فأجاب ثبت في سنة رسول الله أنه ( لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ولعن الله المحلل والمحلل له ) قال الترمذي حديث صحيح وثبت إجماع الصحابة على ذلك كعمر وعثمان وعلي وبن مسعود وبن عباس وغيرهم حتى قال عمر لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وقال عثمان لا نكاح إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة وسئل بن عباس عن من طلق إمرأته مائة طلقة فقال بانت منه بثلاث وسائرها اتخذ بها آيات الله هزوا فقال له السائل أرأيت إن تزوجتها وهو لا يعلم لأحلها ثم أطلقها فقال له بن عباس من يخادع الله يخدعه وسئل عن ذلك فقال لا يزالان زانين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله من قلبه أنه يريد أن يحلها له وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة في كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل وهذا لعمري إذا كان المحلل كبيرا يطأها ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته فأما العبد الذي لا وطىء فيه أو فيه ولا يعد وطؤه وطأ كمن لا ينتشر ذكره فهذا لا نزاع بين الأئمة في أن هذا لا يحلها ونكاح المحلل مما يعير به النصارى المسلمين حتى يقولون إن المسلمين قال لهم نبيهم إذا طلق أحدكم إمرأته لم تحل له حتى تزني ونبينا بريء من ذلك هو وأصحابه والتابعون لهم بإحسان وجمهور أئمة المسلمين والله أعلم
____________________
(32/156)
& باب الشروط في النكاح & قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما فصل الشروط الفاسدة في النكاح كثيرة كنكاح الشغار والمحلل والمتعة ومثل أن يتزوجها على أن لا مهر لها أو على مهر محرم ونحو ذلك من الشروط الفاسدة وللعلماء فيها أقوال أحدها أنه لا يصح النكاح ثم هل يصح إذا إمضاء الشرط الفاسد بعد ذلك فيه نزاع وهذا أحد القولين في مذهب مالك وأحمد وهو اختيار طائفة من أئمة أصحابه كأبي بكر الخلال وأبي بكر عبد العزيز
____________________
(32/157)
والثاني يصح النكاح ويبطل الشرط وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه في الجميع وخرج ذلك طائفة من أصحاب أحمد كأبي الخطاب وبن عقيل وغيرهما قولا في مذهبه حتى في النكاح الباطل فإن أبا حنيفة وصاحبيه يقولون ببطلانه وزفر يصحح العقد ويلغي الأصل وقد خرج كلاهما قولا في مذهب أحمد وهذا التخريج من نصه في قوله إن جئتني بالمهر إلى وقت كذا وإلا فلا نكاح بيننا فإنه حكي عنه فيه ثلاث روايات رواية بصحتهما ورواية بفسادهما ورواية بصحة العقد دون الشرط وكذلك فيما إذا تزوجها على أن ترد إليه المهر فقد نص على صحة العقد وبطلان الشرط والقول الثالث في الشروط الفاسدة أنه يبطل نكاح الشغار والمتعة ونكاح التحليل المشروط في العقد ويصح النكاح مع المهر المحرم ومع نفي المهر وهذا مذهب الشافعي وهو الرواية الثانية عن أحمد اختارها كثير من أصحابه كالحربي والقاضي أبي يعلى وأتباعه وهؤلاء يفرقون بين ما صححوه من عقود النكاح مع الشرط الفاسد وما أبطلوه بأن الشرط إذا انتفى وقع النكاح وإلا كان باطلا كنكاح المتعة وكذلك نكاح التحليل إذا قدره بالفعل مثل أن يقول زوجتكها إلى أن تحلها وأما إذا قال على أنك إذا أحللتها فلا نكاح بينكما أو على أنك تطلقها إذا أحللتها فهذا فيه نزاع في مذهب الشافعي وأبو يوسف يوافق الشافعي على قوله ببطلانه
____________________
(32/158)
وأما نكاح الشغار فلهم في علة إبطاله أقوال هل العلة التشريك في البضع أو تعليق أحد النكاحين على الآخر أو كون أحد العقدين سلفا من الآخر إلى غير ذلك مما ذكر بأقلامهم في غير هذا الموضع وأما النكاح بالمهر الفاسد وشرط نفي المهر فصححوه موافقة لأبي حنيفة بناء على أن النكاح يصح بدون تسمية المهر فيصح مع نفي المهر وهؤلاء جعلوا نكاح المتعة أصلا لما يبطلونه من الأنكحة ونكاح المفوضة أصلا لما يصححونه ونكاح الشغار جعلوه نوعا آخر وهذا أصل قول أبي حنيفة في الشروط الفاسدة في النكاح والفرق بينها وبين الشروط الفاسدة في البيع والإجارة فإنه قال إنه لا يصح مع عدم تسمية العوض فلا يصح مع الجهل به ولا مع الشروط الفاسدة لأن ذلك يتضمن الجهل بالعوض لأنه يجب إسقاط الشرط الفاسد وإسقاط ما يقابله من الثمن فيكون باقي الثمن مجهولا وقد احتج الأكثرون على هؤلاء بالنصوص الثابتة عن النبي بنهيه عن نكاح الشغار وعن نكاح التحليل كنهيه عن نكاح المتعة والنهي عن النكاح يقتضي فساده كنهيه عن النكاح في العدة والنكاح بلا ولي ولا شهود وبأن الصحابة أبطلوا هذه العقود ففرقوا بين الزوجين في نكاح الشغار وجعلوا نكاح التحليل سفاحا وتوعدوا المحلل بالرجم ومنعوا من غير نكاح الرغبة كما ذكرنا الآثار الكثيرة عنهم بذلك في كتاب إبطال التحليل فتبين بالنصوص وإجماع الصحابة فساد هذه الأنكحة
____________________
(32/159)
ولأن النكاح إذا قيل بصحته ولزومه فأما أن يقال بذلك مع الشرط المحرم الفاسد وهذا خلاف النص والإجماع وإما أن يقال به مع إبطال الشرط فيكون ذلك إلزاما للعاقد بعقد لم يرض به ولا ألزمه الله به ومعلوم أن موجب العقد إما أن يلزم بإلزام الشارع أو إلزام العاقد فالأول كالعقود التي ألزمه الشارع بها كما ألزم الشارع الكافر الحربي بالإسلام وكما ألزم من عليه يمين واجبة حنث فيها بواحدة بالإعتاق والصوم وكما ألزم من احتاج إلى سوى ذلك بالبيع والشراء في صور متعددة والثاني المقابلة وكما يلزم الضامن دين المدين مع بقائه في ذمته وكما يلتزم كل من المتبايعين والمتصالحين والمتآجرين بما يلتزمه للآخر وإذا كان كذلك فالنكاح المشروط فيه شرطا فاسدا لم يلزم الشارع صاحبه أن يعقده بدون ذلك الشرط ولا هو التزم أن يعقده مجردا عن الشرط فإلزامه بما لم يلتزمه هو ولا ألزمه به الشارع إلزام للناس بما لم يلزمهم الله به ولا رسوله وذلك لا يجوز ولأن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع بدليل قوله في الحديث الصحيح ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) ثم البيع لا يجوز إلا بالتراضي لقوله تعالى { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فالنكاح لا يجوز إلا بالتراضي بطريق الأولى والأحرى والعقد الفاسد لم يرض به العاقد إلا على تلك الصفة
____________________
(32/160)
فإلزامه بدون تلك الصفة إلزام بعقد لم يرض به وهو خلاف النصوص والأصول ولهذا لم يجوز أن يلزم في البيع بما لم يرض به ولهذا قال أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وغيره إذا صححنا البيع دون الشرط الفاسد على إحدى الروايتين عنه فلمشترط الشرط إذا لم يعلم تحريمه الفسخ أو المطالبة بأرش فواته كما قالوا مثل ذلك في الشرط الصحيح اذا لم يوف به لكن الشرط الصحيح يلزم الوفاء به كالعقد الصحيح وإذا لم يوف به فله الفسخ مطلقا لأنه لم يرض بدونه وأما الشرط الفاسد فلا يلزم الوفاء به كما لا يلزم الوفاء بالعقد الفاسد لكن له أيضا العقد بدونه وله فسخ العقد كما لو اشترط صفة في البيع فلم يكن على تلك الصفة وكما لو ظهر بالبيع عيب فأحمد رضي الله عنه يقول في البيع مع الشرط الفاسد إنه يصح البيع في إحدى الروايتين بل في انصهما عنه لأن فوات الشرط والصفة لا يبطل البيع والمشترط ينجبر ضرره بتخليته من الفسخ كما في فوات الصفات المشروطة ومن العيوب وأما النكاح فالشروط فيه ألزم وإذا شرط صفة في أحد الزوجين كالشرط الأوفى في إحدى الروايتين وهو أحد الوجهين لمالك والشافعي ملك الفسخ لفواتها وكذلك له الفسخ عنده بالعيوب المانعة من مقصود النكاح ويملك الفسخ وأما التحليل فهو غير مقصود والمقصود في العقود عنده معتبر والمتعة نكاح إلى أجل والنكاح لا يتأجل
____________________
(32/161)
والشغار علله هو وكثير من أصحابه كالخلال وأبي بكر عبد العزيز بنفي المهر وكونه جعل أحد البضعين مهرا للآخر وهذا تعليل أصحاب مالك وعلله كثير من أصحابه بتعليل أصحابه الشافعي يبقى أن يقال فكان ينبغي مع الشرط الفاسد أن يخير العاقد بين التزام العقد بدونه وبين فسخه كما في الشروط الفاسدة في البيع قيل إن قلنا إن النكاح لا ينعقد إلا بصيغة الإنكاح والتزويج لأن ذلك هو الصريح فيه وهو لا ينعقد بالكناية كما يقوله أبو حامد والقاضي أبو يعلى وأتباعهما من أصحاب أحمد موافقة لأصحاب الشافعي وقلنا إن البيع يصح فيه شرط الخيار دون النكاح ظهر الفرق لأن البيع يمكن عقده جائزا بخلاف النكاح والمصححون لنكاح التحليل والشغار ونحوهما قد يقولون مانهى عنه النبي لم نصححه فإنا لا نصححه مع كونه شغارا وتحليلا ومتعة ولكن نبطل شرط أصل العقد في المهر ونبطل شرط التحليل كذلك شرط التأجيل عند من يقول بذلك ويبقى العقد لازما ليس فيه شغار ولاتحليل ولهذا قال أصحاب أبي حنيفة في أحد القولين إنه يصح نكاح التحليل ولاتحل به للمطلق ثلاثا عملا بقوله ( لعن الله المحلل والمحلل له ( فإنهم إنما يصححونه مع إبطال شرط التحليل فيكون نكاحا لازما ولايحلونها
____________________
(32/162)
للأول لأنه إذا أحلت للأول قصد بذلك تحليلها للأول فإذا لم تحل به للأول لم يقصد به التحليل للأول فلا يكون نكاح تحليل وعلى هذا القول لا ينكح أحد المرأة الإنكاح رغبة لانكاح تحليل ولو نكحها بنية التحليل أو شرطه ثم قصد الرغبة هي وهو وأسقطها شرط التحليل فهل يحتاج إلى إستئناف عقد أم يكفى استصحاب العقد الأول فيه نزاع وهو يشبه إسقاط الشرط الفاسد في البيع هل يصح معه أم لا وهو قصد ومثله إذا عقد العقد بدون إذن من اشترط إذنه هل يقع باطلا وموقوفا على الاجازه فيه قولان مشهوران وهما قولان في مذهب أحمد ( أحدهما ( أنه يقع باطلا ولايوقف كقول الشافعي ( الثاني ( أنه يقف على الاجازة كقول أبي حنيفة ومالك فإذا عقد العقد بنية فاسدة أو شرط فاسد فقد يقول إنه على القولين في الوقف فمن قال بالوقف وقفه على إزاله المفسد ومن لافلا فزوال المانع كوجود المقتضى وإذا كان موقوفا على حصول بعض شروطه فهو كالوقف على زوال بعض موانعه إذ جعلتموه زوجا مطلقا يلزمها نكاحه فقد ألزمتموها بنكاح لم ترض به وهذا خلاف الاصول والنصوص [ وأصح ] الأقوال في هذا الباب أن الأمر إليها فإن رضيت بدون ذلك الشرط كان زوجا ولايحتاج إلى استئناف عقد وان لم ترض به لم يكن زوجا كالنكاح الموقوف على اجازتها وكذلك في النكاح
____________________
(32/163)
على مهر لم يسلم لها لتحريمه أو استحقاقه فان شاءت أن ترضى به زوجا بمهر آخر كان ذلك وإن شاءت أن تفارقه فلها ذلك وليس قبل رضاها نكاح لازم وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بامرأة فشرط عليه عند النكاح أنه لايتزوج عليها ولا ينقلها من منزلها وكانت لها ابنه فشرط عليه أن تكون عند أمها وعنده ماتزال فدخل على ذلك كله فهل يلزمه الوفاء وإذا أخلف هذا الشرط فهل للزوجة الفسح أم لا (
فأجاب ( الحمد لله نعم تصح هذه الشروط ومافي معناها في مذهب الإمام أحمد وغيره من الصحابة والتابعين وتابعيهم كعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص رضى الله عنهما وشريح القاضي والأوزاعي وإسحاق ولهذا يوجد في هذا الوقت صداقات أهل المغرب القديمة لما كانوا على مذهب الأوزاعي فيها هذه الشروط ومذهب مالك إذا شرط أنه إذا تزوج عليها أو تسرى أن يكون أمرها بيدها ونحوذلك صح هذا الشرط أيضا وملكت الفرقة به وهو في المعنى نحو مذهب أحمد في ذلك لما آخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ( ان أحق الشروط أن توفوا به مااستحللتم به الفروج ( وقال عمر بن الخطاب مقاطع الحقوق عند الشروط
____________________
(32/164)
فجعل النبي ما يستحل به الفروج من الشروط أحق بالوفاء من غيره وهذا نص في مثل هذه الشروط إذ ليس هناك شرط يوفي به بالأجماع غير الصداق والكلام فتعين أن تكون هي هذه الشروط وأما شرط مقام ولدها عندها ونفقته عليه فهذا مثل الزيادة في الصداق والصداق يحتمل من الجهالة فيه في المنصوص عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة ومالك مالايحتمل في الثمن والأجرة وكل جهالة تنقص على جهالة مهر المثل تكون أحق بالجواز لاسيما مثل هذا يجوز في الإجارة ونحوها في مذهب أحمد وغيرة ان استأجر الأجير بطعامه وكسوته ويرجع في ذلك إلى العرف فكذلك إشتراط النفقة على ولدها يرجع فيه إلى العرف بطريق الأولى ومتى لم يوف لها بهذه الشروط فتزوج وتسرى فلها فسخ النكاح لكن في توقف ذلك على الحاكم نزاع لكونه خيارا مجتهدا فيه كخيار العنة والعيوب إذ فيه خلاف أو يقال لايحتاج إلى اجتهاد في ثبوته وان وقع نزاع في الفسخ به كخيار المعتقة يثبت في مواضع الخلاف عند القائلين به بلاحكم حاكم مثل أن يفسخ على التراخي وأصل ذلك أن توقف الفسخ على الحكم هل هو الاجتهاد في ثبوت الحكم ايضا اوان الفرقة يحتاط لها والأقوى أن الفسخ المختلف فيه كالعنة لايفتقر إلى حكم حاكم لكن إذا رفع إلى حاكم يرى فيه امضاءه أمضاه وان رأى ابطاله أبطله والله أعلم
____________________
(32/165)
وسئل رحمه الله عمن شرط انه لايتزوج على الزوجة ولا يتسرى ولايخرجها من دارها أو من بلدها فإذا شرطت على الزوج قبل العقد واتفقا عليها وخلا العقد عن ذكرها هل تكون صحيحة لازمة يجب العمل بها كالمقارنة أو لا
فأجاب الحمد لله نعم تكون صحيحة لازمة إذا لم يبطلاها حتى لو قارنت عقد العقد هذا ظاهر مذهب الإمام أبي حنيفة والامام مالك وغيرهما في جميع العقود وهو وجه في مذهب الشافعي يخرج من مسألة ( صداق السر والعلانية ( وهكذا يطرده مالك وأحمد في العبادات فإن النية المتقدمة عندهما كالمقارنة وفي مذهب أحمد قول ثان أن الشروط المتقدمة لاتؤثر وفيه قول ثالث وهو الفرق بين الشرط الذي يجعل غير مقصود كالتوطئ على ان البيع تلجئة لا حقيقة له وبين الشرط الذي لايخرجه عن أن يكون مقصودا كا شتراط الخيار ونحوه وأما عامة نصوص أحمد وقدماء أصحابه ومحققى المتأخرين على أن الشروط والمواطأة التي تجرى بين المتعاقدين قبل العقد إذا لم يفسخاها حتى عقدا العقد فإن العقد يقع
____________________
(32/166)
مقيدا بها وعلى هذا جواب أحمد في مسائل الحيل في البيع والإجارة والرهن والقرض وغير ذلك وهذا كثير موجود في كلامه وكلام أصحابه تضيق الفتوى عن تعديد أعيان المسائل وكثير منها مشهور عند من له أدنى خبرة بأصول أحمد ونصوصه لايخفي عليه ذلك وقد قررنا دلائل ذلك من الكتاب والسنة واجماع السلف وأصول الشريعة في ( مسألة التحليل ( ومن تأمل العقود التي كانت تجرى بين النبي وغيره مثل عقد البيعة التى كانت بينه وبين الأنصار ليلة العقبة وعقد الهدنة الذي كان بينه وبين قريش عام الحديبية وغير ذلك علم أنهم اتفقوا على الشروط ثم عقدوا العقد بلفظ مطلق وكذلك عامة نصوص الكتاب والسنة في الأمر بالوفاء بالعقود والعهود والشروط والنهي عن الغدر والثلاث تتناول ذلك تناولا واحدا فإن أهل اللغة والعرف متفقون على التسمية والمعاني الشرعية توافق ذلك وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل تزوج بنتا عمرها عشرسنين واشترط عليه أهلها أنه يسكن عندهم ولاينقلها عنهم ولايدخل عليها الأبعد سنة فأخذها إليه واختلف ذلك ودخل عليها وذكر الدايات أنه نقلها ثم
____________________
(32/167)
سكن بها في مكان يضربها فيه الضرب المبرح ثم بعد ذلك سافر بها ثم حضر بها ومنع أن يدخل أهلها عليها مع مداومته على ضربها فهل يحل أن تدوم معه على هذا الحال
فأجاب إذا كان الأمر على ماذكر فلا يحل إقرارها معه على هذه الحالة بل إذا تعذر أن يعاشرها بالمعروف فرق بينهما وليس له أن يطأها وطأ يضربها بل إذا لم يمتنع من العدوان عليها فرق بينهما والله أعلم وسئل رحمة الله عن رجل شرط على امرأته با لشهود أن لايسكنها في منزل أبيه فكانت مدة السكنى منفردة وهو عاجز عن ذلك فهل يجب عليه ذلك وهل لها أن تفسخ النكاح إذا أراد إبطال الشرط وهل يجب عليه أن يمكن أمها أو أختها من الدخول عليها والمبيت عندها أم لا
فأجاب لا يجب عليه ما هو عاجز عنه لاسيما إذا شرطت الرضى بذلك بل إذا كان قادرا على مسكن آخر لم يكن لها عند كثير من أهل العلم كمالك وأحد القولين في مذهب أحمد وغيرهما غير ماشرط لها فكيف إذا كان عاجزا وليس لها أن تفسخ النكاح عند هؤلاء وإن كان قادرا فأما إذا كان ذلك للسكن ويصلح لسكنى الفقير وهو عاجز عن غيره فليس لها أن تفسخ بلانزاع بين الفقهاء وليس عليه أن يمكن من الدخول إلى منزله لاأمها ولاأختها إذا كان معاشرا لها با لمعروف والله أعلم
____________________
(32/168)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل تزوج وشرطوا عليه في العقد أن كل إمرأة يتزوج بها تكون طالقا وكل جارية يتسرى بها تعتق عليه ثم إنه تزوج وتسرى فما الحكم في المذاهب الأربعة
فأجاب هذا الشرط غير لازم في مذهب الإمام الشافعي ولازم له في مذهب أبي حنيفة متى تزوج وقع به الطلاق ومتى تسرى عتقت عليه الأمة وكذلك مذهب مالك وأما مذهب أحمد فلا يقع به الطلاق ولا العتاق لكن إذا تزوج وتسرى كان الأمر بيدها إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته لقوله صلى الله عليه وسلم ( إن أحق الشروط أن يوفي به ما استحللتم به الفروج ) ولأن رجلا تزوج إمرأة بشرط أن لا يتزوج عليها فرفع ذلك إلى عمر فقال مقاطع الحقوق عند الشروط فالأقوال في هذه المسألة ثلاثة أحدها يقع به الطلاق والعتاق والثاني لا يقع به ولا تملك إمرأته فراقه والثالث وهو أعدل الأقوال أنه لا يقع به طلاق ولا عتاق لكن لإمرأته ما شرط لها فإن شاءت أن أن تقيم معه وإن شاءت أن تفارقه وهذا أوسط الأقوال
____________________
(32/169)
وسئل الشيخ رحمه الله عن رجل حلف بالطلاق أنه ما يتزوج فلانة ثم بداله أن ينكحها فهل له ذلك وفي رجل تزوج إمرأة وشرط في العقد أنه لا يتزوج عليها ثم تزوج فهل يثبت لها الخيار أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين له أن يتزوجها ولا يقع بها الطلاق إذا تزوجها عند جمهور السلف وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وإذا شرط في العقد أنه لا يتزوج عليها وإن تزوج عليها كان أمرها بيدها كان هذا الشرط صحيحا لازما في مذهب مالك وأحمد وغيرهما ومتى تزوج عليها فأمرها بيدها إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت والله أعلم
____________________
(32/170)
& باب العيوب في النكاح & وسئل رحمه الله عن إمرأة تزوجت برجل فلما دخل رأت بجسمه برصا فهل لها أن تفسخ عليه النكاح
فأجاب إذا ظهر بأحد الزوجين جنون أو جذام أو برص فللآخر فسخ النكاح لكن إذا رضي بعد ظهور العيب فلا فسخ له وإذا فسخت فليس لها أن تأخذ شيئا من جهازها وإن فسخت قبل الدخول سقط مهرها وإن فسخت بعده لم يسقط وسئل رحمه الله عن رجل متزوج بإمرأة فظهر مجذوما فهل لها فسخ النكاح
فأجاب الحمد لله إذا ظهر أن الزوج مجذوم فللمرأة فسخ النكاح بغير اختيار الزوج والله أعلم
____________________
(32/171)
وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بكرا فوجدها مستحاضة لا ينقطع دمها من بيت أمها وأنهم غروة فهل له فسخ النكاح ويرجع على من غرة بالصداق وهل يجب على أمها وابيها يمين إذا أنكروا أم لا وهل يكون له وطؤها أم لا
فأجاب هذا عيب يثبت به فسخ النكاح في أظهر الوجهين في مذهب أحمد وغيره لوجهين أحدهما أن هذا مما لا يمكن الوطء معه إلا بضرر يخافه وأذى يحصل له والثاني أن وطء المستحاضة عند أحمد في المشهور عنه لا يجوز إلا لضرورة وما يمنع الوطء حسا كاستداد الفرج أو طبعا كالجنون والجذام يثبت الفسخ عند مالك والشافعي وأحمد كما جاء عن عمر وأما ما يمنع كمال الوطأ كالنجاسة في الفرج ففيه نزاع مشهور والمستحاضة أشد من غيرها وإذا فسخ قبل الدخول فلا مهر عليه وإن فسخ بعده قيل إن الصداق يستقر بمثل هذه الخلوة وإن كان قد وطأها فإنه يرجع بالمهر على من غره وقيل لا يستقر فلا شيء عليه وله أن يحلف من ادعى الغرور عليه أنه لم يغره ووطؤ المستحاضة فيه نزاع مشهور وقيل يجوز وطؤها كقول
____________________
(32/172)
الشافعي وغيره وقيل لا يجوز إلا الضرورة وهو مذهب أحمد في المشهور عنه وله الخيار ما لم يصدر عنه ما يدل على الرضا بقول أو فعل فإن وطأها بعد ذلك فلا خيار له إلا أن يدعى الجهل فهل له الخيار فيه نزاع مشهور والأظهر ثبوت الفسخ والله أعلم وسئل رحمه الله عن رجل تزوج إمرأة على أنها بكر فبانت ثيبا فهل له فسخ النكاح ويرجع على من غره أم لا
فأجاب له فسخ النكاح وله أن يطالب بأرش الصداق وهو تفاوت ما بين مهر البكر والثيب فينقص بنسبته من المسمى وإذا فسخ قبل الدخول سقط المهر والله أعلم
____________________
(32/173)
& باب نكاح الكفار & وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم ( ولدت من نكاح لا من سفاح ) ما معناه
فأجاب الحمد لله الحديث معروف من مراسيل علي بن الحسين رضي الله عنهما وغيره ولفظه ( ولدت من نكاح لا من سفاح لم يصبني من نكاح الجاهلية شيء ) فكانت مناكحهم في الجاهلية على أنحاء متعددة وسئل رحمه الله عن النكاح قبل بعثة الرسل أهو صحيح أم لا
فأجاب كانت مناكحهم في الجاهلية على أنحاء متعددة منها نكاح الناس اليوم وذلك النكاح في الجاهلية صحيح عند جمهور العلماء وكذلك سائر مناكح أهل الشرك التي لا تحرم في الإسلام ويلحقها أحكام النكاح الصحيح من الإرث والايلاء واللعان والظهار وغير ذلك وحكي عن مالك أنه قال نكاح أهل الشرك ليس بصحيح ومعنى هذا عنده أنه لو طلق
____________________
(32/174)
الكافر ثلاثا لم يقع به طلاق ولو طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فتزوجها ذمي ووطئها لم يحلها عنده ولو وطىء ذمي ذمية بنكاح لم يصر بذلك محصنا وأكثر العلماء يخالفونه في هذا وأما كونه صحيحا في لحوق النسب وثبوت الفراش فلا خلاف فيه بين المسلمين فليس هو بمنزلة وطء الشبهة بل لو أسلم الزوجان الكافران أقرا على نكاحهما بالإجماع وإن كانا لا يقران على وطء شبهة وقد أحتج الناس بهذا الحديث على أن نكاح الجاهلية نكاح صحيح واحتجوا بقوله { وامرأته حمالة الحطب } وقوله { امرأة فرعون } وقالوا قد سماها الله إمرأة والأصل في الأطلاق الحقيقة والله أعلم وقال رحمه الله تعالى في صحيح البخاري قال قال عطاء عن بن عباس كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه فإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران ولهما ما للمهاجرين ثم ذكر في أهل العهد مثل حديث مجاهد وإن هاجر عبد أو أمة للمشركين أهل العهد لم ترد وردت أثمانهم وقال عطاء عن بن عباس كانت قريبه بنت أبي أمية عند عمر بن الخطاب وطلقها فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وكانت أم الحكم ابنة أبي سفيان تحت عياض بن غنيم الفهري فطلقها فتزوجها عبد الله بن عثمان
____________________
(32/175)
ثم ذكر في باب بعده وقال بن جريج قلت لعطاء إمرأة من المشركين جاءت إلى المسلمين أيعاض زوجها منها لقوله تعالى { وآتوهم ما أنفقوا } قال لا إنما كان ذلك بين النبي وبين أهل العهد قال مجاهد هذا كله في صلح بين النبي وبين قريش قلت حديث بن عباس فيه فصول أحدها أن المهاجرة من أهل الحرب ليس عليها عدة إنما عليها استبراء بحيضة وهذا أحد قولي العلماء في هذه المسألة لأن العدة فيها حق للزوج كما قال الله تعالى { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } ولهذا قلنا لا تتداخل وهذه ملكت نفسها بالإسلام والهجرة كما يملك العبد نفسه بالإسلام والهجرة فلم يكن للزوج عليها حق لكن الإستبراء فيها كالأمة المعتقة وقد يقوى هذا قول من يقول المختلعة يكفيها حيضة لأن كلاهما متخلصة الثاني أن زوجها إذا هاجر قبل النكاح ردت إليه وإن كانت قد حاضت ومع هذا فقد روى البخاري بعد هذا عن خالد عن عكرمة عن بن عباس إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه وما ذكره بن عباس في المهاجرة يوافق المشهور من أن زينب بنت رسول الله ردت على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول وقد كتبت في الفقه في هذا آثارا ونصوصا عن الإمام أحمد وغيره
____________________
(32/176)
الثالث قوله إن المهاجر من عبيدهم يكون حرا له ما للمهاجرين كما في قصة أبي بكرة ومن هاجر معه من عبيد أهل الطائف وهذا لا ريب فيه فإنه بالإسلام والهجرة ملك نفسه لأن مال أهل الحرب مال إباحة فمن غلب على شيء ملكه فإذا غلب على نفسه فهو أولى أن يملكها والإسلام يعصم ذلك الرابع أن المهاجر من رقيق المعاهدين يرد عليهم ثمنه دون عينه لأن مالهم معصوم فهو كما لو أسلم عبد الذمي يؤمر بإزالة ملكه عنه ببيع أو هبة أو عتق فإن فعل وإلا بيع عليه ولا يرد عينه عليهم لأنهم يسترقون المسلم وذلك لا يجوز بخلاف رد الحر إليهم فإنهم لا يسترقونه ولهذا لما شرط النبي رد النساء مع الرجال فسخ الله ذلك وأمره أن لا يرد النساء المسلمات فقال { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } لأنه يستباح في دار الكفر من المرأة المسلمة ما لا يستباح من الرجل لأن المرأة الأسيرة كالرجل الأسير وأمره بردالمهر عوضا
____________________
(32/177)
وسئل رحمه الله تعالى عن قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات } وقد أباح العلماء التزويج بالنصرانية واليهودية فهل هما من المشركين أم لا
فأجاب الحمد لله نكاح الكتابية جائز بالآية التي في المائدة قال تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وهذا مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم وقد روي عن بن عمر أنه كره نكاح النصرانية وقال لا أعلم شركا أعظم ممن تقول إن ربها عيسى بن مريم وهو اليوم مذهب طائفة من أهل البدع وقد احتجوا بالآية التي في سورة البقرة وبقوله { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } والجواب عن آية البقرة من ثلاثة أوجه أحدها أن أهل الكتاب لم يدخلوا في المشركين فجعل أهل الكتاب غير مشركين بدليل قوله { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا }
____________________
(32/178)
فإن قيل فقد وصفهم بالشرك بقوله { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } قيل إن أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك فإن الله إنما بعث الرسل بالتوحيد فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن في أصل دينهم شرك ولكن النصارى ابتدعوا الشرك كما قال { سبحانه وتعالى عما يشركون } فحيث وصفهم بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر الله به وجب تميزهم عن المشركين لأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد لا بالشرك فإذا قيل أهل الكتاب لم يكونوا من هذه الجهة مشركين فإن الكتاب الذي أضيفوا إليه لا شرك فيه كما إذا قيل المسلمون وأمة محمد لم يكن فيهم من هذه الجهة لا اتحاد ولا رفض ولا تكذيب بالقدر ولا غير ذلك من البدع وإن كان بعض الداخلين في الأمة قد ابتدع هذه البدع لكن أمة محمد لا تجتمع على ضلالة فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد بخلاف أهل الكتاب ولم يخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالاسم بل قال { عما يشركون } بالفعل وآية البقرة قال فيها { المشركين } و { المشركات } بالاسم والاسم أوكد من الفعل
____________________
(32/179)
الوجه الثاني أن يقال إن شملهم لفظ المشركين من سورة البقرة كما وصفهم بالشرك فهذا متوجه بأن يفرق بين دلالة اللفظ مفردا ومقرونا فإذا أفردوا دخل فيهم أهل الكتاب وإذا أقرنوا مع أهل الكتاب لم يدخلوا فيهم كما قيل مثل هذا في اسم الفقير والمسكين ونحو ذلك فعلى هذا يقال آية البقرة عامة وتلك خاصة والخاص يقدم على العام الوجه الثالث أن يقال آية المائدة ناسخة لآية البقرة لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء وقد جاء في الحديث ( المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ) والآية المتأخره تنسخ الآية المتقدمة إذا تعارضتا وأما قوله { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } فإنها نزلت بعد صلح الحديبية لما هاجر من مكة إلى المدينة وأنزل الله سورة الممتحنة وأمر بامتحان المهاجرين وهو خطاب لمن كان في عصمته كافرة واللام لتعريق العهد والكوافر المعهودات هن المشركات مع أن الكفار قد يميزوا من أهل الكتاب أيضا في بعض المواضع كقوله { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } فإن أصل دينهم هو الإيمان ولكن هم
____________________
(32/180)
كفروا مبتدعين الكفر كما قال تعالى { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } وسئل رحمه الله تعالى عن الإماء الكتابيات ما الدليل على وطئهن بملك اليمين من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار وعلى تحريم الإماء المجوسيات أفتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله رب العالمين وطء الإماء الكتابيات بملك اليمين أقوى من وطئهن بملك النكاح عند عوام أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم ولم يذكر عن أحد من السلف تحريم ذلك كما نقل عن بعضهم المنع من نكاح الكتابيات وإن كان بن المنذر قد قال لم يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم نكاحهن ولكن النحريم هو قول الشيعة ولكن في كراهة نكاحهن مع عدم الحاجة نزاع والكراهة معروفة في مذهب مالك والشافعي وأحمد وكذلك كراهة وطىء الإماء فيه نزاع روي عن الحسن أنه كرهه والكراهة في ذلك مبنية
____________________
(32/181)
على كراهة التزوج وأما التحريم فلا يعرف عن أحد بل قد تنازع العلماء في جواز تزويج الأمة الكتابية جوزه أبو حنيفة وأصحابه وحرمه مالك والشافعي والليث والأوزاعي وعن أحمد روايتان أشهرهما كالثاني فإن الله سبحانه إنما أباح نكاح المحصنات بقوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } الآية فأباح المحصنات منهم وقال في آية الإماء { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض } فإنما أباح النساء المؤمنات وليس هذا موضع بسط هذه المسألة وأما الأمة المجوسية فالكلام فيها ينبني على أصلين أحدهما أن نكاح المجوسيات لا يجوز كما لا يجوز نكاح الوثنيات وهذا مذهب الأئمة الأربعة وذكره الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة في ذبائحهم ونسائهم وجعل الخلاف في ذلك من جنس خلاف أهل البدع والأصل الثاني أن من لا يجوز نكاحهن لا يجوز وطئهن بملك اليمين كالوثنيات وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وحكي عن أبي ثور أنه قال يباح وطؤ الإماء بملك اليمين على أي دين كن
____________________
(32/182)
وأظن هذا يذكر عن بعض المتقدمين فقد تبين أن في وطىء الأمة الوثنية نزاعا وأما الأمة الكتابية فليس في وطئها مع إباحة التزوج بهن نزاع بل في التزوج بها خلاف مشهور وهذا كله مما يبين أن القول بجواز التزوج بهن مع المنع من التسري بهن لم يقله أحد ولا يقوله فقيه وحينئذ فنقول الدليل على أنه لا يحرم التسري بهن وجوه أحدها أن الأصل الحل ولم يقم على تحريمهن دليل من نص ولا إجماع ولا قياس فبقي حل وطئهن على الأصل وذلك أن ما يستدل به من ينازع في حل نكاحهن كقوله { ولا تنكحوا المشركات } وقوله { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } إنما يتناول النكاح لا يتناول الوطء بملك اليمين ومعلوم أنه ليس في السنة ولا في القياس ما يوجب تحريمهن فيبقى الحل على الأصل الثاني أن قوله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } يقتضي عموم جواز الوطئ بملك اليمين مطلقا إلا ما استثناه الدليل حتى إن عثمان وغيره من الصحابة جعلوا مثل هذا النص متناولا للجمع بين الأختين حين قالوا أحلتهما آية وحرمتهما آية فإذا كانوا قد جعلوه عاما في صورة حرم فيها النكاح فلأن يكون عاما في صورة لا يحرم فيها النكاح أولى وأحرى
____________________
(32/183)
الثالث أن يقال قد أجمع العلماء على حل ذلك كما ذكرناه ولم يقل أحد من المسلمين إنه يجوز نكاحهن ويحرم التسري بهن بل قد قيل يحرم الوطئ في ملك اليمين حيث يحرم الوطؤ في النكاح وقيل يجوز التزوج بهن فعلم أن الأمة مجمع على التسري بها ولم يكن أرجح من حل النكاح ولم يكن دونه فلو حرم التسري دون النكاح كان خلاف الإجماع الرابع أن يقال إن حل نكاحهن يقتضي حل التسري بهن من طريق الأولى والأحرى وذلك أن كل من جاز وطؤها بالنكاح جاز وطؤها بملك اليمين بلا نزاع وأما العكس فقد تنازع فيه وذلك لأن ملك اليمين أوسع لا يقتصر فيه على عدد والنكاح يقتصر فيه على عدد وما حرم فيه الجمع بالنكاح قد نوزع في تحريم الجمع فيه بملك اليمين وله أن يستمع بملك اليمين مطلقا من غير اعتبار قسم ولا استئذان في عزل ونحو ذلك مما حجر عليه فيه لحق الزوجة وملك النكاح نوع رق وملك اليمين رق تام وأباح الله للمسلمين أن يتزوجوا أهل الكتاب ولا يتزوج أهل الكتاب نساءهم لأن النكاح نوع رق كما قال عمر النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته وقال زيد بن ثابت الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى { وألفيا سيدها لدى الباب } وقد قال النبي ( اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ) فجوز
____________________
(32/184)
للمسلم أن يسترق هذه الكافرة ولم يجوز للكافر أن يسترق هذه المسلمة لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه كما جوز للمسلم أن يملك الكافر ولم يجوز للكافر أن يملك المسلم فإذا جواز وطئهن من ملك تام أولى وأحرى يوضح ذلك أن المانع إما الكفر وإما الرق وهذا الكفر ليس بمانع والرق ليس مانعا من الوطئ بالملك وإنما يصلح أن يكون مانعا من التزوج فإذا كان المقتضي للوطئ قائما والمانع منتفيا جاز الوطؤ فهذا الوجه مشتمل على قياس التمثيل وعلى قياس الأولى ويخرج منه وجه رابع يجعل قياس التعليل فيقال الرق مقتض لجواز وطىء المملوكة كما نبه النص على هذه العلة كقوله { أو ما ملكت أيمانكم } وإنما يمتنع الوطؤ بسبب يوجب التحريم بأن تكون محرمة بالرضاع أو بالصهر أو بالشرك ونحو ذلك وهذه ليس فيها ما يصلح للمنع إلا كونها كتابية وهذا ليس بمانع فإذا كان المقتضي للحل قائما والمانع المذكور لا يصلح أن يكون معارضا وجب العمل بالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم وهذه الوجوه بعد تمام تصورها توجب القطع بالحل الوجه الخامس أن من تدبر سير الصحابة والسلف على عهد النبي والصحابة وجد آثارا كثيرة تبين أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مانعا بل هذه كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه مثل الذي كانت له أم ولد وكانت تسب النبي فقام يقتلها
____________________
(32/185)
وقد روى حديثها أبو داود وغيره وهذه لم تكن مسلمة لكن هذه القصة قد يقال إنه لا حجة فيها لأنها كانت في أوائل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولم يكن حينئذ يحرم نكاح المشركات وإنما ثبت التحريم بعد الحديبية لما أنزل الله تعالى { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وطلق عمر إمرأته كانت بمكة وأما الآية التي في البقرة فلا يعلم تاريخ نزولها وفي البقرة ما نزل متأخرا كآيات الزنى وفيها ما نزل متقدما كآيات الصيام ومثل ما روي أن النبي لما أراد غزة تبوك قال للحر بن قيس ( هل لك في نساء بني الأصفر ) فقال ( ائذن لي ولا تفتني ) ومثل فتحه لخيبر وقسمه للرقيق ولم ينه المسلمين عن وطئهن حتى يسلمن كما أمرهم بالإستبراء بل من يبيح وطأ الوثنيات بملك اليمين قد يستدل بما جرى يوم أو طاس من قوله ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ) على جواز وطىء الوثنيات بملك اليمين وفي هذا كلام ليس هذا موضعه والصحابة لما فتحوا البلاد لم يكونوا يمتنعون عن وطء النصرانيات
____________________
(32/186)
فصل وأما المجوسية فقد ذكرنا أن الكلام فيها مبني على أصلين أحدهما أن المجوس لا تحل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم والدليل على هذا وجوه أحدها أن يقال ليسوا من أهل الكتاب ومن لم يكن من أهل الكتاب لم يحل طعامه ولا نساؤه أما المقدمة الأولى ففيها نزاع شاذ فالدليل عليها أنه سبحانه قال { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } فتبين أنه أنزل القرآن كراهة أن يقولوا ذلك ومنعا لأن يقولوا ذلك ودفعا لأن يقولوا ذلك فلو كان قد أنزل على أكثر من طائفتين لكان هذا القول كذبا فلا يحتاج إلى مانع من قوله وأيضا فإنه قال { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } فذكر الملل الست وذكر أنه يفصل بينهم يوم القيامة ولما ذكر الملل التي فيها سعيد في الآخرة قال { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا }
____________________
(32/187)
في موضعين فلم يذكر المجوس ولا المشركين فلو كان في هاتين الملتين سعيد في الآخرة كما في الصابئين واليهود والنصارى لذكرهم فلو كان لهم كتاب لكانوا قبل النسخ والتبديل على هدى وكانوا يدخلون الجنة إذا عملوا بشريعتهم كما كان اليهود والنصارى قبل النسخ والتبديل فلما لم يذكر المجوس في هؤلاء علم أنه ليس لهم كتاب بل ذكر الصابئين دونهم مع أن الصابئين ليس لهم كتاب إلا أن يدخلوا في دين أحد من أهل الكتابين وهو دليل على أن المجوس أبعد عن الكتاب منهم وأيضا ففي المسند والترمذي وغيرهما من كتب الحديث والتفسير والمغازي الحديث المشهور لما اقتتلت فارس والروم وانتصرت الفرس ففرح بذلك المشركون لأنهم من جنسهم ليس لهم كتاب واستبشر بذلك أصحاب النبي لكون النصارى أقرب إليهم لأن لهم كتابا وأنزل الله تعالى { الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } الآية وهذا يبين أن المجوس لم يكونوا عند النبي وأصحابه لهم كتاب وأيضا ففي حديث الحسن بن محمد بن الحنيفة وغيره من التابعين ( أن النبي أخذ الجزية من المجوس ) وقال ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) وهذا مرسل
____________________
(32/188)
وعن خمسة من الصحابة توافقة ولم يعرف عنهم خلاف وأما حذيفة فذكر أحمد أنه تزوج بيهودية وقد عمل بهذا المرسل عوام أهل العلم والمرسل في أحد قولي العلماء حجة كمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وفي الآخر هو حجة إذا عضده قول جمهور أهل العلم وظاهر القرآن أو أرسل من وجه آخر وهذا قول الشافعي فمثل هذا المرسل حجة باتفاق العلماء وهذا المرسل نص في خصوص المسألة غير محتاج إلى أن يبني على المتقدمين فإن قيل روي عن علي أنه كان لهم كتاب فرفع قيل هذا الحديث قد ضعفه أحمد وغيره وإن صح فإنه إنما يدل على أنه كان لهم كتاب فرفع لا أنه الآن بأيديهم كتاب وحينئذ فلا يصح أن يدخلوا في لفظ { أهل الكتاب } إذ ليس بأيديهم كتاب لا مبدل ولا غير مبدل ولا منسوخ ولا غير منسوخ ولكن إذا كان لهم كتاب ثم رفع بقي لهم شبهة كتاب وهذا القدر يؤثر في حقن دمائهم بالجزية إذا قيدت بأهل الكتاب وأما الفروج والذبائح فحلها مخصوص بأهل الكتاب وقول النبي ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب وإنما أمر أن يسن بهم سنتهم في أخذ الجزية خاصة كما فعل ذلك الصحابة فإنهم لم يفهموا من هذا اللفظ إلا هذا الحكم وقد روى مقيدا ( غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) فمن جوز أخذ الجزية من أهل الأوثان قاس
____________________
(32/189)
عليهم غيرهم في الجزية ومن خصهم بذلك قال إن لهم شبهة كتاب بخلاف غيرهم والدماء تعصم بالشبهات ولا تحل الفروج والذبائح بالشبهات ولهذا لما تنازع علي وبن عباس في ذبائح بني تغلب قال علي إنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر وقرأ بن عباس قوله تعالى { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } فعلي رضي الله عنه منع من ذبائحهم مع عصمة دمائهم وهو الذي روى حديث كتاب المجوس فعلم أن التشبه بأهل الكتاب في بعض الأمور يقتضي حقن الدماء دون الذبائح والنساء وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل تكلم بكلمة الكفر وحكم بكفره ثم بعد ذلك حلف بالطلاق من إمرأته ثلاثا فإذا رجع إلى الإسلام هل يجوز له أن يجدد النكاح من غير تحليل أم لا
فأجاب الحمد لله إذا ارتد ولم يعد إلى الإسلام حتى انقضت عدة إمرأته فإنها تبين منه عند الأئمة الأربعة وإذا طلقها بعد ذلك فقد طلق أجنبية فلا يقع بها الطلاق فإذا عاد إلى الإسلام فله أن يتزوجها وإن طلقها في زمن العدة قبل أن يعود إلى الإسلام فهذا فيه قولان
____________________
(32/190)
للعلماء أحدهما أن البينونة تحصيل بنفس الردة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك في المشهور عنه وأحمد في إحدى الروايتين عنه فعلى هذا يكون الطلاق بعد هذا طلاق الأجنبية فلا يقع والثاني أن النكاح لا يزول حتى تنقضي العدة فإن أسلم قبل انقضاء العدة فهما على نكاحهما وهذا مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى عنه فعلى هذا إذا كان الطلاق في العدة وعاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة تبين أنه طلق زوجته فيقع الطلاق وإن كان لم يعد إلى الإسلام حتى انقضت العدة تبين أنه طلق أجنبية فلا يقع به الطلاق والله أعلم
____________________
(32/191)
& باب الصداق & وقال شيخ الإسلام رحمه الله السنة تخفيف الصداق وأن لا يزيد على نساء النبي وبناته فقد روت عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال ( أن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة ) وعن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( خيرهن أيسرهن صداقا ) وعن الحسن البصرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألزموا النساء الرجال ولا تغالوا في المهور ) وخطب عمر بن الخطاب الناس فقال ألا لا تغالوا في مهور النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم النبي صلى الله عليه وسلم ما أصدق إمرأة من نسائه ولا أصدقت إمرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة اوقية قال الترمذي حديث صحيح ويكره للرجل أن يصدق المرأة صداقا يضر به أن نقده ويعجز عن وفائه إن كان دينا قال أبو هريرة جاء رجل إلى النبي فقال
____________________
(32/192)
إني تزوجت إمرأة من الأنصار فقال ( على كم تزوجتها ) قال على أربع أوراق فقال النبي ( على أربع أوراق فكأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه ) قال فبعث بعثا إلى بني عبس فبعث ذلك الرجل فيهم رواه مسلم في صحيحه والأوقية عندهم أربعون درهما وهي مجموع الصداق ليس فيه مقدم ومؤخر وعن أبي عمرو الأسلمي أنه ذكر أنه تزوج إمرأة فأتى النبي يستعينه في صداقها فقال كم أصدقت قال فقلت مائتي درهم فقال ( لو كنتم تغرفون الدراهم من أوديتكم ما زدتم ) رواه الإمام أحمد في مسنده وإذا أصدقها دينا كثيرا في ذمته وهو ينوي أن لا يعطيها إياه كان ذلك حراما عليه فإنه قد روى أبو هريرة قال قال رسول الله ( من تزوج إمرأة بصداق ينوي أن لا يؤديه إليها فهو زان ومن ادان دينا ينوي أن لا يقضيه فهو سارق ) وما يفعله بعض أهل الجفاء والخيلاء والرياء من تكثير المهر للرياء والفخر وهم لا يقصدون أخذه من الزوج وهو ينوي أن لا يعطيهم إياه فهذا منكر قبيح مخالف للسنة خارج عن الشريعة
____________________
(32/193)
وإن قصد الزوج أن يؤديه وهو في الغالب لا يطيقه فقد حمل نفسه وشغل ذمته وتعرض لنقص حسناته وارتهانه بالدين وأهل المرأة قد آذوا صهرهم وضروه والمستحب في الصداق مع القدرة واليسار أن يكون جميع عاجله وآجله لا يزيد على مهر أزواج النبي ولا بناته وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة نحوا من تسعة عشر دينارا فهذه سنة رسول الله من فعل ذلك فقد استن بسنة رسول الله في الصداق قال أبو هريرة رضي الله عنه كان صداقنا إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر أواق وطبق بيديه وذلك أربعمائة درهم رواه الإمام أحمد في مسنده وهذا لفظ أبي داود في سننه وقال أبو سلمة قلت لعائشة كم كان صداق رسول الله قالت كان صداقه لا زواجه ثنتي عشرة اوقية ونشا قالت أتدري ما النش قلت لا قالت نصف أوقية فذلك خمسمائة درهم رواه مسلم في صحيحه وقد تقدم عن عمر أن صداق بنات رسول الله كان نحوا من ذلك فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة فهو جاهل أحمق وكذلك صداق أمهات المؤمنين وهذا مع القدرة واليسار فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة
____________________
(32/194)
والأولى تعجيل الصداق كله للمرأة قبل الدخول إذا أمكن فإن قدم البعض وأخر البعض فهو جائز وقد كان السلف الصالح الطيب يرخصون الصداق فتزوج عبد الرحمن بن عوف في عهد رسول الله على وزن نواة من ذهب قالوا وزنها ثلاثة دراهم وثلث وزوج سعيد بن المسيب بنته على درهمين وهي من أفضل أيم من قريش بعد أن خطبها الخليفة لابنه فأبى أن يزوجها به والذي نقل عن بعض السلف من تكثير صداق النساء فإنما كان ذلك لأن المال اتسع عليهم وكانوا يعجلون الصداق كله قبل الدخول لم يكونوا يؤخرون منه شيأ ومن كان له يسار ووجد فأحب أن يعطي إمرأته صداقا كثيرا فلا بأس بذلك كما قال تعالى { وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } أما من يشغل ذمته بصداق لا يريد أن يؤديه أو يعجز عن وفائه فهذا مكروه كما تقدم وكذلك من جعل في ذمته صداقا كثيرا من غير وفاء له فهذا ليس بمسنون والله أعلم وسئل رحمه الله عن الرجل يتزوج على صداق معين مكتوب ويتفقا على مقدم فيعطيه ثم يموت هل يحسب المقدم من جملة الصداق المكتوب
فأجاب وأما ما يقدمه الزوج للمرأة من النقد الذي اتفقوا عليه غير الصداق الذي يكتب في الكتاب إذا أعطاها الزوج ذلك أو بعضه أو
____________________
(32/195)
بدله فإنه لا يحسب عليها من الصداق المكتوب بل لو لم يعطها ذلك لكان لها أن تطلبه في أظهر قولي العلماء وكان من الصداق الذي يستقر بالموت تأخذه كله بعد موته فإنها إذا رضيت بأن يكون لها مقدم ومؤخر يسميه السلف عاجلا وآجلا وشارطته على أن يقدم لها كذا ويؤخر كذا وإن لم تذكر حين العقد فالشرط المتقدم على العقد إذا لم يفسخ حين عقد العقد كالمشروط في أظهر قولي العلماء كما قد بسط الكلام على ذلك في الكتاب الكبير الذي صنفته في مسائل الذرايع والحيل وبيان الدليل على بطلان التحليل إلا أن يكون المراد أنه إذا دخل بها يعطيها قبل الدخول ذلك فإذا لم يدخل بها لم تستحق ما شرط لها تعجيله قبل الدخول وسئل رحمه الله تعالى عن إمرأة عجل لها زوجها نقدا ولم يسمه في كتاب الصداق ثم توفي عنها فطلب الحاكم أن يحسب المعجل من الصداق المسمى في العقد لكون المعجل لم يذكر في الصداق
فأجاب الحمد لله إن كانا قد اتفقا على العاجل المقدم والآجل المؤخر كما جرت به العادة فللزوجة أن تطلب المؤخر كله إن لم يذكر المعجل في العقد وكذلك إن كان قد أهدى لها كما جرت به العادة وأما إن كان أقبضها من الصداق المسمى حسب على الزوجة والله أعلم
____________________
(32/196)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل اعتقلته زوجته عند الحاكم على الصداق مدة شهرين ولم يوجد له موجود فهل يجوز للحاكم أن يبقيه أو يطلقه
فأجاب إذا لم يعرف له مال حلفه الحاكم على إعساره وأطلقه ولم يجز حبسه وتكليفه البينة والحالة هذه في المذاهب الأربعة وسئل رحمه الله عن إمرأة بكر تزوجها رجل ودخل بها ثم ادعى أنها كانت ثيبا وتحاكما إلى حاكم فأرسل معها امرأتين فوجدوها كانت بكرا فأنكر ونكل عن المهر ما يجب عليه
فأجاب ليس له ذلك بل عليه كمال المهر كما قال زرارة وقضى الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون أن من أغلق الباب وأرخى الستر فقد وجبت عليه العدة والمهر والله أعلم
____________________
(32/197)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل خطب إمرأة فاتفقوا على النكاح من غير عقد وأعطى أباها لأجل ذلك شيئا فماتت قبل العقد هل له أن يرجع بما أعطى
فأجاب إذا كانوا قد وفوا بما اتفقوا عليه ولم يمنعوه من نكاحها حتى ماتت فلا شيء عليهم وليس له أن يسترجع ما أعطاهم كما أنه لو كان قد تزوجها استحقت جميع الصداق وذلك لأنه إنما بذل لهم ذلك ليمكنوه من نكاحها وقد فعلوا ذلك وهذا غاية الممكن وسئل رحمه الله عن إمرأة تزوجت ثم بان أنه كان لها زوج ففرق الحاكم بينهما فهل لها مهر وهل هو المسمى أو مهر المثل
فأجاب إذا علمت أنها مزوجة ولم تستشعر لا موته ولا طلاقه فهذه زانية مطاوعة لا مهر لها وإذا اعتقدت موته وطلاقه فهو وطء شبهة بنكاح فاسد فلها المهر وظاهر مذهب أحمد ومالك أن لها المسمى وعن أحمد رواية آخرى كقول الشافعي أن لها مهر المثل والله أعلم
____________________
(32/198)
وسئل رحمه الله تعالى عن معسر هل يقسط عليه الصداق
فأجاب إذا كان معسرا قسط عليه الصداق على قدر حاله ولم يجز حبسه لكن أكثر العلماء يقبلون قوله في الإعسار مع يمينه وهو مذهب الشافعي وأحمد ومنهم من لا يقبل البينة إلا بعد الحبس كما يقوله من يقوله من أصحاب أبي حنيفة فإذا كانت الحكومة عند من يحكم بمذهب الشافعي وأحمد لم يحبس وسئل رحمه الله عن رجل تزوج إمرأة وأعطاها المهر وكتب عليه صداقا ألف دينار وشرطوا عليه أننا ما نأخذ منك شيئا الاعندنا هذه عادة وسمعة والآن توفي الزوج وطلبت المرأة كتابها من الورثة على التمام والكمال
فأجاب إذا كانت الصورة على ما ذكر لم يجز لها أن تطالب إلا ما اتفقا عليه وأما ما ذكر على الوجه المذكور فلا يحل لها المطالبة به بل يجب لها ما اتفقا عليه
____________________
(32/199)
وسئل رحمه الله تعالى عن إمرأة تزوجت برجل فهرب وتركها من مدة ست سنين ولم يترك عندها نفقة ثم بعد ذلك تزوجت رجلا ودخل بها فلما اطلع الحاكم عليها فسخ العقد بينهما فهل يلزم الزوج الصداق أم لا
فأجاب إن كان النكاح الأول فسخ لتعذر النفقة من جهة الزوج وانقضت عدتها ثم تزوجت الثاني فنكاحه صحيح وإن كانت تزوجت الثاني قبل فسخ نكاح الأول فنكاحه باطل وإن كان الزوج والزوجة علما أن نكاح الأول باق وأنه يحرم عليهما النكاح فيجب إقامة الحد عليهما وإن جهل الزوج نكاح الأول أو نفاه أو جهل تحريم نكاحه قبل الفسخ فنكاحه نكاح شبهة يجب عليه فيه الصداق ويلحق فيه النسب ولا حد فيه وإن كانت غرته المرأة أو وليها فأخبره أنها خلية عن الأزواج فله أن يرجع بالصداق الذي أداه على من غره في أصح قولي العلماء
____________________
(32/200)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل إذا خلا الرجل بالمرأة فمنعته نفسها من الوطء ولم يطأها لم يستقر مهرها في مذهب الإمام أحمد الذي ذكره أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأبي البركات وغيرهما وغيره من الأئمة الاربعة مالك والشافعي وأبي حنيفة وإذا اعترفت بأنها لم تمكنه من وطئها لم يستقر مهرها باتفاقهم ولا يجب لها عليه نفقة ما دامت كذلك باتفاقهم وإذا كانت مبغضة له مختارة سواه فإنها تفتدي نفسها منه وسئل رحمه الله عن مملوك في الرق والعبودية تزوج بإمرأة من المسلمين ثم بعد ذلك ظهرت عبوديته وكان قد اعترف أنه حر وإن له خيرا في مصر وقد ادعوا عليه بالكتاب وحقوق الزوجية واقترض من زوجته شيئا فهل يلزمه شيء أولا
فأجاب الحمد لله تزوج العبد بغير إذن سيده إذا لم يجزه السيد باطل باتفاق المسلمين وفي السنن عن النبي أنه قال ( أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر ) لكن إذا أجازه السيد بعد العقد صح في
____________________
(32/201)
مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين ولم يصح في مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى وإذا طلب النكاح فعلى السيد أن يزوجه لقوله تعالى { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } وإذا غر المرأة وذكر أنه حر وتزوجها ودخل بها وجب المهر لها بلا نزاع لكن هل يجب المسمى كقول مالك في رواية أو مهر المثل كقول أبي حنيفة والشافعي واحمد في رواية أو يجب الخمسان كأحمد في رواية ثالثة هذا فيه نزاع بين العلماء وقد يتعلق هذا الواجب برقبته كقول أحمد في المشهور عنه والشافعي في قول وأظنه قول أبي حنيفة أو يتعلق ذلك بذمة العبد فيتبع به إذا أعتق كقول الشافعي في الجديد وقول أبي يوسف ومحمد وغيرهما والأول أظهر فإن قوله لهم إنه حر تلبيس عليهم وكذب عليهم ثم دخوله عليها بهذا الكذب عدوان منه عليهم والأئمة متفقون على أن المملوك لو تعدى على أحد فاتلف ماله أو جرحه أو قتله كانت جنايته متعلقة برقبته لا تجب في ذمة السيد بل يقال للسيد إن شئت إن تفك مملوكك من هذه الجناية وإن شئت أن تسلمه حتى تستوفي هذه الجناية من رقبته وإذا أراد أن يقتله فعليه أقل الأمرين من قدر الجناية أو قيمة العبد في مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما
____________________
(32/202)
وعند مالك وأحمد في رواية يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ فهذا العبد ظالم معتد جار على هؤلاء فتتعلق جنايته برقبته وكذلك ما اقترضه من مال الزوجة مع قوله إنه حر فهو عدوان عليهم فيتعلق برقبته في أصح قولي العلماء والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن إمرأة اعتاضت عن صداقها بعد موت الزوج فباعت العوض وقبضت الثمن ثم أقرت أنها قبضت الصداق من غير ثمن الملك فهل يبطل حق المشتري أو يرجع عليها بالذي اعترفت أنها قبضته من غير الملك
فأجاب لا يبطل حق بمجرد ذلك وللورثة أن يطلبوا منها ثمن الملك الذي اعتاضت به إذا أقرت بأن قبض صداقها قبل ذلك وكان قد أفتى طائفة بأنه يرجع عليها بالذي اعترفت بقبضه من التركة وليس بشيء لأن هذا الإقرار تضمن أنها استوفت صداقها وأنها بعد هذا الاستيفاء له أحدثت ملكا آخر فإنما فوتت عليهم العقار لا على المشتري وسئل رحمه الله عن رجل تزوج إمرأة وكتب كتابها ودفع لها الحال بكماله وبقي المقسط من ذلك ولم تستحق عليه شيئا وطلبها للدخول فامتنعت ولها خالة تمنعها فهل تجبر على الدخول ويلزم خالتها المذكورة تسليمها إليه
____________________
(32/203)
فأجاب ليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها والحال هذه بإتفاق الأئمة ولا لخالتها ولا غير خالتها أن يمنعها بل تعزر الخالة على منعها من فعل ما أوجب الله عليها وتجبر المرأة على تسليم نفسها للزوج وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بإمرأة فطلقها ثلاثا ولها كتاب إلى مدة وهو معسر
فأجاب إذا كان معسرا لم يجز مطالبتها له حتى يوسر وإذا شهدت بينة بذلك سمعت بل القول قوله مع يمينه إذا لم يعرف له مال في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بإمرأة وفي ظاهر الحال أنه حر فأقامت في صحبته إحدى عشرة سنة ثم طلقها ولم يردها وطالبته بحقوقها فقال أنا مملوك يجب الحجر علي فهل يلزمه القيام بحق الزوجة على حكم الشرع الشريف في المذاهب الأربعة
____________________
(32/204)
فأجاب حق الزوجة ثابت لها المطالبة به لوجهين أحدهما أن مجرد دعواه الرق لا يسقط حقها والحال ما ذكر فإن الاصل في الناس الحرية وإذا ادعى أنه مملوك بلا بينة ولم يعرف خلاف ذلك ففي قبول قوله ثلاثة أقوال للعلماء في مذهب أحمد وغيره أحدها يقبل فيما عليه دون ماله على غيره كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في قول لهم والثاني لا يقبل بحال كقول من قال ذلك من المالكية وهو إحدى الروايتين عن أحمد والثالث يقبل قوله مطلقا وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد فإذا كان مع دعوى المدعي لرقه لا يقبل إقراره بما يسقط حقها عند جمهور أئمة الإسلام فكيف بمجرد دعواه الرق وكيف وله خير وإقطاع وهو منتسب وقد ادعى الحرية حتى زوج بها الوجه الثاني أنه لو قدر أنه كذب ولبس عليها وادعى الحرية حتى تزوج بها ودخل فهذا قد جنى بكذبه وتلبيسه والرقيق إذا جنى تعلقت جنايته برقبته فلها أن تطلب حقها من رقبته إلا أن يختار سيده أن يفديه بأداء حقها فله ذلك
____________________
(32/205)
& باب وليمة العرس & وسئل رحمه الله تعالى عن طعام الزواج وطعام العزاء وطعام الختان وطعام الولادة
فأجاب أما وليمة العرس فهي سنة والإجابة إليها مأمور بها وأما وليمة الموت فبدعة مكروه فعلها والإجابه إليها وأما وليمة الختان فهي جائزة من شاء فعلها ومن شاء تركها وكذلك وليمة الولادة إلا أن يكون قد عق عن الولد فإن العقيقة عنه سنة والله أعلم وسئل رحمه الله هل يكره طعام الطهور أم لا وهل فرق بينه وبين وليمة العرس أم لا
فأجاب الحمد لله أما وليمة العرس فسنة مأمور بها باتفاق العلماء حتى إن منهم من أوجبها فإنها تتضمن إعلان النكاح وإظهاره وذلك يتضمن الفرق بينه وبين السفاح واتخاذ الأخدان ولهذا كانت الاجابة إليها واجبة عند العلماء عند شروط ذلك وانتفاء موانعه وأما دعوة الختان فلم
____________________
(32/206)
تكن الصحابة تفعلها وهي مباحة ثم من العلماء أصحاب أحمد وغيره من كرهها ومنهم من رخص فيها بل يستحبها وأما الاجابة إليها فإن كل من فعلها أثم ومنهم من استحبها ومنهم من لم يستحبها ومنهم من كره الاجابة إليها أيضا والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن قول النبي ( من أكل مع مغفور غفر له ) هل صح ذلك أم لا
فأجاب الحمد لله لم ينقل هذا أحد عن النبي في اليقظة وإنما ذكروا أنه رؤي في المنام يقول ذلك وليس هذا على الاطلاق صحيح والله أعلم وسئل عن معنى قوله ( من أتى إلى طعام لم يدع إليه فقد دخل سارقا وخرج مغيرا )
فأجاب الحمد لله معناه الذي يدخل إلى دعوة بغير إذن أهلها فإنه يدخل مختفيا كالسارق ويأكل بغير اختيارهم فيستحون من نهيه فيخرج كالمغير الذي يأخذ أموال الناس بالقهر والله أعلم
____________________
(32/207)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن شرب النبي ثلاثا يعني تنفس ثلاثا فلو شرب أحد مرة هل يكون حراما وهل ورد أنه لم يشرب مرة فقط وقد جاء في بعض الكتب العشرة ( أنه شرب مرة واحدة ) وقد كتب في هذا فتيا وقالوا إذا شرب مرة حرام ولم يسمع أحد من أهل العلم هذا القول وقد ورد الحديث أيضا ( أنه شرب قائما ) فهل هذا للتنزيه أو للتحريم وهل إذا شرب من غير عذر قائما عليه اثم وهل إذا شرب مرة واحدة هل يكون حراما
فأجاب الحمد لله الأفضل أن يتنفس في الشرب ثلاثا ويكون نفسه في غير الاناء فإن التنفس في الإناء منهي عنه وإن لم يتنفس وشرب بنفس واحد جاز فإن في الصحيح عن أنس ( أن النبي كان يتنفس في الإناء ثلاثا ) وفي رواية لمسلم ( كان يتنفس في الشراب ثلاثا يقول إنه أروى وأمرى ) فهذا دليل على استحباب التنفس ثلاثا وفي الصحيحين عن أبي قتادة قال قال رسول الله ( إذا شرب أحدكم
____________________
(32/208)
فلا يتنفس في الإناء ) فهذا فيه النهي عن التنفس في الإناء وعن أبي سعيد الخدري ( أن النبي نهى عن التنفس في الشراب ) فقال الرجل القذاة أراها في الاناء فقال ( أهرقها ) قال فإني لا أروى عن نفس واحد قال فأبن القدح عن فيك ) رواه الترمذي وصححه فلم ينه النبي عن الشرب بنفس واحد ولكن لما قال له الرجل إني لا أروى من نفس واحد قال ( أبن القدح عن فيك ) أي لتتنفس إذا احتجت إلى النفس خارج الأناء وفيه دليل على أنه لوروى في نفس واحد ولم يحتج إلى النفس جاز وما علمت أحدا من الأئمة أوجب التنفس وحرم الشرب بنفس واحد وفعله يدل على الاستحباب كما كان ( يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ) ولو بدأ في الطهارة بمياسره قبل ميامنه كان تاركا للاختيار وكان وضوءه صحيحا من غير نزاع اعلمه بين الأئمة وأما الشرب قائما فقد جاءت أحاديث صحيحة بالنهي وأحاديث صحيحة بالرخصة ولهذا تنازع العلماء فيه وذكر فيه روايتان عن أحمد ولكن الجمع بين الاحاديث أن تحمل الرخصة على حال العذر فأحاديث النهي مثلها في الصحيح ( أن النبي نهى عن الشرب قائما ) وفيه
____________________
(32/209)
عن قتادة عن أنس ( أن النبي زجر عن الشرب قائما ) قال قتادة فقلنا الأكل فقال ذاك شر وأخبث وأحاديث الرخصة مثل حديث ما في الصحيحين عن علي وبن عباس قال ( شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما من زمزم ) وفي البخاري عن علي أن عليا في رحبة الكوفة شرب وهو قائم ثم قال إن ناسا يكرهون الشرب قائما وإن رسول الله صنع كما صنعت وحديث علي هذا قد روي فيه أثر أنه كان ذلك من زمزم كما جاء في حديث بن عباس هذا كان في الحج والناس هناك يطوفون ويشربون من زمزم ويستقون ويسألونه ولم يكن موضع قعود مع أن هذا كان قبل موته بقليل فيكون هذا ونحوه مستثنى من ذلك النهي وهذا جار عن أحوال الشريعة أن المنهي عنه يباح عند الحاجة بل ما هو أشد من هذا يباح عند الحاجة بل المحرمات التي حرم اكلها وشربها كالميتة والدم تباح للضرورة وأما ما حرم مباشرته طاهرا كالذهب والحرير فيباح للحاجة وهذا النهي عن صفة في الأكل والشرب فهذا دون النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة وعن لباس الذهب والحرير إذ ذاك قد جاء فيه وعيد ومع هذا فهو مباح للحاجة فهذا أولى والله أعلم
____________________
(32/210)
وسئل رحمه الله تعالى عن الأكل والشرب قائما هل هو حلال أم حرام أم مكروه كراهية تنزيه وهل يجوز الأكل والشرب إذا كان له عذر كالمسافر أو الأكل والشرب في الطريق ماشيا
فأجاب أما مع العذر فلا بأس فقد ثبت أن النبي ( شرب من ماء زمزم وهو قائم ) فإن الموضع لم يكن موضع قعود وأما مع عدم الحاجة فيكره لأنه ثبت أن النبي نهى عنه وبهذا التفصيل يحصل الجمع بين النصوص والله أعلم وسئل رحمه الله 4 عن رجل قال ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أكل بطيخا أصفر عمره ) وقال الآخر ( أن النبي أكل العنب دو دو )
فأجاب الحمد لله قوله ( أكل العنب دو دو ) كذب لا أصل له وأما البطيخ فقد كانوا يأكلون البطيخ لكن المشهور عندهم كان البطيخ
____________________
(32/211)
الأخضر وما ينقل عن الإمام أحمد أنه امتنع عن أكل البطيخ لعدم علمه بكيفية أكل النبي كذب على الأمام أحمد كان يأكل فاكهة بلده ما قدمت له فاكهة فترك أكلها لا على سبيل الزهد الفاسد ولا على سبيل الورع الفاسد بل كان لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا ويتبع قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } فأمر بالأكل والشكر فمن حرم الطيبات عليه وامتنع من أكلها بدون سبب شرعي فهو مذموم مبتدع داخل في قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ومن أكلها بدون الشكر الواجب فيها فهو مذموم قال الله تعالى { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } أي شكر النعيم وقد روى عن النبي أنه قال ( الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ) وفي الصحيح عن النبي أنه قال ( إن الله ليرضى عن العبد بأن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها ) وكذلك ( الإسراف في الأكل ) مذموم وهو مجاوزة الحد ومن أكل بنية الاستعانة على عبادة كان مأجورا على ذلك وكذلك ما ينفقه على أهل بيته كما قال النبي في الحديث الصحيح ( نفقة المسلم على أهله يحتسبها صدقة ) وقال لسعد ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة تضعها في في امرأتك
____________________
(32/212)
وسئل رحمه الله تعالى عن قول النبي ( أنه مكتوب على قشر البطيخ لا إله إلا الله موسى كليم الله لا إله إلا الله عيسى روح الله لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وأيضا ( من أكله بقشره كان له بكل نهشة عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات وأن أكله ببزره فبكل ألف درجة في الجنة ) وأنه قال لأبي هريرة ( ألك قميصان بع الواحد وكل به بطيخا أصفر ) وهل صح عنه صلى الله عليه وسلم ( أكل البطيخ بالرطب ) وما معنى البطيخ بالرطب إن صح الحديث
فأجاب الحمد لله رب العالمين الأحاديث المتقدمة في البطيخ كلها مختلقة لم يرغب النبي في أكل البطيخ وجميع ما يروى من هذا الجنس فهو كذب وأما أكل البطيخ بالرطب فهو كأكل القثا بالرطب والحديث بذلك أصح والمراد به حلاوة هذا ورطوبة هذا وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد فهذا بيان أكل البطيخ الأخضر بالرطب أو التمر فأما أكله بالرطب الأصفر فلا أصل له لا من نص ولا قياس والله أعلم
____________________
(32/213)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل حضر عنده جماعة ليطعمهم شيئا فلما أحضر المائدة والخبز عليها وغاب ليأتي بالأدم فقال رجل ( إذا حضر الخبز قال النبي ( لا تنتظروا شيئا ) فأكلوا الخبز وحضر الادام بقي بلا خبز فقالوا له كذبت على النبي صلى الله عليه وسلم وغرمت الرجل الخبز فهل هذا الحديث الذي ذكره صحيح أم لا
فأجاب الحمد لله لم يجئ في هذا شيء عن النبي ولكن هذا يقوله بعض الناس ومعناه الأمر بالقناعة وأنه يكتفي بالخبز إذا حضر ولا ينتظر غيره ولا يطلب من المضيف غيره فإن ذلك من كرامته فأما إن كانوا منتظرين أدما يحضر وأذا أكلوا الخبز بقي الأدم وحده فانتظارهم حتى يأكلوا الأدم مع الخبز هو الذي يصلح والله أعلم وسئل رحمه الله عن الرجل إذا كان أكثر ماله حلالا وفيه شبهة قليلة فإذا أضاف الرجل أو دعاه هل يجيبه أم لا
____________________
(32/214)
فأجاب الحمد لله إذا كان في الترك مفسدة من قطيعة رحم أو فساد ذات البين ونحو ذلك فإنه يجيبه لأن الصلة وصلاح ذات البين واجب فإذا لم يتم إلا بذلك كان واجبا وليست الاجابة محرمة أو يقال إن مصلحة ذلك الفعل راجحة على ما يخاف من الشبهة وإن لم يكن فيه مفسدة بل الترك مصلحة توقيه الشبهة ونهي الداعي عن قليل الإثم وكان في الإجابة مصلحة الإجابة فقط وفيهامفسدة الشبهة فأيهما أرجح هذا فيه خلاف فيما أظنه وفروع هذه المسألة كثيرة قد نقل أصحابنا وغيرهم فيها مسائل قد يرجح بعض العلماء جانب الترك والورع ويرجع بعضهم جانب الطاعة والمصلحة وسئل رحمه الله تعالى عن رجل معه مال من حلال وحرام فهل يجوز لأحد أن يأكل من عيشه أم لا
فأجاب إن عرف الحرام بعينه لم يأكل حتما وإن لم يعرف عينه لم يحرم الأكل منه لكن إذا كثر الحرام كان متروكا ورعا والله أعلم فأجاب إن عرف الحرام بعينه لم يأكل حتما وإن لم يعرف عينه لم يحرم الأكل منه لكن إذا كثر الحرام كان متروكا ورعا والله أعلم
____________________
(32/215)
وسئل رحمه الله تعالى عن اللعب بالشطرنج أحرام هو أم مكروه أم مباح فإن قلتم حرام فما الدليل على تحريمه وإن قلتم مكروه فما الدليل على كراهته أو مباح فما الدليل على إباحته
فأجاب الحمد لله رب العالمين اللعب بها منه ما هو محرم متفق على تحريمه ومنه ما هو محرم عند الجمهور ومكروه عند بعضهم وليس من اللعب بها ماهو مباح مستوي الطرفين عند أحد من أئمة المسلمين فإن اشتمل اللعب بها على العوض كان حراما بالإتفاق قال أبو عمر بن عبدالبر إمام المغرب أجمع العلماء على أن اللعب بها على العوض قمار لا يجوز وكذلك لو اشتمل اللعب بهاعلى ترك واجب أو فعل محرم مثل أن يتضمن تأخير الصلاة عن وقتها أو ترك ما يجب فيها من أعمالها الواجبة باطنا أو ظاهرا فإنها حينئذ تكون حراما باتفاق العلماء وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال ( تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا صارت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ) فجعل النبي هذه الصلاة صلاة المنافقين وقد ذم الله صلاتهم بقوله
____________________
(32/216)
{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } وقال تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } وقد فسر السلف السهو عنها بتأخيرها عن وقتها وبترك ما يؤمر به فيها كما بين النبي أن صلاة المنافق تشتمل على التأخير والتطفيف قال سلمان الفارسي إن الصلاة مكيال فمن وفي وفي له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين وكذلك فسروا قوله { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة } قال إضاعتها تأخيرها عن وقتها وإضاعة حقوقها كما جاء في الحديث ( إن العبد إذا اكمل الصلاة بطهورها وقراءتها وخشوعهاصعدت ولها برهان كبرهان الشمس وتقول حفظك الله كما حفظتني وإذا لم يكمل طهورها وقراءتها وخشوعها فإنها تلف كما يلف الثوب ويضرب بها وجه صاحبها وتقول ضيعك الله كما ضيعتني ) والعبد وإن أقام صورة الصلاة الظاهرة فلا ثواب إلا على قدر ما حضر قلبه فيه منها كما جاء في السنن لأبي داود وغيره عن النبي أنه قال ( إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها إلا سبعها إلا ثمنها إلا تسعها إلا عشرها ) وقال بن عباس رضي الله عنهما ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها وإذا غلب عليها الوسواس ففي براءة الذمة منها ووجوب الإعادة قولان
____________________
(32/217)
معروفان للعلماء أحدهما لا تبرأ الذمة وهو قول أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي وغيرهما والمقصودان الشطرنج متى شغل عما يجب باطنا أو ظاهرا حرام باتفاق العلماء وشغله عن اكمال الواجبات أوضح من أن يحتاج إلى بسط وكذلك لو شغل عن واجب من غير الصلاة من مصلحة النفس أو الأهل أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو صلة الرحم أو بر الوالدين أو ما يجب فعله من نظر في ولاية أو إمامة أو غير ذلك من الأمور وقل عبد اشتغل بها إلا شغلته عن واجب فينبغي أن يعرف أن التحريم في مثل هذه الصورة متفق عليه وكذلك إذا اشتملت على محرم أو استلزمت محرما فإنها تحرم بالاتفاق مثل اشتمالها على الكذب واليمين الفاجرة أو الخيانة التي يسمونها المغاضاة او على الظلم أو الاعانة عليه فإن ذلك حرام باتفاق المسلمين ولو كان ذلك في المسابقة والمناضلة فكيف إذا كان بالشطرنج والنرد ونحو ذلك وكذلك إذا قدر أنها مستلزمة فسادا غير ذلك مثل اجتماع على مقدمات الفواحش أو التعاون على العدوان أو غير ذلك أو مثل أن يفضي اللعب بها إلى الكثرة والظهور الذي يشتمل معه على ترك واجب أو فعل محرم فهذه الصورة وأمثالها مما يتفق المسلمون على تحريمها فيها وإذا قدر خلوها عن ذلك كله فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج
____________________
(32/218)
فقال ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) شبههم بالعاكفين على الأصنام كما في المسند عن النبي أنه قال ( شارب الخمر كعابد وثن ) والخمر والميسر قرينان في كتاب الله تعالى وكذلك النهي عنها معروف عن بن عمر وغيره من الصحابة والمنقول عن أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه تحريمها وأما الشافعي فإنه قال أكره اللعب بها للخبر واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد وهكذا نقل عنه غير هذا اللفظ مما مضمونه أنه يكرهها ويراها دون النرد ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم فإنه قال للخبر ولفظ الخبر الذي رواه هو عن مالك ( من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ) فإذا كره الشطرنج وإن كانت أخف من النرد وقد نقل عنه أنه توقف في التحريم وقال لا يتبين لي أنها حرام وما بلغنا أن أحدا نقل عنه لفظا يقتضي نفي التحريم والأئمة الذين لم تختلف أصحابهم في تحريهما أكثر الفاظهم ( الكراهة ) قال بن عبدالبر أجمع مالك وأصحابه على أنه لا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج وقالوا لا يجوز شهادة المدمن المواظب على لعب الشطرنج وقال يحيى سمعت مالكا يقول لا خير في الشطرنج وغيرها وسمعته يكره اللعب بها وبغيرها من الباطل ويتلو هذه الآية { فماذا بعد الحق إلا الضلال }
____________________
(32/219)
وقال أبو حنيفة أكره اللعب بالشطرنج والنرد فالأربعة تحرم كل اللهو وقد تنازع الجمهور في مسئلتين إحداهما هل يسلم على اللاعب بالشطرنج فمنصوص أبي حنيفة وأحمد والمعافى بن عمران وغيرهم أنه لا يسلم عليه ومذهب مالك وأبي يوسف ومحمد أنه يسلم عليه ومع هذا فإن مذهب مالك إن الشطرنج شر من النرد ومذهب أحمد أن النرد شر من الشطرنج كما ذكره الشافعي والتحقيق في ذلك أنهما إذا اشتملا على عوض أو خلوا عن عوض فالشطرنج شر من النرد لأن مفسدة النرد فيها وزيادة مثل صد القلب عن ذكر الله وعن الصلاة وغير ذلك ولهذا يقال إن الشطرنج على مذهب القدر والنردعلى مذهب الجبر واشتغال القلب بالتفكير في الشطرنج أكثر وأما إذا اشتمل النرد على عوض فالنرد شر وهذا هو سبب في كون أحمد والشافعي وغيرهما جعلوا النرد شرا لاستشعارهم أن العوض يكون في النرد دون الشطرنج ومن هنا تبين الشبهة التي وقعت في هذا الباب فإن الله تعالى حرم الميسر في كتابه واتفق المسلمون على تحريم الميسر واتفقوا على أن المغالبات المشتملة على القمار من الميسر سواء كان بالشطرنج أو بالنرد أو بالجوز أو بالكعاب أو البيض قال غير واحد من التابعين كعطاء وطاووس ومجاهد وإبراهيم النخعي كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب
____________________
(32/220)
الصبيان بالجوز فالذين لم يحرموا الشطرنج كطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم اعتقدوا أن لفظ الميسر لا يدخل فيه إلا ما كان قمارا فيحرم لما فيه من أكل المال بالباطل كما يحرم مثل ذلك في المسابقة والمناضلة لو أخرج كل منهما السبق ولم يكن بينهما محلل حرموا ذلك لأنه قمار وفي السنن عن النبي أنه قال ( من أدخل فرسا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ) والنبي ( حرم بيوع الغرر ) لأنها من نوع القمار مثل أن يشترب العبد الآبق والبعير الشارد فإن وجده كان قد قمر البائع وإن لم يجده كان البائع قد قمره فلما اعتقدوا أن هذه المغالبات إنما حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل لم يحرموها إذا خلت عن العوض ولهذا طرد هذا طائفة من أصحاب الشافعي المتقدمين في النرد فلم يحرموها إلا مع العوض لكن المنصوص عن الشافعي وظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا وإن لم يكن فيها عوض ولهذا قال أكرهها للخبر فبين أن مستنده في ذلك الخبر لا القياس عنده وهذا مما احتج به الجمهور عليه فإنه إذا حرم النرد ولا عوض فيها فالشطرنج إن لم يكن مثلها فليس دونها وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها فإن ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ومن إيقاع العداوة والبغضاء هو في الشطرنج أكثر بلا ريب وهي تفعل في النفوس فعل حميا الكؤس فتصد عقولهم
____________________
(32/221)
وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة وقليلها يدعو إلى كثيرها فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج مثل تحريم القطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة وكما أن ذلك القول في غاية التناقض من جهة الإعتبار والقياس والعدل فهكذا القول في الشطرنج وتحريم النرد ثابت بالنص كما في السنن عن أبي موسى عن النبي أنه قال ( من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ) وقد رواه مالك في الموطإ وروايته عن عائشة رضي الله عنها أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا لها عندهم نرد فأرسلت إليهم إن لم تخرجوها لأخرجكم من داري وأنكرت ذلك عليهم ومالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا وجد من أهله من يلعب بالنرد ضربه وكسرها وفي بعض ألفاظ الحديث عن أبي موسى قال سمعت رسول الله وذكرت عنده فقال ( عصى الله ورسوله من ضرب بكعابها يلعب بها ) فعلق المعصية بمجرد اللعب بها ولم يشترط عوضا بل فسر ذلك بأنه الضرب بكعابها وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من لعب بالنردشير فكأنما غنس يده في لحم خنزير ودمه ) وفي لفظ آخر ( فليشقص الخنازير ) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا
____________________
(32/222)
الحديث الصحيح اللاعب بها كالغامس يده في لحم الخنزير ودمه وكالذي يشقص الخنازير يقصبها ويقطع لحمها كما يصنع القصاب وهذا التشبيه متناول اللعب بها باليد سواء وجد أكل أو لم يوجد كما أن غمس اليد في لحم الخنزير ودمه وتشقيص لحمه متناول لمن فعل ذلك سواء كان معه أكل بالفم أو لم يكن فكما إن ذلك ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل فكذلك النرد ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل وهذا يتقرر بوجوه يتبين بها تحريم النرد والشطرنج ونحوهما احدها أن يقال النهي عن هذه الأمور ليس مختصا بصورة المقامرة فقط فإنه لو بذل العوض أحد المتلاعبين أو اجنبي لكان من صور الجعالة ومه هذا فقد نهي عن ذلك إلا فيما ينفع كالمسابقة والمناضلة كما في الحديث ( لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ) لأن بذل المال فيما لا ينفع في الدين ولا في الدنيا منهي عنه وإن لم يكن قمارا وأكل المال بالباطل حرام بنص القرآن وهذه الملاعب من الباطل لقول النبي ( كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق ) قوله ( من الباطل ) أي مما لا ينفع فإن الباطل ضد الحق والحق يراد به الحق الموجود اعتقاده والخبر عنه ويراد به الحق المقصود الذي ينبغي أن يقصد وهو الأمر النافع فما ليس من هذا فهو باطل ليس بنافع
____________________
(32/223)
وقد يرخص في بعض ذلك إذا لم يكن فيه مضرة راجحة لكن لا يوكل به المال ولهذا جاز السباق بالأقدام والمصارعة وغير ذلك وأن نهي عن أكل المال به وكذلك رخص في الضرب بالدف في الأفراح وإن نهي عن أكل المال به فتبين أن ما نهي عنه من ذلك ليس مخصوصا بالمقامرة فلا يجوز قصر النهي على ذلك ولو كان النهي عن النرد ونحوه لمجرد المقامرة لكان النرد مثل سباق الخيل ومثل الرمي بالنشاب ونحو ذلك فإن المقامرة إذا دخلت في هذا حرموه مع أنه عمل صالح واجب أو مستحب كما في الصحيح عن النبي أنه قال ( ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ) ( ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا ) وكان هو وخلفاؤه يسابقون بين الخيل وقرا على المنبر { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الآية ثم قال ( ألا إن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ) فكيف يشبه ما أمر الله به ورسوله واتفق المسلمون على الأمر به ما نهى الله ورسوله وأصحابه من بعده وإذا لم يجعل الموجب للتحريم إلا مجرد المقامرة كان النرد والشطرنج كالمناضلة الوجه الثاني أن يقال هب أن علة التحريم في الأصل هي المقامرة لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم فقال تعالى { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون }
____________________
(32/224)
فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان وأمر باجتنابها ثم خص الخمر والميسر بأنه يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى { فهل أنتم منتهون } كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله { فاجتنبوه لعلكم تفلحون } ولهذا يقال إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه ومعلوم أن الخمر لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه فلا يجوز اقتناؤها ولا شرب قليلها بل كان النبي قد أمر بإرقتها وشق ظروفها وكسر دنابها ونهى عن تخليلها وإن كانت ليتامى ومع أنها اشتريت لهم قبل التحريم ولهذا كان الصواب الذي هو المنصوص عن أحمد وبن المبارك وغيرهما أنه ليس في الخمر شيؤ محترم لا خمرة الخلال ولا غيرها وأنه من اتخذ خلا فعليه أن يفسده قبل أن يتخمر بأن يصب في العصير خلا وغير ذلك مما يمتنع تخميره بل كان النبي ( نهى عن الخليطين ) لئلا يقوى أحدهما على صاحبه فيفضي إلى أن يشرب الخمر المسكر من لا يدري ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي يدب السكر فيها ولا يدري ما به كالدباء والحنتم والظرف المزفت والمنقور من الخشب وأمر بالانتباذ في السقاء الموكاء لأن السكر ينظر إذا كان في الشارب انشق الظرف وإن كان في نسخ ذلك أو بعضه نزاع ليس هذا موضع ذكره فالمقصود سد الذرائع المفضية إلى ذلك بوجه من الوجوه
____________________
(32/225)
وكذلك كان يشرب النبيذ ثلاثا وبعد الثلاث يسقيه أو يريقه لأن الثلاث مظنة سكره بل كان أمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة فهذا كله سد للذريعة لأن النفوس لما كانت تشتهي ذلك وفي اقتنائها ولو للتخليل ما قد يفضي إلى شربها كما أن شرب قليلها يدعو إلى كثيرها فنهي عن ذلك فهذا الميسر المقرون بالخمر إذا قدر أن علة تحريم أكل المال بالباطل وما في ذلك من حصول المفسدة وترك المنفعة ومن المعلوم أن هذه الملاعب تشتهيها النفوس وإذا قويت الرغبة فيها أدخل فيها العوض كما جرت به العادة وكان من حكم الشارع أن ينهى عما يدعو إلى ذلك لو لم يكن فيه مصلحة راجحة وهذا بخلاف المعالبات التي قد تنفع مثل المسابقة والمصارعة ونحو ذلك فإن تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الأبدان فلم ينه عنها لأجل ذلك ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها وهذا المعنى نبه عليه النبي بقوله ( من لعب بالنرد شبر فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه ) فإن الغامس يده في ذلك يدعوه إلى أكل لحم الخنزير وذلك مقدمة أكله وسببه وداعيته فإذا حرم ذلك فكذلك اللعب الذي هو مقدمة أكل المال بالباطل وسببه وداعيته
____________________
(32/226)
وبهذا يتبين ما ذكر العلماء من أن المغالبات ثلاثة أنواع فما كان معينا على ما أمر الله به في قوله { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } جاز بجعل وبغير جعل وما كان مفضيا إلى ما نهى الله عنه كالنرد والشطرنج فمنهي عنه بجعل وبغير جعل وما قد يكون فه منفعة بلا مضرة راجحة كالمسابقة والمصارعة جاز بلا جعل الوجه الثالث أن يقال قول القائل إن الميسر إنما حرم لمجرد المقامرة دعوى مجردة وظاهر القرآن والسنة والإعتبار يدل على فسادها وذلك أن الله تعالى قال { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } فنبه على علة التحريم وهي ما في ذلك من حصول المفسدة وزوال المصلحة الواجبة والمستحبة فإن وقوع العداوة والبغضاء من أعظم الفساد وصدود القلب عن ذكر الله وعن الصلاة اللذين كل منهما إما واجب وإما مستحب من أعظم الفساد ومن المعلوم أن هذا يحصل في اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما وإن لم يكن فيه عوض وهو في الشطرنج أقوى فإن أحدهم يستغرق قلبه وعقله وفكره فيما فعل خصمه وفيما يريد أن يفعل هو وفي لوازم ذلك ولوازم لوازمه حتى لا يحس بجوعه ولا عطشه ولا بمن يسلم عليه ولا بحال أهله ولا بغير ذلك من ضرورات نفسه وماله فضلا أن يذكر ربه أو الصلاة
____________________
(32/227)
وهذا كما يحصل لشارب الخمر بل كثير من الشراب يكون عقله أصحى من كثير من أهل الشطرنج والنرد واللاعب بها لا تنقضي نهمته منها إلا بدست بعد دست كما لا تنقضي نهمة شارب الخمر إلا بقدح بقدح وتبقى آثارها في النفس بعد انقضائها أكثر من آثار شارب الخمر حتى تعرض له في الصلاة والمرض وعند ركوب الدابة بل وعند الموت وأمثال ذلك من الأوقات التي يطلب فيها ذكره لربه وتوجهه إليه تعرض له تماثيلها وذكر الشاه والرخ والفرزان ونحو ذلك فصدها للقلب عن ذكر الله قد يكون أعظم من صد الخمر وهي إلى الشرب أقرب كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للاعبيها ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) وقلب الرقعة وكذلك العداوة والبغضاء بسبب غلبة أحد الشخصين للآخر وما يدخل في ذلك التظالم والتكاذب والخيانة التي هي من أقوى أسباب العداوة والبغضاء وما يكاد لاعبها يسلم عن شيء من ذلك والفعل إذا اشتمل كثيرا على ذلك وكانت الطباع تقتضيه ولم يكن فيه مصلحة راجحة حرمه الشارع قطعا فكيف إذا اشتمل على ذلك غالبا وهذا أصل مستمر في أصول الشريعة كما قد بسطناه في قادة سد الذرائع وغيرها وبينا أن كل فعل أفضى إلى المحرم كثيرا كان سببا للشر والفساد فإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية وكانت مفسدته راجحة نهي عنه بل كل سبب يفضي إلى الفساد نهي عنه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة
____________________
(32/228)
فكيف بما كثر افضاؤه إلى الفساد ولهذا نهي عن الخلوة بالأجنبية وأما النظر فلما كانت الحاجة تدعو إلى بعضه رخص منه فيهما تدعو له الحاجة لأن الحاجة سبب الإباحة كما أن الفساد والضرر سبب التحريم فإذا اجتمعا رجح أعلاهما كما رجح عند الضرر أكل الميتة لأن مفسدة الموت شر من مفسدة الاغتذاء بالخبيث ( والنرد والشطرنج ) ونحوهما من المغالبات فيها من المفاسد ما لا يحصى وليس فيها مصلحة معتبرة فضلا عن مصلحة مقاومة غايته أن يلهى النفس ويريحها كما يقصد شارب الخمر ذلك وفي راحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح ولا يجتلب المفاسد غنية والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } وفي سنن بن ماجة وغيره عن أبي ذر أن هذه الآية لما نزلت قال النبي ( يا أبا ذر لو أن الناس كلهم عملوا بهذه الآية لوسعتهم ) وقد بين سبحانه في هذه الآية أن المنقي يدفع عنه المضرة وهو أن يجعل له مخرجا مما ضاق على الناس ويجلب له المنفعة ويرزقه من حيث لا يحتسب وكل ما يتغذى به الحي مما تستريح به النفوس وتحتاج إليه في طيبها وانشراحها فهو من الرزق والله تعالى يرزق ذلك لمن اتقاه بفعل المأمور وترك المحظور ومن طلب ذلك بالنرد والشطرنج ونحوهما من الميسر فهو بمنزلة من طلب ذلك بالخمر وصاحب الخمر يطلب الراحة ولا يزيده إلا تعبا وغما وإن كانت تفيده
____________________
(32/229)
مقدارا من السرور فما يعقبه من المضار ويفوته من المسار أضعاف ذلك كما جرب ذلك من جربه وهكذا سائر المحرمات ومما يبين أن الميسر لم يحرم لمجرد أكل المال بالباطل وإن كل أكل المال بالباطل محرما ولو تجرد عن الميسر فكيف إذا كان في الميسر بل في الميسر علة آخرى غير أكل المال بالباطل كما في الخمر أن الله قرن بيت الخمر والميسر وجعل العلة في تحريم هذا هي العلة في تحريم هذا ومعلوم أن الخمر لم تحرم لمجرد أكل المال بالباطل وإن كان أكل ثمنها من أكل المال بالباطل فكذلك الميسر يبين ذلك أن الناس أول ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر أنزل الله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } والمنافع التي كانت قيل هي المال وقيل هي اللذة ومعلوم أن الخمر كان فيها كلا هذين فإنهم كانوا ينتفعون بثمنها والتجارة فيها كما كانوا ينتفعون باللذة التي في شربها ثم إنه لما حرم الخمر ( لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وشاربها وآكل ثمنها ) وكذلك الميسر كانت النفوس تنتفع بما تحصله به من المال وما يحصل به من لذة اللعب ثم قال تعالى { وإثمهما أكبر من نفعهما } لأن الخسارة في
____________________
(32/230)
المقامرة أكثر والألم والمضرة في الملاعبة أكثر ولعل المقصود الأول لأكثر الناس بالميسر إنما هو الانشراح بالملاعبة والمغالبة وأن المقصود الأول لأكثر الناس بالخمر إنما هو ما فيها من لذة الشرب وإنما حرم العوض فيها لأنه أخذ مال بلا منفعة فيه فهو أكل مال بالباطل كما حرم ثمن الخمر والميتة والخنزير والأصنام فكيف تجعل المفسدة المالية هي حكمة النهي فقط وهي تابعة وتترك المفسدة الاصلية التي هي فساد العقل والقلب والمال مادة البدن والبدن تابع القلب وقال النبي ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب ) والقلب هو محل ذكر الله تعالى وحقيقة الصلاة فأعظم الفساد في تحريم الخمر والميسر إفساد القلب الذي هو ملك البدن أن يصد عما خلق له من ذكر الله والصلاة ويدخل فيما يفسد من التعادي والتباغض والصلاة حق الحق والتحاب والموالاة حق الخلق وأين هذا من أكل مال بالباطل ومعلوم أن مصلحة البدن مقدمة على مصلحة المال ومصلحة القلب مقدمة على مصلحة البدن وإنما حرمة المال لأنه مادة البدن ولهذا قدم الفقهاء في كتبهم ربع العبادات على ربع المعاملات وبهما تتم مصلحة القلب والبدن ثم ذكروا ربع المناكحات لأن ذلك مصلحة الشخص وهذا مصلحة النوع الذي يبقى بالنكاح ثم لما ذكروا المصالح ذكروا ما يدفع المفاسد في ربع الجنايات
____________________
(32/231)
وقد قال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وعبادة الله تتضمن معرفته ومحبته والخضوع له بل تتضمن كل ما يحبه ويرضاه واصل ذلك وأجله ما في القلوب الإيمان والمعرفة والمحبة لله والخشية له والإنابة إليه والتوكل عليه والرضي بحكمه مما تضمنه الصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن وكل ذلك داخل في معنى ذكر الله والصلاة وإنما الصلاة وذكر الله من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وقوله تعالى { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } فجعل السعي إلى الصلاة سعيا إلى ذكر الله ولما كانت الصلاة متضمنة لذكر الله تعالى الذي هو مطلوب لذاته والنهي عن الشر الذي هو مطلوب لغيره قال تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر } أي ذكر الله الذي في الصلاة أكبر من كونها تنهي عن الفحشاء والمنكر وليس المراد أن ذكر الله خارج الصلاة أفضل من الصلاة وما فيها من ذكر الله فإن هذا خلاف الإجماع ولما كان ذكر الله هو مقصود الصلاة قال أبو الدرداء ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة ولو كنت في السوق ولما كان ذكر الله
____________________
(32/232)
يعم هذا كله قالوا إن مجالس الحلال والحرام ونحو ذلك مما فيه ذكر أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ونحو ذلك هي من مجالس الذكر والمقصود هنا أن يعرف مراتب المصالح والمفاسد وما يحبه الله ورسوله وما لا يبغضه مما أمر الله به ورسوله كان لما يتضمنه من تحصيل المصالح التي يحبها ويرضاها ودفع المفاسد التي يبغضها ويسخطها وما نهي عنه كان لتضمنه ما يبغضه ويسخطه ومنعه مما يحبه ويرضاه وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها وما ينفعها من حقائق الإيمان وما يضرها من الغفلة والشهوة كما قال تعالى { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } وقال تعالى فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم فتجد كثيرا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن وغاية كثير منهم إذا تعدى ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من العلم كما يذكر مثل ذلك المتفلسفة والقرامطة مثل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم فإنهم يتكلمون في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من علم الفلسفة وما ضموا إليه مما ظنوه من الشريعة وهم في غاية ما ينتهون إليه دون اليهود والنصارى بكثير كما بسط في غير هذا الموضع
____________________
(32/233)
وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية ودنيوية جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها كمحبة الله وخشيته وإخلاص الدين له والتوكل عليه والرجا لرحمته ودعائه وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام وحقوق المماليك والجيران وحقوق المسلمين بعضهم على بعض وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه حفظا للأحوال السنية وتهذيب الأخلاق ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح فهكذا من جعل تحريم الخمر والميسر لمجرد أكل المال بالباطل والنفع الذي كان فيهما بمجرد أخذ المال يشبه هذا إن هذه المغالبات تصد عن ذكر الله وعن الصلاة من جهة كونها عملا لا من جهة أخذ المال فإنها لا تصد عن ذكر الله وعن الصلاة الاكما يصد سائر أنواع أخذ المال ومعلوم أن الأموال التي يكتسب بها المال لا ينهى عنها مطلقا لكونها تصد عن ذكر الله وعن
____________________
(32/234)
الصلاة بل بنهي منها عما يصد عن الواجب كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } وقال تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } وقال تعالى { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } فما كان ملهيا وشاغلا عما أمر الله تعالى به من ذكره والصلاة له فهو منهي عنه وإن لم يكن جنسه محرما كالبيع والعمل في التجارة وغير ذلك فلو كان اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما في جنسه مباحا وإنما حرم إذا اشتمل على أكل المال بالباطل كان تحريمه من جنس تحريم ما نهي عنه من المبيعات والمؤجرات المشتملة على أكل المال بالباطل كبيوع الغرر فإن هذه لا يعلل النهي عنها بأنها تصد عما يجب من ذكر الله وعن الصلاة فإن البيع الصحيح منه ما كان يصد وأن المعاملات الفاسدة لا يعلل تحريمها بأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة فيمكن أن يقال تلك المعاملات الصحيحة ينهى منها عما يصد عن الواجب فتبين أن تحريم الميسر ليس لكونه من المعاملات الفاسدة وأن نفس العمل به منهي عنه لأجل هذه المفسدة كما حرم شرب الخمر وهذا بين لمن تدبره ألا ترى أنه لما حرم الربا لما فيه من الظلم وأكل المال بالباطل قرن بذلك ذكر البيع الذي هو عدل وقدم عليه ذكر الصدقة التي هي إحسان فذكر في آخر سورة البقرة حكم الأموال المحسن والعادل والظالم
____________________
(32/235)
ذكر الصدق والبيع والربا والظلم في الربا واكل المال بالباطل به ابين منه في الميسر فإن المرابي يأخذ فضلا محققا من المحتاج ولهذا عاقبه الله بنقيض قصده فقال { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وأما المقامر فإنه قد يغلب فيظلم فقد يكون المظلوم هو الغني وقد يكون هو الفقير وظلم الفقير المحتاج أشد من ظلم الغني وظلم يتعين فيه الظالم القادر أعظم من ظلم لا يتعين فيه الظالم فإن ظلم القادر الغني للعاجز الضعيف أقبح من تظالم قادرين غنيين لا يدري أيهما هو الذي يظلم فالربا في ظلم الأموال أعظم من القمار ومع هذا فتأخر تحريمه وكان آخر ما حرم الله تعالى في القرآن فلو لم يكن في الميسر إلا مجرد القمار لكان أخف من الربا لتأخر تحريمه وقد أباح الشارع أنواعا من الغرر للحاجة كما أباح إشتراط ثمر النخل بعد التأبير تبعا للأصل وجوز بيع المجازفة وغير ذلك وأما الربا فلم يبح منه ولكن أباح العدول عن التقدير بالكيل إلى التقدير بالخرص عند الحاجة كما أباح التيمم عند عدم الماء للحاجة إذا الخرص تقدير بظن والكيل تقدير بعلم والعدول عن العلم إلى الظن عند الحاجة جائز فتبين أن الربا أعظم من القمار الذي ليس فيه إلا مجرد أكل المال بالباطل لكن الميسر تطلب به الملاعبة والمغالبة نهي عنه الإنسان لفساد عقله مع فساد ماله مثل ما فيه من الصدود عن ذكر الله وعن الصلاة وكل من الخمر والميسر فيه إيقاع العداوة والبغضاء وفيه الصد عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم من الربا وغيره من المعاملات الفاسدة
____________________
(32/236)
فتبين أن الميسر اشتمل على مفسدتين مفسدة في المال وهي أكله بالباطل ومفسدة في العمل وهي ما فيه من مفسدة المال وفساد القلب والعقل وفساد ذات البين وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي فينهي عن أكل المال بالباطل مطلقا ولو كان بغير ميسر كالربا وينهى عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء ولو كان بغير أكل مال فإذا اجتمعا عظم التحريم فيكون الميسر المشتمل عليهما أعظم من الربا ولهذا حرم ذلك قبل تحريم الربا ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر حرمها ولو كان الشارب يتداوى بها كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وحرم بيعها لأهل الكتاب وغيرهم وإن كان أكل ثمنها لا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ولا يوقع العداوة والبغضاء لأن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه كل ذلك مبالغة في الاجتناب فهكذا الميسر منهي عن هذا وعن هذا والمعين على الميسر كالمعين على الخمر فإن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان وكما أن الخمر تحرم الإعانة عليها ببيع أو عصر أو سقي أو غير ذلك فكذك الإعانة على الميسر كبائع الاته والمؤجر لها والمذبذب الذي يعين أحدهما بل مجرد الحضور عند أهل الميسر كالحضور عند أهل شرب الخمر وقد قال النبي ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر ) وقد رفع إلى عمر بن
____________________
(32/237)
عبد العزيز رضي الله عنه قوم يشربون الخمر فأمر بضربهم فقيل له أن فيهم صائما فقال ابدؤا به ثم قال أما سمعت قوله تعالى { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } فاستدل عمر بالآية لأن الله تعالى جعل حاضر المنكر مثل فاعله بل إذا كان من دعا إلى دعوة العرس لا تجاب دعوته إذا اشتملت على منكر حتى يدعه مع أن إجابة الدعوة حق فكيف بشهود المنكر من غير حق يقتضي ذلك فإن قيل إذا كان هذا من الميسر فكيف استجازه طائفة من السلف قيل له المستجيز للشطرنج من السلف بلا عوض كالمستجيز للنرد بلا عوض من السلف وكلاهما مأثور عن بعض السلف بل في الشطرنج قد تبين عذر بعضهم كما كان الشعبي يلعب به لما طلبه الحجاج لتولية القضاء رأى أن يلعب به ليفسق نفسه ولا يتولى القضاء للحجاج ورأى أن يحتمل مثل هذا ليدفع عن نفسه إعانة مثل الحجاج على مظالم المسلمين وكان هذا أعظم محذوروا عنده ولم يمكنه الاعتذار إلا بمثل ذلك ثم يقال من المعلوم أن الذين استحلوا النبيذ المتنازع فيه من السلف والذين استحلوا الدرهم بالدرهمين من السلف أكثر وأجل قدرا من هؤلاء فإن بن عباس ومعاوية وغيرهما رخصوا في الدرهم بالدرهمين وكانوا متأولين أن الربا لا يحرم إلا في النساء لا في اليد باليد وكذلك من ظن أن الخمر
____________________
(32/238)
ليست إلا المسكر من عصير العنب فهؤلاء فهموا من الخمر نوعا منه دون نوع وظنوا أن التحريم مخصوص به وشمول الميسر لأنواعه كشمول الخمر والربا لأنواعهما وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل فإن الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطؤا كما قال تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله قد فعلت وأمرنا أن نبتع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء وأمرنا أن لا نطيع مخلوقا في معصية الخالق ونستغفر لإخواننا الذي سبقونا بالإيمان فنقول { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } الآية وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور ونعظم أمر تعالى بالطاعة لله ورسوله ونرعى حقوق المسلمين لا سيما أهل العلم منهم كما أمر الله ورسوله ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما أكتسبوا فهو من الظالمين ومن عظم حرمات الله وأحسن إلى عباد الله كان من أولياء الله المتقين والله سبحانه أعلم
____________________
(32/239)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين اختلفا في الشطرنج فقال أحدهما هي حرام وقال الآخر هي ترد عن الغيبة وعن النظر إلى الناس مع إنها حلال فايهما المصيب
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما إذا كان بعوض أو يتضمن ترك واجب مثل تأخير الصلاة عن وقتها أو تضييع واجباتها أو ترك ما يجب من مصالح العيال وغير ذلك مما أوجب على المسلمين فإنه حرام بإجماع المسلمين وكذلك إذا تضمن كذبا أو ظلما وغير ذلك من المحرمات فإنه حرام بالإجماع وإذا خلا عن ذلك فجمهور العلماء كمالك وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وكثير من أصحاب الشافعي أنه حرام وقال هؤلاء إن الشافعي لم يقطع بأنه حلال بل كرهه وقيل إنه قال لم يتبين إلي تحريمه والبيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث وأنصرهم للشافعي ذكر إجماع الصحابة على المنع منه عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد وبن عمر وبن عباس وأبي موسى وعائشة رضي الله عنهم ولم يحك عن الصحابة في ذلك نزاعا ومن نقل عن أحد من الصحابة أنه رخص فيه فهو غالط والبيهقي وغيره من أهل الحديث أعلم بأقوال الصحابة ممن ينقل أقوالا بلا إسناد قال البيهقي جعل الشافعي اللعب بالشطرنج من المسائل المختلف فيها
____________________
(32/240)
في أنه لا يوجب رد الشهادة فأما كراهيته اللعب بها فقد صرح بها فيما قدمنا ذكره وهو الأشبه والأولى بمذهبه فالذين كرهوا أكثر ومعهم من يحتج بقوله وروى بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول الشطرنج ميسر العجم وروى بإسناده عن علي أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج وقال ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمجلس من مجالس تيم الله وهم يلعبون بالشطرنج فقال أما والله لغير هذا خلقتم أما والله لولا أن يكون سنة لضربت بها وجوهكم وعن مالك قال بلغنا أن بن عباس ولي مال يتيم فأحرقها وعن بن عمر أنه سئل عن الشطرنج فقال هو شر من النرد وعن أبي موسى الأشعري قال لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ وعن عائشة أنها كانت تكره الكيل وإن لم يقامر عليها وأبو سعيد الخدري كان يكره اللعب بها فهذه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ولم يثبت عن صحابي خلاف ذلك ثم روى البيهقي أيضا عن أبي جعفر محمد بن علي المعروف بالباقر أنه سئل عن الشطرنج فقال دعونا من هذه المجوسية قال البيهقي روينا في كراهية اللعب بها عن يزيد بن أبي حبيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم ومالك بن أنس قلت والكراهية في كلام السلف كثيرا وغالبا يراد بها التحريم وقد صرح هؤلاء بأنها كراهة تحريم بل صرحوا بأنها شر من النرد والنرد حرام وإن لم يكن فيها عوض
____________________
(32/241)
وروى بإسناده عن جامع بن وهب عن أبي سلمة قال قلت للقاسم بن محمد ما الميسر قال كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر قال يحيى بن أيوب حدثني عبد الله بن عمر أنه سمع عمر بن عبد الله يقول قلت للقاسم بن محمد هذا النرد ميسر أرأيت الشطرنج ميسر هي قال القاسم كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر وقال بن وهب حدثني يحيى بن أيوب حدثنا أبو قيس عن عقبة بن عامر قال لأن أعبد صنما يعبد في الجاهلية أحب إلي من أن ألعب بهذا الميسر قال القيسي وهي عيدان كان يلعب بها في الأرض وبإسناده عن فضالة بن عبيد قال ما أبالي ألعبت بالكيل أو توضأت بدم خنزير ثم قمت إلى الصلاة وما ذكر عن علي بن أبي طالب أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) ثابت عنه يشبههم بعباد الأصنام وذلك كقوله { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } والميسر يدخل فيه النردشير ونحوه وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال ( من لعب بالنردشير فقد صبغ يده في لحم خنزير ودمه ) وفي السنن أنه قال ( من لعب بالنرد شير فقد عصى الله ورسوله ) ومذهب الأئمة الأربعة أن اللعب بالنرد حرام وإن لم يكن بعوض وقد قال بن عمر ومالك بن أنس وغيرهما إن الشطرنج شر من النرد وقال أبو حنيفة
____________________
(32/242)
وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم النردشير من الشطرنج وكلا القولين صحيح باعتبار فإن النرد إذا كان بعوض والشطرنج بغير عوض فالنرد شر منه وهو حرام حينئذ بالإجماع وأما إن كان كلاهما بعوض أو كلاهما بلا عوض فالشطرنج شر من النرد لأن الشطرنج يشغل القلب ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة اكثر من النرد ولهذا قيل الشطرنج مبني على مذهب القدر والنرد مبني على مذهب الجبر فإن صاحب النرد يومي ويحسب بعد ذلك وأما صاحب الشطرنج فإنه يقدر ويفكر ويحسب حساب النقلات قبل النقل فإفساد الشطرنج للقلب أعظم من إفساد النرد ولكن كان معروفا عند العرب والشطرنج لم يعرف إلا بعد أن فتحت البلاد فإن أصله من الهند وانتقل منهم إلى الفرس فلهذا جاء ذكر النرد في الحديث وإلا فالشطرنج شر منه إذا استويا في العوض أو عدمه وقد بسط جواب السؤال في موضع آخر والله أعلم وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل لعب بالشطرنج وقال هو خير من النرد فهل هذا صحيح وهل اللعب بالشطرنج بعوض أو غير عوض حرام وما قول العلماء فيه
فأجاب الحمد لله اللعب بالشطرنج حرام عند جماهير علماء الأمة وأئمتها كالنرد وقد صح عن النبي أنه قال ( من لعب بالنرد
____________________
(32/243)
فكأنما صبغ يد في لحم خنزير ودمه ) وقال ( من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ) وثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) وروى أنه قلب الرقعة عليهم وقالت طائفة من السلف الشطرنج من الميسر وهو كما قالوا فإن الله حرم الميسر وقد أجمع العلماء على أن اللعب بالنرد والشطرنج حرام إذا كان بعوض وهو من القمار والميسر الذي حرمه الله والنرد حرام عند الأئمة الأربعة سواء كان بعوض أو غير عوض ولكن بعض أصحاب الشافعي جوزه بغير عوض لاعتقاده أنه لا يكون حينئذ من الميسر وأما الشافعي وجمهور أصحابه وأحمد وأبو حنيفة وسائر الأئمة فيحرمون ذلك بعوض وبغير عوض وكذلك الشطرنج صرح هؤلاء الأئمة بتحريمها مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم وتنازعوا أيهما أشد فقال مالك وغيره الشطرنج شر من النرد وقال أحمد وغيره الشطرنج أخف من النرد ولهذا توقف الشافعي في النرد إذا خلا من المحرمات إذ سبب الشبهة في ذلك أن أكثر من يلعب فيها بعوض بخلاف الشطرنج فإنها تلعب بغير عوض غالبا وأيضا فظن بعضهم أن اللعب بالشطرنج يعين على القتال لما فيها من صف الطائفتين والتحقيق أن النرد والشطرنج إذا لعب بهما بعوض فالشطرنج شر منها لأن الشطرنج حينئذ حرام بإجماع المسلمين وكذلك يحرم
____________________
(32/244)
بالإجماع إذا اشتملت على محرم من كذب ويمين فاجرة أو ظلم أو جناية أو حديث غير واجب ونحوها وهي حرام عند الجمهور وإن خلت عن هذه المحرمات فإنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع العداوة والبغضاء أعظم من النرد إذا كان بعوض وإذا كانا بعوض فالشطرنج شر في الحالين وأما إذا كان العوض من أحدهما ففيه من أكل المال بالباطل ما ليس في الآخر والله تعالى قرن الميسر بالخمر والأنصاب والأزلام لما فيها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة وفيها ايقاع العداوة والبغضاء فإن الشطرنج إذا استكثر منها تستر القلب وتصده عن ذلك أعظم من تستر الخمر وقد شبه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لاعبيها بعباد الأصنام حيث قال ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) كما شبه النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر بعابد الوثن في الحديث الذي في المسند عن النبي أنه قال ( شارب الخمر كعابد وثن ) وأما ما يروى عن سعيد بن جبير من اللعب بها فقد بين سبب ذلك أن الحجاج طلبه للقضاء فلعب بها ليكون ذلك قادحا فيه فلا يولي القضاء وذلك أنه رأى ولاية الحجاج أشد ضررا عليه في دينه من ذلك والأعمال بالنيات وقد يباح ما هو أعظم تحريما من ذلك لأجل الحاجة وهذا يبين أن اللعب بالشطرنج كان عندهم من المنكرات كما نقل عن علي وبن عمر وغيرهما ولهذا قال أبو حنيفة وأحمد وغيرهما إنه لا يسلم على لاعب الشطرنج لأنه مظهر للمعصية وقال صاحبا أبي حنيفة يسلم عليه
____________________
(32/245)
وسئل رحمه الله تعالى عن معنى قوله ( من لعب بالنردشير فهو كمن غمس يده في لحم خنزير ودمه )
فأجاب الحمد لله أما قوله ( من لعب بالنردشير فهو كمن غمس يده في لحم خنزير ودمه ) فهو حديث صحيح رواه مسلم وغيره واللعب بالنرد حرام وإن لم يكن بعوض عند جماهير العلماء وبالعوض حرام بالإجماع وسئل رحمه الله عن اللعب بالحمام
فأجاب اللعب بالحمام منهي عنه وفي السنن عن النبي أنه رأى رجلا يتبع حمامة فقال ( شيطان يتبع شيطانة ) ومن لعب بالحمام فأشرف على حريم الناس أو رماهم بالحجارة فوقعت على الجيران فإنه يعزر على ذلك تعزيرا يردعه عن ذلك ويمنع من ذلك فإن هذا فيه ظلم وعدوان على الجيران مع ما فيه من اللعب المنهي عنه والله أعلم
____________________
(32/246)
& باب العشرة & وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن أقوام يعاشرون المردان وقد يقع من أحدهم قبلة ومضاجعة للصبي ويدعون أنهم يصحبون لله ولا يعدون ذلك ذنبا ولا عارا ويقولون نحن نصحبهم بغير خنا ويعلم أبو الصبي بذلك وعمه وأخوه فلا ينكرون فما حكم الله تعالى في هؤلاء وماذا ينبغي للمرء المسلم أن يعاملهم به والحالة هذه
فأجاب الحمد لله الصبي الأمرد المليح بمنزلة المرأة الأجنبية في كثير من الأمور ولا يجوز تقبيله على وجه اللذة بل لا يقبله إلا من يؤمن عليه كالأب والأخوة ولا يجوز النظر إليه على هذا الوجه باتفاق الناس بل يحرم عند جمهورهم النظر إليه عند خوف ذلك وإنما ينظر إليه لحاجة بلا ريبة مثل معاملته والشهاد عليه ونحو ذلك كما ينظر إلى المرأة للحاجة وأما مضاجعته فهذا أفحش من أن يسأل عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا
____________________
(32/247)
بينهم في المضاجع ) إذا بلغوا عشر سنين ولم يحتلموا بعد فكيف بما هو فوق ذلك وإذا كان النبي قد قال ( لا يخلوا رجل بإمرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ) وقال ( إياكم والدخول على النساء قالوا يا رسول الله أفرأيت الحم قال الحم الموت ) فإذا كانت الخلوة محرمة لما يخاف منها فكيف بالمضاجعة وأما قول القائل إنه يفعل ذلك لله فهذا أكثره كذب وقد يكون لله مع هوى النفس كما يدعي من يدعي مثل ذلك في صحبة النساء الأجانب فيبقى كما قال تعالى في الخمر { فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } وقد روى الشعبي عن النبي ( أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي وكان فيهم غلام ظاهر الوضاءة أجلسه خلف ظهره وقال إنما كانت خطيئة داود عليه السلام النظر ) هذا وهو رسول الله وهو مزوج بتسع نسوة والوفد قوم صالحون ولم تكن الفاحشة معروفة في العرب وقد روى عن المشائخ من التحذير عن صحبة الأحداث ما يطول وصفه وليس لأحد من الناس أن يفعل ما يفضي إلى هذه المفاسد المحرمة وإن ضم إلى ذلك مصلحة من تعليم أو تأديب فإن المردان يمكن تعليمهم وتأديبهم بدون هذه المفاسد التي فيها مضرة عليهم وعلي من يصحبهم وعلى المسلمين بسوء الظن تارة وبالشبهة أخرى بل روى أن رجلا كان يجلس
____________________
(32/248)
إليه المردان فنهى عمر رضي الله عنه عن مجالسته ولقي عمر بن الخطاب شابا فقطع شعره لميل بعض النساء إليه مع ما في ذلك من إخراجه من وطنه والتفريق بينه وبين أهله ومن أقر صبيا يتولاه مثل أبنه وأخيه أو مملوكه أو يتيم عند من يعاشره على هذا الوجه فهو ديوث ملعون ( ولا يدخل الجنة ديوث ) فإن الفاحشة الباطنة ما يقوم عليها بينة في العادة وإنما تقوم على الظاهرة وهذه العشرة القبيحة من الظاهرة وقد قال الله تعالى { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } وقال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } فلو ذكرنا ما حصل في مثل هذا من الضرر والمفاسد وما ذكروه العلماء لطال سواء كان الرجل تقيا أو فاجرا فإن التقي يعالج مرارة في مجاهدة هواه وخلاف نفسه وكثيرا إما يغلبه شيطانه ونفسه بمنزلة من يحمل حملا لا يطيقه فيعذبه أو يقتله والفاجر يكمل فجوره بذلك والله أعلم وسئل رحمه الله عن رجلين تراهنا في عمل زجلين وكل منهما له عصبية وعلى من تعصب لهما وفي ذكرهما التغزل في المردان وغير ذلك وما أشبههما أفتونا مأجورين
____________________
(32/249)
فأجاب الحمد لله هؤلاء المتغالبون بهذه الأزجال وما كان من جنسها هم والمتعصبون من الطرفين والمراهنة في ذلك وغير المراهنة ظالمون معتدون آثمون مستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تردعهم وأمثالهم من سفهاء الغواة العصاة الفاسقين عن مثل هذه الأقوال والأعمال التي لا تنفع في دين ولا دنيا بل تضر أصحابها في دينهم ودنياهم وعلى ولاة الأمور وجميع المسلمين الانكار على هؤلاء وأعوانهم حتى ينتهوا عن هذه المنكرات ويراجعوا طاعة الله ورسوله وملازمة الصراط المستقيم الذي يجب على المسلمين ملازمته فإن هذه المغالبات مشتملات على منكرات محرمات وغير محرمات بل مكروهات ومن المحرمات التي فيها تحريمه ثابت بالإجماع وبالنصوص الشرعية وذلك من وجوه أحدها المراهنة على ذلك بإجماع المسلمين وكذلك لو كان المال مبذولا من أحدهما أو من غيرها لم يجز لا على قول من يقول السبق في غير هذه الثلاثة أما على القول الأول فظاهر وفي ذلك الحديث المعروف في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ولا على قول من يقول السبق في غير هذه الثلاثة أما على القول الأول فظاهر وفي ذلك الحديث المعروف في السنن عن النبي أنه قال ( لا سبق إلا خف أو حافر أو نصل ) وهذه الثلاثة من أعمال الجهاد في سبيل الله فإخراج السبق فيها من أنواع إنفاق المال في سبيل الله بخلاف غيرها من المباحات كالمصارعة والمسابقة بالإقدام فإن هذه الأعمال ليست من الجهاد فلهذا رخص فيها من غير سبق فإن النبي صلى الله
____________________
(32/250)
عليه وسلم صارع بن عبد يزيد وسابق عائشة رضي الله عنها وأذن في السباق لسلمة بن الأكوع وأما على القول الثاني فلا بد أن تكون المغالبة في عمل مباح وهذه ليست كذلك وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أن هذه الأقوال فيها من وصف المردان وعشقهم ومقدمات الفجور بهم ما يقتضي ترغيب النفوس في ذلك وتهييج ذلك في القلوب وكل ما فيه إعانة على الفاحشة والترغيب فيها فهو حرام وتحريم هذا أعظم من تحريم الندب والنياحة وذلك يثير الحزن وهذا يثير الفسق والحزن قد يرخص فيه وأما الفسق فلا يرخص في شيء منه وهذا من جنس القيادة وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال ( لاتنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها ) فنهى النبي عن وصف المرأة لئلا تتمثل في نفسه صورتها فكيف بمن يصف المردان بهذه الصفات ويرغب في الفواحش بمثل هذه الأقوال المنكرات التي تخرج القلب السليم وتعمى القلب السقيم وتسوق الإنسان إلى العذاب الأليم وقد أمر عمر رضي الله عنه بضرب نائحة فضربت حتى بدا شعرها فقيل له يا أمير المؤمنين إنه قد بدا شعرها فقال لا حرمة لها إنما تأمر بالجزع وقد نهى الله عنه وتنهى عن الصبر وقد أمر الله به وتفتن الحي وتؤذي الميت وتبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها إنها لا تبكي علي ميتكم وإنما تبكي على أخذ دراهمكم وبلغ عمر أن شابا يقال له نصر
____________________
(32/251)
بن حجاج تغنت به إمرأة فأخذ شعره ثم رآه جميلا فنفاه إلى البصرة وقال لا يكون عندي من تغنى به النساء فكيف لو رأى عمر من يغني بمثل هذه الأقوال الموزونة في المردان مع كثرة الفجور وظهور الفواحش وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هؤلاء من المضادين لله ولرسوله ولدينه ويدعون إلى ما نهى الله عنه ويصدون عما أمر الله به ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا الوجه الثالث أن هذا الكلام الموزون كلام فاسد مفردا أو مركبا لأنهم غير وافيه كلام العرب وبدلوه بقولهم ماعو وبدوا وعدوا وأمثال ذلك مما تمجه القلوب والأسماع وتنفر عنه العقول والطباع وأما مركباته فإنه ليس من أوزان العرب ولا هو من جنس الشعر ولا من أبحره الستة عشر ولا من جنس الأسجاع والرسائل والخطب ومعلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية وكان السلف يؤدبون أولادهم عل اللحن فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي ونصلح الألسن المائلة عنه فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة والاقتداء بالعرب في خطابها فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة والأوزان القويمة فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للسان الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان الذي لا يهذي به الأقوم من الأعاجم الطماطم الصميان
____________________
(32/252)
الوجه الرابع إن المغالبة بمثل هذا توقع العداوة والبغضاء وتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة وهذا من جنس النقار بين الديوك والنطاح بين الكباش ومن جنس مغالبات العامة التي تضرهم ولا تنفهم والله سبحانه حرم الخمر والميسر والميسر هو القمار لأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء والميسر المحرم ليس من شرطه أن يكون فيه عوض بل اللعب بالنرد حرام باتفاق العلماء وأن لم يكن فيه عوض وإن كان فيه خلاف شاذ لا يلتفت إليه وقد قال ( من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ) لأن النرد يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء وهذه المغالبات تصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من النرد فإذا كان أكثر الأئمة قد حرم الشطرنج وجعله مالك أعظم من النرد مع أن اللاعبين بالنرد والشطرنج وإن كانوا فساقا فهم أمثل من هؤلاء وهذا بين الوجه الخامس وهو أن غالب هؤلاء إما زنديق منافق وإما فاجر فاسق ولا يكاد يوجد فيهم مؤمن بر بل وجد حاذقهم منسلخا من دين الإسلام مضيعا للصلوات متبعا للشهوات لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرم ما حرم الله ورسوله ولا يدين دين المسلمين وإن كان مسلما كان فاسقا مرتكبا للمحرمات تاركا للواجبات وإن كان الغالب عليهم إما النفاق وإما الفسق كان حكم الله في الزنديق قتله من غير استتابة وحكمه في الفاسق إقامة الحد عليه إما بالقتل أو بغيره والمخالط
____________________
(32/253)
لهم والمعاشر إذا ادعى سلامته من ذلك لم يقبل فإنه إما أن يفعل معهم المحرمات ويترك الواجبات وإما أن يقرهم على المنكرات فلا يأمرهم بمعروف ولا ينهاهم عن منكر وعلى كل حال فهو مستحق للعقوبة وقد رفع إلى عمر بن عبد العزيز أقوام يشربون الخمر فأمر بجلدهم الحد فقيل إن فيهم صائما فقال إبدوا بالصائم فأجلدوه ألم يسمع إلى قوله تعالى { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } وقوله تعالى { وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون } فنهى سبحانه عن القعود مع الظالمين فكيف بمعاشرتهم أم كيف بمخادنتهم وهؤلاء قوم تركوا المقامرة بالأيدي وعجزوا عنها ففتحوا القمار بالألسنة والقمار بالألسنة أفسد للعقل والدين من القمار بالأيدي والواجب على المسلمين المبالغة في عقوبة هؤلاء وهجرهم واستتابتهم بل لو فرض أن الرجل نظم هذه الأزجال العربية من غير مبالغة لنهي عن ذلك بل لو نظمها في غير الغزل فإنهم تارة ينظمونها بالكفر بالله وبكتابه ورسوله كما نظمها أبو الحسن التستري في وحدة الوجود وأن الخالق هو المخلوق وتارة ينظمونها في الفسق كنظم هؤلاء الغواة والسفهاء الفساق ولو قدر أن ناظما نظم هذه الأزجال في مكان حانوت نهي فإنها تفسد اللسان العربي وتنقله إلى العجمة المنكرة
____________________
(32/254)
وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجة كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد بل قال مالك من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها ولكن سوغوها للحاجة وكرهوها لغير الحاجة ولحفظ شعائر الإسلام فإن الله انزل كتابه باللسان العربي وبعث به نبيه العربي وجعل الأمة العربية خير الأمم فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام فكيف بمن تقدم على الكلام العربي مفرده ومنظومه فيغيره ويبدله ويخرجه عن قانونه ويكلف الانتقال عنه إنما هذا نظير ما يفعله بعض أهل الضلال من الشيوخ الجهال حيث يصمدون إلى الرجل العاقل فيولهونه ويخنثونه فإنهم ضادوا الرسول إذ بعث بإصلاح العقول والأديان وتكميل نوع الإنسان وحرم ما يغير العقل من جميع الألوان فإذا جاء هؤلاء إلى صحيح العقل فأفسدوا عقله وفهمه وقد ضادوا الله وراغموا حكمه والذين يبدلون اللسان العربي ويفسدونه لهم من هذا الذم والعقاب بقدر ما يفتحونه فإن صلاح العقل واللسان مما يؤمرو به الإنسان ويعين ذلك على تمام الإيمان وضد ذلك يوجب الشقاق والضلال والخسران والله أعلم وسئل رحمه الله عمن يتحدث بين الناس بكلام وحكايات مفتعلة كلها كذب هل يجوز ذلك
____________________
(32/255)
فأجاب أما المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس أو لغرض آخر فإنه عاص لله ورسوله وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن الذي يحدث فيكذب ليضحك القوم ويل له ويل له ثم ويل له ) وقد قال بن مسعود إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ولا يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على مسلم وضرر في الدين فهو أشد تحريما من ذلك وبكل حال ففاعل ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك والله أعلم وقال شيخ الإسلام رحمه الله 4 فصل التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه في أصواتها وأفعالها ونحو ذلك مثل أن ينبح نبيح الكلاب أو ينهق نهيق الحمير ونحو ذلك وذلك لوجوه أحدها أنا قررنا في اقتضاء الصراط المستقيم نهي الشارع عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص كالتشبه بالاعراب وبالأعاجم وبأهل الكتاب ونحو ذلك في أمور من خصائصهم وبيننا أن من أسباب ذلك
____________________
(32/256)
أن المشابهة تورث مشابهة الأخلاق وذكرنا أن من أكثر عشرة بعض الدواب اكتسب من أخلاقها كالكلابين والجمالين وذكرنا ما في النصوص من ذم أهل الجفاء وقسوة القلوب أهل الإبل ومن مدح أهل الغنم فكيف يكون التشبه بنفس البهائم فيما هي مذمومة بل هذه القاعدة تقتضي بطريق التنبيه النهي عن التشبه بالبهائم مطلقا فيما هو من خصائصها وإن لم يكن مذموما بعينه لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه إذ من المعلوم أن كون الشخص أعرابيا أو عجميا خير من كونه كلبا أو حمارا أو خنزيرا فإذا وقع النهي عن التشبه بهذا الصنف من الآدميين في خصائصه لكون ذلك تشبها فيما يستلزم النقص ويدعو إليه فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذموما ومنهيا عنه الوجه الثاني أن كون الإنسان مثل البهائم مذموم قال تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } الوجه الثالث إن الله سبحانه إنما شبه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم له كقوله { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون }
____________________
(32/257)
وقال تعالى { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } الآية وإذا كان التشبه بها إنما كان على وجه الذم من غير أن يقصد المذموم التشبه بها فالقاصد أن يتشبه بها أولى أن يكون مذموما لكن إن كان تشبه بها في عين ما ذمه الشارع صار مذموما من وجهين وإن كان فيما لم يذمه بعينه صار مذموما من جهة التشبه المستلزم للوقوع في المذموم بعينه يؤيد هذا الوجه الرابع وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح ( العائد في هبته كالعائد في قيئه ليس لنا مثل السوء ) ولهذا يذكر أن الشافعي وأحمد تناظرا في هذه المسألة فقال له الشافعي الكلب ليس بمكلف فقال له أحمد ليس لنا مثل السوء وهذه الحجة في نفس الحديث فإن النبي لم يذكر هذا المثل إلا ليبن أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذموما وإن لم يكن الكلب مذموما في ذلك من جهة التكليف ولهذا ليس لنا مثل السوء والله سبحانه قد بين بقوله { ساء مثلا } إن التمثيل بالكلب مثل سوء والمؤمن منزه عن مثل السوء فإذا كان له مثل سوء من الكلب كان مذموما بقدر ذلك المثل السوء الوجه الخامس أن النبي قال ( إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ) وقال ( اذا سمعتم صياح الديكة فسألوا الله من فضله وإذا
____________________
(32/258)
سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا ) فدل ذلك على أن أصواتها مقارنة للشياطين وإنها منفرة للملائكة ومعلوم أن المشابه للشيء لابد أن يتناوله من أحكامه بقدر المشابهة فإذا نبح نباحها كان في ذلك من مقارنة الشياطين وتنفير الملائكة بحسبه وما يستدعي الشياطين وينفر الملائكة لا يباح إلا لضرورة ولهذا لم يبح اقتناء الكلب إلا لضرورة لجلب منفعة كالصيد أو دفع مضرة عن الماشية والحرث حتى قال ( من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو حرث أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراط ) وبالجملة فالتشبه بالشيء يقتضي من الحمد والذم بحسب الشبه لكن كون المشبه به غير مكلف لا ينفي التكليف عن المتشبه كما لو تشبه بالأطفال والمجانين والله سبحانه أعلم الوجه السادس أن النبي ( لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ) وذلك لأن الله خلق كل نوع من الحيوان وجعل صلاحه وكماله في أمر مشترك بينه وبين غيره وبين أمر مختص به فأما الأمور المشتركة فليست من خصائص أحد النوعين ولهذا لم يكن من مواقع النهي وإنما مواقع النهي الأمور المختصة فإذا كانت الأمور التي هي من خصائص النساء ليس للرجال التشبه بهن فيها والأمور التي هي من خصائص الرجال ليس
____________________
(32/259)
للنساء التشبه بهم فيها فالأمور التي هي من خصائص البهائم لا يجوز للآدمي التشبه بالبهائم فيها بطريق الأولى والأحرى وذلك لأن الإنسان بينه وبين الحيوان قدر جامع مشترك وقدر فارق مختص ثم الأمر المشترك كالأكل والشرب والنكاح والأصوات والحركات لما اقترنت بالوصف المختص كان للإنسان فيها أحكام تخصه ليس له أن يتشبه بما يفعله الحيوان فيها فالأمور المختصة به أولى مع أنه في الحقيقة لا مشترك بينه وبينها ولكن فيه أوصاف تشبه أوصافها من بعض الوجوه والقدر المشترك إنما وجوده في الذهن لا في الخارج وإذا كان كذلك فالله تعالى قد جعل الإنسان مخالفا بالحقيقة للحيوان وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه وهي جميعها لا يماثل فيها الحيوان فإذا تعمد مماثلة الحيوان وتغيير خلق الله فقد دخل في فساد الفطرة والشرعة وذلك محرم والله أعلم وقال رحمه الله فصل قوله { فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله } يقتضي وجوب طاعتها لزوجها مطلقا من خدمة وسفر معه وتمكين له وغير ذلك كما
____________________
(32/260)
دلت عليه سنة رسول الله في حديث الجبل الأحمر وفي السجود وغير ذلك كما تجب طاعة الأبوين فإن كل طاعة كانت للوالدين انتقلت إلى الزوج ولم يبق للأبوين عليها طاعة تلك وجبت بالأرحام وهذه وجبت بالعهود كما سنقرر إن شاء الله هذين الأصلين العظيمين وسئل رحمه الله عن إمرأة تزوجت وخرجت عن حكم والديها فأيهما أفضل برها لوالديها أو مطاوعة زوجها
فأجاب الحمد لله رب العالمين المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها وطاعة زوجها عليها أوجب قال الله تعالى { فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله } وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك ) وفي صحيح بن أبي حاتم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت ) وفي الترمذي عن أم سلمة قالت قال رسول الله ( أيما إمرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت
____________________
(32/261)
الجنة ) وقال الترمذي حديث حسن وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لو كنت آمرا لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وأخرجه أبو داود ولفظه ( لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحقوق ) وفي المسند عن أنس أن النبي قال ( لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحه تجري بالقيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه ) وفي المسند وسنن بن ماجة عن عائشة عن النبي قال ( لو أمرت أحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ولو أن رجلا أمر إمرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود ومن جبل أسود إلى جبل أحمر لكان لها أن تفعل ) أي لكان حقها أن تفعل وكذلك في المسند وسنن بن ماجة وصحيح بن حبان عن عبد الله بن أبي أوفى قال لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي فقال ( ما هذا يا معاذ ) قال أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك يا رسول الله فقال رسول الله ( لا تفعلوا ذلك فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت
____________________
(32/262)
المرأة أن تسجد لزوجها والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه ) وعن طلق بن علي قال قال رسول الله ( ايما رجل دعا زوجته لحاجته فلتأته ولو كانت على التنور ) رواه أبو حاتم في صحيحه والترمذي وقال حديث حسن وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( إذا دعا الرجل إمرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبانا عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) والأحاديث في ذلك كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال زيد بن ثابت الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى { وألفيا سيدها لدى الباب } وقال عمر بن الخطاب النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عندكم عوان ) فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير ابويها باتفاق الأئمة وإذا أراد الرجل أن ينتقل إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه وحفظ حدود الله فيها ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها فإن الأبوين هما ظالمان ليس لهما أن ينهاياها عن طاعة مثل هذا الزوج وليس لها أن تطيع أمها فيما تأمرها به من الإختلاع منه أو مضاجرته حتى يطلقها مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصداق بما
____________________
(32/263)
تطلبه ليطلقها فلا يحل لها أن تطيع واحدا من أبويها في طلاقه إذا كان متقيا لله فيها ففي السنن الأربعة وصحيح بن أبي حاتم عن ثوبان قال قال رسول الله ( أيما إمرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ) وفي حديث آخر ( المختلعات والمنتزعات هن المنافقات ) وأما إذا أمرها أبواها أو أحدهما بما فيه طاعة الله مثل المحافظة على الصلوات وصدق الحديث وأداء الأمانة ونهوها عن تبذير مالها وإضاعته ونحو ذلك مما أمر الله ورسوله أو نهاها الله ورسوله عنه فعليها أن تطيعهما في ذلك ولو كان الأمر من غير أبويها فكيف إذا كان من أبويها وإذا نهاها الزوج عما أمر الله أو أمرها بما نهى الله عنه لم يكن لها أن تطيعه في ذلك فإن النبي قال ( إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) بل المالك لو أمر مملوكه بما فيه معصية لله لم يجز له أن يطيعه في معصية فكيف يجوز أن تطيع المرأة زوجها أو أحد أبويها في معصية فإن الخير كله في طاعة الله ورسوله والشر كله في معصية الله ورسوله وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له زوجة أسكنها بين ناس مناجيس وهو يخرج بها إلى الفرج وإلى أماكن الفساد ويعاشر مفسدين فإذا قيل له انتقل من هذا المسكن السوء فيقول أنا زوجها ولي الحكم في امرأتي ولي السكنى فهل له ذلك
____________________
(32/264)
فأجاب الحمد لله رب العالمين ليس له أن يسكنها حيث شاء ولا يخرجها إلى حيث شاء بل يسكن بها في مسكن يصلح لمثلها ولا يخرج بها عند أهل الفجور بل ليس له أن يعاشر الفجار على فجورهم ومتى فعل ذلك وجب أن يعاقب عقوبتين عقوبة على فجوره بحسب ما فعل وعقوبة على ترك صيانة زوجته وإخراجها إلى أماكن الفجور فيعاقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك والله أعلم وقال رحمه الله تعالى فصل وأما إتيان النساء في أدبارهن فهذا محرم عند جمهور السلف والخلف كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة وهو المشهور في مذهب مالك وأما القول الآخر بالرخصة فيه فمن الناس من يحكيه رواية عن مالك ومنهم من ينكر ذلك ونافع نقل عن بن عمر أنه لما قرأ عليه { نساؤكم حرث لكم } قال له بن عمر إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن فمن الناس من يقول غلط نافع على بن عمر أو لم يفهم مراده وكان مراده أنها نزلت في إتيان النساء من جهة الدبر في القبل فإن الآية نزلت في ذلك باتفاق العلماء وكانت
____________________
(32/265)
اليهود تنهى عن ذلك وتقول إذا أتى الرجل المرأة في قبلها من دبرها جاء الولد أحول فأنزل الله هذه الآية والحرث موضع الولد وهو القبل فرخص الله للرجل أن يطأ المرأة في قبلها من أي الجهات شاء وكان سالم بن عبد الله بن عمر يقول كذب العبد على أبي وهذا مما يقوي غلط نافع على بن عمر فإن الكذب كانوا يطلقونه بإزاء الخطأ كقول عبادة كذب أبو محمد لما قال الوتر واجب وكقول بن عباس كذب نوف قال لما صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل ومن الناس من يقول بن عمر هو الذي غلط في فهم الآية والله أعلم أي ذلك كان لكن نقل عن بن عمر أنه قال أو يفعل هذا مسلم لكن بكل حال معنى الآية هو ما فسرها به الصحابة والتابعون وسبب النزول يدل على ذلك والله أعلم وسئل رحمه الله عن رجل ينكح زوجته في دبرها أحلال هو أم حرام
فأجاب وطء المرأة في دبرها حرام بالكتاب والسنة وهو قول جماهير السلف والخلف بل هو اللوطية الصغرى وقد ثبت عن النبي أنه قال ( إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في
____________________
(32/266)
أدبارهن ) وقد قال تعالى { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } والحرث هو موضع الولد فإن الحرث هو محل الغرس والزرع وكانت اليهود تقول إذا أتى الرجل إمرأته من دبرها جاء الولد أحول فأنزل الله هذه الآية وأباح للرجل أن يأتي إمرأته من جميع جهاتها لكن في الفرج خاصة ومتى وطئها في الدبر وطاوعته عزرا جمعيا فإن لم ينتهيا وإلا فرق بينهما كما يفرق بين الرجل الفاجر ومن يفجر به والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عما يجب على من وطىء زوجته في دبرها وهل أباحه أحد من العلماء
فأجاب الحمد لله رب العالمين الوطء في الدبر حرام في كتاب الله وسنة رسوله وعلى ذلك عامة أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم فإن الله قال في كتابه { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } وقد ثبت في الصحيح إن اليهود كانوا يقولون إذا أتى الرجل امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول فسأل المسلمون عن ذلك النبي فأنزل الله هذه الآية { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } والحرث موضع الزرع والولد إنما يزرع في الفرج لا في الدبر { فأتوا حرثكم } وهو موضع الولد { أنى شئتم } أي من أين شئتم من قبلها ومن دبرها وعن يمينها وعن شمالها فالله تعالى سمى النساء حرثا وإنما رخص في إتيان الحروث والحرث إنما يكون
____________________
(32/267)
في الفرج وقد جاء في غير أثر أن الوطء في الدبر هو اللوطية الصغرى وقد ثبت عن النبي أنه قال ( إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في حشوشهن ) والحش هو الدبر وهو موضع القذر والله سبحانه حرم إتيان الحائض مع أن النجاسة عارضة في فرجها فكيف بالموضع الذي تكون فيه النجاسة المغلظة وأيضا فهذا من جنس اللواط ومذهب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد وأصحابه أن ذلك حرام لا نزاع بينهم وهذا هو الظاهر من مذهب مالك وأصحابه لكن حكى بعض الناس عنهم رواية أخرى بخلاف ذلك ومنهم من أنكر هذه الرواية وطعن فيها وأصل ذلك ما نقل عن نافع أنه نقله عن بن عمر وقد كان سالم بن عبد الله يكذب نافعا في ذلك فإما أن يكون نافع غلط أو غلط من هو فوقه فإذا غلط بعض الناس غلطه لم يكن هذا مما يسوغ خلاف الكتاب والسنة كما أن طائفة غلطوا في إباحة الدرهم بالدرهمين واتفق الأئمة على تحريم ذلك لما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة وكذلك طائفة غلطوا في أنواع من الأشربة ولما ثبت عن النبي أنه قال ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) وأنه سئل عن أنواع من الأنبذة فقال ( كل مسكر حرام ) ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) وجب اتباع هذه السنن الثابتة ولهذا نظائر في الشريعة ومن وطىء إمرأته في دبرها وجب أن يعاقبا على ذلك عقوبة تزجرهما فإن علم أنهما لا ينزجران فإنه يجب التفريق بينهما والله أعلم
____________________
(32/268)
& باب القسم بين الزوجات & وسئل رحمه الله تعالى عن رجل متزوج بامرأتين وإحداهما يحبها ويكسوها ويعطيها ويجتمع بها أكثر من صاحبتها
فأجاب الحمد لله يجب عليه العدل بين الزوجتين باتفاق المسلمين وفي السنن الأربعة عن أبي هريرة عن النبي قال ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ) فعليه أن يعدل في القسم فإذا بات عندها ليلة أو ليلتين أو ثلاثا بات عند الأخرى بقدر ذلك ولا يفضل إحداهما في القسم لكن إن كان يحبها أكثر ويطأها أكثر فهذا لا حرج عليه فيه وفيه أنزل الله تعالى { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } أي في الحب والجماع وفي السنن الأربعة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل فيقول ( هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) يعني القلب
____________________
(32/269)
وأما العدل في النفقة والكسوة فهو السنة أيضا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يعدل بين أزواجه في النفقة كما كان يعدل في القسمة مع تنازع الناس في القسم هل كان واجبا عليه أو مستحبا له وتنازعوا في العدل في النفقة هل هو واجب أو مستحب ووجوبه أقوى وأشبه بالكتاب والسنة وهذا العدل مأمور به مادامت زوجة فإن أراد أن يطلق إحداهما فله ذلك فإن اصطلح هو والتي يريد طلاقها على أن تقيم عنده بلا قسم وهي راضية بذلك جاز كما قال تعالى { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } وفي الصحيح عن عائشة قالت أنزلت هذه الآية في المرأة تكون عند الرجل فتطول صحبتها فيريد طلاقها فتقول لا تطلقني وامسكني وأنت في حل من يومي فنزلت هذه الآية وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يطلق سودة فوهبت يومها لعائشة فأمسكها بلا قسمة وكذلك رافع بن خديج جرى له نحو ذلك ويقال إن الآية أنزلت فيه وسئل رحمه الله عن رجل له امرأتان ويفضل إحداهما على الأخرى في النفقة وسائر الحقوق حتى إنه هجرها فما يجب عليه
____________________
(32/270)
فأجاب يجب عليه أن يعدل بين المرأتين وليس له أن يفضل إحداهما في القسم فإن النبي قال ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما أكثر من الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل ) وإن لم يعدل بينهما فإن ما أن يمسك بمعروف وإما أن يسرح بإحسان والله أعلم وسئل رحمه الله عن الرجل إذا صبر على زوجته الشهر والشهرين لا يطؤها فهل عليه إثم أم لا وهل يطالب الزوج بذلك
فأجاب يجب على الرجل أن يطأ زوجته بالمعروف وهو من أوكد حقها عليه أعظم من إطعامها والوطء الواجب قيل إنه واجب في كل أربعة أشهر مرة وقيل بقدر حاجتها وقدرته كما يطعمها بقدر حاجتها وقدرته وهذا أصح القولين والله أعلم وسئل رحمه الله عن إمرأة تضع معها دواء عند المجامعة تمنع بذلك نفوذ المني في مجاري الحبل فهل ذلك جائز حلال أم لا وهل إذا بقي ذلك الدواء معها بعد الجماع ولم يخرج يجوز لها الصلاة والصوم بعد الغسل أم لا
____________________
(32/271)
فأجاب أما صومها وصلاتها فصحيحة وإن كان ذلك الدواء في جوفها وأما جواز ذلك ففيه نزاع بين العلماء وألأحوط أنه لا يفعل والله أعلم وسئل رحمه الله عما إذا نظر الرجل إلى جميع بدن إمرأته ولمسه حتى الفرج عليه شيء أم لا
فأجاب لا يحرم على الرجل النظر إلى شيء من بدن إمرأته ولا لمسه لكن يكره النظر إلى الفرج وقيل لا يكره وقيل لا يكره إلا عند الوطء وسئل رحمه الله عن إمرأة مطلقة وهي ترضع وقد آجرت لبنها ثم انقضت عدتها وتزوجت فهل للمستأجر أن يمنعها أن تدخل على زوجها خشية أن تحمل منه فيقل اللبن على الولد
فأجاب أما مجرد الشك فلا يمنع الزوج ما يستحقه من الوطء لا سيما وقد ثبت عن النبي أنه قال ( لقد هممت أن أنهى عن
____________________
(32/272)
ذلك ثم ذكرت إن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يضر أولادهم ) فقد أخبر أنهم يفعلون ذلك فلا يضر الأولاد ولم ينه عنه وإذا كان كذلك لم يجز منع الزوج حقه إذا لم يكن فيه منع الحق السابق المستحق بعقد الإجارة وسئل رحمه الله تعالى عن الأب إذا كان عاجزا عن أجرة الرضاع فهل له إذا امتنعت الأم عن الإرضاع إلا بأجرة أن يسترضع غيرها
فأجاب نعم لأنه لا يجب عليه ما لا يقدر عليه وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن تسلط عليه ثلاثة الزوجة والقط والنمل الزوجة ترضع من ليس ولدها وتنكد عليه حاله وفراشه بذلك والقط يأكل الفراريج والنمل يدب في الطعام فهل لهم حرق بيوتهم بالنار أم لا وهل يجوز لهم قتل القط وهل لهم منع الزوجة من إرضاعها
فأجاب ليس للزوجة أن ترضع غير ولدها إلا بإذن الزوج والقط إذا صال على ماله فله دفعه عن الصول ولو بالقتل وله أن يرميه بمكان بعيد فإن لم يمكن دفع ضرره إلا بالقتل قتل وأما النمل فيدفع ضرره بغير التحريق والله أعلم
____________________
(32/273)
& باب النشوز & سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل له زوجة تصوم النهار وتقوم الليل وكلما دعاها الرجل إلى فراشه تأبى عليه وتقدم صلاة الليل وصيام النهار على طاعة الزوج فهل يجوز ذلك
فأجاب لايحل لها ذلك باتفاق المسلمين بل يجب عليها أن تطيعه إذا طلبها إلى الفراش وذلك فرض واجب عليها وأما قيام الليل وصيام النهار فتطوع فكيف تقدم مؤمنة للنافلة على الفريضة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة إن النبي قال ( لا يحل للمرأة أن تصم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ) ورواه أبو داود وبن ماجة وغيرهما ولفظهم ( لا تصوم إمرأة وزوجها شاهد يوما من غير رمضان إلا باذنه ) فإذا كان النبي قد حرم على المرأة أن تصوم تطوعا إذا كان زوجها شاهدا إلا بإذنه فتمنع بالصوم بعض ما يجب له عليها
____________________
(32/274)
فكيف يكون حالها إذ طلبها فامتنعت وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ( اذا دعا الرجل المرأة إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح ) وفي لفظ ( إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح ) وقد قال الله تعالى { فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله } فالمرأة الصالحة هي التي تكون قانتة أي مداومة على طاعة زوجها فمتى امتنعت عن إجابته إلى الفراش كانت عاصية ناشزة وكان ذلك يبيح له ضربها كما قال تعالى { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } وليس على المرأة بعد حق الله ورسوله أوجب من حق الزوج حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لو كنت آمرا لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة تسجد لزوجها لعظم حقه عليها ) وعنه أن النساء قلن له إن الرجال يجاهدون ويتصدقون ويفعلون ونحن لا نفعل ذلك فقال ( حسن فعل أحدكن بعد ذلك ) أي أن المرأة إذا أحسنت معاشرة بعلها كان ذلك موجبا لرضاء الله وإكرامه لها من غير أن تعمل ما يختص بالرجال والله أعلم
____________________
(32/275)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل حلف على زوجته وقال لأهجرنك إن كنت ما تصلين فامتنعت من الصلاة ولم تصل وهجر الرجل فراشها فهل لها على الزوج نفقة أم لا وماذا يجب عليها إذا تركت الصلاة
فأجاب الحمد لله إذا امتنعت من الصلاة فإنها تستتاب فإن تابت وإلا قتلت وهجر الرجل على ترك الصلاة من أعمال البر التي يجبها الله ورسوله ولا نفقة لها إذا امتنعت من تمكينه إلا مع ترك الصلاة والله أعلم وسئل رحمه الله عمن له زوجة لا تصلي هل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة وإذا لم تفعل هل يجب عليه أن يفارقها أم لا
فأجاب نعم عليه أن يأمرها بالصلاة ويجب عليه ذلك بل يجب عليه أن يأمر بذلك كل من يقدر على أمره به إذا لم يقم غيره بذلك وقد قال
____________________
(32/276)
تعالى { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } الآية وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة } الآية وقال عليه الصلاة والسلام ( علموهم وأدبوهم ) وينبغي مع ذلك الأمر أن يحضها على ذلك بالرغبة كما يحضها على ما يحتاج إليها فإن أصرت على ترك الصلاة فعليه أن يطلقها وذلك واجب في الصحيح وتارك الصلاة مستحق للعقوبة حتى يصلي باتفاق المسلمين بل إذا لم يصل قتل وهو يقتل كافرا مرتدا على قولين مشهورين والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن قوله تعالى { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } وفي قوله تعالى { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } إلى قوله تعالى { والله بما تعملون خبير } يبين لنا شيخنا هذا النشوز من ذاك
فأجاب الحمد لله رب العالمين النشوز في قوله تعالى { تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع } هو أن تنشز عن زوجها فتنفر عنه بحيث لا تطيعه إذا دعاها للفراش أو تخرج من منزله بغير إذنه ونحو ذلك مما فيه امتناع عما يجب عليها من طاعته
____________________
(32/277)
وأما النشوز في قوله تعالى { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } فهو النهوض والقيام والارتفاع وأصل هذه المادة هو الإرتفاع والغلظ ومنه النشر من الأرض وهو المكان المرتفع الغليظ ومنه قوله تعالى { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي نرفع بعضها إلى بعض ومن قرأ ننشزها أراد نحييها فسمى المرأة العاصية ناشزا لما فيها من الغلظ والارتفاع عن طاعة زوجها وسمي النهوض نشوزا لأن القاعد يرتفع من الأرض والله أعلم وسئل رحمه الله عن رجل له زوجة وهي ناشز تمنعه نفسها فهل تسقط نفقتها وكسوتها وما يجب عليها
