها اما شرعا واما طبعا وعلى فعل امور يصلح فعلها اما شرعا واما طبعا وغالب ما يحلفون بذلك فى حال اللجاج والغضب ثم فراق الأهل فيه من الضرر فى الدين والدنيا ما يزيد على كثير من اغلال اليهود وقد قيل ان الله انما حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره لئلا يسارع الناس إلى الطلاق لما فيه من المفسدة
فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة وهم محتاجون إلى فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل قدحت الأفكار لهم ( أربعة أنواع من الحيل ( أخذت عن الكوفيين وغيرهم
____________________
(35/290)
( الحيلة الأولى ( فى المحلوف عليه فيتأول لهم خلاف ما قصدوه وخلاف ما يدل عليه الكلام فى عرف الناس وعاداتهم وهذا هو الذى وصفه بعض المتكلمين فى الفقه ويسمونه ( باب المعاياة ( و ( باب الحيل فى الأيمان ( وأكثره مما يعلم بالإضطرار من الدين أنه لا يسوغ فى الدين ولا يجوز حمل كلام الحالف عليه ولهذا كان الأئمة كأحمد وغيره يشددون النكير على من يحتال فى هذه الأيمان
( الحيلة الثانية ( إذا تعذر الإحتيال فى الكلام المحلوف عليه احتالوا للفعل المحلوف عليه بأن يأمروه بمخالعة إمرأته ليفعل المحلوف عليه فى زمن البينونة وهذه الحيلة أحدث من التى قبلها وأظنها حدثت فى حدود المائة الثالثة فإن عامة الحيل إنما نشأت عن بعض أهل الكوفة وحيلة الخلع لا تمشى على أصلهم لأنهم يقولون إذا فعل المحلوف عليه فى العدة وقع به الطلاق لأن المعتدة من فرقة بائنة يلحقها الطلاق عندهم فيحتاج المحتال بهذه الحيلة أن يتربص حتى تنقضى العدة ثم يفعل المحلوف عليه بعد إنقضائها وهذا فيه ضرر عليه من جهة طول المدة فصار يفتى بها بعض أصحاب الشافعى وربما ركبوا معها أحد قوليه الموافق لأشهر الروايتين عن أحمد من أن الخلع فسخ وليس بطلاق فيصير الحالف كلما أراد الحنث خلع زوجته وفعل المحلوف عليه ثم تزوجها فإما أن يفتوه بنقص عدد الطلاق أو يفتوه بعدمه وهذا الخلع الذى هو ( خلع الأيمان ( شبيه بنكاح المحلل سواء فإن ذلك
____________________
(35/291)
عقد عقدا لم يقصده وإنما قصد إزالته وهذا فسخ فسخا لم يقصده وإنما قصد إزالته وهذه حيلة محدثة باردة قد صنف أبو عبد الله بن بطة جزءا فى إبطالها وذكر عن السلف فى ذلك من الآثار ما قد ذكرت بعضه فى غير هذا الموضع
( الحيلة الثالثة ( إذا تعذر الإحتيال فى المحلوف عليه إحتالوا فى المحلوف به فيبطلونه بالبحث عن شروطه فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعى يبحثون عن صفة عقد النكاح لعله إشتمل على أمر يكون به فاسدا ليرتبوا على ذلك أن الطلاق فى النكاح الفاسد لا يقع ومذهب الشافعى فى أحد قوليه وأحمد فى إحدى روايتيه أن الولى الفاسق لا يصح نكاحه والفسوق غالب على كثير من الناس فينفق سوق هذه المسألة بسبب الاحتيال لرفع يمين الطلاق حتى رأيت من صنف في هذه المسألة مصنفا مقصوده به الإحتيال لرفع الطلاق ثم تجد هؤلاء الذين يحتالون بهذه الحيلة إنما ينظرون فى صفة عقد النكاح وكون ولاية الفاسق لا تصح عند إيقاع الطلاق الذى قد ذهب كثير من أهل العلم أو أكثرهم إلى أنه يقع فى الفاسد فى الجملة وأما عند الوطء والإستمتاع الذى أجمع المسلمون على أنه لا يباح فى النكاح الفاسد فلا ينظرون فى ذلك ولا ينظرون فى ذلك أيضا عند الميراث وغيره من أحكام النكاح الصحيح بل عند وقوع الطلاق خاصة وهذا نوع من إتخاذ آيات الله هزوا ومن المكر فى آيات الله إنما أوجبه الحلف بالطلاق والضرورة إلى عدم وقوعه
____________________
(35/292)
( الحيلة الرابعة ( الشرعية فى إفساد المحلوف به أيضا لكن لوجود مانع لا لفوات شرط فإن أبا العباس بن سريج وطائفة بعده إعتقدوا أنه إذا قال لإمرأته إذا وقع عليك طلاقى وإذا طلقتك فأنت طالق قبل ثلاثا فإنه لا يقع عليها بعد ذلك طلاق أبدا لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق وإذا وقع المعلق إمتنع وقوع المنجز فيفضى وقوعه إلى عدم وقوعه فلا يقع وأما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك بل رأوه من الزلات التى يعلم بالإضطرار كونها ليست من دين الإسلام حيث قد علم بالضرورة من دين محمد بن عبد الله أن الطلاق أمر مشروع فى كل نكاح وأنه ما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق وسبب الغلط أنهم إعتقدوا صحة هذا الكلام فقالوا إذا وقع المنجز وقع المعلق وهذا الكلام ليس بصحيح فإنه مستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع فى الشريعة فالكلام المشتمل على ذلك باطل وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحا
ثم إختلفوا هل يقع من المعلق تمام الثلاث أم يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز على قولين فى مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما
وما أدري هل إستحدث إبن سريج هذه المسألة للإحتيال على رفع الطلاق أم قاله طردا لقياس إعتقد صحته وإحتال بها من بعده لكنى رأيت
____________________
(35/293)
مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه فى هذه المسألة ومقصوده بها الإحتيال على عدم وقوع الطلاق
ولهذا صاغوها بقوله إذا وقع عليك طلاقى فأنت طالق قبله ثلاثا لأنه لو قال إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا لم تنفعه هذه الصيغة فى الحيلة وإن كان كلاهما فى الدور سواء وذلك لأن الرجل إذا قال لإمرأته إذا طلقتك فعبدى حر أو فأنت طالق لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد فإن كل واحد من التنجيز والتعليق الذى وجد شرطه تطليق أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا لأن التطليق لابد أن يصدر عن المطلق ووقوع الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه فأما إذا قال إذا وقع عليك طلاقى فهذا يعم المنجز والمعلق بعد هذا بشرط والواقع بعد هذا بشرط تقدم تعليقه فصوروا المسألة بصورة قوله إذا وقع عليك طلاقى حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا قالوا له قل إذا وقع عليك طلاقى فأنت طالق قبله ثلاثا فيقول ذلك فيقولون له إفعل الآن ما حلفت عليه فإنه لا يقع عليك طلاق
فهذا ( التسريج ( المنكر عند عامة أهل الإسلام المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التى بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم إنما نفقه فى الغالب وأحوج كثيرا من الناس إلا الحلف بالطلاق وإلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد لأن العاقل لا يكاد يقصد إنسداد باب الطلاق عليه إلا نادرا
____________________
(35/294)
( الحيلة الخامسة ( إذا وقع الطلاق ولم يمكن الإحتيال لا فى المحلوف عليه قولا ولا فعلا ولا فى المحلوف به إبطالا ولا منعا إحتالوا لإعادة النكاح ( بنكاح المحلل ( الذى دلت السنة وإجماع الصحابة مع دلالة القرآن وشواهد الأصول على تحريمه وفساده ثم قد تولد من نكاح المحلل من الفساد مالا يعلمه إلا الله كما قد نبهنا على بعضه فى ( كتاب إقامة الدليل على بطلان التحليل ( وأغلب ما يحوج الناس إلى نكاح المحلل هو الحلف بالطلاق وإلا فالطلاق الثلاث لا يقدم عليه الرجل فى الغالب إلا إذا قصده ومن قصده لم يترتب عليه من الندم والفساد ما يترتب على من إضطر لوقوعه لحاجته إلى الحنث
فهذه ( المفاسد الخمس ( التى هي الإحتيال على نقض الأيمان وإخراجها من مفهومها ومقصودها ثم الإحتيال بالخلع وإعادة النكاح ثم الإحتيال بالبحث عن فساد النكاح ثم الإحتيال بمنع وقوع الطلاق ثم الإحتيال بنكاح المحلل فى هذه الأمور من المكر والخداع والإستهزاء بآيات الله واللعب الذى ينفر العقلاء عن دين الإسلام ويوجب طعن الكفار فيه كما رأيته فى بعض كتب النصارى وغيرها وتبين لكل مؤمن صحيح الفطرة أن دين الإسلام بريء منزه عن هذه الخزعبلات التى تشبه حيل اليهود ومخاريق الرهبان
____________________
(35/295)
وأكثر ما أوقع الناس فيها وأوجب كثرة إنكار الفقهاء فيها وإستخراجهم لها هو حلف الناس بالطلاق وإعتقاد وقوع الطلاق عند الحنث لا محالة حتى لقد فرع الكوفيون وغيرهم من فروع الأيمان شيئا كثيرا مبناه على هذا الأصل وكثير من الفروع الضعيفة التى يفرعها هؤلاء ونحوهم هي كما كان الشيخ أبو محمد المقدسى رحمه الله يقول مثالها مثال رجل بنى دارا حسنة على حجارة مغصوبة فإذا نوزع فى إستحقاق تلك الحجارة التى هى الأساس فإستحقها غيره إنهدم بناؤه فإن الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة وإلا لم يكن لها منفعة
فإذا كان الحلف بالطلاق وإعتقاد لزوم الطلاق عند الحنث قد أوجب هذه المفاسد العظيمة التى قد غيرت بعض أمور الإسلام عند من فعل ذلك وصار فى هؤلاء شبه من أهل الكتاب كما أخبر به النبى مع أن لزوم الطلاق عند الحلف به ليس فى كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أفتى به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد منهم فيما أعلمه ولا إتفق عليه التابعون لهم بإحسان والعلماء بعدهم ولا هو مناسب لأصول الشريعة ولا حجة لمن قاله اكثر من عادة مستمرة أسندت إلى قياس معتضد بتقليد لقوم أئمة علماء محمودين عند الأمة وهم ولله الحمد فوق ما يظن بهم لكن لم نؤمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله وإلى الرسول وقد خالفهم من ليس دونهم بل مثلهم أو فوقهم فإنا قد ذكرنا عن أعيان من الصحابة
____________________
(35/296)
كعبد الله بن عمر المجمع على إمامته وفقهه ودينه وأخته حفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى من أمثل فقيهات الصحابة الإفتاء بالكفارة فى الحلف بالعتق والطلاق أولى منه وذكرنا عن طاووس وهو من أفاضل علماء التابعين علما وفقها ودينا أنه لم يكن يرى اليمين بالطلاق موقعة له
فإذا كان لزوم الطلاق عند الحنث فى اليمين به مقتضيا لهذه المفاسد وحاله فى الشريعة هذه الحال كان هذا دليلا على أن ما أفضى إلى هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله كما نبهنا عليه فى ضمان الحدائق من يزدرعها ويستثمرها ويبيع الخضر ونحوها
وذلك أن الحالف بالطلاق إذا حلف ليقطعن رحمه وليعقن أباه وليقتلن عدوه المسلم المعصوم وليأتين الفاحشة وليشربن الخمر وليفرقن بين المرء وزوجه ونحوذلك من كبائر الإثم والفواحش فهو بين ( ثلاثة أمور (
إما أن يفعل هذا المحلوف عليه فهذا لا يقوله مسلم لما فيه من ضرر الدنيا والآخرة مع أن كثيرا من الناس بل والمفتين إذا رأوه قد حلف بالطلاق كان ذلك سببا لتخفيف الأمر عليه وإقامة عذره
____________________
(35/297)
وإما أن يحتال ببعض تلك الحيل المذكورة كما إستخرجه قوم من المفتين ففى ذلك من الإستهزاء بآيات الله ومخادعته والمكر فى دينه والكيد له وضعف العقل والدين والإعتداء لحدوده والإنتهاك لمحارمه والألحاد فى آياته مالا خفاء به وإن كان فى إخواننا الفقهاء من قد يستجيز بعض ذلك فقد دخل من الغلط فى ذلك وإن كان مغفورا لصاحبه المجتهد المتقى لله ما فساده ظاهر لمن تأمل حقيقة الدين
وإما أن لا يحتال ولا يفعل المحلوف عليه بل يطلق إمرأته كما يفعله من يخشى الله إذا إعتقد وقوع الطلاق ففى ذلك من الفساد فى الدين والدنيا مالا يأذن الله به ولا رسوله
أما ( فساد الدين ( فإن الطلاق منهى عنه مع إستقامة حال الزوج بإتفاق العلماء حتى قال النبى صلى الله عليه وسلم ( إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات ( وقال ( أيما إمرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة (
وقد إختلف العلماء هل هو محرم أو مكروه وفيه روايتان عن أحمد وقد إستحسنوا جواب أحمد رضى الله عنه لما سئل عمن حلف بالطلاق وحرم ليطأن امرأته وهى حائض فقال يطلقها ولا يطأها قد أباح الله الطلاق وحرم وطء الحائض وهذا الإستحسان يتوجه على أصلين إما على قوله إن الطلاق ليس بحرام وإما أن يكون تحريمه دون تحريم الوطء وإلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلى حرام
____________________
(35/298)
وأما ( ضررالدنيا ( فأبين من أن يوصف فإن لزوم الطلاق والمحلوف به فى كثير من الأوقات يوجب من الضرر مالم تأت به الشريعة فى مثل هذا قط فإن المرأة الصالحة تكون فى صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة وهى متاعه الذى قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة المؤمنة إن نظرت إليها أعجبتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك فى نفسها ومالك ( وهى التى أمر بها النبى فى قوله لما سأله المهاجرون أى المال نتخذ فقال ( لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا أو إمرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه ( رواه الترمذى من حديث سالم بن أبى الجعد عن ثوبان ويكون منها من المودة والرحمة ما امتن الله تعالى بها فى كتابه فيكون ألم الفراق أشد عليها من الموت أحيانا وأشد من ذهاب المال وأشد من فراق الأوطان خصوصا إن كان بأحدهما علاقة من صاحبه أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق ويفسد حالهم ثم يفضى ذلك إلى القطيعة بين أقاربها ووقوع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التى امتن الله تعالى بها فى قوله { فجعله نسبا وصهرا } ومعلوم ان هذا من الحرج الداخل فى عموم قوله { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ومن العسر المنفى بقوله { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
( وايضا ( فاذا كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر واحسان من صدقه او عتاقه وتعليم علم وصلة رحم وجهاد فى سبيل الله واصلاح بين الناس
____________________
(35/299)
ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التى يحبها الله ويرضاها فانه لما عليه من الضرر العظيم فى الطلاق اعظم ( أن ) لا يفعل ذلك بل ولا يؤمر به شرعا لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق اعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال وهذه المفسدة هي التى ازالها الله ورسوله بقوله تعالى { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } وقوله صلى الله عليه وسلم ( لأن يلج احدكم بيمينه فى اهله آثم له عند الله من ان يأتى الكفارة (
فان قيل فهو الذى اوقع نفسه فى احد هذه الضرائر الثلاث فلا ينبغى له ان يحلف
قيل ليس فى شريعتنا ذنب اذا فعله الانسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة الا بضرر عظيم فان الله لم يحمل علينا اصرا كما حمله على الذين من قبلنا
فهب هذا قد اتى كبيرة من الكبائر فى حلفه بالطلاق ثم تاب من تلك الكبيرة فكيف يناسب اصول شريعتنا ان يبقى اثر ذلك الذنب عليه لا يجد منه مخرجا وهذا بخلاف الذى ينشئ الطلاق لا بالحلف عليه فانه لا يفعل ذلك الا وهو مريد الطلاق اما لكراهة المرأة او غضب عليها ونحو ذلك وقد جعل الله الطلاق ثلاثة فاذا كان انما يتكلم بالطلاق باختياره وله ذلك ثلاث مرات كان وقوع الضرر بمثل هذا نادرا بخلاف الاول فان مقصوده لم يكن الطلاق انما كان ان
____________________
(35/300)
يفعل المحلوف عليه او لا يفعله ثم قد يأمره الشرع او تضطره الحاجة إلى فعله او تركه فيلزمه الطلاق بغير اختيار لا له ولا لسببه
( وأيضا ( فإن الذى بعث الله تعالى به محمدا فى ( باب الايمان ( تخفيفها بالكفارة لا تثقيلها بالايجاب او التحريم فانهم كانوا فى الجاهلية يرون الظهار طلاقا وإستمروا على ذلك فى اول الاسلام حتى ظاهر اوس بن الصامت من امرأته
وأيضا فالاعتبار بنذر اللجاج والغضب فانه ليس بينهما من الفرق الا ما ذكرناه وسنبين ان شاء الله عدم تأثيره والقياس بالغاء الفارق اصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين وذلك ان الرجل اذا قال إن اكلت أو شربت فعلي ان اعتق عبدى او فعلى ان اطلق امرأتى او فعلى الحج او فانا محرم بالحج او فمالى صدقة او فعلى صدقة فانه تجزئة كفارة يمين عند الجمهور كما قدمناه بدلالة الكتاب والسنة واجماع الصحابة فكذلك اذا قال ان اكلت هذا او شربت هذا فعلى الطلاق او فالطلاق لى لازم او فأمرأتى طالق او فعبيدى احرار فان قوله على الطلاق لا افعل كذا او الطلاق يلزمنى لا افعل كذا فهو بمنزلة قوله على الحج لا افعل كذا او الحج لى لازم لا افعل كذا وكلاهما يمينان محدثان ليستا مأثورتين عن العرب ولا معروفتين عن الصحابه وانما
____________________
(35/301)
المتأخرون صاغوا من هذه المعانى ايمانا وربطوا احدى الجملتين بالاخرى كالايمان التى كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها وكانت العرب تحلف بها لا فرق بين هذا وهذا الا ان قوله ان فعلت فمالى صدقة يقتضى وجوب الصدقة عند الفعل وقوله فامرأتى طالق يقتضى وجود الطلاق فالكلام يقتضى وقوع الطلاق بنفس الشرط وان لم يحدث بعد هذا طلاقا ولا يقتضى وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة
وجواب هذا الفرق الذى إعتمده الفقهاء المفرقون من ( وجهين (
( احدهما ( منع الوصف الفارق فى بعض الاصول المقيس عليها وفى بعض صور الفروع المقيس عليها
( والثانى ( بيان عدم التأثير
أما الاول فانه اذا قال إن فعلت كذا فمالى صدقه او فانا محرم او فبعيرى هدى فالمعلق بالصفة وجود الصدقة والاحرام والهدى لا وجوبهما كما ان المعلق فى قوله فعبدى حر وامرأتى طالق وجود الطلاق والعتق لا وجوبهما ولهذا اختلف الفقهاء من اصحابنا وغيرهم فيما اذا قال هذا هدى وهذا صدقة لله هل يخرج عن ملكه أو لا يخرج فمن قال يخرج عن ملكه فهو كخروج زوجته وعبده عن ملكه واكثر ما فى الباب ان الصدقة
____________________
(35/302)
والهدى يتملكهما الناس بخلاف الزوجة والعبد وهذا لا تأثير له وكذلك لو قال علي الطلاق لأفعلن كذا او الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا فهو كقوله على الحج لأفعلن كذا فهو جعل المحلوف به ها هنا وجوب الطلاق لا وجوده كانه قال ان فعلت كذا فعلى ان اطلق فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب كما ان بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود
واما الجواب الثانى فنقول هب ان المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتاق والمعلق هناك وجوب الصدقة والحج والصيام والاهداء اليس موجب الشرط ثبوت هذا الوجوب بل يجزئه كفارة يمين كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجوب بل يجزيه كفارة يمين عند وجوب الشرط فان كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود بل كما لو قال هو يهودى او نصرانى او كافر ان فعل كذا فان المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ثم اذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق بل يلزمه كفارة يمين او لا يلزمه شيء
ولو قال ابتداء هو يهودى او نصرانى او كافر يلزمه الكفر بمنزلة قوله ابتداء عبدى حر وامرأتى طالق وهذه البدنة هدى وعلى
____________________
(35/303)
هدى وعلى صوم يوم الخميس ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله اذا هل الهلال فقد برئت من دين الاسلام لكان الواجب انه يحكم بكفره لكن لا يناجز الكفر لأن توقيته دليل على فساد عقيدته
قيل فالحلف بالنذر إنما عليه فيه الكفارة فقط قيل مثله فى الحلف بالعتق وكذلك الحلف بالطلاق كما لوقال فعلى ان اطلق امرأتى ومن قال انه اذا قال فعلى ان اطلق امراتى لا يلزمه شيء فقياس قوله فى الطلاق لا يلزمه شيء ولهذا توقف طاووس فى كونه يمينا وان قيل انه يخير بين الوفاء به والتكفير فكذلك هنا يخير بين الطلاق والعتق وبين التكفير فان وطىء امرأته كان اختيارا للتكفير كما انه فى الظهار يكون مخيرا بين التكفير وبين تطليقها فان وطئها لزمته الكفارة لكن فى الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر لأن الظهار منكر من القول وزور حرمها عليه واما هنا فقوله ان فعلت فهي طالق بمنزلة قوله فعلى ان اطلقها او قال والله لأطلقنها إن لم يطلقها فلا شيء عليه وان طلقها فعليه كفارة يمين
يبقى ان يقال هل تجب الكفارة على الفور اذا لم يطلقها حينئذ كما لو قال والله لأطلقها الساعة ولم يطلقها او لا تجب الا اذا عزم على امساكها او لا تجب حتى يوجد منه ما يدل على الرضا بها من قول او فعل كالذى يخير
____________________
(35/304)
بين فراقها وامساكها لعيب ونحوه وكالمعتقه تحت عبده او لا تجب بحال حتى يفوت الطلاق قيل الحكم فى ذلك كما لو قال فثلث مالى صدقة او هدى ونحو ذلك والأقيس فى ذلك انه مخير بينهما على التراخى مالم يوجد منه ما يدل على الرضا باحدهما كسائر انواع الخيار
فصل
