ما اشتريت أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يتوب وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( من باع بيعتين فى بيعة فله أو كسهما أو الربا ( وسئل بن عباس عن ذلك فقال دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة وقال أنس بن مالك هذا مما حرم الله ورسوله
والوجه الثالث أن يشتري السلعة سرا ثم يبيعها للمستدين بيانا فيبيعها أحدهما فهذه تسمى ( التورق ( لأن المشتري ليس غرضه فى التجارة ولا في البيع ولكن يحتاج إلى دراهم فيأخذ مائة ويبقى عليه مائة وعشرون مثلا فهذا قد تنازع فيه السلف والعلماء والأقوى ايضا أنه منهي عنه كما قال عمر بن عبد العزيز ما معناه أن التورق أصل الربا فان الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج وأكل ماله بالباطل وهذا المعنى موجود فى هذه الصورة وانما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى
وانما الذي أباحه الله البيع والتجارة وهو أن يكون المشتري غرضه أن يتجر فيها فأما اذا كان قصده مجرد الدراهم بدراهم اكثر منها فهذا لا خير فيه والله أعلم
____________________
(29/434)
وسئل رحمه الله
عن رجل يداين الناس كل مائة بمائة وأربعين ويجعل سلفا على حرير فاذا جاء الأجل وأعسر المديون عن وفائه قال له عاملنى فيأخذ رب الحرير من عنده ويقول للمديون اشتريت مني هذا الحرير بمائة وتسعين إلا أنه يأتيه على حساب كل مائة بمائة وأربعين واذا قبضه المديون منه قال أوفنى هذا الحرير عن السلف الذي لي عندك واذا جاءت السنة الثانية طالبه بالدراهم المذكورة فأعسرت عليه أو بعضها قال عاملنى فيحسب المتبقى والأصل ويجعل ذلك سلفا على حرير فما يجب على هذا الرجل
فأجاب هذا هو عين الربا الذي أنزل فيه القرآن فانه كان يكون للرجل على الرجل الدين فيأتى إليه عند محل الأجل فيقول اما أن تقضى وأما ان تربي فان وفاه والا زاده المدين فى الدين وزاده الغريم فى الأجل حتى يتضاعف المال فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }
____________________
(29/435)
وهذه المعاملة التى يفعلها مثل هذا المربى مقصودها مقصود أولئك المشركين المربين لكن هذا أظهر صورة المعاملة وهذا لا ينفعه باتفاق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فان هذا المربى يبيعه ذلك الحرير إلى أجل ليوفيه اياه عن دينه فهو بمنزله أن يبيعه إياه إلى أجل ليشتريه بأقل من ذلك وقد سئل بن عباس عن مثل هذا فقال هذا حرام حرمه الله ورسوله وسألت أم ولد زيد بن ارقم عائشة أم المؤمنين عن مثل هذا فقالت اني بعت من زيد غلاما إلى العطاء بثمانمائة درهم ثم ابتعته بستمائة فقالت لها عائشة بئس ما اشتريت وبئس ما بعت أخبري زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يتوب قالت يا أم المؤمنين أرأيت ان لم أجد الا رأس مالي فقالت عائشة ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ( وفي السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من باع بيعتين فى بيعة فله أوكسهما أو الربا (
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( لا يحل سلف وبيع ( فنهى أن يبيع ويقرض ليحابيه فى البيع لأجل القرض وثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( انما الأعمال بالنيات ( فهذان المتعاملان ان كان قصدهما أخذ
____________________
(29/436)
دراهم بدراهم إلى أجل فبأي طريق توصل إلى ذلك كان حراما لأن المقصود حرام لا يحل قصده بل قد نهي السلف عن كثير من ذلك سدا للذرائع لئلا يفضي إلى هذا المقصود
وهذا المربى لا يستحق فى ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل فانه يعفى عنه وأما ما بقى له في الذمم فهو ساقط لقوله { وذروا ما بقي من الربا } والله أعلم
وسئل
عن رجل أراد الاستدانة من رجل فقال أعطيك كل مائة بكسب كذا وتبايعا بينهما شيئا من عروض التجارة فلما استحق الدين طلبه بالدين فعجز عنه فقال اقلب على الدين بكسب كذا وكذا فى المائة وتبايعا بينهما عقارا وفى آخر كل سنة يفعل معه مثل ذلك وفى جميع المبايعات غرضهم الحلال فصار المال عشرة آلاف درهم فهل يحل لصاحب الدين مطالبة الرجل بما زاد في هذه المدة الطويلة وهل لولي الأمر إنكار ذلك أم لا
فأجاب قول القائل لغيره أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا
____________________
(29/437)
حرام
وكذا اذا حل الدين عليه وكان معسرا فانه يجب انظاره ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه باتفاق المسلمين وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التى يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية
والواجب رد المال المقبوض فيها إن كان باقيا وإن كان فانيا رد مثله ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية وعقوبة من يفعلها ورد الناس فيها إلى رؤوس أموالهم دون الزيادات فان هذا من الربا الذي حرمه الله ورسوله وقد قال تعالى { اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون }
وسئل
عن رجل له مع رجل معاملة فتأخر له معه دراهم فطالبه وهو معسر فاشتري له بضاعة من صاحب دكان وباعها له بزيادة مائة درهم حتى صبر عليه فهل تصح هذه المعاملة
____________________
(29/438)
فأجاب لا تجوز هذه المعاملة بل ان كان الغريم معسرا فله أن ينتظره
وأما المعاملة التى يزاد فيها الدين والأجل فهي معاملة ربوية وإن أدخلا بينهما صاحب الحانوت والواجب ان صاحب الدين لا يطالب إلا برأس ماله لا يطالب بالزيادة التى لم يقبضها
وسئل قدس الله روحه
عن ( العينة ( هل هي جائزة فى دين الاسلام أم لا وهل يجوز لأحد أن يقلد فيها بعض من رأى جوازها من الفقهاء أم يجب عليه أن يحتاط لدينه ويتبع النصوص الواردة فى ذلك ومن تاب من ( مسألة العينة ( المذكورة هل يحل له ما ربحه بطريقها أم يجب عليه اخراج الربح ورده إلى أربابه ان قدر أو التصدق بذلك فان عاد اليها مقلدا بعد العلم ببطلانها هل يجوز له ذلك أم لا وكذلك ما تقولون فى ( مسألة الثلاثية ( و ( مسألة التورق (
فأجاب الحمد لله أما اذا كان قصد الطالب أخذ دراهم بأكثر منها إلى أجل والمعطى يقصد إعطاءه ذلك فهذا ربا لا ريب في تحريمه وان تحيلا على ذلك بأي طريق كان فانما الأعمال بالنيات
____________________
(29/439)
و انما لكل امرئ ما نوى فان هذين قد قصدا الربا الذى أنزل الله فى تحريمه القرآن وهو الربا الذي أنزل الله فيه قوله { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }
وكان الرجل فى الجاهلية يكون له على الرجل دين فيأتيه عند محل الأجل فيقول له اما أن تقضى واما أن تربى فان قضاه والا زاده المدين فى المال وزاده الغريم فى الأجل فيكون قد باع المال بأكثر منه إلى أجل فأمرهم الله اذا تابوا أن لا يطالبوا إلا برأس المال وأهل الحيل يقصدون ما تقصده أهل الجاهلية لكنهم يخادعون الله ولهم طرق