فأجاب الحمد لله تسقط نفقتها وكسوتها إذا لم تمكنه من نفسها وله أن يضربها إذا أصرت على النشوز ولا يحل لها أن تمنع من ذلك إذا طالبها به بل هي عاصية لله ورسوله وفي الصحيح ( إذا طلب الرجل المرأة إلى فراشه فابت عليه كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح
____________________
(32/278)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل له امرأة وقد نشزت عنه في بيت أبيها من مدة ثمانية شهور ولم ينتفع بها فأجاب إذا نشزت عنه فلا نفقة لها وله أن يضربها إذا نشزت أو آذته أو أعتدت عليه وسئل رحمه الله عما يجب على الزوج إذا منعته من نفسها إذا طلبها فأجاب الحمد لله لا يحل لها النشوز عنه ولا تمنع نفسها منه بل إذا امتنعت منه وأصرت على ذلك فله أن يضربها ضربا غير مبرح ولا تستحق نفقة ولا قسما وسئل عمن تزوج بامرأة ودخل بها وهو مستمر في النفقة وهي ناشز ثم إن والدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج فماذا يجب عليهما
____________________
(32/279)
فأجاب الحمد لله إذا سافر بها بغير إذن الزوج فإنه يعزر على ذلك وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها ولانفقة لها من حين سافرت والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن الرجل تزوج امرأة من مدة إحدى عشرة سنة واحسنت العشرة معه وفي هذا الزمان تأبى العشرة معه وتناشزه فما يجب عليها
فأجاب لايحل لها أن تنشز عليه ولا تمنع نفسها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح ) فإذا اصرت على النشوز فله ان يضربها وإذا كانت المرأة لا تقوم بما يجب للرجل عليها فليس عليه ان يطلقها ويعطيها الصداق بل هي التي تفتدي نفسها منه فتبذل صداقها ليفارقها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس بن شماس ( ان يعطي صداقها فيفارقها ) وإذا كان معسرا بالصداق لم تجز مطالبته بإجماع المسلمين وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بامرأة ما ينتفع بها ولا تطاوعه في أمر وتطلب منه نفقة وكسوة وقد ضيقت عليه أموره فهل تستحق عليه نفقة وكسوة
____________________
(32/280)
فأجاب إذا لم تمكنه من نفسها أو خرجت من داره بغير إذنه فلا نفقة لها ولا كسوة وكذلك إذا طلب منها أن تسافر معه فلم تفعل فلا نفقة لها ولا كسوة فحيث كانت ناشزا عاصية له فيما يجب له عليها من طاعته لم يجب لها نفقة ولا كسوة وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة متزوجة برجل ولها أقارب كلما أرادت أن تزورهم أخذت الفراش وتقعد عندهم عشرة أيام وأكثر وقد قربت ولادتها ومتى ولدت عندهم لم يمكن أن تجيء إلى بيتها إلا بعد أيام ويبقى الزوج بردان فهل يجوز لهم أن يخلوها تلد عندهم
فأجاب لا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذنه ولا يحل لأحد أن يأخذها إليه ويحبسها عن زوجها سواء كان ذلك لكونها مرضعا أو لكونها قابلة أو غير ذلك من الصناعات وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزة عاصية لله ورسوله ومستحقة للعقوبة
____________________
(32/281)
& باب الخلع & وسئل الشيخ رحمه الله تعالى ماهو الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة
فاجاب الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة أن تكون المرأة كارهة للزوج تريد فراقه فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها كما يفتدي الأسير وأما إذا كان كل منهما مريدا لصاحبه فهذا الخلع محدث في الإسلام وقال رحمه الله إذا كانت مبغضة له مختارة لفراقه فإنها تفتدي نفسها منه فترد إليه ما أخذته من الصداق وتبريه مما في ذمته ويخلعها كما في الكتاب والسنة واتفق عليه الأئمة والله أعلم وسئل رحمه الله عن امرأة مبغضة لزوجها طلبت الانخلاع منه وقالت له إن لم تفارقني وإلا قتلت نفسي فأكرهه الولي على الفرقة وتزوجت غيره وقد طلبها الأول وقال إنه فارقها مكرها وهي لا تريد إلا الثاني
____________________
(32/282)
فأجاب إن كان الزوج الأول أكره على الفرقة بحق مثل أن يكون مقصرا في واجباتها أو مضرا لها بغير حق من قول أو فعل كانت الفرقة صحيحة والنكاح الثاني صحيحا وهي زوجة الثاني وإن كان أكره بالضرب أو الحبس وهو محسن لعشرتها حتى فارقها لم تقع الفرقة بل إذا أبغضته وهو محسن إليها فإنه يطلب منه الفرقة من غير أن يلزم بذلك فإن فعل وإلا أمرت المرأة بالصبر عليه إذا لم يكن ما يبيح الفسخ وسئل رحمه الله تعالى عن رجل اتهم زوجته بفاحشة بحيث إنه لم ير عندها ما ينكره الشرع إلا ادعى أنه أرسلها إلى عرس ثم تجسس عليها فلم يجدها في العرس فانكرت ذلك ثم إنه أتى إلى أوليائها وذكر لهم الواقعة فاستدعوا بها لتقابل زوجها على ما ذكر فامتنعت خوفا من الضرب فخرجت إلى بيت خالها ثم إن الزوج بعد ذلك جعل ذلك مستندا في إبطال حقها وادعى أنها خرجت بغير إذنه فهل يكون ذلك مبطلا لحقها والإنكار الذي أنكرته عليه يستوجب إنكارا في الشرع
فأجاب قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } فلا يحل للرجل أن يعضل المرأة بأن يمنعها ويضيق عليها
____________________
(32/283)
حتى تعطيه بعض الصداق ولا أن يضربها لأجل ذلك لكن إذا أتت بفاحشة مبينة كان له أن يعضلها لتفتدي منه وله أن يضربها هذا فيما بين الرجل وبين الله وأما أهل المرأة فيكشفون الحق مع من هو فيعينونه عليه فإن تبين لهم أنها هي التي تعدت حدود الله وآذت الزوج في فراشه فهي ظالمة متعدية فلتفتد منه وإذا قال إنه أرسلها إلى عرس ولم تذهب الى العرس فليسأل إلى أين ذهبت فإن ذكر أنها ذهبت إلى قوم لا ريبة عندهم وصدقها أولئك القوم أو قالوا لم تأت إلينا وإلى العرس لم تذهب كان هذا ريبة وبهذا يقوى قول الزوج وأما الجهاز الذي جاءت به من بيت أبيها فعليه أن يرده عليها بكل حال وإن اصطلحوا فالصلح خير ومتى تابت المرأة جاز لزوجها أن يمسكها ولا حرج في ذلك فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وإذا لم يتفقا على رجوعها إليه فلتبرئه من الصداق وليخلعها الزوج فإن الخلع جائز بكتاب الله وسنة رسوله كما قال الله تعالى { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } والله أعلم
____________________
(32/284)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن ثيب بالغ لم يكن وليها إلا الحاكم فزوجها الحاكم لعدم الأولياء ثم خالعها الزوج وبرأته من الصداق بغير إذن الحاكم فهل تصح المخالعة والابراء
فأجاب إذا كانت أهلا للتبرع جاز خلعها وإبراؤها بدون إذن الحاكم وسئل رحمه الله عن إمرأة قال لها زوجها إن ابرأتيني فأنت طالق فأبرأته ولم تكن تحت الحجر ولا لها أب ولا أخ ثم إنها ادعت أنها سفيهة لتسقط بذلك الابراء
فأجاب لا يبطل الابراء بمجرد دعواها ولو قامت بينة بأنها سفيهة ولم تكن تحت الحجر لم يبطل الابراء بذلك وإن كانت هي المتصرفة لنفسها والله أعلم
____________________
(32/285)
وسئل رحمه الله تعالى عن إمرأة أبرأت زوجها من جميع صداقها ثم بعد ذلك أشهد الزوج على نفسه أنه طلق زوجته المذكورة على البراءة وكانت البراءة تقدمت على ذلك فهل يصح الطلاق وإذا وقع يقع رجعيا أم لا
فأجاب إن كانا قد تواطئا على أن توهبه الصداق وتبريه على أن يطلقها فأبرأته ثم طلقها كان ذلك طلاقا بائنا وكذلك لو قال لها ابرئيني وأنا أطلقك أو إن أبرئتني طلقتك ونحو ذلك من عبارات الخاصة والعامة التي يفهم منها أنه سأل الإبراء على أن يطلقها وأما أن كانت ابرأته براءة لا تتعلق بالطلاق ثم طلقها بعد ذلك فالطلاق رجعي ولكن هل لها أن ترجع في الإبراء إذا كان يمكن لكون مثل هذا الإبراء لا يصدر في العادة إلا لأن يمسكها أو خوفا من أن يطلقها أو يتزوج عليها أو نحو ذلك فيه قولان هما روايتان عن أحمد وأما إذا كانت قد طابت نفسها بالإبراء مطلقا وهو أن يكون ابتداء منها لا بسبب منه ولا عوض فهنا لا ترجع فيه بلا ريب والله أعلم
____________________
(32/286)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قال لامرأته هذا بن زوجك لا يدخل لي بيتا فإنه ابني ربيته فلما اشتكاه لأبيه قال للزوج إن أبرأتك امرأتك تطلقها قال نعم فأتى بها فقال لها الزوج إن أبرئتيني من كتابك ومن الحجة التي لك علي فأنت طالق قالت نعم وانفصلا وطلع الزوج إلى بيت جيرانه فقال هي طالق ثلاثا ونزل إلى الشهود فسألوه كم طلقت قال ثلاثا على ما صدر منه فهل يقع عليه الطلاق الثلاث
فأجاب الحمد لله إذا كان ابراؤها على ما دل عليه سياق الكلام ليس مطلقا بل بشرط أن يطلقها بانت منه ولم يقع بها بعد هذا طلاق والشرط المتقدم على العقد كالشرط المقارن والشرط العرفي كاللفظي وقول هذا الذي من جهتها له إن جاءت زوجتك وأبرأتك تطلقها وقوله إشتراط عليه أنه يطلقها إذا ابرأئته ومجيئه بها بعد ذلك وقوله أنت إن أبرئتيني قالت نعم متنزل على ذلك وهو أنه إذا أبرأته يطلقها بحيث لو قالت أبرأته وامتنع لم يصح الإبراء فإن هذا إيجاب وقبول في العرف لما تقدم من الشروط ودلالة الحال والتقدير أبرأتك بشرط أن تطلقني
____________________
(32/287)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل طلق زوجته طلقة رجعية فلما حضر عند الشهود قال له بعضهم قل طلقتها على درهم فقال له ذلك فلما فعل قالوا له قد ملكت نفسها فلا ترجع إليك إلا برضاها فإذا وقع المنع هل يسقط حقها مع غرره بذلك أم لا
فأجاب الحمد لله إذا كان قد طلقها طلقة رجعية ثم إن الشاهد قد لقنه أن يقول طلقها على درهم فقال ذلك معتقدا أنه يقر بذلك الطلاق الأول لا ينشئ طلاقا آخر لم يقع به غير الطلاق الأول ويكون رجعيا لا بائنا وإذا ادعى عليه أنه قال ذلك القول الثاني إنشاءا لطلاق آخر ثان وقال إنما قلته إقرارا بالطلاق الأول وليس ممن يعلم أن الطلاق بالعوض يبينها فالقول قوله مع يمينه لا سيما وقرينة الحال تصدقه فإن العادة جارية بأنه إذا طلقها ثم حضر عند الشهود فإنما حضر ليشهدوا عليه بما وقع من الطلاق
____________________
(32/288)
وسئل رحمه الله تعالى عن الخلع هل هو طلاق محسوب من الثلاث وهل يشترط كونه بغير لفظ الطلاق ونيته فأجاب رحمه الله تعالى هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين السلف والخلف فظاهر مذهب الإمام أحمد وأصحابه أنه فرقة بائنة وفسخ للنكاح وليس من الطلاق الثلاث فلو خلعها عشر مرات كان له أن يتزوجها بعقد جديد قبل أن تنكح زوجا غيره وهو أحد قولي الشافعي واختاره طائفة من أصحابه ونصروه وطائفة نصروه ولم يختاروه وهذا قول جمهور فقهاء الحديث كإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود وبن المنذر وبن خزيمة وهو ثابت عن بن عباس وأصحابه كطاووس وعكرمة والقول الثاني أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث وهو قول كثير من السلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي في قوله الآخر ويقال إنه الجديد وهو الرواية الأخرى عن أحمد وينقل ذلك عن عمر وعثمان وعلي وبن مسعود لكن ضعف أحمد وغيره من أئمة العلم بالحديث كابن المنذر وبن خزيمة والبيهقي وغيرهم النقل عن هؤلاء ولم يصححوا إلا قول بن عباس إنه فسخ وليس بطلاق وأما الشافعي وغيره فقال لا نعرف حال من روى هذا عن عثمان هل هو ثقة أم ليس بثقة فما صححوا مانقل عن الصحابة بل اعترفوا أنهم لا يعلمون صحته
____________________
(32/289)
وما علمت أحدا من أهل العلم بالنقل صحح ما نقل عن الصحابة من أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث بل أثبت ما في هذا عندهم ما نقل عن عثمان وقد نقل عن عثمان بالإسناد الصحيح أنه أمر المختلعة أن تستبرأ بحيضة وقال لا عليك عدة وهذا يوجب أنه عنده فرقة بائنة وليس بطلاق إذ الطلاق بعد الدخول يوجب الإعتداد بثلاث قروء بنص القرآن واتفاق المسلمين بخلاف الخلع فإنه قد ثبت بالسنة وآثار الصحابة أن العدة فيها إستبراء بحيضة وهو مذهب إسحاق وبن المنذر وغيرهما وإحدى الروايتين عن أحمد وقد رد بن عباس امرأة على زوجها بعد طلقتين وخلع مرة قبل أن تنكح زوجا غيره وسأله إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص لما ولاه الزبير على اليمن عن هذه المسألة وقال له إن عامة طلاق أهل اليمن هو الفداء فأجابه بن عباس بأن الفداء ليس بطلاق ولكن الناس غلطوا في اسمه واستدل بن عباس بأن الله تعالى قال { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } قال بن عباس فقد ذكر الله تعالى الفدية بعد الطلاق مرتين ثم قال { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وهذا يدخل في الفدية خصوصا وغيرها عموما فلو كانت الفدية طلاقا لكان الطلاق أربعا وأحمد في المشهور عنه هو ومن تقدم اتبعوا بن عباس
____________________
(32/290)
واختلف هؤلاء في المختلعة هل عليها عدة ثلاثة قروء أو تستبرأ بحيضة على قولين هما روايتان عن أحمد أحدهما تستبرئ بحيضة وهذا قول عثمان وبن عباس وبن عمر في آخر روايتيه وهو قول غير واحد من السلف ومذهب إسحاق وبن المنذر وغيرهما وروى ذلك عن النبي في السنن من وجوه حسنة كما قد بينت طرقها في غير هذا الموضع وهذا مما احتج به من قال إنه ليس من الطلاق الثلاث وقالوا لو كان منه لوجب فيه تربص ثلاث قروء بنص القرآن واحتجوا به على ضعف من نقل عن عثمان أنه جعلها طلقة بائنة فإنه قد ثبت عنه بالإسناد المرضي أنه جعلها تستبرئ بحيضة ولو كانت مطلقة لوجب عليها تربص ثلاثة قروء وإن قيل بل عثمان جعلها مطلقة تستبرئ بحيضة فهذا لم يقل به أحد من العلماء فاتباع عثمان في الرواية الثابتة عنه التي يوافقه عليها بن عباس ويدل عليها الكتاب والسنة أولى من رواية راويها مجهول وهي رواية جمهان الأسلمي عنه أنه جعلها طلقة بائنة وأجود ما عند من جعلها طلقة بائنة من النقل عن الصحابة هو هذا النقل عن عثمان وهو مع ضعفه قد ثبت عنه بالإسناد الصحيح ما يناقضه فلا يمكن الجمع بينهما لما في ذلك من خلاف النص والإجماع
____________________
(32/291)
وأما النقل عن علي وبن مسعود فضعيف جدا والنقل عن عمر مجمل لا دلالة فيه وأما النقل عن بن عباس أنه فرقة وليس بطلاق فمن أصح النقل الثابت باتفاق أهل العلم بالآثار وهذا مما اعتضد به القائلون بأنه فسخ كأحمد وغيره والذين اتبعوا ما نقل عن الصحابة من أنه طلقة بائنة من الفقهاء ظنوا تلك نقولا صحيحة ولم يكن عندهم من نقد الآثار والتميز بين صحيحها وضعيفها ما عند أحمد وأمثاله من أهل المعرفة بذلك فصار هؤلاء يرون أن الذين خالفوا بن عباس وأمثاله من الصحابة أجل منه وأكثر عددا ولم يعلموا أنه لم يثبت خلافه عن أحد من الصحابة مع أن النبي قال ( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل ) وكان ما استنبطه في هذه المسألة من القرآن واستدل به من السنة عن كمال فقهه في الدين وعلمه بالتأويل وهو أكثر الصحابة فتيا قيل للإمام أحمد أي الصحابة أكثر فتيا قال بن عباس وهو أعلم وأفقه طبقة في الصحابة وكان عمر بن الخطاب يدخله مع أكابر الصحابة كعثمان وعلي وبن مسعود ونحوهم في الشورى ولم يكن عمر يفعل هذه بغيره من طبقته وقال بن مسعود لو أدرك بن عباس إسناننا لما عشره منا أحد أي ما بلغ عشرة والناقلون لهذه المسألة عنه أجل أصحابه وأعلمهم بأقواله مثل طاووس وعكرمة فإن هذين كانا يدخلان عليه مع الخاصة بخلاف عطاء وعمرو بن دينار ونحوهما فقد كانوا يدخلون عليه مع العامة ومعلوم أن خواص العالم
____________________
(32/292)
عندهم من علمه ماليس عند غيرهم كما عند خواص الصحابة مثل الخلفاء الراشدين الأربعة وبن مسعود وعائشة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم من العلم ما ليس عند من ليس له مثلهم من الاختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود بهذا أن كثيرا من الناس يظن أن بن عباس خالفه في هذه المسألة كثير من الصحابة أو أكثرهم ولا يعلمون أنه لم يثبت عن الصحابة إلا ما يوافق قوله لا ما يناقضه وإن قدر أن بعضهم خالفه فالمرجع فيما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة قال هؤلاء والطلاق الذي جعله الله ثلاثا هو الطلاق الرجعي وكل طلاق في القرآن في المدخول بها هو الطلاق الرجعي غير الطلقة الثالثة ولذلك قال أحمد في أحد قوليه تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي قال هؤلاء فمن قسم الطلاق المحسوب من الثلاث إلى رجعي وبائن فقد خالف الكتاب والسنة بل كل ما فيه بينونة فليس من الطلاق الثلاث فإذا سمي طلاقا بائنا ولم يجعل من الثلاث فهذا معنى صحيح لا تنازع فيه قالوا ولو كان الخلع طلاقا لما جاز في الحيض فإن الله حرم طلاق الحائض وقد سلم لنا المنازعون أو أكثرهم أنه يجوز في الحيض ولأن الحاجة داعية إليه في الحيض قالوا والله تعالى إنما حرم المرأة بعد الطلقة الثالثة عقوبة للرجل لئلا يطلق لغير حاجة فإن الأصل في الطلاق الحظر وإنما أبيح منه قدر الحاجة والحاجة تندفع بثلاث مرات ولهذا أبيحت الهجرة ثلاثا والإحداد لغير موت الزوج ثلاثا ومقام المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا والأصل في الهجرة ومقام المهاجر بمكة التحريم
____________________
(32/293)
ثم اختلف هؤلاء هل من شرط كونه فسخا أن يكون بغير لفظ الطلاق ونيته على ثلاثة أقوال أحدها أنه لابد أن يكون بغير لفظ الطلاق ونيته فمن خالع بلفظ الطلاق أو نواه فهو من الطلاق الثلاث وهذا قول أكثر المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ثم قد يقول هؤلاء إذا عري عن صريح الطلاق ونيته فهو فسخ وقد يقولون إنه لا يكون فسخا إلا إذا كان بلفظ الخلع والفسخ والمفاداة دون سائر الألفاظ كلفظ الفراق والسراح والإبانة وغير ذلك من الألفاظ التي لا يفارق الرجل امرأته إلا بها مع أن بن عباس لم يسمه إلا فدية وفراقا وخلعا وقال الخلع فراق وليس بطلاق ولم يسمه بن عباس فسخا ولا جاء في الكتاب والسنة تسميته فسخا فكيف يكون لفظ الفسخ صريحا فيه دون لفظ الفراق وكذلك أحمد بن حنبل أكثر ما يسميه فرقة ليست بطلاق وقد يسميه فسخا أحيانا لظهور هذا الإسم في عرف المتأخرين والثاني أنه إذا كان بغير لفظ الطلاق كلفظ الخلع والمفاداة والفسخ فهو فسخ سواء نوى به الطلاق أو لم ينو وهذا الوجه ذكره غير واحد من أصحاب الشافعي وأحمد وعلى هذا القول فهل هو فسخ إذا عري عن صريح الطلاق بأي لفظ وقع من الألفاظ والكنايات أو هو مختص بلفظ الخلع والفسخ والمفاداة على وجهين كالوجهين على القول الأول
____________________
(32/294)
وهذا القول أشبه بأصولهما من الذي قبله فإن اللفظ إذا كان صريحا في باب ووجد معادا فيه لم يكن كناية في غيره ولهذا لو نوى بلفظ الظهار الطلاق لم يقع عند عامة العلماء وعلى هذا دل الكتاب والسنة وكذلك عند أحمد لو نوى بلفظ الحرام الطلاق لم يقع لأنه صريح في الظهار لاسيما على أصل أحمد وألفاظ الخلع والفسخ والفدية مع العوض صريحة في الخلع فلا تكون كناية في الطلاق فلا يقع بها الطلاق بحال ولأن لفظ الخلع والمفاداة والفسخ والعوض إما أن تكون صريحة في الخلع وصريحة في الطلاق أو كناية فيهما فإن قيل بالأول وهو الصحيح لم يقع بها الطلاق وان نواه وان قيل بالثاني لزم أن يكون لفظ الخلع والفسخ والمفاداة من صريح الطلاق فيقع بها الطلاق كما يقع بلفظ الطلاق عند التجرد وهذا لم يقله أحد ولم يعدها أحد من الصرائح فإن قيل هي مع العوض صريحة في الطلاق قيل هذا باطل على أصل الشافعي فإن ماليس بصريح عنده لايصير صريحا بدخول العوض ولهذا قال الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد إن النكاح لاينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج لأن ماسوى ذلك كناية والكناية تفتقر إلى النية والنية لايمكن الاباشهاد عليها والنكاح لابد فيه من الشهادة فإذا قال ملكتكها بألف وأعطيتكها بألف ونحو ذلك أو وهبتكها لم يجعل دخول العوض قرينة في كونه نكاحا لاحتمال تمليك الرقبة كذلك لفظ المفاداة يحتمل المفاداة من الأسر ولفظ الفسخ ان كان طلاقا مع
____________________
(32/295)
العوض فهو طلاق بدون العوض ولم يقل أحد من أصحاب الشافعي إنه صريح في الطلاق بدون العوض بل غايته أن يكون كناية وهذا القول مع كونه أقرب من الأول فهو أيضا ضعيف القول الثالث أنه فسخ بأي لفظ وقع وليس من الطلاق الثلاث وأصحاب هذا القول لم يشترطوا لفظا معينا ولا عدم نية الطلاق وهذا هو المنقول عن بن عباس وأصحابه وهو المنقول عن أحمد بن حنبل وقدماء أصحابه في الخلوع بين لفظ ولفظ لا لفظ الطلاق ولاغيره بل الفاظهم صريحة في أنه فسخ بأي لفظ كان أصرح من لفظ الطلاق في معناه الخالص وأما الشافعي فلم يقل عن أحد من السلف أنه فرق بين لفظ الطلاق وغيره بل لما ذكر قول بن عباس وغيره وأصحابه ذكر عن عكرمة أنه قال كلما آجاز المال فليس بطلاق قال واحسب من لم يجعله طلاقا إنما يقول ذلك إذا لم يكن بلفظ الطلاق ومن هنا ذكر محمد بن نصر والطحاوي ونحوهما أنهم لايعلمون نزاعا في الخلع بلفظ الطلاق ومعلوم أن مثل هذا الظن لاينقل به مذاهب السلف ويعدل به عن الفاظهم وعلمهم وأدلتهم البينة في التسوية بين جميع الألفاظ وأما أحمد فكلامه بين في أنه لايعتبر لفظا ولايفرق بين لفظ ولفظ وهو متبع لابن عباس في هذا
____________________
(32/296)
القول وبه اقتدى وكان أحمد يقول إياك أن تكلم في مسألة ليس لك فيها إمام وإمامه في هذه المسألة هو بن عباس ونقله أحمد وغيره عن بن عباس وأصحابه فتبين أن الإعتبار عندهم ببذل المرأة العوض وطلبها الفرقه وقد كتبت ألفا ظهم في هذا الباب في الكلام المبسوط وأيضا فقد روي البخاري في صحيحه عن بن عباس ان النبي قال لثابت بن قيس بن شماس وهو أول من خالع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءت امرأته إلى النبي وقالت له لاأنقم عليه خلقا ولادينا ولكن أكره الكفر بعد في الإسلام فذكرت أنها تبغضه فقال لها النبي أتردين عليه الحديقة فقالت نعم قال أقبل الحديقة وطلقها تطليقة وبن عباس الذي يروى هذا اللفظ عن النبي وروى أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بحيضة استبراء وقال لاعدة عليك وأفتى بان طلاق أهل اليمن الذي يسمونه الفداء ليس من الطلاق الثلاث مع أن إبراهيم بن سعد قال له عامة طلاق أهل اليمن الفداء فقال له ليس الفداء بطلاق وإنما هو فراق ولكن الناس غلطوا في اسمه فأخبره السائل أن طلاقهم هو الفداء وهذا ظاهر في أن ذلك يكون بلفظ الطلاق وأدنى أحواله أن يعم لفظ الطلاق وغيره وبن عباس أطلق الجواب
____________________
(32/297)
وعمم ولم يستثن الفداء بلفظ الطلاق ولاعين له لفظا مع علمه بأن وقوع ذلك بلفظ الطلاق أكثر منه بغيره بل العامة لاتعرف لفظ الفسخ والخلع ونحو ذلك إن لم يعلمها ذلك معلم ولا يفرقون بين لفظ ولفظ بل كثير منهم إذا قيل له خالع امرأتك طلقها بلا عوض وقال قد خلعتها فلا يعرفون الفرق بين لفظ ولفظ ان لم يذكر لهم الغرض في أحد اللفظين وأهل اليمن إلى اليوم تقول المرأة لزوجها طلقني فيقول لها ابذلي لي فتبذل له الصداق أو غيره فيطلقها فهذا عامة طلاقهم وقد أفتاهم بن عباس بأن هذا فدية وفراق وليس بطلاق ورد امرأة على زوجها بعد طلقتين وفداء مرة فهذا نقل بن عباس وفتياه واستدلاله بالقرآن بما يوافق هذا القول وهذا كما أنه مقتضى نصوص أحمد وأصوله فهو مقتضى أصول الشرع ونصوص الشارع فإن الإعتبار في العقود بمقاصدها ومعانيها لا بألفاظها فإذا كان المقصود باللفظين واحدا لم يجز اختلاف حكمهما ولو كان المعنى الواحد إن شاء العبد جعله طلاقا وإن شاء لم يجعله طلاقا كان تلاعبا وهذا باطل وقد أوردوا على هذا ان المعتقة تحته إذا خيرها زوجها فإن لها أن تطلق نفسها ولها أن تفسخ النكاح لأجل عتقها قالوا فهي مخيرة بين الأمرين وكذلك الزوج مع العوض يملك ايقاع فسخ ويملك إيقاع طلاق وهذا القياس ضعيف فإن هذه إذا طلقت نفسها إنما يقع الطلاق رجعيا فتكون مخيرة بين
____________________
(32/298)
إيقاع فرقة بائنة وبين إيقاع طلاق رجعي وهذا مستقيم كما يخير الزوج بين أن يخلعها مفارقة فرقة بائنة وبين أن يطلقها بلا عوض طلاقا رجعيا وإنما المخالف للأصول أن يملك فرقة بائنة إن شاء جعلها فسخا وإن شاء جعلها طلاقا والمقصود في الموضعين واحد وهو الفرقة البائنة والأمر إليه في جعلها طلاقا أو غير طلاق فهذا هو المنكر الذي يقتضي أن يكون العبد أن شاء جعل العقد الواحد طلاقا وإن شاء جعله غير طلاق مع أن المقصود في الموضعين واحد وأيضا فالذي يرجع الى العبد هو قصد الأفعال وغايتها وأما الأحكام فإلى الشارع فالشارع يفرق بين حكم هذا الفعل وحكم هذا الفعل لإختلاف المقصود بالفعلين فإذا كان مقصود الرجل بها واحدا لم يكن مخيرا في إثبات الحكم ونفيه ومعلوم أن مقصود الفرقة واحد لا يختلف وأيضا فمعنى الافتداء ثابت فيما إذا سألته أن يفارقها بعوض والله علق حكم الخلع بمسمى الفدية فحيث وجد هذا المعنى فهو الخلع المذكور في كتاب الله تعالى وأيضا فإن الله جعل الرجعة من لوازم الطلاق في القرآن فلم يذكر الله تعالى طلاق المدخول بها إلا وأثبت فيه الرجعة فلو كان الافتداء طلاقا
____________________
(32/299)
لثبت فيه الرجعة وهذا يزيل معنى الافتداء اذ هو خلاف الإجماع فإنا نعلم من قال إن الخلع المطلق يملك فيه العوض ويستحق فيه الرجعة لكن قال طائفة هو غير لازم فإن شاء رد العوض وراجعها وتنازع العلماء فيما إذا شرط الرجعة في العوض هل يصح على قولين هما روايتان عن مالك وبطلان الجمع مذهب أبي حنيفة والشافعي وهو قول متأخري أصحاب أحمد ثم من هؤلاء من يوجب العوض ويرد الرجعة ومنهم من يثبت الرجعة ويبطل العوض وهما وجهان في مذهب أحمد والشافعي وليس عن أحمد في ذلك نص وقياس مذهب أحمد صحته بهذا الشرط كما لو بذلت ما لا على أن تملك أمرها فإنه نص على جواز ذلك ولأن الأصل عنده جواز الشرط في العقود إلا أن يقوم على فسادها دليل شرعي وليس الشرط الفاسد عنده ما يخالف مقتضى العقد عند الإطلاق بل ما خالف مقصود الشارع وناقض حكمه كاشتراط الولاء لغير المعتق واشتراط البائع للوطء مع أن الملك للمشتري ونحو ذلك وأيضا فالفرق بين لفظ ولفظ في الخلع قول محدث لم يعرف عن أحد من السلف لا الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم والشافعي رضي الله عنه لم ينقله عن أحد بل ذكر أنه يحسب أن الصحابة يفرقون ومعلوم أن هذا ليس نقلا لقول أحد من السلف والشافعي ذكر هذا في أحكام القرآن ورجح فيه أن الخلع طلاق وليس بفسخ فلم يجز هذا القول لما ظنه من تناقض أصحابه وهو أنهم يجعلونه بلفظ طلاقا بائنا من الثلاث
____________________
(32/300)
وبلفظ ليس من الثلاث فلما ظنه من تناقضه عدل عن ترجيحه ولكن هذا التناقض لم ينقله لا هو ولا أحد غيره عن أحد من السلف القائلين به ولا من اتبعه كأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه وإنما قاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد لما وجدوا غيرهم قد ذكروا الفرق فيه بين لفظ الطلاق وغيره وذكر بعضهم كمحمد بن نصر والطحاوي أنهم لا يعلمون في ذلك نزاعا وإنما قاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والمنقول عن السلف قاطبة إما جعل الخلع فرقة بائنة وليس بطلاق وإما جعله طلاقا وما رأيت في كلام أحد منهم أنه فرق بين لفظ ولفظ ولا اعتبر فيه عدم نية الطلاق بل قد يقولون كما يقول عكرمة كلما أجازه المال فليس بطلاق ونحو ذلك من العبارات مما يبين أنهم اعتبروا مقصود العقد لا لفظا معينا والتفريق بين لفظ ولفظ مخالف للأصول والنصوص وببطلان هذا الفرق يستدل من يجعل الجميع طلاقا فيبطل القول الذي دل عليه الكتاب والسنة وهذا الفرق إذا قيل به كان من أعظم الحجج على فساد قول من جعله فسخا ولهذا عدل الشافعي رضي الله عنه عن ترجيح هذا القول لما ظهر له أن أهله يفرقون وأيضا ففي السنن أن فيروز الديلمي أسلم وتحته أختان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( طلق أيتهما شئت ) قال فعمدت إلى أسبقهما صحبة ففارقتها وهو حديث حسن فقد أمره النبي أن يطلق إحداهما وهذه الفرقة عند الشافعي وأحمد فرقة بائنة وليست
____________________
(32/301)
من الطلاق الثلاث فدل ذلك على أن لفظ الطلاق قد تناول ما هو فسخ ليس من الثلاث ويدل على أن الذي أسلم وتحته أكثر من أربع إذا قال قد طلقت هذه كان ذلك فرقة لها واختيارا للأخرى خلاف ما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد أنه إذا قال لإحداهما طلقها كان ذلك اختيارا لها قالوا لأن الطلاق لا يكون إلا لزوجة فإن هذا القول مخالف للسنة والعقول فإن المطلق للمرأة زاهد فيها راغب عنها فكيف يكون مختارا لها مريدا لبقائها وإنما أوقعهم في مثل هذا ظنهم إن لفظ الطلاق لا يستعمل إلا فيما هو من الطلاق الثلاث وهذا ظن فاسد مخالف للشرع واللغة وإجماع العلماء وأيضا فإن الطلاق لم يجعل الشارع له لفظا معينا بل إذا وقع الطلاق بأي لفظ يحتمله وقع عند الصحابة والسلف وعامة العلماء لم ينازع في ذلك إلا بعض متأخري الشيعة والظاهرية ولا يعرف في ذلك خلاف عن السلف فإذا قال فارقتك أو سرحتك أو سيبتك ونوى به الطلاق وقع وكذلك سائر الكنايات فإذا أتى بهذه الكنايات مع العوض مثل أن تقول له سرحني أو سيبني بألف أو فارقني بألف أو خلني بألف فأي فرق بين هذا وبين أن تقول فأدنى بألف أو اخلعني بألف أو افسخ نكاحي بألف وكذلك سائر الفاظ الكنايات مع أن لفظ الخلع والفسخ إذا كان بغير عوض ونوى بهما الطلاق وقع الطلاق رجعيا فهما من الفاظ الكناية في الطلاق فأي فرق في ألفاظ الكنايات بين لفظ ولفظ
____________________
(32/302)
وقد اختلف العلماء في صحة الخلع بغير عوض على قولين هما روايتان عن أحمد أحدهما كقول أبي حنيفة والشافعي وهي إختيار أكثر أصحابه والثانية يصح كالمشهور في مذهب مالك وهي اختيار الخرقي وعلى هذا القول فلا بد أن ينوي بلفظ الخلع الطلاق ويقع به طلاق بائن لا يكون فسخا على الروايتين نص على ذلك أحمد رحمه الله فإنه لو أجاز أن يكون فسخا بلا عوض لكان الرجل يملك فسخ النكاح ابتداءا ولا يحسب ذلك عليه من الثلاث وهذا لا يقوله أحد فإنه لو جاز ذلك لكان هذا يستلزم جعل الطلاق بغير عدد كما كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام لم يكن للطلاق عدد فلو كان لفظ الفسخ أو غيره يقع ولا يحسب من الثلاث لكان ذلك يستعمل بدل لفظ الطلاق ومعناه معنى الطلاق بلا عدد وهذا باطل وإن قيل هو طلاق بائن قيل هذا أشد بطلانا فإنه إن قيل إنه لا يملك إلا الطلاق الرجعي ولا يملك طلاقا بائنا بطل هذا وإن قيل إنه يملك إيقاع طلاق بائن فلو جوز له أن يوقعه بلفظ الفسخ ولا يكون من الثلاث لزم المحذور وهو أن يطلق المرأة كلما شاء ولا يحسب عليه من الثلاث ولهذا لم يتنازع العلماء أن لفظ الخلع بلا عوض ولا سوال لا يكون فسخا وإنما النزاع فيما إذا طلبت المرأة أن يطلقها طلقة بائنة بلا عوض هل تملك ذلك على قولين
____________________
(32/303)
فإن العلماء تنازعوا على ثلاثة أقوال في الطلاق البائن فقيل إن شاء الزوج طلق طلاقا بائنا وإن شاء طلق طلاقا رجعيا بناء على أن الرجعة حق له وإن شاء أثبتها وإن شاء نفاها وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد وأظنه رواية عن مالك وقيل لايملك الطلاق البائن ابتداء بل إذا طلبت منه الإبانة ملك ذلك وهذا معروف عن مالك ورواية عن أحمد اختارها الخرقي وقيل لا يملك إبانتها بلا عوض بل سواء طلبت ذلك أو لم تطلبه ولا يملك إبانتها إلا بعوض وهذا مذهب أكثر فقهاء الحديث وهو مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وعليه جمهور أصحابه وهو قول إسحاق وأبي ثور وبن المنذر وبن خزيمة وداود وغيرهم وعليه أكثر النقول الثابتة عن اكثر الصحابة وعلى هذا القول يدل الكتاب والسنة فإن الله لم يجعل الطلاق إلا رجعيا وليس في كتاب الله طلاق بائن من الثلاث إلا بعوض لا بغير عوض بل كل فرقة تكون بائنة فليست من الثلاث وأيضا فإن الخلع والطلاق يصح بغير اللفظ العربي باتفاق الأئمة ومعلوم أنه ليس في لغة العجم لفظ يفرق مع العوض بين ما هو خلع وما هو طلاق ليس بخلع وإنما يفرق بينهما ما يختص بالخلع من دخول العوض فيه وطلب المرأة الفرقة فلفظ الطلاق يضاف إلى غير المرأة كقولهم طلقت الدنيا وطلقت ودك وإذا أضيف إلى المرأة فقد يراد به الطلاق من غير الزوج كما تقول أنت طالق من وثاق أو طالق من الهموم والأحزان
____________________
(32/304)
ولو وصل لفظ الطلاق بذلك لم يقع به بلا ريب وإن نواه ولم يصله بلفظ دين وفي قبوله في الحكم نزاع فإذا وصل لفظ الطلاق بقوله أنت طالق بألف فقالت قبلت أو قالت طلقني بألف فقال طلقتك كان هذا طلاقا مقيدا بالعوض ولم يكن هو الطلاق المطلق في كتاب الله فإن ذلك جعله الله رجعيا وجعل فيه تربص ثلاثة قروء وجعله ثلاثا فأثبت له ثلاثة أحكام وهذا ليس برجعي بدلالة النص والإجماع ولا تتربص فيه المرأة ثلاثة قروء بالسنة فلذلك يجب أن لا يجعل من الثلاث وذلك لأن هذا لا يدخل في مسمى الطلاق عند الاطلاق وإنما يعبر عنه بلفظ الطلاق مع قيد كما يسمى الحلف بالنذر نذر اللجاج والغضب فيسمى نذرا مقيدا لأن لفظه لفظ النذر وهو في الحقيقة من الإيمان لا من النذور عند الصحابة وجمهور السلف والشافعي وأحمد وغيرهما وكذلك لفظ الماء عند الاطلاق لا يتناول المني وإن كان يسمى ماء مع التقييد كقوله تعالى { خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب } وكذلك لفظ الخف لا يتناول عند الاطلاق المقطوع وإن كان يقال خف مقطوع فلا يدخل المقطوع في لفظ المسح على الخفين
____________________
(32/305)
ولا فيما نهى عنه المحرم من لبس الخف على الاصح من أقوال العلماء فلهذا أمر النبي المحرم أولا بقطع الخفين لأن المقطوع ليس بخف ثم رخص في عرفات في لبس السراويل ولبس الخفاف ولم يشترط فتق السراويل ولا قطع الخفاف والسراويل المفتوق والخف المقطوع لا يدخل في مسمى الخف والسراويل عند الإطلاق وكذلك لفظ البيع المطلق لا يتناول بيع الخمر والميتة والخنزير وإن كان يسمى بيعا مع التقييد وكذلك الإيمان عند الإطلاق إنما يتناول الإيمان بالله ورسوله وأما مع التقييد فقد قال الله تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } لا يدخل في مطلق الايمان وكذلك لفظ البشارة عند الإطلاق إنما تناول الإخبار بما يسر وأما مع التقييد فقد قال تعالى { فبشرهم بعذاب أليم } وأمثال ذلك كثيرة فالطلاق المطلق في كتاب الله يتناول الطلاق الذي يوقعه الزوج بغير عوض فتثبت له فيه الرجعة وما كان بعوض فلا رجعة له فيه وليس من الطلاق المطلق وإنما هو فداء تفتدي به المرأة نفسها من زوجها
____________________
(32/306)
كما تفتدي الأسيرة نفسها من أسرها وهذا الفداء ليس من الطلاق الثلاث سواء وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء والسراح أو الفراق أو الطلاق أو الإبانة أو غير ذلك من الألفاظ ولهذا جاز عند الأئمة الأربعة والجمهور من الأجنبي فيجوز للأجنبي أن يختلعها كما يجوز أن يفتدي الأسيرة كما يجوز أن يبذل الأجنبي لسيد العبد عوضا ليعتقه ولهذا ينبغي أن يكون ذلك مشروطا بما إذا كان قصده تخليصها من رق الزوج لمصلحتها في ذلك كما يفتدي الأسير وفي مذهب الشافعي وأحمد وجه أنه إذا قيل إنه فسخ لم يصح من الأجنبي قالوا لأنه حينئذ يكون إقالة والإقالة لا تصح مع الأجنبي وهذا الذي ذكره أبو المعالي وغيره من أهل الطريقة الخراسانية والصحيح في المذهبين أنه على القول بأنه فسخ هو فسح وإن كان من الأجنبي كما صرح بذلك من صرح به من فقهاء المذهبين وإن كان صاحب شرح الوجيز لم يذكر ذلك فقد ذكره أئمة العراقيين كأبي إسحاق الشيرازي في خلافه وغيره وهذا لأنهم جعلوه كافتداء الأسير وكالبذل لاعتاق العبد لا كالإقالة فإن المقصود به رفع ملك الزوج عن رق المرأة لتعود خالصة من رقه ليس المقصود منه نقل ملك إليها فهو شبيه بإعتاق العبد وفك الأسير لا بالإقالة في البيع فلهذا يجوز بإتفاق الأئمة بدون الصداق المسمى وجوزه الأكثرون بأكثر من الصدقات ويجوز أيضا بغير جنس الصداق وليست الإقالة كذلك بل
____________________
(32/307)
الإقالة المقصود بها تراد العوض وإذا كرهنا أو حرمنا أخذ زيادة على صداقها فهذا لأن العوض المطلق في خروجها من ملك الزوج هو المسمى في النكاح فإن البضع لا يباع ولا يوهب ولا يورث كما يباع المال ويوهب ويورث وكما تؤجر المنافع وتعار وتورث والتجارة والإجارة جائزة في الأموال بالنص والإجماع وأما التجارة المجردة في المنافع مثل أن يستأجر دارا ويؤجرها بأكثر من الأجرة من غير عمل يحدثه ففيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد أشهرهما عنه يجوز وهو قول أكثر العلماء كمالك والشافعي والثاني لا يجوز كقول أبي حنيفة قالوا لأنه يدخل في ربح ما لم يضمن والأول أصح لأن هذه المنافع مضمونة على المستأجر بمعنى أنه إذا سلم إليه العين المؤجرة ولم ينتفع بالعين تلفت على ملكه بخلاف ما إذا تلفت العين المؤجرة فإن هذا بمنزلة تلف الثمر قبل صلاحه والمقصود هنا أن المنافع التي تورث قد تنوزع في جواز التجارة فيها فكيف بالابضاع التي لا توهب ولا تورث بالنص والإجماع وإنما كان أهل الجاهلية يرثون الابضاع فأبطل الله ذلك فلو أراد الزوج أن يفارق المرأة ويزوجها بغيره ليأخذ صداقها لم يملك ذلك ولو وطئت بشبهة لكان المهر لها دونه فلهذا نهي عن الزيادة وإذا شبه الخلع بالإقالة فالإقالة في كل عقد بحسبه وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
____________________
(32/308)
وهذا القول الذي ذكرناه من أن الخلع فسخ تبين به المرأة بأي لفظ كان هو الصحيح الذي عليه تدل النصوص والأصول وعلى هذا فأذا فارق المرأة بالعوض عدة مرات كان له أن يتزوجها سواء كان بلفظ الطلاق أو غيره وإذا قيل الطلاق صريح في إحدى الثلاث فلا يكون كناية في الخلع قيل إنما الصريح اللفظ المطلق فأما المقيد بقيد يخرجه عن ذلك فهو صريح في حكم المقيد كما إذا قال أنت طالق من وثاق أو من الهموم والأحزان فإن هذا صريح في ذلك لا في الطلاق من النكاح وإذا قال أنت طالق بألف فقالت قبلت فهو مقيد بالعوض وهو صريح في الخلع لا يحتمل أن يكون من الثلاث البتة فإذا نوى أن يكون من الثلاث فقد نوى باللفظ ما لا يحتمله كما لو نوى بالخلع أن تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره فنيته هذا الحكم باطل كذلك نيته أن يكون من الثلاث باطل وكذلك لو نوى بالظهار الطلاق أو نوى بالإيلاء الطلاق مؤجلا مع أن أهل الجاهلية كانوا يعدون الظهار طلاقا والأيلاء طلاقا فأبطل الله ورسوله ذلك وحكم في الإيلاء بأن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان مع تربص أربعة أشهر وحكم في الظهار بأنه إذا عاد كما قال كفر قبل المماسة ولايقع به طلاق ولهذا كان من جعل الإيلاء طلاقا مؤجلا أو جعل التحريم الذي في معنى الظهار طلاقا قوله مرجوح فيه شبه لما كانوا عليه أولا بخلاف من
____________________
(32/309)
فرق بين حقيقة الظهار وحقيقة الإيلاء وحقيقة الطلاق فإن هذا علم حدود ما أنزل الله على رسوله فلم يدخل في الحدود ما ليس منه ولم يخرج منه ما هو فيه وكذلك الافتداء له حقيقة يباين بها معنى الطلاق الثلاث فلا يجوز أن يدخل حقيقة الطلاق في حقيقة الافتداء ولا حقيقة الافتداء في حقيقة الطلاق وإن عبر عن أحدهما بلفظ الآخر أو نوى بأحدهما حكم الآخر فهو كما إذا نوى بالطلقة الواحده أو الخلع أن تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره فنية هذا الحكم باطل وكذلك نيته أن تكون من الثلاث باطل فإن الله لم يحرمها حتى تنكح زوجا غيره إلا بعد الطلقة الثالثة فمن نوى هذا الحكم بغير هذا الطلاق فقد قصد ما يناقض حكم الله ورسوله كذلك من نوى بالفرقة البائنة أن الفرقة نقص بعض من الثلاث فقد قصد ما يناقض حكم الله ورسوله وليس له ذلك وإذا كان قصد هذا أو هذا الجهلة بحكم الله ورسوله كان كما لو قصد بسائر العقود ما يخالف حكم الله ورسوله فيكون جاهلا بالسنة فيرد إلى السنة كما قال عمر بن الخطاب ردوا الجهالات إلى السنة وكما قال طائفة من السلف فيمن طلق ثلاثا بكلمة هو جاهل بالسنة فيرد إلى السنة وقول النبي للمخالع وطلقها تطليقة إذن له في الطلقة الواحدة بعوض ونهي له عن الزيادة كما قد بين دلالة الكتاب والسنة على أن الطلاق السنة أن يطلق طلقة واحدة ثم يراجعها أو يدعها حتى تنقضي عدتها وأنه متى طلقها
____________________
(32/310)
ثنتين أو ثلاثا قبل رجعة أو عقد جديد فهو طلاق بدعة محرم عند جمهور السلف والخلف كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وأحمد في آخر قوليه واختيار أكثر أصحابه وهل يقع الطلاق المحرم فيه نزاع بين السلف والخلف كما قد بسط في موضعه وذكر ما ثبت في الصحيح عن بن عباس أنه قال كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة وزمان أبي بكر وصدرا من خلافة عمر فلما تتابع الناس على ذلك قال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو نفذناه عليهم فأنفذه عليهم وقد تكلمنا على هذا الحديث وعلى كلام الناس فيه بما هو مبسوط في موضعه وذكرنا الحديث الآخر الذي يوافقه الذي رواه الإمام أحمد وغيره من حديث محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عباس أن ركانة طلق إمرأته ثلاثا فلما أتى النبي قال له النبي ( في مجلس أم مجالس ) قال بل في مجلس واحد ( فردها عليه ) وقد أثبت هذا الحديث أحمد بن حنبل وبين أنه أصح من رواية من روى في حديث ركانة أنه طلقها البتة وأن النبي استحلفه ( ما أردت إلا واحدة ) قال ما أردت إلا واحدة ( فردها عليه ) فإن رواه هذا مجاهيل الصفات لا يعرف عدلهم وحفظهم ولهذا ضعف أحمد وأبو عبيد وبن حزم وغيرهم
____________________
(32/311)
من أئمة الحديث حديثهم بخلاف حديث الثلاث فإن إسناده جيد وهو من رواية بن عباس موافق لحديثه الذي في الصحيح والذين رواه علماء فقهاء وقد عملوا بموجبه كما أفتى طاووس وعكرمة وبن إسحاق أن الثلاث واحدة وقد قال من قال منهم هذا أخطأ السنة فيرد إلى السنة وما ذكره أبو داود في سننه من تقديم رواية البتة فإنما ذاك لأنه لم يذكر حديث داود بن الحصين هذا عن عكرمة عن بن عباس وإنما ذكر طريقا آخر عن عكرمة من رواية مجهول فقدم رواية مجهول على مجهول وأما رواية داود بن الحصين هذه فهي مقدمة على تلك باتفاق أهل المعرفة ولكن هذه الطريق لم تبلغ أكثر العلماء كما أن حديث طاووس لا يعرفه كثير من الفقهاء بل أكثرهم وقد بسط الكلام على هذا في مواضع وبين الكلام على ما نقل عن عمر وبن عباس وغيرهما من الصحابة في الافتاء بلزوم الثلاث أن ذلك كان لما أكثر الناس من فعل المحرم وأظهروه فجعل عقوبة لهم وذكر كلام الناس على الالزام بالثلاث هل فعله من فعله من الصحابة لأنه شرع لازم من النبي او فعله عقوبة ظهور المنكر وكثرته وإذا قيل هو عقوبة فهل موجبها دائم لا يرتفع أو يختلف باختلاف الأحوال وبين أن هذا لا يجوز أن يكون شرعا لازما ولا عقوبة إجتهادية لازمة بل غايته أنه إجتهاد سايغ مرجوح أو عقوبة عارضة
____________________
(32/312)
شرعية والعقوبة إنما تكون لمن أقدم عليها عالما بالتحريم فأما من لم يعلم بالتحريم ولما علمه تاب منه فلا يستحق العقوبة فلا يجوز إلزام هذا بالثلاث المجموعة بل إنما يلزم واحدة هذا إذا كان الطلاق بغير عوض فأما إذا كان بعوض فهو فدية كما تقدم فلا يحل له أن يوقع الثلاث أيضا بالعوض كما أمر النبي أن لا يطلق بالعوض إلا واحدة لا أكثر كما لا يطلق بغيره إلا واحدة لا أكثر لكن الطلاق بالعوض طلاق مقيد هو فدية وفرقة بائنة ليس هو الطلاق المطلق في كتاب الله فإن هذا هو الرجعي فإذا طلقها ثلاثا مجموعة بعوض وقيل إن الثلاث بلا عوض واحدة وبالعوض فدية لا تحسب من الثلاث كانت هذه الفرقة بفدية لا تحسب من الثلاث وكان لهذا المفارق أن يتزوجها عقدا جديدا ولا يحسب عليه ذلك الفراق بالعوض من الثلاث فلا يلزمه الطلاق لكونه محرما والثنتان محرمة والواحدة مباحة ولكن تستحب الواحدة بالعوض من الثلاث لأنها فدية وليست من الطلاق الذي جعله الله ثلاثا بل يجوز أن يتزوج المرأة وتكون معه على ثلاث وجماع الأمر أن البينونة نوعان البينونة الكبرى وهي إيقاع البينونة الحاصلة بإيقاع الطلاق الثلاث الذي تحرم به المرأة حتى تنكح زوجا غيره والبينونة الصغرى وهي التي تبين بها المرأة وله أن يتزوجها بعقد
____________________
(32/313)
جديد في العدة وبعدها فالخلع تحصل به البينونة الصغرى دون الكبرى والبينونة الكبرى الحاصلة بالثلاث تحصل إذا اوقع الثلاث على الوجه المباح المشروع وهو أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه أو يطلقها واحدة وقد تبين حملها ويدعها حتى تنقضي العدة ثم يتزوجها بعقد جديد وله أن يراجعها في العدة وإذا تزوجها أو ارتجعها فله أن يطلقها الثانية على الوجه المشروع فإذا طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو كلمات قبل رجعة أو عقد فهو محرم عند الجمهور وهو مذهب مالك وأبي حنيفة في المشهور عنه بل وكذلك إذا طلقها الثلاث في أطهار قبل رجعة أو عقد في مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه ولو أوقع الثلاث إيقاعا محرما فهل يقع الثلاث أو واحدة على قولين معروفين للسلف والخلف كما قد بسط في موضعه فإذا قيل إنه لا يقع لم يملك البينونة الكبرى بكلمة واحدة وإذا لم يملكها لم يجز أن تبذل له العوض فيما لا يملكه فإذا بذلت له العوض على الطلاق الثلاث المحرمة بذلت له العوض فيما يحرم عليه فعله ولا يملكه فإذا أوقعه لم يقع منه إلا المباح والمباح بالعوض إنما هو بالبينونة الصغرى دون الكبرى بل لو طلقها ثنتين وبذلت له العوض على الفرقة بلفظ الطلاق أو غير الطلاق لم تقع الطلقة الثالثة على قولنا إن الفرقة بعوض فسخ تحصل به البينونة الصغرى فإذا فارقها بلفظ الطلاق أو غيره في هذه الصورة وقعت به ( البينونة الصغرى وهو الفسخ
____________________
(32/314)
دون الكبرى وجاز له أن يتزوج المرأة بعقد جديد لكن إن صرحت ببذل العوض في الطلقة الثالثة المحرمة وكان مقصودها أن تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره فقد بذلت العوض في غير البينونة الصغرى وهو يشبه ما إذا بذلت العوض في الخلع بشرط الرجعة فإن اشتراطه الرجعة في الخلع يشبه اشتراطها الطلاق المحرم لها فيه وهو في هذه الحال يملك الطلقة الثالثة المحرمة لها كما كان يملك قبل ذلك الطلاق الرجعي والله سبحانه أعلم وقال شيخ الإسلام رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما فصل في الفرقة التي تكون من الطلاق الثلاث والتي لا تكون من الثلاث فإن انقسام الفرقة إلى هذين النوعين متفق عليه بين المسلمين فيما أظن فإنه لو حدث بينهما ما أوجب التحريم المؤبد بدون اختيارهما
____________________
(32/315)
كالمصاهرة كانت فرقة تعتبر طلاقا لكن تنازع العلماء في أنواع كثيرة من المفارقات مثل الخلع ومثل الفرقة باختلاف الدين والفرقة لعيب في الرجل مثل جب أو عنة ونحو ذلك هل هو طلاق من الثلاث أم ليس من ذلك وسبب ذلك تنقيح مناط الفرق بين الطلاق وغيره ومذهب الشافعي وأحمد في هذا الباب أوسع من مذهب أبي حنيفة ومالك ولهذا اختلف قولهما في الخلع هل هو طلاق أم ليس بطلاق والمشهور عن أحمد أنه ليس بطلاق كقول بن عباس وطاووس وغيرهما وهو أحد قولي الشافعي لكن فرق من فرق من أصحاب الشافعي وأحمد بين أن يكون بلفظ الطلاق أو بغيره فإن كان بلفظه فهو طلاق منقص وإن كان بلفظ آخر ونوى به الطلاق فهو طلاق أيضا وإن خلا عن لفظ الطلاق ونيته فهو محل النزاع وهذا موضع يحتاج إلى تحقيق كما يحتاج مناط الفرق إلى تحرير فإن هذا يبنى على أصلين أحدهما أن لفظ الطلاق لا يمكن أن ينوي به غير الطلاق المعدود الثاني تحرير معنى الخلع المخالف لمعنى الطلاق المعدود وإلا فإذا قدر أن لفظ الطلاق يحتمل الطلاق المعدود ويحتمل معنى آخر ونوى
____________________
(32/316)
ذلك المعنى لم يقع به الطلاق المعدود وقد قال الفقهاء أنه إذا قال أنت طالق ونوى من وثاق أو من زوج قبلي لم يقع به الطلاق فيما بينه وبين الله وهل يقبل منه في الحكم على قولين معروفين هما روايتان عن أحمد فعلم أن الطلاق المضاف إلى المرأة يعني به الطلاق المعدود ويعني به غير ذلك وقد يضاف الطلاق الى غير المرأة كما يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال يا دنيا قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ومثل الشعر المأثور عن الشافعي اذهب فودك من ودادي طالق والمنع من ذلك لما جاءت به السنة من أن لفظ الطلاق المضاف إلى المرأة يراد به الفرقة ولا يكون من الطلاق المعدود كما روى الإمام أحمد وأهل السنن الثلاثة أبو داود والنسائي وبن ماجة من حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال ( طلق أيتهما شئت ) هذا لفظ أبي داود قال حدثنا يحيى بن معين حدثنا وهب بن جرير عن أبيه قال سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب وروى أبو داود من حديث هشيم وعيسى بن المختار عن بن أبي ليلى عن خميصة بن الشمردل عن قيس بن الحارث أنه قال أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك للنبي فقال ( اختر منهن أربعا
____________________
(32/317)
ورواه بن ماجة أيضا وقد روى أحمد والترمذي وبن ماجة واللفظ له أن بن عمر قال أسلم غيلان وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( خذ منهن أربعا ) قال الترمذي سمعت محمدا يقول هذا غير محفوظ والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري قال حدثت عن محمد بن سويد أن غيلان فذكره وفي لفظ الإمام أحمد فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر فقال إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلك لا تملك إلا قليلا وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال وقد روى هذا الحديث مالك في الموطأ عن الزهري مرسلا وقد رواه الشافعي وأحمد في مسنديهما في حديث محمد بن جعفر وغيره عند معمر عند الزهري مرسلا لكن بين الإمام أحمد وغيره أن هذا مما غلط فيه معمر لما عدم البصر فإنه حدثهم به من حفظه وكان معمر يغلط إذا حدث من حفظه فرواه البصريون عنه كمحمد بن جعفر غندر وغيره على الغلط وأما أصحابه الذين سمعوا من كتبه كعبد الرزاق وغيره فرووه على الصواب ففي حديث فيروز ( أن النبي قال له طلق أيتهما شئت ) ليس المراد بذلك الطلاق المعدود على قول الشافعي وأحمد وغيرهما بل المراد
____________________
(32/318)
منه فراقا ليس من الطلاق المعدود فإنه لا يجب عليه أن يطلقها بنص الطلاق المعدود بل يفارقها عندهم بغير لفظ الطلاق وأما لفظ الطلاق فلهم فيه كلام سنذكره إن شاء الله وهكذا ما جاء في حديث غيلان ( أمسك أربعا وفارق سائرهن ) وليس عليه أن يفارقها فرقة تحسب من الطلاق المعدود وقد تنازع الفقهاء من اصحاب الشافعي وأحمد والدليل على أن النبي لم يرد بذلك أنه يطلقها بنص الطلاق المعدود بل أراد المفارقة وجوه أحدها أنه قال في الحديث الآخر ( خذ منهن أربعا ) فدل على أنه إذا اختار منهن أربعا كفى ذلك ولا يحتاج إلى إنشاء طلاق في البواقي فلو كان فراقهن من الطلاق المعدود لاحتاج إلى إنشاء سببه كما لو قال والله لأطلقن إحدى امرأتي فإنه لابد أن يحدث لها طلاقا فلو قال أخذت هذه لم يكن هذا وحده طلاقا للأخرى اللهم إلا أن يقال هذا مما قد يقع به الطلاق بالأخرى مع النية الثاني أن يقال ما زاد على الاربع حرام عليه بالشرع وما كانت محرمة بالشرع لم تحتج إلى طلاق لكن المحرمة لما لم تكن معينة كانت له ولاية التعيين
____________________
(32/319)
الثالث أن يقال إن الله قد ذكر في كتابه خصائص الطلاق وهي منتفية من هذه الفرقة فقال تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } إلى قوله { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } فجعل المطلقة زوجها أحق برجعتها في العدة وما زاد على الاربع لا يمكنه أن يختار واحدة منهن في العدة إلا أن يقول قائل له في العدة أن يرتجع واحدة من المفارقات ويطلق غيرها وهذا لا أعلمه قولا الرابع أن الله قال { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } فجعل له بعد الطلقتين أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان وهذا ليس له في ما زاد على الأربع إذا فارقهن إلا أن يقال له الرجعة بشرط البدل الخامس أن الله قال { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وهذا الفراق لا يقضي على العدة بل عليه إذا أسلم أن يفارق ما زاد على الأربع وهذا دليل ظاهر السادس أنه قال { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وهذه المفارقة ليست كذلك السابع أنه قال { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف } وهذه ليست كذلك
____________________
(32/320)
الثامن أن فراق إحدى الأختين وما زاد على الأربع واجب بالشرع عينا والله لم يوجب الطلاق عينا قط بل أوجب إما الإمساك بالمعروف وإما التسريح بإحسان التاسع أن الطلاق مكروه في الأصل ولهذا لم يرخص الله فيه إلا في ثلاث وحرم الزوجة بعد الطلقة الثالثة عقوبة للرجل لئلا يطلق وهنا الفرقة مما أمر الله بها ورسوله فكيف يجعل ما يحبه الله ورسوله داخلا في الجنس الذي يكرهه الله ورسوله وصار هذا كما أن هجرة المسلمين كانت محظورة في الأصل رخص الشارع منها في الثلاث فأما الهجرة المأمور بها كهجرة النبي وأصحابه للثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة فإنها كانت هجرة يحبها الله ورسوله فلا تكون من جنس ما هو مكروه أبيح منه الثلاث للحاجة وكذلك إحداد غير الزوجة لما كان محرما في الأصل أبيح منه الثلاث للحاجة فأما إحداد الزوجة أربعة أشهر وعشرا فلما كان مما أمر الله به ورسوله لم يكن من جنس ما كرهه الله ورخص منه في ثلاث للحاجة فكذلك الفرقة التي يأمر الله بها ورسوله لا تكون من جنس الطلاق الذي يكرهه الله ورسوله ورخص منه في ثلاث للحاجة والخلع من هذا الباب فقد روى البخاري في صحيحه من حديث خالد الحذاء عن عكرمة عن بن عباس أن إمرأة ثابت بن قيس أتت النبي فقالت يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعيب عليه من خلق ولا دين
____________________
(32/321)
ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله ( أتردين عليه حديقته ) قالت نعم قال رسول الله ( إقبل الحديقة وطلقها تطليقه ) فهذا فيه من رواية عكرمة عن بن عباس أن رسول الله قال ( اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ) وقد ثبت عن بن عباس وعكرمة وغير بما إنهم لم يكونوا يجعلون الخلع من الطلاقات الثلاث قال أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان عن عمرو بن دينار عن طاووس عن بن عباس قال الخلع تفريق وليس بطلاق وقال عبد الله بن أحمد رأيت أبي يذهب إلى قول بن عباس وهو قول إسحاق وأبي ثور وداود وأصحابه غير بن حزم وروى عبد الرزاق عن بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاووس أنه سأله إبراهيم بن سعد عن رجل طلق إمرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أينكحها قال بن عباس نعم ذكر الله الطلاق في الآية وفي آخرها والخلع بين ذلك وروى عبد الرزاق عن بن جريج عن بن طاووس قال كان أبي لا يرى الفداء طلاقا ويخير له بينهما وقال بن جريج أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة سمع بن عباس يقول ما أجازه المال فليس بطلاق فهذا عكرمة يقول إن كل فرقة وقعت بمال فليست من الطلاق الثلاث وذلك أن هذا هو معنى الفدية المذكورة في كتاب الله
____________________
(32/322)
والفدية ليست من الطلاق الثلاث كما بينه بن عباس مع أن بن عباس وعكرمة هما اللذان روى البخاري من طريقهما حديث إمرأة ثابت بن قيس كما تقدم قال وحديثهم يرويه عكرمة مرسلا قال أبو بكر عبد العزيز هو ضعيف مرسل فيقال هذا في بعض طرقه وسائر طرقه ليس فيها إرسال ثم هذه الطريق قد رواها مسندة من هو مثل من أرسلها إن لم يكن أجل منه وفي مثل هذا يقضي المسند على المرسل وقد روى هذا الحديث الحاكم في صحيحه المسمى بالمستدرك وقال هذا حديث صحيح الإسناد غير أن عبد الرزاق أرسله عن معمر وخرجه القشيري في أحكامه التي شرط فيها أن لا يروي إلا حديث من وثقه إمام من مزكى رواة الأخبار وكان صحيحا على طريقة بعض أهل الحديث الحفاظ وائمة الفقة النظار قال وقول عثمان وبن عباس قد خالفه قول عمر وعلي فإنهما قالا عدتها ثلاث حيض وأما بن عمر فقد روى مالك عن نافع عنه قال عدة المختلعة عدة المطلقة وهو أصح عنه فيقال أما المنقول عن عمر وعلي وبتقدير ثبوت النزاع بين الصحابة قالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول والسنة قد بينت أن الواجب حيضة ومما بين ذلك أن النبي أمر إمرأة ثابت بن قيس أن تحيض
____________________
(32/323)
وتتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها فلو كان قد طلقها إحدى الطلقات الثلاث للزمتها عدة مطلقة بنص القرآن واتفاق المسلمين بخلاف الخلع فإنه قد ثبت عن غير واحد من السلف والخلف أنه ليس له عدة وإنما فيه استبراء بحيض والنزاع في هذه المسألة معروف أما الحديث المسند فرواه أهل السنن فقال النسائي حدثنا محمد بن يحيى المروزي حدثني شاذان بن عثمان أخو عبدان حدثنا أبي حدثنا علي بن عن يحيى بن أبي كثير أخبرني محمد بن عبد الرحمن أن الربيع بنت معوذ بن عفراء اخبرته ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثني عمي حدثنا أبي عن بن إسحاق ورواه بن ابي عاصم عن محمد بن سعد وعن يعقوب بن مهران عن الربيع بنت معوذ ورواه بن ماجة عن علي بن سلمة النيسابوري حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثني أبي عن بن إسحاق حدثنا عبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت وكلاهما يزعم أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها فأتت النبي بعد الصبح وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فاتى أخوها يشتكيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فقال له ( خذ الذي لها عليك وخل سبيلها ) قال نعم فأمرها رسول الله ( أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها ) أي بعد حيضة ورواه
____________________
(32/324)
أبو داوود في سننه والترمذي في جامعه وأبو بكر بن ابي عاصم في كتاب الطلاق له ثلاثتهم عن محمد بن عبد الرحمن البغدادي حدثنا علي بن يحيى القطان أخبرنا هشام بن يوسف عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن بن عباس أن إمرأة ثابت بن قيس اختلعت منه ( فجعل النبي عدتها حيضة ) وقال الترمذي حديث حسن غريب ورواه الحاكم في صحيحه وقال أبو داود هذا الحديث رواه عبد الرزاق عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبي وروى الترمذي أيضا عن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت على عهد رسول الله ( فأمرها النبي او أمرت أن تعتد بحيضة ) وقال الترمذي حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة وروى النسائب وبن أبي عاصم وبن ماجة عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت أختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسألت ماذا علي من العدة فقال لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين حتى تحيضي حيضة ولفظ بن ماجة تمكثين عنده حتى تحيضي حيضة وأما النسائي وبن ابي عاصم فلم يقولا ( عنده ) قالت وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله في المعالية كانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت منه فهذه ثلاث طرق لحديث إمرأة ثابت بن قيس بن شماس التي خالعها ( أن النبي أمرها أن تعتد بحيضة واحدة ) ورواه أبو بكر
____________________
(32/325)
بن أبي عاصم في كتاب الطلاق من الحديث المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع طرق فيكون للحديث خمسة طرق أو ستة ذكر حديث الربيع الذي فيه ذكر مريم المعالية ولم يذكر حديث الربيع المتقدم الذي فيه ضرب ثابت لامرأته جميلة وقد صححه بن حزم وغيره ذكر قال حدثنا أحمد بن محمد بن عمر حدثنا عمر بن يونس عن سليمان بن أبي سليمان عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن الربيع ( أن النبي أمر المختلعة أن تعتد بحيضة ) وقال أيضا حدثنا محمد بن سليمان حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا بن لهيعة حدثنا أبو الأسود عن يحيى بن النظر ويزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها سمعت رسول الله يحدث عن إمرأة ثابت بن قيس أنه كان بينها وبين زوجها بعض الشيء وكان رجلا فيه حدة فأتت رسول الله فكلمته فأرسل إلى ثابت ثم إنه قبل منها الفدية فافتدت منه ( فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد حيضة ) قال أبو بكر بن أبي عاصم مما دل على أن الخلع فسخ لاطلاق ما ثبت به الإسناد حدثنا محمد بن مصفى حدثنا سويد بن عبد العزيز
____________________
(32/326)
هو يحيى بن سعيد عن عمرة عن حبيبة بنت سهيل قالت إمرأة كان هم أن يتزوجها رسول الله فخطبها ثابت بن قيس فتزوجها وكان في خلق ثابت شدة فضربها فأصبحت بالغلس على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله فقال ( من هذه ) فقالت حبيبة أنا يا رسول الله لا أنا ولا ثابت قال فلم يكن إن جاء ثابت فقال له رسول الله ( ضربتها ) قال نعم ضربتها فقال له رسول الله خذ منها فقالت يا رسول الله إن عندي كل شيء أعطانيه فقال فأخذ منها وجلست في بيتها قال بن أبي عاصم ولم يذكر طلاقا قال وفي ( حيضة واحدة ) دليل على أنها ليست بمطلقة وكذلك في عدتها في بيتها ولو كانت مطلقة لكان لها السكنى والنفقة قلت هذا على قول من يجعل الخلع طلقة رجعية إذا كان طلاقا كما هو قول أبي محمد عن جمهور أهل الحديث وداود وبن أبي عاصم يوافقهم على ذلك مذهبه أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى على حديث فاطمة بنت قيس قال بن أبي عاصم وممن قال تعتد بحيضة عثمان بن عفان وبن عمر وممن قال فسخ وليس بطلاق بن عباس وبن الزبير قلت وقد ذكر بن المنذر عن أحمد بن حنبل أنه ضعف كل ما يروى عن الصحابة مخالفا لقول بن عباس
____________________
(32/327)
وقد ذكر الشيخ أبو محمد في مغينه هذه الرواية التي ذكرها أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن أحمد منه نقلها أبو محمد وهي موجوده في غير ذلك من الكتب فقال وأكثر أهل العلم يقولون عدة المختلعة عدة المطلقة منهم سعيد بن المسيب ومنها طائفة من العلماء منهم مالك والشافعي قال وروى عن عثمان بن عفان وبن عمر وبن عباس وإبان بن عثمان وإسحاق وبن المنذر أن عدة المختلعة حيضة وروى بن القاسم عن أحمد كما روى بن عباس أن إمرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة رواه النسائي وعن الربيع بنت معوذ مثل ذلك رواه النسائي وبن ماجة قال ولنا قوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ولأنها فرقة بعد الدخول في الحياة فكانت ثلاثة قروء كالخلع فيقال أما الآية فلا يجوز الاحتجاج بها حتى يبين أن المختلعة مطلقة وهذامحل النزاع ولو قدر شمول نص لها فالخاص يقضي على العام والآية قد استثنى منها غير واحدة من المطلقات كغير المدخول بها والحامل والامة والتي لم تحض وإنما تشمل المطلقة التي لزوجها عليها الرجعة وأما القياس المذكور فيقال لا نسلم أن العلة في الأصل مجرد الوصف المذكور ولا نسلم الحكم في جميع صور الناس ثم هو منقوض بالمفارقة لزوجها وقد دلت السنة على أن الواجب فيهما الإستبراء
____________________
(32/328)
وأما الرواية هل هي جميلة بنت أبي أو سهلة بنت سهيل أو أخرى فهذا مما اختلفت فيه الرواية فأما أن يكونا قصتين أو ثلاثا وإما أن أحد الراويين غلط في اسمها وهذا لا يضر مع ثبوت القصة فإن الحكم لا يتعلق باسم إمرأته وقصة خلعة لامرأته مما تواترت به النقول واتفق عليه أهل العلم وقد روى مالك والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي عن حبيبة بنت سهل الأنصارية أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وان رسول الله خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله ( من هذه ) قالت أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله قال ما شأنك قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاء ثابت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر ) فقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله لثابت ( خذ منها ) فأخذ منها وجلست في أهلها وقد ذكر بن حزم هذا الحديث وحديث الاعتداد بحيضة في حجة من يقول إن الخلع فسخ وقال قالوا فهذا يبين أن الخلع ليس طلاقا لكنه فسخ ولم يذكر حديث بن عباس إلا من طريق عبد الرزاق المرسل وقال أما حديث عبد الرزاق فساقط لأنه مرسل
____________________
(32/329)
وفيه عمرو بن مسلم وليس بشيء وأما خبر الربيع وحبيبة فلو لم يأت غيرهما لكانا حجة قاطعة لكن رويا من طريق البخاري وذكر ما تقدم من قول النبي ( أقبل الحديقة وطلقها تطليقة ) قال فكان هذا الخبر فيه زيادة على الخبرين المذكورين لا يجوز تركها وإذ هو طلاق فقد ذكر الله عدة الطلاق فهو زائد على ما في حديث الربيع والزيادة لا يجوز تركها فيقال له أما قولك عن حديث عبد الرزاق إنه مرسل فقد رواه أبو داود والترمذي من حديث همام بن يوسف مسندا كما تقدم ومن أصلك أن هذه زيادة من الثقة فتكون مقبولة والحديث قد حسنه الترمذي وأما قولك عن عمرو بن مسلم فيقال قد روى له مسلم في صحيحه والبخاري في كتاب أفعال العباد وأبو داود والترمذي والنسائي وذكره بن حبان في الثقات وقال يحيى بن معين في رواية أبراهيم بن المسند لا بأس به وقال أبو أحمد بن عدي وليس له حديث منكر جدا وأما الحديث الآخر الذي اعترفت بصحته وجعلته حجة قاطعة لولا المعارض فهو نص في المسألة حيث أمرها النبي ( أن تعتد بحيضة واحدة وتلحق بأهلها
____________________
(32/330)
وأما ما ذكرت أن الطريق الأخرى فيه زيادة وهو أنه أمره أن يطلقها تطليقة واحدة والمطلقة تجب عليها العدة فليس هذا زيادة بل إن لم يكن المراد بالطلقة هنا الفسخ كانت هذه الرواية معارضة لتلك فإن تلك الرواية فيهانص بأنها تلحق بأهلها مع الحيضة الواحدة ولو لم يكن إلا قوله ( أمرها أن تعتد بحيضة واحدة ) لكان هذا بينا في أنه أمرها بحيضة واحدة لا بأكثر منها إذ لو أمرها بثلاث لما جاز أن يقتصر على قوله ( أمرها بحيضة واحدة ) فكيف وقد قال ( وتلحق بأهلها ) وأيضا فسائر الروايات من الطرق يعاضد هذا أو يوافق وقد عضدها عمل عثمان بن عفان وهو أحد الخلفاء الراشدين بذلك وقد تقدم بعض طرق حديثه وأنه اتبع في ذلك السنة في إمرأة ثابت بن قيس وأيضا فلو قدر أنه قال في الرواية الأخرى ( أمرها أن تعتد بثلاث حيض ) لكان هذا تعارضا في الرواية ينظر فيه إلى أصح الطريقين فكيف وليس فيه إلا قوله ( وطلقها تطليقة ) والراوي لذلك هو بن عباس وصاحبه وهما يرويان أيضا ( أنه أمرها أن تعتد بحيضة ) وهما أيضا يقولان الخلع فدية لا تحسب من الطلقات الثلاث وقوله ( وطلقها تطليقة ) إن كان هذا محفوظا من كلام النبي مع ما قبله فلا بد من أحد أمرين إما أن يقال الطلاق
____________________
(32/331)
بعوض لا تحسب فيه العدة بثلاثة أشهر ويكون هذا مخصوصا من لفظ القرآن وإذا قيل هذا في الطلاق بعوض فهو في الخلع بطريق الأولى وإما أن يقال مراده بقوله ( طلقها تطليقة ) هو الخلع وإنه لا فرق عند الشارع بين لفظ الخلع والطلاق إذا كان ذلك بعوض فإن هذا فدية وليس هو الطلاق المطلق في كتاب الله كما قال ذلك من قاله من السلف وهذا يعود إلى المعنى الأول وبكل حال فإنه إذا لم يجعل الشارع في ذلك عدة علم أنه ليس من الطلاق الثلاث فإن القرآن صريح بأن ما كان من الطلاق الثلاث ففيه العدة وأيضا فهذا إجماع فيما نعلمه لا نعلم أحدا نازع في هذا وقال إن الخلع طلقة محسوبة من الثلاث ومع ذلك لا عدة فيه وهذا مما يؤيد أن الخلع فسخ وقد تقدم بعض المنقول عن عثمان وغيره وروى يحيى بن بكير حدثنا الليث بن سعد عن نافع مولى بن عمر أنه سمع الربيع بنت معوذ بن عفراء وهي تخبر عبد الله بن عمر أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان فجاء عمها إلى عثمان فقال إن إبنة معيذ اختلعت من زوجها اليوم أفتنتقل فقال عثمان لتنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة خشية أن يكون بها حبل فقال عبد الله بن عمر ولعثمان خيرنا وأعلمنا قال بن حزم فهذا عثمان والربيع ولها صحبة وعمها وهو من كبار الصحابة وبن عمر كلهم لا يرى في الفسخ عدة
____________________
(32/332)
فإن قيل فقد نقل عن عثمان وبن عمر أنه طلاق كما روى حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن جمهان أن أم بكرة الأسلمية كانت تحت عبد الله بن أسيد فاختلعت منه فندما فارتفعا إلى عثمان بن عفان فأجاز ذلك وقال هي واحدة إلا أن تكون سميت شيئا فهو على ما سميت وقد روى مالك عن نافع عن بن عمر قال عدة المختلعة عدة المطلقة وقد روى أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا همام عن قتادة عن عكرمة عن بن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود ( فخيرها رسول الله وأمرها أن تعتد ) وهكذا رواه بن أبي عاصم حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام عن قتادة عن عكرمة عن بن عباس قال ( قضى رسول الله في بريرة بأربع قضايا أمرها أن تختار وأمرها أن تعتد ) وقال حدثنا الحلواني حدثنا عمرو بن حدثنا همام عن قتادة عن عكرمة عن بن عباس ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال أحسبه قال فيه ( تعتدي عدة الخلع ) فهذا فسخ أوجب فيه العدة ولهذا قال بن حزم إنه لاعدة في شيء من الفسوخ إلا في هذا لأنه لا يقول بالقياس وليس في النص إيجاب العدة في فسخ
____________________
(32/333)
لكن لفظ الاعتداد يستعمل عندهم في الاعتداد بحيضة كما في حديث المختلعة من غير وجه أمرها أن تعتد بحيضة وقالت عائشة في قوله { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن والمراد بها الإستبراء فإن المسبية لا يجب في حقها إلا الإستبراء بحيضة كما قال في سبايا أوطاس ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ) وقال فيه فأنزل الله { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } وهكذا في الحديث المعروف عن أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس من رواية أبي الخليل ( حلال إذا انقضت عدتهن ) وفي هذا قال النبي ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ ) وأبو سعيد روى هذا وهذا وعلى الحديثين أم الولد تعتد بحيضة وقال عمرو بن عاصم وأحسبه قال تعتد عدة الحرة شك لا تقوم به حجة وعن أحمد في عدة المختلعة روايتان ذكرهما أبو بكر في كتاب الشافي قال أبو بكر في الشافي ( باب عدة المختلعة والملاعنة وامرأة عصبي ) وروى بإسناده عن الأثرم وإبراهيم بن الحارث أنه قيل لأبي عبد الله عدة كل مطلقة ثلاث حيض قال نعم إلا الأمة قيل له المختلعة والملاعنة وامرأة المرتد قال نعم كل فرقة عدتها ثلاث حيض وعن أبي طالب أن
____________________
(32/334)
أبا عبد الله قال في المختلعة تعتد مثل المطلقة ثلاث حيض وروى عن أحمد بن القاسم قال أبو عبد الله عدة المختلعة حيضة قال عبد العزيز والعمل على رواية الأثرم والعبادي أن كل فرقة من الحرائر عدتها ثلاث حيض وحديث المختلعة أمرت أن تعتد بحيضة ضعيف لأنه مرسل عن رسول الله وبما قلت أذهب وهو قول عثمان بن عفان قلت بن القاسم كثيرا ما يروي عن أحمد الأقوال المتأخرة التي رجع إليها كما روى عنه أن جمع الثلاث محرم وذكر أنه رجع عن قوله إنه مباح وأنه تدبر القرآن فلم يجد فيه الطلاق إلا رجعيا وهكذا قد يكون أحمد ثبتت عنده في المختلعة فرجع إليها فقوله عدتها حيضة لا يكون إلا إذا ثبت عنده الحديث وإذا ثبت عنده لم يرجع عنه ولأصحاب أحمد في وطء الشبهة وجهان وكذلك بن عمر كان يقول أولا إن عدتها ثلاث حيض فلما بلغه قول عثمان بن عفان أنها تستبرأ بحيضة رجع إليه بن عمر وما ذكره أبو بكر عن عثمان رواية مرجوحة والمشهور عن عثمان أنها تعتد بحيضة وهو قول بن عباس وآخر القولين عن بن عمر ولم يثبت عن صحابي خلافه فإنه روى خلافه عن عمر وعلي بإسناد ضعيف وهو قول أبان بن عثمان وعكرمة وإسحاق بن راهويه وغيره من فقها الحديث
____________________
(32/335)
وقد روى البخاري في صحيحه عن بن عباس قال كان المشركون على منزلتين من النبي والمؤمنين كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه فكان إذا هاجرت إمرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران ولهما للمهاجرين ثم ذكر في أهل العهد مثل حديث مجاهد وإن هاجر عبد أو أمة للمشركين أهل العهد لم يردوا وردت أثمانهم ففي هذا الحديث إن المهاجرة من دار الحرب إذا حاضت ثم طهرت حل لها النكاح فلم يكن يجب عليها إلا الإستبراء بحيضة لا بثلاثة قروء وهي معتدة من وطء زوج لكن زال نكاحه عنها بإسلامها ففي هذا أن الفرقة الحاصلة بإختلاف الدين كإسلام إمرأة الكافر إنما يوجب استبراء بحيضة وهي فسخ من الفسوخ ليست طلاقا وفي هذا نقض لعموم من يقول كل فرقة في الحياة بعد الدخول توجب ثلاثة قروء وهذه حرة مسلمة لكنها معتدة من وطء كافر
____________________
(32/336)
وقد تنازع العلماء في إمرأة الكافر هل عليها عدة أم إستبراء على قولين مشهورين ومذهب أبي حنيفة ومالك لا عدة عليها وما في هذا الحديث من رد إناث عبيد المعاهدين فهو نظير رد مهور النساء المهاجرات من أهل الهدنة وهن الممتحنات اللاتي قال الله فيهن { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } الآية ومن أنه كان إذا هاجر زوجها قبل أن تنكح فهو أحق بها فهذا أحد الأقوال في المسألة وهو أن الكافر إذا أسلمت إمرأته هل تتعجل الفرقة مطلقا أو يفرق بين المدخول بها وغيرها أو الأمر موقوف ما لم تتزوج فإذا أسلم فهي إمرأته والأحاديث إنما تدل على هذا القول ومنها هذا الحديث ومنها حديث زينب بنت رسول الله فإن الثابت في الحديث أنه ردها بالنكاح الأول بعد ست سنين كما رواه أحمد في مسنده ورواه أهل السنن أبو داود وغيره والحاكم في صحيحه عن بن عباس قال ( رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئا ) وفي رواية ( بعد ست سنين ) وفي إسناده بن إسحاق ورواه الترمذي وقال ليس بإسناده بأس وروى أبو داود والحاكم في صحيحه عن بن عباس قال ( أسلمت إمرأة على عهد رسول الله فتزوجت فجاء زوجها إلى النبي فقال يا رسول الله إني كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول ) وفي إسناده سماك
____________________
(32/337)
فقد ردها لما ذكر أنه أسلم وعلمت بإسلامه ولم يستفصله هل أسلما معا أو هل أسلمت قبل أن تنقضي العدة وترك الإستفصال يدل على أن الجواب عام مطلق في كل ما تتناوله صور السوال وهذا لأنه متى أسلم على شيء فهو له وإذا أسلم على مواريث لم تقسم قسمت على حكم الإسلام وكذلك على عقود لم تقبض فإنه يحكم فيها بحكم الإسلام ولو أسلم رقيق الكافر الذمي لم يزل ملكه عنه بل يؤمر بإزالة ملكه عنه ويحال بينه وبين ثبوت يده عليه واستمتاعه بإمائه أم ولده وغيرها والإستخدام فكذلك إذا أسلمت المرأة حيل بينها وبين زوجها فإن أسلم قبل أن يتعلق بها حق غيره فهو كما لو أسلم قبل أن يباع رقيقه فهو أحق بهم والدوام أقوى من الإبتداء ولأن القول بتعجيل الفرقة خلاف المعلوم بالتواتر من سنة رسول الله والقول بالتوقف على انقضاء العدة أيضا كذلك فإن النبي لم يوقت ذلك فيمن أسلم على عهده من النساء والرجال مع كثرة ذلك ولأنه لا مناسبة بين العدة وبين إستحقاقها بإسلام أحدهما وقياس ذلك على الرجعة من أبطل القياس من وجوه كثيرة وأيضا فالنبي قال في السبايا ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض ) وهذا الحديث يقتضي أنه لا يجب في الإستبراء إلا الحيض أو الحمل في الصغيرة التي لا تحيض والأمة لا يتصور هذا في حقها فليس في الحديث إيجاب إستبراء على من لا تحيض
____________________
(32/338)
وإيجاب ذلك بعيد عن القياس ولهذا اضطرب القائلون به على أقوال كل منها منقوض وأيضا فلم ينقل أحد عن النبي أنه أمر بالإستبراء في غير هذا لأنهن كن موطؤات لهن أزواج وأما الإماء اللاتي كن يبعن على عهده فلم يكن يوطئن في العادة بل كن للإستخدام في الغالب وهذا يقتضي أن الأمة التي لم يطأها سيدها لا يجب على المستبرئ استبراؤها كما لا يجب استبراؤها إذا تزوجت فإذا لم يجب في التزويج ففي التسري أولى وأحرى وقد قال بن عمر لا استبراء على المسلمة وذلك لأنها توطأ فمن لا يجب عليها عدة ولا إستبراء إذا زوجت لم يجب عليها إستبراء إذا وطأت بملك اليمين وكذلك قال الليث بن سعد قال إن كانت ممن لا يحمل مثلها لم يجب استبراءها لا بحيض ومن لا تحمل فهذا موافق للنص وقال أبو حنيفة إذا إستبرؤها إستبراء عليه وقال مالك إذا كانت في يده كالوديعة ونحوها وعلم أنها لم توطأ لم يحتج إلى استبراء إذا إستبرأها وكذلك الذي قال لا يجب الإستبراء إلا على حامل أو موطوئة وإليه مال الروياني
____________________
(32/339)
والذي يدل عليه النص أن الإستبراء مشروع حيث أمكن أن تكون حاملا فإنه أمر بالإستبراء الحامل والحائض من المسبيات اللاتي لا تعلم حالهن فأما مع العلم ببراءة الرحم فلا معنى للإستبراء وحديث بن شهاب الذي في الموطأ مرسل والقرآن ليس فيه إيجاب العدة بثلاثة قروء إلا على المطلقات لا على من فارقها زوجها بغير طلاق ولا على من وطئت بشبهة ولا على المزني بها فإذا مضت السنة بأن المختلعة إنما عليها الاعتداد بحيضة الذي هو استبراء فالموطوئة بشبهة والمزني بها أولى بذلك كما هو أحد الروايتين عن أحمد في المختلعة وفي المزني بها والموطوئة بشبهة دون المزني بها ودون المختلعة فبأيهما ألحقت لم يكن عليها إلا الاعتداد بحيضة كما هو أحد الوجهين والإعتبار يؤيد هذا القول فإن المطلقة لزوجها عليها رجعة ولها متعة بالطلاق ونفقة وسكنى في زمن العدة فإذا أمرت أن تتربص ثلاثة قروء لحق الزوج ليتمكن من ارتجاعها في تلك المدة كان هذا مناسبا وكان له في طول العدة حق كما قال تعالى { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها }
____________________
(32/340)
فبين سبحانه أن العدة للرجل على المطلقة إذا وجبت فإذا مسها كان له عليها العدة لأجل مسه لها وكان له الرجعة عليها ولها بإزاء ذلك النفقة والسكنى كما لها متاع لأجل الطلاق أما غير المطلقة إذا لم يكن لها نفقة ولا سكنى ولا متاع ولا للزوج الحق برجعتها فالتأكد من براءة الرحم تحصل بحيضة واحدة كما يحصل في المملوكات وكونها حرة لا أثر له بدليل أن أم الولد تعتد بعد وفاة زوجها بحيضة عند أكثر الفقهاء كما هو قول بن عمر وغيره وهي حرة فالموطوئة بشبهة ليست خيرا منها والتي فورقت بغير طلاق وليس لها نفقة ولا سكنى ولا رجعة عليها ولا متاع هي بمنزلتها فإن قيل هذا ينتقض بالمطلقة آخر ثلاث تطليقات فإنه لا نفقة لها ولا سكنى ولا رجعة ومع هذا تعتد بحيضة قيل هذه المطلقة لها المتعة عند الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وكثير من السلف أو أكثرهم ولها النفقة عند مالك والشافعي وكثير من فقهاء الحجاز وهو إحدى الروايتين عن أحمد ولها السكنى مع ذلك عند كثير من فقهاء العراق كأبي حنيفة وغيره فلا بد لها من متاع أو سكنى عند عامة العلماء فإذا وجبت العدة بإزاء ذلك كان فيه من المناسبة ما ليس في إيجابها على من لا متاع لها ولا ونفقة ولا سكنى وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه أمر فاطمة بنت قيس
____________________
(32/341)
لما طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات أن تعتد وأمرها أن تعتد في بيت بن أم مكتوم ثم أمرها بالإنتقال إلى بيت أم شريك والحديث وإن لم يكن في لفظه أن تعتد ثلاث حيض فهذا هو المعروف عند من بلغنا قوله من العلماء فإن كان هذا إجماعا فهو الحق والأمة لا تجتمع على ضلالة وإن كان من العلماء من قال إن المطلقة ثلاثا إنما عليها إلا الإستبراء لا الاعتداد بثلاث حيض فهذا له وجه قوي بأن يكون طول العدة في مقابلة إستحقاق الرجعة وهذا هو السبب في كونها جعلت ثلاثة قروء فمن لا رجعة عليها لا تتربص ثلاثة قروء وليس في ظاهر القرآن إلا ما يوافق هذا القول لا يخالفه وكذلك ليس في ظاهره إلا ما يوافق القول المعروف لا يخالفه فأي القولين قضت السنة كان حقا موافقا لظاهر القرآن والمعروف عند العلماء هو الأول بخلاف المختلعة فإن السنة مضت فيها بما ذكر وثبت ذلك عن أكابر الصحابة وغير واحد من السلف وهو مذهب غير واحد من أئمة العلم وليس في القرآن إلا ما يوافقه لا يخالفه فلا يقاس هذا بهذا والمعاني المفرقة بين الاعتداد بثلاثة قروء والإستبراء إن علمناها وإلا فيكفينا إتباع ما دلت عليه الأدلة الشرعية الظاهرة المعروفة ومما يوضح هذا أن المسبيات اللاتي يبتدأ الرق عليهن قد تقدم الإشارة إلى حديث أبي سعيد الذي فيه أن الله أباح وطئهن للمسلمين لما تحرجوا من
____________________
(32/342)
وطئهن وأنزل في ذلك { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } وقال فيه إن أجل وطئهن إذا انقضت عدتهن وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبي أوطاس ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ ) وروى ( حتى تحيض حيضة ) والعلماء عامة إنما يوجبون في ذلك إستبراء بحيضة وهو اعتداد من وطء زوج يلحقه النسب ووطئه محترم وإن كان كافرا حربيا فإن محاربته أباحت قتله وأخذ ماله واستراق إمرأته على نزاع وتفصيل بين العلماء لكن لا خلاف أن نسب ولده ثابت منه وإن مائه ماء محترم لا يحل لأحد أن يطأ زوجته قبل الإستبراء باتفاق المسلمين بل قد لعن النبي من فعل ذلك كما في الحديث الصحيح في مسلم ( إنه أتى على إمرأة مجح على باب فسطاط فقال ( لعل سيدها يلم بها ) قالوا نعم قال ( لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستعبده وهو لا يحل له ) ( ونهى أن يسقي الرجل مائه زرع غيره ) لكن هذه الزوجة لم يفارقها زوجها بإختياره لا بطلاق ولا غيره لكن طريان الرق عليها إزال ملكه إلى المستسرق أو اشتباه زوجها بغيره أزال ذلك فعلم أنه ليس بنكاح زال عن إمرأة فإنه يوجب العدة بثلاثة قروء ولو أن الكافر تحاكم إلينا هو وإمراته في العدة ثم طلق إمرأته
____________________
(32/343)
لألزمناها بثلاثة قروء فعلم أن المطلقة عليها ثلاثة قروء مطلقا وأن هذه لما زال نكاحها بغير طلاق لم يكن عليها ثلاثة قروء فلا يقال إن كل معتدة من مفارقة زوج في الحياة عليها ثلاثة قروء بل هذا منقوض بهذه بالنص والإجماع فصل وهذا الذي دل عليه القرآن والسنة وآثار أكابر الصحابة كعثمان وغيره من أن عدة المختلعة حيضة واحدة يزول به الإشكال في مسألة تداخل العدتين كما إذا تزوجت المرأة في عدتها بمن أصابها فإن المأثور عن الصحابة كعمر وعلي أنها تكمل عدة الأول ثم تعتد من وطء الثاني فعليها تمام عدة الأول وعدة للثاني وبه أخذ جمهور الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد واختلف عمر وعلي هل تباح للأول بعد قضاء العدتين فقال عمر لا ينكحها أبدا وبه أخذ مالك وقال علي هو خاطب من الخطاب وبه أخذ الشافعي وعن أحمد روايتان وأما أبو حنيفة فعنده لا يجب عليها إلا عدة واحدة من الثاني وتدخل فيها بقية عدة الأول وذكر بعض أصحابه أن هذا القول منقول عن بن مسعود لكن لم نعرف لذلك إسنادا فنقول بتداخل العدتين فإن العدة حق له إذ لو أراد الزوج إسقاطها لم يمكنه ذلك فدخل بعضها في بعض كالحدود والكفارات فإنه
____________________
(32/344)
لو سرق ثم سرق لم يقطع إلا يد واحدة وكذلك لو شرب ثم شرب لم يكن عليه إلا حد واحد فالحدود وجبت في جنس الذنب لا في قدره ولهذا تجب بسرقة المال الكثير والقليل وتجب بشرب القليل والكثير لأن الموجب له جنس الذنب لا قدره فإذا لم يفترق الحكم بين قليله وكثيره في القدر لم يفترق بين واحدة وعدة فإن الجميع من جنس القدر وكذلك كفارة الجماع في رمضان إذا وطأ ثم وطأ قبل أن يكفر فمن قال بتداخل العدتين قال عدة المطلقة من هذا الباب فإن سببها الوطء ليست مثل عدة الوفاة التي سببها العقد وهي تجب مع قليل الوطء وكثيره فإن الموجب لها جنس الوطء ولا فرق بين أن يكون الواطئ واحدا أو اثنين وطرده لو اشترى أمة قد اشترك في وطأها جماعة لم يكن عليها إلا استبراء واحد وإن كان الواطئ جماعة وقد نوزعوا في هذه الصورة فقيل بل تستبرأ لكل من الشريكين استبراء واحدا إذا كانت في ملكهما فأما إذا باعاها لغيرهما فهنا لا يجب على المشتري إلا إستبراء واحد ولم يقل أحد علمناه إن الأمة المملوكة بسبي أو شراء أو إرث ونحو ذلك عليها استبراءات متعددة بعدد الواطئين وكذلك لو اشترى رجل جارية وباعها قبل أن يستبرأها لم يكن على المشتري الثاني إلا إستبراء واحد قال الفقها ولا نقول عليه أن يستبرأها مرتين واعتذر بعضهم بأن الإستبراء سببه تعدد الملك ولم يتعدد ولهذا لا يوجبون الإستبراء إذا أعتقها وتزوجها إذا لم يكن البائع قد وطأها ويوجبونه إذا لم يعتقها بخلاف العدة فإن سببها الرق والكلام في عدة الإستبراء له موضع آخر
____________________
(32/345)
والمقصود هنا أنه لا يتعدد وما علمنا أحدا قال يتعدد وإن كان أحد قال هذا فإن السنة تخصمه فإن النبي لم يأمر إلا بمجرد الإستبراء حيث قال ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ ) فعلق الحل بمجرد الإستبراء ولم يفرق وإذا كان الإستبراء من جنس العدة ولا يتعدد بتعدد الواطئ فالعدة كذلك هذا ما يحتج به لأبي حنيفة رحمه الله وأما الجمهور فقالوا العدة فيها حق لآدمي واستدلوا بقوله تعالى { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن } الآية قالوا فقد نفا الله أن يكون للرجال على النساء عدة في هذا الموضع وليس هنا عدة لغير الرجال فعلم أن العدة فيها حق للرجال حيث وجبت إذ لو لم يكن كذلك لم يكن في نفي أن يكون للرجال عليهن عدة ما ينفي أن يكون لله عدة فلو كانت العدة حقا محضا لله لم يقل { فما لكم عليهن من عدة } إذ لا عدة لهم لا في هذا الموضع ولا غيره ولو كانت العدة نوعين نوعا لله ونوعا فيه حق للأزواج لم يكن في نفي عدة الأزواج ما ينفي العدة الأخرى فدل القرآن على أن العدة حيث وجبت ففيها حق للأزواج وحينئذ فإذا كانت العدة فيها حق لرجلين لم يدخل حق أحدهما في الآخر فإن حقوق الآدميين لا تتداخل كما لو كان لرجلين دينان على واحد أو كان لهما عنده أمانة أو غصب فإن عليه أن يعطي كل ذي حق حقه فهذا الذي قاله الجمهور من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم
____________________
(32/346)
واحتجوا على أبي حنيفة بأنه يقول لو تزوج المسلم ذمية وجبت عليها العدة حقا محضا للزوج لأن الذمية لا توآخذ بحق الله ولهذا لا يوجبها إذا كان زوجها ذميا وهم لا يعتقدون وجوب العدة وهذا الذي قاله له الأكثرون حسن موافق لدلالة القرآن ولما قضى به الخلفاء الراشدون لا سيما ولم يثبت عن غيرهم خلافه وإن ثبت فإن الخلفاء الراشدون إذا خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثاة الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) لكن من تمام كون العدة حقا للرجل أن يكون له فيها حق على المرأة وهو ثبوت الرجعة كما قال تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } فأمرهن بالتربص وجعل الرجل أحق بردها في مدة التربص وليس في القرآن طلاقا إلا طلاق رجعي إلا الثالثة المذكورة في قوله { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وذلك طلاق أوجب تحريمها فلا تحل له بعقد يكون برضاها ورضا وليها فكيف تباح بالرجعة أما المرأة التي تباح لزوجها في العدة فان زوجها أحق برجعتها في العدة بدون عقد وليس في القرآن طلاق بائن تباح فيه بعقد ولا يكون الزوج أحق بها بل متى كانت حلالا له كان أحق بها
____________________
(32/347)
وعلى هذا فيظهر كون العدة حقا للرجل فإنه يستحق بها الرجعة بخلاف ما إذا أوجبت في الطلاق البائن التي تباح فيه بعقد فإنه هنا لا حق له إذ النكاح إنما يباح برضاهما جميعا ولهذا طرد أبو حنيفة أصله لما كان الطلاق عنده ينقسم إلى بائن ورجعي وله أن يوقع البائن بلا رضاها جعل الرجعة حقا محضا للزوج له أن يسقطها وله أن لا يسقطها بخلاف العدة فإنه ليس له إسقاطها فلا تكون حقا له وهذا يؤيد أن الخلع ليس بطلاق فإنه موجب للتسوية ويؤيد أنه ليس للرجل فيه عدة على المرأة كما يكون في الطلاق بل عليها إستبراء بحيضة فإن الإستبراء بحيضة حق لله لأجل براءة الرحم فلا بد منه في كل موطوئة سواء وطئت بنكاح صحيح أو فاسد أو بملك يمين فإنه يجب لبراءة رحمها من ماء الواطئ الأول لئلا يختلط مائه بماء غيره وكذلك يجب على أصح قولي العلماء على الموطوئة بالزنى لأجل ماء الواطئ الثاني لئلا يختلط مائه بماء الزاني وهذا مذهب مالك وأحمد وإذا لم يجب على المختلعة إلا عدة بحيضة فعلى المنكوحة نكاحا فاسدا أولى فإنه لا رجعة عليها ولا نفقة لها فإن قيل ففي حديث طليحة أن عمر بن الخطاب قال أيما إمرأة نكحت في عدتها فإن لم يدخل بها الثاني أتمت عدة زوجها وإن دخل بها أتمت بقية عدتها للأول ثم اعتدت للثاني وكذلك عن علي أنه قضى أنها تأتي ببقية عدتها للأول ثم تأتي للثاني بعدة مستقبلة فإذا انقضت عدتها فإن شاءت نكحت وإن شاءت لم تنكح
____________________
(32/348)
قيل نعم لكن لفظ العدة في كلام السلف يقال على القروء الثلاثة وعلى الإستبراء بحيضة كما تقدم نظائره وحينئذ فعمر وعلي إن كان قولهما في المختلعة ونحوها أنها تعتد بحيضة فيكونان أرادا أنها تعتد بحيضة وإن كان قولهما أنها تعتد بثلاثة قروء فيكون هذا فيه قولان للصحابة فإن عثمان قد ثبت عنه أن المختلعة تعتد بحيضة وإن قيل بل قد نقول تعتد المختلعة بحيضة والمنكوحة نكاحا فاسدا بثلاثة قروء فهذا القول إذا قيل به يحتاج إلى بيان الفرق بين المسألتين فإن قيل فقد اختلف عمر وعلي هل تباح للثاني فقال عمر لا ينكحها ابدا وقال علي إذا انقضت عدتها يعني من الثاني فإن شاءت نكحت وإن شاءت لم تنكح ولو كان وطء الثاني كوطء الشبهة لم يمنع الأول أن يتزوجها فإن الرجل لو وطئت إمرأته بشبهة لم يزل نكاحه بالإجماع بل يعتزلها حتى تعتد ولو وطئت الرجعية بشبهة لم يسقط حق الزوج شيء قيل أولا هذا السؤال لا تعلق له بقدر العدة فسواء كانت العدة استبراء بحيضة أو كانت بتربص ثلاثة قروء هذا وارد في الصورتين ولا ريب أن الزوج المطلق الذي اعتدت من وطئه إن كان طلقها الطلقة الثالثة فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره فلا يمكنه أن يراجعها في عدتها منه وأما إن فارقها فرقة بائنة كالخلع ونكحت في مدة اعتدادها منه مثل أن تنكح قبل أن تستبرأ بحيضة فهنا إذا أراد أن يتزوجها في عدتها فإنما يتزوجها بعقد
____________________
(32/349)
جديد وليس له أن يتزوج بعدة من غيره بعقد جديد فإن العدة من الغير تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع دوامه فليس لأحد أن يتزوج بعدة لا من وطء شبهة ولا نكاح فاسد بل ولا زنى وإن كانت إمرأته إذا وطئت بشبهة أو زنى لم يبطل نكاحه بل يجتنبها حتى يستبرأها ثم يطأها وإذا قيل فهذه معتدة من الوطء فكيف يمنع من نكاحها في العدة قيل أولا هذا لا يتعلق بقدر العدة وقيل ثانيا لا نص ولا إجماع يبيح لكل معتدة أن تنكح في عدتها لكن الإجماع انعقد على ذلك في مثل المختلعة إذ لا عدة عليها لغير الناكح فأما إذا وجبت عليها عدة من غيره فهنا المانع كونها معتدة من غيره كما يمنع بعد انقضاء عدتها منه فإن الخلية من عدتها له أن ينكحها وإذا كان بعدة من الغير لم يكن له ذلك فالعدة ليست مانعة من النكاح ولا موجبة لحله وانتفاء مانع واحد لا يبيح الغير إذا وجد مانع آخر ولكن يظن الظان أن العدة منه وجبت لإباحة عقده وهذا غلط وأما إن كان الطلاق الأول رجعية فارتجاعه إياها في بقية عدتها منه كارتجاعه لو وطئت بشبهة في عدتها من الطلاق الرجعي لا فرق بينهما
____________________
(32/350)
وكذلك الذي قضى به علي أن الثاني لا ينكحها حتى تنقضي عدتها منه وهو ظاهر مذهب أحمد وأما مذهب الشافعي فيجوز عنده للثاني أن ينكحها في عدتها منه كما يجوز للواطء بشبهة أن يتزوج الموطوئة في عدتها منه وكذلك كل من نكح إمرأة نكاحا فاسدا له أن يتزوجها في عدتها منه وأحمد له في هذا الأصل روايتان إحداهما لا يجوز وهو مذهب مالك ليميز بين ماء وطء الشبهة وماء المباح المحض والثاني يجوز كمذهب الشافعي لأن النسب لاحق في كلاهما وعلى هذه الرواية فمن أصحاب أحمد من جوز للثاني أن ينكحها في عدتها منه كما هو قول الشافعي كما يجوز ذلك لكل معتدة من نكاح فاسد على هذه الرواية ومنهم من أنكر نصه وقال هنا كان يذكر فيها عدة من الوطئ الأول وهذا الواطئ الثاني لم تعتد منه عقب مفارقته لها بل تخلل بين مفارقته وعدته عدة الأول وهي قد وجب عليها عدتان لهما وتقديم عدة الأول كان لقدم حقه وإلا فلو وضعت ولدا ألحق بالثاني لكانت عدة الثاني متقدمة على عدة الأول فهي في أيام عدة الأول عليها حق للثاني وفي الاعتداد
____________________
(32/351)
من الثاني عليها حق للأول بدليل أنها لو وضعت ولدا بعد اعتدادها من الأول وأمكن كونه من الأول والثاني عرض على القافة فإذا كان للأول حق في مدة عدتها من الثاني لم يكن للثاني أن يتزوجها في مدة العدة فهذا أشهر الأقوال في هذه المسألة وهو المأثور عن الصحابة وهو نص أحمد وعليه جمهور أصحابه وقد تبعه الجد رحمه الله في محرره وأما مقدار العدة فقد ذكرنا عن أحمد روايتين في المختلعة فإن لم يكن بينها وبين المنكوحة نكاحا فاسدا فرق شرعي وإلا وجب أن يقال في المنكوحة نكاحا فاسدا إنما تعتد بحيضة كما مضت به السنة والله أعلم وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل تخاصم مع زوجته وهي معه بطلقة واحدة فقالت له طلقني فقال إن أبرأتيني فأنت طالق فقالت أبرأك الله مما يدعي النساء على الرجال فقال لها أنت طالق وظن أنه يبرأ من الحقوق وهو شافعي المذهب
فأجاب نعم هو بريء مما تدعي النساء على الرجال إذا كانت رشيدة
____________________
(32/352)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قالت له زوجته طلقني وأنا ابراتك من جميع حقوقي عليك وآخذ البنت بكفايتها يكون لها عليك مائة درهم كل يوم سدس درهم وشهد العدول بذلك فطلقها على ذلك بحكم الإبراء أو الكفالة فهل لها أن تطالبه بفرض البنت بعد ذلك أم لا
فأجاب إذا خالعها على أن تبرئه من حقوقها وتأخذ الولد بكفالته ولا تطالبه بنفقة صح ذلك عند جماهير العلماء كمالك وأحمد في المشهور من مذهبه وغيرهما فإنه عند الجمهور يصح الخلع بالمعدوم الذي ينتظر وجوده كما تحمل أمتها وشجرها وأما نفقة حملها ورضاع ولدها ونفقته فقد انعقد سبب وجوده وجوازه وكذلك إذا قالت له طلقني وأنا أبرأتك من حقوقي وأنا آخذ الولد بكفالته وأنا أبرأتك من نفقته ونحو ذلك مما يدل على المقصود وإذا خالع بينهما على ذلك من يرى صحة مثل هذا الخلع كالحاكم المالكي لم يجز لغيره أن ينقضه وإن رآه فاسدا ولا يجوز له أن يفرض له
____________________
(32/353)
عليه بعد هذا نفقة للولد فإن فعل الحاكم الأول كذلك حكم في أصح قولي العلماء والحاكم من متى عقد عقدا ساغ فيه الاجتهاد أو فسخ فسخا جاز فيه الاجتهاد لم يكن لغيره نقضه وسئل رحمه الله عن رجل قال لصهره إن جئت لي بكتابي وأبرأتني منه فبنتك طالق ثلاثا فجاء له بكتاب غيركتابه فقطعه الزوج ولم يعلم هل هو كتابه أم لا فقال أبو الزوجة إشهدوا عليه أن بنتي تحت حجري واشهدوا علي أني أبرأته من كتابها ولم يعين ما في الكتاب ثم إنه مكث ساعة وجاء أبو الزوجة بحضور الشهود وقال له أي شيء قلت يا زوج فقال الزوج اشهدوا علي أن بنت هذا طالق ثلاثا ثم إن الزوج ادعى أن هذا الطلاق الصريح بناء على أن الإبراء الأول صحيح فهل يقع أم لا
فأجاب قوله الأول معلق على الإبراء فإن لم يبره لم يقع الطلاق وأما قوله الثاني فهو إقرار منه بناء على أن الأول قد وقع فإن كان الأول لم يقع فإنه لم يقع بالثاني شيء
____________________
(32/354)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له زوجة فحلف أبوها أنه ما يخليها معه وضربها وقال لها أبوها أبريه فأبرأته وطلقها طلقة ثم ادعت أنها لم تبره إلا خوفا من أبيها فهل تقع على الزوجة الطلقة أم لا
فأجاب الحمد لله إن كانت أبرأته مكرهة بغير حق لم يصح الإبراء ولم يقع الطلاق المعلق به وإن كانت تحت حجر الأب وقد رأى الأب إن ذلك مصلحة لها فإن ذلك جائز في أحد قولي العلماء كما في مذهب مالك وقول في مذهب أحمد وسئل رحمه الله تعالى عن بنت يتيمة تحت الحجر مزوجة قال لها الزوج إن أبرئتيني من صداقك فأنت طالق ثلاثا فمن شدة الضرب والفزع أوهبته ثم رجعت فندمت هل لها أن ترجع ولا يحنث أم لا
فأجاب إذا أكرهها على الهبة أو كانت تحت الحجر لم تصح الهبة ولم يقع الطلاق والله أعلم
____________________
(32/355)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له إمرأة كساها كسوة مثمنة مثل مصاغ وحلي وقلائد وما أشبه ذلك خارجا عن كسوة القيمة وطلبت منه المخالعة وعليه مال كثير مستحق لها عليه وطلب حلية منها ليستعين به على حقها أو على غير حقها فأنكرته ويعلم أنها تحلف وتأخذ الذي ذكره عندها والثمن يلزمه ولم يكن له بينة عليها
فأجاب إن كان قد أعطاها ذلك الزائد عن الواجب على وجه التمليك لها فقد ملكته وليس له إذا طلقها هو ابتداء أن يطالبها بذلك لكن إن كانت الكارهة لصحبته وأرادت الاختلاع منه فلتعطه ما أعطاها من ذلك ومن الصداق الذي ساقه إليها والباقي في ذمته ليخلعها كما مضت سنة رسول الله في إمرأة ثابت بن قيس بن شماس حيث ( أمرها برد ما أعطاها ) وإن كان قد أعطاها لتتجمل به كما يركبها دابته ويحذيها غلامه ونحو ذلك لا على وجه التمليك للعين فهو باق على ملكه فله أن يرجع
____________________
(32/356)
فيه متى شاء سواء طلقها أو لم يطلقها وإن تنازعا هل أعطاها على وجه التمليك أو على وجه الإباحة ولم يكن هناك عرف يقضي به فالقول قوله مع يمينه أنه لم يملكها ذلك وإن تنازعا هل أعطاها شيئا أو لم يعطها ولم يكن حجة يقضي له بها لا شاهد واحد ولا إقرار ولا غير ذلك فالقول قولها مع يمينها أنه لم يعطها وسئل رحمه الله عن رجل باع شيئا من قماشه فخاصمته زوجته لأجل أنه باع قماشه وحصل بينهما شنآن عليه وهم في الخصام وجاء ناس من قرابتها فقال الرجل للناس الذين حضروا هذه المرأة إن لم تقعد مثل الناس وإلا تخلى وتزوج ثم قال إن أعطيتني كتابك لهذا الرجل كنت طالقا ثلاثا وكان نيته أنها تبرئه فخنقت وأعطت الكتاب للرجل فهل يقع الطلاق أم لا
فأجاب إذا كان مقصوده إعطاء الكتاب على وجه الإبراء فأعطته عطاء مجردا ولم تبرئه منه لم يقع به الطلاق وإذا قال كان مقصودي الإعطاء في ذلك إذ لا غرض له إلا في الإبراء وتسليم الصداق يمنع من الإدعاء به ومجردا إيداعه فلا غرض له والله أعلم
____________________
(32/357)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل مالكي المذهب حصل له نكد بينه وبين والد زوجته فحضر قدام القاضي فقال الزوج لوالد الزوجة إن أبرأتني ابنتك أوقعت عليها الطلاق فقال والدها أنا أبرأتك فحضر الزوج ووالد الزوجة قدام بعض الفقهاء فأبرأه والدها بغير حضورها وبغير إذنها فهل يقع الطلاق أم لا
فأجاب الحمد لله أصل هذه المسألة فيه نزاع بين العلماء فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المنصوص المعروف عنهم أنه ليس للأب أن يخالع على شيء من مال ابنته سواء كانت محجورا عليها أو لم تكن لأن ذلك تبرع بمالها فلا يملكه كما لا يملك إسقاط سائر ديونها ومذهب مالك يجوز له أن يخالع عن ابنته الصغيرة بكرا كانت أو ثيبا لكونه يلي مالها وروي عنه أن له يخالع عن ابنته البكر مطلقا لكونه يجبرها على النكاح وروي عنه يخالع عن ابنته مطلقا كما يجوز له أن يزوجها بدون
____________________
(32/358)
مهر المثل للمصلحة وقد صرح بعص أصحاب الشافعي وجها في مذهبه أنه يجوز في حق البكر الصغيرة أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها إذا قلنا إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي وخطاه بعضهم لأنه إنما يملك الإبراء بعد الطلاق لأنه إذا ملك إسقاط حقها بعد الطلاق لغير فائدة فجواز ذلك لمنفعتها وهو يخلعها من الزوج أولى ولهذا يجوز عندهم كلهم أن يختلعها الزوج بشيء من ماله وكذلك لها أن تخالعه بمالها إذا ضمن ذلك الزوج فإذا جاز له أن يختلعها ولم يبق عليها ضرر إلااسقاط نصف صداقها ومذهب مالك يخرج على أصول أحمد من وجوه منها أن الأب له أن يطلق ويخلع إمرأة ابنه الطفل في إحدى الروايتين كما ذهب إليه طوائف من السلف ومالك يجوز الخلع دون الطلاق لأن في الخلع معاوضة وأحمد يقول له التطليق عليه لأنه قد يكون ذلك مصلحة له لتخليصه من حقوق المرأة وضررها وكذلك لا فرق في إسقاط حقوقه بين المال وغير المال وأيضا فإنه يجوز في إحدى الروايتين للحكم في الشقاف أن يخلع المرأة بشيء من مالها بدون إذنها ويطلق على الزوج بدون إذنه كمذهب
____________________
(32/359)
مالك وغيره وكذلك يجوز للأب أن يزوج المرأة بدون مهر المثل وعنده في إحدى الروايتين أن الأب بيده عقدة النكاح وله أن يسقط نصف الصداق ومذهبه أن للأب أن يتملك لنفسه من مال ولده ما لا يضر بالولد حتى لو زوجها واشترط لنفسه بعض الصداق جاز له ذلك وإذا كان له من التصرف في المال والتملك هذا التصرف لم يبق إلا طلبه لفرقتها وذلك يملكه بإجماع المسلمين ويجوز عنده للأب أن يعتق بعض رقبة المولى عليه للمصلحة فقد يقال الأظهر أن المرأة إن كانت تحت حجر الأب له أن يخالع معاوضة وافتداء لنفسها من الزوج فيملكه الأب كما يملك غيره من المعاوضات وكما يملك افتداءها من الأسر وليس له أن يفعل ذلك إلا إذا كان مصلحة لها وقد يقال قد لا يكون مصلحتها في الطلاق ولكن الزوج يملك أن يطلقها وهو لا يقدر على منعه فإذا بذل له العوض من غيرها لم يمكنها منعه من البذل فأما إسقاط مهرها وحقها الذي تستحقه بالنكاح فقد يكون عليها في ذلك ضرر والأب قد يكون غرضه بإختلاعها حظه لا لمصلحتها وهو لا يملك إسقاط حقها بمجرد حظه بالإتفاق فعلى قول من يصحح الإبراء يقع الإبراء والطلاق وعلى قول من لا يجوز إبراءه إن ضمنه وقع الطلاق بلا نزاع وكان على الأب للزوج
____________________
(32/360)
مثل الصداق عند أبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي في القديم وعنده في الجديد إنما عليه مهر المثل وأما إن لم يضمنه إن علق الطلاق بالإبراء فقال له إن أبرأتني فهي طالق فالمنصوص عن أحمد أنه يقع الطلاق إذا اعتقد الزوج أنه تبرأ ويرجع على الأب بقدر الصداق لأنه غره وهو إحدى الروايتين في مذهب أبي حنيفة وفي الأخرى لا يقع شيء وهو قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد لأنه لم يبرأ في نفس الأمر والأولون قالوا وجد الابراء وأمكن أن يجعل الأب ضامنا بهذا الإبراء وأما إن طلقها طلاقا لم يعلقه على الإبراء فإنه يقع لكن عند أحمد يضمن للزوج الصداق لأنه غره وعند الشافعي لا يضمن له شيئا لأنه لم يلزم شيئا والله أعلم وسئل رحمه الله عن إمرأة طلقها زوجها ثلاثا وأبرأت الزوج من حقوق الزوجية قبل علمها بالحمل فلما بان الحمل طالبت الزوج بفرض الحمل فهل يجوز لها ذلك أم لا
فأجاب إذا كان الأمر كما ذكر لم تدخل نفقة الحمل في الابراء وكان لها أن تطلب نفقة الحمل ولو علمت بالحمل وأبرأته من حقوق الزوجية فقط لم
____________________
(32/361)
يدخل في ذلك نفقة الحمل لأنها تجب بعد زوال النكاح وهي واجبة للحمل في أظهر قولي العلماء كأجرة الرضاع وفي الآخر هي للزوجة من أجل الحمل فتكون من جنس نفقة الزوجات والصحيح أنها من جنس نفقة الأقارب كأجرة الرضاع اللهم إلا أن يكون الإبراء بمقتضى أنه لا تبقى بينهما مطالبة بعد النكاح أبدا فإذا كان الأمر كذلك ومقصودهما المبارأة بحيث لا يبقى للآخرة مطالبة بوجه فهذا يدخل فيه الإبراء من نفقة الحمل
____________________
(32/362)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدى الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله تسليما كثيرا & باب طلاق السنة وطلاق البدعة ) فصل
مختصر فيما ( يحل من الطلاق ويحرم ( وهل يلزم المحرم أو لا يلزم فنقول الطلاق منه ما هو محرم بالكتاب والسنة والإجماع ومنه ما ليس بمحرم ( فالطلاق المباح ( بإتفاق العلماء هو أن يطلق الرجل
____________________
(33/5)
إمرأته طلقة واحدة إذا طهرت من حيضتها بعد أن تغتسل وقبل أن يطأها ثم يدعها فلا يطلقها حتى تنقضى عدتها وهذا الطلاق يسمى ( طلاق السنة ( فإن أراد أن يرتجعها فى العدة فله ذلك بدون رضاها ولا رضا وليها ولامهر جديد وإن تركها حتى تقضى العدة فعليه أن يسرحها بإحسان فقد بانت منه
فإن أراد أن يتزوجها بعد إنقضاء العدة جاز له ذلك لكن يكون بعقد كما لو تزوجها إبتداء أو تزوجها غيره ثم إرتجعها فى العدة أوتزوجها بعد العدة وأراد أن يطلقها فانه يطلقها كما تقدم ثم إذا إرتجعها أو تزوجها مرة ثانية وأراد أن يطلقها فانه يطلقها كما تقدم فإذا طلقها الطلقة الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره كما حرم الله ذلك ورسوله وحينئذ فلا تباح له إلا بعد أن يتزوجها غيره النكاح المعروف الذى يفعله الناس إذا كان الرجل راغبا في نكاح المرأة ثم يفارقها
فأما إن تزوجها بقصد أن يحلها لغيره فانه محرم عند أكثر العلماء كما نقل عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم وكما دلت على ذلك النصوص النبوية والآدلة الشرعية ومن العلماء من رخص فى ذلك كما قد بين ذلك فى غير هذا الموضع
____________________
(33/6)
وإن كانت المرأة مما لا تحيض لصغرها أو كبرها فانه يطلقها متى شاء سواء كان وطئها أو لم يكن يطؤها فان هذه عدتها ثلاثة أشهر ففى أى وقت طلقها لعدتها فإنها لا تعتد بقروء ولا بحمل لكن من العلماء من يسمى هذا ( طلاق سنة ومنهم من لا يسميه طلاق سنة ولا ( بدعة (
وإن طلقها فى الحيض أو طلقها بعد أن وطئها وقبل أن يتبين حملها فهذا الطلاق محرم ويسمى ( طلاق البدعة ( وهو حرام بالكتاب والسنة والاجماع وإن كان قد تبين حملها وأراد أن يطلقها فله أن يطلقها وهل يسمى هذا طلاق سنة أو لا يسمى طلاق سنة ولا بدعة فيه نزاع لفظى وهذا ( الطلاق المحرم ( فى الحيض وبعد الوطىء وقبل تبين الحمل هل يقع أو لا يقع سواء كانت واحدة أو ثلاثا فيه قولان معروفان للسلف والخلف
وإن طلقها ثلاثا فى طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات مثل أن يقول أنت طالق ثلاثا أو أنت طالق وطالق وطالق او أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو يقول أنت طالق ثم يقول انت طالق ثم يقول أنت طالق أو يقول أنت طالق ثلاثا أو عشر طلقات أو مائه طلقة أو
____________________
(33/7)
ألف طلقة ونحو ذلك من العبارات فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال سواء كانت مدخولا بها او غير مدخول بها ومن السلف من فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها وفيه قول رابع محدث مبتدع
( أحدها ) أنه طلاق مباح لازم وهو قول الشافعى وأحمد فى الرواية القديمة عنه إختارها الخرقى
( الثانى ( أنه طلاق محرم لازم وهو قول مالك وأبى حنيفة وأحمد فى الرواية المتأخرة عنه إختارها أكثر أصحابه وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابه والتابعين والذى قبله منقول عن بعضهم
( الثالث ) أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ويروى عن على وبن مسعود وبن عباس القولان وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم مثل طاووس وخلاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق وهو قول داود وأكثر أصحابه ويروى ذلك عن ابى جعفر محمد بن على بن الحسين وابنه جعفر بن محمد ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة وهو قول بعض أصحاب أبى حنيفة ومالك واحمد بن حنبل
____________________
(33/8)
وأما ( القول الرابع ( الذى قاله بعض المعتزلة والشيعة فلا يعرف عن أحد من السلف وهو أنه لا يلزمه شيء
والقول ( الثالث ( هو الذى يدل عليه الكتاب والسنة فان كل طلاق شرعه الله فى القرآن فى المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعى لم يشرع الله لأحد أن يطلق الثلاث جميعا ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقا باينا ولكن إذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه فإذا إنقضت عدتها بانت منه
فالطلاق ( ثلاثة أنواع ( باتفاق المسلمين ( الطلاق الرجعى ( وهو الذى يمكنه ان يرتجعها فيه بغير إختيارها وإذا مات أحدهما فى العدة ورثه الآخر و ( الطلاق البائن ) وهو ما يبقى به خاطبا من الخطاب لا تباح له إلا بعقد جديد ( والطلاق المحرم لها ( لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وهو فيما إذا طلقها ثلاث تطليقات كما أذن الله ورسوله وهو أن يطلقها ثم يرتجعها فى العدة أو يتزوجها ثم يطلقها ثم يرتجعها أو يتزوجها ثم يطلقها الطلقة الثالثة فهذا الطلاق المحرم لها حتى تنكح زوجا غيره بإتفاق العلماء وليس فى كتاب الله ولا سنة رسوله فى المدخول بها طلاق بائن يحسب من الثلاث
ولهذا كان مذهب فقهاء الحديث كالإمام أحمد فى ظاهر مذهبه والشافعى فى أحد قوليه وإسحاق بن راهويه وابى ثور وبن المنذر
____________________
(33/9)
وداود وبن خزيمة وغيرهم أن ( الخلع ( فسخ للنكاح وفرقه بائنه بين الزوجين لا يحسب من الثلاث وهذا هو الثابت عن الصحابه كابن عباس وكذلك ثبت عن عثمان بن عفان وبن عباس وغيرهما أن المختلعة ليس عليها أن تعتد بثلاثة قروء وإنما عليها أن تعتد بحيضه وهو قول إسحاق بن راهويه وبن المنذر وغيرهما وهو إحدى الروايتين عن احمد وروى فى ذلك أحاديث معروفة فى السنن عن النبى يصدق بعضها بعضا وبين أن ذلك ثابت عن النبى وقال روى عن طائفة من الصحابه أنهم جعلوا الخلع طلاقا لكن ضعفه ائمة الحديث كالإمام أحمد بن حنبل وبن خزيمة وبن المنذر والبيهقى وغيرهم كما روى فى ذلك عنهم
و ( الخلع ( أن تبذل المراة عوضا لزوجها ليفارقها قال الله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم }
____________________
(33/10)
فبين سبحانه أن المطلقات بعد الدخول يتربصن أي ينتظرن ثلاث قروء ( والقرؤ ) عند أكثر الصحابه كعثمان وعلى وبن مسعود وأبى موسى وغيرهم الحيض فلا تزال فى العدة حتى تنقضى الحيضه الثالثه وهذا مذهب أبى حنيفة وأحمد فى اشهر الروايتين عنه وذهب بن عمر وعائشة وغيرهما أن العدة تنقضى بطعنها فى الحيضة الثالثة وهى مذهب مالك والشافعى
وأما المطلقة قبل الدخول فقد قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } ثم قال { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } أى فى ذلك التربص ثم قال { الطلاق مرتان } فبين أن الطلاق الذى ذكره هو الطلاق الرجعى الذى يكون فيه أحق بردها هو { مرتان } مرة بعد مرة كما إذا قيل للرجل سبح مرتين أو سبح ثلاث مرات أومائة مرة فلابد أن يقول سبحان الله سبحان الله حتى يستوفى العدد فلو أراد أن يجمل
____________________
(33/11)
ذلك فيقول سبحان الله مرتين أو مائة مرة لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة والله تعالى لم يقل الطلاق طلقتان بل قال مرتان فإذا قال لامرأته أنت طالق اثنتين أو ثلاثا أو عشرا أو ألفا لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة وقول النبى صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين جويرية ( لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلته منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنه عرشه سبحان الله رضى نفسه سبحان الله مداد كلماته ( أخرجه مسلم فى صحيحه فمعناه أنه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك كقوله ( ربنا ولك الحمد ملأ السماوات وملأ الأرض وملأ ما بينهما وملأ ما شئت من شيء بعد ( ليس المراد أنه سبح تسبيحا بقدر ذلك فالمقدار تارة يكون وصفا لفعل العبد وفعله محصور وتارة يكون لما يستحقه الرب فذاك الذى يعظم قدره وإلا فلو قال المصلى فى صلاته سبحان الله عدد خلقه لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة ولما شرع النبى صلى الله عليه وسلم ان يسبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ويحمد ثلاثا وثلاثين ويكبر ثلاثا وثلاثين فلو قال سبحان الله والحمد لله والله أكبر عدد خلقه لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة
ولا نعرف أن أحدا طلق على عهد النبى صلى الله عليه وسلم إمرأته ثلاثا بكلمة واحدة فألزمه النبى صلى الله عليه وسلم بالثلاث ولا روى فى ذلك حديث صحيح ولا حسن ولا نقل أهل الكتب المعتد عليها فى ذلك شيئا
____________________
(33/12)
بل رويت فى ذلك أحاديث كلها ضعيفة بإتفاق علماء الحديث بل موضوعه بل الذى فى صحيح مسلم وغيره من السنن والمسانيد عن طاووس عن بن عباس أنه قال كان الطلاق على عهد رسول الله وأبى بكر وسنتين من خلافه عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر إن الناس قد إستعجلوا فى أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم وفى رواية لمسلم وغيره عن طاووس ان اباالصهباء قال لإبن عباس أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله وأبى بكر وثلاثا من إمارة عمر فقال بن عباس نعم وفى رواية أن أبا الصهباء قال لإبن عباس هات من هناتك الم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبى بكر واحدة قال قد كان ذلك فلما كان فى زمن عمر تتابع الناس فى الطلاق فأجازه عليهم وروى الإمام أحمد فى مسنده حدثنا سعيد بن ابراهيم حدثنا ابى عن محمد بن إسحاق حدثنى داود بن الحصين عن عكرمة مولى بن عباس عن بن عباس أنه قال طلق ركانه بن عبد يزيد أخو بنى المطلب إمرأته ثلاثا فى مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كيف طلقتها ) قال طلقتها ثلاثا قال فقال ( فى مجلس وحد ) قال نعم قال ( فإنما تلك وحدة فأرجعها إن شئت ( قال فرجعها فكان بن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر وقد أخرجه أبو عبد الله المقدسى فى كتابه ( المختاره ( الذى هو اصح من ( صحيح الحاكم ( وهكذا روى ابو داود وغيره من حديث
____________________
(33/13)
وقول النبى ( فى مجلس واحد ( مفهومه أنه لو لم يكن فى مجلس واحد لم يكن الأمركذلك وذلك لأنها لو كانت فى مجالس لأمكن فى العادة أن يكون قد إرتجعها فانها عنده والطلاق بعد الرجعة يقع والمفهوم لا عموم له فى جانب المسكوت عنه بل قد يكون فيه تفصيل كقوله ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ( أو ( لم ينجسه شيء ( وهو إذا بلغ قلتين فقد يحمل الخبث وقد لا يحمله وقوله ( فى الإبل السائمة الزكاة ( وهى إذا لم تكن سائمه قد يكون فيها الزكاة زكاة التجارة وقد لا يكون فيها وكذلك قوله ( من قام ليله القدر إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ( ومن لم يقمها فقد يغفر له بسبب آخر وكقوله ( من صام رمضان إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) وقوله تعالى تعالى 0 { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } ومن لم يكن كذلك فقد يعمل عملا آخر يرجو به رحمة الله مع الإيمان وقد لا يكون كذلك فلو كان فى مجالس فقد يكون له فيها رجعة وقد لا يكون بخلاف المجلس الواحد الذى جرت عادة صاحبه بانه لا يراجعها فيه فان له فيه الرجعة كما قال النبى حيث قال ( ارجعها إن شئت ( ولم يقل كما قال فى حديث بن عمر ( مره فليراجعها ( فأمره بالرجعة والرجعة يستقل بها الزوج بخلاف المراجعة
وقد روى أبو داود وغيره أن ركانة طلق إمرأته البتة فقال له النبى ( الله ما أردت إلا واحدة ) فقال ما أردت بها إلا واحدة
____________________
(33/14)
( فردها إليه رسول الله ( وأبو داود لما لم يرو فى سننه الحديث الذى أخرجه أحمد في مسنده فقال حديث البتة أصح من حديث بن جريج ( أن ركانة طلق إمرأته ثلاثا ) لأن أهل بيته أعلم لكن الأئمة الأكابر العارفون بعلل الحديث والفقه فيه كالإمام أحمد بن حنبل والبخارى وغيرهما وأبى عبيد وأبى محمد بن حزم وغيره ضعفوا حديث البتة وبينوا أن رواته قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم وأحمد أثبت حديث الثلاث وبين انه الصواب مثل قوله حديث ركانة لا يثبت انه طلق امرأته البتة وقال أيضا حديث ركانة في البتة ليس بشيء لأن بن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا ) وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق البتة وأحمد إنما عدل عن حديث بن عباس لأنه كان يرى ان الثلاث جائزة موافقة للشافعى فأمكن أن يقال حديث ركانة منسوخ ثم لما رجع عن ذلك وتبين أنه ليس فى القرآن والسنة طلاق مباح إلا الرجعى عدل عن حديث بن عباس لأنه أفتى بخلافه وهذا علة عنده فى إحدى الروايتين عنه لكن الرواية الأخرى التى عليها أصحابه أنه ليس بعلة فيلزم أن يكون مذهبه العمل بحديث بن عباس
وقد بين فى غير هذا الموضع أعذار الأئمة المجتهدين رضى الله عنهم الذين ألزموا من أوقع جملة الثلاث بها مثل عمر رضى الله عنه فانه لما رأى الناس قد أكثروا مما حرمه الله عليهم من جمع الثلاث ولا ينتهون عن ذلك إلا بعقوبة
____________________
(33/15)
رأى عقوبتهم بالزامها لئلا يفعلوها إما من نوع التعزير العارض الذى يفعل عند الحاجة كما كان يضرب فى الخمر ثمانين ويحلق الرأس وينفى وكما منع النبى الثلاثة الذين تخلفوا عن الإجتماع بنسائهم وإما ظنا أن جعلها واحدة كان مشروطا بشرط وقد زال كما ذهب إلى مثل ذلك فى متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ
وإلا لزام بالفرقة لمن لم يقم بالواجب مما يسوغ فيه الإجتهاد لكن تارة يكون حقا للمرأة كما فى العنين والمولى عند جمهور العلماء والعاجز عن النفقة عند من يقول به وتارة يقال إنه حق لله كما فى تفريق الحكمين بين الزوجين عند الأكثرين إذا لم يجعلا وكيلين وكما فى وقوع الطلاق بالمولى عند من يقول بذلك من السلف والخلف إذا لم يف فى مدة التربص وكما قال من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره إنهما إذا تطاوعا فى الإتيان فى الدبر فرق بينهما والأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما رآه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه كما قال أحمد وغيره كما أمر النبى عبد الله بن عمر أن يطيع أباه لما أمره أبوه بطلاق إمرأته فالإلزام إما من الشارع وإما من الإمام بالفرقه إذا لم يقم الزوج بالواجب هو من موارد الإجتهاد
فلما كان الناس إذا لم يلزموا بالثلاث يفعلون المحرم رأى عمر الزامهم بذلك لأنهم لم يلزموا طاعة الله ورسوله مع بقاء النكاح ولكن كثير من الصحابه
____________________
(33/16)
والتابعين نازعوا من قال ذلك إما لأنهم لم يروا التعزيز بمثل ذلك وإما لأن الشارع لم يعاقب بمثل ذلك وهذا فيمن يستحق العقوبة وأما من لا يستحقها بجهل أو تأويل فلا وجه لالزامه بالثلاث وهذا شرع شرعه النبى صلى الله عليه وسلم كما شرع نظائره لم يخصه ولهذا قال من قال من السلف والخلف إن ما شرعه النبى فى فسخ الحج إلى العمرة التمتع كما أمر به أصحابه فى حجة الوداع هو شرع مطلق كما أخبر به لما سئل أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد فقال ( لا بل لأبد الأبد دخلت العمرة فى الحج إلى يوم القيامة ) وان قول من قال إنما شرع للشيوخ لمعنى يختص بهم مثل بيان جواز العمرة فى أشهر الحج قول فاسد لوجوه مبسوطة فى غير هذا الموضع
وقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأمر المؤمنين عند تنازعهم برد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول فما تنازع فيه السلف والخلف وجب رده إلى الكتاب والسنة وليس فى الكتاب والسنة ما يوجب الإلزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقدة بل إنما فى الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذى أباحه الله ورسوله وعلى هذا
____________________
(33/17)
يدل القياس والإعتبار بسائر أصول الشرع فان كل عقد يباح تارة ويحرم تارة كالبيع والنكاح إذا فعل على الوجه المحرم لم يكن لازما نافذا كما يلزم الحلال الذى أباحه الله ورسوله
ولهذا اتفق المسلمون على ان ما حرمه الله من نكاح المحارم ومن النكاح فى العدة ونحو ذلك يقع باطلا غير لازم وكذلك ما حرمه الله من بيع المحرمات كالخمر والخنزير والميتة وهذا بخلاف ما كان محرم الجنس كالظهار والقذف والكذب وشهادة الزور ونحو ذلك فان هذا يستحق من فعله العقوبة بما شرعه الله من الأحكام فانه لا يكون تارة حلالا وتارة حراما حتى يكون تارة صحيحا وتارة فاسدا وما كان محرما من أحد الجانبين مباحا من الجانب الآخر كافتداء الأسير واشتراء المجحود عتقه ورشوه الظالم لدفع ظلمة أو لبذل الحق الواجب وكاشتراء الإنسان المصراة وما دلس عيبه واعطاء المؤلفة قلوبهم ليفعل الواجب أو ليترك المحرم وكبيع الجالب لمن تلقى منه ونحو ذلك فان المظلوم يباح له فعله وله أن يفسخ العقد وله أن يمضيه بخلاف الظالم فان ما فعله ليس بلازم
والطلاق هو مما أباحه الله تارة وحرمه أخرى فاذا فعل على الوجه الذى حرمه الله ورسوله لم يكن لازما نافذا كما يلزم ما أحله الله ورسوله كما فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال
____________________
(33/18)
( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) وقد قال تعالى { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } فبين أن الطلاق الذى شرعه الله للمدخول بها وهو الطلاق الرجعى { مرتان } وبعد المرتين إما { فإمساك بمعروف } بان يراجعها فتبقى زوجته وتبقى معه على طلقة واحدة وإما { تسريح بإحسان } بأن يرسلها إذا إنقضت العدة كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } ثم قال بعد ذلك { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } وهذا هو الخلع سماه ( افتداء ) لأن المرأة تفتدى نفسها من أسر زوجها كما يفتدى الأسير والعبد نفسه من سيده بما يبذله قال تعالى { فإن طلقها } يعنى الطلقة الثالثة { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } فإن طلقها يعني هذا الزوج الثانى { فلا جناح عليهما } يعنى عليها وعلى الزوج الأول { أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } وكذلك قال الله تعالى { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم }
____________________
(33/19)
وفى الصحيح والسنن والمسانيد عن عبد الله بن عمر انه طلق امرأته وهى حائض فذكر عمر للنبى فتغيض عليه النبى صلى الله عليه وسلم وقال ( مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ان شاء بعد أمسكها وان شاء طلقها قبل ان يجامعها فتلك العدة التى أمر الله ان يطلق لها النساء ) وفى رواية فى الصحيح ( أنه أمره ان يطلقها طاهرا أو حاملا ) وفى رواية فى الصحيح ( قرأ النبى صلى الله عليه وسلم { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وعن بن عباس وغيره من الصحابه الطلاق على ( اربعة أوجه ) وجهان حلال ووجهان حرام فاما اللذان هما حلال فان يطلق امرأته طاهرا فى غير جماع أو يطلقها حاملا قد استبان حملها وأما اللذان هما حرام فأن يطلقها حائضا أو يطلقها بعد الجماع لا يدرى اشتمل الرحم على ولد أم لا ورواه الدارقطنى وغيره
وقد بين النبى أنه لا يحل له أن يطلقها إلا إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها وهذا هو الطلاق للعدة أى لإستقبال العدة فان ذلك الطهر أو العدة فان طلقها قبل العدة يكون قد طلقها قبل الوقت الذى أذن الله فيه ويكون قد طول عليها التربص وطلقها من غير حاجة به إلى
____________________
(33/20)
طلاقها والطلاق فى الأصل مما يبغضه الله وهو أبغض الحلال إلى الله وإنما أباح منه ما يحتاج إليه الناس كما تباح المحرمات للحاجة فلهذا حرمها بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له لينتهى الإنسان عن إكثار الطلاق فإذا طلقها لم تزل فى العدة متربصة ثلاثة قروء وهو مالك لها يرثها وترثه وليس له فائدة فى تعجيل الطلاق قبل وقته كما لا فائدة فى مسابقة الإمام ولهذا لا يعتد له بما فعله قبل الإمام بل تبطل صلاته إذا تعمد ذلك فى أحد قولى العلماء وهو لا يزال معه فى الصلاة حتى يسلم
ولهذا جوز أكثر العلماء الخلع فى الحيض لأنه على قول فقهاء الحديث ليس بطلاق بل فرقه بائنة وهو فى أحد قوليهم تستبرأ بحيضه لا عدة عليها وهذه إحدى الروايتين عند أحمد ولأنها تملك نفسها بالإختلاع فلهما فائدة فى تعجيل الإبانة لرفع الشر الذى بينهما بخلاف الطلاق الرجعى فانه لا فائدة فى تعجيله قبل وقته بل ذلك شر بلا خير وقد قيل إنه طلاق فى وقت لا يرغب فيها وقد لا يكون محتاجا إليه بخلاف الطلاق وقت الرغبة فانه لا يكون إلا عن حاجة
وقول النبى صلى الله عليه وسلم لإبن عمر ( مره فليراجعها ( مما تنازع العلماء فيه فى مراد النبى ففهم منه طائفة من العلماء أن الطلاق قد لزمه فأمره أن يرتجعها ثم يطلقها فى الطهر إن شاء وتنازع
____________________
(33/21)
هؤلاء هل الإرتجاع واجب أو مستحب وهل له أن يرتجعها فى الطهر الأول أو الثانى وفى حكمه هذا النهى أقوال ذكرناها وذكرنا مأخذها فى غير هذا الموضع
وفهم طائفة أخرى أن الطلاق لم يقع ولكنه لما فارقها ببدنه كما جرت العادة من الرجل إذا طلق إمرأته إعتزلها ببدنه وإعتزلته ببدنها فقال لعمر ( مره فليراجعها ( ولم يقل فليرتجعها ( والمراجعة ( مفاعلة من الجانبين أى ترجع إليه ببدنها فيجتمعان كما كانا لأن الطلاق لم يلزمه فإذا جاء الوقت الذى أباح الله فيه الطلاق طلقها حينئذ إن شاء
قال هؤلاء ولو كان الطلاق قد لزم لم يكن فى الأمر بالرجعة ليطلقها طلقة ثانية فائدة بل فيه مضرة عليهما فان له أن يطلقها بعد الرجعة بالنص والإجماع وحينئذ يكون فى الطلاق مع الأول تكثير الطلاق وتطويل العدة وتعذيب الزوجين جميعا فان النبى صلى الله عليه وسلم لم يوجب عليه أن يطأها قبل الطلاق بل إذا وطئها لم يحل له أن يطلقها حتى يتبين حملها أو تطهر الطهر الثانى وقد يكون زاهدا فيها يكره أن يطأها فتعلق منه فكيف يجب عليه وطؤها ولهذا لم يوجب الوطء أحد من الأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين ولكن أخر الطلاق إلى الطهر الثانى ولولا أنه طلقها أولا لكان له أن يطلقها فى الطهر الأول لأنه لو أبيح له الطلاق فى
____________________
(33/22)
الطهر الأول لم يكن فى إمساكها فائدة مقصودة بالنكاح إذا كان لا يمسكها إلا لأجل الطلاق فانه لو أراد أن يطلقها فى الطهر الأول لم يحصل إلا زيادة ضرر عليهما والشارع لا يأمر بذلك فإذا كان ممتنعا من طلاقها فى الطهر الأول ليكون متمكنا من الوطىء الذى لا يعقبه طلاق فان لم يطأها أو وطئها أو حاضت بعد ذلك فله أن يطلقها ولأنه إذا إمتنع من وطئها فى ذلك الطهر ثم طلقها فى الطهر الثانى دل على أنه محتاج إلى طلاقها لأنه لا رغبة له فيها إذ لو كانت له فيها رغبة لجامعها فى الطهر الأول
قالوا لأنه لم يأمر بن عمر بالإشهاد على الرجعة كما أمر الله ورسوله ولو كان الطلاق قد وقع وهو يرتجعها لأمر بالإشهاد ولأن الله تعالى لما ذكر الطلاق فى غير آية لم يأمر أحدا بالرجعة عقيب الطلاق بل قال { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } فخير الزوج إذا قارب إنقضاء العدة بين أن يمسكها بمعروف وهو الرجعة وبين أن يسيبها فيخلى سبيلها إذا إنقضت العدة ولا يحبسها بعد إنقضاء العدة كما كانت محبوسة عليه فى العدة قال الله تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }
وأيضا فلو كان الطلاق المحرم قد لزم لكان حصل الفساد الذى كرهه الله ورسوله وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يباح له الطلاق
____________________
(33/23)
بعدها والأمر برجعة لا فائدة فيها مما تنزه عنه الله ورسوله فانه إن كان راغبا فى المرأة فله أن يرتجعها وإن كان راغبا عنها فليس له أن يرتجعها فليس فى أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية بل زيادة مفسدة ويجب تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد والله ورسوله إنما نهى عن الطلاق البدعى لمنع الفساد فكيف يأمر بما يستلزم زيادة الفساد
وقول الطائفة الثانية أشبه بالأصول والنصوص فان هذا القول متناقض إذ الأصل الذى عليه السلف والفقهاء أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة وهذا وإن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء لأن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها وهذا متواتر عنهم
وأيضا فان لم يكن ذلك دليلا على فسادها لم يكن عن الشارع ما يبين الصحيح من الفاسد فان الذين قالوا النهى لا يقتضى الفساد قالوا نعلم صحة العبادات والعقود وفسادها بجعل الشارع هذا شرطا أو مانعا ونحو ذلك وقوله
____________________
(33/24)
هذا صحيح وليس بصحيح من خطاب الوضع والإخبار ومعلوم أنه ليس فى كلام الله ورسوله وهذه العبارات مثل قوله الطهارة شرط فى الصلاة والكفر مانع من صحة الصلاة وهذا العقد وهذه العبادة لا تصح ونحو ذلك بل إنما فى كلامه الأمر والنهى والتحليل والتحريم وفى نفى القبول والصلاح كقوله ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول ( وقوله ( هذا لا يصلح ( وفى كلامه ( إن الله يكره كذا ( وفى كلامه الوعد ونحو ذلك من العبارات فلم نستفد الصحة والفساد إلا بما ذكره وهو لا يلزم أن يكون الشارع بين ذلك وهذا مما يعلم فساده قطعا
وأيضا فالشارع يحرم الشيء لما فيه من المفسدة الخالصة أو الراجحة ومقصوده بالتحريم المنع من ذلك الفساد وجعله معدوما فلو كان مع التحريم يترتب عليه من الأحكام ما يترتب على الحلال فيجعله لازما نافذا كالحلال لكان ذلك إلزاما منه بالفساد الذى قصد عدمه فيلزم أن يكون ذلك الفساد قد أراد عدمه مع أنه الزم الناس به وهذا تناقض ينزه عنه الشارع صلى الله عليه وسلم
وقد قال بعض هؤلاء إنه إنما حرم الطلاق الثلاث لئلا يندم المطلق دل على لزوم الندم له إذا فعله وهذا يقتضى صحته
____________________
(33/25)
فيقال له هذا يتضمن أن كلما نهى الله عنه يكون صحيحا كالجمع بين المرأة وعمتها لئلا يفضى إلى قطيعة الرحم فيقال إن كان ما قاله هذا صحيحا هنا دليل على صحة العقد إذ لو كان فاسدا لم تحصل القطيعة وهذا جهل وذلك أن الشارع بين حكمته فى منعه مما نهى عنه وأنه لو أباحه للزم الفساد فقوله تعالى { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } وقوله عليه السلام ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ( ونحو ذلك يبين أن الفعل لو أبيح لحصل به الفساد فحرم منعا من هذا الفساد ثم الفساد ينشأ من إباحته ومن فعله إذا اعتقد الفاعل أنه مباح أو أنه صحيح فأما مع إعتقاد أنه محرم باطل وإلتزام أمر الله ورسوله فلا تحصل المفسدة وإنما تحصل المفسدة من مخالفة أمر الله ورسوله والمفاسد فيها فتنة وعذاب قال الله تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }
وقول القائل لو كان الطلاق غير لازم لم يحصل الفساد فيقال هذا هو مقصود الشارع فنهى عنه وحكم ببطلانه ليزول الفساد ولولا ذلك لفعله الناس وإعتقدوا صحته فيلزم الفساد
وهذا نظير قول من يقول النهى عن الشيء يدل على أنه مقصود وأنه شرعى وأنه يسمى بيعا ونكاحا وصوما كما يقولون فى نهيه عن نكاح الشغار ولعنه المحلل والمحلل له ونهيه عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها
____________________
(33/26)
ونهيه عن صوم يوم العيدين ونحو ذلك فيقال أما تصوره حسا فلا ريب فيه وهذا كنهيه عن نكاح الأمهات والبنات وعن بيع الخمر والميتة ولحم الخنزير والأصنام كما في الصحيحين عن جابر أن النبي قال إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ( فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال ( لا هو حرام ( ثم قال ( لا هو حرام ( ثم قال ( قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها فتسميته لهذا نكاحا وبيعا لم يمنع أن يكون فاسدا باطلا بل دل على إمكانه حسا
وقول القائل إنه شرعى أن أراد أنه يسمى بما أسماه به الشارع فهذا صحيح وإن أراد أن الله أذن فيه فهذا خلاف النص والإجماع وإن أراد أنه رتب عليه حكمه وجعله يحصل المقصود ويلزم الناس حكمه كما فى المباح فهذا باطل بالإجماع فى أكثر الصور التى هي من موارد النزاع ولا يمكنه أن يدعى ذلك فى صورة مجمع عليها فان أكثر ما يحتج به هؤلاء بنهيه عن الطلاق فى الحيض ونحو ذلك مما هو من موارد النزاع فليس معهم صورة قد ثبت فيها مقصودهم لا بنص ولا إجماع وكذلك ( المحلل ( الملعون لعنة لأنه قصد التحليل للأول بعقدة لا لأنه أحلها فى نفس الأمر فانه لو تزوجها بنكاح رغبة لكان قد أحلها بالإجماع وهذا غير ملعون بالإجماع
____________________
(33/27)
فعلم أن اللعنة لمن قصد التحليل وعلم أن الملعون لم يحللها فى نفس الأمر ودلت اللعنة على تحريم فعله والمنازع يقول فعله مباح
فتبين أنه لا حجة معهم بل الصواب مع السلف وأئمة الفقهاء ومن خرج عن هذا الأصل من العلماء المشهورين فى بعض المواضع فان لم يكن له جواب صحيح والا فقد تناقض كما تناقض فى مواضع غير هذه والأصول التى لا تناقض فيها ما أثبت بنص أو اجماع وما سوى ذلك فالتناقض موجود فيه وليس هو حجة على أحد والقياس الصحيح الذى لا يتناقض هو موافق للنص والإجماع بل ولابد أن يكون النص قد دل على الحكم كما قد بسط فى موضع آخر وهذا معنى العصمة فان كلام المعصوم لا يتناقض ولا نزاع بين المسلمين أن الرسول معصوم فيما بلغه عن الله تعالى فهو معصوم فيما شرعه للأمه باجماع المسلمين وكذلك الأمة أيضا معصومة أن تجتمع على ضلالة بخلاف ما سوى ذلك ولهذا كان مذهب أئمة الدين ان كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك الا رسول الله فانه الذى فرض الله على جميع الخلائق الإيمان به وطاعته وتحليل ما حلله وتحريم ما حرمه وهو الذى فرق الله به بين المؤمن والكافر وأهل الجنة وأهل النار والهدى والضلال والغى والرشاد فالمؤمنون أهل الجنة وأهل الهدى والرشاد هم متبعون والكفار أهل النار وأهل الغى والضلال هم الذين لم يتبعوه
____________________
(33/28)
( )
ومن آمن به باطنا وظاهرا وإجتهد فى متابعته فهو من المؤمنين السعداء وان كان قد أخطأ وغلط فى بعض ما جاء به فلم يبلغه أو لم يفهمه قال الله تعالى عن المؤمنين { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الله قال ( قد فعلت ) وفى السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( العلماء ورثة الانبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ( وقد قال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فقد خص أحد النبيين الكريمين بالتفهيم مع ثنائه على كل منهما بأنه أوتى علما وحكما فهكذا إذا خص الله أحد العالمين بعلم أمر وفهمه لم يوجب ذلك ذم من لم يحصل له ذلك من العلماء بل كل من إتقى الله ما إستطاع فهو من أولياء الله المتقين وإن كان قد خفى عليه من الدين ما فهمه غيره وقد قال واثلة بن الأسقع وبعضهم يرفعه إلى النبى من طلب علما فأدركه فله أجران ومن طلب علما فلم يدركه فله أجر وهذا يوافق ما فى الصحيح عن عمر وبن العاص وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم ( اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران واذا إجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ) وهذه الأصول لبسطها موضع أخر
وانما المقصود هنا التنبيه على هذا لان الطلاق المحرم مما يقول فيه كثير من الناس إنه لازم والسلف أئمة الفقهاء والجمهور يسلمون أن النهى يقتضى
____________________
(33/29)
الفساد ولا يذكرون فى الاعتذار عن هذه الصورة فرقا صحيحا وهذا مما تسلط به عليهم من نازعوهم فى أن النهى يقتضى الفساد وإحتج بما سلموه له من الصور وهذه حجة جدلية لاتفيد العلم بصحة قوله وإنما تفيد أن منازعيه أخطؤا إما فى صور النقض وإما فى محل النزاع وخطؤهم فى احداهما لا يوجب أن يكون الخطأ فى محل النزاع بل هذا الأصل أصل عظيم عليه مدار كثير من الأحكام الشرعية فلا يمكن نقضه بقول بعض العلماء الذين ليس معهم نص ولا إجماع بل الأصول والنصوص لا توافق بل تناقض قولهم ومن تدبر الكتاب والسنة تبين له أن الله لم يشرع الطلاق المحرم جملة قط وأما الطلاق البائن فإنه شرعه قبل الدخول وبعد إنقضاء العدة
وطائفة من العلماء يقول لمن لم يجعل الثلاث المجموعة الا واحدة أنتم خالفتم عمر وقد إستقر الأمر على التزام ذلك فى زمن عمر وبعضهم يجعل ذلك إجماعا فيقول لهم أنتم خالفتم عمر فى الأمر المشهور عنه الذى إتفق عليه الصحابة بل وفى الأمر الذى معه فيه الكتاب والسنة فان منكم من يجوز التحليل وقد ثبت عن عمر أنه قال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وقد إتفق الصحابة على النهى عنه مثل عثمان وعلى وبن مسعود وبن عباس وإبن عمر وغيره ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه أعاد المرأة إلى زوجها بنكاح تحليل وعمر وسائر الصحابة معهم الكتاب
____________________
(33/30)
والسنة ( كلعن النبى المحلل والمحلل له ( وقد خالفهم من خالفهم فى ذلك إجتهادا والله يرضى عن جميع علماء المسلمين
وأيضا فقد ثبت عن عمر أنه كان يقول فى الخلية والبرية ونحو ذلك إنها طلقة رجعية وأكثرهم يخالفون عمر فى ذلك وقد ثبت عن عمر أنه خير المفقود إذا رجع فوجد إمرأته قد تزوجت خيره بين إمرأته وبين المهر وهذا أيضا معروف عن غيره من الصحابه كعثمان وعلى وذكره أحمد عن ثمانية من الصحابة وقال إلى أى شيء يذهب الذى يخالف هؤلاء ومع هذا فأكثرهم يخالفون عمر وسائر الصحابة فى ذلك ومنهم من ينقض حكم من حكم به وعمر والصحابة جعلوا الأرض المفتوحة عنوة كأرض الشام ومصر والعراق وخراسان والمغرب فيئا للمسلمين ولم يقسم عمر ولا عثمان أرضا فتحها عنوة ولم يستطب عمر أنفس جميع الغانمين فى هذه الأرضين وإن ظن بعض العلماء أنهم إستطابوا أنفسهم فى السواد بل طلب منهم بلال والزبير وغيرهما قسمة أرض العنوة فلم يجبهم ومع هذا فطائفة منهم يخالف عمر والصحابة فى مثل هذا الأمر العظيم الذى إستقر الأمر عليه من زمنهم بل ينقض حكم من حكم بحكمهم أيضا فأبو بكر وعمر وعثمان وعلى لم يخمسوا قط مال فيء ولا خمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جعلوا خمس الغنيمة خمسة أقسام متساوية ومع هذا فكثير منهم يخالف ذلك ونظائر هذا متعددة
____________________
(33/31)
والأصل الذى إتفق عليه علماء المسلمين أنما تنازعوا فيه وجب رده إلى الله والرسول كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } ولا يجوز لأحد أن يظن بالصحابة أنهم بعد رسول الله أجمعوا على خلاف شريعته بل هذا من أقوا ل أهل الإلحاد ولا يجوز دعوى نسخ ما شرعه الرسول بإجماع أحد بعده كما يظن طائفة من الغالطين بل كلما أجمع المسلمون عليه فلا يكون إلا موافقا لما جاء به الرسول لا مخالفا له بل كل نص منسوخ بإجماع الأمة فمع الأمة النص الناسخ له تحفظ الأمة النص الناسخ كما تحفظ النص المنسوخ وحفظ الناسخ أهم عندها وأوجب عليها من حفظ المنسوخ ويمنع أن يكون عمر والصحابة معه أجمعوا على خلاف نص الرسول ولكن قد يجتهد الواحد وينازعه غيره وهذا موجود فى مسائل كثيرة هذا منها كما بسط فى موضع غير هذا
ولهذا لما رأى عمر رضى الله عنه أن المبتوتة لها السكنى والنفقة فظن أن القرآن يدل عليه نازعه أكثر الصحابة فمنهم من قال لها السكنى فقط ومنهم من قال لانفقة لها ولا سكنى وكان من هؤلاء بن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس وهى التى روت عن النبى أنه قال ( ليس لك نفقة ولا سكنى ) فلما احتجوا عليها بحجة عمر وهى قوله تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }
____________________
(33/32)
قالت هي وغيرها من الصحابة كابن عباس وجابر وغيرهما هذا فى الرجعية لقوله تعالى { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } فأى أمر يحدث بعد الثلاث وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل فى ظاهر مذهبه وغيره من فقهاء الحديث مع فاطمة بنت قيس
وكذلك أيضا فى ( الطلاق ) لما قال تعالى { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قال غير واحد من الصحابة والتابعين والعلماء هذا يدل على أن الطلاق الذى ذكره الله هو الطلاق الرجعى فانه لو شرع ايقاع الثلاث عليه لكان المطلق يندم اذا فعل ذلك ولا سبيل إلى رجعتها فيحصل له ضرر بذلك والله أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم ولهذا قال تعالى أيضا بعد ذلك { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } وهذا انما يكون فى الطلاق الرجعى لا يكون فى الثلاث ولا فى البائن وقال تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله } فأمر بالاشهاد على الرجعة والاشهاد عليها مأمور به باتفاق الامة قيل أمر ايجاب وقيل أمر استحباب
وقد ظن بعض الناس أن الإشهاد هو الطلاق وظن أن الطلاق الذى لا يشهد عليه لا يقع وهذا خلاف الإجماع وخلاف الكتاب والسنة ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به فإن الطلاق أذن فيه أولا ولم يأمر فيه
____________________
(33/33)
بالإشهاد وإنما أمر بالإشهاد حين قال { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } والمراد هنا بالمفارقة تخلية سبيلها إذا قضت العدة وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح والإشهاد فى هذا بإتفاق المسلمين فعلم أن الإشهاد إنما هو على الرجعة ومن حكمة ذلك أنه قد يطلقها ويرتجعها فيزين له الشيطان كتمان ذلك حتى يطلقها بعد ذلك طلاقا محرما ولا يدرى أحد فتكون معه حراما فأمر الله أن يشهد على الرجعة ليظهر أنه قد وقعت به طلقة كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم من وجد اللقطة أن يشهد عليها لئلا يزين الشيطان كتمان اللقطة وهذا بخلاف الطلاق فانه إذا طلقها ولم يراجعها بل خلى سبيلها فانه يظهر للناس أنها ليست إمرأته بل هي مطلقة بخلاف ما إذا بقيت زوجة عنده فانه لا يدرى الناس أطلقها أم لم يطلقها
وأما النكاح فلابد من التمييز بينه وبين السفاح وإتخاذ الأخدان كما أمر الله تعالى ولهذا مضت السنة بإعلانه فلا يجوز أن يكون كالسفاح مكتوما لكن هل الواجب مجرد الإشهاد أو مجرد الإعلان وإن لم يكن إشهاد أو يكفى أيهما كان هذا فيه نزاع بين العلماء كما قد ذكر فى موضعه وقال الله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا } وهذه الآية عامة فى كل من يتق الله وسياق الآية يدل على أن التقوى مرادة من هذا النص العام فمن إتقى الله فى الطلاق فطلق كما
____________________
(33/34)
أمر الله تعالى جعل الله له مخرجا مما ضاق على غيره ومن يتعد حدود الله فيفعل ما حرم الله عليه فقد ظلم نفسه ومن كان جاهلا بتحريم طلاق البدعة فلم يعلم أن الطلاق فى الحيض محرم أو أن جمع الثلاث محرم فهذا اذا عرف التحريم وتاب صار ممن إتقى الله فإستحق أن يجعل الله له مخرجا ومن كان يعلم أن ذلك حرام وفعل المحرم وهو يعتقد أنها تحرم عليه ولم يكن عنده إلا من يفتيه بانها تحرم عليه فانه يعاقب عقوبة بقدر ظلمه كمعاقبة أهل السبت بمنع الحيتان أن تأتيهم فإنه ممن لم يتق الله فعوقب بالضيق وأن هداه الله فعرفة الحق والهمه التوبة وتاب فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له وحينئذ فقد دخل فيمن يتقى الله فيستحق أن يجعل الله له فرجا ومخرجا فان نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم نبى الرحمة ونبى الملحمة فكل من تاب فله فرج فى شرعة بخلاف شرع من قبلنا فان التائب منهم كان يعاقب بعقوبات كقتل أنفسهم وغير ذلك ولهذا كان بن عباس إذا سئل عمن طلق إمرأتة ثلاثا يقول له لو إتقيت الله لجعل لك مخرجا وكان تارة يوافق عمر فى الإلزام بذلك للمكثرين من فعل البدعة المحرمة عليهم مع علمهم بأنها محرمة وروي عنه أنه كان تارة لا يلزم إلا واحدة وكان إبن مسعود يغضب على أهل هذه البدعة ويقول أيها الناس من أتى الأمر على على وجهه فقد تبين له وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون
____________________
(33/35)
ولم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم ولا أبى بكر ولا عمر ولا عثمان ولا على ( نكاح تحليل ) ظاهر تعرفه الشهود والمرأة والاولياء ولم ينقل احد عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين انهم أعادوا المرأة على زوجها بنكاح تحليل فانهم انما كانوا يطلقون فى الغالب طلاق السنة
ولم يكونوا يحلفون بالطلاق ولهذا لم ينقل عن الصحابة نقل خاص فى الحلف وانما نقل عنهم الكلام فى ايقاع الطلاق لا فى الحلف به والفرق ظاهر بين الطلاق وبين الحلف به كما يعرف الفرق بين النذر وبين الحلف بالنذر فاذا كان الرجل يطلب من الله حاجة فقال ان شفى الله مرضى او قضى دينى او خلصنى من هذه الشدة فلله على ان اتصدق بالف درهم أو اصوم شهرا أو أعتق رقبة فهذا تعليق نذر يجب عليه الوفاء به بالكتاب والسنة والاجماع واذا علق النذر على وجه اليمين فقال ان سافرت معكم ان زوجت فلانا أن أضرب فلانا ان لم اسا فر من عندكم فعلى الحج او فمالى صدقة او فعلى عتق فهذا عند الصحابة وجمهور العلماء هو حالف بالنذر ليس بناذر فاذا لم يف بما التزمه أجزأه كفارة يمين وكذلك أفتى الصحابة فيمن قال ان فعلت كذا فكل مملوك لى حر أنه يمين يجزيه فيها كفارة اليمين وكذلك قال كثير من التابعين فى هذا كله لما أحدث الحجاج بن يوسف تحليف الناس بأيمان البيعة وهو التحليف بالطلاق والعتاق والتحليف باسم الله وصدقة المال وقيل كان فيها التحليف بالحج
____________________
(33/36)
نكلم حينئذ التابعون ومن بعدهم فى هذه الايمان وتكلموا فى بعضها على ذلك فمنهم من قال اذا حنث بها لزمه ما التزمه ومنهم من قال لا يلزمه الا الطلاق والعتاق ومنهم من قال بل هذا جنس ايمان اهل الشرك لا يلزم بها شيء ومنهم من قال بل هي من أيمان المسلمين يلزم فيها ما يلزم فى سائر أيمان المسلمين واتبع هؤلاء ما نقل فى هذا الجنس عن الصحابة وما دل عليه الكتاب والسنة كما بسط فى موضع آخر