موجب ( نذر اللجاج والغضب ( عندنا أحد شيئين على المشهور إما التكفير وإما فعل المعلق ولا ريب أن موجب اللفظ فى مثل قوله إن فعلت كذا فعلى صلاة ركعتين أو صدقة ألف أو فعلى الحج او صوم شهر هو الوجوب عند الفعل فهومخير بين هذا الوجوب وبين وجوب الكفارة فاذا لم يلتزم الوجوب المعلق ثبت وجوب الكفارة فاللازم له أحد الوجوبين كل منهما ثابت بتقدير عدم الاخر كما فى الواجب المخير وكذلك إن قال إن فعلت كذا فعلى عتق هذا العبد أو تطليق هذه المرأة أو على أن أتصدق أوأهدى فان ذلك يوجب استحقاق العبد للآعتاق والمال للتصدق والبدنة للهدى
ولو أنه نجز ذلك فقال هذا المال صدقة وهذة البدنة هدى وعلى عتق هذا العبد فهل يخرج عن ملكه بذلك أو يستحق الاخراج فيه خلاف
____________________
(35/305)
وهو يشبه قوله هذا وقف فأما إذا قال هذا العبد حر وهذة المرأة طالق فهو اسقاط بمنزلة قوله ذمة فلان بريئة من كذا أومن دم فلان او من قذفى فان اسقاط حق الدم والمال والعرض من باب اسقاط حق الملك بملك البضع وملك اليمين
فان قال إن فعلت فعلى الطلاق أو فعلى العتق أو فامرأتى طالق أو فعبيدى أحرار وقلنا إن موجبه أحد الأمرين فانه يكون مخيرا بين وقوع ذلك وبين وجوب الكفارة كما لو قال فهذا المال صدقة أوهذه البدنة هدى ونظير ذلك ما لو قال إذا طلعت الشمس فعبيدى أحرار أو نسائى طوالق وقلنا التخيير إليه فانه إذا اختار أحدهما كان ذلك بمنزلة اختياره أحد الامرين من الوقوع أو وجوب الكفارة
ومثال ذلك أيضا إذا أسلم وتحته أكثر من اربع او اختان فاختار احداهما فهذه المواضع التى تكون الفرقة أحد اللازمين إما فرقة معين او نوع الفرقة لايحتاج انشاء طلاق لكن لايتعين الطلاق الا بما يوجب تعيينه كما فى النظائر المذكورة
ثم إذا إختار الطلاق فهل يقع من حين الاختيار أو من حين الحنث يخرج على نظير ذلك فلو قال فى جنس مسائل نذر اللجاج والغضب اخترت
____________________
(35/306)
التكفير أو إخترت فعل المنذور هل يتعين بالقول او لا يتعين الا بالفعل ان كان التخيير بين الوجوبين تعين بالقول كما فى التخيير بين الانشاء وبين الطلاق والعتق وان كان بين الفعلين لم يتعين الا بالفعل كالتخيير بين خصال الكفارة وان كان بين الفعل والحكم كما فى قوله ان فعلت كذا فعبدى حر او امرأتى طالق او دمى هدر اومالى صدقة او بدنتى هدى تعين الحكم بالقول ولم يتعين الفعل إلا بالفعل والله أعلم
وقال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى فصل جليل القدر
اليمين المتضمنة حضا او منعا لنفسه كقوله لأفعلن ولا افعل فيها معنى الطلب والخبر وكذلك الوعد والوعيد بخلاف الخبر المحض كقوله ( والذى نفسى بيده لينزلن فيكم بن مريم حكما عدلا واماما مقسطا ( او والله ليقدمن الركب فان هذا اخبار محض بأمر سيكون كما يخبر عن الماضى بمثل ذلك وبخلاف الطلب المحض كقوله لغيره افعل او بالله افعل ونحو ذلك
إذا لم يكن منه الا مجرد الطلب وهو لا يدرى ايطيعه ام يعصيه ولهذا لا يحسن الاستثناء فى هذا الضرب ولا كفارة فيه لعدم المخالفة
____________________
(35/307)
فإنه طلب محض مؤكد بالله كقوله سألتك بالله الا ما فعلت او سألتك بالله لا تفعل فاما اذا كان المخصوص او الممنوع ممن يغلب على ظنه موافقته له كعبده وزوجته وولده فهو كنفسه فيها معنى الطلب والخبر فانه لكونه مطيعا له فى العادة جرى مجرى طاعة نفسه لنفسه فطلب الفعل منهما طلبا قرنه بالاخبار عن كونه
فقوله لأقومن غدا يتضمن ( امرين ) ( أحدهما ( أنى مريد القيام غدا ( والثاني ( سيكون القيام غدا بخلاف القسم الخبرى المحض فانه بمعنى سيكون وبخلاف القسم الطلبى المحض فانه بمعنى اريد منك واطلب منك ان تقوم والحنث فى اليمين لم يجيء لمخالفة المطلوب كما تقدم فى الطلب المحض وانما جاء لمخالفة الخبر كما لو كان خبرا محضا عن مستقبل والاستثناء يعلق الفعل بالمشيئة فيصير المعنى ليكونن هذا ان شاء الله فان لم يشأ الله لم يكن مخبرا بكونه فلا مخالفة فلا حنث ولهذا يصح الاستثناء
( فالخبر المحض ( كقوله ( لأطوفن الليلة على تسعين امرأة فلتأتين كل امرأة بفارس يقاتل فى سبيل الله ( والولادة ليست من فعله المقدور عليه وكما تقول والله ليجيء زيد ان شاء الله
فصار لقائل لأفعلن كذا ان شاء الله ( ثلاث نيات
____________________
(35/308)
تارة يكون غرضه تعليق الارادة والمعنى ان شاء الله كنت الساعة مريدا له وطالبا والا فلا فهذا لا يصح ان يكون مريدا ولا ترتفع الكفارة بهذا وحده كما فى قوله انت طالق إن شئت فقالت قد شئت ان شئت ان المشيئة لا يصح تعليقها فكذا هذا فمتى قال هذا لم تكن ارادته حاصلة فهذا مثل الذى يطلب منه شيء فيقول اعطيك ان شاء الله فلا وعد له واذا نوى هذا فى اليمين صح لكن لا يرفع الكفارة لأن مخالفة الطلب لم توجب الكفارة وانما اوجبه مخالفة الخبر فلو كان خبرا لا طلب معه غير تعليق وجبت الكفارة فأكثر ما فى هذا انتفاء الطلب والحض من اليمين
( الثانى ( أن يكون غرضه تعليق الاخبار والمعنى ان قيامى كائن ان شاء الله او ان قيامك كائن ان شاء الله فأنا مخبر بوقوعه ان شاء الله وقوعه وان لم يشأ فلا اخبر به واذا لم يخبر به فلا مخالفة فلا حنث وان كنت مريدا له الساعة جزما فهذا هو المعنى الذى يرفع الكفارة فكأنه قال انا شاك فى الوقوع فلست اخبر بوقوعه جزما وإنما اخبر بوقوعه عند هذه الصفة كقوله لأقومن ان قدم زيد وان اعطيتنى مائة ونحو ذلك وهو وعد أو وعيد معلق بشرط وان كان الواعد او المتواعد مريدا فى الحال لانفاذه
ولهذا قلنا ان قوله لأصومن غدا ان شاء الله من رمضان لا يقدح لأن التعليق عاد إلى الاخبار لا إلى الارادة ومن الفقهاء
____________________
(35/309)
من قال هذا يقدح فى ارادته وهؤلاء يقولون انه إذا نوى عود الاستثناء إلى طلبه وارادته نفعه فى الكفارة او لا ترتفع الا بهذا الشرط وعلى خاطرى هنا قول لا استثبته
( الثالث ( ان لا يكون غرضه تعليق واحد منهما لأنه جازم بارادته وجازم بانه سيكون كما لو كان خبرا محضا مثل قوله لينزلن بن مريم وليخرجن الدجال ولتقومن الساعة وهذه أيمان امر الله رسوله بنوع منها كقوله { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي } فهذا ماض وحاضر وقال { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } وقال { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } فأمره ان يحلف على وقوع اتيان الساعة وبعث الناس من قبورهم وهما مستقلان من فعل غيره وهذا كقول النبى صلى الله عليه وسلم لعمر ( لآتينه ولأطوفن به ( فهنا اذا قال ان شاء الله فقد لايكون غرضه تعليق الأخبار وإنما غرضه تحقيقه كقوله { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله } فان هذا كلام صحيح اذ الحوادث كلها لا تكون الا بمشيئة الله مثل ما لو قال ليكونن ان اتفقت اسباب كونه والناس يعلمون أنه ان شاء الله وإن اتفقت أسباب كونه كان فان لم يكن هو مخبرا لهم بذلك كان متكلما بما لا يفيد
____________________
(35/310)
فهذا
اذا نواه هل يرفع الكفارة فبالنظر إلى قصده وجزمه فى الخبر قد حصلت المخالفة وبالنظر إلى لفظه وانه انما جزم بمشروط لا بمطلق لم تقع المخالفة وان اخطأ اعتقاده كما لو حلف على من يظنه كما حلف عليه فتبين بخلافه فانه لما اخبر عن الماضى بموجب اعتقاده لم يحنث بخلاف ما اذا تعمد الكذب
وكذلك هذا لم يتأل على الله لكن يقال كان ينبغى له ان يشك فلما تألى على الله وأكد المشيئة قاصدا بها تحقيق جزمه بالاخبار صار وجودها زائدا له فى التألى لا معلقا فقد يقال فى معارضة هذا الجزم يرجع إلى اعتقاده لا إلى كلامه واما كلامه فلم يتأل فيه على الله بل اخبر ان هذا يكون ان شاء الله وقال مع ذلك انا معتقد انه يكون جازما به فالكفارة وجبت لمخالفة خبرى مخبره او لمخالفة اعتقادى معتقده انما وجبت لمخالفة الخبر فانى لو قلت انى اعتقد ان هذا يكون وانا جازم باعتقادى لم يكن على حنث اذا لم يكن ومعنى كلامى انى جازم بأن هذا سيكون واخبركم انه يكون ان شاء الله فعلقت لكم اخبارى لا اعتقادي والا لم يكن فى قولى ان شاء الله فائدة اذ لو كان المعنى انى جازم بأنه سيكون ان شاء الله لم اكن جازما مطلقا وكذلك لو كان المعنى ان اعتقادى واخبارى ان شاء الله كان هو القسم الأول وانما المعنى ان اعتقادى ثابت به واخبارى لكم معلق به علقته به لأنه لا ينبغى لأحد ان يخبر بالمستقبلات الا معلقا بمشيئة الله فهذا فيه نظر
____________________
(35/311)
وبهذا التقسيم يظهر قول من قال إن نوى بالاستثناء معنى قوله { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } فان الرجل مأمور ان لا يقول لأفعلنه غدا الا أن يقول ان شاء الله
ويتبين بهذا البحث الذى ذكرناه ان الاستثناء الرافع للكفارة انما يعلق ما فى اليمين من معنى الخبر المحض او المشوب لا يعلق ما فيها من معنى الطلب المحض او المشوب اذ مخالفة الطلب لا توجب كفارة وانما يوجبها مخالفة الخبر وذلك لأن الرفع انما يكون اذا كان فى المشيئة تعليق والتعليق انما يكون فيما لم يقع بخلاف ما قد وقع
ومن هنا يعلم أن الإستثناء لا يرفع الإنشاءات بأسرها لا الطلاق ولا غيره كما لايرفع موجب الطلب وينبغى أن يؤخذ من هذه أن هذه الصيغ المغلب عليها حكم الإنشاءات لإمتناع الإستثناء فيها وإن الإستثناء فيها بأسرها إستثناء تحقيق لا تعليق كقوله كان هذا بمشيئة الله وكان بقدرة الله
ويخرج من هذا ( الإستثناء فى الايمان ( إن عاد إلى الموافاة فعلى بابه لأن إطلاق الإسم يقتضى إستحقاق الجنة كما قاله إبن مسعود وخالفه فيه صاحب معاذ بتأويل صحيح وتركه جائز وإن كان فعله أحسن
____________________
(35/312)
من تركه وهذا معنى كلام أحمد فى ( 1 ) ومن أصحابنا من أوجبه كما أن المرجئة تحظره ومن الناس من قد يرى تركه أحسن فالاقسام فيه إما واجب أو مستحب أو ممنوع حظرا أو كراهة أو مسنونا أو مستوى الحالتين
وبهذا الذى ذكرناه فى اليمين يظهر معنى الوعد والوعيد من جواز نسخ ذلك أو الخلف فيه فإن من رآهما خبرا قال النسخ يقتضى الكذب والآخر يقول هو خبر متضمن معنى الطلب فإذا قال إن فعلت هذا ضربتك تضمن أنى مريد الساعة لضربك إذا فعلته ومخبرك به فليس هو خبرا محضا فيكون النسخ عائدا إلى ما فيه من الطلب تغليبا للطلب على الخبر كما أنه فى باب المشيئة والكفارة غلب الخبر على الطلب لأن الكلام إذا تضمن معنيان فقد يغلب أحدهما بحسب الضمائم ولهذا فرق فى الخلف بين الوعد والوعيد لأن الواعد لما تضمن كلامه طلب الخبر الموعود به من نفسه فى معرض المقابلة صار ذلك بمنزلة إلتزامه الأعواض من العقود فانه امر وجب لغيره عليه فلا يجوز ابطاله والمتوعد تضمن كلامه طلب الشر المتوعد به فى معرض المقابلة بمنزلة الزامه لغيره عوضا اذا بذل هو ما يجب عليه وما وجب له على الغير فله التزامه وله ترك التزامه
____________________
(35/313)
فقولك بعتك هذا بألف فى معنى المواعد بالألف عند حصول المبيع وفى معنى المطالب بالمبيع عند بذل الألف فمطالبته بالوعيد الذى هو العقوبة ليس بأحسن حالا من مطالبته بسائر الحقوق الواجبة له على سبيل المقابلة فان اخذ الحقوق من الناس فيها شوب الألم فلا يخلص من نوع عقوبة وإن لم تسم بها فإنما الغرض تمثيل هذا بهذا فيما يجب للمتكلم وما يجب عليه فإذا كان الوعد والوعيد وإن تضمنا خبرا فهما متضمنين طلبا صيرهما ذلك بمنزلة الإنشاء الذى وإن كان صيغته صيغة الخبر عن الماضى فهو إنشاء لأمر حاضر وهذان وإن كان لفظهما لفظ الخبر عن المستقبل فهما إنشاء للإرادة والطلب فإذا كان وعد وجب فسمي خلفه كذبا كما قال لمن قال { لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا } { والله يشهد إنهم لكاذبون } وإذا كان وعيدا لم يجب إنفاذه لتضمنه معنى بيان الإستحقاق
وعلى هذا فيجوز نسخ الوعيد كما ذكره السلف فى قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } وأما الوعد بعد الإستحقاق فلا يجوز نسخه لأنه موجب المشروط وأما قبل العمل فيتوجه جواز نسخه كفسخ التعليقات الجائزة غير اللازمة من الجعالة ونحوها فإنه إذا قال من رد عبدى الآبق فله درهم فله فسخ ذلك قبل العمل والفسخ كالنسخ هذا فسخ لإنشاءات هي العقود المتضمنة إلتزام إرادة له أو عليه وهذا فسخ لطلب أيضا وكما أن المتصور فى الفسخ أنه رفع الحكم الذى هو الطلب أو الأذن
____________________
(35/314)
فالفسخ رفع الحكم الذى هو الإرادة أو الإباحة وكذلك الوعد والوعيد رفع الحكم الذى هو إرادة الإعطاء أو الإباحة
فهذا كله إنما كان لأن من الكلام ما تضمن معنى الطلب والخبر وهو الأيمان والنذور والوعد والوعيد والعقود فهذا ( القسم الثالث ( المركب هو الذى إضطرب الناس فى أحكامه ولهذا قسم بعضهم الكلام إلى خبر وإنشاء ليكون الإنشاء أعم من الطلب لأنه ينشئ طلبا وإذنا وما ثم غير الطلب والأذن لأنه إما أن يطلب من نفسه أو من غيره وجودا أو عدما وقد يقال الأذن يتضمن معنى الطلب لأنه طلب من نفسه تمكين المأذون له كما أن الإلتزام متضمن معنى الطلب لأنه جعل على نفسه حقا يطلبه المستحق وجوبا وهناك جعله له مباحا فهذا هذا والله أعلم فيعود الأمر إلى طلب أو خبر أو مركب منهما والله أعلم والحمد لله رب العالمين
( فصل ( وبما قدمناه من الأصل تظهر مسألة الاستثناء ( فى الظهار ( فإن قوله أنت على حرام وأنت على كظهر أمى قال أحمد يصح فيه الإستثناء لأن موجبه الكفارة إذا حنث بالعود وأصل أحمد أن كلما شرعت فيه الكفارة شرع فيه اليمين وإلا فلا
____________________
(35/315)
وقال طائفة من أصحابه منهم إبن بطة والعكبرى وإبن عقيل لا يصح فيه الإستثناء لأنه إنشاء بمنزلة التطليق والأعتاق فإنه ليس من جملتين كالقسم وإنما هو جملة واحدة كسائر الإنشاءات فقوله أنت على حرام كقوله أنت طالق ليس هنا فعل مستقبل يعلق بالمشيئة كما فى قوله لأخرجن وهذا فى بادئ الرأى أقوى للمشابهة الصورية
لكن قول أحمد أفقه وأدخل فى المعنى وإنما هو والله أعلم فى ذلك بمنزلة من عد نذر اللجاج والغضب كنذر التبرر للإستواء فى الصورة اللفظية ومن عده يمينا لمشابهة اليمين فى معنى وصفها وهو المحلوف عليه ومن اعطاه حكمهما لجمعه معناهما فان نصفه يشبه اليمين فى المعنى ونصفه يشبه النذر ولهذا سائر الألفاظ المعلق بها الأحكام قد ينظر ناظر إلى صورتها وآخر إلى معناها وآخر اليهما معا كما فى قوله لأفعلن الصورة صورة الخبر والمعنى قد يكون خبرا وقد يكون طلبا وقد يجتمعان فقوله انت علي كظهر امى كان فى الجاهلية إنشاء محضا للتحريم والتحريم لايثبت بدون الطلاق فكان عندهم طلاقا على موجب ظاهر لفظه لأن الطلاق يستلزم التحريم فجعلوا اللازم دليلا على الملزوم فأبطل الله ذلك لأنه منكر من القول وزور فإن الحلال لا يكون كالحرام المؤبد ولم يجعله طلاقا وإن عنى به الطلاق لأن الطلاق لايثبت إلا بعد ثبوت المعنى الفاسد وهو المشابهة
____________________
(35/316)
المحرمة فصار كقوله أنت يهودية أو نصرانية إذا عنى به الطلاق فإن هذا لا يثبت إلا بعد ثبوت الكفر الذى لا يجوز له أن يثبته فيها أو أنت أتان أو ناقة أو أنت علي كالأتان والناقة
ومن هنا قال أكثر الصحابة إن قوله انت على حرام ايضا يمين ليس بطلاق وصرح بعضهم بأنه يمين مغلظة كالظهار وهو مذهب احمد فصار قوله انت على كظهرامى بمنزلة لا أقربنك لأن اثبات المشابهة للأم يقتضى إمتناعه عن وطئها ويقتضى رفع العقد فأبطل الشارع رفع العقد لأن هذا إلى الشارع لا إليه فإن العقود والفسوخ اثبات الله لا تثبت الا بإذن الشارع واثبت امتناعه من الفعل لأن فعل الوطء وتركه إليه هو مخير فيه فلما صار بمنزلة قوله لا ينبغى منى وطؤك فهذا معنى اليمين لكنه جعله يمينا كبرى ليس بمنزلة اليمين بالله لأن تلك اليمين شرع الحلف بها فلم يعص فى عقدها وهذه اليمين منكر من القول وزور ولأن هذه اليمين تركها واجب فكانت الكفارة عوضا عن ذلك
ولهذا كانت اليمين بالله لا توجب تحريم الفعل إلى التكفير وهذه اليمين توجب تحريم الحنث الى التكفير فلم يكن له ان يحنث فيها حتى يحلها ووجبت فيها الكفارة الكبرى وكونها جملة واحدة لا يمتنع اندراجها فى اسم اليمين كلفظ النذر هو يمين وجملة واحدة وانما العبرة بما تضمن عهدا
____________________
(35/317)
وقد سمى الله كل تحريم ( يمينا ( بقوله { لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } كما سمى الصحابة نذر اللجاج والغضب ( يمينا ( وهو جملة شرطية نظرا إلى المعنى
يوضح ذلك ان الظهار لو كان إنشاء محضا لأوجب حكمه ولم يكن فيه كفارة اذ الكفارة لا تكون لرفع عقد او فسخ وانما تكون لرفع اثم المخالفة التى تضمنها عقده ولهذا لما كان كل من عقد اليمين وعقد الظهار لا يوجب الكفارة الا اذا وجدت المخالفة علم انه يمين والشافعى يقول يوجب لفظ الظهار ترك العقد فاذا امسكها مقدار ما يمكنه ازالته وجبت الكفارة واما احمد والجمهور فعندهم يوجب لفظه الامتناع من الوطء على وجه يكون حراما فالكفارة ترفع هذا التحريم فلا يجوز الوطء قبل ارتفاعه
وكذلك يقول احمد فى قوله انت على حرام أن موجبه الامتناع من الوطء على جهة التحريم لكن من يفرق بينهما يقول انه فى الظهار ما كان يمكن ان يعطى اللفظ ظاهره فانه لا تصير مثل امه فى دين الاسلام فاقتصر به على بعضه وهو ترك الوطء دون ترك العقد كما كانوا فى الجاهلية
____________________
(35/318)
ولفظ الحرام يمكن اثبات موجبه وقد يقول احمد ان الحرام لايمكن اثبات موجبه فان تحريم العين لايثبت ابدا والتحريم العارض لا يثبت بدون شبيه اذ ليس هو المفهوم من مطلق التحريم وانما هو تحريم مقيد فاستعمل بعض موجب اللفظ وهو تحريم الفعل الذى هو وطء ولأن التحريم المضاف إلى العين انما يراد به الفعل فكأنه وطئك حرام وهذا فى معنى قوله والله لا اطئك فكما ان الايلاء لا يكون طلاقا ولو نوى به الطلاق فكذلك التحريم اذ الايلاء نوع من الأيمان القسمية والظهار نوع من الأيمان التحريمية والبحث فيه يتوجه ان يقال نضعه على ادنى درجات التحريم لأن اللفظ مطلق فلا تثبت الزيادة الا بسبب كما فى قوله انت طالق لا يقع الا واحدة وكما اكتفى فى التشبيه بالتحريم اما اذا نوى الطلاق فيقال وان نوى الطلاق بالظهار
فصل
ويتصل بهذا ( اذا حلف بالظهار او بالحرام ( على حظ او منع كقوله ان فعلت هذا فأنت على كظهر امى أو حرام او الحرام يلزمنى أو الظهارلا افعله او لافعله فهذا اصحابنا فيه اذا حنث بالظهار كما انه يقع به الطلاق والعتق ولهذا قالوا فى ايمان المسلمين منها الظهار
____________________
(35/319)
وكنت افتى بهذا تقليدا ولما ذكروه من الحجة من أنه حكم معلق بشرط كما لو قال ان فعلت هذا فأنت على حرام عقوبة لها على فعله
وافتيت بعد هذا ان عليه كفارة يمين اذا كان مقصوده عدم الفعل وعدم التحريم كما قلناه فى مسألة ( نذر اللجاج والغضب ( وكما قلناه فى قوله هو يهودى او نصرانى ان فعل كذا وقوله هو يستحل الخمر والميتة ان فعل كذا فانه لما لم يكن مقصوده الحكم عند الشرط وانما الغرض الامتناع من فعل فكذلك اذا قال الحل على حرام ان فعل كذا وليس غرضه تحريم الحلال عند الفعل وانما غرضه الامتناع من الفعل وذكر التزام ذلك تقديرا تحقيقا للمنع كما ذكر التزام التهود والتنصر تقديرا كما انه معنى اليمين بالله هتكت حرمة الايمان بالله ان فعلت هذا او نقصت حرمة الله او استخففت بحرمة الله ان فعلت
وموجب الأيمان كلها من جهة اللفظ الوفاء وانه متى حنث فقد هتك ايمانه وانه تهود وتنصر كما ان موجب نذر اللجاج والغضب من اللفظ وجوب الوفاء فان الحكم المعلق بشرط يجب عند وجوده والحالف بشيء على فعل قد إلتزم ذلك الفعل وجعله معلقا بمعظمه المحلوف به فمتى لم يفعله فقد هتك تلك الحرمة
____________________
(35/320)
وقوله احلف بالله أو بكذا فى معنى قوله اعقده به وألصقه به ولهذا يسمى المصاحب ( حليفا ( كما كان يقال لعثمان ( حليف المحراب ( وعلته لايتخلف ولهذا قيل ان الباء لالصاق المحلوف عليه بالمحلوف به وانما اتى بلام القسم توكيدا ثانيا كأنه قال الصق واعتقد بالله مضمون قولى لأفعلن
ولهذا سمى التكفير قبل الحنث ( تحلة ( لأنه يحل هذا العقد الذى عقد بالمحلوف به مثل فسخ البيع الذى يحل ما بين البائع والمشترى من الانعقاد فالشارع جعل الأيمان من باب العقود الجائزة بهذا البدل لامن اللازمة مطلقا كما كان العقد بين المحلوف عليه والمحلوف به وهوالله سبحانه سوغ سبحانه لعبده ان يحل هذا العقد الذى عقد لي وبي بالكفارة التى هي عبادة وقربة وكان العبد مخيرا بين تمام عقده وبين حله بالبدل المشروع اذ كان العبد هو الذى عقد هذا المحلوف عليه بالله سبحانه كما كانوا فى اول الاسلام مخيرين بين الصيام الذى اوجبه وبين تركه بالكفارة وكما ان المعتمر فى اشهر الحج اذا اراد ان يحج من عامه مخير بين ان ينشئ للحج سفرا وبين ان يتركه بهدي التمتع فهو مخير فى اكمال الحج بالسفر أو بالهدي
ولهذا قلنا ليس جبرانا لأن دم الجبران لا يخير فى سببه كترك الواجبات وانما هو هدي واجب كأنه مخير بين العبادة البدنية المحضة
____________________
(35/321)
او البدنية المالية وهو الهدى ولكن قد يقال اذا كان واجبا فلا يؤكل منه بخلاف التطوع