أحدها أن يبيعه السلعة إلى أجل ثم يبتاعها بأقل من ذلك نقدا كما قالت أم ولد زيد بن أرقم لعائشة انى بعت من زيد غلاما إلى العطاء بثمانمائة وابتعته بستمائة نقدا فقالت لها عائشة بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يتوب قالت يا أم المؤمنين أرأيت ان لم آخذ الا رأس مالي فقرأت عائشة { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله }
____________________
(29/440)
وقيل لابن عباس رجل باع حريرة إلى أجل ثم ابتاعها بأقل من ذلك فقال دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة وسئل أنس بن مالك عن نحو ذلك فقال هذا مما حرمه الله ورسوله وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من باع بيعتين فى بيعة فله أوكسهما او الربا ( وهؤلاء قد باعوا بيعتين فى بيعة
وكذلك اذا اتفقا على المعاملة الربوية ثم أتيا إلى صاحب حانوت يطلبان منه متاعا بقدر المال فاشتراه المعطي ثم باعه الآخذ إلى أجل ثم أعاده إلى صاحب الحانوت بأقل من ذلك فيكون صاحب الحانوت واسطة بينهما بجعل فهذا ايضا من الربا الذي لا ريب فيه
وكذلك اذا ضما إلى القرض محاباة فى بيع أو اجارة أو غير ذلك مثل أن يقرضه مائة ويبيعه سلعة تساوي خمسمائة أو يؤجره حانوتا يساوي كراه مائة بخمسين فهذا أيضا من الربا ومن رواية الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان فى بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ( قال الترمذي حديث صحيح فقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم السلف وهو القرض مع البيع
والأصل فى هذا الباب ان الشراء على ثلاثة أنواع
____________________
(29/441)
أحدها أن يشتري السلعة من يقصد الانتفاع بها كالأكل والشرب واللباس والركوب والسكنى ونحو ذلك فهذا هو البيع الذي أحله الله
والثانى أن يشتريها من يقصد أن يتجر فيها اما في ذلك البلد وإما فى غيره فهذه هي التجارة التى أباحها الله
والثالث أن لا يكون مقصوده لا هذا ولا هذا بل مقصوده دراهم لحاجته اليها وقد تعذر عليه أن يستسلف قرضا أو سلما فيشتري سلعة ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا هو ( التورق ( وهو مكروه فى أظهر قولي العلماء وهذا إحدى الروايتين عن أحمد كما قال عمر بن عبد العزيز التورق أخية الربا وقال بن عباس اذا استقمت بنقد ثم بعت بنقد فلا بأس به واذا استقمت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم
ومعني كلامه اذا استقمت اذا قومت يعنى اذا قومت السلعة بنقد وابتعتها إلى أجل فانما مقصودك دراهم بدراهم هكذا ( التورق ( يقوم السلعة فى الحال ثم يشتريها إلى أجل بأكثر من ذلك وقد يقول لصاحبه أريد أن تعطينى الف درهم فكم تربح فيقول مائتين أو نحو ذلك أو يقول عندي هذا المال يساوي ألف
____________________
(29/442)
درهم او يحضران من يقومه بألف درهم ثم يبيعه بأكثر منه إلى أجل فهذا مما نهي عنه فى الصحيح
وما اكتسبه الرجل من الأموال بالمعاملات التى اختلفت فيها الأمة كهذه المعاملات المسئول عنها وغيرها وكان متأولا فى ذلك ومعتقدا جوازه لاجتهاد أو تقليد أو تشبه ببعض أهل العلم أو لأنه أفتاه بذلك بعضهم ونحو ذلك فهذه الأموال التى كسبوها وقبضوها ليس عليهم إخراجها وان تبين لهم بعد ذلك أنهم كانوا مخطئين في ذلك وان الذي أفتاهم أخطأ فانهم قبضوها بتأويل فليسوا اسوأ حالا مما اكتسبه الكفار بتأويل باطل
فان الكفار اذا تبايعوا بينهم خمرا أو خنزيرا وهم يعتقدون جواز ذلك وتقابضوا من الطرفين أو تعاملوا بربا صريح يعتقدون جوازه وتقابضوا من الطرفين ثم أسلموا ثم تحاكموا الينا أقررناهم على ما بأيديهم وجاز لهم بعد الاسلام ان ينتفعوا بذلك كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } فأمرهم بترك ما بقي لهم فى الذمم ولم يأمرهم باعادة ما قبضوه
وكان بعض نواب عمر بالعراق يأخذ من أهل الذمة الجزية خمرا ثم يبيعها لهم فكتب إليه عمر ينهاه عن ذلك وقال ان رسول
____________________
(29/443)
الله صلى الله عليه وسلم قال ( لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ( ولكن ولو هم بيعها وخذوا أثمانها فنهاهم عمر عن بيع الخمر وقال ولو أبيعها الكفار فاذا باعوها هم لأهل دينهم وقبضوا أثمانها جاز للمسلمين أن يأخذوا ذلك الثمن منهم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( أيما قسم قسم فى الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الاسلام فهو على قسم الاسلام (
بل اكثر العلماء كمالك وأحمد وأبى حنيفة يقولون بما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وهو أن الكفار المحاربين اذا استولوا على أموال المسلمين بالمحاربة ثم اسلموا بعد ذلك او عاهدوا فانها تقر بأيديهم كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم بيد المشركين ما كانوا أخذوه من أموال المسلمين حال الكفر لأنهم لم يعتقدوا تحريم ذلك وقد أسلموا والاسلام يجب ما قبله فانما غفر لهم بالاسلام ما تقدم من الكفر والأعمال صاروا مكتسبين لها بما لا يأثمون به
واذا كان الأمر كذلك فالمسلم المتأول الذي يعتقد جواز ما فعله من المبايعات والمؤاجرات والمعاملات التى يفتى فيها بعض العلماء اذا أقبض بها أموال وتبين لأصحابها فيما بعد أن القول الصحيح تحريم ذلك لم يحرم عليهم ما قبضوه بالتأويل كما لم يحرم على الكفار بعد الاسلام
____________________
(29/444)
ما اكتسبوه فى حال الكفر بالتأويل ويجوز لغيرهم من المسلمين الذين يعتقدون تحريم ذلك ان يعاملوهم فيه كما يجوز للمسلم أن يعامل الذمي فيما في يده من ثمن الخمر وغيره لكن عليهم اذا سمعوا العلم أن يتوبوا من هذه المعاملات الربوية ولا يصلح أن يقلد فيها أحدا ممن يفتى بالجواز تقليدا لبعض العلماء فان تحريم هذه المعاملات ثابت بالنصوص والآثار ولم يختلف الصحابة فى تحريمها وأصول الشريعة شاهدة بتحريمها
والمفاسد التى لأجلها حرم الله الربى موجودة فى هذه المعاملات مع زيادة مكر وخداع وتعب وعذاب فانهم يكلفون من الرؤية والصفة والقبض وغير ذلك من أمور يحتاج اليها فى البيع المقصود وهذا البيع ليس مقصودا لهم وإنما المقصود أخذ دراهم بدراهم فيطول عليهم الطريق التى يؤمرون بها فيحصل لهم الربا فهم من أهل الربا المعذبين فى الدنيا قبل الآخرة وقلوبهم تشهد بأن هذا الذي يفعلونه مكر وخداع وتلبيس ولهذا قال أيوب السختيانى يخادعون الله كما يخادعون الصبيان فلو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي
والكلام على هذا مبسوط فى غير هذا الموضع وقد صنفت كتابا كبيرا فى هذا والله أعلم
____________________
(29/445)
وسئل
عن الرجل يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها من ذلك الرجل بأقل من ذلك الثمن حالا هل يجوز أم لا