و ( المقصود هنا ) انه على عهد رسول الله وخلفائه الراشدين لم تكن امرأة ترد إلى زوجها بنكاح تحليل وكان انما يفعل سرا ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ( لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ولعن المحلل والمحلل له ) قال الترمذى حديث صحيح ولعن فى الربا الآخذ والمعطي والشاهدين والكاتب لأنه دين يكتب ويشهد عليه ولعن فى التحليل المحلل والمحلل له ولم يلعن الشاهدين والكاتب لأنه لم يكن على عهده تكتب الصداقات فى كتاب فانهم كانوا يجعلون الصداق فى العادة العامة قبل الدخول ولا يبقى دينار فى ذمة الزوج ولا يحتاج إلى كتاب وشهود وكان المحلل يكتم ذلك هو والزوج المحلل له والمرأة والأولياء والشهود لا يدرون بذلك ( ولعن رسول الله المحلل والمحلل له ) اذ كانوا هم الذين فعلوا المحرم دون هؤلاء والتحليل لم يكونوا يحتاجون إليه فى الامر الغالب اذ كان الرجل انما يقع منه الطلاق الثلاث إذا طلق بعد رجعة أو عقد فلا يندم بعد الثلاث إلا نادر من الناس وكان
____________________
(33/37)
يكون ذلك بعد عصيانه وتعديه لحدود الله فيستحق العقوبة فيلعن من يقصد تحليل المرأة له ويلعن هؤلاء أيضا لأنهما تعاونا على الاثم والعدوان
فلما حدث ( الحلف بالطلاق ) واعتقد كثير من الفقهاء ان الحانث يلزمه ما الزمه نفسه ولا تجزيه كفارة يمين واعتقد كثير منهم أن الطلاق المحرم يلزم وأعتقد كثير منهم ان جمع الثلاث ليس بمحرم واعتقد كثير منهم أن طلاق السكران يقع واعتقد كثير منهم أن طلاق المكره يقع وكان بعض هذه الاقوال مما تنازع فيه الصحابة وبعضها مما قيل بعدهم كثر اعتقاد الناس لوقوع الطلاق مع ما يقع من الضرر العظيم والفساد فى الدين والدنيا بمفارقة الرجل امراته فصار الملزمون بالطلاق فى هذه المواضع المتنازع فيها ( حزبين ) ( حزبا ) اتبعوا ما جاء عن النبى والصحابة فى تحريم التحليل فحرموا هذا مع تحريمهم لما لم يحرمه الرسول من تلك الصور فصار فى قولهم من الأغلال والآصار والحرج العظيم المفضى إلى مفاسد عظيمة فى الدين والدنيا أمور منها ردة بعض الناس عن الاسلام لما أفتى بلزوم ما التزمه ومنها سفك الدم المعصوم ومنها زوال العقل ومنها العداوة بين الناس ومنها تنقيص شريعة الاسلام إلى كثير من الآثام إلى غير ذلك من الامور العظام ( وحزبا ) رأوا أن يزيلوا ذلك الحرج العظيم بانواع من الحيل التى بها تعود المرأة إلى زوجها
____________________
(33/38)
وكان مما أحدث أولا ( نكاح التحليل ( ورأى طائفة من العلماء أن فاعلة يثاب لما رأى فى ذلك من إزالة تلك المفاسد بإعادة المرأة إلى زوجها وكان هذا حيلة فى جميع الصور لرفع وقوع الطلاق ثم أحدث فى ( الأيمان ( حيل أخرى فأحدث أولا الإحتيال فى لفظ اليمين ثم أحدث الإحتيال بخلع اليمين ثم أحدث الإحتيال بدور الطلاق ثم أحدث الإحتيال بطلب إفساد النكاح وقد أنكر جمهور السلف والعلماء وأئمتهم هذه الحيل وأمثالها ورأوا أن في ذلك إبطال حكمة الشريعة وإبطال حقائق الإيمان المودعه فى آيات الله وجعل ذلك من جنس المخادعة والإستهزاء بآيات الله حتى قال أيوب السختيانى فى مثل هؤلاء يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون على ثم تسلط الكفار والمنافقون بهذه الأمور على القدح فى الرسول وجعلوا ذلك من أعظم ما يحتجون به على من آمن به ونصره وعزره ومن أعظم ما يصدون به عن سبيل الله ويمنعون من أراد الإيمان به ومن أعظم ما يمتنع الواحد منهم به عن الإيمان كما أخبر من آمن منهم بذلك عن نفسه وذكر أنه كان يتبين له محاسن الإسلام الاما كان من جنس ( التحليل ( فإنه الذى لا يجد فيه ما يشفى الغليل وقد قال تعالى ( ورحمتى وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث
____________________
(33/39)
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه وإتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون فوصف رسوله بأنه يأمر بكل معروف وينهى عن كل منكر ويحل كل طيب ويحرم كل خبيث ويضع الآصار والأغلال التى كانت على من قبله
وكل من خالف ما جاء به من الكتاب والحكمة من الأقوال المرجوحه فهي من الأقوال المبتدعة التى أحسن أحوالها أن تكون من الشرع المنسوخ الذى رفعه الله بشرع محمد صلى الله عليه وسلم أن كان قائله من أفضل الأمة وأجلها وهو فى ذلك القول مجتهد قد إتقى الله ما إستطاع وهو مثاب على إجتهاده وتقواه مغفور له خطؤه فلا يلزم الرسول قول قاله غيره بإجتهاده وقد ثبت عنه فى الصحيحين أنه قال ( إذا إجتهد الحاكم فاصاب فله أجران وإذا إجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ( وثبت عنه فى الصحيح أنه كان يقول لمن بعثه أميرا على سرية وجيش ( وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدرى ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ( وهذا يوافق ما ثبت فى الصحيح أن سعد بن معاذ لما حكمه النبى فى بنى قريظة وكان النبى قد حاصرهم فنزلوا على حكمه فأنزلهم على حكم سعد بن معاذ لما طلب منهم حلفا وهم من الأنصار أن يحسن اليهم وكان سعد بن معاذ خلاف ما يظن به بعض قومه كان مقدما لرضى الله ورسوله على رضى
____________________
(33/40)
قومه ولهذا لما مات إهتز له عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى حريمهم وتقسم أموالهم فقال النبى ( لقد حكمت فيهم بحكم الملك ( وفى رواية ( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ( والعلماء ورثة الأنبياء وقد قال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فهذان نبيان كريمان حكما فى حكومة واحدة فخص الله أحدهما بفهمها مع ثنائه على كل منهما بأنه آتاه حكما وعلما فكذلك العلماء المجتهدون رضى الله عنهم للمصيب منهم أجران وللأخر أجر وكل منهم مطيع لله بحسب إستطاعته ولا يكلفه الله ما عجز عن علمه ومع هذا فلا يلزم الرسول قول غيره ولا يلزم ما جاء به من الشريعة شيء من الأقوال المحدثه لاسيما إن كانت شنيعة
ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا بإجتهادهم ينزهون شرع الرسول من خطئهم وخطأ غيرهم كما قال عبد الله بن مسعود فى المفوضة أقول فيها برأيى فان يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه وكذلك روى عن الصديق فى الكلالة وكذلك عن عمر فى بعض الأمور مع أنهم كانوا يصيبون فيما يقولونه على هذا الوجه حتى يوجد النص موافقا لإجتهادهم كما وافق النص إجتهاد بن مسعود وغيره
____________________
(33/41)
وإنما كانوا أعلم بالله ورسوله وبما يجب من تعظيم شرع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضيفوا إليه الا ما علموه منه وما أخطؤا فيه وإن كانوا مجتهدين قالوا إن الله ورسوله بريئان منه وقد قال الله تعالى { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } وقال { فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } وقال { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين }
ولهذا تجد المسائل التى تنازعت فيها الأمة على أقوال وإنما القول الذى بعث به الرسول واحد منها وسائرها إذا كان أهلها من أهل الإجتهاد أهل العلم والدين فهم مطيعون لله ورسوله مأجورون غير مأزورين كما إذا خفيت جهة القبلة فى السفر إجتهد كل قوم فصلوا إلى جهة من الجهات الأربع فان الكعبة ليست إلا فى جهة واحدة منها وسائر المصلين مأجورين على صلاتهم حيث إتقوا ما إستطاعوا
ومن آيات ما بعث به الرسول أنه إذا ذكر مع غيره على الوجه المبين ظهر النور والهدى على ما بعث به وعلم أن القول الآخر دونه فان خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وقد قال سبحانه وتعالى { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } وهذا التحدى
____________________
(33/42)
والتعجيز ثابت فى لفظه ونظمه ومعناه كما هو مذكور فى غير هذا الموضع
ومن أمثال ذلك ما تنازع المسلمون فيه من مسائل الطلاق فإنك تجد الأقوال فيه ( ثلاثة ( قول فيه آصار وأغلال وقول فيه خداع وإحتيال وقول فيه علم وإعتدال وقول يتضمن نوعا من الظلم والإضطراب وقول يتضمن نوعا من الظلم والفاحشة والعار وقول يتضمن سبيل المهاجرين والأنصار وتجدهم فى مسائل الإيمان بالنذر والطلاق والعتاق على ثلاثة أقوال قول يسقط أيمان المسلمين ويجعلها بمنزلة أيمان المشركين وقول يجعل الإيمان اللازمة ليس فيها كفارة ولا تحلة كما كان شرع غير أهل القبلة وقول يقيم حرمة أيمان أهل التوحيد والإيمان ويفرق بينهما وبين أيمان أهل الشرك والأوثان ويجعل فيها من الكفارة والتحليل ما جاء به النص والتنزيل وإختص به أهل القرآن دون أهل التوراة والإنجيل وهذا هو الشرع الذى جاء به خاتم المرسلين وإمام المتقين وأفضل الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
____________________
(33/43)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله ( فصل ( مختصر جامع فى مسائل ( الأيمان والطلاق ( وما بينهما من إتفاق وإفتراق فان المسألة قد تكون من مسائل الأيمان دون الطلاق وقد تكون من مسائل الطلاق دون الأيمان وقد تكون من مسائل النوعين
فإن الكلام المتعلق بالطلاق ثلاثة أنواع والأيمان ثلاثة أنواع أما الكلام المتعلق بالطلاق فهو إما صيغة تنجيز وإما صيغة تعليق وإما صيغة قسم
أما ( صيغة التنجيز ) فهو ايقاع الطلاق مطلقا مرسلا من غير تقييد بصفة ولا يمين كقوله أنت طالق أو مطلقة أو فلانة طالق او أنت الطلاق أو طلقتك ونحو ذلك مما يكون بصيغة الفعل او المصدر أو اسم الفاعل أو اسم المفعول فهذا يقال له طلاق منجز ويقال طلاق مرسل ويقال طلاق مطلق أى غير معلق بصفة فهذا ايقاع للطلاق وليس هذا
____________________
(33/44)
بيمين يخير فيه بين الحنث وعدمه ولا كفارة فى هذا باتفاق المسلمين والفقهاء فى عرفهم المعروف بينهم لا يسمون هذا يمينا ولا حلفا ولكن من الناس من يقول حلفت بالطلاق ومراده أنه أوقع الطلاق
وأما ( صيغة القسم ) فهو أن يقول الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا أولا أفعل كذا فيحلف به على حض لنفسه أو لغيره أو منع لنفسه أو لغيره أو على تصديق خبر أو تكذيبه فهذا يدخل فى مسائل الطلاق والايمان فان هذا يمين باتفاق اهل اللغة فانها صيغة قسم وهو يمين أيضا فى عرف الفقهاء لم يتنازعوا فى أنها تسمى يمينا ولكن تنازعوا فى حكمها فمن الفقهاء من غلب عليها جانب الطلاق فاوقع به الطلاق اذا حنث ومنهم من غلب عليه جانب اليمين فلم يوقع به الطلاق بل قال عليه كفارة يمين او قال لا شيء عليه بحال
وكذلك تنازعوا فيما إذا حلف بالنذر فقال إذا فعلت كذا فعلى الحج أوصوم شهر أو مالى صدقة لكن هذا النوع إشتهر الكلام فيه عن السلف من الصحابة وغيرهم وقالوا أنه إيمان تجزى فيه كفارة يمين لكثرة وقوع هذا فى زمن الصحابة بخلاف الحلف بالطلاق فان الكلام فيه إنما عرف عن التابعين ومن بعدهم وتنازعوا فيه على القولين
____________________
(33/45)
والثالث ( صيغة تعليق ) كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق ويسمى هذا طلاقا بصفة فهذا إما أن يكون قصد صاحبه الحلف وهو يكره وقوع الطلاق إذا وجدت الصفة وأما أن يكون قصده إيقاع الطلاق عند تحقق الصفة
( فالأول ( حكمه حكم الحلف بالطلاق بإتفاق الفقهاء ولو قال إن حلفت يمينا فعلى عتق رقبة وحلف بالطلاق حنث بلا نزاع نعلمه بين العلماء المشهورين وكذلك سائر ما يتعلق بالشرط لقصد اليمين كقوله إن فعلت كذا فعلى عتق رقبة أو فعبيدى أحرار أو فعلى الحج أو على صوم شهر أو فمالى صدقة أو هدى ونحو ذلك فان هذا بمنزلة أن يقول العتق يلزمنى لا أفعل كذا وعلى الحج لا أفعل كذا ونحو ذلك لكن المؤخر فى صيغة الشرط مقدم فى صيغة القسم والمنفى فى هذه الصيغة مثبت فى هذه الصيغة
( والثانى ( وهو أن يكون قصد إيقاع الطلاق عند الصفة فهذا يقع به الطلاق إذا وجدت الصفة كما يقع المنجز عند عامة السلف والخلف وكذلك إذا وقت الطلاق بوقت كقوله أنت طالق عند رأس الشهر وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعلق ولم يعلم فيه خلافا قديما لكن إبن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق وهو قول الإمامية مع أن بن حزم ذكر فى ( كتاب الإجماع إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق
____________________
(33/46)
وذكر أن الخلاف إنما هو فيما إذا أخرجه مخرج اليمين هل يقع الطلاق أولا يقع ولا شيء عليه أو يكون يمينا مكفرة على ثلاثة أقوال كما أن نظائر ذلك من الأيمان فيها هذه الأقوال الثلاثة
وهذا الضرب وهو الطلاق المعلق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها وليس فيها معنى الحض والمنع كقوله إن طلعت الشمس فأنت طالق هل هو يمين فيه قولان ( أحدهما ) هو يمين كقول أبى حنيفة وأحد القولين فى مذهب أحمد ( الثانى ( أنه ليس بيمين كقول الشافعى والقول الآخر فى مذهب أحمد وهذا القول أصح شرعا ولغة وأما العرف فيختلف فصل وأما أنواع الأيمان الثلاثة ( فالأول ) أن يعقد اليمين بالله و ( الثانى ( أن يعقدها لله ( والثالث ) أن يعقدها بغير الله أو لغير الله فأما ( الأول ( فهو الحلف بالله فهذه يمين منعقدة مكفرة بالكتاب والسنة والإجماع وأما ( الثالث ( وهو أن يعقدها بمخلوق أو لمخلوق مثل أن يحلف بالطواغيت أو بأبيه أو الكعبة أو غير ذلك من المخلوقات فهذه يمين غير
____________________
(33/47)
محترمة لا تنعقد ولا كفارة بالحنث فيها بإتفاق العلماء لكن نفس الحلف بها منهى عنه فقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من حلف فقال فى حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ) وسواء فى ذلك الحلف بالملائكة والأنبياء وغيرهم بإتفاق العلماء إلا أن فى الحلف بالنبى ( قولين ( فى مذهب أحمد وقول الجمهور أنها يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها
وأما عقدها لغير الله فمثل أن ينذر للأوثان والكنائس أو يحلف بذلك فيقول إن فعلت كذا فعلى للكنيسة كذا أو لقبر فلان كذا ونحو ذلك فهذا إن كان نذرا فهو شرك وإن كان يمينا فهو شرك إذا كان يقول ذلك على وجه التعظيم كما يقول المسلم إن فعلت كذا فعلى هدى وإما إذا قاله على وجه البغض لذلك كما يقول المسلم إن فعلت كذا فأنا يهودى أو نصرانى فهذا ليس مشركا وفى لزوم الكفارة له قولان معروفان للعلماء وما كان من نذر شرك أو يمين شرك فعليه أن يتوب إلى الله من عقدها ليس فيها وفاء ولا كفارة إنما ذلك فيما كان لله أو بالله
وأما المعقود لله فعلى وجهين ( أحدهما ( أن يكون قصده التقرب إلى الله لا مجرد أن يحض أو يمنع وهذا هو النذر فانه قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال
____________________
(33/48)
( كفارة النذر كفارة يمين ( وثبت عنه أن قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ( فإذا كان قصد الإنسان أن ينذر لله طاعة فعليه الوفاء به وأن نذر ماليس بطاعة لم يكن عليه الوفاء به وما كان محرما لا يجوز الوفاء به لكن إذا لم يوف بالنذر لله فعليه كفارة يمين عند أكثر السلف وهو قول أحمد وهو قول أبى حنيفة قيل مطلقا وقيل إذا كان فى معنى اليمين
و ( الثانى ) أن يكون مقصوده الحض أو المنع أو التصديق أو التكذيب فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام كقوله أن فعلت كذا فعلى الحج وصوم سنة ومالى صدقة وعبيدى أحرار ونسائى طوالق فهذا الصنف يدخل فى مسائل ( الأيمان ) ويدخل فى مسائل ( الطلاق والعتاق والنذر والظهار ) وللعلماء فيه ثلاثة أقوال
( أحدها ) أنه يلزمه ما حلف به إذا حنث لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط وقد وجد الشرط فيلزمه كنذر التبرر المعلق بالشرط
( والقول الثانى ) هذه يمين غير منعقدة فلا شيء فيها إذا حنث لا كفارة ولا وقوع لأن هذا حلف بغير الله وقد قال النبى ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت ( وفى رواية فى الصحيح ( لا تحلفوا إلا بالله
____________________
(33/49)
( والقول الثالث ( أن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب وهو الحلف بالنذر وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق فقالوا فى الأول عليه كفارة يمين إذاحنث وقالوا فى الثانى يلزمه ما علقه وهو الذى حلف به إذا حنث لأن الملتزم فى الأول فعل واجب فلايبرأ إلا بفعله فيمكنه التكفير قبل ذلك والملتزم فى الثانى وقوع حرمة وهذا يحصل بالشرط فلا يرتفع بالكفارة
و ( القول الثالث ) هو الذى يدل عليه الكتاب والسنة والإعتبار وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله فى الجملة كما قد بسط فى موضعه وذلك أن الله قال فى كتابه { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } إلى قوله { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقال تعالى { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه ( وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين لفظا ومعنى أما اللفظ فلقوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقوله { ذلك كفارة أيمانكم } وهذا خطاب للمؤمنين فكل ما كان من أيمانهم فهو داخل فى هذا والحلف بالمخلوقات شرك ليس من أيمانهم لقول النبى ( من حلف بغير الله فقد أشرك ( رواه أهل السنن أبو داود
____________________
(33/50)
وغيره فلا تدخل هذه فى أيمان المسلمين وأما ما عقده بالله أو لله فهو من أيمان المسلمين فيدخل فى ذلك ولهذا لو قال أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمنى ونوى دخول الطلاق والعتاق دخل فى ذلك كما ذكر ذلك الفقهاء ولا أعلم فيه نزاعا ولا يدخل فى ذلك الحلف بالكعبة وغيرها من المخلوقات وإذا كانت من أيمان المسلمين تناولها الخطاب
وأما من جهة المعنى فهو أن الله فرض الكفارة فى أيمان المسلمين لئلا تكون اليمين موجبة عليهم أو محرمة عليهم لا مخرج لهم كما كانوا عليه فى أول الإسلام قبل أن تشرع الكفارة لم يكن للحالف مخرج إلا الوفاء باليمين فلو كان من الأيمان مالاكفارة فيه كانت هذه المفسدة موجودة وأيضا فقد قال الله تعالى { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } نهاهم الله أن يجعلوا الحلف بالله ما نعا لهم من فعل ما أمر به لئلا يمتنعوا عن طاعته باليمين التى حلفوها فلو كان فى الأيمان ما ينعقد ولا كفارة فيه لكان ذلك ما نعالهم من طاعة الله إذا حلفوا به
وأيضا فقد قال تعالى { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } والايلاء ( هو الحلف والقسم والمراد بالايلاء هنا أن يحلف الرجل أن لا يطأ إمرأته وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا وإن حلف بما عقده الله
____________________
(33/51)
كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق كان موليا عند جماهير العلماء كأبى حنيفة ومالك والشافعى فى قوله الجديد وأحمد ومن العلماء من لم يذكر فى هذه المسألة نزاعا كإبن المنذر وغيره وذكر عن بن عباس أنه قال كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء والله سبحانه وتعالى قد جعل المولى بين خيرتين إما أن يفيء وإما أن يطلق والفيئة هي الوطء خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان فان فاء فوطئها حصل مقصودها وقد أمسك بمعروف وقد قال تعالى { فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } ومغفرته ورحمته للمولى توجب رفع الإثم عنه وبقاء إمرأته ولا تسقط الكفارة كما فى قوله { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التى عقدوها فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التى جعلها تحل عقده اليمين وإن كان المولى لا يفىء بل قد عزم على الطلاق فان الله سميع عليم فحكم المولى فى كتاب الله أنه إما أن يفىء وإما أن يعزم الطلاق فان فاء فإن الله غفوررحيم لا يقع به طلاق وهذا متفق عليه فى اليمين بالله تعالى وأما ( اليمين بالطلاق ( فمن قال إنه يقع به الطلاق فلا يكفر فانه يقول إن فاء المولى بالطلاق وقع به الطلاق وإن عزم الطلاق فأوقعه وقع به
____________________
(33/52)
الطلاق فالطلاق على قوله لازم سواء أمسك بمعروف أو سرح بإحسان والقرآن يدل على أن المولى مخير إما أن يفىء وإما أن يطلق فإذا فاء لم يلزمه الطلاق بل عليه كفارة الحنث إذا قيل بأن الحلف بالطلاق فيه الكفارة فان المولى بالحلف بالله إذا فاء لزمته كفارة الحنث عند جمهور العلماء وفيه قول شاذ أنه لا شيء عليه بحال وقول الجمهور أصح فان الله بين فى كتابه كفارة اليمين فى سورة المائدة وقال النبى ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه (
فإن قيل المولى بالطلاق إذا فاء غفر الله له ما تقدم من تأخير الوطء للزوجة وإن وقع به الطلاق ورحمه بذلك
( قيل ( هذا لا يصح فان أحد قولى العلماء القائلين بهذا الأصل أن الحالف بالطلاق ثلاثا أن لا يطأ إمرأته لا يجوز له وطؤها بحال فانه إذا أولج حنث وكان النزع فى أجنبية وهذه احدى الروايتين عن أحمد وأحد القولين فى مذهب مالك ( والثانى ( يجوز له وطأة واحدة ينزع عقبها وتحرم بها عليه إمرأته ومعلوم أن الإيلاء إنما كان لحق المرأة فى الوطء والمرأة لا تختار وطأة يقع بها الطلاق الثلاث عقبها إلا إذا كانت كارهة له فلا يحصل مقصودها بهذه الفيئة وأيضا فانه على هذا التقدير لا فائدة فى
____________________
(33/53)
التأجيل بل تعجيل الطلاق أحب اليها لتقضى العدة لتباح لغيره فإذا كان لابد لها من الطلاق على التقديرين كان التأجيل ضررا محضا لها وهذا خلاف مقصود الإيلاء الذى شرع لنفع المرأة لا لضرها
وما ذكرته من النصوص قد إستدل به الصحابة وغيرهم من العلماء فى هذا الجنس فأفتوا من حلف فقال إن فعلت كذا فمالى هدى وعبيد ى أحرار ونحو ذاك بأن يكفر يمينه فجعلوا هذا يمينا مكفرة وكذلك غير واحد من علماء السلف والخلف جعلوا هذا متناولا للحلف بالطلاق والعتاق وغير ذلك من الأيمان وجعلوا كل يمين يحلف بها الحالف ففيها كفارة يمين وان عظمت
وقد ظن طائفة من العلماء أن هذا الضرب فيه شبه من النذر والطلاق والعتاق وشبه من الأيمان وليس كذلك بل هذه أيمان محضه ليست نذرا ولا طلاقا ولا عتاقا وإنما يسميها بعض الفقهاء ( نذر اللجاج والغضب ( تسمية مقيدة ولا يقتضى ذلك أنها تدخل فى إسم النذر عند الإطلاق وأئمة الفقهاء الذين اتبعوا الصحابة بينوا أن هذه أيمان محضه كما قرر ذلك الشافعى وأحمد وغيرهما فى الحلف بالنذر لكن هي إيمان علق الحنث فيها على شيئين أحدهما ( فعل المحلوف عليه و ( الثانى ( عدم إيقاع المحلوف به
____________________
(33/54)
فقول القائل إن فعلت كذا فعلى الحج هذا العام بمنزلة قوله والله إن فعلت كذا لأحجن هذا العام وهو لو قال ذلك لم يلزمه كفارة إلا إذا فعل ولم يحج ذلك العام كذلك إذا قال إن فعلت كذا فعلى أن أحج هذا العام إنما تلزمه الكفارة إذا فعله ولم يحج ذلك العام وكذلك إذا قال إن فعلت كذا فعلى أن أعتق عبدى أو أطلق إمرأتى فانه لا تلزمه الكفارة إلا إذا فعله ولم يطلق ولم يعتق ولو قال والله إن فعلت كذا فوالله لأطلقن إمرأتى ولأعتقن عبدى وكذلك إذا قال إن فعلت كذا فإمرأتى طالق وعبدى حر هو بمنزلة قوله والله إن فعلت كذا ليقعن بى الطلاق والعتاق ولأوقعن الطلاق والعتاق وهو إذا فعله لم تلزمه الكفارة إلا إذا لم يقع به الطلاق والعتاق وإذا لم يوقعه لم يقع لأنه لم يوجد شرط الحنث لأن الحنث معلق بشرطين والمعلق بالشرط قد يكون وجوبا وقد يكون وقوعا فإذا قال إن فعلت كذا فعلى صوم شهر فالمعلق وجوب الصوم وإذا قال فعبدى حر وإمرأتى طالق فالمعلق وقوع العتاق والطلاق وقد تقدم أن الرجل المعلق إن كان قصده وقوع الجزاء عند الشرط وقع كما إذا كان قصده أن يطلقها إذا أبرأته من الصداق فقال إن أبرأتينى من صداقك فأنت طالق فهنا إذا وجدت الصفة وقع الطلاق
وأما إذا كان قصده الحلف وهو يكره وقوع الجزاء عند الجزاء عند الشرط فهذا حالف كما لو قال الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا
____________________
(33/55)
وأما قول القائل إنه التزم الطلاق عند الشرط فيلزمه فهذا باطل من أوجه
( أحدها )
أن الحالف بالكفر والإسلام كقوله إن فعلت كذا فانا يهودى أو نصرانى وقول الذمى إن فعلت كذا فأنا مسلم هو التزام للكفر والإسلام عند الشرط ولا يلزمه ذلك بالإتفاق لأنه لم يقصد وقوعه عند الشرط بل قصد الحلف به وهذا المعنى موجود فى سائر أنواع الحلف بصيغة التعليق
( الثانى ( أنه إذا قال إن فعلت كذا فعلى أن أطلق إمرأتى لم يلزمه أن يطلقها بالإتفاق إذا فعله
( الثالث ) أن الملتزم لأمر عند الشرط إنما يلزمه بشرطين ( أحدهما ( أن يكون الملتزم قربة ( والثانى ( أن يكون قصده التقرب إلى الله به لا الحلف به فلو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة والأكل والشرب لم يلزمه ولو إلتزم قربة كالصلاة والصيام والحج على وجه الحلف بها لم يلزمه بل تجزية كفارة يمين عند الصحابة وجمهور السلف وهو مذهب الشافعى وأحمد وآخر الروايتين عن أبى حنيفة وقول
المحققين من أصحاب مالك
____________________
(33/56)
وهنا الحالف بالطلاق هو التزم وقوعه على وجه اليمين وهو يكره وقوعه إذا وجد الشرط كما يكره وقوع الكفر إذا حلف به وكما يكره وجوب تلك العبادات إذا حلف بها
وأما قول القائل إن هذا حالف بغير الله فلا يلزمه كفارة
( فيقال ( النص ورد فيمن حلف بالمخلوقات ولهذا جعله شركا لأنه عقد اليمين بغير الله فمن عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله ولهذا كان النذر أبلغ من اليمين فوجوب الكفارة فيما عقد لله أولى من وجوبها فيما عقد بالله والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن الفرق بين الطلاق والحلف وإيضاح الحكم فى ذلك
فأجاب الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الصيغ التى يتكلم بها الناس فى الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام ( ثلاثة أنواع
____________________
(33/57)
( النوع الأول ( صيغة التنجيز مثل أن يقول إمرأتى طالق أو أنت طالق أو فلانه طالق أو هي مطلقة ونحو ذلك فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين ومن قال إن هذا فيه كفارة فانه يستتاب فان تاب وإلا قتل وكذلك إذا قال عبدى حر أو على صيام شهر أو عتق رقبة أوالحل على حرام أو أنت على كظهر أمي فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغ التنجيز والإطلاق والنوع الثاني
أن يحلف بذلك فيقول الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا أو لا أفعل كذا أو يحلف على غيره كعبده وصديقه الذى يرى أنه يبر قسمه ليفعلن كذا أولا يفعل كذا أو يقول الحل على حرام لأفعلن كذا أولا أفعله أو يقول على الحج لأفعلن كذا أولا أفعله ونحو ذلك فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور لا موقع لها وللعلماء فى هذه الأيمان ثلاثة أقوال
( أحدها ( أنه إذا حنث لزمه ما حلف به ( والثانى ( لا يلزمه شيء ( والثالث ( يلزمه كفارة يمين ومن العلماء من فرق بين الحلف والطلاق والعتاق وغيرها والقول الثالث أظهر الأقوال لأن الله تعالى قال { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقال { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى صحيح مسلم وغيره من حديث أبى هريرة وعدى بن حاتم وأبى
____________________
(33/58)
موسى أنه قال ( ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وجاء هذا المعنى فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وأبى موسى وعبد الرحمن بن سمرة وهذا يعم جميع إيمان المسلمين فمن حلف بيمين من أيمان المسلمين وحنث أجزأته كفارة يمين ومن حلف بايمان الشرك مثل أن يحلف بتربة أبيه أو الكعبة أو نعمة السلطان أو حياة الشيخ أو غير ذلك من المخلوقات فهذه اليمين غير منعقدة ولا كفارة فيها إذا حنث بإتفاق أهل العلم
والنوع الثالث من الصيغ أن يعلق الطلاق أوالعتاق أو النذر بشرط فيقول إن كان كذا فعلى الطلاق أو الحج أو فعبيدى أحرار ونحو ذلك فهذا ينظر إلى مقصوده فان كان مقصوده أ ن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط فحكمه حكم الحالف وهو من ( باب اليمين ( وأما إن كان مقصوده وقوع هذه الأمور كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط مثل أن يقول لإمرأته إن ابرأتينى من طلاقك فأنت طالق فتبرئه أو يكون عرضه أنها إذا فعلت فاحشة أن يطلقها فيقول إذا فعلت كذا فأنت طالق بخلاف من كان غرضه أن يحلف عليها ليمنعها ولو فعلته لم يكن له غرض فى طلاقها فإنها تارة يكون طلاقها أكره إليه من الشرط فيكون حالفا وتارة يكون الشرط المكروه أكره إليه من طلاقها فيكون موقعا للطلاق إذا وجد
____________________
(33/59)
ذلك الشرط فهذا يقع به الطلاق وكذلك إن قال إن شفى الله مريضى فعلى صوم شهر فشفى فإنه يلزمه الصوم
فالأصل فى هذا أن ينظر إلى مراد المتكلم ومقصوده فإن كان غرضه أن تقع هذه الأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط وإن كان مقصوده أن يحلف بها وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها لا موقع لها فيكون قوله من ( باب اليمين ( لا من ( باب التطليق والنذر ( فالحالف هو الذى يلتزم ما يكره وقوعه عند المخالفة كقوله إن فعلت كذا فانا يهودى أو نصرانى ونسائى طوالق وعبيدى أحرار وعلى المشى إلى بيت الله فهذا ونحوه يمين بخلاف من يقصد وقوع الجزاء من ناذرومطلق ومعلق فإن ذلك يقصد ويختار لزوم ما إلتزمه وكلاهما ملتزم لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم وإن وجد الشرط الملزوم كما إذا قال إن فعلت كذا فأنا يهودى أو نصرانى فان هذا يكره الكفر ولو وقع الشرط فهذا حالف والموقع يقصد وقوع الجزاء اللازم عند وقوع الشرط الملزوم سواء كان الشرط مرادا له أو مكروها أو غير مراد له فهذا موقع ليس بحالف وكلاهما ملتزم معلق لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم
والفرق بين هذا وهذا ثابت عن أصحاب رسول الله وأكابر التابعين وعليه دل الكتاب والسنة وهو مذهب جمهور العلماء
____________________
(33/60)
كالشافعى وأحمد وغيرهما فى تعليق النذر قالوا إذا كان مقصوده النذر فقال لئن شفى الله مريضى فعلى الحج فهو ناذر إذا شفى الله مريضه لزمه الحج فهذا حالف تجزئه كفارة يمين ولا حج عليه وكذلك قال أصحاب رسول الله مثل بن عمر وبن عباس وعائشة وأم سلمة وزينب ربيبة النبى وغير واحد من الصحابة فى من قال إن فعلت كذا فكل مملوك لى حر قالوا يكفر عن يمينه ولا يلزمه العتق هذا مع أن العتق طاعة وقربة فالطلاق لا يلزمه بطريق الأولى كما قال إبن عباس رضى الله عنه الطلاق عن وطر والعتق ما إبتغى به وجه الله ذكره البخارى فى صحيحه بين بن عباس أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه لا لمن يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه وعن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة اليمين بالله وهذا يتناول جميع الأيمان من الحلف بالطلاق والعتاق والنذر وغير ذلك والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف لكن فيهم من لا يلزمه الكفارة كداود وأصحابه ومنهم من يلزمه كفارة يمين كطاووس وغيره من السلف والخلف
والأيمان التى يحلف بها الخلق ثلاثة أنواع
( أحدها ( يمين محترمة منعقدة كالحلف بإسم الله تعالى فهذه فيها الكفارة بالكتاب والسنة والإجماع
____________________
(33/61)
( الثانى ( الحلف بالمخلوقات كالحالف بالكعبة فهذه لا كفارة فيها بإتفاق المسلمين
( والثالث ( أن يعقد اليمين لله فيقول إن فعلت كذا فعلى الحج أو مالى صدقة أو فنسائى طوالق أو فعبيدى أحرار ونحو ذلك فهذه فيها الأقوال الثلاثة المتقدمة إما لزوم المحلوف به وإما الكفارة وإما لا هذا ولا هذا وليس فى حكم الله ورسوله الايمينان يمين من أيمان المسلمين ففيها الكفارة أو يمين ليست من أيمان المسلمين فهذه لا شيء فيها إذا حنث فهذه الأيمان أن كانت من أيمان المسلمين ففيها كفارة وإن لم تكن من أيمان المسلمين لم يلزم بها شيء
فأما إثبات يمين يلزم الحالف بها ما التزمه ولا تجزئه فيها كفارة فهذا ليس فى دين المسلمين بل هو مخالف للكتاب والسنة والله تعالى ذكر فى سورة التحريم حكم إيمان المسلمين وذكر فى السورة التى قبلها حكم طلاق المسلمين فقال فى سورة التحريم { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم } وقال فى سورة الطلاق { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا }
____________________
(33/62)
فهو سبحانه بين فى هذه السورة حكم الطلاق وبين فى تلك حكم ايمان المسلمين وعلى المسلمين أن يعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله فيعرفوا ما يدخل فى الطلاق وما يدخل فى أيمان المسلمين ويحكموا فى هذا بما حكم الله ورسوله ولا يتعدوا حدود الله فيجعلوا حكم أيمان المسلمين وحكم طلاقهم حكم أيمانهم فان هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإن كان قد إشتبه بعض ذلك على كثير من علماء المسلمين فقد عرف ذلك غيرهم من علماء المسلمين والذين ميزوا بين هذا وهذا من الصحابة والتابعين هم أجل قدرا عند المسلمين ممن إشتبه عليه هذا وهذا وقد قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فما تنازع فيه المسلمين وجب رده إلى الكتاب والسنة
والإعتبار الذى هو أصح القياس وأجلاه إنمايدل على قول من فرق بين هذا وهذا مع ما فى ذلك من صلاح المسلمين فى دينهم ودنياهم إذا
____________________
(33/63)
فرقوا بين ما فرق الله ورسوله بينه فإن الذين لم يفرقوا بين هذا وهذا أو قعهم هذا الإشتباه إما فى آصار وأغلال وأما فى مكر وإحتيال كالإحتيال فى ألفاظ الأيمان والإحتيال بطلب إفساد النكاح والإحتيال بدور الطلاق والإحتيال بخلع اليمين والإحتيال بالتحليل والله أغنى المسلمين بنبيهم الذى قال الله فيه { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } أى يخلصهم من الآصار والأغلال ومن الدخول فى منكرات أهل الحيل والله تعالى أعلم ( فصل ( فى التفريق بين التعليق الذى يقصد به الإيقاع والذى يقصد به اليمين (
( فالأول ( أن يكون مريدا للجزاء عند الشرط وإن كان الشرط مكروها له لكنه إذا وجد الشرط فإنه يريد الطلاق لكون الشرط أكره إليه من الطلاق فإنه وإن كان يكره طلاقها ويكره الشرط لكن إذا وجد الشرط فإنه يختار طلاقها مثل أن يكون كارها للتزوج بإمرأة بغى أو فاجرة أو خائنة أو هو لا يختار طلاقها لكن إذا فعلت هذه الأمور إختار طلاقها فيقول إن زنيت أو سرقت أو خنت فانت طالق ومراده إذا فعلت ذلك أن يطلقها إماعقوبة لها وإما كراهة لمقامة معها
____________________
(33/64)
على هذا الحال فهذا موقع للطلاق عند الصفة لا حالف ووقوع الطلاق فى مثل هذا هو المأثور عن الصحابة كإبن مسعود وإبن عمر وعن التابعين وسائر العلماء وما علمت أحدا من السلف قال فى مثل هذا إنه لا يقع به الطلاق ولكن نازع فى ذلك طائفة من الشيعة وطائفة من الظاهرية وهذا ليس بحالف ولا يدخل فى لفظ اليمين المكفرة الواردة فى الكتاب والسنة ولكن من الناس من سمى هذا حالفا كما أن منهم من يسمى كل معلق حالفا ومن الناس من يسمى كل منجز للطلاق حالفا وهذه الإصطلاحات الثلاثة ليس لها أصل فى اللغة ولا فى كلام الشارع ولا كلام الصحابة وإنما سمى ذلك يمينا لما بينه وبين اليمين من القدر المشترك عند المسمى وهو ظنه وقوع الطلاق عند الصفة
وأما التعليق الذى يقصد به اليمين فيمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم بخلاف النوع الأول فإنه لا يمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم وهذا القسم إذا ذكره بصيغة الجزاء فإنما يكون إذا كان كارها للجزاء وهو أكره إليه من الشرط فيكون كارها للشرط وهو للجزاء أكره ويلتزم أعظم المكروهين عنده ليمتنع به من أدنى المكروهين فيقول إن فعلت كذا فأمرأتى طالق أوعبيدى أحرار أو على الحج ونحو ذلك أو يقول لإمرأته إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق يقصد زجرها أو تخويفها باليمين لا إيقاع الطلاق إذا فعلت لأنه يكون مريدا لها وإن
____________________
(33/65)
فعلت ذلك لكون طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع لا لقصد الإيقاع فهذا حالف ليس بموقع وهذا هوالحالف فى الكتاب والسنة وهو الذى تجزئه الكفارة والناس يحلفون بصيغة القسم وقد يحلفون بصيغة الشرط التى فى معناها فإن علم هذا وهذا سواء بإتفاق العلماء والله أعلم وقال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر مبنى أحكام أصول الدين على ثلاثة أقسام الكتاب والسنة والاجماع وتقدم فصل
( والطلاق نوعان ) نوع أباحه الله ونوع حرمه فالذى أباحة أن يطلقها إذا كانت ممن تحيض بعد أن تطهر من الحيض قبل أن يطأها ويسمى ( طلاق السنة ( فإن كانت ممن لا تحيض طلقها أي وقت شاء أو يطلقها حاملا قد تبين حملها فإن طلقها بالحيض أو فى طهر بعد أن وطأها كان هذا طلاقا محرما بإجماع المسلمين وفى وقوعه ( قولان ( للعلماء والأظهر أنه لا يقع
____________________
(33/66)
وطلاق السنة المباح إما أن يطلقها طلقة واحدة ويدعها حتى تنقضي العدة فتبين أو يراجعها فى العدة فإن طلقها ثلاثا أو طلقها الثانية أو الثالثة فى ذلك الطهر فهذا حرام وفاعله مبتدع عند أكثر العلماء كمالك وأبى حنيفة وأحمد فى المشهور عنه وكذلك إذا طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة أو العقد عند مالك وأحمد فى ظاهر مذهبه وغيرهما ولكن هل يلزمه واحدة أو ثلاث فيه قولان قيل يلزمه الثلاث وهو مذهب الشافعى والمعروف من مذهب الثلاثة وقيل لا يلزمه إلا طلقة واحدة وهو قول كثير من السلف والخلف وقول طائفة من أصحاب مالك وأبى حنيفة وهذا القول أظهر وقد ثبت فى صحيح مسلم عن إبن عباس قال كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة وفى مسند الإمام أحمد بإسناد جيد عن بن عباس أن ركانة بن عبد يزيد طلق إمرأته ثلاثا فى مجلس واحد فقال النبى ( هي واحدة ( ولم ينقل أحد عن النبى بإسناد ثابت أنه الزم بالثلاث لمن طلقها جملة واحدة وحديث ركانة الذى يروى فيه أنه طلقها البتة وأن النبى ( سأله وقال ( ما أردت إلا واحده ( ضعيف عند أئمة الحديث ضعفه أحمد والبخارى وأبو عبيد وبن حزم بأن رواته ليسوا موصوفين بالعدل والضبط وبين أحمد أن الصحيح فى حديث ركانة أنه طلقها ثلاثا وجعلها واحدة وقد بسطنا الكلام فى غير هذا الموضع والله أعلم
____________________
(33/67)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله إذا حلف الرجل يمينا من الأيمان فالأيمان ( ثلاثة أقسام ( أحدها ( ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وتربتهم ونحو ذلك فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها بإتفاق العلماء بل هي منهى عنها بإتفاق أهل العلم والنهى نهى تحريم فى أصح قوليهم ففى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ( وقال ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ( وفى السنن عنه أنه قال ( من حلف بغير الله فقد أشرك ( والثانى ( اليمين بالله تعالى كقوله والله لأفعلن فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها بإتفاق المسلمين وأيمان المسلمين التى هي فى معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق كقوله إن فعلت كذا فعلى صيام شهر أو الحج إلى بيت الله أو الحل على حرام لا أفعل كذا أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام أو الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا أولا أفعله أو أن
____________________
(33/68)
فعلته فنسائى طوالق وعبيدى أحرار وكل ما أملكه صدقة ونحو ذلك فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة اقوال قيل إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به وقيل لا يلزمه شيء وقيل يلزمه كفار يمين ومنهم من قال الحلف بالنذر يجزيه فيه الكفارة والحلف بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به
وأظهر الأقوال وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والإعتبار أنه يجزئه كفارة يمين فى جميع أيمان المسلمين كما قال الله تعالى { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقال تعالى { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه ( فإذا قال الحل على حرام لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمنى لا أفعل كذا أو أن فعلت كذا فعلى الحج أو مالى صدقة أجزأه فى ذلك كفارة يمين فان كفر كفارة الظهار فهو أحسن وكفارة اليمين يخير فيها بين العتق أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم وإذا أطعمهم أطعم كل واحد جراية من الجرايات المعروفة فى بلده مثل أن يطعم ثمان أواق أو تسع أواق بالشامى ويطعم مع ذلك ادامها كما جرت عادة أهل الشام فى اعطاء الجرايات خبزا وإداما وإذا كفر يمينه لم يقع به الطلاق
____________________
(33/69)
وأما إذا قصد إيقاع الطلاق على الوجه الشرعى مثل أن ينجز الطلاق فيطلقها واحدة فى طهر لم يصبها فيه فهذا يقع به الطلاق بإتفاق العلماء وكذلك إ ذا علق الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها مثل أن يكون مريدا للطلاق إذا فعلت أمرا من الأمور فيقول لها إن فعلته فانت طالق قصده أن يطلقها إذا فعلته فهذا مطلق يقع به الطلاق عند السلف وجماهير الخلف بخلاف من قصده أن ينهاها ويزجرها باليمين ولو فعلت ذلك الذى يكرهه لم يجز أن يطلقها بل هو مريد لها وإن فعلته لكنه قصد اليمين لمنعها عن الفعل لا مريدا أن يقع الطلاق وان فعلته فهذا حالف لايقع به الطلاق فى أظهر قولي العلماء من السلف والخلف بل يجزئه أكفارة يمين كما تقدم فصل والطلاق الذى يقع بلا ريب هو الطلاق الذى أذن الله فيه وأباحه وهو أن يطلقها فى الطهر قبل أن يطأها أو بعد ما يبين حملها طلقة واحدة
____________________
(33/70)
فأما ( الطلاق المحرم ) مثل أن يطلقها فى الحيض أو يطلقها بعد أن يطأها وقبل أن يبين حملها فهذا الطلاق محرم باتفاق العلماء وكذلك اذا طلقها ثلاثا بكلمة او كلمات فى طهر واحد فهو محرم عند جمهور العلماء
وتنازعوا فيما يقع بها فقيل يقع بها الثلاث وقيل لا يقع بها الا طلقة واحدة وهذا هو الاظهر الذى يدل عليه الكتاب والسنة كما قد بسط فى موضعه وكذلك الطلاق المحرم فى الحيض وبعد الوطء هل يلزم فيه قولان للعلماء والا ظهر أنه لا يلزم كما لا يلزم النكاح المحرم والبيع المحرم وقد ثبت فى الصحيح عن بن عباس قال كان الطلاق على عهد رسول الله وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة وثبت أيضا في مسند أحمد أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا فى مجلس واحد فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( هي واحد ة ) ولم يثبت عن النبى خلاف هذه السنة بل ما يخالفها إما أنه ضعيف بل مرجوح واما أنه صحيح لا يدل على خلاف ذلك كما قد بسط ذلك فى موضعه والله أعلم
____________________
(33/71)
فصل الطلاق منه طلاق سنة أباحه الله تعالى وطلاق بدعة حرمه الله فطلاق السنة أن يطلقها طلقه واحدة إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها أو يطلقها حاملا قد تبين حملها
فان طلقها وهى حائض أو وطئها وطلقها بعد الوطء قبل أن يتبين حملها فهذا ( طلاق محرم ( بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين وتنازع العلماء هل يلزم أولا يلزم على ( قولين ( والأظهر أنه لا يلزم وان طلقها ثلاثا بكلمة أو بكلمات فى طهر واحد قبل أن يراجعها مثل أن يقول أنت طالق ثلاثا أو أنت طالق ألف طلقة أو أنت طالق أنت طالق أنت طالق ونحو ذلك من الكلام فهذا حرام عند جمهور العلماء من السلف والخلف وهو مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد وظاهر مذهبه وكذلك لو طلقها ثلاثا قبل أن تنقضي عدتها فهو أيضا حرام عند الأكثرين وهو مذهب مالك وأحمد فى ظاهر مذهبه
وأما ( السنة ( إذا طلقها طلقة واحدة لم يطلقها الثانية حتى يراجعها فى العدة أو يتزوجها بعقد جديد بعد العدة فحينئذ له أن يطلقها الثانية
____________________
(33/72)
وكذلك الثالثة فاذا طلقها الثالثة كما أمر الله ورسوله حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره
وأما لو طلقها ( الثلاث ( طلاقا محرما مثل أن يقول لها أنت طالق ثلاثة جملة واحدة فهذا فيه قولان للعلماء ( أحدهما ( يلزمه الثلاث و ( الثانى ( لا يلزمه إلا طلقة واحدة وله أن يرتجعها فى العدة وينكحها بعقد جديد بعد العدة وهذا قول كثير من السلف والخلف وهو قول طائفة من أصحاب مالك وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل وهذا أظهر القولين لدلائل كثيرة منها ما ثبت فى الصحيح عن بن عباس قال كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة ومنها ما رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد جيد عن بن عباس أن ركانة بن عبد يزيد طلق إمرأته ثلاثا فى مجلس واحد وجاء إلى النبى فقال ( إنما هي واحدة وردها عليه ( وهذا الحديث قد ثبته أحمد بن حنبل وغيره وضعف أحمد وأبو عبيد وبن حزم وغيرهم ما روي ( أنه طلقها البتة ( وقد أستحلفه ( ما أردت إلا واحدة ) فان رواة هذا مجاهيل لا يعرف حفظهم وعد لهم ورواة الأول معروفون بذلك ولم ينقل أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم بإسناد مقبول أن أحدا طلق إمراته ثلاثا بكلمة واحدة فألزمه الثلاث بل روي فى ذلك أحاديث كلها كذب باتفاق أهل العلم ولكن جاء فى أحاديث صحيحة ( إن فلانا طلق إمرأته ثلاثا ( أى ثلاثا متفرقة وجاء ( أن الملاعن طلق ثلاثا ( وتلك إمرأة لا سبيل له إلى رجعتها بل هي
____________________
(33/73)
محرمة عليه سواء طلقها أو لم يطلقها كما لو طلق المسلم إمرأته إذا أرتدت ثلاثا وكما لو أسلمت أمرأة اليهودى فطلقها ثلاثا أو أسلم زوج المشركة فطلقها ثلاثا وإنما الطلاق الشرعى أن يطلق من يملك أن يرتجعها أو يتزوجها بعقد جديد والله أعلم فصل إذا حلف الرجل بالحرام فقال الحرام يلزمنى لا أفعل كذا أو الحل علي حرام لا أفعل كذا أو ما أحل الله علي حرام أن فعلت كذا أو ما يحل للمسلمين يحرم علي إن فعلت كذا أو نحو ذلك وله زوجة ففى هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف ولكن القول الراجح أن هذه يمين من الأيمان لا يلزمه بها طلاق ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق وهذا مذهب الامام أحمد المشهور عنه حتى لو قال أنت على حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده ولو قال أنت علي كظهر أمى وقصد به الطلاق فان هذا لا يقع به الطلاق عند عامة ا لعلماء وفى ذلك أنزل الله القرآن فانهم كانوا يعدون الظهار طلاقا والايلاء طلاقا فرفع الله ذلك كله وجعل فى الظهار الكفارة الكبرى وجعل الايلاء يمينا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان كذلك قال كثير من السلف والخلف إنه إذا كان مزوجا فحرم إمرأته أو حرم الحلال مطلقا كان مظاهرا وهذا مذهب أحمد وإذا حلف بالظهار والحرام لا يفعل شيئا وحنث
____________________
(33/74)
فى يمينه أجزأته الكفارة فى مذهبه لكن قيل ان الواجب كفارة ظهار وسواء حلف أو أوقع وهو المنقول عن أحمد وقيل بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين وأن أوقعه لزمه كفارة ظهار وهذا أقوى وأقيس على أصول أحمد وغيره فالحالف بالحرام يجزيه كفارة يمين كما يجزئ الحالف بالنذر إذا قال إن فعلت كذا فعلي الحج أو مالي صدقة كذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ فيه أيضا كفارة يمين كما أفتى به ( جماعة ( من السلف والخلف والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك بل معناه يوافقه فكل يمين يحلف بها المسلمون فى أيمانهم ففيها كفارة يمين كما دل عليه الكتاب والسنة وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو أن يعتق أو أن يظاهر فهذا يلزمه ما أو قعه سواء كان منجزا أو معلقا ولا يجزئه كفارة يمين والله سبحانه أعلم وسئل رحمه الله تعالى عمن طلق فى الحيض والنفاس هل يقع عليه الطلاق أم لا فأجاب أما قوله لها أنت طالق ثلاثا وهى حائض فهي مبنية على أصلين ( أحدهما ) ان الطلاق فى الحيض محرم بالكتاب والسنة والإجماع فإنه
____________________
(33/75)
لا يعلم فى تحريمه نزاع وهو طلاق بدعة وأما ( طلاق السنة ) أن يطلقها فى طهر لا يمسها فيه أو يطلقها حاملا قد استبان حملها فان طلقها فى الحيض أو بعد ما وطئها وقبل أن يستبين حملها له فهو طلاق بدعة كما قال تعالى { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة } وفى الصحاح والسنن والمسانيد ان بن عمر طلق امرأته وهى حائض فذكر عمر ذلك لرسول الله فقال ( مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم ان شاء أمسكها وان شاء طلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التى أمر الله أن يطلق فيها النساء (
وأما جمع الطلقات الثلاث ) ففيه قولان ( أحدهما ) محرم أيضا عند أكثر العلماء من الصحابه والتابعين ومن بعدهم وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد فى إحدى الروايتين عنه وإختاره أكثر أصحابه وقال أحمد تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعى يعنى طلاق المدخول بها غير قوله { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وعلى هذا القول فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بان يفرق الطلاق على ثلاثة أطهار فيطلقها فى كل طهر طلقة فيه ( قولان ) هما روايتان عن أحمد ( إحداهما ) له ذلك وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبى حنيفة ( والثانية ) ليس له ذلك وهو قول أكثر السلف
____________________
(33/76)
وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد التى أختارها أكثر أصحابه كابى بكر عبد العزيز والقاضى أبى يعلى وأصحابه
( والقول الثانى ) ان جمع الثلاث ليس بمحرم بل هو ترك الأفضل وهو مذهب الشافعى والرواية الأخرى عن أحمد أختارها الخرقى واحتجوا بان فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة ثلاثا وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثا وبان الملاعن طلق امرأته ثلاثا ولم ينكر النبى ذلك
وأجاب الأكثرون بان حديث فاطمة وإمرأة رفاعة إنما طلقها ثلاثا متفرقات هكذا ثبت فى الصحيح أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات لم يطلق ثلاثا لا هذا ولا هذا مجتمعات وقول الصحابى طلق ثلاثا يتناول ما اذا طلقها ثلاثا متفرقات بان يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها وهذا طلاق سنى واقع باتفاق الأئمة وهو المشهور على عهد رسول الله فى معنى الطلاق ثلاثا واما جمع الثلاث بكلمة فهذا كان منكرا عندهم إنما يقع قليلا فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق ولا يجوز ان يقال يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا بل هذا قول بلا دليل بل هو بخلاف الدليل
وأما الملاعن فان طلاقه وقع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة التى تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة فكان مؤكدا لموجب اللعان
____________________
(33/77)
والنزاع انما هو في طلاق من يمكنه أمساكها لا سيما والنبى قد فرق بينهما فان كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره وامتنع حينئذ أن يفرق النبى صلى الله عليه وسلم بينهما لأنهما صارا أجنبيين ولكن غاية ما يمكن أن يقال حرمها عليه تحريما مؤبدا فيقال فكان ينبغى أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح وان الثلاث لم تقع جميعا بخلاف ما اذا قيل أنه يقع بها واحدة رجعية فانه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما وقول سهل بن سعد طلقها ثلاثا فانفذه عليه رسول الله دليل على انه احتاج إلى إنفاذ النبى واختصاص الملاعن بذلك ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن إختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ فدل على انه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه أنفذ النبى صلى الله عليه وسلم مقصوده بل زاده فان تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق إذ تحريم اللعان لا يزول وان نكحت زوجا غيره وهو مؤبد فى أحد قولى العلماء لا يزول بالتوبة
واستدل الأكثرون بأن القرآن العظيم يدل على ان الله لم يبح الا الطلاق الرجعى وإلا الطلاق للعدة كما فى قوله تعالى { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة }
____________________
(33/78)
إلى قوله { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } وهذا انما يكون فى الرجعى وقوله { فطلقوهن لعدتهن } يدل على أنه لا يجوز ارداف الطلاق للطلاق حتى تنقضى العدة أو يراجعها لأنه إنما اباح الطلاق للعدة أى لإستقبال العدة فمتى طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بنت على العدة ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين فان كان فيه خلاف شاذ عن خلاس وبن حزم فقد بينا فساده فى موضع آخر فان هذا قول ضعيف لأنهم كانوا فى أول الإسلام إذا أراد الرجل اضرار امرأته طلقها حتى اذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ليطيل حبسها فلو كان إذا لم يراجعها تستأنف العدة لم يكن حاجة إلى أن يراجعها والله تعالى قصرهم على الطلاق الثلاث دفعا لهذا الضرر كما جاءت بذلك الآثار ودل على أنه كان مستقرا عند الله أن العدة لا تستأنف بدون رجعة سواء كان ذلك لأن الطلاق لا يقع قبل الرجعة أو يقع ولا يستأنف له العدة وبن حزم انما أوجب إستئناف العدة بان يكون الطلاق لإستقبال العدة فلا يكون طلاق الا يتعقبه عدة اذ كان بعد الدخول كما دل عليه القرآن فلزمه على ذلك هذا القول الفاسد وأما من أخذ بمقتضى القرآن وما دلت عليه الآثار فانه يقول إن الطلاق الذى شرعه الله هو ما يتعقبه العدة وما كان صاحبه مخيرافيها بين الإمساك بمعروف والتسريح باحسان وهذا منتف فى إيقاع الثلاث فى العدة قبل الرجعة فلا
____________________
(33/79)
يكون جائزا فلم يكن ذلك طلاقا للعدة ولأنه قال { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } فخيره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضى العدة فيسرحها باحسان فاذا طلقها ثانية قبل إنقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح باحسان
وقد قال تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } فهذا يقتضى أن هذا حال كل مطلقة فلم يشرع إلا هذا الطلاق ثم قال { الطلاق مرتان } أي هذا الطلاق المذكور ( مرتان ) واذا قيل سبح مرتين أو ثلاث مرات لم يجزه أن يقول سبحان الله مرتين بل لابد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة فكذلك لا يقال طلق مرتين إلا اذا طلق مرة بعد مرة فاذا قال أنت طالق ثلاثا أو مرتين لم يجز أن يقال طلق ثلاث مرات ولا مرتين وان جاز أن يقال طلق ثلاث تطليقات أو طلقتين ثم قال بعد ذلك ( فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) فهذه الطلقة الثالثة لم يشرعها الله الا بعد الطلاق الرجعى مرتين
وقد قال الله تعالى { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } الآية وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث وهو يعم كل طلاق فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع ودلائل تحريم الثلاث
____________________
(33/80)
كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والإعتبار كما هو مبسوط فى موضعه
وسبب ذلك أن ( الأصل فى الطلاق الحظر ) وانما أبيح منه قدر الحاجة كما ثبت فى الصحيح عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أن ابليس ينصب عرشه على البحر ويبعث سراياه فاقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة فيأتيه الشيطان فيقول ما زلت به حتى فعل كذا حتى يأتيه الشيطان فيقول ما زلت به حتى فرقت بينه وبين إمرأته فيدنيه منه ويقول أنت أنت ويلتزمه ) وقد قال تعالى فى ذم السحر ( ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) وفى السنن عن النبى قال ( إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات ( وفى السنن أيضا عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ) ولهذا لم يبح إلا ثلاث مرات وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره واذا كان انما أبيح للحاجة فالحاجة تندفع بواحدة فما زاد فهو باق على الحظر
الأصل الثانى أن الطلاق المحرم الذى يسمى ( طلاق البدعة ) اذا أوقعه الإنسان هل يقع أم لا فيه نزاع بين السلف والخلف والأكثرون يقولون بوقوعه مع القول بتحريمه وقال آخرون لا يقع مثل طاوو س وعكرمة وخلاس وعمر ومحمد بن إسحاق وحجاج بن أرطاة وأهل الظاهر
____________________
(33/81)
كداود وأصحابه وطائفة من أصحاب أبى حنيفة ومالك وأحمد ويروى عن أبى جعفر الباقر وجعفر بن محمد الصادق وغيرهما من أهل البيت وهو قول أهل الظاهر داود وأصحابه لكن منهم من لا يقول بتحريم الثلاث ومن أصحاب أبى حنيفة ومالك وأحمد من عرف أنه لا يقع مجموع الثلاث إذا أوقعها جميعا بل يقع منها واحدة ولم يعرف قوله فى طلاق الحائض ولكن وقوع الطلاق جميعا قول طوائف من أهل الكلام والشيعة ومن هؤلاء وهؤلاء من يقول إذا أوقع الثلاث جملة لم يقع به شيء أصلا لكن هذا قول مبتدع لا يعرف لقائله سلف من الصحابه والتابعين لهم باحسان وطوائف من أهل الكلام والشيعة لكن بن حزم من الظاهرية لا يقول بتحريم جمع الثلاث فلذا يوقعها وجمهورهم على تحريمها وأنه لا يقع إلا واحدة ومنهم من عرف قوله فى الثلاث ولم يعرف قوله فى الطلاق فى الحيض كمن ينقل عنه من أصحاب أبى حنيفة ومالك وبن عمر روى عنه من وجهين أنه لا يقع وروى عنه من وجوه أخرى أشهر وأثبت أنه يقع وروى ذلك عن زيد وأما جمع الثلاث
فأقوال الصحابة فيها كثيرة مشهورة روى الوقوع فيها عن عمر وعثمان وعلى وبن مسعود وبن عباس وبن عمر وأبى هريرة وعمران بن حصين وغيرهم وروى عدم الوقوع الوقوع فيها عن ابى بكر وعن عمر صدرا من خلافته وعن على بن أبى طالب وبن مسعود وبن عباس ايضا وعن الزبير وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهم أجمعين
____________________
(33/82)
قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث فى كتابه الذى سماه ( المقنع فى أصول الوثائق وبيان مافى ذلك من الدقائق ) وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثا فى كلمة واحدة فان فعل لزمه الطلاق ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق فقال على بن أبى طالب وبن مسعود رضى الله عنهما يلزمه طلقة واحدة وكذا قال بن عباس رضى الله عنهما وذلك لأن قوله ( ثلاثا ) لا معنى له لأنه لم يطلق ثلاث مرات لأنه إذا كان مخبرا عما مضى فيقول طلقت ثلاث مرات يخبر عن ثلاث طلقات أتت منه في ثلاثة أفعال كانت منه فذلك يصح ولو طلقها مرة واحدة فقال طلقتها ثلاث مرات لكان كاذبا وكذلك لو حلف بالله ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان وأما لو حلف بالله فقال أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة والطلاق مثله قال ومثل ذلك قال الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف روينا ذلك كله عن بن وضاح يعنى الامام محمد بن وضاح الذى يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وبن أبي شيبة ويحيى بن معين وسحنون بن سعيد وطبقتهم قال وبه قال من شيوخ قرطبة بن زنباع شيخ هدى ومحمد بن عبد السلام الحسينى فقيه عصره وبن بقى بن مخلد وأصبغ بن الحباب وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة وذكر هذا عن بضعه عشر فقيها من فقهاء طليطلة المتعبدين على مذهب مالك بن
أنس قلت وقد ذكره التلمسانى رواية عن مالك وهو قول محمد بن مقاتل الرازى من أئمة الحنفية حكاه عن المازنى وغيره وقد ذكر هذا رواية عن
____________________
(33/83)
مالك وكان يفتى بذلك أحيانا الشيخ أبو البركات بن تيمية وهو وغيره يحتجون بالحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه وأبو داود وغيرهما عن طاووس عن بن عباس أنه قال كان الطلاق على عهد رسول الله وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد إستعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم وفى رواية أن أبا الصهباء قال لإبن عباس هات من هناتك ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبى بكر واحدة قال قد كان ذلك فلما كان فى عهد عمر تتابع الناس فى الطلاق فأمضاه عليهم وأجازه
والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفه وكذلك كل حديث فيه أن النبى ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة أو أن احدا فى زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك مثل حديث يروى عن على وآخر عن عبادة بن الصامت وآخر عن الحسن عن بن عمر وغير ذلك فكلها احاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعه ويعرف اهل العلم بنقد الحديث انها موضوعه كما هو مبسوط فى موضعه
وأقوى ما ردوه به أنهم قالوا ثبت عن بن عباس من غير وجه أنه أفتى بلزوم الثلاث
____________________
(33/84)
وجواب المستدلين ان بن عباس روى عنه من طريق عكرمة ايضا انه كان يجعلها واحدة ) وثبت عن عكرمة عن بن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعا إلى النبى وموقوفا على بن عباس ولم يثبت خلاف ذلك عن النبى فالمرفوع ( ان ركانه طلق امراته ثلاثا فردها عليه النبى ( قال الإمام أحمد بن حنبل فى مسنده حدثنا سعيد بن ابراهيم حدثنا ابى عن بن إسحاق حدثنى داود بن الحصين عن عكرمة مولى بن عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بنى المطلب امرأته ثلاثا فى مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كيف طلقتها ) قال فقال طلقتها ثلاثا قال ( فى مجلس واحد ) قال نعم قال ( فانها تلك واحدة فارجعها إن شئت ) قال فراجعها وكان بن عباس يقول إنما الطلاق عند كل طهر
قلت وهذا الحديث قال فيه بن إسحاق حدثنى داود وداود من شيوخ مالك ورجال البخارى وبن إسحاق إذا قال حدثنى فهو ثقة عند أهل الحديث وهذا إسناد جيد وله شاهد من وجه آخر رواه ابو داود فى السنن ولم يذكر أبو داود هذا الطريق الجيد فلذلك ظن أن تطليقة واحدة بائنا اصح وليس الأمر كما قاله بل الإمام أحمد رجح هذه الرواية على تلك وهو كما قال أحمد وقد بسطنا الكلام على ذلك فى موضع آخر
____________________
(33/85)
وهذا المروى عن بن عباس في حديث ركانة من وجهين وهو رواية عكرمة عن بن عباس من وجهين عن عكرمة وهو أثبت من رواية عبد الله بن على بن يزيد بن ركانة ونافع بن عجين أنه طلقها البتة و ( ان النبى أستحلفه فقال ما أردت إلا واحدة ) فان هؤلاء مجاهيل لا تعرف أحوالهم وليسوا فقهاء وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنبل وأبو عبيد وبن حزم وغيرهم وقال أحمد بن حنبل حديث ركانة فى البتة ليس بشيء وقال أيضا حديث ركانة لا يثبت انه طلق إمرأته البتة لأن بن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عباس ( أن ركانة طلق امرأته ثلاثا ) وأهل المدينة يسمون ( ثلاثا ) البتة فقد إستدل أحمد على بطلان حديث البتة بهذا الحديث الآخر الذى فيه أنه طلقها ثلاثا وبين أن أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق البتة وهذا يدل على ثبوت الحديث عنده وقد بينه غيره من الحفاظ وهذا الإسناد وهو قول بن إسحاق حدثنى داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عباس هو اسناد ثابت عن أحمد وغيره من العلماء وبهذا الإسناد روى ( أن النبى صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول ) وصحح ذلك أحمد وغيره من العلماء وبن إسحاق اذا قال حدثنى فحديثه صحيح عند أهل الحديث إنما يخاف عليه التدليس إذا عنعن وقد روى أبو داود فى سننه هذا عن بن عباس من وجه آخر وكلاهما يوافق حديث طاووس عنه وأحمد كان يعارض حديث طاووس بحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا ونحوه
____________________
(33/86)
وكان أحمد يرى جمع الثلاث جائزا ثم رجع أحمد عن ذلك وقال تدبرت القرآن فوجدت الطلاق الذى فيه هو الرجعى أو كما قال واستقر مذهبه على ذلك وعليه جمهور اصحابه وتبين من حديث فاطمة أنها كانت مطلقة ثلاثا متفرقات لا مجموعة وقد ثبت عنده حديثان عن النبى صلى الله عليه وسلم أن من جمع ثلاثا لم يلزمه الا واحدة وليس عن النبى ما يخالف ذلك بل القرآن يوافق ذلك والنهى عنده يقتضى الفساد فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضى من مذهبه أنه لا يلزمه الا واحدة وعدوله عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولا لما عارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث فكان ذلك يدل على النسخ ثم انه رجع عن المعارضة وتبين له فساد هذا المعارض وان جمع الثلاث لا يجوز فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن المعارض وليس يعل حديث طاووس بفتيا بن عباس بخلافه وهذا علمه فى احدى الروايتين عنه ولكن ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه إن ذلك لا يقدح في العمل بالحديث لا سيما وقد بين بن عباس عذر عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى الإلزام بالثلاث وبن عباس عذره هو العذر الذى ذكره عن عمر رضى الله عنه وهو ان الناس لما تتابعوا فيما حرم الله عليهم استحقوا العقوبة على ذلك فعوقبوا بلزومه بخلاف ما كانوا عليه قبل ذلك فانهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم
____________________
(33/87)
وهذا كما أنهم لما أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها كان عمر يضرب فيها ثمانين وينفى فيها ويحلق الرأس ولم يكن ذلك على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وكما قاتل على بعض أهل القبلة ولم يكن ذلك على عهد النبى والتفريق بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به أحيانا إما مع بقاء النكاح وإما بدونه فالنبى صلى الله عليه وسلم فرق بين الثلاثة الذين خلفوا وبين نسائهم حتى تاب الله عليهم من غير طلاق والمطلق ثلاثا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ليمتنع عن الطلاق وعمر بن الخطاب ومن وافقه كمالك وأحمد فى احدى الروايتين حرموا المنكوحة فى العدة على الناكح أبدا لأنه استعجل ما أحله الله فعوقب بنقيض قصده والحكمان لهما عند أكثر السلف ان يفرقا بينهما بلا عوض إذا رأيا الزوج ظالما معتديا لما فى ذلك من منعه من الظلم ودفع الضرر عن الزوجه ودل على ذلك الكتاب والسنة والآثار وهو قول مالك وأحد القولين فى مذهب الشافعى وأحمد والزام عمر بالثلاث لما أكثروا منه إما أن يكون رآه عقوبة تستعمل وقت الحاجة وإما أن يكون رآه شرعا لازما لإعتقاده أن الرخصة كانت لما كان المسلمون لا يوقعونه إلا قليلا
وهكذا كما اختلف كلام الناس فى نهيه عن المتعه هل كان نهى اختيار لأن إفراد الحج بسفرة والعمرة بسفره كان أفضل من التمتع أو كان قد نهى عن الفسح لإعتقاده انه كان مخصوصا بالصحابه وعلى التقديرين فالصحابه قد
____________________
(33/88)
نازعوه فى ذلك وخالفه كثير من أئمتهم من أهل الشورى وغيرهم فى المتعة وفى الإلزام بالثلاث واذا تنازعوا فى شيء وجب ردما تنازعوا فيه إلى الله والرسول كما أن عمر كان يرى أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى ونازعه فى ذلك كثير من الصحابة وأكثر العلماء على قولهم وكان هو وبن مسعود يريان أن الجنب لا يتيمم وخالفهما عمار وأبو موسى وبن عباس وغيرهم من الصحابه وأطبق العلماء على قول هؤلاء لما كان معهم الكتاب والسنة والكلام على هذا كثير مبسوط فى موضع آخر والمقصود هنا التنبيه على ما أخذ الناس به
والذين لا يرون الطلاق المحرم لازما يقولون هذا هو الأصل الذى عليه أئمة الفقهاء كمالك والشافعى وأحمد وغيرهم وهو أن ايقاعات العقود المحرمة لا تقع لازمة كالبيع المحرم والنكاح المحرم والكتابة المحرمة ولهذا أبطلوا نكاح الشغار ونكاح المحلل وأبطل م الك وأحمد البيع يوم الجمعة عند النداء وهذا بخلاف الظهار المحرم فان ذلك نفسه محرم كما يحرم القذف وشهادة الزور واليمين الغموس وسائر الأقوال التى هي فى نفسها محرمة فهذا لا يمكن أن ينقسم إلى صحيح وغير صحيح بل صاحبها يستحق العقوبة بكل حال فعوقب المظاهر بالكفارة ولم يحصل ما قصده به من الطلاق فانهم كانوا يقصدون به الطلاق وهو موجب لفظه فابطل الشارع ذلك لأنه قول محرم وأوجب فيه الكفارة أما الطلاق فجنسه مشروع كالنكاح والبيع فهو يحل تارة ويحرم تارة
____________________
(33/89)
فينقسم إلى صحيح وفاسد كما ينقسم البيع والنكاح والنهى فى هذا الجنس يقتضى فساد المنهى عنه ولما كان أهل الجاهلية يطلقون بالظهار فابطل الشارع ذلك لأنه قول محرم كان مقتضى ذلك أن كل قول محرم لا يقع به الطلاق وإلا فهم كانوا يقصدون الطلاق بلفظ الظهار كلفظ الحرام وهذا قياس أصل الأئمة مالك والشافعى وأحمد
ولكن الذين خالفوا قياس أصولهم فى الطلاق خالفوه لما بلغهم من الآثار فلما ثبت عندهم عن بن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة التى طلق امرأته وهى حائض قالوا هم أعلم بقصته فاتبعوه فى ذلك ومن نازعهم يقول ما زال بن عمر وغيره يروون أحاديث ولا تأخذ العلماء بما فهموه منها فان الإعتبار بما رووه لا بما رأوه وفهموه وقد ترك جمهور العلماء قول بن عمر الذى فسر به قوله ( فاقدروا له ) وترك مالك وأبو حنيفة وغيرهما تفسيره لحديث ( البيعين بالخيار ) مع أن قوله هو ظاهر الحديث وترك جمهور العلماء تفسيره لقوله ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) وقوله نزلت هذه الآية فى كذا وكذلك إذا خالف الراوى ما رواه كما ترك الأئمة الأربعة وغيرهم قول بن عباس أن بيع الأمة طلاقها مع أنه روى حديث بريرة وأن النبى خيرها بعد أن بيعت وعتقت فان الإعتبار بما رووه لا ما رأوه وفهموه
____________________
(33/90)
ولما ثبت عندهم عن أئمة الصحابه أنهم الزموا بالثلاث المجموعة قالوا لا يلزمون بذلك إلا وذلك مقتضى الشرع واعتقد طائفة لزوم هذا الطلاق وان ذلك إجماع لكونهم لم يعلموا خلافا ثابتا لا سيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق
قال المستدلون هؤلاء الذين هم بعض الشيعة وطائفة من أهل الكلام يقولون جامع الثلاث لا يقع به شيء هذا القول لا يعرف عن أحد من السلف بل قد تقدم الإجماع على بعضه وإنما الكلام هل يلزمه واحدة أو يقع ثلاث والنزاع بين السلف فى ذلك ثابت لا يمكن رفعه وليس مع من جعل ذلك شرعا لازما للأمة حجة يجب أتباعها من كتاب ولا سنة ولا إجماع وان كان بعضهم قد احتج على هذا بالكتاب وبعضهم بالسنة وبعضهم بالإجماع وقد احتج بعضهم بحجتين أو أكثر من ذلك لكن المنازع يبين أن هذه كلها حجج ضعيفة وان الكتاب والسنة والإعتبار انما تدل على نفى اللزوم وتبين أنه لا اجماع فى المسألة بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة عن الصحابة تدل على انهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته شرعا لازما كما شرع تحريم المرأة بعد الطلقة الثالثة بل كانوا مجتهدين فى العقوبة بالزام ذلك إذا كثر ولم ينته الناس عنه
____________________
(33/91)
وقد ذكرت الألفاظ المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصى الله بايقاعها جملة فاما من كان يتقى الله فان الله يقول ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) فمن لا يعلم التحريم حتى أوقعها ثم لما علم التحريم تاب والتزم أن لا يعود إلى المحرم فهذا لا يستحق أن يعاقب وليس فى الأدلة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع والقياس ما يوجب لزوم الثلاث له ونكاحة ثابت بيقين وامرأته محرمة على الغير بيقين وفى الزامه بالثلاث اباحتها للغير مع تحريمها عليه وذريعه إلى نكاح التحليل الذى حرمه الله ورسوله
ونكاح التحليل لم يكن ظاهرا على عهد النبى وخلفائه ولم ينقل قط أن امرأة أعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إلى زوجها بنكاح تحليل بل ( لعن النبى المحلل والمحلل له ) و ( لعن آكل الربا وموكله وشاهدية وكاتبه ولم يذكر فى التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولى لأن التحليل الذى كان يفعل كان مكتوما بقصد المحلل أو يتواطأ عليه هو والمطلق المحلل له والمرأة ووليها لا يعلمون قصده ولو علموا لم يرضوا أن يزوجوه فانه من أعظم المستقبحات والمنكرات عند الناس ولأن عاداتهم لم تكن بكتابة الصداق فى كتاب ولا إشهاد عليه بل كانوا يتزوجون ويعلنون النكاح ولا يلتزمون أن يشهدوا عليه شاهدين وقت العقد كما هو
____________________
(33/92)
مذهب مالك وأحمد فى احدى الروايتين عنه وليس عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الإشهاد على النكاح حديث صحيح هكذا قال أحمد بن حنبل وغيره فلما لم يكن على عهد عمر رضى الله عنه تحليل ظاهر ورأى فى إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن المحرم فعل ذلك بإجتهاده أما اذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة وانفاذ الثلاث يفضى إلى وقوع التحليل المحرم بالنص وإجماع الصحابة والإعتقاد وغير ذلك من المفاسد لم يجز أن يزال مفسدة حقيقية بمفاسد أغلظ منها بل جعل الثلاث واحدة فى مثل هذا الحال كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر أولى ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبى البركات يفتون بلزوم الثلاث فى حال دون حال كما نقل عن الصحابة وهذا إما لكونهم رأوه من ( باب التعزير ) الذى يجوز فعله بحسب الحاجة كالزيادة على أربعين فى الخمر والنفى فيه وحلق الرأس واما لاختلاف اجتهادهم فرأوه تا رة لازما وتارة غير لازم
وبالجملة فما شرعه النبى لأمته ( شرعا لازما ) إنما لا يمكن تغييره لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا لاسيما الصحابة لا سيما الخلفاء الراشدون وإنما يظن ذلك فى الصحابة أهل الجهل والضلال كالرافضة والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه ولو قدر أن أحدا فعل ذلك
____________________
(33/93)
لم يقره المسلمون على ذلك فان هذا اقرار على أعظم المنكرات والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك وقد نقل عن طائفة كعيسى بن ابان وغيره من أهل الكلام والرأى من المعتزلة وأصحاب أبى حنيفة ومالك ان الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم أن الإجماع يدل على نص ناسخ فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخا فان كانوا أرادوا ذلك فهذا قول يجوز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم كما تقول النصارى من أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة وليس هذا دين المسلمين ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم ومن اعتقد فى الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك فانه يستتاب كما يستتاب أمثاله ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتى فيصيب فيكون له أجران ويخطىء فيكون له أجر واحد
وما شرعه النبى صلى الله عليه وسلم ( شرعا معلقا بسبب ) انما يكون مشروعا عند وجود السبب كاعطاء المؤلفة قلوبهم فانه ثابت بالكتاب والسنة وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روى عن عمر أنه ذكر أن الله أغنى عن التألف فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا الظن غلط ولكن عمر إستغنى فى زمنه عن اعطاء المؤلفة قلوبهم فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه كما لو فرض أنه عدم فى بعض الأوقات بن السبيل والغارم ونحو ذلك
____________________
(33/94)
( ومتعه الحج ) قد روى عن عمر أنه نهى عنها وكان ابنه عبد الله بن عمر وغيره يقولون لم يحرمها وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل وهو أن يعتمر أحدهم من دويره أهله فى غير اشهر الحج فان هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة حتى إن مذهب أبى حنيفة وأحمد منصوص عنه أنه إذا اعتمر فى غير أشهر الحج وأفرد الحج فى أشهره فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد ومن الناس من قال إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة قالوا إن هذا محرم به لا يجوز وأن ما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه من الفسخ كان خاصا بهم وهذا قول كثير من الفقهاء كأبى حنيفة ومالك والشافعى وآخرون من السلف والخلف قابلوا هذا وقالوا بل الفسخ واجب ولا يجوز أن يحج أحد إلا متمتعا مبتدأ أو فاسخا كما أمر النبى أصحابه فى حجة الوداع وهذا قول بن عباس وأصحابه ومن اتبعه من أهل الظاهر والشيعة والقول الثالث ) أن الفسخ جائز وهو أفضل ويجوز أن لا يفسخ وهو قول كثير من السلف والخلف كاحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث ولا يمكن الإنسان أن يحج حجة مجمعا عليها إلا أن يحج متمتعا ابتداء من غير فسخ فأما حج المفرد والقارن ففيه نزاع معروف بين السلف والخلف كما تنازعوا فى جواز الصوم فى السفر وجواز الإتمام فى السفر ولم يتنازعوا فى جواز الصوم والقصر فى الجملة
____________________
(33/95)
وعمر لما نهى عن المتعة خالفة غيره من الصحابة كعمران بن حصين وعلى بن ابى طالب وعبد الله بن عباس وغيرهم بخلاف نهيه عن متعة النساء فان عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك وانكر على على بن عباس إباحة المتعة قال إنك امرؤ تائه إن رسول الله حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر فانكر على بن ابى طالب على بن عباس إباحة الحمر وإباحة متعة النساء لأن بن عباس كان يبيح هذا وهذا فأنكر عليه علي ذلك وذكر له ) ( أن رسول الله حرم المتعة وحرم الحمر الأهلية ) ويوم خيبر كان تحريم الحمر الأهلية وأما تحريم المتعة فانه عام فتح مكة كما ثبت ذلك فى الصحيح وظن بعض الناس أنها حرمت ثم أبيحت ثم حرمت فظن بعضهم أن ذلك ثلاثا وليس الأمر كذلك
فقول عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا فى أمر كانت لهم فيه أناة فلو أنفذناه عليهم فانفذه عليهم هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث فهذا إما أن يكون كالنهى عن متعة الفسخ لكون ذلك كان ذلك مخصوصا بالصحابة وهو باطل فان هذا كان على عهد أبى بكر ولأنه لم يذكر ما يوجب إختصاص الصحابه بذلك وبهذا أيضا تبطل دعوى من ظن ذلك منسوخا كنسخ متعة النساء وإن قدر أن عمر رأى ذلك لازما فهو إجتهاد منه إجتهده فى المنع من فسخ الحج لظنه أن ذلك كان خاصا
____________________
(33/96)
وهذا قول مرجوح قد أنكره غير واحد من الصحابه والحجة الثانية هي مع من أنكره وهكذا الإلزام بالثلاث من جعل قول عمر فيه شرعا لازما قيل له فهذا إجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة واذا تنازعوا فى شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح
وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة وهذا أشبه الأمرين بعمر ثم العقوبة بذلك يدخلها الإجتهاد من ( وجهين ) من جهة أن العقوبة بذلك هل تشرع أم لا فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يرى العقوبة به غيره كتحريق على الزنادقة بالنار وقد أنكره عليه بن عباس وجمهور الفقهاء مع بن عباس ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها فمن كان من ( المتقين ) استحق أن يجعل الله له فرجا ومخرجا لم يستحق العقوبة ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم أن لا يطلق الا طلاقا سنيا فانه من ( المتقين ) فى باب الطلاق فمثل هذا لا يتوجه الزامه بالثلاث مجموعة بل يلزم بواحدة منها وهذه المسائل عظيمة وقد بسطنا الكلام عليها فى موضع آخر من مجلدين وانما نبهنا عليها ها هنا تنبيها لطيفا
والذى يحمل عليه اقوال الصحابة أحد أمرين إما انهم رأوا ذلك من باب التعزير الذى يجوز فعله بحسب الحاجة كالزيادة على أربعين فى الخمر
____________________
(33/97)
وإما لا ختلاف اجتهادهم فرأوه لازما وتارة غير لازم وأما القول بكون لزوم الثلاث شرعا لا زما كسائر الشرائع فهذا لا يقوم عليه دليل شرعى وعلى هذا القول الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة ويراجع امرأته ولا يلزمه شيء لكونها كانت حائضا اذا كان ممن اتقى الله وتاب من البدعة فصل
وأما الطلاق فى الحيض فمنشأ النزاع فى وقوعه أن النبى قال لعمر بن الخطاب لما أخبره ان عبد الله بن عمر طلق إمرأته وهى حائض ( مره فليراجعها ) حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ( فمن العلماء من فهم من قوله ( فليراجعها ( انها رجعة المطلقة وبنوا على هذا أن المطلقة فى الحيض يؤمر برجعتها مع وقوع الطلاق وهل هو أمر إستحباب أو أمر ايجاب على ( قولين ( هما روايتان عن أحمد والإستحباب مذهب أبى حنيفة والشافعى والوجوب مذهب مالك وهل يطلقها في الطهر الأول الذي يلي حيضة الطلاق أو لا يطلقها إلا في طهر من حيضة ثانية على ( قولين ) أيضا هما روايتان عن أحمد ووجهان فى قول أبى حنيفة وهل عليه أن يطأها قبل الطلاق الثانى جمهورهم لا يوجبه ومنهم من يوجبه وهو وجه فى مذهب أحمد وهو قوى على قياس قول من يوقع الطلاق لكنه ضعيف فى الدليل
____________________
(33/98)
وتنازعوا فى عله منع طلاق الحائض هل هو تطويل العدة كما يقوله أصحاب مالك والشافعى وأكثر أصحاب أحمد أو لكونه حال الزهد فى وطئها فلا تطلق إلا فى حال رغبة فى الوطء لكون الطلاق ممنوعا لا يباح إلا لحاجة كما يقول أصحاب أبى حنيفة وأبو الخطاب من أصحاب أحمد أو هو تعبد لا يعقل معناه كما يقوله بعض المالكية على ثلاثة أقوال
ومن العلماء من قال قوله ( مره فليراجعها ) لا يستلزم وقوع الطلاق بل لما طلقها طلاقا محرما حصل منه اعراض عنها ومجانبة لها لظنه وقوع الطلاق فأمره أن يردها إلى ما كانت كما قال فى الحديث الصحيح لمن باع صاعا بصاعين ( هذا هو الربا فرده ) وفى الصحيح عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين فجزأهم النبي ثلاثة أجزاء فاعتق اثنين ورد أربعة للرق ( وفى السنن عن بن عباس ( أن النبى رد زينب على زوجها أبى العاص بالنكاح الأول ( فهذا رد لها وأمر على بن أبى طالب أن يرد الغلام الذى باعه دون أخيه وأمر بشيرا أن يرد الغلام الذى وهبه لإبنه ونظائر هذا كثيرة
ولفظ ( المراجعة ( تدل على العود إلى الحال الأول ثم قد يكون ذلك بعقد جديد كما فى قوله تعالى ( فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا وقد يكون برجوع بدن كل منهما إلى صاحبة وإن لم يحصل هناك طلاق كما
____________________
(33/99)
إذا أخرج الزوجه أو الأمة من داره فقيل له راجعها فأرجعها كما فى حديث على حين راجع الأمر بالمعروف وفى كتاب عمر لأبى موسى وأن تراجع الحق فان الحق قديم
وإستعمال لفظ ( المراجعة ( يقتضى المفاعلة والرجعة من الطلاق يستقل بها الزوج بمجرد كلامه فلا يكاد يستعمل فيها لفظ المراجعة بخلاف ما إذا رد بدن المرأة إليه فرجعت بإختيارها فانهما قد تراجعا كما يتراجعان بالعقد باختيارهما بعد أن تنكح زوجا غيره والفاظ الرجعة من الطلاق هي الرد والإمساك وتستعمل فى إستدامة النكاح كقولة تعالى { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك } ولم يكن هناك طلاق وقال تعالى ( الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان ) والمراد به الرجعة بعد الطلاق والرجعة يستقل بها الزوج ويؤمر فيها بالإشهاد والنبى لم يأمر بن عمر بالإشهاد وقال ( مره فليراجعها ( ولم يقل ليرتجعها
( وأيضا ) فلو كان الطلاق قد وقع كان ارتجاعها ليطلقها فى الطهر الأول أو الثانى زيادة وضررا عليها وزيادة فى الطلاق المكروه فليس فى ذلك مصلحة لا له ولا لها بل فيه إن كان الطلاق قد وقع بارتجاعه ليطلق مرة ثانية زيادة ضرر وهو لم يمنعه عن الطلاق بل إباحة له فى إستقبال
____________________
(33/100)
الطهر مع كونه مريدا له فعلم انه إنما أمره أن يمسكها وأن يؤخر الطلاق إلى الوقت الذى يباح فيه كما يؤمر من فعل شيء قبل وقته أن يرد ما فعل ويفعله ان شاء فى وقته لقوله صلى الله عليه وسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) والطلاق المحرم ليس عليه أمر الله ورسوله فهو مردود وأمره بتأخير الطلاق إلى الطهر الثانى ليتمكن من الوطء فى الطهر الأول فانه لو طلقها فيه لم يجز أن يطلقها إلا قبل الوطء فلم يكن فى أمره بإمساكها إليه إلا بزيادة ضرر عليها إذا طلقها فى الطهر الأول
( وأيضا ) فإن ذلك معاقبه له على أن يعمل ما أحله الله فعوقب بنقيض قصده وبسط الكلام فى هذه المسألة وإستيفاء كلام الطائفتين له موضع آخر وإنما المقصود هنا التنبيه على الأقوال ومأخذها لا ريب أن الأصل بقاء النكاح ولا يقوم دليل شرعى على زواله بالطلاق المحرم بل النصوص والأصول تقتضى خلاف ذلك والله أعلم
____________________
(33/101)
& باب طلاق السكران ونحوه
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن ( السكران غائب العقل ) هل يحنث إذا حلف بالطلاق أم لا فأجاب الحمد لله رب العالمين هذه المسألة فيها ( قولان ) للعلماء أصحهما أنه لا يقع طلاقه فلا تنعقد يمين السكران ولا يقع به طلاق إذا طلق وهذا ثابت عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ولم يثبت عن الصحابة خلافه فيما أعلم وهو قول كثير من السلف والخلف كعمر بن عبد العزيز وغيره وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابة وهو القول القديم للشافعى واختاره طائفة من أصحابه وهو قول طائفة من أصحاب أبى حنيفة كالطحاوى وهو مذهب غير هؤلاء
وهذا القول هو الصواب فإنه قد ثبت فى الصحيح عن ماعز بن مالك لما جاء إلى النبى وأقر أنه زنى ( أمر النبى أن يستنكهوه ) ليعلموا هل هو سكران أم لا فإن كان سكران لم يصح إقراره وإذا لم يصح إقراره علم أن أقواله باطلة كأقوال المجنون ولأن
____________________
(33/102)
السكران وإن كان عاصيا فى الشرب فهو لا يعلم ما يقول وإذا لم يعلم ما يقول لم يكن له قصد صحيح ( وإنما الأعمال بالنيات ) وصار هذا كما لو تناول شيئا محرما جعله مجنونا فإن جنونه وإن حصل بمعصية فلا يصح طلاقه ولا غير ذلك من أقواله
ومن تأمل أصول الشريعة ومقاصدها تبين له أن هذا القول هو الصواب وأن إيقاع الطلاق بالسكران قول ليس له حجة صحيحة يعتمد عليها ولهذا كان كثير من محققى مذهب مالك والشافعى كأبى الوليد الباجى وأبى المعالى الجوينى يجعلون الشرائع فى النشوان فأما الذى علم أنه لا يدرى ما يقول فلا يقع به طلاق بلا ريب والصحيح أنه لا يقع الطلاق إلا ممن يعلم ما يقول كما أنه لا تصح صلاته فى هذه الحالة ومن لا تصح صلاته لا يقع طلاقه وقد قال ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن ( تصرفات السكران ) قد تنازع الناس فيه قديما وحديثا وفيه النزاع فى مذهب أحمد وغيره وكثير من أجوبة أحمد فيه كان التوقف والأقوال الواقعة فى مذهب أحمد وغيره القول بصحة تصرفاته مطلقا أقواله وأفعاله والقول بفسادها مطلقا والفرق بين أقواله وأفعاله والفرق بين الحدود وغيرها والفرق
____________________
(33/103)
بين ماله وما عليه وما ينفرد به وما لا ينفرد به وهذا التنازع موجود فى مذهب أحمد وغيره
ثم تنازعوا فيمن زال عقله بغير سكر ( كالبنج ) هل يلحق بالسكران أو المجنون على قولين فى مذهب أحمد وغيره وكل من أصحاب أحمد يتمسك فى ذلك بشيء من كلامه وليس عنه رواية ووجها بل روايتان متأولتان
وتنازعوا فيمن أكره على شرب الخمر ( هل يأثم بذلك على وجهين
ومن أصحاب أحمد كالخلال من ينصر أنه لا يقع عليه طلاقه ومنهم كالقاضى من ينصر وقوع طلاقه والذين أوقعوا طلاقه لهم ( ثلاثة مآخذ (
( أحدها ( أن ذلك عقوبة له وصاحب هذا قد يفرق بين الحدود وغيرها وهذا ضعيف فان الشريعة لم تعاقب أحدا بهذا الجنس من ايقاع الطلاق أو عدم إيقاعه ولأن فى هذا من الضرر على زوجته البريئة وغيرها ما لا يجوز فانه لا يجوز أن يعاقب الشخص بذنب غيره ولأن السكران عقوبته ما جاءت به الشريعة من الجلد ونحوه فعقوبته بغير ذلك تغيير لحدود الشريعة ولأن الصحابة إنما عاقبته بما لسكر مظنته وهو الهذيان والإفتراء
____________________
(33/104)
فى القول على أنه إذا سكر هذى وإذا هذى إفترى وحد المفترى ثمانون فبين أن اقدامه على السكر الذى هو مظنه الإفتراء يلحقه بالمقدم على الإفتراء إقامة لمظنه الحكمة مقام الحقيقة لأن الحكمة هنا خفية مستترة لأنه قد لا يعلم إفتراؤه ولا متى يفترى ولا على من يفترى كما أن المضطجع يحدث ولا يدرى هل هو أحدث أم لا فقام النوم مقام الحدث فهذا فقه معروف فلو كانت تصرفاته من هذا الجنس لكان ينبغى ان تطلق امرأته سواء طلق أو لم يطلق كما يحد حد المفترى سواء افترى أو لم يفتر وهذا لا يقوله أحد
( المأخذ الثانى ) أنه لا يعلم زوال عقلة إلا بقوله وهو فاسق بشربه فلا يقبل قوله فى عدم العقل والسكر وحقيقة هذا القول أنه لا يقع الطلاق فى الباطن ولكن فى الظاهر لا يقبل دعوى المسقط ومن قال بهذا قد يفرق بين ما ينفرد به
( المأخذ الثالث ) وهو مأخذ الأئمة منصوصا عنهم الشافعى وأحمد أن حكم التكليف جار عليه ليس كالمجنون المرفوع عنه القلم ولا النائم وذلك أن القلم مرفوع عن المجنون والسكران معاقب كما ذكره الصحابه وليس مأخذ أجود من هذا وكذلك قال أحمد ما قيل فيه أحسن من هذا وهذا ضعيف أيضا فانه ان أريد أنه وقت السكر يؤمر وينهى فهذا باطل فان من
____________________
(33/105)
لا عقل له ولا يفهم الخطاب لم يدر بشرع ولا غيره على أنه يؤمر وينهى بل أدلة الشرع والعقل تنفى أن يخاطب مثل هذا وان أريد أنه قد يؤاخذ بما يفعله فى سكره فهذا صحيح فى الجملة لكن هذا لأنه خوطب فى صحوه بان لا يشرب الخمر الذى يقتضى تلك الجنايات فاذا فعل المنهى عنه لم يكن معذورا فيما فعله من المحرم كما قلت فى سكر الأحوال الباطنه اذا كان سبب السكر محذورا لم يكن السكران معذورا هذا الذى قلته قد يقتضى أنه فى الحدود كالصاحى وهذا قريب وأنا إنما تكلمت على تصرفاته صحتها وفسادها وأما قوله تعلى ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) فهو نهى لهم أن يسكروا سكرا يفوتون به الصلاة أو نهى لهم عن الشرب قريب الصلاة أو نهى لمن يدب فيه أوائل النشوة وأما فى حال السكر فلا يخاطب بحال
والدليل على أنه لا تصح تصرفاته وجوه
( أحدها ( حديث جابر بن سمرة الذى فى صحيح مسلم لما ( أمر النبى بإستكناه ماعز بن مالك (
( الثانى ( أن عبادته كالصلاة لا تصح بالنص والإجماع فان الله نهى عن قرب الصلاة مع السكر حتى يعلم ما يقوله واتفق الناس على هذا بخلاف الشارب غير السكران فان عبادته تصح بشروطها ومعلوم أن صلاته إنما لم تصح لأنه لم يعلم ما يقول كما دل عليه القرآن فنقول كل من بطلت
____________________
(33/106)
عبادته لعدم عقله فبطلان عقودة أولى وأحرى كالنائم والمجنون ونحوهما فانه قد تصح عبادات من لا يصح تصرفه لنقص عقله كالصبى والمحجور عليه لسفه ( الثالث ( أن جميع الأقوال والعقود مشروطة بوجود التمييز والعقل فمن لا تمييز له ولا عقل ليس لكلامه فى الشرع إعتبار اصلا كما قال النبى ( إن فى الجسد مضغة اذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد الا وهى القلب ( فاذا كان القلب قد زال عقله الذى به يتكلم ويتصرف فكيف يجوز أن يجعل له أمر ونهى أو إثبات ملك أو إزالته وهذا معلوم بالعقل مع تقرير الشارع له
( والرابع ( أن العقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالقصود كما قال النبى ( إنما الأعمال بالنيات ( وقد قررت هذه القاعدة فى ( كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل ( وقررت أن كل لفظ بغير قصد من المتكلم لسهو وسبق لسان وعدم عقل فانه لا يترتب عليه حكم وأما اذا قصد اللفظ ولم يقصد معناه كالهازل فهذا فيه تفصيل والمراد هنا ( بالقصد ( القصد العقلى الذى يختص بالعقل فأما القصد الحيوانى الذى يكون لكل حيوان فهذا لابد منه فى وجود الأمور الإختيارية من الألفاظ والأفعال وهذا وحده غير كاف فى صحة العقود والأقوال فان المجنون والصبى وغيرهما لهما
____________________
(33/107)
هذا القصد كما هو للبهائم ومع هذا فأصواتهم وألفاظهم باطلة مع عدم التمييز لكن الصبى المميز والمجنون الذى يميز أحيانا يعتبر قوله حين التمييز
( الخامس ( أن هذا من باب خطاب الوضع والإخبار لا من باب خطاب التكليف وذلك أن كون السكران معاقبا أو غير معاقب ليس له تعلق بصحة عقوده وفسادها فان العقود ليست من باب العبادات التى يثاب عليها ولا الجنايات التى يعاقب عليها بل هي من التصرفات التى يشترك فيها البر والفاجر والمؤمن والكافر وهي من لوازم وجود الخلق فإن العهود والوفاء بها أمر لاتتم مصلحة الآدميين الا بها لا حتياج بعض الناس إلى بعض فى جلب المنافع ودفع المضار وانما تصدر عن العقل فمن لم يكن له عقل ولا تمييز لم يكن قد عاهد ولا حلف ولا باع ولا نكح ولا طلق ولا اعتق
يوضع ذلك أنه معلوم أن قبل تحريم الخمر كان كلام السكران باطلا بالإتفاق ولهذا لما تكلم حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه فى سكره قبل التحريم بقوله هل أنتم إلا عبيد لأبى لم يكن مؤاخذا عليه وكذالك لما خلط المخلط من المهاجرين الأولين فى سورة { قل يا أيها الكافرون } قبل النهى لم يعتب عليه وكذلك الكفار لو شربوا الخمر وعاهدوا وشرطوا لم يلتفت إلى ذلك منهم بالاتفاق ومن سكر سكرا لا يعاقب عليه مثل أن يشرب مالا يعلم أنه يسكره ونحو ذلك فأما من سكر بشرب محرم فلا ريب أنه يأثم
____________________
(33/108)
بذلك ويستحق من عقوبة الدنيا والآخرة ما جاء به أمر الله تعالى فهذا الفرق ثابت بينه وبين من سكر سكرا يعذر فيه فاما كون عهده الذى يعاهد به الآدميين منعقدا يترتب عليه أثره ويحصل به مقصوده فهذا لا فرق فيه بين سكر المعذور وغير المعذور لان هذا إنما كان الموجب لصحته أن صاحبه فعله وهو عاقل مميز لا أنه بروفاجر والشرع لم يجعل السكران بمنزله الصاحى أصلا
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل اختصم مع زوجته خصومة شديدة بحيث تغير عقله فقال لزوجته أنت طالق ثلاثا فهل يجب بذلك أم لا
فأجاب أذا بلغ الأمر إلى أن لا يعقل ما يقول كالمجنون لم يقع به شيء والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجل غضب فقال طالق ولم يذكر زوجته واسمها
فأجاب إن لم يقصد بذلك تطليقها لم يقع بهذا اللفظ طلاق
____________________
(33/109)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أكره على الطلاق
فأجاب إذا أكره بغير حق على الطلاق لم يقع به عند جماهير العلماء كمالك والشافعى وأحمد وغيرهم وهو المأثور عن أصحاب رسول الله كعمر بن الخطاب وغيره وإذا كان حين الطلاق قد أحاط به أقوام يعرفون بأنهم يعادونه أو يضربونه ولا يمكنه إذ ذاك أن يدفعهم عن نفسه وادعى أنهم أكرهوه على الطلاق قبل قوله فإن كان الشهود بالطلاق يشهدون بذلك وادعى الإكراه قبل قوله وفى تحليفه نزاع
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل مسك وضرب وسحبنوه وغصبوه على طلاق زوجته فطلقها طلقة واحدة وراحت وهى حاملة منه
____________________
(33/110)
فأجاب الحمد لله هذا الطلاق لا يقع وأما نكاحها وهى حامل من الزوج الأول فهو نكاح باطل بإجماع المسلمين ولو كان الطلاق قد وقع فكيف إذا لم يكن قد وقع ويعزر من أكرهه على الطلاق ومن تولى هذا النكاح المحرم الباطل ويجب التفريق بينهما حتى تقضى العدة من الأول بالوضع والعدة من الثانى فيها خلاف ان كان يعلم أن النكاح محرم فالصحيح أنه لا بد من ذلك وأما إن كان يعتقد صحة النكاح فلابد أن تعتد من وطء الثانى
وسئل رحمه الله عن رجل قال أنا ما أريدك قومى روحى إلى أهلك أنا أبا اطلقك ونوى بهذا اللفظ الطلاق فهل يشرع أن يراجعها ويتزوجها بصداق ثان أفتونا
فأجاب الوعد بالطلاق لا يقع ولو كثرت ألفاظه ولا يجب الوفاء بهذا الوعد ولا يستحب وأما إذا أوقع بها الطلاق قبل أن يقول اذهبى إلى بيت أمك وأراد يذكر أنه يطلقها لا أنه سيطلقها فهذا يقع به طلقة واحدة إذا لم ينو أكثر وله أن يراجعها فى العدة بلا رضاها وبلا ولى ولا مهر والله أعلم
____________________
(33/111)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل متزوج وله أولاد ووالدته تكره الزوجه وتشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها
فأجاب لا يحل له أن يطلقها لقول أمه بل عليه أن يبر أمه وليس تطليق امرأته من برها والله أعلم
وسئل رحمه الله عن إمرأة وزوجها متفقين وأمها تريد الفرقة فلم تطاوعها البنت فهل عليها إثم فى دعاء أمها عليها
فأجاب الحمد لله إذا تزوجت لم يجب عليها أن تطيع أباها ولا أمها فى فراق زوجها ولا فى زيارتهم ولا يجوز فى نحو ذلك بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة أبويها ( وأيما امرأة ماتت وزوجها عليها راض دخلت الجنة ( واذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي
____________________
(33/112)
من جنس هاروت وماروت لا طاعة لها فى ذلك ولو دعت عليها اللهم إلا أن يكونا مجتمعين على معصية أو يكون أمره للبنت ( بمعصية الله والأم تأمرها ) بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل نوى أن يطلق زوجته إذا حاضت ولم يتلفظ بطلاق فلما أن حاضت علم أنها طلقت بمجرد النية فقال للشهود آن طلقة زوجتى قالوا متى طلقتها قال أول أمس بناء على ظنه فلما مضى حيضتان غير الحيضة التى ظن أنها طلقت فيها زوجها الشهود برجل آخر ثم مكثت عنده وطلقها ثم وفت عدتها ثم أراد الزوج الأول ردها فهل هي حلال له بالنكاح الأول أم يجب عقد جديد
فأجاب الحمد لله أما إذا نوى أنه سيطلقها إذا حاضت فهذا لا يقع به طلاق بإتفاق العلماء بل لابد أن يطلقها بعد ذلك فاذا لم يطلقها بعد ذلك لم يقع طلاق وإذا اعتقد أن تلك النية طلاق فأقر أنه طلقها بتلك النية لم يقع بهذا الإقرار فى الباطن ولكن يؤخذ به فى الحكم واذا لم يقع به شيء فهي باقيه على زوجيته فى الباطن والله أعلم
____________________
(33/113)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له زوجه وأمه ما تريد الزوجة فطلق الزوجة ثم قال كل إمرأة أتزوجها من هذه المدينة التى داخل السور لا امرأته ولا غيرها فان راجع امرأته أو تزوج غيرها من المدينة يكون العقد صحيحا
فأجاب بل يتزوج إن شاء من المدينة وإن شاء من غيرها ويكون العقد صحيحا
وسئل رحمه الله عن رجل تخاصم مع زوجته فاراد أن يقول هي طالق طلقة واحدة فسبق لسانه فقال ثلاثة ولم يكن ذلك نيتة فما الحكم
فأجاب الحمد لله إذا سبق لسانه بالثلاث من غير قصد وإنما قصد واحدة لم يقع به إلا واحدة بل لو أراد أن يقول طاهر فسبق لسانه بطالق لم يقع به الطلاق فيما بينه وبين الله والله أعلم
____________________
(33/114)
وسئل عن إمرأة داينت زوجها ثم قالت له إنى أخاف انك لا توفينى فقال لها إن لم أوفيك إلى آخر شهر رمضان هذا وإلا فأنت طالق ثلاثا والزوج غائب فى قوص وما وكل أحدا فهل إذا أبرأت المرأة زوجها من الدين ومضى الشهر يقع الطلاق أم لا وإذا تبرع أحد بقضاء الدين فهل يسقط الدين ولا يقع الطلاق بمضى الشهر أو يقع
فأجاب أما إذا أبرأته فانه لا يحنث عند كثير من الفقهاء كأبى حنيفة ومحمد وقول فى مذهب أحمد وغيره لوجهين ( أحدهما ) أنه بالإبراء تعذر الوفاء فصار الإيفاء ممتنعا ( الثانى ) أن المحلوف على فعله بمنزلة المأمور بفعله وقد علم أن العبد إنما هو مأمور بوفاء الدين ما كان ثابتا فكذلك اليمين وعرف الناس فهذا كهذا فان الحالف إنما يقصد بهذا فى العادة تبرئة ذمته وقطع مطالبة الغريم له ووفاءه إذا كان الدين باقيا وكذلك إذا وفى الدين عنه موف فقد برئت ذمته من الدين بغير فعله كما يبرء بالإبراء وتعذر الإيفاء من جهته وحصل مقصود الغريم فقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم قضاء الدين على الغر يم كقضائه حيث قال ( أرأيت لو كان على أبيك ( وفى حديث آخر ( على أمك دين فقضيتيه عنها أكان يجزء عنه ( قالت نعم قال ( الله أحق بالوفاء ( والله أعلم
____________________
(33/115)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل طلق زوجته الطلاق الثلاث قبل أن يدخل بها وهى بكر فهل له سبيل فى مراجعتها
فأجاب الحمد لله الطلاق ثلاثا قبل الدخول وبعد الدخول سواء فى ثبوت التحريم بذلك عند الأئمة الأربعة
وسئل رحمه الله عن رجل عقد العقد على أنها تكون بالغا ولم يدخل بها ولم يصبها ثم طلقها ثلاثا ثم عقد عليها شخص آخر ولم يدخل بها ولم يصبها ثم طلقها ثلاثا فهل يجوز للذى طلقها أولا أن يتزوج بها
فأجاب إذا طلقها قبل الدخول فهو كما لو طلقها بعد الدخول عند الأئمة الأربعة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويدخل بها فإذا طلقها قبل الدخول لم تحل للأول
____________________
(33/116)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قال كل شيء أملكه على حرام فهل تحرم امرأته وأمته عليه أم لا
فأجاب أما غير الزوجه فعليه كفارة يمين وأما الزوجه فللعلماء فيها نزاع هل تطلق أو تجب عليه كفارة ظهار فمذهب مالك هو طلاق ومذهب أبى حنيفة والشافعى فى أظهر قوليه عليه كفارة يمين ومذهب أحمد عليه كفارة ظهار ألا أن ينوى غير ذلك ففيه نزاع والصحيح أنه لا يقع به طلاق
وسئل رحمه الله عن رجل خاصم زوجته وضربها فقالت له طلقنى فقال أنت على حرام فهل تحرم عليه أم لا
فأجاب أما قوله أنت على حرام ففيه قولان للعلماء قيل عليه كفارة الظهار إذا أمكنته من نفسها وقيل لا شيء عليه ولا خلاف بين العلماء أنه يجب عليها أن تمكنه والله أعلم
____________________
(33/117)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل له زوجه ولها أولاد وبنات منه وتزوج غيرها ثم إنه كتب وكالة لزوجته الجديدة وقال متى رضيت أم أولادى كان طلاقها بيدك ووكلها فى طلاقها مدة عشرة سنين وقد طلق التى بيدها الوكالة فهل تصح هذه الوكالة أم لا وإذا صحت فهل تبطل الوكالة بطلاق الموكلة أم لا
فأجاب رحمه الله الحمد لله هذه المسأله قد يظن من يظن أن الوكالة بحالها بناء على أن الزوج إذا وكل إمرأته فى بيع ونحوه ثم طلقها ثلاثا لم تبطل الوكالة بالتطليق كما ذكر الفقهاء لكن هذه ليست تلك والصواب فى هذه الصورة المسئول عنها أنها تبطل بالتطليق لأنه هنا لم يرد أن يطلقها وقد إستناب غيره فى ذلك كما يريد أن يبيع متاعة فيوكل شخصا وأنما المراد تمكينها هي من الطلاق ليكون أمرها بيد هذه الزوجة فإن شاءت طلقت وإن شاءت لم تطلقها وهو قد اشترط لها أن يكون امر هذه بيدها لئلا تبقى زوجته إلا برضاها فالمقصود إنى لا أتزوجها إلا برضاك ومعنى ذلك إنى لا أجمع بينك وبينها لما تكره المرأة من الضره فيكون هذا من موانع ما يستحقه بالعقد من القسم ونحوه فإذا طلقها ثلاثا لم يبق لها عليه حق قسم
____________________
(33/118)
ولا نحوه فلا تزاحمها تلك فى الحقوق ولا تكون ضره لها ولا يعتبر رضاها فى تزوجه بتلك
فإن الرجل فى العادة إنما يقصد إرضاء المرأة بترك زوجته عليها إذا كانت زوجته فأما بعد البينونة فلا يقصد إرضاءها فكيف وهو قد طلقها ثلاثا وهذا غاية إسخاطها فمن أسخطها بذلك كيف يقصد إرضاءها بما هو دونه وبهذا ونحوه يعلم من عادة الناس أن هذا إنما جعل أمرها بيدها مادامت هذه الممكنه زوجه فإذا صارت أجنبية لم يكن بيدها شيء من أمر تلك وهذا كله إذا جعل هذا الشرط لا زما فإذا لم يجعل شرطالازما فيكون كما لو قال لها إبتداء أمرك بيدك أو أمر فلانة بيدك وهذا له الرجوع فيه
وأما صورة السؤال فيه أنه مشروط فى العقد وقد قال النبى ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما إستحللتم به الفروج ( أخرجاه فى الصحيحين ولهذا كان مذهب طوائف من السلف والخلف وعمرو بن العاص وحماد بن زيد وطاووس والأوزاعى وأحمد بن حنبل وغيرهم إذا إشترط لها أن لا يتزوج عليها كان الشرط صحيحا وإذا تزوج كان لها الخيار وهذا أبلغ من كونه يشترط لها أنه إذا تزوج فأمر الزوجه بيدها ومقصودها واحد وفى كلا الموضعين إنما يكون لها الخيار مادامت زوجه
____________________
(33/119)
وأما مذهب أبى حنيفة والشافعى فعندهما هذا الشرط باطل لا يلزم وإذا كان كذلك كان هذا كما لو فعله بغير شرط والوكالة عقد جائز بإتفاق العلماء فله أن يفسخ عقد الوكالة وإذا تنازع العلماء فيما إذا قال لزوجته أمرك بيدك فقال الشافعى وأحمد وغيرهما هو كالتوكيل وله أن يرجع فيه قبل أن تختار وقال أبو حنيفة ومالك إنه كالتمليك فليس له ان يخرجه عن يدها ولكن هذه الصورة وقعت على مذهب مالك واحمد وغيرهما لمن يرى ان له ان يشترط فى العقد لها ما تملك به الطلاق إذا تزوج عليها ولا ريب انها لا تملك ذلك إلا إذا كان نكاحها باقيا فاذا أبانها لم يكن لها فى الشرط حق والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل جرى بينه وبين زوجته كلام وكان على عزم السفر فقال لوكيله ان كانت ترضى بهذه النفقة العادة فسلم اليها النفقة وان لم ترض بالنفقة فسلم اليها كتابها وان الوكيل بعد ما سافر الموكل سلم اليها كتابها وطلق عليها طلقة رجعية وسير علم الموكل أنه قد طلقها طلقة رجعية فلما علم الموكل ما هان عليه فأشهد على نفسه أنه راجعها وسير طلبها فلما سمع الوكيل أنه راجع زوجته ذكر أنه طلق عليه ثلاثا فهل يجوز للرجل المراجعة لزوجته بعد قول الوكيل ذلك
____________________
(33/120)
فأجاب الحمد لله قوله يسلم اليها كتابها كناية عن الطلاق فاذا قال الموكل أنه أراد به الطلاق أو علم بذلك بدلالة الحال ملك أن يطلق واحدة ولم يملك الوكيل أن يطلق ثلاثا الا باذن الموكل واذا قال للوكيل لم أرد بذلك أنه يطلقها ثلاثا قبل قوله ولم يمكن الوكيل أن يطلقها ثلاثا واذا طلقها الوكيل واحدة ثم راجعها الزوج صحت الرجعة
____________________
(33/121)
& باب الحلف بالطلاق وغير ذلك
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن يمين الغموس فى الحلف بالطلاق وعن رجل قال لزوجته لا يدخل أهلك بيتى فصعب عليه فحلف بالطلاق الثلاث أنه ما قاله ويعلم أنه قاله
فأجاب الأيمان التى يحلف بها الناس نوعان ( أحدهما ) أيمان المسلمين و ( الثانى ) أيمان المشركين فالقسم الثانى الحلف بالمخلوقات كالحلف بالكعبة والملائكة والمشائخ والملوك والآباء والسيف وغير ذلك مما يحلف بها كثير من الناس فهذه الأيمان لا حرمة لها بل هي غير منعقدة ولا كفارة على من حنث فيها بإتفاق المسلمين بل من حلف بها فينبغى أن يوحد الله تعالى كما قال النبى ( من حلف فقال فى حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ( وثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ( وفى السنن عنه ( من حلف بغير الله فقد أشرك ( رواه الترمذى وصححه فهذه الأيمان باتفاق الأئمة
____________________
(33/122)
وأكثرهم على أن النبى نهى عنها بل قد روى عن بن مسعود وبن عباس وغيرهما أنه قال لأن احلف بالله كاذبا أحب إلى أن أحلف بغيره صادقا قال وهذا لأن الحلف بغير الله شرك والشرك أعظم من الكذب
والنذر للمخلوقات أعظم من الحلف بها فمن نذر لمخلوق لم ينعقد نذره ولا وفاء عليه باتفاق العلماء مثل من ينذر لميت من الأنبياء والمشائخ وغيرهم كمن ينذر للشيخ جاكير وأبى الوفاء أو المنتظر أو الست نفيسة أو للشيخ رسلان أو غير هؤلاء وكذلك من نذر لغير هؤلاء زيتا أو شمعا أو ستورا أو نقدا ذهبا أو دراهم أو غير ذلك فكل هذه النذور محرمة باتفاق المسلمين ولا يجب بل ولا يجوز الوفاء بها باتفاق المسلمين وانما يوفى بالنذر إذا كان لله عز وجل وكان طاعة فان النذر لا يجوز إلا إذا كان عبادة ولا يجوز أن يعبد الله الا بما شرع فمن نذر لغير الله فهو مشرك أعظم من شرك الحلف بغير الله وهو كالسجود لغير الله
ولو نذر ما ليس عبادة كما لو نذرت المرأة صوم أيام الحيض لم يلزم ذلك ولا يجوز صيام أيام الحيض باتفاق المسلمين كما فى الصحيح عن عائشة رضى الله عنها عن النبى أنه قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصيه ( ولو نذر أن يسافر إلى قبر نبى من الأنبياء أو شيخ من المشائخ أو مشهده أو مقامه أو مسجد غير المساجد الثلاثة لم يكن عليه أن يوفى بنذرة باتفاق الأئمة
____________________
(33/123)
وكذلك من نذر صلاة أو صوما أو صدقة أو إعتكافا أو أضحية أو هديا أو نذر أن يسافر إلى مسجد النبى أو المقدس ففيه ( قولان ( للعلماء وهما قولان للشافعى
( أحدهما ( ليس عليه أن يوفى به وهو مذهب أبى حنيفة ومن أصله أنه لا يجب بالنذر الا ما كان من جنسه واجب بالشرع كالصلاة والصيام والإعتكاف فيجب بالنذر لأن الصوم واجب عنده وعند أحمد فى إحدى الروايتين وعند مالك فلهذا وجب عنده وإتيان المسجد ليس واجبا بالشرع فلا يجب عنده بالنذر
و ( القول الثانى ) يجب الوفاء اذا نذر إتيان المسجدين وهو مذهب مالك واحمد لأن ذلك طاعة لله فقد قال النبى ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ( هذا ان كان قصد أن يسافر للمسجد للصلاة فيه وللإعتكاف ونحو ذلك
وأما إذا كان قصده نفس زيارة قبر النبى لا للعبادة فى مسجده لم يف بهذا النذر نص عليه مالك وغيره من العلماء وليس بين الأئمة فى ذلك نزاع لأن النبى قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا ( أخرجاه فى الصحيحين
____________________
(33/124)
فمن نذر سفرا إلى بقعة ليعظمها غير هذه الثلاثة كالسفر إلى الطور الذى كلم الله عليه موسى بن عمران أو غار حراء الذى كان النبى يتحنث فيه أو غار ثور الذى قال الله تعالى فيه ( ثانى اثنين إذ هما فى الغار ) لم يف بهذا النذر بإتفاق الأئمة فكيف بما سوى ذلك من الغير ان والكهوف وكذلك لو نذر السفر إلى قبر الخليل عليه السلام أو قبر أبى بريد أو قبر أحمد بن حنبل أو قبور أهل البقيع فإن زيارة القبور مشروعة لمن كان قريبا منها وكان مقصوده الدعاء للميت فاما السفر اليها فمنهى عنه
وأما الحلف بالنبى فجمهور العلماء على أنه أيضا منهى عنه ولا تنعقد به اليمين ولا كفارة فيه ( هذا ) قول مالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين عنه وعنه تنعقد به اليمين فصل ( النوع الثانى ) أيمان المسلمين فإن حلف باسم الله فهي ايمان منعقدة بالنص والإجماع وفيها الكفارة اذا حنث واذا حلف بما يلتزمه لله كالحلف بالنذر والظهار والحرام والطلاق والعتاق مثل أن يقول إن فعلت كذا فعلى عشر حجج أو فمالى صدقة أو على صيام شهر أو فنسائى طوالق أو عبيدى أحرار أو يقول الحل على حرام لا أفعل كذا او
____________________
(33/125)
الطلاق يلزمنى لا أفعل كذا وكذا أو إلا فعلت كذا وان فعلت كذا فنسائى طوالق أو عبيدى أحرار ونحو ذلك فهذه الأيمان ايمان المسلمين عند الصحابة وجمهور العلماء وهى ايمان منعقدة وقال طائفة بل هو من جنس الحلف بالمخلوقات فلا تنعقد والأول أصح وهو قول الصحابة فإن عمر وبن عمر وبن عباس وغيرهم كانوا ينهون عن النوع الأول وكانوا يأمرون من حلف بالنوع الثاني أن يكفر عن يمينه ولا ينهونه عن ذلك فإن هذا من جنس الحلف بالله والنذر لله وفى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( كفارة النذر كفارة يمين )
فقول القائل لله على أن أفعل كذا إن قصد به اليمين فهو يمين كما لو قال لله على كذا أو إن أقتل فلانا فعلى كفارة فى مذهب أحمد وأبى حنيفة وهو الذى ذكره الخراسانيون فى مذهب الشافعى فالذين قالوا هذا يمين منعقدة منهم من ألزم الحالف بما التزمه فالزمه إذا حنث بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام وهو قول مالك وإحدى الروايتين عن أبى حنيفة ومنهم من فرق بين الطلاق والعتاق وبين غيرهما وهو المعروف عن الشافعى ومنهم من فرق بين النذر وغيره وهو المشهور عن أحمد ومنهم من فرق بين الطلاق وغيره وهو أبو ثور والصحيح أن هذه الأيمان كلها فيها كفارة إذا حنث ولا يلزمه إذا حنث لا نذر ولا طلاق ولا عتاق ولا حرام وهذا معنى أقوال الصحابة فقد ثبت النقل عنهم صريح بذلك فى الحلف بالعتق والنذر وتعليلهم وعموم كلامهم
____________________
(33/126)
يتناول الحلف بالطلاق وقد ثبت عن غير واحد من السلف انه لا يلزم الحلف بالطلاق طلاقا كما ثبت عن طاووس وعكرمة وعن ابى جعفر وجعفر بن محمد ومن هؤلاء من الزم الكفارة وهو الصحيح ومنهم من لم يلزمه الكفارة
فللعلماء فى الحلف بالطلاق أكثر من ( أربعة أقوال ) قيل يلزمه مطلقا كقول الأربعة وقيل لا يلزمه مطلقا كقول أبى عبد الرحمن الشافعى وبن حزم وغيرهما وقيل إن قصد به اليمين لم يلزمه وهو أصح الأقوال وهو معنى قول الصحابه ( اليمين (
ففى لزوم الكفارة ( قولان ( أصحهما أنه يلزمه إذا كانت اليمين على مستقبل فان كانت اليمين على ماض أو حاضر قصده به الخبر لا الحض والمنع كقوله والله لقد فعلت كذا أو لم أفعله وقوله الطلاق يلزمنى لقد فعلت كذا أو لم أفعله أو الحل على حرام لقد فعلت كذا فهذا إما أن يكون معتقدا صدق نفسه أو يعلم أنه كاذب فان كان يعتقد صدق نفسه ( ففيه ثلاثة أقوال (
( أحدها ( لا يلزمه شيء فى جميع هذه الايمان وهذا أظهر قولى الشافعى والرواية الثانية عن أحمد فمن حلف بالطلاق والعتاق أو غيرهما
____________________
(33/127)
على شيء يعتقده كما لو حلف عليه فتبين بخلافه فلا شيء عليه على هذا القول وهذا أصح الأقوال
( والثانى ( يكون كالحلف على المستقبل فى الجميع وهذا هو القول الثانى للشافعى والرواية الثانية عن أحمد فعلى هذا تلزمه الكفارة فيما يكفره ( والقول الثالث ( أن يمينه إذا كانت مكفرة كالحلف بسم الله فلا شيء عليه بل هذا من لغو اليمين وإن كانت غير مكفرة كالحلف بالطلاق والعتاق لزمه ذلك وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد فى المشهور
فاذا كانت اليمين غموسا وهو أن يحلف كاذبا عالما بكذب نفسه فهذه اليمين يأثم بها بإتفاق المسلمين وعليه أن يستغفر الله منها وهى كبيرة من الكبائر لا سيما ان كان مقصوده أن يظلم غيره كما قال النبى صلى الله عليه وسلم 0 ( من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرء مسلم لقى الله وهو عليه غضبان ( ثم إن كانت مما يكفر ففيها كفارة عند الشافعى وأحمد فى رواية وأما الأكثرون فقالوا هذه أعظم من أن تكفر وهذا قول مالك وأبى حنيفة وأحمد فى المشهور عنه قالوا والكبائر لا كفارة فيها كما لا كفارة فى السرقة والزنا وشرب الخمر وكذلك قتل العمد لا كفارة فيه عند الجمهور
____________________
(33/128)
وإذا حلف بالتزام يمين غموس كالصورة التى سأل عنها السائل مثل أن يقول الحل عليه حرام ما فعلت كذا أو الطلاق يلزمنى ما فعلت كذا أو إن فعلت كذا فمالى صدقة أو فعلى الحج أو فنسائى طوالق أو عبيدى أحرار فقيل تلزمه هذه اللوازم إذا قلنا لا كفارة فى الغموس وإن قلنا هذه ايمان مكفرة فى المستقبل لأنه لو لم يلزمه ذلك لخلت هذه الأيمان عن الكفارة ولزوم ما التزمه وهو اختيار ( جدى أبى البركات ( وكذلك قال محمد بن مقاتل الرازى من حلف بالكفر يمينا غموسا كفر ( والقول الثانى ) أن هذا كاليمين الغموس بالله هي من الكبائر ولا يلزمه ما التزمه من النذر والطلاق والحرام وهو أصح القولين وعلى هذا القول فكل من لم يقصده لم يلزمه نذر ولا طلاق ولا عتاق ولا حرام سواء كانت اليمين منعقدة أو كانت غموسا أو كانت لغوا وانما يلزم الطلاق والعتاق والنذر لمن قصد ذلك فان التعليق ( نوعان ( نوع يقصد به وقوع الجزاء إذا وقع الشرط فهذا تعليق لازم فاذا علق النذر أو الطلاق أو العتاق على هذا الوجه لزمه
فاذا قال لامرأته إذا تطهرت من الحيض فأنت طالق أو إذا تبين حملك فأنت طالق وقع بها الطلاق عند الصفة وكذلك إذا علقه بالهلال وكذلك لو نهاها عن أمر وقال إن فعلته فانت طالق وهو إذا فعلته يريد ان يطلقها فانه يقع به الطلاق ونحو هذا
____________________
(33/129)
بخلاف مثل ان ينهاها عن فاحشة أو خيانه أو ظلم فيقول إن فعلتيه انت طالق فهو وان كان يكره طلاقها لكن إذا فعلت ذلك المنكر كان طلاقها احب إليه من أن يقيم معها على هذا الوجه فهذا يقع به الطلاق فقد ثبت عن الصحابة انهم أوقعوا الطلاق المعلق بالشرط إذا كان قصده وقوعه عند الشرط كما الزموه بالنذر بخلاف من كان قصده اليمين
والذى قصده اليمين هو مثل الذى يكره الشرط ويكره الجزاء وإن وقع الشرط مثل أن يقول إن سافرت معكم فنسائى طوالق وعبيدى أحرار ومالى صدقة وعلى عشر حجج وأنا بريء من دين الإسلام ونحو ذلك فهذا مما يعرف قطعا أنه لا يريد أن تلزمه هذه الأمور وإن وجد الشرط فهذا هو الحالف فيجب الفرق فى جميع التعليقات ومن قصده وقوع الجزاء ومن قصده اليمين فاذا طلق امرأته طلاقا منجزا أو معلقا بصفة يقصد ايقاع الطلاق عندها وقع به الطلاق إذا كان حلالا وهو أن يطلقها طلقة واحدة فى طهر لم يصبها فيه أو حامل قد تبين حملها
( وأما الطلاق الحرام ( كما لو طلق فى الحيض أو الطهر بعد أن وطأها وقبل أن يتبين حملها ففيه نزاع والأظهر أنه لا يلزم كما لا يلزم النكاح المحرم ونحوه وجمع الثلاث حرام عند الجمهور فاذا طلق ثلاثا فهل يلزمه الثلاث أو واحدة ففيه قولان أظهرهما أنه لا يلزمه إلا واحدة وقد بسطنا الكلام على هذه المسائل فى غير هذا الموضع والله أعلم
____________________
(33/130)
وقال رحمه الله تعالى اذا ( حلف الرجل بالطلاق ( فقال الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا أولا أفعله أو الطلاق لازم لى لأفعلنه أو إن لم أفعله فالطلاق يلزمنى أولازم ونحو هذه العبارات التى تتضمن التزام الطلاق فى يمينه ثم حنث فى يمينه فهل يقع به الطلاق فيه ( قولان ( لعلماء المسلمين فى المذاهب الأربعة وغيرها من مذاهب علماء المسلمين
( أحدهما ( أنه لا يقع الطلاق وهذا منصوص عن أبى حنيفة نفسه وهو قول طائفة من أصحاب الشافعى كالقفال وأبى سعيد المتولى صاحب ( التتمه ( وبه يفتى ويقضى فى هذه الأزمنه المتأخرة طائفة من أصحاب أبى حنيفة والشافعى وغيرهم من أهل السنة والشيعة فى بلاد الشرق والجزيرة والعراق وخراسان والحجاز واليمن وغيرها وهو قول داود وأصحابه كابن حزم وغيره كانوا يفتون ويقضون فى بلاد فارس والعراق والشام ومصر وبلاد المغرب إلى اليوم فانهم خلق عظيم وفيهم قضاة ومفتون عدد كثير وهو قول طائفة من السلف كطاووس وغير طاووس وبه يفتى كثير من
____________________
(33/131)
علماء المغرب فى هذه الأزمة المتأخرة من المالكية وغيرهم وكان بعض شيوخ مصر يفتى بذلك وقد دل على ذلك كلام الإمام أحمد بن حنبل المنصوص عنه وأصول مذهبه فى غير موضع
ولو ( حلف بالثلاث ( فقال الطلاق يلزمنى ثلاثا لأفعلن كذا ثم لم يفعل فكان طائفة من السلف والخلف من أصحاب مالك وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم يفتون بانه لا يقع به الثلاث لكن منهم من يوقع به واحدة وهذا منقول عن طائفة من الصحابة والتابعين وغيرهم فى التنجيز فضلا عن التعليق واليمين وهذا قول من اتبعهم على ذلك من أصحاب مالك وأحمد وداود فى التنجيز والتعليق والحلف
ومن السلف طائفة من أعيانهم فرقوا فى ذلك بين المدخول بها وغير المدخول بها
والذين لم يوقعوا طلاقا بمن قال الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا منهم من لا يوقع به طلاقا ولا يأمره بكفارة ومنهم من يأمره بكفارة وبكل من القولين أفتى كثير من العلماء وقد بسطت أقوال العلماء فى هذه المسائل والفاظهم ومن نقل ذلك عنهم والكتب الموجود ذلك فيها والأدلة على هذه الأقوال فى مواضع أخر تبلغ عدة مجلدات
____________________
(33/132)
وهذا بخلاف الذى ذكرته فى مذهب أبى حنيفة والشافعى وهو فيما اذا حلف بصيغة اللزوم مثل قوله الطلاق يلزمنى ونحو ذلك وهذا النزاع فى المذهبين سواء كان منجزا أو معلقا بشرط أو محلوفا به ففى المذهبين هل ذلك صريح أو كناية أولا صريح ولا كناية فلا يقع به الطلاق وان نواة ثلاثة أقوال وفى مذهب أحمد قولان هل ذلك صريح أو كناية وأما الحلف بالطلاق أو التعليق الذى يقصد به الحلف فالنزاع فيه من غيرهم بغير هذه الصيغة فمن قال ان من أفتى بان الطلاق لا يقع فى مثل هذه الصورة خالف الإجماع وخالف كل قول فى المذاهب الأربعة فقد أخطأ واقتفى مالا علم به وقد قال الله تعالى ( ولا تقف ماليس لك به علم ) بل أجمع الأئمة الأربعة واتباعهم وسائر الأئمة مثلهم على أنه من قضى بأنه لا يقع الطلاق فى مثل هذه الصورة لم يجز نقض حكمه ومن أفتى به ممن هو من أهل الفتيا ساغ له ذلك ولم يجز الإنكار عليه باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين ولا على من قلده ولو قضى أو أفتى بقول سائغ يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة فى مسائل الايمان والطلاق وغيرهما مما ثبت فيه النزاع بين علماء المسلمين ولم يخالف كتابا ولا سنة ولا معنى ذلك بل كان القاضي به والمفتى به يستدل عليه بالادلة الشرعية كالاستدلال بالكتاب والسنة فان هذا يسوغ له أن يحكم به ويفتى به
____________________
(33/133)
ولا يجوز باتفاق الأئمة الأربعة نقض حكمه إذا حكم ولا منعه من الحكم به ولا من الفتيا به ولا منع أحد من تقليده ومن قال إنه يسوغ المنع من ذلك فقد خالف إجماع الأئمة الأربعة بل خالف اجماع المسلمين مع مخالفته لله ورسوله فان الله تعالى يقول فى كتابه ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فان تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) فأمر الله المؤمنين بالرد فيما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وهو الرد إلى الكتاب والسنة فمن قال إنه ليس لأحد أن يرد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة بل على المسلمين إتباع قولنا دون القول الآخر من غير أن يقيم دليلا شرعيا كالإستدلال بالكتاب والسنة على صحة قوله فقد خالف الكتاب والسنة واجماع المسلمين وتجب إستتابة مثل هذا وعقوبته كما يعاقب أمثاله فاذا كانت المسألة مما تنازع فيه علماء المسلمين وتمسك باحد القولين لم يحتج على قوله بالأدلة الشرعية كالكتاب والسنة وليس مع صاحب القول الآخر من الأدلة الشرعية ما يبطل به قوله لم يكن لهذا الذى ليس معه حجة تدل على صحة قوله أن يمنع ذلك الذى يحتج بالأدلة الشرعية باجماع المسلمين بل جوز أن يمنع المسلمون من القول الموافق للكتاب والسنة واوجب على الناس اتباع القول الذى يناقضه بلا حجة شرعية توجب عليهم اتباع هذا القول وتحرم عليهم أتباع ذلك القول فانه قد انسلخ من الدين تجب استتابته وعقوبته
____________________
(33/134)
كأمثاله وغايته أن يكون جاهلا فيعذر بالجهل أولا حتى يتبين له أقوال أهل العلم ودلائل الكتاب والسنة فان أصر بعد ذلك على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فانه يستتاب فان تاب والا قتل
وكل يمين من ايمان المسلمين غير اليمين بالله عز وجل مثل الحلف بالطلاق والعتاق والظهار والحرام والحلف بالحج والمشى والصدقة والصيام وغير ذلك فللعلماء فيها نزاع معروف عند العلماء سوآ حلف بصيغة القسم فقال الحرام يلزمنى أو العتق يلزمنى لأفعلن كذا أو حلف بصيغة العتق فقال ان فعلت كذا فعلى الحرام ونسائى طوالق أو فعبيدى أحرار أو مالى صدقة وعلى المشى إلى بيت الله تعالى
وإتفقت الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين على أنه يسوغ للقاضي أن يقضى فى هذه المسائل جميعها بانه اذا حنث لا يلزمه ما حلف به بل إما أن لا يجب عليه شيء وإما ان تجزيه الكفارة ويسوغ للمفتى أن يقضى بذلك وما زال فى المسلمين من يفتى بذلك من حين حدث الحلف بها والى هذه الأزمنة منهم من يفتى بالكفارة فيها ومنهم يفتى بأنه لا كفارة فيها ولا لزوم المحلوف به كما أن منهم من يفتى بلزوم المحلوف به وهذه الأقوال الثلاثة فى الأمة من يفتى بها بالحلف بالطلاق والعتاق والحرام والنذر وإما إذا حلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة فانه لا كفارة فى هذا باتفاق المسلمين
____________________
(33/135)
فالأيمان ( ثلاثة أقسام ( اما الحلف بالله ففيه الكفارة بالإتفاق واما الحلف بالمخلوقات فلا كفارة فيه بالا تفاق إلا الحلف بالنبى ( قولان ( فى مذهب أحمد والجمهور أنه لا كفارة فيه وقد عدى بعض أصحاب ذلك إلى جميع النبيين وجماهير العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم على خلاف ذلك وأما ما عقد من الأيمان بالله تعالى وهو هذه الايمان فللمسلمين فيها ( ثلاثة أقوال ( وان كان من الناس من ادعى الإجماع فى بعضها فهذا كما ان كثيرا من مسائل النزاع يدعى فيها الإجماع من لم يعلم النزاع ومقصوده انى لا أعلم نزاعا فمن علم النزاع واثبته كان مثبتا عالما وهو مقدم على النافى الذى لا يعلمه باتفاق المسلمين
واذا كانت المسألة مسألة نزاع فى السلف والخلف ولم يكن مع من الزم الحالف بالطلاق أو غيره نص كتاب ولا سنة ولا إجماع كان القول بنفى لزومه سائغا باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين بل هم متفقون على أنه ليس لأحد ان يمنع قاضيا يصلح للقضاء ان يقضى بذلك ولا يمنع مفتيا يصلح للفتيا ان يفتى بذلك بل هم يسوغون الفتيا والقضاء فى أقوال ضعيفة لوجود الخلاف فيها فكيف يمنعون مثل هذا القول الذى دل عليه الكتاب والسنة والقياس الصحيح الشرعى والقول به ثابت عن السلف والخلف بل الصحابة الذين هم خير هذه الأمة ثبت عنهم أنهم أفتوافى الحلف بالعتق الذى هو أحب إلى الله تعالى من الطلاق أنه لا يلزم الحالف به بل يجزيه
____________________
(33/136)
كفارة يمين فكيف يكون قولهم فى الطلاق الذى هو أبغض الحلال إلى الله وهل يظن بالصحابة رضوان الله عليهم انهم يقولون فيمن حلف بما يحبه الله من الطاعات كالصلاة والصيام والصدقة والحج انه لا يلزمه أن يفعل هذه الطاعات بل يجزيه كفارة يمين ويقولون فيما لا يحبه الله بل يبغضه إنه يلزم من حلف به
وقد إتفق المسلمون على أنه من حلف بالكفر والإسلام انه لا يلزمه كفر ولا اسلام فلو قال إن فعلت كذا فانا يهودى وفعله لم يصر يهوديا بالإتفاق وهل يلزمه كفارة يمين على ( قولين (
( أحدهما ( يلزمه وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد فى المشهور عنه
( والثانى ( لا يلزمه وهو قول مالك والشافعى ورواية عن أحمد وذهب بعض أصحاب أبى حنيفة إلى أنه إذا إعتقد انه يصير كافرا اذا حنث وحلف به فانه يكفر قالوا لأنه مختار للكفر والجمهور قالوا لا يكفر لأن قصده أن لا يلزمه الكفر فلبغضه له حلف به وهكذا كل من حلف بطلاق أو غيره انما يقصد بيمينه انه لا يلزمه لفرط بغضه له
وبهذا فرق الجمهور بين ( نذر التبرر ( و ( نذر اللجاج والغضب ( قالوا لأن الأول قصده وجود الشرط والجزاء بخلاف الثانى فإذا قال إن شفى الله
____________________
(33/137)
مريضى فعلى عتق رقبة أو فعبدى حر لزمه ذلك بالإتفاق واما اذا قال إن فعلت كذا فعلى عتق رقبه أو فعبدى حر وقصده أن لا يفعله فهذا موضع النزاع هل يلزمه العتق فى الصورتين أو لا يلزمه فى الصورتين أو يجزيه كفارة يمين أو يجزية الكفارة فى تعليق الوجوب دون تعليق الوقوع وهذه الأقوال الثلاثة فى الطلاق
ولو قال اليهودى إن فعلت كذا فانا مسلم وفعله لم يصر مسلما بالإتفاق لأن الحالف حلف بما يلزمه وقوعه وهكذا إذا قال المسلم إن فعلت كذا فنسائى طوالق وعبيدى أحرار وأنا يهودى هو يكره ان يطلق نساءه ويعتق عبيده ويفارق دينه مع أن المنصوص عن الأئمة الأربعة وقوع العتق
ومعلوم أن سبعة من الصحابة مثل بن عمر وبن عباس وأبى هريرة وعائشة وأم سلمة وحفصة وزينب ربيبة النبى أجل من اربعه من علماء المسلمين فاذا قالوا هم وأئمة التابعين أنه لا يلزمه العتق المحلوف به بل يجزيه كفارة يمين كان هذا القول مع دلالة الكتاب والسنة إنما يدل على هذا القول فكيف يسوغ لمن هو من أهل العلم والايمان أن يلزم أمة محمد بالقول المرجوح فى الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة الشرعية مع مالهم { من } مصلحة دينهم ودنياهم فان
____________________
(33/138)
فى ذلك من صيانه انفسهم وحريمهم وأموالهم وأعراضهم وصلاح ذات بينهم وصلة ارحامهم واجتماعهم على طاعة الله ورسوله وإستغنائهم عن معصية الله ورسوله ما يوجب ترجيحه لمن لا يكون عارفا بدلالة الكتاب والسنة فكيف بمن كان عارفا بدلالة الكتاب والسنة فان القائل بوقوع الطلاق ليس معه من الحجة ما يقاوم قول من نفى وقوع الطلاق
و [ لو ] اجتهد من اجتهد فى اقامة دليل شرعى سالم عن المعارض المقاوم على وقوع الطلاق على الحالف لعجز عن ذلك كما عجز عن تحديد ذلك فهل يسوغ لأحد أن يأمر بما يخالف اجماع المسلمين ويخرج عن سبيل المؤمنين فان القول الذى ذهب إليه بعض العلماء وهو لم يعارض نصا ولا اجماعا ولا ما فى معنى ذلك ويقدم عليه الدليل الشرعى من الكتاب والسنة والقياس الصحيح ليس لأحد المنع من الفتيا به والقضاء به وان لم يظهر رجحانه فكيف إذا ظهر رجحانه بالكتاب والسنة وبين ما لله فيه من المنة
فان الله تعالى يقول { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقال فى كتابة { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذى هو خير ( وهذا مروى عن النبى صلى الله
____________________
(33/139)
عليه وسلم من وجوه كثيرة وفى مسلم من حديث أبى هريرة وعدى بن حاتم وأبى موسى الأشعرى وفى الصحيحين أن النبى قال لعبد الرحمن بن سمرة ( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها إلا أتيت الذى هو خير وتحللتها ( وفى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبى أنه قال ( لأن يلج احدكم بيمينه فى أهله آثم له من يعطى الكفارة التى فرض الله ( وقال البخارى من استلج فى أهله فهو أعظم إثما فقوله يلج من اللجاج ولهذا سميت هذه الأيمان ( نذر اللجاج والغضب (
والألفاظ التى يتكلم بها الناس فى الطلاق ( ثلاثة أنواع ( صيغة التنجيز والإرسال ( كقوله أنت طالق أو مطلقة فهذا يقع به الطلاق باتفاق المسلمين
( الثانى ( صيغة قسم كقوله الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا أو لا أفعل كذا فهذا يمين باتفاق أهل اللغة واتفاق طوائف الفقهاء واتفاق العامة وإتفاق أهل الأرض
( الثالث ( صيغة تعليق كقولة إن فعلت كذا فإمرأتى طالق فهذه إن كان قصده به اليمين وهو الذى يكره وقوع الطلاق مطلقا كما يكره
____________________
(33/140)
الإنتقال عن دينه اذا قال إن فعلت كذا فانا يهودى أو يقول اليهودى ان فعلت كذا فانا مسلم فهو يمين حكمة حكم الأول الذى هو بصيغة القسم باتفاق الفقهاء
فان اليمين هي ما تضمنت حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا بالتزام ما يكره الحالف وقوعه عند المخالفة فالحالف لا يكون حالفا الا إذا كره وقوع الجزاء عند الشرط فان كان يريد وقوع الجزاء عند الشرط لم يكن حالفا سواء كان يريد الشرط وحده ولا يكره الجزاء عند وقوعه أو كان يريد الجزاء عند وقوعه غير مريد له أو كان مريدا لهما فاما إذا كان كارها للشرط وكارها للجزاء مطلقا يكره وقوعه وانما التزمه عند وقوع الشرط ليمنع نفسه أو غيره ما لتزمه من الشرط أو ليحض بذلك فهذا يمين
وإن قصد إيقاع الطلاق عند وجود الجزاء كقوله إن أعطيتنى الفا فأنت طالق وإذا طهرت فانت طالق واذا زنيت فانت طالق وقصده ايقاع الطلاق عند الفاحشة لا مجرد الحلف عليها فهذا ليس بيمين ولا كفارة فى هذا عند أحد من الفقهاء فيما علمناه بل يقع به الطلاق اذا وجد الشرط عند السلف وجمهور الفقهاء
____________________
(33/141)
فاليمين التى يقصد بها الحض أو المنع أو التصديق أو التكذيب بالتزامه عند المخالفة ما يكره وقوعه سواء كانت بصيغة القسم أو بصيغة الجزاء يمين عند جميع الخلق من العرب وغيرهم فان كون الكلام يمينا مثل كونه امرأ أو نهيا وخبرا وهذا المعنى ثابت عند جميع الناس العرب وغيرهم وإنما تتنوع اللغات في الألفاظ لا فى المعانى بل ما كان معناه يمينا أو امرا أو نهيا عند العجم فكذلك معناه يمين أو أمر أو نهى عند العرب وهذا ايضا يمين الصحابة رضوان الله عليهم وهو يمين فى العرف العام ويمين عند الفقهاء كلهم
واذا كان ( يمينا ( فليس فى الكتاب والسنة لليمين الا حكمان إما أن تكون اليمين منعقدة محترمة ففيها الكفارة واما ان لا تكون منعقدة محترمة كالحلف بالمخلوقات مثل الكعبة والملائكة وغير ذلك فهذا لا كفارة فيه بالإتفاق فاما يمين منعقدة محترمة غير مكفرة فهذا حكم ليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله ولا يقوم دليل شرعى سالم عن المعارض المقام فان كانت هذه اليمين من أيمان المسلمين فقد دخلت فى قوله تعالى للمسلمين { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وان لم تكن من ايمانهم بل كانت من الحلف بالمخلوقات فلا يجب بالحنث لا كفارة ولا غيرها فتكون مهدرة
____________________
(33/142)
فهذا ونحوه من دلالة الكتاب والسنة والإعتبار يبين أن الالزام بوقوع الطلاق للحالف فى يمينه حكم يخالف الكتاب والسنة وحسب القول الآخران يكون مما يسوغ الإجتهاد فاما أن يقال إنه لم يجب على المسلمين كلهم العمل بهذا القول ويحرم عليهم العمل بذلك القول فهذا لا يقوله أحد من علماء المسلمين بعد ان يعرف ما بين المسلمين من النزاع والأدلة ومن قال بالقول المرجوح وخفى عليه القول الراجح كان حسبه ان يكون قوله سائغا لا يمنع من الحكم به والفتيا به
أما الزام المسلمين بهذا القول ومنعهم من القول الذى دل عليه الكتاب والسنة فهذا خلاف امر الله ورسوله وعبادة المؤمنين من الأئمة الأربعة وغيرهم فمن منع الحكم والفتيا بعدم وقوع الطلاق وتقليد من نفى بذلك فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين ولا يفعل ذلك الا من لم يكن عنده علم فهذا حسبه ان يعذر لا يجب اتباعه ومعاند متبع لهواه لا يقبل الحق اذا ظهر له ولا يصغى لمن يقوله ليعرف ما قال بل يتبع هواه بغير هدى من الله { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } فانه إما مقلد وإما مجتهد فالمقلد لا ينكر القول الذى يخالف متبوعة انكار من يقول هو باطل فانه لا يعلم انه باطل فضلا عن أن يحرم القول به ويوجب القول بقول سلفه والمجتهد ينظر ويناظر وهو مع ظهور قوله لا يسوغ قول منازعيه الذى ساغ فيه الإجتهاد وهو ما لم يظهر أنه خالف نصا ولا اجماعا فمن خرج عن حد
____________________
(33/143)
التقليد السائغ والإجتهاد كان فيه شبه من الذين { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } وكان ممن أتبع هواه بغير هدى من الله
( 1 ) ومن قال إنه اتبع هذه الفتيا فولد له ولد بعد ذلك فهو ولد زنا كان هذا القائل فى غاية الجهل والضلال والمشاقة لله ولرسوله
وعلى الجملة اذا كان الملتزم به قربة لله تعالى يقصد به القرب إلى الله تعالى لزمه فعله أو الكفارة ولو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة ومثل ذلك لم يلزمه بل يجزيه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور المسلمين وهو قول الشافعى وأحمد واحدى الروايتين عن أبى حنيفة وقول المحققين من أصحاب مالك لأن الحلف بالطلاق على وجه اليمين يكره وقوعه اذا وجد الشرط كما يكره وقوع الكفر فلا يقع وعليه الكفارة والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عمن قال الطلاق يلزمنى على المذاهب الأربعة أو نحو ذلك هل يلزمه الطلاق كما قال أم كيف الحكم
فأجاب وأما قول الحالف الطلاق يلزمنى على مذاهب الأئمة الأربعة أو على مذهب من يلزمه بالطلاق لا من يجوز فى الحلف به كفارة أو فعلى
____________________
(33/144)
الحج على مذهب مالك بن أنس أو فعلى كذا على مذهب من يلزمه من فقهاء المسلمين أو فعلى كذا على أغلظ قول قيل فى الإسلام أو فعلى كذا أنى لا أستفتى من يفتينى بالكفارة فى الحلف بالطلاق أو الطلاق يلزمنى لا أفعل كذا ولا أستفتى من يفتيني بحل يمينى أو رجعة فى يميني ونحو هذه الألفاظ التى يغلظ فيها اللزوم تغليظا يؤكد به لزوم المعلق عند الحنث لئلا يحنث فى يمينه فان الحالف عند اليمين يريد تأكيد يمينه بكلما يخطر بباله من أسباب التأكيد ويريد منع نفسه من الحنث فيها بكل طريق يمكنه وذلك كله لا يخرج هذه العقود عن أن تكون أيمانا مكفره ولو غلظ الأيمان التى شرع الله فيها الكفارة بما غلظ ولو قصد أن لا يحنث فيها بحال فذلك لا يغير شرع الله وايمان الحالفين لا تغير شرائع الدين بل ما كان الله قد أمر به قبل يمينه فقد أمر به بعد اليمين واليمين ما زادته إلا توكيدا
وليس لأحد أن يفتى أحدا بترك ما أوجبه الله ولا بفعل ما حرمه الله ولو لم يحلف عليه فكيف أذا حلف عليه
وهذا مثل الذى يحلف على فعل ما يجب عليه من الصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام وطاعة السلطان ومناصحته وترك الخروج ومحاربته وقضاء الدين الذى عليه واداء الحقوق إلى مستحقيها والإمتناع من الظلم والفواحش وغير ذلك فهذه الأمور كانت قبل اليمين واجبة وهى بعد اليمين أوجب
____________________
(33/145)
وما كان محرما قبل اليمين فهو بعد اليمين أشد تحريما ولهذا كانت الصحابة يبايعون النبى صلى الله عليه وسلم على طاعته والجهاد معه وذلك واجب عليهم ولو لم يبايعوه فالبيعة أكدته وليس لأحد أن ينقض مثل هذا العقد وكذلك مبايعة السلطان التى أمر الله بالوفاء بها ليس لأحد أن ينقضها ولو لم يحلف فكيف اذا حلف بل لو عاقد الرجل غيره على بيع أو إجارة أو نكاح لم يجز له أن يغدر به ولوجب عليه الوفاء بهذا العقد فكيف بمعاقدة ولاة الأمور على ما أمر الله به ورسوله من طاعتهم ومناصحتهم والإمتناع من الخروج عليهم فكل عقد وجب الوفاء به بدون اليمين اذا حلف عليه كانت اليمين موكدة له ولو لم يجز فسخ مثل هذا العقد بل قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها اذا حدث كذب واذا اؤتمن خان واذا عاهد غدر واذا خاصم فجر (
وما كان مباحا قبل اليمين اذا حلف الرجل عليه لم يصر حراما بل له أن يفعله ويكفر عن يمينه وما لم يكن واجبا فعله اذا حلف عليه لم يصر واجبا عليه بل له أن يكفر يمينه ولا يفعله ولو غلط فى اليمين بأى شيء غلظها فايمان الحالفين لا تغير شرائع الدين وليس لأحد أن يحرم بيمينه ما أحله الله ولا يوجب بيمينه ما لم يوجبه الله هذا هو شرع محمد صلى الله عليه وسلم
____________________
(33/146)
وأما شرع من قبله فكان فى شرع بنى اسرائيل اذا حرم الرجل شيئا حرم عليه واذا حلف ليفعلن شيئا وجب عليه ولم يكن فى شرعهم كفارة فقال تعالى { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } فاسرائيل حرم على نفسه شيئا فحرم عليه وقال الله تعالى لنبينا { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وهذا الفرض هو المذكور فى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون }
ولهذا لما لم يكن فى شرع من قبلنا كفارة بل كانت اليمين توجب عليهم فعل المحلوف عليه أمر الله أيوب أن يأخذ بيده ضغثا فيضرب به ولا يحنث لأنه لم يكن فى شرعه كفارة يمين ولو كان فى شرعه كفارة يمين كان ذلك أيسر عليه من ضرب امرأته ولو بضغث فان أيوب كان قد رد الله عليه أهله ومثلهم معهم لكن لما كان ما يوجبونه باليمين بمنزلة ما
____________________
(33/147)
يجب بالشرع كانت اليمين عندهم كالنذر والواجب بالشرع قد يرخص فيه عند الحاجة كما يرخص فى الجلد الواجب فى الحد إذا كان المضروب لا يحتمل التفريق بخلاف ما التزمه الإنسان بيمينه فى شرعنا فانه لا يلزم بالشرع فيلزمه ما التزمه وله مخرج من ذلك في شرعنا بالكفارة
ولكن بعض علمائنا لما ظنوا أن الايمان من مالا مخرج لصاحبه منه بل يلزمه ما التزمه فظنوا أن شرعنا فى هذا الموضع كشرع بنى اسرائيل احتاجوا إلى الاحتيال فى الايمان إما فى لفظ اليمين وإما بخلع اليمين وإما بدور الطلاق وإما بجعل النكاح فاسدا فلا يقع فيه الطلاق وإن غلبوا عن هذا كله دخلوا فى التحليل وذلك لعدم العلم بما بعث الله به محمدا فى هذا الموضع من الحنيفية السمحة وما وضع الله به من الآصار والأغلال كما قال تعالى { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } وصار ما شرعه النبى لأمته هو الحق فى نفس الأمر وما أحدث غيره غايته أن يكون بمنزله شرع من قبله مع شرعه وإن كان
____________________
(33/148)
الذين قالوه باجتهادهم لهم سعى مشكور وعمل مبرور وهم مأجورون على ذلك مثابون عليه فإنه كلما كان من مسائل النزاع التى تنازعت فيه الأمة فأصوب القولين فيه ما وافق كتاب الله وسنة رسوله من أصاب هذا القول فله أجران ومن لم يؤده اجتهاده الا إلى القول الآخر كان له اجر واحد والقول الموافق لسنته مع القول الآخر بمنزلة طريق سهل مخصب يوصل إلى المقصود وتلك الأقوال فيها بعد وفيها وعورة وفيها حدوثه فصاحبها يحصل له من التعب والجهد أكثر مما فى الطريقة الشرعية
ولهذا أذاعوا ما دل عليه الكتاب والسنة على تلك الطريقة التى تتضمن من لزوم ما يبغضه الله ورسوله من القطيعة والفرقة وتشتيت الشمل وتخريب الديار وما يحبه الشيطان والسحرة من التفريق بين الزوجين وما يظهر ما فيها من الفساد لكل عاقل ثم إما أن يلزموا هذا الشر العظيم ويدخلوا فى الآصار وأغلال وإما أن يدخلوا فى منكرات أهل الاحتيال وقد نزه الله النبى وأصحابه من كلا الفريقين بما أغناهم به من الحلال
( فالطرق ثلاثة ( إما الطريقة الشرعية المحضة الموافقة للكتاب والسنة وهى طريق أفاضل السابقين الأولين وتابعيهم باحسان وإما طريقة الآصار والآغلال والمكر والاحتيال وان كان من سلكها من سادات أهل العلم والايمان وهم مطيعون لله ورسوله فيما أتوا به من الإجتهاد
____________________
(33/149)
المأمور به { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وهذا كالمجتهد فى القبلة إذا أدى اجتهاد كل فرقة إلى جهة من الجهات الأربع فكلهم مطيعون لله ورسوله مقيمون للصلاة لكن الذى أصاب القبلة فى نفس الأمر له أجران والعلماء ورثة الأنبياء وقال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } وكل مجتهد مصيب بمعنى أنه مطيع لله ولكن الحق فى نفس الأمر واحد
والمقصود هنا ان ما شرع الله تكفيره من الايمان هو مكفر ولو غلظه بأى وجه غلظ ولو التزم أن لا يكفره كان له أن يكفرة فان التزامه أن لا يكفره التزام لتحريم ما أحله الله ورسوله وليس لأحد أن يحرم ما أحله الله ورسوله بل عليه فى يمينه الكفارة
فهذا الملتزم لهذا الإلتزام الغليظ هو يكره لزومه اياه وكلما غلظ كان لزومه له أكره إليه وإنما التزمه لقصده الحظر والمنع ليكون لزومه له مانعا من الحنث لم يلتزمه لقصد لزومه اياه عند وقوع الشرط فان هذا القصد يناقض عقد اليمين فان الحالف لا يحلف الا بالتزام ما يكره وقوعه عند المخالفة ولا يحلف قط الا بالتزامه ما يريد وقوعه عند المخالفة فلا يقول حالف ان فعلت كذا غفر الله لى ولا أماتنى على الإسلام بل يقول إن فعلت
____________________
(33/150)
كذا فأنا يهودى أو نصرانى أو نسائى طوالق أو عبيدى أحرار أو كلما أملكه صدقة أو على عشر حجج حافيا مكشوف الرأس على مذهب مالك بن أنس أو فعلى الطلاق على المذاهب الأربعة أو فعلى كذا على أغلظ قول
وقد يقول مع ذلك على أن لا أستفتى من يفتينى بالكفارة ويلتزم عند غضبة من اللوازم ما يرى أنه لا مخرج له منه اذا حنث ليكون لزوم ذلك مانعا من الحنث وهو فى ذلك لا يقصد قط أن يقع به شيء من تلك اللوازم وان وقع الشرط أو لم يقع واذا اعتقد أنها تلزمه التزمها لإعتقاده لزومها اياه مع كراهته لأن يلتزمه لا مع إرادته ان يلتزمه وهذا هو الحالف واعتقاد لزوم الجزاء غير قصده للزوم الجزاء
فإن قصد لزوم الجزاء عند الشرط لزمه مطلقا ولو كان بصيغة القسم فلو كان قصده أن يطلق امرأته اذا فعلت ذلك الأمر أو اذا فعل هو ذلك الأمر فقال الطلاق يلزمنى لا تفعلين كذا وقصده أنها تفعله فتطلق ليس مقصوده أن ينهاها عن الفعل ولا هو كاره لطلاقها بل هو مريد لطلاقها طلقت فى هذه الصورة ولم يكن هذا فى الحقيقة حالفا بل هو معلق للطلاق على ذلك الفعل بصيغة القسم ومعنى كلامه معنى التعليق الذى يقصد به الإيقاع فيقع به الطلاق هنا عند الحنث فى اللفظ الذى هو بصيغة القسم ومقصوده مقصود التعليق والطلاق هنا إنما
____________________
(33/151)
وقع عند الشرط الذى قصد ايقاعه عنده لا عند ما هو حنث فى الحقيقة اذا لإعتبار بقصده ومراده لا بظنه واعتقاده فهو الذى تبنى عليه الأحكام كما قال النبى ( انما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى
والسلف من الصحابة والتابعين لهم باحسان وجماهير الخلف من اتباع الأئمة الأربعة وغيرهم متفقون على أن اللفظ الذى يحتمل الطلاق وغيره اذا قصد به الطلاق فهو طلاق وان قصد به غير الطلاق لم يكن طلاقا وليس للطلاق عندهم لفظ معين فلهذا يقولون إنه يقع بالصريح والكناية ولفظ الصريح عندهم كلفظ الطلاق لو وصلة بما يخرجه عن طلاق المرأة لم يقع به الطلاق كما لو قال لها أنت طالق من وثاق الحبس أو من الزوج الذى كان قبلى ونحو ذلك
والمرأة اذا أبغضت الرجل كان لها أن تفتدى نفسها منه كما قال تعالى { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } وهذا الخلع تبين به المرأة فلا يحل له أن يتزوجها بعده الا برضاها وليس هو كالطلاق المجرد فان ذلك يقع رجعيا له أن يرتجعها فى العدة بدون رضاها لكن تنازع العلماء فى هذا الخلع هل يقع به طلقة بائنة محسوبة من الثلاث أو
____________________
(33/152)
تقع به فرقة بائنة وليس من الطلاق الثلاث بل هو فسخ على قولين مشهورين
و ( الاول ) مذهب أبى حنيفة ومالك وكثير من السلف ونقل عن طائفة من الصحابة لكن لم يثبت عن واحد منهم بل ضعف احمد بن حنبل وبن خزيمة وبن المنذر وغير هم جميع ما روى فى ذلك عن الصحابة
و ( الثانى ) أنه فرقة بائنة وليس من الثلاث وهذا ثابت عن بن عباس باتفاق اهل المعرفة بالحديث وهو قول اصحابه كطاووس وعكرمة وهو أحد قولى الشافعى وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث واسحق بن راهوية وأبى ثور ودواد وبن المنذر وبن خزيمة وغيرهم واستدل بن عباس على ذلك بأن الله تعالى ذكر الخلع بعد طلقتين ثم قال { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا
ثم أصحاب هذا القول تنازعوا هل يشترط أن يكون الخلع بغير لفظ الطلاق أو لا يكون الا بلفظ الخلع والفسخ والمفاداة ويشترط مع ذلك أن لا ينوى الطلاق أو لا فرق بين أن ينويه أولا ينويه وهو خلع بأى لفظ وقع بلفظ الطلاق أو غيره على أوجه فى مذهب أحمد وغيره أصحها الذى دل عليه كلام بن عباس وأصحابه واحمد بن حنبل وقدماء أصحابه وهو الوجه الأخير وهو أن الخلع هو الفرقة بعوض فمتى فارقها بعوض فهي
____________________
(33/153)
مفتدية لنفسها به وهو خالع لها بأى لفظ كان ولم ينقل أحد قط لا عن بن عباس وأصحابه ولا عن أحمد بن حنبل انهم فرقوا بين الخلع بلفظ الطلاق وبين غيره بلا كلامهم لفظه ومعناه يتناول الجميع
والشافعى رضى الله عنه لما ذكر القولين فى الخلع هل هو طلاق أم لا قال وأحسب الذين قالوا هو طلاق هو فيما اذا كان بغير لفظ الطلاق ولهذا ذكر محمد بن نصر والطحاوى أن هذا لا نزاع فيه والشافعى لم يحك عن أحد هذا بل ظن أنهم يفرقون وهذا بناه الشافعى على أن العقود وان كان معناها واحدا فان حكمها يختلف باختلاف الألفاظ وفى مذهبه نزاع فى الأصل
وأما احمد بن حنبل فان أصوله ونصوصه وقول جمهور أصحابه أن الإعتبار فى العقود بمعانيها لا بالألفاظ وفى مذهبه قول آخر أنه تختلف الأحكام باختلاف الألفاظ وهذا يذكر فى التكلم بلفظ البيع وفى المزارعة بلفظ الإجارة وغير ذلك وقد ذكرنا الفاظ بن عباس وأصحابه والفاظ أحمد وغيره وبينا أنها بينة فى عدم التفريق وأن أصول الشرع لا تحتمل التفريق وكذلك أصول أحمد وسببه ظن الشافعى أنهم يفرقون وقد ذكرنا فى غير هذا الموضع وبينا أن الآثار الثابتة فى هذا الباب عن النبى وبن عباس وغيره تدل دلالة بينة أنه خلع وان كان بلفظ الطلاق وهذه الفرقة توجب البينونة والطلاق الذي ذكره الله تعالى في كتابه هو الطلاق الرجعي
____________________
(33/154)
قال هؤلاء وليس فى كتاب الله طلاق بائن محسوب من الثلاث أصلا بل كل طلاق ذكره الله تعالى فى القرآن فهو الطلاق الرجعى وقال هؤلاء ولو قال لإمرأته أنت طالق طلقة بائنة لم يقع بها إلا طلقة رجعية كما هو مذهب اكثر العلماء وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد فى ظاهر مذهبه قالوا وتقسيم الطلاق إلى رجعى وبائن تقسيم مخالف لكتاب الله وهذا قول فقهاء الحديث وهو مذهب الشافعى وظاهر مذهب أحمد فان كل طلاق بغير عوض لا يقع إلا رجعيا وإن قال أنت طالق طلقة بائنة أو طلاقا بائنا لم يقع به عندهما إلا طلقة رجعية وأما الخلع ففيه نزاع فى مذهبهما فمن قال بالقول الصحيح طرد هذا الأصل واستقام قوله ولم يتناقض كما يتناقض غيره إلا من قال من أصحاب الشافعى وأحمد إن الخلع بلفظ الطلاق يقع طلاقا بائنا فهؤلاء أثبتوا فى الجملة طلاقا بائنا محسوبا من الثلاث فنقضوا أصلهم الصحيح الذى دل عليه الكتاب والسنة وقال بعض الظاهرية إذا وقع بلفظ الطلاق كان طلاقا رجعيا لا بائنا لأنه لم يمكنه أن يجعله طلاقا بائنا لمخالفة القرآن وظن أنه بلفظ الطلاق يكون طلاقا فجعله رجعيا وهذا خطأ فان مقصود الإفتداء لا يحصل إلا مع البينونة ولهذا كان حصول البينونة بالخلع مما لم يعرف فيه خلاف بين المسلمين لكن بعضهم جعله جائزا فقال للزوج أن يرد العوض ويراجعها والذى عليه الأئمة الأربعة والجمهور أنه لا يملك الزوج وحده أن يفسخه ولكن لو اتفقا على فسخه كالتقايل فهذا فيه نزاع آخر كما بسط فى موضعه
____________________
(33/155)
والمقصود هنا أن كتاب الله يبين أن الطلاق بعد الدخول لا يكون إلا رجعيا وليس فى كتاب الله طلاق بائن إلا قبل الدخول واذا إنقضت العدة فاذا طلقها ثلاثا فقد حرمت عليه وهذه البينونة الكبرى وهى إنما تحصل بالثلاث لا بطلقة واحدة مطلقة لا يحصل بها لا بينونة كبرى ولا صغرى وقد ثبت عن بن عباس أنه قيل له إن أهل اليمن عامة طلاقهم الفداء فقال بن عباس ليس الفداء بطلاق ورد المرأة على زوجها بعد طلقتين وخلع مرة وبهذا أخذ أحمد بن حنبل فى ظاهر مذهبه والشافعى فى أحد قوليه لكن تنازع أهل هذا القول هل يختلف الحكم باختلاف الألفاظ والصحيح أن المعنى إذا كان واحدا فالإعتبار بأى لفظ وقع وذلك أن الإعتبار بمقاصد العقود وحقائقها لا باللفظ وحده فما كان خلعا فهو خلع باى لفظ كان وما كان طلاقا فهو طلاق بأى لفظ كان وما كان يمينا فهو يمين بأى لفظ كان وما كان إيلاء فهو إيلاء بأى لفظ كان وما كان ظهارا فهو ظهار بأى لفظ كان
والله تعالى ذكر فى كتابه ( الطلاق ( و ( اليمين ( و ( الظهار ( و ( الإيلاء ( و ( الإفتداء ( وهو الخلع وجعل لكل واحد حكما فيجب أن نعرف حدود ما أنزل الله على رسوله وندخل فى الطلاق ما كان طلاقا وفى اليمين ما كان يمينا وفى الخلع ما كان خلعا وفى الظهار ما كان ظهارا وفى الإيلاء ما كان إيلاء وهذا هو الثابت عن أئمة الصحابة وفقهائهم والتابعين لهم بإحسان ومن العلماء من اشتبه عليه بعض ذلك ببعض
____________________
(33/156)
فيجعل ما هو ظهار طلاقا فيكثر بذلك وقوع الطلاق الذى يبغضه الله ورسوله ويحتاجون إما إلى دوام المكروه وإما إلى زواله بما هو أكره إلى الله ورسوله منه وهو ( نكاح التحليل (
وأما الطلاق الذى شرعه الله ورسوله فهو أن يطلق امرأته إذا أراد طلاقها طلقة واحدة فى طهر لم يصبها فيه أو كانت حاملا قد استبان حملها ثم يدعها تتربص ثلاثة قروء فان كان له غرض راجعها فى العدة وان لم يكن له فيها غرض سرحها باحسان ثم ان بدا له بعد هذا ارجاعها يتزوجها بعقد جديد ثم اذا أراد ارتجاعها أو تزوجها وان أراد أن يطلقها طلقها فهذا طلاق السنة المشروع
ومن لم يطلق إلا طلاق السنة لم يحتج إلى ما حرم الله ورسوله من نكاح التحليل وغيره بل اذا طلقها ثلاث تطليقات له فى كل طلقة رجعة أو عقد جديد فهنا قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ولا يجوز عودها إليه بنكاح تحليل أصلا بل قد ( لعن رسول الله المحلل والمحلل له ( واتفق على ذلك أصحابه وخلفاؤه الراشدون وغيرهم فلا يعرف فى الإسلام أن النبى أو أحدا من خلفائه أو أصحابه أعاد المطلقة ثلاثا إلى زوجها بعد نكاح تحليل أبدا ولا كان نكاح التحليل ظاهرا على عهد النبى بل كان من يفعله سرا وقد لا تعرف المرأة ولا وليها وقد ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له ) وفى الربا قال ( لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ( فلعن الكاتب والشهود لأنهم كانوا يشهدون على دين الربا ولم يكونوا يشهدون على نكاح التحليل
____________________
(33/157)
( وأيضا ) فان النكاح لم يكن على عهد النبى يكتب فيه صداق كما تكتب الديون ولا كانوا يشهدون فيه لأجل الصداق بل كانوا يعقدونه بينهم وقد عرفوا به ويسوق الرجل المهر للمرأة فلا يبقى لها عليه دين فلهذا لم يذكر رسول الله فى نكاح التحليل الكاتب والشهود كما ذكرهم فى الربا
ولهذا لم يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الإشهاد على النكاح حديث ونزاع العلماء فى ذلك على أقوال فى مذهب أحمد وغيره فقيل يجب الإعلان أشهدوا أو لم يشهدوا فاذا أعلنوه ولم يشهدوا تم العقد وهو مذهب مالك وأحمد فى إحدى الروايات وقيل يجب الإشهاد أعلنوه أو لم يعلنوه فمتى أشهدوا وتواصوا بكتمانه لم يبطل وهذا مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد فى إحدى الروايات وقيل يجب الأمران الإشهاد والإعلان وقيل يجب أحدهما وكلاهما يذكر فى مذهب أحمد
وأما ( نكاح السر ) الذى يتواصون بكتمانه ولا يشهدون عليه أحدا فهو باطل عند عامة العلماء وهو من جنس السفاح قال الله تعالى ( وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان ) وهذه المسائل مبسوطة فى موضعها
____________________
(33/158)
وإنما المقصود هنا التنبيه على الفرق بين الأقوال الثابتة بالكتاب والسنة وما فيها من العدل والحكمة والرحمه وبين الأقوال المرجوحة وإن ما بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة يجمع مصالح العباد فى المعاش والمعاد على أكمل وجه فانه خاتم النبيين ولا نبى بعده وقد جمع الله فى شريعته ما فرقه فى شرائع من قبله من الكمال إذ ليس بعده نبى فكمل به الأمر كما كمل به الدين فكتابه أفضل الكتب وشرعه أفضل الشرائع ومنهاجه أفضل المناهج وأمته خير الأمم وقد عصمها الله على لسانه فلا تجتمع على ضلالة ولكن يكون عند بعضها من العلم والفهم ما ليس عند بعض والعلماء ورثة الأنبياء وقد قال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فهذان نبيان كريمان حكما فى قصة فخص الله أحدهما بالفهم ولم يعب الآخر بل أثنى عليهما جميعا بالحكم والعلم وهكذا حكم العلماء المجتهدين ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل العاملين بالكتاب
وهذه القضية التى قضى فيها داود وسليمان لعلماء المسلمين فيها وما يشبهها أيضا قولان منهم من يقضى بقضاء داود ومنهم من يقضى بقضاء سليمان وهذا هو الصواب وكثير من العلماء أو أكثرهم لا يقول به بل قد لا يعرفه وقد بسطنا هذا فى غير هذا الجواب والله أعلم بالصواب
____________________
(33/159)
وأما إذا ( حلف بالحرام ) فقال الحرام يلزمنى لا أفعل كذا أو الحل على حرام لا أفعل كذا أو ما أحل الله على حرام إن فعلت كذا أو ما يحل على المسلمين يحرم على إن فعلت كذا أو نحو ذلك وله زوجه ففى هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف لكن القول الراجح أن هذه يمين لا يلزمه بها طلاق ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق وهو مذهب أحمد المشهور عنه حتى لو قال أنت على حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده
ولو قال أنت على كظهر أمى وقصد به الطلاق فان هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء وفى ذلك أنزل الله القرآن فانهم كانوا يعدون الظهار طلاقا والإيلاء طلاقا فرفع الله ذلك كله وجعل فى الظهار الكفارة الكبرى وجعل الإيلاء يمينا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان وكذلك قال كثير من السلف والخلف إنه إذا كان مزوجا فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقا كان مظاهرا وهو مذهب أحمد
وإذا حلف بالظهار أو الحرام لا يفعل شيئا وحنث فى يمينه أجزأته الكفارة فى مذهبه لكن قيل إن الواجب كفارة ظهار سواء حلف
____________________
(33/160)
أو أوقع وهو المنقول عن أحمد وقيل بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين وإن أو قعه لزمه كفارة ظهار وهذا أقوى وأقيس على أصل أحمد وغيره فالحالف بالحرام تجزؤه كفارة يمين كما تجزئ الحالف بالنذر إذا قال إن فعلت كذا فعلى الحج أو فمالى صدقة
وكذلك إذا حلف بالعتق لزمته كفارة يمين عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين وكذلك الحلف بالطلاق تجزئ أيضا فيه كفارة يمين كما أفتى من أفتى به من السلف والخلف والثابت عن الصحابة لا يخالف ذاك بل معناه يوافقه وكل يمين يحلف بها المسلمون من أيمانهم ففيها كفارة يمين كما دل عليه الكتاب والسنة وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو يعتق أو أن يظاهر فهذا يلزمه ما أوقعه سواء كان منجزا أو معلقا فلا تجزؤه كفارة يمين والله أعلم بالصواب
____________________
(33/161)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قال الطلاق يلزمنى ما بقيت أحلف بالطلاق إلا إن كنت ساهيا أو غالطا لأنه تخاصم مع شخص وحصل له حرج فقال ايمان المسلمين تلزمنى أو الايمان تلزمنى على مذهب مالك لابد أن أشكوك إلى المحتسب ولم يكن ذكر اليمين الأول وهو شافعى المذهب فما يجب على اليمين
فأجاب إذا كان ناسيا لليمين الأول وحلف الثانية ثم ذكرها بعد ذلك فلا حنث عليه فى ذلك والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجل قال لزوجته الطلاق يلزمنى متى رأيت فلانة عندك طلقتك فهل يحنث اذا طلعت ولم يرها أو اجتمعوا ثلاثتهم فى مكان غير المحلوف عليه فأجاب رضى الله عنه اذا طلعت ولم يرها أو اجتمع بها فى بيت غيره لم يحنث الا أن يكون فى بيته أو سبب اليمين ما يقتضى ذلك والله أعلم
____________________
(33/162)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل خرجت زوجته بغير إذنه ثم قال لها الطلاق يلزمنى ثلاثا ما بقيت أرفع العصا عنك ونيته فى ذلك اذا خرجت بغير إذنه فهل يجب الطلاق بالحال أو إذا خرجت بغير إذنه وهل اذا أذن لها بعد ذلك
فأجاب لا طلاق عليه بالحال بل اذا خرجت بغير اذنه حنث فان أذن لها أذنا عاما جاز إذا لم يكن له نية أو سبب يخالف ذلك والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل اتهم زوجته بسرقة دراهم فقالت والله ما أخذت شيئا فقال الطلاق يلزمنى منك ثلاثا إن لم تحضرى الدراهم ما تكون له زوجته
فأجاب إن تبين أنها لم تأخذ الدراهم فلا حنث عليه فى أصح قولى العلماء لأن المحلوف عليه ممتنع ولأنه لم يقصد بردها الا إذا كانت أخذتها والله أعلم
____________________
(33/163)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل جرى منه كلام فى زوجته وهى حامل فقال ان جاءت زوجتى ببنت فهي طالق ثم أنه قبل الولادة جرى بينهم كلام فنزل عن طلقة ثم إنها بعد ذلك وضعت بنتا فهل يقع على الزوج الطلاق أم لا
فأجاب ان كان قد أبانها بالطلقة بان تكون الطلقة بعوض أو ودعها حتى تنقضى عدتها فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء وفيها قولان للشافعى ( أحدهما ) يقع وهو رواية مخرجة فى مذهب أحمد وان كان لم يبنها بل راجع فى العدة فإن النكاح باق فان وجدت الصفة المعلق بها وقع الطلاق
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تخاصما هو وإمرأته وأنجرح منها فقال الطلاق يلزمنى منك ثلاثا إن قلت طلقنى طلقتك فسكتت ثم قالت لأمها أى شيء يقول قالت أمها يقول كذا قولى له طلقنى ثم قالت المرأة طلقنى فهل يقع طلاق بواحدة أو بثلاث او لا يقع
____________________
(33/164)
فأجاب الحمد لله إذا لم ينو بقوله إذا قلت طلقنى طلقتك أنه طلقها فى المجلس بل يطلقها عند الشهود وأما اذا لم ينو شيئا لم يحنث اذا افترقا من غير طلاق لكن يطلقها بعد ذلك الطلاق الذى قصد بيمينه وأما إذا لم يقصد أن يطلقها ثلاثا ولا اثنتين أجزأ أن يطلقها طلقة واحدة هذا إن كان مقصودة اجابة سؤالها مطلقا وأما اذا قصد اجابة سؤالها اذا كانت طالبة للطلاق فإذا رجعت وقالت لا أريد الطلاق لم يكن عليه شيء اذا لم يطلقها والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قال لزوجته وهو ساكن بها فى غير منزل سكنها إن قعدت عندكم فانت طالق وإن سكنت عندكم فانت طالق ثم قال أيضا أنت على حرام ثم إنتقل بنفسه ومتاعه دون زوجته إلى مكان آخر وعادت زوجته إلى مكانها الأول فاذا عاد وقعد عند زوجته يقع عليه طلقة واحدة أم طلقتان وهل السكن هو القعود أو بينهما عموم وخصوص واذا لم ينو بالحرام الطلاق هل يقع عليه كما لو نوى وهل اذا كان مذهب تزول به هذه الصورة مخالفا لمذهبه هل يجوز له التقليد أم لا
____________________
(33/165)
فأجاب الحمد لله أما قوله إن قعدت عندكم وان سكنت عندكم فان كان نية الحالف بالقعود إذا انتقض سبب تلك الحال بمنزلة من دعى إلى غداء فحلف أنه لا يتغدى فان سبب اليمين أنه أراد بذلك الغداء المعين ولهذا كان الصحيح أنه لا يحنث بغداء غير ذلك وهكذا إذا كان قد زار هو وامرأته قوما فرأى من الأحوال ما كره أن تقيم تلك المرأة عندهم فحلف أنه لا يقيم ولا يسكن وقصد على تلك الحال أو كان سبب اليمين يدل على ذلك
وأما إن كان قد نوى العموم بحيث قصد أنه لا يقعد عندهم ولا يساكنهم بحال فإنه لا يحنث بالقعود وان أطلق اليمين ففيه نزاع مشهور بين العلماء وحيث يحنث بالقعود فإنه اذا كان القعود الذى قصده هو السكنى لم يحنث باكثر من طلقة إلا أن يقصد أكثر من ذلك كما لو كرر اليمين بالله على فعل واحد لم يلزمه الا كفارة واحدة على الصحيح وإن كان القعود داخلا فى ضمن السكنى كما هو ظاهر اللفظ المطلق فهذه المسألة تداخل الصفات كما لو قال إن أكلت تفاحة واحدة فقد قيل تقع طلقتان لوجود الصفتين وقيل لا يقع الا طلقة واحدة أيضا وهو أقوى فإن المفهوم من هذا الكلام أنك طالق سواء أكلت تفاحة كاملة أو نصفها وكذلك إذا قال إن قعدت فالعقود ( لفظ مشترك ( يراد به السكنى مشتملا على العقود ويكون
____________________
(33/166)
أولا حلف أنه لا يقعد ثم حلف على ما هو أعم من ذلك وهو السكنى فإذا سكن كان الأول بعض الثانى فلا يقع أكثر من طلقة إذا قيل بوقوع الطلاق عليه على أقوى القولين
واما قوله ( أنت على حرام ) فان حلف أن لا يفعل شيئا ففعله فعليه كفارة يمين وان لم يحلف بل حرمها تحريما فهذا عليه كفارة ظهار ولا يقع به طلاق فى الصورتين وهذا قول جمهور أهل العلم من اصحاب رسول الله وأئمة المسلمين يقولون إن الحرام لا يقع به طلاق اذا لم ينوه كما روى ذلك عن أبى بكر وعمر وعثمان وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد بن حنبل وغيرهم وان كان من متأخرى أتباع بعض الأئمة من زعم ان هذا اللفظ قد صار بحكم العرف صريحا فى الطلاق فهذا ليس من قول هؤلاء الأئمة المتبوعين
وقد كانوا فى أول الإسلام يرون لفظ ( الظهار ) صريحا فى الطلاق وهو قوله أنت على كظهر امى حتى تظاهر أوس بن الصامت من امرأته المجادلة التى ثبت حكمها فيما أنزل الله ( قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله ) وافتاها النبى اولا بالطلاق حتى نسخ الله ذلك وجعل الظهار موجبا للكفارة ولو نوى به الطلاق
____________________
(33/167)
( والحرام ) نظير الظهار لأن ذلك تشبيه لها بالمحرمة وهذا نطق بالتحريم وكلاهما منكر من القول وزور فقد دل كتاب الله على أن تحريم الحلال يمين بقوله { لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } مع ان هذا ليس موضع بسط ذلك
وأما تقليد المستفتى للمفتى فالذى عليه الأئمة الأربعة وسائر أئمة العلم انه ليس على أحد ولا شرع له التزام قول شخص معين فى كل ما يوجبه ويحرمه ويبيحه الا رسول الله لكن منهم من يقول على المستفتى ان يقلد الأعلم الأروع ممن يمكنه استفتاؤه ومن هم من يقول بل يخير بين المفتين [ و ] اذا كان له نوع تمييز فقد قيل يتبع أى القولين أرجح عنده بحسب تمييزه فان هذا أولى من التخيير المطلق وقيل لا يجتهد الا اذا صار من أهل الإجتهاد والأول اشبه فاذا ترجح عند المستفتى أحد القولين إما لرجحان دليله بحسب تمييزه وأما لكون قائله أعلم وأروع فله ذلك وان خالف قوله المذهب
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل قال لحماته إن لم تبيعينى جاريتك والا ابنتك طالق ثلاثا فقالوا ما نبيعك الجارية فقال ابنتكم طالق ثلاثا ونيته إن لم تعطينى الجارية
____________________
(33/168)
فأجاب إن كان قد نوى الشرط بقلبه ولم يقصد الطلاق فلا حنث عليه وهذا مذهب الشافعى واحمد وغيرهما أنه لا يلزمه الطلاق فيما بينه وبين الله والله أعلم
وسئل عن من قال لزوجته ان دخلت الدار فانت طالق فدخلت ناسية
فأجاب الحمد لله إذ قال إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت ناسية لم يقع الطلاق فى أظهر قولى العلماء وهو مذهب أهل مكة كعمروبن دينار وبن جريح وغيرهما وهو إحدى الروايتين عن أحمد والله أعلم
وسئل شيخ الإسلام الشجاع المقدام ليث الحروب وأسد السنة الصابر فى ذات الله على المحنة العلم الحجة أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله رب البرية عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن صوت وحرف وان الرحمن عن العرش استوى على ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس من ظاهره هل يحنث فى هذا أم لا
____________________
(33/169)
فأجاب رحمه الله تعالى الحمد لله رب العالمين إن كان مقصود هذا الحالف أن أصوات العباد بالقرآن والمداد الذى يكتب به حروف القرآن قديمة أزلية فقد حنث فى يمينه وما علمت أحدا من الناس يقول ذلك وإن كان قد يكره تجريد الكلام فى المداد الذى فى المصحف وفى صوت العبد لئلا يتذرع بذلك إلى القول بخلق القرآن ومن الناس من تكلم فى صوت العبد وإن كنا نعلم أن الذى نقرؤه هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره وإن الذى بين اللوحين هو كلام الله حقيقة لكن ما علمت أحدا حكم على مجموع المداد المكتوب به وصوت العبد بالقرآن بأنه قديم
ولكن الذين فى قلوبهم زيغ من أهل الأهواء لا يفهمون من كلام الله وكلام رسوله وكلام السابقين الأولين والتابعين لهم باحسان فى ( باب صفات الله ) الا المعانى التى تليق بالخلق لا بالخالق ثم يريدون تحريف الكلم عن مواضعه فى كلام الله وكلام رسوله إذا وجدو ذلك فيها وإن وجدوه فى كلام التابعين للسلف افتروا الكذب عليهم ونقلوا عنهم بحسب الفهم الباطل الذى فهموه أو زادوا عليهم فى الألفاظ وغيروها قدرا ووصفا كما نسمع من ألسنتهم ونرى فى كتبهم
ثم بعض من يحسن الظن بهؤلاء النقلة قد يحكى هذا المذهب عمن حكوه عنهم ويذم ويبحث مع من لا وجود له وذمه واقع على موصوف غير
____________________
(33/170)
موجود نظير ما صرف الله عن رسوله حيث قال ( ألا تعجبون من قريش يشتمون مذمما وأنا محمد )
وهذا نظير ما تحكى الرافضة عن أهل السنة من أهل الحديث والفقه والعبادة والمعرفة أنهم ناصبة وتحكى القدرية عنهم أنهم مجبرة وتحكى الجهمية عنهم أنهم مشبهه ويحكى من خالف الحديث ونابذ أهله عنهم أنهم نابته وحشوية وغثاء وغثرا إلى غير ذلك من الأسماء المكذوبة ومن تأمل كتب المتكلمين الذين يخالفون هذا القول وجدهم لا يبحثون فى الغالب أو فى الجميع الا مع هذا القول الذى ما علمنا لقائله وجودا
وإن كان مقصود الحالف أن القرآن الذى أنزله الله على محمد هو هذه المائة والأربع عشرة سورة حروفها ومعانيها وان القرآن ليس هو الحروف دون المعانى ولا المعانى دون الحروف بل هو مجموع الحروف والمعانى وإن تلاوتنا للحروف وتصورنا للمعانى لا يخرج المعانى والحروف عن أن تكون موجودة قبل وجودنا فهذا مذهب المسلمين ولا حنث عليه
وكذلك إن كان مقصوده أن هذا القرآن الذى يقرأه المسلمون ويكتبونه فى مصاحفهم هو كلام الله سبحانه حقيقة لا مجازا وأنه
____________________
(33/171)
لا يجوز نفى كونه كلام الله إذ الكلام يضاف حقيقة لمن قاله متصفا به مبتديا وان كان قد قاله غيره مبلغا مؤديا وهو كلام لمن اتصف به مبتديا لا من بلغه مؤديا
فإنا بالإضطرار نعلم من دين رسول الله ودين سلف الأمة أن قائلا لو قال إن هذه الحروف حروف القرآن ما هي من القرآن وإنما القرآن اسم لمجرد المعانى لأنكروا ذلك عليه غاية الإنكار وكان عندهم بمنزلة من يقول إن جسد رسول الله ما هو داخل فى اسم رسول الله وإنما هذا اسم للروح دون الجسد أو يقول إن الصلاة ليست اسما لحركات القلب والبدن وانما هي اسم لأعمال القلب فقط
وكذلك ذكر الشهرستانى وهو من أخبر الناس بالملل والنحل والمقالات فى نهاية الاقدام أن القول بحدوث حروف القرآن قول محدث وأن مذهب سلف الأمة نفى الخلق عنها وهو من أعيان الطائفة القائلة بحدوثها
ولا يحسب اللبيب أن فى العقل أو فى السمع ما يخالف ذلك بل من تبحر فى المعقولات ووقف على أسرارها علم قطعا أن ليس فى العقل الصريح الذى لا يكذب قط ما يخالف مذهب السلف وأهل الحديث بل يخالف
____________________
(33/172)
ما قد يتوهمه المنازعون لهم بظلمة قلوبهم وأهواء نفوسهم أو ما قد يفترونه عليهم لعدم التقوى وقلة الدين
ولو فرض على سبيل التقدير أن العقل الصريح الذى لا يكذب يناقض بعض الأخبار للزوم أحد الأمرين إما تكذيب الناقل أو تأويل المنقول لكن ولله الحمد هذا لم يقع ولا ينبغى أن يقع قط فإن حفظ الله لما أنزله من الكتاب والحكمة يأبى ذلك نعم يوجد مثل هذا فى أحاديث وضعتها الزنادقة ليشينوا بها أهل الحديث كحديث ( عرق الخيل ) و ( الجمل الأورق ) وغير ذلك مما يعلم العلماء بالحديث أنه كذب
ومما يوضح هذا ما قد استفاض عن علماء الإسلام مثل الشافعى والحميدى وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهوية وغيرهم من انكارهم على من زعم أن لفظ القرآن مخلوق والآثار بذلك مشهورة فى كتاب بن أبى حاتم وكتاب اللالكائى تلميذ أبى حامد الإسفرائينى وكتاب الطبرانى وكتاب شيخ الإسلام وغيرهم ممن يطول ذكره وليس هذا موضع التقرير بالأدلة والأسولة والأجوبة
____________________
(33/173)
وكذلك إن كان مراد الحالف بذكر الصوت التصديق بالآثار عن النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم التى وافقت القرآن وتلقاها السلف بالقبول مثل ما خرجا فى الصحيحين عن النبى من ( ان الله ينادى آدم بصوت ) وما استشهد به البخارى فى هذا الباب من ( ان الله ينادى عبادة يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ( ومثل ( ان الله إذا تكلم بالوحى القرآن أو غيره سمع أهل السماوات صوته ( وفى قول بن عباس سمعوا صوت الجبار وأن الله كلم موسى بصوت إلى غير ذلك من الآثار التى قالها إما ذاكرا وإما آثرا مثل عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبى هريرة وعبد الله بن أنيس وجابر بن عبد الله ومسروق أحد أعيان كبار التابعين وأبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء السبعة وعكرمة مولى بن عباس والزهرى وبن المبارك وأحمد بن حنبل ومن لا يحصى كثرة ولا ينقل عن أحد من علماء الإسلام قبل المائة الثانية أنه أنكر ذلك ولا قال خلافه بل كانت الآثار مشهورة بينهم متداولة فى كل عصر ومصر بل أنكر ذلك شخص فى وقت الإمام أحمد وهو أول الأزمنة التى نبغت فيها البدع بانكار ذلك على النصوص وإلا فقبله قد نبغ من أنكر ذلك وغيره فهجر أهل الإسلام من أنكر ذلك وصار بين المسلمين كالجمل الأجرب فان أراد الحالف ما هو منقول عن السلف نقلا صحيحا فلا حنث عليه
____________________
(33/174)
وأما حلفه ان ( الرحمن على العرش استوى ) على ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس من ظاهره فلفظه ( الظاهر ) قد صارت مشتركه فان الظاهر فى الفطر السليمة واللسان العربى والدين القيم ولسان السلف غير الظاهر فى عرف كثير من المتأخرين فان أراد الحالف بالظاهر شيئا من المعانى التى هي من خصائص المحدثين أو ما يقتضى نوع نقص بأن يتوهم أن الإستواء مثل استواء الأجسام على الأجسام أو كاإستواء الأرواح إن كانت لا تدخل عنده فى اسم الأجسام فقد حنث فى ذلك وكذب وما أعلم أحدا يقول ذلك إلا ما يروى عن مثل داود الجواربى البصرى ومقاتل بن سليمان الخراسانى وهشام بن الحكم الرافضى ونحوهم ان صح النقل عنهم
فانه يجب القطع بأن الله ليس كمثله شيء لا فى نفسه ولا فى صفاته ولا فى أفعاله وإن مباينته للمخلوقين وتنزهه عن مشاركتهم أكبر وأعظم مما يعرفه العارفون من خليقته ويصفه الواصفون وان كل صفة تستلزم حدوثا أو نقصا غير الحدوث فيجب نفيها عنه ومن حكى عن أحد من أهل السنة أنه قاس صفاته بصفات خلقه فهو إما كاذب أو مخطىء
وإن أراد الحالف بالظاهر ما هو الظاهر فى فطر المسلمين قبل ظهور الأهواء وتشتت الآراء وهو الظاهر الذى يليق بجلالة سبحانه وتعالى
____________________
(33/175)
كما أن هذا هو الظاهر فى سائر ما يطلق عليه سبحانه من أسمائه وصفاته كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والمحبة والغضب والرضا كقوله { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } و ( ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة ) إلى غير ذلك فان ظاهر هذه الألفاظ إذا طلقت علينا أن تكون أعراضا أو أجساما لأن ذواتنا كذلك وليس ظاهرها إذا اطلقت على الله سبحانه وتعالى إلا ما يليق بجلالة ويناسب نفسه الكريمة فكما ان لفظ ( ذات ) و ( وجود ) و ( حقيقة ) تطلق على الله وعلى عباده وهو على ظاهره فى الاطلاقين مع القطع بانه ليس ظاهره فى حق الله مساويا لظاهره فى حقنا ولا مشاركا له فيما يوجب نقصا أو حدوثا سواء جعلت هذه الألفاظ متواطئة أو مشتركة أو مشككة كذلك قوله { أنزله بعلمه } و { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } { لما خلقت بيدي } { الرحمن على العرش استوى } الباب فى الجميع واحد
وكان قدماء ( الجهمية ) ينكرون جميع الصفات لله التى هي فينا أعراض كالعلم والقدرة أو أجسام كاليد والوجه وحدثائهم أقروا بكثير من الصفات التى هي فينا أعراض كالعلم والقدرة وأنكروا بعضها والصفات التى هي فينا أجسام وفيهم من أقر ببعض الصفات التى هي فينا أجسام كاليد
____________________
(33/176)
( وأما السلفية ) فعلى ما حكاه الخطابى وأبو بكر الخطيب وغيرهما قالوا مذهب السلف إجراء أحاديث الصفات وآيات الصفات على ظاهرها مع نفى الكيفية والتشبيه عنها فلا نقول إن معنى اليد القدرة ولا أن معنى السمع العلم وذلك أن الكلام فى الصفات فرع على الكلام فى الذات يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات اثبات وجود لا اثبات كيفية
فقد أخبرك الخطابى والخطيب وهما إمامان من أصحاب الشافعى متفق على علمهما بالنقل وعلم الخطابى بالمعانى أن مذهب السلف إجراؤها على ظاهرها مع نفى الكيفية والتشبيه عنها والله يعلم أنى قد بالغت فى البحث عن مذاهب السلف فما علمت أحدا منهم خالف ذلك
ومن قال من المتأخرين ان مذهب السلف أن الظاهر غير مراد فيجب لمن أحسن به الظن أن يعرف أن معنى قوله ( الظاهر ) الذى يليق بالمخلوق لا بالخالق ولا شك أن هذا غير مراد ومن قال أنه مراد فهو بعد قيام الحجة عليه كافر
فهنا ( بحثان ) لفظى ومعنوي أما المعنوى فالأقسام ( ثلاثة فى قوله { الرحمن على العرش استوى } ونحوه أن يقال إستواء كاستواء
____________________
(33/177)
مخلوق أو يفسر باستواء مستلزم حدوثا أو نقصا فهذا الذى يحكى عن الضلال المشبهة والمجسمة وهو باطل قطعا بالقرآن وبالعقل
وإما أن يقال ما ثم استواء حقيقى أصلا ولا على العرش إله ولا فوق السماوات رب فهذا مذهب الضالة الجهمية المعطلة وهو باطل قطعا بما علم بالإضطرار من دين الإسلام لمن أمعن النظر فى العلوم النبوية وبما فطر الله عليه خليقته من الإقرار بانه فوق خلقه كاقرارهم بأنه ربهم قال بن قتيبة ما زالت الأمم عربها وعجمها فى جاهليتها واسلامها معترفة بان الله فى السماء أى على السماء
أو يقال بل استوى سبحانه على العرش على الوجه الذى يليق بجلاله ويناسب كبريائه وأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه مع أنه سبحانه هو حامل للعرش ولحملة العرش وان الإستواء معلوم والكيف مجهول والأيمان به واجب والسؤال عنه بدعة كما قالته أم سلمة وربيعة بن أبى عبد الرحمن ومالك بن أنس فهذا مذهب المسلمين
وهو الظاهر من لفظ ( استوى ) عند عامة المسلمين الباقين على الفطر السليمة التى لم تنحرف إلى تعطيل ولا إلى تمثيل هذا هو الذى أراده يزيد بن هارون الواسطى المتفق على إمامته وجلالته وفضله وهو من أتباع التابعين حيث قال
____________________
(33/178)
من زعم أن { الرحمن على العرش استوى } خلاف ما يقر فى نفوس العامة فهو جهمى فإن الذى أقره الله فى فطر عبادة وجبلهم عليه أن ربهم فوق سمواته كما أنشد عبد الله بن رواحه للنبى فأقره النبى ** شهدت بأن وعد الله حق ** وان النار مثوى الكافرينا ** ** وأن العرش فوق الماء طاف ** وفوق العرش رب العالمينا ** وقال عبد الله بن المبارك الذى أجمعت فرق الأمة على امامته وجلالته حتى قيل إنه أمير المؤمنين فى كل شيء وقيل ما أخرجت خراسان مثل بن المبارك وقد أخذ عن عامة علماء وقته مثل الثورى ومالك وأبى حنيفة والأوزاعى وطبقتهم قيل له بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب إمام الأئمة وهو ممن يعرج أصحاب الشافعى بما ينصره من مذهبه ويكاد يقال ليس فيهم أعلم بذلك منه
من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه باين من خلقه وجب أن يستتاب فان تاب والا ضربت عنقه والقى على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الملة ولا أهل الذمة وكان ماله فيئا وقال مالك بن أنس الإمام فيما رواه عنه عبد الله بن نافع وهو مشهور
____________________
(33/179)
عنه إن الله فى السماء وعلمه فى كل مكان لا يخلو من علمه مكان وقال الامام أحمد بن حنبل مثل قال مالك وما قاله بن المبارك
والآثار عن النبى وأصحابه وسائر علماء الأمة بذلك متواترة عند من تتبعها وقد جمع العلماء فيها مصنفات صغارا وكبارا ومن تتبع الآثار علم أيضا قطعا أنه لا يمكن أن ينقل عن أحد منهم حرف واحد يناقض ذلك بل كلهم مجمعون على كلمة واحدة وعقيدة واحدة يصدق بعضهم بعضا وان كان بعضهم أعلم من بعض كما أنهم متفقون على الإقرار بنبوة محمد وان كان فيهم من هو أعلم بخصائص النبوة ومزاياها وحقوقها وموجباتها وحقيقتها وصفاتها
ثم ليس أحد منهم قالوا يوما من الدهر ظاهر هذا غير مراد ولا قال هذه الآية أو هذا الحديث مصروف عن ظاهره مع أنهم قد قالوا مثل ذلك فى آيات الأحكام المصروفه عن عمومها ظهورها وتكلموا فيما يستشكل مما قد يتوهم أنه تناقض وهذا مشهور لمن تأمله وهذه الصفات أطلقوها بسلامه وطهارة وصفاء لم يشوبوه بكدر ولا غش
ولو لم يكن هذا هو الظاهر عند المسلمين لكان رسول الله ثم سلف الأمة قالوا للأمة الظاهر الذى تفهمونه غير مراد ولكان أحد من المسلمين إستشكل هذه الآية وغيرها
____________________
(33/180)
فان كان بعض المتأخرين قد زاغ قلبه حتى صار يظهر له من الآية معنى فاسد مما يقتضى حدوثا أو نقصا فلا شك أن الظاهر لهذا الزايغ غير مراد وإذا رأينا رجلا يفهم من ألآية هذا الظاهر الفاسد قررنا عنده ( اولا ) أن هذا المعنى ليس مفهوما من ظاهر الآية ثم قررنا عنده ( ثانيا ) أنه فى نفسه معنى فاسد حتى لو فرض أنه ظاهر الآية وإن كان هذا فرض مالا حقيقة له لوجب صرف الآية عن ظاهرها كسائر الظواهر التى عارضها ما أوجب أن المراد بها غير الظاهر
واعلم أن من لم يحكم دلالات اللفظ ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ تارة يكون بالوضع اللغوى أو العرفى أو الشرعى إما فى الألفاظ المفردة وإما فى المركبة وتارة بما اقترن باللفظ المفرد من التركيب الذى تتغير به دلالته فى نفسه وتارة بما اقترن به من القرائن اللفظية التى تجعله مجازا وتارة بما يدل عليه حال المتكلم والمخاطب والمتكلم فيه وسيأتى الكلام الذى يعين أحد محتملات اللفظ أو يبين أن المراد به هو مجازه إلى غير ذلك من الأسباب التى تعطى اللفظ صفة الظهور وإلا فقد يتخبط فى هذه المواضع نعم إذا لم يقترن باللفظ قط شيء من القرائن المتصلة التى تبين مراد المتكلم بل علم مراده بدليل آخر لفظى منفصل فهنا أريد به خلاف الظاهر كالعموم المخصوص بدليل منفصل وإن كان الصارف عقليا ظاهرا ففى تسمية المراد خلاف الظاهر خلاف مشهور فى ( أصول الفقه
____________________
(33/181)
وبالجملة فإذا عرف المقصود فقولنا هذا هو الظاهر أو ليس هو الظاهر خلاف لفظى فان كان الحالف ممن فى عرف خطابه أن ظاهر هذه الآية ما هو مماثل لصفات المخلوقين فقد حنث وإن كان فى عرف خطابه أن ظاهرها هو ما يليق بالله تعالى لم يحنث وإن لم يعلم عرف أهل ناحيته فى هذه اللفظة ولم يكن سبب يستدل به على مراده وتعذر العلم بنيته فقد جاز أن يكون أراد معنى صحيحا وجاز أن يكون أراد معنى باطلا فلا يحنث بالشك
وهذا كله تفريع على قول من يقول إن من حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه حنث وأما على قول من لم يحنثه فالحكم فى يمينه ظاهر
واعلم أن عامة من ينكر هذه الصفة وأمثالها إذ بحثت عن الوجه الذى أنكروه وجدتهم قد اعتقدوا أن ظاهر هذه الآية كاستواء المخلوقين أو استواء يستلزم حدوثا أو نقصا ثم حكوا عن مخالفهم هذا القول ثم تبعوا فى إقامة الأدلة على بطلانه ثم يقولون فيتعين تأويله إما بالإستيلاء أو بالظهور والتجلى أو بالفضل والرجحان الذى هو علو القدر والمكانة ويبقى ( المعنى الثالث ) وهو استواء يليق بجلاله يكون دلالة هذا اللفظ عليه كدلالة لفظ العلم والإرادة والسمع والبصر على معانيها قد دل السمع عليه
____________________
(33/182)
بل من أكثر النظر فى آثار الرسول علم بالإضطرار أنه ألقى إلى الأمة إن ربكم الذى تعبدونه فوق كل شيء وعلى كل شيء فوق العرش وفوق السماوات
وعلم أن عامة السلف كان هذا عندهم مثل ما عندهم أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير
وأنه لا ينقل عن واحد لفظ يدل لا نصا ولا ظاهرا على خلاف ذلك ولا قال أحد منهم يوما من الدهر إن ربنا ليس فوق العرش أو أنه ليس على العرش أو أن استوائه على العرش كاستوائه على البحر إلى غير ذلك من ترهات الجهمية ولا مثل استوائه باستواء المخلوق ولا أثبت له صفة تستلزم حدوثا أو نقصا
والذى يبين لك خطا من أطلق ( الظاهر ) على المعنى الذى يليق بالخلق أن الألفاظ ( نوعان )
( أحدهما ) ما معناه مفرد كلفظ الأسد والحمار والبحر والكلب فهذه إذا قيل ( أسد الله وأسد رسوله ) أو قيل للبليد حمار أو للعالم أو السخى أو الجواد من الخيل بحر أو قيل للأسد كلب فهذا مجاز
____________________
(33/183)
ثم إن قرنت به قرينة تبين المراد كقول النبى صلى الله عليه وسلم لفرس أبى طلحة ( إن وجدناه لبحرا ) وقوله ( إن خالدا سيف من سيوف الله سلة الله على المشركين ) وقوله لعثمان ( إن الله يقمصك قميصا ) وقول بن عباس الحجر الأسود يمين الله فى الأرض فمن استلمه وصافحه فكأنما بايع ربه أو كما قال ونحو ذلك فهذا اللفظ فيه تجوز وإن كان قد ظهر من اللفظ مراد صاحبه وهو محمول على هذا الظاهر فى إستعمال هذا المتكلم لا على الظاهر فى الوضع الأول وكل من سمع هذا القول علم المراد به وسبق ذلك إلى ذهنه بلا حال إرادة المعنى الأول وهذا يوجب أن يكون نصا لا محتملا
وليس حمل اللفظ على هذا المعنى من التأويل الذى هو صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح فى شيء وهذا أحد مثارات غلط الغالطين فى هذا الباب حيث يتوهم أن المعنى المفهوم من هذا اللفظ مخالف للظاهر وأن اللفظ متنول ( النوع الثانى ) من الألفاظ ما فى معناه إضافة إما بأن يكون المعنى إضافة محضة كالعلو والسفول وفوق وتحت ونحو ذلك أو أن يكون معنا ثبوتيا فيه إضافة كالعلم والحب والقدرة والعجز
____________________
(33/184)
والسمع والبصر فهذا النوع من الألفاظ لا يمكن أن يوجد له معنى مفرد بحسب بعض موارده لوجهين
( أحدهما ) أنه لم يستعمل مفردا قط
( الثانى ) أن ذلك يلزم منه الإشتراك أو المجاز بل يجعل حقيقة فى القدر المشترك بين موارده
وما نحن فيه من هذا الباب فان لفظ استوى لم تستعمله العرب فى خصوص جلوس الآدمى مثلا على سريره حقيقة حتى يصير فى غيره مجازا كما أن لفظ ( العلم ) لم تستعمله العرب فى خصوص العرف القائم بقلب البشر المنقسم إلى ( ضرورى ) و ( نظرى ) حقيقة واستعملته فى غيره مجازا بل المعنى تارة يستعمل بلا تعدية كما فى قوله { ولما بلغ أشده واستوى } وتارة يعدى بحرف الغاية كما فى قوله { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } وتاره يعدى بحرف الإستعلاء ثم هذا تارة يكون صفة لله وتارة يكون صفة لخلقه فلا يجب أن يجعل فى أحد الموضعين حقيقة وفى الآخر مجازا
ولا يجوز أن يفهم من استواء الله الخاصية التى تثبت للمخلوق دون الخالق كما فى قوله تعالى { والسماء بنيناها بأيد } وقوله تعالى { مما عملت أيدينا } وقوله
____________________
(33/185)
تعالى { صنع الله الذي أتقن كل شيء } وقوله تعالى { ولقد كتبنا في الزبور } { وكتبنا له في الألواح من كل شيء } فهل يستحل مسلم أن يثبت لربه خاصيه الآدمى البانى الصانع الكاتب العامل أم يستحل أن ينفى عنه حقيقة العمل والبناء كما يختص به ويليق بجلاله أم يستحل أن يقول هذه الألفاظ مصروفة عن ظاهرها أم الذى يجب أن يقول عمل كل أحد بحسبه فكما أن ذاته ليست مثل ذوات خلقه فعمله وصنعه وبناؤه ليس مثل عملهم وصنعهم وبنائهم
ونحن لم نفهم من قولنا بنى فلان وكتب فلان ما فى عمله من المعالجة والتأثر إلا من جهة علمنا بحال البانى لا من جهة مجرد اللفظ الذى هو لفظ الفعل وما يدل عليه بخصوص إضافته إلى الفاعل المعين وبهذا ينكشف لك كثير مما يشكل على كثير من الناس وترى مواقع اللبس فى كثير من هذا الباب والله يوفقنا وسائر إخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل ويجمع قلوبنا على دينه الذى ارتضاه لنفسه وبعث به رسوله والحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وصلى الله على محمد صاحب الحوض المورود وعلى أله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
____________________
(33/186)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أن لا يدخل دار جاره ثم أضطر إلى الدخول فدخل فهل يقع عليه طلاق بذلك أم لا وإذا لزمه الكفارة فما الدليل على لزومها
فأجاب رضى الله عنه فقال الحمد لله إذا حلف بالطلاق أو العتاق يمينا تقتضى حضا أو منعا كقوله الطلاق أو العتق يلزمه ليفعلن كذا أولا يفعل كذا أو قوله إن فعلت كذا فامرأتى طالق أو فعبدى حر ونحو ذلك فللعلماء فيها ثلاثة أقوال
( أحدها ) أنه إذا حنث وقع به الطلاق والعتاق وهذا قول بعض التابعين وهو المشهور عند أكثر الفقهاء
( والثانى ) لا يقع به شيء ولا كفارة عليه وهذا مأثور عن بعض السلف وهو مذهب داود وبن حزم وغيرهما من المتأخرين ولهذا كان سفيان بن عينيه شيخ الشافعى وأحمد لا يفتى بالوقوع فإنه روى
____________________
(33/187)
عن طاووس عن أبيه أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئا فقيل له أكان يراه يمينا قال لا أدري فجزم بأنه لم يكن يوقع الطلاق وشك هل كان يجعله يمينا فيها كفارة
( والقول الثالث ) أنه يجزئه كفارة يمين وهذا مأثور عن طائفة من الصحابة وغيرهم فى العتق كما نقل ذلك عن عمر وحفصه بنت عمر وزينب ربيبة رسول الله أنهم أفتوا من قال لفلان إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فمالى صدقة وأرقائى أحرار فقالوا كفر عن يمينك ودع الرجل مع امرأته يا هاروت وماروت وهذا قول أبى ثور وغيره من الفقهاء فى العتق وكذلك رواه حماد بن سلمه فى ( جامعه ( عن حبيب بن الشهيد أنه سأل الحسن البصرى عن رجل قال كل مملوك له حر إن دخل على أخيه فقال يكفر عن يمينه
وروى ذلك عن أبى هريرة وأم سلمة قال أبو بكر الأثرم فى مسنده ثنا عارم بن الفضل ثنا معتمر بن سليمان قال قال أبى ثنا بكر بن عبد الله أخبرنى أبو رافع قال قالت مولاتى ليلى بنت العجماء كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين إمرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة وكانت إذا ذكرت إمرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب قال فأتيتها فجاءت يعنى اليها
____________________
(33/188)
فقالت فى البيت هاروت وماروت قالت يا زينب جعلنى الله فداك إنها قالت كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وبين امرأته يعنى وكفرى يمينك فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت اليها فأتتها فقالت يا أم المؤمنين جعلنى الله فداك إنها قالت كل مملوك لها محرر وكل مال هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وبين امرأته يعنى وكفرى عن يمينك فأتت عبد الله بن عمر فجاء يعنى اليها فقام على الباب فسلم فقالت ساانت وسا أبوك فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أنت من أى شيء أنت أفتتك زينب وأفتتك حفصة أم المؤمنين فلم تقبلى فتياهما فقالت يا أبا عبد الرحمن جعلنى الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهوديه وهى نصرانية فقال يهودية ونصرانية كفرى عن يمينك وخلى بين الرجل وبين أمرأته
وهذا الأثر معروف قد رواه حميد أيضا وغيره عن بكر بن عبد الله المزنى ورواه أحمد وغيره وذكروا أن الثلاثة أفتوها بكفارة يمين لكن سليمان التيمي ذكر فى روايته كل مملوك لها حر ولم يذكر هذه الزيادة حميد وغيره وبهذا أجاب أحمد لما فرق بين الحلف بالعتق والحلف بغيره
____________________
(33/189)
وعارض ذلك أثر آخر ذكره عن بن عمر وبن عباس فقال المروذى قال أبو عبد الله اذا قال كل مملوك له حر فيعتق عليه اذا حنث لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة وقال ليس قول كل مملوك لها حر فى حديث ليلى بنت العجماء وحديث أبى رافع أنها سألت بن عمر وحفصه وزينب وذكرت العتق فأفتوها بكفارة اليمين وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق قال وسألت أبا عبد الله عن حديث أبى رافع قصة امرأته وأنها سألت بن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين قلت فيها المشي قال نعم أذهب إلى أن فيها كفارة يمين قال أبو عبد الله ليست تقول فيه كل مملوك الا ( 1 ) قلت فاذا حلف بعتق مملوكه يحنث قال يعتق كذا يروى عن عمرو وبن عباس أنهما قالا للجارية تعتق ثم قال ما سمعنا الا من عبد الرزاق عن معمر وقلت فإيش إسناده قال معمر عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن حاضر عن بن عمر وبن عباس وقال إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى مكيان وقال أبو طالب قال أبو عبد الله من حلف بالمشي إلى بيت الله وهو يحرم بحجة وهو يهدى وماله فى المساكين صدقة وكل يمين يكفر عندها عقد يمين يحلف على شيء فانما هي كفارة يمين على حديث بكر عن أبى رافع فى قصة حفصة حلفت لتفرقن بينها وبين زوجها فقالت ياهاروت وماروت كفرى عن يمينك واعتقى جاريتك فجعل ذلك كله كفارة يمين عن العتق فهذا أفضل وذلك أن العتق ليس فيه كفارة ولا استثناء والإستثناء
____________________
(33/190)
دائما يكون فى اليمين التى تكفر فأوجب العتق وجعل في غيره كفارة
قلت فهذا الذى ذكره الامام أحمد رضى الله عنه فى أجوبته ولكن المنصوص عنه فى غير موضع يقتضى أنه يجزئه كفارة يمين فانه قد نص فى غير موضع ان الإستثناء لا يكون فى اليمين المكفرة ونص على أنه إذا حلف بالطلاق والعتاق فان مذهبه أنه لا ينفعه الإستثناء فان له أن يستثنى بخلاف ما إذا أوقع الطلاق والعتاق قولا واحدا كما نقل ذلك عن بن عباس وهو مذهب مالك وغيره
وقد نقل عن أحمد ( الشيخ أبو حامد الإسفرائينى ) ومن اتبعه الفرق فى الإستثناء بين الطلاق والعتاق وذلك غلط على أحمد إنما هذا قول القدرية فانهم يقولون إن المشيئة بمعنى الأمر والعتق طاعة بخلاف الطلاق فاذا قال عبده حر إن شاء الله وقع العتق واذا قال إمرأته طالق ان شاء الله لم يقع الطلاق ورووا فى ذلك حديثا مسندا من رواية أهل الشام عن معاذ وهو مما وضعته القدرية الذين كانوا بالشام
وسبب الغلط فى ذلك ان أحمد قال فيمن قال إن ملكت فلانا فهو حر ان شاء الله فملكه عتق وقال فيمن قال ان تزوجت فلانه فهي طالق ان شاء الله
____________________
(33/191)
فتزوجها لم تطلق ففرق بين التعليقين لأن من أصله أن العتق معلق بالملك لأنه من باب القرب كالنذر فيصح تعليقه على الملك كما فى قوله تعالى { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } والعتق يصح أن يكون مقصودا بالملك ولهذا يصح بيع العبد بشرط عتقه بخلاف الطلاق فانه ليس هو المقصود بالنكاح فلو قيل أنه يقع عليه لم يكن للنكاح فائدة والعقود التى لا يحصل بها مقصودها باطلة
فلما فرق أحمد فى هذه المسألة بين الطلاق والعتق اعتقد من نقل عنه ان الفرق لأجل الإستثناء بالمشيئة وذلك غلط عليه
والمقصود هنا أنه يتنوع الإستثناء فى الحلف بالطلاق والعتاق فإذا قال إن فعلت كذا فعبدى حر أو فامرأتى طالق إن شاء الله نفعه الإستثناء فى أصح الروايتين عنه وإذا قال الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا إن شاء الله فقال طائفة من أصحابه كأبى محمد وأبى البركات هنا ينفعه الإستثناء قولا واحدا وقيل بل الروايتان فى صيغة القسم وفى صيغة التعليق وهذا أشبه بكلام أحمد وهو مذهب مالك وأصحابه فإن لهم فى النوعين قولين فإذا كان أحمد فى اصح الروايتين عنه يجوز الإستثناء فى الحلف بالعتق سواء كان بصيغة الجزاء أو بصيغة القسم مع قوله إن الإستثناء لا يكون إلا فى اليمين المكفرة لزم من ذلك أن تكون هذه من الايمان المكفرة قال فى رواية
____________________
(33/192)
أبى طالب
وقد سئل عن الإستثناء فقال الإستثناء فيما يكفر قال الله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } فكل يمين فيها كفارة غير الطلاق والعتاق
وأما كون سليمان التيمي هو الذى ذكر كل مملوك له حر فسليمان التيمي ثقة ثبت وهو أجل من الذين لم يذكروا الزيادة وسببه والله أعلم أن يكون الذين لم يذكروا العتق هابوه لما فيه من النزاع
يبين ذلك أن من الناس من لم يذكر العتق فى ذلك عن التيمي أيضا مع أن التيمي كان يذكر العتق بلا نزاع قال الميمونى قال أحمد وبن أبى عدى لم يذكروا فى حديث أبى رافع عتق قلت ومحمد بن أبى عدى هو أجل من روى عن التيمي فعلم أن من الرواة من كان يترك هذه الزيادة مع أنها ثابتة فى الحديث ولهذا لما ثبتت عند أبى ثور أخذ بها
وأما الرواية الأخرى عن بن عباس وبن عمر فقد قال أحمد ما سمعناه إلا من عبد الرزاق وعن معمر وعثمان بن حاضر قد قيل إنه سمع من بن عباس وقال أبو زرعة هو يمانى حميرى ثقة وقد روى له أبو داود وبن ماجه والأثر الأول اثبت ورجاله ورواته من أهل العلم والفقهاء الذين يعلمون ما يروون وهذا الأثر فيه تمويه ولم يضبط لنا لفظه وقد بسط
____________________
(33/193)
الكلام على تضعيفه فى موضع آخر فان صح كان فى ذلك نزاع عن الصحابه وقد ذكر البخارى عن بن عمر أثرا فى الطلاق يحتمل أن يكون من هذا الباب ويحتمل أن لا يكون منه
( وبالجملة ) فالنزاع فى هذه المسألة ثابت بين السلف كعطاء والحسن البصرى وغيرهما وقد ذكر أبو محمد المقدسى فى شرح قول الخرقى ( ومن حلف بعتق ما يملك فحنث عتق عليه كل ما يملك من عبيده وإمائه ومكاتبيه ومدبريه وأمهات أولاده وشقص يملكه من مملوك ) فقال معناه إذا قال ان فعلت كذا فكل مملوك لى حر وعتيق أو فكل ما أملك حر فان هذا إذا حنث عتق مماليكه ولم يغن عنه كفارة وروى ذلك عن بن عمر وبن عباس وبه قال بن أبى ليلى والثورى ومالك والأوزاعى والليث والشافعى واسحق قال وروى عن بن عمر وأبى هريرة وعائشة وأم سلمة وحفصه وزينب بنت أبى سلمة والحسن وأبى ثور يجزئه كفارة يمين لأنها يمين فتدخل فى عموم قوله تعالى { فكفارته إطعام عشرة مساكين } وذكر حديث أبى رافع المتقدم قال ولنا أنه علق العتق على شرط وهو قابل للتعليق فينتفع بوجود شرطه كالطلاق والآية مخصوصه بالطلاق والعتق فى معناه ولأن العتق ليس بيمين فى الحقيقة إنما هو تعليق بشرط فأشبه الطلاق قال فأما حديث ابى رافع فان أحمد
____________________
(33/194)
قال فيه كفر عن يمينك واعتق جاريتك وهذه زيادة يجب قبولها ويحتمل أنها لم يكن لها مملوك سواها
قلت القياس المذكور عندهم منتقض بكل ما يعلقه بالشرط من صدقة المال والمشى إلى مكة والهدى وقوله إن فعلت كذا فعلى أن أعتق أو أطلق وقوله إن فعل كذا فهو يهودى أو نصرانى وأمثال ذلك مما صيغته صيغة الشرط وهو عندهم يمين اعتبارا بمعناه والأصل الذى ماش عليه ممنوع فإن الطلاق فيه نزاع بل إذا لم يوقعوا العتاق مع كونه قربة فأولى أن لا يوقعوا الطلاق وأبو ثور لم يسلم الطلاق لكن قال إن كان فيه إجماع فالإجماع أولى ما اتبع وإلا فالقياس أنه كالعتاق وقد علم أنه ليس فيه إجماع
وأما ما ذكره من الزيادة فى حديث ابى رافع وأنهم قالوا اعتقى جاريتك فهذا غلط فان هذا الحديث لم يذكر فيه أحد أنهم قالوا اعتقى جاريتك وقد رواه أحمد والجوزجانى والأثرم وبن أبى شيبة وحرب الكرمانى وغير واحد من المصنفين فلم يذكروا ذلك وكلام أحمد فى عامة أجوبته يبين أنه لم يذكر أحمد عنهم ذلك وانما أجاب بكون الحلف بعتق المملوك إنما ذكره التيمي وأبو محمد نقل ذلك من ( جامع الخلال ) والخلال ذكر ذلك فى ضمن مسألة أبى طالب
____________________
(33/195)
كما قد بيناه وذلك غلط على أحمد وأبو طالب له أحيانا غلطات فى فهم ما يرويه هذا منها
وأما ما نقله عن احمد من أن الإستثناء لا يكون إلا فى اليمين المكفرة فهذا نقله عن أحمد غير واحد مع أن أبا طالب ثقة والغالب على روايته الصحة ولكن ربما غلط فى اللفظ فأما نقله أن الإستثناء فيما يكفر فلم يغلط فيه بل نقله كما نقله غيره قال هارون بن عبد الله قيل لأبى عبد الله أليس قد كان بن عباس يرى الإستثناء بعد حين قال انما هذا فى القول ليس فى اليمين كان يذهب إلى قول الله عز وجل { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } قال أبو عبد الله إنما هذا فى القول ليس فى اليمين وإنما يكون الإستثناء جائزا فيما تكون فيه الكفارة إذا حلف بالطلاق والعتاق لا يكفر فقد نص على ان الإستثناء لا يكون إلا فى اليمين المكفرة فإذا كان قد نص مع ذلك على جواز الإستثناء فيما اذا حلف بالطلاق والعتاق لزمه اجراء الكفارة فى ذلك وهذا الذى قاله هو مقتضى الكتاب والسنة فان الله تعالى قال { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } إلى قوله { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } فجعل هذه الكفارة فى عقد اليمين مطلقا وجعل ذلك كفارة اليمين اذا حلفنا
____________________
(33/196)
وقد قال ( من حلف فقال ان شاء الله فان شاء فعل وان شاء ترك ) فما دخل فى قول النبى صلى الله عليه وسلم دخل فى قول الله تعالى
والطلاق والعتاق المنجزان لا يدخلان فى مسمى اليمين والحلف باتفاق العلماء بخلاف الحلف على الحض والمنع والتصديق والتكذيب فانه يمين باتفاق الأئمة
واما التعليق المحض كقوله أن طلعت الشمس فأنت طالق ففيه قولان مشهوران لهم ومذهب الشافعى وأصحاب أحمد فى أحد الوجهين ليس بيمين كاختيار القاضي أبى يعلى ومذهب أبى حنيفة واصحاب أحمد فى الوجه الآخر هو يمين كاختيار أبى الخطاب وقد قال النبى ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه ) وهذا عام يقتضى أن كل يمين فيها هذا فما لا يمكن فيه هذا فليس بيمين
( والمقصود ) هنا ذكر تحرير المنقول عن السلف والأئمة فى هذه المسألة وسيأتى ذكر الدلائل ان شاء الله تعالى وذكر البخارى فى صحيحه عن بن عباس أنه قال لا طلاق إلا عن وطر ولا عتق إلا ما إبتغى به وجه
____________________
(33/197)
الله ومعلوم أن الحالف بالطلاق والعتاق ليس له غرض بالطلاق ولا هو متقرب بالعتق بل هو حالف بهما واما الطلاق فقد قيل إن فيه كفارة وقيل لا كفارة فيه وهذا الثانى قول داود وأصحابه والشيعة يقولون لا يقع به الطلاق ولا يلزمه كفارة وهو قول ضعيف وإن كان القول بلزوم الطلاق وعدم التكفير ضعيفا أيضا وهو أضعف منه والقول بلزوم الكفارة هو المأثور عن طاووس وغيره وهو مقتضى أقوال الصحابة وبه أفتى جماعة من المفتين المالكية وغيرهم ولا ريب أن الطلاق أولى أن لا يقع من العتق فإذا أفتى الصحابة بأنه لا يقع العتق فالطلاق أولى ولكن أبا ثور لم يبلغه فى الطلاق شيء فقال القياس يقتضى أن الطلاق لا يقع أيضا الا أن يكون فيه اجماع فهو أولى أن يتبع
وأما إذا قال اذا فعلت كذا فعلى أن أعتق عبدى أو أطلق امرأتى ومالى صدقة وعلى الحج أو فعلى صوم كذا ونحو ذلك فهنا يجزئه كفارة يمين فى مذهب أحمد والشافعى وهو إحدى الروايتين عن أبى حنيفة وهى رواية محمد ويقال إن أبا حنيفة رجع اليها وقول طائفة من اصحاب مالك وهو المأثور عن عامة الصحابة والتابعين ويسميه الفقهاء ( نذر اللجاج والغضب ( هذا اذا كان المنذور قربة كان العتق ونحوه فان لم يكن قربه كالطلاق فلا شيء فيه عند أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد فى رواية لكن المشهور عنه أن عليه كفارة يمين
____________________
(33/198)
( فنذر التبرر ( مثل أن يكون مقصود الناذر حصول الشرط ويلتزم فعل الجزاء شكرا لله تعالى كقوله إن شفى الله مريضى فعلى أن أصوم كذا أو أتصدق بكذا أو نحو ذلك فهذا النذر عليه أن يوفى به كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ( رواه البخارى
وأما ( نذر اللجاج والغضب ( فقصد الناذر أن لا يكون الشرط ولا الجزاء مثل أن يقال له سافر مع فلان فيقول إن سافرت فعلى صوم كذا وكذا أو على الحج فمقصوده أن لا يفعل الشرط ولا الجزاء وكما لو قال هو يهودى أو نصرانى إن فعل كذا أو إن فعل كذا فهو كافر ونحو ذلك فإن الأئمة متفقون على أنه اذا وجد الشرط فلا يكفر بل عليه كفارة يمين عند أبى حنيفة وأحمد فى المشهور عنه وعند مالك والشافعى لا شيء عليه بخلاف ما اذا قال إن أعطيتمونى الدراهم كفرت فانه يكفر بذلك بل ينجز كفره لأنه قصد حصول الكفر عند وجود الشرط
فطائفة من الفقهاء نظروا إلى لفظ الناذر فقالوا قد علق الحكم بشرط فيجب وجوده عند وجود الشرط ولم يفرقوا بين ( نذر اللجاج ( و ( نذر التبرر ( وأما الصحابة وجمهور السلف والمحققون فقالوا الإعتبار بمعنى اللفظ والمشترط هنا قصده وجود الشرط والجزاء وهناك قصده أن لايكون
____________________
(33/199)
هذا ولا هذا ولهذا يحلف بصيغة الشرط تارة وبصيغة القسم أخرى مثل أن يقول على الحج لأفعلن كذا أولا فعلت كذا أو على العتق إن فعلت كذا أو لا فعلت كذا
وهذا حجة من أمره بكفارة فى العتق وكذا فى الطلاق فانه اذا قيل له سافر فقال عليه العتق أو الطلاق لا يفعل كذا أو إن فعل كذا فعبده حر أو إمرأته طالق فقصده أن لا يكون الشرط ولا الجزاء فهو حالف بذلك لا موقع له
قالوا وهذا الحالف التزم وقوع الطلاق فهو كما لو التزم إيقاعه بأن يقول إن فعلت كذا فعلى أن أعتق أو أطلق ولو قال هذا لم يلزمه أن يطلق بإتفاق الأئمة لكن فى وجوب الإعتاق قولان فمذهب الشافعى وأحمد وغيرهما لا يقع به طلاق ولا عتاق لكن الشافعى يلزمه الكفارة إذا لم يعتق ولا يلزمه الكفارة إذا لم يطلق فى المشهور من مذهبه وهو احدى الروايتين عن أحمد وأحمد يلزمه الكفارة فيهما على ظاهر مذهبه وهو وجه لأصحاب الشافعى لأن المنذور إذا لم يكن قربة لم يكن عليه فعله بالإتفاق ومذهب الشافعى وغيره المشهور لا كفارة عليه إذا لم يفعله ومذهب أحمد المشهور عليه كفارة يمين قال هؤلاء التزامه الوقوع كالتزامه الكفر ولو التزمه لم يكفر بالإتفاق بل عليه كفارة يمين فى إحدى القولين كما تقدم
____________________
(33/200)
قال الموقعون للطلاق والعتاق الفرق بينهما أنه هنا التزم حكما شرعيا وهو الوقوع وهناك التزم فعلا من أفعاله وهو الإيقاع كقوله فعلى الحج أو على الصوم أو على الصدقة وهو فى الفعل مخير بين أن يفعله وبين أن يتركه ويكفر بخلاف الحكم فانه إلى الله تعالى قالوا وقد ثبت أن الخلع جائز بنص القرآن والسنة فاذا قال لإمرأته إن أعطيتنى كذا فأنت طالق فأعطته إياه وقع الطلاق فيقاس عليه سائر الشروط إذا علق بها الطلاق وقع وكذلك ثبت جواز الكتابة بالكتاب والسنة وفى معناها ما اذا قال لعبده إن أعطيتنى ألفا فأنت حر وكذلك تعليق العتق بسائر الشروط فهذا منتهى ما يحتج به هؤلاء
وأما أولئك فيقولون قولكم إن اللازم بها حكم شرعى وهناك فعل غلط بل اللازم المعلق بالشرط فى كلا الموضعين حكم شرعى لكن فى احداهما وقوع وفى الآخرة وجوب فقوله ان فعلت كذا فعلى الحج إنما يكون فيه وجوب الحج لا نفس فعله ثم يقال لا فرق بين أن يكون الجزاء حكما شرعيا أو أن يكون ملازما له كالسبب والمسبب اللازم له فانه لو قال هو يهودى أو نصرانى أن فعلت كذا فقد التزم حكما وذلك لا يلزمه عند وقوع الشرط بلا نزاع
وأيضا فلو قال إن فعلت كذا فعلى الصوم أو فعلى الحج فالجزاء وجوب الصوم والحج ثم اذا وجب عليه فعله بحكم الوجوب فالوجوب
____________________
(33/201)
هو التعليق بالشرط ليس المعلق بالشرط نفس فعله إذ لو كان المعلق نفس فعله لوجد عند وجود الشرط اللغوى ولكن المعلق وجوب الإعتاق والحج ونحو ذلك ثم هو مخير بين التزام هذا الوجوب وبين التكفير وفيما إذا قال إن فعلت كذا فعبدى حر فالجزاء نفس الحرية ومقتضاها تحريم استعباده وكذلك وقوع الطلاق موجبه تحريم استمتاعه فالتحريم هنا موجب الجزاء لا نفس الجزاء وهذا من باب خطاب الوضع والاخبار وذلك من خطاب التكليف وكذا قوله إن فعلت كذا فمالى صدقة فانه التزم أن يصير المال صدقة فهذا حكم شرعى لا فعل لكن إذا صار صدقة لزمه أن يخرجه ولو قال فعبدى حر التزم أن يصير حرا فلو قال فعلى أن أعتق هذا فالملتزم وجوب العتق ثم اذا وجب كان عليه فعله ومع هذا فله رفع الوجوب وإذا قال فهو حر فانه التزم نفس الحرية وهو اذا صار حرا كان عليه إرساله كما أن المرأة اذا صارت طالقة ثلاثا كان عليه إرسالها وأن لا يخلو بها ولا يطأها فالناذر فى هذه الصورة التزم الحكم والفعل يتبعه ثم اذا فعل ما أوجبه فهو الإيقاع للطلاق والعتق حصل الوقوع فموجب التعليق وجوب يتبعه ايقاع ووقوع ثم اذا قصد بهذا التعليق اليمين صار يمينا ولم يلزمه الوجوب ولا الايقاع ولا الوقوع فاذا كان قصد اليمين منع الثلاثة فلأن يمنع واحد منها وهو الوقوع بطريق الأولى
____________________
(33/202)
قالوا ولأن المظاهر والمحرم اذا قال أنت على كظهر أمى وأنت على حرام انما التزم حكما شرعيا لم يلتزم فعلا ومع هذا فدخلت فى ذلك الكفارة قالوا فكما أنه يخير فيما إذا كان الملتزم وجوب العتق بين أن يلتزمه أو يكفر فكذلك إذا التزم وقوعه يخير بين أن يلتزم وقوعه فيعتقه ويرسل العبد فيكون إعتاقه إرساله إمضاء للمنذور وبين أن لا يعتقه ولا يرسله فلا يكفر امضاء له بل يكون عليه كفارة كما اذا قال إن فعلت كذا فهذا المال صدقة أو هذا البعير هدى وحنث فهو مخير بين أن يتصدق بالمال ويرسل البعير هديا فيكون قد التزم موجب كونه صدقة وهديا وبين أن يكفر ويمسك المال والهدى فلا يرسله وأما اذا التزم محرما مثل أن يقول ان فعلت كذا فعلى اهانة المصحف ونحو ذلك فهنا ليس له ذلك باتفاق العلماء وفى وجوب الكفارة النزاع المتقدم وكذلك اذا التزم حكما لا يجوز التزامه مثل قوله إن فعلت كذا فهو يهودى أو نصرانى فهذا لا يجوز له التزام الكفر بوجه من الوجوه ولو قصد ذلك لكان كافرا بالقصد
والمقصود أنه لا فرق لا فى الشرع ولا فى العرف بين أن يلتزم الحكم الموجب عليه فعلا يقتضى ذلك الفعل حكما آخر يقتضى وجوب فعل أو تحريمه وبين أن يلتزم الحكم المقتضى لوجوب ذلك الفعل او تحريمه فالتزام وجوب الفعل الذى يقتضى ذلك الحكم كما إذا قال فعلى أن أطلق أو أعتق فانه
____________________
(33/203)
التزم وجوب الطلاق والاعتاق والتطليق وذلك فعل منه يوجب حكما وهو وقوع الطلاق والعتاق ومعلوم أن التزامه لوجوب الفعل المقتضى للحكم الثانى الذى هو الوقوع أقوى من التزامه الوقوع فانه هناك التزم حكمين وفعلين وهو هنا التزم أحد الحكمين وأحد الفعلين فالذى إلتزمه فى موارد النزاع فى بعض ما التزمه فى مواقع الإجماع فاذا كان له أن لا يلتزم هذا فذاك بطريق الأولى فهو فى مواقع الإجماع إذا قصد بالتعليق اليمين فهو مخير بين أن يحنث ويكفر يمينه وبين أن يوفى بما التزمه فيوقع العتق والطلاق والصدقة فكذلك الذى التزمه فى مواقع النزاع بطريق الأولى
والحنث فى هذه اليمين يكون بأن يوجد الشرط ولا يوجد الجزاء فلا يحنث إلا بهذين الشرطين فإذا قال إذا فعلت كذا فعلى الحج أو العتق أو الطلاق لم يحنث إلا اذا فعله ولم يوجد الجزاء المعلق به فان أوقع الجزاء المعلق به لم يحنث كما أنه لو لم يوجد الشرط لم يحنث ولو قدر أنه التزم فعلا كقوله إن فعلت كذا عتق عبدى أو طلقت امرأتى فإنه لا فرق بين ذلك وبين أن يقول فعلي عتق عبدي أو طلاق امرأتي فالتزام أحد الأمرين متضمن لإلتزام الآخر فان الوجوب يقتضى أن عليه فعل الواجب والتحريم يقتضى أن له فعل المحرم والإيجاب مستلزم للوجوب والتحريم مستلزم للحرمة والوجوب يقتضى الفعل والإيقاع مستلزم الوقوع مقتض للحرمة والحرمة مقتضية للترك فلا فرق بين أن يلتزم الإيجاب
____________________
(33/204)
والوجوب والفعل أو التحريم أو الحرمة أو الإيقاع أو الوقوع أو الحرمة التى هي موجب ذلك
قال هؤلاء وأما حجة من احتج بالخلع والكتابة وتعليق ذلك بعوض فجوابه عند أهل الظاهر بن حزم ونحوه أنهم يقولون لا يقع شيء من العتاق والطلاق والمعلق بالشرط بناء على أن هذا لم يرد به نص وما لم يرد نص باباحته فى العقود والشروط فهو عندهم باطل ولا يكتفون فى ذلك بالأدلة العامة الدالة على وجوب الوفاء بالشروط والعهد وتحريم الغدر ونحو ذلك لا اعتقادهم ان هذه النصوص منسوخة وهذا القول ضعيف كما هو مبسوط فى غير هذا الموضع واسم الطلاق والعتاق فى القرآن يتناول المنجز والمعلق بالشرط إذا كان المقصود وقوعه عند الشرط فان كلاهما داخل فى مسمى التطليق بخلاف ما يكره وقوعه عند الشرط فإنه يمين داخل فى مسمى التطليق
وعلى هذا فالجواب على قول الأئمة والجمهور مبنى على الفرق بين الشرط المقصود وجوده والشرط المقصود عدمه وعدم الجزاء الذى علق به وهو الذى يراد به الحلف ولا يراد به وقوع الجزاء عند الشرط والفرق بين هذين هو مذهب الصحابة لا يعرف عنهم فيه خلاف وهو مذهب جماهير السلف
____________________
(33/205)
والفقهاء وهو مذهب الشافعى وأحمد وأحد القولين فى مذهب أبى حنيفة وهو قول فى مذهب مالك فيقال انه هنا قصد الشرط والجزاء كما قصد ذاك نذر التبرر فكما أنه فرق فى النذور المعلقة بالشروط بين ما يقصد فيه ثبوتها وبين ما يقصد فيه نفيها كذلك هذا فان هذا جميعه من باب واحد وهى أحكام معلقة بشروط واذا كان الشرع أو العقل والعرف تفرق فى الأحكام المعلقة بالشروط اللغوية بين ما يقصد ثبوته وبين ما يقصد انتفاءه كما إتفق على ذلك الصحابة وجمهور الفقهاء لم يجز تسوية أحدهما بالآخر
وانما يحسن الإحتجاج بالخلع والكتابة على من يمنع تعليق الطلاق بالشروط جملة كما هو مذهب بن حزم والإمامية أو بعضهم فإن هؤلاء يقولون ان الطلاق المعلق بشرط لا يقع بحال بناء على أنه لا يقع عندهم من الطلاق إلا ما ثبت أن الشارع أذن فيه قالوا ولم يثبت أنه أذن فى هذا فهم لا يقولون بالقياس وجعلوا ما نقل عن الصحابة والتابعين فى الحلف بالطلاق والعتاق حجة لهم وليس بحجة لهم فان المنقول عن طاووس أنه لا يرى الحلف بالطلاق شيئا وهذا لا يقضي أنه لا يرى تعليقه بالشروط بحال بل قد يفرق بين الشرط المقصود ثبوته والمقصود عدمه كما أن هذا هو قول طاووس وعطاء وغيرهما فى مسألة ( نذر اللجاج والغضب
____________________
(33/206)
ولهذا لما دخل الشافعى مصر سأله سائل عن هذه المسألة إذا قال إن فعلت كذا فعلى الحج أو فعلى الصوم فأفتاه الشافعى بكفارة يمين وكان الغالب على أهل مصر قول مالك إن عليه الحج والصوم ومع هذا فلما حنث بن عبد الرحمن القاسم فى هذه اليمين أفتاه عبد الرحمن القاسم الذى هو العمدة فى مذهب مالك بكفارة يمين وقال أفتيتك بقول الليث بن سعد وإن عدت أفتيتك بقول مالك والمحققون من متأخرى أصحاب مالك يرجحون الإفتاء بكفارة يمين وهو الذى رجع إليه أبو حنيفة آخرا وأما جمهور السلف من الصحابة والتابعين فانهم يقولون يجزئه كفارة يمين كما هو مذهب الشافعى وأحمد والمشهور عندهما أنه يخير بين التكفير وبين فعل الملتزم وعن أحمد رواية أن عليه الكفارة عينا ويذكر قولا فى مذهب الشافعى وكذلك جماعة من المفتين أصحاب مالك يفتون فى الحلف بالطلاق بكفارة يمين ويحتجون بما رووه عن عائشة أنها قالت كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة اليمين بالله وهذا قول طاووس ومن وافقة من السلف وهو معنى قول الصحابة وهذه المسائل مسائل جليلة تحتاج إلى بسط طويل ليس هذا موضعه والله أعلم
____________________
(33/207)
فصل والإفتاء بهذا الأصل لا يحتاج إليه فى الغالب بل غالب مسائل الايمان بالطلاق والعتاق واليمين بالله تعالى والنذر والحرام ونحو ذلك يحتاج فيه إلى قواعد
( القاعدة الأولى ) إذا حلف لا يفعل شيئا ففعله ناسيا ليمينه أو جاهلا بأنه المحلوف عليه فللعلماء فيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) لا يحنث بحال فى جميع الأيمان وهذا مذهب المكيين كعطاء وبن أبى نجيح وعمرو بن دينار وغيرهم ومذهب إسحاق بن راهويه وهو أحد قولى الشافعى بل أظهرهما وهو إحدى الروايتين عن أحمد ونظرت جوابه فى هذه الرواية فوجدت الناقلين له بقدر الناقلين لجوابه فى الروايه الثانية التى اختارها الخلال صاحبه والخرقى والقاضى وغيرهم من أصحابه وهو الفرق بين اليمين المكفرة كاليمين بالله تعالى والظهار والحرام واليمين التى لا تكفر على منصوصه وهى اليمين بالطلاق والعتاق و (
القول الثالث ) أنه يحنث فى جميع الأيمان وهو مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد فى الرواية الثالثة عنه
____________________
(33/208)
والقول الأول أصح لأن الحض والمنع فى اليمين بمنزلة الطاعة والمعصية فى الأمر والنهى فان الحالف على نفسه أو عبده أو قرابته أو صديقه الذى يعتقد أنه يطيعه هو طالب لما حلف على فعله مانع لما حلف على تركه وقد وكد طلبه ومنعه باليمين فهو بمنزلة الأمر والنهى المؤكد وقد استقر بدلالة الكتاب والسنة أن من فعل المنهى عنه ناسيا أو مخطئا فلا إثم عليه ولا يكون عاصيا مخالفا فكذلك من فعل المحلوف ناسيا أو مخطئا فانه لا يكون حانثا مخالفا ليمينه ويدخل فى ذلك من فعله متأولا أو مقلدا لمن أفتاه أو مقلدا لعالم ميت أو مجتهدا مصيبا أو مخطئا فحيث لم يتعمد المخالفة ولكن أعتقد أن هذا الذى فعله ليس فيه مخالفة لليمين فانه لا يكون حانثا
ويدخل فى هذا إذا خالع وفعل المحلوف عليه معتقدا أن الفعل بعد الخلع لم تتناوله يمينه فهذه الصورة تدخل فى يمين الجاهل المتأول عند من يقول ان هذا الخلع خلع الايمان باطل وهو أصح أقوال العلماء وأما من جعله صحيحا فذلك يقول إنه فعل المحلوف عليه فى زمن البينونة والمرأة لو فعلت المحلوف عليه بعد البينونة وانقضاء العدة لم يحنث الرجل بالإتفاق وكذلك إذا فعلته فى عدة الطلاق البائن عند الجمهور كمالك والشافعى وأحمد الذين يقولون إن المختلعة لا يلحقها طلاق وأما أبو حنيفة فانه يقول يلحقها الطلاق فيحنث عنده إذا وجدت الصفة فى زمن البينونة ولو كان الرجل عاميا فقيل له خالع امرأتك وافعل المحلوف عليه ولم يعرف معنى الخلع فظن أنه طلاق مجرد
____________________
(33/209)
فطلقها ثم فعل المحلوف عليه يظن أنه لا يحنث بذلك لم يقع به الطلاق عند من لا يحنث الجاهل المتأول وكذلك لو قيل له زلها بطلقة فزلها بطلقة ثم فعل المحلوف عليه لم يقع عليه بالفعل طلقة ثانية وإن كانت الطلقة الأولى رجعية لكن فى صورة النسيان والخطأ والجهل لا يحنث وتبقى اليمين معقودة عند جماهير العلماء وليس فيه نزاع إلا وجه ضعيف لبعض المتأخرين
( القاعدة الثانية ) إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فهذا أولى بعدم التحنيث من مسألة فعل المحلوف عليه ناسيا أو جاهلا ولهذا فرق أبو حنيفة ومالك وغيرهما بين هذه الصورة وصورة الناسى والجاهل فقالوا هنا لا يحنث فى اليمين بالله تعالى وهناك يحنث قالوا لأنه هنا كانت اليمين على الماضى فلم تنعقد لأن الحالف على ماض إن كان عالما فهو إما صادق بار وإما أن يكون متعمدا للكذب فتكون يمينه اليمين الغموس وإما أن يكون مخطئا معتقدا أن الأمر كما حلف عليه فهذا لا إثم عليه فى ذلك ولا يكون على فاعله اثم الكذاب وهذا هو لغو اليمين عند هؤلاء ومثل هذا يجوز على الانبياء وغيرهم كما يجوز عليهم النسيان كما قال النبى فى حديث ذى اليدين لم انس ولم تقصر وكان قد نسى فقال له ذو اليدين بلى قد نسيت فقال ( أكما يقول ذو اليدين ) قالوا نعم وفى الحديث الصحيح أنه ما صلى بهم خمسا فقالوا له بعد الصلاة أزيد فى الصلاة فقال ( وما ذاك ) قالوا صليت خمسا قال ( إنما أنا بشر انسى كما تنسون فاذا نسيت فذكرونى
____________________
(33/210)
قالوا وأما اليمين على المستقبل فانها منعقدة والخطأ والنسيان واقع فى الفعل لا فى العقد فلهذا فرق بين الماضى والمستقبل فى اليمين بالله
وأما فى الطلاق فقالوا أيضا فى الماضى والمستقبل كاحدى الروايات عن أحمد فى المستقبل وأما مذهب الشافعى وأحمد فعلى قولهما لا يحنث الجاهل والناسى فى المستقبل فكذلك لا يحنث المخطيء حين عقد اليمين الذي حلف على شيء يعتقد أنه كما حلف عليه فتبين بخلافه وأما على قولهما إنه يحنث في المستقبل فيحنث في الماضي تسوية بين الماضي والمستقبل فكذلك لا يحنث وهذه طريقة من سلكها من أصحاب الشافعى وأحمد كأبى البركات فى محرره (
وأصحاب هذه الطريقة يقولون ان من قال إنه لا يحنث اذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فيلزمه أن لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا أو جاهلا ويضعفون قول مالك وأبى حنيفة فى الفرق وقيل بل لا يحنث فى الماضى قولا واحدا وفى المستقبل قولان وهذه طريقة طائفة من أصحاب أحمد سلكوا مسلك أصحاب ابى حنيفة ومالك ففرقوا بين الماضى والمستقبل فقالوا إذا حلف بالله على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فانه لا يحنث ولو حلف لا يفعل المحلوف عليه ففعله ناسيا أو جاهلا ففيه
____________________
(33/211)
روايتان وهذه طريقة القاضي أبى يعلى وبن عقيل فى ( الفصول ( وأبى محمد المقدسى وغيرهم فجعلوا النزاع فى المستقبل دون الماضى
وهؤلاء منهم من قال ( لغو اليمين ) هو أن يحلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه بلا نزاع وأما اذا سبق لسانه فى المستقبل ففيه روايتان وهذه طريقة القاضي وبن عقيل فى ( الفصول ) وأختار القاضي فى ( خلافه ) أن قوله فى المستقبل لا والله بلى والله ليس بلغو وهذا مذهب أبى حنيفة ومالك وغيرهما ومنهم من قال ما يسبق على اللسان هو لغو بلا نزاع بين العلماء وفيما اذا حلف على شيء فتبين بخلافة روايتان وهذه طريقة أبى محمد
والصواب ) أن النزاع فى الصورتين فان الشافعى فى رواية الربيع عنه يوجب الكفارة فيمن حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه ولكن القول الآخر للشافعى ان هذا لغو كقول الجمهور وهذا هو قول محمد بن الحسن وكذا هو ظاهر مذهب أحمد أن كلا النوعين لغو لا كفارة فيه وهذا قول جمهور أهل العلم ولهذا جزم اكثر أصحاب احمد بأنه لا كفارة لا فى هذا ولا في هذا ولم يذكروا نزاعا لانه نص على أن كلاهما لغو فى جوابه كما ذكر ذلك الخرقي وبن أبي موسى وغيرهما من المتقدمين وذكر طائفة عنه فى اللغو ( روايتين ) رواية كقول أبى حنيفة ومالك ورواية كقول
____________________
(33/212)
الشافعي كما ذكر ذلك طائفة منهم بن عقيل وابو الخطاب وغيرهما وصرح بعض هؤلاء كابن عقيل وغيره بأنه اذا قيل إن اللغو هو أن يسبق على لسانه اليمين من غير قصد فانه إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه حنث
فلهذا صار فى مذهبه عدة طرق
( طريقة القدماء ) أن كلاهما لغو قولا واحدا
وطريقة القاضي أن الماضي لغو قولا واحدا وفى سبق اللسان فى المستقبل روايتان وهذه الطريقة توافق مذهب أبى حنيفة ومالك
( وطريقة أبى محمد ) أن سبق اللسان لغو قولا واحدا وفى الماضى روايتان وهذه الطريقة توافق مذهب الشافعى ( والطريقة الرابعة ) وهى أضعف الطرق أن اللغو فى احدى الروايتين هذا دون هذا وفى الاخرى هذا دون هذا
( والطريقة الخامسة ) وهى الجامعة بين الطرق أن فى مذهبه ثلاث روايات كما ذكر ذلك صاحب المحرر فاذا سبق على لسانه لا والله بلى والله وهو يعتقد أن الأمر كما حلف عليه فهذا لغو باتفاق الأئمة
____________________
(33/213)
الاربعة واذا سبق على لسانه اليمين فى المستقبل أو تعمد اليمين على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافة ففى الصورتين أقوال ثلاثة هي الروايات الثلاث عن احمد
( أحدها ) ان الجميع لغو كقول الجمهور وهو ظاهر مذهب احمد وهى مذهبه فى احدى الطريقتين بلا نزاع عنه وعلى هذه الطريقة فقد فسر اللغو بهذا وهذا أحد قولى الشافعى
( والثانى ) أنه يحنث فى الماضى دون ما سبق على لسانه وهو أحد قولى الشافعى ايضا
( والثالث ) بالعكس كمذهب ابى حنيفة ومالك فقد تبين أن أن المخطئ فى عقد اليمين الذى حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه هو فى إحدى الطريقتين كالناسى والجاهل وفى الأخرى لا يحنث قولا واحدا وهى المعروفة عند أئمة اصحاب أحمد
وعلى هذا فالحالف بالطلاق على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه لا يحنث اذا لم يحنث الناسى والجاهل فى المستقبل إما تسوية بينهما واما بطريق الاولى على اختلاف الطريقتين وهكذا ذكر المحققون من الفقهاء
____________________
(33/214)
وقد ظن بعض متأخرى الفقهاء كالسامرى صاحب ( المستوعب ) أنه اذا حلف بالطلاق والعتاق على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافة أنه يحنث قولا واحدا لأن الطلاق لا لغو فيه وهذا خطا فان الذى يقول ان الطلاق لا لغو فيه هو الذى يحنث الناسى والجاهل اذا حلف بالطلاق واما من لم يحنث الناسى والجاهل فانه لا يقول لالغو فى الطلاق اذا فسر اللغو بأن يحلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافة فان عدم الحنث فى هذه الصورة اما أن يكون اولى بعدم الحنث فى تلك الصورة أو يكون مساويا لها كما قد بيناه ولا يمكن أحد أن يقول إنه إذا حلف بالطلاق والعتاق على أمرأته لا يفعله ففعله ناسيا أو جاهلا بأنه المحلوف عليه لم يحنث ويقول إذا حلف على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه أنه يحنث لأن الجهل المقارن لعقد اليمين أخف من الجهل المقارن لفعل المحلوف عليه وغايته أن يكون مثله ولأن اليمين الاولى منعقدة اتفاقا واما الثانية ففى انعقادها نزاع بينهم والله أعلم
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله عمن حلف بالطلاق على أمر من الأمور ثم حنث في يمينه هل يقع به الطلاق ام لا
فأجاب المسألة فيها نزاع بين السلف والخلف على ثلاثة أقوال
____________________
(33/215)
( أحدها ) أنه يقع الطلاق اذا حنث فى يمينه وهذا هو المشهور عند أكثر الفقهاء المتأخرين حتى اعتقد طائفة منهم أن ذلك اجماع ولهذا لم يذكر عامتهم عليه حجة وحجتهم عليه ضعيفة جدا وهى أنه التزم امرا عند وجود شرط فلزمه ما التزمه وهذا منقوض بصور كثيرة وبعضها مجمع عليه كنذر الطلاق والمعصية والمباح وكالتزام الكفر على وجه اليمين مع أنه ليس له أصل يقاس به الا وبينهما فرق مؤثر فى الشرع ولا دل عليه عموم نص ولا اجماع لكن لما كان موجب العقد لزوم ما التزمه صار يظن فى بادئ الرأى أن هذا عقد لازم وهذا يوافق ما كانوا عليه فى أول الاسلام قبل أن ينزل الله كفارة اليمين موجبة ومحرمة كما يقال إنه كان ( شرع ) من قبلنا لكن نسخ هذا شرع محمد صلى الله عليه وسلم وفرض للمسلمين تحلة ايمانهم وجعل لهم أن يحلوا عقد اليمين بما فرضه من الكفارة
وأما اذا لم يحنث في يمينه فلا يقع به الطلاق بلا ريب الا على قول ضعيف يروى عن شريح ويذكر رواية عن أحمد فيما اذا قدم الطلاق واذا قيل يقع به الطلاق فان نوى باليمين الثانية توكيد الاولى لا انشاء يمين أخرى لم يقع به الاطلقة واحدة وان أطلق وقع به ثلاث وقيل لا يقع به إلا واحدة
____________________
(33/216)
و ( القول الثانى ) أنه لا يقع به طلاق ولا يلزمه كفارة وهذا مذهب داود وأصحابه وطوائف من الشيعة ويذكر ما يدل عليه عن طائفة من السلف بل هو مأثور عن طائفة صريحا كأبى جعفر الباقر رواية جعفر بن محمد
وأصل هؤلاء أن الحلف بالطلاق والعتاق والظهار والحرام والنذر لغو كالحلف بالمخلوقات ويفتى به فى اليمين التى يحلف بها بالتزام الطلاق طائفة من اصحاب أبى حنيفة والشافعى كالقفال وصاحب ( التتمه ) وينقل عن ابى حنيفة نصا بناء على أن قول القائل الطلاق يلزمنى أو لازم لى ونحو ذلك صيغة نذر لا صيغة ايقاع كقوله لله على أن اطلق
ومن نذر ان يطلق لم يلزمه طلاق بلا نزاع ولكن فى لزومه الكفارة له قولان
( أحدهما ) يلزمه وهو المنصوص عن أحمد بن حنبل وهو المحكى عن أبى حنيفة اما مطلقا واما اذا قصد به اليمين
( والثانى ) لا وهو قول طائفة من الخراسانيين من اصحاب الشافعى كالقفال والبغوى وغيرهما فمن جعل هذا نذرا ولم يوجب الكفارة
____________________
(33/217)
فى نذر الطلاق يفتى بأنه لا شيء عليه كما أفتى بذلك طائفة من أصحاب الشافعى وغيرهم ومن قال عليه كفارة لزمه على قوله كفارة يمين كما يفتى بذلك طائفة من الحنفية والشافعية
وأما ( الحنفية ) فبنوه على أصله فى ان من حلف بنذر المعاصى والمباحات فعليه كفارة يمين وكذلك يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعى لتفريقه بين أن يقول على نذر فلا يلزمه شيء وبين أن يقول إن فعلته فعلى نذر فعليه كفارة يمين ففرق هؤلاء بين نذر الطلاق وبين الحلف بنذر الطلاق
وأحمد عنده على ظاهر مذهبه المنصوص عنه أن نذر الطلاق فيه كفارة يمين والحلف بنذره عليه فيه كفارة يمين وقد وافقه على ذلك من وافقه من الخراسانيين من اصحاب الشافعى وجعله الرافعى والنووى وغيرهما هو المرجح فى مذهب الشافعى وذكروا ذلك فى نذر جميع المباحات لكن قوله الطلاق لي لازم فيه صيغة إيقاع في مذهب احمد فان نوى بذلك النذر ففيه كفارة يمين عنده
و ( القول الثالث ) وهو أصح الاقوال وهو الذى يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار ان هذه يمين من ايمان المسلمين فيجرى فيها ما يجرى في ايمان المسلمين وهو الكفارة عند الحنث
____________________
(33/218)
الا ان يختار الحالف ايقاع الطلاق فله ان يوقعه ولا كفارة وهذا قول طائفة من السلف والخلف كطاووس وغيره وهو مقتضى المنقول عن أصحاب رسول الله فى هذا الباب وبه يفتى كثير من المالكية وغيرهم حتى يقال ان فى كثير من بلاد المغرب من يفتى بذلك من أئمة المالكية وهو مقتضى نصوص أحمد بن حنبل وأصوله فى غير موضع
وعلى هذا القول فاذا كرر اليمين المكفرة مرتين أو ثلاثا على فعل واحد فهل عليه كفارة واحدة أو كفارات فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن أحمد أشهرهما عنه تجزيه كفارة واحدة
وهذه الاقوال الثلاثة حكاها بن حزم وغيره فى الحلف بالطلاق كما حكوها فى الحلف بالعتق والنذر وغيرهما فاذا قال ان فعلت كذا فعبيدى أحرار ففيها الاقوال الثلاثة لكن هنا لم يقل أحد من أصحاب أبى حنيفة والشافعى إنه لا يلزمه العتق كما قالوا ذلك فى الطلاق فيصح نذره بخلاف الطلاق
والمنقول عن اصحاب رسول الله أنه يجزئه كفارة يمين كما ثبت ذلك عن بن عمر وحفصة وزينب ورووه أيضا عن عائشة
____________________
(33/219)
وأم سلمة وبن عباس وأبى هريرة وهو قول أكابر التابعين كطاووس وعطاء وغيرهما ولم يثبت عن صحابى ما يخالف ذلك لا فى الحلف بالطلاق ولا فى الحلف بالعتاق بل اذا قال الصحابة ان الحالف بالعتق لا يلزمه العتق فالحالف بالطلاق اولى عندهم
وهذا كالحلف بالنذر مثل ان يقول ان فعلت كذا فعلى الحج او صوم سنة أو ثلث مالى صدقة فان هذا يمين تجزئ فيه الكفارة عند أصحاب رسول الله مثل عمر وبن عباس وعائشة وبن عمر وهو قول جماهير التابعين كطاووس وعطاء وأبى الشعثاء وعكرمة والحسن وغيرهم وهو مذهب الشافعى المنصوص عنه ومذهب أحمد بلا نزاع عنه وهو احدى الروايتين عن أبى حنيفة اختارها محمد بن الحسن وهو قول طائفة من أصحاب مالك كابن وهب وبن أبى الغمر وأفتى بن القاسم ابنه بذلك والمعروف عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنه لا فرق بين ان يحلف بالطلاق او العتاق او النذر إما ان تجزئه الكفارة فى كل يمين واما أن لا شيء عليه واما ان يلزمه كما حلف به بل اذا كان قوله ان فعلت كذا فعلى ان اعتق رقبة وقصد به اليمين لا يلزمه العتق بل يجزئه كفارة يمين ولو قاله على وجه النذر لزمه
____________________
(33/220)
بالاتفاق فقوله فعبدى حر أولى أن لا يلزمه لأن قصد اليمين اذا منع ان يلزمه الوجوب فى الاعتاق والعتق فلان يمنع لزوم العتق وحده اولى
( وأيضا ) فان ثبوت الحقوق فى الذمم أوسع نفوذا فان الصبى والمجنون والعبد قد تثبت الحقوق فى ذممهم مع أنه لا يصح تصرفهم فاذا كان قصد اليمين مع ثبوت العتق المعلق فى الذمة ( ممنوع ) فلان يمنع وقوعه اولى وأحرى واذا كان العتق الذى يلزمه بالنذر لا يلزمه اذا قصد به اليمين فالطلاق الذى لا يلزم بالنذر اولى أن لا يلزم اذا قصد به اليمين فان التعليق انما يلزم فيه الجزاء اذا قصد وجوب الجزاء عند وجوب الشرط كقوله إن ابرأتينى من صداقك فأنت طالق وان شفا الله مريضي فثلث مالى صدقة واما اذا كان يكره وقوع الجزاء وان وجد الشرط وانما التزمه ليحض نفسه او يمنعها او يحض غيره او يمنعه فهذا مخالف لقوله ان فعلت كذا فانا يهودى او نصرانى ومالى صدقة وعبيدى احرار ونسائى طوا لق وعلى عشر حجج وصوم فهذا حالف باتفاق الصحابة والفقهاء وسائر الطوائف وقد قال الله تعالى { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقال تعالى { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم } وثبت عن النبى من غير وجه فى الصحيح انه قال ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليات الذى هو خير وليكفر عن يمينه ) وهذا يتناول
____________________
(33/221)
( أيمان ) جميع المسلمين لفظا ومعنى ولم يخصه نص ولا اجماع ولا قياس بل الأدلة الشرعية تحقق عمومه
واليمين فى كتاب الله وسنة رسوله ( نوعان ) نوع محترم منعقد مكفر كالحلف بالله ونوع غير محترم ولا منعقد ولا مكفر وهو الحلف بالمخلوقات فان كانت هذه اليمين من أيمان المسلمين ففيها الكفارة وهى من النوع الأول وان لم تكن من ايمان المسلمين فهو من الثانى واما اثبات يمين منعقدة غير مكفرة فهذا لا أصل له فى الكتاب والسنة
وتقسيم أيمان المسلمين إلى يمين مكفرة وغير مكفرة كتقسيم الشراب المسكر إلى خمر وغير خمر وتقسيم السفر إلى طويل وقصير وتقسيم الميسر إلى محرم وغير محرم بل الاصول تقتضى خلاف ذلك وبسط الكلام له موضوع آخر لكن هذا
( القول الثالث ) وهو القول بثبوت الكفارة فى جميع أيمان المسلمين هو القول الذى تقوم عليه الآدلة الشرعية التى لا تتناقض وهو المأثور عن أصحاب رسول الله وأكابر التابعين
____________________
(33/222)
اما فى جميع الأيمان واما فى بعضها وتعليل ذلك بانه يمين والتعليل بذلك يقتضى ثبوت الحكم فى جميع ايمان المسلمين
والصيغ ثلاثة صيغة تنجيز ( كقوله أنت طالق فهذه ليست يمينا ولا كفارة فى هذا باتفاق المسلمين
( والثانى ) صيعة قسم كما اذا قال الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا فهذه يمين باتفاق اهل اللغة والفقهاء
و ( الثالث ) صيغة تعليق فهذه إن قصد بها اليمين فحكمها حكم الثانى باتفاق العلماء وأما ان قصد وقوع الطلاق عند الشرط مثل ان يختار طلاقها اذا اعطته العوض فيقول إن أعطيتنى كذا فانت طالق ويختار طلاقها اذا أتت كبيرة فيقول أنت طالق ان زنيت أو سرقت وقصده الايقاع عند الصفة لا الحلف فهذا يقع به الطلاق باتفاق السلف فان الطلاق المعلق بالصفة روى وقوع الطلاق فيه عن غير واحد من الصحابة كعلى وبن مسعود وأبى ذر وبن عمر ومعاوية وكثير من التابعين ومن بعدهم وحكى الاجماع على ذلك غير واحد
____________________
(33/223)
وما علمت أحدا نقل عن أحد من السلف ان الطلاق بالصفة لا يقع وانما علم النزاع فيه عن بعض الشيعة وعن بن حزم من الظاهرية
وهؤلاء الشيعة بلغتهم فتاوى عن بعض فقهاء أهل البيت فيمن قصده الحلف فظنواأن كل تعليق كذلك كما أن طائفة من الجمهور بلغتهم فتاوى عن بعض الصحابة والتابعين فيمن علق الطلاق بصفة انه يقع عندها فظنوا ان ذلك يمين وجعلوا كل تعليق يمينا كمن قصده اليمين ولم يفرقوا بين التعليق الذى يقصد به اليمين والذى يقصد به الايقاع كما لم يفرق أولئك بينهما فى نفس الطلاق وما علمت أحدا من الصحابة أفتى فى اليمين بلزوم الطلاق كما لم أعلم أحدا منهم أفتى فى ا لتعليق الذى يقصد به اليمين وهو المعروف عن جمهور السلف حتى قال به داود واصحابه ففرقوا بين تعليق الطلاق الذى يقصد به اليمين والذى يقصد به الايقاع كما فرقوا بينهما فى تعليق النذر وغيره والفرق بينهما ظاهر فان الحالف يكره وقوع الجزاء وان وجدت الصفة كقول المسلم ان فعلت كذا فأنا يهودى أو نصرانى فهو يكره الكفر وان وجدت الصفة انما التزامه لئلا يلزم وليمتنع به من الشرط لا لقصد وجوده عند الصفة وهكذا الحلف بالاسلام لو قال الذمى ان فعلت كذا فأنا مسلم
والحالف بالنذر والحرام والظهار والطلاق والعتاق اذا قال ان فعلت كذا فعلى الحج وعبيدى أحرار ونسائى طوالق ومالى صدقة
____________________
(33/224)
فهو يكره هذه اللوازم وإن وجد الشرط وانما علقها ليمنع نفسه من الشرط لا لقصد وقوعها واذا وجد الشرط فالتعليق الذى يقصد به الايقاع من باب الايقاع والذى يقصد به اليمين من باب اليمين وقد بين الله فى كتابه أحكام الطلاق وأحكام الايمان واذا قال ان سرقت ان زينت فأنت طالق فهذا قد يقصد به اليمين وهو أن يكون مقامها مع هذا الفعل أحب إليه من طلاقها وانما قصده زجرها وتخويفها لئلا تفعل فهذا حالف لا يقع به الطلاق وقد يكون قصده ايقاع الطلاق وهو أن يكون فراقها أحب إليه من المقام معها مع ذلك فيختار اذا فعلته أن تطلق منه فهذا يقع به الطلاق والله أعلم
وسئل عمن حلف لا يكلم صهر أخيه وحلف بالثلاث ما يد خل منزله ثم دخل بغير رضاه
فأجاب اذا كان الحالف قد اعتقد ان المحلوف عليه يطيعه ويبر يمينه ولا يدخل اذا حلف عليه فتبين له الأمر بخلاف ذلك ولو علم أنه كذلك لم يحلف ففى حنثه نزاع بين العلماء والاقوى أنه لا يحنث والله أعلم
____________________
(33/225)
وسئل عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أنه لا يسكن فى المكان الذى هو فيه وقد انتقل وأخلاه فهل يجوز له أن يعود أم لا
فأجاب إن كان السبب الذى حلف لأجله قد زال فله أن يعود والله أعلم
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله عن رجل حلف على زوجته بالطلاق الثلاث أنها تحط يدها فى خريطته ولا تأخذ منها شيئا وقال ذلك مدة أربع شهور ثم بعد ذلك حلف يمينا ثانيا أنها لا تنقل ما سمعت إلى أحد ثم بعد ذلك نقلته للناس فقال لها زوجها ما حلفت عليك بالطلاق أنك لا تنقليه إلى احد وقد نقلتيه قالت نقلته وما علمت على يمينا فقال الآن قد وقع الطلاق قومى أعطينى خريطتى وأعطينى منها الخيط فما بقى على يمين وقد وقع على الطلاق
____________________
(33/226)
قالت أنا ما علمت أن علينا يمينا بالدائم انما اعتقدت اليمين مدة خمسة أو ستة أيام فقال لها أنا ما أعر ف أنت الساعة طالق منى بالطلاق الثلاث فهل يلزمها الطلاق من أول يمين أو من الثانى
فأجاب إن كانت قد اعتقدت أن حكم يمينه قد أنقضى وفعلت المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث الحالف وان كان قد قال أنت الساعة طالق منى ثلاثا لا عتقاده أنه وقع به الطلاق لم يقع بذلك شيء والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل كاتب عبده وحصل منه حرج أوجب أنه حلف بالطلاق الثلاث أنه لا يفارقه من الضرب والترسيم إلى حيث يحضر إليه حسابه او يعيد إليه مالتمسه من الجامكية فهل يجوز خلاصه بوجه من الوجوه الشرعية أفتونا
فأجاب رضى الله عنه ان كان احضار الحساب المطلوب قد عجز عنه المحلوف عليه وعن اعادة المطلوب من الجامكية لم يجز أن يطالب بو احد منهما بل يلزم ولى الامرالحالف بفراقه واذا ألزمه بذلك لم يحنث على الصحيح من قولى العلماء ولم يكن عليه طلاق سواء ألزمه بذلك والى حرب السلطان ونحوه أو والى حكم أو كاتب فوقه ينفذ حكمه فيه بالعدل وهكذا ان
____________________
(33/227)
لم يجب عليه احضار أحدهما فانه اذا لم يكن واجبا فى الشرع الذى بعث الله به رسوله وجب الزامه بفراقه واذا فارقه والحال هذه لم يحنث
وكذلك ان اعتقد الحالف أن الأمر على صفة فتبين الأمر بخلافة مثل أن يعتقد أن فى الحساب كشف أمو ر يجب كشفها فتبين الأمر بخلافة فانه لا يحنث عند كثير من العلماء اذا فارقه وكذلك ان اعتقد أن اعادة الجامكية واجب عليه فحلف على ذلك ثم تبين أنه ليس بواجب فانه لا يحنث عند كثير من أهل العلم وكذلك لو اعتقد أن المحلوف عليه قادر على الفعل المطلوب فتبين أنه عاجز فانه لا يحنث عند كثير من أهل العلم وهو أحسن القولين وأقواهما فى الشرع وكذلك لو اعتقد أنه خان أو سرق مالا فحلف على اعادته ثم تبين أنه لم يخن ولم يسرق فإنه لا يحنث فى أصح قولى العلماء والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجل حلف بالطلاق الثلاث وهو غضبان أنها ما تدخل بيت عمتها ورزقت زوجته ولدا ثم بعد ذلك دخلت المرأة المحلوف عليها بيت عمتها وكان قد قال للحالف ناس إنه إذا ولدت المرأة ودخلت فلا حنث عليه
____________________
(33/228)
أفتونا فأجاب إذا كان الحالف قد اعتقد أن المرأة إذا ولد لها ولد لا حنث عليه ودخلت بهذا الاعتقاد فلا حنث عليه لكن يمينه باقية فاذا فعل المحلوف عليه عالما عامدا حنث والله أعلم
وسئل عن رجل حلف على زوجته فقال لها إن خرجت وأنا غائب فأنت طالق ثلاثا فلما قدم من السفر قالت له والله أحتجت إلى الحمام ولم أقدر للغسل بالبيت
فأجاب إن كانت اعتقدت أن هذه الصورة ليست داخلة فى يمينه وأنها لا تكون مخالفة ليمينه اذا فعلت ذلك لم يحنث الحالف فى يمينه
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له زوجتان فعدم من بيته مبلغ فحلف بالطلاق الثلاث من الجديدة أنه إذا لم يطلع لهذا المبلغ الذى عدم من بيته ما يخلى العتيقة فى بيته وكان فى عقيدته أن العتيقة هي التى خانت فى المبلغ المحلوف عليه
____________________
(33/229)
فأجاب أيده الله اذا كان قد أعتقد ان العتيقة قد خانته فحلف إن لم تأت بذلك لأخرجها لأجل ذلك ثم تبين أنها لم تخنه لم يكن عليه أن يخرجها ولا حنث عليه والله أعلم
وسئل عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أنه ما يزوج ابنته لرجل معين ثم إنه زوجها بغيره ثم بانت من الثانى بالثلاث فهل له أن يزوجها للرجل الذى كان قد حلف عليه أم لا
فأجاب إن كان نية الحالف أو سبب اليمين يقتضى الحلف على ذلك التزويج خاصة جاز ان يزوجها المرة الثانية مثل أن يكون قد امتنع لتزويجه لكونه طلب منه جهازا كثيرا ثم فى المرة الثانية قنع بها بلا جهاز واما إن كان السبب باقيا حنث والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل حج له زوجتان وحلف بالطلاق الثلاث أنه لا يطعمهم
____________________
(33/230)
شيئا فأجاب إن كان نيته ان سبب اليمين يقتضى أنه امتنع لسبب وقد زال ذلك السبب انحلت يمينه فى أظهر قولى العلماء والله أعلم
وسئل رحمه الله عمن حلف بالطلاق الثلاث على زوجته أنها لا تنزل من بيته الا باذنه ثم إنها قالت أنا اليوم اتغدى أنا وأمك فاعتقد أن أمه تجيء إلى عندها واعتقدت الزوجة أنه أذن لها فذهبت إلى عند أمه
فأجاب الطلاق والحالة هذه لا يقع به فى أصح قولى العلماء كما هو احدى قولى الشافعى واحدى الروايتين عن أحمد فان هذه هي مسألة الجاهل والناسى والنزاع فيها مشهور هل يحنث أم لا يحنث أم يفرق بين اليمين المكفرة وغيرها والصواب
انه لا يحنث مطلقا لأن البر والحنث فى اليمين بمنزلة الطاعة والمعصية فى الأمر إذ كان المحلوف عليه جملة طلبية
فان المحلوف عليه إما ( جملة خبرية ) فيكون مقصود الحالف التصديق والتكذيب واما ( جملة طلبية ) فيكون مقصود الحالف
____________________
(33/231)
الحض والمنع فهو يحض نفسه أو من يحلف عليه ويمنع نفسه أو من يحلف عليه فهو أمر ونهى مؤكد بالقسم فالحنث فى ذلك كالمعصية فى الأمر المجرد ومعلوم أنه قد استقر فى الشريعة أن من فعل المنهى عنه ناسيا أو مخطئا معتقدا أنه ليس هو المنهي كأهل التأويل السائغ فانه لا يكون هذا الفاعل آثما ولا عاصيا كما قد استجاب الله قول المؤمنين { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } فكذلك من نسى اليمين أو اعتقد أن الذى فعله ليس هو المحلوف عليه لتأويل أو غلط كسمع ونحوه لم يكن مخالفا اليمين فلا يكون حالفا فلا فرق فى ذلك بين أن يكون الحلف بالله تعالى أو بسائر الأيمان اذا الأيمان يفترق حكمها فى المحلوف به أما فى المحلوف عليه فلا فرق والكلام هنا فى المحلوف عليه لا فى المحلوف به ومعلوم أن الحالف بالطلاق والعتاق لم يجعل ذلك تعليقا محضا كالتعليق بطلوع الشمس ولا مقصوده وقوع الشرط والجزاء كنذر التبرر وكالتعليق على العوض فى مثل الخلع وانما مقصوده حض نفسه أو منع من حلف عليه ومنع نفسه أو من حلف عليه كما يقصد ذلك الناذر نذر الحجاج والغضب ولهذا اتفق الفقهاء على تسمية ذلك يمينا وكان الصحيح فى مذهب احمد وغيره جواز الاستثناء فى ذلك بخلاف المحض فإنه ايقاع موقت فليس هو يمين على الصحيح ولا ينفع فيه الاستثناء منه عند من لا يجوز الا ستثناء فى الايقاع كما لك واحمد وغيرهما والله أعلم
____________________
(33/232)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل وجد بن خالته عند زوجته فحلف بالطلاق ان بن خالته كان عند زوجته وكذلك كان عندها
فأجاب إذا كان الحالف صادقا فى يمينه فلا حنث عليه وكذلك اذا اعتقد صدق نفسه فلا حنث عليه ولو كان الأمر فى الباطن بخلاف ذلك فى أصح قولى العلماء والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجل حلف بالطلاق أنه ما يتزوج فلانة ثم بدى له أن ينكحها فهل له ذلك
فأجاب نور الله مر قده وضريحه الحمد لله رب العالمين له أن يتزوجهاولا يقع بها طلاق إذا تزوجها عند جمهور السلف وهو مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما
____________________
(33/233)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل امتنعت عليه زوجته من مجامعتها فانجرح من امتناعها عليه فحلف بالطلاق وكانت حاملا أن لا يجامعها بعد الولادة فهل يقع عليه الطلاق إن جامعها بعد الولادة أم لا وهل ينظر إلى السبب المهيج لليمين أم لا
فأجاب إذا جامعها بعد الولادة ينظر فى ذلك إلى نية الحالف وسبب اليمين فإن كان حلف لسبب وزال السبب فلا حنث عليه فى أظهر قولى العلماء فى مذهب أحمد وغيره فإن من حلف على معين لسبب كأن يحلف أن لا يدخل البلد لظلم رآه فيه ثم يزول الظلم أو لا يكلم فلا نا ثم يزول الفسق ونحو ذلك ففى حنثه حينئذ ( قولان ) فى مذهب أحمد وغيره أظهرهما أنه لا حنث عليه لأن الحض والمنع فى اليمين كالأمر والنهى فالحلف على نفسه أو غيره بمنزلة الناهى عن الفعل ومن نهى عن دخول بلد أو كلام شخص لمعنى ثم زال ذلك المعنى زال المنهى عنه كما اذا امتنع أن يبدأ رجلا بالسلام لكونه كافرا فأسلم وأن لا يدخل بلدا لكونه دار حرب فصار دار اسلام ونحو ذلك فان الحكم اذا ثبت بعلة زال بزوالها
____________________
(33/234)
فالرجل إذا حلف لا يواقع امرأته إذا كان قصده عقوبتها لكونها تماطله وتنشز عليه إذا طلب ذلك فاذا تابت من ذلك وصارت مطيعة موافقة زال سبب الهجر الذى علقها به كما لو هجرها لنشوز ثم زال واما إن كان قصده الامتناع من وطئها أبدا لأجل الذنب المتقدم تابت أو لم تتب بحيث لو علم أنها تتوب توبة صحيحة كان مقصوده عقوبتها على ما مضى كما يعاقب الرجل غيره لذنب ماض تاب منه أو لم يتب لا لغرض الزجر عن المستقبل بل لمجرد شفاء غيظه ونحو ذلك فهذا نوع آخر والله اعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل حلف على زوجته بالطلاق أنه ما يطؤها لست شهور ولم يكن بقى لها غير طلقة ونيته ان لا يطأها حتى تنقضى المدة فاذا انقضت المدة ما ذا يفعل
فأجاب إذا انقضت المدة فله وطؤها ولا شيء عليه إذا لم تطالبه بالوطء عند انقضاء أربعة أشهر هذا مذهب مالك وأحمد والشافعى والجمهور وهو يسمى ( موليا
____________________
(33/235)
وسئل رحمه الله عن رجل له زوجه وجارية فتسرى بالجارية فغارت المرأة فحلف الا يعود يطأ الجارية ثم اعتقها وتزوجت الجارية فأقامت مع الزوج مدة وتوفى عنها فهل للمعتق أن يتزوجها
فأجاب اذا كانت نيته أو سبب اليمين يقتضى أنه لا يطؤها بملك كان له أن يتزوجها ويطاها وان كان ذلك يقتضى أنه لا يطؤها بحال لا ملك ولا عقد حنث اذا فعل المحلوف عليه والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجل عليه مبلغ لشخصين قال الطلاق الثلاث أن الشهر ما ينفصل حتى يعطيهما المبلغ وإن لم يحلف حبسه والآن ما حصل والشهر بقى فيه اليوم وهو خائف أن يقع عليه الحنث فاذا خالع الزوجة بطلقة واحدة يفيده هذا ولا يقع عليه الطلاق الثلاث أم لا
فأجاب اذا أكره على اليمين بغير حق بأن يكون عاجزا عن وفاء الدين
____________________
(33/236)
واكره على اليمين والاحبس وضرب لم ينعقد يمينه ولا حنث فيها والله اعلم
وسئل رحمه الله عن ر جل يشترى البقل بشيء يزن عليه الحق والبعض يشتريه بلا حق وحضر له من يخاف منه فحلف بالطلاق أنه أى شيء اشتر يته تزن حقه فهل يجوز له يشترى الفلت
فأجاب اذا اكره على اليمين بغير حق لم تنعقد يمينه ولا حنث عليه واذا لم يمكن من أعوان الضمان فليس له عنده حق لا فى الشرع ولا فى العادة واذا لم يكن له عنده حق لم يحنث بترك اعطائه والله اعلم
وسئل عن رجل وضع حجة فى بيت أخيه فعدمت ثم بعد أيام طلبها ولم يجدها فحلف بالطلاق أنه ما يدخل بيت أخيه حتى يعطى الحجة معتقدا وجودها
فأجاب إن كانت الحجة قد عدمت قبل اليمين ولكن اعتقد بقاءها فانه لا يحنث عند جمهور العلماء لوجهين ( أحدهما ) أنه حلف على ممتنع لذاته كما لو حلف ليشربن الماء الذي فى الكوز ولا ماء فيه وهذا لا يحنث عند الأكثرين و ( الثانى ) اعتقد بقاءها وامكان اعطائها فحلف على شيء يعتقده موصوفا بصفة فتبين بخلاف تلك الصفة
____________________
(33/237)
& باب تعليق الطلاق بالشروط
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل حلف بالطلاق ثم استثنى هنيهة بقدر ما يمكن فيه الكلام
فأجاب لا يقع فيه الطلاق ولا كفارة عليه والحال هذه ولو قيل له قل إنشاء الله ينفعه ذلك أيضا ولو لم يخطر له الإستثناء إلا لما قيل له والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجل حنق من زوجته فقال أنت طالق ثلاثا قالت له زوجته قل الساعة قال الساعة ونوى الإستثناء
____________________
(33/238)
فأجاب ان كان اعتقاده أنه اذا قال الطلاق يلزمنى ان شاء الله أنه لا يقع به الطلاق ومقصوده تخويفها بهذا الكلام لا ايقاع الطلاق لم يقع الطلاق فان كان قد قال فى هذه الساعة ان شاء الله فان مذهب أبى حنيفة والشافعى أن الطلاق المعلق بالمشيئة لا يقع ومذهب مالك وأحمد يقع كما روى عن بن عباس لكن هذا لما كان مقصوده واعتقاده أنه لا يقع صار الكلام عنده كلاما لا يقع به طلاق فلم يقصد التكلم بالطلاق وإذا قصد المتكلم بكلام لا يعتقد أنه يقع به الطلاق مثل ما لو تكلم العجمي بلفظ وهو لا يفهم معناه لم يقع وطلاق الهازل وقع لأن قصد المتكلم الطلاق وان لم يقصد ايقاعه وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا وهو يشبه ما لو رأى إمرأة فقال انت طالق يظنها أجنبية فبانت امرأته فانه لا يقع به طلاق على الصحيح والله أعلم
____________________
(33/239)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل اعتقد مسئله ( الدور ( المسندة لإبن سريج ثم حلف بالطلاق على شيء لا يفعله ثم فعله ثم رجع عن المسألة وراجع زوجته ثم بعد ذلك حلف على شيء بالطلاق الثلاث أن لا يفعله ثم بعد ذلك قال لزوجته أنت طالق فهل يقع عليه الطلاق الثلاث أم يستعمل المسألة الأولى المشار اليها
فأجاب ( المسألة السريجية ) باطلة فى الإسلام محدثه لم يفت بها أحد من الصحابة والتابعين ولا تابعيهم وإنما ذكرها طائفة من الفقهاء بعد المائة الثالثة وأنكر ذلك عليهم جمهور فقهاء المسلمين وهو الصواب فان ما قاله أولئك يظهر فساده من وجوه منها أنه قد علم بالإضطرار من دين الإسلام أن الله أباح الطلاق كما اباح النكاح وان دين المسلمين مخالف لدين النصارى الذين لا يبيحون الطلاق فلو كان فى دين المسلمين ما يمتنع معه الطلاق لصار دين المسلمين مثل دين النصارى
____________________
(33/240)
وشبهة هؤلاء ) أنهم قالوا اذا قال لامرأته اذا وقع عليك طلاقى فانت طالق قبله ثلاثا ثم طلقها بعد ذلك طلاقا منجزا لزم أن يقع المعلق ولو وقع المعلق يقع المنجز فكان وقوعه يستلزم عدم وقوعه فلا يقع وهذا خطأ فإن قولهم لو وقع المنجز لوقع المعلق إنما يصح لو كان التعليق صحيحا فاما اذا كان التعليق باطلا لا يلزم وقوع التعليق والتعليق باطل لأن مضمونه وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث باطل فى دين المسلمين
ومضمونه أيضا إذا وقع عليك طلاقى لم يقع عليك طلاقى وهذا جميع بين النقيضين فانه اذا لم يقع الشرط لم يقع الجزاء واذا وقع الشرط لزم الوقوع فلو قيل لا يقع مع ذلك لزم أن يقع ولا يقع وهذا جمع بين النقيضين
وأيضا فالطلاق إذا وقع لم يرتفع بعد وقوعه فلما كان كلام المطلق يتضمن محالا فى الشريعة وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ومحالا فى العقل وهو الجمع بين وقوع الطلاق وعدم وقوعه كان القائل بالتسريج مخالفا للعقل والدين لكن اذا اعتقد الحالف صحة هذا اليمين باجتهاد أو تقليد وطلق بعد ذلك معتقدا أنه لا يقع به الطلاق لم يقع به الطلاق لأنه لم يقصد التكلم بما يعتقده طلاقا فصار كما لو تكلم العجمى بلفظ الطلاق وهو لا يفهمه بل وكذلك لو خاطب من يظنها أجنبية بالطلاق فتبين أنها امرأته فانه لا لا يقع به على الصحيح ولو تبين له فساد التسريج بعد ذلك وانه يقع المنجز
____________________
(33/241)
لم يكن ظهور الحق له فيما بعد موجبا لوقوع الطلاق عليه وكذلك ان احتاط فراجع امرأته خوفا أن يكون الطلاق وقع به أو معتقدا وقوع الطلاق به لم يقع ولو أقر بعد ما تبين له فساد التسريج أن الطلاق وقع لم يقع بهذا الإقرار شيء ولو أعتقد وقوع الطلاق فراجع امرأته ثم فعل المحلوف عليه معتقدا أنه قد حنث فيه مرة فلا يحنث فيه مرة ثانية لم يقع به فهذا الفعل شيء واليمين التى حلف بها أنه لا يفعل ذلك الشيء باقية فان كان سبب اليمين باقيا فهي باقية وإن زال سبب اليمين فله فعل المحلوف عليه بناء على ذلك ولم يحنث وكذلك لو تزوجها ثم فعل المحلوف عليه معتقدا أن البينونة حصلت وانقطع حكم اليمين الأولى لم يحنث لاعتقاده زوال اليمين كمالا يحنث الجاهل بان ما فعله هو المحلوف عليه فى أصح قولى العلماء
وأما قوله لزوجته بعد ذلك أنت طالق فانه تقع هذه الطلقة واذا اعتقد أنه بهذه الطلقة قد كملت ثلاثا وأقر أنه طلقها ثلاثا لم يقع بهذا الإعتقاد شيء ولا بهذا الإقرار
وسئل رحمه الله ما قولكم فى العمل ( بالسريجية ) وهو أن يقول الرجل لإمرأته اذا طلقتك فانت طالق قبله ثلاثا وهذه المسألة تسمى ( مسالة بن سريج
____________________
(33/242)
الجواب هذه المسألة لم يفت بها أحد من سلف الأمة ولا أئمتها لا من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المذاهب المتبوعين كأبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد ولا أصحابهم الذين أدركوهم كأبى يوسف ومحمد والمزنى والبويطى وبن القاسم وبن وهب وابراهيم الحربى وأبى بكر الأثرم وأبى داود وغيرهم لم يفت أحد منهم بهذه المسألة وإنما افتى بها طائفة من الفقهاء بعد هولاء وأنكر ذلك عليهم جمهور الأمة كاصحاب ابى حنيفة ومالك وأحمد وكثير من اصحاب الشافعى وكان الغزالى يقول بها ثم رجع عنها وبين فسادها
وقد علم من دين المسلمين أن نكاح المسلمين لا يكون كنكاح النصارى والدور الذى توهموه فيها باطل فانهم ظنوا انه اذا وقع المنجز وقع المعلق وهو انما يقع لو كان التعليق صحيحا والتعليق باطل لأنه اشتمل على محال فى الشريعة وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فان ذلك محال فى الشريعة والتسريج يتضمن لهذا المحال فى الشريعة فيكون باطلا واذا كان قد حلف بالطلاق معتقدا أنه لا يحنث ثم تبين له فيما بعد أنه لا يجوز فليمسك امرأته ولا طلاق عليه فيما مضى ويتوب فى المستقبل
والحاصل أنه لو قال الرجل لإمرأته إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا فطلقها وقع المنجز على الراجح ولا يقع معه المعلق لأنه لو وقع المعلق وهو الطلاق الثلاث لم يقع المنجز لأنه زائد على عدد الطلاق وإذا لم يقع المنجز
____________________
(33/243)
لم يقع المعلق وقيل لا يقع شيء لأن وقوع المنجز يقتضى وقوع المعلق ووقوع المعلق يقتضى عدم وقوع المنجز وهذا القيل لا يجوز تقليده وبن سريج بريء مما نسب إليه فيها قاله الشيخ عز الدين
وسئل رحمه الله هل تصح 0 مسألة بن سريج ) أم لا فإن قلنا لا تصح فمن قلده فيها وعمل فيها فلما علم بطلانها استغفر الله من ذلك
فأجاب الحمدلله رب العالمين هذه المسألة محدثة فى الاسلام ولم يفت بها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من الأئمة الأربعة وانما افتى بها طائفة من المتأخرين وانكر ذلك عليهم جماعة علماء المسلمين ومن قلد فيها شخصا ثم تاب فقد عفا الله عما سلف ولا يفارق امرأته وإن كان قد تزوج بها إذا كان متأولا والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج بامرة وجاءه منها ولد وأوصاه الشهود أو غيرهم أنه إذا ادخل على زوجته أن يقول لها إذا طلقتك فأنت طالق قبل طلاقك ثلاثا فهل يجوز ذلك العقد أم لا
____________________
(33/244)
فأجاب الحمد لله النكاح صحيح لا يحتاج إلى إستئناف والتسريج ( الذى لا يتكلم به لا يفسد النكاح باتفاق العلماء لكنه إن طلقها بعد ذلك وقع به الطلاق عند جماهير أهل العلم من أصحاب مالك وأحمد وأبى حنيفة وكثير من أصحاب الشافعى أو أكثرهم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له زوجه طلبت منه الطلاق وطلقها وقال ما بقيت أعود اليها ابدا فوجده صاحبه فقال ما أصدقك على هذا إلا إن قلت كلما تزوجت هذه كانت طالقاعلى مذهب مالك ولم يرى الأحكام الشرعية فهل له أن يردها
فأجاب الحمد لله أما ان قصد كلما تزوجتها برجعة أو عقد جديد وهو ظاهر كلامه فمتى ارتجعها قبل انقضاء العدة طلقت ثانية ثم ان ارتجعها طلقت ثالثة وان تركها حتى تنقضى عدتها بانت منه فاذا تزوجها بعد ذلك فمن قال إن تعليق الطلاق بالنكاح يقع فى مثل هذا كابى حنيفة ومالك وأحمد فى رواية قال ان هذه اذا تزوجها يقع بها الطلاق وأما من لم يقل بذلك كالشافعى وأحمد فى المشهور عنه فهذه لما علق طلاقها كانت رجعية والرجعية كالزوجه فى مثل هذا لكن تخلل البينونة هل يقطع
____________________
(33/245)
حكم الصفة ظاهر مذهب احمد أنه لايقطع وقد نص على الفرق فى تعليق الطلاق على النكاح بين أن يكون فى عدة أولا يكون فعلى مذهبه يقع الطلاق بها اذا تزوجها وهو أحد قولى الشافعى وعلى قوله الآخر الذى يقول فيه إن البينونة تقطع حكم الصفة وهو رواية عن أحمد فان قوله إذا تزوجها كقوله اذا دخلت الدار واذا بانت انحلت هذه اليمين فيجوز له أن يتزوجها ولا يقع به طلاق وهو الذى يرجحه كثير من اصحاب الشافعى
وأما قوله على مذهب مالك فانه التزام منه لمذهب بعينه وذلك لا يلزم بل له أن يقلد مذهب الشافعى وان كان الطلاق بائنا بعوض والتعليق بعد هذا فى العدة وغيره تعليق باجنبية فلا يقع به شيء اذا تزوجها فى مذهب الشافعى
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل شافعى المذهب بانت منه زوجته بالطلاق الثلاث ثم تزوجت بعده وبانت من الزوج الثانى ثم أرادت صلح زوجها الأول لأن لها منه اولادا فقال لها اننى لست قادراعلى النفقة وعاجز عن الكسوة فأبت ذلك فقال لها كلما حللت لى حرمت على فهل تحرم عليه وهل يجوز ذلك
____________________
(33/246)
فأجاب الحمد لله لا تحرم عليه بذلك لكن فيها قولان ( أحدهما ) أن له أن يتزوجها ولا شيء عليه و ( الثانى ) عليه كفارة إما كفارة ظهار فى قول وإما كفارة يمين فى قول آخر وكذلك مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما ان له أن يتزوجها ولا يقع به طلاق لكن فى التفكير نزاع وإنما يقول بوقوع الطلاق بمثل هذه من يجوز تعليق الطلاق على النكاح كابى حنيفة ومالك بشر ط أن يرى الحرام طلاقا كقول مالك وإذا نواه كقول أبى حنيفة واما الشافعى واحمد فعندهما لو قال كلما تزوجتك فانت طالق لم يقع به طلاق فكيف فى الحرام لكن أحمد يجوز عليه فى المشهور عنه تصحيح الظهار قبل الملك بخلاف الشافعي والله أعلم
____________________
(33/247)
( سئل شيخ الاسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه ( عن رجل قال لامرأته أنت على مثل أمى وأختى
فأجاب إن كان مقصوده أنت على مثل أمى واختى فى الكرامة فلا شيء عليه وإن كان مقصوده يشبهها بأمه وأخته فى ( باب النكاح ( فهذا ظهار عليه ما على المظاهر فاذا امسكها فلا يقربها حتى يكفر كفارة ظهار
( وسئل رحمه الله ( عن رجل تزوج وأراد الدخول الليلة الفلانية والا كانت عندى مثل امى وأختى ولم تتهيأ له ذلك الوقت الذى طلبها فيه فهل يقع طلاق
____________________
(34/5)
فأجاب لا يقع عليه طلاق فى المذاهب الاربعة لكن يكون مظاهرا فاذا أراد الدخول فإنه يكفر قبل ذلك الكفارة التى ذكرها الله فى ( سورة المجادلة ) فيعتق رقبة مؤمنة فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين فان لم يستطع فاطعام ستين مسكينا
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل حنق من زوجته فقال ان بقيت انكحك أنكح أمى تحت ستور الكعبة هل يجوز أن يصالحها
فأجاب الحمد لله إذا نكحها فعليه كفارة الظهار عتق رقبة مؤمنة فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين فان لم يستطع فاطعام ستين مسكينا ولا يمسها حتى يكفر
( وسئل رحمه الله ( عن رجلين قال أحدهما لصاحبه يا أخى لا تفعل هذه الأمور بين يدى امرتك قبيح عليك فقال ما هي إلا مثل أمى فقال لأى شيء قلت سمعت أنها تحرم بهذا اللفظ ثم كرر على نفسه وقال أى والله هي عندى مثل أمى هل تحرم على الزوج بهذا اللفظ
____________________
(34/6)
فأجاب الحمد رب العالمين إن أراد بقوله إنها مثل أمى أنها تستر على ولا تهتكنى ولا تلومنى كما تفعل الأم مع ولدها فانه يؤدب على هذا القول ولا تحرم عليه امرأته فان عمر بن الخطاب رضى الله عنه سمع رجلا يقول لامرأته يا أختى فأدبه وإن كان جاهلا لم يؤدب على ذلك وان استحق العقوبة على ما فعله من المنكر وقال أختك هي فلا ينبغى أن يجعل الانسان امرأته كأمه
وان أراد بها عندى مثل أمى أى فى الامتناع عن وطئها والاستمتاع بها ونحو ذلك مما يحرم من الأم فهي مثل أمى التى ليست محلا للاستمتاع بها فهذا ( مظاهر ) يجب عليه ما يجب على المظاهر فلا يحل له أن يطأها حتى يكفر ( كفارة الظهار ) فيعتق رقبة فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين فان لم يستطع فاطعام ستين مسكينا واذا فعل ذلك حل له ذلك باتفاق المسلمين إلا ينوى أنها محرمة على كأمى فهذا يكون مظاهرا فى مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد وحكى فى مذهب مالك نزاع فى ذلك هل يقع به الثلاث أم لا
والصواب المقطوع به أنه لا يقع به طلاق ولا يحل له الوطء حتى يكفر باتفاقهم ولا يقع به الطلاق بذلك والله أعلم
____________________
(34/7)
وسئل رحمه الله عن رجل قال لامرأته بائن عنه ان رددتك تكونى مثل أمى وأختى هل يجوز أن يردها وما الذى يجب عليه
فأجاب فى أحد قولى العلماء عليه كفارة ظهار وإذا ردها فى الآخر لا شيء والأول أحوط
وسئل رحمه الله عن رجل قال فى غيظه لزوجته أنت على حرام مثل أمى
فأجاب هذا مظاهر من امرأته داخل فى قوله { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } فهذا اذا أراد امساك زوجته ووطأها فانه لا يقربها حتى يكفر هذه الكفارة التى ذكرها الله
____________________
(34/8)
وسئل رحمه الله عن رجل قالت له زوجته أنت على حرام مثل أبى وأمى وقال لها أنت على حرام مثل أمى وأختى فهل يجب عليه طلاق
فأجاب لا طلاق بذلك ولكن ان استمر على النكاح فعلى كل منهما كفارة ظهار قبل أن يجتمعا وهى عتق رقبة فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين فان لم يستطع فاطعام ستين مسكينا
____________________
(34/9)
& ( باب ما يلحق من النسب (
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل تزوج بنتا بكرا بالغا ودخل بها فوجدها بكرا ثم إنها ولدت ولدا بعد مضى ستة أشهر بعد دخوله بها فهل يلحق به الولد أم لا وأن الزوج حلف فى الطلاق منها ان الولد ولده من صلبه فهل يقع به الطلاق أم لا والولد بن سوى كامل الخلقة وعمر سنين أفتونا ماجورين
فأجاب رضى الله عنه الحمد لله إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر من حين دخل بها ولو بلحظة لحقه الولد باتفاق الأئمة ومثل هذه القصة وقعت فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه واستدل الصحابة على امكان كون الولد لستة أشهر بقوله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } مع قوله { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } فاذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر فجمع فى الآية أقل الحمل وتمام الرضاع ولولم يستلحقه فكيف إذا استلحقه وأقر به بل لو استلحق مجهول النسب وقال انه ابنى لحقه باتفاق المسلمين إذا كان ذلك ممكنا ولم يدع أحد انه ابنه كان بارا فى يمينه ولا حنث عليه والله أعلم
____________________
(34/10)
وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل اشترى جارية بكرا وباشرها وهى لا تخرج ولا تدخل وهى حامل منه فأخرجها إلى السوق وينكر ويحلف أنه ما هو ولده
فأجاب إذا اعترف انه وطئها مثل أن يكون قد أقر بذلك فإن الولد يلحقه ويجعل هذا الحمل منه اذا وضعت لمدة الامكان وليس له ان يبيع الحمل ولا أمه لكن اذا ادعى الاستبراء ففى قبول قوله وتحليفه نزاع بين العلماء والله اعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل تزوج امرأة واقامت فى صحبته خمسة عشر يوما ثم طلقها الطلاق البائن وتزوجت بعده بزوج آخر بعد اخبارها بانقضاء العدة من الأول ثم طلقها الزوج الثانى بعد مدة ست سنين وجاءت بابنة وادعت انها من الزوج الأول فهل يصح دعواها ويلزم الزوج الأول ولم يثبت انها ولدت البنت وهذا الزوج والمرأة مقيمان ببلد واحد وليس لها مانع من دعوى النساء ولا مطالبته بنفقة ولا فرض
____________________
(34/11)
فأجاب الحمد لله لا يلحق هذا الولد الذى هو البنت بمجرد دعواها والحالة هذه باتفاق الأئمة بل لو ادعت انها ولدته فى حال يلحق به نسبه اذا ولدته وكانت مطلقة وانكر هو ان تكون ولدته لم تقبل فى دعوى الولادة بلا نزاع حتى تقيم بذلك بينة ويكفى امرأة واحدة عند أبى حنيفة وأحمد فى المشهور عنه وعند مالك وأحمد فى الرواية الأخرى لا بد من امرأتين واما الشافعى فيحتاج عنده إلى اربع نسوة ويكفى يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته
واما ان كانت الزوجية قائمة ففيها قولان فى مذهب أحمد ( احدهما ) لا يقبل قولها كمذهب الشافعى ( والثانى ( يقبل كمذهب مالك واما اذا انقضت عدتها ومضى لها اكثر الحمل ثم ادعت وجود حمل من الزوج الأول المطلق فهذه لا يقبل قولها بلا نزاع بل لو اخبرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا ولدون مدة الحمل فهل يلحقه على قولين مشهورين لأهل العلم ومذهب ابى حنيفة وأحمد أنه يلحق وهذا اختيار بن سريج من اصحاب الشافعى لكن المشهور من مذهب الشافعى ومالك أنه لا يلحقه
وهذا النزاع اذا لم تتزوج فاما اذا تزوجت بعد اخبارها بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لأكثر من ستة اشهر فان هذا لا يلحق نسبه بالأول قولا واحدا فاذا عرفت مذهب الأئمة فى هذين الأصلين فكيف يلحقه نسبه
____________________
(34/12)
بدعواها بعد ست سنين ولو قالت ولدته ذلك الزمن قبل ان يطلقنى لم يقبل قولها ايضا بل القول قوله مع يمينه انها لم تلدها على فراشه
ولو قالت هي وضعت هذا الحمل قبل ان أتزوج بالثانى وأنكر الزوج الأول ذلك فالقول قوله ايضا أنها لم تضعها قبل تزوجها بالثانى لا سيمامع تأخر دعواها إلى ان تزوجت الثانى فان هذا مما يدل على كذبها فى دعواها لا سيما على أصل مالك فى تأخر الدعوى الممكنة بغير عذر فى هذه المسائل ونحوها
( وسئل رحمه الله تعالى ( عمن طلق امرأته ثلاثا وأفتاه مفت بأنه لم يقع الطلاق فقلده الزوج ووطىء زوجته بعد ذلك وأتت منه بولد فقيل إنه ولد زنا
فأجاب من قال ذلك فهو فى غاية الجهل والضلالة والمشاقة لله ورسوله فان المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج انه نكاح سائغ اذا وطىء فيه فانه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين وان كان ذلك النكاح باطلا فى نفس الأمر باتفاق المسلمين سواء كان الناكح كافرا أو مسلما واليهودى اذا تزوج بنت أخيه كان ولده منه يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين
____________________
(34/13)
وان كان ذلك النكاح باطلا باتفاق المسلمين ومن استحله كان كافرا تجب استتابته وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأة فى عدتها كما يفعل جهال الاعراب ووطأها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين ومثل هذا كثير
فان ( ثبوت النسب ) لا يفتقر إلى صحة النكاح فى نفس الأمر بل الولد للفراش كما قال النبى ( الولد للفراش وللعاهر الحجر فمن طلق امرأته ثلاثا ووطأها يعتقد أنه لم يقع به الطلاق اما لجهله وإما لفتوى مفت مخطىء قلده الزوج وإما لغير ذلك فإنه يلحقه النسب ويتوارثان بالاتفاق بل ولا تحسب العدة الا من حين ترك وطأها فإنه كان يطؤها يعتقد أنها زوجته فهي فراش له فلا تعتد منه حتى تترك الفراش
ومن نكح امرأة ( نكاحا فاسدا ( متفقا على فساده أو مختلفا فى فساده او ملكها ملكا فاسدا متفقا على فساده أو مختلفا فى فساده أووطأها يعتقدها زوجته الحرة أو أمته المملوكة فإن ولده منها يلحقه نسبه ويتوارثان باتفاق المسلمين والولد أيضا يكون حرا وان كانت الموطؤة مملوكة للغير فى نفس الأمر ووطئت بدون اذن سيدها لكن لما كان الواطىء مغرورا بها زوج بها وقيل هي حرة أو بيعت فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع فانما وطىء من
____________________
(34/14)
يعتقدها زوجته الحرة أو أمته المملوكة فولده منها حرلاعتقاده وان كان اعتقاده مخطئا وبهذا قضى الخلفاء الراشدون واتفق عليه أئمة المسلمين
فهؤلاء الذين وطئوا وجاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا فى نكاح فاسد متفق على فساده وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين وهم وطئوا يعتقدون ان النكاح باق لافتاء من افتاهم أو لغير ذلك كان نسب الأولاد بهم لاحقا ولم يكونوا أولاد زنا بل يتوارثون باتفاق المسلمين هذا فى المجمع على فسادة فكيف فى المختلف فى فساده وان كان القول الذى وطىء به قولا ضعيفا كمن وطىء فى نكاح المتعة أو نكاح المرأة نفسها بلاولى ولا شهود فان هذا اذا وطىء فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب فكيف بنكاح مختلف فيه وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس وظهر ضعف القول الذى يناقضه وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام لا نتفاء الحجة الشرعية
فمن قال ان هذا النكاح أو مثله يكون فيه الولد ولد زنا ( لا ) يتوارثان هو وأبوه الوطىء مخالف لاجماع المسلمين منسلخ من رتبة الدين فان كان جاهلا عرف وبين له ان رسول الله وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين الحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالاجماع ولم يشترطوا فى لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا فى شرع المسلمين فان أصر على مشاقة الرسول من بعد
____________________
(34/15)
فصل وهذه الأعمال الباطنة كمحبة الله والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودا في حال أحد وإن ارتقى مقامه
وأما الحزن فلم يأمر الله به ولا رسوله بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين كقوله تعالى { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } وقوله { ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } وقوله { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } وقوله { ولا يحزنك قولهم } وقوله { ولا يحزنك قولهم } وقوله { لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } وأمثال ذلك كثير
وذلك لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به نعم لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم كما يحزن على المصائب كما قال النبي إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم وأشار بيده إلى لسانه وقال تدمع العين ويحزن القلب
____________________
(34/16)
فأجاب الحمد لله عليه اليمين أنها لم تلدها فى العدة أو أنها لم تلدها على فراشه أو أنها لم تلدها فى بيته بحيث أمكن لحوق النسب به فأما إذا تزوجت بغيره وأمكن أنها ولدتها من الثانى فليس عليه اليمين أنها لم تلدها واذا حلفت انها لم تلدها قبل نكاح الثانى آخرا وإذا إكره على الاقرار لم يصح إقراره
وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها ولا أصابها فولدت بعد شهرين فهل يصح النكاح وهل يلزمه الصداق أم لا
فأجاب الحمد لله لا يلحق به الولد باتفاق المسلمين وكذلك لا يستقر عليه المهر باتفاق المسلمين لكن للعلماء فى العقد ( قولان ) أصحهما أن العقد باطل كمذهب مالك وأحمد وغيرهما وحينئذ فيجب التفريق بينهما ولا مهر عليه ولا نصف مهر ولا متعة كسائر العقود الفاسدة إذا حصلت الفرقة فيها قبل الدخول لكن ينبغى أن يفرق بينهما حاكم يرى فساد العقد لقطع النزاع و ( القول الثانى ( ان العقد صحيح ثم لا يحل له الوطؤ حتى تضع كقول أبى حنيفة وقيل يجوز له الوطؤ قبل الوضع كقول الشافعى
____________________
(34/17)
فعلى هذين القولين إذا طلقها قبل الدخول فعليه نصف المهر لكن هذا النزاع إذا كانت حاملا من وطىء شبهة أو سيد أو زوج فان النكاح باطل باتفاق المسلمين ولا مهر عليه إذا فارق قبل الدخول وأما الحامل من الزنى فلا كلام فى صحة نكاحها والنزاع فيما إذا كان نكحها طائعاوأما إذا نكحها مكرها فالنكاح باطل فى مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما
____________________
(34/18)
& ( باب العدد (
وسئل رحمه الله عن امرأة طلقها زوجها فى الثامن والعشرين من ربيع الأول وان دم الحيض جاءها مرة ثم تزوجت بعد ذلك فى الثالث والعشرين من جمادى الآخر من السنة وادعت أنها حاضت ثلاث حيض ولم تكن حاضت إلا مرة فلما علم الزوج الثانى طلقها طلقة واحدة ثانيا فى العشر من شعبان من السنة ثم أرادت أن تزوج بالمطلق الثانى وادعت أنها آيسة فهل يقبل قولها وهل يجوز تزويجها
فأجاب الاياس لا يثبت بقول المرأة لكن هذه إذا قالت إنه ارتفع لا تدرى ما رفعه فانها تؤجل سنة فان لم تحض فيها زوجت واذا طعنت فى سن الاياس فلا تحتاج إلى تأجيل وان علم ان حيضها ارتفع بمرض أو رضاع كانت فى عدة حتى يزول العارض
فهذه المرأة كان عليها ( عدتان ( عدة للأول وعدة من وطىء الثانى ونكاحه فاسد لا يحتاج إلى طلاق فاذا لم تحض إلا مرة واستمر انقطاع الدم
____________________
(34/19)
فانها تعتد العدتين بالشهور ستة أشهر بعد فراق الثانى إذا كانت آيسة واذا كانت مستريبة كان سنة وثلاثة اشهر وهذا على قول من يقول ان العدتين لا تتداخلان كمالك والشافعى وأحمد وعند أبى حنيفة تتداخل العدتان من رجلين لكن عنده الاياس حد بالسن وهذا الذى ذكرناه هو أحسن قولى الفقهاء وأسهلهما وبه قضى عمر وغيره وأما على القول الآخر فهذه المستريبة تبقى فى عدة حتى تطعن فى سن الاياس فتبقى على قولهم تمام خمسين او ستين سنة لا تتزوج ولكن فى هذا عسر وحرج فى الدين وتضييع مصالح المسلمين
وسئل رحمه الله عن رجل تزوج امرأة ولها عنده أربع سنين لم تحض وذكرت ان لها أربع سنين قبل زواجها لم تحض فحصل من زوجها الطلاق الثلاث فكيف يكون تزويجها بالزوج الآخر وكيف تكون العدة وعمرها خمسون سنة
فأجاب الحمد لله هذه تعتد عدة الآيسات ( ثلاثة أشهر ( فى أظهر قولى العلماء فانها قد عرفت أن حيضها قد انقطع وقد عرفت أنه قد انقطع انقطاعا مستمرا بخلاف المستريبة التى لا تدرى ما رفع حيضها هل هو ارتفاع
____________________
(34/20)
أياس أو ارتفاع لعارض ثم يعود كالمرض والرضاع فهذه ( ثلاثة أنواع ( فما ارتفع لعارض كالمرض والرضاع فانها تنتظر زوال العارض بلاريب ومتى ارتفع لا تدرى ما رفعه فمذهب مالك واحمد فى المنصوص عنه وقول للشافعى أنها تعتد عدة الآيسات بعد أن تمكث مدة الحمل كما قضى بذلك عمر ومذهب أبى حنيفة والشافعى فى الجديد أنها تمكث حتى تطعن فى سن الاياس فتعتد عدة الآيسات وفى هذا ضرر عظيم عليها فانها تمكث عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة لا تتزوج ومثل هذا الحرج مرفوع عن الأمة وإنما ( اللائى يئسن من المحيض ) فانهن يعتددن ثلاثة أشهر بنص القرآن واجماع الأمة
لكن العلماء مختلفون هل للاياس سن لا يكون الدم بعده الا دم إياس وهل ذلك السن خمسون أو ستون أو فيه تفصيل ومتنازعون هل يعلم الاياس بدون السن
وهذه المرأة قد طعنت فى سن الاياس على أحد القولين وهو الخمسون ولها مدة طويلة لم تحض وقد ذكرت أنها شربت ما يقطع الدم والدم يأتى بدواء فهذه لا ترجو عود الدم اليها فهي من الايسات تعتد عدة الايسات والله أعلم
____________________
(34/21)
وسئل رحمه الله عن امرأة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة لما ثبت عنده من تضررها بانقطاع نفقة زوجها وعدم تصرفه الشرعى عليها المدة التى يسوغ فيها فسخ النكاح لمثلها وبعد ثلاثة شهور من فسخ النكاح رغب فيها من يتزوجها فهل يجوز أن تعتد بالشهور إذ أكثر النساء لا يحضن مع الرضاعة أو يستمر بها الضرر إلى حيث ينقضى الرضاع ويعود اليها حيضها أم لا فأجاب الحمد لله بل تبقى فى العدة حتى تحيض ثلاث حيض وان تأخر ذلك إلى انقضاء مدة الرضاع وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم وبذلك قضى عثمان بن عفان وعلى بن ابى طالب بين المهاجرين والانصار ولم يخالفهما أحد فان احبت المرأة أن تسترضع لابنها من يرضعه لتحيض أو تشرب ما تحيض به فلها ذلك والله اعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة كانت تحيض وهى بكر فلما تزوجت ولدت ستة أولاد ولم تحض بعد ذلك ووقعت الفرقة من زوجها وهى مرضع وأقامت عند اهلها
____________________
(34/22)
نصف سنة ولم تحض وجاء رجل يتزوجها غير الزوج الأول فحضروا عند قاض من القضاة فسألها عن الحيض فقالت لى مدة سنين ما حضت فقال القاضي ما يحل لك عندى زواج فزوجها حاكم آخر ولم يسألها عن الحيض فبلغ خبرها إلى قاض آخر فاستحضر الزوج والزوجة فضرب الرجل مائة جلدة وقال زنيت وطلق عليه ولم يذكر الزوج الطلاق فهل يقع به طلاق
فأجاب إن كان قد ارتفع حيضها بمرض أو رضاع فإنها تتربص حتى يزول العارض وتحيض باتفاق العلماء وان كان ارتفع حيضها لاتدرى مارفعه فهذه فى أصح قولى العلماء على ما قال عمر تمكث سنة ثم تزوج وهو مذهب احمد المعروف فى مذهبه وقول للشافعى وان كانت ( فى القسم الأول ( فنكاحها باطل والذى فرق بينهما أصاب فى ذلك وأصاب فى تأديب من فعل ذلك وان كانت من ( القسم الثانى ( قد زوجها حاكم لم يكن لغيره من الحكام ان يفرق بينهما ولم يقع بها طلاق فان فعل الحاكم لمثل ذلك يجوز فى أصح الوجهين
وسئل رحمه الله تعالى عن مرضع استبطأت الحيض فتداوت لمجىء الحيض فحاضت ثلاث حيض وكانت مطلقة فهل تنقضى عدتها أم لا
____________________
(34/23)
فأجاب نعم اذا أتى الحيض المعروف لذلك اعتدت به كما انها لو شربت دواء قطع الحيض او باعد بينه كان ذلك طهرا وكما لو جاعت أو تعبت او أتت غير ذلك من الاسباب التى تسخن طبعها وتثير الدم فحاضت بذلك والله أعلم
وسئل رحمه الله عن امرأة شابت لم تبلغ سن الاياس وكانت عادتها ان تحيض فشربت دواء فانقطع عنها الدم واستمر انقطاعه ثم طلقها زوجها وهى على هذه الحالة فهل تكون عدتها من حين الطلاق بالشهور أو تتربص حتى تبلغ سن الآيسات
فأجاب الحمد لله رب العالمين ان كانت تعلم أن الدم يأتى فيما بعد فعدتها ثلاثة اشهر وان كان يمكن أن يعود الدم ويمكن ان لا يعود فانها تتربص بعد سنة ثم تتزوج كما قضى به عمر بن الخطاب فى المرأة يرتفع حيضها لا تدرى ما رفعه فانها تتربص سنة وهذا مذهب الجمهور كمالك والشافعى ومن قال انها تدخل فى سن الآيسات فهذا قول ضعيف جدا مع ما فيه من الضرر الذى لا تأتى الشريعة بمثله او تمنع من النكاح وقت حاجتها إليه ويؤذن لها فيه حين لا تحتاج إليه
____________________
(34/24)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل مرض مرضا متصلا بموته وله زوجة فأمرها أن تخرج من داخل الدار إلى خارجها فتوقفت عن الخروج فقال لها أنت طالق فخرجت وحجبت وجهها عنه فطلبها فدخلت عليه محتجبة فسألها عن احتجابها لما هو فأخبرته بما أوقع من الطلاق فانكر وقال ما حلفت ولا طلقت ومات بعد أيام فهل يلزمها الطلاق أم عدة الوفاة
فأجاب عليها عدة الوفاة مع عدة الطلاق ولها الميراث هذا إن كان عقله حاضرا حين تكلم بالطلاق وإن كان عقله غائبا لم يلزمها عدة الوفاة والله أعلم
____________________
(34/25)
( وسئل رحمه الله ( عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين ورزق منها ولدا له من العمر سنتان وذكرت انها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين وصدقها الزوج وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ
فأجاب إن صدقها الزوج فى كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل وعليه ان يفارقها وعليها ان تكمل عدة الأول ثم تعتد من وطء الثانى فان كانت حاضت الثالثة قبل ان يطأها الثانى فقد انقضت عدة الأول ثم اذا فارقها الثانى اعتدت له ثلاث حيض ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد وولده ولد حلال يلحقه نسبه وان كان قد ولد بوطء فى عقد فاسد لا يعلم فساده
____________________
(34/26)
وقال شيخ الاسلام رحمه الله ( فصل ( المعتدة عدة الوفاة ) تتربص أربعة اشهر وعشرا وتجتنب الزينة والطيب فى بدنها وثيابها ولا تتزين ولا تتطيب ولا تلبس ثياب الزينة وتلزم منزلها فلا تخرج بالنهار إلا لحاجة ولا بالليل الا لضرورة ويجوز لها ان تأكل كلما أباحه الله كالفاكهة واللحم لحم الذكر والأنثى ولها أكل ذلك باتفاق علماء المسلمين وكذلك شرب ما يباح من الاشربة ويجوز لها أن تلبس ثياب القطن والكتان وغير ذلك مما أباحه الله وليس عليها أن تصنع ثيابا بيضاء أو غير بيض للعدة بل يجوز لها لبس المقفص لكن لا تلبس ما تتزين به المرأة مثل الأحمر والأصفر والأخضر الصافى والأزرق الصافى ونحو ذلك ولا تلبس الحلى مثل الاسورة والخلاخل والقلايد ولا تختضب بحناء ولا غيره ولا يحرم عليها عمل شغل من الاشغال المباحة مثل التطريز والخياطة والغزل وغير ذلك مما تفعله النساء
____________________
(34/27)
ويجوز لها سائر ما يباح لها فى غير العدة مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة وغير ذلك وهذا الذى ذكرته هو سنة رسول الله الذى كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن ( ونساؤه ) ولا يحل لهن ان يتزوجن بغيره ابدا لا فى العدة ولا بعدها بخلاف غيرهن وعلى المسلمين احترامهن كما يحترم الرجل أمه لكن لا يجوز لغير محرم يخلو بواحدة منهن ولا يسافر بها والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن امرأة معتدة عدة وفاة ولم تعتد فى بيتها بل تخرج فى ضرورتها الشرعية فهل يجب عليها اعادة العدة وهل تأثم بذلك فأجاب العدة انقضت بمضى أربعة أشهر وعشرا من حين الموت ولا تقضى العدة فان كانت خرجت لأمر يحتاج إليه ولم تبت الا فى منزلها فلا شيء عليها وان كانت قد خرجت لغير حاجة وباتت فى غير منزلها لغير حاجة أو باتت فى غير ضرورة أو تركت الاحداد فلتستغفر الله وتتوب إليه من ذلك ولا اعادة عليها
____________________
(34/28)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل توفى وقعدت زوجته فى عدته أربعين يوما فما قدرت تخالف مرسوم السلطان ثم سافرت وحضرت إلى القاهرة ولم تتزين لا بطيب ولا غيره فهل تجوز خطبتها أم لا
فأجاب العدة تنقضى بعد أربعة اشهر وعشرة أيام فإن كان قد بقى من هذه شيء فلتتمه فى بيتها ولا تخرج ليلا ولا نهارا إلا لأمر ضروري وتجتنب الزينة والطيب فى بدنها وثيابها ولتأكل ما شاءت من حلال وتشم الفاكهة وتجتمع بمن يجوز لها الاجتماع به فى غير العدة لكن إن خطبها إنسان لا تجيبه صريحا والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن امرأة عزمت على الحج هي وزوجها فمات زوجها فى شعبان فهل يجوز لها أن تحج فأجاب ليس لها أن تسافر فى العدة عن الوفاة إلى الحج فى مذهب الأئمة الأربعة
____________________
(34/29)
& ( باب الاستبراء (
( سئل شيخ الاسلام رحمه الله ( عن رجل اشترى جارية ثم بعد يومين أو ثلاثة وطئها قبل أن تحيض ثم باعها بعد عشرة أيام فهل يجوز للسيد الثانى أن يطأها قبل أن تحيض فأجاب لم يكن يحل له وطؤها قبل أن يستبرئها باتفاق الأئمة كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ( وكذالك المشترى الثانى لا يجوز له وطؤها قبل أن تحيض عنده باتفاق الأئمة بل لا يجوز فى أحد قولى العلماء ان يبيعها الواطىء حتى يستبرئها وهل عليه استبراء وعلى المشترى استبراء او استبر آن أو يكفيهما استبراء واحد على قولين والله أعلم
____________________
(34/30)
& ( باب الرضاع (
قال شيخ الاسلام رحمه الله ( فصل (
وأما ( المحرمات بالرضاع ( فقد قال النبى ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ( وفى لفظ ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ( وهذا مما اتفق عليه علماء المسلمين لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء المعروفين
فاذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات فى الحولين قبل الفطام صار ولدها باتفاق الأئمة وصار الرجل الذى در اللبن بوطئه أبا لهذا المرتضع باتفاق الأئمة المشهورين وهذا يسمى ( لبن الفحل ( وقد ثبت ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فان عائشة كانت قد أرضعتها امرأة وكان لها زوج يقال له أبو القعيس فجاء أخوه يستأذن عليها فأبت ان تأذن له حتى سألت
____________________
(34/31)
النبي فقال لها ( أيذنى له فانه عمك ) فقالت عائشة انما ارضعتنى المرأة ولم يرضعنى الرجل فقال ( إنه عمك فليلج عليك وقال يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب )
واذا صار الرجل والمرأة والدى المرتضع صار كل من أولادهما أخوة المرضع سواء كانوا من الأب فقط او من المرأة او منهما أو كانوا أولادا لهما من الرضاعة فإنهم يصيرون إخوة لهذا المرتضع من الرضاعة حتى لو كان لرجل امرأتان فارضعت هذه طفلا وهذه طفلة كانا أخوين ولم يجز لأحدهما التزوج بالآخر باتفاق الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين وهذه ( المسألة ( سئل عنها بن عباس فقال اللقاح واحد يعنى الرجل الذى وطىء المرأتين حتى در اللبن واحد
ولا فرق باتفاق المسلمين بين أولاد المرأة الذين رضعوا مع الطفل وبين من ولد لها قبل الرضاعة وبعد الرضاعة باتفاق المسلمين وما يظنه كثير من الجهال أنه إنما يحرم من رضع معه هو ضلال على صاحبه إن لم يرجع عنه فان أصر على استحلال ذلك استتيب كما يستتاب سائر من اباح الاخوة من الرضاعة فان تاب والا قتل
واذا كان كذلك فجميع ( أقارب المرأة أقارب للمرتضع من الرضاعة ( أولادها اخوته وأولاد أولادها أولاد أخوته وآبائها وأمهاتها
____________________
(34/32)
اجداده واخوتها وأخواتها اخواله وخالاته وكل هولاء حرام عليه
واما ( بنات أخواله وخالاته من الرضاع ( فحلال كما يحل ذلك من النسب وأقارب الرجل أقاربه من الرضاع أولاد أخوته وأولادهم أولاد أخوته واخوته اعمامه وعماته وهن حرام عليه وحل له بنات عمه وبنات عماته واولاد المرتضع بمنزلته كما أن أولاد المولود بمنزلته فليس لأولاده من النسب ولارضاع ان يتزوجوا اخوته ولا اخوة أبيه لا من نسب ولارضاع لانهم أعمامهم وعماتهم واخوالهم وخالاتهم
وأما اخوة المرتضع من نسب أو رضاع غير رضاع هذه المرضعة فهم اجانب منها ومن أقاربها فيجوز لأخوة هؤلاء ان يتزوجوا اولاد المرضعة كما اذا كان أخ للرجل من ابيه وأخت من امه وبالعكس جاز أن يتزوج أحدهما الاخر وهو نفسه لا يتزوج واحدا منهما فكذلك المرتضع هو نفسه لا يتزوج واحدا من أولاد مرضعه ولا احدا من أولاد والديه فان هؤلاء اخوته من الرضاع وهؤلاء أخوته من النسب ويجوز لأخوته من الرضاع ان يتزوجوا أخوته من النسب كما يجوز لاخوته من أبيه أن يتزوجوا أخوته من أمه وهذا كله متفق عليه بين العلماء
____________________
(34/33)
ولكن بعض المنتصبين للفتيا قد يغلط فى هذه المسائل للالتباس أمرها على المستفتين ولا يذكرون ما يسألون عنه بالأسماء والصفات المعتبرة فى الشرع مثل أن يقول اثنان تراضعا هل يتزوج هذا بأخت هذا وهذا سؤال مجمل فالمرتضع نفسه ليس له أن يتزوج من أخوات الآخر اللآتى هن من أمه التى أرضعت وإن كان له أخوات من غير تلك الأم فهن أجانب من المرتضع فللمرتضع أن يتزوج منهن وكذلك إذا قيل طفل وطفلة تراضعا أو طفلان تراضعا هل يحل أن يتزوج أحدهما بأخوة الآخر ويتزوج الأخوات من الجانبين بعضهم لبعض فجواب ذلك أن اخوة كل من المتراضعين لهم أن يتزوجوا أخوات الآخر إذا لم يرتضع الخاطب من أم المخطوبة ولا المخطوبة من أم الخاطب وهذا متفق عليه بين العلماء وأما المتراضعين فليس لأحدهما أن يتزوج شيئا من أولاد المرضعة فلا يتزوج هذا بأحد من أخوة الأخر من الأم التى أرضعته أو من الأب صاحب اللبن ويجوز أن يتزوج كل منهما من اخوة الآخر الذين ليسوا من أولاد أبويه من الرضاعة فهذا جواب هذه الأقسام
فان الرضيع إما أن يتزوج من إخوة المرتضع الآخر من تلك المرأة أو الرجل وإما أن يتزوج من إخوة المرتضع الآخر من النسب أو من رضاعة أخرى وإخوة الرضيع إما أن يتزوجوا من هؤلاء وإما من هؤلاء وإما من هؤلاء فأخوة الرضيع لهم أن يتزوجوا الجميع أولاد المرضعة
____________________
(34/34)
وزوجها من نسب أو رضاع ولأخوة هذا أن يتزوجوا باخوة هذا بل لأب هذا من النسب أن يتزوج أخته من الرضاع وأما اولاد المرضعة فلا يتزوج أحد منهن المرتضع ولا أولاده ولا يتزوج أحدا من أولاد اخوتها وأخواتها لا من نسب ولا من رضاع فانه يكون إما عما وإما خالا وهذا كله متفق عليه بين العلماء
( ثم الرضاع المحرم ( فيه ثلاثة أقوال مشهورة هي ثلاث روايات عن أحمد
( أحدها ( انه يحرم كثيره وقليله وهى مذهب مالك وأبى حنيفة لا طلاق القرآن
( والثانى ( لا تحرم الرضعة والرضعتان ويحرم ما فوق ذلك وهو مذهب طائفة لقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ( لا تحرم الرضعة والرضعتان ) وروى ( المصة والمصتان ) وروى ( الاملاجة والاملاجتان ( فنفى التحريم عنهما وبقى الباقى على العموم والمفهوم
( والثالث ) انه لا يحرم إلا خمس رضعات وهو مذهب الشافعى وظاهر مذهب أحمد لحديثين صحيحين حديث عائشة ( إن مما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فتوفى رسول الله والأمر على ذلك ) ولأمره لأمرأة أبى حذيفة بن عتبة بن ربيعة أن ترضع سالما مولى أبى حذيفة بن عتبة بن ربيعة خمس رضعات ليصير محرما لها بذلك
____________________
(34/35)
وعلى هذا فالرضعة فى مذهب الشافعى وأحمد ليست هي الشبعة وهو أن يلتقم الثدى ثم يسيبه ثم يلتقمه ثم يسيبه حتى يشبع بل إذا أخذ الثدى ثم تركه باختياره فهي رضعة سواء شبع بها أو لم يشبع إلا برضعات فاذا التقمه بعد ذلك فرضع ثم تركه فرضعة أخرى وإن تركه بغير اختياره ثم عاد قريبا ففيه نزاع
( وسئل رحمه الله تعالى ( ما لذى يحرم من الرضاع ومالذى لا يحرم وما دليل حديث عائشة رضى الله عنها ( أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) ولتبينوا جميع التحريم منه وهل للعلماء فيه اختلاف وان كان لهم اختلاف فما هو الصواب والراجح فيه وهل حكم رضاع الصبى الكبير الذى دون البلوغ أو الذى يبلغ حكمه حكم الصغير الرضيع فان بعض النسوة يرضعن أولادهن خمس سنين وأكثر وأقل وهل يقع تحريم بين المرأة والرجل المتزوجين برضاع بعض قراباتهم لبعض وبينوه بيانا شافيا
الجواب الحمد لله حديث عائشة حديث صحيح متفق على صحته وهو متلقى بالقبول فان الأئمة اتفقوا على العمل به ولفظه ( يحرم من الرضاع ما يحرم من
____________________
(34/36)
النسب ) والثانى ( يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة ) وقد استثنى بعض الفقهاء المستاخرين من هذا العموم صورتين وبعضهم أكثر من ذلك وهذا خطأ فانه لا يحتاج ان يستثنى من الحديث شيء ونحن نبين ذلك فنقول
اذا ارتضع الرضيع من المرأة خمس رضعات فى الحولين صارت المرأة أمه وصار زوجها الذى جاء اللبن بوطئه أباه فصار ابنا لكل منهما من الرضاعة وحينئذ فيكون جميع أولاد المرأة من هذا الرجل ومن غيره وجميع أولاد الرجل منها ومن غيرها أخوة له سواء ولدوا قبل الرضاع أو بعده باتفاق الأئمة
واذا كان أولادهما اخوته كان أولاد أولادهما أولاد اخوته فلا يجوز للمرتضع أن يتزوج أحدا من أولادهما ولا أولاد أولادهما فانهم إما إخوته واما أولاد اخوته وذلك يحرم من الولادة واخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته من الرضاع وأبوها وأمها أجداده وجداته من الرضاع فلا يجوز له أن يتزوج أحدا من اخوتها ولا من أخواتها واخوة الرجل أعمامه وعماته وأبو الرجل وأمهاته أجداده وجداته فلا يتزوج باعمامه وعماته ولا باجداده وجداته لكن يتزوج بأولاد الاعمام والعمات فان جميع أقارب الرجل حرام عليه أولاد الأعمام والعمات وأولاد الخال والخالات كما ذكر الله في قوله
____________________
(34/37)
{ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك } فهؤلاء الأصناف الأربعة هي المباحات من الأقارب فيبحن من الرضاعة وإذا كان المرتضع أبنا للمرأة وزوجها فأولاده أولاد أولادهما ويحرم على أولاده ما يحرم على الأولاد من النسب فهذه الجهات الثلاث منها تنتشر حرمة الرضاع
وأما أخوة المرتضع من النسب وأبوه من النسب وأمه من النسب فهم أجانب أبيه وأمه وأخوته من الرضاع ليس بين هؤلاء وهؤلاء صلة ولا نسب ولا رضاع لأن الرجل يمكن أن يكون له أخ من أبيه وأخ من أمه ولا نسب بينهما بل يجوز لأخيه من أبيه أن يتجوز أخاه من أمه فكيف إذا كان أخ من النسب وأخت من الرضاع فإنه يجوز لهذا أن يتزوج هذا ولهذا أن يتزوج بهذا
وبها تزول الشبهة التي تعرض لبعض الناس فإنه يجوز للمرتضع أن يتزوج أخوه من الرضاعة بأمه من النسب كما يتزوج بأخته من النسب ويجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أخته من الرضاعة وهذا لا نظير له في النسب فإن أخ الرجل من النسب لا يتزوج بأمه من النسب وأخته من الرضاع ليست بنت أبيه من النسب ولا ربيبته فلهذا جاز أن تتزوج به