قلنا هدي النذر ايضا فيه خلاف وما وجب معينا يأكل منه باتفاق لأن نفس الذابح لله مهديا إلى بيته اعظم المقصودين ولهذا اختلف العلماء فى وجوب تفرقته فى الحرم وان كنا نحن نوجب ذلك فى ما هو هدي دون ما هو نسك ليظهر تحقيقه بتسميته هديا وهو الاهداء الى الكعبة
فإذا ظهر ان المقتضى للوفاء قائم وانما الشارع جعل الكفارة رخصة ثم قد يجب وقد يستحب كما فى اكل المضطر للميتة فهذا المعنى موجود فى ( نذر اللجاج والغضب ( وما اشبهه وكذلك فى قوله ( ان فعلت كذا فأنت على حرام بخلاف ما لو اراد ثبوت التحريم عقوبة لها مثل ان يقول لها او لأمها ان فعلت كذا فأنت على حرام فهنا يكون مقصوده ثبوت التحريم كما ان فى ( نذر التبرر ( مقصوده ثبوت الوجوب وكما فى ( الخلع ( مقصوده اخذ العوض ونحو ذلك فهذا التفريق متوجه على اصلنا فإنا كما فرقنا فى التزام الايجاب المعلق ينبغى ان نفرق فى التزام التحريم المعلق
وينبغى ان نخيره اذا حنث بين الوفاء بالتحريم وبين تكفير يمينه كما خيرناه فى النذر
____________________
(35/322)
ثم ان طردنا فى الطلاق والعتاق كما يتخرج على اصولنا وكما يؤثرعن الصحابة جعل العتق داخلا فى ( نذر اللجاج ( وعن طاووس وغيره انهم كانوا لا يرون الحلف بالطلاق شيئا وتوقف الراوى هل كان طاووس يعدها يمينا فهو متوجه وهو اقوى ان شاء الله ولا حول ولا قوة الا بالله
وإن فرقنا بين الطلاق والعتق وبين الحرام والظهار فمتوجه ايضا لأنه هناك علق نفس الوقوع الذى لا يعلق بمشيئة وهناك علق يمينا كأنه قال ان فعلت هذا فعلى يمين حرام او فعلى يمين ظهار او ان فعلت هذا صرت مظاهرا ومحرما وهو اذا صار مظاهرا محرما لم يقع به شيء وانما يثبت تحريم تزيله الكفارة فصار مثل قوله ان فعلت كذا فعلى حجة او فأنا حاج او انا محرم وهذا فيه نظر فليتحقق
____________________
(35/323)
وقال شيخ الاسلام رحمه الله فصل
فى رجل حلف انه من حين عقل لم يفعل الذنب وكان قد فعل هذا الذنب وله نحو عشرين سنة ونوى بقلبه أنه لم يفعله من حين بلغ فهذا ينظر إلى مراده بقوله من حين عقل فان كان مراده من حين بلغ الحلم فهو بار ولا حنث عليه بلا ريب وان كان مراده انه لم يفعله من حين ميز فابن عشر سنين يميز
فهذا اذا كان يعلم كذب نفسه فيمينه غموس وهى من الكبائر عليه ان يتوب إلى الله منها فان كانت من الأيمان المكفرة ففيها قولان جمهور اهل العلم يقولون هي اعظم من ان تكفر وانما تمحى بالتوبة الصحيحة وهذا مذهب مالك وابى حنيفة واحمد فى اشهر الروايتين عنه و ( القول الثانى ( ان فيها الكفارة وهو مذهب الشافعى واحمد فى الرواية الثانية عنه فاليمين بالله مكفرة باتفاق العلماء
وأما الحلف بالنذر والظهار والحرام والطلاق والعتاق والكفر كقوله ان فعلت كذا وكذا فعلى الحج او مالى صدقة او علي الحرام او الطلاق
____________________
(35/324)
يلزمنى لأفعلن كذا وان كنت فعلت كذا فعبيدى احرار او ان كنت فعلت كذا فإنى يهودى او نصرانى فهذه المسألة للعلماء فيها ( ثلاثة اقوال ( فقيل اذا حنث يلزمه التوبة وقيل لا شيء عليه وقيل بل عليه كفارة يمين وهو اظهر الأقوال كما بسط الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع
فان كان قد حلف بهذه الأيمان يمينا غموسا فمن اوجب الكفارة فى اليمين الغموس وقال ان هذه الأيمان تكفر فانه يوجب فيها كفارة واما من قال اليمين الغموس اعظم من ان تكفر فلهم ( قولان (
( أحدهما ( ان هذه يلزمه فيها ما التزمه من نذر وطلاق وعتاق وكفر وان قيل ان ذلك لا تلزمه اليمين المغفورة وهى الحلف على المستقبل وهذا قول طائفة من اصحاب ابى حنيفة واحمد واحتجوا بقول النبى صلى الله عليه وسلم ( من حلف بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال ( قالوا لأن هذه اليمين غير منعقدة بل الحنث فيها مقارن للعفو فلا كفارة فيها وقد التزم فيها ما التزمه مع علمه بكذبه فيجب الزامه بذلك عقوبة له على كذبه وزجرا لمن يحلف يمينا كاذبة بخلاف اليمين المنعقدة فان صاحبها مطيع لله ليس بعاص
____________________
(35/325)
و ( القول الثانى ( وهو قول الأكثرين ان لا يلزمه ما التزمه من كفر وغيره كما لا يلزمه ذلك فى اليمين على المستقبل وإنما قصد فى كلا الموضعين اليمين فهو لم يقصد اذا كان كاذبا ان يكون كافرا ولا ان يلزمه ما إلتزمه من نذر وطلاق وعتاق وغير ذلك كما لم يقصد اذا حنث فى اليمين على المستقبل ان يلزمه ذلك بل حقيقة كلامه ومقصوده هو اليمين فى الموضعين فما فرق فيه بين الكفر والنذر والطلاق والعتاق فى احد الموضعين وبين الحلف بذلك يفرق به فى الموضع الآخر لكن هو فى الموضعين قد اتي كبيرة من الكبائر بيمينه الغموس فعليه ان يتوب إلى الله منها كما يتوب من غيرها من الكبائر واذا تاب من الذنب كان كمن لا ذنب له ولا يصدر كفر ولا نذر ولا طلاق ولا عتاق بل انما صدر منه الحلف بذلك والله اعلم
____________________
(35/326)
وسئل رحمه الله تعالى
عمن حلف بالمشى إلى مكة هل يلزمه المشى او الحج راكبا ويفتدى او يلزمه كفارة يمين
فأجاب الحمد لله بل يجزيه كفارة يمين عند جماهير علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم باحسان مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر وحفصة بنت عمر وزينب ربيبة رسول الله وغير هؤلاء رضى الله عنهم وهو مذهب الشافعى واحمد وهو الرواية المتأخرة عن ابى حنيفة وبذلك أفتى بن القاسم ابنه لما حنث فى هذه اليمين وعلى هذا القول دل الكتاب والسنة كما بسط فى غير موضع والله أعلم
____________________
(35/327)
بسم الله الرحمن الرحيم وقال شيخ الاسلام رحمه الله
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئآت اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ونشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ونشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
قال الله تعالى { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون }
____________________
(35/328)
فذكر الله إسم ( الأيمان ( فى أربعة مواضع فى قوله { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وقوله { بما عقدتم الأيمان } وقوله { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقوله { واحفظوا أيمانكم } وقوله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم } وهذا الإستفهام إستفهام إنكار يتضمن النهى فإن الله لا يستفهم لطلب الفهم والعلم فإنه بكل شيء عليم ولكن مثل هذا يسميه أهل العربية ( إستفهام إنكار ( وإستفهام الإنكار يكون بتضمن الإنكار مضمون الجملة ( إما إنكار نفى إن كان مضمونها خبرا وإما إنكار نهى إن كان مضمونها إنشاء والكلام إما خبر وإما إنشاء وهذا كقوله { عفا الله عنك لم أذنت لهم } وقوله { لم تقولون ما لا تفعلون } ونحو ذلك
فالله تعالى نهى نبيه عن تحريم الحلال كما نهى المؤمنين وأخبر أنه فرض لهم تحلة أيمانهم كما ذكر كفارة اليمين بعد النهى عن تحريم الحلال فى سورة المائدة وقوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } هو ما ذكره
____________________
(35/329)
فى سورة المائدة وكان سبب نزول التحريم تحريم النبى صلى الله عل 4 يه وسلم الحلال إما أمته مارية القبطية وإما العسل وإما كلاهما وكذلك آية المائدة فإن طائفة من المسلمين كانوا قد حرموا الطيبات إما تبتلا وترهبا كما عزم على ذلك عثمان بن مظعون ومن وافقه من الصحابة حتى نهاهم النبي عن ذلك وإما غير ذلك وبين الله لهم أن الله جعل لمن حرم الحلال من هذه الأمة مخرجا وأن اليمين المتضمنة تحريمه للحلال له منها مخرج بالكفارة التى شرعها الله
ليسوا كالذين من قبلهم الذين كانوا إذا حرموا شيئا حرم عليهم ولم يكن لهم أن يكفروا قال تعالى { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } ولذلك قد قيل إنهم كانوا إذا حلفوا على فعل شيء لزمهم ولم يكن لهم أن يكفروا ولهذا قالت عائشة كان أبو بكر الصديق لا يحنث فى اليمين حتى أنزل الله كفارة اليمين ولهذا أمر الله أيوب بما يحلل يمينه لأنه لم يكن لهم كفارة
فان اليمين على الأشياء تارة تكون حضا وإلزاما وتارة تكون منعا وتحريما كما أن عهد الله ورسوله وحكمه على خلقه ينقسم إلى هذين القسمين ولذا كان ( الظهار ( فى الجاهلية وأول الاسلام طلاقا حتى أنزل الله فيه الكفارة وكذلك كان ( الايلاء ( طلاقا حتى أنزل الله حكمه وذلك لأن الظهار نوع من التحريم فموجبه رفع الملك إذ الزوجة لا تكون محرمة على التأبيد والإيلاء يقتضي عندهم تحريم الوطء وذلك ينافي النكاح
____________________
(35/330)
وقد ذكر الله لفظ ( اليمين ( فى مواضع من كتابه فقال تعالى { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين } إلى قوله { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } وقال تعالى فى سورة براءة فى سياق ذكر معاهدة المشركين { فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة } وقال تعالى { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به } وقال تعالى { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة }
قال أهل اللغة وهذا لفظ الجوهرى اليمين القسم والجمع أيمن وأيمان فقال سمى بذلك لأنهم كانوا إذا تحالفوا يمسك كل امرئ منهم على يمين صاحبه
____________________
(35/331)
فصل
ولفظ ( اليمين ( فى كتاب الله وكذا فى لفظ أصحاب رسول الله الذين خوطبوا بالقرآن أولا يتناول عندهم ما حلف عليه بالله بأى لفظ كان الحلف وبأى إسم من أسمائه كان الحلف وكذلك الحلف بصفاته كعزته وأحكامه كالتحريم والإيجاب فإن التحريم والإيجاب من أحكامه والحلف إذا قال أحلف بالله ليكونن فهو قد إلتزم ذلك الفعل وأوجبه على نفسه أو حرمه على نفسه وعقد اليمين بالله فجعل لزوم الفعل معقودا بالله لئلا يمكن فسخه ونقضه فموجب يمينه فى نفسها لزوم ذلك الفعل له أو إنتقاض إيمانه بالله الذى عقد به اليمين وهذا الثانى لا سبيل له إليه فتعين الأول لكن الشارع فى شريعتنا لم يجعل له ولاية التحريم على نفسه والايجاب على نفسه مطلقا بل شرع له تحلة يمينه وشرع له الكفارة الرافعة لموجب الإثم الحاصل بالحنث فى اليمين إذا كان الحنث والتكفير خيرا من المقام على اليمين
وقد تنازع الفقهاء فى ( اليمين ( هل تقتضى إيجابا وتحريما ترفعه الكفارة أولا تقتضى ذلك أو هي موجبة لذلك لولا ما جعله الشرع مانعا من هذا الإقتضاء على ( ثلاثة أقوال ( أصحها ( الثالث ( كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى
____________________
(35/332)
والمقصود أن نذكر من أقوال الصحابة ما يبين معنى اليمين فى كتاب الله وسنة رسوله وفى لغتهم ففى سنن أبى داود حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم
عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت تسألنى القسمة فكل مالي فى رتاج الكعبة فقال له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله يقول ( لا يمين عليك ولا نذر فى معصية الرب ولا فى قطيعة الرحم ولا فى مالا تملك (
وهذا الرجل تكلم بصيغة التعليق صيغة الشرط والجزاء وعلق وجوب صرف ماله فى رتاج الكعبة على مسألته القسمة وهذه الصيغة يقصد بها ( نذر التبرر ) كقوله إن شفى الله مريضى وسلم مالي الغائب فثلث مالى صدقة ويقصد بها نذر اليمين الذى يسمى نذر اللجاج والغضب كما قصد هذا المعلق والصيغة فى الموضعين صيغة تعليق لكن المعنى والقصد متباين فانه فى احد الموضعين مقصوده حصول الشرط الذى هو نعمة من الله كشفاء المريض وسلامة المال والتزم طاعة الله شكرا لله على نعمته وتقربا إليه وفى النوع الآخر مقصوده أن يمنع نفسه أو غيره من فعل أو يحضه عليه وحلف فالوجوب لإمتناعه من وجوب هذا عليه وكراهة ذلك وبغضه إياه كما يمتنع من الكفر ويبغضه ويكرهه فيقول إن فعلت فهو
____________________
(35/333)
يهودى أو نصرانى وليس مقصوده أنه يكفر بل لفرط بغضه للكفر به حلف أنه لا يفعل قصدا لإنتفاء الملزوم بإنتفاء اللازم فإن الكفر اللازم يقصد نفيه فقصد به الفعل لنفى الفعل أيضا كما إذا حلف بالله فلعظمة الله فى قلبه عقد به اليمين ليكون المحلوف عليه لازما لإيمانه بالله فيلزم من وجود الملزوم وهو الإيمان بالله وجود اللازم وهو لزوم الفعل الذى حلف عليه وكذلك إذا حلف أن لا يفعل أمرا جعل إمتناعه منه لازما لإيمانه بالله وهذا هو عقد اليمين وليس مقصوده رفع إيمانه بل مقصوده أن لا يرتفع إيمانه ولا ما عقده به من الإمتناع فسمى عمر بن الخطاب هذا ( يمينا ( وإستدل على أنه ليس عليه الفعل المعلق بالشرط بقول النبى ( لا يمين عليك ولا نذر فى معصية الرب ولا فى قطيعة الرحم ولا فى مالا يملك (
والنبى صلى الله عليه وسلم ذكر اليمين والنذر كما ذكر الله فى كتابه اليمين والنذر فإن اليمين مقصودها الحض أو المنع من الإنشاء أو التصديق أو التكذيب فى الخبر والنذر ما يقصد به التقرب إلى الله ولهذا أوجب سبحانه الوفاء بالنذر لأن صاحبه إلتزم طاعة لله فأوجب على نفسه ما يحبه الله ويرضاه قصدا للتقرب بذلك الفعل إلى الله وهذا كما أوجب الشارع على من شرع فى الحج والعمرة إتمام ذلك لله لقوله
____________________
(35/334)
{ وأتموا الحج والعمرة لله } وإن كان الشارع متطوعا وتنازع العلماء فى وجوب إتمام غيرهما ولم يوجب سبحانه الوفاء باليمين لأن مقصود صاحبها الحض والمنع ليس مقصوده التقرب إلى الله تعالى
ولكن صيغة النذر تكون غالبا بصيغة التعليق صيغة المجازات كقوله إن شفا الله مريضى كان على عتق رقبة وصيغة اليمين غالبا تكون بصيغة القسم كقوله والله لأفعلن كذا وقد يجتمع القسم والجزاء كقوله { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون }
ولهذا ترجم الفقهاء على إحدى الصيغتين ( باب التعليق بالشروط كتعليق الطلاق والعتاق والنذر وغير ذلك وعلى الأخرى ( باب جامع الأيمان ) كما يشترك فيه اليمين بالله والطلاق والعتاق والظهار والحرام وغير ذلك ومسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الآخر ولهذا كان من الفقهاء من ذكر مسائل جامع الأيمان مع مسائل التعليق ومنهم من ذكرها فى ( باب الأيمان ( والمنفى بإحدى الصيغتين مثبت بالأخرى والمقدم فى إحداهما مؤخر فى الأخرى فإذا قال إن فعلت كذا فمالي حرام أو عبدى حر أو إمرأتى طالق أو مالى صدقة أو فعلى كذا وكذا حجة أو صوم شهر أو نحو ذلك
____________________
(35/335)
فهو بمنزلة أن يقول الطلاق يلزمه لا يفعل كذا أو العتق أو الحرام يلزمه والمشى إلى مكة يلزمه لا يفعل كذا ونحو ذلك ففي صيغة الجزاء أثبت الفعل وقدمه وأخر الحكم ولما أخر الفعل ونفاه وقدم الحكم والمحلوف به مقصوده أن لا يكون ولا يهتك حرمته وكذلك إذا قال إن فعلت كذا فأنا كافر أو يهودى أو نصرانى فهو كقوله والله لأنه كذا
ولهذا كان نظر النبى وأصحابه إلى معنى الصيغة ومقصود المتكلم سواء كانت بصيغة المجازات أو بصيغة القسم فإذا كان مقصوده الحظ أو المنع جعلوه يمينا وإن كان بصيغة المجازات وإن كان مقصوده التقرب إلى الله جعلوه ناذرا وإن كان بصيغة القسم ولهذا جعل النبى صلى الله عليه وسلم الناذر حالفا لأنه ملتزم للفعل بصيغة المجازاة فإن كان المنذور مما أمر الله به أمره به وإلا جعل عليه كفارة يمين وكذلك الحالف إنما أمره أن يكفر يمينه إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها إعتبارا بالمقصود فى الموضعين فإذا كان المراد ما يحبه الله ويرضاه أمر به وهو النذر الذى يوفى به وإن كان بصيغة القسم وإن كان غيره أحب إلى الله وأرضى منه أمر بالأحب الأرضى لله وإن كان بصيغة النذر وأمر بكفاره يمين وهذا كله تحقيقا لطاعة الله ورسوله وأن يكون الدين كله لله وأن كل يمين أو نذر أو عقد أو شرط تضمن ما يخالف أمر الله ورسوله فإنه لا يكون لازما بل يجب تقديم أمر الله ورسوله على كل ذلك
____________________
(35/336)
فكلما يقصده العباد من الأفعال والتروك إن كان مما أمر الله به ورسوله فإن الله يأمر به وبالإعانة عليه وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإن الله ينهى عنه وعن الإعانة عليه وإن كان من المباحات فهو مع النية الحسنة يكون طاعة ومع النية السيئة يكون ذنبا ومع عدم كل منهما لا هذا ولا هذا
فالشرع دائما فى الأيمان والنذور والشروط والعقود يبطل منها ما كان مخالفا لأمر الله ورسوله لكن إذا كان قد علق تلك الأمور بإيمانه بالله شرعت الكفارة ماحية لمقتضى هذا العقد فإنه لولا ذلك لكان موجبه الإثم إذا خالف يمينه ولهذا سمى ( حنثا ( قال تعالى { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } وقد تواترت الآثار عن الصحابة والتابعين وغيرهم بأن معنى هذه الآية أنه لا يحلف أحدكم على أنه لا يبر ولا يتقى الله ولا يصل رحمه فإذا أمر بذلك قال أنا قد حلفت بالله فيجعل الحلف بالله مانعا له من طاعة الله ورسوله فإذا كان قد نهى سبحانه أن يجعل الله أي الحلف بالله مانعا من طاعة الله فغير ذلك أولى أن ينهى عن كونه مانعا من طاعة الله والأيمان الشرعية الموجبة للكفارة كلها تعود إلى الحلف بالله كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى
وإنما المقصود هنا ذكر بعض الآثار قال أبو بكر الأثرم فى سننه سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن رجل قال ماله فى رتاج الكعبة
____________________
(35/337)
قال كفارة يمين وإحتج بحديث عائشة قال وسمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يحلف بالمشى إلى بيت الله أو الصدقة بالملك أو نحو هذه الأيمان فقال إذا حنث فكفارة يمين إلا أنى لا أحمله على الحنث مالم يحنث قيل له لا يفعل قيل لأبى عبد الله فإذا حنث كفر قال نعم قيل له أليس كفارة يمين قال نعم
قال الأثرم حدثنا الفضل بن دكين حدثنا حسن عن بن أبى نجيح عن عطاء عن عائشة قالت من قال مالى فى ميراث الكعبة وكل مالى فهو هدى وكل مالى فهو فى المساكين فليكفر يمينه
وقال الأثرم حدثنا عارم بن الفضل حدثنا معتمر بن سليمان قال قال أبى حدثنا بكر بن عبد الله أخبرنى أبو رافع قال قالت مولاتى ليلى بنت العجماء كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية إن لم تطلق إمرأتك أو تفرق بينك وبين إمرأتك قال فأتيت زينب إبنة أم سلمة وكانت إذا ذكرت إمرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب قال فأتيتها فجاءت معى إليها فقالت فى البيت هاروت وماروت قالت يا زينب جعلنى الله فداك أنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وإمرأته فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها فقالت يا أم المؤمنين جعلنى الله
____________________
(35/338)
فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وبين إمرأته قال فأتيت عبد الله بن عمر فجاء معى إليها فقام على الباب فسلم فقالت بينا أنت وبينا أبوك فقال أمن حجارة أنت أمن حديد أنت أى شيء أنت أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلى فتياهما قالت يا أبا عبد الرحمن جعلنى الله فداك أنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقال يهودية ونصرانية كفرى عن يمينك وخلى بين الرجل وبين إمرأته
وذكر هذا عبد الرزاق فى ( مصنفه ( عن التيمي عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن بكر بن عبد الله المزنى قال أخبرنى أبو رافع قال قالت لى مولاتى ليلى إبنة العجماء كل مملوك لها حر وكل مالها هدى وهى يهودية ونصرانية إن لم تطلق إمرأتك قال فأتتنا زينب بنت أم سلمة وكان إذا ذكرت إمرأة فقيهة ذكرت زينب فذكرت ذلك لها فقالت خلي بين الرجل وبين إمرأته وكفرى عن يمينك قال فأتتنا حفصة زوج النبى فقلت يا أم المؤمنين جعلنى الله فداك وذكرت لها يمينها فقالت كفرى عن يمينك قال وأتينا عبد الله بن عمر فقلنا يا أبا عبد الرحمن وذكرت له يمينها فقال كفرى يمينك وخلى بين الرجل وإمرأته
____________________
(35/339)
قال إبن عبد البر قوله وكل مملوك لها حر هو من رواية سليمان التيمي وأشعث الحمرانى عن بكر المزنى مع هذا الحديث وفى رواية أشعث فى هذا الحديث إبن عباس وأبو هريرة وإبن عمر وحفصة وعائشة وأم سلمة وإنما هو زينب بنت أم سلمة
وقال الأثرم حدثنا عبد الله بن رجاء أخبرنا عمران عن قتادة عن زرارة بن أبى أوفى أن إمرأة سألت إبن عباس أن إمرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته فقال بن عباس أفى غضب أم فى رضا قالوا فى غضب قال إن الله تبارك وتعالى لا يتقرب إليه بالغضب لتكفر عن يمينها
قلت إبن عباس إستفسر النذر هل مقصودها التقرب بالمنذور كما قد يقول القائل إن سلم مالى تصدقت به أو مقصودها الحلف أنها لا تلبسه فيكون عليها كفارة يمين فقال أفى غضب أم رضا فلما قالوا فى غضب علم أنها حالفة لا ناذرة ولهذا سمى الفقهاء هذا ( نذر اللجاج والغضب ( فهو يمين وإن كان صيغته صيغة الجزاء
وقال الأثرم حدثنى إبن الطباع حدثنا أبو بكر بن عياش عن العلاء إبن المسيب عن يعلى بن النعمان عن عكرمة عن إبن عباس سئل عن رجل جعل ماله فى المساكين قال أمسك عليك مالك وأنفقه على