فأجاب أما اذا باع السلعة إلى أجل واشتراها من المشتري بأقل من ذلك حالا فهذه تسمى ( مسألة العينة ( وهي غير جائزة عند أكثر العلماء كأبى حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم وهو المأثور عن الصحابة كعائشة وبن عباس وأنس بن مالك فان بن عباس سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل فقال دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة
وأبلغ من ذلك أن بن عباس قال اذا استقمت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم فبين أنه اذا قوم السلعة بدراهم ثم باعها إلى أجل فيكون مقصوده دراهم بدراهم والأعمال بالنيات وهذه تسمى ( التورق (
فإن المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها وتارة يشتريها
____________________
(29/446)
ليتجر بها فهذان جائزان باتفاق المسلمين وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ دراهم فينظر كم تساوي نقدا فيشتري بها إلى أجل ثم يبيعها فى السوق بنقد فمقصوده الورق فهذا مكروه فى أظهر قولي العلماء كما نقل ذلك عن عمر بن عبد العزيز وهو إحدى الروايتين عن أحمد
وأما عائشة فانها قالت لأم ولد زيد بن أرقم لما قالت لها إنى ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمانمائة وبعته منه بستمائة فقالت عائشة بئس ما بعت وبئس ما اشتريت أخبري زيدا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل الا أن يتوب قالت يا أم المؤمنين أرأيت ان لم آخذ إلا رأس مالي فقالت لها عائشة ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله (
وفى السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن باع بيعتين فى بيعة ( فله أوكسهما او الربا ( وهذا ان تواطآ على أن يبيع ثم يبتاع فما له إلا الأوكس وهو الثمن الأقل أو الربا
وأصل هذا الباب ان الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فان كان قد نوى ما أحله الله فلا بأس وإن نوي ما حرم الله وتوصل إليه بحيلة فان له ما نوى والشرط بين الناس
____________________
(29/447)
ما عدوه شرطا كما ان البيع بينهم ما عدوه بيعا والاجارة بينهم ما عدوه إجارة وكذلك النكاح بينهم ما عدوه نكاحا فان الله ذكر البيع والنكاح وغيرهما فى كتابه ولم يرد لذلك حد فى الشرع ولا له حد فى الفقه
والأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع كالصلاة والزكاة والصيام والحج وتارة باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر وتارة بالعرف كالقبض والتفريق
وكذلك العقود كالبيع والاجارة والنكاح والهبة وغير ذلك فما تواطأ الناس على شرط وتعاقدوا فهذا شرط عند أهل العرف
وسئل رحمه الله
عن رجل دين رجلا شعيرا بستين درهم الغرارة إلى وقت معلوم فلما جاء وقت الأجل طالبه فقال المديون ما أعطيك غير شعير وكان الشعير يساوي ثلاثين درهما الغرارة فهل له أن يأخذ شعيرا أم لا
فأجاب هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء فمذهب الفقهاء السبعة
____________________
(29/448)
و مالك وأحمد فى المنصوص عنه أن ذلك لا يجوز فمن باع مالا ربويا كالحنطة والشعير وغيرهما إلى أجل لم يجز أن يعتاض عن ثمنه بحنطة أو شعير أو غير ذلك مما لا يباع به نسيئة لأن الثمن لم يقبض فكأنه قد باع حنطة أو شعيرا بحنطة أو شعير إلى أجل متفاضلا وهذا لا يجوز باتفاق المسلمين
وقال أبو حنيفة والشافعي هذا يجوز وهو اختيار أبى محمد المقدسي من أصحاب أحمد لأن البائع إنما يستحق الثمن فى ذمة المشتري وبه اشتري فاشبه ما لو قبضه ثم اشتري من غيره وأما ان باع ما عند المشتري من حنطة أو شعير واستوفى حقه من الثمن فذلك جائز بلا ريب واذا كان البائع قد أخذ الحنطة أو الشعير بدون قيمته فذلك اخف والله اعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل اشترى أربع أرادب قمح بمائة درهم إلى اجل معلوم فعند استحقاق المائة وجده يبيع القمح بعشرة دراهم كل اردب فهل يجوز ان يأخذ بالمائة عشرة ارادب قمح او فول أو شعير من الحبوب
____________________
(29/449)
فأجاب هذه المسألة فيها نزاع مشهور اذا باعه حنطة أو شعيرا او نحوهما من الربويات إلى أجل واعتاض عن ثمن ذلك حنطة أو شعيرا أو نحوهما مما لا يباع بالأول نسأ فعند مالك واحمد وغيرهما أن ذلك لا يجوز وعند أبى حنيفة والشافعي أنه يجوز وهو قول بعض اصحاب أحمد
وسئل
عمن يبيع فضة خالصة بفضة مغشوشة الدرهم بدرهم ونصف
فأجاب لا يجوز بيع الفضة بالفضة الا مثلا بمثل واذا كان الغش الذي فى الفضة لا يقصد بالفضة جاز
وأما ان كانت الفضة أكثر من الفضة لم يجز لا سيما ان كانت الفضة التى فى المغشوش أكثر من الخالصة فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل
____________________
(29/450)
وسئل
عن بيع الفضة بالفضة المغشوشة متفاضلا
فأجاب اذا كانت الفضة الخالصة فى أحدهما بقدر الفضة الخالصة فى الأخرى وهي المقصودة والنحاس يذهب وقد علم قدر ذلك بالتحري والاجتهاد فهذا يجوز فى أحد قولي العلماء وكذلك اذا كانت الفضة المفردة أكثر من الفضة المغشوشة بشيء يسير بقدر النحاس فهذا يجوز فى أظهر قولي العلماء
وأما اذا كانت الفضة المغشوشة أكثر من المفردة فانه لا يجوز والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى عن بيع الأكاديس الأفرنجية بالدراهم الإسلامية مع العلم بأن التفاوت بينهما يسير لا يقوم بمؤنة الضرب بل فضة هذه الدراهم أكثر هل تجوز المقابضة بينهما أم لا
____________________
(29/451)
فأجاب هذه المقابضة تجوز في أظهر قولي العلماء والجواز فيه له مأخذان بل ثلاثة
أحدها أن هذه الفضة معها نحاس وتلك فضة خالصة والفضة المقرونة بالنحاس أقل فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلا من الدراهم الخالصة فالفضة التي في المائة أقل من سبعين فإذا جعل زيادة الفضة بازاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة مد عجوة كما هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في أحدى الروايتين
وهو أيضا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه إذا كان الربوى تبعا لغيره كما إذا باع شاة ذات لبن بلبن ودارا مموهة بالذهب بذهب والسيف المحلي بفضة بفضة أو ذهب ونحو ذلك
والذين منعوا من مسألة ( مد عجوة ( وهو بيع الربوي بجنسه اذا كان معهما أو مع أحدهما من غير جنسه قد علله طائفة منهم من أصحاب الشافعي وأحمد بأن الصفقة اذا اشتملت على عوضين مختلفين انقسم الثمن عليهما بالقيمة وهذه علة ضعيفة فان الانقسام اذا باع شقصا مشفوعا وما ليس بمشفوع كالعبد والسيف والثوب اذا كان لا يحل عاد الشريك إلى الآخذ بالشفعة فأما انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة فلا دليل عليه
____________________
(29/452)
والصحيح عند أكثرهم كون ذلك ذريعة إلى الربا بأن يبيع ألف درهم فى كيس بألفي درهم ويجعل الألف الزائدة فى مقابلة الكيس كما يجوز ذلك من يجوزه من أصحاب أبى حنيفة