____________________
(34/38)
فيقول من لا يحقق يحرم في النسب على أخي أن يتزوج أمي ولا يحرم مثل هذا في الرضاع وهذا غلط منه فان نظير المحرم من النسب ان تتزوج أخته أو أخوه من الرضاعة بابن هذا الأخ أو بأمه من الرضاعة كما لو ارتضع هو وآخر من امرأة واللبن لفحل فانه يحرم على اخته من الرضاعة ان تتزوج اخاه واخته من الرضاعة لكونهما اخوين للمرتضع ويحرم عليهما ان يتزوجا اباه وأمه من الرضاعة لكونهما ولديهما من الرضاعة لا لكونهما أخوى ولديهما فمن تدبر هذا ونحوه زالت عنه الشبهة
وأما ( رضاع الكبير ( فانه لا يحرم فى مذهب الأئمة الأربعة بل لا يحرم إلا رضاع الصغير كالذى رضع فى الحولين وفيمن رضع قريبا من الحولين نزاع بين الأئمة لكن مذهب الشافعى وأحمد أنه لا يحرم فاما الرجل الكبير والمرأة الكبيرة فلا يحرم احدهما على الآخر برضاع القرايب مثل أن ترضع زوجته لأخيه من النسب فهنا لا تحرم عليه زوجته لما تقدم من أنه يجوز له أن يتزوج بالتى هي أخته من الرضاعة لأخيه من النسب اذ ليس بينه وبينها صلة نسب ولارضاع وانما حرمت على أخيه لأنها أمه من الرضاع وليست ام نفسه من الرضاع وأم المرتضع من الرضاع لا تكون اما لاخوته من النسب لأنها إنما أرضعت الرضيع ولم ترضع غيره نعم
____________________
(34/39)
لو كان للرجل نسوة يطأهن وارضعت كل واحدة طفلا لم يجز أن يتزوج أحدهما الآخر ولهذا لما سئل بن عباس عن ذلك قال اللقاح واحد وهذا مذهب الأئمة الأربعة لحديث أبى القعيس الذى فى الصحيحين عن عائشة وهو معروف
وتحرم عليه أم أخيه من النسب لأنها أمه أو امرأة أبيه وكلاهما حرام عليه وأما أم أخيه من الرضاعة فليست أمه ولا امرأة أبيه لأن زوجها صاحب اللبن ليس أبا لهذا لا من النسب ولا من الرضاعة
فاذا قال القائل إن النبى قال ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) وأم أخيه من النسب حرام فكذلك من الرضاع قلنا هذا تلبيس وتدليس فان الله لم يقل حرمت عليكم أمهات اخواتكم وانما قال { حرمت عليكم أمهاتكم } وقال تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } فحرم على الرجل أمه ومنكوحة أبيه وإن لم تكن أمه وهذه تحرم من الرضاعة فلا يتزوج أمه من الرضاعة وأما منكوحة أبيه من الرضاع فالمشهور عند الأئمة أنها تحرم لكن فيها نزاع لكونها من المحرمات بالصهر لا بالنسب والولادة وليس الكلام هنا فى تحريمها فانه اذا قيل تحرم منكوحة أبيه من الرضاعة وفينا بعموم الحديث وأما أم أخيه التى ليست أما ولا منكوحة أب فهذه لا توجد فى
____________________
(34/40)
النسب فلا يجوز أن يقال تحرم من النسب فلا يحرم نظيرها من الرضاعة فتبقى أم الام من النسب لأخيه من الرضاعة أو الام من الرضاعة لاخيه من النسب لا نظير لها من الولادة فلا تحرم وهذا متفق عليه بين المسلمين والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن طفل ارتضع من أمرأة مع ولدها رضعه أو بعض رضعه ثم تزوجت برجل آخر فرزقت منه ابنه فهل يحل للطفل المرتضع تزويج الابنه على هذه الصوره أم لا وما دليل مالك رحمة الله وأبى حنيفه فى أن ( المصه الواحده ( أو ( الرضعه الواحدة ( تحرم مع ما ورد من الاحاديث التى خرجها مسلم فى صحيحة منها أن النبى قال ( لا تحرم المصه ولا المصتان ( ومنها أن النبي قال ( لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ( ومنها ( ان رجلا من بنى عامر بن صعصعة قال يا رسول الله هل تحرم الرضعه الواحده قال لا ومنها عن عائشه رضى الله عنها أنها قالت ( كان فيما انزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحر من نسخت بخمس معلومات فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن ( وما حجتهما مع هذه الاحاديث الصحيحة فأجاب
____________________
(34/41)
هذه المسألة فيها نزاع مشهور فى مذهب الشافعى واحمد فى المشهور عنه لا يحرم الا خمس رضعات لحديث عائشة المذكور وحديث سالم مولى أبى حذيفة لما ( أمر النبى أمرأة أبى حذيفة بن عتبة بن أبى ربيعة أن ترضعه خمس رضعات ) وهو فى الصحيح أيضا فيكون ما دون ذلك لم يحرم فيحتاج إلى خمس رضعات
وقيل يحرم الثلاث فصاعدا وهو قول ( طائفة ) منهم أبو ثور وغيره وهو رواية عن احمد واحتجوا بما فى الصحيح ( لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الاملاجة ولا الاملاجتان ) قالوا مفهومه ان الثلاث تحرم ولم يحتج هؤلاء بحديث عائشة قالوا لأنه لم يثبت أنه قرآن إلا بالتواتر وليس هذا بمتواتر
فقال لهم الأولون معنا حديثان صحيحان مثبتان أحدهما يتضمن شيئين حكما وكونه قرانا فما ثبت من الحكم يثبت بالأخبار الصحيحة وأما ما فيه من كونه قرآنا فهذا لم نثبته ولم نتصور ان ذلك قرآن إنما نسخ رسمه وبقى حكمه
فقال أولئك هذا تناقض وقراءة شاذة عند الشافعى فان عنده أن القراءة الشاذة لا يجوز الاستدلال بها لأنها لم تثبت بالتواتر كقراءة
____________________
(34/42)
بن مسعود / < فصيام ثلاثة أيام متتابعات > / وأجابوا عن ذلك بجوابين ( أحدهما ( أن هذا فيه حديث آخرصحيح وأيضا فلم يثبت انه بقى قرآن لكن بقى حكمه و ( الثانى ( أن هذا الأصل لايقول به أكثرالعلماء بل مذهب أبى حنيفة بل ذكر بن عبدالبر إجماع العلماء على أن القراءة الشاذة اذا صح النقل بها عن الصحابة فانه يجوز الاستدلال بها فى الأحكام
و ( القول الثانى ( فى المسألة انه يحرم قليله وكثيره كما هو مذهب ابى حنيفة ومالك وهى رواية ضعيفة عن احمد وهؤلاء احتجوا بظاهر قوله { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } وقال اسم ( الرضاعة ) فى القرآن مطلق واما الأحاديث فمنهم من لم تبلغه ومنهم من اعتقد انها ضعيفة ومنهم من ظن انها تخالف ظاهر القرآن واعتقد انه لا يجوز تخصيص عموم القران وتقييد مطلقه بأخبار الآحاد
فقال ( الأولون ( هذه اخبار صحيحة ثابتة عند اهل العلم بالحديث وكونها لم تبلغ بعض السلف لا يوجب ذلك ترك العمل بها عند من يعلم صحتها وأما القرآن فانه يحتمل ان يقال فكما انه قد علم بدليل اخر ان الرضاعة مقيدة بسن مخصوص فكذلك يعلم انها مقيدة بقدر مخصوص وهذا كما انه علم بالسنة مقدار الفدية فى قوله ( ففدية من صيام أو صدقة او نسك ) وان كان الخبر المروى خبرا واحدا بل كما ثبت بالسنة ( انه لا تنكح المرأة على عمتها
____________________
(34/43)
ولا تنكح المرأة على خالتها ) وهو خبر واحد بظاهر القرآن واتفق الأمة على العمل به وكذلك فسر بالسنة المتواترة وغير المتواترة بحمل قوله { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } وفسر بالسنة المتواترة أمور من العبادات والكفارات والحدود ما هو مطلق من القران فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبرعنه
والتقييد ( بالخمس ) له اصول كثيرة فى الشريعة فان الاسلام بنى على خمس والصلوات المفروضات خمس وليس فيما دون خمس صدقة والأوقاص بين النصب خمس أو عشر أو خمس عشرة وأنواع البر خمس كما قال تعالى { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } وقال فى الكفر { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } واولو العزم وأمثال ذلك بقدر الرضاع المحرم ليس بغريب فى أصول الشريعة
والرضاع اذا حرم لكونه ينبت اللحم وينشز العظم فيصير نباته به كنباته من الأبوين وإنما يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة ولهذا لم يحرم رضاع الكبير لأنه بمنزلة الطعام والشراب والرضعة والرضعتان ليس لها تأثير كما أنه قد يسقط اعتبارها كما يسقط اعتبار ما دون نصاب السرقة حتى لا تقطع الأيدى بشيء من التافه واعتباره فى نصاب الزكاة فلا يجب فيها شيء اذا كان أقل ولابد من حد فاصل فهذا هو
____________________
(34/44)
التنبيه على مأخذ الأئمة فى هذه المسألة وبسط الكلام فيها يحتاج إلى ورقة أكبر من هذه وهى من أشهر مسائل النزاع والنزاع فيها من زمان الصحابة والصحابة رضى الله عنهم تنازعوا فى هذه المسألة والتابعون بعدهم
وأما اذا شك هل دخل اللبن فى جوف الصبى أو لم يحصل فهنا لا نحكم بالتحريم بلا ريب وان علم أنه حصل فى فمه فان حصول اللبن فى الفم لا ينشر الحرمة باتفاق المسلمين
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن أختين ولهما بنات وبنين فاذا ارضع الأختان هذه بنات هذه وهذه بنات هذه فهل يحرمن على البنين أم لا
فأجاب إذا أرضعت المرأة الطفلة خمس رضعات فى الحولين صارت بنتا لها فصار جميع أولاد المرضعة أخوة لهذه المرتضعة ذكورهم واناثهم من ولد قبل الرضاع ومن ولد بعده فلا يجوز لأحد من أولاد المرضعة ان يتزوج المرتضعة بل يجوز لأخوة المرتضعة أن يتزوجوا بأولاد المرضعة الذين لم يرتضعوا من أمهن فالتحريم انما هو على المرتضعة لا على
____________________
(34/45)
اخوتها الذين لم يرتضعوا فيجوز أن يتزوج أخت أخته إذا كان هو لم يرتضع من أمها وهى لم ترضع من أمه وأما هذه المرتضعة فلا تتزوج واحدا من أولاد من أرضعتها وهذا باتفاق الأئمة
وأصل هذا أن المرتضعة تصير المرضعة أمها فيحرم عليها أولادها وتصير اخوتها واخواتها وأخوالها وخالاتها ويصير الرجل الذى له اللبن اباها وأولاده من تلك المرأة وغيرها أخوتها واخوة الرجل أعمامها وعماتها ويصير المرتضع وأولاده وأولاد أولاده أولاد المرضعة والرجل الذى در اللبن بوطئه واما اخوة المرتضع واخواته وأبوه وأمه من النسب فهم أجانب لا يحرم عليهم بهذا الرضاع شيء وهذا كله باتفاق الأئمة الأربعة وان كان لهم نزاع فى غير ذلك
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل ارتضع مع رجل وجاء لأحدهما بنت فهل للمرتضع أن يتزوج بالبنت فأجاب إذا ارتضع الطفل من المرأة خمس رضعات فى الحولين صار ابنا لها وصار جميع أولادها اخوته الذين ولدتهم قبل الرضاعة والذين ولدتهم بعد الرضاعة والرضاعة يحرم فيها ما يحرم من الولادة بسنة رسول الله
____________________
(34/46)
واتفاق الأئمة فلا يجوز لأحد أن يتزوج بنت الآخر كما لا يجوز أن يتزوج بنت أخيه من النسب باتفاق الأئمة
( وسئل رحمه الله ( عن رجل له بنات خالة أختان واحدة رضعت معه والأخرى لم ترضع معه فهل يجوز له أن يتزوج التى لم ترضع معه
فأجاب إذا ارتضع معها خمس رضعات فى الحولين صار ابنا لها حرم عليه جميع بناتها من ولد قبل الرضاع ومن ولد بعده لأنهن اخواته باتفاق العلماء ومتى ارتضعت المخطوبة من أم لم يجز لها أن تتزوج واحدا من بنى المرضعة وأما إذا كان الخاطب لم يرتضع من أم المخطوبة ولا هي رضعت من أمه فانه يجوز أن يتزوج أحدهما بالآخر باتفاق العلماء وان كان اخوتها تراضعا والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن امرأة استأجرت لبنتها مرضعة يوما أو شهرا ومضت السنون وللمرضعة ولد قبلها فهل يحل لهما الزواج
____________________
(34/47)
فأجاب الحمد لله إذا ارضعتها الداية خمس رضعات فى الحولين صارت بنتا لها فجميع أولاد المرضعة حرام على هذه المرضعة وإن ولد قبل الرضاع أو بعده وهذا باتفاق المسلمين ومن استحل ذلك فانه يستتاب فان تاب وإلا قتل ولكن إذا كان للمرتضعة أخوات من النسب جاز لهن أن يتزوجن باخواتها من الرضاع باتفاق المسلمين والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل تزوج امرأة بعد امرأة وقد ارتضع طفل من الأولى وللأب من الثانية بنت فهل للمرتضع أن يتزوج هذه البنت وإذا تزوجها ودخل بها فهل يفرق بينهما وهل فى ذلك خلاف بين الأئمة
فأجاب إذا ارتضع الرضاع المحرم لم يجز له أن يتزوج هذه البنت فى مذاهب الأئمة الأربعة بلا خلاف بينهم لأن اللبن للفحل وقد سئل بن عباس عن رجل له امرأتان أرضعت احداهما طفلا والأخرى طفلة فهل يتزوج أحدهما الآخر فقال لا اللقاح واحد والأصل فى ذلك حديث عائشة المتفق عليه قالت قالت استاذن على افلح أخو أبى القعيس وكانت قد أرضعتنى امرأة أبى القعيس فقالت لا آذن لك حتى استأذن رسول الله فسألته فقال ( أنه عملك فليلج عليك يحرم
____________________
(34/48)
من الرضاع ما يحرم من الولادة ( وإذا تزوجها ودخل بها فانه يفرق بينهما بلا خلاف بين الأئمة والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل له قرينة لم يتراضع هو وأبوها لكن لهما اخوة صغار تراضعوا فهل يحل له أن يتزوج بها وإن دخل بها ورزق منها ولدا فما حكمهم وما قول العلماء فيهم
فأجاب الحمد لله إذا لم يرتضع هو من أمها ولم ترضع هي من أمه بل اخوته رضعوا من أمها واخوتها رضعوا من أمه كانت حلالا له باتفاق المسلمين بمنزلة اخت اخيه من أبيه فان الرضاع ينشر الحرمة إلى المرتضع وذريته وإلى المرضعة وإلى زوجها الذى وطئها حتى صار لها لبن فتصير المرضعة امرأته وولدها قبل الرضاع وبعده اخو الرضيع ويصير الرجل اباه وولده قبل الرضاع وبعده اخو الرضيع فأما اخوة المرتضع من النسب وابوه من النسب فهم اجانب من ابويه من الرضاعة واخوته من الرضاع وهذا كله متفق عليه بين المسلمين ان انتشار الحرمة إلى الرجل فان هذه تسمى ( مسألة الفحل ( والذى ذكرناه هو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الصحابة والتابعين وكان بعض السلف يقول لبن الفحل لا يحرم والنصوص الصحيحة هي تقرر مذهب الجماعة
____________________
(34/49)
( وسئل رحمه الله ( عن اختين اشقاء لأحداهما بنتان وللأخرى ذكر وقد ارتضعت واحدة من البنتين وهى الكبيرة مع الولد فهل يجوز له ان يتزوج بالتى لم ترضع
فأجاب إذا ارتضعت الواحدة من ام الصبى ولم يرتضع هو من امها جاز له ان يتزوج اختها باتفاق المسلمين
( وسئل رحمه الله ( عن امرأة أودعت بنتها عند امرأة أخيها وغابت وجاءت فقالت أرضعتها فقالت لا وحلفت على ذلك ثم إن ولد أخيها كبر وكبرت بنتها الصغيرة وأختها ارتضعت مع أخيه الذى يريد أن يتزوج بها فهل يجوز ذلك
فأجاب إذا كانت البنت لم ترضع من أم الخاطب ولا الخاطب ارتضع من أمها جاز أن يتزوج أحدهما بالآخر وإن كان أخوها واخواتها من أم الخاطب فان هذا لا يؤثر باجماع المسلمين بل الطفل إذا ارتضع من
____________________
(34/50)
امرأة صارت أمه وزوجها صاحب اللبن أباه وصار أولادهما اخوته واخواته وأما اخوة المرتضع من النسب وأبوه من النسب وأمه من النسب فهم أجانب يجوز لهم أن يتزوجوا اخواته كما يجوز من النسب أن تتزوج أخت الرجل من أمه باخيه من أبيه وكل هذا متفق عليه بين المسلمين بلا نزاع فيه والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن امرأة ذات بعل ولها لبن على غير ولد ولا حمل فارضعت طفلة لها دون الحولين خمس رضعات متفرقات وهذه المرضعة عمة الرضيعة من النسب ثم أراد بن بنت هذه المرضعة أن يتزوج بهذه الرضيعة فهل يحرم ذلك
فأجاب أما إذا وطئها زوج ثم بعد ذلك ثاب لها لبن فهذا اللبن ينشر الحرمة فاذا ارتضعت طفلة خمس رضعات صارت بنتها وبن بنتها بن أختها وهى خالته سواء كان الارتضاع مع طفل أو لم يكن وأما أختها من النسب التى لم ترضع فيحل له أن يتزوج بها ولو قدر أن هذا اللبن ثاب لامرأة لم تتزوج قط فهذا ينشر الحرمة فى مذهب أبى حنيفة ومالك والشافعى وهى رواية عن أحمد وظاهر مذهبه انه لا ينشر الحرمة والله أعلم
____________________
(34/51)
( وسئل شيخ الإسلام رحمه الله ( عن رجل خطب قريبته فقال والدها هي رضعت معك ونهاه عن التزويج بها فلما توفى أبوه تزوج بها وكان العدول شهدوا على والدتها أنها أرضعته ثم بعد ذلك أنكرت وقالت ما قلت هذا القول إلا لغرض فهل يحل تزويجها
فأجاب إن كانت الأم معروفة بالصدق وذكرت أنها أرضعته خمس رضعات فإنه يقبل قولها فى ذلك فيفرق بينهما إذا تزوجها فى أصح قولي العلماء كما ثبت فى صحيح البخارى ( أن النبى أمر عقبة بن الحارث أن يفارق امراته لما ذكرت الأمة السوداء أنها أرضعتهما ( وأما إذا شك فى صدقها أو فى عدد الرضعات فإنها تكون من الشبهات فاجتنابها أولى ولا يحكم بالتفريق بينهما إلا بحجة توجب ذلك وإذا رجعت عن الشهادة قبل التزويج لم تحرم الزوجة لكن إن عرف أنها كاذبة فى رجوعها وأنها رجعت لأنه دخل عليها حتى كتمت الشهادة لم يحل التزويج والله أعلم
____________________
(34/52)
وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بإمرأة وولد له منها أولاد عديدة فلما كان في فى هذه المدة حضر من نازع الزوجة وذكر لزوجها أن هذه الزوجة فى عصمتك شربت من لبن أمك
فأجاب ان كان هذا الرجل معروفا بالصدق وهو خبير بما ذكر وأخبر أنها رضعت من أم الزوج خمس رضعات فى الحولين رجع إلى قوله فى ذلك والا لم يجب الرجوع وان كان قد عاين الرضاع والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل ارتضع من إمرأة وهو طفل صغير على بنت لها ولها أخوات أصغر منها فهل يحرم منهن أحد أم لا
فأجاب إذا ارتضع من امرأة خمس رضعات فى الحولين صار ابنا لتلك المرأة فجميع الأولاد الذين ولدوا قبل الرضاع والذين ولدوا بعده هم اخوة لهذا المرتضع باتفاق المسلمين أيضا
____________________
(34/53)
( وسئل رحمه الله ( عن اختين إحداهما لها ذكر والأخرى انثى فارضعت أم الذكر الأنثى ولم ترضع ام انثى الذكر ثم جاءت هذه بنات وهذه ذكور فهل يجوز أن يتزوج اخو المرتضع بالبنت التى ارتضعت بلبن أخيه ام لا وكذلك هل يتزوج أولاد هذه بأولاد هذه بسوى المرضعين
فأجاب الحمد لله الأنثى المرتضعة لا تتزوج أحدا من أولاد المرضعة لا من ولدلها قبل الرضاعة ولا بعدها وأما إخوة المرتضعة فيتزوجون من شاؤوا من أولاد المرضعة فيتزوج كل واحد لم يرتضع بأولاد المرأة التى لم ترضعه ولم يتزوج بأحد من أولاد من أرضعته وإذا رضع طفل من أم هذا أو طفلة من أولاد هذا لم يجز لأحدهما أن يتزوج أولاد الأخرى ويجوز لأخوة كل من المتراضعين ان يتزوج باخوة الآخر اذا لم يرضع واحد منها من أم الآخر والتحريم انما يثبت فى حق المرتضع خاصة دون من لم يرضع من أخوته لكن يحرم عليه جميع أولاد المرضعة والله أعلم
____________________
(34/54)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل رمد فغسل عينيه بلبن زوجته فهل تحرم عليه إذا حصل لبنها فى بطنه ورجل يحب زوجته فلعب معها فرضع من لبنها فهل تحرم عليه
فأجاب الحمد لله ما غسل عينيه بلبن امرأته يجوز ولا تحرم بذلك عليه امرأته لوجهين
( أحدهما ( انه كبير والكبير إذا ارتضع من امرأته أو من غير امرأته لم تنشر بذلك حرمة الرضاع عند الأئمة الأربعة وجماهير العلماء كما دل على ذلك الكتاب والسنة وحديث عائشة فى قصة سالم مولى ابى حذيفة مختص عندهم بذلك لأجل أنهم تبنوه قبل تحريم التبنى
( الثانى ( ان حصول اللبن فى العين لا ينشر الحرمة ولا أعلم فى هذا نزاعا ولكن تنازع العلماء فى السعوط وهوما إذا دخل فى انفه بعد تنازعهم فى الوجور وهو ما يطرح فيه من غير رضاع واكثر العلماء على أن الوجور يحرم وهو أشهر الروايتين عن أحمد وكذلك يحرم السعوط فى احدى الروايتين عنه وهو مذهب ابى حنيفة ومالك وللشافعى قولان
والجواب عن المسألة الثانية ان ارتضاعه لا يحرم امرأته فى مذهب الأئمة الأربعة
____________________
(34/55)
( وقال شيخ الاسلام رحمه الله ( ( فصل ( إذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات قبل أن يتم له حولين فإنه يصير ولدها فيحرم عليه كل من ولدها قبل الرضاع وبعده ويصير زوجها الذى أحبلها در لبنها أباه فيحرم عليه جميع أولاد ذلك الرجل فاذا ارضعت امرأته طفلا وطفلة كل واحد خمس رضعات لم يجز ان يتزوج أحدهما بالآخر بل هما أخوان والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن صبى أرضعته كرتين ثم حملت بعد ذلك بعشر سنين وجاءت ببنت وصار الصبى شابا فهل له أن يتزوج بتلك البنت أم لا
فأجاب اذا ارتضع منها خمس رضعات فى حولين فقد صار ابنها ويحرم عليه كل ما ولدته المرأة سواء ولدته قبل الرضاع أو بعده باتفاق العلماء
____________________
(34/56)
و ( الرضعة ( ان يلتقم الثدى فيشرب منه ثم يدعه فهذه رضعة فاذا كان فى كرة واحدة قد جرى له خمس مرات فهذه خمس رضعات وان جرى ذلك خمس مرات فى كرتين فهو ايضا خمس رضعات وليس المراد بالرضعة ما يشربه فى نوبة واحدة فى شربه فانها قد ترضعه بالغداة ثم بالعشى ويكون فى كل نوبة قد ارضعته رضعات كثيرة والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن الصبى اذا رضع من غير أمه وكذلك الصبية اذا رضعت ماذا يحرم عليه نكاحه بعد ذلك وماحد الرضعة المحرمة وهل للرضاعة بعد الفطام تأثيرا فى التحريم وهل تبقى المرأة حرام على من تعدى سنين الرضاعة أم لا
فأجاب إذا ارتضع الطفل أو الطفلة من امرأة خمس رضعات فى الحولين فقد صار ولدها من الرضاعة وصار الرجل الذى در اللبن بوطئه أباه من الرضاعة وأخوة المرأة أخواله وخالاته وأخوة الرجل أعمامه وعماته وآباؤها اجداده وجداته وأولاده كل منهما أخوته وأخواته وكل هؤلاء حرام عليه فانه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب وكذلك أولاد هذا المرتضع يحرمون على اجداده وجداته وإخوته وأخواته وأعمامه وعماته
____________________
(34/57)
وأخواله وخالاته من الرضاعة وهذا كله باتفاق المسلمين فيثبت حرمة الرضاع من جهة الأبوين ومن جهة الولد
واما أبو المرتضع من النسب وأمهاته وأخوته وأخواته من النسب فكل هؤلاء أجانب من المرتضعة واقاربها باتفاق العلماء فيجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أخته من الرضاعة ويجوز لجميع أخوة المرتضع أن يتزوجوا بمن شاؤوا من بنات المرضعة سواء فى ذلك التى ارضعت مع الطفل وغيرها ولا يجوز للمرتضع ان يتزوج أحدا من أولاد المرضعة لا بمن ولد قبل الرضاع ولا من ولد بعده باتفاق العلماء
وكثير من الناس يغلط فى هذا الموضوع فلا يميز بين اخوة المرتضع من النسب الذين هم أجانب من المرأة وبين أولاد المرتضعة الذين هم أخوته من الرضاع ويجعل الجميع نوعا واحد وليس كذلك بل يجوز لهؤلاء أن يتزوجوا من هؤلاء واما المرتضع فلا يتزوج أحدا من أولاد المرضعة
ولو تراضع طفلان فرضع هذا أم هذا ورضعت هذه أم هذا ولم يرضع أحد من أخوتها من أم الآخر حرم على كل منهم أن يتزوج أولاد مرضعته سواء ولد قبل الرضاعة أو بعدها ولم يحرم على أخ واحد منهما من النسب أن يتزوج أخت الآخر من الرضاعة
____________________
(34/58)
و ( الرضاعة المحرمة بلاريب ( أن يرضع خمس رضعات فيأخذ الثدى فيشرب منه ثم يدعه ثم يأخذه فيشرب مرة ثم يدعه ولو كان ذلك فى زمن واحد مثل غدائه وعشائه وأما دون الخمس فلا يحرم فى مذهب الشافعى وقيل يحرم القليل والكثير كقول ابى حنيفة ومالك وقيل لا يحرم الا ثلاث رضعات والأقوال الثلاثة مروية عن أحمد لكن الأول اشهر عنه لحديث عائشة الذى فى الصحيحين ( كان مما نزل فى القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نسخ ذلك بخمس رضعات فتوفى رسول الله والأمر على ذلك ( وفى المسند وغيره ايضا انه أمر امرأة ان ترضع شخصا خمس رضعات لتحرم عليه (
( والرضاع المحرم ( ما كان فى الحولين فان تمام الرضاع حولان كاملان كما قال تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } وما كان بعد تمام الرضاعة فليس من الرضاعة ولهذا كان جمهور العلماء والأئمة الأربعة وغيرهم على أن رضاع الكبير لا تأثيرله واحتجوا بما فى الصحيحين عن عائشة قالت دخل على رسول الله وعندى رجل فقال ( من هذا يا عائشة ) قلت أخى من الرضاعة قال ( يا عائشة انظرن من اخوانكن إنما الرضاعة من المجاعة ( وروى الترمذى عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يحرم من الرضاعة الا ما فتق الأمعاء فى الثدى وكان قبل الفطام ) ومعنى قوله فى ( الثدى ( أي وقته وهو الحولان كما جاء
____________________
(34/59)
فى الحديث ( ان ابنى ابراهيم مات فى الثدى ) أي وهو فى زمن الرضاع وهذا لا يقتضى أنه لارضاع بعد الحولين ولا بعد الفطام وإن كان الفطام قبل تمام الحولين
وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى ان ارضاع الكبير يحرم واحتجوا بما فى صحيح مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمة أن أم سلمة قالت لعائشة إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذى ما أحب ان يدخل على فقالت عائشة مالك فى رسول الله اسوة حسنة قالت ان امرأة ابى حذيفة قالت يارسول الله إن سالما يدخل على وهو رجل فى نفس أبى حذيفة منه شيء فقال رسول الله ( ارضعيه حتى يدخل عليك ) وفى رواية لمالك فى الموطأ قال ( ارضعيه خمس رضعات ) فكان بمنزلة ولده من الرضاعة وهذا الحديث أخذت به عائشة وأبى غيرها من أزواج النبى صلى الله عليه وسلم ان يأخذن به مع أن عائشة روت عنه قال ( الرضاعة من المجاعة ) لكنها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعة او تغذية فمتى كان المقصود الثانى لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام وهذا هو إرضاع عامة الناس وأما الأول فيجوز ان احتيج إلى جعله ذا محرم وقد يجوز للحاجة مالا يجوز لغيرها وهذا قول متوجه
ولبن الآدميات طاهر عند جمهور العلماء ولكن شك بعض المتأخرين فقال هو نجس
____________________
(34/60)
وتنازع العلماء فى جواز بيعه منفردا على ثلاثة أقوال فى مذهب أحمد وغيره قيل يجوز بيعه كمذهب الشافعى وقيل لا يجوز كمذهب أبى حنيفة وقيل يجوز بيع لبن الأمة دون لبن الحرة والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن امراتين إحداهما لها بن وللأخرى بنت فأرضعت أم البنت الابن مرارا ثم مات الابن ثم جاء بعده بن آخر ولم يرضع مما رضع فهل يجوز له أن يتزوج بالبنت المذكورة أم تحرم عليه لأجل رضاعة أخيه
الجواب اذا اراد أخو المرتضع من النسب ان يتزوج اولاد المرضعة جاز ذلك باتفاق الأئمة سوا كان المرتضع حيا أو ميتا والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل له بنت عم ووالد البنت المذكورة قد رضع بأم الرجل المذكور مع أحد اخواته وذكرت أم الرجل المذكورة انه لما رضعها كان عمره أكثر من حولين فهل للرجل المذكور انه يتزوج بنت عمه
فأجاب ان كان الرضاع بعد تمام الحولين لم يحرم شيئا
____________________
(34/61)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن امرأة أعطت لامرأة أخرى ولدا وهما فى الحمام فلم تشعر المرأة التى أخذت الولد إلا وثديها فى فم الصبى فانتزعته منه فى ساعته وما علمت هل ارتضع أم لا فهل يحرم على الصبى المذكور أن يتزوج من بنات المرأة المذكورة أم لا
فأجاب لا يحرم على الصبى المذكور بذلك أن يتزوج واحدة من أولاد هذه المرأة فانها ليست أمه ولا تحرم عليه بالشك عند أحد من الأئمة الأربعة والله أعلم
____________________
(34/62)
& ( باب النفقات والحضانة (
( قال شيخ الاسلام رحمه الله ( فى قوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها } إلى قوله { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } مع قوله { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } إلى قوله { سيجعل الله بعد عسر يسرا } وفى ذلك أنواع من الأحكام بعضها مجمع عليه وبعضها متنازع فيه واذا تدبرت كتاب الله تبين انه يفصل النزاع بين من يحسن الرد إليه وأن من لم يهتد إلى ذلك فهو إما لعدم استطاعته فيعذر أو لتفريطه فيلام
وقوله تعالى { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } يدل على ان هذا تمام الرضاعة وما بعد ذلك فهو غذاء من الأغذية وبهذا يستدل من يقول الرضاع بعد الحولين بمنزلة رضاع الكبير وقوله ( حولين كاملين ) يدل على أن لفظ ( الحولين ( يقع على حول وبعض آخر وهذا معروف فى كلامهم يقال لفلان عشرون عاما اذا اكمل ذلك قال الفراء والزجاج وغيرهما لما جاز ان يقول ( حولين ) ويريد اقل منهما كما قال تعالى { فمن تعجل في يومين } ومعلوم انه يتعجل
____________________
(34/63)
فى يوم وبعض آخر وتقول لم أر فلانا يومين وانما تريد يوما وبعض آخر قال ( كاملين ) ليبين انه لا يجوز ان ينقص منهما وهذا بمنزلة قوله تعالى ( تلك عشرة كاملة ) فان لفظ ( العشرة ) يقع على تسعة وبعض العاشر فيقال أقمت عشرة أيام وان لم يكملها فقوله هناك ( كاملة ) بمنزلة قوله هنا ( كاملين ) وفى الصحيحين عن النبى أنه قال ( الخازن الأمين الذى يعطى ما أمر به كاملا موفورا طيبة به نفسه أحد المتصدقين ( فالكامل الذى لم ينقص منه شيء اذ الكمال ضد النقصان وأما ( الموفر ) فقد قال أجرهم موفرا يقال الموفر للزائد ويقال لم يكلم أى يجرح كما جاء فى الحديث الذى رواه الامام أحمد فى ( كتاب الزهد ) عن وهب بن منبه أن الله تعالى قال لموسى ( وماذاك لهوانهم على ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم تكلمه نطعة الهوى ) وكان هذا تغيير الصفة وذاك نقصان القدر
وذكر ( أبو الفرج ) هل هو عام فى جميع الوالدات أو يختص بالمطلقات على قولين والخصوص قول سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والسدى ومقاتل فى آخرين والعموم قول ابى سليمان الدمشقى والقاضى أبى يعلى فى اخرين
قال القاضي ولهذا نقول لها ان تؤجر نفسها لرضاع ولدها سواء كانت مع الزوج أو مطلقة
( قلت ( الآية حجة عليهم فانها أوجبت للمرضعات رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا زيادة على ذلك وهو يقول تؤجر نفسها
____________________
(34/64)
باجرة غير النفقة والآية لا تدل على هذا بل اذا كانت الآية عامة دلت على انها ترضع ولدها مع انفاق الزوج عليها كما لو كانت حاملا فانه ينفق عليها وتدخل نفقة الولد فى نفقة الزوجية لأن الولد يتغذى بغذاء أمه وكذلك فى حال الرضاع فان نفقة الحمل هي نفقة المرتضع وعلى هذا فلا منافاة بين القولين فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع كما ذكر فى ( سورة الطلاق ) وهذا مختص بالمطلقة
وقوله تعالى ( حولين كاملين ) قد علم أن مبدأ الحول من حين الولادة والكمال إلى نظير ذلك فاذا كان من عاشر المحرم كان الكمال فى عاشر المحرم فى مثل تلك الساعة فان الحول المطلق هو اثنا عشر شهرا من الشهر الهلالى كما قال تعالى { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } وهكذا ما ذكره من العدة أربعة أشهر وعشرا أولها من حين الموت وآخرها اذا مضت عشر بعد نظيره فاذا كان فى منتصف المحرم فآخرها خامس عشر المحرم وكذلك الأجل المسمى فى البيوع وسائر ما يؤجل بالشرع وبالشرط وللفقهاء هنا قولان آخران ضعيفان ( أحدهما ( قول من يقول إذا كان فى اثناء الشهر كان جميع الشهور بالعدد فيكون الحولان ثلاثمائة وستين وعلى هذا القول تزيد المدة اثنى عشر يوما وهو غلط بين
____________________
(34/65)
و ( القول الثانى ( قول من يقول منها واحد بالعدد وسائرها بالأهلة وهذا أقرب لكن فيه غلط فانه على هذا اذا كان المبدأ عاشر المحرم وقد نقص المحرم كان تمامه تاسعه فيكون التكميل أحد عشر فيكون المنتهى حادى عشر المحرم وهو غلط أيضا
وظاهر القرآن يدل على أن على الأم ارضاعه لأن قوله ( يرضعن ) خبر فى معنى الأمر وهى مسألة نزاع ولهذا تأولها من ذهب إلى القول الآخر قال القاضي أبو يعلى وهذا الأمر انصرف إلى الآباء لأن عليهم الاسترضاع لا على الوالدات بدليل قوله { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } وقوله { فآتوهن أجورهن } فلو كان متحتما على الوالدة لم يكن عليه الأجرة
فيقال بل القرآن دل على ان للابن على الأم الفعل وعلى الأب النفقة ولو لم يوجد غيرها تعين عليها وهى تستحق الأجرة والأجنبية تستحق الأجرة ولو لم يوجد غيرها
وقوله تعالى { لمن أراد أن يتم الرضاعة } دليل على أنه لا يجوز أن يريد اتمام الرضاع ويجوز الفطام قبل ذلك اذا كان مصلحة وقد بين ذلك بقوله تعالى { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } وذلك يدل على أنه لا يفصل الا برضى الأبوين فلو أراد أحدهما الاتمام والآخر الفصال قبل ذلك كان الأمر لمن أراد الاتمام لأنه قال تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن }
____________________
(34/66)
وقوله تعالى ( يرضعن ) صيغة خبر ومعناه الأمر والتقدير والوالدة مأمورة بارضاعه حولين كاملين اذا أريد اتمام الرضاعة فاذا أرادت الاتمام كانت مأمورة بذلك وكان على الأب رزقها وكسوتها وان اراد الأب الاتمام كان له ذلك فانه لم يبح الفصال الا بتراضيهما جميعا يدل على ذلك قوله تعالى { لمن أراد أن يتم الرضاعة } ولفظة ( من ) إما ان يقال هو عام يتناول هذا وهذا ويدخل فيه الذكر والأنثى فمن أراد الاتمام أرضعن له وإما أن يقال قوله تعالى { لمن أراد أن يتم الرضاعة } انما هو المولود له وهو المرضع له فالأم تلد له وترضع له كما قال تعالى { فإن أرضعن لكم } والأم كالأجير مع المستأجر فان أراد الأب الاتمام أرضعن له وان اراد أن لا يتم ( فله ذلك ) وعلى هذا التقدير فمنطوق الآية أمرهن بارضاعه عند ارادة الأب ومفهومها أيضا جواز الفصل بتراضيعها يبقى اذا أرادت الأم دون الأب مسكوتا عنه لكن مفهوم قوله تعالى ( عن تراض ) أنه لا يجوز كما ذكر ذلك مجاهد وغيره ولكن تناوله قوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فانها اذا ارضعت تمام الحول فله أرضعت وكفته بذلك مؤنة الطفل فلولا رضاعها لا حتاج إلى ان يطعمه شيئا آخر
____________________
(34/67)
ففى هذه الآية بين أن على الأم الاتمام إذا أراد الأب وفى تلك بين أن أن على الأب الأجر اذا أبت المرأة قال مجاهد ( التشاور ) فيما دون الحولين إن أرادت ان تفطم وأبى فليس لها وان اراد هو ولم ترد فليس له ذلك حتى يقع ذلك على تراض منهما وتشاور يقول غير مسيئين إلى أنفسهما ولا رضيعهما
وقوله تعالى { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } قال اذا أسلمتم أيها الآباء إلى أمهات الاولاد أجر ما ارضعن قبل امتناعهن روى عن مجاهد والسدى وقيل اذا اسلمتم إلى الظئر اجرها بالمعروف روى عن سعيد بن جبير ومقاتل وقرأ بن كثير ( أتيتم ) بالقصر وقوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولم يقل وعلى الوالد كما قال { والوالدات } لأن المرأة هي التى تلده وأما الأب فلم يلده بل هو مولودله لكن اذا قرن بينهما قيل { وبالوالدين إحسانا } فأما مع الافراد فليس فى القرآن تسميته والدا بل أبا وفيه بيان أن الولد ولد للأب لا للأم ولهذا كان عليه نفقته حملا وأجرة رضاعه وهذا يوافق قوله تعالى { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور } فجعله موهوبا للأب وجعل بيته بيته فى قوله { لا جناح عليكم } { أن تأكلوا من بيوتكم } وإذا كان الأب هو المنفق عليه جنينا ورضيعا والمرأة وعاء فالولد زرع للأب قال تعالى { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } فالمرأة هي الأرض المزروعة والزرع فيها للأب وقد ( نهى النبى صلى الله عليه وسلم ) أن يسقى الرجل ماءه زرع غيره ) يريد به النهى عن وطء الحبالى
____________________
(34/68)
فان ماء الواطىء يزيد فى الحمل كما يزيد الماء فى الزرع وفى الحديث الآخر الصحيح ( لقد هممت أن العنه لعنة تدخل معه فى قبره كيف يورثه وهو لا يحل له وكيف يستعبده وهو لا يحل له واذا كان الولد للأب وهو زرعه كان هذا مطابقا لقوله ( أنت ومالك لأبيك ) وقوله ( ان أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه ) فقد حصل الولد من كسبه كما دلت عليه هذه الآية فان الزرع الذى فى الأرض كسب المزدرع له الذى بذره وسقاه وأعطى أجرة الأرض فان الرجل أعطى المرأة مهرها وهو أجر الوطء كما قال تعالى { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } وهو مطابق لقوله تعالى { ما أغنى عنه ماله وما كسب } وقد فسر ( ما كسب ) بالولد فالأم هي الحرث وهى الأرض التى فيها زرع والأب استأجرها بالمهر كما يستأجر الأرض وأنفق على الزرع بانفاقه لما كانت حاملا ثم أنفق على الرضيع كما ينفق المستأجر على الزرع والثمر اذا كان مستورا واذا برز فالزرع هو الولد وهو من كسبه
وهذا يدل على أن للأب أن يأخذ من ماله مالا يضر به كما جاءت به السنة وان ماله للأب مباح وان كان مكا للإبن فهو مباح للأب أن يملكه والا بقى للابن فاذا مات ولم يتملكه ورث عن الابن وللأب أيضا أن يستخدم الولد مالم يضر به وفى هذا وجوب طاعة الأب على الابن اذا كان العمل مباحا لا يضر بالابن فانه لو استخدم عبده فى معصية أو اعتدى عليه لم يجز فالابن أولى
____________________
(34/69)
ونفع الابن له اذا لم يأخذه الأب بخلاف نفع المملوك فانه لمالكه كما أن ماله لو مات لمالكه لا لوارثه
ودل ما ذكره على أنه لا يجوز للرجل أن يطأ حاملا من غيره وانه اذا وطئها كان كسقى الزرع يزيد فيه وينميه ويبقى له شركة فى الولد فيحرم عليه استعباد هذا الولد فلو ملك أمة حاملا من غيره ووطئها حرم استعباد هذا الولد لأنه سقاه ولقوله صلى الله عليه وسلم ( كيف يستعبده وهو لا يحل له ) ( وكيف يورثه ) أى يجعله موروثا منه ( وهو لا يحل له ) ومن ظن أن المراد كيف يجعله وارثا فقد غلط لأن تلك المرأة كانت أمة للواطىء والعبد لا يجعل وارثا انما يجعل موروثا فأما اذا استبرئت المرأة علم أنه لا زرع هناك ولو كانت بكرا أو عند من لا يطؤها ففيه نزاع والأظهر جواز الوطء لأنه لا زرع هناك وظهور براءة الرحم هنا أقوى من براءتها من الاستبراء بحيضة فان الحامل قد يخرج منها من الدم مثل دم الحيض وإن كان نادرا وقد تنازع العلماء هل هو حيض أولا فالاستبراء ليس دليلا قاطعا على براءة الرحم بل دليل ظاهر والبكارة وكونها كانت مملوكة لصبى أو امرأة أدل على البراءة وأن كان البائع صادقا وأخبره أنه استبرأها حصل المقصود واستبراء الصغيرة التى لم تحض والعجوز والآيسة فى غاية البعد
____________________
(34/70)
ولهذا اضطرب القائلون هل تستبرأ بشهر أو شهر ونصف أو شهرين أو ثلاثة أشهر وكلها أقوال ضعيفة وبن عمر رضى الله عنهما لم يكن يستبرئ البكر ولا يعرف له مخالف من الصحابة والنبى لم يأمر بالاستبراء الا فى المسبيات كما قال فى سبايا أوطاس ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ) لم يأمر كل من ورث أمة او اشتراها أن يستبرئها مع وجود ذلك فى زمنه فعلم أنه أمر بالاستبراء عند الجهل بالحال لامكان ان تكون حاملا وكذلك من ملكت وكان سيدها يطؤها ولم يستبرئها لكن النبى لم يذكر مثل هذا اذ لم يكن المسلمون يفعلون مثل هذا لا يرضى لنفسه أحد ان يبيع أمته الحامل منه بل لا يبيعها اذا وطئها حتى يستبرئها فلا يحتاج المشترى إلى استبراء ثان
ولهذا لم ينه عن وطء الحبالى من ( السادات ) اذا ملكت ببيع أو هبة لأن هذا لم يكن يقع بل هذه دخلت فى نهيه ( أن يسقى الرجل ماءه زرع غيره )
وقوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقال تعالى فى تلك الآية { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } يدل على أن هذا الأجر هو رزقهن وكسوتهن بالمعروف اذا لم يكن بينهما مسمى
____________________
(34/71)
ترجعان إليه ( وأجرة المثل ) إنما تقدر بالمسمى اذا كان هناك مسمى يرجعان إليه كما فى البيع والاجارة لما كان السلعة هي أو مثلها بثمن مسمى وجب ثمن المثل اذا أخذت بغير اختياره وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من أعتق شركا له فى عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد ) فهناك أقيم العبد لأنه ومثله يباع فى السوق فتعرف القيمة التى هي السعر فى ذلك الوقت وكذلك الأجير والصانع كما نهى النبى فى الحديث الصحيح لعلى ( أن يعطى الجازر من البدن شيئا ) وقال ( نحن نعطيه من عندنا ) فان الذبح وقسمة اللحم على المهدى فعليه أجرة الجازر الذى فعل ذلك وهو يستحق نظير ما يستحقه مثله اذا عمل ذلك لأن الجزارة معروفة ولها عادة معروفة وكذلك سائر الصناعات كالحياكة والخياطة والبناء وقد كان من الناس من يخيط بالأجرة على عهده فيستحق هذا الخياط ما يستحقه نظراؤه وكذلك أجير الخدمة يستحق ما يستحقه نظيره لان ذلك عادة معروفة عند الناس
وأما ( الأم المرضعة ) فهي نظير سائر الأمهات المرضعات بعد الطلاق وليس لهن عادة مقدرة إلا اعتبار حال الرضاع بما ذكر وهى اذا كانت حاملا منه وهى مطلقة استحقت نفقتها وكسوتها بالمعروف وهى فى الحقيقة نفقة على الحمل وهذا أظهر قولى العلماء كما قال تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }
____________________
(34/72)
وللعلماء هنا ثلاثة أقوال
( أحدها ) ان هذه النفقة نفقة زوجة معتدة ولا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا وهذا قول من يوجب النفقة للبائن كما يوجبها للرجعية كقول طائفة من السلف والخلف وهو مذهب أبى حنيفة وغيره ويروى عن عمر وبن مسعود ولكن على هذا القول ليس لكونها حاملا تأثير فانهم ينفقون عليها حتى تنقضى العدة سواء كانت حاملا أو حائلا
( القول الثانى ( انه ينفق عليها نفقة زوجة لأجل الحمل كأحد قولى الشافعى وإحدى الروايتين عن احمد وهذا قول متناقض فانه ان كان نفقة زوجة فقد وجب لكونها زوجة لا لأجل الولد وان كان لأجل الولد فنفقة الولد تجب مع غير الزوجة كما يجب عليه أن ينفق على سريته الحامل إذا أعتقها وهؤلاء يقولون هل وجبت النفقة للحمل أولها من أجل الحمل على قولين فان أرادوا لها من أجل الحمل أى لهذه الحامل من أجل حملها فلا فرق وإن أرادوا وهو مرادهم انه يجب لها نفقة زوجة من أجل الحمل فهذا تناقض فان نفقة الزوجة تجب وإن لم يكن حمل ونفقة الحمل تجب وان لم تكن زوجة
و ( القول الثالث ( وهو الصحيح أن النفقة تجب للحمل ولها من أجل الحمل لكونها حاملا بولده فهي نفقة عليه لكونه أباه
____________________
(34/73)
لا عليها لكونها زوجة وهذا قول مالك وأحد القولين فى مذهب الشافعى وأحمد والقرآن يدل على هذا فانه قال تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ثم قال تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقال هنا { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } فجعل أجر الارضاع على من وجبت عليه نفقة الحامل ومعلوم أن أجر الارضاع يجب على الأب لكونه أبا فكذلك نفقة الحامل ولأن نفقة الحامل ورزقها وكسوتها بالمعروف وقد جعل أجر المرضعة كذلك ولأنه قال { وعلى الوارث مثل ذلك } أى وارث الطفل فأوجب عليه ما يجب على الأب وهذا كله يبين أن نفقة الحمل والرضاع من ( باب نفقة الأب على ابنه ( لا من & ( باب نفقة الزوج على زوجته (
وعلى هذا فلو لم تكن زوجة بل كانت حاملا بوطء شبهة يلحقه نسبه أو كانت حاملا منه وقد أعتقها وجب عليه نفقة الحمل كما يجب عليه نفقة الارضاع ولو كان الحمل لغيره كمن وطىء أمة غيره بنكاح أو شبهة أو إرث فالولد هنا لسيد الأمة فليس على الواطىء شيء وان كان زوجا ولو تزوج عبد حرة فحملت منه فالنسب ها هنا لا حق لكن الولد حر والولد الحر لا تجب نفقته على أبيه العبد ولا أجرة رضاعه فان العبد ليس له مال ينفق منه على ولده وسيده لا حق له فى ولده فان ولده إما حر وإما مملوك لسيد الأمة نعم لو كانت الحامل أمة والولد حر مثل المغرور الذى اشترى أمة فظهر انها
____________________
(34/74)
مستحقة لغير البائع أو تزوج حرة فظهر أنها أمة فهنا الولد حر وإن كانت أمة مملوكة لغير الواطىء لأنه انما وطىء من يعتقدها مملوكة له أوزوجة حرة وبهذا قضت الصحابة لسيد الأمة بشراء الولد وهو ( نظيره ) فهنا الآن ينفق على الحامل كما ينفق على المرضعة له والله سبحانه وتعالى أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل كان له زوجة وطلقها ثلاثا وله منها بنت ترضع وقد الزموه بنفقة العدة فكم تكون مدة العدة التى لا تحيض فيها لأجل الرضاعة
فأجاب الحمد لله أما جمهور العلماء كمالك والشافعى وأحمد فعندهم لا نفقة للمعتدة البائن المطلقة ثلاثا وأما أبو حنيفة فيوجب لها النفقة ما دامت فى العدة وإذا كانت ممن تحيض فلا تزال فى العدة حتى تحيض ثلاث حيض والمرضع يتأخر حيضها فى الغالب وأما أجر الرضاع فلها ذلك باتفاق العلماء كما قال تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ولا تجب النفقة إلا على الموسر فاما المعسر فلا نفقة عليه
____________________
(34/75)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن امرأة مزوجة محتاجة فهل تكون نفقتها واجبة على زوجها أو من صداقها
فأجاب المزوجة المحتاجة نفقتها على زوجها واجبة من غير صداقها وأما صداقها المؤخر فيجوز أن تطالبه وإن أعطاها فحسن وإن امتنع لم لم يجبر حتى يقع بينهما فرقة بموت أو طلاق أو نحوه والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل تزوج بامرأة ما ينتفع بها ولا تطاوعه فى أمر وتطلب منه نفقة وكسوة وقد ضيقت عليه أموره فهل تستحق عليه نفقة وكسوة
فأجاب إذا لم تمكنه من نفسها أو خرجت من داره بغير اذنه فلا نفقة لها ولا كسوة وكذلك إذا طلب منها أن تسافر معه فلم تفعل فلا نفقة لها ولا كسوة فحيث كانت ناشزا عاصية له فيما يجب له عليها طاعته لم يجب لها نفقة ولا كسوة
____________________
(34/76)
( وسئل شيخ الاسلام رحمه الله ( عن المرأة والرجل اذا تحا كما فى النفقة والكسوة هل القول قولها أم قول الرجل وهل للحاكم تقدير النفقة والكسوة بشيء معين والمسؤل بيان حكم هاتين المسألتين بدلائلهما
فأجاب الحمد لله اذا كانت المرأة مقيمة فى بيت زوجها مدة تأكل وتشرب وتكتسى كما جرت به العادة ثم تنازع الزوجان فى ذلك فقالت هي أنت ما أنفقت على ولا كسوتنى بل حصل ذلك من غيرك وقال هو بل النفقة والكسوة كانت منى ففيها قولان للعلماء
( أحدهما ( القول قوله وهذا هو الصحيح الذى عليه الأكثرون ونظير هذا ان يصدقها تعلم صناعة وتتعلمها ثم يتنازعا فيمن علمها فيقول هو أنا علمتها وتقول هي أنا تعلمتها من غيره ففيها وجهان فى مذهب الشافعى وأحمد والصحيح من هذا كله أن القول قول من يشهد له العرف والعادة وهو مذهب مالك وأبو حنيفة يوافق على أنها لا تستحق عليه شيئا لأن النفقة تسقط بمضى الزمان عنده كنفقة الأقارب وهو قول فى مذهب أحمد وأصحاب هذا القول يقولون
____________________
(34/77)
وجبت على طريقة الصلة فتسقط بمضى الزمان والجمهور ومالك والشافعى واحمد فى المشهور عنه يقولون وجبت بطريق المعاوضة فلا تسقط بمضى الزمان ولكن اذا تنازعا فى قبضها فقال بعض أصحاب الشافعى وأحمد القول قول المرأة لأن الأصل عدم المقبوض كما لو تنازعا فى قبض الصداق والصواب أنه يرجع فى ذلك إلى العرف والعادة فاذا كانت العادة أن الرجل ينفق على المرأة فى بيته ويكسوها وادعت انه لم يفعل ذلك فالقول قوله مع يمينه وهذا القول هو الصواب الذى لا يسوغ غيره لأوجه
( أحدها ( أن الصحابة والتابعين على عهد رسول الله وخلفائه الراشدين لم يعلم منهم امرأة قبل قولها فى ذلك ولو كان قول المرأة مقبولا فى ذلك لكانت الهمم متوفرة على دعوى النساء وذلك كما هو الواقع فعلم انه كان مستقرا بينهم أنه لا يقبل قولها
( الثانى ( أنه لو كان القول قولها لم يقبل قول الرجل الا ببينة فكان يحتاج إلى الاشهاد عليها كلما أطعمها وكساها وكان تركه ذلك تفريطا منه اذا ترك الاشهاد على الدين المؤجل ومعلوم ان هذا لم يفعله مسلم على عهد السلف
____________________
(34/78)
( الثالث ( ان الاشهاد فى هذا متعذر أو متعسر فلا يحتاج إليه كالاشهاد على الوطء فانهما لو تنازعا فى الوطء وهى ثيب لم يقبل مجرد قولها فى عدم الوطء عند الجمهور مع أن الأصل عدمه بل إما أن يكون القول ( قول ) الرجل أو يؤمر باخراج المنى أو يجامعها فى مكان وقريب منهما من يعلم ذلك بعد انقضاء الوطء على ما للعلماء فى ذلك من النزاع فهنا دعواها وافقت الأصل ولم تقبل لتعذر اقامة البينة على ذلك والانفاق فى البيوت بهذه المثابة ولا يكلف الناس الاشهاد على إعطاء النفقة فان هذا بدعة فى الدين وحرج على المسلمين واتباع لغير سبيل المؤمنين
( الرابع ( ان العلماء متنازعون هل يجب تمليك النفقة على قولين والأظهر أنه لا يجب ولا يجب أن يفرض لها شيئا بل يطعمها ويكسوها بالمعروف وهذا القول هو الذى دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال فى النساء { له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } كما فى المملوك ( وكسوته بالمعروف ( وقال ( حقها أن تطعمها إذ طعمت وتكسوها اذا اكتسيت ) كما قال فى المماليك ( اخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ( هذه عادة المسلمين على عهد رسول الله وخلفائه لا يعلم قط أن رجلا فرض لزوجته نفقة بل يطعمها ويكسوها
____________________
(34/79)
وإذا كان كذلك كان له ولاية الانفاق عليها كما له ولاية الانفاق على رقيقه وبهائمه وقد قال الله تعالى ( الرجال قوامون على النساء ) وقال زيد بن ثابت الزوج سيد فى كتاب الله وقرأ قوله ( وألفيا سيدها لدى الباب ) وقال عمر بن الخطاب النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته ويدل على ذلك قول النبى ( اتقوا الله فى النساء فانهن عوان عندكم وإنكم أخذتموهن بامانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) فقد أخبر أن المرأة عانية عند الرجل والعانى الأسير وأن الرجل أخذها بأمانة الله فهو مؤتمن عليها ولهذا أباح الله للرجل بنص القرآن أن يضربها وإنما يؤدب غيره من له عليه ولاية فاذا كان الزوج مؤتمنا عليها وله عليها ولاية كان القول قوله فيما اؤتمن عليه وولى عليه كما يقبل قول الولى فى الانفاق على اليتيم وكما يقبل قول الوكيل والشريك والمضارب والمساقي والمزارع فيما أنفقه على مال الشركة وإن كان فى ذلك معنى المعاوضة وعقد النكاح من جنس المشاركة والمعاوضة والرجل مؤتمن فيه فقبول قوله فى ذلك أولى من قبول قول أحد الشريكين
وكذلك لو أخذت المرأة نفقتها من ماله بالمعروف وادعت أنه لم يعطها نفقة قبل قولها مع يمينها فى هذه الصورة
لأن الشارع سلطها على ذلك كما قال النبى لهند ( خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف ) لما قالت إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطينى من النفقة ما يكفينى وولدى فقال ( خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف
____________________
(34/80)
وكذلك لو كان الزوج مسافرا عنها مدة وهى مقيمة فى بيت ابيها وادعت انه لم يترك لها نفقة ولا أرسل اليها بنفقة فالقول قولها مع يمينها وأمثال ذلك فلابد من التفصيل فى الماضى مطلقا فى هذا الباب
وهذه المعانى من تدبرها تبين له سر هذه المسألة فان قبول قول النساء فى عدم النفقة فى الماضى فيه من الضرر والفساد مالا يحصيه إلا رب العباد وهو يؤل إلى أن المرأة تقيم مع الزوج خمسين سنة ثم تدعى نفقة خمسين سنة وكسوتها وتدعى أن زوجها مع يساره وفقرها لم يطعمها فى هذه المدة شيئا وهذا مما يتبين الناس كذبها فيه قطعا وشريعة الاسلام منزهة عن أن يحكم فيها بالكذب والبهتان والظلم والعدوان
( الوجه الخامس ( أن الأصل المستقر فى الشريعة أن اليمين مشروعة فى جنبة أقوى المتداعيين سواء ترجح ذلك بالبراءة الأصلية أو اليد الحسية أو العادة العملية ولهذا إذا ترجح جانب المدعى كانت اليمين مشروعة فى حقه عند الجمهور كمالك والشافعى واحمد كالأيمان فى القسامة وكما لو أقام شاهدا عدلا فى الأموال فانه يحكم له بشاهد ويمين والنبى جعل البينة على المدعى عليه اذا لم يكن مع المدعى حجة ترجح جانبه ولهذا قال جمهور العلماء فى الزوجين اذا تنازعا فى متاع البيت فانه يحكم لكل منهما بما جرت العادة باستعماله إياه فيحكم للمرأة بمتاع النساء
____________________
(34/81)
وللرجل بمتاع الرجال وان كانت اليد الحسية منهما ثابتة على هذا وهذا لأنه يعلم بالعادة أن كلا منهما يتصرف فى متاع جنسه وهنا العادة جارية بأن الرجل ينفق على امرأته ويكسرها فان لم يعلم لها جهة تنفق منها على نفسها أجرى الأمر على العادة
( الوجه السادس ( أن هذه المرأة لابد أن تكون أكلت واكتست فى الزمان الماضى وذلك إما ان يكون من الزوج وإما أن يكون من غيره والأصل عدم غيره فيكون منه كما قلنا فى أصح الوجهين إن القول قوله فى أنه علمها الصناعة والقراءة التى أصدقها تعليمها لأن الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم كما لو سقط فى الماء نجاسة فرئى متغيرا بعد ذلك وشك هل تغير بالنجاسة أو غيرها فأصح الوجهين أنه يضاف التغير إلى النجاسة ويدل على ذلك ما ثبت فى الصحيحين ان النبى أفتى عدى بن حاتم فيما اذا رمى الصيد وغاب عنه ولم يجد فيه أثرا غير سهمه أنه يأكله لأن الأصل عدم سبب آخر زهقت به نفسه بخلاف ما إذا تردى فى ماء أو خالط كلبه كلاب أخرى فان تلك لأسباب شاركت فى الزهوق وبسط هذه المسائل له موضع آخر غير هذا
____________________
(34/82)
فصل
وأما تقدير الحاكم النفقة والكسوة فهذا يكون عند التنازع فيها كما يقدر مهر المثل إذا تنازعا فيه وكما يقدر مقدار الوطء إذا ادعت المرأة انه يضربها فان الحقوق التى لايعلم مقدارها إلا بالمعروف متى تنازع فيها الخصمان قدرها ولى الأمر وأما الرجل إذا كان ينفق على امرأته بالمعروف كما جرت عادة مثله لمثلها فهذا يكفى ولايحتاج إلى تقدير الحاكم ولو طلبت المرأة أن يفرض لها نفقة يسلمها اليها مع العلم بأنه ينفق عليها بالمعروف فالصحيح من قولى العلماء فى هذه الصورة انه لا يفرض لها نفقة ولا يجب تمليكها ذلك كما تقدم فان هذا هو الذى يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار المبنى على العدل والصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف وليست مقدرة بالشرع بل تختلف باختلاف أحوال البلاد والأزمنة وحال الزوجين وعادتهما فان الله تعالى قال { وعاشروهن بالمعروف } وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف ) وقال { له رزقهن وكسوتهن بالمعروف }
____________________
(34/83)
( وقال شيخ الاسلام رحمه الله ( فى قول الله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } إلى قوله { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة } إلى قوله تعالى { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } فجعل المباح أحد أمرين إمساك بمعروف أو تسريح باحسان وأخبر ان الرجال ليسوا أحق بالرد إلا اذا ارادوا اصلاحا وجعل لهن مثل الذى عليهن بالمعروف وقال تعالى { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } وقال تعالى فى الآية الأخرى { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } وقال تعالى { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف } وقوله هنا ( بالمعروف ) يدل على ان المرأة لو رضيت بغير المعروف لكان للأولياء العضل والمعروف تزويج الكفء وقد يستدل به من يقول مهر مثلها من المعروف فان المعروف هو الذى يعرفه أولئك وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } إلى قوله { وعاشروهن بالمعروف } فقد ذكر أن التراضى بالمعروف والامساك
____________________
(34/84)
بالمعروف التسريح بالمعروف والمعاشرة بالمعروف وأن لهن وعليهن بالمعروف كما قال { له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } فهذا المذكور فى القرآن هو الواجب العدل فى جميع ما يتعلق بالنكاح من امور النكاح وحقوق الزوجين فكما أن ما يجب للمرأة عليه من الرزق والكسوة هو بالمعروف وهو العرف الذى يعرفه الناس فى حالهما نوعا وقدرا وصفة وإن كان ذلك يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والاعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار والمكان فيطعمها فى كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم وكذلك ما يجب لها عليه من المتعة والعشرة فعليه أن يبيت عندها ويطأها بالمعروف ويختلف ذلك باختلاف حالها وحاله وهذا أصح القولين فى الوطء الواجب أنه مقدر بالمعروف لا بتقدير من الشرع قررته فى غير هذا الموضع
والمثال المشهور هو ( النفقة ) فانها مقدرة بالمعروف تتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين ومنهم من قال هي مقدرة بالشرع نوعا وقدرا مدا من حنطة أو مدا ونصفا أو مدين قياسا على الاطعام الواجب فى الكفارة على أصل القياس
والصواب المقطوع به ما عليه الامة علما وعملا قديما وحديثا فان القران قد دل على ذلك وفى الصحيحين عن النبى
____________________
(34/85)
أنه قال لهند امرأة أبى سفيان لما قالت له يا رسول الله ان أبا سفيان رجل شحيح وانه لا يعطينى ما يكفينى وولدى فقال النبى ( خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف ) فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف ولم يقدر لها نوعا ولا قدرا ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع كما بين فرائض الزكاة والديات وفى صحيح مسلم عن جابر أن النبى قال فى خطبته العظيمة بعرفات ( لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف )
واذا كان الواجب هو الكفاية بالمعروف فمعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحالة الزوجة فى حاجتها ويتنوع الزمان والمكان ويتنوع حال الزوج فى يساره واعساره وليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة ولاكسوة الشتاء ككسوة الصيف ولا كفاية طعامه كطعامه ولا طعام البلاد الحارة كالباردة ولا المعروف فى بلاد التمر والشعير كالمعروف فى بلاد الفاكهة والخمير وفى مسند الامام احمد وسنن ابى داود وبن ماجه عن حكيم بن معاوية النميرى عن أبيه أنه قال قلت يا رسول الله ما حق زوجة احدنا عليه قال ( تطعمها اذا أكلت وتكسوها اذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر الا فى البيت )
فهذه ثلاثة أحاديث عن النبى أن للزوجة مرة أن تأخذ كفاية ولدها بالمعروف وقال فى الخطبة التى خطبها يوم أكمل الله
____________________
(34/86)
الدين فى اكبر مجمع كان له فى الاسلام ( لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) وقال للسائل المستفتى له عن حق الزوجة ( تطعمها اذا اكلت وتكسوها اذا اكتسيت ) لم يأمر فى شيء من ذلك بقدر معين لكن قيد ذلك بالمعروف تارة وبالمواساة بالزوج أخرى وهكذا قال فى نفقة المماليك ففى الصحيحين عن أبى ذر عن النبى قال ( هم اخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان اخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فان كلفتموهم فأعينوهم ) وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبى قال ( للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلى ما يطلق )
ففى الزوجة والمملوك أمره واحد تارة يذكر انه يجب الرزق والكسوة بالمعروف وتارة يأمر بمواساتهم بالنفس فمن العلماء من جعل المعروف هو الواجب والمواساة مستحبة وقد يقال احدهما تفسير للآخر وعلى هذا فالواجب هو الرزق والكسوة بالمعروف فى النوع والقدر وصفة الانفاق وان كان العلماء قد تنازعوا فى ذلك أما ( النوع ) فلا يتعين أن يعطيها مكيلا كالبر ولاموزنا كالخبر ولا ثمن ذلك كالدراهم بل يرجع فى ذلك إلى العرف فاذا اعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن يكون عادتهم أكل التمر والشعير فيعطيها ذلك
____________________
(34/87)
أو يكون أكل الخبز والادام فيعطيها ذلك وإن كان عادتهم أن يعطيها حبا فتطحنه فى البيت فعل ذلك وان كان يطحن فى الطاحون ويخبز فى البيت فعل ذلك وان كان يخبز فى البيت فعل ذلك وان كان يشترى خبزا من السوق فعل ذلك وكذلك الطبيخ ونحوه فعلى ما هو المعروف فلا يتعين عليه دراهم ولا حبات أصلا لا بشرع ولا بفرض فان تعين ذلك دائما من المنكر ليس من المعروف وهو مضر به تارة وبها أخرى
وكذلك ( القدر ) لا يتعين مقدار مطرد بل تتنوع المقادير بتنوع الاوقات
واما ( الانفاق ) فقد قيل إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة وقيل لا يجب التمليك وهو الصواب فان ذلك ليس هو المعروف بل عرف النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى يومنا هذا ان الرجل يأتى بالطعام إلى منزله فيأكل هو وامرأته ومملوكه تارة جميعا وتارة أفرادا ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم دراهم تتصرف فيها تصرف المالك بل من عاشر امرأة بمثل هذا الفرض كانا عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف وتضارا فى العشرة وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرر لا عند العشرة بالمعروف
____________________
(34/88)
وأيضا فان النبى صلى الله عليه وسلم أوجب فى الزوجة مثل ما أوجب فى المملوك تارة قال ( لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) كما قال فى المملوك وتارة قال ( تطعمها اذا أكلت وتكسوها اذا اكتسيت ( كما قال فى المملوك وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته فعلم أن هذا الكلام لا يقتضى ايجاب التمليك واذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة انه يطعمها اذا أكل ويكسوها اذا اكتسى وذلك هو المعروف لمثلها فى بلدها فلا حق لها سوى ذلك وأن أنكرت ذلك أمره الحاكم ان ينفق بالمعروف بل ولا له ان يأمر بدراهم مقدرة مطلقا أو حب مقدار مطلقا لكن يذكر المعروف الذى يليق بهما ( فصل (
وكذلك ( قسم الابتداء والوطء والعشرة والمتعة ( واجبان كما قد قررناه باكثر من عشرة أدلة ومن شك فى وجوب ذلك فقد أبعد تأمل الأدلة الشرعية والسياسة الانسانية ثم الواجب قيل مبيت ليلة من أربع ليال والوطء فى كل أربعة أشهر مرة كما ثبت ذلك فى المولى والمتزوج أربعا وقيل إن الواجب وطؤها بالمعروف فيقل ويكثر بحسب حاجتها وقدرته كالقوت سواء ( فصل
( وكذلك ما عليها من موافقته فى المسكن وعشرته ومطاوعته فى المتعة فان ذلك واجب عليها بالاتفاق عليها أن تسكن معه فى أى بلد أو دار إذا
____________________
(34/89)
كان ذلك بالمعروف ولم تشترط خلافه وعليها أن لا تفارق ذلك بغير أمره إلا لموجب شرعى فلا تنتقل ولا تسافر ولا تخرج من منزله لغير حاجة إلا باذنه كما قال النبى ( فانهن عوان عندكم ( بمنزلة العبد والأسير وعليها تمكينه من الاستمتاع بها إذا طلب ذلك وذلك كله بالمعروف غير المنكر فليس له أن يستمتع استمتاعا يضربها ولا يسكنها مسكنا يضربها ولا يحبسها حبسا يضر بها ( فصل ( وتنازع العلماء هل عليها أن تخدمه فى مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز والطحن والطعام لمماليكه وبهائمه مثل علف دابته ونحو ذلك فمنهم من قال لا تجب الخدمة وهذا القول ضعيف كضعف قول من قال لا تجب عليه العشرة والوطء فان هذا ليس معاشرة له بالمعروف بل الصاحب فى السفر الذى هو نظير الانسان وصاحبه فى المسكن إن لم يعاونه على مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف وقيل وهو الصواب وجوب الخدمة فان الزوج سيدها فى كتاب الله وهى عانية عنده بسنة رسول الله وعلى العانى والعبد الخدمة ولأن ذلك هو المعروف ثم من هؤلاء من قال تجب الخدمة اليسيرة ومنهم من قال تجب الخدمة بالمعروف وهذا هو الصواب فعليها أن تخدمه
____________________
(34/90)
الخدمة المعروفة من مثلها لمثله ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وخدمة القويه ليست كخدمة الضعيفة ( فصل ( والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق فان العقد المطلق يرجع فى موجبه إلى العرف كما يوجب العقد المطلق فى البيع النقد المعروف فان شرط أحدهما على صاحبه شرطا لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما فالمسلمون عند شروطهم فان موجبات العقود تتلقى من اللفظ تارة ومن العرف تارة أخرى لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله فان لكل من العاقدين أن يوجب للآخر على نفسه مالم يمنعه الله من ايجابه ولا يمنعه أن يوجب فى المعاوضة ما يباح بذله بلا عوض كعارية البضع والولاء لغير المعتق فلا سبيل إلى أن يجب بالشرط فانه إذا حرم بذله كيف يجب بالشرط فهذه أصول جامعة مع اختصار والله أعلم
( وسئل ( عن رجل متزوج بامرأة وسافر عنها سنة كاملة ولم يترك عندها شيئا ولا لها شيء تنفقه عليها وهلكت من الجوع فحظر من يخطبها
____________________
(34/91)
ودخل بها وحملت منه فعلم الحاكم أن الزوج الأول موجود ففرق بينهما ووضعت الحمل من الزوج الثانى والزوج الثانى ينفق عليها إلى أن صار عمر المولود أربع سنين ولم يحضر الزوج الأول ولا عرف له مكان فهل لها أن تراجع الزوج الثانى أو تنتظر الأول
فأجاب إذا تعذرت النفقة من جهته فلها فسخ النكاح فاذا انقضت عدتها تزوجت بغيره والفسخ للحاكم فاذا فسخت هي نفسها لتعذر فسخ الحاكم أو غيره ففيه نزاع وأما إذا لم يفسخ الحاكم بل شهد لها أنه قد مات وتزوجت لأجل ذلك ولم يمت الزوج فالنكاح باطل لكن إذا اعتقد الزوج الثانى أنه صحيح لظنه موت الزوج الأول وانفساخ النكاح أو نحو ذلك فانه يلحق به النسب وعليه المهر ولا حد عليه لكن تعتد له حتى تنقضى عدتها منه ثم بعد ذلك ينفسخ نكاح الأول إن أمكن وتتزوج بمن شاءت
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل زوج ابنته لرجل وأراد الزوج السفر إلى بلاده فقال له وكيل الأب فى قبول النكاح لا تسافر إما أن تعطى الحال من الصداق وتنتقل بالزوجة أو ترضى الأب فسافر ولم يجب إلى ذلك وهو غائب
____________________
(34/92)
عن الزوجة المذكورة مدة سنة ولم يصل منه نفقة فهل لوالد الزوجة أن يطلب فسخ النكاح
فأجاب نعم اذا عرضت المرأة عليه فبذل له تسليمها وهى ممن يوطأ مثلها وجب عليه النفقة بذلك فاذا تعذرت النفقة من جهته كان للزوجة المطالبة بالفسخ إذا كان محجورا عليها على وجهين
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل تبرع وفرض لأمه على نفسه وهى صحيحة عاقلة فى كل يوم درهمين واذن لها أن تستدين وتنفق عليها وترجع عليه وبقيت مقيمة عنده مدة ولم تستدن لها نفقة ثم توفيت ولم تترك عليها دينا وخلفت من الورثة ابنها هذا وبنتين ثم توفى ابنها بعدها فهل يصير ما فرض على نفسه دينا فى ذمته يؤخذ من تركه ويقسم على ورثتها أم لا وهل اذا حكم حاكم مع قولكم النفقة تسقط بمضى المدة هل ينفذ حكمه أم لا وهل يجب استرجاع ما أخذ ورثتها من تركة ولدها بهذا الوجه أم لا
فأجاب الحمد الله رب العالمين ليس ذاك دينا لها فى ذمته ولا يقضى من تركته والمستحقة ورثتها وما علمت أن احدا من العلماء قال ان نفقة
____________________
(34/93)
القريب تثبت فى الذمة لما مضى من الزمان إلا اذا كان قد استدان عليه النفقة باذن حاكم أو انفق بغير اذن حاكم غير متبرع وطلب الرجوع بما انفق فهذا فى رجوعه خلاف فاما استقرارها فى الذمة بمجرد الفرض إما بانفاق متبرع أو بكسبه كما يقال مثله فى نفقة الزوجة فما علمت له قائلا فاذا كان الحكم مخالفا للاجماع لم يلزم بحكم حاكم ولمن أخذ منه المال بغير حق ان يرجع بما أخذه ومذهب أبى حنيفة تسقط بمضى الزمان وان قضى بها القاضي إلا أن يأذن القاضي فى الاستدانة لأن للقاضى ولاية عامة فصار كاذن الغائب وذكر بعضهم فى قضاء القاضي هل يصير به دينا روايتين لكن حملوا رواية الوجوب على ما اذا أمر بالاستدانة والانفاق عليهم ويرجع بذلك وكذا اذا كان الزوج موسرا وتمرد وامتنع عن الانفاق فطلبت المرأة ان يأمرها بالاستدانة فأمرها القاضي بذلك وترجع عليه لأن أمر القاضي كأمره ولو قضى القاضي لها بالنفقة فامرها بالاستدانة على الزوج لئلا يبطل حقها فى النفقة بموت أحدهما لأن النفقة تسقط بموت أحدهما فكانت فائدة الأمر بالاستدانة لتأكيد حقها فى النفقة لأن القاضي مأمور بايصال الحق إلى المستحق وهذه طريقة لكن لو أمر القريب بالاستدانة ولم يستدن بل استغنى بنفقة متبرع أو بكسب له فقد فهم القاضي شمس الدين ان النفقة تستقر فى الذمة بهذه الصورة لاطلاقهم الأمر بالاستدانة من غير اشتراط وجود الاستدانة وغيره إنما فهم ان الاستدانة لأجل وجود الاستدانة واما الاذن فى الاستدانة من غير وجودها لايصير المأذون فيه دينا حتى يستدان
____________________
(34/94)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن امرأة توفيت وخلفت من الورثة ولدا ذكرا وقد ادعى على أبيه بالصداق والكسوة فهل يلزم الزوج الكسوة الماضية قبل موتها والابن محتاج
فأجاب اذا كان الأمر على ما ذكر فعلى الأب أن يوفيه ما يستحقه بل لو لم يكن للإبن ميراث وكان محتاجا عاجزا عن الكسوة فعلى الأب اذا كان موسرا أن ينفق عليه وعلى زوجته وأولاده الصغار المحتاجين والعاجزين عن الكسب
( وسئل رحمه الله ( عن رجل تزوج بامرأة ودخل بها وهو مستمر النفقة وهى ناشز ثم إن والدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج فماذا يجب عليهما
فأجاب الحمد لله اذا سافر بها بغير إذن الزوج فانه يعزر على ذلك وتعزر الزوجة اذا كان التخلف يمكنها ولا نفقة لها من حين سافرت والله أعلم
____________________
(34/95)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل تزوج عند قوم مدة سنة ثم جرى بينهم كلام فادعوا عليه بكسوة سنة فأخذوها منه ثم ادعوا عليه بالنفقة وقالوا هي تحت الحجر ومااذنا لك ان تنفق عليها فهل يجوز ذلك
فأجاب الحمد لله رب العالمين اذا كان الزوج تسلمها التسليم الشرعى وهو أو أبوه أو نحوهما يطعمها كما جرت به العادة لم يكن للأب ولالها ان تدعى بالنفقة فان هذا هو الانفاق بالمعروف الذى كان على عهد رسول الله وأصحابه وسائر المسلمين فى كل عصر ومصر وكذلك نص على ذلك أئمة العلماء بل من كلف الزوج أن يسلم إلى أبيها دراهم ليشترى لها بهاما يطعمها فى كل يوم فقد خرج عن سنة رسول الله والمسلمين وان ( كان ) هذا قد قاله بعض الناس فكيف اذا كان قد انفق عليها باقرار الأب لها بذلك وتسليمها اليهم مع أنه لا بد لها من الأكل ثم اراد ان يطلب النفقة ولا يعتد بما انفقوا عليها فان هذا باطل فى الشريعة لا تحتمله أصلا ومن توهم ذلك معتقدا ان النفقة حق لها كالدين فلا بد ان يقبضه الولى وهو لم يأذن فيه كان مخطئا من وجوه
____________________
(34/96)
( منها ( أن المقصود بالنفقة اطعامها لا حفظ المال لها ( الثانى ( ان قبض الولى لها ليس فيه فائدة ( الثالث ( أن ذلك لا يحتاج إلى اذنه فانه واجب لها بالشرع والشارع أوجب الانفاق عليها فلو نهى الولى عن ذلك لم يلتفت إليه ( الرابع ( اقراره لها مع حاجته إلى النفقة اذن عرفى ولا يقال إنه لم يأمن الزوج على النفقة لوجهين ( احداهما ) ان الائتمان بها حصل بالشرع كما أو تمن الزوج على بدنها والقسم لها وغير ذلك من حقوقها فان الرجال قوامون على النساء والنساء عوان عند الرجال كما دل على ذلك الكتاب والسنة ( الثانى ) أن الائتمان العرفى كاللفظى والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل حبسته زوجته على كسوتها وصداقها وبقى مدة فهل لها ان تطالبه بنفقتها مدة إقامته فى حبسها أم لا
فأجاب ان كان معسرا فحبسته كانت ظالمة له مانعة له من التمكن منها فلا تستحق عليه فى تلك المدة نفقة وان كان لها حق واجب حال وهو قادر على ادائه فمنعه بعد الطلب الشرعى كان ظالما فاذا كانت مع هذا باذلة ما ( يجب عليها ( وجبت لها النفقة
____________________
(34/97)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل له زوجة وله مدة سبع سنين لم ينتفع بها لأجل مرضها فهل تستحق عليه نفقة أم لا فان لم تكن تستحق وحكم عليه حاكم فهل يجب عليه أعطاؤه أم لا
فأجاب نعم تستحق النفقة فى مذهب الأئمة الأربعة
( وسئل رحمه الله ( عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة وكانت حاملا فاسقطت فهل تسقط عنه النفقة أم لا
فأجاب نعم اذا القت سقطا انقضت به العدة وسقطت به النفقة وسواء كان قد نفخ فيه الروح أم لا اذا كان قد تبين فيه خلق الانسان فان لم يتبين ففيه نزاع
____________________
(34/98)
( وسئل رحمه الله ( عن رجل طلق زوجته ثلاثا والزمها بوفاء العدة فى مكانها فخرجت منه قبل ان توفى العدة وطلبها الزوج ماوجدها فهل لها نفقة العدة
فأجاب لا نفقة لها وليس لها ان تطالب بنفقة الماضى فى مثل هذه العدة فى المذاهب الأربعة والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل ماتت زوجته وخلفت له ثلاث بنات فاعطاهم لحميه وحماته وقال روحوا بهم إلى بلدكم حتى أجىء اليهم فغاب عنهم ثلاث سنين فهل على والدهم نفقتهم وكسوتهم فى هذه المدة أم لا
فأجاب ما انفقوه عليهم بالمعروف بنية الرجوع به على والدهم فلهم الرجوع به عليه اذا كان ممن تلزمه نفقتهم والله أعلم
____________________
(34/99)
( وسئل رحمه الله ( عن رجل وطىء أجنبية حملت منه ثم بعد ذلك تزوج بها فهل يجب عليه فرض الولد فى تربيته أم لا
فأجاب الولد ولدزنا لا يلحقه نسبه عند الأئمة الأربعة ولكن لابد أن ينفق عليه المسلمون فانه يتيم من اليتامى ونفقة اليتامى على المسلمين مؤكدة والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل متزوج بامرأة ولها ولد من غيره وله فرض على ابيه تتناوله أمه والزوج يقوم بالصبى بكلفته ومؤنته مدة سنين وحين تزوج الرجل كان من الصداق خمسة دنانير حالة فشارطته على أنها لا تطالبه بها اذا كان ينفق على الولد ما دام الصبى عنده ولم تعين له كلفة ولا نفقة فهل له مطالبة أم الصبى بكلفة مدة مقامه عنده
____________________
(34/100)
فأجاب إذا كان الأمر على ما ذكر ولم يوف امرأته بما شرطت له فليس له أن يطالب بما أنفقه على الصبى إذا كان الانفاق بمعروف فانه ليس متبرعا بذلك سواء أنفق بأذن أمه أم لا
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن امرأة تطعم من بيت زوجها بحكم أنها تتعب فيه
فأجاب الحمد لله تطعم بالمعروف مثل الخبر والطبيخ والفاكهة ونحو ذلك مما جرت العادة باطعامه والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل عجز عن الكسب ولا له شيء وله زوجة وأولاد فهل بجوز لولده الموسر أن ينفق عليه وعلى زوجته واخوته الصغار
فأجاب الحمد لله رب العالمين نعم على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزجة أبيه وعلى اخوته الصغار وإن لم يفعل ذلك كان عاقا لأبيه قاطعا لرحمه مستحقا لعقوبة الله تعالى فى الدنيا والآخرة والله أعلم
____________________
(34/101)
( وسئل رحمه الله ( عن رجل له ولد وطلب منه ما يمونه
فأجاب إذا كان موسرا وأبوه محتاجا فعليه أن يعطيه تمام كفايته وكذلك إخوته إذا كانوا عاجزين عن الكسب فعليه أن ينفق عليهم إذا كان قادرا على ذلك ولأبيه أن يأخذ من ماله ما يحتاجه بغير إذن الابن وليس للإبن منعه
وسئل رحمه الله ( عن رجل له ولد وله مال والوالد فقير وله عائلة وزوجه غير والدة لولد الكبير فهل يجب على ولده نفقة والده ونفقة اخوته وزوجته أم لا
فأجاب إذا كان الأب عاجزا عن النفقة والابن قادرا على الانفاق عليهم فعليه الانفاق عليهم
____________________
(34/102)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل عاجز عن نفقة بنته وكان غائبا وهى عند أمها وجدتها تنفق عليها مع أنها موسرة وليس عليه فرض فهل لها أن ترجع بالنفقة المدة التى كان عاجزا عن النفقة فيها وهل القول قوله فى إعساره إذا لم يعرف له مال أو قول المدعى وإذا كان مقيما فى بلد فيها خيره ويريد أخذ بنته معه وهو يسافر سفر نقلة فيستحق السفر بها وتكون الحضانة لأمها
فأجاب اما المدة التى كان عاجزا عن النفقة فيها فلا نفقة عليه ولا رجوع لمن انفق فيها بغير إذنه بغيرنزاع بين العلماء وانما النزاع فيما إذا انفق منفق بدون إذنه مع وجوب النفقة على الأب فقيل يرجع بما أنفق غير متبرع كما هو مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد فى قول ولا يجوز حبسه على هذه النفقة ولا على الرجوع بها حتى يثبت الوجوب بيساره فإذا اختلفا فى اليسار ولم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه
وإذا كان مقيما فى غير بلد الأم فالحضانة له لا للأم وأن كانت الأم أحق بالحضانة فى البلد الواحد وهذا أيضا مذهب الأئمة الأربعة والله أعلم
____________________
(34/103)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل له مطلقة وله منها ولد وقد بلغ من العمر سبع سنين وهم يريدون فرضه وقد تزوجت أمه وكفلته جدته ووجهت كفيله وسافروا به إلى الاسنكدرية وغيبوه مدة سبع سنين وطلب منه فرض السنين الماضية
فأجاب اذا حكم له حاكم لم يكن لأمه أن تغيبه عنه واذا غيبته عنه والحالة هذه لم يكن لها أن تطالبه بالنفقة المفروضة ولا بما أنفقوه عليه فى هذه الحالة والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل عليه وقف من جده ثم على ولده وهو يتناول أجرته وله ملك زاد أجرة كثيرة وغيرها والكل معطل وله ولد معسر وله أهل وأولاد فطلب ابنه بعض الأماكن ليدولبه فلم يجبه فهل
____________________
(34/104)
يجوز له ذلك وهل يجب على الأب أن يؤجرهم وينفق على ولده أوتجب عليه النفقة مع غنى الوالد وإعسار الولد
فأجاب نعم عليه نفقة ولده بالمعروف إذا كان الولد فقيرا عاجزا عن الكسب والوالد موسرا وإذا لم يمكن الانفاق على الولد إلا باجارة ما هو متعطل فى عقاره وبعمارة ما يمكن عمارته منه أو يمكن الولد من أن يؤجر ويعمر ما ينفق منه على نفسه فعلى الوالد ذلك بل من كان له عقار لايعمره ولا يؤجره فهو سفيه مبذر لماله فينبغى أن يحجر عليه الحاكم لمصلحة نفسه لئلا يضيع ماله فاما إذا كان له ولد يتعين ذلك لأجل مصلحته ومصلحة ولده والله أعلم ( وقال رحمه الله تعالى ( ( فصل (
قال الله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } فلفظ ( المولود له ) أجود من لفظ ( الوالد ( لوجوه أنه يعم الوالد وسيد العبد وانه يبين ان الولد لأبيه لا لأمه فيفيد هذا أن الولد لأبيه كما نقوله نحن من أن الأب يستبيح مال ولده ومنافعه وانه يبين جهة الوجوب عليه وهو كون الولد له لا للأم وان الأم هي التى ولدته حقيقة دون الأب فهذه أربعة أوجه ولهذا يقال ولد لفلان مولود ولد لى ولد
____________________
(34/105)
وهذه الآية توجب رزق المرتضع على أبيه لقوله ( وان كن أولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) فأوجب نفقته حملا ورضيعا بواسطة الانفاق على الحامل والمرضع فانه لا يمكن رزقه بدون رزق حامله ومرضعه فسئلت فأين نفقة الولد على أبيه بعد فطامه فقلت دل عليه النص تنبيها فانه إذا كان فى حال اختفائه وارتضاعه أوجب نفقة من تحمله وترضعه اذ لا يمكن الانفاق عليه إلا بذلك فالانفاق عليه بعد فصاله اذا كان يباشر الارتزاق بنفسه أولى وأحرى وهذا من حسن الاستدلال
فقد تضمن الخطاب التنبيه بأن الحكم فى المسكوت أولى منه فى المنطوق وتضمن تعليل الحكم بكون النفقة انما وجبت على الأب لأنه هو الذى له الولد دون الأم ومن كان الشيء له كانت نفقته عليه ولهذا سمى الولد كسبا فى قوله ( وما كسب ) وفى قوله ( ان أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه
( وسئل رحمه الله ( عن رجل له جارية تائبة وتصلى وتصوم أى شيء يلزم سيدها إذا لم يجامعها
فأجاب إذا كانت محتاجة إلى النكاح فليعفها إما بأن يطأها وإما بان يزوجها لمن يطؤها ولا يجوز ان يطأها الا زوج أو سيدها
____________________
(34/106)
وسئل رحمه الله عن الصدقة على المحتاجين من الأهل وغيرهم
فأجاب ان كان مال الانسان لا يتسع للأقارب والأباعد فان نفقة القريب واجبة عليه فلا يعطى البعيد ما يضر بالقريب واما الزكاة والكفارة فيجوز ان يعطى منها القريب الذى لا ينفق عليه والقريب أولى إذا استوت الحالة & ( باب الحضانة ( ( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل له ولد وتوفى ولده وخلف ولدا عمره ثمان سنين والزوجة تطالب الجد بالفرض وبعد ذلك تزوجت وطلقت ولم يعرف الجد بها وقد اخذت الولد وسافرت ولا يعلم الجد بها فهل يلزم الجد فرض أم لا
فأجاب إذا تزوجت الأم فلا حضانة لها واذا سافرت سفر نقلة فالحضانة للجد دونها ومن حضنته ولم تكن الحضانة لها وطالبت بالنفقة لم يكن لها ذلك فانها ظالمة بالحضانة فلا تستحق المطالبة بالنفقة وان كان الجد عاجزا عن نفقة بن ابنه لم تجب عليه نفقته
____________________
(34/107)
وقال قدس الله روحه ( فصل ( اليتيم ( فى الآدميين من فقد أباه لأن أباه هو الذى يهذبه ويرزقه وينصره بموجب الطبع المخلوق ولهذا كان تابعا فى الدين لوالده وكان نفقته عليه وحضانته عليه والانفاق هو الرزق و ( الحضانة ( هي النصر لأنها الايواء ودفع الأذى فإذا عدم أبوه طمعت النفوس فيه لأن الانسان ظلوم جهول والمظلوم عاجز ضعيف فتقوى جهة الفساد من جهة قوة المقتضى ومن جهة ضعف المانع ويتولد عنه فسادان ضرر اليتيم الذى لا دافع عنه ولا يحسن إليه وفجور الآدمى الذى لا وازع له فلهذا أعظم الله أمر اليتامى فى كتابه فى آيات كثيرة مثل قوله { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين } وقوله { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } إلى قوله { وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين } وقوله { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين }
____________________
(34/108)
وقوله { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح } وقوله { وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } إلى قوله { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا } وقوله { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } وقوله { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } إلى قوله { وبذي القربى واليتامى والمساكين } وقوله { قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } إلى قوله { وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما } وقوله { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } وقوله فى الأنعام { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } وقوله { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين } وقوله { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا } وقوله { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } وقوله { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } وقوله { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين }
____________________
(34/109)
وقوله { فذلك الذي يدع اليتيم } ولا يحض على طعام المسكين
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل له بنت لها سبع سنين ولها والدة متزوجة وقد اخذها بحكم الشرع الشريف بحيث أنه ليس لها كافل غيره وقد اختارت أم المذكورة أن تأخذها من الرجل بكفالتها إلى مدة معلومة وهو يخاف ان ترجع عليه فيما بعد بالكسوة والنفقة عند بعض المذاهب وكيف نسخة ما يكتب بينهما
الجواب الحمد لله رب العالمين ما دام الولد عندها وهى تنفق عليه وقد أخذته على أن تنفق عليه من عندها ولا ترجع على الأب لا نفقة لها باتفاق الأئمة أي لا ترجع عليه بما أنفقت هذه المدة لكن لو أرادت ان تطالب بالنفقة فى المستقبل فللأب أن يأخذ الولد منها أيضا فانه لايجمع لها بين الحضانة فى هذه الحال ومطالبة الأب بالنفقة مع ما ذكرنا بلا نزاع لكن لو اتفقا على ذلك فهل يكون العقد بينهما لازما هذا فيه خلاف والمشهور من مذهب مالك هو لازم واذا كان كذلك فلا ضرر للأب فى هذا الالتزام والله أعلم
____________________
(34/110)
( وقال الشيخ رحمه الله تعالى ( الحمد لله الذى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ونشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد ان محمدا عبده ورسوله تسليما كثيرا ( فصل ( فى مذهب الامام احمد وغيره من العلماء فى ( حضانة الصغير المميز ) هل هي للأب أو للأم أو يخير بينهما فان كثيرا من كتب أصحاب أحمد انما فيها أن الغلام إذ بلغ سبع سنين خير بين ابويه وأما الجارية فالأب أحق بها وهؤلاء الذين ذكروا هذا كالخرقى وغيره بلغهم بعض نصوص احمد فى هذه المسألة ولم يبلغهم سائر نصوصه فان كلام أحمد كثير منتشرجدا وقل من يضبط جميع نصوصه فى كثير من المسائل لكثرة كلامه وانتشاره وكثرة من كان يأخذ العلم عنه
( وأبو بكر الخلال ) قد طاف البلاد وجمع من نصوصه فى مسائل الفقه نحو اربعين مجلدا وفاته أمور كثيرة ليست فى كتبه واما ما جمعه من
____________________
(34/111)
نصوصه فمن أصول الدين مثل ( كتاب السنة ) نحو ثلاث مجلدات ومثل أصول الفقه والحديث مثل ( كتاب العلم ) الذى جمعه من الكلام على علل الأحاديث مثل ( كتاب العلل ) الذى جمعه ومن كلامه فى ( أعمال القلوب والأخلاق والأدب ) ومن كلامه فى ( الرجال والتاريخ ) فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه
( والمقصود هنا ) ان النزاع عنه موجود فى المسألتين كلتاهما فى ( مسألة البنت ) وفى ( مسألة الابن ) وعنه فى الابن ثلاث روايات معروفة وممن ذكرهن أبو البركات فى ( محرره ) وعنه فى الجارية روايتين وممن ذكرهما أبو عبد الله بن تيمية فى كتابيه ( التلخيص ) ( وترغيب القاصد ) والروايات موجودة بالفاظها ونقلتها وأسانيدها فى عدة كتب وممن ذكر هذه الروايات القاضي أبو يعلى فى ( تعليقه ) نقل عن أحمد فى الغلام أمه أحق به حتى يستغنى عنها ثم الأب أحق به فقال فى رواية الفضل بن زياد اذا عقل الغلام واستغنى عن الأم فالأب أحق به وقال فى رواية أبى طالب والأب أحق بالغلام اذا عقل وأستغنى عن الأم وهذا الذى نقله القاضي أبو يعلى والثانى وغيرهما ( هو المنقول ) عن أبى حنيفة قال اذا أكل وحده ولبس وحده وتوضأ وحده فالأب أحق به ونقل بن المنذر أنه يخير بين أبويه عن أبى حنيفة وأبى ثور والأول هو مذهب أبى حنيفة الموجود فى كتب أصحابه وهو أحدى الروايتين عن مالك فانه نقل عنه بن وهب الأم أحق به حتى
____________________
(34/112)
يثغر ولكن المشهور عنه أن الأم أحق به مالم يبلغ وهذه هي الرواية الثالثة عن أحمد وأما المشهور عن أحمد وهو تخيير الغلام بين أبويه فهو مذهب الشافعى واسحق بن راهويه
وموافقته للشافعى واسحق أكثر من موافقته لغيرهما وأصوله باصولهما أشبه منها باصول غيرهما وكان يثنى عليهما ويعظمهما ويرجح أصول مذاهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم والشافعى واسحق هما عنده من أجل فقهاء الحديث فى عصرهما وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا فى ( مسألة إجارة بيوت مكة ) والقصة مشهورة وذكر أحمد أن الشافعى علا إسحاق بالحجة فى موضع وان إسحاق علاه بالحجة فى موضع فان الشافعى كان يبيح البيع والاجارة واسحق يمنع منهما وكانت الحجة مع الشافعى فى جواز بيعها ومع إسحاق فى المنع من اجارتها
والرواية الثالثة عن أحمد أن الأم أحق بالغلام مطلقا كمذهب مالك أخذت من قوله فى رواية حنبل فى الرجل يطلق امرأته وله منها أولاد صغار فالأم أعطف عليهم مقدار ما يعقلون الأدب فتكون الأم بهم أحق مالم تتزوج فاذا تزوجت فالأب أحق بولده غلاما كان أو جارية قال الشيخ أبو البركات فهذه الرواية تدل على أنه إذا كبر وصار يعقل الأدب
____________________
(34/113)
فانه يكون مقره أيضا عند الأم لكن فى وقت الأدب وهو النهار يكون عند الأب وهذه المدونة مذهب مالك بعينه الذى حكيناه فصار فى المسألة ثلاث روايات ومذهب مالك فى ( التهذيب ( أن الأم أحق به مالم يبلغ والأب يتعاهده عندها وأدبه وبعثه إلى المكتب ولا يبيت الا عند الأم
قلت وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الامام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثورى وغيره وكما كان يسأله الميمونى عن مسائل الأوزاعى وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجى عن مسائل أبى حنيفة وأصحابه فإنه كان قد تفقه على مذهب أبى حنيفة واجتهد فى مسائل كثيرة رجح فيها مذهب أهل الحديث وسأل عن تلك المسائل أحمد وغيره وشرحها ابراهيم بن يعقوب الجوزجانى إمام مسجد دمشق
وأما ( حضانة البنت ) اذا صارت مميزة فوجدنا عنه روايتين منصوصتين وقد نقلهما غير واحد من أصحابه كأبى عبد الله بن تيمية وغيره
( أحداهما ) أن الأب أحق بها كما هو موجود فى الكتب المعروفة فى مذهبه
و ( الثانية ( ان الأم احق بها قال فى رواية إسحاق بن منصور يقضى بالجارية للأم والخالة حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها
____________________
(34/114)
وقال فى رواية رضا بن يحيى إن الأم والجدة أحق بالجارية حتى تتزوج قال ابو عبد الله فى ( ترغيب القاصد ) وان كانت جارية فالأب أحق بها بغير تخيير وعنه الأم أحق بها حتى تحيض
وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبى حنيفة ففى ( المدونة ( مذهب مالك أن الأم أحق بالولد مالم يبلغ سواء كان ذكرا أو أنثى فاذا بلغ وهو انثى نظرت فاذا كانت الأم فى حوز ومنعة وتحصن فهي أحق بها أبدا مالم تنكح وان بلغت أربعين سنة وإن لم تكن فى منع وحرز وتحصن أو كانت غير مرضية فى نفسها فللأب أخذها منها والوصى وكذلك الأولياء والوصى كالأب فى ذلك إذا أخذ إلى امانة وتحصن ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك قال الأم أحق بالجارية حتى تبلغ إلا أن تكون الأم غير مرضية فى نفسها وأدبها لولدها أخذت منها إذا بلغت الا أن تكون صغيرة لا يخاف عليها وقال أبو حنيفة الأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض ومن سوى الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حدا تشتهى ولفظ الحجازى حتى تستغنى كما فى الغلام مطلقا
وأما ( التخيير فى الجارية ) فهو قول الشافعى ولم أجده منقولا لاعن احمد ولاعن إسحاق كما نقل عنهما التخيير فى الغلام ولكن نقل عن الحسن بن صالح بن حيى أنها تخير اذا كانت كاعبا والتخيير فى فى الغلام ومذهب الشافعى وأحمد فى المشهور عنه واسحق للحديث الوارد
____________________
(34/115)
فى ذلك حيث ( خير النبى غلاما بين أبويه ) وهى قضية معينة ولم يرد عنه نص عام فى تخيير الولد مطلقا والحديث الوارد فى تخيير الجارية ضعيف مخالف لا جماعهم
والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة وتخيير رأى مصلحة كتخيير من يتصرف لغيره كالامام والولى فان الامام اذا خير فى الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين فيكون مصيبا فى اجتهاده حاكما بحكم الله ويكون له اجران وقد لا يصيبه فيثاب على استفراغ وسعه ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة كالذى ينزل أهل حصن على حكمه كما نزل بنوا قريظة على حكم النبى فلما سأله فيهم بنو عبدالأشهل قال ( الاترضون أن أجعل الأمر إلى سيدكم سعد بن معاذ ) فرضوا بذلك وطمع من كان يحب استبقاءهم أن سعدا يحابيهم لما كان بينه وبينهم فى الجاهلية من الموالاة فلما أتى سعد حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم فقال النبى ( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ) وهذا يقتضى أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكما لله فى نفس الأمر وإن كان لابد من إنفاذه
ومثل ما ثبت فى صحيح مسلم وغيره من حديث بريدة المشهور قال فيه ( واذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على
____________________
(34/116)
حكم الله فانك لا تدرى ما حكم الله فيهم ولكن انزلهم على حكمك وحكم اصحابك ) ولهذا قال الفقهاء انه إذا حاصر الامام حصنا فنزلوا على حكم حاكم جاز إذا كان رجلا حرا مسلما عدلا من أهل الاجتهاد فى أمر الجهاد ولا يحكم إلا بما فيه حظ الاسلام من قتل اورق أو فداء وتنازعوا فيما اذا حكم بالمن فأباه الامام هل يلزم حكمه أو لا يلزم أو يفرق بين المقاتلة والذرية على ثلاثة أقوال وإنما تنازعوا فى ذلك لظن المنازع أن المن لا حظ فيه للمسلمين
و ( المقصود ) أن تخيير الامام والحاكم الذى نزلوا على حكمه هو تخيير رأى ومصلحة يطلب أى الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله كما ينظر المجتهد فى أدلة المسائل فأى الدليلين كان أرجح اتبعه ولكن معنى قولنا ( تخيير ) انه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور فى كل وقت بل قد يتعين فعل هذا تارة وهذا تارة وقوله فى القرآن ( فإما منا بعد وإما فداء ) يقتضى فعل أحد الأمرين وذلك لا يمنع تغيير هذا فى حال وهذا فى حال كما فى قوله ( هل تربصون بنا إلا احدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ) فتربص أحد الأمرين لا يمتنع بعينه إذا كان الجهاد فرضا علينا بعض الأوقات فحينئذ يصيبه الله بعذاب بايدينا كما فى قوله ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم
____________________
(34/117)
ولهذا كان عند جميع العلماء قوله تعالى فى المحاربين { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } لا يقتضى ان الامام يخير تخيير مشيئة ففعل هذه الأربع مسائل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا فى حال وهذا فى حال ثم اكثرهم يقولون تلك الأحوال مضبوطة بالنص فان قتلوا تعين قتلهم وان أخذوا المال ولم يقتلوا تعين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف كما هو مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد وروى فى ذلك حديث مرفوع ومنهم من يقول التعيين باجتهاد الامام كقول مالك فاذا رأى أن القتل هو المصلحة قتل وإن لم يكن قد قتل
ومن هذا الباب ( تخيير الامام فى الأرض المفتوحة عنوة ) بين جعلها فيئا وبين جعلها غنيمة كما هو قول الأكثرين كأبى حنيفة والثورى وأبى عبيد وأحمد فى المشهور عنه فانهم قالوا ان رأى المصلحة جعلها غنيمة قسمها بين الغانمين كما قسم النبى صلى الله عليه وسلم خيبر وإن رأى أن لا يقسمها جاز كما لم يقسم النبى مكة مع أنه فتحها عنوة شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة وكما قاله جمهور العلماء ولأن خلفاءه بعده أبو بكر وعمر وعثمان فتحوا ما فتحوا من أرض العرب والروم وفارس كالعراق والشام ومصر وخراسان ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئا من العقار المغنوم بين الغانمين لا السواد ولا غير السواد بل جعل العقار فيئا للمسلمين داخلا فى قوله { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول }
____________________
(34/118)
الآية ولم يستأذنوا فى ذلك الغانمين بل طلب كثير من الغانمين قسم العقار فلم يجيبوهم إلى ذلك كما طلب بلال من عمر أن يقسم أرض الشام وطلب منه الزبير أن يقسم أرض مصر فلم يجيبوهم إلى ذلك ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدا من الغانمين فى ذلك
وهذا مما احتج به من جعل الأرض فيئا بنفس الفتح ومن ذلك نص مذهبه كاسماعيل بن إسحاق وقالوا الأرض ليست داخلة فى الغنيمة فان الله حرم على بنى اسرائيل المغانم وملكهم العقار فعلم أنه ليس فى المغانم وهذا القول هو الذى يذكر رواية عن أحمد كما ذكر عنه رواية ثالثة كقول الشافعى إنه يجب قسم العقار والمنقول لأن الجميع مغنوم وقال الشافعى إن مكة لم تفتح عنوة بل صلحا فلا يكون على منها حجة ومن حكى عنه أنه قال انها فتحت عنوة كصاحب ( الوسيط ) وغيره فقد غلط عليه وقال لأن السواد لا أدري ما أقول فيه إلا أن أظن فيه ظنا مقرونا بعلم وظن أن عمر استطاب الغانمين كما روى قيس بن حارثة وبسط هذا له موضع آخر
وقول الجمهور أعدل الأقاويل وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول وهم الذين قالوا نخير الامام بين الأمرين تخيير رأى ومصلحة لا تخيير شهوة ومشيئة وهكذا سائر ما يخير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية كناظر الوقف ووصى اليتيم والوكيل المطلق لا يخيرون تخيير مشيئة وشهوة بل تخيير اجتهاد ونظر وطلب الجواز الأصلح كالرجل المبتلى
____________________
(34/119)
بعدوين وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما فيبتدئ بماله أنفع كالامام فى تولية من يوليه من ولاة الحرب والحكم والمال يختار الأصلح فالأصلح للمسلمين ( فمن ولى رجلا على عصابة وهو يجد فيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين وهذا بخلاف من خير بين شيئين فله أن يفعل أيهما شاء كالمكفر إذا خير بين الاطعام والكسوة والعتق فانه وان كان أحد الخصال أفضل فيجوز له فعل المفضول وكذلك لابس الخف إذا خير بين المسح وبين الغسل وإن كان أحدهما أفضل وكذلك المصلى إذا خير بين الصلاة فى أول الوقت وآخره وإن كان أحدهما أفضل وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة وإن كان نفس الأكل والشرب واجبا عند الضرورة حتى إذا تعين المأكول وجب أكله وإن كان ميتة فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلها فى المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم
وفى ( كفارة المجامع فى رمضان ) هل هي على التخيير أو على الترتيب فيها قولان هما روايتان عن أحمد والأكثرون على أنها على الترتيب لكن الترتيب فيها ثبت بحكاية المجامع لا بلفظ عام فلهذا أقدم بعض العلماء على أن ألزم بعض الملوك بالصوم عينا وان الترتيب فيها ليس شرعا عاما بل هو من باب تنقيح المناط وقدم العتق فى حق من يكون عنده أصعب من الصيام كالأعراب وأما من كان العتق أسهل عليه فلا يجب تقديمه
____________________
(34/120)
وكذلك ( تخيير الحاج ) بين التمتع والافراد والقران عند الجمهور الذين يخيرون بين الثلاثة وتخيير المسافرين بين الفطر والصوم عند الجمهور وأما من يقول لا يجوز أن يحج إلا متمتعا أو أنه يتعين الفطر فى السفر كما تقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة فلا يجيء هذا على أصلهم وكذلك ( القصر ) عند الجمهور الذين يقولون ليس للمسافر أن يصلى الا ركعتين ليس له أن يصلى أربعا فان النبى لم يصل فى السفر قط الاركعتين ولا أحد من أصحابه فى حياته وحديث عائشة الذى فيه أنها صلت فى حياته السفر أربعا كذب عند حذاق أهل العلم بالحديث كما قد بسط فى موضعه
إذ المقصود هنا أن ( التخيير فى الشرع نوعان ) فمن خير فيما يفعله لغيره بولايته عليه وبوكالة مطلقة لم يبح له فيها فعل ما شاء بل عليه أن يختار الأصلح وأما من تصرف لنفسه فتارة يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الأقاويل وأصلح الاحكام فى نفس الأمر وتارة يبيح له ما شاء من الأنواع التى خير بينها كما تقدم هذا اذا كان مكلفا وأما ( الصبى المميز ) يخير تخيير شهوة حيث ما كان كل من الأبوين نظير الآخر ولم يضبط فى حقه حكم عام للأب أو للأم فلا يمكن أن يقال
____________________
(34/121)
كل أب فهو أصلح للمميز من الأم ولاكل أم هي أصلح له من الأب بل قد يكون بعض الآباء أصلح وبعض الأمهات أصلح وقد يكون الأب أصلح فى حال والأم أصلح فى حال فلم يمكن أن يعين أحدهما فى هذا بخلاف الصغير فان الأم أصلح له من الأب لأن النساء أرفق بالصغير وأخبر بتغذيته وحمله وأصبر على ذلك وأرحم به فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر فى هذا الموضع فعينت الأم فى حق الطفل غير المميز بالشرع
ولكن يبقى ( تنقيح المناط ) هل عينهن الشارع لكون قرابة الأم مقدمة على قرابة الأب فى الحضانة أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال فقط وهذا فيه قولان للعلماء يظهر أمرهما فى تقديم نساء العصبة على أقارب الأم مثل أم الأم وأم الأب والأخت من الأم والأخت من الأب ومثل العمة والخالة ونحو ذلك هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد وأرجح القولين فى الحجة تقديم نساء العصبة وهو الذى ذكره الخرقى فى ( مختصره ) فى العمة والخالة
وعلى هذا أم الأب مقدمة على أم الأم والأخت من الأب مقدمة على الأخت من الأم والعمة مقدمة على الخالة كما تقدم وأقارب الأب من الرجال على أقارب الأم والأخ للأب أولى من الأخ للأم والعم أولى من الخال بل قد قيل أنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال والحضانة
____________________
(34/122)
لا تثبت إلا لرجل من العصبة أو لامرأة وارثة أو مدلية بعصبة أو وراث فان عدموا فالحاكم وعلى الوجه الثانى فلا حضانة للرجال من أقارب الأم وهذان الوجهان فى مذهب الشافعى وأحمد
فلو كانت جهات الأقربة راجحة لترجح رجالها ونساؤها فلما لم يترجح رجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها أيضا لأن مجمع أصول الشرع إنما يقدم أقارب الأب فى الميراث والعقد والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك ولم يقدم الشارع قرابة الأم فى حكم من الأحكام فمن قدمهن فى الحضانة فقد خالف أصول الشريعة ولكن قدم الأم لأنها امرأة وجنس النساء فى الحضانة مقدمات على الرجال وهذا يقتضى تقديم الجدة أم الأب على الجد كما قدم الأم على الأب وتقديم اخواته على اخوته وعماته على أعمامه وخالاته على أخواله هذا هو القياس والاعتبار الصحيح
وأما تقديم جنس نساء الأم على نساء الأب فمخالف للأصول والعقول ولهذا كان من قال هذا موضع يتناقض ولا يطرد أصله ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصوده فى ذلك أقوالا متناقضة حتى توجد فى الحضانة من الأقوال المتناقضة اكثر مما يوجد فى غيرها من هذا الجنس فمنهم من يقدم أم الأم على أم الأب كأحد القولين من مذهب أحمد وهو عند مالك والشافعى وأبى حنيفة ثم من هؤلاء من يقدم الأخت من الأب على الأخت
____________________
(34/123)
من الأم ويقدم الخالة على العمة كقول الشافعى فى الجديد وطائفة من أصحاب أحمد وبنوا قولهم على أن الخالات مقدمة على العمات لكونهن من جهة الأم ثم قالوا فى العمات والخالات والأخوات من كانت لأبوين أولى ثم من كانت لأب ثم من كانت لأم
وهذا الذى قالوه هنا موافق لأصول الشرع لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم قرابة الأم ظهر التناقض وهم أيضا قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على الخالات والأخوات للأم وهذا موافق لأصول الشرع لكنه يناقض هذا الأصل ولهذا لايوافق القول الآخر أن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب كقول الشافعى فى القديم وهذا أطرد لأصلهم لكنه فى غاية المناقضة لأصول الشرع
( وطائفة اخرى ) طردت أصلها فقدمت من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب لقول أبى حنيفة والمزنى وبن سريج وبالغ بعض هؤلاء فى طرد قياسه حتى قدم الخالة على الأخت من الأب لقول زفر ورواية عن أبى حنيفة ووافقها بن سريج ولكن أبو يوسف استشنع ذلك فقدم الأخت من الأب رواه عن أبى حنيفة وروى عن زفر أنه امعن فى طرد قياسه حتى قال ان الخالة أولى من الجدة أم الأب
ويرون عن أبى حنيفة أنه قال لا تأخذوا بمقاييس زفر فانكم اذا أخدتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام وكان يقول من القياس
____________________
(34/124)
قياس أقبح من البول فى المسجد وزفر كان معروفا بالامعان فى طرد قياسه إلى الاصل الثابت فى الذى قاس عليه ومن علة الحكم فى الأصل ( وهو جواب سؤال المطالبة ) فمن أحكم هذا الأصل أستقام قياسه
كما أن زفر اعتقدان النكاح إلى أجل يبطل فيه التوقيت ويصح النكاح لازما وخرج بعضهم ذلك قولا فى مذهب أحمد فكان مضمون هذا القول أن نكاح المتعة يصح لازما غير موقت وهو خلاف المنصوص وخلاف إجماع السلف والأمة إذا اختلفت فى مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم أحداث قول يناقض القولين ويتضمن اجماع السلف على الخطأ والعدول عن الصواب وليس فى السلف من يقول فى المتعة إلا أنها باطلة أو تصح مؤجلة فالقول بلزومها مطلقا خلاف الاجماع
وسبب هذا القول اعتقادهم أن كل شرط فاسد فى النكاح فإنه يبطل وينعقد النكاح لازما مع إبطال شرط التحليل وامثال ذلك وقد ثبت فى الصححيين عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ان احق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) فدل النص على أن الوفاء بالشروط فى النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط فى البيع فاذا كانت الشروط الفاسدة فى البيع لا يلزم العقد بدونها بل اما أن يبطل العقد واما ان يثبت الخيار لمن فات غرضه بالاشتراط اذا بطل الشرط فكيف بالمشروط فى النكاح
وأصل ( عمدتهم ) كون النكاح يصح بدون تقدير الصداق كما ثبت بالكتاب والسنة والاجماع فقاسوا الذى يشرط فيه نفى المهر
____________________
(34/125)
على النكاح الذى لم يزل تقدير الصداق فيه كما فعل أصحاب أبى حنيفة والشافعى وأكثر متأخرى أصحاب أحمد ثم طرد أبو حنيفة قياسه فصحح ( نكاح الشغار ) بناء على أنه لا يوجب إشغاره عن المهر وأما الشافعى ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلفوا الفرق بين الشغار وغيره لأن فيه تشريكا فى البضع أو تعليق العقد أو غير ذلك مما قد بسط فى غير هذا الموضع وبين فيه أن كل هذه فروق غير مؤثرة وان الصواب مذهب اهل المدينة مالك وغيره وهو المنصوص عن أحمد فى عامة اجوبته وعامة اكثر قدماء اصحابه أن العلة فى افساده بشرط اشغار النكاح عن المهر وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفى المهرأو مهر فاسد فان الله فرض فيه المهر فلم يحل لغير الرسول النكاح بلامهر فمن تزوج بشرط انه لا يجب مهر فلم يعتبر الذى أذن الله فان الله انما اباح العقد لمن يبتغى بماله محصنا غير مسافح كما قال تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } فمن طلب النكاح بلامهر فلم يفعل ما أحل الله وهذا بخلاف من اعتقد انه لابد من مهر لكن لم يقدره كما قال تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } فهذا نكاح المهر المعروف وهو مهر المثل
____________________
(34/126)
وهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع فان البيع بثمن المثل وهو السعر أو الاجارة بثمن المثل لا يصح وقد سلم لهم هذا الاصل الذى قاسوا عليه الشافعى وكثير من أصحاب أحمد فى البيع
وأما الاجارة فاصحاب أبى حنيفة ومالك واحمد وغيرهم يقولون يجب اجرة المثل فى ما جرت العادة فيه ومثل ذلك كمن دخل حمام حمامى يدخلها الناس بالكرا أو يسكن فى خان أو حجرة عادتها بذلك أو دفع طعامه أو خبزه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة أو بناية إلى من يعمل بالأجرة أوركب دابة مكارى يكارى بالاجرة أو سفينة ملاح يركب بالأجرة فإن هذه إجارة عند جمهور العلماء ويجب فيها اجرة المثل وان لم يشترط ذلك فهذه اجارة عن المثل وكذلك إذا ابتاع طعاما مثل ما ينقطع به السعر او بسعر ما يبيعون الناس او بما اشتراه من بلده أو برقمه فهذا يجوز فى احد القولين فى مذهب احمد وغيره وقد نص احمد على هذه المسائل ومثلها فى غير هذا الموضوع وان كثيرا من متأخرى أصحابه لا يوجد فى كتبهم الا القول بفساد هذه العقود لقول الشافعى وغيره وبسط هذه المسائل له مواضع آخر
والمقصود هنا كان ( مسائل الحضانة ) وان الذين اعتقدوا ان الأم قدمت لتقدم قرابة الأم لما كان اصلهم ضعيفا كانت الفروع اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم بل الصواب بلاريب أنها
____________________
(34/127)
قدمت لكونها امرأة فتكون المرأة أحق بحضانة الصغير من الرجل فتقدم الأم على الأب والجدة على الجد والأخت على الأخ والخالة على الخال والعمة على العم وأما اذا اجتمع امرأة بعيدة ورجل قريب فهذا بسطه فى موضع آخر إذ المقصود هنا ذكرمسألة الصغير المميز والفرق بين الصبى والصبية
فتخيير الصبى الذى وردت به السنة أولى من تعيين أحب الأبوبين له ولهذا كان تعيين الأب كما قاله أبو حنيفة واحمد الام كما قاله مالك وأحمد فى رواية والتخيير تخيير شهوة ولهذا قالوا إذا اختار الأب مدة ثم اختار الأم فله ذلك حتى قالوا متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نقل إليه وكذلك إن اختار أبدا وهذا هو قول القائلين بالتخيير الحسن بن صالح والشافعى وأحمد بن حنبل وقالوا إذا اختار الأم كان عندها ليلا وأما بالنهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه هذا هو مذهب الشافعى وأحمد وكذلك قال مالك وهو يقول يكون عندها بلا تخيير والأب يتعاهده عندها وأدبه وبعثه للمكتب ولا يبيت إلا عند الأم قال أصحاب الشافعى وأحمد إن اختار الأب كان عنده ليلا ونهارا ولم يمنع من زيارة أمه ولا تمنع الأم من تمريضه إذا اعتل
فأما ( البنت ) إذا خيرت فكانت عند الأم تارة وعند الأب تارة أفضى ذلك إلى كثرة بروزها وتبرجها وانتقالها من مكان إلى مكان
____________________
(34/128)
ولا يبقى الأب موكلا بحفظها ولا الأم موكلة بحفظها وقد عرف بالعادة أن ما يتناوب الناس على حفظه ضاع ومن الأمثال السائرة ( لا يصلح القدر بين طباخين ) ( وأيضا ( فاختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر فى الاحسان والصيانة فلا يبقى الأب تام الرغبة ولا الأم تامة الرغبة فى حفظها وليس الذكر كالأنثى كما قالت امرأة عمران { رب إني نذرت لك ما في بطني } { إني وضعتها أنثى } { وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب } إلى قوله { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها حتى أسرعوا إلى كفالتها فكيف غيرها من النساء وهذا أمر معروف بالتجربة أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة مالا يحتاج إليه الصبى وكل ما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها
ولهذا كان لباسها المشروع لباسا يسترها ولعن من يلبس لباس الرجال وقال لأم سلمة فى عصابتها ( لية لا ليتين ) رواه أبو داود وغيره وقال فى الحديث الصحيح ( صنفان من أهل النار من أمتى لم أرهما بعد نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله
____________________
(34/129)
و ( أيضا ) يأمرون المرأة فى الصلاة أن تجمع ولا تجافى بين أعضائها وتتربع ولا تفترش وفى الاحرام لا ترفع صوتها الا بقدر ما تسمع رفيقتها وأن لا ترقى فوق الصفا والمروة كل ذلك لتحقيق سترها وصيانتها ونهيت أن تسافرإلا مع زوج أو ذى محرم لحاجتها فى حفظها إلى الرجال مع كبرها ومعرفتها فكيف إذا كانت صغيرة مميزة وقد بلغت سن ثوران الشهوة فيها وهى قابلة للانخداع وفى الحديث ( النساء لحم على وظم إلا ماذب عنه ) فهذا قياس أن مثل هذه الصفة المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها وترددها بين الأبوين مما يخل بذلك من جهة أنها هي لا يجتمع قلبها على مكان معين ولا يجتمع قلب أحد الأبوين على حفظها ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارة وهذا تارة يخل بكمال حفظها وهو ذريعة إلى ظهورها وبروزها فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد الأبوين مطلقا لا تمكن من التخيير كما قال ذلك جمهور علماء المسلمين مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم وليس فى تخييرها نص ولا قياس صحيح والفرق ظاهر بين تخييرها وتخيير الابن لاسيما والذكر محبوب مرغوب والبنت مزهود فيها فأحد الوالدين قد يزهد فيها مع رغبتها فيه فكيف مع زهدها فيه فالأصلح لها لزوم أحدهما لا التردد بينهما
ثم هناك يحصل الاجتهاد فى تعيين أحدهما فمن عين الأم كمالك وأبى حنيفة وأحمد فى إحدى الروايتين لابد أن يراعوا مع ذلك صيانة الأم لها ولهذا قالوا ما ذكره مالك والليث وغيرهما إذا لم تكن الأم فى موضع حرز
____________________
(34/130)
وتحصين أو كانت غير مرضية فللأب أخذها منها وهذا هو الذى راعاه احمد فى الراوية المشهورة عن أصحابه فإنه اذا كان لابد من رعاية حفظها وصيانتها وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظة لها بلا ريب فالأب أقدر على حفظها وصيانتها وهى مميزة لا تحتاج فى بدنها إلى أحد والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم
وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب اذا لم يكن عليها فى ذلك حرز فلو قدر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها أو مهمل لحفظها وصيانتها فانه يقدم الأم فى هذه الحالة
فكل من قدمناه من الأبوين انما نقدمه اذا حصل به مصلحتها أواندفعت به مفسدتها فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى بها بلا ريب حتى الصغير إذا اختار أحد أبويه وقدمناه إنما نقدمه بشرط حصول مصلحته وزوال مفسدته
فلو قدرنا أن الأب ديوث لا يصونه والأم تصونه لم نلتفت إلى اختيار الصبى فإنه ضعيف العقل قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد ويكون الصبى قصده الفجور ومعاشرة الفجار وترك ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه والآخر قد يرده ويصلحه ومتى كان الأمر كذلك فلا ريب أنه لا يمكن من يفسد معه حاله
والنبى قال ( مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم فى المضاجع ) فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك والآخر
____________________
(34/131)
لا يأمره كان عند الذى يأمره بذلك دون الآخر لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله فى تربيته والآخر عاص لله ورسوله فلا نقدم من يعصى الله فيه على من يطع الله فيه بل يجب اذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسوله ويترك ما حرم الله ورسوله والآخر لا يفعل معه الواجب أو يفعل معه الحرام قدم من يفعل الواجب ولو اختار الصبى غيره بل ذلك العاصى لاولاية له عليه بحال بل كل من لم يقم بالواجب فى ولايته فلا ولاية له عليه بل إما ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب وإما أن نضم إليه من يقوم معه بالواجب فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين لا تحصل طاعة الله ورسوله فى حقه ومع حصوله عند الآخر ( تحصل ) قدم الأول قطعا
وليس هذا الحق من جنس الميراث الذى يحصل بالرحم والنكاح والولاية ان كان الوارث حاجزا أو عاجزا بل هو من جنس ( الولاية ) ولاية النكاح والمال التى لابد فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الامكان واذا قدر أن الأب تزوج ضرة وهى تترك عند ضرة أمها لا تعمل مصلحتها بل تؤذيها أو تقصر فى مصلحتها وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها فالحضانة هنا للأم ولو قدر أن التخيير مشروع وانها اختارت الأم فكيف اذا لم يكن كذلك
ومما ينبغى أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام فى تقديم أحد الأبوين مطلقا ولا تخيير أحد الأبوين مطلقا والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا بل مع العدوان والتفريط لا يقدم من يكون كذلك على البر العادل المحسن القائم بالواجب والله أعلم
____________________
(34/132)
( وسئل رحمه الله ( عن رجل له ولد كبير فسافر مع كرائم أمواله فى البحر المالح وله آخر مراهق من أم أخرى مطلقة منه ولها أب وأم والولد عندهم مقيم فأراد والده أخذه وتسفيره صحبة أخيه بغير رضا الوالدة وغير رضا الولد فهل له ذلك
فأجاب يخير الولد بين أبويه فان أختار المقام عند أمه وهى غير مزوجة كان عندها ولم يكن للأب تسفيره لكن يكون عند أبيه نهارا ليعلمه ويؤدبه وعند أمه ليلا وان اختار أن يكون عند الأب كان عنده وإذا كان عند الأب ورأى من المصلحة له تسفيره ولم يكن فى ذلك ضرر على الولد فله ذلك والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل تزوج بامراة ومعها بنت وتوفيت الزوجة وبقيت البنت عنده رباها وقد تعرض بعض الجند لأخذها فهل يجوز ذلك
الجواب ليس للجند عليها ولاية بمجرد ذلك فاذا لم يكن لها من يستحق الحضانة بالنسب فمن كان أصلح لها حضنها وزوج أمها محرم لها وأما الجند فليس محرما لها فاذا كان يحضنها حضانة تصلحها لم تنقل من عنده لأجنبى لا يحل له النظر اليها والخلوة بها
____________________
(34/133)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله ( فصل ( إذا كان الابن فى حضانة أمه فانفقت عليه تنوى بذلك الرجوع على الأب فلها أن ترجع على الأب فى أظهر قولى العلماء وهو مذهب مالك وأحمد فى ظاهر مذهبه الذى عليه قدماء أصحابه فان من أصلهما أن من أدى عن غيره واجبا رجع عليه وإن فعله بغير اذن مثل أن يقضى دينه أو ينفق على عبده أو ( يخشى أن ) يقتله العدو وقد قال تعالى ( فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) فأمر بايتاء الأجر بمجرد الارضاع ولم يشترط عقدا ولا إذنا فان تبرعت بذلك لم يكن لها ان ترجع فاذا شرط عليها أنها إن سافرت بالبنت لم يكن لها نفقة ورضيت بذلك فسافرت بها لم يكن لها نفقة ولو نوت الرجوع لأنها ظالمة متعدية بالسفر به فانه ليس لها أن تسافر به بغير إذن أبيه وهو لم يأذن لها فى السفر إلا إذا كانت متبرعة بالنفقة فمتى سافرت وطلبت الرجوع بالنفقة لم يكن لها ذلك والله أعلم
____________________
(34/134)
& باب الجنايات
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن القصاص
فأجاب القصاص ثابت بين المسلمين باتفاق الأمة يقتص للهاشمي المسلم من الحبشي المسلم وللحبشي المسلم من الهاشمي المسلم في الدماء والأموال والأعراض وغير ذلك بحيث يجوز القصاص في الأعراض يجوز للرجل أن يقتص فإذا قال له الهاشمي يا كلب قال له يا كلب وإذا قال لعنك الله قال له لعنك الله ويجوز ذلك وهذا من معنى قوله تعالى { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور }
ولو كذب عليه لم يكن له أن يكذب عليه وكذلك من سب أبا رجل فليس له أن يسب أباه سواء كان هاشميا أو غير هاشمي فإن أبا الساب
____________________
(34/135)
لم يظلمه وإنما ظلمه الساب { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ولكن إن سب مسلم أبا مسلم فإنه يعزر على ذلك فالهاشمي إذا سب أبا مسلم عزر الهاشمي على ذلك
ومن سب أبا هاشمي عزر على ذلك ولا يجعل ذلك سبا للنبي ولو سب أباه وجده لم يحمل على النبي فإن اللفظ ليس ظاهرا في ذلك إذ الجد المطلق هو أبو الأب وإذا سمي العبد جدا فأجداده كثيرة فلا يتعين واحد وسب النبي كفر يوجب القتل فلا يزول الإيمان المتعين بالشك ولا يباح الدم المعصوم بالشك لا سيما والغالب من حال المسلم هو أن لا يقصد النبي فلا لفظه ولا حاله يقتضي ذلك ولا يقبل عليه قول من ادعى أنه قصد الرسول بلا حجة والله أعلم
وسئل شيخ الإسلام عن حكم قتل المتعمد وما هو هل إن قتله على مال أو حقد أو على أي شي يكون قتل المتعمد وقال قائل إن كان قتل على مال فما هو هذا أو على حقد أو على دين فما هو متعمد فقال القائل فالمتعمد قال إذا قتله على دين الإسلام لا يكون مسلما
____________________
(34/136)
فأجاب الحمد لله أما إذا قتله على دين الإسلام مثل ما يقاتل النصراني المسلمين على دينهم فهذا كافر شر من الكافر المعاهد فإن هذا كافر محارب بمنزلة الكفار الذين يقاتلون النبي وأصحابه وهؤلاء مخلدون في جهنم كتخليد غيرهم من الكفار
وأما إذا قتله قتلا محرما لعداوة أو مال أو خصومة ونحو ذلك فهذا من الكبائر ولا يكفر بمجرد ذلك عند أهل السنة والجماعة وإنما يكفر بمثل هذا الخوارج ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد عند أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة الذين يقولون بتخليد فساق الملة وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } وجوابهم على أنها محمولة على المتعمد لقتله على إيمانه وأكثر الناس لم يحملوها على هذا بل قالوا هذا وعيد مطلق قد فسره قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وفي ذلك حكاية عن بعض أهل السنة أنه كان في مجلس فيه عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة فقال عمرو يؤتى بي يوم القيامة فيقال لي يا عمروا من أين قلت إني لا أغفر لقاتل فأقول أنت يا رب قلت { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } قال فقلت له فإن قال لك فإني قلت { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا فسكت عمرو بن عبيد
____________________
(34/137)
وسئل رحمه الله تعالى عن القاتل عمدا أو خطأهل تدفع الكفارة المذكورة في القرآن { فصيام شهرين متتابعين } أو يطالب بدية القاتل
فأجاب قتل الخطأ لا يجب فيه إلا الدية والكفارة ولا إثم فيه وأما القاتل عمدا فعليه الإثم فإذا عفى عنه أولياء المقتول أو أخذوا الدية لم يسقط بذلك حق المقتول في الآخرة وإذا قتلوه ففيه نزاع في مذهب أحمد والأظهر أن لا يسقط لكن القاتل إذا كثرت حسناته أخذ منه بعضها ما يرضي به المقتول أو يعوضه الله من عنده إذا تاب القاتل توبة نصوحا
وقاتل الخطأ تجب عليه الدية بنص القرآن واتفاق الأمة والدية تجب للمسلم والمعاهد كما قد دل عليه القرآن وهو قول السلف والأئمة ولا يعرف فيه خلاف متقدم لكن بعض متأخري الظاهرية زعم أنه الذي لا دية له
____________________
(34/138)
وأما القاتل عمدا ففيه القود فإن اصطلحوا على الدية جاز ذلك بالنص والإجماع فكانت الدية من مال القاتل بخلاف الخطأ فإن ديته على عاقلته
وأما الكفارة فجمهور العلماء يقولون قتل العمد أعظم من أن يكفر كذلك قالوا في اليمين الغموس هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه كما اتفقوا كلهم على أن الزنى أعظم من أن يكفر فإنما وجبت الكفارة بوطء المظاهر والوطء في رمضان وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى بل تجب الكفارة في العمد واليمين الغموس واتفقوا على أن الإثم لا يسقط بمجرد الكفارة
وسئل رحمه الله تعالى عن جماعة اشتركوا في قتل رجل وله ورثة صغار وكبار فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم أم لا وإذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فهل يقتلون أم لا
فأجاب إذا اشتركوا في قتله وجب القود على جميعهم باتفاق الأئمة الأربعة وللورثة أن يقتلوا ولهم أن يعفوا فإذا اتفق الكبار من الورثة على
____________________
(34/139)
قتلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وكذا إذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فيقتلون
وسئل رحمه الله عن الإنسان يقتل مؤمنا متعمدا أو خطأ وأخذ منه القصاص في الدنيا أولياء المقتول والسلطان فهل عليه القصاص في الآخرة أم لا وقد قال تعالى { النفس بالنفس }
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما القاتل خطأ فلا يؤخذ منه قصاص لا في الدنيا ولا في الآخرة لكن الواجب في ذلك الكفارة ودية مسلمة إلى أهل القتيل إلا أن يصدقوا وأما القاتل عمدا إذا اقتص منه في الدنيا فهل للمقتول أن يستوفي حقه في الآخرة فيه قولان في مذهب أحمد وكذلك غيره فيما أظن من يقول لا حق له عليه لأن الذي عليه استوفى منه في الدنيا ومنهم من يقول بل عليه حق فإن حقه لم يسقط بقتل الورثة كما لم يسقط حق الله بذلك وكما لا يسقط حق المظلوم الذي غصب ماله وأعيد إلى ورثته بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الإنتفاع به في حياته والله أعلم
____________________
(34/140)
وسئل رحمه الله عن رجل قتل رجلا عمدا وللمقتول بنت عمرها خمس سنين وزوجته حامل منه وأبناء عم فهل يجوز أن يقتص منه قبل بلوغ البنت ووضع الحمل أم لا
فأجاب الحمد لله ليس لسائر الورثة قبل وضع الحمل أن يقتصوا منه إلا عند مالك فإن عنده للعصبة أن يقتصوا منه قبل ذلك أما إن وضعت بنتا أو بنتين بحيث يكون لا بني العم نصيب من التركة كان للعصبة أن يقتصوا قبل بلوغ البنات عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية ولم يجز لهن القصاص في المشهور عنه وهو قول الشافعي
وهل لولي البنات كالحاكم أن يقوم مقامهن في الإستيفاء والصلح على مال روايتان عن أحمد أحداهما وهو قول جمهور العلماء جواز ذلك والثانية لا يجوز القصاص كقول الشافعي لكن إذا كانت البنات محاويج هل لوليهن المصالحة على مال لهن فيه خلاف مشهور في مذهب الشافعي
____________________
(34/141)
وسئل رحمه الله عن رجل قتله جماعة وكان اثنان حاضران قتله واتفق الجماعة على قتله وقاضي الناحية عاين الضرب فيه ونواب الولاية
فأجاب الحمد لله إذا قامت البينة على من ضربه حتى مات واحدا كان أو أكثر فإن لأولياء الدم أن يقتلوهم كلهم ولهم أن يقتلوا بعضهم وإن لم تعلم عين القاتل فلأولياء المقتول أن يحلفوا على واحد بعينه أنه قتله ويحكم لهم بالدم والله أعلم
وسئل رحمه الله عن جماعة اجتمعوا وتحالفوا على قتل رجل مسلم وقد أخذوا معهم جماعة أخرى ما حضروا تحليفهم وتقدموا إلى الشخص وضربوه بالسيف والدبابيس ورموه في البحر فهل القصاص عليهم جميعهم أم لا
فأجاب إذا اشتركوا في قتل معصوم بحيث أنهم جميعهم باشروا قتله وجب القود عليهم جميعهم وإن كان بعضهم قد باشر وبعضهم قائم يحرس
____________________
(34/142)
المباشر ويعاونه ففيها قولان أحدهما لا يجب القود إلا على المباشر وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد بحيث أنه لا بد في فعل كل شخص من أن يكون صالحا للزهوق والثاني يجب على الجميع وهو قول مالك وإن كان قتله لغرض خاص مثل أن يكون بينهم عداوة أو خصومة أو يكرهونه على فعل لا يبيح قتله فهنا القود لوارثه إن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية وإن كان الوارث صغيرا لم يبلغ فلمن له الولاية عليه وإن لم يكن له ولي فالسلطان وليه والحاكم نائبه في أحد القولين للعلماء كمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وفي القول الثاني لا حتى يبلغ وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى
وسئل رحمه الله عمن اتفق على قتله أولاده وجواره ورجل أجنبي فما حكم الله فيهم
فأجاب إذا اشتركوا في قتله جاز قتلهم جميعهم والأمر في ذلك ليس للمشاركين في قتله بل لغيرهم من ورثته فإن كان له أخوة كانوا هم أولياءه وكانوا أيضا الوارثين لماله فإن القاتل لا يرث المقتول وليس للسلطان حق لا في دمه ولا في ماله بل الأخوة لهم الخيار إن شاء واقتلوا جميع المشتركين في قتله البالغ منهم وإن شاؤوا قتلوا بعضهم وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وأما المباشرون لقتله فيجوز قتلهم باتفاق الأئمة
____________________
(34/143)
وأما الذين أعانوا بمثل إدخال الرجل إلى البيت وحفظ الأبواب ونحو ذلك ففي قتلهم قولان للعلماء ويجوز قتلهم في مذهب مالك وغيره والممسك يقتل في مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهما ولا ميراث لهما وإن كان الصغار من أولاده أعانوا أيضا على قتله لم يكن دمه إليهم ولا إلى وليهم بل إلى الأخوة وأما ميراثهم من ماله ففيه نزاع والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد أنهم لا يرثون من ماله والصغار يعاقبون بالتأديب ولا يقتلون ومذهب أبي حنيفة ومالك الصغار يرثون من ماله والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجلين تضاربا وتخانقا فوقع أحدهما فمات فما يجب عليه
فأجاب الحمد لله رب العالمين إذا خنقه الخنق الذي يموت به المرء غالبا وجب القود عليه عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة ولو ادعى أن هذا لا يقتل غالبا لم يقبل منه بغير حجة فأما إن كان أحدهما قد غشي عليه بعد الخنق ورفسه الآخر برجله حتى خرج من فمه شيء فمات فهذا يجب عليه القود بلا ريب فإن هذا قاتل نفسا عمدا فيجب عليه القود إذا كان المقتول يكافؤه بأن يكون حرا مسلما فيسلم إلى ورثة المقتول إن شاؤوا أن يقتلوه وإن شاؤوا عفوا عنه وإن شاؤوا أخذوا الدية
____________________
(34/144)
وسئل رحمه الله عن رجلين تخاصما وتقابضا فقام واحد ونطح الآخر في أنفه فجرى دمه فقام الذي جرى دمه خنقه ورفسه برجله في مخاصيه فوقع ميتا
فأجاب يجب القود على الخانق الذي رفس الآخر في أنثييه فإن مثل هذا الفعل قد يقتل غالبا فإن موته بهذا الفعل دليل على أنه فعل به ما يقتل غالبا والفعل الذي يقتل غالبا يجب به القود في مذهب مالك والشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة مثل ما لو ضربه في أنثييه حتى مات فيجب القود ولو خنقه حتى مات وجب القود فكيف إذا اجتمعا وولي المقتول مخير إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا عنه وليس لولي الأمر أن يأخذ من القاتل شيئا لنفسه ولا لبيت المال وإنما الحق في ذلك لأولياء المقتول
وسئل رحمه الله عمن ضرب رجلا ضربة فمكث زمانا ثم مات والمدة التي مكث فيها كان ضعيفا من الضربة ما الذي يجب عليه
فأجاب الحمد لله رب العالمين إذا ضربه عدوانا فهذا شبه عمد فيه دية مغلظة ولا قود فيه وهذا إن لم يكن موته من الضربة والله أعلم
____________________
(34/145)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يهودي قتله مسلم فهل يقتل به أو ماذا يجب عليه
فأجاب الحمد لله لا قصاص عليه عند أئمة المسلمين ولا يجوز قتل الذمي بغير حق فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال لا يقتل مسلم بكافر ولكن تجب عليه الدية فقيل الدية الواجبة نصف دية المسلم وقيل ثلث ديته وقيل يفرق بين العمد والخطأ فيجب في العمد مثل دية المسلم ويروي ذلك عن عثمان بن عفان أن مسلما قتل ذميا فغلظ عليه وأوجب عليه كمال الدية وفي الخطأ نصف الدية ففي السنن عن النبي أنه جعل دية الذمي نصف دية المسلم وعلى كل حال تجب كفارة القتل أيضا وهي عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين
وسئل رحمه الله عن طائفة تسمى العشيرة قيس ويمن يكثر القتل بينهم ولا يبالون به وإذا طلب منهم القاتل أحضروا شخصا غير القاتل يتفقون معه على أن يعترف
____________________
(34/146)
بالقتل عند ولي الأمر فإذا اعترف جهزوا إلى المتولي من يدعي أنه من قرابة المقتول ويقول أنا قد أبريت هذا القاتل مما استحقه عليه ويجعلون ذلك ذريعة إلى سفك الدماء وإقامة الفتن فإذا رأى ولي الأمر وضع دية المقتول الذي لا يعرف قاتله من الطوائف الذين أثبت أسمائهم في الديوان على جميع الطوائف منهم له ذلك أم لا أو رأى وضع ذلك على أهل محلة القاتل كما نقل عن بعض الأئمة رضي الله عنهم أو رأى تعزير هؤلاء العشير عند إظهارهم الفتن وسفك الدماء والفساد بوضع مال عليهم يؤخذ منهم ليكف نفوسهم العادية عن ذلك كله فهل له ذلك أم لا وهل يثاب على ذلك أفتونا مأجورين
فأجاب أيده الله الحمد لله أما إذا عرف القاتل فلا توضع الدية على أهل مكان المقتول باتفاق الأئمة وأما إذا لم يعرف قاتله لا ببينة ولا إقرار ففي مثل هذا تشرع القسامة فإذا كان هناك لوث حلف المدعون خمسين يمينا عند الجمهور مالك والشافعي وأحمد كما ثبت عن النبي في قصة القتيل الذي وجد بخيبر فإن لم يحلفوا حلف المدعي عليه ومذهب أبي حنيفة يحلف المدعي عليهم أولا فإن مذهبه أن اليمين لا تكون إلا في جانب المدعى عليه والجمهور يقولون هي في جنب أقوى المتداعيين
فأما إذا عرف القاتل فإن كان قتله لأخذ مال فهو محارب يقتله الإمام حدا وليس لأحد أن يعفو عنه لا أولياء المقتول ولا غيرهم وإن قتل لأمر خاص فهذا أمره إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا عفوا عنه وللإمام في مذهب
____________________
(34/147)
مالك أن يجلده مائة ويحبسه سنة فهذا التعزير يحصل المقصود وعلى هذا فإذا كان أولياء المقتول قد رضوا بقتل صاحبهم فلا أرغم الله إلا بآنافهم وإذا قيل توضع الدية في بعض الصور على أهل المكان مع القسامة في الدية لورثة المقتول لا لبيت المال ولم يقل أحد من الأئمة أن دية المقتول لبيت المال وكذلك لا توضع الدية بدون قسامة باتفاق الأئمة وهؤلاء المعروفون بالفتن والفساد لولي الأمر أن يمسك منهم من عرف بذلك فيحبسه وله أن ينقله إلى أرض أخرى ليكف بذلك عدوانه وله أن يعزر أيضا من ظهر منه الشر ليكف به شره وعدوانه ففي العقوبات الجارية على سنن العدل والشرع ما يعصم الدماء والأموال ويغني ولاة الأمور عن وضع جبايات تفسد العباد والبلاد ومن اتهم بقتل وكان معروفا بالفجور فلولي الأمر عند طائفة من العلماء أن يعاقبه تعزيزا على فجوره وتعزيرا له وبهذا وأمثاله يحصل مقصود السياسة العادلة والله أعلم
وسئل رحمه الله عمن قال أنا ضاربه والله قاتله
فأجاب الحمد لله هذا يؤاخذ بإقراره ويجب عليه ما يجب على القاتل وأما قوله والله قاتله إن أراد به أن الله قابض روحه أو أن الله هو المميت كل أحد وهو خالق أفعال العباد ونحو ذلك فهذا لا يندفع عنه موجب القتل بذلك بل يجب عليه ما يجب على القاتل
____________________
(34/148)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل راكب فرس مر به دباب ومعه دب فجفل الفرس ورمى راكبه ثم هرب ورمى رجلا فمات
فأجاب لا ضمان على صاحب الفرس والحالة هذه لكن الدباب عليه العقوبة والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أخذ له مال فاتهم به رجلا من أهل التهم ذكر ذلك عنده فضربه على تقريره فأقر ثم أنكر فضربه حتى مات فما عليه ولم يضربه إلا لأجل ما أخبر عنه بذلك
فأجاب عليه أن يعتق رقبة مؤمنة كفارة وتجب دية هذا المقتول إلا أن يصالح ورثته على أقل من ذلك ولو كان قد فعل به فعلا يقتل غالبا بلا حق ولا شبهة لوجب القود ولو كان بحق لم يجب شيء والله أعلم
____________________
(34/149)
وسئل قدس الله روحه عن رجل جندي وله إقطاع في بلد الريع وقال في البلد قتيل فقالوا إن الفلاح النصراني الذي هو من الريع هو القاتل فطلب القاتل إلى ولاة الأمور فلم يوجد ومسكوا أخا النصراني المتهوم وهو في السجن ومع ذلك يتطلبون الجندي بإحضار النصراني ولم يكن ضامنا
فأجاب إذا كان الجندي لا يعلم حال المتهم ولا هو ضامن له لم تجز مطالبته لكن إذا كان مطلوبا بحق وهو يعرف مكانه دل عليه فإن قال أنه لا يعرف مكانه فالقول قوله
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل عثر على سبعة أنفس فحصل بينهم خصومة فقاموا بأجمعهم ضربوه بحضرة رجلين لا يقربا لهؤلاء ولا لهؤلاء وعايناه إلى أن مات من ضربهم فما يلزم السبعة الذين يساعدون على قتله
____________________
(34/150)
فأجاب إذا شهد لأولياء المقتول شاهدان ولم يثبت عدالتهما فهذا لوث إذا حلف معه المدعون خمسين يمينا أيمان القسامة على واحد بعينه حكم لهم بالدم وإن أقسموا على أكثر من واحد ففي القود نزاع وأما إن ادعوا أن القتل كان خطأ أو شبه عمد مثل أن يضربوه بعصا ضربا لا يقتل مثله غالبا فهنا إذا ادعوا على الجماعة أنهم اشتركوا في ذلك فدعواهم مقبولة ويستحقون الدية
وسئل رحمه الله عما إذا قال المضروب ما قاتلي إلا فلان فهل يقبل قوله أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين لا يؤخذ بمجرد قوله بلا نزاع ولكن هل يكون قوله لوثا يحلف معه أولياء المقتول خمسين يمينا ويستحقون دم المحلوف عليه على قولين مذكورين للعلماء أحدهما أنه ليس بلوث وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة والثاني أنه لوث وهو قول مالك
وسئل رحمه الله عن رجلين شربا وكان معهما رجل آخر فلما أرادوا أن يرجعوا إلى بيوتهم تكلما فضرب واحد صاحبه ضربة بالدبوس فوقع عن فرسه فوقف
____________________
(34/151)
عنده ذلك الرجل الذي معهما حتى ركب فرسه وجاء معه إلى منزله ولم يقف عنده فوقع عن فرسه ثانية ثم أنه أصبح ميتا فسأل رجل من أصحاب الميت ذلك الرجل خفية ولم يعلمه بموته فذكر له قضيتهما فشهد عليه الشهود بأن فلانا ضربه ولم يسمع الشهود من الميت وأن المتهوم لم يظهر نفسه خوف العقوبة لكي لا يقر على نفسه وللميت بنت ترضع وأخوة
فأجاب إن كان الذي شرب الخمر يعلم ما يقول فهذا إذا قتل فهو قاتل يجب عليه القود وعقوبة قاتل النفس باتفاق العلماء وأما إن كان قد سكر بحيث لا يعلم ما يقول أو أكثر من ذلك وقتل فهل يجب عليه القود ويسلم إلى أولياء المقتول ليقتلوه إن شاؤوا هذا فيه قولان للعلماء وفيه روايتان عن احمد لكن أكثر الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وكثير من أصحاب احمد يوجبون عليه العقود كما يوجبونه على الصاحي فإن لم يشهد بالقتل إلا واحد لم يحكم به إلا أن يحلف مع ذلك أولياء المقتول خمسين يمينا وهذا إذا مات بضربه وكان ضربه عدوانا محضا فإما إن مات مع ضرب الآخر ففي القود نزاع وكذلك إن ضربه دفعا لعدوانه عليه أو ضربه مثل ما ضربه سواء مات بسبب آخر أو غيره والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجل واعد آخر على قتل مسلم بمال معين ثم قتله فما يجب عليه في الشرع
____________________
(34/152)
فأجاب نعم إذا قتله الموعود والحالة هذه وجب القود وأولياء المقتول بالخيار إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية وإن أحبوا عفوا وأما الواعد فيجب أن يعاقب عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا وعند بعضهم يجب عليه القود
وسئل رحمه الله عن القاتل ولده عمدا لمن ديته
فأجاب وأما الوارث كالأب وغيره إذا قتل مورثه عمدا فإنه لا يرث شيئا من ماله ولا ديته باتفاق الأئمة بل تكون ديته كسائر ماله يحرمها القاتل أبا كان أو غيره ويرثها سائر الورثة غير القاتل
وسئل رحمه الله عن رجل تخاصم مع شخص فراح إلى بيته فحصل له ضعف فلما قارب الوفاة أشهد على نفسه أن قاتله فلان فقيل له كيف قتلك فلم يذكر شيئا فهل يلزمه شيء أم لا وليس بهذا المريض أثر قتل ولا ضرب أصلا وقد شهد خلق من العدول أنه لم يضربه ولا فعل به شيئا
____________________
(34/153)
فأجاب إما بمجرد هذا القول فلا يلزمه شيء بإجماع المسلمين بل إنما يجب على المدعى عليه اليمين بنفي ما ادعى عليه إما يمين واحدة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة واحمد وإما خمسون يمينا كقول الشافعي والعلماء قد تنازعوا في الرجل إذا كان به أثر القتل كجرح أو أثر ضرب فقال فلان ضربني عمدا هل يكون ذلك لوثا فقال أكثرهم كأبي حنيفة والشافعي وأحمد ليس بلوث وقال مالك هو لوث فإذا حلف أولياء الدم خمسين يمينا حكم به ولو كان القتل خطأ فلا قسامة فيه في أصح الروايتين عن مالك وهذه الصورة قيل لم تكن خطأ فكيف وليس به أثر قتل وقد شهد الناس بما شهدوا به فهذه الصورة ليس فيها قسامة بلا ريب على مذهب الأئمة
وسئل عمن اتهم بقتيل فهل يضرب ليقر أم لا
فأجاب إن كان هناك لوث وهو ما يغلب على الظن أنه قتله جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقون دمه وأما ضربه ليقر فلا يجوز إلا مع القرائن التي تدل على أنه قتله فإن بعض العلماء جوز تقريره بالضرب في هذه الحال وبعضهم منع من ذلك مطلقا
____________________
(34/154)
وسئل رحمه الله تعالى عن أهل قريتين بينهما عداوة في الإعتقاد وخاصم رجل آخر في غنم ضاعت له وقال ما يكون عوض هذا إلا رقبتك ثم وجد هذا مقتولا وأثر الدم أقرب إلى القرية التي منها المتهم وذكر رجل له قتله
فأجاب إذا حلف أولياء المقتول خمسين يمينا أن ذلك المخاصم هو الذي قتله حكم لهم بدمه وبراءة من سواه فإنما بينهما من العداوة والخصومة والوعيد بالقتل وأثر الدم وغير ذلك لوث وقرينة وأمارة على أن هذا المتهم هو الذي قتله فإذا حلفوا مع ذلك أيمان القسامة الشرعية استحقوا دم المتهم وسلم إليهم برمته كما قضى بذلك رسول الله في قضية الذي قتل بخيبر ولم يجب على أهل البقعة جناية لا في العادة السلطانية ولا في حكم الشريعة
وسئل رحمه الله تعالى عن شخصين اتهما بقتيل فأمسكا وعوقبا العقوبة المؤلمة فأقر أحدهما على نفسه وعلى رفيقه ولم يقر الآخر ولا اعترف بشيء فهل يقبل قوله أم لا
____________________
(34/155)
فأجاب إن شهد شاهد مقبول على شخص أنه قتله كان لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا الدم وكذلك إن كان هناك لوث يغلب على الظن الصدق وإلا حلف المدعى عليه ولا يؤاخذ بلا حجة
وسئل رحمه الله تعالى عمن اتهموا بقتيل فضربوهم واعترف واحد منهم بالعقوبة فهل يسري على الباقي
فأجاب الحمد لله إن أقر واحد عدل أنه قتله كان لوثا فلأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا به الدم وأما إذا أقر مكرها ولم يتبين صدق إقراره فهنا لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ هو به ولا غيره والله أعلم
وسئل رحمه الله عن سفارة جاءتهم حرامية فقاتلوهم فقتل الحرامية من السفارة رجلا ثم إن بن عم المقتول اتبع الحرامية هو وناس من قومه فلحقهم وقبضهم وسأل عن القاتل فعين الحرامية شخصا منهم وقالوا هذا قتل بن عمك فقتله ثم بعد ذلك طلع القاتل أخا ذلك الشخص الذي عينه الحرامية
____________________
(34/156)
فأجاب أما المسافر المقتول ظلما فيجب على من قتله من الحرامية القود بشروطه وأما الشخص الثاني المقتول ظلما إذا كان معصوما فإن كان الدال عليه متعمدا الكذب فعليه القود وإن كان مخطئا وجبت الدية على عاقلته إن كان له عاقلة وإلا فعليه وأما قاتله فإن لم يتعمد قتله بل أخطأ فيه فللورثة أن يطالبوا بالدية له أو لعاقلته لكن إذا ضمن الدية رجع بها على الدال أو عاقلته فإنه هو الذي يضاف إليه القتل في مثل هذا ولهذا يجب قتله إذا تعمد الكذب كما يجب القتل على الشهود إذا رجعوا عن الشهادة وقالوا تعمدنا الكذب والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجل قتل قتيلا وله أب وأم وقد وهبا للقاتل دم ولدهما وكتبا عليه حجة أنه لا ينزل بلادهم ولا يسكن فيها ومتى سكن في البلاد كان دم ولدهما على القاتل فإذا سكن فهل يجوز لهم المطالبة بالدم أم لا
فأجاب الحمد لله إذا عفوا عنه بهذا الشرط ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازما بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول بعض العلماء وبالدم في قول آخر وسواء قيل هذا الشرط صحيح أم فاسد وسواء قيل يفسد العقد بفساده أو لا يفسد فإن ذينك القولين مبنيان على هذه الأصول
____________________
(34/157)
وسئل رحمه الله تعالى عن صبي دون البلوغ جنى جناية يجب عليه فيها دية مثل أن يكسر سنا أو يفقأعينا ونحو ذلك خطأ فهل لأولياء ذلك أن يأخذوا دية الجناية من أبي الصبي وحده إن كان موسرا أم يطلبوها من عم الصبي أو بن عمه
فأجاب الحمد لله أما إذا فعل ذلك خطأ فديته على عاقلته بلا ريب كالبالغ وأولى وإن فعل عمدا فعمده خطأ عند الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه وفي القول الآخر عنه وعن أحمد أن عمده إذا كان غير بالغ في ماله
وأما ( العاقلة ) التى تحمل فهم عصبته كالعم وبنيه والاخوة وبنيهم باتفاق العلماء وأما أبو الرجل وابنه فهو من عاقلته أيضا عند الجمهور كأبى حنيفة ومالك وأحمد فى أظهر الروايتين عنه وفى الرواية الأخرى وهو قول الشافعى أبوه وابنه ليسا من العاقلة
____________________
(34/158)
والذى ( تحمله العاقلة ) بالاتفاق ما كان فوق ثلث الدية مثل قلع العين فانه يجب فيه نصف الدية وأما دون الثلث كدية السن وهو نصف عشر الدية ودية الأصبع وهى عشر الدية فهذا لا تحمله العاقلة فى مذهب مالك وأحمد بل هو فى ماله عند الشافعى وعند أبى حنيفة لا تحمل ما دون دية السن والموضحة وهو المقدر كارش الشجة التى دون الموضحة وإذا وجب على الصبى شيء ولم يكن له مال حمله عنه أبوه فى احدى الروايتين عن أحمد وروى ذلك عن بن عباس وفى الرواية الأخرى وهو قول الأكثرين أنه فى ذمته وليس على ابيه شيء والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل قال لزوجته أسقطى ما فى بطنك والاثم على فاذا فعلت هذا وسمعت منه فما يجب عليهما من الكفارة فأجاب إن فعلت ذلك فعليهما كفارة عتق رقبة مؤمنة فان لم يجدا فصيام شهرين متتابعين وعليهما غرة عبد أو أمة لوارثه الذى لم يقتله لا للأب فان الأب هو الآمر بقتله فلا يستحق شيئا
____________________
(34/159)
( وسئل رحمه الله ( عن رجل عدل له جارية اعترف بوطئها بحضرة عدول وأنها حبلت منه وأنه سأل بعض الناس عن أشياء تسقط الحمل وانه ضرب الجارية ضربا مبرحا على فؤادها فاسقطت عقيب ذلك وأن الجارية قالت إنه كان يلطخ ذكره بالقطران ويطؤها حتى يسقطها وأنه اسقاها السم وغيره من الأشياء المسقطة مكرهة فما يجب على مالك الجارية بما ذكر وهل هذا مسقط لعدالته أم لا
فأجاب الحمد لله إسقاط الحمل حرام باجماع المسلمين وهو من الوأد الذى قال الله فيه { وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت } وقد قال ( ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق )
ولو قدر أن الشخص اسقط الحمل خطأ مثل أن يضرب المرأة خطأ فتسقط فعليه غرة عبد أو أمة بنص النبى واتفاق الأئمة وتكون قيمة الغرة بقدر عشر دية الأم عند جمهور العلماء كمالك والشافعى واحمد
كذلك عليه ( كفارة القتل ) عند جمهور الفقهاء وهو المذكور فى قوله تعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } إلى قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله }
____________________
(34/160)
وأما إذا تعمد الاسقاط فانه يعاقب على ذلك عقوبة تردعه عن ذلك وذلك مما يقدح فى دينه وعدالته والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن امرأة حامل تعمدت اسقاط الجنين إما بضرب وإما بشرب دواء فما يجب عليها
فأجاب يجب عليها بسنة رسول الله واتفاق الأئمة غرة عبد أو أمة تكون هذه الغرة لورثة الجنين غير أمه فان كان له أب كانت الغرة لأبيه فان احب ان يسقط عن المرأة فله ذلك وتكون قيمة الغرة عشردية أو خمسين دينارا وعليها أيضا عند أكثر العلماء عتق رقبة فإن لم تجد صامت شهرين متتابعين فإن لم تستطع أطعمت ستين مسكينا
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن امرأة دفنت ابنها بالحياة حتى مات فانها كانت مريضة وهو مريض فضجرت منه فما يجب عليها
____________________
(34/161)
فأجاب الحمد لله هذا هو الوأد الذى قال الله تعالى فيه { وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت } وقال الله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } وفى الصحيحين عن بن مسعود عن ( النبى أنه قيل له أى الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم أى قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ) وإذا كان الله قد حرم قتل الولد مع الحاجة وخشية الفقر فلأن يحرم قتله بدون ذلك أولى وأحرى وهذه فى قول الجمهور يجب عليها الدية تكون لورثته ليس لها منها شيء باتفاق الأئمة وفى وجوب الكفارة عليها قولان والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن الرجل يلطم الرجل أو يكلمه أو يسبه هل يجوز ان يفعل به كما فعل
فأجاب وأما ( القصاص فى اللطمة والضربة ) ونحو ذلك فمذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين أن القصاص ثابت فى ذلك كله وهو المنصوص عن أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجى وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه لا يشرع فى ذلك قصاص لأن المساواة فيه متعذرة فى الغالب وهذا قول كثير من أصحاب أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد
____________________
(34/162)
والأول أصح فان سنة النبى مضت بالقصاص فى ذلك وكذلك سنة الخلفاء الراشدين وقد قال تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وقال تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ونحو ذلك