____________________
(35/340)
عيالك واقض به دينك وكفر عن يمينك وقال حرب الكرمانى فى مسائله حدثنا المسيب بن واضح حدثنا يوسف بن أبى السفر عن الأوزاعى عن عطاء بن أبى رباح قال سألت إبن عباس عن الرجل يحلف بالمشى إلى بيت الله الحرام قال إنما المشى على من نواه فأما من حلف فى الغضب فعليه كفارة يمين وقال الأثرم حدثنا أبو بكر بن أبى الأسود حدثنا معتمر عن أبيه عن إبن عمر والحسن قال إذا كان نذر الشكر فعليه وفاء نذره والنذر فى المعصية والغضب يمين
وقال الأثرم حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا بن جريج قال سئل عطاء عن رجل قال علي ألف بدنة فقال يمين وعن رجل قال على ألف حجة قال يمين وعن رجل قال مالى هدى قال يمين وعن رجل قال مالى فى المساكين قال يمين وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن وجابر إبن زيد فى الرجل يقول إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة قال ليس الإحرام إلا على من نوى الحج يمين يكفرها وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن إبن طاووس عن أبيه قال يمين يكفرها وقال الأثرم حدثنا أبو عبد الله حدثنا وكيع عن سفيان عن ليث عن المنهال عن أبى وائل فى رجل قال هو محرم بحجة قال يمين وقال حدثنا أبو عبد الله حدثنا محمد بن يزيد الواسطى عن أيوب يعنى أبا العلاء عن
____________________
(35/341)
قتادة ومنصور عن الحسن فى رجل قال إن دخل منزل فلان فعليه مشى إلى بيت الله قال عليه كفارة يمين قال فإن نذر أن يمشى فعليه المشى وإن لم يطق المشى ركب فأهدى وقال أبوعبدالله حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا عاصم بن محمد عن أخيه عمر بن محمد قال جاء إنسان فإستفتى القاسم بن محمد بن أبى بكر فقال يا أبا محمد كيف ترى فى رجل جعل عليه مشيا إلى بيت الله فقال القاسم أجعله نذرا قال لا أو جعله لله قال لا قال فليكفر عن يمينه
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
ذكر بن عساكر ما ذكره حنبل قال سمعت أبا عبد الله يقول يقال مروان بن الحكم كان عنده قضاء وكان يتبع قضاء عمر وذكر ما ذكره أبو زرعة الدمشقى قال الإختلاف بين الناس فى هذين الرجلين محمد بن الوليد الزبيدى وسعيد بن أبى حمزة وقد أخبرنى الحكم بن نافع أنه رآهما جميعا الزبيدى وسعيد بن أبى حمزة ورأيته للزبيدى أكثر تعظيما وهما صاحبا الزهري بالرصافة من قبل هشام بن عبد الملك محمد بن الوليد الزبيدى على بيت المال وسعيد بن أبى حمزة على نفقات هشام وعن بقية قال قال لنا الأوزاعى ما فعل محمد بن الوليد الزبيدى قال قلت ولى بيت المال قال إنا لله وإنا إليه راجعون
____________________
(35/342)
وذكر ما ذكره الذهلى من حديث الزهري حدثنا سعيد بن كثير بن عفير أخبرنا عبد الله بن وهب عن يونس عن إبن شهاب قال أخبرنى قبيصة بن ذؤيب
إن إمرأة نذرت أن تنحر إبنها عند الكعبة فى أمر إن فعلته ففعلت ذلك الأمر فقدمت المدينة تستفتى عن نذرها فجاءت عبد الله إبن عمر فقال لها عبد الله لا أعلم الله أمر فى النذر إلا بالوفاء قالت المرأة فأنحر إبنى فقال عبد الله بن عمر قد نهاكم الله أن تقتلوا أنفسكم ثم لم يزدها إبن عمر على ذلك
فجاءت عبد الله بن عباس فاستفتته عن ذلك فقال أمر الله بوفاء النذر ونهاكم أن تقتلوا أنفسكم وقد كان عبد المطلب بن هاشم نذر أن توافى له عشرة رهط أن ينحر أحدهم فلما توافى له عشرة وأقرع بينهم أيهم ينحر فصارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب وكان أحب الناس إلى عبد المطلب فقال عبد المطلب اللهم أهو أو مائة من الأبل ثم أقرع بينه وبين مائة من الأبل فى الجاهلية وصارت القرعة على نحر مائة من الأبل فقال إبن عباس للمرأة فإنى أرى أن تنحرى مائة من الأبل مكان إبنك فبلغ الحديث مروان بن الحكم وهو أمير المدينة فقال ما أرى إبن عمر وإبن عباس أصابا الفتيا ( إنه لا نذر فى معصية الله ( إستغفرى الله وتوبى إليه وإعملى ما إستطعت من الخير فأما أن تنحرى إبنك فإن الله قد نهاك عن ذلك قال فسر الناس بذلك وأعجبهم قول مروان ورأوا أن قد أصاب الفتوى فلم يزل الناس يفتون بأن لا نذر فى معصية الله
____________________
(35/343)
قلت بن عمر كان من حاله أنه يتوقف عن النذر للمعصية لا يأمر فيه لا بوفاء ولا ترك كما سئل عن من نذر صوم يوم العيد فقال أمر الله بالوفاء بالنذر ونهى رسول الله عن صوم هذا اليوم وذلك أنه تعارض عنده دليلان الامر والنهى ولم يتبين له ان الامر بوفاء النذر مقيد بطاعة الله ولهذا نقل مالك فى ( موطئه ( الحديث الذى أخرجه البخارى بعده عن عائشة
أن رسول الله قال ( من نذر ان يطيع الله فليطعه ومن ندر ان يعصي الله فلا يعصه ( مع أن القرآن ليس فيه أمر بالوفاء بالنذر بلفظ النذر مطلقا اذ قوله { يوفون بالنذر } خبر وثناء وقوله { وليوفوا نذورهم } خاص لكن الله أمر بالوفاء بالعهود والعقود والنذر من ذلك فهذا والله أعلم معنى قولهما امر الله بالوفاء بالنذر وهذه حال من يجعل العهود والعقود مقتضية للوفاء مطلقا من غير اعتبار فى المعقود عليه وهذا كثيرا ما يعرض لبعض اهل الورع كما عرض لابن عمر حتى انهم يمتنعون عن نقض كثير من العهود والعقود المخالفة للشريعة وهم يتورعون ايضا عن مخالفة الشريعة فيبقون فى الحيرة
واما بن عباس فعنه فى هذه المسألة روايتان ( إحداهما ( هذا ( والاخرى ( عليه ذبح كبش وهذا احدى الروايتين عن أحمد وقول ابى حنيفة وغيره وهذا هو الذي يناسب الشريعة دون الاحتجاج بقصة عبد المطلب فان عمل أهل الجاهلية لا يحتج به أصلا الا اذا أقره الاسلام
____________________
(35/344)
لكن بن عباس احتج به لكون الدية اقرها الاسلام وهي بدل النفس فرأى هذا البدل يقوم مقام المبدل فى الافتداء ثم جعل الافتداء بالكبش اتباعا لقصة ابراهيم وهو الانسب والرواية الاخرى عن أحمد عليه كفارة يمين كسائر نذور المعصية
والذى افتى به مروان انه لا شيء عليه هو قول الشافعى وأحمد فى رواية وكل من يقول نذر المعصية لا شيء فيه وهذا النذر ظاهره نذر يمين لكن المعروف عن بن عمر وبن عباس ان ذلك يمين يكفرها فتبين انه كان نذر تبرر كنذر عبد المطلب ولكن مالك وغيره من أهل المدينة لا يفرقون بين البابين فرووا القصة بالمعنى الذى عندهم
وقال رحمه الله تعالى فصل
قد كتبت فى ( قاعدة العهود والعقود ( القاعدة فى العهود الدينية فى القواعد المطلقة والقاعدة فى العقود الدنيوية فى القواعد الفقهية وفى ( كتاب النذر ( أيضا أن ما وجب بالشرع إذا نذره العبد أو عاهد الله عليه أو بايع عليه الرسول أو الإمام أو تحالف عليه جماعة فإن هذه العهود
____________________
(35/345)
والمواثيق تقتضى له وجوبا ثانيا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول فتكون واجبة من وجهين بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهود والميثاق وما يستحقه عاصى الله ورسوله هذا هو التحقيق ومن قال من أصحابنا إنه إذا نذر واجبا فهو بعد النذر كما كان قبل النذر بخلاف نذر المستحب فليس كما قال بل النذر إذا كان يوجب فعل المستحب فإيجابه لفعل الواجب أولى وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل هما وجوبان من نوعين لكل نوع حكم غير حكم الآخر مثل الجدة إذا كانت أم أم أم وأم أم أب فإن فيها سببين كل منهما تستحق به السدس
وكذلك من قال من أصحابنا إن الشروط التى هي من مقتضى العقد لا يصح إشتراطها أو قال تفسد حتى قال بعض أصحاب الشافعى إذا قال زوجتك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان كان النكاح فاسدا لأنه شرط فيه الطلاق فهذا كلام فاسد جدا فإن العقود إنما وجبت موجباتها لإيجاب المتعاقدين لها على أنفسهما ومطلق العقد له معنى مفهوم فإذا أطلق كانا قد أوجبا ما هو المفهوم منه فإن موجب العقد هو واجب بالعقد كموجب النذر لم يوجبه الشارع إبتداء وإنما أوجب الوفاء بالعقود كما أوجب الوفاء بالنذر فإذا كان له موجب معلوم بلفظ مطلق أو بعرف وصرح المتعاقد أن بإيجابه بلفظ خاص كان هذا من باب عطف الخاص على العام فيكون العاقد
____________________
(35/346)
قد أوجبه مرتين أو جعل له إيجابا خاصايستغنى به عن الإيجاب العام وفى القرآن من هذا نظائر مثل قوله { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وقوله وإذ أخذنا { من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } وقوله { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } وقوله { قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين } وقوله { يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى }
وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل أمر أجيره أن يرهن شيئا عند شخص فرهنه عند غيره فعدم الرهن فحلف صاحب الرهن إن لم يأته به لم يستعمله معتقدا أنه لم يعدم ثم تبين له عدمه فهل يحنث إذا إستعمله
فأجاب الحمد لله إذا كان حين حلف معتقدا أن الرهن باق بعينه لم يعدم فحلف ليحضر لم يحنث والحالة هذه والله أعلم وسئل رحمه الله
عن رجل حلف على ولده لا يدخل الدار حتى يعطيه الكساء الذى أخذه ثم تبين له أنه لم يأخذ شيئا فهل يحنث إذا دخل أم لا
____________________
(35/347)
فأجاب إذا دخل منزله فلا حنث عليه إذا كانت الحالة ما ذكر لكون المحلوف عليه ممتنعا لذاته
كما لو حلف ليشربن الماء الذى فى هذا الإناء وليس فيه ماء فى أصح القولين ولأنه إنما حلف لإعتقاده أن إبنه أخذه وتبين بخلاف ذلك ومثل هذا فيه أيضا نزاع والصحيح أنه لا حنث فيه فصار غير حانث فى هذين الوجهين والمسألة المشهورة إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فإن هذا جهل بالمحلوف عليه بنفسه وذلك جهل بصفة المحلوف عليه والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل حلفت عليه والدته أن لا يصالح زوجته وإن صالحها ما ترجع تكلمه فما يجب فى أمره وصالح زوجته وامر والدته فى الشرع المطهر
فأجاب إذا صالح زوجته كما أمر الله ورسوله فينبغى لها أن تكلمه وتكفر عن يمينها وكفارة اليمين إما عتق رقبة وإما إطعام عشرة مساكين لكل مسكين رطلان من الخبز وينبغى أن يأدمه مما يؤكل بالموز والجبن واللحم وغيره وإما كسوة عشرة مساكين ثوبا ثوبا ويجوز أن يكفر عنها بإذنها الحالف أو زوجته
____________________
(35/348)
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى
كفارة اليمين هي المذكورة فى سورة المائدة قال تعالى ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) فمتى كان واجدا فعليه أن يكفر بإحدى الثلاث فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام وإذا إختار أن يطعم عشرة مساكين فله ذلك
ومقدار ما يطعم مبنى على أصل وهو أن إطعامهم هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف فيه قولان للعلماء منهم من قال هو ( مقدر بالشرع ( وهؤلاء على أقوال منهم من قال يطعم كل مسكين صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من بر كقول أبى حنيفة وطائفة ومنهم من قال يطعم كل واحد نصف صاع من تمر وشعير أو ربع صاع من بر وهو مد كقول أحمد وطائفة ومنهم من قال بل يجزئ فى الجميع مد من الجميع كقول الشافعى وطائفة
( والقول الثانى ) أن ذلك مقدر بالعرف لا بالشرع فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرا ونوعا وهذا معنى قول مالك قال إسماعيل
____________________
(35/349)
بن إسحاق كان مالك يرى فى كفارة اليمين أن المد يجزئ بالمدينة قال مالك وأما البلدان فإن لهم عيشا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم لقول الله تعالى { من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } وهو مذهب داود وأصحابه مطلقا
والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين هذا القول ولهذا كانوا يقولون الأوسط خبز ولبن خبز وسمن خبز وتمر والأعلى خبز ولحم وقد بسطنا الآثار عنهم في غير هذا الموضع وبينا أن هذا القول هو الصواب الذى يدل عليه الكتاب والسنة والإعتبار وهو قياس مذهب أحمد وأصوله فإن أصله أن مالم يقدره الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف وهذا لم يقدره الشارع فيرجع فيه إلى العرف لا سيما مع قوله تعالى { من أوسط ما تطعمون أهليكم } فإن أحمد لا يقدر طعام المرأة والولد ولا المملوك ولا يقدر أجرة الأجير المستأجر بطعامه وكسوته فى ظاهر مذهبه ولا يقدر الضيافة الواجبة عنده قولا واحدا ولا يقدر الضيافة المشروطة على أهل الذمة للمسلمين فى ظاهر مذهبه هذا مع أن هذه واجبة بالشرط فكيف يقدر طعاما واجبا بالشرع بل ولا يقدر الجزية فى أظهر الروايتين عنه ولا الخراج ولا يقدر أيضا الأطعمة الواجبة مطلقا سواء وجبت بشرع أو شرط ولا غير الأطعمة مما وجبت مطلقا فطعام الكفارة أولى أن لا يقدر
____________________
(35/350)
و ( الأقسام ثلاثة ( فماله حد فى الشرع أو اللغة رجع فى ذلك إليهما وما ليس له حد فيهما رجع فيه إلى العرف ولهذا لا يقدر للعقود ألفاظا بل أصله فى هذه الأمور من جنس أصل مالك كما أن قياس مذهبه أن مذهبه أن يكون الواجب فى صدقة الفطر نصف صاع من بر وقد دل على ذلك كلامه أيضا كما قد بين فى موضع آخر وإن كان المشهور عنه تقدير ذلك بالصاع كالتمر والشعير
وقد تنازع العلماء فى ( الأدم ( هل هو واجب أو مستحب على قولين والصحيح أنه إن كان يطعم أهله بأدم أطعم المساكين بأدم وإن كان إنما يطعم بلا أدم لم يكن له أن يفضل المساكين على أهله بل يطعم المساكين من أوسط ما يطعم أهله
وعلى هذا فمن البلاد من يكون أوسط طعام أهله مدا من حنطة كما يقال عن أهل المدينة وإذا صنع خبزا جاء نحو رطلين بالعراقى وهو بالدمشقى خمسة أواق وخمسة أسباع أوقية فإن جعل بعضه أدما كما جاء عن السلف كان الخبز نحوا من أربعة أواق وهذا لا يكفى أكثر أهل الأمصار فلهذا قال جمهور العلماء يطعم فى غير المدينة أكثر من هذا إما مدان أو مد ونصف على قدر طعامهم فيطعم من الخبز إما نصف رطل بالدمشقى وأما ثلثا رطل وإما رطل وإما أكثر إما مع الأدم على قدر عادتهم فى الأكل فى وقت فإن عادة الناس تختلف بالرخص
____________________
(35/351)
والغلاء واليسار والإعسار وتختلف بالشتاء والصيف وغير ذلك وإذا حسب ما يوجبه أبو حنيفة خبزا كان رطلا وثلثا بالدمشقى فإنه يوجب نصف صاع عنده ثمانية أرطال وأما ما يوجبه من التمر والشعير فيوجب صاعا ثمانية أرطال وذلك بقدر ما يوجبه الشافعى ست مرات وهو بقدر ما يوجبه أحمد بن حنبل ثلاث مرات
والمختار أن يرجع فى ذلك إلى عرف الناس وعادتهم فقد يجزئ فى بلد ما أوجبه أبو حنيفة وفى بلد ما أوجبه أحمد وفى بلد آخر ما بين هذا وهذا على حسب عادته عملا بقوله تعالى { من أوسط ما تطعمون أهليكم }
وإذا جمع عشرة مساكين وعشاهم خبزا وأدما من أوسط ما يطعم أهله أجزأه ذلك عند أكثر السلف وهو مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد فى إحدى الروايتين وغيرهم وهو أظهر القولين فى الدليل فإن الله تعالى أمر بإطعام لم يوجب التمليك وهذا إطعام حقيقة
ومن اوجب ( التمليك ( إحتج بحجتين ( إحداهما ( أن الطعام الواجب مقدر بالشرع ولا يعلم إذا أكلوا أن كل واحد يأكل قدر حقه و ( الثانية ( أنه بالتمليك يتمكن من التصرف الذى لا يمكنه مع الإطعام وجواب الأولى أنا لا نسلم أنه مقدر بالشرع وإن قدر أنه مقدر به فالكلام
____________________
(35/352)
إنما هو إذا أشبع كل واحد منهم غداء وعشاء وحينئذ فيكون قد أخذ كل واحد قدر حقه وأكثر وأما التصرف بما شاء فالله تعالى لم يوجب ذلك إنما أوجب فيها التمليك لأنه ذكرها باللام بقوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } ولهذا حيث ذكر الله التصرف بحرف الظرف كقوله { وفي الرقاب } { وفي سبيل الله } فالصحيح أنه لا يجب التمليك بل يجوز أن يعتق من الزكاة وإن لم يكن ذلك تمليكا للمعتق
ويجوز أن يشترى منها سلاحا يعين به فى سبيل الله وغير ذلك ولهذا قال من قال من العلماء الإطعام أولى من التمليك لأن المملك قد يبيع ما أعطيته ولا يأكله بل قد يكنزه فإذا أطعم الطعام حصل مقصود الشارع قطعا
وغاية ما يقال أن التمليك قد يسمى إطعاما كما يقال ( أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدة السدس ( وفى الحديث ( ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلى الأمر بعده ( لكن يقال لا ريب أن اللفظ يتناول الإطعام المعروف بطريق الأولى ولأن ذلك إنما يقال إذا ذكر المطعم فيقال أطعمه كذا فأما إذا أطلق وقيل أطعم هؤلاء المساكين فإنه لا يفهم منه الأنفس الإطعام لكن لما كانوا يأكلون ما يأخذونه سمى التمليك للطعام إطعاما لأن المقصود هو الإطعام إما إذا كان المقصود مصرفا غير الأكل فهذا لا يسمى إطعاما عند الإطلاق
____________________
(35/353)
وقال قدس الله روحه
وأما ( النذر ( فهو نوعان طاعة ومعصية فمن نذر صلاة أو صوما أو صدقة فعليه أن يوفى به وإن نذر ما ليس بطاعة مثل النذر لبعض المقابر والمشاهد وغيرها زيتا أو شمعا أو نفقة أو غير ذلك فهذا نذر معصية وهو شبيه من بعض الوجوه بالنذر للأوثان كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فهذا لا يجوز الوفاء به بالإتفاق لكن من العلماء من يوجب كفارة يمين كالإمام أحمد وغيره ومنهم من لايوجب شيئا وهو قول أبى حنيفة والشافعى
وإذا صرف الرجل ذلك المنذور فى قربة مشروعة مثل أن يصرف الدهن فى تنوير المساجد التى هي بيوت الله ويصرف النفقة إلى صالحى الفقراء كان هذا عملا صالحا يتقبله الله منه
مع أن أصل عقد النذر مكروه فإن النبى قد ثبت عنه ( أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتى بخير وإنما يستخرج به من البخيل ( والله أعلم
____________________
(35/354)
& باب القضاء & قال أبو العباس قدس الله روحه فائدة نافعة جامعة
المقصود من القضاء وصول الحقوق إلى أهلها وقطع المخاصمة فوصول الحقوق هو المصلحة وقطع المخاصمة إزالة المفسدة فالمقصود هوجلب تلك المصلحة وازالة هذه المفسدة ووصول الحقوق هومن العدل الذى تقوم به السماء والأرض وقطع الخصومة هومن ( باب دفع الظلم والضرر ( وكلاهما ينقسم إلى إبقاء موجود ودفع مفقود ففى وصول الحقوق الى مستحقها يحفظ موجودها ويحصل مقصودها وفى الخصومة يقطع موجودها ويدفع مفقودها فاذا حصل الصلح زالت الخصومة التى هي أحد المقصودين
وأما ( الحقوق ( فاما أن تكون وصلت معه أو رضي صاحب الحق بتركه وهو جائز وإذا انفصلت الحقوق بحكم وشهادة ونحو ذلك فقد يكون فى فصلها جرح الحكام والشهود ونحو ذلك وهو من المفاسد التى لا يصار اليها الا لضرورة كالمخاصمة فانه قد يكون فى الفصل الأمر صعبا بين المتخاصمين وغيرهما
____________________
(35/355)
( فالاقسام اربعة ( اما فصل بصلح فهذا هو الغاية لانه حصل المقاصد الثلاث على التمام واما فصل بحكم مر فقد حصل معه وصول الحق وقطع الخصومة ولم يحصل معه صلاح ذات البين واما صلح على ترك بعض ما يدعى انه حق فهذا أيضا قد حصل مقصود الصلح وقطع النزاع ولم يحصل مقصود وصول الحقوق لكن ما يقوم مقامه من الترك ومن هنا يتبين ان الحكم بالصلح احسن من الحكم بالفصل المر لانهما اشتركا فى دفع الخصومة وامتاز ذلك بصلاح ذات البين مع ترك احدهما لحقه وامتاز الاخر بأخذ المستحق حقه مع ضغائن فتلك المصلحة أكمل لاسيما ان كان الحق انما هو فى الظاهر وقد يكون الباطن بخلافه واما لا فضل ولا صلح فهذا لا يصلح يحصل به مفسدة ترك القضاء
وان كان الحق فى يد صاحبه كالوقف وغيره يخاف ان لم يحفظ بالبينات ان ينسيه شرط ويجحد ولا يأتيه ونحو ذلك فهنا فى سماع الدعوى والشهادة من غير خصم حفظ الحق المجحود عن خصم مقدر وهذا احد مقصودى القضاء فلذلك يسمع ذلك ومن قال من الفقهاء لا يسمع ذلك كما يقوله طوائف من الحنفية والشافعية والحنبلية فعنده ليس للقضاء فائدة الا فصل الخصومة ولا خصومة ولا قضاء فلذلك لا تسمع البينة الا فى وجه مدعى عليه لتظهر الخصومة ومن قال بالخصم المسخر فإنه ينصب للشر ثم يقطعه ومن قال تسمع فانه يحفظ الحق الموجود ويذر الشر المفقود والله اعلم
____________________
(35/356)
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل
فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه ومالم يجعل لواحد من المخلوقين الحكم فيه بل الحكم فيه على جميع الخلق لله تعالى ولرسوله ليس لأحد من الحكام أن يحكم فيه على غيره ولو كان ذلك الشخص من آحاد العامة وهذا مثل الأمور العامة الكلية التى أمر الله جميع الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها وقد بينها فى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما أجمعت عليه الأمة أو تنازعت الأمة فيه إذا وقع فيه نزاع بين الحكام وبين آحاد المسلمين من العلماء أو الجند أو العامة أو غيرهم لم يكن للحاكم أن يحكم فيها على من ينازعه ويلزمه بقوله ويمنعه من القول الآخر فضلا عن أن يؤذيه أو يعاقبه