والصواب فى مثل هذا أنه لا يجوز لان المقصود بيع دراهم بدراهم متفاضلة فمتي كان المقصود ذلك حرم التوسل إليه بكل طريق فانما الأعمال بالنيات
وكذلك اذا لم يعلم مقدار الربوي بل يخرص خرصا مثل القلادة التى بيعت يوم حنين وفيها خرز معلق بذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تباع حتى تفصل ( فان تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل لأن الذهب المفرد يجوز ان يكون أنقص من الذهب المقرون فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله وزيادة خرز وهذا لا يجوز
واذا علم المأخذ فاذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها وكان المفرد أكثر من المخلوط كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة بحيث تكون الزيادة فى مقابلة الخلط لم يكن فى هذا من مفسدة الربا شيء اذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم اكثر منها ولا هو بما يحتمل أن
____________________
(29/453)
يكون فيه ذلك فيجوز التفاوت المأخذ الثاني مأخذ من يقول يجوز بيع الربوي بالربوي على سبيل التحري والخرص عند الحاجة إلى ذلك إذا تعذر الكيل أو الوزن كما يقول ذلك مالك والشافعي وأحمد في بيع العرايا بخرصها كما مضت به السنة في جواز بيع الرطب بالتمر خرصا لأجل الحاجة ويجوز ذلك في كل الثمار في أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره وفي الثاني لا يجوز وفي الثالث يجوز في العنب والرطب خاصة كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وكما يقول نظير ذلك مالك وأصحابه في بيع الموزون على سبيل التحري عند الحاجة كما يجوز بيع الخبز بالخبز على وجه التحري وجوزوا بيع اللحم باللحم على وجه التحري في السفر قالوا لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ولا ميزان عندهم فيجوز كما جازت العرايا وفرقوا بين ذلك وبين الكيل فإن الكيل ممكن ولو بالكف وإذا كانت السنة قد مضت بإقامة التحري والاجتهاد مقام العلم بالكيل أو الوزن عند الحاجة فمعلوم أن الناس يحتاجون إلى بيع هذه الدراهم المغشوشة بهذه الخالصة وقد عرفوا مقدار ما فيها من الفضة
____________________
(29/454)
بأخبار أهل الضرب واخبار الصيارفة وغيرهم ممن سبك هذه الدراهم وعرف قدر ما فيها من الفضة فلم يبق فى ذلك جهل مؤثر بل العلم بذلك أظهر من العلم بالخرص أو نحو ذلك وهم انما مقصودهم دراهم بدراهم بقدر نصيبهم ليس مقصودهم أخذ فضة زائدة ولو وجدوا من يضرب لهم هذه الدراهم فضة خالصة من غير اختيارهم بحيث تبقى في بلادهم لفعلوا ذلك وأعطوه أجرته فهم ينتفعون بما يأخذونه من الدراهم الخالصة ولا يتضررون بذلك وكذلك أرباب الخالصة اذا أخذوا هذه الدراهم فهم ينتفعون بذلك لا يتضررون
وهذا ( مأخذ ثالث ( يبين الجواز وهو ان الربا إنما حرم لما فيه من أخذ الفضل وذلك ظلم يضر المعطي فحرم لما فيه من الضرر واذا كان كل من المتقابضين مقابضة أنفع له من كسر دراهمه وهو إلى ما يأخذه محتاج كان ذلك مصلحة لهما هما يحتاجان إليها والمنع من ذلك مضرة عليهما والشارع لا ينهي عن المصالح الراجحة ويوجب المضرة المرجوحة كما قد عرف ذلك من أصول الشرع
وهذا كما أن من أخذ ( السفتجة ( من المقرض وهو أن يقرضه دراهم يستوفيها منه في بلد آخر مثل أن يكون المقرض غرضه حمل دراهم إلى بلد آخر والمقترض له دراهم فى ذلك البلد وهو محتاج إلى دراهم فى بلد المقرض فيقترض منه في بلد دراهم المقرض ويكتب
____________________
(29/455)
له سفتجة أي ورقة إلى بلد دراهم المقترض فهذا يجوز في أصح قولي العلماء
وقيل ينهى عنه لأنه قرض جر منفعة والقرض اذا جر منفعة كان ربا والصحيح الجواز لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهمه إلى بلد دراهم المقترض فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض والشارع لا ينهي عما ينفع الناس ويصلحهم ويحتاجون إليه وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم وقد أغناهم الله عنه والله أعلم
وسئل
عمن اشتري الفلوس أربعة عشر قرطاسا بدرهم ويصرفها ثلاثة عشر بدرهم هل يجوز
فأجاب اذا كان يصرفها للناس بالسعر العام جاز ذلك وان اشتراها رخيصة
وأما من باع سلعة بدراهم فانه لا يجب عليه أن يقتضى عن شيء منها فلوسا إلا باختياره وكذلك من اشتراها بدراهم فعليه أن يوفيها دراهم فان تراضيا على التعويض عن الثمن أو بعضه بفلوس بالسعر الواقع جاز والله أعلم
____________________
(29/456)
وسئل
عن الفلوس وبيع بعضها ببعض متفاضلا وصرفها بالدراهم من غير تقابض فى الحال ودافع الدرهم يأخذ ببعضه فلوسا وببعضه قطعة من فضة
فأجاب اذا دفع الدرهم فقال أعطني بنصفه فضة وبنصفه فلوسا وكذلك لو قال أعطنى بوزن هذه الدراهم الثقيلة أنصافا أو دراهم خفافا فانه يجوز سواء كانت مغشوشة او خالصة ومن الفقهاء من يكره ذلك ويجعله من باب ( مد عجوة ( لكونه باع فضة ونحاسا بفضة ونحاس
وأصل مسألة ( مد عجوة ( أن يبيع مالا ربويا بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما فان للعلماء فى ذلك ثلاثة أقوال
أحدها المنع مطلقا كما هو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد
والثاني الجواز مطلقا كقول أبى حنيفة ويذكر رواية عن أحمد
____________________
(29/457)
والثالث الفرق بين أن يكون المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا أولا يكون وهذا مذهب مالك وأحمد فى المشهور عنه فاذا باع تمرا فى نواه بنوي أو تمرا منزوع النوي أو شاة فيها لبن بشاة ليس فيها لبن أو بلبن ونحو ذلك فانه يجوز عندهما بخلاف ما اذا باع ألف درهم بخمسمائة درهم فى منديل فان هذا لا يجوز
فمن كان قصده بيع الربوي بجنسه متفاضلا لم يجز وان كان تبعا غير مقصود جاز ومالك رحمه الله يقدر ذلك بالثلث
وهكذا اذا باع حنطة فيها شعير يسير بحنطة فيها شعير يسير فان ذلك يجوز عند الجمهور وكذلك اذا باع الدراهم التى فيها غش بجنسها فان الغش غير مقصود والمقصود بيع الفضة بالفضة وهما متماثلان
وكذلك صرف الفلوس بالدراهم المغشوشة يقول من يكرهه أنه بيع فضة ونحاس بنحاس والصحيح الذي عليه الجمهور أن هذا كله جائز
____________________
(29/458)
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل وأما بيع الفضة بالفلوس النافقة هل يشترط فيها الحلول والتقابض كصرف الدراهم بالدنانير فيه قولان هما روايتان عن أحمد
إحداهما لابد من الحلول والتقابض فإن هذا من جنس الصرف فإن الفلوس النافقة تشبه الأثمان فيكون بيعها بجنس الأثمان صرفا
والثانية لا يشترط الحلول والتقابض فإن ذلك معتبر في جنس الذهب والفضة سواء كان ثمنا أو كان صرفا أو كان مكسورا بخلاف الفلوس ولأن الفلوس هي في الأصل من باب العروض والثمنية عارضة لها
وأيضا هذا مبني على الأصل الآخر وهو أن بيع النحاس متفاضلا هل يجوز على قولين معروفين فيه وفي سائر الموزونات كالحديد بالحديد والرصاص بالرصاص والقطن بالقطن والكتان بالكتان