وأما قول القائل ان المماثلة فى هذه الجناية متعذرة فيقال لا بد لهذه الجناية من عقوبة إما قصاص وإما تعزير فإذا جوز ان يعزر تعزيزا غير مضبوط الجنس والقدر فلأن يعاقب إلى ما هو أقرب إلى الضبط من ذلك أولى وأحرى والعدل فى القصاص معتبر بحسب الامكان ومن المعلوم أن الضارب إذا ضرب ضربة مثل ضربته أو قريبا منها كان هذا أقرب إلى العدل من أن يعزر بالضرب بالسوط فالذى يمنع القصاص فى ذلك خوفا من الظلم يبيح ما هو أعظم ظلما مما فر منه فعلم أنما جاءت به السنة أعدل وأمثل
وكذلك له أن يسبه كما يسبه مثل أن يلعنه كما يلعنه أو يقول قبحك الله فيقول قبحك الله أو أخزاك الله فيقول له أخزاك الله أو يقول يا كلب يا خنزير فيقول يا كلب ياخنزير فأما إذا كان محرم الجنس مثل تكفيره أو الكذب عليه لم يكن له ان يكفره ولا يكذب عليه وإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه لأن أباه لم يظلمه
____________________
(34/163)
( وسئل رحمه الله ( عمن ضرب غيره فعطل منفعة اصبعه
فأجاب إذا تعطلت منفعة أصبعه بالجناية التى اعتدى فيها وجبت دية الاصبع وهى عشر الدية الكاملة والله أعلم
( وسئل قدس الله روحه ( عن اثنين أحدهما حر والآخر عبد حملوا خشبة فتهورت منهم الخشبة من غير عمد فأصابت رجلا فاقام يومين وتوفى فما يجب على الحر والعبد وماذا يجب على مالك العبد إذا تغيب العبد
فأجاب إذا حصل منهما تفريط أو عدوان وجب الضمان عليهما وإن كان هو المفرط بوقوفه حيث لا يصلح فلا ضمان وإن لم يحصل تفريط منهما فلا ضمان عليهما وإن كان بطريق السبب فلا ضمان
____________________
(34/164)
وإذا وجب الضمان عليهما نصفين فنصيب العبد يتعلق برقبته فان شاء سيده أن يسلمه فى الجناية وإن شاء أن يفتديه وإذا افتداه فانه يفتديه باقل الأمرين من قيمته وقدر جنايته فى مذهب الشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين عنه وفى الأخرى وفى مذهب مالك يفديه بارش الجناية بالغا ما بلغ فاما إن جنى العبد وهرب بحيث لا يمكن سيده تسليمه فليس على السيد شيء إلا أن يختار والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن ثلاثة حملوا عامود رخام ثم ان منهم اثنين رموا العامود على الآخر كسروا رجله فما يجب عليهم
فأجاب الحمد لله نعم إذ القوا عليه عامود الرخام حتى كسروا ساقه وجب ضمان ذلك لكن من العلماء من يوجب بعيرين من الابل كما هو المشهور عن أحمد ومنهم من يوجب فيه حكومة وهو أن يقوم المجنى عليه كأنه لا كسر به ثم يقوم مكسورا فينظر ما نقص من قيمته فيجب بقسطه والله أعلم
____________________
(34/165)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجلين تخاصما وتماسكا بالأيدى ولم يضرب أحدهما الآخر وكان أحدهما مريضا ثم تفارقا فى عافية ثم بعد اسبوع توفى أحدهما وهرب الآخر قبل موته بثلاثة أيام فمسك أبو الهارب وألزموه باحضار ولده فاعتقد أن الخصم لم يمت والتزم لأهله أنه مهما تم عليه كان هو القائم به فلما مات اعتقلوا أباه تسعة أشهر فراضى أبوه أهل الميت بمال وأبرى المتهوم وكل أهله فهل لهذا الملتزم بالمبلغ أن يرجع على أحد من بنى عمه بشيء من المبلغ وهل يبرأ الهارب
فأجاب إن ثبت أن الهارب قتله خطأ بان يكون أحدهما مريضا وقد ضربه الآخر ضربا شديدا يزيد فى مرضه وكان سببا فى موته فالدية على العاقلة فعلى عصبة بنى العم وغيرهما أن يتحملوا هذا القدر الذى رضى به أهل القتيل فانه أخف من الدية وأما إن لم يثبت شيء من ذلك لكن اخذ الأب بمجرد إقراره لم يلزمهم باقرار الأب شيء وليس لأهل الدية الذين صالحوا على هذا القدر ان يطالبوا بأكثر منه والله أعلم
____________________
(34/166)
( وسئل قدس الله روحه ( عن رجل رأى رجلا قتل ثلاثة من المسلمين فى شهر رمضان ولحس السيف بفمه وأن ولى الأمر لم يقدر عليه ليقيم عليه الحد وان الذى رآه قد وجده فى مكان لم يقدر على مسكه فهل له ان يقتل القاتل المذكور بغيرحق واذا قتله هل يؤجر على ذلك أو يطالب بدمه
فأجاب إن كان قاطع طريق قتلهم لأخذ اموالهم وجب قتله ولا يجوز العفو عنه وإن كان قتلهم لغرض خاص مثل خصومة بينهم أو عداوة فامره إلى ورثة القتيل إن أحبوا قتله قتلوه وان أحبوا عفوا عنه وإن احبوا أخذوا الدية فلا يجوز قتله إلا باذن الورثة الآخرين وأما ان كان قاطع طريق فقيل باذن الامام فمن علم ان الامام أذن فى قتله بدلائل الحال جاز أن يقتله على ذلك وذلك مثل أن يعرف أن ولاة الأمور يطلبونه ليقتلوه وان قتله واجب فى الشرع فهذا يعرف أنهم آذنون فى قتله وإذا وجب قتله كان قاتله مأجوا فى ذلك
( وسئل رحمه الله ( عن رجلين قبض أحدهما لواحد والآخر ضربه فشلت يده فأجاب الحمد لله هذا فيه نزاع والأظهر أنه يجب على الاثنين القود إن وجب والا فالدية عليهما والله أعلم
____________________
(34/167)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل وجد عند امرأته رجلا أجنبيا فقتلها ثم تاب بعد موتها وكان له أولاد صغار فلما كبر أحدهما اراد اداء كفارة القتل ولم يجد قدرة على العتق فاراد ان يصوم شهرين متتابعين فهل تجب الكفارة على القاتل وهل يجزى قيام الولد بها واذا كان الولد امرأة فحاضت فى زمن الشهرين هل ينقطع التتابع واذا غلب على ظنها أن الطهر يحصل فى وقت معين هل يجب عليها الامساك أم لا
فأجاب الحمد لله ان كان قد وجدهما يفعلان الفاحشة وقتلها فلا شيء عليه فى الباطن فى أظهر قولى العلماء وهو أظهر القولين فى مذهب احمد وان كان يمكنه دفعه عن وطئها بالكلام كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( لو أن رجلا اطلع فى بيتك ففقأت عينه ما كان عليك شيء ) و ( نظر رجل مرة فى بيته فجعل يتبع عينه بمدرى لو أصابته لقلعت عينه ) وقال ( إنما جعل الاستئذان من أجل النظر ) وقد كان يمكن دفعه بالكلام وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه
____________________
(34/168)
وبيده سيف متلطخ بدم قد قتل امرأته فجاء أهلها يشكون عليه فقال الرجل انى قد وجدت لكاعا قد تفخذها فضربت ما هنالك بالسيف فاخذ السيف فهزه ثم اعاده إليه فقال إن عاد فعد
ومن العلماء من قال يسقط القود عنه اذا كان الزانى محصنا سواء كان القاتل هو زوج المرأة أو غيره كما يقوله طائفة من أصحاب الشافعى واحمد
والقول الأول إنما مأخذه أنه جنى على حرمته فهو كفقىء عين الناظر وكالذى انتزع يده من فم العاض حتى سقطت ثناياه فاهدر النبى دمه وقال ( يدع يده فى فيك فتقضمها كما يقضم الفحل ) وهذا الحديث الأول القول به مذهب الشافعى وأحمد
ومن العلماء من لم يأخذ به قال لأن دفع الصائل يكون بالأسهل والنص يقدم على هذا القول وهذا القول فيه نزاع بين السلف والخلف فقد دخل اللص على عبد الله بن عمر فأصلت له السيف قالوا فلولا أنا نهيناه عنه لضربه وقد استدل أحمد بن حنبل بفعل بن عمر هذا مع ما تقدم من الحديثين وأخذ بذلك
وأما إن كان الرجل لم يفعل بعد فاحشة ولكن وصل لأجل ذلك فهذا فيه نزاع والأحوط لهذا أن يتوب من القتل من مثل هذه الصورة وفى
____________________
(34/169)
وجوب الكفارة عليه نزاع فاذا كفر فقد فعل الأحوط فان الكفارة تجب فى قتل الخطأ وأما قتل العمد فلا كفارة فيه عند الجمهور كمالك وأبى حنيفة وأحمد فى المشهور عنه وعليه الكفارة عند الشافعى وأحمد فى الرواية الأخرى
واذا مات من عليه الكفارة ولم يكفر فليطعم عنه وليه ستين مسكينا فانه بدل الصيام الذى عجزت عنه قوته فاذا أطعم عنه فى صيام رمضان فهذا أولى
والمرأة ان صامت شهرين متتابعين لم يقطع الحيض تتابعها بل تبنى بعد الطهر باتفاق الائمة والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل ضرب رجلا بسيف شل يده ثم انه جاءه ودفع إليه أربعة أفدنة طين سواء مصالحة ثم أكلها اثنى عشر سنة ولم يكتب بينه وبينه ابدا وحال المضروب ضعيف فهل يلزم الضارب الدية
فأجاب إن كان صالحه عن شلل يده على شيء وجب ما اصطلحا عليه ولم يكن لهذا ان يزيده ولا لهذا ان ينقصه وأما إن كان أعطاه شيئا بلا مصالحة فله أن يطلب تمام حقه وشلل اليد فيه دية اليد والله أعلم
____________________
(34/170)
( وسئل قدس الله روحه ( عن رجل ضرب رجلا فتحول حنكه ووقعت أنيابة وخيطوا حنكه بالابر فما يجب
فأجاب يجب فى الاسنان فى كل سن نصف عشر الدية خمسون دينارا أو خمس من الابل أو ستمائة درهم ويجب فى تحويل الحنك الأرش يقوم المجنى عليه كأنه عبد سليم ثم يقوم وهو عبد معيب ثم ينظر تفاوت ما بين القيميين فيجب بنسبته من الدية واذا كانت الضربة مما تقلع الأسنان فى العادة فللمجنى عليه القصاص وهو أن يقلع له مثل تلك الأسنان من الضارب
( وسئل رحمه الله ( عن مسلم قتل مسلما متعمدا بغير حق ثم تاب بعد ذلك فهل ترجى له التوبة وينجو من النار أم لا وهل يجب عليه دية أم لا
فأجاب قاتل النفس بغير حق عليه ( حقان ) حق لله بكونه تعدى حدود الله وانتهك حرماته فهذا الذنب يغفره الله بالتوبة الصحيحة كما قال
____________________
(34/171)
تعالى { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } أى لمن تاب وقال { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما } وفى الصحيحين وغيرهما عن أبى سعيد عن النبى صلى الله علية وسلم ( إن رجلآ قتل تسعة وتسعين رجلآ ثم سال عن اعلم أهل الارض فدل علية فسألة هل من توبة فقال أبعد تسعة وتسعين تكون لك توبة فقتلة فكمل بة مائة ثم مكث ما شاء الله ثم سال عن اعلم أهل الارض فدل علية فسالة هل لى من توبة قال ومن يحول بينك وبين التوبة ولكن ائت قرية كذا فان فيها قوما صالحين فاعبد الله معهم فادركه الموت فى الطريق فاختصمت فية ملائكة الرحمة وملآئكة العذاب فبعث الله ملكا يحكم بينهم فامر ان يقاس فإلى أي القريتين كان اقرب الحق بة فوجدوة أقرب إلى القرية الصالحة فغفر الله لة
( والحق الثانى ( حق الآدميين فعلى القاتل ان يعطى اولياء المقتول حقهم فيمكنهم من القصاص أو يصالحهم بمال أو يطلب منهم العفو فاذا فعل ذلك فقد أدى ما عليه من حقهم وذلك من تمام التوبة
____________________
(34/172)
وهل يبقى للمقتول عليه حق يطالبه به يوم القيامة على قولين للعلماء فى مذهب أحمد وغيره ومن قال يبقى له فانه يستكثر القاتل من الحسنات حتى يعطى المقتول من حسناته بقدر حقه ويبقى له ما يبقى فاذا استكثر القاتل التائب من الحسنات رجيت له رحمة الله وأنجاه من النار ( ولا يقنط من رحمة الله الا القوم الفاسقون )
( وسئل رحمه الله ( عن رجلين اختلفا فى قتل النفس عمدا فقال أحدهما ان هذا ذنب لا يغفر وقال الآخر اذا تاب تاب الله عليه
فأجاب أما حق المظلوم فانه لا يسقط باستغفار الظالم القاتل لافى قتل النفس ولا فى سائر مظالم العباد فان حق المظلوم لا يسقط بمجرد الاستغفار لكن تقبل توبة القاتل وغيره من الظلمة فيغفر الله له بالتوبة الحق الذى له وأما حقوق المظلومين فان الله يوفيهم إياها أما من حسنات الظالم واما من عنده والله أعلم
____________________
(34/173)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عمن أتهموه النصارى فى قتل نصارى ولم يظهر عليه فأحضروه إلى النائب بالكرك والزموه أن يعاقبه فعوقب حتى مات ولم يقر بشيء فما يلزم النصارى الذين التزموا بدمه
فأجاب يجب عليهم ضمان الذى التزموا دمه إن مات تحت العقوبة بل يعاقبون كما عوقب أيضا كما روى أبو داود فى السنن عن النعمان بن بشير قضى نحو ذلك والله اعلم
____________________
(34/174)
= ( كتاب الحدود ( قال شيخ الاسلام قدس الله روحه ( فصل ( خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابا مطلقا كقوله { والسارق والسارقة فاقطعوا } وقوله { الزانية والزاني فاجلدوا } وقوله { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } وكذلك قوله { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرا عليه والعاجزون لا يجب عليهم وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد بل هو نوع من الجهاد فقوله { كتب عليكم القتال } وقوله { وقاتلوا في سبيل الله } وقوله { إلا تنفروا يعذبكم } ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين و ( القدرة هي السلطان فلهذا وجب اقامة الحدود على ذى السلطان ونوابه
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه فاذا فرض ان الامة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك
____________________
(34/175)
فكان لها عدة أئمة لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق ولهذا قال العلماء إن أهل البغى ينفذ من احكامهم ما ينفذ من احكام أهل العدل وكذلك لو شاركوا الامارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك فى أهل طاعتهم فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم وكذلك لو لم يتفرقوا لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة فإن ذلك أيضا إذا اسقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك بل عليهم أن يقيموا ذلك وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق أو إضاعته لذلك لكان ذلك الفرض على القادر عليه
وقول من قال لا يقيم الحدود الا السلطان ونوابه إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل كما يقول الفقهاء الأمر إلى الحاكم إنما هو العادل القادر فاذا كان مضيعا لأموال اليتامى أو عاجزا عنها لم يجب تسليمها إليه مع امكان حفظها بدونه وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه
والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت اذا لم يكن فى إقامتها فساد يزيد على إضاعتها فانها من ( باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) فان كان فى ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه والله اعلم
____________________
(34/176)
& ( باب حد الزنى (
( سئل شيخ الاسلام قدس الله روحه ( عمن زنا بأخته ماذا يجب عليه فاجاب وأما من زنا باخته مع علمه بتحريم ذلك وجب قتله والحجة فى ذلك ما رواه البراء بن عازب قال مر بى خالى أبو بردة ومعه راية فقلت أين تذهب يا خالى قال ( بعثنى رسول الله إلى رجل تزوج بامرأة أبيه فأمرنى أن أضرب عنقه وأخمس ماله ) والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن امرأة مزوجة بزوج كامل ولها أولاد فتعلقت بشخص من الأطراف اقامت معه على الفجور فلما ظهر أمرها سعت فى مفارقة الزوج فهل بقى لها حق على أولادها بعد هذا الفعل وهل عليهم إثم فى قطعها وهل يجوز لمن تحقق ذلك منها قتلها سرا وان فعل ذلك غيره يأثم فاجاب الحمد لله
____________________
(34/177)
فأجاب الواجب على أولادها وعصبتها ان يمنعوها من المحرمات فان لم تمتنع الا بالحبس حبسوها وإن احتاجت إلى القيد قيدوها وما ينبغى للولد أن يضرب أمه وأما برها فليس لهم أن يمنعوها برها ولا يجوز لهم مقاطعتها بحيث تتمكن بذلك من السوء بل يمنعوها بحسب قدرتهم وان احتاجت إلى رزق وكسوة رزقوها وكسوها ولا يجوز لهم اقامة الحد عليها بقتل ولا غيره وعليهم الاثم فى ذلك
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن بلد فيها جوار سائبات يزنون مع النصارى والمسلمين
فأجاب على سيد الأمة إذا زنت أن يقيم عليها الحد كما فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ثم إن زنت فليجلدها ثم إن زنت فليجلدها ثم إن زنت فى الرابعة فليبعها ولو بظفير ) والظفير الحبل فان لم يفعل ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عاصيا لله ورسوله وكان اصراره على المعصية قادحا فى عدالته فاما إذا كان هو يرسلها لتبغى وتنفق على نفسها من مهر البغاء أو يأخذ هو شيئا من ذلك فهذا ممن لعنه الله ورسوله وهو فاسق خبيث آذن فى الكبيرة وآخذ مهر البغى ولم ينهها عن الفاحشة ومثل هذا لا يجوز أن يكون معدلا بل لا يجوز اقراره بين المسلمين بل يستحق العقوبة
____________________
(34/178)
الغليظة حتى يصون إماءه وأقل العقوبة أن يهجر فلا يسلم عليه ولا يصلى خلفه إذا امكنت الصلاة خلف غيره ولا يستشهد ولا يولى ولاية أصلا ومن استحل ذلك فهو كافر مرتد يستتاب فان تاب وإلا قتل وكان مرتدا لا ترثه ورثته المسلمون وإن كان جاهلا بالتحريم عرف ذلك حتى تقوم عليه الحجة فان هذا من المحرمات المجمع عليها
( وسئل رحمه الله تعالى ( عمن حلف لولده أنه إن فعل منكرا يقيم عليه الحد فاقر لوالده فضربه مائة جلدة وبقى تغريب عام فهل يجوز فى تغريب العام كفارة أم لا
فأجاب انه إذا غربه فى الحبس ولو فى دار الأب برفى يمينه وإن كان مطلقا غير مقيد فى موضع معين فانه لا يجب القيد ولا جعله فى مكان مظلم والله أعلم
( وسئل ( عمن وجب عليه حد الزنى فتاب قبل أن يحد فهل يسقط عنه الحد بالتوبة
____________________
(34/179)
فأجاب إن تاب من الزنى والسرقة أو شرب الخمر قبل أن يرفع إلى الامام فالصحيح ان الحد يسقط عنه كما يسقط عن المحاربين بالاجماع إذا تابوا قبل القدرة
( وسئل رحمه الله ( عن رجل أذنب ذنبا يجب عليه حد من الحدود مثل جلد أو حصب ثم تاب من ذلك الذنب وأقلع واستغفر ونوى أن لا يعود فهل يجزئه ذلك أو يحتاج مع ذلك إلى أن يأتى إلى ولى الأمر ويعرفه بذنبه ليقيم عليه الحد أم لا وهل ستره على نفسه وتوبته أفضل أم لا
فأجاب إذا تاب توبة صحيحة تاب الله عليه من غيرحاجة إلى أن يقر بذنبه حتى يقام عليه الحد وفى الحديث ( من ابتلى بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فانه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله ) وفى الآثر أيضا ( من أذنب سرا فليتب سرا ومن أذنب علانية فليتب علانية ) وقد قال تعالى { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } الآية
( وسئل رحمه الله ( عن إثم المعصية وحد الزنى هل تزاد فى الأيام المباركة أم لا
فأجاب نعم المعاصى فى الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان
____________________
(34/180)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن امرأة قوادة تجمع الرجال والنساء وقد ضربت وحبست ثم عادت تفعل ذلك وقد لحق الجيران الضرر بها فهل لولى الأمر نقلها من بينهم أم لا
فأجاب نعم لولى الأمر كصاحب الشرطة أن يصرف ضررها بما يراه مصلحة إما بحبسها واما بنقلها عن الحرائر وإما بغير ذلك مما يرى فيه المصلحة وقد كان عمربن الخطاب يأمر العزاب أن لا تسكن بين المتأهلين وأن لا يسكن المتأهل بين العزاب وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبى ونفوا شابا خافوا الفتنة به من المدينة إلى البصرة وثبت فى الصحيحين أن النبى ( نفى المخنثين ) و ( أمر بنفيهم من البيوت ) خشية أن يفسدوا النساء فالقوادة شر من هؤلاء والله يعذبها مع أصحابها
( وسئل ( عن ( الفاعل والمفعول به ) بعد اداركهما ما يجب عليهما وما يطهرهما وما ينويان عند الطهارة
____________________
(34/181)
فأجاب أما الفاعل والمفعول به فيجب قتلهما رجما بالحجارة سواء كانا محصنين أو غير محصنين لما فى السنن عن النبى أنه قال ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) ولأن أصحاب النبى اتفقوا على قتلهما وعليهما الاغتسال من الجنابة وترتفع الجنابة من الاغتسال لكن لا يطهران من نجاسة الذنب الا بالتوبة وهذا معنى ما روى ( أنهما لو اغتسلا بالماء ينويان رفع الجنابة واستباحة الصلاة
( وسئل رحمه الله ( عن قوله فى ( التهذيب ) من أتى بهيمة فاقتلوا المفعول واقتلوا الفاعل بها فهل يجب ذلك أم لا
فأجاب الحمد لله هذا فيه حديث رواه أبو داود فى السنن وهو قوله ( من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها ) وهو أحد قولى العلماء كأحد القولين فى مذهب أحمد ومذهب الشافعى
____________________
(34/182)
& ( باب حد القذف (
( وسئل شيخ الاسلام رحمه الله ( عمن قذف رجلا لأنه ينظر إلى حريم الناس وهو كاذب عليه فما يجب على القاذف
الجواب إذا كان الأمر على ما ذكر فانه يعزر على افترائه على هذا الشخص بما يزجره وأمثاله إذا طلب المقذوف ذلك
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج امرأة من اهل الخير ولة مطلقة وشرط ان رد مطلقته كان الصداق حالا ثم إنة رد المطلقة وقذف هو ومطلقتة عرض الزوجة ورموها بالزنى بانها كانت حاملآ من الزنى وطلقها بعد دخولة بها فما الذى يجب عليهما وهل يقبل قولهما وهل يسقط الصداق أم لا
____________________
(34/183)
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما مطلقتة فتحد على قذفها ثمانين جلدة إذا طلبت ذلك المرأة المقذوفة ولا تقبل لها شهادة ابدا لآنها فاسقة وكذلك الرجل علية ثمانون جلدة إذا طلبت المرأة ذلك ولا تقبل لة شهادة أبدا وهو فاسق إذا لم يتب
وهل له إسقاط الحد باللعان فيه للفقهاء ( ثلاثة أقوال ) فى مذهب أحمد وغيره قيل يلاعن وقيل لا يلاعن وقيل إن كان ثم ولد يريد نفيه لاعن وإلا فلا وصداقها باق عليه لا يسقط باللعان كما سن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كله باتفاق الأئمة إلا ما ذكرناه من جواز اللعان ففيه الأقوال الثلاثة ( أحدها ) لا يلاعن بل يحد حد القذف وتسقط شهادته وهذا مذهب أحمد فى أشهر الروايات عنه وأحد الوجهين فى مذهب الشافعى و ( الثانى ) يلاعن وهو مذهب ابى حنيفة وأحمد فى رواية عنه و ( الثالث ) إن كان هناك حمل لاعن لنفيه وإلا فلا وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعى ورواية عن أحمد والله أعلم
( وسئل ( عن رجل قال لرجل أنت فاسق شارب الخمر ومنعه من أجرة ملكه الذى يملك انتفاعه شرعا
____________________
(34/184)
فأجاب إذا كان المقذوف محصنا وجب على القاذف حد القذف إذا طلبه المقذوف وأما شتمه بغير ذلك إذا كان كاذبا فعليه أن يعزر على ذلك وأما ضربه وحبسه إذا كان ظالما فانه يفعل به كما فعل وما عطله عليه من المنفعة ضمنه
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل قذف رجلا وقال له أنت علق ولد زنا فما الذى يجب عليه فأجاب إذا قذفه بالزنى أو اللواط كقوله أنت علق وكان ذلك الرجل حرا مسلما لم يشتهر عنه ذلك فعليه حد القذف إذا طلبه المقذوف وهو ثمانون جلدة إن كان القاذف حرا وأربعون إن كان رقيقا عند الأئمة الأربعة
____________________
(34/185)
& ( باب حد المسكر (
( قال شيخ الاسلام رضى الله عنه ( أما ( الأشربة المسكرة ) فمذهب جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم باحسان وسائر العلماء أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام وهذا مذهب مالك وأصحابه والشافعى وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وهو أحد القولين فى مذهب أبى حنيفة وهو اختيار محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة واختيار طائفة من المشايخ مثل أبى الليث السمر قندى وغيره وهذا قول الأوزاعى وأصحابه والليث بن سعد وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأصحابه وداود بن على وأصحابه وأبى ثور وأصحابه وبن جرير الطبرى وأصحابه وغير هؤلاء من علماء المسلمين وأئمة الدين
وذهب طائفة من العلماء من أهل الكوفة كالنخعى والشعبى وأبى حنيفة وشريك وغيرهم إلى أن ما أسكر من غير الشجرتين النخل والعنب كنبيذ الحنطة والشعير والذرة والعسل ولبن الخيل وغير ذلك فانما يحرم
____________________
(34/186)
منه القدر الذى يسكر وأما القليل الذى لا يسكر فلا يحرم وأما عصير العنب الذى إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فهو خمر يحرم قليله وكثيره باجماع المسلمين
وأصحاب ( القول الثانى ) قالوا لا يسمى خمرا إلا ما كان من العنب وقالوا إن نبيذ التمر والزبيب إذا كان نيا مسكرا حرم قليله وكثيره ولا يسمى خمرا فان طبخ أدنى طبخ حل وأما عصير العنب إذا طبخ وهو مسكر لم يحل إلا أن يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فاما بعد أن يصير خمرا فلا يحل وإن طبخ اذا كان مسكرا بلا نزاع و ( القول الأول ( الذى عليه جمهور علماء المسلمين هو الصحيح الذى يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار فان الله تعالى قال فى كتابه { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } واسم ( الخمر ) فى لغة العرب الذين خوطبوا بالقرآن كان يتناول المسكر من التمر وغيره ولا يختص بالمسكر من العنب فانه قد ثبت بالنقول الصحيحة ان الخمر لما حرمت بالمدينة النبوية وكان تحريمها بعد غزوة أحد فى السنة الثالثة من الهجرة لم يكن من عصير العنب شيء فان المدينة ليس
____________________
(34/187)
فيها شجر عنب وإنما كانت خمرهم من التمر فلما حرمها الله عليهم أراقوها بأمر النبى بل وكسروا أوعيتها وشقوا ظروفها وكانوا يسمونها ( خمرا ) فعلم أن اسم ( الخمر ) فى كتاب الله عام لا يختص بعصير العنب
فروى البخارى فى صحيحه عن بن عمر رضى الله عنهما قال نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة اشربة ما منها شراب العنب وفى الصحيحين عن أنس رضى الله عنه قال ان الخمر حرمت يومئذ من البسر والتمر وفى لفظ لمسلم لقد انزل الله هذه الاية التى حرم فيها الخمر وما بالمدينة شراب الامن تمر وبسر وفى لفظ للبخارى وحرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا وعامة خمرنا البسر والتمر وفى الصحيحين عن أنس رضى الله عنه قال كنت أسقى أبا عبيدة وأبى بن كعب من فريخ زهو وتمر فجاءهم آت فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة يا أنس قم إلى هذه الجرار فاهرقها فاهرقتها
وقد ثبت عن النبى وأصحابه رضى الله عنهم أن الخمر يكون من الحنطة والشعير كما يكون من العنب ففى الصحيحين عن بن عمر أن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما قال على منبر النبى أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهى من خمسة من العنب والتمر
____________________
(34/188)
والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل وروى أهل السنن أبو داود والترمذى وبن ماجه عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله ( إن من الحنطة خمرا ومن الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا ومن التمر خمرا ومن العسل خمرا ) زاد أبو داود
( وأنا أنهى عن كل مسكر ) وقد استفاضت الأحاديث عن النبى بأن كل مسكر خمر وهو حرام كما فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت سئل رسول الله عن البتع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال قلت يا رسول الله أفتنا فى شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد قال فكان رسول الله قد أعطى جوامع الكلم بخواتيمه فقال ( كل مسكر حرام ) وفى صحيح مسلم عن جابر أن رجلا ( من حبشان ) وحبشان من اليمن سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأراضيهم من الذرة يقال له ( المزر ) فقال ( أمسكر هو ) قال نعم قال ( كل مسكر حرام إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ) قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال قال ( عرق أهل النار أو عصارة أهل النار ) وفى صحيح مسلم وغيره عن بن عمر رضى الله عنهما أن النبى قال ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ) وفى رواية له ( كل مسكر خمر وكل خمر
____________________
(34/189)
حرام ) وعن بن عمر عن النبى قال ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) رواه بن ماجه والدار قطنى وصححه وقد روى أهل السنن مثله من حديث جابر ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والأحاديث كثيرة صحيحة فى هذا الباب
ولكن عذر من خالفها من أهل العلم أنها لم تبلغهم وسمعوا أن من الصحابة من شرب النبيذ وبلغتهم فى ذلك أثار فظنوا أن الذى شربوه كان مسكرا وإنما كان الذى تنازع فيه الصحابة هو ما نبذ فى الأوعية الصلبة فان النبى ( نهى عن الانتباذ فى الدباء ) وهو القرع وفى ( الحنتم ) وهو ما يصنع من التراب من الفخار ( ونهى عن النقير ) وهو الخشب الذى ينقر ( ونهى عن المزفت ) وهو الظرف المزفت ( وأمرهم أن ينتبذوا فى الظروف الموكاة ) وهو أن ينقع التمر أو الزبيب فى الماء حتى يحلو فيشرب حلوا قبل أن يشتد فهذا حلال باتفاق المسلمين ونهاهم أن ينتبذوا هذا النبيذ الحلال فى تلك الأوعية لأن الشدة تدب فى الشراب شيئا فشيئا فيشربه المسلم وهو لا يدرى أنه قد اشتد فيكون قد شرب محرما وأمرهم أن ينتبذوا فى الظرف الذى يربطون فمه لأنه إن اشتد الشراب انشق الظرف فلا يشربون مسكرا
والنهى عن ( نبيذ الأوعية القوية ) فيه أحاديث كثيرة مستفيضة ثم روى عنه إباحة ذلك كما فى صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال قال
____________________
(34/190)
رسول الله ( كنت نهيتكم عن الأشربة إلا فى ظروف الأدم فاشربوا فى كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا ) وفى رواية ( نهيتكم عن الظروف وإن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه وكل مسكر حرام ) فمن الصحابة والتابعين من لم يثبت عنده النسخ فأخذ بالأحاديث الأول ومنهم من اعتقد صحة النسخ فأباح الانتباذ فى كل وعاء وهذا مذهب أبى حنيفة والشافعى والنهى عن بعض الأوعية قول مالك وعن أحمد روايتان
فلما سمع طائفة من علماء الكوفة أن من السلف من شرب النبيذ ظنوا أنهم شربوا المسكر فقال طائفة منهم كالشافعى والنخعى وأبى حنيفة وشريك وبن أبى ليلى وغيرهم يحل ذلك كما تقدم وهم فى ذلك مجتهدون قاصدون للحق وقد قال النبى ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر )
وأما سائر العلماء فقالوا بتلك الأحاديث الصحيحة وهذا هو الثابت عن الصحابة وعليه دل القياس الجلى فان الله تعالى قال ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) فان المفسدة التى لأجلها حرم الله سبحانه وتعالى الخمر هي أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع العداوة والبغضاء وهذا أمر تشترك فيه جميع المسكرات لا فرق فى ذلك بين مسكر ومسكر
____________________
(34/191)
والله سبحانه وتعالى حرم القليل لأنه يدعو إلى الكثير وهذا موجود فى جميع المسكرات
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن ( الخمر والميسر هل ( فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) وما هي المنافع
فأجاب هذه الآية أول ما نزلت فى الخمر فانهم سألوا عنها النبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ولم يحرمها فأخبرهم أن فيها ( إثما ) وهو ما يحصل بها من ترك المأمور وفعل المحظور وفيها ( منفعة ) وهو ما يحصل من اللذة ومنفعة البدن والتجارة فيها فكان من الناس من لم يشربها ومنهم من شرب ثم بعد هذا شرب قوم الخمر فقاموا يصلون وهم سكارى فخلطوا فى القراءة فأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) فنهاهم عن شربها قرب الصلاة فكان منهم من تركها ثم بعد ذلك أنزل الله تعالى ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) فحرمها الله فى هذه الآية من وجوه متعددة فقالوا انتهينا انتهينا ومضى حينئذ أمر النبى باراقتها فكسرت الدنان والظروف ولعن عاصرها ومعتصرها وشاربها وآكل ثمنها
____________________
(34/192)
( وسئل رحمه الله تعالى ( هل يجوز شرب قليل ما أسكر كثيره من غير خمر العنب كالصرماء والقمز والمزر أولا يحرم إلا القدح الأخير
فأجاب الحمد لله قد ثبت فى الصحيحين عن أبى موسى قال قلت يا رسول الله افتنا فى شرابين كنا نصنعهما باليمن ( البتع ) وهو العسل ينبذ حتى يشتد و ( المزر ) وهو من الذرة ينبذ حتى يشتد قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى جوامع الكلم فقال ( كل مسكر حرام ) وعن عائشة قالت سالت رسول الله عن ( البتع ) وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وفى صحيح مسلم عن جابر أن رجلا من اليمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له ( المزر ) فقال ( أمسكر هو ) قال نعم فقال ( كل مسكر حرام ان على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ) قالوا يارسول الله وما طينة الخبال قال ( عرق أهل النار أو عصارة أهل النار
____________________
(34/193)
ففى هذه الأحاديث الصحيحة أن النبى سئل عن أشربة من غير العنب كالمزر وغيره فاجابهم بكلمة جامعة وقاعدة عامة ( ان كل مسكر حرام ) وهذا يبين أنه أراد كل شراب كان جنسه مسكرا حرام سواء سكر منه أو لم يسكر كما فى خمر العنب ولو أراد بالمسكر القدح الأخير فقط لم يكن الشراب كله حراما ولكان بين لهم فيقول أشربوا منه ولا تسكروا ولأنه سألهم عن المزر ( أمسكر هو ) فقالوا نعم فقال ( كل مسكر حرام ) فلما سألهم ( أمسكر هو ) انما أراد يسكر كثيره كما يقال الخبز يشبع والماء يروى وانما يحصل الرى والشبع بالكثير منه لا بالقليل كذلك المسكر إنما يحصل السكر بالكثير منه فلما قالوا له هو مسكر قال ( كل مسكر حرام ) فبين انه أراد بالمسكر كما يراد بالمشبع والمروى ونحوهما ولم يرد آخر قدح وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) وفى لفظ ( كل مسكر حرام ) ومن تأوله على القدح الأخير لا يقول إنه خمر والنبى جعل كل مسكر حراما
وفى السنن عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله ( ان من الحنطة خمرا ومن الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا ومن العسل خمرا ) وفى الصحيح أن عمر بن الخطاب قال على منبر النبى صلى الله عليه
____________________
(34/194)
وسلم أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهى من خمسة اشياء من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ماخامر العقل والأحاديث فى هذا الباب كثيرة عن النبى تبين ان الخمر التى حرمها اسم لكل مسكر سواء كان من العسل أو التمر أو الحنطة أو الشعير أو لبن الخيل أو غير ذلك وفى السنن عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل مسكر حرام وما اسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ) قال الترمذى حديث حسن وقد روى أهل السنن عن النبى ( ما اسكر كثيره فقليله حرام ) من حديث جابر وبن عمر وعمر وبن شعيب عن أبيه عن جده وغيرهم وصححه الدار قطنى وغيره وهذا الذى عليه جماهير أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار والآثار
ولكن بعض علماء المسلمين سمعوا ان النبى رخص فى النبيذ وأن الصحابة كانوا يشربون النبيذ فظنوا أنه المسكر وليس كذلك بل النبيذ الذى شربه النبى والصحابة هو أنهم كانوا ينبذون التمر أو الزبيب أو نحو ذلك فى الماء حتى يحلو فيشربه أول يوم وثانى يوم وثالث يوم ولا يشربه بعد ثلاث لئلا تكون الشدة قد بدت فيه واذا اشتد قبل ذلك لم يشرب وقد
____________________
(34/195)
روى أهل السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها ) وروى هذا عن النبى من أربعة أوجه وهذا يتناول من شرب هذه الأشربة التى يسمونها الصرما وغير ذلك والأمر فى ذلك واضح فان خمر العنب قد أجمع المسلمون على تحريم قليلها وكثيرها ولا فرق فى الحس ولا العقل بين خمر العنب والتمر والزبيب والعسل فان هذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهذا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهذا يوقع العداوة والبغضاء وهذا يوقع العداوة والبغضاء
والله سبحانه قد أمر بالعدل والاعتبار وهذا هو ( القياس الشرعى ) وهو التسوية بين المتماثلين فلا يفرق الله ورسوله بين شراب مسكر وشراب مسكر فيبيح قليل هذا ولا يبيح قليل هذا بل يسوى بينهما واذا كان قد حرم القليل من احدهما حرم القليل منهما فان القليل يدعو إلى الكثير وأنه سبحانه أمر باجتناب الخمر ولهذا يؤمر باراقتها ويحرم اقتناؤها وحكم بنجاستها وأمر بجلد شاربها كل ذلك حسما لمادة الفساد فكيف يبيح القليل من الأشربة المسكرة والله أعلم
____________________
(34/196)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن نبيذ التمر والزبيب والمزر ( والسويفة ) التى تعمل من الجزر والذى يعمل من العنب يسمى ( النصوح ) هل هو حلال وهل يجوز استعمال شيء من هذا أم لا فاجاب الحمد لله رب العالمين كل شراب مسكر فهو خمر فهو حرام بسنة رسول الله المستفيضة عنه باتفاق الصحابة كما ثبت عنه فى الصحيح من حديث أبى موسى انه سئل عن شراب يصنع من الذرة يقال له ( المزر ) وشراب يصنع من العسل يقال له ( البتع ) وكان قد أوتى النبى جوامع الكلم فقال ( كل مسكر حرام ) وفى الصحيحين عن عائشة عنه انه قال ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وفى الصحيح عن بن عمر عنه انه قال ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ) وفى لفظ الصحيح ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) وفى السنن عنه انه قال ( ما اسكر كثيره فقليله حرام ) وقد صحح ذلك غير واحد من الحفاظ
والله عز وجل حرم عصير العنب النيء اذا غلا واشتد وقذف بالزبد لما فيه من الشدة المطربة التى تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع العداوة والبغضاء وكل ما كانت فيه هذه الشدة المطربة فهو خمر من أى مادة كان من الحبوب والثمار وغير ذلك وسواء كان نيئا أو مطبوخا
____________________
(34/197)
لكنه إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه لم يبق مسكرا اللهم الا ان يضاف إليه أفاويه او نوع آخر والأصل فى ذلك ( أن كل ما أسكر فهو حرام ) وهذا مذهب جماهير العلماء الأئمة كما قال الشافعى وأحمد وغيرهم وهذا المسكر يوجب الحد على شاربه وهو نجس عند الأئمة
وكذلك ( الحشيشة ) المسكرة يجب فيها الحد وهى نجسة فى أصح الوجوه وقد قيل إنها طاهرة وقيل يفرق بين يابسها ومائعها والأول الصحيح لأنها تسكر بالاستحالة كالخمر النيء بخلاف مالا يسكر بل يغيب العقل كالبنج أو يسكر بعد الاستحالة كجوزة الطيب فان ذلك ليس بنجس ومن ظن أن الحشيشة لا تسكر وانما تغيب العقل بلا لذة فلم يعرف حقيقة أمرها فانه لولا ما فيها من اللذة لم يتناولوها ولا أكلوها بخلاف البنج ونحوه مما لا لذة فيه والشارع فرق فى المحرمات بين ما تشتهيه النفوس وما لا تشتهيه فما لا تشتهيه النفوس كالدم والميتة اكتفى فيه بالزاجر الشرعى فجعل العقوبة فيه التعزيز واما ما تشتهيه النفوس فجعل فيه مع الزاجر الشرعى زاجرا طبيعيا وهو الحد ( والحشيشة ) من هذا الباب
( وسئل رحمه الله ( عن ( النصوح ) هل هو حلال أم حرام وهم يقولون إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يعمله ( وصورته ) أن يأخذ ثلاثين رطلا من ماء عنب ويغلى حتى يبقى ثلثه فهل هذه صورته وقد نقل
____________________
(34/198)
من فعل بعض ذلك أنه يسكر وهو اليوم جهارا فى الاسكندرية ومصر ونقول لهم هو حرام فيقولون كان على زمن عمر ولو كان حراما لنهى عنه
فأجاب الحمد لله قد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبى فى الصحاح والسنن والمسانيد أنه حرم كل مسكر وجعله خمرا كما فى صحيح مسلم عن بن عمر عن النبى أنه قال ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) وفى لفظ ( كل مسكر حرام ) وفى الصحيحين عن عائشة عن النبى أنه قال ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وفى الصحيحين عن أبى موسى عن النبى أنه سئل عن شراب العسل يسمى ( المزر ) وكان قد أوتى جوامع الكلم فقال ( كل مسكر حرام ) وفى الصحيحين عن عمر بن الخطاب انه قال على المنبر منبر النبى ان الله حرم الخمر وهى من خمسة أشياء من الحنطة والشعير والعنب والتمر والزبيب والخمر ما خامر العقل وهو فى السنن مسند عن بن عمر عن النبى وروى عنه من غير وجه أنه قال ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) وقد صححه طائفة من الحفاظ والأحاديث فى ذلك كثيرة فذهب أهل الحجاز واليمن ومصر والشام والبصرة وفقهاء الحديث كمالك والشافعى وأحمد بن حنبل وغيرهم أن كل ما أسكر
____________________
(34/199)
كثيره فقليله حرام وهو خمر عندهم من أى مادة كانت من الحبوب والثمار وغيرها سواء كان من العنب أو التمر أو الحنطة أو الشعير أو لبن الخيل أو غير ذلك وسواء كان نيا أو مطبوخا وسواء ذهب ثلثاه او ثلثه او نصفه أو غير ذلك فمتى كان كثيره مسكرا حرم قليله بلا نزاع بينهم
ومع هذا فهم يقولون بما ثبت عن عمر فان عمر رضى الله عنه لما قدم الشام وأراد أن يطبخ للمسلمين شرابا لا يسكر كثيره طبخ العصير حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه وصار مثل الرب فادخل فيه أصبعه فوجده غليظا فقال كأنه الطلا يعنى الطلا الذى يطلى به الابل فسموا ذلك ( الطلا ) فهذا الذى أباحه عمر لم يكن يسكر وذكر ذلك أبو بكر عبد العزيز بن جعفر صاحب الخلال انه مباح باجماع المسلمين وهذا بناء على أنه لا يسكر ولم يقل أحد من الأئمة المذكورين إنه يباح مع كونه مسكرا
ولكن نشأت ( شبهة ) من جهة أن هذا المطبوخ قد يسكر لأشياء إما لأن طبخه لم يكن تاما فانهم ذكروا صفة طبخه أنه يغلى عليه أولا حتى يذهب وسخه ثم يغلى عليه بعد ذلك حتى يذهب ثلثاه فاذا ذهب ثلثاه والوسخ فيه كان الذاهب منه أقل من الثلثين لأن الوسخ يكون حينئذ من غير الذاهب وإما من جهة أنه قد يضاف إلى المطبوخ من الأفاويه وغيرها
____________________
(34/200)
ما يقويه ويشده حتى يصير مسكرا فيصير بذلك من باب الخليطين وقد استفاض عن النبى انه ( نهى عن الخليطين ) لتقوية احدهما صاحبه كما نهى عن خليط التمر والزبيب وعن الرطب والتمر ونحو ذلك
وللعلماء نزاع فى ( الخليطين ) إذا لم يسكر كما تنازع العلماء فى نبيذ الأوعية التى لا يشتد ما فيها بالغليان وكما تنازعوا فى العصير والنبيذ بعد ثلاث وأما اذا صار الخليطان من المسكر فانه حرام باتفاق هؤلاء الأئمة فالذى أباحه عمر من المطبوخ كان صرفا فاذا خلطه بما قواه وذهب ثلثاه لم يكن ذلك ما أباحه عمر وربما يكون لبعض البلاد طبيعة يسكر فيها ما ذهب ثلثاه فيحرم اذا أسكر فإن مناط التحريم هو السكر باتفاق الأئمة ومن قال إن عمر أو غيره من الصحابة أباح مسكرا فقد كذب عليهم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عمن قال إن خمر العنب والحشيشة يجوز بعضه اذا لم يسكر فى مذهب الامام أبى حنيفة فهل هو صادق فى هذه الصورة أم كاذب فى نقله ومن استحل ذلك هل يكفر أم لا وذكر ان قليل المزر يجوز شربه فهل حكمه حكم خمر العنب فى مذهب الامام أبى حنيفة أم له حكم آخر كما ادعاه هذا الرجل
____________________
(34/201)
فأجاب الحمد لله أما الخمر التى هي عصير العنب الذى اذا غلا واشتد وقذف بالزبد فيحرم قليلها وكثيرها باتفاق المسلمين ومن نقل عن أبى حنيفة إباحة قليل ذلك فقد كذب بل من استحل ذلك فانه يستتاب فان تاب والا قتل ولو استحل شرب الخمر بنوع شبهة وقعت لبعض السلف أنه ظن أنها إنما تحرم على العامة لاعلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات فاتفق الصحابة كعمر وعلى وغيرهما على أن مستحل ذلك يستتاب فان أقر بالتحريم جلد وإن أصر على استحلالها قتل
بل وأبو حنيفة يحرم القليل والكثير من أشربة أخر وان لم يسمها خمرا كنبيذ التمر والزبيب النيء فانه يحرم عنده قليله وكثيره اذا كان مسكرا وكذلك المطبوخ من عصير العنب الذى لم يذهب ثلثاه فانه يحرم عنده قليله اذا كان كثيره يسكر فهذه الأنواع الأربعة تحرم عنده قليلها وكثيرها وان لم يسكر منها
وإنما وقعت ( الشبهة فى سائر المسكر كالمزر الذى يصنع من القمح ونحوه فالذى عليه جماهير ائمة المسلمين كما فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى ان أهل اليمن قالوا يارسول الله إن عندنا شرابا يقال له ( البتع ) من العسل وشرابا من الذرة يقال له ( المزر ) وكان النبى قد أوتى جوامع الكلم فقال ( كل مسكر فهو حرام ) وفى الصحيحين
____________________
(34/202)
عن عائشة عنه أنه قال ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وفى الصحيح أيضا عن بن عمر ان النبى قال ( كل مسكر خمر وكل مسكرحرام ) وفى السنن من غير وجه عنه أنه قال ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) واستفاضت الأحاديث بذلك
فان الله لما حرم الخمر لم يكن لأهل مدينة النبى شراب يشربونه الا من التمر فكانت تلك خمرهم وجاء عن النبى ( أنه كان يشرب النبيذ ) والمراد به النبيذ الحلو وهو أن يوضع التمر أو الزبيب فى الماء حتى يحلو ثم يشربه وكان النبى قد نهاهم ان ينتبذوا فى القرع والخشب والحجر والظرف المزفت لأنهم اذا انتبذوا فيها دب السكر وهم لا يعلمون فيشرب الرجل مسكرا ونهاهم عن الخليطين من التمر والزبيب جميعا لأن أحدهما يقوى الآخر ونهاهم عن شرب النبيذ بعد ثلاث لأنه قد يصير فيه السكر والانسان لا يدرى كل ذلك مبالغة منه فمن اعتقد من العلماء أن النبيذ الذى أرخص فيه يكون مسكرا يعنى من نبيذ العسل والقمح ونحو ذلك فقال يباح أن يتناول منه ما لم يسكر فقد أخطأ
وأما جماهير العلماء فعرفوا أن الذى أباحه هو الذى لا يسكر وهذا القول هو الصحيح فى النص والقياس أما ( النص ) فالأحاديث الكثيرة فيه وأما ( القياس ) فلأن جميع الأشربة المسكرة متساوية فى كونها تسكر
____________________
(34/203)
والمفسدة الموجودة فى هذا موجودة فى هذا والله تعالى لا يفرق بين المتماثلين بل التسوية بين هذا وهذا من العدل والقياس الجلى فتبين أن كل مسكر خمر حرام والحشيشة المسكرة حرام ومن استحل السكر منها فقد كفر بل هي فى أصح قولى العلماء نجسة كالخمر فالخمر كالبول والحشيشة كالعذرة
وقال شيخ الاسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية ( فصل (
وأما ( الحشيشة ) الملعونة المسكرة فهي بمنزلة غيرها من المسكرات والمسكر منها حرام باتفاق العلماء بل كل ما يزيل العقل فانه يحرم أكله ولو لم يكن مسكرا كالبنج فان المسكر يجب فيه الحد وغير المسكر يجب فيه التعزير
وأما قليل ( الحشيشة المسكرة ) فحرام عند جماهير العلماء كسائر القليل من المسكرات وقول النبى ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) يتناول ما يسكر ولافرق بين ان يكون المسكر مأكولا او مشروبا او جامدا او مائعا فلو اصطبغ كالخمر كان حراما ولو أماع
____________________
(34/204)
الحشيشة وشربها كان حراما ونبينا صلى الله علية وسلم بعث بجوامع الكلم فاذا قال كلمة جامعة كانت عامة فى كل ما يدخل فى لفظها ومعناها سواء كانت الاعيان موجودة فى زمانة أو مكانة أو لم تكن
فلما قال ( كل مسكر حرام ) تناول ذلك ما كان بالمدينة من خمر التمر وغيرها وكان يتناول ما كان بارض اليمن من خمر الحنطة والشعير والعسل وغير ذلك ودخل فى ذلك ما حدث بعده من خمر لبن الخيل الذى يتخذه الترك ونحوهم فلم يفرق أحد من العلماء بين المسكر من لبن الخيل والمسكر من الحنطة والشعير وان كان أحدهما موجودا فى زمنه كان يعرفه والآخر لم يكن يعرفه إذ لم يكن بأرض العرب من يتخذ خمرا من لبن الخيل
وهذه ( الحشيشة ) فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين فى أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة حيث ظهرت دولة التتر وكان ظهورها مع ظهور سيف ( جنكسخان ) لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات وهى شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه والمسكر شر منها من وجه آخر فانها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولا تورث التخنيث والديوثة وتفسد المزاج فتجعل الكبير كالسفنجة وتوجب كثرة الأكل وتورث الجنون وكثير من الناس صار مجنونا بسبب أكلها
____________________
(34/205)
ومن الناس من يقول إنها تغير العقل فلا تسكر كالبنج وليس كذلك بل تورث نشوة ولذة وطربا كالخمر وهذا هو الداعى إلى تناولها وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر ولهذا قال الفقهاء انه يجب فيها الحد كما يجب فى الخمر
وتنازعوا فى ( نجاستها ) على ثلاثة أوجه فى مذهب أحمد وغيره فقيل هي نجسه وقيل ليست بنجسة وقيل رطبها نجس كالخمر ويابسها ليس بنجس والصحيح أن النجاسة تتناول الجميع كما تتناول النجاسة جامد الخمر ومائعها فمن سكر من شراب مسكر أو حشيشة مسكرة لم يحل له قربان المسجد حتى يصحو ولا ( تصح ) صلاته حتى يعلم ما يقول ولابد أن يغسل فمه ويديه وثيابه فى هذا وهذا والصلاة فرض عينية لكن لا تقبل منه حتى يتوب أربعين يوما كما قال النبى ( من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما فان تاب تاب الله عليه فان عاد فشربها لم تقبل له صلاة أربعين يوما فان تاب تاب الله عليه فان عاد فشربها كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قيل وما طينة الخبال قال عصارة أهل النار أو عرق أهل النار )
وأما قول القائل ان هذه ما فيها آية ولا حديث فهذا من جهله فان القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة وقضايا كلية تتناول كلما
____________________
(34/206)
دخل فيها وكلما دخل فيها فهو مذكور فى القرآن والحديث باسمه العام وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص فان الله بعث محمدا إلى جميع الخلق وقال { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } وقال { وما أرسلناك إلا كافة للناس } وقال تعالى { الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } وقال { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } فاسم ( الناس ) و ( العالمين ) يدخل فيه العرب وغير العرب من الفرس والروم والهند والبرر فلو قال قائل إن محمدا ما أرسل إلى الترك والهند والبرر لأن الله لم يذكرهم فى القرآن كان جاهلا كما لو قال ان الله لم يرسله إلى بنى تميم وبنى أسد وغطفان وغير ذلك من قبائل العرب فان الله لم يذكر هذه القبائل باسماءها الخاصة وكما لو قال ان الله لم يرسله إلى أبى جهل وعتبة وشيبة وغيرهم من قريش لأن الله لم يذكرهم باسماءهم الخاصة فى القرآن
وكذلك لما قال { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } دخل فى الميسر الذى لم تعرفه العرب ولم يعرفه النبى وكل الميسر حرام باتفاق المسلمين وان لم يعرفه النبى كاللعب بالشطرنج وغيره بالعوض فانه حرام باجماع المسلمين وهو ( الميسر ) الذى حرمه الله ولم يكن على عهد النبى ( والنرد ) أيضا من ( الميسر ) الذى حرمه الله وليس فى القرآن ذكر النرد والشطرنج باسم
____________________
(34/207)
خاص بل لفظ الميسر يعمها وجمهور العلماء على أن النرد والشطرنج محرمان بعوض وغير عوض
وكذلك قوله { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } إلى قوله { إذا حلفتم } وقوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } تناول كل أيمان المسلمين التى كانوا يحلفون بها على عهد النبى والتى صاروا يحلفون بها بعد فلو حلف بالفارسية والتركية والهندية والبربرية باسم الله تعالى بتلك اللغة انعقدت يمينه ووجبت عليه الكفارة اذا حنث باتفاق العلماء مع أن اليمين بهذه اللغات لم تكن من ايمان المسلمين على عهد رسول الله وهذا بخلاف من حلف بالمخلوقات كالحلف بالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك وغير ذلك فان هذه ليست من ايمان المسلمين بل هي شرك كما قال ( من حلف بغير الله فقد أشرك )
وكذلك قال تعالى { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا } يعم كل ما يسمى صعيدا ويعم كل ماء سواء كان من المياه الموجودة فى زمن النبى أو مما حدث بعده فلو استخرج قوم عيونا وكان فيها ماء متغير اللون والريح والطعم وأصل الخلقة وجب الاغتسال به بلا نزاع نعرفه بين
____________________
(34/208)
العلماء وان لم تكن تلك المياه معروفة عند المسلمين على عهد النبى كما قال تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } فدخل فيه كل مشرك من العرب وغير العرب كمشركى الترك والهند والبربر وان لم يكن هؤلاء ممن قتلوا على عهد النبى
وكذلك قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } يدخل فيه جميع أهل الكتاب وان لم يكونوا ممن قتلوا على عهد النبى فان الذين قتلوا على زمانه كانوا من نصارى العرب والروم وقاتل اليهود قبل نزول هذه الآية وقد دخل فيها النصارى من القبط والحبشة والجركس والأل واللاص والكرج وغيرهم فهذا وأمثاله نظير عموم القرآن لكل ما دخل فى لفظه ومعناه وان لم يكن باسمه الخاص
ولو قدر بان اللفظ لم يتناوله وكان فى معنى ما فى القرآن والسنة الحق به بطريق الاعتبار والقياس ( كما ) دخل اليهود والنصارى والفرس ( فى عموم الآية ) و ( دخلت ) جميع المسكرات فى معنى خمر العنب وأنه بعث محمدا بالكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
____________________
(34/209)
و ( الكتاب ) القرآن و ( الميزان ) العدل والقياس الصحيح هو من العدل لأنه لا يفرق بين المتماثلين بل سوى بينهما فاستوت السيئات فى المعنى الموجب للتحريم لم يخص أحدها بالتحريم دون الآخر بل من العدل أن يسوى بينهما ولو لم يسو بينهما كان تناقضا وحكم الله ورسوله منزه عن التناقض ولو أن الطبيب حمى المريض عن شيء لما فيه من الضرر وأباحه له لخرج عن قانون الطب والشرع طب القلوب والأنبياء أطباء القلوب والأديان ولابد إذا أحل الشرع شيئا منه أن يخص هذا بما يفرق به بينه وبين هذا حتى يكون ( فيه ) معنى خاص بما حرمه دون ما أحله والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه
فأجاب الحمد لله هذه الحشيشة الصلبة حرام سواء سكر منها أو لم يسكر والسكر منها حرام باتفاق المسلمين ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فانه يستتاب فان تاب وإلا قتل مرتدا لا يصلى عليه ولا يدفن فى مقابر المسلمين وأما إن اعتقد ذلك قربة وقال هي لقيمة الذكر والفكر وتحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن وتنفع فى
____________________
(34/210)
الطريق فهو أعظم وأكبر فان هذا من جنس دين النصارى الذين يتقربون بشرب الخمر ومن جنس من يعتقد الفواحش قربة وطاعة قال الله تعالى { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } ومن كان يستحل ذلك جاهلا وقد سمع بعض الفقهاء يقول ** حرموها من غير عقل ونقل ** ** وحرام تحريم غير الحرام **
فانه ما يعرف الله ورسوله وأنها محرمة والسكر منها حرام بالاجماع وإذا عرف ذلك ولم يقر بتحريم ذلك فانه يكون كافرا مرتدا كما تقدم وكل ما يغيب العقل فانه حرام وان لم تحصل به نشوة ولاطرب فان تغيب العقل حرام باجماع المسلمين وأما تعاطى ( البنج ) الذى لم يسكر ولم يغيب العقل ففيه التعزير
وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة وإنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب فهي تجامع الشراب المسكر فى ذلك والخمر توجب الحركة والخصومة وهذه توجب الفتور والذلة وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل وفتح باب الشهوة وما توجبه من الدياثة مما هي من شر الشراب المسكر وانما حدثت فى الناس بحدوث التتار
____________________
(34/211)
وعلى تناول القليل منها والكثير حد الشرب ثمانون سوطا أو أربعون إذا كان مسلما يعتقد تحريم المسكر ويغيب العقل
وتنازع الفقهاء فى نجاستها على ثلاثة أقوال ( أحدها ) انها ليست نجسة ( والثانى ) ان مائعها نجس وان جامدها طاهر و ( الثالث ) وهو الصحيح أنها نجسة كالخمر فهذه تشبه العذرة وذلك يشبه البول وكلاهما من الخبائث التى حرمها ورسوله ومن ظهر منه أكل الحشيشة فهو بمنزلة من ظهر منه شرب الخمر وشر منه من بعض الوجوه ويهجر ويعاقب على ذلك كما يعاقب هذا للوعيد الوارد فى الخمر مثل قوله ( لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وحاملها وآكل ثمنها ) ومثل قوله ( من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين يوما فان تاب تاب الله عليه فان عاد وشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يوما فان تاب تاب الله عليه وإن عاد فشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يوما فان تاب تاب الله عليه وإن عاد فشربها فى الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال وهى عصارة أهل النار ) وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( كل مسكر حرام ) وسئل عن هذه الأشربة وكان قد أوتى جوامع الكلم فقال صلى الله عليه وسلم ( كل مسكر حرام
____________________
(34/212)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عما يجب على آكل الحشيشة ومن ادعى أن أكلها جائز حلال مباح
فأجاب أكل هذه الحشيشة الصلبة حرام وهى من أخبث الخبائث المحرمة وسواء أكل قليلا أو كثيرا لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب فان تاب وإلا قتل كافرا مرتدا لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين وحكم المرتد شر من حكم اليهودى والنصرانى سواء اعتقد ان ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون انها لقمة الفكر والذكر وانها تحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن وانهم لذلك يستعملونها
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر تباح للخاصة متأولا قوله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا } فلما رفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب وتشاور الصحابة فيهم اتفق عمر وعلى وغيرهما من علماء الصحابة رضى الله عنهم على أنهم ان اقروا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على الاستحلال
____________________
(34/213)
قتلوا وهكذا حشيشة العشب من اعتقد تحريمها وتناولها فانه يجلد الحد ثمانين سوطا أو أربعين هذا هو الصواب وقد توقف بعض الفقهاء فى الجلد لأنه ظن أنها مزيلة للعقل غير مسكرة كالبنج ونحوه مما يغطى العقل من غير سكر فان جميع ذلك حرام باتفاق المسلمين إن كان مسكرا ففيه جلد الخمر وإن لم يكن مسكرا ففيه التعزير بما دون ذلك ومن اعتقد حل ذلك كفر وقتل
والصحيح ان الحشيشة مسكرة كالشراب فان آكليها ينشون بها ويكثرون تناولها بخلاف البنج وغيره فانه لا ينشى ولا يشتهى وقاعدة الشريعة ان ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد ومالا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير ( والحشيشة ) مما يشتهيها آكلوها ويمتنعون عن تركها ونصوص التحريم فى الكتاب والسنة على من يتناولها كما يتناول غير ذلك وانما ظهر فى الناس أكلها قريبا من نحو ظهور التتار فانها خرجت وخرج معها سيف التتار
( وسئل رحمه الله ( عمن يأخذ شيئا من العنب ويضيف إليه أصنافا من العطر ثم يغليه إلى أن ينقص الثلث ويشرب منه لأجل الدواء ومتى أكثر شربه أسكر
____________________
(34/214)
فأجاب الحمد لله متى كان كثيره يسكر فهو حرام وهو خمر ويحد صاحبه كما ثبت فى الأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم وعليه جماهير السلف والخلف كما فى صحيح مسلم عن بن عمر عن النبى قال ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) وفى الصحيحين عن عائشة قالت سئل رسول الله عن ( البتع ) وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وفى الصحيح عن ابى موسى قال قلت يا رسول الله أفتنا فى شراب كنا نصنعه فى اليمن ( البتع ) وهو من نبيذ العسل ينبذ حتى يشتد فقال ( كل مسكر حرام ) وفى صحيح مسلم عن جابر أن رجلا من حبشان اليمن سأل رسول الله عن شراب يصنعونه بارضهم يقال له ( المزر ) فقال ( أيسكر ) قال نعم فقال ( كل مسكر حرام ان على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ) قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال قال ( عرق أهل النار أو عصارة أهل النار ) وقد روى عن النبى من وجوه متعددة ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) وقد صحح ذلك غير واحد من الحفاظ والأحاديث فى ذلك متعددة
واذا طبخ العصير حتى يذهب ثلثه أو نصفه وهو يسكر فهو حرام عند الأئمة الأربعة بل هو خمر عند مالك والشافعى وأحمد وأما إن ذهب ثلثاه وبقى
____________________
(34/215)
ثلثه فهذا لا يسكر فى العادة إلا إذا انضم إليه ما يقويه أو لسبب آخر فمتى أسكر فهو حرام باجماع المسلمين وهو ( الطلاء ) الذى أباحه عمر بن الخطاب للمسلمين وأما إن أسكر بعد ما طبخ وذهب ثلثاه فهو حرام ايضا عند مالك والشافعى وأحمد
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن المداومة على شرب الخمر وترك الصلاة وما حكمه فى الاصرار على ذلك
فأجاب الحمد لله أما ( شارب الخمر ) فيجب باتفاق الأئمة أن يجلد الحد إذا ثبت ذلك عليه وحده أربعون جلدة أو ثمانون جلدة فان جلده ثمانين جاز باتفاق الأئمة وان اقتصر على الأربعين ففى الاجزاء نزاع مشهور فمذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد فى احدى الروايتين أنه يجب الثمانون ومذهب الشافعى وأحمد فى الرواية الأخرى عنه أن الأربعين الثانية تعزير يرجع فيها إلى اجتهاد الامام فان احتاج إلى ذلك لكثرة الشرب أو إصرار الشارب ونحو ذلك فعل وقد كان عمر بن الخطاب يعزر باكثر من ذلك كما روى عنه أنه كان ينفى الشارب عن بلده ويمثل به بحلق رأسه
____________________
(34/216)
وقد روى من وجوه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شر بها فاجلدوه ثم إن شربها فاجلدوه ثم إن شربها فاجلدوه ثم إن شربها فى الثالثة أو الرابعة فاقتلوه ) فأمر بقتل الشارب فى الثالثة أو الرابعة وأكثر العلماء لا يوجبون القتل بل يجعلون هذا الحديث منسوخا وهو المشهور من مذاهب الأئمة وطائفة يقولون إذا لم ينتهوا عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك كما فى حديث آخر فى السنن أنه نهاهم عن أنواع من الأشربة قال ( فان لم يدعوا ذلك فاقتلوهم ) والحق ما تقدم وقد ثبت فى الصحيح أن رجلا كان يدعى حمارا وهو كان يشرب الخمر فكان كلما شرب جلده النبى فلعنه رجل فقال لعنة الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال ( لا تلعنه فانه يحب الله ورسوله ) وهذا يقتضى أنه جلد مع كثرة شربه
واما ( تارك الصلآة ( فانة يستحق العقوبة باتفاق ألائمة واكثرهم كمالك والشافعى وأحمد يقولون إنة يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهل يقتل كافرا مرتدا أو فاسقا كغيرة من أصحاب الكبائر على قولين فاذا لم تمكن إقامة الحد على مثل هذا فانة يعمل معة الممكن فيهجر ويوبخ حتى يفعل المفروض ويترك المحظور ولا يكون ممن قال الله فية ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلآة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) مع أن اضاعتها تاخيرها عن وقتها فكيف بتاركها
____________________
(34/217)
( وسئل رحمه الله ( عن رجل عنده حجرة خلفها فلوة فهل يجوز الشرب من لبنها أم لا
فأجاب يجوز الشرب من لبنها إذا لم يصر مسكرا
( وسئل قدس الله روحه ( عن رجل اعتاد أن يتناول كل ليلة قبل العصر شيئا من المعاجين مدة سنين فسئل عن ذلك فقال أرى فيه اشياء من المنافع فهل يباح ذلك له أم لا
فأجاب إن كان ذلك يغيب العقل لم يجز له اكله فان كل ما يغيب العقل يحرم باتفاق المسلمين
____________________
(34/218)
( وسئل رحمه الله ( عن قوله ( من شرب الخمر فاجلدوه فان عاد فاجلدوه فان عاد فاقتلوه ) هل لهذا الحديث أصل ومن رواه
فأجاب نعم له أصل وهو مروى من وجوه متعددة وهو ثابت عند أهل الحديث لكن أكثر العلماء يقولون هو منسوخ وتنازعوا فى ناسخه على عدة أقاويل ومنهم من يقول بل حكمه باق وقيل بل الوجوب منسوخ والجواز باق وقد رواه أحمد والترمذى وغيرها ولا أعلم أحدا قدح فيه والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عمن هش الذرة فاخذ يغلى فى قدره ثم ينزله ويعمل عليه قمحا ويخليه إلى بكرة ويصفيه فيكون مما لا يسكر فى ذلك اليوم ثم يخليه يومين أو ثلاثة بعد ذلك فيبقى يسكر هل يجوز أن يشرب منه فى أول يوم أم لا
____________________
(34/219)
فأجاب يجوز شربه ما لم يسكر إلى ثلاثة أيام فاما إذا أسكر فانه حرام بنص رسول الله سواء أسكر بعد الثلاثة أو قبل الثلاثة ومتى أسكر حرم فانه ثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام )
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن ( الخمر ) إذا غلى على النار ونقص الثلث هل يجوز استعماله أم لا
فأجاب الحمد لله إذا صار مسكرا فانه حرام تجب اراقته ولا يحل بالطبخ وأما إذا طبخ قبل أن يصير مسكرا حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه ولم يسكر فانه حلال عند جماهير المسلمين وأما إن طبخ قبل أن يصير مسكرا حتى ذهب ثلثه أو نصفه فان كان مسكرا فانه حرام فى مذهب الأئمة الأربعة وان لم يكن مسكرا فانه يستعمل ما لم يسكر إلى ثلاثة أيام
____________________
(34/220)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن جماعة من المسلمين رجال كهول وشبان وهم حجاج مواظبون على أداء ما افترض عليهم من صوم وصلاة وعبادة وفيهم كبير القدر معروفون بالثقة والأمانة بين المسلمين فى أقوالهم وأفعالهم ليس عليهم شيء من ظواهر السوء والفسوق وقد اجتمعت عقولهم وأذهانهم ورأيهم على أكل ( الغبيراء ) وكان قولهم واعتقادهم فيها أنها معصية وسيئة غير أنهم مع ذلك يقولون فى اعتقادهم بدليل كتاب الله سبحانه وتعالى وهو ( ان الحسنات يذهبن السيئات ) وذكروا ايضا أنها حرام غير أن لهم وردا بالليل وتعبدات ويزعمون أنها إذا حصلت نشوتها برءوسهم تأمرهم بتلك العبادة ولا تأمرهم بسوء ولا فاحشة ونسبوا أنه ليس لها ضرر لأحد من خلق الله تعالى كالزنا وشرب الخمر والسرقة وأنه لا يجب على من أكلها حد من الحدود إلا أنها تتعلق بمخالفة أمر من أمور الله سبحانه وتعالى والله يغفر ما بين العبد وربه واجتمع بهم رجل صادق القول وذكر عنهم ذلك ووافقهم على أكلها بحكمهم عليه وحديثهم له واعترف على نفسه بذلك فهل يجب على آكلها حد شارب الخمر أم لا أفتونا
____________________
(34/221)
فأجاب الحمد لله رب العالمين نعم يجب على آكلها حد شارب الخمر وهؤلاء القوم ضلال جهال عصاة لله ولرسوله وكفى برجل جهلا أن يعرف بأن هذا الفعل محرم وأنه معصية لله ولرسوله ثم يقول إنه تطيب له العبادة وتصلح له حاله ويح هذا القائل أيظن أن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حرم على الخلق ما ينفعهم ويصلح لهم حالهم نعم قد يكون فى الشيء منفعة وفيه مضرة أكثر من منفعته فيحرمه الله سبحانه وتعالى لأن المضرة إذا كانت أكثر من المنفعة بقيت الزيادة مضرة محضة وصار هذا الرجل كأنه قال لرجل خذ منى هذا الدرهم واعطنى دينارا فجهله يقول له هو يعطيك درهما فخذه والعقل يقول إنما يحصل الدرهم بفوات الدينار وهذا ضرر لا منفعة له بل جميع ما حرمه الله ورسوله إن ثبت فيه منفعة ما فلابد أن يكون ضرره أكثر
فهذه ( الحشيشة الملعونة ) هي وآكلوها ومستحلوها الموجبة لسخط الله وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين المعرضة صاحبها لعقوبة الله إذا كانت كما يقوله الضالون من أنها تجمع الهمة وتدعو إلى العبادة فانها مشتملة على ضرر فى دين المرء وعقله وخلقه وطبعه أضعاف ما فيها من خير ولا خير فيها ولكن هي تحلل الرطوبات فتتصاعد الأبخرة إلى الدماغ وتورث خيالات فاسدة فيهون على المرء ما يفعله من عبادة ويشغله بتلك التخيلات عن إضرار الناس وهذه رشوة الشيطان يرشو بها المبطلين ليطيعوه
____________________
(34/222)
فيها بمنزلة الفضة القليلة فى الدرهم المغشوش وكل منفعة تحصل بهذا السبب فانها تنقلب مضرة فى المآل ولا يبارك لصاحبها فيها وإنما هذا نظير السكران بالخمر فانها تطيش عقله حتى يسخو بماله ويتشجع على أقرانه فيعتقد الغر أنها أورثته السخاء والشجاعة وهو جاهل وإنما أورثته عدم العقل ومن لا عقل له لا يعرف قدر النفس والمال فيجود بجهله لا عن عقل فيه
وكذلك هذه الحشيشة المسكرة إذا أضعفت العقل وفتحت باب الخيال تبقى العادة فيها مثل العبادات فى الدين الباطل دين النصارى فان الراهب تجده يجتهد فى أنواع العبادة لا يفعلها المسلم الحنيف فان دينه باطل والباطل خفيف ولهذا تجود النفوس فى السماع المحرم والعشرة المحرمة بالأموال وحسن الخلق بمالا تجود به فى الحق وما هذا بالذى يبيح تلك المحارم أو يدعو المؤمن إلى فعله لأن ذلك إنما كان لأن الطبع لما أخذ نصيبه من الحظ المحرم ولم يبال بما بذله عوضا عن ذلك وليس فى هذا منفعة فى دين المرء ولا دنياه وإنما ذلك لذة ساعة بمنزلة لذة الزانى حال الفعل ولذة شفاء الغضب حال القتل ولذة الخمر حال النشوة ثم إذا صحا من ذلك وجد عمله باطلا وذنوبه محيطة به وقد نقص عليه عقله ودينه وخلقه
وأين هؤلاء الضلال مما تورثه هذه الملعونة من قلة الغيرة وزوال الحمية
____________________
(34/223)
حتى يصير آكلها إما ديوثا وأما مأبونا وأما كلاهما وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقا كثيرا مجانين وتجعل الكبد بمنزلة السفنج ومن لم يجن منهم فقد أعطته نقص العقل ولو صحا منها فانه لابد أن يكون فى عقله خبل ثم إن كثيرها يسكر حتى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهى وإن كانت لا توجب قوة نفس صاحبها حتى يضارب ويشاتم فكفى بالرجل شرا أنها تصده عن ذكر الله وعن الصلاة إذا سكر منها وقليلها وإن لم يسكر فهو بمنزلة قليل الخمر ثم إنها تورث من مهانة آكلها ودناءة نفسه وانفتاح شهوته مالا يورثه الخمر ففيها من المفاسد ما ليس فى الخمر وإن كان فى الخمر مفسدة ليست فيها وهى الحدة فهي بالتحريم أولى من الخمر لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر وضرر شارب الخمر على الناس أشد إلا أنه فى هذه الأزمان لكثرة أكل الحشيشة صار الضرر الذى منها على الناس أعظم من الخمر وإنما حرم الله المحارم لأنها تضر أصحابها وإلا فلو ضرت الناس ولم تضره لم يحرمها إذ الحاسد يضره حال المحسود ولم يحرم الله اكتساب المعالى لدفع تضرر الحاسد هذا وقد قال رسول الله ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ) وهذه مسكرة ولو لم يشملها لفظ بعينها لكان فيها من المفاسد ما حرمت الخمر لأجلها مع إن فيها مفاسد أخر غير مفاسد الخمر توجب تحريمها والله أعلم
____________________
(34/224)
& ( باب التعزير (
( سئل شيخ الاسلام أبو العباس ( عن رجل من امراء المسلمين له مماليك وعنده غلمان فهل له أن يقيم على أحدهم حدا اذا ارتكبه وهل له أن يأمرهم بواجب اذا تركوه كالصلوات الخمس ونحوها وما صفة السوط الذى يعاقبهم به
فأجاب الحمد لله الذى يجب عليه أن يأمرهم كلهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر والبغى وأقل ما يفعل أنه إذا استأجر أجيرا منهم يشترط عليه ذلك كما يشترط عليه ما يشترطه من الأعمال ومتى خرج واحد منهم عن ذلك طرده
وإذا كان قادرا على عقوبتهم بحيث يقره السلطان على ذلك فى العرف الذى اعتاده الناس وغيره لا يعاقبهم على ذلك لكونهم تحت حمايته ونحو ذلك فينبغى له أن يعزرهم على ذلك اذا لم يؤدوا الواجبات ويتركوا المحرمات الا بالعقوبة وهو المخاطب بذلك حينئذ فإنه هو القادر عليه وغيره لا يقدر على ذلك مراعاة له فان لم يستطع ان يقيم هو الواجب ولم يقم غيره
____________________
(34/225)
بالواجب صار الجميع مستحقين العقوبة قال النبى صلى الله عليه وسلم ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) وقال ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان ) لا سيما اذا كان يضربهم لما يتركونه من حقوقه فمن القبيح ان يعاقبهم على حقوقه ولا يعاقبهم على حقوق الله والتأديب يكون بسوط معتدل وضرب معتدل ولا يضرب الوجه والا المقاتل
( وسئل قدس الله روحه ( عن رجل يسفه على والديه فما يجب عليه
فأجاب اذا شتم الرجل أباه واعتدى عليه فانه يجب أن يعاقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك بل وأبلغ من ذلك أنه قد ثبت عن النبى فى الصحيحين أنه قال ( من الكبائر ان يسب الرجل والديه ) قالوا وكيف يسب الرجل والديه قال ( يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ) فاذا كان النبى قد جعل من الكبائر أن يسب الرجل أبا غيره لئلا يسب أباه فكيف اذا سب هو أباه مباشرة فهذا يستحق العقوبة التى تمنعه عن عقوق الوالدين الذى
____________________
(34/226)
الذى قرن الله حقهما بحقه حيث قال { أن اشكر لي ولوالديك } وقال تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } فكيف بسبهما
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل من أكابر مقدمى العسكر معروف بالخير والدين وكذب عليه بعض المكاسين حتى ضربه وعلقه وطاف به على حمار وحبسه بعد ذلك هل يجب على ولى الأمر ضرب من ظلمه
فأجاب من كذب عليه وظلمه حتى فعل به ذلك فانه تجب عقوبته التى تزجره وأمثاله عن مثل ذلك باتفاق المسلمين بل جمهور السلف يثبتون القصاص فى مثل ذلك فمن ضرب غيره وجرحه بغير حق فانه يفعل به كما فعل كما قال عمر بن الخطاب ( أيها الناس إنى لم أبعث عمالى اليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن ليعلموكم كتاب الله وسنة نبيكم ويقسموا بينكم فيئكم فلا يبلغنى أن أحدا ضربه عامله بغير حق الا أقدته فراجعه عمرو بن العاص فى ذلك فقاله لهم إن رسول الله أقاد ممن ظله
____________________
(34/227)
( وسئل قدس الله روحه ( عمن شتم رجلا وسبه
فأجاب إذا اعتدى عليه بالشتم والسب فله أن يعتدى عليه بمثل ما اعتدى عليه فيشتمه إذا لم يكن ذلك محرما لعينه كالكذب وأما إن كان محرما لعينه كالقذف بغير الزنى فانه يعزر على ذلك تعزيرا بليغا يردعه وأمثاله من السفهاء ولو عزر على النوع الأول من الشتم جاز وهو الذى يشرع إذا تكرر سفهه أو عدوانه على من هو أفضل منه والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عمن شتم رجلا فقال له أنت ملعون ولد زنا
فأجاب يجب تعزيره على هذا الكلام ويجب عليه حد القذف ان لم يقصد بهذه الكلمة ما يقصده كثير من الناس من قصدهم بهذه الكلمة أن المشتوم فعله خبيث كفعل ولدالزنا
____________________
(34/228)
( وسئل رحمه الله ( عن سامرى ضرب مسلما وشتمه
فأجاب تجب عقوبته عقوبة بليغة تردعه وأمثاله والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن ( الاستمناء )
فأجاب أما الاستمناء فالأصل فيه التحريم عند جمهور العلماء وعلى فاعله التعزير وليس مثل الزنى والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن ( الاستمناء ) هل هو حرام أم لا
فأجاب أما الاستمناء باليد فهو حرام عند جمهور العلماء وهو أصح القولين فى مذهب أحمد وكذلك يعزر من فعله وفى القول الآخر هو
____________________
(34/229)
مكروه غير محرم وأكثرهم لا يبيحونه لخوف العنت ولا غيره ونقل عن طائفة من الصحابة والتابعين أنهم رخصوا فيه للضرورة مثل أن يخشى الزنى فلا يعصم منه الا به ومثل أن يخاف أن لم يفعله ان يمرض وهذا قول أحمد وغيره وأما بدون الضرورة فما علمت أحدا رخص فيه والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل يهيج عليه بدنه فيستمنى بيده وبعض الأوقات يلصق وركيه على ذكره وهو يعلم أن ازالة هذا بالصوم لكن يشق عليه
فأجاب أما ما نزل من الماء بغير اختياره فلا اثم عليه فيه لكن عليه الغسل اذا أنزل الماء الدافق واما إنزاله باختياره بان يستمنى بيده فهذا حرام عند أكثر العلماء وهو أحد الروايتين عن أحمد بل أظهرهما وفى رواية أنه مكروه لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف الزنى ان لم يستمن أو يخاف المرض فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء وقد رخص فى هذه الحال طوائف من السلف والخلف ونهى عنه آخرون والله أعلم
____________________
(34/230)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل جلد ذكره بيده حتى أمنى فما يجب عليه
فأجاب وأما جلد الذكر باليد حتى ينزل فهو حرام عند اكثر الفقهاء مطلقا وعند طائفة من الأئمة حرام إلا عند الضرورة مثل أن يخاف العنت أو يخاف المرض أو يخاف الزنى فالاستمناء أصلح
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن رجل له ولد صغير فاتهم وضرب بالمقارع وخسر والده أربعمائة درهم ثم وجدت السرقة فجاء صاحب السرقة وصالح المتهوم على مائتى درهم فهل يصح منه ابراء بغير رضى والده إذا كان تحت الحجر واذا لم يصح فما يجب فى دية الضرب وهل لوالده بعد ابراء الصغير أن يطالبه بضرب ولده أم لا
____________________
(34/231)
فأجاب اذا كان المضروب تحت حجر ابيه لم يصح صلحه ولا إبراؤه وما غرمه أبوه بسبب هذه التهمة الباطلة فله أن يرجع به على من غرمه إياه بعدوانه سواء أبرأه الابن أو لم يبرئه فالمضروب يستحق أن يضرب من طلب ضربه من المتهمين له مثل ما ضربه إذا لم يعرف بالشر قبل ذلك هكذا ذكره النعمان بن بشير أن ذلك حكم الله ورسوله رواه أبو داود وغيره فانه قال لقوم طلبوا منه أن يضرب رجلا على تهمة إن شئتم ضربته لكم فان ظهر مالكم عنده وإلا ضربتكم مثل ما ضربته فقالوا هذا حكمك فقال هذا حكم الله ورسوله وهذا فى ضرب من لم يعرف بالشر واما ضرب من عرف بالشر فذاك مقام آخر
وقد ثبت القصاص فى الضرب واللطم ونحو ذلك عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين وجاءت به سنة رسول الله ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره وإن كان كثير من الفقهاء لا يرى القصاص فى مثل هذا بل يرى فيه التعزير فالأول هو الصحيح ولكن هل للأب ان يستوفى حق القصاص الذى لابنه أم يتركه حتى يبلغ هذا فيه نزاع معروف بين العلماء وأما ان كان الابن بالغا فله العقوبات البدنية واستبقاؤها
____________________
(34/232)
& ( باب القطع فى السرقة (
( سئل شيخ الاسلام رحمه الله ( عن رجل سرق بيته مرارا ثم وجد بعد ذلك فى بيته مملوك بعد أن أغلق بابه فاخذ فأقر أنه دخل البيت مختلسا مرارا عديدة ولم يقر أنه أخذ شيئا فهل يلزمه ما عدم لهم من البيت وما الحكم فيه
فأجاب هذا العبد يعاقب باتفاق المسلمين على ما ثبت عليه من دخول البيت ويعاقب أيضا عند كثير من العلماء فاذا أقر بما تبين أنه أخذ المال مثل ان يدل على موضع المال أو على من أعطاه اياه ونحو ذلك أخذ المال واعطى لصاحبه ان كان موجودا وغرمه ان كان تالفا
وينبغى للمعاقب له أن يحتال عليه بما يقر به كما يفعل الحذاق من القضاة والولاة بمن يظهر لهم فجوره حتى يعترف وأقل ما فى ذلك أن يشهد عليهم برد اليمين على المدعى فاذا حلف رب المال حينئذ حكم لرب المال اذا حلف واما الحكم لرب المال بيمينه بما ظهر من اللوث والأمارات
____________________
(34/233)
التى يغلب على الظن صدق المدعى فهذا فيه اجتهاده وأما فى النفوس فالحكم بذلك مذهب أكثر العلماء كالشافعى وأحمد والله أعلم
وسئل رحمه الله ( عن رجل له مملوك ذكر أنه سرق له قماشا وذكر الغلام أنه أودعه عند سيده القديم ( فى ) منديل فهل يقبل قوله فى ذلك وما يلزم فى ذلك
فأجاب لا يؤخذ بمجرد قول الغلام باتفاق المسلمين سواء كان الحاكم بينهما والى الحرب أو قاضى الحكم بل الذى عليه جمهور الفقهاء فى المتهم بسرقة ونحوها أن ينظر فى المتهم فإما أن يكون معروفا بالفجور وإما أن يكون مجهول الحال
فإن كان معروفا بالبر لم يجز مطالبته ولا عقوبته وهل يحلف على قولين للعلماء ومنهم من قال يعزر من رماه بالتهمة
وإما أن يكون مجهول الحال فانه يحبس حتى يكشف أمره قيل يحبس شهرا وقيل إجتهاد ولى الأمر لما فى السنن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس فى تهمة
____________________
(34/234)
وإن كان قد يكون الرجل معروفا بالفجور المناسب للتهمة فقال طائفة من الفقهاء يضربه الوالى دون القاضي وقد ذكر ذلك طوائف من أصحاب مالك والشافعى والامام احمد ومن الفقهاء من قال لا يضرب وقد ثبت فى الصحيح عن النبى ( أنه أمر الزبير بن العوام أن يمس بعض المعاهدين بالعذاب ) لما كتم إخباره بالمال الذى كان النبى قد عاهدهم عليه وقال له ( أين كنز حيى بن أخطب ) فقال يا محمد أذهبته النفقات والحروب فقال ( المال كثير والعهد قريب من هذا ) وقال للزبير ( دونك هذا ) فمسه الزبير بشيء من العذاب فدلهم على المال
وأما إذا ادعى أنه استودع المال فهذا أخف فان كان معروفا بالخير لم يجز الزامه بالمال باتفاق المسلمين بل يحلف المدعى عليه سواء كان الحاكم واليا أو قاضيا
( وسئل رحمه الله تعالى ( عما يتعلق بالتهم فى المسروقات فى ولايته فان ترك الفحص فى ذلك ضاعت الأموال وطمعت الفساق وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها أو يتحقق أنه لا يفى بالمقصود فى ذلك وإن
____________________
(34/235)
أقدم وسأل أو أمسك المتهومين وعاقبهم خاف الله تعالى في اقدامه على أمر مشكوك فيه وهو يسأل ضابطا فى هذه الصورة وفى أمر قاطع الطريق
فأجاب أما التهم فى السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه وذلك أن الناس فى التهم ( ثلاثة أصناف
( صنف ) معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم فهذا لا يحبس ولا يضرب بل ولا يستحلف فى أحد قولى العلماء بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم
و ( الثانى ) من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله وقد قيل يحبس شهرا وقيل يحبس بحسب اجتهاد ولى الأمر والأصل فى ذلك ما روى أبو داود وغيره ( ان النبى حبس فى تهمة ) وقد نص على ذلك الأئمة وذلك أن هذه بمنزلة مالو ادعى عليه مدع فانه يحضر مجلس ولى الأمر الحاكم بينهما وإن كان فى ذلك تعويقه عن اشغاله فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره ثم إذا سأل عنه ووجد بارا أطلق
وإن وجد فاجرا كان من ( الصنف الثالث ( وهو الفاجر الذى قد عرف منة السرقة قبل ذلك أو عرف باسباب السرقة مثل أن يكون
____________________
(34/236)
معروفا بالقمار والفواحش التى لا تتأتى الابالمال وليس لة مال ونحو ذلك فهذا لوث فى التهمة ولهذا قالت طائفة من العلماء إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالى والقاضى كما قال أشهب صاحب مالك وغيرة حتى يقر بالمال وقالت طائفة يضربة الوالى دون القاضي كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد كما ذكرة القاضيان الماوردى والقاضى أبو يعلى فى كتابيهما فى الاحكام السلطانية وهو قول طائفة من المالكية كما ذكره الطرسوسى وغيرة
ثم المتولى له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف فيكون تعزيرا وتقريرا وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتى أرباب الأموال بالبينة على من سرق بل قد أنزل على نبيه فى قصة كانت تهمة فى سرقة قوله تعالى ( إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله ان الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ان الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم اذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم فى الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ) إلى آخر الآيات وكان سبب ذلك أن قوما يقال لهم بنو أبيرق سرقوا
____________________
(34/237)
لبعض الأنصار طعاما ودرعين فجاء صاحب المال يشتكى إلى رسول الله فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل فكان النبى ظن صدق المزكيين فلام صاحب المال فأنزل الله هذه الآية ولم يقل النبى صلى الله عليه وسلم لصاحب المال أقم البينة ولا حلف المتهمين لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر وظهرت الريبة عليهم
وهكذا حكم النبى بالقسامة فى الدماء اذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين فان هذه الأمور من الحدود فى المصالح العامة ليست من الحقوق الخاصة فلو لا القسامة فى الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية ولا يمكن أولياء المقتول اقامة البينة واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة فان من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين وقول النبى ( لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) هذا فيما لا يمكن من المدعى حجة غير الدعوى فانه لا يعطى بها شيئا ولكن يحلف المدعى عليه فأما إذا أقام شاهدا بالمال فان النبى قد حكم فى المال بشاهد ويمين وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث كمالك والشافعى وأحمد وغيرهم واذا كان فى دعوى الدم لوث فقد قال النبى للمدعين ( أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم
____________________
(34/238)
كذلك أمر ( قطاع الطريق ) وأمر ( اللصوص ) وهو من المصالح العامة التى ليست من الحقوق الخاصة فان الناس لا يامنون على أنفسهم واموالهم فى المساكن والطرقات الا بما يزجرهم فى قطع هؤلاء ولا يزجرهم ان يحلف كل منهم ولهذا اتفق الفقهاء على ان قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتما وقتله حد لله وليس قتله مفوضا إلى اولياء المقتول قالوا لان هذا لم يقتله لغرض خاص معه انما قتله لاجل المال فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره فقتله مصلحة عامة فعلى الامام ان يقيم ذلك
وكذلك ( السارق ) ليس غرضه فى مال معين وانما غرضه اخذ مال هذا ومال هذا كذلك كان قطعه حقا واجبا لله ليس لرب المال بل رب المال يأخذ ماله وتقطع يد السارق حتى لو قال صاحب المال انا اعطيه مالى لم يسقط عنه القطع كما قال صفوان للنبى انا اهبه ردائى فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( فهلا فعلت قبل ان تاتى به ) وقال النبى ( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله فى أمره ومن خاصم فى باطل وهو يعلم لم يزل فى سخط الله حتى ينزع ومن قال فى مسلم ما ليس فيه حبس فى ردغة الخبال حتى يخرج مما قال ) وقال للزبير بن العوام ( اذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع
____________________
(34/239)
ومما يشبه هذا من ظهر عنده مال يجب عليه احضاره كالمدين اذا ظهر أنه غيب ماله وأصر على الحبس وكمن عنده أمانة ولم يردها إلى مستحقها ظهر كذبه فانه لا يحلف لكن يضرب حتى يحضر المال الذى يجب احضاره أو يعرف مكانه كما قال النبى للزبير بن العوام عام خيبر فى عم حيى بن أخطب وكان النبى صالحهم على أن له الذهب والفضة فقال لهذا الرجل ( أين كنز حيى بن أخطب ) فقال يا محمد اذهبته النفقات والحروب فقال ( المال كثير والعهد أحدث من هذا ) ثم قال ( دونك هذا ) فمسه بشيء من العذاب فدلهم عليه فى خربة هناك فهذا لما قال أذهبته النفقات والحروب والعادة تكذبه فى ذلك لم يلتفت إليه بل أمر بعقوبته حتى دلهم على المال فكذلك من أخذ من أموال الناس وادعى ذهابها دعوى تكذبه فيها العادة كان هذا حكمه
( وسئل رحمه الله تعالى ( عمن كان له ذهب مخيط فى ثوبه فأعطاه للغسال نسيانا فلما رده الغسال إليه بعد غسله وجد مكان الذهب مفتقا ولم يجده فما لحكم فيه
الجواب إما أن يحلف المدعى عليه بما يبريه وإما أن يحلف المدعى أنه أخذ الذهب بغير حق ويضمنه فان كان الغسال معروفا بالفجور وظهرت الريبة بظهور الفتق جاز ضربه وتعزيره والله أعلم & ( باب حد قطاع الطريق
____________________
(34/240)
( وسئل شيخ الاسلام قدس الله روحه ( عن أقوام يقطعون الطريق على المسلمين ويقتلون من يمانعهم عن ماله ويفجرون بحريم المسلمين ويعذبون كل من يمسكونه من المسلمين من ذكر وأنثى حتى يدلهم على شيء من من أموال المسلمين ثم الامام بلغه خبرهم فامر السلطان بعض الناس أن يروح اليهم ويمنعهم من قتل المسلمين وأخذ أموالهم فخرجوا عليه وقاتلوا المسيرين اليهم وامتنعوا من طاعة السلطان فهل يحل قتالهم أم لا وهل اذا أخذ السلطان من مالهم شيئا وباعه على المسلمين يحل لأحد أن يشتريه
فأجاب الحمد لله نعم يحل قتال هؤلاء بل يجب واذا أخذ السلطان من أموالهم بازاء ما أخذوه من أموال المسلمين ولم يعرف مستحقه جاز الشراء منه وان كانوا أخذوا شيئا من أموال المسلمين ففى أخذ أموالهم خلاف بين الفقهاء واذا قلد السلطان أحد القولين بطريقة ساغ له ذلك
____________________
(34/241)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن المفسدين فى الأرض الذين يستحلون أموال الناس ودمائهم مثل السارق وقاطع الطريق هل للإنسان أن يعطيهم شيئا من ماله أو يقاتلهم وهل اذا قتل رجل أحدا منهم فهل يكون ممن ينسب إلى النفاق وهل عليه اثم فى قتل من طلب قتله
فأجاب أجمع المسلمون على جواز مقاتلة قطاع الطريق وقد ثبت عن النبى أنه قال ( من قتل دون ماله فهو شهيد )
( فالقطاع ) اذا طلبوا مال المعصوم لم يجب عليه أن يعطيهم شيئا باتفاق الأئمة بل يدفعهم بالأسهل فالأسهل فان لم يندفعوا الا بالقتال فله أن يقاتلهم فان قتل كان شهيدا وان قتل واحدا منهم على هذا الوجه كان دمه هدرا وكذلك اذا طلبوا دمه كان له أن يدفعهم ولو بالقتل اجماعا لكن الدفع عن المال لا يجب بل يجوز له أن يعطيهم المال ولا يقاتلهم وأما الدفع عن النفس ففى وجوبه قولان هما روايتان عن أحمد
____________________
(34/242)
( وسئل رحمه الله تعالى ( عن تاجر نصب عليه جماعة وأخذوا مبلغا فحملهم لولى الأمر وعاقبهم حتى أقروا بالمال وهم محبوسون على المال ولم يعطوه شيئا وهم مصرون على أنهم لا يعطونه شيئا
فأجاب الحمد لله هؤلاء من كان المال بيده وامتنع من اعطائه فانه يضرب حتى يؤدى المال الذى بيده لغيره ومن كان قد غيب المال وجحد موضعه فانه يضرب حتى يدل على موضعه ومن كان متهما لا يعرف هل معه من المال شيء ام لا فانه يجوز ضربه معاقبة له على ما فعل من الكذب والظلم ويقرر مع ذلك على المال أين هو ويطلب منه احضاره والله أعلم
____________________
(34/243)
وسئل قدس الله روحه ونور ضريحه عن ثلاثة من اللصوص أخذ اثنان منهم جمالا والثالث قتل الجمال هل تقتل الثلاثة
فأجاب اذا كان الثلاثة حرامية اجتمعوا ليأخذوا المال بالمحاربة قتل الثلاثة وان كان الذى باشر القتل واحدا منهم والله أعلم
____________________
(34/244)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئآت أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله & باب ( الخلافة والملك وقتال أهل البغي ) & قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله تسليما
أما بعد فهذه قاعدة مختصرة فى وجوب طاعة الله ورسوله فى كل حال على كل أحد وأن ما أمر الله به ورسوله من طاعة الله وولاة
____________________
(35/5)
الأمور ومناصحتهم واجب وغير ذلك من الواجبات قال الله تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } وقال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وأولى الأمر منهم كما أمرهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل وأمرهم إذا تنازعوا فى شيء أن يردوه إلى الله والرسول
قال العلماء الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول بعد موته هو الرد إلى سنته قال الله تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } فجعل الله الكتاب الذى أنزله هو الذى يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
وفى صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي بالليل يقول ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل
____________________
(35/6)
وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ( وفى صحيح مسلم عن تميم الداري رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة ( قالوا لمن يارسول الله قال ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (
وفى صحيح مسلم أيضا عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ( وفى السنن من حديث إبن مسعود رضى الله عنه وزيد بن ثابت رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه غير فقيه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ( و ( يغل ( بالفتح هو المشهور ويقال غلى صدره فغل إذا كان ذا غش وضغن وحقد أي قلب المسلم لا يغل على هذه الخصال الثلاثة وهي الثلاثة المتقدمة فى قوله ( إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ( فإن الله إذا
____________________
(35/7)
كان يرضاها لنا لم يكن قلب المؤمن الذي يحب ما يحبه الله يغل عليها يبغضها ويكرهها فيكون فى قلبه عليها غل بل يحبها قلب المؤمن ويرضاها
وفى صحيح البخارى ومسلم وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول أو نقوم بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم وفى الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ( وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عليك بالسمع والطاعة فى عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ( ومعنى قوله ( وأثرة عليك ( وأثرة علينا ( أي وإن إستأثر ولاة الأمور عليك فلم ينصفوك ولم يعطوك حقك كما فى الصحيحين عن أسيد بن حضير رضي الله عنه أن رجلا من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا تستعملني كما استعملت فلانا فقال ( إنكم ستلقون بعدى أثرة فاصبروا حتى تلقونى على الحوض (
وهذا كما فى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنها تكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها ( قالوا
____________________
(35/8)
يارسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذى لكم ( وفى صحيح مسلم عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا فأعرض عنه ثم سأله فأعرض ثم سأله فى الثانية أو فى الثالثة فحدثه الأشعث بن قيس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ماحملتم (
فذلك ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم هو واجب على المسلم وإن استأثروا عليه وما نهى الله عنه ورسوله من معصيتهم فهو محرم عليه وإن أكره عليه فصل
وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة فإذا حلف على ذلك كان ذلك توكيدا وتثبيتا لما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم فالحالف على هذه
____________________
(35/9)
الأمور لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه سواء حلف بالله أو غير ذلك من الأيمان التي يحلف بها المسلمون فإن ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه وما نهى الله ورسوله عن معصيتهم وغشهم محرم وإن لم يحلف على ذلك
وهذا كما أنه إذا حلف ليصلين الخمس وليصومن شهر رمضان أو ليقضين الحق الذي عليه ويشهدن بالحق فإن هذا واجب عليه وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه وما نهى الله عنه ورسوله من الشرك والكذب وشرب الخمر والظلم والفواحش وغش ولاة الأمور والخروج عما أمر الله به من طاعتهم هو محرم وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه
ولهذا من كان حالفا على ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم أو الصلاة أو الزكاة أو صوم رمضان أو أداء الأمانة والعدل ونحو ذلك لا يجوز لأحد أن يفتيه بمخالفة ما حلف عليه والحنث فى يمينه ولا يجوز له أن يستفتي فى ذلك ومن أفتى مثل هؤلاء بمخالفة ما حلفوا عليه والحنث فى أيمانهم فهو مفتر على الله الكذب مفت بغير دين الإسلام بل لو أفتى آحاد العامة بأن يفعل خلاف ما حلف عليه من الوفاء فى عقد بيع أو نكاح أو إجارة أوغير ذلك مما يجب عليه الوفاء به من
____________________
(35/10)
العقود التى يجب الوفاء بها وإن لم يحلف عليها فإذا حلف كان أوكد فمن أفتى مثل هذا بجواز نقض هذه العقود والحنث فى يمينه كان مفتريا على الله الكذب مفتيا بغير دين الإسلام فكيف إذا كان ذلك فى معاقدة ولاة الأمور التى هي أعظم العقود التى أمر الله بالوفاء بها وهذا كما أن جمهور العلماء يقولون يمين المكره بغير حق لا ينعقد سواء كان بالله أو النذر أو الطلاق أو العتاق وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد ثم إذا أكره ولي الأمر الناس على مايجب عليهم من طاعته ومناصحته وحلفهم على ذلك لم يجز لأحد أن يأذن لهم فى ترك ما أمر الله به ورسوله من ذلك ويرخص لهم فى الحنث فى هذه الأيمان لأن ما كان واجبا بدون اليمين فاليمين تقويه لا تضعفه ولو قدر أن صاحبها أكره عليها ومن أراد أن يقول بلزوم المحلوف مطلقا فى بعض الأيمان لأجل تحليف ولاة الأمور أحيانا قيل له وهذا يرد عليك فيما تعتقده فى يمين المكره فإنك تقول لايلزم وإن حلف بها ولاة الأمور ويرد عليك فى أمور كثيرة تفتى بها فى الحيل مع ما فيه من معصية الله تعالى ورسوله وولاة الأمور
____________________
(35/11)
وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم بوجه من الوجوه كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديما وحديثا ومن سيرة غيرهم وقد ثبت فى الصحيح عن بن عمر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدره ( قال وإن من أعظم الغدر يعنى بإمام المسلمين وهذا حدث به عبد الله بن عمر لما قام قوم من أهل المدينة يخرجون عن طاعة ولي أمرهم ينقضون بيعته وفى صحيح مسلم عن نافع قال جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال إنى لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من خلع يدا لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ( وفى الصحيحين عن بن عباس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبرا فمات عليه إلامات ميتة جاهلية ( وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية
____________________
(35/12)
أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتله جاهلية ( وفى لفظ ( ليس من أمتى من خرج على أمتى يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشا من مؤمنها ولا يوفي لذي عهدها فليس منى ولست منه (
فالأول هو الذي يخرج عن طاعة ولي الأمر ويفارق الجماعة
والثانى هو الذي يقاتل لأجل العصبية والرياسة لا فى سبيل الله كأهل الأهواء مثل قيس ويمن
والثالث مثل الذى يقطع الطريق فيقتل من لقيه من مسلم وذمي ليأخذ ماله وكالحرورية المارقين الذين قاتلهم علي بن أبى طالب الذى قال فيهم النبى صلى الله عليه وسلم ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة (
وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بطاعة ولي الأمر وإن كان عبدا حبشيا كما فى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ( وعن أبى ذر قال ( أوصانى خليلى أن اسمعوا وأطيعوا ولوكان حبشيا مجدع
____________________
(35/13)
الأطراف ( وعن البخارى ( ولو لحبشي كان رأسه زبيبة ( وفى صحيح مسلم عن أم الحصين رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة الوداع وهو يقول ( ولو استعمل عبدا يقودكم بكتاب الله اسمعوا وأطيعوا ( وفى رواية ( عبد حبشي مجدعا ( وفى صحيح مسلم عن عوف بن مالك رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ( قلنا يارسول الله أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك قال ( لا ما أقاموا فيكم الصلاة لا ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وآل فرآه يأتي شيئا من معصية فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة (
وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا ( وفى صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارفق به ( وفى الصحيحين عن الحسن البصري قال عاد عبد الله بن زياد معقل بن يسار فى مرضه الذى مات فيه
____________________
(35/14)
فقال له معقل إنى محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلاحرم الله عليه الجنة ( وفى رواية لمسلم ( ما من أمير يلي من أمر المسلمين شيئا ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة (
وفى الصحيحين عن بن عمر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ألا كلكم راع وكلكم مسئوول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئوول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئوولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسئوول عنه ألا كلكم راع وكلكم مسئوول عن رعيته ( وفى الصحيحين عن علي رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا فأوقد نارا فقال ادخلوها فأراد الناس أن يدخلوها وقال الآخرون إنا فررنا منها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها ( لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة وقال للآخرين قولا حسنا وقال لا طاعة فى معصية الله إنما الطاعة فى المعروف
____________________
(35/15)
فصل
قال الله تعالى ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) وقال الله تعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) وقال تعالى ( فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) وقال تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) وقال تعالى ( يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) وقال تعالى ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا )
فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله ومن كان لايطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن
____________________
(35/16)
منعوه عصاهم فماله فى الآخرة من خلاق وقد روى البخارى ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( ثلاثة لايكلمهم الله يوم القيامة ولاينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من بن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعطه منها لم يف
____________________
(35/17)
(1) وقال قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما قاعدة
قال النبى صلى الله عليه وسلم ( خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه أو الملك من يشاء ( لفظ أبي داود من رواية عبد الوارث والعوام ( تكون الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون الملك ( تكون الخلافة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا ( وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد والعوام بن حوشب وغيره عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أهل السنن كأبى داود وغيره واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره فى تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة وثبته أحمد واستدل به على من توقف فى خلافة علي من
____________________
1- 18 32
(35/18)
أجل افتراق الناس عليه حتى قال أحمد من لم يربع بعلي فى الخلافة فهو أضل من حمار أهله ونهى عن مناكحته وهو متفق عليه بين الفقهاء وعلماء السنة وأهل المعرفة والتصوف وهو مذهب العامة
وإنما يخالفهم فى ذلك بعض ( أهل ) الأهواء من أهل الكلام ونحوهم كالرافضة الطاعنين فى خلافة الثلاثة أو الخوارج الطاعنين فى خلافة الصهرين المنافيين عثمان وعلي أو بعض الناصبة النافين لخلافة علي أو بعض الجهال من المتسننة الواقفين فى خلافته ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فى شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من هجرته وإلى عام ثلاثين سنة كان إصلاح إبن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي السيد بين فئتين من المؤمنين بنزوله عن الأمر عام إحدى وأربعين فى شهر جمادى الأولى وسمي عام الجماعة لاجتماع الناس على معاوية وهو أول الملوك
وفي ا 4 لحديث الذي رواه مسلم ( ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ثم يكون ملك وجبرية ثم يكون ملك عضوض ( وقال صلى الله عليه وسلم فى الحديث المشهور فى السنن وهو صحيح ( إنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة
____________________
(35/19)
ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكا ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل ما رواه البخاري ومسلم فى صحيحيهما عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر قالوا فما تامرنا قال فوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ( فقوله ( فتكثر ( دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيرا وأيضا قوله ( فوا ببيعة الأول فالأول ( دل على أنهم يختلفون والراشدون لم يختلفوا وقوله ( فأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ( دليل على مذهب أهل السنة فى إعطاء الأمراء حقهم من المال والمغنم وقد ذكرت فى غير هذا الموضوع أن مصير الأمر إلى الملوك ونوابهم من الولاة والقضاة والأمراء ليس لنقص فيهم فقط بل لنقص فى الراعي والرعية جميعا فإنه ( كما تكونون يول عليكم ( وقد قال الله تعالى ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا )
وقد استفاض وتقرر فى غير هذا الموضع ماقد أمر به صلى الله عليه وسلم من طاعة الأمراء في غير معصية الله ومناصحتهم والصبر عليهم فى حكمهم وقسمهم والغزو معهم والصلاة خلفهم ونحو ذلك
____________________
(35/20)
من متابعتهم فى الحسنات التي لايقوم بها الأهم فإنه من باب التعاون على البر والتقوى وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم وإعانتهم على ظلمهم وطاعتهم فى معصية الله ونحو ذلك مما هو من باب التعاون على الاثم والعدوان
وما أمر به أيضا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهم ولغيرهم على الوجه المشروع وما يدخل فى ذلك من تبليغ رسالات الله إليهم بحيث لايترك ذلك جبنا ولا بخلا ولا خشية لهم ولا اشتراء للثمن القليل بآيات الله ولا يفعل أيضا للرئاسة عليهم ولاعلى العامة ولاللحسد ولا للكبر ولا للرياء لهم ولا للعامة ولا يزال المنكر بما هو أنكر منه بحيث يخرج عليهم بالسلاح وتقام الفتن كما هو معروف من أصول أهل السنة والجماعة كما دلت عليه النصوص النبوية لما فى ذلك من الفساد الذي يربى على فساد مايكون من ظلمهم بل يطاع الله فيهم وفي غيرهم ويفعل ما أمر به ويترك مانهى عنه وهذه جملة تفصيلها يحتاج إلى بسط كثير
والغرض هنا بيان جماع الحسنات والسيئات الواقعة بعد خلافة النبوة فى الإمارة وفي تركها فإنه مقام خطر وذلك أن خبره بانقضاء خلافة النبوة فيه الذم للملك والعيب له لاسيما وفى حديث أبى
____________________
(35/21)
بكرة أنه استاء للرؤيا وقال ( خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء (
ثم النصوص الموجبة لنصب الأئمة والأمراء ومافى الأعمال الصالحة التى يتولونها من الثواب حمد لذلك وترغيب فيه فيجب تخليص محمود ذلك من مذمومه وفى حكم اجتماع الأمرين وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله خيرنى بين أن أكون عبدا رسولا وبين أن أكون نبيا ملكا فاخترت أن أكون عبدا رسولا (
فإذا كان الأصل فى ذلك شوب الولاية من الامارة والقضاء والملك هل هو جائز فى الأصل والخلافة مستحبة أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم أو نقص قدرة بدونه فنحتج بأنه ليس بجائز فى الأصل بل الواجب خلافة النبوة لقوله صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فكل بدعة ضلالة ( بعد قوله ( من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ( فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء وأمر بالإستمساك بها وتحذير من المحدثات المخالفة لها وهذا الأمر منه والنهي دليل بين فى الوجوب
____________________
(35/22)
ثم اختص من ذلك قوله ( إقتدوا بالذين من بعدي أبى بكر وعمر ( فهذان أمر بالإقتداء بهما والخلفاء الراشدون أمر بلزوم سنتهم وفى هذا تخصيص للشيخين من وجهين
أحدهما أن السنة ماسنوه للناس وأما القدوة فيدخل فيها الإقتداء بهما فيما فعلاه مما لم يجعلوه سنة
الثانى أن السنة أضافها إلى الخلفاء لا إلى كل منهم فقد يقال إما ذلك فيما اتفقوا عليه دون ما انفرد به بعضهم وأما القدوة فعين القدوة بهذا وبهذا وفى هذا الوجه نظر
ويستفاد من هذا أن ما فعله عثمان وعلى من الاجتهاد الذى سبقهما بما هو افضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص وموافقة جمهور الأمة على رجحانه وكان سببه افتراق الأمة لا يؤمر بالإقتداء بهما فيه إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء وذلك أن ابا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة وسلما من التأويل فى الدماء والأموال وعثمان رضى الله عنه غلب الرغبة وتأول فى الأموال وعلي غلب الرهبة وتأول فى الدماء وأبو بكر وعمر كمل زهدهما فى المال والرياسة وعثمان كمل زهده فى الرياسة وعلى كمل زهده فى المال
____________________
(35/23)
وأيضا فكون النبي صلى الله عليه وسلم استاء للملك بعد خلافة النبوة دليل على أنه متضمن ترك بعض الدين الواجب
وقد يحتج من يجوز الملك بالنصوص التى منها قوله لمعاوية ( إن ملكت فأحسن ( ونحو ذلك وفيه نظر ويحتج بأن عمر أقر معاوية لما قدم الشام على ما رآه من أبهة الملك لما ذكر له المصلحة فيه فإن عمر قال لا آمرك ولا أنهاك ويقال فى هذا إن عمر لم ينهه لا أنه أذن له فى ذلك لان معاوية ذكر وجه الحاجة إلى ذلك ولم يثق عمر بالحاجة فصار محل اجتهاد فى الجملة
فهذان القولان متوسطان ان يقال الخلافة واجبة وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة أو إن يقال يجوز قبولها من الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره إذ ما يبعد المقصود بدونه لابد من اجازته وأما ( ملك ) فإيجابه أو استحبابه محل اجتهاد
وهنا طرفان أحدهما من يوجب ذلك فى كل حال وزمان وعلى كل أحد ويذم من خرج عن ذلك مطلقا أو لحاجة كما هو حال أهل البدع من الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسننة والمتزهدة والثانى
____________________
(35/24)
من يبيح الملك مطلقا من غير تقيد بسنة الخلفاء كما هو فعل الظلمة والإباحية وأفراد المرجئة وهذا تفصيل جيد وسيأتي تمامه وتحقيق الأمر أن يقال انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة او اجتهاد سائغ او مع القدرة على ذلك علما وعملا فإن كان مع العجز علما أو عملا كان ذو الملك معذورا فى ذلك وان كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة كما تسقط سائر الواجبات مع العجز كحال النجاشى لما اسلم وعجز عن اظهار ذلك فى قومه بل حال يوسف الصديق تشبه ذلك من بعض الوجوه لكن الملك كان جائزا لبعض الأنبياء كداود وسليمان ويوسف
وإن كان مع القدرة علما وعملا وقدر أن خلافة النبوة مستحبة ليست واجبة وإن اختيار الملك جائز فى شريعتنا كجوازه فى غير شريعتنا فهذا التقدير إذا فرض أنه حق فلا اثم على الملك العادل أيضا
وهذا الوجه قد ذكره القاضي أبو يعلى فى المعتمد لما تكلم فى تثبيت خلافة معاوية وبنى ذلك على ظهور إسلامه وعدالته وحسن سيرته وأنه ثبتت إمامته بعد موت علي لما عقدها الحسن له وسمى ذلك عام الجماعة وذكر حديث عبد الله بن مسعود ( تدور رحا الإسلام على رأس خمس
____________________
(35/25)
وثلاثين ( قال قال أحمد فى رواية بن الحكم يروي عن الزهري أن معاوية كان أمره خمس سنين لا ينكر عليه شيء فكان هذا على حديث النبى ( خمس وثلاثين سنة ( قال بن الحكم قلت لأحمد من قال حديث بن مسعود ( تدور رحا الاسلام لخمس وثلاثين ( أنها من مهاجر النبى صلى الله عليه وسلم قال لقد أخبر هذا وما عليه أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم يصف الإسلام بسير هو بالجناية انما يصف ما يكون بعده من السنين
قال وظاهر هذا من كلام أحمد أنه أخذ بظاهر الحديث وأن خلافة معاوية كانت من جملة الخمس والثلاثين وذكر أن رجلا سأل أحمد عن الخلافة فقال كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة لنا قال القاضي وظاهر هذا أن ما كان بغير المدينة لم يكن خلافة نبوة
قلت نصوص احمد على ان الخلافة تمت بعلى كثيرة جدا
ثم عارض القاضي ذلك بقوله ( الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا ( قال السائل فلما خص الخلافة بعده بثلاثين سنة كان آخرها اخر ايام على وان بعد ذلك يكون ملكا دل على أن ذلك ليس بخلافة فأجاب القاضي بأنه يحتمل أن يكون المراد به الخلافة التى لا يشوبها ملك بعده ثلاثون
____________________
(35/26)
سنة وهكذا كانت خلافة الخلفاء الاربعة ومعاوية قد شابها الملك وليس هذا قادحا فى خلافته كما أن ملك سليمان لم يقدح فى نبوته وان كان غيره من الانبياء فقيرا قلت فهذا يقتضى ان شوب الخلافة بالملك جائز فى شريعتنا وان ذلك لا ينافى العدالة وان كانت الخلافة المحضة افضل وكل من انتصر لمعاوية وجعله مجتهدا فى اموره ولم ينسبه إلى معصية فعليه أن يقول بأحد القولين اما جواز شوبها بالملك أو عدم اللوم على ذلك فيتجه اذا قال ان خلافة النبوة واجبة فلو قدر فان عمل سيئة فكبيرة وان كان دينا او لان الفاسق من غلبت سيئاته حسناته وليس كذلك وهذا رحمته بالملوك العادلين اذ هم فى الصحابة من يقتدى به
واما اهل البدع كالمعتزلة فيفسقون معاوية لحرب على وغير ذلك بناء على أنه فعل كبيرة وهى توجب التفسيق فلابد من منع احدى المقدمتين ثم اذا ساغ هذا للملوك ساغ للقضاة والامراء ونحوهم
وأما اذا كانت خلافة النبوة واجبة وهي مقدورة وقد تركت فترك الواجب سبب للذم والعقاب ثم هل تركها كبيرة او صغيرة
____________________
(35/27)
ان كان صغيرة لم يقدح فى العدالة وان كان كبيرة ففيه القولان لكن يقال هنا اذا كان القائم بالملك والامارة يفعل من الحسنات المامور بها ويترك من السيئات المنهى عنها ما يزيد به ثوابه على عقوبة ما يتركه من واجب او يفعله من محظور فهذا قد ترجحت حسناته على سيئاته فاذا كان غيره مقصرا فى هذه الطاعة التى فعلها مع سلامته عن سيئاته فله ثلاثة أحوال اما أن يكون الفاضل من حسنات الامير اكثر من مجموع حسنات هذا او اقل فإن كانت فاضلة اكثر كان أفضل وان كان اقل كان مفضولا وان تساويا تكافآ هذا موجب العدل ومقتضى نصوص الكتاب والسنة فى الثواب والعقاب
وهو مبنى على قول من يعتبر الموازنة والمقابلة فى الجزاء وفى العدالة ايضا واما من يقول انه بالكبيرة الواحدة يستحق الوعيد ولو كان له حسنات كثيرة عظيمة فلا يجيء هذا وهو قول طائفة من العلماء فى العدالة والاول اصح على ما تدل عليه النصوص
ويتفرع من هنا مسألة وهو ما اذا كان لا يتأتى له فعل الحسنة الراجحة الا بسيئة دونها فى العقاب فلها صورتان
____________________
(35/28)
احداهما اذا لم يمكن الا ذلك فهنا لا يبقى سيئة فان ما لا يتم الواجب او المستحب الا به فهو واجب أو مستحب ثم ان كان مفسدته دون تلك المصلحة لم يكن محظورا كأكل الميتة للمضطر ونحو ذلك من الامور المحظورة التى تبيحها الحاجات كلبس الحرير فى البرد ونحو ذلك وهذا باب عظيم
فإن كثيرا من الناس يستشعر سوء الفعل ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له التى يحصل بها من ثواب الحسنة ما يربى على ذلك بحيث يصير المحظور مندرجا فى المحبوب او يصير مباحا اذا لم يعارضه الا مجرد الحاجة كما أن من الامور المباحة بل والمأمور بها ايجابا او استحبابا ما يعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحة كالصيام للمريض وكالطهارة بالماء لمن يخاف عليه الموت كما قال ( قتلوه قتلهم الله هلا سألوا اذا لم يعلموا فإنما شفاء العى السؤال (
وعلى هذا الاصل يبنى جواز العدول احيانا عن بعض سنة الخلفاء كما يجوز ترك بعض واجبات الشريعة وارتكاب بعض محظوراتها للضرورة وذلك فيما اذا وقع العجز عن بعض سنتهم أو وقعت الضرورة إلى بعض ما نهوا عنه بأن تكون الواجبات المقصودة بالامارة لا تقوم الا بما مضرته أقل
____________________
(35/29)
وهكذا مسألة الترك كما قلناه اولا وبينا انه لا يخالفه الا اهل البدع ونحوهم من اهل الجهل والظلم ( والصورة الثانية اذا كان يمكن فعل الحسنات بلا سيئة لكن بمشقة لا تطيعه نفسه عليها او بكراهة من طبعه بحيث لا تطيعه نفسه إلى فعل تلك الحسنات الكبار المأمور بها ايجابا او استحبابا ان لم يبذل لنفسه ما تحبه من بعض الامور المنهى عنها التى اثمها دون منفعة الحسنة فهذا القسم واقع كثيرا فى اهل الامارة والسياسة والجهاد واهل العلم والقضاء والكلام واهل العبادة والتصوف وفى العامة مثل من لا تطيعه نفسه إلى القيام بمصالح الامارة من الامر بالمعروف والنهى عن المنكر واقامة الحدود وأمن السبل وجهاد العدو وقسمة المال الا بحظوظ منهى عنها من الاستئثار ببعض المال والرياسة على الناس والمحاباة فى القسم وغير ذلك من الشهوات وكذلك فى الجهاد لا تطيعه نفسه على الجهاد الا بنوع من التهور وفى العلم لا تطيعه نفسه على تحقيق علم الفقه وأصول الدين الا بنوع من المنهى عنه من الرأى والكلام ولا تطيعه نفسه على تحقيق علم العبادة المشروعة والمعرفة المأمور بها الا بنوع من الرهبانية
فهذا القسم كثر فى دول الملوك اذ هو واقع فيهم وفى كثير من امرائهم وقضاتهم وعلمائهم وعبادهم اعنى اهل زمانهم وبسببه
____________________
(35/30)
نشأت الفتن بين الامة فاقوام نظروا إلى ما ارتكبوه من الامور المنهى عنها فذموهم وأبغضوهم واقوام نظروا إلى ما فعلوه من الامور المامور بها فأحبوهم ثم الاولون ربما عدوا حسناتهم سيئات والاخرون ربما جعلوا سيئاتهم حسنات وقد تقدم اصل هذه المسالة وهو انه اذا تعسر فعل الواجب فى الامارة الا بنوع من الملك فهل يكون الملك مباحا كما يباح عند التعذر ذكرنا فيه القولين فإن اقيم التعسر مقام التعذر لم يكن ذلك اثما وان لم يقم كان اثما واما ما لا تعذر فيه ولا تعسر فان الخروج فيه عن سنة الخلفاء اتباع للهوى فالتحقيق أن الحسنات حسنات والسيئات سيئات وهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وحكم الشريعة أنهم لايؤذن لهم فيما فعلوه من السيئات ولا يؤمرون به ولا يجعل حظ أنفسهم عذرا لهم فى فعلهم إذا لم تكن الشريعة عذرتهم لكن يؤمرون بما فعلوه من الحسنات ويحضون على ذلك ويرغبون فيه وإن علم أنهم لا يفعلونه إلا بالسيئات المرجوحة كما يؤمر الأمراء بالجهاد وإن علم أنهم لا يجاهدون إلا بنوع من الظلم الذى تقل مفسدته بالنسبة إلى مصلحة الجهاد
ثم إذا علم أنهم إذا نهوا عن تلك السيئات تركوا الحسنات الراجحة الواجبة لم ينهوا عنها لما فى النهي عنها من مفسدة ترك الحسنات الواجبة إلا أن يمكن الجمع بين الأمرين فيفعل حينئذ تمام الواجب كما كان
____________________
(35/31)
عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور لرجحان المصلحة فى عمله ثم يزيل فجوره بقوته وعدله
ويكون ترك النهي عنها حينئذ مثل ترك الانكار باليد أو بالسلاح إذا كان فيه مفسدة راجحة على مفسدة المنكر فإذا كان النهي مستلزما فى القضية المعينة لترك المعروف الراجح كان بمنزلة أن يكون مستلزما لفعل المنكر الراجح كمن أسلم على أن لايصلي إلا صلاتين كما هو مأثور عن ( بعض من أسلم على عهد ) النبي أو أسلم بعض الملوك المسلطين وهو يشرب الخمر أو يفعل بعض المحرمات ولو نهي عن ذلك إرتد عن الاسلام
ففرق بين ترك العالم أو الأمير لنهي بعض الناس عن الشيء إذا كان فى النهي مفسدة راجحة وبين إذنه فى فعله وهذا يختلف باختلاف الأحوال ففى حال أخرى يجب اظهار النهي إما لبيان التحريم واعتقاده والخوف من فعله أو لرجاء الترك أو لاقامة الحجة بحسب الأحوال ولهذا تنوع حال النبى صلى الله عليه وسلم فى أمره ونهيه وجهاده وعفوه واقامته الحدود وغلظته ورحمته
____________________
(35/32)
وقال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى فصل
قد ذكرت فيما تقدم الكلام على الملك هل هو جائز فى شريعتنا ولكن خلافة النبوة مستحبة وأفضل منه أم خلافة النبوة واجبة وانما تجويز تركها إلى الملك للعذر كسائر الواجبات تكلمت على ذلك
وأما فى شرع من قبلنا فإن الملك جائز كالغنى يكون للأنبياء تارة وللصالحين أخرى قال الله تعالى فى داود ( وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ) وقال عن سليمان ( رب اغفرلى وهب لى ملكا لاينبغى لأحد من بعدى إنك أنت الوهاب ) وقال عن يوسف ( رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث ) فهؤلاء ثلاثة أنبياء أخبر الله أنه آتاهم الملك وقال ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ) فهذا ملك لآل إبراهيم وملك لآل داود وقد قال مجاهد فى قوله ( تؤتى الملك من تشاء ) قال النبوة فجعل النبوة نفسها ملكا
____________________
(35/33)
والتحقيق أن من النبوة مايكون ملكا فإن النبى له ثلاثة أحوال إما أن يكذب ولا يتبع ولايطاع فهو نبي لم يؤت ملكا وإما أن يطاع فنفس كونه مطاعا هو ملك لكن إن كان لايأمر إلا بما أمر به فهو عبد رسول ليس له ملك وإن كان يأمر بما يريده مباحا له ذلك بمنزلة الملك كما قيل لسليمان ( هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب ) فهذا نبي ملك فالملك هنا قسيم العبد الرسول كما قيل للنبى صلى الله عليه وسلم ( اختر إما عبدا رسولا وإما نبيا ملكا (
وأما بالتفسير الأول وهو الطاعة والاتباع فقسم من النبوة والرسالة وهؤلاء أكمل وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه كان عبدا رسولا مؤيدا مطاعا متبوعا فأعطى فائدة كونه مطاعا متبوعا ليكون له مثل أجر من اتبعه ولينتفع به الخلق ويرحموا به ويرحم بهم ولم يختر أن يكون ملكا لئلا ينقص لما فى ذلك من الاستمتاع بالرياسة والمال ( عن ) نصيبه فى الآخرة فإن العبد الرسول أفضل عند الله من النبى الملك ولهذا كان أمر نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم أفضل من داود وسليمان ويوسف حتى إن من أهل الكتاب من طعن فى نبوة داود وسليمان كما يطعن كثير من الناس فى ولاية بعض أهل الرياسة والمال وليس الأمر كذلك
____________________
(35/34)
وأما الملوك الصالحون فقوله سبحانه ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشاء والله واسع عليم وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ) وقوله سبحانه ( ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له فى الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ) الآية قال مجاهد ملك الأرض مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان وذو القرنين والكافران بختنصر ونمرود وسيملكها خامس من هذه الأمة وقوله تعالى ( يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا )
وأما جنس الملوك فكثيرة كقوله ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) وقوله ( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف
____________________
(35/35)
(1) وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه
أعلم أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأكمل لأمته الدين وأتم عليهم النعمة وجعله على شريعة من الأمر وأمره أن يتبعها ولا يتبع سبيل الذين لايعلمون وجعل كتابه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب ومصدقا لها وجعل له شرعة ومنهاجا وشرع لأمته سنن الهدى ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد كتاب يهدى به وحديد ينصره كما قال تعالى ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) فالكتاب به يقوم العلم والدين والميزان به تقوم الحقوق فى العقود المالية والقبوض والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين
ولهذا كان فى الأزمان المتأخرة الكتاب للعلماء والعباد والميزان للوزراء والكتاب وأهل الديوان والحديد للأمراء والأجناد والكتاب له الصلاة والحديد له الجهاد ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية فى الصلاة والجهاد وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى عيادة المريض ( اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكألك عدوا ( وقال عليه السلام ( رأس الأمر الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله
____________________
1- 36 47
(35/36)
ولهذا جمع بينهما فى مواضع من القرآن كقوله تعالى ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله ) والصلاة أول أعمال الاسلام وأصل أعمال الايمان ولهذا سماها إيمانا فى قوله ( وما كان الله ليضيع ايمانكم ) أى صلاتكم إلى بيت المقدس هكذا نقل عن السلف وقال تعالى ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد فى سبيل الله لايستوون عند الله ) وقال ( فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) فوصفهم بالمحبة التى هي حقيقة الصلاة كما قال ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) فوصفهم بالشدة على الكفار والضلال
وفى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل أى العمل أفضل قال ( إيمان بالله وجهاد فى سبيله ( فقيل ثم ماذا قال ( ثم حج مبرور ( مع قوله فى الحديث الصحيح لما سأله إبن مسعود أي العمل أفضل قال ( الصلاة فى وقتها ( قال ثم ماذا قال ( بر الوالدين ( قال ثم ماذا قال ( الجهاد فى سبيل الله ( فإن قوله ( إيمان بالله ( دخل فيه الصلاة ولم يذكر فى الأول بر الوالدين إذ ليس لكل أحد والدان فالأول مطلق والثانى مقيد بمن له والدان
____________________
(35/37)
ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر خلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم من ولاة الأمور فى الدولة الأموية والعباسية أن الإمام يكون إماما فى هذين الأصلين جميعا الصلاة والجهاد فالذى يؤمهم فى الصلاة يؤمهم فى الجهاد وأمر الجهاد والصلاة واحد فى المقام والسفر وكان النبى صلى الله عليه وسلم إذا استعمل رجلا على بلد مثل عتاب بن أسيد على مكة وعثمان بن أبى العاص على الطائف وغيرهما كان هو الذي يصلى بهم ويقيم الحدود وكذلك إذا استعمل رجلا على مثل غزوة كإستعماله زيد بن حارثة وابنه أسامة وعمرو بن العاص وغيرهم كان أمير الحرب هو الذي يصلي بالناس ولهذا استدل المسلمون بتقديمه أبا بكر فى الصلاة على أنه قدمه فى الامامة العامة
وكذلك كان أمراء الصديق كيزيد بن أبى سفيان وخالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص وغيرهم أمير الحرب هو إمام الصلاة
وكان نواب عمر بن الخطاب كإستعماله على الكوفة عمار بن ياسر على الحرب والصلاة وبن مسعود على القضاء وبيت المال وعثمان بن حنيف على الخراج
ومن هنا أخذ الناس ولاية الحرب وولاية الخراج وولاية القضاء فإن عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين فلما انتشر المؤمنون وغلبوا الكافرين على البلاد وفتحوها واحتاجوا إلى زيادة فى الترتيب وضع
____________________
(35/38)
لهم الديوان ديوان الخراج للمال المستخرج وديوان العطاء والنفقات للمال المصروف ومصر لهم الأمصار فمصر الكوفة والبصرة ومصر الفسطاط فإنه لم يؤثر أن يكون بينه وبين جند المسلمين نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل فجعل هذه الأمصار مما يليه فصل وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد فإن النبى صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوي ففيه الصلاة والقراءة والذكر وتعليم العلم والخطب وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم
وكذلك عماله فى مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى وكذلك عماله على البوادى فإن لهم مجمعا فيه يصلون وفيه يساسون كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( إن بنى اسرائيل كان تسوسهم الأنبياء كلما ذهب نبي خلفه نبى وإنه لانبي بعدى وستكون خلفاء تعرفون وتنكرون ( قالوا فما تأمرنا قال ( أوفوا ببيعة الأول فالأول واسألوا الله لكم فإن الله سائلهم عما استرعاهم
____________________
(35/39)
وكان الخلفاء والأمراء يسكنون فى بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين فى بيوتهم لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع وكان سعد بن أبى وقاص قد بنى له بالكوفة قصرا وقال أقطع عنى الناس فأرسل إليه عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة وأمره أن يحرقه فاشترى من نبطي حزمة حطب وشرط عليه حملها إلى قصره فحرقه فإن عمر كره للوالي الاحتجاب عن رعيته ولكن بنيت قصور الأمراء فلما كانت إمارة معاوية احتجب لما خاف أن يغتال كما اغتيل علي واتخذ المقاصير فى المساجد ليصلي فيها ذو السلطان وحاشيته واتخذ المراكب فاستن به الخلفاء الملوك بذلك فصاروا مع كونهم يتولون الحرب والصلاة بالناس ويباشرون الجمعة والجماعة والجهاد واقامة الحدود لهم قصور يسكنون فيها ويغشاهم رؤوس الناس فيها كما كانت الخضراء لبنى أمية قبلى المسجد الجامع والمساجد يجتمع فيها للعبادات والعلم ونحو ذلك فصل
طال الأمد وتفرقت الأمة وتمسك كل قوم بشعبة من الدين بزيادات زادوها فأعرضوا عن شعبة منه أخرى أحدثت الملوك والأمراء القلاع والحصون وإنما كانت تبنى الحصون والمعاقل قديما فى الثغور خشية
____________________
(35/40)
أن يدهمها العدو وليس عندهم من يدفعه عنها وكانوا يسمون الثغور الشامية ( العواصم ( وهي قنسرين وحلب
وأحدثت ( المدارس ( لأهل العلم
وأحدثت ( الربط والخوانق ( لأهل التعبد وأظن مبدأ انتشار ذلك فى ( دولة السلاجقة ( فأول ما بنيت المدارس والرباطات للمساكين ووقفت عليها وقوف تجرى على أهلها فى وزارة ( نظام الملك ( وأما قبل ذلك فقد وجد ذكر المدارس وذكر الربط لكن ما أظن كان موقوفا عليها لأهلها وانما كانت مساكن مختصة وقد ذكر الإمام معمر بن زياد من أصحاب الواحدى فى ( أخبار الصوفية ( أن أول دويرة بنيت لهم فى البصرة وأما ( المدارس فقد رأيت لها ذكرا قبل دولة السلاجقة فى أثناء المائة الرابعة ودولتهم إنما كانت فى المائة الخامسة وكذلك هذه ( القلاع والحصون ( التى بالشام عامتها محدث كما بنى الملك العادل قلعة دمشق وبصرى وحران وذلك أن النصارى كانوا كثيرى الغزو إليهم وكان الناس بعد المائة الثالثة قد ضعفوا عن دفاع النصارى عن السواحل حتى استعلوا على كثير من ثغور الشام الساحلية
____________________
(35/41)
فصل فى ( الخلافة والسلطان ( وكيفية كونه ظل الله فى الأرض قال الله تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة ) وقال الله تعالى ( ياداود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله )
وقوله ( انى جاعل فى الأرض خليفة ) يعم آدم وبنيه لكن الإسم متناول لآدم عينا كقوله ( لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقويم ) وقوله ( خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ) وقوله ( وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) ( ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ) إلى أمثال ذلك
ولهذا كان بين داود وآدم من المناسبة ما أحب به داود حين أراه ذريته وسأل عن عمره فقيل أربعون سنة فوهبه من عمره الذي هو ألف سنة ستين سنة والحديث صحيح رواه الترمذي وغيره وصححه ولهذا كلاهما ابتلى بما ابتلاه به من الخطيئة كما أن كلا منهما
____________________
(35/42)
مناسبة للأخرى إذ جنس الشهوتين واحد ورفع درجته بالتوبة العظيمة التى نال بها من محبة الله له وفرحه به ما نال ويذكر عن كل منهما من البكاء والندم والحزن ما يناسب بعضه بعضا
والخليفة هو من كان خلفا عن غيره فعيلة بمعنى فاعلة كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول ( اللهم أنت الصاحب فى السفر والخليفة فى الأهل ( وقال صلى الله عليه وسلم ( من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه فى أهله بخير فقد غزا ( وقال ( أو كلما خرجنا فى الغزو خلف أحدهم وله نبيب كنبيب التيس يمنح احداهن اللبنة من اللبن لئن أظفرنى الله بأحد منهم لأجعلنه نكالا ( وفى القرآن ( سيقول لك المخلفون من الأعراب ) وقوله ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله )
والمراد ( بالخليفة ( أنه خلف من كان قبله من الخلق والخلف فيه مناسبة كما كان أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خلفه على أمته بعد موته وكما كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا سافر لحج أو عمرة أو غزوة يستخلف على المدينة من يكون خليفة له مدة معينة فيستخلف تارة بن أم مكتوم وتارة غيره واستخلف على بن أبى طالب فى غزوة تبوك وتسمى الأمكنة التى يستخلف فيها الامام ( مخاليف ( مثل مخاليف اليمن ومخاليف أرض الحجاز ومنه الحديث ( حيث خرج من مخلاف إلى مخلاف ( ومنه قوله تعالى ( وهو الذى جعلكم خلائف فى الأرض ورفع بعضكم
____________________
(35/43)
فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ) وقوله تعالى ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا إلى قوله تعالى ثم جعلناكم خلائف فى الأرض ومنه قوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم ) الآية وقد ظن بعض القائلين الغالطين كابن عربى أن ( الخليفة ( هو الخليفة عن الله مثل نائب الله وزعموا أن هذا بمعنى أن يكون الانسان مستخلفا وربما فسروا ( تعليم آدم الأسماء كلها ( التى جمع معانيها الانسان ويفسرون ( خلق آدم على صورته ( بهذا المعنى أيضا وقد أخذوا من الفلاسفة قولهم الانسان هو العالم الصغير وهذا قريب وضموا إليه أن الله هو العالم الكبير بناء على أصلهم الكفرى فى وحدة الوجود وأن الله هو عين وجود المخلوقات فالانسان من بين المظاهر هو الخليفة الجامع للأسماء والصفات ويتفرع على هذا ما يصيرون إليه من دعوى الربوبية والألوهية المخرجة لهم إلى الفرعونية والقرمطية والباطنية
وربما جعلوا ( الرسالة ( مرتبة من المراتب وأنهم أعظم منها فيقرون بالربوبية والوحدانية والألوهية وبالرسالة ويصيرون فى الفرعونية هذا إيمانهم أو يخرجون فى أعمالهم أن يصيروا ( سدى ) لا أمر عليهم ولانهى ولا إيجاب ولاتحريم
____________________
(35/44)
والله لا يجوز له خليفة ولهذا لما قالوا لأبى بكر ياخليفة الله قال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبي ذلك بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره قال النبى صلى الله عليه وسلم ( اللهم أنت الصاحب فى السفر والخليفة فى الأهل اللهم اصحبنا فى سفرنا واخلفنا فى أهلنا ( وذلك لأن الله حى شهيد مهيمن قيوم رقيب حفيظ غني عن العالمين ليس له شريك ولا ظهير ولا يشفع أحد عنده الا بإذنه والخليفة أنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف وسمى ( خليفة ( لأنه خلف عن الغزو وهو قائم خلفه وكل هذه المعانى منتفية فى حق الله تعالى وهو منزه عنها فإنه حي قيوم شهيد لا يموت ولا يغيب وهو غنى يرزق ولا يرزق يرزق عباده وينصرهم ويهديهم ويعافيهم بما خلقه من الأسباب التى هي من خلقه والتى هي مفتقرة إليه كافتقار المسببات إلى أسبابها فالله هو الغنى الحميد له ما فى السماوات وما فى الأرض وما بينهما ( يسأله من فى السماوات والأرض كل يوم هو فى شأن ) ( وهو الذي فى السماء إله وفى الأرض إله ) ولا يجوز أن يكون أحد خلفا منه ولايقوم مقامه لأنه لا سمى له ولا كفء له فمن جعل له خليفة فهو مشرك به
وأما الحديث النبوي ( السلطان ظل الله فى الأرض يأوى إليه كل ضعيف وملهوف ) وهذا صحيح فإن الظل مفتقر إلى آو وهو رفيق له
____________________
(35/45)
مطابق له نوعا من المطابقة والآوى إلى الظل المكتنف بالمظل صاحب الظل فالسلطان عبد الله مخلوق مفتقر إليه لا يستغنى عنه طرفة عين وفيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معانى السؤدد والصمدية التى بها قوام الخلق ما يشبه أن يكون ظل الله فى الأرض وهو أقوى الأسباب التى بها يصلح أمور خلقه وعباده فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس وإذا فسد فسدت بحسب فساده ولا تفسد من كل وجه بل لابد من مصالح إذ هو ظل الله لكن الظل تارة يكون كاملا مانعا من جميع الأذى وتارة لايمنع الا بعض الأذى وأما إذا عدم الظل فسد الأمر كعدم سر الربوبية التى بها قيام الأمة الانسانية والله تعالى أعلم
____________________
(35/46)
(1) وقال رحمه الله تعالى فصل
حكا أصحابنا كالقاضى أبى يعلى وغيره عن الإمام أحمد فى خلافة أبى بكر هل ثبتت باختيار المسلمين له أو بالنص الخفى عن النبى صلى الله عليه وسلم أو البين
( أحدهما ( بالاختيار وهو قول جمهور العلماء والفقهاء وأهل الحديث والمتكلمين كالمعتزلة والأشعرية وغيرهم
و ( الثانية ( بالنص الخفي وهو قول طوائف أهل الحديث والمتكلمين ويروى عن الحسن البصرى وبعض أهل هذا القول يقولون بالنص الجلي
وأما قول ( الامامية ( أنها ثبتت بالنص الجلى على علي وقول ( الزيدية الجارودية ( أنها بالنص الخفى عليه وقول ( الراوندية ( أنها بالنص على العباس فهذه أقوال ظاهرة الفساد عند أهل العلم والدين وإنما يدين بها إما جاهل وإما ظالم وكثير ممن يدين بها زنديق
____________________
1- 47 49
(35/47)
والتحقيق فى خلافة أبى بكر وهو الذي يدل عليه كلام أحمد أنها انعقدت باختيار الصحابة ومبايعتهم له وأن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوعها على سبيل الحمد لها والرضى بها وأنه أمر بطاعته وتفويض الأمر إليه وأنه دل الأمة وأرشدهم إلى بيعته فهذه الأوجه الثلاثة الخبر والأمر والارشاد ثابت من النبى صلى الله عليه وسلم
( فالأول ( كقوله ( رأيت كأنى على قليب أنزع منها فأتى بن أبى قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين ( الحديث وكقوله ( كأن ميزانا دلي من السماء إلى الأرض فوزنت بالأمة فرجحت ثم وزن عمر ( الحديث وكقوله ( إدعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدى ( ثم قال ( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ( فهذا إخبار منه بأن الله والمؤمنون لا يعقدونها إلا لأبى بكر الذي هم بالنص عليه وكقوله ( أري الليلة رجل صالح كان أبا بكر نيط برسول الله ( الحديث وقوله ( خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا (
وأما ( الأمر ( فكقوله ( اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر وعمر ( وقوله عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى ( وقوله للمرأة التى سألته إن لم أجدك قال ( فاتى أبا بكر ( وقوله لأصحاب الصدقات ( إذا لم تجدوه أعطوها لأبى بكر ( ونحو ذلك
____________________
(35/48)
و ( الثالث ( تقديمه له فى الصلاة وقوله ( سدوا كل خوخة فى المسجد إلا خوخة أبى بكر ( وغير ذلك من خصائصه ومزاياه وهذه الوجوه الثلاثة الثابتة بالسنة دل عليها القرآن
( فالأول ( فى قوله ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم ) الآية وقوله ( فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه ) وقوله ( وسيجزي الله الشاكرين )
والثاني قوله ( ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون )
الآية والثالث كقوله ( وسيجنبها الأتقى ) وقوله ( النبيين والصديقين ) وقوله ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) ونحو ذلك
فثبتت صحة خلافته ووجوب طاعته بالكتاب والسنة والاجماع وإن كانت انما انعقدت بالاجماع والاختيار كما أن الله إذا أمر بتولية شخص أو إنكاحه أو غير ذلك من الأمور معه فإن ذلك الأمر لايحصل إلا بعقد الولاية والنكاح والنصوص قد دلت على أمر الله بذلك العقد ومحبته له فالنصوص دلت على أنهم مأمورون باختياره والعقد له وأن الله يرضى ذلك ويحبه وأما حصول المأمور به المحبوب فلا يحصل إلا بالامتثال فلما امتثلوا ما أمروا به عقدوا له بإختيارهم وكان هذا أفضل فى حقهم وأعظم فى درجتهم
____________________
(35/49)
(1) وقال رحمه الله فصل
أهل الأهواء فى ( قتال علي ومن حاربه ( على أقوال
أما ( الخوارج ( فتكفر الطائفتان المقتتلان جميعا وأما ( الرافضة ( فتكفر من قاتل عليا مع المتواتر عنه من أنه حكم فيهم بحكم المسلمين ومنع من تكفيرهم
ولهم فى قتال طلحة والزبير وعائشة ثلاثة أقوال ( أحدها ( تفسيق الطائفتين لابعينها وهو قول عمرو بن عبيد وأصحابه و ( الثاني ( تفسيق من قاتله إلا من تاب ويقولون إن طلحة والزبير وعائشة تابوا وهذا مقتضى ما حكى عن جمهورهم كأبى الهذيل وأصحابه وأبى الحسين وغيرهم
وذهب بعض الناس إلى تخطئته فى قتال طلحة والزبير دون قتال أهل الشام
ففى الجملة ( أهل البدع ( من الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم يجعلون القتال موجبا لكفر أو لفسق
____________________
1- 50 51
(35/50)
(1)
وأما ( أهل السنة ( فمتفقون على عدالة القوم ثم لهم فى التصويب والتخطئة مذاهب لأصحابنا وغيرهم
( أحدها ( أن المصيب علي فقط و ( الثانى ( الجميع مصيبون و ( الثالث ( المصيب واحد لابعينه و ( الرابع ( الامساك عما شجر بينهم مطلقا مع العلم بأن عليا وأصحابه هم أولى الطائفتين بالحق كما فى حديث أبى سعيد لما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين فيقتلهم أولى الطائفتين بالحق ( وهذا فى حرب أهل الشام والأحاديث تدل على أن حرب الجمل فتنة وأن ترك القتال فيها أولى فعلى هذا نصوص أحمد وأكثر أهل السنة وذلك الشجار بالألسنة والأيدى أصل لما جرى بين الأمة بعد ذلك في الدين والدنيا فليعتبر العاقل بذلك وهو مذهب أهل السنة والجماعة وسئل رحمه الله
عن طائفتين من الفلاحين اقتتلتا فكسرت إحداهما الأخرى وانهزمت المكسورة وقتل منهم بعد الهزيمة جماعة فهل يحكم للمقتولين من المهزومين بالنار ويكونون داخلين فى قول النبى ( القاتل والمقتول فى النار ( أم لا وهل يكون حكم المنهزم حكم من يقتل منهم فى المعركة أم
____________________
1- 51 54
(35/51)
لا فأجاب الحمد لله إن كان المنهزم قد انهزم بنية التوبة عن المقاتلة المحرمة لم يحكم له بالنار فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات
وأما إن كان انهزامه عجزا فقط ولو قدر على خصمه لقتله فهو فى النار كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار ( قيل يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال ( إنه أراد قتل صاحبه ( فإذا كان المقتول فى النار لأنه أراد قتل صاحبه فالمنهزم بطريق الأولى لأنهما اشتركا فى الارادة والفعل والمقتول أصابه من الضرر مالم يصب المهزوم ثم إذا لم تكن هذه المصيبة مكفرة لاثم المقاتلة فلأن لا تكون مصيبة الهزيمة مكفرة أولى بل إثم المنهزم المصر على المقاتلة أعظم من إثم المقتول فى المعركة واستحقاقه للنار أشد لأن ذلك انقطع عمله السيء بموته وهذا مصر على الخبث العظيم ولهذا قالت طائفة من الفقهاء إن منهزم البغاة يقتل إذا كان له طائفة يأوى إليها فيخاف عوده بخلاف المثخن بالجرح منهم فإنه لايقتل وسببه أن هذا انكف شره والمنهزم لم ينكف شره
وأيضا فالمقتول قد يقال إنه بمصيبة القتل قد يخفف عنه العذاب وإن كان من أهل النار ومصيبة الهزيمة دون مصيبة القتل فظهر أن المهزوم أسوء حالا من المقتول إذا كان مصرا على قتل أخيه ومن تاب فإن الله غفور رحيم
____________________
(35/52)
وسئل رحمه الله
عن ( البغاة والخوارج ( هل هي الفاظ مترادفة بمعنى واحد أم بينهما فرق وهل فرقت الشريعة بينهما فى الأحكام الجارية عليهما أم لا وإذا إدعى مدع أن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهم إلا فى الاسم وخالفه مخالف مستدلا بأن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه فرق بين أهل الشام وأهل النهروان فهل الحق مع المدعي أو مع مخالفه
فأجاب الحمد لله أما قول القائل إن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا فى الاسم فدعوى باطلة ومدعيها مجازف فإن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبى حنيفة والشافعى وأحمد وغيرهم مثل كثير من المصنفين فى ( قتال أهل البغى ( فإنهم قد يجعلون قتال أبى بكر لمانعى الزكاة وقتال على الخوارج وقتاله لأهل الجمل وصفين إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الاسلام من باب ( قتال أهل البغي
____________________
(35/53)
ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة لايجوز أن يحكم عليهم بكفر ولافسق بل مجتهدون إما مصيبون وإما مخطئون وذنوبهم مغفورة لهم ويطلقون القول بأن البغاة ليسوا فساقا
فإذا جعل هؤلاء وأولئك سوآء لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة ( سواء ) ولهذا قال طائفة بفسق البغاة ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة
وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين ( الخوارج المارقين ( وبين ( أهل الجمل وصفين ( وغير أهل الجمل وصفين ممن يعد من البغاة المتأولين وهذا هو المعروف عن الصحابة وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة واتباعهم من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم
وذلك أنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ( وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا
____________________
(35/54)
من جنس أولئك فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية وقال فى حق الخوارج المارقين ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لايجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ( وفى لفظ ( لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل ( وقد روى مسلم أحاديثهم فى الصحيح من عشرة أوجه وروى هذا البخارى من غير وجه ورواه أهل السنن والمسانيد وهي مستفيضة عن النبى متلقاة بالقبول أجمع عليها علماء الأمة من الصحابة ومن اتبعهم واتفق الصحابة على قتال هؤلاء الخوارج
وأما ( أهل الجمل وصفين ( فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ولا من هذا الجانب واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ترك القتال فى الفتنة وبينوا أن هذا قتال فتنة
وكان على رضي الله عنه مسرورا لقتال الخوارج ويروى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الأمر بقتالهم وأما قتال ( صفين ( فذكر أنه ليس معه فيه نص وإنما هو رأى رآه وكان أحيانا يحمد من لم ير القتال
____________________
(35/55)
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى الحسن ( إن ابنى هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ( فقد مدح الحسن وأثنى عليه باصلاح الله به بين الطائفتين أصحاب على وأصحاب معاوية وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن وأنه لم يكن القتال واجبا ولا مستحبا