مثل أن يتنازع حاكم أو غير حاكم فى قوله ( أو لامستم النساء ) هل المراد به الجماع كما فسره بن عباس وغيره وقالوا إن مس المرأة لا ينقض الوضوء لا لشهوة ولا لغير شهوة أو المراد به اللمس بجميع البشرة إما لشهوة وإما مطلقا كما نقل الأول عن بن عمر والثالث قاله بعض العلماء وللعلماء فى هذا ( ثلاثة أقوال
____________________
(35/357)
والأظهر هو القول الأول وإن الوضوء لا ينتقض بمس النساء مطلقا وما زال المسلمون يمسون نساءهم ولم ينقل أحد قط عن النبى أنه كان يأمر المسلمين بالوضوء من ذلك ولا نقل عن الصحابة على حياته أنه توضأ من ذلك ولا نقل عنه قط أنه توضأ من ذلك بل قد نقل عنه فى السنن ( أنه كان يقبل بعض نسائه ولا يتوضأ ( وقد إختلف فى صحة هذا الحديث لكن لا خلاف أنه لم ينقل عنه أنه توضأ من المس
وكذلك تنازع المسلمون فى الوضوء من خروج الدم بالفصاد والحجامة والجرح والرعاف وفى ( القيء ( وفيه قولان مشهوران وقد نقل عن النبى أنه توضأ من ذلك وعن كثير من الصحابة لكن لم يثبت قط أن النبى أوجب الوضوء من ذلك بل كان أصحابه يخرجون فى المغازى فيصلون ولا يتوضؤون ولهذا قال طائفة من العلماء إن الوضوء من ذلك مستحب غير واجب وكذلك قال فى الوضوء ( من مس الذكر ( و ( مس المرأة لشهوة ) إنه يستحب الوضوء من ذلك ولا يجب وكذلك قالوا فى ( الوضوء من القهقهة ( و ( مما مست النار ( إن الوضوء من ذلك يستحب ولا يجب فمن توضأ فقد أحسن ومن لم يتوضأ فلا شيء عليه وهذا أظهر الأقوال
وليس المقصود ذكر هذه المسائل بل المقصود ضرب المثل بها
____________________
(35/358)
وكذلك تنازعوا فى كثير من مسائل الفرائض كالجد والمشركة وغيرهما وفى كثير من مسائل الطلاق والإيلاء وغير ذلك وفى كثير من مسائل العبادات فى الصلاة والصيام والحج وفى مسائل زيارات القبور منهم من كرهها مطلقا ومنهم من أباحها ومنهم من إستحبها إذا كانت على الوجه المشروع وهو قول أكثرهم
وتنازعوا فى ( السلام على النبى ( هل يسلم عليه فى المسجد وهو مستقبل القبلة أو مستقبل الحجرة وهل يقف بعد السلام يدعو له أم لا
وتنازعوا أى المسجدين أفضل المسجد الحرام أو مسجد النبى وإتفقوا على أنهما أفضل من المسجد الأقصى وإتفقوا على أنه لا يستحب السفر إلى بقعة للعبادة فيها غير المساجد الثلاثة وإتفقوا على أنه لو نذر الحج أو العمرة لزمه الوفاء بنذره وإتفق الأئمة الأربعة والجمهور على أنه لو نذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة لم يلزمه الوفاء بنذره وتنازعوا فيما إذا نذر السفر إلى المسجدين إلى أمور أخرى يطول ذكرها وتنازعوا فى بعض تفسير الآيات وفى بعض الأحاديث هل ثبتت عن النبى أو لم تثبت
____________________
(35/359)
فهذه الامور الكلية ليس لحاكم من الحكام كائنا من كان ولو كان من الصحابة ان يحكم فيها بقوله على من نازعه فى قوله فيقول الزمته ان لايفعل ولا يفتى الابالقول الذي يوافق لمذهبى بل الحكم فى هذه المسائل لله ورسوله والحاكم واحد من المسلمين فان كان عنده علم تكلم بما عنده واذا كان عند منازعه علم تكلم به فان ظهر الحق فى ذلك وعرف حكم الله ورسوله وجب على الجميع اتباع حكم الله ورسوله وان خفى ذلك اقر كل واحد على قوله اقر قائل هذا القول على مذهبه وقائل هذا القول على مذهبه ولم يكن لاحدهما ان يمنع الاخر الابلسان العلم والحجة والبيان فيقول ماعنده من العلم
وأما ( باليد والقهر ( فليس له أن يحكم إلا فى المعينة التى يتحاكم فيها إليه مثل ميت مات وقد تنازع ورثته فى قسم تركته فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه
واذا حكم هنا بأحد قولى العلماء الزم الخصم بحكمه ولم يكن له أن يقول أنا لا أرضى حتى يحكم بالقول الآخر وكذلك اذا تحاكم إليه اثنان فى دعوى يدعيها أحدهما فصل بينهما كما أمر الله ورسوله وألزم المحكوم عليه بما حكم به وليس له أن يقول انت حكمت علي بالقول الذى لاأختاره فان الحاكم عليه ان يجتهد كما قال النبى ( اذا اجتهد الحاكم فاصاب فله اجران واذا اجتهد فأخطأ فله اجر ( وقد يخص الله بعض الأنبياء والعلماء
____________________
(35/360)
والحكام بعلم دون غيره كما قال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما }
وعلى الحكام ان لا يحكموا الا بالعدل ( والعدل ( هو ما أنزل الله كما قال تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } ثم قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأوجب الله طاعة أولى الأمر مع طاعة الرسول وأوجب على الأمة إذا تنازعوا ان يردوا ما تنازعوا إلى الله ورسوله إلى كتاب الله وسنه رسوله
فان الله سبحانه وتعالى هو الحكم الذى يحكم بين عباده والحكم له وحده وقد أنزل اللة الكتب وارسل الرسل ليحكم بينهم فمن اطاع الرسول كان من أوليائه المتقين وكانت له سعادة الدنيا والآخرة ومن عصى الرسول كان من اهل الشقاء والعذاب قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
____________________
(35/361)
وفى صحيح مسلم عن عائشة ( أن النبى كان إذا قام يصلى من الليل يقول اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدنى لما إختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم (
وقال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } فبين سبحانه وتعالى أنه هداهم وبين لهم الحق لكن بعضهم يبغى على بعض مع معرفته بالحق فيتبع هواه ويخالف أمر الله وهو الذى يعرف الحق ويزيغ عنه كما قال تعالى { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } فقد بين سبحانه وتعالى أنه بعث الرسل وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما إختلفوا فيه وقال تعالى { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } وقال يوسف { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون }
____________________
(35/362)
فالحكم لله وحده ورسله يبلغون عنه فحكمهم حكمه وأمرهم أمره وطاعتهم طاعته فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين وجب على جميع الخلائق إتباعه وطاعته فإن ذلك هو حكم الله على خلقه
والرسول يبلغ عن الله قال تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } فعلى جميع الخلق أن يحكموا رسول الله خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأكرم الخلق على الله ليس لأحد أن يخرج عن حكمه فى شيء سواء كان من العلماء أو الملوك أو الشيوخ أو غيرهم
ولو أدركه موسى أو عيسى وغيرهما من الرسل كان عليهم إتباعه كما قال تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } وروى عن غير واحد من السلف على وبن عباس وغيرهما قالوا لم
____________________
(35/363)
يبعث الله نبيا من عهد نوح إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه
وهو سبحانه أخذ الميثاق على النبى المتقدم أن يصدق من يأتى بعده وعلى النبى المتأخر أن يصدق من كان قبله ولهذا لم تختلف الأنبياء بل دينهم واحد كما قال النبى فى الحديث الصحيح ( إنا معشر الأنبياء ديننا واحد ( وقال تعالى { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } أى ملتكم ملة واحدة كقولهم { إنا وجدنا آباءنا على أمة } أى ملة وقال تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }
فدين الأنبياء واحد وهو دين الإسلام كلهم مسلمون مؤمنون كما قد بين الله فى غير موضع من القرآن لكن بعض الشرائع تتنوع فقد يشرع فى وقت أمرا لحكمه ثم يشرع فى وقت آخر أمرا آخر لحكمه كما شرع فى أول الإسلام
____________________
(35/364)
الصلاة إلى بيت المقدس ثم نسخ ذلك وأمر بالصلاة إلى الكعبة فتنوعت الشريعة والدين واحد وكان إستقبال الشام ذلك الوقت من دين الإسلام وكذلك السبت لموسى من دين الإسلام ثم لما نسخ صار دين الإسلام هو الناسخ وهو الصلاة إلى الكعبة فمن تمسك بالمنسوخ دون الناسخ فليس هو على دين الإسلام ولا هو متبع لأحد من الأنبياء ومن بدل شرع الأنبياء وإبتدع شرعا فشرعه باطل لايجوز إتباعه كما قال { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } ولهذا كفر اليهود والنصارى لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ والله أوجب على جميع الخلق أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله
ومحمد خاتم الرسل فعلى جميع الخلق إتباعه وإتباع ما شرعه من الدين وهو ما أتى به من الكتاب والسنة فما جاء به الكتاب والسنة وهو الشرع الذى يجب على جميع الخلق إتباعه وليس لأحد الخروج عنه وهو الشرع الذى يقاتل عليه المجاهدون وهو الكتاب والسنة
وسيوف المسلمين تنصر هذا الشرع وهو الكتاب والسنة كما قال جابر إبن عبد الله ( أمرنا رسول الله أن نضرب بهذا يعنى السيف من خرج عن هذا يعنى المصحف قال تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز }
____________________
(35/365)
فبين سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد فالكتاب والعدل متلازمان والكتاب هو المبين للشرع فالشرع هو العدل والعدل هو الشرع ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع
ولكن كثيرا من الناس ينسبون ما يقولونه إلى الشرع وليس من الشرع بل يقولون ذلك إما جهلا وإما غلطا وإما عمدا وإفتراء وهذا هو الشرع المبدل الذى يستحق أصحابه العقوبة ليس هو الشرع المنزل الذى جاء به جبريل من عند الله إلى خاتم المرسلين فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل قال تعالى { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } وقال تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فالذى أنزل الله هو القسط والقسط هو الذى أنزل الله وقال تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقال تعالى { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } فالذى أراه الله فى كتابه هو العدل
وقد يقول كثير من علماء المسلمين أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر إئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم أقوالا بإجتهادهم فهذه يسوغ
____________________
(35/366)
القول بها ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلا قول رسول الله فهذا شرع دخل فيه التأويل والإجتهاد وقد يكون فى نفس الأمر موافقا للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران وقد لا يكون موافقا له لكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فإذا إتقى العبد الله ما إستطاع آجره الله على ذلك وغفر له خطأه
ومن كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه ولا يعيبه ولا يعاقبه ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله لم يجز ترك الحق الذى بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق وذلك هو الشرع المنزل من عند الله وهو الكتاب والسنة وهو دين الله ورسوله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله لا يجاهدون على قول عالم ولا شيخ ولا متأول بل يجاهدون ليعبد الله وحده ويكون الدين له كما فى المسند عن إبن عمر قال قال النبى صلى الله عليه وسلم ( بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقى تحت ظل رمحى وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى ومن تشبه بقوم فهو منهم ( وقال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال قيل يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأى ذلك فى سبيل الله فقال ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو فى سبيل الله
____________________
(35/367)
فالمقصود بالجهاد أن لا يعبد أحد إلا الله فلا يدعو غيره ولا يصلى لغيره ولا يسجد لغيره ولا يصوم لغيره ولا يعتمر ولا يحج إلا إلى بيته ولا يذبح القرابين إلا له ولا ينذر إلا له ولا يحلف إلا به ولا يتوكل إلا عليه ولا يخاف إلا إياه ولا يتقى إلا إياه فهو الذى لا يأتى بالحسنات إلا هو ولا يدفع السيئات إلا هو ولا يهدى الخلق إلا هو ولا ينصرهم إلا هو ولا يرزقهم إلا هو ولا يغنيهم إلا هو ولا يغفر ذنوبهم إلا هو قال تعالى { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } )
والله تعالى قد حرم الشرك كله وإن يجعل له ندا فلا يدعى غيره لا الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحون ولا الشمس ولا القمر ولا الكواكب ولا الأوثان ولا غير ذلك بل قد بين ان من إتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر قال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقال تعالى
____________________
(35/368)
{ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } ذم الله سبحانه وتعالى لمن يدعو الملائكة والأنبياء وغيرهم من الصالحين وبين أن هؤلاء الذين يدعونهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله وأنهم يتقربون إلى الله بالوسيلة وهى الأعمال الصالحة ويرجون رحمته ويخافون عذابه فكيف يدعون المخلوقين ويذرون الخالق وقال تعالى { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا }
وهو سبحانه وتعالى عليم بأحوال عباده رحيم بهم كما فى الحديث الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه رأى إمرأة من السبى إذ رأت ولدا ألصقته ببطنها فقال أترون هذه واضعة ولدها فى النار قالوا لا يا رسول الله قال لله أرحم بعباده من هذه بولدها ( وهو سبحانه سميع قريب قال الله تعالى { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب } وهو تعالى رحيم ودود و ( الود اللطف والمحبة فهو يود عباده المؤمنين ويجعل لهم الود فى القلوب كما قال تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } قال إبن عباس وغيره يحبهم ويحببهم إلى عباده
____________________
(35/369)
وهو سبحانه لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين بل يحب من يدعوه ويتضرع إليه ويبغض من لايدعوه قال النبى ( من لا يسأل الله يغضب عليه ( وقال تعالى { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } وقال تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } قال بعض الصحابة يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أو بعيد فنناديه فأنزل الله هذه الآية )
وهو سبحانه وتعالى ليس كالمخلوقين الذين ترفع إليهم الحوائج بالحجاب بل فى الحديث الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يقول الله قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل فإذا قال العبد { الحمد لله رب العالمين } قال الله حمدنى عبدى فإذا قال { الرحمن الرحيم } قال الله أثنى علي عبدى فإذا قال { مالك يوم الدين } قال الله مجدنى عبدى فإذا قال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال الله هذه الآية بيني وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل فإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال هؤلاء لعبدى ولعبدى ما سأل
____________________
(35/370)
وهو سبحانه يتولى كلام عباده يوم القيامة كما جاء فى الصحيح عن عدى بن حاتم أنه قال قال رسول الله ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه عز وجل ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فتستقبله النار فمن إستطاع منكم أن يتقى النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمه طيبة ( وهو سبحانه قريب ممن دعاه يتقرب ممن عبده وأطاعه كما فى الحديث الصحيح عن النبى أنه قال ( يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرنى إن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى وإن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم وإن تقرب إلى شبرا تقربت منه ذراعا وإن تقرب إلى ذراعا تقربت منه باعا وإن أتانى يمشى أتيته هرولة )
والله سبحانه يولى عباده إحسانا وجودا وكرما لا لحاجة إليهم كما قال تعالى { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا } ولا يحاسب العباد إلا هو وحده وهو الذى يجازيهم بأعمالهم { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } وهو الذى يرزقهم ويعافيهم وينصرهم ويهديهم لا أحد غيره يفعل ذلك قال تعالى { أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور }
____________________
(35/371)
وقال تعالى { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون } وأصح القولين فى الآية أن معناه من ذا الذى يكلؤكم بدلا من الله من الذى يدفع الآفات عنكم التى تخافونها من الإنس والجن
والرسول هو الواسطة والسفير بينهم وبين الله عز وجل فهو الذى يبلغهم أمر الله ونهيه ووعده ووعيده وتحليله وتحريمه فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول وهو الشرع الذى يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به ويجب على المجاهدين الجهاد عليه ويجب على كل واحد إتباعه ونصره
وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق ( حكم الحاكم ( ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قوما معينين تحاكموا إليه فى قضية معينة لا يلزم جميع الخلق ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكما لا فى قليل ولا فى كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم فى شيء بل له أن يستفتى من يجوز له إستفتاؤه وإن لم يكن حاكما ومتى ترك العالم ما علمه من
____________________
(35/372)
كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا يستحق العقوبة فى الدنيا والآخرة قال تعالى { المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون }
ولو ضرب وحبس وأوذى بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذى يجب إتباعه وإتبع حكم غيره كان مستحقا لعذاب الله بل عليه أن يصبر وإن أوذى فى الله فهذه سنة الله فى الأنبياء وأتباعهم قال الله تعالى { الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } وقال تعالى { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } وقال تعالى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }
وهذا إذا كان الحاكم قد حكم فى مسألة إجتهادية قد تنازع فيها الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف ما حكم به فعلى هذا أن يتبع
____________________
(35/373)
ما علم من سنة رسول الله ويأمر بذلك ويفتى به ويدعو إليه ولا يقلد الحاكم هذا كله باتفاق المسلمين
وإن ترك المسلم عالما كان أو غير عالم ما علم من أمر الله ورسوله لقول غيره كان مستحقا للعذاب قال تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وإن كان ذلك الحاكم قد خفى عليه هذا النص مثل كثير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم تكلموا فى مسائل بإجتهادهم وكان فى ذلك سنة لرسول الله تخالف إجتهادهم فهم معذورون لكونهم إجتهدوا و { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولكن من علم سنة رسول الله لم يجز له أن يعدل عن السنة إلى غيرها قال تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا }
ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديا منصورا بنصرة الله فى الدنيا والآخرة كما قال تعالى { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وقال تعالى { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } واذا اصابت العبد مصيبة كانت بذنبه لا باتباعه للرسول بل باتباعه للرسول صلى الله عليه
____________________
(35/374)
وسلم يرحم وينصر وبذنوبه يعذب ويخذل قال تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }
ولهذا لما انهزم المسلمون يوم احد وكانوا مع النبى واستظهر عليهم العدو بين الله لهم أن ذلك بذنوبهم قال تعالى { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } وقال تعالى { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وبين سبحانه حكمة ابتلائهم فقال تعالى { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } وقال تعالى { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } والله قدرها وقدر كل شيء
لكن ما أصاب العبد من عافية ونصر ورزق فهو من انعام الله عليه واحسانه إليه فالخير كله من الله وليس للعبد من نفسه شيء بل هو فقير لا يملك
____________________
(35/375)
لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولاحياة ولا نشورا وما اصابه من مصيبة فبذنوبه والله تعالى يكفر ذنوب المؤمنين بتلك المصائب ويأجرهم على الصبر عليها ويغفر لمن استغفر ويتوب على من تاب قال النبى ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا غم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها الا كفر الله بها من خطاياه ( ولما انزل الله تعالى قوله { من يعمل سوءا يجز به } قال ابو بكر يا رسول الله قد جاءت قاصمة الظهر واينا لم يعمل سوءا قال ( يا ابا بكر الست تنصب الست تحزن الست تصيبك اللاواء فذلك ما تجزون به (