____________________
(29/459)
والحرير بالحرير
احدهما لا يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلا وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه وأحمد فى أشهر الروايتين عنه (
والثاني ( أن ذلك جائز وهو مذهب مالك والشافعي واحمد فى الرواية الأخري اختارها طائفة من أصحابه
ومن قال بالتحريم اختلفوا فى المعمول من ذلك كثياب القطن والكتان والأسطال وقدور النحاس وغير ذلك هل يجري فيه الربا على ثلاثة أقوال
أصحها الفرق بين ما يقصد وزنه بعد الصنعة كثياب الحرير والأسطال ونحوهما وبين ما لا يقصد وزنه كثياب القطن والكتان والابر وغيرها
وعلى هذا فالفلوس يجري فيها الربا عند من يقول أن معمول النحاس يجري فيه ومن اعتبر قصد الوزن لم يجر الربا فيها عنده لأنه لا يقصد وزنها فى العادة وانما تنفق عددا
لكن من قال هي أثمان فهل يجري فيها الربا من هذه الجهة على وجهين لهم وكذلك فيها وجهان فى وجوب الزكاة فيها وفي إخراجها عن الزكاة وغير ذلك والوجهان فى مذهب أحمد وغيره
____________________
(29/460)
وسئل
عن رجل قال لانسان أعطنى بهذه الدراهم أنصافا قال له ما يجوز فهل يجوز ذلك
فأجاب الحمد لله هذه فيها نزاع بين العلماء لكن الأكثرون على جواز ذلك كأبى حنيفة ومالك وأحمد فى ظاهر مذهبه
فان المسألة التى نقلتها الفقهاء مسألة ( مد عجوة ( على ثلاثة اقسام يجمعها أنه بيع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما
القسم الأول ( أن يكون المقصود بيع ربوي بجنسه متفاضلا ويضم إلى الأقل غير الجنس حيلة مثل أن يبيع ألفي دينار بألف دينار فى منديل او قفيز حنطة بقفيز وغرارة ونحو ذلك فان الصواب فى مثل هذا القول بالتحريم كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد والا فلا يعجز احد فى ربا الفضل ان يضم إلى القليل شيئا من هذا
( القسم الثانى ( أن يكون المقصود بيع غير ربوي مع ربوي وانما دخل الربوي ضمنا وتبعا كبيع شاة ذات صوف ولبن بشاة ذات
____________________
(29/461)
صوف ولبن أو سيف فيه فضة يسيرة بسيف أو غيره أو دار مموهة بذهب بدار ونحو ذلك فهنا الصحيح فى مذهب مالك واحمد جواز ذلك
وكذلك لو كان المقصود بيع الربوي بغير الربوي مثل بيع الدار والسيف ونحوهما بذهب أو بيعه بجنسه وهما متساويان
ومسألة الدراهم المغشوشة فى زماننا من هذا الباب فان الفضة التى فى أحد الدرهمين كالفضة التى فى الدرهم الآخر وأما النحاس فهو تابع غير مقصود ولهذا كان الصحيح جواز ذلك بخلاف القسم الثالث وهو ما اذا كان كلاهما مقصودا مثل بيع مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم أو مدين أو درهمين أو بيع دينار بنصف دينار وعشرة دراهم أو بيع عشرة دراهم ورطل نحاس بعشرة دراهم ورطل نحاس فمثل هذه فيها نزاع مشهور فأبو حنيفة يجوز ذلك والشافعي يحرمه وعن احمد روايتان ولمالك تفصيل بين الثلث وغيره
____________________
(29/462)
وسئل رحمه الله
عن الذهب المخيش اذا علم مقدار ما فيه من الفضة والذهب فهل يجوز بيعه باحدهما اذا كان المفرد اكثر من الذي معه غيره
فأجاب الحمد لله هذا على ثلاثة أنواع
أحدها ان يكون المقصود بيع فضة بفضة متفاضلا أو بيع ذهب بذهب متفاضلا ويضم إلى الأنقص من غير جنسه حيلة فهذا لا يجوز أصلا
والثانى أن يكون المقصود بيع أحدهما وبيع عرض بأحدهما وفي العرض ما ليس مقصودا مثل بيع السلاح باحدهما وفيه حيلة يسيرة أو بيع عقار بأحدهما وفى سقفه وحيطانه كذلك مثل بيع غنم ذات صوف بصوف وذات لبن بلبن فهذا يجوز عند اكثر العلماء وهو الصواب
وبيع الفضة المخيشة بذهب يذهب عند السبك بفضة مثله هو من هذا الباب فاذا بيعت الفضة المصنوعة المخيشة بذهب أو بيعت
____________________
(29/463)
بذهب مقبوض جاز ذلك واذا بيعت الفضة المصنوعة بفضة اكثر منها لأجل الصناعة لم يجز
والثالث أن يكون كلا الأمرين مقصودا مثل أن يكون على السلاح ذهب أو فضة كثير فهذا اذا كان معلوم المقدار وبيع بأكثر من ذلك ففيه نزاع مشهور والأظهر أنه جائز واذا بيعت الفضة المصنوعة المخيشة بذهب او بيعت بذهب مغشوش جاز ذلك واذا بيعت الفضة المصنوعة بفضة أكثر منها لم يجز والله أعلم
وقال رحمه الله فصل
وأما بيع الدراهم النقرة التى تكون فضتها نحو الثلثين بالدراهم السود التى تكون فضتها نحو الربع أو أقل أو أكثر فهذه مما تتعلق بمسألة مد عجوة
وجماعها أن يبيع ربويا معه غيره بجنس ذلك الربوي والناس فيها بين طرفى التحريم والتحليل وبين متوسط
____________________
(29/464)
فاذا كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا وقد أدخل الغير حيلة كمن يبيع الفي درهم بألف درهم فى منديل أو قفيزي حنطة بقفيز فى زنبيل فهذا لا ريب فى تحريمه كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد
وان كان المقصود هو البيع الجائز وما فيه من مقابلة ربوي بربوي هو داخل على وجه التبع كبيع الغنم بالغنم وفى كل منهما لبن وصوف أو بيع غنم ذات لبن بلبن وبيع دار مموهة بذهب وبيع الحلية الفضية بذهب وعليهما ذهب يسير موهت به ونحو ذلك
فهذا الصواب فيه أنه جائز كما هو المشهور من مذهب أحمد وغيره كما جاز دخول الثمرة قبل بدو صلاحها فى البيع تبعا وقد جاء مع ذلك الحديث الذي رواه مسلم مرفوعا كما رواه سالم عن أبيه ورواه نافع عن بن عمر مرفوعا ( من باع عبدا له وله مال فماله للبائع الا أن يشترط المبتاع (
واما ان كان كلا الصنفين مقصودا ففيهما النزاع المشهور ومنهم من منعه اما لكونه ذريعة إلى الربا وإما لكون الصفقة المشتملة على عوضين مختلفين ينقسم الثمن عليهما بالقيمة وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد فى احدي روايتيه
____________________
(29/465)
و منهم من جوزه كمذهب أبى حنيفة وغيره والرواية الأخرى عن أحمد اذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره
اذا عرف ذلك فبيع النقرة المغشوشة بالنقرة المغشوشة جائز على الصحيح كبيع الشاة اللبون باللبون اذا تماثلا فى الصفة أو النحاس وأما بيع النقرة بالسوداء اذا لم يقصد به فضة بفضة متفاضلا فان النحاس الذي في السوداء مقصود وهي قرينة بين النقرة والفلوس فهذه تخرج على النزاع المشهور فى مسألة ( مد عجوة ( اذ قد باع فضة ونحاسا بفضة ونحاس مقصودين والأشبه الجواز فى ذلك وفى سائر هذا الباب اذا لم يشتمل على الربا المحرم
والأصل حمل العقود على الصحة والحاجة داعية إلى ذلك وحديث الخرز المعلقة بالذهب لم يعلم كون الذهب المفرد أكثر من الذي مع الخرز والتقويم فى العوضين المختلفين كان للحاجة هذا ان كان النحاس ينتفع به إذا تخلص من الفضة فان كان لا ينتفع به فذلك كبيع الفضة بالفضة يعتبر فيه التماثل ويلغي فيه ما لا خبرة للناس بمقدار الفضة والله أعلم
____________________
(29/466)
وسئل
عن جماعة تبيع بدراهم وتوفي عن بعضها فلوسا محاباة ثم تخبر عن الثمن بالثمن المسمى