( وقتال الخوارج ( قد ثبت عنه أنه أمر به وحض عليه فكيف يسوى بين ما أمر به وحض عليه وبين ما مدح تاركه واثنى عليه فمن سوى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين وبين قتال ذى الخويصرة التميمى وأمثاله من الخوارج المارقين والحرورية المعتدين كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين ولزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يكفرون أو يفسقون المتقاتلين بالجمل وصفين كما يقال مثل ذلك فى الخوارج المارقين فقد اختلف السلف والأئمة فى كفرهم على قولين مشهورين مع اتفاقهم على الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين والامساك عما شجر بينهم فكيف نسبة هذا بهذا
وأيضا فالنبى صلى الله عليه وسلم أمر بقتال ( الخوارج ( قبل أن يقاتلوا وأما ( أهل البغي ( فإن الله تعالى قال فيهم ( وان طائفتان من المؤمنين
____________________
(35/56)
اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان الله يحب المقسطين ) فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فالاقتتال ابتداء ليس مأمورا به ولكن إذا اقتتلوا أمر بالاصلاح بينهم ثم إن بغت الواحدة قوتلت ولهذا قال من قال من الفقهاء إن البغاة لا يبتدءون بقتالهم حتى يقاتلوا وأما الخوارج فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فيهم ( أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ( وقال ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد
وكذلك مانعوا الزكاة فإن الصديق والصحابة ابتدءوا قتالهم قال الصديق والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقروا بالوجوب ثم تنازع الفقهاء فى كفر من منعها وقاتل الامام عليها مع إقراره بالوجوب على قولين هما روايتان عن أحمد كالروايتين عنه فى تكفير الخوارج وأما أهل البغى المجرد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين فإن القرآن قد نص على ايمانهم واخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي والله أعلم
____________________
(35/57)
وسئل رحمه الله
عمن يلعن ( معاوية ( فماذا يجب عليه وهل قال النبى صلى الله عليه وسلم هذه الأحاديث وهى إذا ( اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون ( وأيضا ( ان عمارا تقتله الفئة الباغية ( وقتله عسكر معاوية وهل سبوا أهل البيت أو قتل الحجاج شريفا
فأجاب الحمد لله من لعن أحدا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم كمعاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص ونحوهما ومن هو أفضل من هؤلاء كأبى موسى الأشعرى وأبى هريرة ونحوهما أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة والزبير وعثمان وعلى بن أبى طالب أو أبى بكر الصديق وعمر أو عائشة أم المؤمنين وغير هؤلاء من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين وتنازع العلماء هل يعاقب بالقتل أو ما دون القتل كما قد بسطنا ذلك فى غير هذا الموضع
وقد ثبت فى الصحيحين عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لاتسبوا أصحابى فوالذي نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل
____________________
(35/58)
أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ( واللعنة أعظم من السب وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لعن المؤمن كقتله فقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيار المؤمنين كما ثبت عنه أنه قال ( خير القرون القرن الذى بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ( وكل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به فله من الصحبة بقدر ذلك كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ( يغزو جيش فيقول هل فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو جيش فيقول هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم وذكر الطبقة الثالثة ( فعلق الحكم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما علقه بصحبته
ولما كان لفظ ( الصحبة ( فيه عموم وخصوص كان من اختص من الصحابة بما يتميز به عن غيره يوصف بتلك الصحبة دون من لم يشركه فيها قال النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى سعيد المتقدم لخالد بن الوليد لما اختصم هو وعبد الرحمن ( يا خالد لا تسبوا أصحابى فوالذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا مابلغ مد أحدهم ولا نصيفه ( فإن عبد الرحمن بن عوف هو وأمثاله من السابقين الأولين من الذين أنفقوا قبل الفتح فتح الحديبية وخالد بن الوليد وغيره ممن اسلم بعد الحديبية وأنفقوا وقاتلوا دون أولئك قال 4 تعالى { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى }
____________________
(35/59)
والمراد ( بالفتح ( فتح الحديبية لما بايع النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة وكان الذين بايعوه أكثر من ألف وأربعمائة وهم الذين فتحوا خيبر وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لايدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ( وسورة الفتح ( الذى فيها ذلك أنزلها الله قبل أن تفتح مكة بل قبل أن يعتمر النبى صلى الله عليه وسلم وكان قد بايع أصحابه تحت الشجرة عام الحديبية سنة ست من الهجرة وصالح المشركين صلح الحديبية المشهور وبذلك الصلح حصل من الفتح مالا يعلمه إلا الله مع أنه قد كان كرهه خلق من المسلمين ولم يعلموا مافيه من حسن العاقبة حتى قال سهل بن حنيف أيها الناس اتهموا الرأى فقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت رواه البخارى وغيره فلما كان من العام القابل اعتمر النبى صلى الله عليه وسلم ودخل هو ومن اعتمر معه مكة معتمرين وأهل مكة يؤمئذ مع المشركين ولما كان فى العام الثامن فتح مكة فى شهر رمضان وقد أنزل الله فى سورة الفتح ( لتدخلن المسجد الحرام ان شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لاتخافون فعلم مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ) فوعدهم فى سورة الفتح أن يدخلوا مكة آمنين وانجز موعده من
____________________
(35/60)
العام الثاني وأنزل فى ذلك ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ) وذلك كله قبل فتح مكة فمن توهم أن ( سورة الفتح ( نزلت بعد فتح مكة فقد غلط غلطا بينا
( والمقصود ( أن أولئك الذين صحبوه قبل الفتح اختصوا من الصحبة بما استحقوا به التفضيل على من بعدهم حتى قال لخالد ( لا تسبوا أصحابى ( فانهم صحبوه قبل أن يصحبه خالد وأمثاله
ولما كان ( لأبى بكر الصديق ( رضي الله عنه من مزية الصحبة ما تميز به على جميع الصحابة خصه بذلك فى الحديث الصحيح الذى رواه البخارى عن أبى الدرداء أنه كان بين أبى بكر وعمر كلام فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فامتنع عمر وجاء أبو بكر إلى النبى صلى الله عليه وسلم فذكر له ما جرى ثم إن عمر ندم فخرج يطلب أبا بكر فى بيته فذكر له أنه كان عند النبى صلى الله عليه وسلم فلما جاء عمر أخذ النبى صلى الله عليه وسلم يغضب لأبى بكر وقال ( أيها الناس إنى جئت إليكم فقلت انى رسول الله إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركوا لي صاحبى فهل أنتم تاركوا لي صاحبي فما أوذي بعدها فهنا خصه باسم الصحبة كما خصه به القرآن فى قوله تعالى
____________________
(35/61)
{ ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } وفى الصحيحين عن أبى سعيد أن النبى قال ( إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فإختار ذلك العبد ماعند الله ( فبكى أبو بكر فقال بل نفديك بأنفسنا وأموالنا قال فجعل الناس يعجبون أن ذكر النبى صلى الله عليه وسلم عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إن أمن الناس علينا فى صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخى وصاحبى سدوا كل خوخة فى المسجد الا خوخة أبى بكر ( وهذا من أصح حديث يكون باتفاق العلماء العارفين بأقوال النبى صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله
( والمقصود ( أن الصحبة فيها خصوص وعموم وعمومها يندرج فيه كل من رآه مؤمنا به ولهذا يقال صحبته سنة وشهرا وساعة ونحو ذلك
و ( معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهم ( من المؤمنين لم يتهمهم أحد من السلف بنفاق بل قد ثبت فى الصحيح أن عمرو بن العاص لما بايع النبى صلى الله عليه وسلم قال على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبى فقال
____________________
(35/62)
( ياعمرو أما علمت أن الاسلام يهدم ماكان قبله ( ومعلوم أن الاسلام الهادم هو اسلام المؤمنين لا إسلام المنافقين
وأيضا فعمرو بن العاص وأمثاله ممن قدم مهاجرا إلى النبى بعد الحديبية هاجروا إليه من بلادهم طوعا لا كرها والمهاجرون لم يكن فيهم منافق وانما كان النفاق فى بعض من دخل من الأنصار وذلك أن الأنصار هم أهل المدينة فلما أسلم اشرافهم وجمهورهم احتاج الباقون أن يظهروا الاسلام نفاقا لعز الإسلام وظهوره فى قومهم وأما أهل مكة فكان اشرافهم وجمهورهم كفارا فلم يكن يظهر الايمان إلا من هو مؤمن ظاهرا وباطنا فإنه كان من أظهر الاسلام يؤذى ويهجر وانما المنافق يظهر الاسلام لمصلحة دنياه وكان من أظهر الاسلام بمكة يتأذى فى دنياه ثم لما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر معه أكثر المؤمنين ومنع بعضهم من الهجرة إليه كما منع رجال من بنى مخزوم مثل الوليد بن المغيرة أخو خالد أخو أبي جهل لأمه ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يقنت لهؤلاء ويقول فى قنوته ( اللهم نج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنينا كسني يوسف ( والمهاجرون من أولهم إلى آخرهم ليس فيهم من اتهمه أحد بالنفاق بل كلهم مؤمنون مشهود لهم بالايمان ( ولعن المؤمن كقتله
____________________
(35/63)
وأما ( معاوية بن أبى سفيان وأمثاله ) من الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة كعكرمة بن أبى جهل والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب هؤلاء وغيرهم ممن حسن إسلامهم باتفاق المسلمين ولم يتهم أحد منهم بعد ذلك بنفاق ومعاوية قد إستكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ( اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب
وكان أخوه يزيد بن أبى سفيان خيرا منه وأفضل وهو أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى فتح الشام ووصاه بوصية معروفة وأبو بكر ماش ويزيد راكب فقال له ياخليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل فقال لست براكب ولست بنازل إنى احتسب خطاي فى سبيل الله وكان عمرو بن العاص هو الأمير الآخر والثالث شرحبيل بن حسنة والرابع خالد بن الوليد وهو أميرهم المطلق ثم عزله عمر وولى أبا عبيدة عامر بن الجراح الذى ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم شهد له أنه أمين هذه الأمة فكان فتح الشام على يد أبى عبيدة وفتح العراق على يد سعد بن أبى وقاص ثم
لما مات يزيد بن أبى سفيان فى خلافة عمر استعمل أخاه معاوية وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة وأخبرهم بالرجال وأقومهم
____________________
(35/64)
بالحق وأعلمهم به حتى قال على بن أبى طالب رضى الله عنه كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( أن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ( وقال ( لولم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ( وقال بن عمر ماسمعت عمر يقول فى الشيء أنى لأراه كذا وكذا إلا كان كما رآه وقد قال له النبى صلى الله عليه وسلم ( مارآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك ( ولا استعمل عمر قط بل ولا أبو بكر على المسلمين منافقا ولا استعملا من أقاربهما ولا كان تأخذهما فى الله لومة لائم بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلى الاسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح حتى تظهر صحة توبتهم وكان عمر يقول لسعد بن أبى وقاص وهو أمير العراق لاتستعمل أحدا منهم ولا تشاورهم فى الحرب فإنهم كانوا أمراء أكابر مثل طليحة الأسدى والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والأشعث بن قيس الكندى وأمثالهم فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولهم على المسلمين
فلو كان ( عمرو بن العاص ( ومعاوية بن أبى سفيان وأمثالهما ( ممن يتخوف منهما النفاق لم يولوا على المسلمين بل عمرو بن العاص قد أمره النبى صلى الله عليه وسلم فى غزوة ذات السلاسل والنبى صلى الله عليه وسلم لم يول على المسلمين منافقا وقد استعمل على نجران أبا سفيان بن حرب أبا معاوية ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان
____________________
(35/65)
نائبه على نجران وقد اتفق المسلمون على أن اسلام معاوية خير من اسلام أبيه أبى سفيان فكيف يكون هؤلاء منافقين والنبى صلى الله عليه وسلم يأتمنهم على أحوال المسلمين فى العلم والعمل وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان ولم يتهمهم أحد من أوليائهم لا محاربوهم ولا غير محاربيهم بالكذب على النبى صلى الله عليه وسلم بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله مأمونون عليه فى الرواية عنه والمنافق غير مأمون على النبى صلى الله عليه وسلم بل هو كاذب عليه مكذب له
وإذا كانوا مؤمنين محبين لله ورسوله فمن لعنهم فقد عصى الله ورسوله وقد ثبت فى صحيح البخارى ما معناه أن رجلا يلقب حمارا وكان يشرب الخمر وكان كلما شرب أتى به إلى النبى صلى الله عليه وسلم جلده فأتى به إليه مرة فقال رجل لعنه الله ما أكثر مايؤتى به إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( لاتلعنوه فإنه يحب الله ورسوله ( وكل مؤمن يحب الله ورسوله ومن لم يحب الله ورسوله فليس بمؤمن وأن كانوا متفاضلين فى الايمان وما يدخل فيه من حب وغيره هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم ( لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها ( وقد نهى عن لعنه هذا المعين لأن اللعنة من ( باب الوعيد ( فيحكم به
____________________
(35/66)
عموما وأما المعين فقد يرتفع عنه الوعيد لتوبة صحيحة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة أو غير ذلك من الأسباب التى ضررها يرفع العقوبة عن المذنب فهذا فى حق من له ذنب محقق
وكذلك حاطب بن أبى بلتعة ( فعل مافعل وكان يسيء إلى مماليكه حتى ثبت فى الصحيح أن غلامه قال يارسول الله والله ليدخلن حاطب بن أبى بلتعة النار قال ( كذبت إنه شهد بدرا والحديبية ( وفى الصحيح عن على بن أبى طالب أن النبى صلى الله عليه وسلم أرسله والزبير بن العوام وقال لهما ( إئتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب ( قال على فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى لقينا الظعينة فقلنا أين الكتاب فقالت ما معي كتاب فقلنا لها لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب قال فاخرجته من عقاصها فاتينا به النبى صلى الله عليه وسلم وإذا كتاب من حاطب إلى بعض المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبى صلى الله عليه وسلم فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( ما هذا يا حاطب ( فقال والله يارسول الله مافعلت هذا ارتدادا عن دينى ولا رضاء بالكفر بعد الاسلام ولكن كنت امرأ ملصقا فى قريش ولم أكن من انفسها وكان من معك من المسلمين لهم قرابات يحمون بهم أهاليهم بمكة فاحببت إذ فاتنى ذلك منهم ان اتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى وفى لفظ وعلمت أن ذلك لايضرك يعنى لأن الله ينصر رسوله والذين آمنوا فقال عمر دعنى
____________________
(35/67)
أضرب عنق هذا المنافق فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إنه قد شهد بدرا ومايدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم ( فهذه السيئة العظيمة غفرها الله له بشهود بدر
فدل ذلك على أن الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة والمؤمنون يؤمنون بالوعد والوعيد لقوله صلى الله عليه وسلم ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ( وأمثال ذلك مع قوله ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) ولهذا لا يشهد لمعين بالجنة إلا بدليل خاص ولايشهد على معين بالنار إلا بدليل خاص ولا يشهد لهم بمجرد الظن من اندراجهم فى العموم لأنه قد يندرج فى العمومين فيستحق الثواب والعقاب لقوله تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) والعبد إذا اجتمع له سيئات وحسنات فإنه وإن استحق العقاب على سيئاته فإن الله يثيبه على حسناته ولا يحبط حسنات المؤمن لأجل ما صدر منه وإنما يقول بحبوط الحسنات كلها بالكبيرة الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر وأنهم لايخرجون منها بشفاعة ولا غيرها وأن صاحب الكبيرة لا يبقى معه من الايمان شيء وهذه أقوال فاسدة مخالفة للكتاب والسنة المتواترة واجماع الصحابة
____________________
(35/68)
وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لايعتقدون عصمة أحد من الصحابة ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم والله تعالى يغفر لهم بالتوبة ويرفع بها درجاتهم ويغفر لهم بحسنات ماحية أو بغير ذلك من الأسباب قال تعالى ( والذى جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم مايشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذى عملوا ويجزيهم أجرهم باحسن الذى كانوا يعملون ) وقال تعالى ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ماعملوا ونتجاوز عن سيئاتهم فى أصحاب الجنة )
ولكن الأنبياء صلوات الله عليهم هم الذين قال العلماء إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين وهذا فى الذنوب المحققة وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون فإذا إجتهدوا فأصابوا فلهم أجران وإذا اجتهدوا واخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم وخطؤهم مغفور لهم وأهل الضلال يجعلون الخطأ والاثم متلازمين فتارة يغلون فيهم ويقولون إنهم معصومون وتارة يجفون عنهم ويقولون أنهم باغون بالخطأ وأهل العلم والايمان لا يعصمون ولا يؤثمون
____________________
(35/69)
ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال فطائفة سبت السلف ولعنتهم لاعتقادهم أنهم فعلوا ذنوبا وأن من فعلها يستحق اللعنة بل قد يفسقونهم أو يكفرونهم كما فعلت الخوارج الذين كفروا على بن أبى طالب وعثمان بن عفان ومن تولاهما ولعنوهم وسبوهم واستحلوا قتالهم وهؤلاء هم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لايجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية ( وقال صلى الله عليه وسلم ( تمرق مارقة على فرقة من المسلمين فتقاتلها أولى الطائفتين لأجل الحق ( وهؤلاء هم المارقة الذين مرقوا على أمير المؤمنين على بن أبى طالب وكفروا كل من تولاه وكان المؤمنون قد افترقوا فرقتين فرقة مع على وفرقه مع معاوية فقاتل هؤلاء عليا وأصحابه فوقع الأمر كما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم وكما ثبت عنه أيضا فى الصحيح أنه قال عن الحسن إبنه ( إن ابنى هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين ( فأصلح الله به بين شيعة على وشيعة معاوية
وأثنى النبى صلى الله عليه وسلم على الحسن بهذا الصلح الذى كان على يديه وسماه سيدا بذلك لأجل أن ما فعله الحسن يحبه الله ورسوله ويرضاه الله ورسوله ولو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذى أمر الله به ورسوله لم يكن الأمر كذلك بل يكون الحسن قد ترك الواجب أو الأحب إلى
____________________
(35/70)
الله وهذا النص الصحيح الصريح يبين أن مافعله الحسن محمود مرضي لله ورسوله وقد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يضعه على فخذه ويضع أسامة بن زيد ويقول ( اللهم اني أحبهما وأحب من يحبهما ( وهذا أيضا مما ظهر فيه محبته ودعوته صلى الله عليه وسلم فإنهما كانا أشد الناس رغبة فى الأمر الذى مدح النبى صلى الله عليه وسلم به الحسن وأشد الناس كراهة لما يخالفه
وهذا مما يبين أن القتلى من أهل صفين لم يكونوا عند النبى صلى الله عليه وسلم بمنزلة الخوارج المارقين الذين أمر بقتالهم وهؤلاء مدح الصلح بينهم ولم يأمر بقتالهم ولهذا كانت الصحابة والأئمة متفقين على قتال الخوارج المارقين وظهر من علي رضى الله عنه السرور بقتالهم ومن روايته عن النبى صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ماقد ظهر عنه وأما قتال الصحابة فلم يرو عن النبى صلى الله عليه وسلم فيه أثر ولم يظهر فيه سرور بل ظهر منه الكآبة وتمنى أن لايقع وشكر بعض الصحابة وبرأ الفريقين من الكفر والنفاق وأجاز الترحم على قتلى الطائفتين وأمثال ذلك من الأمور التى يعرف بها إتفاق على وغيره من الصحابة على أن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة
وقد شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لايخرجهم عن الايمان بقوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون }
____________________
(35/71)
فسماهم ( مؤمنين ( وجعلهم ( إخوة ( مع وجود الاقتتال والبغي
والحديث المذكور ( إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون ( كذب مفترى لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث ولا هو فى شيء من دواوين الاسلام المعتمدة
و ( معاوية ( لم يدع الخلافة ولم يبايع له بها حين قاتل عليا ولم يقاتل على أنه خليفة ولا أنه يستحق الخلافة ويقرون له بذلك وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه ولاكان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدوا عليا وأصحابه بالقتال ولا يعلوا
بل لما رأى على رضى الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته إذلا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب فتحصل الطاعة والجماعة
وهم قالوا إن ذلك لايجب عليهم وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين قالوا لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين وقتلته فى عسكر على وهم غالبون
____________________
(35/72)
لهم شوكة فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا وعلى لايمكنه دفعهم كما لم يمكنه الدفع عن عثمان وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف
وكان فى جهال الفريقين من يظن بعلي وعثمان ظنونا كاذبة برأ الله منها عليا وعثمان كان يظن بعلي أنه أمر بقتل عثمان وكان علي يحلف وهو البار الصادق بلا يمين أنه لم يقتله ولا رضى بقتله ولم يمالئ على قتله وهذا معلوم بلا ريب من علي رضى الله عنه فكان أناس من محبى علي ومن مبغضيه يشيعون ذلك عنه فمحبوه يقصدون بذلك الطعن على عثمان بأنه كان يستحق القتل وأن عليا أمر بقتله ومبغضوه يقصدون بذلك الطعن على علي وأنه أعان على قتل الخليفة المظلوم الشهيد الذى صبر نفسه ولم يدفع عنها ولم يسفك دم مسلم فى الدفع عنه فكيف فى طلب طاعته وأمثال هذه الأمور التى يتسبب بها الزائغون على المتشيعين العثمانية والعلوية
وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفأ لعلى بالخلافة ولا يجوز أن يكون خليفة مع امكان استخلاف علي رضى الله عنه فإن فضل على وسابقيته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معروفة كفضل إخوانه أبى بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضى الله عنهم
____________________
(35/73)
و لم يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد وسعد كان قد ترك هذا الأمر وكان الأمر قد إنحصر فى عثمان وعلى فلما توفى عثمان لم يبق لها معين إلا على رضى الله عنه وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والايمان حتى حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه من غيره أولى منه بالطاعة ولهذا أمر الله بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف ولهذا قيل مايكرهون فى الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة
وأما الحديث الذى فيه ( أن عمارا تقتله الفئة الباغية ( فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم لكن رواه مسلم فى صحيحه وهوفى بعض نسخ البخاري قد تأوله بعضهم على أن المراد بالباغية الطالبة بدم عثمان كما قالوا نبغى إبن عفان بأطراف الأسل وليس بشيء بل يقال ماقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق كما قاله وليس فى كون عمارا تقتله الفئة الباغية ماينافى ما ذكرناه فإنه قد قال الله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغى مؤمنين إخوة بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين وليس كل ما كان
____________________
(35/74)
بغيا وظلما أو عدوانا يخرج عموم الناس عن الايمان ولايوجب لعنتهم فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون
وكل من كان باغيا أو ظالما أومعتديا أو مرتكبا ماهو ذنب فهو ( قسمان ( متأول وغير متاول فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حل أمور وأعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة وأمثال ذلك فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون وقد قال الله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت فى الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما فى الحرث وخص أحدهما بالعلم والحكم مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم والعلماء ورثة الأنبياء فإذا فهم أحدهم من المسألة مالم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملوما ولا مانعا لما عرف من علمه ودينه وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثما وظلما والاصرار عليه فسقا بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا فالبغي هو من هذا الباب
____________________
(35/75)
أما إذا كان الباغى مجتهدا ومتأولا ولم يتبين له أنه باغ بل اعتقد أنه على الحق وإن كان مخطئا فى اعتقاده لم تكن تسميته ( باغيا ( موجبة لإثمه فضلا عن أن توجب فسقه والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم لاعقوبة لهم بل للمنع من العدوان ويقولون إنهم باقون على العدالة لايفسقون ويقولون هم كغير المكلف كما يمنع الصبي والمجنون والناسى والمغمى عليه والنائم من العدوان أن لايصدر منهم بل تمنع البهائم من العدوان ويجب على من قتل مؤمنا خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه فى ذلك وهكذا من رفع إلى الامام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة
عليه فاقام عليه الحد والتائب من الذنب كمن لاذنب له والباغى المتأول يجلد عند مالك والشافعى وأحمد ونظائره متعددة ثم بتقدير أن يكون ( البغى ( بغير تأويل يكون ذنبا والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة بالحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك
ثم ( إن عمارا تقتله الفئة الباغية ( ليس نصا فى أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التى حملت عليه حتى قتلته وهي طائفة من العسكر ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها ومن المعلوم أنه
____________________
(35/76)
كان فى العسكر من لم يرض بقتل عمار كعبد الله بن عمرو بن العاص وغيره بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار حتى معاوية وعمرو
ويروى أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذى جاء به دون مقاتليه وأن عليا رد هذا التأويل بقوله فنحن إذا قتلنا حمزة ولاريب أن ماقاله على هو الصواب لكن من نظر فى كلام المتناظرين من العلماء الذين ليس بينهم قتال ولا ملك وأن لهم فى النصوص من التأويلات ماهو أضعف من معاوية بكثير ومن تأول هذا التأويل لم ير أنه قتل عمارا فلم يعتقد أنه باغ ومن لم يعتقد أنه باغ وهو فى نفس الأمر باغ فهو متأول مخطئ
والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارا لكن لهم قولان مشهوران كما كان عليهما أكابر الصحابة منهم من يرى القتال مع عمار وطائفته ومنهم من يرى الامساك عن القتال مطلقا وفى كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين ففي القول الأول عمار وسهل بن حنيف وأبو أيوب وفى الثانى سعد بن أبى وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر ونحوهم ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا على هذا الرأى ولم يكن فى العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبى وقاص وكان من القاعدين
____________________
(35/77)
و ( حديث عمار ( قد يحتج به من رأى القتال لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فالله يقول ( فقاتلوا التى تبغى ) والمتمسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ( أن القعود عن الفتنة خير من القتال فيها ( وتقول إن هذا القتال ونحوه هو قتال الفتنة كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك وأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال ولم يرض به وإنما رضي بالصلح وإنما أمر الله بقتال الباغى ولم يأمر بقتاله ابتداء بل قال ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) قالوا والاقتتال الأول لم يأمر الله به ولا أمر كل من بغى عليه أن يقاتل من بغى عليه فإنه إذا قتل كل باغ كفر بل غالب المؤمنين بل غالب الناس لايخلو من ظلم وبغى ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب الإصلاح بينهما وإن لم تكن
واحدة منهما مأمورة بالقتال فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت لأنها لم تترك القتال ولم تجب إلى الصلح فلم يندفع شرها إلا بالقتال فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لايندفع ظلمه عن غيره إلا بالقتال كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد ( قالوا فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء بل أمرنا بالاصلاح
____________________
(35/78)
بينهم و ( أيضا ( فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين معهم ناكلين عن القتال فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفى الطاعة
له و ( المقصود ( أن هذا الحديث لايبيح لعن أحد من الصحابة ولا يوجب فسقه وأما ( أهل البيت ( فلم يسبوا قط ولله الحمد ولم يقتل الحجاج أحدا من بنى هاشم وإنما قتل رجالا من أشراف العرب وكان قد تزوج بنت عبد الله بن جعفر فلم يرض بذلك بنو عبد مناف ولا بنو هاشم ولا بنو أمية حتى فرقوا بينه وبينها حيث لم يروه كفؤا والله أعلم وسئل رحمه الله
عن الفتن التى تقع من أهل البر وأمثالها فيقتل بعضهم بعضا ويستبيح بعضهم حرمة بعض فما حكم الله تعالى فيهم
فأجاب الحمد لله هذه الفتن وأمثالها من أعظم المحرمات وأكبر المنكرات قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله }
____________________
(35/79)
وهؤلاء الذين تفرقوا وإختلفوا حتى صار عنهم من الكفر ما صار وقد قال النبى ( لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فهذا من الكفر وإن كان المسلم لا يكفر بالذنب قال تعالى ( وإن طائفتان من المؤمنين إقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الآخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوه فأصلحوا بين أخويكم وإتقوا الله لعلكم ترحمون ( فهذا حكم الله بين المقتتلين من المؤمنين أخبر أنهم إخوة وأمر أولا بالإصلاح بينهم إذا إقتتلوا ( فإن بغت إحداهما على الأخرى ) ولم يقبلوا الإصلاح ( فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ) فأمر بالإصلاح بينهم بالعدل بعد أن ( تفىء إلى أمر الله ) أى ترجع إلى أمر الله فمن رجع إلى أمر الله وجب أن يعدل بينه وبين خصمه ويقسط بينهما فقبل أن نقاتل الطائفة الباغية وبعد إقتتالهما أمرنا بالإصلاح بينهما مطلقا لأنه لم تقهر إحدى الطائفتين بقتال
____________________
(35/80)
وإذا كان كذلك فالواجب أن يسعى بين هاتين الطائفتين بالصلح الذى أمر الله به ورسوله ويقال لهذه ما تنقم من هذه ولهذه ما تنقم من هذه فإن ثبت على إحدى الطائفتين أنها إعتدت على الآخرى بإتلاف شيء من الأنفس والأموال كان عليها ضمان ما أتلفته وإن كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء تقاصوا بينهم كما قال الله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى } بالأنثى وقد ذكرت طائفة من السلف أنها أنزلت فى مثل ذلك فى طائفتين إقتتلتا فأمرهم الله بالمقاصة قال ( فمن عفى له من أخيه شيء ) والعفو الفضل فإذا فضل لواحدة من الطائفتين شيء على الأخرى ( فإتباع بالمعروف ) والذى عليه الحق يؤديه بإحسان وإن تعذر أن تضمن واحدة للأخرى فيجوز أن يتحمل الرجل حمالة يؤديها لصلاح ذات البين وله أن يأخذها بعد ذلك من زكاة المسلمين ويسأل الناس فى إعانته على هذه الحالة وان كان غنيا قال النبى صلى الله عليه وسلم لقبيصة بن مخارق الهلالى ( يا قبيصة ان المسألة لا تحل الا لثلاثة رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فيسأل حتى يجد سدادا من عيش ثم يمسك ورجل اصابته فاقة فانه يقوم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه فيقولون قد اصاب فلانا فاقة فيسأل حتى يجد قواما من عيش وسدادا من عيش ثم يمسك ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك ( والواجب على كل مسلم قادر ان يسعى فى الإصلاح بينهم ويأمرهم بما أمر الله به مهما أمكن
____________________
(35/81)
ومن كان من الطائفتين يظن انه مظلوم مبغى عليه فاذا صبر وعفى اعزه الله ونصره كما ثبت فى الصحيح عن النبى انه قال ( ما زاد الله عبدا بعفو الا عزا وما تواضع احد لله الا رفعه الله ولا نقصت صدقة من مال ( وقال تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } وقال تعالى { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } فالباغى الظالم ينتقم الله منه فى الدنيا والآخرة فان البغى مصرعه قال بن مسعود ولو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغى منهما دكا ومن حكمة الشعر ** قضى الله ان البغى يصرع اهله ** وان الباغى تدور الدوائر ** ويشهد لهذا قوله تعالى { إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } الآية وفى الحديث ( ما من ذنب أحرى أن يعجل لصاحبه العقوبة فى الدنيا من البغى وما حسنة احرى ان يعجل لصاحبها الثواب من صلة الرحم ( فمن كان من احدى الطائفتين باغيا ظالما فليتق الله وليتب ومن كان مظلوما مبغيا عليه وصبر كان له البشرى من الله قال تعالى { وبشر الصابرين } قال عمرو بن اوس هم الذين لا يظلمون اذا ظلموا وقد قال تعالى للمؤمنين فى حق عدوهم { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }
____________________
(35/82)
وقال يوسف عليه السلام لما فعل به اخوته ما فعلوا فصبر واتقى حتى نصره الله ودخلوا عليه وهو فى عزه { قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فمن إتقى الله من هؤلاء وغيرهم بصدق وعدل ولم يتعد حدود الله وصبر على اذى الآخر وظلمه لم يضره كيد الآخر بل ينصره الله عليه
وهذه الفتن سببها الذنوب والخطايا فعلى كل من الطائفتين ان يستغفر الله ويتوب إليه فإن ذلك يرفع العذاب وينزل الرحمة قال الله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } وفى الحديث عن النبى ( من اكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب قال الله تعالى { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله } (
____________________
(35/83)
وسئل رحمه الله تعالى
عن طائفتين يزعمان أنهما من أمة محمد يتداعيان بدعوة الجاهلية كأسد وهلال وثعلبة وحرام وغير ذلك وبينهم أحقاد ودماء فإذا تراءت الفئتان سعى المؤمنون بينهم لقصد التأليف وإصلاح ذات البين فيقول أولئك الباغون إن الله قد أوجب علينا طلب الثأر بقوله { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } إلى قوله { والجروح قصاص } ثم إن المؤمنين يعرفونهم أن هذا الأمر يفضى إلى الكفر من قتل النفوس ونهب الأموال فيقولون نحن لنا عليهم حقوق فلا نفارق حتى نأخذ ثأرنا بسيوفهم ثم يحملون عليهم فمن إنتصر منهم بغى وتعدى وقتل النفس ويفسدون فى الأرض فهل يجب قتال الطائفة الباغية وقتلها بعد أمرهم بالمعروف أو ماذا يجب على الإمام أن يفعل بهذه الطائفة الباغية
فأجاب الحمد لله قتال هاتين الطائفتين حرام بالكتاب والسنة والإجماع حتى قال صلى الله عليه وسلم ( إذا إلتقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فى النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال
____________________
(35/84)
أنه أراد قتل صاحبه ( وقال ( لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ( وقال ( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا فى شهركم هذا إلا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (
والواجب فى مثل هذا ما أمر الله به ورسوله حيث قال { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } فيجب الإصلاح بين هاتين الطائفتين كما أمر الله تعالى والإصلاح له طرق
( منها ( أن تجمع أموال الزكوات وغيرها حتى يدفع فى مثل ذلك فإن الغرم لإصلاح ذات البين يبيح لصاحبه أن يأخذ من الزكاة بقدر ما غرم كما ذكره الفقهاء من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهما كما قال النبى لقبيصة بن مخارق ( إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة لرجل تحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك ورجل أصابته جائحة إجتاحت ماله فيسأل حتى يجد سدادا من عيش ثم يمسك ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه فيقولون قد أصابت فلانا فاقة فيسأل
____________________
(35/85)
حتى يجد قواما من عيش وسدادا من عيش ثم يمسك وما سوى ذلك من المسألة فإنه يأكله صاحبه سحتا (
ومن طرق الصلح أن تعفو إحدى الطائفتين أو كلاهما عن بعض مالها عند الأخرى من الدماء والأموال { فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين }
ومن طرق الصلح أن يحكم بينهما بالعدل فينظر ما أتلفته كل طائفة من الأخرى من النفوس والأموال فيتقاصان ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) وإذا فضل لإحداهما على الأخرى شيء فإتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان فإن كان يجهل عدد القتلى أو مقدار المال جعل المجهول كالمعدوم وإذا إدعت إحداهما على الأخرى بزيادة فإما أن تحلفها على نفى ذلك وإما أن تقيم البينة وإما تمتنع عن اليمين فيقضى برد اليمين أو النكول
فإن كانت احدى الطائفتين تبغى بأن تمتنع عن العدل الواجب ولا تجيب إلى أمر الله ورسوله وتقاتل على ذلك أو تطلب قتال الأخرى واتلاف النفوس والأموال كما جرت عادتهم به فإذا لم يقدر على كفها إلا بالقتل قوتلت حتى تفىء إلى أمر الله وان امكن ان تلزم بالعدل بدون القتال
____________________
(35/86)
مثل ان يعاقب بعضهم او يحبس او يقتل من وجب قتله منهم ونحو ذلك عمل ذلك ولا حاجة
إلى القتال وأما قول القائل ان الله اوجب علينا طلب الثأر فهو كذب على الله ورسوله فان الله لم يوجب على من له عند أخيه المسلم المؤمن مظلمة من دم او مال او عرض ان يستوفى ذلك بل لم يذكر حقوق الآدميين فى القرآن الا ندب فيها إلى العفو فقال تعالى { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } وقال تعالى { فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } وأما قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } فهذا مع انه مكتوب على بنى اسرائيل وان كان حكمنا كحكمهم مما لم ينسخ من الشرائع فالمراد بذلك التسوية فى الدماء بين المؤمنين كما قال النبى ( المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ( فالنفس بالنفس ( وان كان القاتل رئيسا مطاعا من قبيلة شريفة والمقتول سوقى طارف وكذلك ان كان كبيرا وهذا صغيرا او هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا عربيا وهذا عجميا او هذا هاشميا وهذا قرشيا وهذا رد لما كان عليه
____________________
(35/87)
أهل الجاهلية من انه اذا قتل كبير من القبيلة قتلوا به عددا من القبيلة الأخرى غير قبيلة القاتل واذا قتل ضعيف من قبيلة لم يقتلوا قاتله اذا كان رئيسا مطاعا فأبطل الله ذلك بقوله { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فالمكتوب عليهم هو العدل وهو كون النفس بالنفس اذ الظلم حرام واما استيفاء الحق فهو إلى المستحق وهذا مثل قوله { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } أي لا يقتل غير قاتله
وأما إذا طلبت احدى الطائفتين حكم الله ورسوله فقالت الأخرى نحن نأخذ حقنا بأيدينا فى هذا الوقت فهذا من أعظم الذنوب الموجبة عقوبة هذا القاتل الظالم الفاجر واذا امتنعوا عن حكم الله ورسوله ولهم شوكة وجب على الأمير قتالهم وان لم يكن لهم شوكة عرف من امتنع من حكم الله ورسوله والزم بالعدل
وأما قولهم لنا عليهم حقوق من سنين متقادمة فيقال لهم نحن نحكم بينكم فى الحقوق القديمة والحديثة فان حكم الله ورسوله يأتى على هذا
وأما من قتل احدا من بعد الاصطلاح او بعد المعاهدة والمعاقدة فهذا يستحق القتل حتى قالت طائفة من العلماء انه يقتل حدا ولا يجوز العفو عنه لأولياء المقتول وقال الأكثرون بل قتله قصاص والخيار فيه إلى أولياء المقتول
____________________
(35/88)
وان كان الباغى طائفة فانهم يستحقون العقوبة وان لم يمكن كف صنيعهم الا بقتالهم قوتلوا وإن امكن بما دون ذلك عوقبوا بما يمنعهم من البغى والعدوان ونقض العهد والميثاق قال ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته فيقال هذه غدرة فلان ( وقد قال تعالى { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قالت طائفة من العلماء المعتدى هو القاتل بعد العفو فهذا يقتل حتما وقال آخرون بل يعذب بما يمنعه من الاعتداء والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى
عن أقوام لم يصلوا ولم يصوموا والذى يصوم لم يصل ومالهم حرام ويأخذون اموال الناس ويكرمون الجار والضعيف ولم يعرف لهم مذهب وهم مسلمون
فأجاب الحمد لله هؤلاء وان كانوا تحت حكم ولاة الأمور فانه يجب ان يأمروهم بإقامة الصلاة ويعاقبوا على تركها وكذلك الصيام وان اقروا بوجوب الصلاة الخمس وصيام رمضان والزكاة المفروضه والا فمن لم يقر بذلك فهو كافر وان اقروا بوجوب الصلاة وامتنعوا عن اقامتها عوقبوا حتى
____________________
(35/89)
يقيموها ويجب قتل كل من لم يصل اذا كان بالغا عاقلا عند جماهير العلماء كمالك والشافعى واحمد وكذلك تقام عليهم الحدود
وان كانوا طائفة ممتنعة ذات شوكة فانه يجب قتالهم حتى يلتزموا اداء الواجبات الظاهرة والمتواترة كالصلاة والصيام والزكاة وترك المحرمات كالزنا والربا وقطع الطريق ونحو ذلك ومن لم يقر بوجوب الصلاة والزكاة فإنه كافر يستتاب فان تاب والا قتل ومن لم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافر اكفر من اليهود والنصارى وعقوق الوالدين من الكبائر الموجبة للنار وسئل رحمه الله تعالى
عن أقوام مقيمون فى الثغور يغيرون على الأرمن وغيرهم ويكسبون المال ينفقون على الخمر والزنا هل يكونون شهداء اذا قتلوا
فأجاب الحمد لله ان كانوا انما يغيرون على الكفار المحاربين فانما الأعمال بالنيات وقد قالوا يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأى ذلك فى سبيل الله فقال ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو فى سبيل الله ( فان كان احدهم لا يقصد الا اخذ المال
____________________
(35/90)
وانفاقه فى المعاصى فهؤلاء فساق مستحقون للوعيد وان كان مقصودهم ان تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين لله فهؤلاء مجاهدون لكن إذا كانت لهم كبائر كان لهم حسنات وسيئات واما ان كانوا يغيرون على المسلمين الذين هناك فهؤلاء مفسدون فى الأرض محاربون لله ورسوله مستحقون للعقوبة البليغة فى الدنيا والآخرة والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى
عن جندى مع أمير وطلع السلطان إلى الصيد ورسم السلطان بنهب ناس من العرب وقتلهم فطلع إلى الجبل فوجد ثلاثين نفرا فهربوا فقال الأمير سوقوا خلفهم فردوا عليهم ليحاربوا فوقع من الجندى ضربة فى واحد فمات فهل عليه شيء ام لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين اذا كان هذا المطلوب من الطائفة المفسدة الظلمة الذين خرجوا عن الطاعة وفارقوا الجماعة وعدوا على المسلمين فى دمائهم واموالهم بغير حق وقد طلبوا ليقام فيهم أمر الله ورسوله فهذا الذى عاد منهم مقاتلا يجوز قتاله ولا شيء على من قتله على الوجه المذكور بل المحاربون يستوى فيهم المعاون والمباشر عند جمهور الأئمة كأبى حنيفة ومالك واحمد فمن كان معاونا كان حكمة حكمهم
____________________
(35/91)
وسئل رحمه الله تعالى
عن ( الأخوة ( التى يفعلها بعض الناس فى هذا الزمان والتزام كل منهم بقوله ان مالي مالك ودمي دمك وولدى ولدك ويقول الآخر كذلك ويشرب احدهم دم الاخر فهل هذا الفعل مشروع ام لا واذا لم يكن مشروعا مستحسنا فهل هو مباح ام لا وهل يترتب على ذلك شيء من الاحكام الشرعية التى تثبت بالاخوة الحقيقية ام لا وما معنى الاخوة التى اخى بها النبى بين المهاجرين والانصار
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذا الفعل على هذا الوجه المذكور ليس مشروعا باتفاق المسلمين وانما كان أصل الاخوة ان النبى اخى بين المهاجرين والانصار وحالف بينهم فى دار انس بن مالك كما أخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف حتى قال سعد لعبد الرحمن خذ شطر مالي واختر إحدى زوجتي حتى اطلقها وتنكحها فقال عبد الرحمن بارك الله لك فى مالك واهلك دلونى على السوق وكما أخى بين سلمان الفارسى وأبى الدرداء وهذا كله فى الصحيح
____________________
(35/92)
وأما ما يذكر بعض المصنفين فى ( السيرة ( من ان النبى اخى بين على وابى بكر ونحو ذلك فهذا باطل باتفاق اهل المعرفة بحديثه فانه لم يؤاخ بين مهاجر ومهاجر وانصاري وانصاري وإنما اخى بين المهاجرين والانصار وكانت المؤاخاة والمحالفة يتوارثون بها دون أقاربهم حتى انزل الله تعالى ( وأولو الارحام بعضهم اولى ببعض فى كتاب الله ) فصار الميراث بالرحم دون هذه المؤاخاة والمحالفة
وتنازع العلماء فى مثل هذه المحالفة والمؤاخاة هل يورث بها عند عدم الورثة من الأقارب والموالى على قولين ( احدهما ( يورث بها وهو مذهب ابى حنيفة واحمد فى احدى الروايتين لقوله تعالى ( والذين عقدت ايمانكم فآتوهم نصيبهم ) ( والثانى ( لا يورث بها بحال وهو مذهب مالك والشافعى واحمد فى الرواية المشهورة عند اصحابه وهؤلاء يقولون هذه الآية منسوخة
وكذلك تنازع الناس هل يشرع فى الاسلام ان يتآخى اثنان ويتحالفا كما فعل المهاجرون والانصار فقيل ان ذلك منسوخ لما رواه مسلم فى صحيحه عن جابر ان النبى قال ( لا حلف فى الاسلام وما كان من حلف فى الجاهلية فلم يزده الاسلام الا شدة ( ولأن الله قد جعل المؤمنين اخوة بنص القرآن وقال النبى ( المسلم اخو
____________________
(35/93)
المسلم لا يسلمه ولا يظلمه والذي نفسي بيده لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه فمن كان قائما بواجب الايمان كان اخا لكل مؤمن ووجب على كل مؤمن ان يقوم بحقوقه وان لم يجر بينهما عقد خاص فان الله ورسوله قد عقدا الاخوة بينهما بقوله { إنما المؤمنون إخوة } وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( وددت انى قد رأيت اخوانى (
ومن لم يكن خارجا عن حقوق الايمان وجب ان يعامل بموجب ذلك فيحمد على حسناته ويوالى عليها وينهى عن سيئاته ويجانب عليها بحسب الامكان وقد قال النبى ( انصر اخاك ظالما او مظلوما ( قلت يا رسول الله انصره مظلوما فكيف انصره ظالما قال ( تمنعه من الظلم فذلك نصرك اياه (
والواجب على كل مسلم ان يكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته تابعا لأمر الله ورسوله فيحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما ابغضه الله ورسوله ويوالى من يوالى الله ورسوله ويعادى من يعادى الله ورسوله ومن كان فيه ما يوالى عليه من حسنات وما يعادى عليه من سيئات عومل بموجب ذلك كفساق اهل الملة اذ هم مستحقون للثواب والعقاب والموالاة والمعاداة والحب والبغض بحسب ما فيهم من البر والفجور فان ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
____________________
(35/94)
وهذا مذهب اهل السنة والجماعة بخلاف الخوارج والمعتزلة وبخلاف المرجئة والجهمية فان اولئك يميلون إلى جانب وهؤلاء إلى جانب واهل السنة والجماعة وسط ومن الناس من يقول تشرع تلك المؤاخاة والمحالفة وهو يناسب من يقول بالتوارث بالمحالفة
لكن لا نزاع بين المسلمين فى أن ولد احدهما لا يصير ولد الآخر بارثه مع أولاده والله سبحانه قد نسخ التبنى الذي كان فى الجاهلية حيث كان يتبنى الرجل ولد غيره قال الله تعالى { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم } وقال تعالى { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين }
وكذلك لا يصير مال كل واحد منهما مالا للآخر يورث عنه ماله فان هذا ممتنع من الجانبين ولكن اذا طابت نفس كل واحد منهما بما يتصرف فيه الآخر من ماله فهذا جائز كما كان السلف يفعلون وكان احدهما يدخل بيت الآخر ويأكل من طعامه مع غيبته لعلمه بطيب نفسه بذلك كما قال تعالى { أو صديقكم }
وأما شرب كل واحد منهما دم الآخر فهذا لا يجوز بحال واقل ما فى ذلك مع النجاسة التشبيه باللذين يتآخيان متعاونين على الاثم والعدوان
____________________
(35/95)
اما على فواحش او محبه شيطانية كمحبه المردان ونحوهم وان اظهروا خلاف ذلك من اشتراك فى الصنائع ونحوها واما تعاون على ظلم الغير واكل مال الناس بالباطل فان هذا من جنس مؤاخاة بعض من ينتسب إلى المشيخة والسلوك للنساء فيواخى احدهم المرأة الاجنبية ويخلو بها وقد أقر طوائف من هؤلاء بما يجري بينهم من الفواحش فمثل هذه المواخاة وأمثالها مما يكون فيه تعاون على ما نهى الله عنه كائنا ما كان حرام بإتفاق المسلمين
وإنما النزاع فى مواخاة يكون مقصودهما بها التعاون على البر والتقوى بحيث تجمعهما طاعة الله وتفرق بينهما معصية الله كما يقولون تجمعنا السنة وتفرقنا البدعة فهذه التى فيها النزاع فأكثر العلماء لا يرونها إستغناء بالمواخاة الايمانية التى عقدها الله ورسوله فان تلك كافية محصلة لكل خير فينبغي ان يجتهد فى تحقيق اداء واجباتها اذ قد اوجب الله للمؤمن على المؤمن من الحقوق ما هو فوق مطلوب النفوس ومنهم من سوغها على الوجه المشروع اذا لم تشتمل على شيء من مخالفة الشريعة
وأما أن تقال على المشاركة فى الحسنات والسيئات فمن دخل منهما الجنة ادخل صاحبه ونحو ذلك مما قد يشرطه بعضهم على بعض فهذه الشروط وأمثالها لا تصح ولا يمكن الوفاء بها فان الشفاعة لا تكون
____________________
(35/96)
الا بإذن الله والله اعلم بما يكون من حالهما وما يستحقه كل واحد منهما فكيف يلزم المسلم ما ليس إليه فعله ولا يعلم حاله فيه ولا حال الآخر ولهذا نجد هؤلاء الذين يشترطون هذه الشروط لا يدرون ما يشرطون ولو إستشعر احدهم انه يؤخذ منه بعض ماله فى الدنيا فالله أعلم هل كان يدخل فيها ام لا
وبالجملة فجميع ما يقع بين الناس من الشروط والعقود والمحالفات فى الأخوة وغيرها ترد إلى كتاب الله وسنة رسوله فكل شرط يوافق الكتاب والسنة يوفى به و ( من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرطه أوثق ( فمتى كان الشرط يخالف شرط الله ورسوله كان باطلا مثل ان يشترط ان يكون ولد غيره ابنه أو عتق غيره مولاه او ان ابنه او قريبه لا يرثه أو أنه يعاونه على كل ما يريد وينصره على كل من عاداه سواء كان بحق او بباطل او يطيعه فى كل ما يامره به او انه يدخله الجنه ويمنعه من النار مطلقا ونحو ذلك من الشروط واذا وقعت هذه الشروط وفي منها بما امر الله به ورسوله ولم يوف منها بما نهى الله عنه ورسوله وهذا متفق عليه بين المسلمين وفى المباحات نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه
____________________
(35/97)
وكذا فى شروط البيوع والهبات والوقوف والنذور وعقود البيعة للأئمة وعقود المشايخ وعقود المتآخيين وعقود اهل الانساب والقبائل وامثال ذلك فانه يجب على كل احد ان يطيع الله ورسوله فى كل شيء ويجتنب معصية الله ورسوله فى كل شيء ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ويجب ان يكون الله ورسوله احب إليه من كل شيء ولا يطيع الا من آمن بالله ورسوله والله أعلم
____________________
(35/98)
& باب حكم المرتد سئل شيخ الاسلام رضى الله عنه
عن رجلين تكلما فى ( مسألة التأبير ( فقال احدهما من نقص الرسول او تكلم بما يدل على نقص الرسول كفر لكن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين فان بعض العلماء قد يتكلم فى مسألة بإجتهاده فيخطئ فيها فلا يكفر وان كان قد يكفر من قال ذلك القول اذا قامت عليه الحجة المكفرة ولو كفرنا كل عالم بمثل ذلك لزمنا ان نكفر فلانا وسمى بعض العلماء المشهورين الذين لا يستحقون التكفير وهو الغزالى فانه ذكر فى بعض كتبه تخطئة الرسول فى مسألة تأبير النخل فهل يكون هذا تنقيصا بالرسول بوجه من الوجوه وهل عليه فى تنزيه العلماء من الكفر اذا قالوا مثل ذلك تعزير ام لا واذا نقل ذلك وتعذر عليه فى الحال نفس الكتاب الذى نقله منه وهو معروف بالصدق فهل عليه فى ذلك تعزير ام لا وسواء أصاب فى النقل عن العالم أم أخطأ وهل يكون فى ذلك تنقيص بالرسول ومن اعتدى على مثل هذا او نسبه إلى تنقيص بالرسول او العلماء وطلب عقوبته على ذلك فما يجب عليه أفتونا مأجورين
____________________
(35/99)
فأجاب الحمد لله ليس فى هذا الكلام تنقص بالرسول بوجه من الوجوه بإتفاق علماء المسلمين ولا فيه تنقص لعلماء المسلمين بل مضمون هذا الكلام تعظيم الرسول وتوقيره وانه لا يتكلم فى حقه بكلام فيه نقص بل قد اطلق القائل تكفير من نقص الرسول او تكلم بما يدل على نقصه وهذا مبالغة فى تعظيمه ووجوب الاحتراز من الكلام الذى فيه دلالة على نقصه
ثم هو مع هذا بين ان علماء المسلمين المتكلمين فى الدنيا باجتهادهم لا يجوز تكفير احدهم بمجرد خطأ أخطأه فى كلامه وهذا كلام حسن تجب موافقته عليه فان تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من اعظم المنكرات وانما اصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون ائمة المسلمين لما يعتقدون انهم اخطأوا فيه من الدين وقد اتفق اهل السنة والجماعة على ان علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك الا رسول الله وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق بل ولا يأثم فان الله تعالى قال فى دعاء المؤمنين { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وفى الصحيح عن النبى ( ان الله تعالى قال قد فعلت ( وإتفق علماء المسلمين على انه لا يكفر احد من علماء المسلمين المنازعين فى عصمة الأنبياء والذين قالوا انه يجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون
____________________
(35/100)
على ذلك لم يكفر احد منهم باتفاق المسلمين فان هؤلاء يقولون إنهم معصومون من الاقرار على ذلك ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث والتفسير والصوفية الذين ليسوا كفارا باتفاق المسلمين بل أئمة هؤلاء يقولون بذلك
فالذى حكاه عن الشيخ ابى حامد الغزالى قد قال مثله أئمة اصحاب الشافعى اصحاب الوجوه الذين هم أعظم فى مذهب الشافعى من ابى حامد كما قال الشيخ ابو حامد الأسفرائينى الذى هو امام المذهب بعد الشافعى وبن سريج فى تعليقه وذلك ان عندنا ان النبى يجوز عليه الخطأ كما يجوز علينا ولكن الفرق بيننا انا نقر على الخطأ والنبى لا يقر عليه وانما يسهو ليسن وروى عنه انه قال ( انما اسهو لأسن لكم (
وهذه المسألة قد ذكرها فى اصول الفقه هذا الشيخ ابو حامد وأبو الطيب الطبرى والشيخ ابو إسحاق الشيرازى وكذلك ذكرها بقية طوائف اهل العلم من اصحاب مالك والشافعى واحمد وابى حنيفة ومنهم من ادعى اجماع السلف على هذا القول كما ذكر ذلك عن ابى سليمان الخطابى ونحوه ومع هذا فقد اتفق المسلمون على انه لا يكفر احد من هؤلاء الأئمة ومن كفرهم بذلك استحق العقوبة الغليظة التى تزجره
____________________
(35/101)
وامثاله عن تكفير المسلمين وانما يقال فى مثال ذلك قولهم صواب او خطأ فمن وافقهم قال ان قولهم الصواب ومن نازعهم قال ان قولهم خطأ والصواب قول مخالفهم
وهذا المسئول عنه كلامه يقتضى انه لا يوافقهم على ذلك لكنه ينفى التكفير عنهم ومثل هذا تجب عقوبة من إعتدى عليه ونسبه إلى تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم او العلماء فانه مصرح بنقيض هذا وهذا
وقد ذكر القاضي عياض هذه المسألة وهو من ابلغ القائلين بالعصمة قسم الكلام فى هذا الباب إلى ان قال ( الوجه السابع ( ان يذكر ما يجوز على النبى ويختلف فى اقراره عليه وما يطرأ من الأمور البشرية منه ويمكن اضافتها إليه او يذكر ما امتحن به وصبر فى ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه واذاهم له ومعرفة ابتداء حاله وسيرته وما لقيه من بؤس زمنه ومر عليه من معانات عيشه كل ذلك على طريق الرواية ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت به العصمة للأنبياء وما يجوز عليهم فقال هذا فن خارج من هذه الفنون الستة ليس فيه غمض ولا نقص ولا ازراء ولا استخفاف ولا فى ظاهر اللفظ ولا فى مقصد اللافظ لكن يجب ان يكون الكلام مع اهل العلم وطلبة الدين ممن يفهم مقاصده ويحققون فوائده ويجنب ذلك ممن عساه لا يفقه او يخشى به فتنة
____________________
(35/102)
وقد ذكر القاضي عياض قبل هذا ان يقول القائل شيئا من انواع السب حاكيا له عن غيره وآثرا له عن سواه قال فهذا ينظر فى صورة حكايته وقرينة مقالته ويختلف الحكم باختلاف ذلك على ( اربعة وجوه ( الوجوب والندب والكراهة والتحريم ثم ذكر انه يحمل من ذلك ما ذكره على وجه الشهادة ونحوها مما فيه اقامة الحكم الشرعى على القائل او على وجه الرذاله والنقص على قائله بخلاف من ذكره لغير هذين قال وليس التفكه بعرض النبى صلى الله عليه وسلم والتمضمض بسوء ذكره لأحد لا ذاكرا ولا آثرا لغير غرض شرعى مباح
فقد تبين من كلام القاضي عياض انما ذكره هذا القائل ليس من هذا الباب فانه من مسائل الخلاف وانما كان من هذا الباب ليس لأحد أن يذكره لغير غرض شرعى مباح
وهذا القائل انما ذكر لدفع التكفير عن مثل الغزالى وامثاله من علماء المسلمين ومن المعلوم ان المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا فى هذا الباب بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وان اخطأوا هو من احق الأغراض الشرعية حتى لو فرض ان دفع التكفير عن القائل يعتقد انه ليس بكافر حماية له ونصرا لأخيه المسلم لكان هذا غرضا شرعيا حسنا وهو اذا اجتهد فى ذلك فأصاب فله اجران وان اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد
____________________
(35/103)
فبكل حال هذا القائل محمود على ما فعل مأجور على ذلك مثاب عليه اذا كانت له فيه نية حسنة والمنكر لما فعله احق بالتعزير منه فان هذا يقتضى قوله القدح فى علماء المسلمين من الكفر ومعلوم ان الأول أحق بالتعزير من الثانى ان وجب التعزير لأحدهما وان كان كل منهما مجتهدا اجتهادا سائغا بحيث يقصد طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته فلا اثم على واحد منهما وسواء اصاب فى هذا النقل او اخطأ فليس فى ذلك تنقيص للنبى صلى الله عليه وسلم
وكذلك أحضر النقل او لم يحضره فانه ليس فى حضوره فائدة اذ ما نقله عن الغزالى قد قال مثله من علماء المسلمين من لا يحصى عددهم الا الله تعالى وفيهم من هو اجل من الغزالى وفيهم من هو دونه ومن كفر هؤلاء استحق العقوبة بإتفاق المسلمين بل اكثر علماء المسلمين وجمهور السلف يقولون مثل ذلك حتى المتكلمون فان ابا الحسن الأشعرى قال اكثر الأشعرية والمعتزلة يقولون بذلك ذكره فى ( اصول الفقه ( وذكره صاحبه ابو عمرو بن الحاجب والمسألة عندهم من الظنيات كما صرح بذلك الأستاذ ابو المعالى وابو الحسن الآمدى وغيرهما فكيف يكفر علماء المسلمين فى مسائل الظنون ام كيف يكفر جمهور علماء المسلمين او جمهور سلف الأئمة واعيان العلماء بغير حجة اصلا والله تعالى أعلم
____________________
(35/104)
وسئل رحمه الله
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضى الله عنهم اجمعين فى رجل قال اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا عبده ورسوله ولم يصل ولم يقم بشيء من الفرائض وأنه لم يضره ويدخل الجنة وانه قد حرم جسمه على النار وفى رجل يقول اطلب حاجتى من الله ومنك فهل هذا باطل ام لا وهل يجوز هذا القول ام لا
فأجاب الحمد لله ان من لم يعتقد وجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضه وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الفواحش والظلم والشرك والافك فهو كافر مرتد يستتاب فان تاب والا قتل باتفاق أئمة المسلمين ولا يغنى عنه التكلم بالشهادتين
وإن قال أنا اقر بوجوب ذلك على واعلم انه فرض وان من تركه كان مستحقا لذم الله وعقابه لكنى لا أفعل ذلك فهذا ايضا مستحق للعقوبة
____________________
(35/105)
فى الدنيا والآخرة باتفاق المسلمين ويجب ان يصلى الصلوات الخمس بإتفاق العلماء واكثر العلماء يقولون يؤمر بالصلاة فان لم يصل والا قتل فاذا اصر على الجحود حتى قتل كان كافرا بإتفاق الأئمة لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن فى مقابر المسلمين
ومن قال إن كل من تكلم بالشهادتين ولم يؤد الفرائض ولم يجتنب المحارم يدخل الجنة ولا يعذب احد منهم بالنار فهو كافر مرتد يجب ان يستتاب فان تاب والا قتل بل الذين يتكلمون بالشهادتين ( اصناف ( منهم منافقون فى الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين } الآية وقال تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } الآية وفى صحيح مسلم عن النبى انه قال ( تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى اذا كانت بين قرنى شيطان قام فنقر اربعا لا يذكر الله فيها الا قليلا ( فبين النبى ان الذى يؤخر الصلاة وينقرها منافق فكيف بمن لا يصلى وقد قال تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون } قال العلماء ( الساهون عنها ( الذين يؤخرونها عن وقتها والذين يفرطون فى واجباتها فاذا كان هؤلاء المصلون الويل لهم فكيف بمن لا يصلى
____________________
(35/106)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه يعرف أمته بأنهم غر محجلون من آثار الوضوء وإنما تكون الغرة والتحجيل لمن توضأ وصلى فابيض وجهه بالوضوء وابيضت يداه ورجلاه بالوضوء فصلى أغر محجلا فمن لم يتوضأ ولم يصل لم يكن أغر ولا محجلا فلا يكون عليه سيما المسلمين التي هي الرنك للنبي مثل الرنك الذي يعرف به المقدم أصحابه ولا يكن هذا من أمة محمد وثبت في الصحيح أن النار تأكل من بن آدم كل شيء إلا آثار السجود فمن لم يكن من أهل السجود للواحد المعبود الغفور الودود ذو العرش المجيد أكلته النار وفي الصحيح عن النبي أنه قال ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة وقال العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وقال أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة
ولا ينبغى للعبد ان يقول ما شاء الله وشاء فلان ومالى الا الله وفلان واطلب حاجتى من الله ومن فلان ونحو ذلك بل يقول ما شاء الله ثم شاء فلان واطلب حاجتى من الله ثم من فلان كما فى الحديث عن النبى انه قال ( لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ( وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال ( اجعلتنى لله ندا بل ما شاء الله وحده ( والله اعلم وصلى الله على محمد
____________________
(35/107)
ما تقول السادة العلماء رضى الله عنهم
فى ( الحلاج الحسين بن منصور ( هل كان صديقا او زنديقا وهل كان وليا لله متقيا له ام كان له حال رحمانى أو من اهل السحر والخزعبلات وهل قتل على الزندقة بمحضر من علماء المسلمين او قتل مظلوما افتونا مأجورين
فأجاب شيخ الاسلام ابو العباس تقى الدين احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميه قدس الله روحه
الحمد لله رب العالمين الحلاج قتل على الزندقة التى ثبتت عليه باقراره وبغير اقراره والأمر الذى ثبت عليه بما يوجب القتل باتفاق المسلمين ومن قال انه قتل بغير حق فهو اما منافق ملحد واما جاهل ضال والذى قتل به ما إستفاض عنه من انواع الكفر وبعضه يوجب قتله فضلا عن جميعه ولم يكن من اولياء الله المتقين بل كان له عبادات ورياضات ومجاهدات بعضها شيطانى وبعضها نفسانى وبعضها موافق للشريعة من وجه دون وجه فلبس الحق بالباطل
وكان قد ذهب إلى بلاد الهند وتعلم انواعا من السحر وصنف كتابا فى السحر معروفا وهو موجود إلى اليوم وكان له أقوال شيطانية ومخاريق بهتانية
____________________
(35/108)
وقد جمع العلماء اخباره فى كتب كثيرة أرخوها الذين كانوا فى زمنه والذين نقلوا عنهم مثل ابى على الحطى ذكره فى ( تاريخ بغداد ( والحافظ ابو بكر الخطيب ذكر له ترجمة كبيرة فى ( تاريخ بغداد ( وابو يوسف القزوينى صنف مجلدا فى اخباره وابو الفرج بن الجوزى له فيه مصنف سماه ( رفع اللجاج فى اخبار الحلاج ( وبسط ذكره فى تاريخه ابو عبد الرحمن السلمى فى ( طبقات الصوفيه ( أن كثيرا من المشايخ ذموه وأنكروا عليه ولم يعدوه من مشايخ الطريق واكثرهم حط عليه وممن ذمه وحط عليه ابو القاسم الجنيد ولم يقتل فى حياة الجنيد بل قتل بعد موت الجنيد فان الجنيد توفى سنة ثمان وتسعين ومائتين
والحلاج قتل سنة بضع وثلاثمائة وقد موا به إلى بغداد راكبا على جمل ينادى عليه هذا داعى القرامطة وأقام فى الحبس مدة حتى وجد من كلامه الكفر والزندقة واعترف به مثل أنه ذكر فى كتاب له من فاته الحج فانه يبنى فى داره بيتا ويطوف به كما يطوف بالبيت ويتصدق على ثلاثين يتيما بصدقة ذكرها وقد اجزأه ذلك عن الحج فقالوا له انت قلت هذا قال نعم فقالوا له من اين لك هذا قال ذكره الحسن البصرى فى كتاب الصلاة ( فقال له القاضي ابو عمر تكذب يا زنديق انا قرأت هذا الكتاب وليس هذا فيه فطلب منهم الوزير أن يشهدوا بما سمعوه ويفتوا بما يجب عليه فاتفقوا على وجوب قتله
____________________
(35/109)
لكن العلماء لهم قولان فى الزنديق اذا اظهر التوبة هل تقبل توبته فلا يقتل ام يقتل لأنه لا يعلم صدقه فإنه ما زال يظهر ذلك فأفتى طائفة بأنه يستتاب فلا يقتل وأفتى الأكثرون بأنه يقتل وان اظهر التوبة فان كان صادقا فى توبته نفعه ذلك عند الله وقتل فى الدنيا وكان الحد تطهيرا له كما لو تاب الزانى والسارق ونحوهما بعد ان يرفعوا إلى الأمام فانه لابد من اقامة الحد عليهم فانهم ان كانوا صادقين كان قتلهم كفارة لهم ومن كان كاذبا فى التوبة كان قتله عقوبة له
فإن كان الحلاج وقت قتله تاب فى الباطن فان الله ينفعه بتلك التوبة وان كان كاذبا فانه قتل كافرا
ولما قتل لم يظهر له وقت القتل شيء من الكرامات وكل من ذكر ان دمه كتب على الأرض اسم الله وان رجله انقطع ماؤها او غير ذلك فانه كاذب وهذه الأمور لا يحكيها الا جاهل او منافق وانما وضعها الزنادقة وأعداء الاسلام حتى يقول قائلهم ان شرع محمد بن عبد الله يقتل اولياء الله حتى يسمعوا امثال هذه الهذيانات والا فقد قتل انبياء كثيرون وقتل من اصحابهم واصحاب نبينا والتابعين وغيرهم من الصالحين من لا يحصى عددهم الا الله قتلوا بسيوف الفجار والكفار والظلمة وغيرهم ولم يكتب دم احدهم اسم الله والدم ايضا نجس
____________________
(35/110)
فلا يجوز ان يكتب به اسم الله تعالى فهل الحلاج خير من هؤلاء ودمه أطهر من دمائهم وقد جزع وقت القتل واظهر التوبة والسنة فلم يقبل ذلك منه ولو عاش افتتن به كثير من الجهال لأنه كان صاحب خزعبلات بهتانية واحوال شيطانية
ولهذا إنما يعظمه من يعظم الأحوال الشيطانية والنفسانية والبهتانية واما اولياء الله العالمون بحال الحلاج فليس منهم واحد يعظمه ولهذا لم يذكره القشيرى فى مشايخ رسالته وان كان قد ذكر من كلامه كلمات استحسنها وكان الشيخ ابو يعقوب النهرجورى قد زوجه بابنته فلما اطلع على زندقته نزعها منه وكان عمرو بن عثمان يذكر أنه كافر ويقول كنت معه فسمع قارئا يقرأ القرآن فقال أقدر ان اصنف مثل هذا القرآن او نحو هذا من الكلام
وكان يظهر عند كل قوم ما يستجلبهم به إلى تعظيمه فيظهر عند اهل السنة انه سنى وعند اهل الشيعة انه شيعى ويلبس لباس الزهاد تارة ولباس الأجناد تارة
وكان من ( مخاريقه ( انه بعث بعض اصحابه إلى مكان فى البريه يخبئ فيه شيئا من الفاكهة والحلوى ثم يجيء بجماعة من اهل الدنيا إلى قريب من
____________________
(35/111)
ذلك المكان فيقول لهم ما تشتهون ان آتيكم به من هذه البرية فيشتهى احدهم فاكهة او حلاوة فيقول امكثوا ثم يذهب إلى ذلك المكان ويأتى بما خبأ او ببعضه فيظن الحاضرون ان هذه كرامة له وكان صاحب سيما وشياطين تخدمه أحيانا كانوا معه على جبل ابى قبيس فطلبوا منه حلاوة فذهب إلى مكان قريب منهم وجاء بصحن حلوى فكشفوا الأمر فوجدوا ذلك قد سرق من دكان حلاوى باليمن حمله شيطان من تلك البقعة
ومثل هذا يحصل كثيرا لغير الحلاج ممن له حال شيطانى ونحن نعرف كثيرا من هؤلاء فى زماننا وغير زماننا مثل شخص هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق فيجيء من الهوى إلى طاقة البيت الذى فيه الناس فيدخل وهم يرونه ويجيء بالليل إلى ( باب الصغير ( فيعبر منه هو ورفقته وهو من افجر الناس
وآخر كان بالشويك فى قرية يقال لها ( الشاهدة ) يطير فى الهواء إلى راس الجبل والناس يرونه وكان شيطان يحمله وكان يقطع الطريق واكثرهم شيوخ الشر يقال لاحدهم ( البوى ) أي المخبث ينصبون له حركات فى ليلة مظلمة ويصنعون خبزا على سبيل القربات فلا يذكرون الله ولا يكون عندهم من يذكر الله ولا كتاب فيه ذكر الله ثم يصعد ذلك
____________________
(35/112)
البواء في الهوى وهم يرونه ويسمعون خطابه للشيطان وخطاب الشيطان له ومن ضحك او شرق بالخبز ضربه الدف ولا يرون من يضرب به
ثم ان الشيطان يخبرهم ببعض ما يسألونه عنه ويامرهم بان يقربوا له بقرا وخيلا وغير ذلك وان يخنقوها خنقا ولا يذكرون اسم الله عليها فاذا فعلوا قضى حاجتهم
وشيخ اخر أخبر عن نفسه انه كان يزنى بالنساء ويتلوط بالصبيان الذين يقال لهم ( الحوارات ) وكان يقول يأتينى كلب اسود بين عينيه نكتتان بيضاوان فيقول لى فلان ان فلانا نذر لك نذرا وغدا يأتيك به وانا قضيت حاجته لاجلك فيصبح ذلك الشخص ياتيه بذلك النذر ويكاشفه هذا الشيخ الكافر قال وكنت اذا طلب منى تغيير مثل اللاذن اقول حتى اغيب عن عقلى واذ باللاذن فى يدى أو فى فمى وانا لا ادرى من وضعه قال وكنت امشى وبين يدى عمود اسود عليه نور فلما تاب هذا الشيخ وصار يصلى ويصوم ويجتنب المحارم ذهب الكلب الاسود وذهب التغيير فلا يؤتى بلاذن ولا غيره
وشيخ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس فياتى اهل ذلك
____________________
(35/113)
المصروع إلى الشيخ يطلبون منه ابراءه فيرسل إلى اتباعه فيفارقون ذلك
المصروع ويعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة وكان احيانا تأتيه الجن بدراهم وطعام تسرقه من الناس حتى ان بعض الناس كان له تين فى كوارة فيطلب الشيخ من شياطينه تينا فيحضرونه له فيطلب اصحاب الكوارة التين فوجدوه قد ذهب
وآخر كان مشتغلا بالعلم والقراءة فجاءته الشياطين اغرته وقالوا له نحن نسقط عنك الصلاة ونحضر لك ماتريد فكانوا يأتونه بالحلوى والفاكهة حتى حضر عند بعض الشيوخ العارفين بالسنة فاستتابه وأعطى أهل الحلاوة ثمن حلاوتهم التى اكلها ذلك المفتون بالشيطان
فكل من خرج عن الكتاب والسنة وكان له حال من مكاشفة او تأثير فانه صاحب حال نفسانى او شيطانى وان لم يكن له حال بل هو يتشبه بأصحاب الأحوال فهو صاحب حال بهتانى وعامة اصحاب الأحوال الشيطانية يجمعون بين الحال الشيطانى والحال البهتانى كما قال تعالى ( هل انبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل افاك اثيم
و ( الحلاج ) كان من أئمة هؤلاء أهل الحال الشيطاني والحال البهتانى وهؤلاء طوائف كثيرة
____________________
(35/114)
فأئمة هؤلاء هم شيوخ المشركين الذين يعبدون الأصنام مثل الكهان والسحرة الذين كانوا للعرب المشركين ومثل الكهان الذين هم بأرض الهند والترك وغيرهم
ومن هؤلاء من اذا مات لهم ميت يعتقدون انه يجيء بعد الموت فيكلمهم ويقضى ديونه ويرد ودائعه ويوصيهم بوصايا فإنهم تأتيهم تلك الصورة التى كانت فى الحياة وهو شيطان يتمثل فى صورته فيظنونه إياه
وكثير ممن يستغيث بالمشايخ فيقول ياسيدى فلان أو ياشيخ فلان اقض حاجتى فيرى صورة ذلك الشيخ تخاطبه ويقول انا اقضى حاجتك واطيب قلبك فيقضى حاجته او يدفع عنه عدوه ويكون ذلك شيطانا قد تمثل فى صورته لما أشرك بالله فدعا غيره
وأنا أعرف من هذا وقائع متعددة حتى إن طائفة من أصحابى ذكروا أنهم استغاثوا بى فى شدائد أصابتهم أحدهم كان خائفا من الأرمن والآخر كان خائفا من التتر فذكر كل منهم أنه لما استغاث بى رآنى فى الهواء وقد دفعت عنه عدوه فاخبرتهم أنى لم أشعر بهذا ولا دفعت عنكم شيئا وإنما هذا الشيطان تمثل لأحدهم فأغواه لما أشرك بالله تعالى وهكذا جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ مع أصحابهم يستغيث أحدهم بالشيخ فيرى
____________________
(35/115)
الشيخ قد جاء وقضى حاجته ويقول ذلك الشيخ إنى لم أعلم بهذا فيتبين أن ذلك كان شيطانا وقد قلت لبعض أصحابنا لما ذكر لى أنه استغاث باثنين كان يعتقدهما وأنهما أتياه فى الهواء وقالا له طيب قلبك نحن ندفع عنك هؤلاء ونفعل ونصنع قلت له فهل كان من ذلك شيء فقال لا فكان هذا ممادله على أنهما شيطانان فإن الشياطين وان كانوا يخبرون الانسان بقضية أو قصة فيها صدق فانهم يكذبون أضعاف ذلك كما كانت الجن يخبرون الكهان
ولهذا من اعتمد على مكاشفته التى هي من اخبار الجن كان كذبه أكثر من صدقه كشيخ كان يقال له ( الشياح ( توبناه وجددنا اسلامه كان له قرين من الجن يقال له ( عنتر ( يخبره باشياء فيصدق تارة ويكذب تارة فلما ذكرت له انك تعبد شيطانا من دون الله اعترف بانه يقول له يا ( عنتر ( لا سبحانك إنك إله قذر وتاب من ذلك فى قصة مشهورة
وقد قتل سيف الشرع من قتل من هؤلاء مثل الشخص الذى قتلناه سنة خمس عشرة وكان له قرين يأتيه ويكاشفه فيصدق تارة ويكذب تارة وقد انقاد له طائفة من المنسوبين إلى أهل العلم والرئاسة فيكاشفهم حتى كشفه الله لهم وذلك ان القرين كان تارة يقول له أنا رسول الله ويذكر أشياء
____________________
(35/116)
تنافى حال الرسول فشهد عليه أنه قال إن الرسول يأتينى ويقول لى كذا وكذا من الأمور التى يكفر من أضافها إلى الرسول فذكرت لولاة الأمور ان هذا من جنس الكهان وان الذى يراه شيطانا ولهذا لا يأتيه فى الصورة المعروفة للنبى بل يأتيه فى صورة منكرة ويذكر عنه انه يخضع له ويبيح له أن يتناول المسكر وامورا أخرى وكان كثير من الناس يظنون أنه كاذب فيما يخبر به من الرؤية ولم يكن كاذبا فى أنه رأى تلك الصورة لكن كان كافرا فى اعتقاده ان ذلك رسول الله ومثل هذا كثير
ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مراد الشيطان فكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من الشيطان فيطيرون فى الهواء والشيطان طاربهم ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه صرعتهم ومنهم من يحضر طعاما وإداما وملأ الابريق ماء من الهواء والشياطين فعلت ذلك فيحسب الجاهلون ان هذه كرامات اولياء الله المتقين وانما هي من جنس احوال السحرة والكهنة وامثالهم
ومن لم يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية اشتبه عليه الحق بالباطل ومن لم ينور الله قلبه بحقائق الإيمان وإتباع القرآن لم يعرف طريق المحق من
____________________
(35/117)
المبطل والتبس عليه الأمر والحال كما التبس على الناس حال مسيلمة صاحب اليمامة وغيره من الكذابين فى زعمهم أنهم أنبياء وانما هم كذابون وقد قال ( لا تقوم الساعة حتى يكون فيكم ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم انه رسول الله (
واعظم الدجاجلة فتنه ( الدجال الكبير ( الذى يقتله عيسى بن مريم فانه ما خلق الله من لدن آدم إلى قيام الساعة أعظم من فتنته وأمر المسلمين ان يستعيذوا من فتنته فى صلاتهم وقد ثبت ( انه يقول للسماء أمطرى فتمطر وللأرض أنبتى فتنبت ( وانه يقتل رجلا مؤمنا ثم يقول له قم فيقوم فيقول أنا ربك فيقول له كذبت بل أنت الأعور الكذاب الذى أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما ازددت فيك الا بصيرة فيقتله مرتين فيريد ان يقتله فى الثالثة فلا يسلطه الله عليه ( وهو يدعى الالهية وقد بين له النبى ثلاث علامات تنافى ما يدعيه أحدها ( أنه أعور وان ربكم ليس بأعور ( والثانية ( أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن من قارئ وغير قارئ ( والثالثة قوله ( واعلموا ان احدكم لا يرى ربه حتى يموت
____________________
(35/118)
فهذا هو الدجال الكبير ودونه دجاجلة منهم من يدعى النبوة ومنهم من يكذب بغير ادعاء النبوة كما قال ( يكون فى آخر الزمان دجالون كذابون يحدثونكم بما لم تسمعوا انتم ولا آباؤكم فإياكم واياهم (
فالحلاج كان من الدجاجلة بلا ريب ولكن إذا قيل هل تاب قبل الموت أم لا قال الله أعلم فلا يقول ماليس له به علم ولكن ظهر عنه من الأقوال والأعمال ما أوجب كفره وقتله باتفاق المسلمين والله أعلم به
____________________
(35/119)
وسئل رحمه الله تعالى
عن ( المعز معد بن تميم ) الذى بنى القاهرة والقصرين هل كان شريفا فاطميا وهل كان هو وأولاده معصومين وأنهم أصحاب العلم الباطن وإن كانوا ليسوا اشرافا فما الحجة على القول بذلك وإن كانوا على خلاف الشريعة فهل هم ( بغاة ( أم لا وما حكم من نقل ذلك عنهم من العلماء المعتمدين الذين يحتج بقولهم ولتبسطوا القول فى ذلك
فأجاب الحمد لله أما القول بانه هو أو أحد من أولاده أو نحوهم كانوا معصومين من الذنوب والخطأ كما يدعيه الرافضة فى ( الأثنى عشر ( فهذا القول شر من قول الرافضة بكثير فان الرافضة ادعت ذلك فيمن لاشك فى ايمانه وتقواه بل فيمن لايشك أنه من أهل الجنة كعلى والحسن والحسين رضى الله عنهم ومع هذا فقد اتفق أهل العلم والايمان على أن هذا القول من أفسد الأقوال وانه من أقوال أهل الافك والبهتان فان العصمة فى ذلك ليست لغير الأنبياء عليهم السلام
بل كان من سوى الأنبياء يؤخذ من قوله ويترك ولا تجب طاعة من سوى الأنبياء والرسل فى كل ما يقول ولا يجب على الخلق اتباعه والايمان
____________________
(35/120)
به فى كل مايامر به ويخبر به ولا تكون مخالفته فى ذلك كفرا بخلاف الأنبياء بل إذا خالفه غيره من نظرائه وجب على المجتهد النظر فى قوليهما وأيهما كان أشبه بالكتاب والسنة تابعه كما قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فان تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) فأمر عند التنازع بالرد إلى الله وإلى الرسول إذ المعصوم لايقول إلا حقا ومن علم انه قال الحق فى موارد النزاع وجب اتباعه كما لو ذكر آية من كتاب الله تعالى أو حديثا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد به قطع النزاع
أما وجوب اتباع القائل فى كل ما يقوله من غير ذكر دليل يدل على صحة ما يقول فليس بصحيح بل هذه المرتبة هي ( مرتبة الرسول ( التى لا تصلح إلا له كما قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } وقال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وقال تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } وقال تعالى { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون }
____________________
(35/121)
وقال { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } وقال تعالى { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وقال تعالى { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقال تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم } وأمثال هذه فى القرآن كثير بين فيه سعادة من آمن بالرسل واتبعهم وأطاعهم وشقاوة من لم يؤمن بهم ولم يتبعهم بل عصاهم
فلو كان غير الرسول معصوما فيما يأمر به وينهى عنه لكان حكمه فى ذلك حكم الرسول والنبى المبعوث إلى الخلق رسول اليهم بخلاف من لم يبعث اليهم فمن كان آمرا ناهيا للخلق من إمام وعالم وشيخ وأولى أمر غير هؤلاء من أهل البيت أو غيرهم وكان معصوما كان بمنزلة الرسول فى ذلك وكان من اطاعة وجبت له الجنة ومن عصاه وجبت له النار كما يقوله القائلون بعصمة على أو غيره من الأئمة بل من أطاعه يكون مؤمنا ومن عصاه يكون كافرا وكان هؤلاء كأنبياء بنى اسرائيل فلا
____________________
(35/122)
يصح حينئذ قول النبى ( لا نبى بعدى ( وفى السنن عنه أنه قال ( العلماء ورثة الانبياء إن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا انما ورثوا العلم فمن اخذه فقد اخذ بحظ وافر ( فغاية العلماء من الائمة وغيرهم من هذه الأمة ان يكونوا ورثة أنبياء
وايضا فقد ثبت بالنصوص الصحيحة والاجماع ان النبى صلى الله عليه وسلم قال للصديق فى تأويل رؤيا عبرها ( اصبت بعضا وأخطأت بعضا ( وقال الصديق أطيعونى ما أطعت الله فاذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم وغضب مرة على رجل فقال له ابو بردة دعنى أضرب عنقه فقال له أكنت فاعلا قال نعم فقال ما كانت لاحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا اتفق الأئمة على ان من سب نبيا قتل ومن سب غير النبى لا يقتل بكل سب سبه بل يفصل فى ذلك 123 فان من قذف أم النبى قتل مسلما كان او كافرا لأنه قدح فى نسبه ولو قذف غير ام النبى صلى الله عليه وسلم ممن لم يعلم براءتها لم يقتل ( 123
وكذلك عمر بن الخطاب كان يقر على نفسه فى مواضع بمثل هذه فيرجع عن أقوال كثيرة اذا تبين له الحق فى خلاف ما قال ويسأل الصحابة عن بعض السنة حتى يستفيدها منهم ويقول فى مواضع والله ما يدرى عمر أصاب الحق أو أخطأه ويقول امرأة اصابت ورجل اخطأ ومع هذا فقد ثبت فى
____________________
(35/123)
الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( قد كان فى الأمم قبلكم محدثون فان يكن فى أمتى أحد فعمر ( وفى الترمذي ( لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر ( وقال ( ان الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ( فاذا كان المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه بهذه المنزلة يشهد على نفسه بأنه ليس بمعصوم فكيف بغيره من الصحابة وغيرهم الذين لم يبلغوا منزلته
فإن اهل العلم متفقون على ان ابا بكر وعمر اعلم من سائر الصحابة واعظم طاعة لله ورسوله من سائرهم واولى بمعرفة الحق واتباعه منهم وقد ثبت بالنقل المتواتر الصحيح عن النبى انه قال ( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ( روى ذلك عنه من نحو ثمانين وجها وقال علي رضي الله عنه لا أوتى بأحد يفضلنى على ابى بكر وعمر الا جلدته حد المفترى والأقوال المأثورة عن عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة ( كثيرة )
بل أبو بكر الصديق لا يحفظ له فتيا افتى فيها بخلاف نص النبى وقد وجد لعلي وغيره من الصحابة من ذلك اكثر مما وجد لعمر وكان الشافعي رضي الله عنه يناظر بعض فقهاء الكوفة فى مسائل الفقه فيحتجون عليه بقول علي فصنف كتاب ( اختلاف علي وعبد الله بن مسعود ( وبين فيه مسائل كثيرة تركت من قولهما لمجيء السنة بخلافها وصنف بعده محمد بن نصر الثورى كتابا أكبر من ذلك كما ترك من قول علي رضي الله عنه
____________________
(35/124)
ان المعتدة المتوفى عنها اذا كانت حاملا فانها تعتد أبعد الأجلين ويروى ذلك عن بن عباس أيضا واتفقت أئمة الفتيا على قول عثمان وبن مسعود وغيرهما فى ذلك وهو انها اذا وضعت حملها حلت لما ثبت عن النبى أن سبيعة الاسلمية كانت قد وضعت بعد زوجها بليال فدخل عليها ابو السنابل بن بعكك فقال ما أنت بناكح حتى تمر عليك اربعة أشهر وعشرا فسألت النبى عن ذلك فقال ( كذب ابو السنابل حللت فانكحى ( فكذب النبى صلى الله عليه وسلم من قال بهذه الفتيا وكذلك المفوضة التى تزوجها زوجها ومات عنها ولم يفرض لها مهرا قال فيها علي وبن عباس انها لا مهر لها وافتى فيها بن مسعود وغيره إن لها مهر المثل فقام رجل من اشجع فقال نشهد ( ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فى بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به فى هذه ( ومثل هذا كثير
وقد كان علي وابناه وغيرهم يخالف بعضهم بعضا فى العلم والفتيا كما يخالف سائر أهل العلم بعضهم بعضا ولو كانوا معصومين لكان مخالفة المعصوم للمعصوم ممتنعة وقد كان الحسن فى أمر القتال يخالف أباه ويكره كثيرا مما يفعله ويرجع على رضى الله عنه فى آخر الأمر إلى رأيه وكان يقول ** لئن عجزت عجزة لا اعتذر ** سوف أكيس بعدها وأستمر ** وأجبر الرأى النسيب المنتشر
____________________
(35/125)
وتبين له فى آخر عمره ان لو فعل غير الذي كان فعله لكان هو الأصوب وله فتاوى رجع ببعضها عن بعض كقوله فى امهات الاولاد فان له فيها قولين ( احدهما ( المنع من بيعهن ( والثانى ( اباحة ذلك والمعصوم لا يكون له قولان متناقضان إلا أن يكون أحدهما ناسخا للآخر كما فى قول النبى السنة استقرت فلا يرد عليها بعده نسخ اذ لا نبي بعده
وقد وصى الحسن اخاه الحسين بان لا يطيع اهل العراق ولا يطلب هذا الأمر واشار عليه بذلك بن عمر وبن عباس وغيرهما ممن يتولاه ويحبه ورأوا ان مصلحته ومصلحة المسلمين ان لا يذهب اليهم ولا يجيبهم إلى ما قالوه من المجيء اليهم والقتال معهم وان كان هذا هو المصلحة له وللمسلمين ولكنه رضى الله عنه فعل ما رآه مصلحة والرأى يصيب ويخطئ والمعصوم ليس لأحد ان يخالفه وليس له أن يخالف معصوما آخر الا أن يكونا على شريعتين كالرسولين ومعلوم ان شريعتهما واحدة وهذا باب واسع مبسوط فى غير هذا الموضع
( والمقصود ( ان من ادعى عصمة هؤلاء السادة المشهود لهم بالايمان والتقوى والجنة هو فى غاية الضلال والجهالة ولم يقل هذا القول من له فى الأمة لسان صدق بل ولا من له عقل محمود
____________________
(35/126)
فكيف تكون العصمة فى ذرية ( عبد الله بن ميمون القداح ( مع شهرة النفاق والكذب والضلال وهب أن الامر ليس كذلك فلا ريب أن سيرتهم من سيرة الملوك وأكثرها ظلما وانتهاكا للمحرمات وابعدها عن اقامة الامور والواجبات وأعظم اظهارا للبدع المخالفة للكتاب والسنة واعانة لأهل النفاق والبدعة وقد اتفق أهل العلم على أن دولة بنى أمية وبنى العباس أقرب إلى الله ورسوله من دولتهم واعظم علما وايمانا من دولتهم واقل بدعا وفجورا من بدعتهم وأن خليفة الدولتين أطوع لله ورسوله من خلفاء دولتهم ولم يكن فى خلفاء الدولتين من يجوز ان يقال فيه انه معصوم فكيف يدعى العصمة من ظهرت عنه الفواحش والمنكرات والظلم والبغى والعدوان والعداوة لأهل البر والتقوى من الأمة والاطمئنان لاهل الكفر والنفاق فهم من افسق الناس ومن أكفر الناس وما يدعى العصمة فى النفاق والفسوق الا جاهل مبسوط الجهل او زنديق يقول بلا علم
ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من شهد لهم بالايمان والتقوى او بصحة النسب فقد شهد لهم بما لا يعلم وقد قال الله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) وقال تعالى { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وقال عن أخوة يوسف { وما شهدنا إلا بما علمنا } وليس أحد من الناس يعلم صحة نسبهم
____________________
(35/127)
ولا ثبوت ايمانهم وتقواهم فإن غاية ما يزعمه انهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمنا فى الباطن اذ قد عرف فى المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق قال الله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } وقال تعالى { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } وقال تعالى { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماء الامة وائمتها وجماهيرها انهم كانوا منافقين زنادقة يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر فاذا قدر ان بعض الناس خالفهم فى ذلك صار فى ايمانهم نزاع مشهور فالشاهد لهم بالايمان شاهد لهم بما لا يعلمه اذ ليس معه شيء يدل على ايمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم
وكذلك ( النسب ( قد علم أن جمهور الامة تطعن فى نسبهم ويذكرون انهم من اولاد المجوس او اليهود هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث وأهل الكلام وعلماء النسب والعامة وغيرهم وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لاخبار الناس وايامهم حتى بعض من قد يتوقف فى امرهم كإبن الاثير الموصلى فى تاريخه ونحوه فانه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم فى القدح فى نسبهم
____________________
(35/128)
وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين حتى القاضي بن خلكان فى تاريخه فانهم ذكروا بطلان نسبهم وكذلك بن الجوزى وابو شامة وغيرهما من أهل العلم بذلك حتى صنف العلماء فى كشف اسرارهم وهتك استارهم كما صنف القاضي ابو بكر الباقلانى كتابه المشهور فى كشف أسرارهم وهتك استارهم وذكر انهم من ذرية المجوس وذكر من مذاهبهم ما بين فيه ان مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون الاهية علي او نبوته فهم أكفر من هؤلاء وكذلك ذكر القاضي ابو يعلى فى كتابه ( المعتمد ( فصلا طويلا فى شرح زندقتهم وكفرهم وكذلك ذكر ابو حامد الغزالى فى كتابه الذى سماه ( فضائل المستظهرية وفضائح الباطنية ( قال ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض
وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد وامثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضلون على علي غيره بل يفسقون من قاتله ولم يتب من قتاله يجعلون هؤلاء من اكابر المنافقين الزنادقة فهذه مقالة المعتزلة فى حقهم فكيف تكون مقالة اهل السنة والجماعة والرافضة الامامية مع انهم من اجهل الخلق وانهم ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة نعم يعلمون ان مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين ويعلمون ان مقالة هؤلاء
____________________
(35/129)
الباطنية شر من مقالة الغالية الذين يعتقدون الهية علي رضى الله عنه واما القدح فى نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الامة من علماء الطوائف
وقد تولى الخلافة غيرهم طوائف وكان فى بعضهم من البدعة والظلم ما فيه فلم يقدح الناس فى نسب احد من أولئك كما قدحوا فى نسب هؤلاء ولا نسبوهم إلى الزندقة والنفاق كما نسبوا هؤلاء وقد قام من ولد على طوائف من ولد الحسن وولد الحسين كمحمد بن عبد الله بن حسن وأخيه ابراهيم بن عبد الله بن حسن وأمثالهما ولم يطعن احد لا من اعدائهم ولا من غير أعدائهم لا فى نسبهم ولا فى اسلامهم وكذلك الداعى القائم بطبرستان وغيره من العلويين وكذلك بنو حمود الذين تغلبوا بالاندلس مدة وأمثال هؤلاء لم يقدح أحد فى نسبهم ولا فى إسلامهم وقد قتل جماعة من الطالبيين من علي الخلافة لا سيما فى الدولة العباسية وحبس طائفة كموسى بن جعفر وغيره ولم يقدح اعداؤهم فى نسبهم ولا دينهم
وسبب ذلك ان الانساب المشهورة امرها ظاهر متدارك مثل الشمس لا يقدر العدو أن يطفئه وكذلك اسلام الرجل وصحة ايمانه بالله والرسول امر لا يخفى وصاحب النسب والدين لو اراد عدوه ان يبطل نسبه ودينه وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك فان هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله ولا يجوز ان تتفق على ذلك اقوال العلماء
____________________
(35/130)
وهؤلاء ( بنو عبيد القداح ( ما زالت علماء الامة المأمونون علما ودينا يقدحون فى نسبهم ودينهم لا يذمونهم بالرفض والتشيع فان لهم فى هذا شركاء كثيرين بل يجعلونهم ( من القرامطة الباطنية ( الذين منهم الإسماعيلية والنصيرية ومن جنسهم الخرمية المحمرة وامثالهم من الكفار المنافقون الذين كانوا يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر ولا ريب ان اتباع هؤلاء باطل وقد وصف العلماء ائمة هذا القول بأنهم الذين ابتدعوه ووضعوه وذكروا ما بنوا عليه مذاهبهم وانهم اخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة فوضعوا لهم ( السابق ( و ( التالى ( و ( الاساس ( و ( الحجج ( و ( الدعاوى ( وامثال ذلك من المراتب وترتيب الدعوة سبع درجات آخرها ( البلاغ الاكبر والناموس الاعظم ( مما ليس هذا موضع تفصيل ذلك
وإذا كان كذلك فمن شهد لهم بصحة نسب أو ايمان فأقل ما فى شهادته أنه شاهد بلا علم قاف ما ليس له به علم وذلك حرام بإتفاق الأمة بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق ومعاداة ما جاء به الرسول دليل على بطلان نسبهم الفاطمى فان من يكون من أقارب النبى القائمين بالخلافة فى أمته لاتكون معاداته لدينه كمعاداة هؤلاء فلم يعرف فى بنى هاشم ولا ولد أبى طالب ولا بنى أمية من كان خليفة وهو معاد لدين الاسلام فضلا عن أن يكون معاديا كمعاداة
____________________
(35/131)
هؤلاء بل أولاد الملوك الذين لا دين لهم فيكون فيهم نوع حمية لدين آبائهم وأسلافهم فمن كان من ولد سيد ولد آدم الذى بعثه الله بالهدى ودين الحق كيف يعادى دينه هذه المعاداة ولهذا نجد جميع المأمونين على دين الاسلام باطنا وظاهرا معادين لهؤلاء إلا من هو زنديق عدو لله ورسوله أو جاهل لا يعرف ما بعث به رسوله وهذا مما يدل على كفرهم وكذبهم فى نسبهم فصل
وأما سؤال القائل ( إنهم أصحاب العلم الباطن ( فدعواهم التى ادعوها من العلم الباطن هو أعظم حجة ودليل على أنهم زنادقة منافقون لايؤمنون بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر فإن هذا العلم الباطن الذى ادعوه هو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى بل أكثر المشركين على أنه كفر أيضا فإن مضمونه أن للكتب الالهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين فى الأوامر والنواهى والأخبار
أما ( الأوامر ( فإن الناس يعلمون بالاضطرار من دين الاسلام أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلوات المكتوبة والزكاة المفروضة وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق
____________________
(35/132)
وأما ( النواهى ( فإن الله تعالى حرم عليهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى بغير الحق وأن يشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن يقولوا على الله مالا يعلمون كما حرم الخمر ونكاح ذوات المحارم والربا والميسر وغير ذلك فزعم هؤلاء أنه ليس المراد بهذا ما يعرفه المسلمون ولكن لهذا باطن يعلمه هؤلاء الأئمة الاسماعيلية الذين إنتسبوا إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الذين يقولون انهم معصومون وأنهم أصحاب العلم الباطن كقولهم ( الصلاة ( معرفة أسرارنا لاهذه الصلوات ذات الركوع والسجود والقراءة و ( الصيام ( كتمان أسرارنا ليس هو الامساك عن الأكل والشرب والنكاح و ( الحج ( زيارة شيوخنا المقدسين وأمثال ذلك وهؤلاء المدعون للباطن لايوجبون هذه العبادات ولا يحرمون هذه المحرمات بل يستحلون الفواحش ما ظهر منها وما بطن ونكاح الأمهات والبنات وغير ذلك من المنكرات ومعلوم أن هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى فمن يكون هكذا كيف يكون معصوما
وأما ( الأخبار ( فإنهم لايقرون بقيام الناس من قبورهم لرب العالمين ولا بما وعد الله به عباده من الثواب والعقاب بل ولا بما أخبرت به الرسل من الملائكة بل ولا بما ذكرته من أسماء الله وصفاته بل أخبارهم الذى يتبعونها أتباع المتفلسفة المشائين التابعين لأرسطو ويريدون أن يجمعوا
____________________
(35/133)
بين ما أخبر به الرسل وما يقوله هؤلاء كما فعل أصحاب ( رسائل اخوان الصفا ( وهم على طريقة هؤلاء العبيديين ذرية ( عبيد الله بن ميمون القداح ( فهل ينكر أحد ممن يعرف دين المسلمين أو اليهود أو النصارى أن ما يقوله أصحاب ( رسائل اخوان الصفا ( مخالف للملل الثلاث وان كان فى ذلك من العلوم الرياضية والطبيعية وبعض المنطقية والالهية وعلوم الأخلاق والسياسة والمنزل ما لا ينكر فان فى ذلك من مخالفة الرسل فيما أخبرت به وأمرت به والتكذيب بكثير مما جاءت به وتبديل شرائع الرسل كلهم بما لا يخفى على عارف بملة من الملل فهؤلاء خارجون عن الملل الثلاث
ومن أكاذيبهم وزعمهم أن هذه ( الرسائل ( من كلام جعفر بن محمد الصادق والعلماء يعلمون أنها انما وضعت بعد المائة الثالثة زمان بناء القاهرة وقد ذكر واضعها فيها ما حدث فى الاسلام من استيلاء النصارى على سواحل الشام ونحو ذلك من الحوادث التى حدثت بعد المائة الثالثة وجعفر بن محمد رضى الله عنه توفى سنة ثمان وأربعين ومائة قبل بناء القاهرة بأكثر من مائتى سنة إذ القاهرة بنيت حول الستين وثلاثمائة كما فى ( تاريخ الجامع الأزهر ( ويقال ان ابتداء بنائها سنة ثمان وخمسين وأنه فى سنة اثنتين وستين قدم ( معد بن تميم ( من المغرب واستوطنها
____________________
(35/134)
ومما يبين هذا أن المتفلسفة الذين يعلم خروجهم من دين الاسلام كانوا من اتباع مبشر بن فاتك أحد أمرائهم وأبى على بن الهيثم اللذين كانا فى دولة الحاكم نازلين قريبا من الجامع الأزهر وبن سينا وابنه وأخوه كانوا من أتباعهما قال بن سينا وقرأت من الفلسفة وكنت أسمع أبى وأخى يذكران ( العقل ( و ( النفس ( وكان وجوده على عهد الحاكم وقد علم الناس من سيرة الحاكم ما علموه وما فعله هشكين الدرزى بأمره من دعوة الناس إلى عبادته ومقاتلته أهل مصرعلى ذلك ثم ذهابه إلى الشام حتى أضل وادى التيم بن ثعلبة والزندقة والنفاق فيهم إلى اليوم وعندهم كتب الحاكم وقد أخذتها منهم وقرأت ما فيها من عبادتهم الحاكم واسقاطه عنهم الصلاة والزكاة والصيام والحج وتسمية المسلمين الموجبين لهذه الواجبات المحرمين لما حرم الله ورسوله بالحشوية إلى أمثال ذلك من أنواع النفاق التى لا تكاد تحصى
وبالجملة ( فعلم الباطن ( الذى يدعون مضمونه الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر بل هو جامع لكل كفر لكنهم فيه على درجات فليسوا مستوين فى الكفر اذ هو عندهم سبع طبقات كل طبقة يخاطبون بها طائفة من الناس بحسب بعدهم من الدين وقربهم منه
ولهم ألقاب وترتيبات ركبوها من مذهب المجوس والفلاسفة والرافضة مثل قولهم ( السابق ( و ( التالى ( جعلوها بازآء ( العقل
____________________
(35/135)
والنفس كالذى يذكره الفلاسفة وبازاء النور والظلمة كالذى يذكره المجوس وهم ينتمون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر ويدعون أنه هو السابع ويتكلمون فى الباطن والأساس والحجة والباب وغير ذلك مما يطول وصفهم
ومن وصاياهم في ( الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم ( أنهم يدخلون على المسلمين من ( باب التشيع ( وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف وأضعفها عقلا وعلما وأبعدها عن دين الاسلام علما وعملا ولهذا دخلت الزنادقة على الاسلام من باب المتشيعة قديما وحديثا كما دخل الكفار المحاربون مدائن الاسلام بغداد بمعاونة الشيعة كما جرى لهم فى دولة الترك الكفار ببغداد وحلب وغيرهما بل كما جرى بتغير المسلمين مع النصارى وغيرهم فهم يظهرون التشيع لمن يدعونه واذا استجاب لهم نقلوه إلى الرفض والقدح فى الصحابة فان رأوه قابلا نقلوه إلى الطعن فى على وغيره ثم نقلوه إلى القدح فى نبينا وسائر الانبياء وقالوا أن الانبياء لهم بواطن وأسرار تخالف ما عليه أمتهم وكانوا قوما أذكياء فضلاء قالوا بأغراضهم الدنيوية بما وضعوه من النواميس الشرعية ثم قدحوا فى المسيح ونسبوه إلى يوسف النجار وجعلوه ضعيف الرأى حيث تمكن عدوه منه حتى صلبه فيوافقون اليهود فى القدح فى المسيح لكن هم شر من اليهود فانهم يقدحون فى الانبياء وأما موسى ومحمد فيعظمون أمرهما لتمكنهما وقهر
____________________
(35/136)
عدوهما ويدعون أنهما أظهرا ما أظهرا من الكتاب لذب العامة وان لذلك اسرارا باطنة من عرفها صار من الكمل البالغين
ويقولون ان الله أحل كل ما نشتهيه من الفواحش والمنكرات وأخذ أموال الناس بكل طريق ولم يجب علينا شيء مما يجب على العامة من صلاة وزكاة وصيام وغير ذلك اذ البالغ عندهم قد عرف أنه لاجنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب
وفى ( اثبات واجب الوجود ( المبدع للعالم على قولين لأئمتهم تنكره وتزعم أن المشائين من الفلاسفة فى نزاع الا فى واجب الوجود ويستهينون بذكر الله واسمه حتى يكتب أحدهم اسم الله واسم رسوله فى أسفله وأمثال ذلك من كفرهم كثير وذوالدعوة التى كانت مشهورة والاسماعيلية الذين كانوا على هذا المذهب بقلاع الألموت وغيرها فى بلاد خراسان وبأرض اليمن وجبال الشام وغير ذلك كانوا على مذهب العبيديين المسئول عنهم وبن الصباح الذى كان رأس الاسماعيلية وكان الغزالى يناظر أصحابه لما كان قدم إلى مصر فى دولة المستنصر وكان أطولهم مدة وتلقى عنه أسرارهم
وفى دولة المستنصر كانت فتنة البساسرى فى المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد البساسرى خارجا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسى
____________________
(35/137)
واتفق مع المستنصر العبيدى وذهب يحشر إلى العراق وأظهروا فى بلاد الشام والعراق شعار الرافضة كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف وأذنوا على المنابر ( حى على خير العمل ( حتى جاء الترك ( السلاجقة ( الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلى مصر وكان من أواخرهم ( الشهيد نور الدين محمود ( الذى فتح أكثر الشام واستنقذه من أيدى النصارى ثم بعث عسكره إلى مصر لما استنجدوه على الافرنج وتكرر دخول العسكر اليها مع صلاح الدين الذى فتح مصر فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية وأظهر فيها شرائع الاسلام حتى سكنها من حينئذ من أظهر بها دين الإسلام
وكان فى أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروى حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتل كما حكى ذلك ابراهيم بن سعد الحبال صاحب عبدالغنى بن سعيد وامتنع من رواية الحديث خوفا أن يقتلوه وكانوا ينادون بين القصرين من لعن وسب فله دينار وأردب وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة بل يتكلم فيها بالكفر الصريح وكان لهم مدرسة بقرب ( المشهد ( الذى بنوه ونسبوه إلى الحسين وليس فيه الحسين ولا شيء منه بإتفاق العلماء وكانوا لا يدرسون فى مدرستهم علوم المسلمين بل المنطق والطبيعة والالهى ونحو ذلك من مقالات الفلاسفة وبنوا أرصادا على
____________________
(35/138)
الجبال وغير الجبال يرصدون فيها الكواكب يعبدونها ويسبحونها ويستنزلون روحانياتها التى هي شياطين تتنزل على المشركين الكفار كشياطين الأصنام ونحو ذلك ( والمعز بن تميم بن معد ( أول من دخل القاهرة منهم فى ذلك فصنف كلاما معروفا عند اتباعه وليس هذا ( المعز بن باديس ( فان ذاك كان مسلما من أهل السنة وكان رجلا من ملوك المغرب وهذا بعد ذاك بمدة ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتى سنة قد انطفأ نور الاسلام والايمان حتى قالت فيها العلماء إنها كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب
والقرامطة ( الخارجين بأرض العراق الذين كانوا سلفا لهؤلاء القرامطة ذهبوا من العراق إلى المغرب ثم جاؤا من المغرب إلى مصر فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة وهم أعظم كفرا وردة من كفر اتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين فان أولئك لم يقولوا فى الالهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء ولهذا يميز بين قبورهم وقبور المسلمين كما يميز بين قبور المسلمين والكفار فان قبورهم موجهة إلى غير القبلة
واذا أصاب الخيل مغل أتوا بها إلى قبورهم كما يأتون بها إلى قبور الكفار وهذه عادة معروفة للخيل اذا أصاب الخيل مغل ذهبوا بها إلى قبور
____________________
(35/139)
النصارى بدمشق وان كانوا بمساكن الاسماعيلية والنصيرية ونحوهما ذهبوا بها إلى قبورهم وإن كانوا بمصر ذهبوا بها إلى قبور اليهود والنصارى أو لهؤلاء العبيديين الذين قد يتسمون بالأشراف وليسوا من الأشراف ولا يذهبون بالخيل إلى قبور الأنبياء والصالحين ولا إلى قبور عموم المسلمين وهذا أمر مجرب معلوم عند الجند وعلمائهم وقد ذكر سبب ذلك ان الكفار يعاقبون فى قبورهم فتسمع أصواتهم البهائم كما أخبر النبى بذلك ان الكفاريعذبون فى قبورهم ففى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم ( انه كان راكبا على بغلته فمر بقبور فحادت به كادت تلقيه فقال هذه أصوات يهود تعذب فى قبورها ( فان البهائم إذا سمعت ذلك الصوت المنكر أوجب لها من الحرارة ما يذهب المغل وكان الجهال يظنون أن تمشية الخيل عند قبورهؤلاء لدينهم وفضلهم فلما تبين لهم انهم يمشونها عند قبور اليهود والنصارى والنصيرية ونحوهم دون قبور الأنبياء والصالحين وذكر العلماء انهم لا يمشونها عند قبر من يعرف بالدين بمصر والشام وغيرها إنما يمشونها عند قبور الفجار والكفار تبين بذلك ما كان مشتبها
ومن علم حوادث الاسلام وما جرى فيه بين أوليائه وأعدائه الكفار والمنافقين علم أن عداوة هؤلاء المعتدين للاسلام الذى بعث الله به رسوله أعظم من عداوة التتار وأن علم الباطن الذى كانوا يدعون حقيقته هو ابطال الرسالة التى بعث الله بها محمدا بل إبطال جميع المرسلين وأنهم لا يقرون
____________________
(35/140)
بما جاء به الرسول عن الله ولامن خبره ولا من أمره وأن لهم قصدا مؤكدا في إبطال دعوته وإفساد ملته وقتل خاصته واتباع عترته وأنهم فى معاداة الاسلام بل وسائر الملل أعظم من اليهود والنصارى فان اليهود والنصارى يقرون بأصل الجمل التى جاءت بها الرسل كاثبات الصانع والرسل والشرائع واليوم الآخر ولكن يكذبون بعض الكتب والرسل كما قال الله سبحانه ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا اولئك هم الكافرون حقا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا (
واما هؤلاء القرامطه فانهم فى الباطن كافرون بجميع الكتب والرسل يخفون ذلك ويكتمونه عن غير من يثقون به لا يظهرونه كما يظهر اهل الكتاب دينهم لأنهم لو اظهروه لنفر عنهم جماهير اهل الأرض من المسلمين وغيرهم وهم يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور بل الرافضة الذين ليسوا زنادقة كفارا يفرقون بين مقالتها ومقالة الجمهور ويرون كتمان مذهبهم واستعمال التقية وقد لا يكون من الرافضة من له نسب صحيح مسلما فى الباطن ولا يكون زنديقا لكن يكون جاهلا مبتدعا واذا كان هؤلاء مع صحة نسبهم واسلامهم يكتمون ما هم عليه من البدعة والهوى لكن جمهور الناس يخالفونهم فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم اهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصارى
____________________
(35/141)
وانما يقرب منهم ( الفلاسفة المشاءون أصحاب أرسطو ( فان بينهم وبين القرامطة مقاربة كبيرة
ولهذا يوجد فضلاء القرامطة فى الباطن متفلسفة كسنان الذى كان بالشام والطوسى الذى كان وزيرا لهم بالألموت ثم صار منجما لهؤلاء وملك الكفار وصنف ( شرح الاشارات لابن سينا ( وهو الذى اشار على ملك الكفار بقتل الخليفة وصار عند الكفار الترك هو المقدم على الذين يسمونهم ( الداسميدية ( فهؤلاء وامثالهم يعلمون ان ما يظهره القرامطة من الدين والكرامات ونحو ذلك انه باطل لكن يكون احدهم متفلسفا ويدخل معهم لموافقتهم له على ما هو فيه من الاقرار بالرسل والشرائع فى الظاهر وتأويل ذلك بأمور يعلم بالاضطرار انها مخالفة لما جاءت به الرسل
فان ( المتفلسفة ( متأولون ما أخبرت به الرسل من أمور الايمان بالله واليوم الآخر بالنفى والتعطيل الذى يوافق مذهبهم وأما الشرائع العملية فلا ينفونها كما ينفيها القرامطة بل يوجبونها على العامة ويوجبون بعضها على الخاصة أولا يوجبون ذلك ويقولون إن الرسل فيما أخبروا به وأمروا به لم يأتوا بحقائق الأمور ولكن أتوا بأمر فيه صلاح العامة وان كان هو كذبا فى الحقيقة
ولهذا اختار كل مبطل ان يأتى بمخاريق لقصد صلاح العامة كما فعل ( بن التومرت ( الملقب بالمهدى ومذهبه فى الصفات مذهب الفلاسفة
____________________
(35/142)
لأنه كان مثلها فى الجملة ولم يكن منافقا مكذبا للرسل معطلا للشرائع ولا يجعل للشريعة العملية باطنا يخالف ظاهرها بل كان فيه نوع من رأى الجهمية الموافق لرأى الفلاسفة ونوع من راى الخوارج الذين يرون السيف ويكفرون بالذنب
فهؤلاء ( القرامطة ( هم فى الباطن والحقيقة أكفر من اليهود والنصارى وأما فى الظاهر فيدعون الاسلام بل وإيصال النسب إلى العترة النبويه وعلم الباطن الذى لا يوجد عند الأنبياء والأولياء وان امامهم معصوم فهم فى الظاهر من أعظم الناس دعوى بحقائق الايمان وفى الباطن من أكفر الناس بالرحمن بمنزلة من ادعى النبوة من الكذابين قال تعالى ( ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ( وهؤلاء قد يدعون هذا وهذا
فإن الذى يضاهى الرسول الصادق لا يخلو إما أن يدعى مثل دعوته فيقول ان الله أرسلنى وأنزل على وكذب على الله أو يدعى أنه يوحى إليه ولا يسمى موحيه كما يقول قيل لى ونوديت وخوطبت ونحو ذلك ويكون كاذبا فيكون هذا قد حذف الفاعل او لا يدعى واحدا من الأمرين لكنه يدعى أنه يمكنه انه يأتى بما اتى به الرسول ووجه القسمة ان ما يدعيه فى مضاهاة الرسول اما ان يضيفه إلى الله او إلى نفسه او لا يضيفه إلى احد
____________________
(35/143)
فهؤلاء فى دعواهم مثل الرسول هم أكفر من اليهود والنصارى فكيف بالقرامطه الذين يكذبون على الله اعظم مما فعل مسيلمة وألحدوا فى أسماء الله وآياته أعظم مما فعل مسيلمة وحاربوا الله ورسوله أعظم مما فعل مسيلمة وبسط حالهم يطول لكن هذه الأوراق لا تسع اكثر من هذا
وهذا الذى ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم ولا ريب انه قد انضم اليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون فى الباطن عالما بحقيقة باطنهم ولا موافقا لهم على ذلك فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين الموالى لهم الناصر لهم بمنزلة اتباع الاتحادية الذين يوالونهم ويعظمونهم وينصرونهم ولا يعرفون حقيقة قولهم فى وحدة الوجود وأن الخالق هو المخلوق فمن كان مسلما فى الباطن وهو جاهل معظم لقول بن عربى وبن سبعين وبن الفارض وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم وكذا من كان معظما للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد فان نسبة هؤلاء إلى الجهمية كنسبة أولئك إلى الرافضة والجهمية ولكن القرامطة أكفر من الاتحادية بكثير ولهذا كان أحسن حال عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية واما الاتحادية ففى عوامهم من ليس برافضى ولا جهمى صريح ولكن لا يفهم كلامهم ويعتقد ان كلامهم كلام الأولياء المحققين وبسط هذا الجواب له مواضع غير هذا والله اعلم
____________________
(35/144)
وسئل رحمه الله تعالى
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين وأعانهم على اظهار الحق المبين واخماد شغب المبطلين فى ( النصيرية ( القائلين باستحلال الخمر وتناسخ الأرواح وقدم العالم وانكار البعث والنشور والجنة والنار فى غير الحياة الدنيا وبأن ( الصلوات الخمس ( عبارة عن خمسة أسماء وهى علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة فذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزئهم عن الغسل من الجنابة والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها وبان ( الصيام ( عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا واسم ثلاثين امرأة يعدونهم فى كتبهم ويضيق هذا الموضع عن ابرازهم وبان إلههم الذى خلق السماوات والأرض هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو عندهم الاله فى السماء والامام فى الأرض فكانت الحكمة فى ظهور اللاهوت بهذا الناسوت على رأيهم ان يؤنس خلقه وعبيده ليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه
وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه ويشربون معه الخمر ويطلعونه على أسرارهم ويزوجونه من نسائهم حتى يخاطبه معلمه وحقيقة الخطاب عندهم ان يحلفوه على كتمان دينه ومعرفة مشايخه
____________________
(35/145)
وأكابر أهل مذهبه وعلى أن لا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه وعلى أن يعرف ربه وإمامه بظهوره فى أنواره وأدواره فيعرف انتقال الاسم والمعنى فى كل حين وزمان فالاسم عندهم فى أول الناس آدم والمعنى هو شيث والاسم يعقوب والمعنى هو يوسف ويستدلون على هذه الصورة كما يزعمون بما فى القرآن العظيم حكاية عن يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام فيقولون اما يعقوب فانه كان الاسم فما قدر ان يتعدى منزلته فقال { سوف أستغفر لكم ربي } وأما يوسف فكان المعنى المطلوب فقال { لا تثريب عليكم اليوم } فلم يعلق الأمر بغيره لأنه علم أنه الاله المتصرف ويجعلون موسى هو الاسم ويوشع هو المعنى ويقولون يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره وهل ترد الشمس الا لربها ويجعلون سليمان هو الأسم وآصف هو المعنى القادر المقتدر ويقولون سليمان عجز عن احضار عرش بلقيس وقدر عليه آصف لأن سليمان كان الصورة وآصف كان المعنى القادر المقتدر وقد قال قائلهم ** هابيل شيث يوسف يوشع ** آصف شمعون الصفا حيدر **
ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا على هذا النمط إلى زمن رسول الله فيقولون محمد هو الاسم وعلي هو المعنى ويوصلون العدد على هذا الترتيب فى كل زمان إلى وقتنا هذا فمن حقيقة الخطاب فى الدين عندهم ان عليا هو الرب وان محمدا هو الحجاب
____________________
(35/146)
وان سلمان هو الباب وانشد بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه فى شهور سنة سبعمائة فقال ** أشهد أن لا إله إلا ** حيدرة الأنزع البطين ** ولا حجاب عليه إلا ** محمد الصادق الأمين ** ولا طريق إليه الا ** سلمان ذوالقوة المتين **
ويقولون ان ذلك على هذا الترتيب لم يزل ولا يزال وكذلك الخمسة الايتام والاثناعشر نقيبا وأسماؤهم مشهورة عندهم ومعلومة من كتبهم الخبيثة وأنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب فى كل كور ودور ابدا سرمدا على الدوام والاستمرار ويقولون ان ابليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب رضى الله عنه ويليه فى رتبة الأبليسية أبو بكر رضى الله عنه ثم عثمان رضى الله عنهم اجمعين وشرفهم وأعلى رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحال أنواع الضالين والمفسدين فلا يزالون موجودين فى كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلى هذه الأصول المذكورة
وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام ( وهم ) معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم ومن عامة الناس أيضا فى
____________________
(35/147)
هذا الزمان لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الافرنج المخذولين على البلاد الساحلية فلما جاءت أيام الاسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم والابتلاء بهم كثير جدا
فهل يجوز لمسلم ان يزوجهم او يتزوج منهم وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه أم لا وما حكم الجبن المعمول من انفحة ذبيحتهم وما حكم أوانيهم وملابسهم وهل يجوز دفنهم بين المسلمين أم لا وهل يجوز استخدامهم فى ثغور المسلمين وتسليمها اليهم ام يجب على ولي الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة وهل يأثم اذا اخر طردهم ام يجوز له التمهل مع ان في عزمه ذلك واذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم واذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمى فأخره ولى الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحقين أو أرصده لذلك هل يجوز له فعل هذه الصور أم يجب عليه وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال أم لا واذا جاهدهم ولي الأمر أيده الله تعالى باخماد باطلهم وقطعهم من حصون المسلمين وحذر أهل الاسلام من مناكحتهم وأكل ذبائحهم وألزمهم بالصوم والصلاة ومنعهم من اظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدى والترصد لقتال التتارفى بلادهم وهدم بلاد
____________________
(35/148)
سيس وديار الافرنج على أهلها ام هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا ويكون أجر من رابط في الثغور على ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر أم هذا أكبر أجرا وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم ان يشهر أمرهم ويساعد على ابطال باطلهم واظهار الاسلام بينهم فلعل الله تعالى أن يهدي بعضهم إلى الاسلام وان يجعل من ذريتهم واولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم ام يجوز التغافل عنهم والاهمال وما قدر المجتهد على ذلك والمجاهد فيه والمرابط له والملازم عليه ولتبسطوا القول فى ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى انه على كل شيء قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل
فأجاب شيخ الاسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحمد لله رب العالمين هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر اصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم فان هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا نهى ولا ثواب ولاعقاب ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بملة من الملل السالفة بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور
____________________
(35/149)
يفترونها يدعون أنها علم الباطن من جنس ما ذكر من السائل ومن غير هذا الجنس فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الالحاد فى أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلام الله تعالى ورسوله عن مواضعه إذ مقصودهم انكار الايمان وشرائع الاسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل ومن جنس قولهم إن ( الصلوات الخمس ( معرفة أسرارهم و ( الصيام المفروض ( كتمان أسرارهم ( وحج البيت العتيق ( زيارة شيوخهم وان ( يدا أبى لهب ) هما ابو بكر وعمر وان ( النبأ العظيم ) والامام المبين هو علي بن أبى طالب ولهم فى معاداة الاسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة فاذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين كما قتلوا مرة الحجاج والقوهم فى بئر زمزم وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقى عندهم مدة وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم مالا يحصى عدده الا الله تعالى وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره وصنف علماء المسلمين كتبا فى كشف أسرارهم وهتك أستارهم وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والالحاد الذى هم به اكفر من اليهود والنصارى ومن براهمة الهند الذين يعبدون الاصنام وما ذكره السائل فى وصفهم قليل من الكثير الذى يعرفه العلماء فى وصفهم
ومن المعلوم عندنا ان السواحل الشامية انما استولى عليها النصارى من جهتهم وهم دائما مع كل عدو للمسلمين فهم مع النصارى على المسلمين ومن
____________________
(35/150)
أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل وانقهار النصارى بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار ومن اعظم اعيادهم اذا استولى والعياذ بالله تعالى النصارى على ثغور المسلمين فان ثغور المسلمين مازالت بايدى المسلمين حتى جزيرة قبرص يسر الله فتحها عن قريب وفتحها المسلمون فى خلافة امير المؤمنين ( عثمان بن عفان ( رضي الله عنه فتحها ( معاوية بن ابى سفيان ( إلى اثناء المائة الرابعة
فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره فان احوالهم كانت من اعظم الاسباب فى ذلك ثم لما اقام الله ملوك المسلمين المجاهدين فى سبيل الله تعالى ( كنور الدين الشهيد وصلاح الدين ( واتباعهما وفتحوا السواحل من النصارى وممن كان بها منهم وفتحوا ايضا ارض مصر فانهم كانوا مستولين عليها نحو مائتى سنة واتفقوا هم والنصارى فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الاسلام بالديار المصرية والشامية
ثم ان التتار ما دخلوا بلاد الاسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين الا بمعاونتهم ومؤازرتهم فإن منجم هولاكو الذى كان وزيرهم وهو ( النصير
____________________
(35/151)
الطوسى كان وزيرا لهم بالالموت وهو الذى أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء
ولهم ( ألقاب ( معروفة عند المسلمين تارة يسمون ( الملاحدة ( وتارة يسمون ( القرامطة ( وتارة يسمون ( الباطنية ( وتارة يسمون ( الاسماعيلية ( وتارة يسمون ( النصيرية ( وتارة يسمون ( الخرمية ( وتارة يسمون ( المحمرة ( وهذه الاسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض اصنافهم كما ان الاسلام والايمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه اما لنسب واما لمذهب واما لبلد واما لغير ذلك وشرح مقاصدهم يطول وهم كما قال العلماء فيهم ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض وحقيقة أمرهم انهم لا يؤمنون بنبى من من الانبياء والمرسلين لا بنوح ولا ابراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين ولا بشيء من كتب الله المنزلة لا التوراة ولا الانجيل ولا القرآن ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه ولا بان له دينا امر به ولا ان له دارا يجزى الناس فيها على اعمالهم غير هذه الدار
____________________
(35/152)
وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة الطبيعيين او الآلهيين وتارة يبنونه على قول المجوس الذين يعبدون النور ويضمون إلى ذلك الرفض
ويحتجون لذلك من كلام النبوات اما بقول مكذوب ينقلونه كما ينقلون عن النبي انه قال ( اول ما خلق الله العقل ( والحديث موضوع باتفاق اهل العلم بالحديث ولفظه ( ان الله لما خلق العقل فقال له اقبل فاقبل فقال له ادبر فادبر ( فيحرفون لفظه فيقولون ( اول ما خلق الله العقل ( ليوافقوا قول المتفلسفة اتباع ارسطو فى ان اول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل واما بلفظ ثابت عن النبى فيحرفونه عن مواضعه كما يصنع اصحاب ( رسائل اخوان الصفا ( ونحوهم فانهم من ائمتهم
وقد دخل كثير من باطلهم على كثير من المسلمين وراج عليهم حتى صار ذلك فى كتب طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين وان كانوا لا يوافقونهم على اصل كفرهم فان هؤلاء لهم فى اظهار دعوتهم الملعونة التى يسمونها ( الدعوة الهادية ( درجات متعددة ويسمون النهاية ( البلاغ الاكبر والناموس الاعظم ( ومضمون البلاغ الاكبر جحد الخالق تعالى والاستهزاء به وبمن يقر به حتى قد يكتب أحدهم اسم الله فى أسفل رجله وفيه ايضا جحد شرائعه ودينه وما جاء به الانبياء ودعوى انهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة فمنهم من احسن فى طلبها ومنهم من اساء فى
____________________
(35/153)
طلبها حتى قتل ويجعلون محمدا وموسى من القسم الاول ويجعلون المسيح من القسم الثاني وفيه من الاستهزاء بالصلاة والزكاة والصوم والحج ومن تحليل نكاح ذوات المحارم وسائر الفواحش ما يطول وصفه ولهم اشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضا وهم اذا كانوا فى بلاد المسلمين التى يكثر فيها اهل الايمان فقد يخفون على من لا يعرفهم واما اذا كثروا فانه يعرفهم عامة الناس فضلا عن خاصتهم
وقد إتفق علماء المسلمين على ان هؤلاء لا تجوز مناكحتهم ولا يجوز ان ينكح الرجل مولاته منهم ولا يتزوج منهم امرأة ولا تباح ذبائحهم
وأما ( الجبن المعمول بانفحتهم ( ففيه قولان مشهوران للعلماء كسائر انفحة الميتة وكأنفحة ذبيحة المجوس وذبيحة الفرنج الذين يقال عنهم انهم لا يذكون الذبائح فمذهب ابى حنيفة واحمد فى احدى الروايتين انه يحل هذا الجبن لان انفحة الميتة طاهرة على هذا القول لان الانفحة لاتموت بموت البهيمة وملاقاة الوعاء النجس فى الباطن لا ينجس ومذهب مالك والشافعى واحمد فى الرواية الاخرى ان هذا الجبن نجس لان الانفحة عند هؤلاء نجسة لان لبن الميتة وانفحتها عندهم نجس ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة وكل من اصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة فاصحاب القول الاول نقلوا انهم اكلوا جبن المجوس واصحاب القول الثانى
____________________
(35/154)
نقلوا انهم اكلوا ما كانوا يظنون انه من جبن النصارى فهذه مسالة اجتهاد للمقلد ان يقلد من يفتى بأحد القولين وأما ( أوانيهم وملابسهم ( فكأواني المجوس وملابس المجوس على ما عرف من مذاهب الائمة والصحيح فى ذلك ان اوانيهم لا تستعمل الا بعد غسلها فان ذبائحهم ميتة فلابد ان يصيب اوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك فاما الآنية التى لا يغلب على الظن وصول النجاسة اليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التى لا يضعون فيها طبيخهم او يغسلونها قبل وضع اللبن فيها وقد توضأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جرة نصرانية فما شك فى نجاسته لم يحكم بنجاسته بالشك
ولا يجوز دفنهم فى مقابر المسلمين ولا يصلى على من مات منهم فان الله سبحانه وتعالى نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين كعبد الله بن ابي ونحوه وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين ولا يظهرون مقالة تخالف دين الاسلام لكن يسرون ذلك فقال الله { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر والالحاد
وأما استخدام مثل هؤلاء فى ثغور المسلمين او حصونهم او جندهم فانه من الكبائر وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعى الغنم فانهم من اغش الناس
____________________
(35/155)
للمسلمين ولولاة امورهم وهم احرص الناس على فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذى يكون فى العسكر فان المخامر قد يكون له غرض اما مع امير العسكر واما مع العدو وهؤلاء مع الملة ونبيها ودينها وملوكها وعلمائها وعامتها وخاصتها وهم احرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين وعلى افساد الجند على ولي الامر واخراجهم عن طاعته
والواجب على ولاة الامور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون فى ثغر ولا فى غير ثغر فان ضررهم فى الثغر اشد وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المامونين على دين الاسلام وعلى النصح لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم بل اذا كان ولي الامر لا يستخدم من يغشه وان كان مسلما فكيف بمن يغش المسلمين كلهم
ولا يجوز له تاخير هذا الواجب مع القدرة عليه بل اي وقت قدر على الاستبدال بهم وجب عليه ذلك
وأما اذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم فلهم اما المسمى واما اجرة المثل لانهم عوقدوا على ذلك فان كان العقد صحيحا وجب المسمى وان كان فاسدا وجبت اجرة المثل وان لم يكن استخدامهم من جنس
____________________
(35/156)
الاجارة اللازمة فهي من جنس الجعالة الجائزة لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم فالعقد عقد فاسد فلا يستحقون الا قيمة عملهم فان لم يكونوا عملوا عملا له قيمة فلا شيء لهم لكن دماؤهم واموالهم مباحة
وإذا أظهروا التوبة ففى قبولها منهم نزاع بين العلماء فمن قبل توبتهم اذا التزموا شريعة الاسلام اقر اموالهم عليهم ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم فان مالهم يكون فيئا لبيت المال لكن هؤلاء اذا اخذوا فانهم يظهرون التوبة لان اصل مذهبهم التقية وكتمان امرهم وفيهم من يعرف وفيهم من قد لا يعرف فالطريق فى ذلك ان يحتاط فى امرهم فلا يتركون مجتمعين ولا يمكنون من حمل السلاح ولا أن يكونوا من المقاتلة ويلزمون شرائع الاسلام من الصلوات الخمس وقراءة القرآن ويترك بينهم من يعلمهم دين الاسلام ويحال بينهم وبين معلمهم
فإن ابا بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة لما ظهروا على اهل الردة وجاءوا إليه قال لهم الصديق إختاروا اما الحرب المجلية واما السلم المخزية قالوا يا خليفة رسول الله هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية قال تدون قتلانا ولا ندى قتلاكم وتشهدون ان قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار ونقسم ما أصبنا من اموالكم وتردون ما اصبتم من اموالنا وتنزع منكم الحلقة والسلاح وتمنعون من ركوب
____________________
(35/157)
الخيل وتتركون تتبعون أذناب الابل حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين أمرا بعد ردتكم فوافقه الصحابة على ذلك إلا فى تضمين قتلى المسلمين فان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له هؤلاء قتلوا فى سبيل الله فأجورهم على الله يعنى هم شهداء فلا دية لهم فاتفقوا على قول عمر في ذلك
وهذا الذى اتفق الصحابة عليه هو مذهب ائمة العلماء والذى تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء فمذهب اكثرهم ان من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن كما اتفقوا عليه آخرا وهو مذهب ابى حنيفة واحمد فى إحدى الروايتين ومذهب الشافعى واحمد فى الرواية الاخرى هو القول الاول فهذا الذى فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلى الاسلام يفعل بمن اظهر الاسلام والتهمة ظاهرة فيه فيمنع ان يكون من أهل الخيل والسلاح والدرع التى تلبسها المقاتلة ولا يترك فى الجند من يكون يهوديا ولا نصرانيا ويلزمون شرائع الاسلام حتى يظهر ما يفعلونه من خير او شر ومن كان من ائمة ضلالهم واظهر التوبة اخرج عنهم وسير إلى بلاد المسلمين التى ليس لهم فيها ظهور فاما ان يهديه الله تعالى واما ان يموت على نفاقه من غير مضرة للمسلمين ولا ريب ان جهاد هؤلاء واقامة الحدود عليهم من اعظم الطاعات واكبر الواجبات وهو افضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين واهل الكتاب فان جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين والصديق
____________________
(35/158)
وسائر الصحابة بدءوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من اهل الكتاب فان جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين وان يدخل فيه من اراد الخروج عنه وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين واهل الكتاب من زيادة اظهار الدين وحفظ رأس المال مقدم على الربح
وأيضا فضرر هؤلاء على المسلمين اعظم من ضرر اولئك بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين واهل الكتاب وضررهم فى الدين على كثير من الناس اشد من ضرر المحاربين من المشركين واهل الكتاب
ويجب على كل مسلم ان يقوم فى ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب فلا يحل لاحد ان يكتم ما يعرفه من أخبارهم بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ولا يحل لاحد ان يعاونهم على بقائهم فى الجند والمستخدمين ولا يحل لاحد السكوت عن القيام عليهم بما امر الله به ورسوله ولا يحل لاحد ان ينهى عن القيام بما امر الله به ورسوله فان هذا من اعظم ابواب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد فى سبيل الله تعالى وقد قال الله تعالى لنبيه { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين
والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الامكان له من الاجر والثواب مالا يعلمه الا الله تعالى فان المقصود بالقصد الاول هو هدايتهم كما قال الله
____________________
(35/159)
تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال ابو هريرة كنتم خير الناس للناس تاتون بهم فى القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الاسلام فالمقصود بالجهاد والامر بالمعروف والنهى عن المنكر هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الامكان فمن هداه الله سعد فى الدنيا والاخرة ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره
ومعلوم ان الجهاد والامر بالمعروف والنهى عن المنكر هو افضل الاعمال كما قال ( رأس الامر الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله تعالى ( وفى الصحيح عنه انه قال ( ان فى الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الارض أعدها الله عز وجل للمجاهدين فى سبيله ( وقال ( رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ( ومن مات مرابطا مات مجاهدا وجرى عليه عمله واجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتنة والجهاد افضل من الحج والعمرة كما قال تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين
____________________
(35/160)
وسئل رحمه الله تعالى
عن ( الدرزية ( و ( النصيرية ( ماحكمهم فأجاب هؤلاء ( الدرزية ( و ( النصيرية ( كفار باتفاق المسلمين لا يحل اكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم بل ولا يقرون بالجزية فانهم مرتدون عن دين الاسلام ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى لايقرون بوجوب الصلوات الخمس ولا وجوب صوم رمضان ولا وجوب الحج ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما وان اظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين
فأما ( النصيرية ( فهم اتباع ابى شعيب محمد بن نصير وكان من الغلاة الذين يقولون ان عليا اله وهم ينشدون ** أشهد ان لا اله الا ** حيدرة الانزع البطين ** ** ولا حجاب عليه الا ** محمد الصادق الامين ** ولا طريق إليه الا ** سلمان ذو القوة المتين **
وأما ( الدرزية ( فاتباع هشتكين الدرزى وكان من موالى الحاكم ارسله إلى اهل وادى تيم الله بن ثعلبة فدعاهم إلى إلهية الحاكم ويسمونه
____________________
(35/161)
( البارى العلام ( ويحلفون به وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله وهم اعظم كفرا من الغالية يقولون بقدم العالم وانكار المعاد وانكار واجبات الاسلام ومحرماته وهم من القرامطة الباطنية الذين هم اكفر من اليهود والنصارى ومشركى العرب وغايتهم ان يكونوا ( فلاسفة ( على مذهب ارسطو وامثاله او ( مجوسا ( وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس ويظهرون التشيع نفاقا والله أعلم وقال شيخ الاسلام رحمه الله
ردا على نبذ لطوائف من ( الدروز ( كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون بل من شك فى كفرهم فهو كافر مثلهم لاهم بمنزلة اهل الكتاب ولا المشركين بل هم الكفرة الضالون فلا يباح اكل طعامهم وتسبى نساؤهم وتؤخذ اموالهم فانهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم بل يقتلون أينما ثقفوا ويلعنون كما وصفوا ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم ويحرم النوم معهم فى بيوتهم ورفقتهم والمشى معهم وتشييع جنائزهم اذا علم موتها ويحرم على ولاة امور المسلمين إضاعة ما امر الله من اقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه والله المستعان وعليه التكلان
____________________
(35/162)
وسئل رحمه الله تعالى عن هؤلاء
القلندرية ( الذين يحلقون ذقونهم ما هم ومن أى الطوائف يحسبون وما قولكم فى إعتقادهم ان رسول الله اطعم شيخهم قلندر عنبا وكلمه بلسان العجم
فأجاب اما هؤلاء ( القلندرية ( المحلقى اللحى فمن أهل الضلالة والجهالة وأكثرهم كافرون بالله ورسوله لا يرون وجوب الصلاة والصيام ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق بل كثير منهم اكفر من اليهود والنصارى وهم ليسوا من اهل الملة ولا من اهل الذمة وقد يكون فيهم من هو مسلم لكن مبتدع ضال أو فاسق فاجر
ومن قال ان ( قلندر ( موجود فى زمن النبى فقد كذب وافترى بل قد قيل اصل هذا الصنف أنهم كانوا قوما من نساك الفرس يدورون على ما فيه راحة قلوبهم بعد اداء الفرائض واجتناب المحرمات هكذا فسرهم الشيخ ابو حفص السهروردى فى عوارفه ثم انهم بعد ذلك تركوا الواجبات وفعلوا المحرمات بمنزلة
____________________
(35/163)
( الملامية ( الذين كانوا يخفون حسناتهم ويظهرون ما لا يظن بصاحبه الصلاح من زي الاغنياء ولبس العمامة فهذا قريب وصاحبه ماجور على نيته ثم حدث قوم فدخلوا فى امور مكروهة فى الشريعة ثم زاد الامر ففعل قوم المحرمات من الفواحش والمنكرات وترك الفرائض والواجبات وزعموا ان ذلك دخول منهم في ( الملاميات ( ولقد صدقوا فى استحقاقهم اللوم والذم والعقاب من الله فى الدنيا والاخرة وتجب عقوبتهم جميعهم ومنعهم من هذا الشعار الملعون كما يجب ذلك فى كل معلن ببدعة او فجور
وليس ذلك مختصا بهم بل كل من كان من المتنسكة والمتفقهة والمتعبدة والمتفقرة والمتزهدة والمتكلمة والمتفلسفة ومن وافقهم من الملوك والاغنياء والكتاب والحساب والاطباء واهل الديوان والعامة خارجا عن الهدى ودين الحق الذى بعث الله به رسوله لا يقر بجميع ما اخبر الله به على لسان رسوله ولا يحرم ما حرمه الله ورسوله او يدين بدين يخالف الدين الذى بعث الله به رسوله باطنا وظاهرا مثل من يعتقد ان شيخه يرزقه او ينصره او يهديه او يغيثه او يعينه او كان يعبد شيخه او يدعوه ويسجد له او كان يفضله على النبى تفضيلا مطلقا او مقيدا فى شيء من الفضل الذى يقرب إلى الله تعالى او كان يرى أنه هو أو شيخه مستغن عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فكل هؤلاء كفار ان اظهروا ذلك ومنافقون ان لم يظهروه
____________________
(35/164)
وهؤلاء الاجناس وان كانوا قد كثروا فى هذا الزمان فلقلة دعاة العلم والايمان وفتور آثار الرسالة فى اكثر البلدان وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى وكثير منهم لم يبلغهم ذلك وفى أوقات الفترات وأمكنة الفترات يثاب الرجل على مامعه من الايمان القليل ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه مالا يغفر به لمن قامت الحجة عليه كما فى الحديث المعروف ( ياتى على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صياما ولا حجا ولا عمرة الا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ويقولون ادركنا آباءنا وهم يقولون لا اله الا الله ( فقيل لحذيفة بن اليمان ما تغنى عنهم لا اله الا الله فقال تنجيهم من النار
وأصل ذلك ان المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والاجماع يقال هي كفر قولا يطلق كما دل على ذلك الدلائل الشرعية فان ( الايمان ( من الاحكام المتلقاة عن الله ورسوله ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم ولا يجب ان يحكم فى كل شخص قال ذلك بانه كافر حتى يثبت فى حقه شروط التكفير وتنتفى موانعه مثل من قال ان الخمر او الربا حلال لقرب عهده بالاسلام او لنشوئه فى بادية بعيدة او سمع كلاما أنكره ولم يعتقد انه من القرآن ولا انه من احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر اشياء حتى يثبت عنده ان النبى قالها وكما كان الصحابة يشكون في اشياء مثل رؤية الله وغير ذلك
____________________
(35/165)
حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل الذى قال اذا أنا مت فاسحقونى وذروني فى اليم لعلي اضل عن الله ونحو ذلك فان هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقد عفا الله لهذه الامة عن الخطأ والنسيان وقد اشبعنا الكلام فى القواعد التى فى هذا الجواب فى اماكنها والفتوى لا تحتمل البسط اكثر من هذا والله أعلم وسئل رحمه الله
عمن يعتقد ان الكواكب لها تأثير فى الوجود او يقول ان له نجما فى السماء يسعد بسعادته ويشقى بعكسه ويحتج بقوله تعالى { فالمدبرات أمرا } وبقوله { فلا أقسم بمواقع النجوم } ويقول انها صنعة ادريس عليه السلام ويقول عن النبى إن نجمه كان بالعقرب والمريخ فهل هذا من دين الاسلام ام لا وحتى لو لم يكن من الدين فماذا يجب على قائله والمنكرون على هؤلاء يكونون من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ام لا
فأجاب الحمد لله النجوم من آيات الله الدالة عليه المسبحة له الساجدة له كما قال تعالى { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس }
____________________
(35/166)
ثم قال ( وكثير حق عليه العذاب ) وهذا التفريق يبين انه لم يرد السجود لمجرد ما فيها من الدلالة على ربوبيته كما يقول ذلك طوائف من الناس اذ هذه الدلالة يشترك فيها جميع المخلوقات فجميع الناس فيهم هذه الدلالة وهو قد فرق فعلم ان ذلك قول زائد من جنس ما يختص به المؤمن ويتميز به عن الكافر الذى حق عليه العذاب
وهو سبحانه مع ذلك قد جعل فيها منافع لعباده وسخرها لهم كما قال تعالى { وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار } وقال { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } وقال { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } ومن منافعها الظاهرة ما يجعله سبحانه بالشمس من الحر والبرد والليل والنهار ونضاج الثمار وخلق الحيوان والنبات والمعادن وكذلك ما يجعله بها لهم من الترطيب والتيبيس وغير ذلك من الامور المشهودة كما جعل فى النار الاشراق والاحراق وفى الماء التطهير والسقى وامثال ذلك من نعمه التى يذكرها فى كتابه كما قال تعالى { وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا } وقد أخبر الله فى غير موضع انه يجعل حياة بعض مخلوقاته ببعض كما قال تعالى { لنحيي به بلدة ميتا } وكما قال { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات }
____________________
(35/167)
وكما قال { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة }
فمن قال من اهل الكلام أن الله يفعل هذه الأمور عندها لا بها فعبارته مخالفة لكتاب الله والأمور المشهودة كمن زعم انها مستقلة بالفعل هو مشرك مخالف العقل والدين
وقد أخبر سبحانه فى كتابه من منافع النجوم فانه يهتدى بها فى ظلمات البر والبحر واخبر انها زينة للسماء الدنيا واخبر ان الشياطين ترجم بالنجوم وان كانت النجوم التى ترجم بها الشياطين من نوع آخر غير النجوم الثابتة فى السماء التى يهتدى بها فان هذه لا تزول عن مكانها بخلاف تلك ولهذه حقيقة مخالفة لتلك وان كان إسم النجوم يجمعها كما يجمع اسم الدابة والحيوان للملك والآدمى والبهائم والذباب والبعوض
وقد ثبت بالأخبار الصحيحة التى اتفق عليها العلماء عن النبى صلى الله عليه وسلم انه امر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر وامر بالدعاء والاستغفار والصدقة والعتق وقال ( ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت احد ولا لحياته ( وفى رواية ( آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده ( هذا قاله ردا لما قاله بعض جهال الناس ان الشمس كسفت لموت ابراهيم بن النبى فانها كسفت يوم موته وظن بعض الناس لما كسفت ان كسوفها كان لأجل موته وان موته هو
____________________
(35/168)
السبب لكسوفها كما يحدث عن موت بعض الأكابر مصائب فى الناس فبين النبى ان الشمس والقمر لا يكون كسوفهما عن موت احد من اهل الأرض ولا عن حياته ونفى ان يكون للموت والحياة اثرا فى كسوف الشمس والقمر وأخبر أنهما من آيات الله وانه يخوف عباده
فذكر أن من حكمة ذلك تخويف العباد كما يكون تخويفهم فى سائر الآيات كالرياح الشديدة والزلازل والجدب والأمطار المتواترة ونحو ذلك من الاسباب التى قد تكون عذابا كما عذب الله امما بالريح والصيحة والطوفان وقال تعالى { فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا } وقد قال { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } وإخباره بانه يخوف عباده بذلك يبين انه قد يكون سببا لعذاب ينزل كالرياح العاصفة الشديدة وانما يكون ذلك اذا كان الله قد جعل ذلك سببا لما ينزل فى الارض
فمن أراد بقوله ان لها تأثيرا ما قد علم بالحس وغيره من هذه الامور فهذا حق ولكن الله قد امر بالعبادات التى تدفع عنا ما ترسل به من الشر كما امر النبى صلى الله عليه وسلم عند الخسوف بالصلاة والصدقة والدعاء والاستغفار والعتق وكما كان اذا هبت الريح اقبل وادبر وتغير وامر ان يقال عند هبوبها ( اللهم انا نسألك خير هذه الريح وخير ما
____________________
(35/169)
ارسلت به ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما أرسلت به ( وقال ( ان الريح من روح الله وانها تأتى بالرحمة وتأتى بالعذاب فلا تسبوها ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها ( فأخبر انها تأتى بالرحمة وتأتى بالعذاب وأمر أن نسأل الله من خيرها ونعوذ بالله من شرها
فهذه السنة فى أسباب الخير والشر ان يفعل العبد عند اسباب الخير الظاهرة والأعمال الصالحة ما يجلب الله به الخير وعند اسباب الشر الظاهرة من العبادات ما يدفع الله به عنه الشر فأما ما يخفى من الاسباب فليس العبد مأمورا بان يتكلف معرفته بل اذا فعل ما أمر به وترك ما حظر كفاه الله مؤنة الشر ويسر له اسباب الخير { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا }
وقد قال تعالى فيمن يتعاطى السحر لجلب منافع الدنيا { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان } إلى قوله { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } فأخبر سبحانه ان من اعتاض بذلك يعلم انه لا نصيب له فى الآخرة وانما يرجو بزعمه نفعه فى الدنيا كما يرجون بما يفعلونه من السحر المتعلق بالكواكب وغيرها مثل الرياسة والمال ثم قال { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون }
____________________
(35/170)
فبين ان الايمان والتقوى هما خير لهما فى الدنيا والآخرة قال تعالى { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } الآية وقال فى قصة يوسف { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } فاخبر ان أجر الآخرة خير للمؤمنين المتقين مما يعطون فى الدنيا من الملك والمال كما أعطي يوسف
وقد أخبر سبحانه بسوء عاقبة من ترك الايمان والتقوى فى غير آية فى الدنيا والآخرة ولهذا قال تعالى { ولا يفلح الساحر حيث أتى } والمفلح الذي ينال المطلوب وينجو من المرهوب فالساحر لا يحصل له ذلك وفى سنن ابى داود عن النبى انه قال ( من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر (
و ( السحر ( محرم بالكتاب والسنة والاجماع وذلك ان النجوم التى من السحر نوعان ( أحدهما ( علمى وهو الاستدلال بحركات النجوم على الحوادث من جنس الاستقسام بالأزلام ( الثانى ( عملي وهو الذى يقولون إنه القوى السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية كطلاسم ونحوها وهذا من ارفع انواع السحر وكلما حرمه الله ورسوله فضرره أعظم من نفعه
____________________
(35/171)
( فالثانى ( وان توهم المتوهم ان فيه تقدمة للمعرفة بالحوادث وان ذلك ينفع فالجهل فى ذلك اضعف ومضرة ذلك اعظم من منفعته ولهذا قد علم الخاصة والعامة بالتجربة والتواتر ان الأحكام التى يحكم بها المنجمون يكون الكذب فيها اضعاف الصدق وهم فى ذلك من أنواع الكهان وقد ثبت فى الصحيح عن النبى انه قيل له ان منا قوما يأتون الكهان فقال ( انهم ليسوا بشيء ( فقالوا يا رسول الله انهم يحدثونا أحيانا بالشيء فيكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تلك الكلمة من الحق يسمعها الجنى يقرها فى أذن وليه ( واخبر ( ان الله اذا قضى بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان حتى اذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وان كل اهل السماء يخبرون اهل السماء التى تليهم حتى ينتهى الخبر إلى السماء الدنيا وهناك مسترقة السمع بعضهم فوق بعض فربما سمع الكلمة قبل ان يدركه الشهاب وربما أدركه الشهاب بعد ان يلقيها ( قال ( فلو اتوا بالأمر على وجهه ولكن يزيدون فى الكلمة مائة كذبة (
وهكذا ( المنجمون ( حتى انى خاطبتهم بدمشق وحضر عندى رؤساؤهم وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التى يعترفون بصحتها قال رئيس منهم والله انا نكذب مائة كذبة حتى نصدق فى كلمة
____________________
(35/172)
وذلك ان مبنى علمهم على ان الحركات العلوية هي السبب فى الحوادث والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب وهذا انما يكون اذا علم السبب التام الذى لا يتخلف عنه حكمه وهؤلاء اكثر ما يعلمون ان علموا جزءا يسيرا من جملة الأسباب الكثيرة ولا يعلمون بقية الأسباب ولا الشروط ولا الموانع مثل من يعلم ان الشمس فى الصيف تعلو الراس حتى يشتد الحر فيريد ان يعلم من هذا مثلا انه حينئذ ان العنب الذى فى الأرض الفلانية يصير زبيبا على ان هناك عنبا وانه ينضج وينشره صاحبه فى الشمس وقت الحر فيتزبب فهذا وان كان يقع كثيرا لكن اخذ هذا من مجرد حرارة الشمس جهل عظيم اذ قد يكون هناك عنب وقد لا يكون وقد يثمر ذلك الشجر ان خدم وقد لا يثمر وقد يؤكل عنبا وقد يعصر وقد يسرق وقد يزبب وامثال ذلك والدلالة
الدالة على فساد هذه الصناعة وتحريمها كثيرة وليس هذا موضعها وقد ثبت فى صحيح مسلم عن النبى انه قال ( من اتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة اربعين يوما ( و ( العراف ( قد قيل انه اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم فى تقدم المعرفة بهذه الطرق ولو قيل انه فى اللغة اسم لبعض هذه الأنواع فسائرها يدخل فيه بطريق العموم المعنوى كما قيل فى اسم الخمر والميسر ونحوهما
____________________
(35/173)
وأما انكار بعض الناس ان يكون شيء من حركات الكواكب وغيرها من الاسباب فهو أيضا قول بلا علم وليس له فى ذلك دليل من الأدلة الشرعية ولاغيرها فان النصوص تدل على خلاف ذلك كما فى الحديث الذى فى السنن عن عائشة رضى الله عنها ( ان النبى نظر إلى القمر فقال ( يا عائشة تعوذى بالله من شر هذا فهذا الغاسق اذا وقب ( وكما تقدم فى حديث الكسوف حيث اخبر ( ان الله يخوف بهما عباده (
وقد تبين أن معنى قول النبى صلى الله عليه وسلم ( لا يخسفان لموت احد ولا لحياته ( أي لا يكون الكسوف معللا بالموت فهو نفى العلة الفاعلة كما فى الحديث الآخر الذى فى صحيح مسلم عن بن عباس عن رجال من الانصار انهم كانوا عند النبى اذ رمى بنجم فاستنار فقال ( ما كنتم تقولون لهذا فى الجاهلية ( فقالوا كنا نقول ولد الليلة عظيم او مات عظيم فقال ( انه لا يرمى بها لموت احد ولا لحياته ولكن الله اذا قضى بالأمر سبح حملة العرش ( وذكر الحديث فى مسترق السمع فنفى النبى أن يكون الرمى بها لأجل انه قد ولد عظيم او مات عظيم بل لأجل الشياطين المسترقين السمع ففى كلا الحديثين من ان موت الناس وحياتهم لا يكون سببا لكسوف الشمس والقمر ولا الرمى بالنجم وإن كان موت بعض الناس قد يقتضى حدوث أمر فى السماوات كما ثبت فى الصحاح ( ان العرش عرش الرحمن اهتز لموت سعد
____________________
(35/174)
بن معاذ ( واما كون الكسوف او غيره قد يكون سببا لحادث فى الأرض من عذاب يقتضى موتا او غيره فهذا قد اثبته الحديث نفسه
وما أخبر به النبى لا ينافى لكون الكسوف له وقت محدود يكون فيه حيث لا يكون كسوف الشمس الا فى اخر الشهر ليلة السرار ولا يكون خسوف القمر الا فى وسط الشهر وليالى الابدار ومن إدعى خلاف ذلك من المتفقهة او العامة فلعدم علمه بالحساب ولهذا يمكن المعرفة بما مضى من الكسوف وما يستقبل كما يمكن المعرفة بما مضى من الأهلة وما يستقبل إذ كل ذلك بحساب كما قال تعالى { وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا } وقال تعالى ( الشمس والقمر بحسبان ( وقال تعالى { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } وقال { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج }
ومن هنا صار بعض العامة اذا رأى المنجم قد اصاب فى خبره عن الكسوف المستقبل يظن ان خبره عن الحوادث من هذا النوع فان هذا جهل اذ الخبر الأول بمنزلة اخباره بان الهلال يطلع اما ليلة الثلاثين واما ليلة إحدى وثلاثين فان هذا امر اجرى الله به العادة لا يخرم ابدا وبمنزلة خبره ان الشمس تغرب آخر النهار وأمثال ذلك فمن عرف منزلة الشمس والقمر ومجاريهما علم ذلك وان كان ذلك علما قليل المنفعة
____________________
(35/175)
فإذا كان الكسوف له اجل مسمى لم يناف ذلك ان يكون عند اجله يجعله الله سببا لما يقضيه من عذاب وغيره لمن يعذب الله فى ذلك الوقت او لغيره ممن ينزل الله به ذلك كما ان تعذيب الله لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة كقوم عاد كانت فى الوقت المناسب وهو آخر الشتاء كما قد ذكر ذلك اهل التفسير وقصص الأنبياء وكان النبى ( اذا رأى مخيلة وهو السحاب الذى يخال فيه المطر اقبل وادبر وتغير وجهه فقالت له عائشة ان الناس اذا رأوا مخيلة استبشروا فقال ( يا عائشة وما يؤمننى قد رأى قوم عاد العذاب عارضا مستقبل أوديتهم فقالوا ( هذا عارض ممطرنا قال الله تعالى { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم } وكذلك الأوقات الذى ينزل الله فيها الرحمة كالعشر الآخرة من رمضان والأول من ذى الحجة وكجوف الليل وغير ذلك هي اوقات محدودة لا تتقدم ولا تتأخر وينزل فيها من الرحمة ما لا ينزل فى غيرها
وقد جاء فى بعض طرق احاديث الكسوف ما رواه بن ماجه وغيره فى قوله ( إنهما لا ينكسفان لموت احد ولا لحياته ولكن الله اذا تجلى لشيء من خلقه خشع له ( وقد طعن فى هذا الحديث ابو حامد ونحوه وردوا ذلك لا من جهة علم الحديث فانهم قليلوا المعرفة به كما كان ابو حامد يقول عن نفسه أنا مزجى البضاعة فى علم الحديث
____________________
(35/176)
ولكن من جهة كونهم اعتقدوا ان سبب الكسوف اذا كان مثلا كون القمر اذا حاذاها منع نورها ان يصل إلى الأرض لم يجز ان يعلل ذلك بالتجلى والتجلى المذكور لا ينافى السبب المذكور فان خشوع الشمس والقمر لله فى هذا الوقت اذا حصل لنوره ما يحصل من انقطاع يرفع تأثيره عن الأرض وحيل بينه وبين محل سلطانه وموضع انتشاره وتأثيره فان الملك المتصرف فى مكان بعيد لو منع ذلك لذل لذلك
وأما قوله تعالى { فالمدبرات أمرا } فالمدبرات هي الملائكة واما اقسام الله بالنجوم كما اقسم بها فى قوله { فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس } فهو كاقسامه بغير ذلك من مخلوقاته كما اقسم بالليل والنهار والشمس والقمر وغير ذلك يقتضى تعظيم قدر المقسم به والتنبيه على ما فيه من الآيات والعبرة والمنفعة للناس والانعام عليهم وغير ذلك ولا يوجب ذلك ان تتعلق القلوب به او يظن انه هو المسعد المنحس كما لا يظن ذلك فى { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى } وفى { والذاريات ذروا فالحاملات وقرا } وفى ( والطور وكتاب مسطور (
وأمثال ذلك وإعتقاد المعتقد ان نجما من النجوم السبعة هو المتولى لسعده ونحسه اعتقاده فاسد وان المعتقد انه هو المدبر له فهو كافر وكذلك ان انضم إلى ذلك دعاؤه والاستعانة به كان كفرا وشركا محضا وغاية
____________________
(35/177)
من يقول ذلك ان يبنى ذلك على ان هنا الولد حين ولد بهذا الطالع وهذا القدر يمتنع ان يكون وحده هو المؤثر فى احوال هذا المولود بل غايته ان يكون جزءا يسيرا من جملة الأسباب وهذا القدر لا يوجب ما ذكر بل ما علم حقيقة تأثيره فيه مثل حال الوالدين وحال البلد الذى هو فيه فان ذلك سبب محسوس فى احوال المولود ومع هذا فليس هذا مستقلا
ثم إن الأوائل من هؤلاء المنجمين المشركين الصابئين واتباعهم قد قيل انهم كانوا اذا ولد لهم المولود أخذوا طالع المولود وسموا المولود باسم يدل على ذلك فاذا كبر سئل عن اسمه اخذ السائل حال الطالع فجاء هؤلاء الطرقية يسألون الرجل عن اسمه واسم امه ويزعمون انهم يأخذون من ذلك الدلالة على احواله وهذه ظلمات بعضها فوق بعض منافية للعقل والدين وأما اختياراتهم وهو انهم يأخذون الطالع لما يفعلونه من الأفعال مثل اختياراتهم للسفر ان يكون القمر فى شرفه وهو ( السرطان ( وان لا يكون فى هبوطه وهو ( العقرب ( فهو من هذا الباب المذموم
ولما أراد على بن ابى طالب ان يسافر لقتال الخوارج عرض له منجم فقال يا أمير المؤمنين لا تسافر فإن القمر فى العقرب فانك ان سافرت
____________________
(35/178)
والقمر فى العقرب هزم اصحابك او كما قال فقال على بل أسافر ثقة بالله وتوكلا على الله وتكذيبا لك فسافر فبورك له فى ذلك السفر حتى قتل عامة الخوارج وكان ذلك من أعظم ما سر به حيث كان قتاله لهم بأمر النبى
وأما ما يذكره بعض الناس ان النبى قال ( لا تسافر والقمر فى العقرب ( فكذب مختلق بإتفاق أهل الحديث
وأما قول القائل انها صنعة ادريس
فيقال ( أولا ( هذا قول بلا علم فان مثل هذا لا يعلم الا بالنقل الصحيح ولا سبيل لهذا القائل إلى ذلك ولكن فى كتب هؤلاء ( هرمس الهرامسة ( ويزعمون انه هو ادريس ( والهرمس ( عندهم اسم جنس ولهذا يقولون ( هرمس الهرامسة ( وهذا القدر الذى يذكرونه عن هرمسهم يعلم المؤمن قطعا انه ليس هو مأخوذا عن نبى من الأنبياء على وجهه لما فيه من الكذب والباطل ويقال ( ثانيا ( هذا ان كان اصله مأخوذا عن ادريس فانه كان معجزة له وعلما اعطاه الله اياه فيكون من العلوم النبوية وهؤلاء انما يحتجون بالتجربة والقياس لا بأخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
____________________
(35/179)
ويقال ( ثالثا ( إن كان بعض هذا مأخوذا عن نبي فمن المعلوم قطعا ان فيه من الكذب والباطل أضعاف ماهو مأخوذ من ذلك النبى ومعلوم قطعا ان الكذب والباطل الذى فى ذلك أضعاف الكذب والباطل الذى عند اليهود والنصارى فيما يأثرونه على الانبياء واذا كان اليهود والنصارى قد تيقنا قطعا ان اصل دينهم مأخوذ عن المرسلين وان الله أنزل التوراة والانجيل والزبور كما أنزل القرآن وقد اوجب الله علينا ان نؤمن بما أنزل علينا وما انزل على من قبلنا كما قال تعالى { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } ثم مع ذلك قد اخبرنا الله ان اهل الكتاب حرفوا وبدلوا وكذبوا وكتموا فاذا كانت هذه حال الوحى المحقق والكتب المنزلة يقينا مع انها الينا اقرب عهدا من ادريس ومع ان نقلتها أعظم من نقلة النجوم وابعد عن تعمد الكذب والباطل وأبعد عن الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر فما الظن بهذا القدر ان كان فيه ما هو منقول عن إدريس فانا نعلم أن فيه من الكذب والباطل والتحريف اعظم مما فى علوم اهل الكتاب
وقد ثبت فى صحيح البخارى عن النبى انه قال ( اذا حدثكم اهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا
____________________
(35/180)
{ آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } فاذا كنا مأمورين فيما يحدثنا به أهل الكتاب ان لا نصدق الا بما نعلم انه الحق كما لا نكذب الا بما نعلم انه باطل فكيف يجوز تصديق هؤلاء فيما يزعمون انه منقول عن ادريس عليه السلام وهم فى ذلك ابعد عن علمهم المصدق من اهل الكتاب
ويقال ( رابعا ( لا ريب ان النجوم ( نوعان ( حساب واحكام فاما الحساب فهو معرفة اقدار الافلاك والكواكب وصفاتها ومقادير حركاتها وما يتبع ذلك فهذا فى الاصل علم صحيح لا ريب فيه كمعرفة الارض وصفتها ونحو ذلك لكن جمهور التدقيق منه كثير التعب قليل الفائدة كالعالم مثلا بمقادير الدقائق والثوانى والثوالث فى حركات السبعة المتحيرة ( الخنس الجوار الكنس ) فان كان اصل هذا مأخوذا عن ادريس فهذا ممكن والله اعلم بحقيقة ذلك كما يقول ناس ان اصل الطب ماخوذ عن بعض الانبياء
وأما الاحكام التى هي من جنس السحر فمن الممتنع ان يكون نبي من الانبياء كان ساحرا وهم يذكرون انواعا من السحر ويقولون هذا يصلح لعمل النواميس أي ( الشرائع والسنن ( ومنها ما هو دعاية الكواكب وعبادة لها وانواع من الشرك الذى يعلم كل من آمن بالله ورسوله بالاضطرار ان نبيا من الانبياء لا يأمر بذلك
____________________
(35/181)
ولا علمه واضافة ذلك إلى بعض الانبياء كإضافة من اضاف ذلك إلى سليمان عليه السلام لما سخر الله له الجن والانس والطير فزعم قوم ان ذلك كان بانواع من السحر حتى ان طوائف من اليهود والنصارى لا يجعلونه نبيا حكيما فنزهه الله عن ذلك فقال تعالى { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } الآية وكذلك ايضا الاستدلال على الحوادث بما يستدلون به من الحركات العلوية والاختيارات للاعمال هذا كله يعلم قطعا ان نبيا من الانبياء لم يؤمر قط بهذا اذ فيه من الكذب والباطل ما ينزه عنه العقلاء الذين هم دون الانبياء بكثير وما فيه من الحق فهو شبيه بما قال امام هؤلاء ومعلمهم الثانى ( أبو نصر الفارابى ( قال ما مضمونه انك لو قلبت اوضاع المنجمين فجعلت مكان السعد نحسا ومكان النحس سعدا او مكان الحار باردا او مكان البارد حارا او مكان المذكر مؤنثا او مكان المؤنث مذكرا وحكمت لكان حكمك من جنس أحكامهم يصيب تارة ويخطئ اخرى وما كان بهذه المثابة فهم ينزهون عنه بقراط وافلاطون وارسطو واصحابه الفلاسفة المشائين الذين يوجد فى كلامهم من الباطل والضلال نظير ما يوجد فى كلام اليهود والنصارى فاذا كانوا ينزهون عنه هؤلاء الصابئين وأنبياءهم الذين اقل نسبة وابعد عن معرفة الحق من اليهود والنصارى فكيف يجوز نسبته إلى نبي كريم
____________________
(35/182)
ونحن نعلم من احوال أئمتنا انه قد اضيف إلى جعفر الصادق وليس هو بنبي من الانبياء من جنس هذه الامور ما يعلم كل عالم بحال جعفر رضى الله عنه ان ذلك كذب عليه فان الكذب عليه من اعظم الكذب حتى نسب إليه احكام ( الحركات السفلية ( كاختلاج الاعضاء وحوادث الجو من الرعد والبرق والهالة وقوس الله الذى يقال له ( قوس قزح ( وامثال ذلك والعلماء يعلمون انه بريء من ذلك كله وكذلك نسب إليه ( الجدول ( الذي بنى عليه الضلال طائفة من الرافضة وهو كذب مفتعل عليه افتعله عليه عبد الله بن معاوية أحد المشهورين بالكذب مع رياسته وعظمته عند اتباعه
وكذلك أضيف إليه كتاب ( الجفر والبطاقة والهفت ( وكل ذلك كذب عليه باتفاق اهل العلم به حتى اضيف إليه ( رسائل إخوان الصفا ( وهذا فى غاية الجهل فان هذه الرسائل انما وضعت بعد موته باكثر من مائتي سنة فانه توفى سنة ثمان واربعين ومائة وهذه الرسائل وضعت فى دولة بنى بويه فى أثناء المائة الرابعة فى أوائل دولة بنى عبيد الذين بنوا القاهرة وضعها جماعة وزعموا أنهم جمعوا بها بين الشريعة والفلسفة فضلوا
وأضلوا وأصحاب ( جعفر الصادق ( الذين اخذوا عنه العلم كمالك بن انس وسفيان بن عيينة وأمثالهما من الائمة أئمة الاسلام براء من هذه الاكاذيب
____________________
(35/183)
وكذلك كثير ما يذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمى في ( كتاب حقائق التفسير ( عن جعفر من الكذب الذي لا يشك فى كذبه احد من اهل المعرفة بذلك وكذلك كثير من المذاهب الباطلة التى يحكيها عنه الرافضة وهى من أبين الكذب عليه وليس فى فرق الامة أكثر كذبا وإختلافا من ( الرافضة ( من حين نبغوا
فأول من ابتدع الرفض كان منافقا زنديقا يقال له ( عبد الله بن سبأ ( فأراد بذلك افساد دين المسلمين كما فعل ( بولص ( صاحب الرسائل التى بأيدى النصارى حيث ابتدع لهم بدعا افسد بها دينهم وكان يهوديا فاظهر النصرانية نفاقا فقصد إفسادها وكذلك كان ( بن سبأ ( يهوديا فقصد ذلك وسعى فى الفتنة لقصد افساد الملة فلم يتمكن من ذلك لكن حصل بين المؤمنين تحريش وفتنة قتل فيها عثمان رضي الله عنه وجرى ما جرى من الفتنة ولم يجمع الله ولله الحمد هذه الامة على ضلالة بل لا يزال فيها طائفة قائمة بالحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة كما شهدت بذلك النصوص المستفيضة فى الصحاح عن النبى
ولما أحدثت البدع الشيعية فى خلافة أمير المؤمنين على بن ابى طالب رضي الله عنه ردها وكانت ( ثلاثة طوائف ( غالية وسبابة ومفضلة
____________________
(35/184)
فأما ( الغالية ( فإنه حرقهم بالنار فانه خرج ذات يوم من باب كندة فسجد له أقوام فقال ما هذا فقالوا انت هو الله فاستتابهم ثلاثا فلم يرجعوا فامر فى الثالث باخاديد فخدت واضرم فيها النار ثم قذفهم فيها وقال ** لما رأيت الأمر أمرا منكرا ** أججت نارى ودعوت قنبرا **
وفى صحيح البخارى ان عليا اتى بزنادقتهم فحرقهم وبلغ ذلك بن عباس فقال اما انا فلو كنت لم احرقهم لنهي النبى ان يعذب بعذاب الله ولضربت اعناقهم لقول النبى ( من بدل دينه فاقتلوه (
وأما ( السبابة ( فانه لما بلغه من سب ابا بكر وعمر طلب قتله فهرب منه إلى قرقيسيا وكلمه فيه وكان علي يدارى أمراءه لانه لم يكن متمكنا ولم يكونوا يطيعونه فى كل ما يأمرهم به وأما ( المفضلة ( فقال لا أوتى باحد يفضلنى على ابى بكر وعمر الا جلدته حد المفترين وروي عنه من أكثر من ثمانين وجها انه قال خير هذه الامة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وفى صحيح البخارى عن محمد بن الحنفية انه قال لابيه يا ابت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه
____________________
(35/185)
وسلم فقال يا بنى او ما تعرف قال لا قال ابو بكر قال ثم من قال عمر وفى الترمذى وغيره ان عليا روى هذا التفضيل عن النبى
( والمقصود هنا ( انه قد كذب على علي بن ابى طالب من انواع الكذب الذى لا يجوز نسبتها إلى اقل المؤمنين حتى اضافت إليه القرامطة والباطنية والخرمية والمزدكية والاسماعيلية والنصيرية مذاهبها التى هي من أفسد مذاهب العالمين وادعوا ان ذلك من العلوم الموروثة عنه وهذا كله انما احدثه المنافقون الزنادقة الذين قصدوا اظهار ما عليه المؤمنون وهم يبطنون خلاف ذلك واستتبعوا الطوائف الخارجة عن الشرائع وكان لهم دول وجرى على المؤمنين منهم فتن حتى قال ( بن سينا ( انما اشتغلت فى علوم الفلاسفة لان ابى كان من اهل دعوة المصريين يعنى من بنى عبيد الرافضة القرامطة فانهم كانوا ينتحلون هذه العلوم الفلسفية ولهذا تجد بين هؤلاء وبين الرافضة ونحوهم من البعد عن معرفة النبوات اتصال وانضمامات يجمعهم فيه الجهل الصميم بالصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
فإذا كان فى الزمان الذى هو اقل من سبعمائة سنة قد كذب على اهل بيته واصحابه وغيرهم واضيف اليهم من مذاهب الفلاسفة والمنجمين ما يعلم
____________________
(35/186)
كل عاقل براءتهم منه ونفق ذلك على طوائف كثيرة منتسبة إلى هذه الملة مع وجود من يبين كذب هؤلاء وينهى عن ذلك ويذب عن الملة بالقلب واليد واللسان فكيف الظن بما يضاف إلى ( ادريس ( وغيره من الانبياء من امور النجوم والفلسفة مع تطاول الزمان وتنوع الحدثان واختلاف الملك والملل والاديان وعدم من يبين حقيقة ذلك من حجة وبرهان واشتمال ذلك على مالا يحصى من الكذب والبهتان
وكذلك دعوى المدعى ان نجم النبى كان بالعقرب والمريخ وامته بالزهرة وامثال ذلك هو من أوضح الهذيان المباينة لاحوال النبى لما يدعونه من هذه الاحكام فان من اوضح الكذب قولهم ان نجم المسلمين بالزهرة ونجم النصارى بالمشترى مع قولهم ان المشترى يقتضى العلم والدين والزهرة تقتضى اللهو واللعب
وكل عاقل يعلم ان النصارى اعظم الملل جهلا وضلالة وابعدهم عن معرفة المعقول والمنقول واكثر اشتغالا بالملاهى وتعبدا بها
والفلاسفة متفقون كلهم على انه ما قرع العالم ناموس اعظم من الناموس الذى جاء به محمد وامته اكمل عقلا ودينا وعلما باتفاق الفلاسفة حتى فلاسفة اليهود والنصارى فانهم لا يرتابون فى ان المسلمين افضل عقلا ودينا
____________________
(35/187)
وإنما يمكث احدهم على دينه أما اتباعا لهواه ورعاية لمصلحة دنياه فى زعمه وإما ظنا منه انه يجوز التمسك بأى ملة كانت وان الملل شبيهة بالمذاهب الإسلامية فان جمهور الفلاسفة والمنجمين وامثالهم يقولون بهذا ويجعلون الملل بمنزلة الدول الصالحة وان كان بعضها افضل من بعض
وأما الكتب السماوية المتواترة عن الانبياء عليهم الصلاة والسلام فناطقة بان الله لا يقبل من احد دينا سوى الحنيفية وهي الاسلام العام عبادة الله وحده لا شريك له والايمان بكتبه ورسله واليوم الاخر كما قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وبذلك اخبرنا عن الانبياء المتقدمين واممهم قال نوح { فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال فى ابراهيم { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال موسى { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقال { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وقالت بلقيس { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقال فى
____________________
(35/188)
الحواريين { أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } وقد قال مطلقا { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام } وقال { قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }
فاذا كان المسلمون باتفاق كل ذى عقل اولى اهل الملل بالعلم والعقل والعدل وامثال ذلك مما يناسب عندهم آثار المشترى والنصارى ابعد عن ذلك واولى باللهو واللعب وما يناسب عندهم آثار الزهرة كان ما ذكروه ظاهر الفساد
ولهذا لا تزال احكامهم كاذبة متهافتة حتى ان كبير الفلاسفة الذى يسمونه ( فيلسوف الاسلام ( يعقوب بن إسحاق الكندى عمل تسييرا لهذه الملة زعم انها تنقضى عام ثلاث وتسعين وستمائة واخذ ذلك منه من اخرج ( مخرج الاستخراج ( من حروف كلام ظهر فى الكشف لبعض من اعاده ووافقهم على ذلك من زعم انه استخرج بقاء هذه الملة من حساب الجمل الذى للحروف التى فى
____________________
(35/189)
اوائل السور وهى مع حذف التكرير اربعة عشر حرفا وحسابها فى الجملة الكثير ستمائة وثلاثة وتسعون ومن هذا ايضا ما ذكر فى التفسير ان الله لما أنزل { الم } قال بعض اليهود بقاء هذه الملة احدى وثلاثون فلما آنزل بعد ذلك { الر } و { الم } قالوا خلط علينا
فهذه الامور التى توجد فى ضلال اليهود والنصارى وضلال المشركين والصابئين من المتفلسفة والمنجمين مشتملة من هذا الباطل على مالا يعلمه الا الله تعالى
وهذه الأمور واشباهها خارجة عن دين الاسلام محرمة فيه فيجب انكارها والنهي عنها على المسلمين على كل قادر بالعلم والبيان واليد واللسان فان ذلك من اعظم ما اوجبه الله من الامر بالمعروف والنهى عن المنكر وهؤلاء واشباههم اعداء الرسل وسوس الملل
ولا ينفق الباطل فى الوجود الا بشوب من الحق كما ان اهل الكتاب لبسوا الحق بالباطل بسبب الحق اليسير الذى معهم يضلون خلقا كثيرا عن الحق الذى يجب الايمان به ويدعونه إلى الباطل الكثير الذي هم عليه وكثيرا ما يعارضهم من اهل الاسلام من لا يحسن التمييز بين الحق والباطل ولا يقيم الحجة التى تدحض باطلهم ولا يبين حجة الله التى اقامها برسله فيحصل بسبب ذلك فتنة وقد بسطنا القول فى هذا الباطل ونحوه فى غير هذا الموضع والله أعلم
____________________
(35/190)
وسئل رحمه الله تعالى
ما يقول السادة الفقهاء ائمة الدين رضى الله عنهم أجمعين فى هؤلاء ( المنجمين ( الذين يجلسون على الطرق وفى الحوانيت وغيرها ويجلس عندهم النساء والفساق ايضا بسبب النساء ويزعم هؤلاء المنجمون انهم يخبرون بالامور المغيبة معتمدين فى ذلك على صناعة التنجيم ويكتبون للناس الاوفاق ويسحرون ويكتبون الطلاسم ويعلمون النساء السحر لازواجهم وغيرهم ويجتمع النساء والرجال على ابواب الحوانيت بسبب ذلك وربما آل الامر إلى غير ذلك من افساد النساء على ازواجهن وافساد عقائد الناس وتعلق همجهم بالسحر والكواكب واعراضهم عن الله عز وجل والتوكل عليه فى الحوادث والنوازل فهل يحل ذلك أم لا
وهل صناعة ( التنجيم ( محرمة ام لا وهل يجوز اخذ الاجرة على ذلك وبذلها حرام ام لا وهل يجوز لمن له تعلق بالحانوت من ناظر ومالك ووكيل ان يؤجره من ذلك ام لا وهل الاجرة حرام ام لا وهل يجب على ولي الامر وكل مسلم يقدر على ذلك ازالة ذلك ام لا
____________________
(35/191)
وهل اذا لم يفعل ولى الأمر الانكار عليهم يدخل فى وعيد الحديث الصحيح المروى عن النبى صلى الله عليه وسلم وهو قوله ( ما من وال يسترعيه الله رعية ثم لم يجهد لهم وينصح لهم الا لم يدخل معهم الجنة (
وإذا انكر ولى الأمر هذا المنكر يدخل فى قوله تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } وهل يثاب على ذلك الثواب الجزيل اذا انكره ام لا وان رأوا ان يذكروا ما حضرهم من الأحاديث الوعيدية فى ذلك مأجورين ان شاء الله تعالى
فأجاب الحمد لله رب العالمين لا يحل شيء من ذلك ( وصناعة التنجيم ( التى مضمونها الأحكام والتأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضيه بالأحوال الفلكية والتمزيج بين القوى الفلكى والقوابل الأرضية صناعة محرمة بالكتاب والسنة واجماع الأمة بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين فى جميع الملل قال الله تعالى { ولا يفلح الساحر حيث أتى } وقال { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } قال عمر وغيره الجبت السحر
وروى ابو داود فى سننه باسناد حسن عن قبيصة بن مخارق عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( العيافة والطرق والطيرة من الجبت ( قال عوف
____________________
(35/192)
راوي الحديث العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط في الأرض وقيل بالعكس فاذا كان الخط ونحوه الذى هو من فروع النجامة من الجبت فكيف بالنجامة ( وذلك أنهم يولدون الأشكال فى الأرض لأن ذلك متولد من اشكال الفلك
وروى أحمد وأبو داود وبن ماجه وغيرهم باسناد صحيح عن إبن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ( فقد صرح رسول الله بان علم النجوم من السحر وقد قال الله تعالى { ولا يفلح الساحر حيث أتى } وهكذا الواقع فإن الاستقراء يدل على ان اهل النجوم لا يفلحون لا فى الدنيا ولا فى الآخرة
وروى احمد ومسلم فى الصحيح عن صفية بنت عبيد عن بعض ازواج النبى عن النبى انه قال ( من اتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة اربعين يوما ( والمنجم يدخل فى اسم العراف عند بعض العلماء وعند بعضهم هو فى معناه فاذا كانت هذه حال السائل فكيف بالمسئول
وروى ايضا فى صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمى قال قلت يا رسول الله ان قوما منا يأتون الكهان قال ( فلا تأتوهم ( فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن اتيان الكهان والمنجم يدخل فى اسم الكاهن عند الخطابى
____________________
(35/193)
وغيره من العلماء وحكى ذلك عن العرب وعند آخرين هو من جنس الكاهن واسوأ حالا منه فلحق به من جهة المعنى
وفى الصحيح عنه انه قال ( ثمن الكلب خبيث ومهر البغى خبيث وحلوان الكاهن خبيث ( وحلوانه الذى تسميه العامة ( حلاوته ( ويدخل فى هذا المعنى ما يعطيه المنجم وصاحب الأزلام التى يستقسم بها مثل الخشبة المكتوب عليها أ ب ج د والضارب بالحصى ونحوهم فما يعطى هؤلاء حرام وقد حكى الاجماع على تحريمه غير واحد من العلماء كالبغوى والقاضى عياض وغيرهما
وفى الصحيحين عن زيد بن خالد قال خطبنا رسول الله بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فقال ( اتدرون ماذا قال ربكم الليلة ( قلنا الله ورسوله أعلم قال ( اصبح من عبادى مؤمن بى وكافر بى فمن قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى وكافر بالكواكب ( وفى صحيح مسلم عن ابى هريرة عن النبى قال ( ما انزل الله من السماء من بركة الا اصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل الله الغيث ويقولون بكوكب كذا وكذا ( وفى صحيح مسلم عنه انه قال ( اربع فى امتى من امر الجاهلية الفخر بالأحساب والطعن فى الأنساب والنياحة والاستسقاء بالأنواء ( وفيه عن إبن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم ( وتجعلون رزقكم انكم تكذبون ( قال هو الاستسقاء بالأنواء أو كما قال
____________________
(35/194)
والنصوص عن النبى واصحابه وسائر الأئمة بالنهى عن ذلك اكثر من ان يتسع هذا الموضع لذكرها وقد تبين بما ذكرناه ان الأجرة المأخوذه على ذلك والهبة والكرامة حرام على الدافع والآخذ وأنه يحرم على الملاك والنظار والوكلاء إكراء الحوانيت المملوكة او الموقوفة او غيرها من هؤلاء الكفار والفساق بهذه المنفعة اذا غلب على ظنهم انهم يفعلون فيها هذا الجبت الملعون
ويجب على ولى الأمر وكل قادر السعى فى ازالة ذلك ومنعهم من الجلوس فى الحوانيت او الطرقات أو دخولهم على الناس فى منازلهم لذلك وان لم يفعل ذلك فيكفيه قوله تعالى { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } وقوله سبحانه وتعالى { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت } فان هؤلاء الملاعين يقولون الاثم ويأكلون السحت باجماع المسلمين وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم برواية الصديق عنه انه قال ( ان الناس اذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك ان يعمهم الله بعقاب منه ( واى منكر انكر من عمل هؤلاء الأخابث سوس الملك واعداء الرسل وافراخ الصابئة عباد الكواكب فهل كانت بعثة الخليل صلاة الله وسلامه عليه امام الحنفاء الا إلى سلف هؤلاء فان نمرود بن كنعان كان ملك هؤلاء وعلماء الصابئة هم المنجمون ونحوهم وهل عبدت الأوثان فى غالب الأمر الا عن رأى هذا الصنف الخبيث الذين يأكلون اموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله
____________________
(35/195)
ومن استقووه ممن ينتسب إلى التدين بكتاب فانه الخليق بأن يأخذ بنصيب من قوله { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }
وهكذا قد اعترف رؤساء المنجمين من الأولين والآخرين ان اهل الايمان اهل العبادات والدعوات يرفع الله عنهم ببركة عباداتهم ودعائهم وتوكلهم على الله ما يزعم المنجمون ان الأفلاك توجبه ويعترفون ايضا بأن أهل العبادات والدعوات ذوى التوكل على الله يعطون من ثواب الدنيا والآخرة ما ليس فى قوى الأفلاك ان تجلبه فالحمد لله الذى جعل خير الدنيا والآخرة فى اتباع المرسلين وجعل خير امة هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقال تعالى { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم }
____________________
(35/196)
والله يؤيد ويعين على الدين واتباع سبيل المؤمنين والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم وسئل رحمه الله تعالى
عن صناعة ( التنجيم ( والاستدلال بها على الحوادث هل هو حلال ام حرام يحل اخذ الأجرة وبذلها ام لا وهل يجب على ولى الأمر منعهم وازالتهم من الجلوس فى الدكاكين
فأجاب بل ذلك محرم بإجماع المسلمين واخذ الأجرة على ذلك ومنعهم من الجلوس فى الحوانيت والطرقات ومنع الناس من ان يكروهم والقيام فى ذلك من افضل الجهاد فى سبيل الله والله أعلم وسئل رحمه الله
عمن قال لشريف يا كلب يا بن الكلب لا تمد يدك إلى حوض الحمام فقيل له إنه شريف فقال لعنه الله ولعن من شرفه فقيل له أين عقلك هذا شريف فقال كلب بن كلب فقام إليه وضربه فهل يجب قتله أم لا وشهد عليه بذلك عدو له
____________________
(35/197)
فأجاب لا تقبل شهادة العدو على عدوه ولو كان عدلا وليس هذا الكلام بمجرده من باب السب الذى يقتل صاحبه بل يستفسر عن قوله من شرفه فإن ثبت بتفسيره أو بقرائن حالية أو لفظية أنه أراد لعن النبى وجب قتله
وإن لم يثبت ذلك أو ثبت بقرائن حالية أو لفظية أنه أراد غير النبى صلى الله عليه وسلم مثل أن يريد لعن من يعظمه أو يبجله أو لعن من يعتقده شريفا لم يكن ذلك موجبا للقتل بإتفاق العلماء لا يظن بالذى ليس بزنديق أنه يقصد لعن النبى فمن عرف من حاله أنه مؤمن ليس بزنديق كان ذلك دليلا على أنه لم يرد النبى صلى الله عليه وسلم ولا يجب قتل مسلم بسب أحد من الإشراف بإتفاق العلماءإنما يقتل من سب الأنبياء وفيمن سب الصحابة تفصيل ونزاع بين العلماء
ولكن من ثبت عليه أنه إعتدى بقوله أو فعله على شريف أو غيره عوقب على عدوانه إما بالقصاص بما يكون فيه المماثلة وإما التعزير بما يمنعه من العدوان وإما بحد القذف أن كان العدوان قذفا يوجب الحد
وتجب عقوبة المعتدين أيضا وإن كان شريفا فقد ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذى
____________________
(35/198)
نفس محمد بيده لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ( وما يشرع فيه القصاص فى الدماء والأموال وغيرها ولا فرق فيه بين الشريف وغيره قال النبى ( المسلمون تتكافأ دمائهم ويسعى بذمتهم أدناهم الحديث والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل أراد أن يشتكى على رجل فشفع فيه جماعة فقال لو جاءنى محمد بن عبد الله فيه ما قبلت فقالوا كفرت إستغفر الله من قولك فقال ما أقول
فأجاب رحمه الله تعالى أما قول الرجل لو جاءنى محمد بن عبد الله إذا ثبت عليه هذا الكلام فإنه يقتل على ذلك ولو تاب بعد رفعه إلى الإمام لم يسقط عنه القتل فى أظهر قولى العلماء ولكن إن تاب قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه القتل فى أظهر القولين وإن عزر بعد التوبة كان سائغا
____________________
(35/199)
وسئل رحمه الله
عن رجل لعن اليهود ولعن دينه وسب التوراة فهل يجوز لمسلم أن يسب كتابهم أم لا فأجاب الحمد لله ليس لأحد أن يلعن التوراة بل من أطلق لعن التوراة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله وأنه يجب الإيمان بها فهذا يقتل بشتمه لها ولا تقبل توبته فى أظهر قولى العلماء
وأما إن لعن دين اليهود الذى هم عليه فى هذا الزمان فلا بأس به فى ذلك فإنهم ملعونون هم ودينهم وكذلك أن سب التوراة التى عندهم بما يبين أن قصده ذكر تحريفها مثل أن يقال نسخ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله والله أعلم
____________________
(35/200)
وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة فأجاب الحمد لله كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد فهو خير من كل من كفر به وإن كان فى المؤمن بذلك نوع من البدعة سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم فإن اليهود والنصارى كفار كفرا معلوما بالإضطرار من دين الإسلام
والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول لا مخالف له لم يكن كافرا به ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول
وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ( وقال آخر إذا سلك الطريق الحميدة وإتبع الشرع دخل ضمن هذا الحديث وإذا فعل غير ذلك ولم يبال ما نقص من دينه
____________________
(35/201)
وزاد فى دنياه لم يدخل فى ضمن هذا الحديث قال له ناقل الحديث أنا لو فعلت كل ما لا يليق وقلت لا إله إلا الله دخلت الجنة ولم أدخل النار
فأجاب رحمه الله الحمد لله رب العالمين من إعتقد أنه بمجرد تلفظ الإنسان بهذه الكلمة يدخل الجنة ولا يدخل النار بحال فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين فإنه قد تلفظ بها المنافقون الذين هم فى الدرك الأسفل من النار وهم كثيرون بل المنافقون قد يصومون ويصلون ويتصدقون ولكن لا يتقبل منهم قال الله تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } وقال تعالى { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } وقال تعالى { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } وقال تعالى { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } إلى قوله { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا }
وفى الصحيحين عن النبى أنه قال ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ( ولمسلم ( وإن
____________________
(35/202)
صلى وصام وزعم أنه مسلم ( وفى الصحيحين عنه أنه قال ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر (
ولكن إن قال لا إله إلا الله خالصا صادقا من قلبه ومات على ذلك فإنه لا يخلد فى النار إذ لا يخلد فى النار من فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان كما صحت بذلك الأحاديث عن النبى لكن من دخلها من ( فساق أهل القبلة ( من أهل السرقة والزنا وشرب الخمر وشهادة الزور وأكل الربا وأكل مال اليتيم وغير هؤلاء فإنهم إذا عذبوا فيها عذبهم على قدر ذنوبهم كما جاء فى الأحاديث الصحيحة ( منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حقويه ومكثوا فيها ما شاء الله أن يمكثوا أخرجوا بعد ذلك كالحمم فيلقون فى نهر يقال له الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة فى حميل السيل ويدخلون الجنة مكتوب على رقابهم هؤلاء الجهنميون عتقاء الله من النار ( وتفصيل هذه المسألة فى غير هذا الموضع والله أعلم
____________________
(35/203)
وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل حبس خصما له عليه دين بحكم الشرع فحضر إليه رجل يشفع فيه فلم يقبل شفاعته فتخاصما بسبب ذلك فشهد الشافع على الرجل لأنه صدر منه كلام يقتضى الكفر وخاف الرجل غائلة ذلك فأحضر إلى حاكم شافعى وادعى عليه رجل من المسلمين بأنه تلفظ بما قيل عنه وسأل حكم الشرع فى ذلك فقال الحاكم للخصم عن ذلك فلم يعترف فلقن أن يعترف ليتم له الحكم بصحة إسلامه وحقن دمه فإعترف بأن ذلك صدر منه جاهلا بما يترتب عليه ثم أسلم ونطق بالشهادتين وتاب وإستغفر الله تعالى ثم سأل الحاكم المذكور أن يحكم له بإسلامه وحقن دمه وتوبته وبقاء ماله عليه فأجابه إلى سؤاله وحكم بإسلامه وحقن دمه وبقاء ماله عليه وقبول توبته وعزره تعزير مثله وحكم بسقوط تعزير ثان عنه وقضى بموجب ذلك كله ثم نفذ ذلك حاكم آخر حنفى فهل الحكم المذكور صحيح فى جميع ما حكم له به أم لا وهل يفتقر حكم الشافعى إلى حضور خصم من جهة بيت المال أم لا وهل لأحد أن يتعرض بما صدر منه من أخذ ماله أو شيء منه بعد إسلامه أم لا وهل يحل لحاكم آخر بعد الحكم
____________________
(35/204)
والتنفيذ المذكورين أن يحكم فى ماله بخلاف الحكم الأول وتنفيذه أم لا وهل يثاب ولي الأمر على منع من يتعرض إليه بأخذ ماله أو شيء منه بما ذكر أم لا
فأجاب الحمد لله نعم الحكم المذكور صحيح وكذلك تنفيذه وليس لبيت المال فى مال مثل هذا حق بإتفاق المسلمين
ولا يفتقر الحكم بإسلامه وعصمة ماله إلى حضور خصم من جهة بيت المال فإن ذلك لا يتوقف على الحكم إذ الأئمة متفقون على أن المرتد إذا أسلم عصم بإسلامه دمه وماله وإن لم يحكم بذلك حاكم ولا كلام لولى بيت المال فى مال من اسلم بعد ردته
بل مذهب الشافعى وأبى حنيفة واحمد أيضا فى المشهور عنه أن من شهدت عليه بينة بالردة فانكر وتشهد الشهادتين المعتبرتين حكم باسلامه ولا يحتاج أن يقر بما شهد به عليه فكيف إذا لم يشهد عليه عدل فانه من هذه الصورة لا يفتقر الحكم بعصمة دمه وماله إلى اقراره باتفاق المسلمين
ولا يحتاج عصمه دم مثل هذا إلى أن يقر ثم يسلم بعد اخراجه إلى ذلك فقد يكون فيه الزام له بالكذب على نفسه انه كفر ولهذا لا يجوز ان يبنى على مثل هذا الاقرار حكم الاقرار الصحيح فانه قد علم انه لقن الاقرار وانه مكره عليه فى المعنى فانه انما فعله
____________________
(35/205)
خوف القتل ولو قدر ان كفر المرتد كفر سب فليس فى الحكام بمذهب الأئمة الأربعة من يحكم بأن ماله لبيت المال بعد اسلامه انما يحكم من يحكم بقتله لكونه يقتل حدا عندهم على المشهور ومن قال يقتل لزندقته فان مذهبه انه لا يؤخذ بمثل هذا الاقرار
وأيضا فمال الزنديق عند اكثر من قال بذلك لورثته من المسلمين فان المنافقين الذين كانوا على عهد النبى كانوا اذا ماتوا ورثهم المسلمون مع الجزم بنفاقهم كعبد الله بن ابى وامثاله ممن ورثهم ورثتهم الذين يعلمون بنفاقهم ولم يتوارث احد من الصحابة غير الميراث منافق والمنافق هو الزنديق فى إصطلاح الفقهاء الذين تكلموا فى توبة الزنديق
وايضا فحكم الحاكم اذا نفذ فى دمه الذى قد يكون فيه نزاع نفذ فى ماله بطريق الأولى اذ ليس فى الأمة من يقول يؤخذ ماله ولا يباح دمه فلو قيل بهذا كان خلاف الاجماع فاذا لم يتوقف الحكم بعصمة دمه على دعوى من جهة ولى الأمر فماله
اولى وقد تبين ان الحكم بمال مثل هذا لبيت المال غير ممكن من وجوه ( أحدها ( انه لم يثبت عليه ما يبيح دمه لا ببينة ولا باقرار متعين
____________________
(35/206)
ولكن باقرار قصد به عصمة ماله ودمه من جنس الدعوى على الخصم المسخر الثاني ( ان الحكم بعصمة دمه وماله واجب فى مذهب الشافعى والجمهور وان لم يقر بل هو واجب بالاجماع مع عدم البينة والاقرار ( الثالث ( ان الحكم صحيح بلا ريب ( الرابع ( انه لو كان حكم مجتهد فيه لزال ذلك بتنفيذ المنفذ له ( الخامس ( انه ليس فى الحكام من يحكم بمال هذا لبيت المال ولو ثبت عليه الكفر ثم الاسلام ولو كان الكفر سبا فكيف اذا لم يثبت عليه ام كيف اذا حكم بعصمة ماله بل مذهب مالك واحمد الذى يستند اليها فى مثل هذه من ابعد المذاهب عن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال لأن مثل هذا الاقرار عندهم اقرار تلجئة لا يلتفت إليه ولما عرف من مذهبهما فى الساب والله أعلم
____________________
(35/207)
= كتاب الأطعمة
سئل شيخ الاسلام قدس الله روحه
عن أكل لحوم الخيل هل هي حلال فأجاب الحمد لله هي حلال عند جمهور العلماء كالشافعى واحمد وصاحبى ابى حنيفة وعامة فقهاء الحديث وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى ( حرم عام خيبر لحوم الحمر واباح لحوم الخيل ( وقد ثبت ( أنهم نحروا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا واكل لحمه (
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
عن بغل تولد من حمار وحش وفرس هل يؤكل ام لا
فأجاب اذا تولد البغل بين فرس وحمار وحش او بين اتان وحصان جاز اكله وهكذا كل متولد بين اصلين مباحين
وإنما حرم ما تولد من بين حلال وحرام ( كالبغل ( الذى احد ابويه حمار اهلى وكالسبع ( المتولد بين الضبع والذئب ( والاسبار ( المتولد من بين الذئب والضبعان والله أعلم
____________________
(35/208)
وسئل رحمه الله تعالى
عن نعجة ولدت خروفا نصفه كلب ونصفه خروف وهو نصفان بالطول هل يحل اكله او تحل ناحية الخروف
فأجاب الحمد لله لا يؤكل من ذلك شيء فإنه متولد من حلال وحرام وان كان مميزا لأن الأكل لا يكون الا بعد التذكية ولا يصح تذكية مثل هذا لأجل الاختلاط والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى
عن عنز لرجل ولدت عناقا وماتت العنزة فأرضعت امرأته العناق فهل يجوز اكل لحمها او شرب لبنها ام لا
فأجاب الحمد لله نعم يجوز له ذلك
____________________
(35/209)
وسئل رحمه الله
هل يجوز شرب ( الاقسما (
فأجاب الحمد لله اذا كانت من زبيب فقط فانه يباح شربه ثلاثة ايام اذا لم يشتد باتفاق العلماء اما ان كان من خليطين يفسد احدهما الآخر مثل الزبيب والبسر او بقى اكثر من الثلاث فهذا فيه نزاع وان وضع فيه ما يحمضه كالخل ونحوه وماء الليمون كما يوضع فى الفقاع المشذب فهذا يجوز شربه مطلقا فان حموضته تمنعه أن يشتد فكل هذه الأشربة اذا حمضت ولم تصر مسكرة يجوز شربها
وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل نزل عند قوم ولم يكن معه ما يأكل هو ولا دابته وامتنع القوم ان يبيعوه وان يضيفوه فحصل له ضرر ولدابته فهل له ان يأخذ منهم ما يكفيه بغير اختيارهم
____________________
(35/210)
فأجاب اذا اضطر هو ودابته وعندهم مال يطعمونه ولم يطعموه فله ان يأخذ كفايته بغير اختيارهم ويعطيهم ثمن المثل وان كان فى سفر وجب عليهم ان يضيفوه ان كانوا قادرين على ضيافته فان لم يضيفوه اخذ ضيافته بغير اختيارهم ولا شيء عليه قال النبى ( حق الضيف واجب على كل مسلم ( وقال ( أيما رجل نزل بقوم فعليهم أن يقروه فان لم يقروه فله ان يعاقبهم بمثل قراه من زرعهم ومالهم ( وقال ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة ايام وما كان بعد ذلك فهو صدقة ( والله أعلم
____________________
(35/211)
& باب الذكاة &
سئل شيخ الاسلام قدس الله روحه
عن جماعة من المسلمين اشتد نكيرهم على من أكل ذبيحة يهودى أو نصرانى مطلقا ولا يدرى ما حالهم هل دخلوا فى دينهم قبل نسخه وتحريفه وقبل مبعث النبى أم بعد ذلك بل يتناكحون وتقر مناكحتهم عند جميع الناس وهم أهل ذمة يؤدون الجزية ولا يعرف من هم ولا من أباؤهم فهل للمنكرين عليهم منعهم من الذبح للمسلمين أم لهم الأكل من ذبائحهم كسائر بلاد المسلمين
فأجاب رضى الله عنه ليس لأحد أن ينكر على أحد أكل من ذبيحة اليهود والنصارى فى هذا الزمان ولا يحرم ذبحهم للمسلمين ومن أنكر ذلك فهو جاهل مخطئ مخالف لاجماع المسلمين فان أصل هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين
ومسائل الاجتهاد لايسوغ فيها الانكار الا ببيان الحجة وايضاح المحجة لا الانكار المجرد المستند إلى
____________________
(35/212)
محض التقليد فان هذا فعل أهل الجهل والاهواء كيف والقول بتحريم ذلك فى هذا الزمان وقبله قول ضعيف جدا مخالف لما علم من سنة رسول الله ولما علم من حال أصحابه والتابعين لهم بإحسان وذلك لأن المنكر لهذا لايخرج عن ( قولين (
إما ان يكون ممن يحرم ( ذبائح اهل الكتاب ( مطلقا كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة وهؤلاء يحرمون نكاح نسائهم واكل ذبائحهم وهذا ليس من اقوال احد من أئمة المسلمين المشهورين بالفتيا ولا من اقوال اتباعهم وهو خطأ مخالف للكتاب والسنة والاجماع القديم فان الله تعالى قال فى كتابه { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }
فإن قيل هذه الآية معارضة بقوله ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ( وبقوله تعالى ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر (
قيل الجواب من ثلاثة اوجه ( أحدها ( ان الشرك المطلق فى القرآن لا يدخل فيه اهل الكتاب وانما يدخلون فى الشرك المقيد قال تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين }
____________________
(35/213)
) ( فجعل المشركين قسما غير اهل الكتاب وقال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } فجعلهم قسما غيرهم
فأما دخولهم فى المقيد ففى قوله تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } فوصفهم بأنهم مشركون
وسبب هذا ان اصل دينهم الذى انزل الله به الكتب وأرسل به الرسل ليس فيه شرك كما قال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } ( وقال { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ولكنهم بدلوا وغيروا فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل به الله سلطانا فصار فيهم شرك بإعتبار ما ابتدعوا لا باعتبار اصل الدين وقوله تعالى { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } هو تعريف الكوافر المعروفات اللاتى كن فى عصم المسلمين وأولئك كن مشركات لا كتابيات من اهل مكة ونحوها
____________________
(35/214)
( الوجه الثانى ( إذا قدر ان لفظ { المشركات } و { الكوافر } يعم الكتابيات فآية المائدة خاصة وهى متأخرة نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة باتفاق العلماء كما فى الحديث ( المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ( والخاص المتأخر يقضى على العام المتقدم باتفاق علماء المسلمين لكن الجمهور يقولون انه مفسر له فتبين ان صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام وطائفة يقولون ان ذلك نسخ بعد أن شرع
( الوجه الثالث ( إذا فرضنا النصين خاصين فأحد النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم والآخر احلهما فالنص المحلل لهما هنا يجب تقديمه لوجهين
( أحدهما ( ان سورة المائدة هي المتأخرة باتفاق العلماء فتكون ناسخة للنص المتقدم ولا يقال ان هذا نسخ للحكم مرتين لأن فعل ذلك قبل التحريم لم يكن بخطاب شرعى حلل ذلك بل كان لعدم التحريم بمنزلة شرب الخمر واكل الخنزير ونحو ذلك والتحريم المبتدأ لا يكون نسخا لاستصحاب حكم الفعل ولهذا لم يكن تحريم النبى ( لكل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير ( ناسخا لما دل عليه قوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } الآية من أن الله عز وجل لم يحرم قبل نزول الآية الا هذه الأصناف الثلاثة فان هذه الآية نفت تحريم ما سوى الثلاثة إلى حين نزول هذه الآية ولم يثبت تحليل
____________________
(35/215)
ما سوى ذلك بل كان ما سوى ذلك عفوا لا تحليل فيه ولا تحريم كفعل الصبى والمجنون وكما فى الحديث المعروف ( الحلال ما حلله الله فى كتابه والحرام ما حرمه الله فى كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ( وهذا محفوظ عن سلمان الفارسى موقوفا عليه او مرفوعا إلى النبى
ويدل على ذلك انه قال فى سورة المائدة { اليوم أحل لكم الطيبات } فاخبر انه احلها ذلك اليوم وسورة المائدة مدنية بالاجماع وسورة الأنعام مكية بالاجماع فعلم ان تحليل الطيبات كان بالمدينة لا بمكة وقوله تعالى ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ( إلى آخرها فثبت نكاح الكتابيات وقبل ذلك كان إما عفوا على الصحيح واما محرما ثم نسخ يدل عليه أن آية المائدة لم ينسخها شيء
( الوجه الثانى ( انه قد ثبت حل طعام اهل الكتاب بالكتاب والسنة والاجماع والكلام فى نسائهم كالكلام فى ذبائحهم فاذا ثبت حل احدهما ثبت حل الآخر وحل اطعمتهم ليس له معارض اصلا ويدل على ذلك ان حذيفة بن اليمان تزوج يهودية ولم ينكر عليه احد من الصحابة فدل على انهم كانوا مجتمعين على جواز ذلك
____________________
(35/216)
فإن قيل قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } محمول على الفواكه والحبوب قيل هذا خطأ لوجوه
( أحدها ( أن هذه مباحة من اهل الكتاب والمشركين والمجوس فليس فى تخصيصها باهل الكتاب فائدة
( الثانى ( أن اضافة الطعام اليهم يقتضى انه صار طعاما بفعلهم وهذا انما يستحق فى الذبائح التى صارت لحما بذكاتهم فاما الفواكه فان الله خلقها مطعومة لم تصر طعاما بفعل آدمى
( الثالث ( أنه قرن حل الطعام بحل النساء واباح طعامنا لهم كما اباح طعامهم لنا ومعلوم ان حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين فكذلك حكم الطعام والفاكهة والحب لا يختص بأهل الكتاب
( الرابع ( أن لفظ ( الطعام ( عام وتناوله اللحم ونحوه اقوى من تناوله للفاكهة فيجب اقرار اللفظ على عمومه لا سيما وقد قرن به قوله تعالى { وطعامكم حل لهم } ونحن يجوز لنا ان نطعمهم كل انواع طعامنا فكذلك يحل لنا ان نأكل جميع انواع طعامهم
وأيضا فقد ثبت فى الصحاح بل بالنقل المستفيض ان النبى اهدت له اليهودية عام خيبر شاة مشوية فاكل منها لقمة ثم قال
____________________
(35/217)
ان هذه تخبرنى ان فيها سما ( ولولا ان ذبائحهم حلال لما تناول من تلك الشاة وثبت فى الصحيح ( انهم لما غزوا خيبر اخذ بعض الصحابة جرابا فيه شحم قال قلت لا أطعم اليوم من هذا احدا فالتفت فاذا رسول الله يضحك ولم ينكر عليه ( وهذا مما استدل به العلماء على جواز اكل جيش المسلمين من طعام اهل الحرب قبل القسمة
وأيضا فان رسول الله ( اجاب دعوة يهودى إلى خبز شعير واهالة سنخة ( رواه الإمام أحمد و ( الاهالة ( من الودك الذى يكون من الذبيحة من السمن ونحوه الذى يكون فى أوعيتهم التى يطبخون فيها فى العادة ولو كانت ذبائحهم محرمة لكانت أوانيهم كأوانى المجوس ونحوهم وقد ثبت عن النبى ( أنه نهى عن الأكل فى أوعيتهم حتى رخص ان يغسل (
وأيضا فقد استفاض ان اصحاب رسول الله لما فتحوا الشام والعراق ومصر كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى وانما امتنعوا من ذبائح المجوس ووقع فى جبن المجوس من النزاع ما هو معروف بين المسلمين لأن الجبن يحتاج إلى الانفحة وفى انفحة الميتة نزاع معروف بين العلماء فأبو حنيفة يقول بطهارتها ومالك والشافعى يقولان بنجاستها وعن أحمد روايتان
____________________
(35/218)
فصل
( المأخذ الثانى ( الانكار على من يأكل ذبائح اهل الكتاب هو كون هؤلاء الموجودين لا يعلم انهم من ذرية من دخل فى دينهم قبل النسخ والتبديل وهو المأخذ الذى دل عليه كلام السائل وهو المأخذ الذى تنازع فيه علماء المسلمين أهل السنة والجماعة وهذا مبنى على اصل وهو ان قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين اهل الكتاب او المراد به من كان آباؤه قد دخلوا فى دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل على قولين للعلماء
( فالقول الأول ( هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف وهو مذهب ابى حنيفة ومالك واحد القولين فى مذهب احمد بل هو المنصوص ع 4 نه صريحا و
( الثانى ( قول الشافعى وطائفة من اصحاب احمد واصل هذا القول ان عليا وبن عباس تنازعا فى ذبائح بنى تغلب فقال على لا تباح ذبائحهم ولا نساؤهم فانهم لم يتمسكوا من النصرانية الا بشرب
____________________
(35/219)
الخمر وروى عنه ( انه قال ( نغزوهم لأنهم لم يقوموا بالشروط التى شرطها عليهم عثمان فانه شرط عليهم ان وغير ذلك من الشروط وقال إبن عباس بل تباح لقوله تعالى { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وعامة المسلمين من الصحابة وغيرهم لم يحرموا ذبائحهم ولا يعرف ذلك الا عن على وحده وقد روى معنى قول إبن عباس عن عمر بن الخطاب
فمن العلماء من رجح قول عمر وبن عباس وهو قول الجمهور كأبى حنيفة ومالك واحمد فى احدى الروايتين عنه وصححها طائفة من اصحابه بل هي آخر قوليه بل عامة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا القول وقال ابو بكر الأثرم ما علمت احدا من اصحاب النبى صلى الله عليه وسلم كرهه الا عليا وهذا قول جماهير فقهاء الحجاز والعراق وفقهاء الحديث والرأى كالحسن وابراهيم النخعى والزهرى وغيرهم وهو الذى نقله عن احمد اكثر اصحابه وقال ابراهيم بن الحارث كان آخر قول احمد على انه لا يرى بذبائحهم بأسا
ومن العلماء من رجح قول على وهو قول الشافعى واحمد فى احدى الروايتين عنه واحمد انما اختلف اجتهاده فى بنى تغلب وهم الذين تنازع فيهم الصحابة فأما سائر اليهود والنصارى من العرب مثل تنوخ وبهراء
____________________
(35/220)
وغيرهما من اليهود فلا اعرف عن احمد فى حل ذبائحهم نزاعا ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وغيرهم من السلف وانما كان النزاع بينهم فى بنى تغلب خاصة ولكن من اصحاب احمد من جعل فيهم روايتين كبنى تغلب والحل مذهب الجمهور كابى حنيفة ومالك وما أعلم للقول الآخر قدوة من السلف
ثم هؤلاء المذكورون من أصحاب أحمد ( قالوا ) من كان أحد أبويه غير كتابى بل مجوسيا لم تحل ذبيحته ومناكحة نسائه وهذا مذهب الشافعى فيما إذا كان الأب مجوسيا وأما الأم فله فيها قولان فإن كان الأبوان مجوسيين حرمت ذبيحته عند الشافعى ومن وافقه من أصحاب أحمد وحكى ذلك عن مالك وغالب ظنى أن هذا غلط على مالك فأنى لم أجده فى كتب أصحابه وهذا تفريع على الرواية المخرجة عن أحمد فى سائر اليهود والنصارى من العرب وهذا مبنى على إحدى الروايتين عنه فى نصارى بنى تغلب وهو الرواية التى إختارها هؤلاء فأما إذا جعل الروايتان فى بنى تغلب دون غيرهم من العرب أو قيل إن النزاع عام وفرعنا على القول بحل ذبائح بنى تغلب ونسائهم كما هو قول الأكثرين فإنه على هذه الرواية لا عبرة بالنسب بل لو كان الأبوان جميعا مجوسيين أو وثنيين والولد من أهل الكتاب فحكمه حكم أهل الكتاب على هذا القول بلا ريب كما صرح بذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم
____________________
(35/221)
ومن ظن من أصحاب احمد وغيرهم أن تحريم نكاح من أبواه مجوسيان أو أحدهما مجوسى قول واحد فى مذهبه فهو مخطئ خطأ لا ريب فيه لأنه لم يعرف أصل النزاع فى هذه المسألة
ولهذا كان من هؤلاء من يتناقض فيجوز أن يقر بالجزية من دخل فى دينهم بعد النسخ والتبديل ويقول مع هذا بتحريم نكاح نصرانى العرب مطلقا ومن كان أحد أبويه غير كتابى كما فعل ذلك طائفة من أصحاب أحمد وهذا تناقض والقاضى أبو يعلى وان كان قد قال هذا القول هو وطائفة من أتباعه فقد رجع عن هذا القول فى ( الجامع الكبير ( وهو آخر كتبه فذكر فيمن انتقل إلى دين أهل الكتاب من عبدة الأوثان كالروم وقبائل من العرب وهم تنوخ وبهراء ومن بنى تغلب هل تجوز مناكحتهم وأكل ذبائحهم وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا بأس بنكاح نصارى بنى تغلب وان الرواية الأخرى مخرجة على الروايتين عنه فى ذبائحهم واختار أن المنتقل إلى دينهم حكمه حكمهم سواء كان انتقاله بعد مجيء شريعتنا أو قبلها وسواء انتقل إلى دين المبدلين أو دين لم يبدل ويجوز مناكحته وأكل ذبيحته واذا كان هذا فيمن أبواه مشركان من العرب والروم فمن كان أحد أبويه مشركا فهو أولى بذلك هذا هو المنصوص عن أحمد فانه قد نص على أنه من دخل فى دينهم بعد النسخ والتبديل كمن دخل فى دينهم فى هذا الزمان فانه يقر بالجزية قال أصحابه واذ أقررناه بالجزية حلت ذبائحهم ونساؤهم وهو مذهب أبى حنيفة ومالك وغيرهما
____________________
(35/222)
وأصل النزاع فى هذه المسألة ما ذكرته من نزاع على وغيره من الصحابة فى بنى تغلب والشافعى وأحمد فى احدى الروايتين عنه والجمهور أحلوها وهى الرواية الأخرى عن أحمد
ثم الذين كرهوا ذبائح بنى تغلب تنازعوا فى مأخذ علي فظن بعضهم أن عليا إنما حرم ذبائحهم ونساءهم لكونه لم يعلم أن آباءهم دخلوا فى دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل وبنوا على هذا أن الإعتبار فى أهل الكتاب بالنسب لا بنفس الرجل وإن من شككنا فى أجداده هل كانوا من أهل الكتاب أم لا أخذنا بالإحتياط فحقنا دمه بالجزية إحتياطا وحرمنا ذبيحته ونساءه إحتياطا وهذا مأخذ الشافعى ومن وافقه من أصحاب أحمد وقال آخرون بل علي لم يكره ذبائح بنى تغلب إلا لكونهم ما تدينوا بدين أهل الكتاب فى واجباته ومحظوراته بل أخذوا منه حل المحرمات فقط ولهذا قال إنهم لم يتمسكوا من دين أهل الكتاب إلا بشرب الخمر وهذا المأخذ من قول على هو المنصوص عن أحمد وغيره وهو الصواب
( وبالجملة ( فالقول بأن أهل الكتاب المذكورين فى القرآن هم من كان دخل جده فى ذلك قبل النسخ والتبديل قول ضعيف والقول بأن علي بن أبى طالب رضى الله عنه أراد ذلك قول ضعيف بل الصواب المقطوع به أن كون
____________________
(35/223)
الرجل كتابيا أو غير كتابى هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه
وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم سواء كان أبوه أو جده دخل فى دينهم أو لم يدخل وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك وهذا مذهب جمهور 4 العلماء كأبى حنيفة ومالك والمنصوص الصريح عن أحمد وإن كان بين أصحابه فى ذلك نزاع معروف وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضى الله عنهم ولا أعلم بين الصحابة فى ذلك نزاعا وقد ذكر الطحاوى أن هذا إجماع قديم وإحتج بذلك فى هذه المسألة على من لا يقر الرجل فى دينهم بعد النسخ والتبديل كمن هو فى زماننا إذا إنتقل إلى دين أهل الكتاب فإنه تؤكل ذبيحته وتنكح نساؤه وهذا يبين خطأ من يناقض منهم وأصحاب هذا القول الذى هو قول الجمهور يقولون من دخل هو أو أبواه أو جده فى دينهم بعد النسخ والتبديل أقر بالجزية سواء دخل فى زماننا هذا أو قبله وأصحاب القول الآخر يقولون متى علمنا أنه لم يدخل إلا بعد النسخ والتبديل لم تقبل منه الجزية كما يقوله بعض أصحاب أحمد مع أصحاب الشافعى والصواب قول الجمهور والدليل عليه وجوه
( أحدها ( أنه قد ثبت أنه كان من أولاد الأنصار جماعة تهودوا قبل مبعث النبى بقليل كما قال إبن عباس إن المرأة كانت مقلاتا والمقلات التى لا يعيش لها ولد كثيرة القلت والقلت الموت والهلاك كما يقال إمرأة مذكار وميناث إذا كانت كثيرة الولادة
____________________
(35/224)
للذكور والإناث والسما الكثيرة الموت قال إبن عباس فكانت المرأة تنذر إن عاش لها ولدان تجعل أحدهما يهوديا لكون اليهود كانوا أهل علم وكتاب والعرب كانوا أهل شرك وأوثان فلما بعث الله محمدا كان جماعة من أولاد الأنصار تهودوا فطلب آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام فأنزل الله تعالى ( لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى ) الآية فقد ثبت أن هؤلاء كان آباءهم موجودين تهودوا ومعلوم أن هذا دخول بأنفسهم فى اليهودية قبل الإسلام وبعد مبعث المسيح صلوات الله عليه وهذا بعد النسخ والتبديل ومع هذا نهى الله عز وجل عن إكراه هؤلاء الذين تهودوا بعد النسخ والتبديل على الإسلام وأقرهم بالجزية وهذا صريح فى جواز عقد الذمة لمن دخل بنفسه فى دين أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل فعلم أن هذا القول هو الصواب دون الآخر ومتى ثبت أنه يعقد له الذمة ثبت أن العبرة بنفسه لا بنسبه وأنه تباح ذبيحته وطعامه بإتفاق المسلمين فإن المانع لذلك لم يمنعه إلا بناء على أن هذا الصنف ليسوا من أهل الكتاب فلا يدخلون فإذا ثبت بنص السنة أنهم من أهل الكتاب دخلوا فى الخطاب بلا نزاع
( الوجه الثانى ( أن جماعة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وحولها كانوا عربا ودخلوا فى دين اليهود ومع هذا فلم يفصل النبى صلى الله عليه وسلم فى أكل طعامهم وحل نسائهم وإقرارهم بالذمة بين من دخل أبواه بعد مبعث عيسى عليه السلام ومن دخل قبل ذلك ولا بين المشكوك فى نسبه بل حكم
____________________
(35/225)
فى الجميع حكما واحدا عاما فعلم أن التفريق بين طائفة وطائفة وجعل طائفة لا تقر بالجزية وطائفة تقر ولا تؤكل ذبائحهم وطائفة يقرون وتؤكل ذبائحهم تفريق ليس له أصل فى سنة رسول الله الثابتة عنه
وقد علم بالنقل الصحيح المستفيض أن أهل المدينة كان فيهم يهود كثير من العرب وغيرهم من بنى كنانة وحمير وغيرهما من العرب ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن ( إنك تأتى قوما أهل كتاب ( وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا ) ولم يفرق بين من دخل أبوه قبل النسخ أو بعده وكذلك وفد نجران وغيرهم من النصارى الذين كان فيهم عرب كثيرون أقرهم بالجزية وكذلك سائر اليهود والنصارى من العرب لم يفرق رسول الله ولا أحد من خلفائه وأصحابه بين بعضهم وبعض بل قبلوا منهم الجزية وأباحوا ذبائحهم ونساءهم وكذلك نصارى الروم وغيرهم لم يفرقوا بين صنف وصنف ومن تدبر السيرة النبوية علم كل هذا بالضرورة وعلم أن التفريق قول محدث لا أصل له فى الشريعة
( الوجه الثالث ( أن كون الرجل مسلما أو يهوديا أو نصرانيا ونحو ذلك من اسماء الدين هو حكم يتعلق بنفسه لإعتقاده وإرادته وقوله وعمله لا يلحقه هذا الإسم بمجرد إتصاف آبائه بذلك لكن الصغير حكمه فى أحكام الدنيا حكم أبويه لكونه لا يستقل بنفسه فإذا بلغ وتكلم بالإسلام أو بالكفر كان حكمه معتبرا بنفسه بإتفاق المسلمين فلو كان أبواه
____________________
(35/226)
يهودا أو نصارى فأسلم كان من المسلمين بإتفاق المسلمين ولو كانوا مسلمين فكفر كان كافرا بإتفاق المسلمين فإن كفر بردة لم يقر عليه لكونه مرتدا لأجل آبائه وكل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان وكفر ونفاق وردة وتهود وتنصر إنما يثبت لمن إتصف بالصفات الموجبة لذلك وكون الرجل من المشركين أو أهل الكتاب هو من هذا الباب فمن كان بنفسه مشركا فحكمه حكم أهل الشرك وإن كان أبواه غير مشركين ومن كان أبواه مشركين وهو مسلم فحكمه حكم المسلمين لا حكم المشركين فكذلك إذا كان يهوديا أو نصرانيا وآباؤه مشركين فحكمه حكم اليهود والنصارى أما إذا تعلق عليه حكم المشركين مع كونه من اليهود والنصارى لأجل كون أبائه قبل النسخ والتبديل كانوا مشركين فهذا خلاف الأصول
( الوجه الرابع ( أن يقال قوله تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } وقوله ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد إهتدوا ) وأمثال ذلك إنما هو خطاب لهؤلاء الموجودين وإخبار عنهم والمراد بالكتاب هو الكتاب الذى بأيديهم الذى جرى عليه من النسخ والتبديل ما جرى ليس المراد به من كان متمسكا به قبل النسخ والتبديل فإن أولئك لم يكونوا كفارا ولا هم ممن خوطبوا بشرائع القرآن ولا قيل لهم فى القرآن { يا أهل الكتاب } فإنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن
وإذا كان كذلك فكل من تدين بهذا الكتاب الموجود عند
____________________
(35/227)
أهل الكتاب فهو من أهل الكتاب وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدل منسوخ وهم مخلدون فى نار جهنم كما يخلد سائر أنواع الكفار والله تعالى مع ذلك شرع إقرارهم بالجزية وأحل طعامهم ونساءهم
( الوجه الخامس ( أن يقال هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب بالقرآن هم كفار وإن كان أجدادهم كانوا مؤمنين وليس عذابهم فى الآخرة بأخف من عذاب من كان أبوه من غير أهل الكتاب بل وجود النسب الفاضل هو إلى تغليظ كفرهم أقرب منه إلى تخفيف كفرهم
فمن كان أبوه مسلما وإرتد كان كفره أغلظ من كفر من أسلم هو ثم إرتد ولهذا تنازع الناس فيمن ولد على الفطرة إذا إرتد ثم عاد إلى الإسلام هل تقبل توبته على قولين هما روايتان عن أحمد
وإذا كان كذلك فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ثم إنه لما بعث الله عيسى ومحمدا كفر بهما وبما جاءا به من عند الله وإتبع الكتاب المبدل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر ولم يكن كفره أخف من كفر من دخل بنفسه فى هذا الدين المبدل ولا له بمجرد نسبه حرمة عند الله ولا عند رسوله ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفا لهم فإن أباءه كانوا إذ ذاك مسلمين فإن دين الله هو الإسلام فى كل وقت فكل من آمن بكتب الله ورسله فى كل زمان فهو مسلم ومن كفر بشيء من كتب الله ورسله فليس مسلما فى أى زمان كان
____________________
(35/228)
وإذا لم يكن لأولاد بنى إسرائيل إذا كفروا مزية على أمثالهم من الكفار الذين ماثلوهم فى إتباع الدين المبدل المنسوخ علم بذلك بطلان الفرق بين الطائفتين وإكرام هؤلاء بإقرارهم بالجزية وحل ذبائحهم ونسائهم دون هؤلاء وأنه فرق مخالف لأصول الإسلام وأنه لو كان الفرق بالعكس كان أولى ولهذا يوبخ الله بنى إسرائيل على تكذيبهم بمحمد ما لا يوبخه غيرهم من أهل الكتاب لأنه تعالى أنعم على أجدادهم نعما عظيمة فى الدين والدنيا فكفروا نعمته وكذبوا رسله وبدلوا كتابه وغيروا دينه { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } فهم مع شرف آبائهم وحق دين اجدادهم من أسوأ الكفار عند الله وهو اشد غضبا عليهم من غيرهم لأن فى كفرهم من الاستكبار والحسد والمعاندة والقسوة وكتمان العلم وتحريف الكتاب وتبديل النص وغير ذلك ما ليس فى كفر هؤلاء فكيف يجعل لهؤلاء الأرجاس الأنجاس الذين هم من ابغض الخلق إلى الله مزية على اخوانهم الكفار مع ان كفرهم اما مماثل لكفر اخوانهم الكفار واما اغلظ منه اذ لا يمكن احدا ان يقول ان كفر الداخلين أغلظ من كفر هؤلاء مع تماثلهما فى الدين بهذا الكتاب الموجود
____________________
(35/229)
الوجه السادس ان تعليق الشرف فى الدين بمجرد النسب هو حكم من احكام الجاهلية الذين اتبعتهم عليه الرافضة واشباههم من اهل الجهل فإن الله تعالى قال { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأسود على ابيض ولا لأبيض على اسود الا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب ( ولهذا ليس فى كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدا بنسبه ولا يذم احدا بنسبه وانما يمدح بالايمان والتقوى ويذم بالكفر والفسوق والعصيان وقد ثبت عنه فى الصحيح انه قال ( أربع من امر الجاهلية فى امتى لن يدعوهن الفخر بالأحساب والطعن فى الأنساب والنياحة والاستسقاء بالنجوم ( فجعل الفخر بالأحساب من امور الجاهلية فاذا كان المسلم لا فخر له على المسلم بكون اجداده لهم حسب شريف فكيف يكون لكافر من اهل الكتاب فخر على كافر من اهل الكتاب بكون اجداده كانوا مؤمنين واذا لم تكن مع التماثل فى الدين فضيلة ( لأحد الفريقين ( على الآخرين فى الدين لأجل النسب علم انه لافضل لمن كان من اليهود والنصارى آباؤه مؤمنين متمسكين بالكتاب الأول قبل النسخ والتبديل على من كان ابوه داخلا فيه بعد النسخ والتبديل واذا تماثل دينهما تماثل حكمهما فى الدين
____________________
(35/230)
والشريعة انما علقت بالنسب احكاما مثل كون الخلافة من قريش وكون ذوى القربى لهم الخمس وتحريم الصدقة على آل محمد ونحو ذلك لأن النسب الفاضل مظنة ان يكون اهله افضل من غيرهم كما قال النبى ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الاسلام اذا فقهوا ( والمظنة تعلق الحكم بما اذا خفيت الحقيقة او انتشرت فأما اذا ظهر دين الرجل الذى به تتعلق الأحكام وعرف نوع دينه وقدره لم يتعلق بنسبه الأحكام الدينية ولهذا لم يكن لأبى لهب مزية على غيره لما عرف كفره كان احق بالذم من غيره ولهذا جعل لمن يأتى بفاحشة من ازواج النبى صلى الله عليه وسلم ضعفين من العذاب كما جعل لمن يقنت منهن لله ورسوله اجرين من الثواب
فذوو الأنساب الفاضله اذا أساءوا كانت اساءتهم اغلظ من اساءة غيرهم وعقوبتهم اشد عقوبة من غيرهم فكفر من كفر من بنى اسرائيل ان لم يكن اشد من كفر غيرهم وعقوبتهم اشد عقوبة من غيرهم فلا اقل من المساواة بينهم ولهذا لم يقل احد من العلماء ان من كفر وفسق من قريش والعرب تخفف عنه العقوبة فى الدنيا او فى الآخرة بل اما ان تكون عقوبتهم اشد عقوبة من غيرهم فى اشهر القولين او تكون عقوبتهم أغلظ فى القول الآخر لأن من اكرمه بنعمته ورفع قدره اذا قابل حقوقه بالمعاصى وقابل نعمه بالكفر كان احق بالعقوبة ممن لم ينعم عليه كما انعم عليه
____________________
(35/231)
الوجه السابع ان يقال اصحاب رسول الله لما فتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وغيرهم كانوا يأكلون ذبائحهم لا يميزون بين طائفة وطائفة ولم يعرف عن احد من الصحابة الفرق بينهم بالأنساب
وانما تنازعوا فى بنى تغلب خاصة لأمر يختص بهم كما ان عمر ضعف عليهم الزكاة وجعل جزيتهم مخالفة لجزية غيرهم ولم يلحق بهم سائر العرب وانما ألحق بهم من كان بمنزلتهم
( الوجه الثامن ( ان يقال هذا القول مستلزم أن لا يحل لنا طعام جمهور من اهل الكتاب لأنا لا نعرف نسب كثير منهم ولا نعلم قبل ايام الاسلام ان اجداده كانوا يهودا او نصارى قبل النسخ والتبديل ومن المعلوم ان حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والاجماع فاذا كان هذا القول مستلزما رفع ما ثبت بالكتاب والسنة والاجماع علم انه باطل
( الوجه التاسع ( ان يقال ما زال المسلمون فى كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم فمن انكر ذلك فقد خالف اجماع المسلمين وهذه الوجوه كلها لبيان رجحان القول بالتحليل وأنه مقتضى الدليل فأما ان مثل هذه المسألة او نحوها من مسائل الاجتهاد يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين ان ينكر على الآخر بغير حجة ودليل فهذا خلاف اجماع المسلمين
____________________
(35/232)
فقد تنازع المسلمون فى جبن المجوس والمشركين وليس لمن رجح أحد القولين ان ينكر على صاحب القول الآخر الا بحجة شرعية وكذلك تنازعوا فى متروك التسمية وفى ذبائح اهل الكتاب اذا سموا عليها غير الله وفى شحم الثرب والكليتين وذبحهم لذوات الظفر كالابل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله عليهم وتنازعوا فى ذبح الكتابى للضحايا ونحو ذلك من مسائل
وقد قال بكل قول طائفة من اهل العلم المشهورين فمن صار إلى قول مقلدا لقائله لم يكن له ان ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله لكن ان كان مع احدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية اذا ظهرت
ولا يجوز لأحد ان يرجح قولا على قول بغير دليل ولا يتعصب لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة بل من كان مقلدا لزم حكم التقليد فلم يرجح ولم يزيف ولم يصوب ولم يخطئ ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه فقبل ما تبين انه حق ورد ما تبين انه باطل ووقف ما لم يتبين فيه احد الأمرين والله تعالى قد فاوت بين الناس فى قوى الأذهان كما فاوت بينهم فى قوى الأبدان
وهذه المسألة ونحوها فيها من اغوار الفقه وحقائقه ما لا يعرفه الا من عرف اقاويل العلماء ومآخذهم فأما من لم يعرف الا قول عالم واحد وحجته دون قول العالم الآخر وحجته فانه من العوام المقلدين لا من العلماء الذين يرجحون ويزيفون والله تعالى يهدينا واخواننا لما يحبه ويرضاه وبالله التوفيق والله اعلم
____________________
(35/233)
وقال رحمه الله تعالى
وتجوز ذكاة المرأة والرجل وتذبح المرأة وان كانت حائضا فان حيضتها ليست فى يدها وذكاة المرأة جائزة باتفاق المسلمين وقد ذبحت امرأة شاة فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأكلها
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
عن الدابة كالجاموس وغيره فى الماء فيذبح ويموت فى الماء هل يوكل
فأجاب اذا كان الجرح غير موح وغاب رأس الحيوان فى الماء لم يحل اكله فإنه اشترك فى حكمه الحاضر والمبيح كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لعدى بن حاتم ( ان خالط كلبك كلاب فلا تأكل فانك انما سميت على كلبك ولم تسم على غيره ( وان كان بدنه فى الماء وراسه خارج الماء لم يضر ذلك شيئا وان كان الجرح موحيا ففيه نزاع معروف
____________________
(35/234)
وسئل رحمه الله تعالى
عن دابة ذبحت فخرج منها دم كثير ولم تتحرك فأجاب اذا خرج منها الذى يخرج من الحى المذبوح فى العادة هو دم الحى فانه يحل اكلها فى اظهر قولى العلماء والله تعالى اعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن ( المنخنقة واخواتها ( اذا بلغت مبلغا لا تعيش بعده هل تعمل فيها الذكاة وفى المتردية فى البئر او النهر اذا لم يقدر على تذكيتها
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذه المسألة فيها نزاع معروف واظهر الأقوال انها إذا تحركت عند الذبح وجرى دمها أكلت فهذا هو المنقول عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة فإن الله تعالى قال ( والمنخنقة إلى قوله إلا ما ذكيتم ) وقال النبى ( صلى الله عليه وسلم ما أنهر الدم وذكر إسم الله عليه فكل
____________________
(35/235)
وأما ما وقع فى بئر ونحوها ولم يوصل إلى مذبحه فتجرح حيث أمكن مثل الطعن في فخذها كما يفعل بالصيد الممتنع وتباح بذلك عند جمهور العلماء الا ان يكون أعان على موتها سبب آخر مثل آن يكون رأسها غاطسا فى الماء فتكون قد ماتت بالجرح والغرق فلا تباح حينئذ واللة آعلم
وسئل رحمه الله
عن ( الغنم والبقر ( ونحو ذلك إذا أصابه الموت وأتاه الإنسان هل يذكى شيئا منه وهو متيقن حياته حين ذبحه وأن بعض الدواب لم يتحرك منه جارحة حين ذكاته فهل الحركة تدل على وجود الحياة وعدمها يدل على عدم الحياة أم لا فإن غالب الناس يتحقق حياة الدابة عند ذبحها وإراقة دمها ولم تتحرك فيقول إنها ميتة فيرميها وهل الدم الأحمر الرقيق الجارى حين الذبح يدل على أن فيها حياة مستقرة والدم الأسود الجامد القليل دم الموت أم لا وما أراد النبى صلى الله عليه وسلم بقوله ( ما أنهر الدم وذكر إسم الله عليه فكلوا (
فأجاب الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم }
____________________
(35/236)
وقوله تعالى { إلا ما ذكيتم } عائد إلى ما تقدم من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع عند عامة العلماء كالشافعى وأحمد بن حنبل وأبى حنيفة وغيرهم فما أصابه قبل أن يموت أبيح
لكن تنازع العلماء فيما يذكى من ذلك فمنهم من قال ما تيقن موته لا يذكى كقول مالك ورواية عن أحمد ومنهم من يقول ما يعيش معظم اليوم ذكى ومنهم من يقول ما كانت فيه حياة مستقرة ذكى كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعى وأحمد ثم من هؤلاء من يقول الحياة المستقرة ما يزيد على حركة المذبوح ومنهم من يقول ما يمكن أن يزيد على حياة المذبوح والصحيح أنه إذا كان حيا فذكى حل أكله ولا يعتبر فى ذلك حركة مذبوح فإن حركات المذبوح لا تنضبط بل فيها ما يطول زمانه وتعظم حركته وقد قال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا فمتى جرى الدم الذي يجري من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله
والناس يفرقون بين دم ما كان حيا ودم ما كان ميتا فإن الميت يجمد دمه ويسود ولهذا حرم الله الميتة لاحتقان الرطوبات فيها فإذا جرى منها الدم الذى يخرج من المذبوح الذى ذبح وهو حي حل أكله وإن تيقن
____________________
(35/237)
أنه يموت فإن المقصود ذبح ما فيه حياة فهو حى وإن تيقن أنه يموت بعد ساعة فعمر بن الخطاب رضى الله عنه تيقن أنه يموت وكان حيا جازت وصيته وصلاته وعهوده
وقد أفتى غير واحد من الصحابة رضى الله عنهم بأنها إذا مصعت بذنبها أوطرفت بعينها أو ركضت برجلها بعد الذبح حلت ولم يشرطوا أن تكون حركتها قبل ذلك أكثر من حركة المذبوح وهذا قاله الصحابة لأن الحركة دليل على الحياة والدليل لا ينعكس فلا يلزم إذا لم يوجد هذا منها أن تكون ميتة بل قد تكون حية وإن لم يوجد منها مثل ذلك والإنسان قد يكون نائما فيذبح وهو نائم ولا يضطرب وكذلك المغمى عليه يذبح ولا يضطرب وكذلك الدابة قد تكون حية فتذبح ولا تضطرب لضعفها عن الحركة وإن كانت حية ولكن خروج الدم الذى لا يخرج إلا من مذبوح وليس هو دم الميت دليل على الحياة والله أعلم
____________________
(35/238)
وقال شيخ الإسلام
قدس الله روحه فصل و ( التسمية على الذبيحة ( مشروعة لكن قيل هي مستحبة كقول الشافعى وقيل واجبة مع العمد وتسقط مع السهو كقول أبى حنيفة ومالك وأحمد فى المشهور عنه وقيل تجب مطلقا فلا تؤكل الذبيحة بدونها سواء تركها عمدا أو سهوا كالرواية الأخرى عن أحمد إختارها أبو الخطاب وغيره وهو قول غير واحد من السلف وهذا أظهر الأقوال فإن الكتاب والسنة قد علق الحل بذكر إسم الله فى غير موضع كقوله { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } إلى قوله { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وفى الصحيحين أنه قال ( ما أنهر الدم وذكر إسم الله عليه فكلوا ( وفى الصحيح أنه قال لعدي ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت إسم الله فقتل فكل وإن خالط كلبك كلاب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره
____________________
(35/239)
وثبت فى الصحيح أن الجن سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال ( لكم كل عظم ذكر إسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علفا لدوابكم ( قال النبى ( فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن ( فهو لم يبح للجن المؤمنين إلا ما ذكر إسم الله عليه فكيف بالأنس ولكن إذا وجد الإنسان لحما قد ذبحه غيره جاز له أن يأكل منه ويذكر إسم الله عليه
لحمل أمر الناس على الصحة والسلامة كما ثبت فى الصحيح أن قوما قالوا يا رسول الله إن ناسا حديثى عهد بالإسلام يأتون باللحم ولا ندرى أذكروا إسم الله عليه أم لم يذكروا فقال سموا أنتم وكلوا (
وسئل رحمه الله تعالى
عن الذبيحة التى يتيقن أنه ما سمى عليها هل يجوز أكلها وهل تنجس الأوانى
فأجاب الحمد لله ( التسمية عليها واجبة بالكتاب والسنة وهو قول جمهور العلماء لكن إذا لم يعلم الإنسان هل سمى الذابح أم لم يسم أكل منها وإن تيقن أنه لم يسم لم يأكل وكذلك الأضحية
____________________
(35/240)
& باب الأيمان والنذور &
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
( القاعدة الخامسة ( فى ( الأيمان والنذور قال الله تعالى ( يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم ) وقال تعالى { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم } وقال تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم }
____________________
(35/241)
وفيها قواعد عظيمة لكن تحتاج إلى تقديم مقدمات نافعة جدا فى هذا الباب وغيره
المقدمة الأولى أن اليمين تشتمل على جملتين جملة مقسم بها وجملة مقسم عليها ومسائل الأيمان إما فى حكم المحلوف به وإما فى حكم المحلوف عليه
فأما المحلوف به فالأيمان التى يحلف بها المسلمون مما قد يلزم بها حكم ( ستة أنواع ( ليس لها سابع
( أحدها ( اليمين بالله وما فى معناها مما فيه إلتزام كفر على تقدير الخبر كقوله هو يهودى أو نصرانى أن فعل كذا على ما فيه من الخلاف بين الفقهاء
( الثانى ( اليمين بالنذر الذى يسمى ( نذر اللجاج والغضب ( كقوله على الحج لا أفعل كذا أو إن فعلت كذا فعلي الحج أو مالى صدقة إن فعلت كذا ونحو ذلك
( الثالث ( اليمين بالطلاق
( الرابع ( اليمين بالعتاق ( الخامس ( اليمين بالحرام كقوله على الحرام لا أفعل كذا
( السادس ( الظهار كقوله أنت على كظهر أمى إن فعلت كذا فهذا مجموع ما يحلف به المسلمون مما فيه حكم
____________________
(35/242)
فأما ( الحلف بالمخلوقات ( كالحلف بالكعبة أو قبر الشيخ أو بنعمة السلطان أو بالسيف أو بجاه أحد من المخلوقين فما أعلم بين العلماء خلافا أن هذه اليمين مكروهة منهى عنها وأن الحلف بها لا يوجب حنثا ولا كفارة وهل الحلف بها محرم أو مكروه كراهة تنزيه فيه قولان فى مذهب أحمد وغيره أصحهما أنه محرم
ولهذا قال أصحابنا كالقاضى أبى يعلى وغيره أنه إذا قال أيمان المسلمين تلزمنى إن فعلت كذا لزمه ما يفعله فى اليمين بالله والنذر والطلاق والعتاق والظهار ولم يذكروا الحرام لأن يمين الحرام ظهار عند أحمد وأصحابه فلما كان موجبها واحدا عندهم دخل الحرام فى الظهار ولم يدخل النذر فى اليمين بالله وإن جاز أن يكفر يمينه بالنذر لأن موجب الحلف بالنذر المسمى ( بنذر اللجاج والغضب عند الحنث هو التخيير بين التكفير وبين فعل المنذور وموجب الحلف بالله هو التفكير فقط فلما إختلف موجبهما جعلوهما يمينين نعم إذا قالوا بالرواية الأخرى عن أحمد وهو أن الحلف بالنذر موجبة الكفارة فقط دخلت اليمين بالنذر فى اليمين بالله تعالى أما إختلافهم وإختلاف غيرهم من العلماء فى أن مثل هذا الكلام هل تنعقد به اليمين أولا تنعقد فسأذكره إن شاء الله تعالى وإنما غرضى هنا حصر الأيمان التى يحلف بها المسلمون
وأما أيمان البيعة فقالوا أول من أحدثها الحجاج بن يوسف الثقفى وكانت السنة أن الناس يبايعون الخلفاء كما بايع الصحابة النبى
____________________
(35/243)
يعقدون البيعة كما يعقدون عقد البيع والنكاح ونحوها وإما أن يذكروا الشروط التى يبايعون عليها ثم يقولون بايعناك على ذلك كما بايعت الأنصار النبى ليلة العقبة فلما أحدث الحجاج ما أحدث من العسف كان من جملته أن حلف الناس على بيعتهم لعبد الملك بن مروان بالطلاق والعتاق واليمين بالله وصدقة المال فهذه الأيمان الأربعة هي كانت أيمان البيعة القديمة المبتدعة ثم أحدث المستخلفون عن الأمراء من الخلفاء والملوك وغيرهم أيمانا كثيرة أكثر من تلك وقد تختلف فيها عاداتهم ومن أحدث ذلك فعليه إثم ما ترتب على هذه الأيمان من الشر
( المقدمة الثانية ( أن هذه الأيمان يحلف بها تارة بصيغة القسم وتارة بصيغة الجزاء لا يتصور أن تخرج اليمين عن هاتين الصيغتين ( فالأول ( كقوله والله لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمنى أن أفعل كذا أو على الحرام لا أفعل كذا أو على الحج لا أفعل ( والثانى ( كقوله إن فعلت كذا فأنا يهودى أو نصرانى أو بريء من الإسلام أو إن فعلت كذا فإمرأتى طالق أو إن فعلت كذا فإمرأتى حرام أو فهي على كظهر أمى أو إن فعلت كذا فعلى الحج أو فمالي صدقة
ولهذا عقد الفقهاء لمسائل الأيمان بابين أحدهما ( باب تعليق الطلاق بالشروط ( فيذكرون فيه الحلف بصيغة الجزاء كإن ومتى وإذا وما أشبه
____________________
(35/244)
ذلك وإن دخل فيه صيغة القسم ضمنا وتبعا والباب الثانى باب جامع الأيمان ( مما يشترك فيه الحلف بالله والطلاق والعتاق وغير ذلك فيذكرون فيه الحلف بصيغة القسم وإن دخلت صيغة الجزاء ضمنا وتبعا ومسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الباب الآخر لاتفاقهما فى المعنى كثيرا أو غالبا وكذلك طائفة من الفقهاء كأبى الخطاب وغيره لما ذكروا فى كتاب الطلاق ( باب تعليق الطلاق بالشروط ( أردفوه ( بباب جامع الأيمان ( وطائفة أخرى كالخرقى والقاضى أبى يعلى وغيرهما إنما ذكروا ( باب جامع الأيمان ( فى ( كتاب الأيمان ( لأنه أمس ونظير هذا ( باب حد القذف ( منهم من يذكره عند ( باب اللعان لاتصال أحدهما بالآخر ومنهم من يؤخره إلى ( كتاب الحدود ( لأنه به أخص
وإذا تبين أن لليمين ( صيغتين ( صيغة القسم وصيغة الجزاء فالمقدم فى صيغة القسم مؤخر فى صيغة الجزاء ( والمؤخر فى صيغة الجزاء مقدم فى صيغة القسم والشرط المثبت فى صيغة الجزاء منفى فى صيغة القسم فإنه إذا قال الطلاق يلزمنى لا أفعل كذا فقد حلف بالطلاق أن لا يفعل فالطلاق مقدم مثبت والفعل مؤخر منفى فلو حلف بصيغة الجزاء فقال إن فعلت كذا فإمرأتى طالق كان يقدم الفعل مثبتا ويؤخر الطلاق منفيا كما أنه فى القسم قدم الحكم وأخر الفعل وبهذه القاعدة تنحل مسائل من مسائل الأيمان
____________________
(35/245)
فأما ( صيغة الجزاء ( فهي ( جملة فعلية ( فى الأصل فان أدوات الشرط لا يتصل بها فى الأصل الا الفعل ( وأما صيغة القسم ( فتكون فعلية كقوله أحلف بالله أو تالله أو والله ونحو ذلك وتكون ( اسمية ( كقوله لعمر الله لأفعلن والحل على حرام لأفعلن ثم هذا التقسيم ليس من خصائص الأيمان التى بين العبد وبين الله بل غير ذلك من العقود التى تكون بين الآدميين تارة تكون بصيغة التعليق الذى هو الشرط والجزاء كقوله فى ( الجعالة ( من رد عبدى الآبق فله كذا وقوله فى ( السبق ( من سبق فله كذا وتارة بصيغة التنجيز اما ( صيغة خبر ( كقوله بعت وزوجت وأما ( صيغة طلب ( كقوله بعنى واخلعنى
( المقدمة الثالثة ( وفيها يظهر سر مسائل الأيمان ونحوها أن صيغة التعليق التي تسمى ( صيغة الشرط وصيغة المجازاة ( تنقسم إلى ( ستة أنواع ( لأن الحالف إما أن يكون مقصوده وجود الشرط فقط أو وجود الجزاء فقط أو وجودهما وإما أن لا يقصد وجود واحد منهما بل يكون مقصوده عدم الشرط فقط أو الجزاء فقط أو عدمهما
( فالأول ( بمنزلة كثير من صور الخلع والكتابة ونذر التبرر والجعالة ونحوها فإن الرجل إذا قال لإمرأته إن أعطيتنى ألفا فأنت طالق أو فقد خلعتك أو قال لعبده أن أديت ألفا فأنت حر أو قال إن رددت عبدى الآبق فلك ألف أو قال إن شفى الله مريضى أو
____________________
(35/246)
سلم مالى الغائب فعلي عتق كذا والصدقة بكذا فالمعلق قد لا يكون مقصوده إلا أخذ المال ورد العبد وسلامة العتق والمال وإنما التزم الجزاء على سبيل العوض كالبائع الذى إنما مقصوده أخذ الثمن والتزم رد المبيع على سبيل العوض فهذا الضرب شبيه بالمعاوضة فى البيع والإجارة وكذلك إذا كان قد جعل الطلاق عقوبة لها مثل أن يقول إذا ضربت أمي فأنت طالق أو إن خرجت من الدار فأنت طالق فإنه فى الخلع عاوضها بالتطليق عن المال لأنها تريد الطلاق وهنا عوضها عن معصيتها بالطلاق
وأما ( الثانى ( فمثل أن يقول لإمرأته إذا طهرت فأنت طالق أو يقول لعبده إذا مت فأنت حر أو إذا جاء رأس الحول فأنت حر أو فمالى صدقة ونحو ذلك من التعليق الذى هو توقيت محض فهذا الضرب بمنزلة المنجز فى أن كل واحد منهما قصد الطلاق والعتاق وإنما أخره إلى الوقت المعين بمنزلة تأجيل الدين وبمنزلة من يؤخر الطلاق من وقت إلى وقت لغرض له فى التأخير لا لعوض ولا لحث على طلب أو خبر ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا حلف أنه لا يحلف مثل أن يقول والله لا أحلف بطلاقك أو إن حلفت بطلاقك فعبدى حر أو فأنت طالق فإنه إذا قال إن دخلت أو لم تدخلى ونحو ذلك مما فيه معنى الحض أو المنع فهو حالف ولو كان تعليقا محضا كقوله إذا طلعت الشمس فأنت طالق أو أن طلعت الشمس فاختلفوا فيه فقال أصحاب الشافعى ليس بحالف وقال أصحاب أبى حنيفة والقاضى فى ( الجامع ( هو حالف
____________________
(35/247)
وأما ( الثالث ( وهو أن يكون مقصوده وجودهما جميعا فمثل الذى قد آذته إمرأته حتى أحب طلاقها وإسترجاع الفدية منها فيقول إن أبرأتينى من صداقك أو من نفقتك فأنت طالق وهو يريد كلا منهما وأما ( الرابع ( وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط لكنه إذا وجد لم يكره الجزاء بل يحبه أولا يحبه ولا يكرهه فمثل أن يقول لإمرأته إن زنيت فأنت طالق أو إن ضربت أمى فأنت طالق ونحو ذلك من التعليق الذى يقصد فيه عدم الشرط ويقصد وجود الجزاء عند وجوده بحيث تكون إذا زنت أو إذا ضربت أمه يجب فراقها لأنها لا تصلح له فهذا فيه معنى اليمين ومعنى التوقيت فإنه منعها من الفعل وقصد إيقاع الطلاق عنده كما قصد إيقاعه عند أخذ العوض منها أو عند طهرها أو طلوع الهلال
وأما ( الخامس ( وهو أن يكون مقصوده عدم الجزاء وتعليقه بالشرط لئلا يوجد وليس له غرض فى عدم الشرط فهذا قليل كمن يقول إن أصبت مائة رمية أعطيتك كذا
وأما ( السادس ( وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط والجزاء وإنما تعلق الجزاء بالشرط ليمتنع وجودهما فهو مثل نذر اللجاج والغضب
____________________
(35/248)
ومثل الحلف بالطلاق والعتاق على حض أو منع أو تصديق أو تكذيب مثل أن يقال له تصدق فيقول إن تصدق فعليه صيام كذا وكذا أو فامرأته طالق أو فعبيده أحرار أو يقول إن لم أفعل كذا وكذا فعلى نذر كذا أو إمرأتى طالق أو عبدى حر أو يحلف على فعل غيره ممن يقصد منعه كعبده ونسيبه وصديقه ممن يحضه على طاعته فيقول له إن فعلت أو إن لم تفعل فعلى كذا أو فامرأتى طالق أو فعبدى حر ونحو ذلك فهذا نذر اللجاج والغضب
وهذا وما أشبهه من الحلف بالطلاق والعتاق يخالفه فى المعنى ( نذر التبرر والتقرب ( وما أشبهه من ( الخلع ( و ( الكتابة ( فإن الذى يقول إن سلمنى الله أو سلم مالى من كذا أو أن أعطانى الله كذا فعلى أن أتصدق أو أصوم أو أحج قصده حصول الشرط الذى هو الغنيمة أو السلامة وقصد أن يشكر الله على ذلك بما نذره له وكذلك المخالع والمكاتب قصده حصول العوض وبذل الطلاق والعتاق عوضا عن ذلك وأما النذر فى اللجاج والغضب إذا قيل له أفعل كذا فإمتنع من فعله ثم قال إن فعلته فعلي الحج أو الصيام فهنا مقصوده أن لا يكون الشرط ثم إنه لقوة إمتناعه ألزم نفسه إن فعله بهذه الأمور الثقيلة عليه ليكون لزومها له إذا فعل مانعا له من الفعل وكذلك إذا قال إن فعلته فإمرأتى طالق أو فعبيدى أحرار إنما مقصوده الإمتناع وإلتزم بتقدير الفعل ما هو شديد عليه
____________________
(35/249)
من فراق أهله وذهاب ماله ليس غرض هذا أن يتقرب إلى الله بعتق أو صدقة ولا أن يفارق إمرأته
ولهذا سمى العلماء هذا ( نذر اللجاج والغضب ( مأخوذ من قول النبى صلى الله عليه وسلم فيما أخرجاه فى الصحيحين ( لأن يلج أحدكم بيمينه فى أهله آثم له عند الله من أن يأتى الكفارة التى فرض الله له ( فصورة هذا النذر صورة نذر التبرر فى اللفظ ومعناه شديد المباينة لمعناه ومن هنا نشأت ( الشبهة ( التى سنذكرها فى هذا الباب إن شاء الله تعالى على طائفة من العلماء ويتبين فقه الصحابة رضى الله عنهم الذين نظروا إلى معانى الألفاظ لا إلى صورها إذا ثبتت هذه الأنواع الداخلة فى قسم التعليق فقد علمت أن بعضها معناه معنى اليمين بصيغة القسم وبعضها ليس معناه ذلك فمتى كان الشرط المقصود حضا على فعل أو منعا منه أو تصديقا لخبر أو تكذيبا كان الشرط مقصود العدم هو وجزاؤه كنذر اللجاج والحلف بالطلاق على وجه اللجاج والغضب
( القاعدة الأولى ( إن الحالف بالله سبحانه وتعالى قد بين الله تعالى حكمه بالكتاب والسنة والإجماع فقال تعالى ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) وقال ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) وقال تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون }
____________________
(35/250)
وأما السنة ففى الصحيحين عن عبد الله بن سمرة أن النبى قال له ( يا عبد الرحمن لا تسأل الامارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذى هو خير وكفرعن يمينك ( فبين له النبى حكم الأمانة الذى هو الامارة وحكم العهد الذى هو اليمين وكانوا فى أول الإسلام لا مخرج لهم من اليمين قبل أن تشرع الكفارة ولهذا قالت عائشة كان أبو بكر لا يحنث فى يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين وذلك لأن اليمين بالله عقد بالله فيجب الوفاء به كما يجب بسائر العقود وأشد لأن قوله أحلف بالله أو أقسم بالله ونحو ذلك فى معنى قوله أعقد بالله ولهذا عدى بحرف الالصاق الذى يستعمل فى الربط والعقد فينعقد المحلوف عليه بالله كما تنعقد إحدى اليدين بالأخرى فى المعاقدة ولهذا سماه الله عقدا فى قوله ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) فإذا كان قد عقدها بالله كان الحنث فيها نقضا لعهد الله وميثاقه لولا ما فرضه الله من التحلة ولهذا سمى حلها حنثا و ( الحنث ( هو الإثم فى الأصل فالحنث فيها سبب للإثم لولا الكفارة الماحية فإنما الكفارة منعته أن يوجب إثما
____________________
(35/251)
ونظير الرخصة فى كفارة اليمين بعد عقدها الرخصة أيضا فى كفارة الظهار بعد أن كان الظهار فى الجاهلية وأول الإسلام طلاقا وكذلك الإيلاء كان عندهم طلاقا فإن هذا جار على قاعدة وجوب الوفاء بمقتضى اليمين فإن الإيلاء إذا وجب الوفاء بمقتضاه من ترك الوطء صار الوطء محرما وتحريم الوطء تحريما مطلقا مستلزم لزوال الملك الذى هو الطلاق وكذلك الظهار إذا وجب التحريم فالتحريم مستلزم لزوال الملك فإن الزوجة لا تكون محرمة على الإطلاق ولهذا قال سبحانه { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } والتحلة مصدر حللت الشيء أحله تحليلا وتحلة كما يقال كرمته تكريما وتكرمة وهذا مصدر يسمى به المحلل نفسه الذى هو الكفارة فإن أريد المصدر فالمعنى فرض الله لكم تحليل اليمين وهو حلها الذى هو خلاف العقد
ولهذا إستدل من إستدل من أصحابنا وغيرهم كأبى بكر عبد العزيز بهذه الآية على التكفير قبل الحنث لأن التحلة لا تكون بعد الحنث فإنه بالحنث تنحل اليمين وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لتنحل اليمين وإنما هي بعد الحنث كفارة لأنها كفرت ما فى الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله فإذا تبين أن ما اقتضته اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الامة بالكفارة التى جعلها بدلا من الوفاء فى جملة ما رفعه عنها من الآصار التى نبه عليها بقوله ويضع عنهم اصرهم
____________________
(35/252)
فالأفعال ثلاثة إما طاعة وإما معصية وإما مباح فإذا حلف ليفعلن مباحا أو ليتركنه فها هنا الكفارة مشروعة بالإجماع وكذلك إذا كان المحلوف عليه فعل مكروه أو ترك مستحب وهو المذكور فى قوله تعالى { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } وأما إن كان المحلوف عليه فعل واجب أو ترك محرم فها هنا لا يجوز الوفاء بالإتفاق بل يجب التكفير عند عامة العلماء وأما قبل أن تشرع الكفارة فكان الحالف على مثل هذا لا يحل له الوفاء بيمينه ولا كفارة له ترفع عنه مقتضى الحنث بل يكون عاصيا معصية لا كفارة فيها سواء وفى أو لم يف كما لو نذر معصية عند من لم يجعل فى نذره كفارة وكما إن كان المحلوف عليه فعل طاعة غير واجبة فصل
فأما الحلف بالنذر الذى هو ( نذر اللجاج والغضب ( مثل أن يقول إن فعلت كذا فعلى الحج أو فمالى صدقة أو فعلى صيام يريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل أو أن يقول إن لم أفعل كذا فعلى الحج ونحوه فمذهب أكثر أهل العلم أنه يجزئه كفارة يمين من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة وهو قول فقهاء الحديث كالشافعى وأحمد وإسحاق وأبى عبيد وغيرهم وهذا إحدى الروايتين عن أبى حنيفة وهو الرواية المتأخرة عنه
____________________
(35/253)
ثم إختلف هؤلاء فأكثرهم قالوا هو مخير بين الوفاء بنذره وبين كفارة يمين وهذا قول الشافعى والمشهور عن أحمد ومنهم من قال بل عليه الكفارة عينا كما يلزمه ذلك فى اليمين بالله وهو الرواية الأخرى عن أحمد وقول بعض أصحاب الشافعى وقال مالك وأبو حنيفة فى الرواية الأخرى وطائفة بل يجب الوفاء بهذا النذر وقد ذكروا أن الشافعى سئل عن هذه المسألة بمصر فأفتى فيها بالكفارة فقال له السائل يا أبا عبد الله هذا قولك قال قول من هو خير منى عطاء بن أبى رباح وذكروا أن عبد الرحمن بن القاسم حنث إبنه فى هذه اليمين فأفتاه بكفارة يمين بقول الليث بن سعد وقال إن عدت أفتيتك بقول مالك وهو الوفاء به ولهذا يفرع أصحاب مالك مسائل هذه اليمين على النذر لعمومات الوفاء بالنذر لقوله صلى الله عليه وسلم ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ( ولأنه حكم جائز معلق بشرط فوجب عند ثبوت شرطه كسائر الأحكام والقول الأول هو الصحيح والدليل عليه مع ما سنذكره إن شاء الله من دلالة الكتاب والسنة ما إعتمده الإمام أحمد وغيره قال أبو بكر الأثرم فى ( مسائلة سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل قال ماله فى رتاج الكعبة قال كفارة يمين وإحتج بحديث عائشة قال وسمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يحلف بالمشى إلى بيت الله أو الصدقة بالملك ونحو ذلك من الأيمان فقال
____________________
(35/254)
إذا حنث فكفارة إلا أنى لا أحمله على الحنث مالم يحنث قيل له تفعل قيل لأبى عبد الله فإذا حنث كفر قال نعم قيل له أليس كفارة يمين قال نعم قال وسمعت أبا عبد الله يقول فى حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا وكل مملوك لها حر فأفتيت بكفارة يمين فإحتج بحديث إبن عمر وإبن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جارية وأيمان فقال أما الجارية فتعتق وقال الأثرم حدثنا الفضل بن دكين ثنا حسن عن إبن أبى نجيح عن عطاء عن عائشة قالت من قال مالي فى ميراث الكعبة وكل مالي فهو هدى وكل مالي فى المساكين فليكفر يمينه
وقال حدثنا عارم بن الفضل ثنا معمر بن سليمان قال قال أبى حدثنا بكر بن عبد الله أخبرنى أبو رافع قال قالت مولاتى ليلى بنت العجماء كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية إن لم تطلق إمرأتك أو تفرق بينك وبين إمرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة وكانت إذا ذكرت إمرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب قال فأتيتها فجاءت معى إليها فقالت فى البيت هاروت وماروت قالت يا زينب جعلنى الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وبين
____________________
(35/255)
إمرأته فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها فقالت يا أم المؤمنين جعلنى الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وبين إمرأته قال فأتيت عبد الله بن عمر فجاء معى إليها فقام على الباب فسلم فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أنت أم من أى شيء أنت أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلى فتياها قالت يا أبا عبد الرحمن جعلنى الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقال يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلى بين الرجل وبين إمرأته
وقال الأثرم حدثنا عبد الله بن رجاء أنبأنا عمران عن قتادة عن زرارة إبن أبى أوفى أن إمرأة سألت إبن عباس أن إمرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته فقال إبن عباس فى غضب أم فى رضى قالوا فى غضب قال إن الله تبارك وتعالى لا يتقرب إليه بالغضب لتكفر عن يمينها وقال حدثنى إبن الطباع ثنا أبو بكر بن عياش عن العلاء بن المسيب عن يعلى إبن النعمان وعكرمة عن إبن عباس سئل عن رجل جعل ماله فى المساكين فقال أمسك عليك مالك وأنفقه على عيالك وأقض به دينك وكفر عن يمينك
____________________
(35/256)
وروي الأثرم عن أحمد حدثنا عبد الرزاق ثنا بن جريج سئل عطاء عن رجل قال على ألف بدنة قال يمين وعن رجل قال على ألف حجة قال يمين وعن رجل قال مالى هدى قال يمين وعن رجل قال مالى فى المساكين قال يمين وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن قتادة عن الحسن وجابر بن زيد فى الرجل يقول إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة قالا ليس الإحرام إلا على من نوى الحج يمين يكفرها وقال أحمد ثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن إبن طاووس عن أبيه قال يمين يكفرها وقال حرب الكرمانى حدثنا المسيب بن واضح ثنا يوسف بن أبى السفر عن الأوزاعى عن عطاء بن أبي رباح سألت إبن عباس عن الرجل يحلف بالمشى إلى بيت الله الحرام قال إنما المشى على من نواه فأما من حلف فى الغضب فعليه كفارة يمين
وأيضا فإن الإعتبار فى الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله وإنما مقصوده الحض على فعل أو المنع منه وهذا معنى اليمين فإن الحالف يقصد الحض على فعل أو المنع منه ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة فلا تجزئه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك إيمانه بالله حيث لم يف بعهده وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم ومعلوم أن الحنث الذى
____________________
(35/257)
موجبه خلل فى التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصى فإذا كان الله قد شرع الكفارة لاصلاح ما إقتضى الحنث فى التوحيد فساده ونحو ذلك وجبره فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده فى الطاعة أولى وأحرى
وأيضا فإنا نقول إن موجب صيغة القسم مثل موجب صيغة التعليق والنذر نوع من اليمين وكل نذر فهو يمين فقول الناذر لله على أن أفعل بمنزلة قوله أحلف بالله لأفعلن موجب هذين القولين إلتزام الفعل معلقا بالله والدليل على هذا قول النبى ( النذر حلف ( فقوله إن فعلت كذا فعلي الحج لله بمنزلة قوله إن فعلت كذا فوالله لأحجن وطرد هذا أنه إذا حلف ليفعلن برا لزمه فعله ولم يكن له أن يكفر فإن حلفه ليفعلنه نذر لفعله وكذلك طرد هذا أنه إذا نذر ليفعلن معصية أو مباحا فقد حلف على فعلها بمنزلة ما لو قال والله لأفعلن كذا ولو حلف بالله ليفعلن معصية أو مباحا لزمته كفارة يمين فكذلك لو قال آلله على أن أفعل كذا ومن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يفرق بين البابين فصل
فأما اليمين ( بالطلاق والعتاق ( فى اللجاج والغضب مثل أن يقصد بها حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا كقوله الطلاق يلزمنى لأفعلن
____________________
(35/258)
كذا أولا فعلت كذا وإن فعلت كذا فعبيدي أحرار أو إن لم أفعله فعبيدى أحرار فمن قال من الفقهاء المتقدمين إن نذر اللجاج والغضب يجب فيه الوفاء فإنه يقول هنا يقع الطلاق والعتاق أيضا
وأما الجمهور الذين قالوا فى نذر اللجاج والغضب تجزئه الكفارة فإختلفوا هنا مع أنه لم يبلغنى عن أحد من الصحابة فى الحلف بالطلاق كلام وإنما بلغنا الكلام فيه عن التابعين ومن بعدهم لأن اليمين به محدثة لم يكن يعرف فى عصرهم ولكن بلغنا الكلام فى الحلف بالعتق كما سنذكره إن شاء الله فإختلف التابعون ومن بعدهم فى اليمين بالطلاق والعتاق فمنهم من فرق بينه وبين اليمين بالنذر وقالوا إنه يقع الطلاق والعتاق بالحنث ولا تجزئه الكفارة بخلاف اليمين بالنذر هذا رواية عوف عن الحسن وهو قول الشافعى وأحمد فى الصريح المنصوص عنه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم فروى حرب الكرمانى عن معتمر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال كل يمين وإن عظمت ولو حلف بالحج والعمرة وإن جعل ماله فى المساكين مالم يكن طلاق إمرأة فى ملكه يوم حلف أو عتق غلام فى ملكه يوم حلف فإنما هي يمين وقال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد إبن حنبل عن الرجل يقول لإبنه إن كلمتك فإمرأتى طالق وعبدى حر فقال لا يقوم هذا مقام اليمين ويلزمه ذلك فى الغضب والرضا وقال سليمان بن داود يلزمه الحنث فى الطلاق والعتاق وبه قال أبو خيثمة قال
____________________
(35/259)
إسماعيل وأخبرنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل إبن أمية عن عثمان بن أبى حازم أن إمرأة حلفت بمالها فى سبيل الله أو فى المساكين وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا فسألت إبن عمر وإبن عباس فقالا أما الجارية فتعتق وأما قولها فى المال فإنها تزكى المال
قال أبو إسحاق الجوزجانى الطلاق والعتق لا يحلان فى هذا محل الأيمان ولو كان المجرى فيها مجرى الأيمان لوجب على الحالف بها إذا حنث كفارة وهذا مما لا يختلف الناس فيه أن لا كفارة فيها
قلت أخبر أبو إسحاق بما بلغه من العلم فى ذلك فإن أكثر مفتيي الناس فى ذلك الزمان من أهل المدينة وأهل العراق أصحاب أبى حنيفة ومالك كانوا لا يفتون فى نذر اللجاج والغضب إلا بوجوب الوفاء لا بالكفارة وإن أكثر التابعين مذهبهم فيها الكفارة
حتى أن الشافعى لما أفتى بمصر بالكفارة كان غريبا بين أصحابه المالكية وقال له السائل يا أبا عبد الله هذا قولك فقال قول من هو خير منى عطاء بن أبى رباح فلما أفتى فقهاء الحديث كالشافعى وأحمد وإسحاق وأبى عبيد وسليمان بن داود وإبن أبى شيبة وعلى بن المدينى ونحوهم فى الحلف بالنذر بالكفارة وفرق من فرق بين ذلك وبين الطلاق والعتاق لما سنذكره صار الذى يعرف قول هؤلاء وقول أولئك
____________________
(35/260)
لا يعلم خلافا فى الطلاق والعتاق وإلا فسنذكر الخلاف إن شاء الله تعالى عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم
وقد إعتذر الإمام أحمد عما ذكرناه عن الصحابة فى كفارة العتق بعذرين ( أحدهما ( إنفراد سليمان التيمي بذلك ( والثانى ( معارضته بما رواه عن إبن عمر وإبن عباس أن العتق يقع من غير تكفير
وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه فى هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد قال المروذى قال أبو عبد الله إذا قال كل مملوك له حر يعتق عليه إذا حنث لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة وقال وليس يقول كل مملوك لها حر فى حديث ليلى بنت العجماء حديث أبى رافع أنها سألت إبن عمر وحفصة وزينب وذكرت العتق فأمروها بكفارة إلا التيمي وغيره لم يذكروا العتق قال سألت أبا عبد الله عن حديث أبى رافع قصة إمرأته وأنها سألت إبن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين قلت فيها المشى قال نعم أذهب إلى أن فيه كفارة يمين وقال أبو عبد الله ليس يقول فيه كل مملوك إلا التيمي قلت فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث قال يعتق كذا يروى عن إبن عمر وإبن عباس أنهما قالا الجارية تعتق ثم قال ما سمعنا إلا من عبد الرزاق عن معمر قلت فإيش إسناده قال معمر عن إسماعيل عن عثمان بن أبى حازم عن إبن عمر وإبن عباس وقال إسماعيل إبن أمية وأيوب بن موسى وهما مكيان
____________________
(35/261)
فقد فرق بين الحلف بالطلاق والعتق والحلف بالنذر بأنهما لا يكفران وإتبع ما بلغه فى ذلك عن إبن عمر وإبن عباس وبه عارض ما روى من الكفارة عن إبن عمر وحفصة وزينب مع إنفراد التيمي بهذه الزيادة وقال صالح بن أحمد قال أبى وإذا قال جاريتى حرة إن لم أصنع كذا وكذا قال قال إبن عمر وإبن عباس يعتق وإذا قال كل مالى فى المساكين لم يدخل فيه جاريته فيه كفارة فإن ذا لا يشبهه ذا ألا ترى أن إبن عمر فرق بينهما العتق والطلاق لا يكفران
وأصحاب أبى حنيفة يقولون إذا قال الرجل مالى فى المساكين أنه يتصدق به على المساكين وإذا قال مالى على فلان صدقة وفرقوا بين قوله إن فعلت كذا فمالى صدقة أو فعلي الحج وبين قوله فإمرأتى طالق أو فعبدى حر بأنه هناك موجب القول وجوب الصدقة والحج لا وجود الصدقة والحج فإذا إقتضى الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلا عن هذا الواجب كما يكون بدلا عن غيره من الواجبات كما كانت فى أول الإسلام بدلا عن الصوم الواجب وبقيت بدلا عن الصوم على العاجز عنه وكما يكون بدلا عن الصوم الواجب فى ذمة الميت فإن الواجب إذا كان فى الذمة أمكن أن يخير بين أدائه وبين أداء غيره وأما العتق والطلاق فإن موجب الكلام وجودهما فإذا وجد الشرط وجد العتق والطلاق وإذا وقعا لم يرتفعا بعد وقوعهما لأنهما لا يقبلان الفسخ بخلاف مالو قال إن فعلت كذا فلله علي أن أعتق فإنه
____________________
(35/262)
هنا لم يعلق العتق وإنما علق وجوبه بالشرط فيخير بين فعل هذا الإعتاق الذى أوجبه على نفسه وبين الكفارة التى هي بدل عنه ولهذا لو قال إذا مت فعبدى حر عتق بموته من غير حاجة إلى الإعتاق ولم يكن له فسخ هذا التدبير عند الجمهور إلا قولا للشافعى ورواية عن أحمد وفى بيعه الخلاف المشهور ولو وصى بعتقه فقال إذا مت فأعتقوه كان له الرجوع فى ذلك كسائر الوصايا وكان له بيعه هنا وإن لم يجز بيع المدبر
وذكر أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن محمد بن عرفة فى تاريخه أن المهدى لما رأى ما أجمع عليه رأى أهل بيته من العهد إلى إبنه عزم على خلع عيسى ودعاهم إلى البيعة لموسى فإمتنع عيسى من الخلع وزعم أن عليه أيمانا تخرجه من أملاكه وتطلق نساؤه فأحضر له المهدى إبن علاثه ومسلم بن خالد وجماعة من الفقهاء فافتوه بما يخرجه عن يمينه واعتاض عما يلزمه فى يمينه بمال كثير ذكره ولم يزل إلى أن خلع وبويع للمهدى ولموسى الهادى بعده
وأما ( أبو ثور فقال فى العتق المعلق على وجه اليمين يجزئه كفارة يمين كنذر اللجاج والغضب لأجل ما تقدم من حديث ليلى بنت العجماء التى أفتاها عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله فى قولها إن لم أفرق بينك وبين إمرأتك فكل مملوك لى محرر وهذه القصة هي مما إعتمدها الفقهاء المستدلون فى مسألة ( نذر
____________________
(35/263)
اللجاج والغضب لكن توقف أحمد وأبو عبيد عن العتق فيها لما ذكرته من الفرق وعارض أحمد ذلك وأما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر فتوقف عنه مع أن القياس عنده مساواته للعتق لكن خاف أن يكون مخالفا للإجماع
و ( الصواب ( ان الخلاف فى الجميع الطلاق وغيره لما سنذكره ولو لم ينقل فى الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتى من الصحابة فى الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه على الحلف بالطلاق فإنه إذا كان نذر العتق الذى هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة فالحلف بالطلاق ليس بقربة إما أن تجزئ فيه الكفارة أولا يجب فيه شيء على قول من يقول نذر غير الطاعة لا شيء فيه ويكون قوله إن فعلت كذا فأنت طالق بمنزلة قوله فعلى أن أطلقك كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم قوله فعبيدى أحرار بمنزلة قوله فعلى أن أعتقهم
على أني إلى الساعة لم يبلغنى عن أحد من الصحابة كلام فى الحلف بالطلاق وذلك والله أعلم لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث فى زمانهم وإنما إبتدعه الناس فى زمن التابعين ومن بعدهم فإختلف فيه التابعون ومن بعدهم ( فأحد القولين ( أنه يقع به كما تقدم و ( القول الثانى ( أنه لا يلزم الوقوع ذكر عبد الرزاق عن إبن جريج عن إبن طاووس عن أبيه أنه
____________________
(35/264)
كان يقول الحلف بالطلاق ليس شيئا قلت أكان يراه يمينا قال لا أدري فقد أخبر إبن طاووس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعا للطلاق وتوقف فى كونه يمينا يوجب الكفارة لأنه من باب نذر مالا قربة فيه
وفى كون مثل هذا يمينا خلاف مشهور وهذا قول أهل الظاهر كداود وأبى محمد بن حزم لكن بناء على أنه لا يقع طلاق معلق ولا عتق معلق وإختلفوا فى المؤجل وهو بناء على ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا مادل نص أو إجماع على وجوبه أو جوازه وهو مبنى على ( ثلاث مقدمات ( يخالفون فيها ( أحدها ( كون الأصل تحريم العقود ( الثانى ( أنه لا يباح ما كان فى معنى النصوص ( الثالث ( أن الطلاق المؤجل والمعلق لم يندرج فى عموم النصوص
وأما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج والغضب فهذا قياس قول الذين جوزوا التكفير فى نذر اللجاج والغضب وفرقوا بين نذر التبرر ونذر الغضب فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذى يقصد وقوعه عند الشرط وبين المعلق المحلوف به الذى يقصد عدم وقوعه إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب وسنتكلم عليه
وقد ذكرنا أن هذا القول يخرج على أصول أحمد من مواضع قد ذكرناها وكذلك هو أيضا لازم لمن قال فى نذر اللجاج والغضب بكفارة
____________________
(35/265)
كما هو ظاهر مذهب الشافعى وإحدى الروايتين عن أبى حنيفة التى إختارها أكثر متأخرى أصحابه وإحدى الروايتين عن إبن القاسم التى إختارها كثير من متأخرى المالكية فإن التسوية بين الحلف بالنذر والحلف بالعتق هو المتوجه ولهذا كان هذا من أقوى حجج القائلين بوجوب الوفاء فى الحلف بالنذر فإنهم قاسوه على الحلف بالطلاق والعتاق وإعتقده بعض المالكية مجمعا عليه
وأيضا فإذا حلف بصيغة القسم كقوله عبيدى أحرار لأفعلن أو نسائى طوالق لأفعلن فهو بمنزلة قوله مالى صدقة لأفعلن وعلى الحج لأفعلن
والذى يوضح التسوية أن الشافعى إنما إعتمد فى الطلاق المعلق على فدية الخلع قاله فى البويطى وهو ( كتاب مصري ( من أجود كلامه
وذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب طلاقا بصفة ويسمون ذلك الشرط صفة ويقولون إذا وجدت الصفة فى زمان البينونة وإذا لم توجد الصفة ونحو ذلك وهذه التسمية لها وجهان
( أحدهما ( ان هذا الطلاق موصوف بصفة ليس طلاقا مجردا عن صفة فانه اذا قال أنت طالق فى أول السنة أوإذا طهرت فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص فان الظرف صفة للمظروف وكذلك اذا قال ان اعطيتنى الفا فأنت طالق فقد وصفه بعوضة
____________________
(35/266)
و ( الثانى ( أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر ونحوها حروف الصفات فلما كان هذا معلقا بالحروف التى قد تسمى ( حروف الصفات ( سمى طلاقا بصفة كما لو قال أنت طالق بألف
و ( الوجه الأول ( هو الأصل فان هذا يعود إليه إذ النحاة إنما سموا حروف الجر حروف الصفات لأن الجار والمجرور يصير فى المعنى صفة لما تعلق به فاذا كان الشافعى وغيره إنما اعتمدوا فى الطلاق الموصوف على طلاق الفدية وقاسوا كل طلاق بصفة عليه صار هذا كما أن النذر المعلق بشرط مذكور فى قوله تعالى ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ( ومعلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة فقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه وبين النذر المقصود عدم شرطه الذى خرج مخرج اليمين فلذلك يفرق بين الطلاق المقصود وصفه كالخلع حيث المقصود فيه العوض والطلاق المحلوف به الذى يقصد عدمه وعدم شرطه فإنه إنما يقاس بما فى الكتاب والسنة ما أشبهه ومعلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة وبين الصفة المحلوف عليها التى يقصد عدمها كما فرق بينهما فى النذر سواء
والدليل على هذا القول الكتاب والسنة والأثر والاعتبار أما
____________________
(35/267)
الكتاب فقوله سبحانه { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم } فوجه الدلالة أن الله قال { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وهذا نص عام فى كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لها تحلة وذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الأفراد للنبى مع علمه سبحانه بأن الأمه يحلفون بأيمان شتى فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة لكان مخالفا للآية كيف وهذا عام لم تخص منه صورة واحدة لا بنص ولا بإجماع بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظى فإن اليمين معقودة توجب منع المكلف من الفعل فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة وهذا موجود فى اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه فى غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب
فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس أو ليقطعن رحمه أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبر ويتقى ويصلح بين الناس أكثر مما يجعل الله عرضة ليمينه ثم إن وفى بيمينه كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه وإن طلق إمرأته ففى الطلاق أيضا من ضرر الدين والدنيا مالا خفاء فيه أما الدين فإنه مكروه بإتفاق الأمة مع إستقامة حال الزوجين
____________________
(35/268)
إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم فكيف إذا كانا فى غاية الإتصال وبينهما من الأولاد والعشرة ما يكون فى طلاقهما من ضرر الدين أمر عظيم وكذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع بحيث لو خير أحدهما بين أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لإختار فراق ماله ووطنه على الطلاق وقد قرن الله فراق الوطن بقتل النفس ولهذا قال الإمام أحمد فى إحدى الروايتين عنه متابعة لعطاء إنها إذا أحرمت بالحج فحلف عليها زوجها بالطلاق إنها لا تحج صارت محصرة وجاز لها التحلل لما عليها فى ذلك من الضرر الزائد على ضرر الإحصار بالعدو أو القريب منه وهذا ظاهر فيما إذا قال إن فعلت كذا فعلي أن أطلقك أو أعتق عبيدى فإن هذا فى نذر اللجاج والغضب بالإتفاق كما لو قال والله لأطلقنك أو لأعتقن عبيدى وانما الفرق بين وجود العتق ووجوبه هو الذى إعتمده المفرقون وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى
وأيضا فإن الله قال ( لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم ) وذلك يقتضى أنه ما من تحريم لما أحل الله إلا والله غفور لفاعله رحيم به وأنه لا علة تقتضى ثبوت ذلك التحريم لأن قوله [ لم ] لأى شيء إستفهام فى معنى النفى والانكار والتقدير لا سبب لتحريمك { ما أحل الله لك } { والله غفور رحيم } فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له لكان هنا سبب يقتضى تحريم الحلال ولا يبقى موجب المغفرة والرحمة على هذا الفاعل
____________________
(35/269)
وأيضا قوله سبحانه وتعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } إلى قوله { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم } والحجة منها كالحجة من الأولى وأقوى فإنه قال { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وهذا عام لتحريمها بالأيمان من الطلاق وغيرها ثم بين وجه المخرج من ذلك بقوله { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } أي فكفارة تعقيدكم أو عقدكم الأيمان وهذا عام ثم قال ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) وهذا عام كعموم قوله ( وإحفظوا أيمانكم ) ومما يوضح ( عمومه ( أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق فى عموم قوله ( من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك ( فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله
وإنما لم يدخل مالك وأحمد وغيرهما تنجيز الطلاق موافقه لإبن عباس لأن إيقاع الطلاق ليس بحلف وإنما الحلف المنعقد ما تضمن محلوفا به ومحلوفا عليه إما بصيغة القسم وإما بصيغة الجزاء وما كان فى معنى ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى وهذه الدلالة تنبيه على أصول الشافعى وأحمد ومن وافقهم فى مسألة ( نذر اللجاج والغضب ( فإنهم إحتجوا على التكفير فيه بهذه الآية وجعلوا قوله ( تحلة أيمانكم ) ( كفارة أيمانكم ) عاما فى اليمين بالله واليمين بالنذر ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب فى الحج والعتق ونحوهما سواء
____________________
(35/270)
فإن قيل المراد فى الآية اليمين بالله فقط فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام والإضافة فى قوله { عقدتم الأيمان } { تحلة أيمانكم } منصرفا إلى اليمين المعهودة عندهم وهى اليمين بالله وحينئذ فلا يعم اللفظ إلا المعروف عندهم والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم ولو كان اللفظ عاما فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التى ليست مشروعة كاليمين بالمخلوقات فلا يدخل فيه الحلف بالطلاق ونحوه لانه ليس من اليمين المشروعة لقوله ( من كان حالفا فليحلف بالله او فليصمت ( وهذا سؤال من يقول كل يمين غير مشروعة فلا كفارة لها ولاحنث
فيقال لفظ ( اليمين ( شمل هذا كله بدليل استعمال النبى والصحابة والعلماء اسم اليمين فى هذا كله كقوله ( النذر حلف ( وقول الصحابة لمن حلف بالهدى والعتق كفر يمينك وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبى كما سنذكره ولادخال العلماء لذلك فى قوله ( من حلف فقال ان شاء الله فان شاء فعل وان شاء ترك ( ويدل على عمومه فى الآية انه سبحانه قال ( لم تحرم ما أحل الله لك ) ثم قال ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) فاقتضى هذا ان نفس تحريم الحلال يمين كما استدل به بن عباس وغيره وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية
____________________
(35/271)
القبطية وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يمينا بالله ولهذا أفتى جمهور الصحابة كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم ان تحريم الحلال يمين مكفرة إما ( كفارة كبرى ( كالظهار واما ( كفارة صغرى ( كاليمين بالله وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا
( وايضا ( فان قوله ( لم تحرم ما أحل الله لك ) اما ان يراد به لم تحرم بلفظ الحرام واما لم تحرمه باليمين بالله تعالى ونحوها واما لم تحرمه مطلقا فان اريد الاول والثالث فقد ثبت ان تحريمه بغير الحلف بالله يمين فيعم وان أريد به تحريمه بالحلف بالله فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال ومعلوم ان اليمين بالله لم توجب الحرمة الشرعية لكن لما اوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيا لا شرعيا فكل يمين توجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل فيدخل فى عموم قوله ( لم تحرم ما أحل الله لك ) وحينئذ فقوله ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) لابد ان يعم كل يمين حرمت الحلال لان هذا حكم ذلك الفعل فلابد أن يطابق صوره لان تحريم الحلال هو سبب قوله ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) وسبب الجواب اذا كان عاما كان الجواب عاما لئلا يكون جوابا عن البعض مع قيام السبب المقتضى للتعميم وهذا التقدير فى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } إلى قوله { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم }
____________________
(35/272)
وايضا فان الصحابة فهمت العموم وكذلك العلماء عامتهم حملوا الآية على اليمين بالله وغيرها
وأيضا فنقول على الرأس سلمنا ان اليمين المذكورة فى الآية المراد بها اليمين بالله تعالى وان ما سوى اليمين بالله تعالى لا يلزم بها حكم فمعلوم ان الحلف بصفاته كالحلف به كما لو قال وعزة الله تعالى او لعمر الله أو والقرآن العظيم فانه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبى والصحابة ولان الحلف بصفاته كالإستعاذة بها وان كانت الاستعاذة لا تكون الا بالله فى مثل قول النبى ( أعوذ بوجهك ( وأعوذ بكلمات الله التامات ( وأعوذ برضاك من سخطك ( ونحو ذلك وهذا امر متقرر عند العلماء
وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو حلف بصفات الله فانه اذا قال ان فعلت كذا فعلى الحج فقد حلف بايجاب الحج عليه وايجاب الحج عليه حكم من أحكام الله تعالى وهو من صفاته وكذلك لوقال فعلي تحرير رقبة واذا قال فامرأتى طالق وعبدى حر فقد حلف بازالة ملكه الذى هو تحريمه عليه والتحريم من صفات الله كما ان الايجاب من صفات الله وقد جعل الله ذلك من آياته فى قوله ( ولا تتخذوا آيات الله هزوا ) فجعل صدوره فى النكاح والطلاق والخلع من آياته لكنه اذا حلف بالايجاب والتحريم فقد عقد اليمين لله كما يعقد النذر لله فان قوله على الحج والصوم عقد
____________________
(35/273)
لله ولكن اذا كان حالفا فهو لم يقصد العقد لله بل قصد الحلف به فاذا حنث ولم يوف به فقد ترك ماعقد لله كما انه اذا فعل المحلوف فقد ترك ما عقده لله (
يوضح ذلك ( انه اذا حلف بالله او بغير الله مما يعظمه بالحلف فانما حلف به ليعقد به المحلوف عليه ويربطه به لانه يعظمه فى قلبه اذا ربط به شيئا لم يحله فاذا حل ماربطه به فقد انتقصت عظمته من قلبه وقطع السبب الذى بينه وبينه وكما قال بعضهم اليمين العقد على نفسه لحق من له حق ولهذا
إذا كانت اليمين غموسا كانت من الكبائر الموجبة للنار كما قال تعالى ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم فى الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) وذكرها النبى صلى الله عليه وسلم فى عد الكبائر وذلك أنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقدا به فقد نقص الصلة التى بينه وبين ربه بمنزلة من أخبر عن الله بما هو منزه عنه أو تبرأ من الله بخلاف ما إذا حلف على المستقبل فإنه عقد بالله فعلا قاصدا لعقده على وجه التعظيم لله لكن الله أباح له حل هذا العقد الذى عقده كما يبيح له ترك بعض الواجبات لحاجة أو يزيل عنه وجوبها
ولهذا قال أكثر أهل العلم إذا قال هو يهودى أو نصرانى إن لم يفعل ذلك فهي يمين بمنزلة قوله والله لأفعلن لأنه ربط عدم
____________________
(35/274)
الفعل بكفره الذى هو براءته من الله فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله وهذا هو حقيقة الحلف بالله فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدنى حالا من ربطه بالله
( يوضح ذلك ( أنه إذا عقد اليمين بالله فهو عقد لها بإيمانه بالله وهو ما في قلبه من جلال الله وإكرامه الذى هو جد الله ومثله الأعلى فى السماوات والأرض كما أنه إذا سبح الله وذكره فهو مسبح لله وذاكر له بقدر ما فى قلبه من معرفته وعبادته ولذلك جاء التسبيح تارة لإسم الله كما فى قوله ( وإذكر إسم ربك بكرة وأصيلا ) مع قوله ( إذكروا الله ذكرا كثيرا ) فحيث عظم العبد ربه بتسبيح إسمه أو الحلف به أو الإستعاذة به فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلى الذى فى قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته علما وفضلا وإجلالا وإكراما وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلى ما كسبه قلبه من ذلك كما قال سبحانه ( لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) وكما فى موضع آخر ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان )
فلو إعتبر الشارع ما فى لفظ القسم من إنعقاده بالإيمان وإرتباطه به دون قصد الحلف لكان موجبه أنه إذا حنث بغير إيمانه تزول حقيقته كما قال ( لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ( وكما أنه إذا حلف على ذلك يمينا
____________________
(35/275)
فاجرة كانت من الكبائر وإذا إشترى بها مالا معصوما فلا خلاق له فى الآخرة ولا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم لكن الشارع علم أن الحالف بها ليفعلن أولا يفعلن ليس غرضه الإستخفاف بحرمة إسم الله والتعلق به لغرض الحالف باليمين الغموس فشرع له الكفارة وحل هذا العقد وأسقطها عن لغو اليمين لأنه لم يعقد قلبه شيئا من الجناية على إيمانه فلا حاجة إلى الكفارة
وإذا ظهر أن موجب لفظ اليمين إنعقاد الفعل بهذا اليمين الذى هو إيمانه بالله فإذا عدم الفعل كان مقتضى لفظه عدم إيمانه هذا لولا ما شرع الله من الكفارة كما أن مقتضى قوله إن فعلت كذا أوجب على كذا أنه عند الفعل يجب ذلك الفعل لولا ما شرع الله من الكفارة
( يوضح ذلك ( أن النبى قال ( من حلف بغير ملة الاسلام فهوكما قال ( أخرجاه فى الصحيحين فجعل اليمين الغموس فى قوله هو يهودى او نصرانى أن فعل كذا كالغموس فى قوله والله ما فعلت كذا إذ هو فى كلا الأمرين قد قطع عهده من الله حيث علق الايمان بأمر معدوم والكفر بأمر موجود بخلاف اليمين على المستقبل وطرد هذا المعنى أن اليمين الغموس إذا كانت فى النذر أو الطلاق أو العتاق وقع المعلق به ولم ترفعه الكفارة كما يقع الكفر بذلك فى أحد قولي العلماء وبهذا يحصل الجواب عن قولهم المراد به اليمين المشروعة
____________________
(35/276)
و ( أيضا ( قوله سبحانه وتعالى ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم إن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ) فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين على أن معناها أنكم لا تجعلوا الله مانعا لكم إذا حلفتم به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس بأن يحلف الرجل أن لا يفعل معروفا مستحبا أو واجبا أو ليفعلن مكروها أو حراما ونحوه فإذا قيل له أفعل ذلك أو لا تفعل هذا قال قد حلفت بالله فيجعل الله عرضة ليمينه فاذا كان قد نهى عباده أن يجعلوا نفسه مانعا لهم فى الحلف من البر والتقوى
والحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا فى عموم الحلف به وجب أن لا يكون مانعا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى فانه اذا نهى أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقى فغيره أولى أن نكون منهيين عن جعله عرضة لأيماننا وإذا تبين أننا منهيون عن أن نجعل شيئا من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقى ونصلح بين الناس فمعلوم أن ذلك إنما هو لما فى البر والتقوى والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به فاذا حلف الرجل بالنذر او بالطلاق او بالعتاق ان لا يبر ولايتقى ولا يصلح فهو بين أمرين ان وفى بذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه ان يبر ويتقى ويصلح بين الناس وان حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور فقد يكون خروج اهله منه ابعد عن البر والتقوى من الأمر المحلوف عليه فان اقام على يمينه ترك البر والتقوى وان خرج عن اهله وماله ترك البر والتقوى فصارت عرضة ليمينه ان يبر ويتقى فلا يخرج عن ذلك الا بالكفارة
وهذا المعنى هو الذى دلت عليه السنة ففى الصحيحين من حديث همام
____________________
(35/277)
عن ابى هريرة قال رسول الله ( لأن يلج احدكم بيمينه فى أهله آثم له عند الله من ان يعطى كفارته التى افترض الله عليه ( ورواه البخارى ايضا من حديث عكرمة عن ابى هريرة عن النبى ( من استلج فى أهله بيمين فهو أعظم إثما ( فاخبر النبى ان اللجاج باليمين فى اهل الحالف أعظم من التكفير ( واللجاج ( التمادى فى الخصومة ومنه قيل رجل لجوج اذا تمادى فى الخصومة ولهذا تسمى العلماء هذا نذر ( اللجاج والغضب ( فانه يلج حتى يعقده ثم يلج فى الامتناع من الحنث فبين النبى ان اللجاج باليمين اعظم اثما من الكفارة وهذا عام فى جميع الأيمان
وأيضا فان النبى قال لعبد الرحمن بن سمرة ( اذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذى هو خير وكفر عن يمينك ( اخرجاه فى الصحيحين وفى رواية فى الصحيحين ( فكفر عن يمينك وات الذى هو خير ( وروى مسلم فى صحيحه عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذى هو خير ( وفى رواية ( فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه ( وهذا نكرة
____________________
(35/278)
فى سياق الشرط فيعم كل حلف على يمين كائنا ما كان الحلف فاذا رأى غير اليمين المحلوف عليها خيرا منها وهو ان يكون اليمين المحلوف عليها تركا لخير فيرى فعله خيرا من تركه او يكون فعلا لشر فيرى تركه خيرا من فعله فقد امر النبى صلى الله عليه وسلم ان يأتى الذى هو خير ويكفر عن يمينه وقوله هنا ( على يمين ( هو والله اعلم من باب تسمية المفعول باسم المصدر سمى الأمر المحلوف عليه يمينا كما يسمى المخلوق خلقا والمضروب ضربا والمبيع بيعا ونحو ذلك
وكذلك أخرجاه فى الصحيحين عن ابى موسى الأشعرى فى قصته وقصة اصحابه لما جاؤوا إلى النبى ليستحملوه فقال ( والله ما احملكم وما عندى ما احملكم عليه ( ثم قال ( انى والله ان شاء الله لا احلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا اتيت الذى هو خير وتحللتها ( وفى رواية فى الصحيحين ( الا كفرت عن يمينى واتيت الذى هو خير ( وروى مسلم فى صحيحه عن عدى بن حاتم قال قال رسول الله ( اذا حلف احدكم على اليمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذى هو خير ( وفى رواية لمسلم ايضا ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذى هو خير وقد رويت هذه السنة عن النبى من غير
____________________
(35/279)
هذه الوجوه من حديث عبد الله بن عمر وعوف بن مالك الجشمى فهذه نصوص رسول الله المتواترة انه امر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ان يكفر يمينه ويأتى الذى هو خير ولم يفرق بين الحلف بالله او النذر ونحوه وروى النسائى عن ابى موسى قال قال رسول الله ( ما على الأرض يمين احلف عليها فأرى غيرها خيرا منها الا اتيته ( وهذا صريح بانه قصد تعميم كل يمين فى الأرض
وكذلك الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر فى هذا الكلام فروى أبو داود في سننه حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت تسألنى القسمة فكل مالي فى رتاج الكعبة فقال له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( لا يمين عليك ولا نذر فى معصية الرب ولا فى قطيعة الرحم وفيما لا يملك فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذى حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر يمينه وإن لا يفعل ذلك المنذور وإحتج بما سمعه من النبى أنه قال ( لا يمين عليك ولا نذر فى معصية الرب ولا فى قطيعة الرحم وفيما لا يملك ( ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه فى ذلك النذر وإنما عليه الكفارة كما أفتاه عمر ولولا أن هذا النذر
____________________
(35/280)
كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك وإنما قال ( لا يمين ولا نذر ( لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع والنذر ما قصد به التقرب وكلاهما لا يوفى به فى المعصية والقطيعة
وفى هذا الحديث دلالة أخرى وهو أن قول النبى ( لا يمين ولا نذر فى معصية الرب ولا فى قطيعة رحم ( يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ماليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدى أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق ومقصود النبى إما أن يكون نهيه عن المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط أو يكون مقصوده مع ذلك لا يلزمه ما فى اليمين والنذر من الإيجاب والتحريم وهذا الثانى هو الظاهر لإستدلال عمر بن الخطاب به فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح إستدلال عمر بن الخطاب رضى الله عنه على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال فى كسوة الكعبة ولأن لفظ النبى يعم ذلك كله
وأيضا فمما يبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق فى اليمين والحلف فى كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما روى إبن عمر قال قال رسول الله ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه ( رواه أحمد والنسائى وإبن ماجه والترمذى وقال حديث حسن
____________________
(35/281)
وأبو داود ولفظه حدثنا أحمد بن حنبل ثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن إبن عمر يبلغ به النبى صلى الله عليه وسلم قال ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد إستثنى ( ورواه أيضا من طريق عبد الرزاق عن نافع عن إبن عمر قال قال رسول الله ( من حلف فإستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث ( وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ( رواه أحمد والترمذى وإبن ماجه ولفظه ( فله ثنياه ( والنسائى وقال ( فقد إستثنى (
ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر وبالطلاق وبالعتاق فى هذا الحديث وقالوا ينفع فيه الإستثناء بالمشيئة بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه فى مذهبه وإنما الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجزاء وإنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق والعتاق والفرق بين إيقاعهما والحلف بهما ظاهر وسنذكر إن شاء الله ( قاعدة الإستثناء فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء فى قوله ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه ( فكذلك يدخل فى قوله ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذى هو خير ( وليكفر عن يمينه فإن كلا اللفظين سواء وهذا واضح لمن تأمله فإن قوله ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه ( العموم فيه مثله فى قوله
____________________
(35/282)
من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذى خير وليكفر عن يمينه ( وإذا كان لفظ رسول الله فى حكم الإستثناء هو لفظه فى حكم الكفارة وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الإستثناء ينفع فيه التكفير وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الإستثناء كما نص عليه أحمد فى غير موضع
ومن قال إن رسول الله قصد بقوله ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه جميع الأيمان التى يحلف بها من اليمين بالله وبالنذر وبالطلاق وبالعتاق وبقوله ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ( إنما قصد به اليمين بالله أو اليمين بالله والنذر فقوله ضعيف فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبى مثل حضور موجب اللفظ الآخر إذ كلاهما لفظ واحد والحكم فيهما من جنس واحد وهو رفع اليمين إما بالإستثناء وإما بالتكفير
وبعد هذا فأعلم أن الأمة إنقسمت فى دخول الطلاق والعتاق فى حديث الإستثناء على ( ثلاثة أقسام )
فقوم قالوا يدخل فى ذلك الطلاق والعتاق أنفسهما حتى لو قال أنت طالق إن شاء الله وأنت حر إن شاء الله دخل ذلك فى عموم الحديث وهذا قول أبي حنيفة والشافعى وغيرهما
____________________
(35/283)
وقوم قالوا يدخل فى ذلك الطلاق والعتاق لا إيقاعهما ولا الحلف بهما بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم وهذا أشهر القولين فى مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد
( والقول الثالث ( أن إيقاع الطلاق والعتاق لا يدخل فى ذلك بل يدخل فيه الحلف بالطلاق والعتاق وهذه الرواية الثانية عن أحمد ومن أصحابه من قال إن كان الحلف بصيغة القسم دخل فى الحديث ونفعته المشيئة رواية واحدة وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان
( وهذا القول الثالث ( هو الصواب المأثور معناه عن أصحاب رسول الله وجمهور التابعين كسعيد بن المسيب والحسن لم يجعلوا فى الطلاق استثناء ولم يجعلوه من الآيمان ثم قد ذكرنا عن الصحابة وجمهور التابعين أنهم جعلوا الحلف بالصدقة والهدى والعتاق ونحو ذلك يمينا مكفرة وهذا معنى قول أحمد فى غير موضع الاستثناء فى الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان قال أيضا الثنيا فى الطلاق لا أقول به وذلك أن الطلاق والعتاق حرفان واقعان وقال أيضا إنما يكون الاستثناء فيما يكون فيه كفارة والطلاق والعتاق لا يكفران
وهذا الذى قاله ظاهر وذلك أن إيقاع الطلاق والعتاق ليسا يمينا أصلا وانما هو بمنزلة العفو عن القصاص والابراء من الدين ولهذا لو قال ( والله لا أحلف على يمين ثم إنه أعتق عبدا له أو طلق امرأته أو ابرأ
____________________
(35/284)
غريمه من دم أو مال أو عرض فانه لا يحنث ما علمت أحدا خالف فى ذلك فمن أدخل إيقاع الطلاق والعتاق فى قول النبى ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث ( فقد حمل العام ما لا يحتمله كما أن من أخرج من هذا العام قوله الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا أو لا أفعله ان شاء الله أو إن فعلته فامرأتى طالق ان شاء الله فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه فان هذا يمين بالطلاق والعتاق
وهنا ينبغى تقليد أحمد بقوله الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان فان الحلف بهما كالحلف بالصدقة والحج ونحوهما وذلك معلوم بالاضطرار عقلا وعرفا وشرعا ولهذا لو قال والله لا أحلف على يمين أبدا ثم قال إن فعلت كذا فإمرأتى طالق حنث وقد تقدم أن اصحاب رسول الله سموه يمينا وكذلك الفقهاء كلهم سموه يمينا وكذلك عامة المسلمين سموه يمينا
ومعنى اليمين موجود فيه فانه إذا قال أحلف بالله لأفعلن إن شاء الله فان المشيئة تعود عند الاطلاق إلى الفعل المحلوف عليه والمعنى انى حالف على هذا الفعل ان شاء الله فعله فاذا لم يفعل لم يكن قد شاءه فلا يكون ملتزما له فلو نوى عوده إلى الحلف بان يقصد أى الحالف إن شاء الله ان أكون حالفا كان معنى هذا مغايرا الاستثناء فى الانشاءات كالطلاق
____________________
(35/285)
وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك وكذلك قوله الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا إن شاء الله تعود المشيئة عند الاطلاق إلى الفعل فالمعنى لأفعلنه إن شاء الله فعله فمتى لم يفعله لم يكن الله قد شاءه فلا يكون ملتزما للطلاق بخلاف ما لو عنى بالطلاق يلزمنى إن شاء الله لزومه إياه فان هذا بمنزلة قوله أنت طالق إن شاء الله
وقول أحمد إنما يكون الاستثناء فيما فيه حكم الكفارة والطلاق والعتاق لا يكفران كلام حسن بليغ لما تقدم من أن النبى أخرج حكم الاستثناء وحكم الكفارة مخرجا واحدا بصيغة الجزاء وبصيغة واحدة فلا يفرق بين ما جمعه النبى بل إن الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل فان الأحكام التى هي الطلاق والعتاق ونحوهما لا تعلق على مشيئة الله تعالى بعد وجود أسبابها فإنها واجبة بوجوب أسبابها فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله وإنما تعلق على المشيئة الحوادث التى قد يشاؤها الله وقد لا يشاؤها من أفعال العباد ونحوها والكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث فى اليمين التى قد يحصل فيها الموافقة بالبر تارة والمخالفة بالحنث أخرى ووجوب الكفارة بالحنث فى اليمين التى تحتمل الموافقة والمخالفة كارتفاع اليمين بالمشيئة التى تحتمل التعليق وعدم التعليق فكل من حلف على شيء ليفعلنه فلم يفعله فانه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه وإن لم يعلقه بالمشيئة لزمته الكفارة فالاستثناء والتكفير يتعاقبان اليمين إذا لم يحصل فيها الموافقة
____________________
(35/286)
فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع فى هذا الباب من الزيادة أو النقص فهذا على ما أوجبه كلام رسول الله
ثم يقال بعد ذلك قول أحمد وغيره الطلاق والعتاق لا يكفران كقوله وقول غيره لا إستثناء فيهما وهذا فى إيقاع الطلاق والعتاق وأما الحلف بهما فليس تكفيرا لهما وإنما هو تكفير للحلف بهما كما أنه إذا حلف بالصلاة والصيام والصدقة والحج والهدى ونحو ذلك فى نذر اللجاج والغضب فإنه لم يكفر الصلاة والصيام والصدقة والحج والهدى وإنما يكفر الحلف بهم وإلا فالصلاة لا كفارة فيها وكذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها وكما أنه اذا قال إن فعلت كذا فعلى أن أعتق فإن عليه الكفارة بلا خلاف فى مذهب أحمد وموافقيه من القائلين بنذر اللجاج والغضب وليس ذلك تكفيرا للعتق وإنما هو تكفير للحلف به فلازم قول أحمد هذا أنه إذا جعل الحلف بهما يصح فيه الإستثناء كان الحلف بهما تصح فيه الكفارة وهذا موجب سنة رسول الله كما قدمناه
وأما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الإستثناء كأحد القولين فى مذهب أحمد ومذهب مالك فهو قول مرجوح ونحن فى هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه وسنتكلم إن شاء الله فى ( مسألة الإستثناء ( على حدة
____________________
(35/287)