وقد قص الله علينا فى القرآن اخبار الانبياء وما اصابهم وما أصاب اتباعهم المؤمنين من الاذى فى الله ثم انه تعالى نصرهم وجعل العاقبة لهم وقص علينا ذلك لنعتبر به قال تعالى { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون }
فالشرع الذى يجب على كل مسلم ان يتبعه ويجب على ولاة الامر نصره والجهاد عليه هو الكتاب والسنة واما حكم الحاكم فذاك يقال له قضاء القاضي ليس هو الشرع الذى فرض الله على جميع الخلق طاعته بل القاضي العالم العادل يصيب تارة ويخطئ تارة ولو حكم الحاكم لشخص بخلاف
____________________
(35/376)
الحق فى الباطن لم يجز له اخذه ولو كان الحاكم سيد الاولين والاخرين كما فى الصحيحين عن ام سلمة قالت قال رسول الله ( انكم تختصمون إلى ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض فاقضى له بنحو مما اسمع فمن قضيت له من حق اخيه شيئا فلا ياخذه فانما اقطع له قطعة من النار ( فهذا سيد الحكام والامراء والملوك يقول اذا حكمت لشخص بشيء يعلم انه لا يستحقه فلا يأخذه
وقد اجمع المسلمون على ان حكم الحاكم بالاملاك المرسلة لا ينفذ فى الباطن فلو حكم لزيد بمال عمرو وكان مجتهدا متحريا للحق لم يجز له اخذه
واما فى ( العقود والفسوخ ( مثل ان يحكم بنكاح او طلاق او بيع او فسخ بيع ففيه نزاع معروف وجمهورهم يقولون لا ينفذ ايضا وهي مسألة معروفة وهذا اذا كان الحاكم عالما عادلا وقد حكم فى أمر دنيوى
و ( القضاة ثلاثة انواع ( كما فى السنن عن النبى قال ( القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو فى الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو فى النار ( فالقاضى الذى هو من اهل الجنة اذا حكم للانسان بما يعلم أنه غير حق لم يحل له أخذه لسنة رسول الله وإجماع المسلمين فكيف إذا حكم فى الدين الذى ليس له أن يحكم فيه بل هو فيه واحد من المسلمين إن كان له علم تكلم وإلا سكت
____________________
(35/377)
مثل أن يحكم بأن السفر إلى غير المساجد الثلاثة مشروع مستحب يثاب فاعله وأن من قال إنه لا يستحب يؤذى ويعاقب أو يحبس فهذا الحكم باطل بإجماع المسلمين لا يحل لمن عرف دين الإسلام أن يتبعه ولا لولي أمر أن ينفذه ومن نفذ مثل هذا الحكم ونصره كان له حكم أمثاله إن قامت عليه الحجه التى بعث الله بها رسوله وخالفها إستحقوا العقاب وكذلك أن ألزم بمثل هذا جهلا وإلزم الناس بما لايعلم فإنه مستحق للعقاب فإن كان مجتهدا مخطئا عفى عنه
وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين إتباع الشرع الذى هو الكتاب والسنة وإذا تنازع بعض المسلمين فى شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه بإتباع حكم حاكم بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم فإن تبين له الحق الذى بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا إستحق العقاب وأما من يقول إن الذى قلته هو قولى أو قول طائفة من العلماء المسلمين وقد قلته اجتهادا أو تقليدا فهذا بإتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته
ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفا للكتاب والسنة ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال إجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق بل قد قال الله تعالى فى القرآن { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين }
____________________
(35/378)
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى ( إن الله إستجاب هذا الدعاء ( ولما قال المؤمنون { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله قد فعلت وكذلك فى سائر الدعاء وقال النبى صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لأمتى عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه
فالمفتى والجندى والعامى إذا تكلموا بالشيء بحسب إجتهادهم إجتهادا أو تقليدا قاصدين لإتباع الرسول بمبلغ علمهم لايستحقون العقوبة بإجماع المسلمين وإن كانوا قد أخطأوا خطأ مجمعا عليه وإذا قالوا إنا قلنا الحق وإحتجوا بالأدلة الشرعية لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله ولا يحكم بأن الذى قاله هو الحق دون قولهم بل يحكم بينه وبينهم الكتاب والسنة والحق الذى بعث الله به رسوله لا يغطى بل يظهر فإن ظهر رجع الجميع إليه وإن لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا كالمسائل التى تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكما فإن هذا ينقلب فقد يصير الآخر حاكما
____________________
(35/379)
فيحكم بأن قوله هو الصواب فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين إتباعه بخلاف ما جاء به الرسول فإنه من عند الله حق وهدى وبيان ليس فيه خطأ قط ولا إختلاف ولا تناقض قال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }
وعلى ولاة الأمر أن يمنعوهم من التظالم فإذا تعدى بعضهم على بعض منعوهم العدوان وهم قد ألزموا بمنع ظلم أهل الذمة وأن يكون اليهودى والنصرانى فى بلادهم إذا قام بالشروط المشروطة عليهم لا يلزمه أحد بترك دينه مع العلم بأن دينه يوجب العذاب فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يمكنوا طوائف المسلمين من إعتداء بعضهم على بعض وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه هذا مما يوجب تغير الدول وإنتقاضها فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا
وهذا إذا كان الحكام قد حكموا فى مسألة فيها اجتهاد ونزاع معروف فإذا كان القول الذى قد حكموا به لم يقل به أحد من أئمة المسلمين ولا هو مذهب أئمتهم الذين ينتسبون إليهم ولا قاله أحد من الصحابة والتابعين ولا فيه آية من كتاب الله وسنة رسوله بل قولهم يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأئمة فكيف يحل مع هذا أن يلزم علماء المسلمين
____________________
(35/380)
باتباع هذا القول وينفذ فيه هذا الحكم المخالف للكتاب والسنة والإجماع وأن يقال القول الذى دل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف لا يقال ولا يفتى به بل يعاقب ويؤذى من أفتى به ومن تكلم به وغيرهم ويؤذى المسلمون فى أنفسهم وأهليهم وأموالهم لكونهم اتبعوا ما علموه من دين الاسلام وان كان قد خفى على غيرهم وهم يعذرون من خفى عليه ذلك ولا يلزمون باتباعهم ولا يعتدون عليه فكيف يعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول ان يترك ماعلمه من شرع الرسول لأجل هذا
لاريب ان هذا امر عظيم عند الله تعالى وعند ملائكته وانبيائه وعباده والله لايغفل عن مثل هذا وليس الحق فى هذا لأحد من الخلق فان الذين اتبعوا ما علموه من شرع الرسول لم يظلموا احدا فى دم ولا مال ولا عرض ولا لأحد عليهم دعوى بل هم قالوا نحن نتبع ماعرفناه من دين الاسلام وما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الله وعبادته لا شريك له فلا نعبد الا الله وحده ونعبده بما أمر به رسوله وشرعه من الدين فما دعانا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وامرنا به اطعناه وما جعله الرسول دينا وقربة وطاعة وحسنة وعملا صالحا وخيرا سمعنا واطعنا لله ولرسوله واعتقدناه قربة وطاعة وفعلناه واحببنا من يفعل به ودعونا إليه ومانهانا
____________________
(35/381)
عنه الرسول انتهينا عنه وان كان غيرنا يعتقد ان ذلك قربة فنحن علينا ان نطيع الرسول ليس علينا ان نطيع من خالفه وان كان متأولا
ومعلوم ان اهل الكتاب واهل البدع يتعبدون تعبدات كثيرة يرونها قربة وطاعة وقد نهى عنها رسول الله فمن قال انا اطيع الرسول ولا اتعبد بهذه العبادات بل انهى عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يسوغ ان يعارض بل لو كان مخطئا مع اجتهاده لم يستحق العقوبة باجماع المسلمين ولا يجب عليه إتباع حكم أحد بإجماع المسلمين وليس للحاكم أن يحكم بأن هذا أمر به رسول الله وأن هذا العمل طاعة أو قربة أو ليس بطاعة ولا قربة ولا بأن السفر إلى المساجد والقبور وقبر النبى يشرع أولا يشرع ليس للحكام فى هذا مدخل إلا كما يدخل فيه غيرهم من المسلمين بل الكلام فى هذا لجميع أمة محمد فمن كان عنده علم تكلم بما عنده من العلم وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين بل يبين له أنه قد أخطأ فإن بين له بالأدلة الشرعية التى يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك وجب أن يمنع من ذلك ويعاقب إن لم يمتنع وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة
____________________
(35/382)
الشرعية لم تجز عقوبته بإتفاق المسلمين ولا منعه من ذلك القول ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول أن هذا هو الذى دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين فهذا إذا إجتهد فأخطأ لم يحكم عليه إلا بالكتاب والسنة والمنازع له يتكلم بلا علم والحكم الذى حكم به لم يقله أحد من علماء المسلمين فعلماء المسلمين الكبار لو قالوا بمثل قول الحكام لم يكن لهم الزام الناس بذلك إلا بحجة شرعية لابمجرد حكمهم
فإن الله إنما أوجب على الناس إتباع الرسول وطاعته وإتباع حكمه وأمره وشرعه ودينه وهو حجة الله على خلقه وهو الذى فرق الله به بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغى وطريق الجنة وطريق النار وبه هدى الله الخلق قال الله تعالى { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وفى الصحيح عن النبى أنه قال ( ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين فالحجة على الخلق تقوم بالرسل وما جاء به الرسول هو الشرع الذى يجب على الخلق قبوله وإلى الكتاب والسنة يتحاكم جميع الخلق
____________________
(35/383)
ولهذا كان من أصول السنة والجماعة أن من تولى بعد رسول الله كالخلفاء الراشدين وغيرهم لا يجب أن ينفرد واحد منهم بعلم لا يعلمه غيره بل علم الدين الذى سنة الرسول يشترك المسلمون فى معرفته وإذا كان عند بعضهم من الحديث ما ليس عند بعض بلغة هؤلاء لأولئك ولهذا كان الخلفاء يسألون الصحابة فى بعض الأمور هل عندكم علم عن النبى صلى الله عليه وسلم فإذا تبين لهم سنة الرسول حكموا بها كما سألهم أبو بكر الصديق عن ميراث الجدة لما أتته فقال مالك فى كتاب الله من شيء وما علمت لك فى سنة رسول الله شيئا ولكن حتى أسأل الناس فسألهم فأخبره محمد بن مسلمة وغيره أن رسول الله أعطاها السدس
وكذلك عمر بن الخطاب لما سألهم عن الجنين إذا قتل قام بعض الصحابة فأخبره أن النبى قضى فيه بغرة عبد أو أمة أى من قتل جنينا ضمنه بمملوك أو جارية لورثته فقضى بذلك قالوا وتكون قيمته بقدر عشر ديه أمة وعمر بن الخطاب قد قال النبى فيه ( إنه قد كان فى الأمم قبلكم محدثون فإن يكن فى أمتى أحد فعمر ( وروى ( أنه ضرب الحق على لسانه وقلبه ( وقال ( لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ( ومع هذا فما كان يلزم أحدا بقوله ولا يحكم فى الأمور العامة بل كان يشاور الصحابة ويراجع فتارة يقول قولا فترده
____________________
(35/384)
عليه أمرأة فيرجع إليها كما أراد أن يجعل الصداق محدودا لا يزاد على صداقات أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وقال من زاد جعلت الزيادة فى بيت المال وكان المسلمون يعجلون الصداق قبل الدخول لم يكونوا يؤخرونه إلا أمرا نادرا فقالت إمرأة يا أمير المؤمنين لم تحرمنا شيئا أعطانا الله إياه فى كتابه فقال وأين فقالت فى قوله تعالى { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } فرجع عمر إلى قولها وقال إمرأة أصابت ورجل أخطأ
وكان فى مسائل النزاع مثل مسائل الفرائض والطلاق يرى رأيا ويرى على إبن أبى طالب رأيا ويرى عبد الله بن مسعود رأيا ويرى زيد بن ثابت رأيا فلم يلزم أحدا أن يأخذ بقوله بل كل منهم يفتى بقوله وعمر رضى الله عنه إمام الأمة كلها وأعلمهم وأدينهم وأفضلهم فكيف يكون واحد من الحكام خيرا من عمر هذا إذا كان قد حكم فى مسألة إجتهاد فكيف إذا كان ما قاله لم يقله أحد من أئمة المسلمين لا الأربعة ولامن قبلهم من الصحابة والتابعين وإنما يقوله مثله وأمثاله ممن لا علم لهم بالكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة وإنما يحكمون بالعادات التى تربوا عليها كالذين قالوا { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } وكما تحكم
____________________
(35/385)
الأعراب بالسوالف التى كانت لهم وهى عادات كما يحكم التتر ( بالياسق الذى جرت به عاداتهم وأما أهل الإيمان والإسلام والعلم والدين فإنما يحكمون بكتاب الله وسنة رسوله كما قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون }
والله سبحانه لم يرض بحكم واحد بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما فإنه لا يعلم أيهما الظالم وليس بينهما بينة بل أمر بحكمين وإن [ لا ] يكونا متهمين بل حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة كما قال تعالى { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا } أى الحكمين { يوفق الله بينهما } أى بين الزوجين فإن رأيا المصلحة أن يجمعا بين الزوجين جمعا وإن رأيا المصلحة أن يفرقا بينهما فرقا إما بعوض تبذله المرأة فتكون الفرقة خلعا إن كانت هي الظالمة وإن كان الزوج هو الظالم فرق بينهما بغير إختياره وأكثر العلماء على أن هذين حكمان كما سماهما الله حكمين يحكمان بغير توكيل الزوجين وهذا قول مالك والشافعى والإمام أحمد فى أحد قوليهما وقيل هما وكيلان كقول أبى حنيفة والقول الآخر فى المذهبين
____________________
(35/386)
فهنا لما إشتبه الحق لم يجعل الله الحكم لواحد وهو فى قضية معينة بين زوجين ولو حكم حاكم واحد بين الزوجين فى أمر ظاهر لم ينفذ حكمه بإتفاق المسلمين فكيف بأمور الدين والعبادات التى يشترك فيها جميع المسلمين وقد إشتبهت على كثير من الناس هذا بإجماع المسلمين لا يحكم فيه إلا الله ورسوله فمن كان عنده علم مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وأوضحه للمسلمين والمسلمون إذا عرفوا شرع نبيهم لم يعدلوا عنه
وإن كان كل قوم يقولون عندنا علم من الرسول ولم يكن هناك أمر ظاهر يجمعون فيما تنازعوا فيه كان أحد الحزبين لهم أجران والآخرون لهم أجر واحد كما قال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما }
( وولى الأمر ( إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتى يعرف الحق حكم به وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين على ماهم عليه كل يعبد الله على حسب إجتهاده وليس له أن يلزم أحدا بقبول قول غيره وإن كان حاكما
____________________
(35/387)
وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع بأسهم بينهم قال النبى ( ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم ( وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة فى زماننا وغير زماننا ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره فيسلك مسلك من أيده الله ونصره ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه فإن الله يقول فى كتابه { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } فقد وعد الله بنصر من ينصره ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم فإن الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذى يعلمه كان من أهل النار وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار وهذا إذا حكم فى قضية معينة لشخص وأما إذا حكم حكما عاما فى دين المسلمين فجعل الحق باطلا والباطل حقا والسنة بدعة والبدعة سنة والمعروف منكرا والمنكر معروفا ونهى عما أمر الله به ورسوله وأمر بما نهى الله عنه ورسوله فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين مالك يوم الدين الذى { له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون } { الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا } والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(35/388)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
( الدعاوى ( التى يحكم فيها ولاة الأمور سواء سموا قضاة أو ولاة أو تسمى بعضهم فى بعض الأوقات ولاة الأحداث أو ولاة المظالم أو غير ذلك من الأسماء العرفية الإصطلاحية
فإن حكم الله تبارك وتعالى شامل لجميع الخلائق وعلى كل من ولى أمر الأمة أوحكم بين إثنين أن يحكم بالعدل والقسط وأن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله وهذا هو الشرع المنزل من عندالله قال الله تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } وقال تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقال تعالى { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } وقال تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم }
فالدعاوى ( قسمان ( دعوى تهمة وغير تهمة فدعوى التهمة أن يدعى فعلا يحرم على المطلوب يوجب عقوبته مثل قتل أو قطع طريق
____________________
(35/389)
أو سرقة أو غير ذلك من أنواع العدوان المحرم كالذى يستخفى به بما يتعذر إقامة البينة عليه فى غالب الأوقات فى العادة
وغير التهمة أن يدعى دعوى عقد من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان أو دعوى لا يكون فيها سبب فعل محرم مثل دين ثابت فى الذمة من ثمن بيع أو قرض أو صداق أو دية خطأ أو غير ذلك
فكل من القسمين قد يكون دعوى حد لله عز وجل محض كالشرب والزنا وقد يكون حقا محضا لآدمى كالأموال وقد يكون فيه الأمران كالسرقة وقطع الطريق
فهذان ( القسمان ( إذا أقام المدعى فيه حجة شرعيه وإلا فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لما روى مسلم فى صحيحه عن إبن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ( وفى رواية فى الصحيحين ( عن إبن عباس ( أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه ( فهذا الحديث نص أن أحدا لا يعطى بمجرد دعواه ونص فى أن الدعوى المتضمنة للإعطاء تجب فيها اليمين إبتداء على المدعى عليه
وليس فيه أن الدعاوى الموجبة للعقوبات لا توجب إلا اليمين على المدعى عليه
بل ثبت عنه أنه قال
____________________
(35/390)
للأنصار لما اشتكوا إليه لأجل قتيلهم الذى قتل بخيبر وهو عبد الله بن سهل فجاء إلى النبى أخوه عبد الله وأبناء عمه حويصة ومحيصة وكان محيصة معه بخيبر وقال ( أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون قاتلكم ( قالوا وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر قال فتبريكم يهود بخمسين يمينا ( قالوا وكيف نأخذ بأيمان قوم كفار أخرجه أصحاب الصحاح والسنن جميعهم مثل البخارى ومسلم وأبى داود والترمذى والنسائى وفى رواية فى الصحيحين قال ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته ) وقد ثبت فى صحيح مسلم عن إبن عباس أن النبى قضى بشاهد ويمين ) رواه الترمذى وإبن ماجه من حديث جابر ورواه أبو داود والترمذى وإبن ماجه من حديث أبى هريرة وروى ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة وهذه الأحاديث أصح وأشهر ما روى عن النبى فى هذا الباب وبن عباس الذى يروى عن النبى ( أنه قضى باليمين مع الشاهد ( وأن هذا قضى به فى دعاوى وقضى بهذا فى دعاوى
وأما الحديث المشهور فى السنة الفقهاء ( البينة على من إدعى واليمين على من أنكر ( فهذا قد روى أيضا لكن ليس إسناده فى الصحة والشهرة مثل غيره ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة إلا طائفة من فقهاء الكوفة مثل أبى حنيفة وغيره فإنهم
____________________
(35/391)
يرون اليمين دائما فى جانب المنكر حتى فى القسامة يحلفون المدعى عليه ولا يقضون بالشاهد واليمين ولا يرون اليمين على المدعى عند النكول وإستدلوا بعموم هذا الحديث
وأما سائر علماء الملة من أهل المدينة ومكة والشام وفقهاء الحديث وغيرهم مثل إبن جريج ومالك والليث بن سعد والشافعى وأحمد إبن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم فتارة يحلفون المدعى وتارة يحلفون المدعى عليه كما جاءت بذلك سنن رسول الله
والأصل عند جمهورهم أن اليمين مشروعة فى أقوى الجانبين ( والبينة ( عندهم إسم لما يبين الحق وبينهم نزاع فى تفاريع ذلك فتارة يكون لوثا مع أيمان القسامة وتارة يكون شاهدا ويمينا وتارة يكون دلائل غير الشهود كالصفة للقطة
وأجابوا عن ذلك الحديث تارة بالتضعيف وتارة بأنه عام وأحاديثهم خاصة وتارة بأن أحاديثهم أصح وأكثر وأشهر فالعمل بها عند التعارض أولى
وقد ثبت عن النبى أنه طلب البينة من المدعى واليمين من المنكر فى حكومات معينة ليست من جنس دعاوى التهم
____________________
(35/392)