فأجاب ليس لهم أن يوفوا فلوسا إلا برضا البائع واذا أوفوا فلوسا فليس لهم أن يوفوها الا بالسعر الواقع كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر لما قال له أنا نبيع بالذهب ونقتضي الورق ونبيع بالورق ونقتضي الذهب فقال ( لا بأس به بسعر يومه اذا افترقتما وليس بينكما شيء (
وحينئذ فتخيير الثمن على التقدير سواء وذلك لأن هذا ربح فيما لم يضمن وعلى هذا التقدير فجميع الديون والاعتياض عنها سواء لأن التقديرين يجريان مجري واحدا فاستيفاء أحدهما عن الآخر كاستيفاء أحدهما عن نفسه فلا يكون ذلك من باب المعاوضة فلا تجوز فيه الزيادة بالشرط كما لا يجوز فى القرض ونحوه مما يوجب المماثلة
فاذا اتفقا على أن يوفي أحدهما اكثر من قيمته كان كالاتفاق
____________________
(29/467)
على أن يوفي عنه اكثر منه من جنسه بخلاف الزيادة من غير شرط وعلى هذا فالفلوس النافقة قد يكون فيها شوب اقوى من الأثمان فتوفيتها عن أحد النقدين كتوفية أحدهما عن صاحبه فيه العلتان لحديث بن عمر يحسبها بنقدين فى الحكم ويقتصر به عن الاثمان والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن الفلوس تشتري نقدا بشيء معلوم وتباع إلى أجل بزيادة فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب الحمد لله هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين العلماء وهو صرف الفلوس النافقة بالدراهم هل يشترط فيها الحلول أم يجوز فيها النسأ على قولين مشهورين هما قولان فى مذهب أبى حنيفة وأحمد بن حنبل
( أحدهما ( وهو منصوص أحمد وقول مالك وإحدي الروايتين عن أبي حنيفة أنه لا يجوز وقال مالك وليس بالحرام البين
( والثاني ( وهو قول الشافعي وأبى حنيفة فى الرواية الأخرى
____________________
(29/468)
وبن عقيل من أصحاب أحمد أنه يجوز ومنهم من يجعل نهي أحمد للكراهة فانه قال هو يشبه الصرف والأظهر المنع من ذلك فان الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان وتجعل معيار أموال الناس
ولهذا ينبغى للسلطان أن يضرب لهم فلوسا تكون بقيمة العدل فى معاملاتهم من غير ظلم لهم ولا يتجر ذو السلطان فى الفلوس أصلا بان يشتري نحاسا فيضربه فيتجر فيه ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التى بايديهم ويضرب لهم غيرها بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه للمصلحة العامة ويعطي أجرة الصناع من بيت المال فان التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل فانه اذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضا وضرب لهم فلوسا أخرى أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها وظلمهم فيها بصرفها باغلى سعرها
وأيضا فاذا اختلفت مقادير الفلوس صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارا فيصرفونها وينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس ( فاذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس ولم يشتر ولي الأمر النحاس والفلوس الكاسدة ليضربها فلوسا ويتجر بذلك حصل بها المقصود
____________________
(29/469)
من الثمنية
وكذلك الدراهم فان النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين ( و ( نهى عن صرف الدراهم بالدنانير إلا يدا بيد ( وتحريم النسأ متفق عليه بين الأمة وتحريم التفاضل يدا بيد قد ثبت فيه أحاديث صحيحة وقال به جمهور الأمة ولكن لله ولرسوله فى الشريعة من الحكمة البالغة والنعمة التامة والرحمة العامة ما قد يخفى على كثير من العلماء
وقد اختلفوا فى كثير من ( مسائل الربا ( قديما وحديثا واختلفوا فى تحريم التفاضل فى الأصناف الستة الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح هل هو التماثل وهو الكيل والوزن أو هو الثمنية والطعم أو هو الثمنية والتماثل مع الطعم والقوت وما يصلحه أو النهي غير معلل والحكم مقصور على مورد النص على أقوال مشهورة
و ( الأول ( مذهب أبى حنيفة وأحمد فى أشهر الروايات عنه و ( الثاني ( قول الشافعي وأحمد فى رواية و ( الثالث ( قول أحمد فى رواية ثالثة اختارها أبو محمد وقول مالك قريب من هذا وهذا القول أرجح من غيره و ( الرابع ( قول داود وأصحابه ويروي عن قتادة ورجح بن عقيل هذا القول فى مفرداته وضعف
____________________
(29/470)
الأقوال المتقدمة وفيها قول شاذ أن العلة المالية وهو مخالف للنصوص ولاجماع السلف والاتحاد فى الجنس شرط على كل قول من ربا الفضل
والمقصود هنا الكلام فى علة تحريم الربا فى الدنانير والدراهم والأظهر أن العلة فى ذلك هو الثمنية لا الوزن كما قاله جمهور العلماء ولا يحرم التفاضل فى سائر الموزونات كالرصاص والحديد والحرير والقطن والكتان
ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا والمنازع يقول جواز هذا استحسان وهو نقيض للعلة ويقول إنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه فيلزمه أن يجعل العلة الربا بما ذكره وذلك خلاف قوله وتخصيص العلة الذي قد سمي استحسانا إن لم يبين دليل شرعي يوجب تعليق الحكم للعلة المذكورة واختصاص صورة التخصيص بمعنى يمنع ثبوت الحكم من جهة الشرع والأحاديث والا كانت العلة فاسدة
والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب فان المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال ولا
____________________
(29/471)
يقصد الانتفاع بعينها فمتي بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التى تناقض مقصود الثمنية واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب فان ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها فى الذمة مع أنها ثمن من طرفين فنهي الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل فاذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ( وهو المؤخر بالمؤخر ولم ينه عن بيع دين ثابت فى الذمة يسقط اذا بيع بدين ثابت فى الذمة يسقط فان هذا الثاني يقتضي تفريغ كل واحدة من الذمتين ولهذا كان هذا جائزا فى أظهر قولي العلماء كمذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما بخلاف ما اذا باع دينا يجب في الذمة ويشغلها بدين يجب فى الذمة كالمسلم اذا أسلم فى سلعة ولم يقبضه رأس المال فانه يثبت فى ذمة المستسلف دين السلم وفى ذمة المسلف رأس المال ولم ينتفع واحد منهما بشيء ففيه شغل ذمة كل واحد منهما بالعقود التى هي وسائل إلى القبض وهو المقصود بالعقد كما أن السلع هي المقصودة بالأثمان فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل كما لا يباع كالئ بكالئ لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنية ومقصود العقود بخلاف كون المال موزونا ومكيلا فان هذا صفة لما
____________________
(29/472)
به يقدر ويعلم قدره ولأن فى ذلك معني يناسب تحريم التفاضل فيه
فاذا قيل المكيلات والموزونات متماثلة وعلة التحريم نفي التماثل قيل العاقل لا يبيع شيئا بمثله إلى أجل ولكن قد يقرض الشيء ليأخذ مثله بعد حين والقرض هو تبرع من جنس العارية كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم ( منيحة ورق أو منيحة ذهب ( فالمال اذا دفع إلى من يستوفي منفعته مدة ثم يعيده إلى صاحبه كان هذا تبرعا من صاحبه بنفعه تلك المدة وان كان لكل نوع اسم خاص فيقال فى النخلة عارية ويقال فيما يشرب لبنه منيحة ثم قد يعيد إليه عين المال ان كان مقصودا والا أعاد مثله والدراهم لا تقصد عينها فاعادة المقترض نظيرها كما يعيد المضارب نظيرها وهو رأس المال ولهذا سمي قرضا ولهذا لم يستحق المقرض الا نظير ماله وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء والمقرض يستحق مثل قرضه فى صفته كما يستحق مثله فى الغصب والاتلاف ومثل هذا لا يبيعه عاقل وانما يباع الشيء بمثله فيما اذا اختلفت الصفة
والشارع طلب الغاء الصفة فى الأثمان فأراد أن تباع الدراهم بمثل وزنها ولا ينظر إلى اختلاف الصفات مع خفة وزن كل درهم كما يفعله من يطلب دراهم خفافا أما ليعطيها للظلمة واما ليقضي بها
____________________
(29/473)
و اما لغير ذلك فيبدل أقل منها عددا وهو مثلها وزنا فيريد المربى أن لا يعطيه ذلك الا بزيادة فى الوزن فهذا اخراج الأثمان عن مقصودها وهذا مما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب بخلاف مواضع تنازع العلماء فيها ليس هذا موضع تفصيلها والله أعلم
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
عمن يبخس المكيال والميزان
فأجاب أما بخس المكيال والميزان فهو من الأعمال التى أهلك الله بها قوم شعيب وقص علينا قصتهم فى غير موضع من القرآن لنعتبر بذلك والاصرار على ذلك من أعظم الكبائر وصاحبه مستوجب تغليظ العقوبة وينبغي أن يؤخذ منه ما بخسه من أموال المسلمين على طول الزمان ويصرف فى مصالح المسلمين اذا لم يمكن إعادته إلى أصحابه
والكيال والوزان الذي يبخس الغير هو ضامن محروم مأثوم وهو من أخسر الناس صفقة اذ باع آخرته بدنيا غيره ولا يحل أن يجعل بين الناس كيالا أو وزانا يبخس أو يحابي كما لا يحل أن يكون بينهم مقوم يحابى بحيث يكيل أو يزن أو يقوم لمن يرجوه أو يخاف من شره أو يكون له جاه ونحوه بخلاف ما يكيل أو يزن
____________________
(29/474)
أو يقوم لغيرهم أو يظلم من يبغضه ويزيد من يحبه
قال الله تعالى { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } والله أعلم
____________________
(29/475)
& باب بيع الاصول والثمار
سئل شيخ الاسلام رحمه الله ورضي عنه
عن رجل اشتري دارا ولم يكن لها بروز ثم أنه هدمها وعمرها وأحدث بروزا وسلما وبابا فى زقاق غير نافذ فخاف من الدعوى عليه والأيمان بالله تعالى أنه ما أحدث فى هذه الدار شيئا فملكها للغير وذكر أنه باعها بالمهلة وعمل هذا البيع أحبولة ومواطأة حتى يضيع الحق فهل تلزم اليمين لمن أحدث وباع أم تلزم الذي اشتري وهو لم يحدث شيئا فأجاب الحمد لله بيعها لا يسقط الدعوى ولا اليمين الواجبة بالدعوى وصاحب الحق له أن يدعى على المشتري المستولي على ما أحدث ليزال الاحداث وله أن يدعى على البائع المحدث له الممكن له المشتري من الاستيلاء فعلى أيهما ادعى صحت دعواه
____________________
(29/476)
وسئل رحمه الله
عن رجل بنى دارا عالية وسافلة وأجري العالية على السافلة ثم باعها فى صفقتين لاثنين ولم يذكر لمشتري السفلى أن عليه حق ماء وقد تضرر
فأجاب أما البيع فيقع على الصورة الواقعة لكن اذا لم يعلم المشتري أن على سطحه حقا لغيره فله الفسخ أو الأرش
وسئل
عن رجل باع زرعا أخضر قبل أن يدرك هل يجوز ذلك
فأجاب بيع الزرع بشرط التبقية لا يجوز باتفاق العلماء وان اشتراه بشرط القطع جاز بالاتفاق وان باعه مطلقا لم يجز عند جماهير العلماء فان النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع الحب حتى يشتد والعنب حتى يسود
____________________
(29/477)
وسئل رحمه الله
عن ملك بستان شجره مختلف منه ما يبدو صلاحه كالمشمش ومنه ما يتأخر بدو صلاحه كالرمان ومنه ما يبدو صلاحه بينهما كالعنب والتين والرطب وانتم لا تصححون البيع الا بعد بدو الصلاح فكيف يمكن الاحتياط الشرعي مع هذا الاختلاف فى بدو الصلاح بتقدمه وتأخره وتوسطه فان باع مثلا المشمش عند صلاحه ولم تجوزوا بيع العنب حيث هو فى ذلك الوقت حصرم على ما لم يكن لهم أفتونا
فأجاب رضي الله عنه الحمد لله رب العالمين هذه المسألة لها صورتان
( احداهما ( أن يضمن البستان ضمانا بحيث يكون الضامن هو الذي يزرع أرضه ويسقي شجره كالذي يستأجر الأرض والأخرى إنما يكون اشترى مجرد الثمرة بحيث يكون مؤنة السقي والاصلاح على البائع دون المشتري والمشتري ليس له الا الثمرة ولا مؤنة عليه
____________________
(29/478)
فأما ( الصورة الأولى ( فللعلماء فيها ثلاثة أقوال
( أحدها ( أنها داخلة فى النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وعلى هذا فمنهم من يحتال على ذلك باجارة الأرض والمساقاة على الشجر كما يذهب إلى ذلك طائفة من اصحاب أبي حنيفة والشافعي وبعض أصحاب أحمد منهم القاضي أبو يعلي في ( كتاب ابطال الحيل ( والمنصوص عن أحمد بطلان هذه الحيل وهو مذهب مالك وغيره وكثير من الصور تكون باطلة بالاجماع
( والقول الثاني ( يفرق بين أن تكون الأرض كثيرة او قليلة فان كانت الأرض البيضاء اكثر من الثلثين والشجر أقل من الثلث جاز إجارة الأرض ودخل فيها بيع الثمر ضمنا وتبعا وهذا قول مالك وفي وقف الثلث قولان
( الثالث ( جواز ذلك مطلقا سواء كانت الأرض أقل أو أكثر وهذا قول طائفة من السلف والخلف منهم بن عقيل من أصحاب الامام أحمد وغيره وهذا هو المأثور عن الصحابة فانه قد روي حرب الكرماني وأبو زرعة الدمشقي وغيرهما باسناد ثابت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل حديقة أسيد بن حضير لما مات ثلاث سنين وتسلف القبالة ووفي بها دينا كان علي أسيد ومثل
____________________
(29/479)
هذه القصة لابد أن تنتشر ولم ينكرها احد
وايضا فانه وضع الخراج على أرض الخراج والأعيان والخراج أجرة فى مذهب مالك والشافعي وأحمد فى المشهور والأرض ذات شجر فأجر الجميع وهذا القول أصح الأقوال وبه ترك الخراج عن المسلمين فى مثل ذلك وله مأخذان
( أحدهما ( أنه لابد من اجارة الأرض وذلك لا يمكن الا مع الشجر فجاز للحاجة لعدم إمكان التبعيض كما انه اذا بدى بعض ثمر الشجر جاز بيع جميعها اتفاقا بل اذا بدى الصلاح فى شجرة كان صلاحا لذلك النوع فى تلك الحديقة عند جماهير العلماء وفى سائر البساتين نزاع وذلك أنه يدخل فى الفرد والعقود تبعا ما لا يدخل استقلالا كما يدخل أساس الحيطان ودواخلها وعمل الحيوانات وما يدخل من الزيادة بعد بدو الصلاح وكما ثبت عنه فى الصحيحين أنه قال ( من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع الا أن يشترط المبتاع (