مثل ما خرجا فى الصحيحين عن الأشعث بن قيس أنه قال كانت بينى وبين رجل حكومة فى بئر فإختصمنا إلى النبى فقال ( شاهداك أو يمينه ( فقلت إذا يحلف ولا يبالى فقال ( من حلف على يمين صبر يقطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان ( وفى رواية فقال بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه ) وعن وائل بن حجر قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمى يا رسول الله إن هذا قد غلبنى على أرض كانت لأبى فقال الكندى هي أرضى وبيدى أزرعها ليس له فيها حق فقال النبى صلى الله عليه وسلم للحضرمى ( ألك بينة قال لا قال فلك يمينه ( فقال يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالى على ما حلف عليه فليس يتورع من شيء فقال ( ليس لك منه إلا ذلك ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر الرجل ( أمالئن حلف على مال ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض ( رواه مسلم والترمذى وصححه
ففى هذا الحديث الصحيح أنه لم يوجب على المطلوب إلا اليمين مع ذكر المدعى لفجوره وقال ( ليس لك منه إلا ذلك ( وكذلك فى الحديث الأول كان خصم الأشعث يهوديا هكذا جاء فى الصحيحين ومع هذا لم يوجب عليه إلا اليمين وفى حديث القسامة أن الأنصار لما قالوا
____________________
(35/393)
كيف نقبل أيمان قوم كفار لم ينكر ذلك عليهم فعلم أن الدعاوى مختلفة فى ذلك
وهذا القسم لا أعلم فيه نزاعا أعنى ان القول فيه قول المدعى عليه مع اليمين إذا لم يأت المدعى بحجة شرعية وهى البينة
[ والبينة ] التى هي الحجة الشرعية تارة تكون بشاهدين عدلين رجلين وتارة رجل وإمرأتين وتارة أربع شهداء وتارة ثلاثة عند بعض العلماء من أصحاب أحمد وبعض أصحاب الشافعى وهو دعوى الإفلاس فيمن علم أن له مال فقد جاء فى صحيح مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالى أن النبى قال ( لا تحل المسألة لأحد إلا لثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة إجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه يقولون لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا ( ولأن الغنى من الأمور الخفية التى تقوى بها التهمة بإخفاء المال وتارة تكون الحجة شاهدا ويمين الطالب عند جمهور فقهاء الإسلام من أهل الحجاز وفقهاء الحديث وتارة تكون الحجة نساء إما إمرأة عند أبي حنيفة وأحمد فى المشهور عنه وإما إمرأتين عند مالك وأحمد فى رواية وأما أربع نسوة عند الشافعى وتارة تكون الحجة غير ذلك
____________________
(35/394)
وتارة تكون الحجة اللوث واللطخ والشبهة مع ايمان المدعى خمسين يمينا وهى القسامة التى يبدؤ فيها بأيمان المدعى عند عامة فقهاء الحجاز وأهل الحديث وتمتاز عن غيرها بأن اليمين فيها خمسون يمينا كما إمتازت إيمان اللعان بأن كانت أربع شهادات بالله لأن كل يمين أقيمت مقام شاهد والقسامة توجب القود عند مالك وأحمد وتوجب الدية فقط عند الشافعى وأهل الرأى لا يحلفون فيها إلا المدعى عليه كما تقدم مع أنهم مع تحليفه يوجبون عليه الدية على تفصيل معروف ليس الغرض هنا ذكره وإنما الغرض التنبيه على مجامع الأحكام فى الدعاوى فإنه باب عظيم والحاجة إليه شديدة عامة
وقد وقع فيه التفريط من بعض ولاة الأمور والعدوان من بعضهم ما أوجب الجهل بالحق والظلم للخلق وصار لفظ ( الشرع ( غير مطابق لمسماه الأصلي بل لفظ الشرع فى هذه الأزمنة ( ثلاثة أقسام ( أحدها ( الشرع المنزل وهو الكتاب والسنة وإتباعه واجب من خرج عنه وجب قتله ويدخل فيه أصول الدين وفروعه وسياسة الأمراء وولاة المال وحكم الحكام ومشيخة الشيوخ وغير ذلك فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله
و ( الثانى ( الشرع المؤول وهو موارد النزاع والإجتهاد بين الأمة فمن أخذ فيما يسوغ فيه الإجتهاد أقر عليه ولم تجب على جميع الخلق موافقته إلا بحجة لا مرد لها من الكتاب والسنة
____________________
(35/395)
و ( الثالث الشرع المبدل مثل ما يثبت من شهادات الزور أو يحكم فيه بالجهل والظلم بغير العدل والحق حكما بغير ما أنزل الله أو يؤمر فيه بإقرار باطل لإضاعة حق مثل أمر المريض أن يقر لوارث بما ليس بحق ليبطل به حق بقية الورثة فإن الأمر بذلك والشهادة عليه محرمة وإن كان الحاكم الذى لم يعرف باطن الأمر إذا حكم بما ظهر له من الحق لم يأثم فقد قال سيد الحكام فى الحديث المتفق عليه ( إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار (
القسم الآخر من الدعاوى ( دعاوى التهم ( وهى دعوى الجناية والأفعال المحرمة مثل دعوى القتل وقطع الطريق والسرقة والعدوان على الخلق بالضرب وغيره فهذا ينقسم المدعى عليه إلى ( ثلاثة أقسام ( فإن المتهم إما أن يكون ليس من أهل تلك التهمة أو فاجرا من أهل تلك التهمة أو يكون مجهول الحال لا يعرف الحاكم حاله
396
فإن كان برا لم تجز عقوبته بإلاتفاق وإختلفوا فى عقوبة المتهم له مثل أن يوجد فى يد رجل عدل مال مسروق ويقول ذو اليد ابتعته من السوق لا أدري
____________________
(35/396)
من باعه فلا عقوبة عليه بإلاتفاق ثم قال أصحاب مالك وغيرهم يحلف المستحق أنه ملكه ما خرج عن ملكه ويأخذه قال هؤلاء لا يمين على المطلوب ثم إختلفوا فى العقوبة للمتهم له فقال مالك وأشهب لا أدب على المدعى إلا أن يقصد أذيته وعيبه وشتمه فيؤدب وقال أصبغ يؤدب قصد أذيته أو لم يقصد
397
وكذلك عامة العلماء يقولون إن الحدود التى لله لا يحلف فيها المدعى عليه فإذا أخذ المستحق ماله لم يبق على ذوى اليد دعوى إلا لأجل الحد ولا يحلف
( القسم الثانى ( أن يكون المتهم مجهول الحال لا يعرف ببر أو فجور فهذا يحبس حتى ينكشف حاله عند عامة علماء الإسلام والمنصوص عند أكثر الأئمة أنه يحبسه القاضي والوالى هكذا نص عليه مالك وأصحابه وهو منصوص الإمام أحمد ومحققى أصحابه وذكره أصحاب أبى حنيفة وقال الإمام أحمد قد حبس النبى صلى الله عليه وسلم فى تهمة قال أحمد وذلك حتى يتبين للحاكم أمره وذلك لما رواه أبو داود فى سننه والخلال وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ( أن النبى حبس فى تهمة ( وروى الخلال عن أبى هريرة ( أن النبى حبس فى تهمة يوما وليلة
والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك فإنهم متفقون على أن المدعى إذا طلب المدعى عليه الذى يجب إحضاره وجب على الحاكم إحضاره إلى مجلس
____________________
(35/397)
الحكم حتى يفصل بينهما ويحضره من مسافة الدعوى التى هي عند بعضهم بريد وهو مالا يمكن الذهاب إليه والعود فى يوم كما يقوله من قاله من أصحاب الشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين وعند بعضهم أن مسافة القصر أربعة برد مسيرة يومين قاصدين كما يقوله أحمد فى إحدى الروايتين ثم الحاكم قد يكون مشغولا عن تعجيل الفصل وقد يكون عنده حكومات سابقة فيبقى المطلوب محبوسا معوقا من حين يطلب إلى حين يفصل بينه وبين خصمه وهذا حبس بدون التهمة ففى التهمة أولى
فإن ( الحبس الشرعى ( ليس هو السجن فى مكان ضيق وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان فى بيت أو مسجد أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه ولهذا سماه النبى أسيرا كما روى أبو داود وإبن ماجه عن الهرماس بن حبيب عن أبيه قال أتيت النبى صلى الله عليه وسلم بغريم لي فقال لى ( ألزمه ( ثم قال ( يا أخا بنى تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك ( وفى رواية إبن ماجه ثم مر بى آخر النهار فقال ( ما فعل أسيرك يا أخا بنى تميم ( وهذا هو الحبس على عهد النبى ولم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حبسا معدا لسجن الناس ولكن لما إنتشرت الرعية فى زمن عمر بن الخطاب إبتاع بمكة دارا وجعلها سجنا وحبس فيها ولقد
____________________
(35/398)
تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم هل يتخذ الإمام حبساعلى قولين فمن قال لا يتخذ حبسا قال يعوقه بمكان من الأمكنة أو يقام عليه حافظ وهو الذى يسمى ( الترسيم (
ولهذا لما كان حضور مجلس الحاكم تعويقا ومنعا من جنس السجن والحبس تنازع العلماء هل يحضر الخصم المطلوب بمجرد الدعوى أم لا يحضر إذا كان ممن يتبذل بالحضور حتى يبين لمدعى الدعوى أصل على قولين هما روايتان عن أحمد ( والثانى ( قول مالك ( والأول ( قول أبى حنيفة والشافعى
399
ومن العلماء من قال الحبس فى التهمة إنما هو للوالى والى الحرب دون القاضي وقد ذكرها طائفة من أصحاب الشافعى كأبى عبد الله الزبيرى وأقضى القضاة الماوردى وغيرهما وطائفة من أصحاب أحمد المصنفين فى ( أدب القضاة ( وغيرهم
399
وإختلفوا فى مقدار الحبس فى التهمة هل هو مقدر أو مرجعه إلى إجتهاد الإمام على قولين ذكرهما القاضي أبو يعلى والقاضى الماوردى وغيرهما وقيل هو مقدر بشهر وهو قول أبى عبد الله الزبيرى وقيل هو غير مقدر وهو إختيار الماوردى
____________________
(35/399)
القسم ( الثالث ( أن يكون المتهم معروفا بالفجور مثل المتهم بالسرقة إذا كان معروفا بها قبل ذلك والمتهم بقطع طريق إذا كان معروفا به والمتهم بالقتل أو كان أحد هؤلاء معروفا بما يقتضى ذلك فإذا جاز حبس المجهول فحبس المعروف بالفجور أولى وما علمت أحدا من أئمة المسلمين المتبعين من قال إن المدعى عليه فى جميع هذه الدعاوى يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره من جميع ولاة الأمور فليس هذا على إطلاقه مذهب أحد من الأئمة
400
ومن زعم أن هذا على إطلاقه وعمومه هو الشرع فهو غالط غلطا فاحشا مخالفا لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع الأمة وبمثل هذا الغلط الفاحش إستجرأ الولاة على مخالفة الشرع وتوهموا أن مجرد الشرع لا بسياسة العالم وبمصالح الأمة وإعتدوا حدود الله فى ذلك وتولد من جهل الفريقين بحقيقة الشرع خروج الناس عنه إلى أنواع من البدع السياسية فهذا القسم فيه مسائل القسامة والحكم فيها معروف ولا يحتاج إلى ذكرها ها هنا وأما التهمة فى السرقة وقطع الطريق ونحوهما فقد تقدم ذكر الحبس فيهما
وأما الإمتحان بالضرب ونحوه فإختلف فيه هل يشرع للقاضى والوالى أم يشرع للوالى دون القاضي أم يشرع الضرب لواحد منهما على ( ثلاثة أقوال
____________________
(35/400)
( أحدها ( أنه يضرب فيها القاضي والوالى وهذا قول طائفة من العلماء من أصحاب مالك وغيرهم منهم أشهب قاضى مصر قال أشهب يمتحن بالسجن والأدب ويضرب بالسوط مجردا
( والقول الثانى ( لا يضرب بل يحبس كما تقدم وهذا قول أصبغ من أصحاب مالك وقول كثير من الحنفية والشافعية وغيرهم لكن حبس المتهم عندهم أبلغ من حبس المجهول فلذلك إختلفوا هل يحبس حتى يموت فقال عمر بن عبد العزيز وجماعة من أصحاب مالك كمطرف وإبن الماجشون وغيرهما أنه يحبس حتى يموت وهكذا روى عن الإمام أحمد فيمن لم ينته عن بدعته أنه يحبس حتى يموت وقال مالك لا يحبس حتى يموت
و ( القول الثالث ( أنه يضربه الوالى دون القاضي وهذا القول ذكره طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد كالقاضى أبي الحسن الماوردى والقاضى أبى يعلى وغيرهما وبسطوا القول فى ذلك فى كتب ( الأحكام السلطانية ( وقالوا إن ولاية الحرب معتمد العقوبة على الجرائم والمنع من الفساد فى الأرض وذلك لا يتم إلا بالعقوبة للمتهمين المعروفين بالإجرام بخلاف ولاية الحكم فإن مقصودها يحصل بدون ذلك وهذا القول هو قول بجواز ذلك فى الشريعة لكن كل ولى أمر يفعل ما فوض إليه فكما أن والى الصدقات لا يملك من القبض والصرف ما يملكه والى
____________________
(35/401)
الخراج وإن كان كلاهما مالا شرعيا وكذلك وإلى الحرب ووالى الحكم كل منهما يفعل ما إقتضته ولايته الشرعية مع رعاية العدل وأصول الشريعة
وأما عقوبة من عرف أن الحق عنده وقد جحده أو منعه فمتفق عليها بين العلماء ولا أعلم منازعا فى أن من وجب عليه حق من دين أو عين وهو قادر على وفائه ويمتنع من أنه يعاقب حتى يؤديه وقد نصوا على عقوبته بالضرب وذكر ذلك المالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم لقول النبى ( لى الواجد يحل عرضة وعقوبته ( رواه أهل السنن مثل أبى داود والنسائى وإبن ماجه وثبت فى الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( مطل الغنى ظلم ( والظالم يستحق العقوبة
وإتفق العلماء على أن التعزير مشروع فى كل معصية ليس فيها حد والمعصية نوعان ترك واجب أو فعل محرم إن ترك الواجبات مع قدرته كقضاء الديون وأداء الأمانات إلى أهلها من الوكالات والودائع وأموال اليتامى والوقوف والأموال السلطانية أو رد المغصوب والمظالم فإنه يعاقب حتى يؤديها
وكذلك من وجب عليه إحضار نفس لإستيفاء حق وجب عليه مثل أن يقطع رجل الطريق ويفر إلى بعض ذوى القدرة فيحول بينه وبين أخذ الحدود والحقوق منه فهذا محرم بالإتفاق وقد روى مسلم فى صحيحه عن
____________________
(35/402)
علي قال رسول الله ( لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا ( وروى أبو داود فى سننه عن إبن عمر عن النبى قال ( من خاصم فى باطل وهو يعلم لم يزل فى سخط الله حتى ينزع ومن حالت شفاعته دون حد فى حدود الله فقد ضاد الله فى أمره ومن قال فى مسلم ماليس فيه حبس فى ردغة الخبال حتى يخرج مما قال ( فما وجب إحضاره من النفوس والأموال إستحق الممتنع من فعل الواجب العقوبة حتى يفعله
وأما إذا كان الإحضار إلى من يظلمه أو إحضار المال إلى من يأخذه بغير حق فهذا لا يجب بل ولا يجوز فإن الإعانة على الظلم ظلم قال الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى }
403
وأما ( مواطن الإشتباه ( المشتملة على الظلم من الجانبين مثل ولاة الأموال السلطانية إذا أخذوا ما [ لا ] يستحقونه وكان المستخرج لها ظالما فى صرفها أيضا فهذا ليس على أحد أن يعين الظالم القادر على إبقائها بيده ولا يعين الظالم الطالب أيضا فى قبضها بل إن ترجيح أحد الجانبين بنوع من الحق أعان على الحق وإن كان كل منهما ظالما ولا يمكن صرفها إلى مستحق
____________________
(35/403)
عدل بين الظالمين فى ذلك فإن العدل مأمور به فى جميع الأمور بحسب الإمكان ومن العدل فى ذلك أن لا يمكن أحدهما من البغى على الآخر بل يفعل أقرب الممكن إلى العدل
وإختلف العلماء إذا أقر حال الإمتحان بالحبس أو الضرب هل يسوغ ذلك فمنهم من قال يؤخذ بذلك الإقرار إذا ظهر صدقه مثل أن يخرج السرقة بعينها ولو رجع عن ذلك بعد الضرب لم يقبل بل يؤخذ به وهذا قول أشهب فى القاضي والوالى وهو الذى ذكره القاضيان الماوردى وأبو يعلى فى الوالى ومنهم من قال لابد من إقرار آخر بعدد الضرب وإذا رجع عن الإقرار لم يؤخذ به وهذا قول إبن القاسم وكثير من الشافعية والحنبلية وغيرهم
وأما ( مقدار الضرب ( فإذا كان الضرب على ترك واجب مثل أن يضرب حتى يؤدى الواجب فهذا لا يتقدر بل يضرب يوما فإن فعل الواجب وإلا ضرب يوما آخر لكن لا يزيد كل مرة على التعزير عند من يقدر أعلاه
وقد تنازع العلماء فى ( مقدار أعلى التعزير ( الذى يقام بفعل المحرمات على أقوال
____________________
(35/404)
أحدها وهو أحسنها وهو قول طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهما أنه لا يبلغ فى التعزير فى كل جريمة الحد المقدر فيها وإن زاد على حد مقدر فى غيرها فيجوز التعزير فى المباشرة المحرمة وفى السرقة من غير حرز بالضرب الذى يزيد على حد القذف ولا يبلغ بذلك الرجم والقطع
القول الثانى ( أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود إما أربعين وإما ثمانين وهو قول كثير من أصحاب الشافعى وأحمد وأبى حنيفة
والقول الثالث ( أن لا يزاد فى التعزير على عشرة أسواط وهو أحد الأقوال فى مذهب أحمد وغيره
وعلى القول الأول هل يجوز أن يبلغ به القتل مثل قتل الجاسوس المسلم فى ذلك ( قولان ( [ أحدهما ] قد يبلغ به القتل فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا قصد المصلحة وهو قول مالك وبعض أصحاب أحمد كإبن عقيل وقد ذكر نحو ذلك بعض أصحاب الشافعى وأحمد فى قتل الداعية إلى البدع ومن لا يزول فساده إلا بالقتل وكذلك مذهب مالك قتل الداعية إلى البدع كالقدرية
ونحوهم و ( القول الثانى ( أنه لا يقتل الجاسوس وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى والقاضى أبى يعلى من أصحاب أحمد
____________________
(35/405)
والمنصوص عن أحمد التوقف فى المسألة
وممن يجوز التعزير بالقتل فى ( الذنوب الكبار ( أصحاب أبى حنيفة فى مواضع يسمون القتل فيها سياسة كقتل من تكرر لواطه أو قتله بالمثقل فإنهم يجوزون قتله سياسة وتعزيرا وإن كان أبو حنيفة لا يوجب ذلك بل ولا يجوزه فيمن فعله مرة واحدة وأما صاحباه فمع سائر الأئمة فيخالفون فى أنه يجب القود فى القتل
وفى وجوب قتل اللوطى إما مطلقا سواء كان محصنا أو غير محصن كمذهب مالك وأحمد فى أشهر روايتيه والشافعى فى أحد قوليه وإما أن يكون حده مثل حد الزانى كقول صاحبى أبى حنيفة والشافعى فى أشهر قوليه وأحمد فى أحد روايتيه
والمنقول عن النبى صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يوافق القول الأول فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الذى أحلت إمرأته له جاريتها مائة وجلد أبو بكر وعمر رجلا وجد مع إمرأة فى فراش مائة وعمر بن الخطاب ضرب الذى زور عليه خاتمه فأخذ من بيت المال مائة ثم ضربه فى اليوم [ الثانى ] والثالث مائة [ مائة ] وليس هذا موضع بسط أصناف التعزير فإنها كثيرة الشعب
فأما ضرب المتهم إذا عرف إن المال عنده وقد كتمه وأنكره ليقر بمكانه فهذا لا ريب فيه فإنه ضرب ليؤدى الواجب من التعريف بمكانه كما يضرب
____________________
(35/406)
ليؤدى ما عليه من المال الذى يقدر على وفائه وقد جاء فى ذلك حديث إبن عمر
فى الصحيح أن النبى لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء سأل زيد بن سعية عم حيي بن أخطب فقال ( أين كنز حيي بن أخطب ( فقال يا محمد أذهبته الحروب فقال للزبير ( دونك هذا ( فمسه الزبير بشيء من العذاب فدلهم عليه فى خربة وكان حليا فى مسك ثور فهذا أصل فى ضرب المتهم الذى علم أنه ترك واجبا أو فعل محرما والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل تولى حكومة على جماعة من رماة البندق ويقول هذا شرع البندق وهو ناظر على مدرسة وفقهاء فهل إذا تحدث فى هذا الحكم والشرع الذى يذكره تسقط عدالته من النظر أم لا وهل يجب على حاكم المسلمين الذى يثبت عدالته عنده إذا سمع أنه يتحدث فى شرع البندق الذى لم يشرعه الله ولا رسوله أن يعزله من النظر أم لا
فأجاب الحمد لله ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله لابين المسلمين ولا الكفار ولا الفتيان ولا رماة البندق ولا الجيش ولا الفقراء ولا غير ذلك إلا بحكم الله ورسوله ومن إبتغى غير ذلك تناوله
____________________
(35/407)
قوله تعالى { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } وقوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } فيجب على المسلمين أن يحكموا الله ورسوله فى كل ما شجر بينهم ومن حكم بحكم البندق وشرع البندق أو غيره مما يخالف شرع الله ورسوله وحكم الله ورسوله وهو يعلم ذلك فهو من جنس التتار الذين يقدمون حكم ( الياسق ( على حكم الله ورسوله ومن تعمد ذلك فقد قدح فى عدالته ودينه ووجب أن يمنع من النظر فى الوقف والله أعلم
____________________
(35/408)
& باب الشهادات & سئل شيخ الإسلام رضى الله عنه
عن الرواية هل كل من قبلت روايته قبلت شهادته
فأجاب أما قوله هل كل من قبلت روايته قبلت شهادته فذا فيه نزاع فإن العبد تقبل روايته بإتفاق العلماء وفى قبول شهادته نزاع بين العلماء فمذهب على وأنس وشريح تقبل شهادته وهو مذهب أحمد وغيره ومذهب أبى حنيفة ومالك والشافعى لا تقبل شهادته والمرأة تقبل روايتها مطلقا وتقبل شهادتها فى الجملة لكون الشهادة على شخص معين لايتعدى حكمها إلى الشاهد بخلاف الرواية فإن الرواية يتعدى حكمها فإن الراوى روى حكما يشترك فيه هو وغيره فلهذا لم يشترط فى الرواية عدد بخلاف الشهادة وهذا مما فرقوا به
____________________
(35/409)
وسئل رحمه الله
عن مدين كتب محضرا بإعساره وشهد الشهود أنه معسر عما لزمه من الدين ولم يعين مقداره هل يكفى هذا ولو عينه الشاهد هل يفتقر أن يقول ولا شيء منه ولو قال فهل الثلاثة دراهم أو الدرهم والنصف داخلة فى ذلك
فأجاب أما الشهادة بالإعسار فإذا شهدوا أنه معسر عما لزمه من الدين وعرفوا قدره صحت الشهادة لكن هذا لا يمنع قدرته على وفاء بعضه وتصح الشهادة بذلك وإن لم يعرفوا قدره إذا شهدوا بأنه لا يقدر على وفاء شيء لكن العلم بهذا متعذر فى الغالب
ولكن إذا كان الدين عن معاوضة كثمن بيع وبدل قرض وكان له مال معروف فإذا شهد الشهود بذهاب ماله صار بمنزلة من لم يعرف له مال وفى مثل هذا القول قوله مع يمينه أنه معسر عاجز عن وفاء ما يحلف عليه
إن إدعى العجز عن وفاء قليل أو كثير حلف على ذلك وحصل المقصود بذلك وإن إدعى أنه ليس له إلا كذا حلف عليه
وأحد القولين فى مذهب أحمد وغيره أنه لابد أن تكون البينة الشاهدة بعسرته ثلاثة إذا كان له مال للخبر المأثور فى ذلك بخلاف مالو شهدت
____________________
(35/410)
بتلف ماله بسبب ظاهر والحديث حديث قبيصة بن مخارق الهلالى الذى رواه مسلم فى صحيحه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا تحل المسألة إلا لثلاثة رجل أصابته جائحة إجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ثم يمسك ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه فيقولون لقد أصاب فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ثم يمسك ورجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا ( وسئل رحمه الله تعالى
عمن أشهد على نفسه وهو فى صحة من عقله وبدنه أن وارثى هذا لم يرثنى غيره فهل يجوز ذلك ولمن يكون الإرث بعده
فأجاب هذه الشهادة لا تقبل بل إن كان وارثا فى الشرع ورثه شاء أم أبى وأن لم يكن وارثا فى الشرع لم يرث وليس لأحد أن يتعدى حدود الله ولا يغير دين الله ولو فعل ذلك كرها كان فاسقا من أهل الكبائر كما قال النبى من قطع ميراثا قطع الله ميراثه من الجنة
____________________
(35/411)
وسئل رحمه الله تعالى
هل تقبل شهادة المرضعة أم لا
فأجاب إن كان الشاهد ذا عدل قبل قوله فى ذلك لكن فى تحليفه نزاع وقد روى عن إبن عباس رضى الله عنهما أنه يحلف فإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى يبيض ثدياها وسئل رحمه الله تعالى
هل تقبل شهادة الضرة فأجاب لا تقبل شهادة الضرة فيما يبطل نكاح ضرتها لا برضاع ولا غيره والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى
عن الشهادة على العاصى والمبتدع هل تجوز بالإستفاضة والشهرة أم لابد من السماع والمعاينة وإذا كانت الإستفاضة فى ذلك كافية فمن ذهب إليه من
____________________
(35/412)
الأئمة وما وجه حجيته والداعى إلى البدعة والمرجح لها هل يجوز الستر عليه أم تتأكد الشهادة ليحذره الناس وما حد البدعة التى يعد بها الرجل من أهل الأهواء
فأجاب ما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح فى عدالته ودينه فإنه يشهد به إذا علمه الشاهد به بالإستفاضة ويكون ذلك قدحا شرعيا كما صرح بذلك طوائف الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم فى كتبهم الكبار والصغار صرحوا فيما إذا جرح الرجل جرحا مفسدا أنه يجرحه الجارح بما سمعه منه أو رآه وإستفاض وما أعلم فى هذا نزاعا بين الناس فإن المسلمين كلهم يشهدون فى وقتنا فى مثل عمر بن عبد العزيز والحسن البصرى وأمثالهما من أهل العدل والدين بما لم يعلموه إلا بالإستفاضة ويشهدون فى مثل الحجاج بن يوسف والمختار بن أبى عبيد وعمر بن عبيد وغيلان القدرى وعبد الله بن سبأ الرافضى ونحوهم من الظلم والبدعة بما لا يعلمونه إلا بالإستفاضة
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال ( وجبت ( ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال ( وجبت وجبت ( قالوا يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت قال ( هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله فى الأرض هذا إذا كان المقصود تفسيقه لرد شهادته وولايته
____________________
(35/413)
وأما إذا كان المقصود التحذير منه وإتقاء شره فيكتفى بما دون ذلك كما قال عبد الله بن مسعود إعتبروا الناس بأخدانهم وبلغ عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن رجلا يجتمع إليه الأحداث فنهى عن مجالسته فإذا كان الرجل مخالطا فى السير لأهل الشر يحذر عنه
و ( الداعى إلى البدعة ( مستحق العقوبة بإتفاق المسلمين وعقوبته تكون تارة بالقتل وتارة بما دونه كما قتل السلف جهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيلان القدرى وغيرهم ولو قدر أنه لا يستحق العقوبة أولا يمكن عقوبته فلا بد من بيان بدعته والتحذير منها فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى أمر الله به ورسوله
و ( البدعة ( التى يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما إشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة فإن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا أصول إثنتين وسبعين فرقة هي أربع الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة قيل لإبن المبارك فالجهمية قال ليست الجهمية من أمة محمد
( والجهمية ( نفاة الصفات الذين يقولون القرآن مخلوق وإن الله لا يرى فى الآخرة وأن محمدا لم يعرج به إلى الله وأن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ونحو ذلك كما يقوله المعتزلة والمتفلسفة ومن أتبعهم
____________________
(35/414)
وقد قال عبد الرحمن بن مهدى هما صنفان فأحذرهما الجهمية والرافضة فهذان الصنفان شرار أهل البدع ومنهم دخلت القرامطة الباطنية كالنصيرية والإسماعيلية ومنهم إتصلت الإتحادية فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية
و ( الرافضة ) فى هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية فإنهم ضموا إلى الرفض مذهب المعتزلة ثم قد يخرجون إلى مذهب الإسماعيلية ونحوهم من أهل الزندقة والإتحاد والله ورسوله أعلم وسئل رحمه الله تعالى
عن شهود شهدوا بما يوجب الحد ولما شخص قالوا غلطنا ورجعوا فهل يقبل رجوعهم فأجاب نعم إذا رجع عن شهادته قبل الحكم بها لم يحكم بها وإذا كان يعلم أنه قد غلط وجب عليه أن يرجع ولا يقدح ذلك فى دينه ولا عدالته والله أعلم
____________________
(35/415)
& باب القسمة & وسئل رحمه الله تعالى
عن رجلين بينهما دار مشتركة فطلب أحدهما القسمة فإمتنع شريكه من المقاسمة فهل يجبر على القسمة أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين إن كانت تقبل القسمة من غير ضرر بحيث لا تنقص فى البيع أجبر الممتنع على القسمة وإلا كان لطالب القسمة أن يطلب البيع قد يجبر الممتنع ويقسم بينهما الثمن والإجبار على القسمة المذكورة مذهب الأئمة الأربعة والإجبار على البيع المذكور مذهب مالك وأبى حنيفة والإمام أحمد
____________________
(35/416)
وسئل رحمه الله
عن رجل له عشرة أسهم من أصل أربعة وعشرين سهما فى بستان مشترك بينه وبين إنسان مختل العقل والحاكم يحجر عليه وهو يقبل القسمة فهل للحاكم أن يقسم عليه أم لا ويلزم أن ينفق منه على العمارة
فأجاب إن كان قابلا للقسمة وطلب الشريك القسم وجب على الحاكم إجابته ولو كان الشريك الآخر رشيدا فكيف إذا كان تحت الحجر وإن لم يكن قابلا للقسمة غير قسمة الإجبار وللحاكم أن يقاسم عن المحجور عليه إذا رآه مصلحة وإذا طلب الشريك إما القسمة وإما العمارة فللحاكم أن يجيبه إلى أحدهما
____________________
(35/417)
وسئل رحمه الله تعالى
عن ثلاثة شركاء فى طاحون ولأحدهم السدس وهو فقيرهم ولم يكن له شيء يقتات به سوى أجرة السدس المختص به وقد منعوه أن يدفعوا إليه إلا فى كل ستة أيام يوما وقد طلب منهم كل يوم بقسطه ليستعين به على قوته فإمتنعوا من ذلك بإقتدارهم على المال والجاه عليه فما يجب فى ذلك
فأجاب الحمد لله رب العالمين إذا طلب الشريك أن يؤجروا العين ويقسموا الأجرة على قدر حقوقهم أو يهايئوه فيقتسموا المنفعة وجب على الشركاء أن يجيبوه إلى أحد الأمرين
فإن أجابوه إلى المهايأة وطلبوا تطويل الدور الذى يأخذ فيه نصيبه وطلب هو تقصير الدور وجبت إجابته دونهم فإن المهايأة بالزمان فيها تأخير حقوق بعض الشركاء عن بعض فكلما كان الإستيفاء أقرب كان أولى لأن الأصل وجوب إستيفاء الشركاء جميعهم حقوقهم والتأخير لأجل الحاجة فكلما قل زمن التأخر كان أولى لا سيما إذا كان مع التأخير لا يمكن الشريك أن يستوفى حقه إلا بضرر مثل إعداد بهائم ليوم والإنفاق عليها فى الأسبوع فإنه لا يجب عليه موافقتهم على مافيه ضرره مع إمكان
____________________
(35/418)
التعديل بينهم بلا ضرر والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى
عن قسمة اللحم بلا ميزان وقسمة التين والعنب والرمان والبطيخ والخيار عددا
فأجاب أما قسمة اللحم بالقيمة فالصحيح أنه يجوز فإن القسمة إفراز بين الأنصباء ليست بيعا على الصحيح وهكذا كان النبى يقاسم أهل خيبر خرصا فيخرص عبد الله بن رواحة ما على النخل فيقسمه بين المسلمين واليهود ولا يجوز بيع الرطب خرصا وكذلك كان المسلمون ينحرون الجزور ويقسمونها بينهم بلا ميزان كانوا يفعلون ذلك على عهد النبى وكذلك جميع هذا الباب يجوز قسمة التين والعنب بغير كيل ولا وزن وتجوز قسمة الرمان عددا وكذلك البطيخ والخيار هذا هو الصحيح فى المعدودات كلها أنها تقسم بالقيمة وليست هذه القسمة بيعا لكن تعديل الأجزاء معتبر فيه الخبرة والمقصود أنه يجوز أن تعدل الأنصاب ب ما يمكن إما من كيل أو وزن إن أمكن وإلا بالخرص والتقويم ليس هذا مثل البيع فإن القسمة جائزة فى جميع المال
ويجوز قسمة التمر قبل بدو صلاحه والله أعلم
____________________
(35/419)
وسئل رحمه الله تعالى
هل يجوز قسمة اللحم بلا ميزان وقسمة التين والعنب والرمان والبطيخ والخيار عددا
فأجاب تجوز قسمة الأموال الرطبة كالرطب والعنب وغير ذلك فالمقصود بالقسمة أن يكون بالعدل فإذا لم يكن التعديل بالكيل والوزن كان التعديل يقوم مقام ذلك من الخرص والتقويم فى الأموال الربوية ويجوز أن يشترى الفاكهة بالحنطة والشعير يدا بيد بلا خلاف بين الفقهاء وإنما إختلفوا فى جواز بيعها نسيئة والجمهور على أنه يجوز ذلك نسيئه وهو مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد فى المشهور عنه والشافعى فى قوله القديم
وهذا مبنى على أن علة الربا هل هو التماثل والقوت والطعام مماثل الطعم فمن قال هي التماثل والقوت والتماثل مع الطعم جوز ذلك ومن قال هي الطعم وحده لم يجوز ذلك والله أعلم
____________________
(35/420)
& باب الإقرار & سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه
عن رجل أقر أن جميع الحانوت المعروفة بسكن المقر وما فيها من الأعيان وقف لله تعالى على مسجد وما يتعلق به ثم لم تتمكن البينة من وزن تلك الأعيان حتى مات الواقف وبعض البينة لا تعرف تلك الأعيان المقر بها هي هذه الأعيان الموجودة الآن فهل يسوغ له هذه الشهادة أن يشهد بها إعتمادا على إقرار المقر وبالإستفاضة من تلك العدلين
فأجاب الشاهد يشهد بما سمعه من كلام المقر والإقرار يصح بالمعلوم والمجهول والمتميز وغير المتميز وإذا قامت بينة أخرى بتعيين ما دخل فى اللفظ جاز ذلك وعمل بموجب شهادتهم كما لو أقر المقر لفلان بن فلان عندى كذا وإن دارى الفلانية أو المحدودة بكذا لفلان ثم شهد شاهدان بأن هذا المعين هو المسمى والموصوف أو المحدود فإن هذا يجوز بإتفاق الأئمة
وإنما تنازعوا فى المعرف هل يكفى أن يكون واحدا أولا بد من إثنين على قولين مشهورين لأهل العلم وهما روايتان عن الإمام أحمد و ( الثانى ( قول الشافعى وغيره والله أعلم
____________________
(35/421)
وسئل رحمه الله تعالى
عن شخصين تباريا وأشهدا على أنفسهما أن أحدهما لا يستحق على الآخر مطالبة ولا دعوى بسبب دينار ولا درهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر وكان لأحدهما على الآخر دين بمسطور شرعى بدراهم معينة فإستثناه صاحب الدين حالة الإبراء ولم يبرأ منه من المسطور المذكور ولا ذكره فى المباراة فطلب رب الدين بالمسطور فقال له خصمه أليس تبارينا فقال أبرأتك إلا من هذا المسطور فهل تسمع دعواه الشرعية بالمسطور المذكور
فأجاب إذا كان إدعى أنه لم يبرئه من ذلك الحق وإن الغريم يعلم أنه لم يبرئه منه وطلب يمينه أنه لم يبرئه منه فله ذلك
____________________
(35/422)
& وسئل رحمه الله
عن رجل مات وخلف إبن عم وزوجة طلقها فى مرض موته فمسك وكيل الزوجة إبن عم الميت وطلب منه إرث الزوجة الذى لها فأقر أنها وارثة وأنه وضع يده على ما خصه من الميراث مع علمه بالإختلاف وإبراء إبن العم الزوجة وأباها ووكيلها من كل شيء ثم بعد ذلك أحضر بينة عند حاكم شافعى شهدوا أن الميت طلقها فى مرض موته وحكم به وقال ما ترث عندى وطلب إستعادة ما أخذ منه فهل تسمع البينة مع كونه أقر أنها وارثة ومع الإبراء لهم مما قبضوه أم لا وإذا إدعى أنه كان جاهلا بما أقر به فهل يكون القول قوله فى دعوى الجهل أم لا
فأجاب ليس ما ذكر من الإقرار والأقباض وإلا براء مع علمه بالإختلاف أن يدعى بما يناقض إقراره وإبرائه ولا يسوغ الحكم له بذلك وأما الجهل بذلك مع علمه بالإختلاف فكذب والله أعلم وسئل رحمه الله
عن إمرأة كانت مزوجة برجل جندى ورزقت منه ولدين ذكر وأنثى ومات الولد الذكر وأن الزوج المذكور طلقها وأخذت البنت
____________________
(35/423)
بكفالتها من مدة تزيد عن ثمان سنين وقد حصل الآن مرض شديد وأحضر شهودا وكتب لزوجته الفى درهم وأختها مطلقة كتب لهما الصداق وكانت قد أبرأته منه وهى فى الشام من حين طلقها وكتب لأمهم خمسمائة ومنعنى حقى والبنت التي له منى حقها من الوراثة ومن حين رزقت الأولاد ما ساواهم بشيء من أمور الدنيا وقد أعطى رزقه لها
فأجاب إقراره لزوجته لا يصح لاسيما أن يجعله وصية فإن الوصية للوارث لا تلزم بدون إجازة الورثة بإتفاق المسلمين وكذلك إقراره للوارث لا يجوز عند جمهور العلماء لا سيما مع التهمة فإنه لا يجوز فى مذهب أبى حنيفة ومالك والإمام أحمد وغيرهم وكذلك إقراره بالدين الذى أبرأته صاحبته لا يجوز فإذا كانت قد أبرأته من الصداق ثم أقر لها به لم يجز هذا الإقرار لأنه قد علم أنه كذب ولو جعل ذلك تمليكا لها بدل ذلك لم يجز أيضا عند الجمهور أن يجعل ذلك التمليك دينا فى ذمته
وليس له منع البنت حقها من الإرث ولا يمنع المطلقة ما يجب لها عليه وفى الحديث ( من قطع ميراثا قطع الله ميراثه من الجنة ( وفى السنن عن النبى أنه قال ( إن الرجل ليعمل ستين سنة بطاعة الله ثم يجور فى وصيته فيختم له بسوء فيدخل النار وإن الرجل ليعمل ستين سنة بمعصية الله ثم يعدل فى وصيته فيختم له بخير فيدخل الجنة ( ثم قرأ قوله تعالى
____________________
(35/424)
{ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } والله سبحانه أعلم وسئل رحمه الله
عن رجل بينه وبين شخص شركة فقوى شريكه فمسكه وأهانه وكتب عليه حجة أن الغنم له دون الشركة
فأجاب إذا أكرهه بغير حق فأقر كان إقراره باطلا وإشهاده على الإقرار لا ينفعه بل يوجب عقوبة الظالم المعتدى الذى إعتدى على هذا المظلوم بالإكراه وتجب إعانة المظلوم ورد المال إلى مستحقه وإذا أقام بينة بأنه أكره على ذلك سمعت بينته والله أعلم وسئل رحمه الله
عن إمرأة ماتت وخلفت أولادا منهم أربعة أشقاء ذكر واحد وثلاث بنات وولد واحد أخوهم من أمهم الجملة خمسة وزوج لم يكن لها منه ولد وأنها أقرت فى مرضها المتصل بالموت لأولادها الأشقاء بأن لهم فى ذمتها ألف درهم وقصدت بذلك إحرام ولدها وزوجها من الإرث
____________________
(35/425)
الجواب إذا كانت كاذبة فى هذا الإقرار فهي عاصية لله ورسوله بإتفاق المسلمين بل هي من أهل الكبائر الداخلة فى الوعيد
فإن الجور فى الوصية من الكبائر ( ومن قطع ميراثا قطع الله ميراثه من الجنة ( وقد قال تعالى ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) وقد قال النبى ( إن العبد ليعمل ستين سنة بطاعة الله ثم يجور فى وصيته فيختم له بسوء فيدخل النار وإن العبد ليعمل ستين سنة بمعصية الله ثم يختم له بخير فيعدل فى وصيته فيدخل الجنة ثم قرأ هذه الآية { تلك حدود الله }
ومن أعانها على هذا الكذب والظلم فهو شريكها فيه من كاتب ومشير وغير ذلك فكل هؤلاء متعاونون على الإثم والعدوان ومن لقنها الإقرار الكذب من الشهود فهو فاسق مردود الشهادة
وأما إن كانت صادقة فهي محسنة فى ذلك مطيعة لله ولرسوله ومن أعانها على ذلك لأجل الله تعالى وأما فى ظاهر الحكم فأكثر العلماء لا يقبلون هذا الإقرار كأبى حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم لأن التهمة فيه ظاهرة ولأن حقوق الورثة تعلقت بمال الميت بالمرض فصار محجورا عليه فى حقهم ليس له أن يتبرع لأحدهم بالإجماع
____________________
(35/426)
ومن العلماء من يقبل الإقرار كالشافعى بناء على حسن الظن بالمسلم وأنه عند الموت لا يكذب ولا يظلم والواجب على من عرف حقيقة الأمر فى هذه القصة ونحوها أن يعاونوا على البر والتقوى لا يعاونون على الإثم والعدوان وينبغى الكشف عن مثل هذه القضية فإن وجد شواهد خلاف هذا الإقرار عمل به وإن ظهر شواهد كذبه أبطل فشواهد الصدق مثل أن يعرف أنه كان لأب هؤلاء الأربعة مال نحو هذا المقر به وشواهد الكذب بينات يعلم من بعضها أنها تريد حرمان إبنها وزوجها من الميراث فإن ظهر شواهد أحد الجانبين ترجح ذلك الجانب والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل مات وخلف رجلين وإمرأة فعوضا المرأة ما يخصها من ميراث والدها وأبرأت إخوتها البراءة الشرعية بالعدول عن ما بقى بأيديهم من مدة تزيد على ستين سنة وهى مقيمة معهم بالناحية ولم يكن لها معهم تعلق بطول هذه المدة فلما توفي أخوتها وتحققت المرأة موت العدول أنكرت المشهود عليها وإدعت على وارث إخوتها ما يخصها من ميراث والدها باق مع إخوتها وأثبت لها الحاكم ما إدعته وقامت البينة عليها بالبراءة بطريقها فهل يندفع ما أثبت لها الحاكم فأجاب الحمد لله إذا قامت بينة شرعية على إقرارها
____________________
(35/427)
بالقبض والإبراء الشرعى كانت دعوى ورثتها باطلة ولو أقاموا بينة وأثبتوا ذلك عند الحاكم كانت بينة الإقرار بالقبض والإبراء مقدمة لأن معها مزيد علم اللهم إلا أن تدعى أنها أقرت مكرهة أو حياء أو أقرت قبل القبض ولم يوجد المقربة فلها تحليف المدعي عليه أن باطن الإقرار كظاهره أو أنهم لا يعلمون بذلك الإقرار
وإذا كان شهود الإبراء قد ماتوا وخطوطهم معروفة شهد بذلك من يعرف خطوطهم وحكم به من يرى من العلماء مع أن دعواها بحقها بعد هذه المدة الطويلة من غير مانع يعوق لا يقبل فى أحد قولى العلماء فى مذهب مالك وغيره والله أعلم
وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه
عن رجل له إبنتان إحداهما مزوجة والأخرى عزباء وكان كتب للمتزوجة ثلاث آلاف درهم والعزباء سبعة آلاف درهم وقد توفيت المزوجة وخلفت ولدا ذكرا وزوجا وقد طلب الولد والزوج المكتوب من والدها فهل يرثون ذلك ويجوز لهم مطالبة الولد والوالد يدعى فى ذلك الوقت ما كان له ولد ذكر وكتب هذا المكتوب خشية أن تدخل يد الغير فى موجده والولد يعيش
____________________
(35/428)
فأجاب إذا أقر لهذه ولهذه بمال فى ذمته ولم يكن لهما قبل ذلك فى ذمته مال لم يصرلها عليه بهذا الإقرار شيء وكان هذا الإقرار كذبا باطلا ولو جعل لها فى ذمته عطية لها بعد ذلك لم يكن أمرا واجبا بل ينهى عن التفضيل بين الأولاد وينبغى أن يعدل بينهم بإتفاق المسلمين وإن كان قد تقدم ما ذكر من الإقرار والعدل بينهم واجب فى أصح قولى العلماء ولا يستحق ورثة المرأة من ذلك شيئا
وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل أعتق أمة ثم تزوجها ثم ملكها فى صحة من عقله وجواز أمره وسلامة أن جميع ما حوى مسكنهم الذى هم فيه من نحاس وقماش وصناديق ومصاغ وفرش وغير ذلك مما هو خارج عن لبسه ودوابه وعدة خيله ملك لزوجته المذكورة لا حق له فى ذلك ولا شيء منه وإن يدها على جميع ذلك متصرفة لا يد له فى ذلك ثم أقر لها بذلك وكتب كتاب إقرار شرعى على هذه الصورة هل يحتاج إلى تفصيل أم لا
فأجاب شيخنا وسيدنا تقى الدين أبو العباس الحمد لله إذا أقر أن جميع ما فى بيته ملك لزوجته إلا السلاح والدواب وآلة الخيل كان هذا إقرارا صحيحا يعمل بموجبه بلا خلاف وإذا كان مستنده فى هذا الإقرار أنه ملك لزوجته تملكا شرعيا لازما كان الإقرار صحيحا باطنا وظاهرا والله أعلم
____________________
(35/429)
وسئل رحمه الله
عن رجل أقر لرجل بمسطور بدراهم ثم بعد مدة حضر المقر له إلى عند شهود المسطور وقال إن هذا الإقرار الذى أقر به فاسد وأنا مالى عنده إلا ذهب لبنتى فهل يكون هذا الإقرار باطلا وهل يجوز للشاهد أن يشهد بالمسطور بعد سماعه من رب الدين ما ذكر
فأجاب أما الشاهد فإنه يشهد بما سمع من المقر وليس عليه غير ذلك سواء صدقه المقر له أو كذبه ولكن المقر له إذا قال ذلك فإن فسر كلامه بما يمكن فى العادة مثل أن يقول كان لى عنده ذهب فاتفقنا على أن يقر بدله بفضة وصدقه المقر عمل بموجب ذلك وإن كذبه المقر حلف المقر على نفى ما ادعاه المقر له والله أعلم
____________________
(35/430)
وسئل قدس الله روحه ورضى عنه
عن رجل صانع عمل عند معلم صنعة مدة سنين وخرج من عنده قال له حاسبنى قام المعلم ضربه وكتب عليه حجة وأخافه بالولاية فهل له فى المسطور حق
فأجاب إذا كتب عليه حجة أقر بها وهو مكره بغير حق لم يصح إقراره ولا يجوز إلزامه بما فيها وعلى معلمه أن يحاسبه والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(35/431)