واذا اشترط المبتاع الثمر المؤبر جاز بالنص والاجماع وهو ثمر لم يبد صلاحه جاز بيعه تبعا لغيره وغير ذلك ويجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها كما جاز بيع العرايا بالتمر وكما جوز من جوز المضاربة والمساقاة والمزارعة تبعا ومن القياس عنده أن ذلك لا يجوز لأن ذلك عنده اجارة كما
____________________
(29/480)
هو مذهب ابى حنيفة ومالك والشافعي
ومن جعل ذلك مشاركة وجعلها أصلا آخر يجوز ذلك نصا لا قياسا وليس هو مخالفا للقياس كما هو مذهب جمهور السلف وطوائف من الخلف من أصحاب ابى حنيفة كصاحبيه ومن أصحاب الشافعي كالخطابي وغيره وهو مذهب أحمد وغيره فهنا اتم نظرا
( والمأخذ الثاني ( أن النبي صلى الله عليه وسلم انما نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها كما نهى عن بيع الحب قبل اشتداده وعن بيع العنب حتى يسود ثم أنه يجوز مع ذلك عند الأئمة الأربعة اجارة الأرض لمن يعمل عليها حتى ينبت الزرع وليس ذلك تبعا للحب وكذلك تقبيل الشجر لمن يعمل عليها حتى تثمر ليس هو تبعا للثمرة ألا ترى أن المزارعة على الأرض بجزء من الأرض كالمساقاة على الشجر بجزء من الثمر وأن إعارة الأرض كاعارة الشجر وان انتفاع أهل الوقف بزرع الأرض كانتفاعهم بثمر الشجر فالثمرة وان كانت أعيانا فانها تجرى مجرى الفوائد والنفع فى الوقف والمضاربة والمساقاة لأنه يستخلف بدلها كما أن استرضاع الظئر لما كان مستخلفا بدله جرى مجرى النفع ولهذا فى باب بيع الثمر بعد بدو صلاحه انما تكون مؤنة كمال الصلاح على البائع وأما القبالة التى فعلها عمر فانما يقوم فيها بسقي الشجر ومؤنة حصول الثمر المتقبل فلا
____________________
(29/481)
يقاس هذا بهذا ويعلم أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه لم يتناول هذه القبالة بلا ريب ثم ان قدر أن الشجر لم يطلع أو تلف بعد إطلاعه بدون تفريط المتقبل كان بمنزلة تعطل المنفعة فى الاجارة وهو لا يستحق أجرة الا اذا تمكن المستأجر من الانتفاع
( الصورة الثانية ( أن يكون المشتري مجرد الثمرة فقط ومؤنة السقي على البائع فهذه المسألة اذا كان البستان مشتملا على أنواع ففيها ايضا قولان
( أحدهما ( وهو قول الليث بن سعد أنه يجوز بيع جميع البستان اذا صلح نوع منه كما يجوز بيع النوع جميعه اذا بدا صلاح بعضه وذلك لأن التفريق فيه ضرر عظيم وذلك لأن المشتري للنوع قد يتفق فى النوع الآخر وقد لا يتفق من يشتري نوعا دون نوع وهذا القول أقوى من القول الثاني وهو المنع مطلقا كما هو المشهور والجواز هنا بمجرد الحاجة وذلك أن بيع المزابنة أعظم من بيع الثمر قبل بدو صلاحه فانه بيع ربو ى بجنسه خرصا والربا أعظم من الغرر لا سيما ونهيه عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها قد خص منه مواضع كما خص بيعه مع الشجر
فعلم أن النهي لم يتناول بيعه مع غيره مطلقا بل قد يقال انما
____________________
(29/482)
نهي عنه مفردا كما نهي عن الذهب والحرير مفردا ويباح مع غيره ما لا يباح مفردا ولأنه بيع رطب بجنسه الربوي يابسا وهذا محرم بالنص ايضا كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وقد جاز من دخول المعدوم فى بيع الثمرة ما لم يثبت نظيره فى المزابنة
فاذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرخص فى العرايا استثناء من المزابنة للحاجة فلأن يجوز بيع النوع تبعا للنوع مع أن الحاجة إلى ذلك أشد وأولى ولا يلزم من منعه مفردا منعه مضموما ألا ترى أن الحمل لا يجوز افراده بالبيع وبيع الحيوان الحامل جائز بالاجماع وان اشترط كونه حاملا ونظائره كثيرة فى الشريعة
وسر الشريعة فى ذلك كله أن الفعل اذا اشتمل على مفسدة منع منه الا اذا عارضها مصلحة راجحة كما في إباحة الميتة للمضطر وبيع الغرر نهى عنه لأنه من نوع الميسر الذي يفضي إلى أكل المال بالباطل فاذا عارض ذلك ضرر أعظم من ذلك إباحه دفعا لأعظم الفسادين باحتمال ادناهما والله أعلم
____________________
(29/483)
وقال الشيخ رحمه الله فصل
وأما بيع المقاثى كالبطيخ والخيار والقثاء ونحو ذلك فانه وان كان من العلماء فى مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد من قال لا يباع الا لقطة لقطة جعلا لذلك من باب بيع الثمر قبل بدو صلاحه والصحيح أنه يجوز بيعها بعروقها جملة كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد وهو مذهب مالك وغيره لكن هذا القول له مأخذان
( أحدهما ( أن العروق كأصول الشجر فبيع الخضروات بعروقها قبل بدو صلاحها كبيع الشجر بثمره قبل بدو صلاحه يجوز تبعا وهذا مأخذ طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وان كان هذا على خلاف أصوله
( والمأخذ الثاني ( وهو الصحيح ان هذه لم تدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم بل تصح مع العقود الذي هو اللقطة
____________________
(29/484)
الموجودة واللقطة المعدومة إلى أن تيبس المقثاة وان كانت تلك معدومة لم توجد لأن الحاجة داعية إلى ذلك ولا يمكن بيعها الا كذلك وبيعها لقطة لقطة متعذر أو متعسر لعدم التمييز وكلاهما منتف شرعا والشريعة استقرت على أن ما يحتاج إلى بيعه يجوز بيعه وان كان معدوما كالمنافع وأجر الثمر الذي لم يبد صلاحه مع الأصل والذي بدا صلاحه مطلقا
وايضا فانهم يقولون هذه معلومة فى العرف والعادة كالعلم بالثمار وتلفها بعد ذلك كتلف الثمار بالجائحة وتلف منافع الاجارة من جنسه وثبت بالنص أن الجوائح توضع بلا محذور فى ذلك أصلا بل المنع من بيع ذلك من الفساد والله لا يحب الفساد وان كان بيع ذلك قد يفضي إلى نوع من الفساد فالفساد في تحريم ذلك أعظم فيجب دفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما اذ ذلك قاعدة مستقرة فى الشريعة
وسئل رحمه الله
عن رجل له سواقي يزرع فيها اللفت والجزر والفجل والقصب والقلقاس فهل يجوز بيعه فى الأرض
فأجاب أما بيع القصب ونحوه سواء بيع على أن يقلع أو يقطع من مكان معروف فى العادة وان كان مغطى بورقه فان هذا الغطاء
____________________
(29/485)
لا يمنع صحة البيع كبيع الحب فى سنبله وكبيع الجوز واللوز في قشريه فان بيع جميع هذا جائز عند جماهير المسلمين الأولين والآخرين كأبى حنيفة ومالك وأحمد وقول في مذهب الشافعي وهو عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى هذا الزمان فى جميع الأعصار والأمصار
وقد دل على هذا ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع العنب حتى يسود ( فان هذا يدل علي جواز بيعه بعد اشتداده كما دل نهيه عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها على جواز البيع بعد بدو الصلاح
وايضا فان هذا ليس من بيع الغرر فانه معلوم فى العادة وأما بيع الجزر واللفت والفجل والقلقاس ونحو ذلك ففيه قولان مشهوران
( أحدهما ( لا يجوز حتى يقلع بناء على أنه مغيب لم ير ولم يوصف كسائر الأعيان الغائبة التى لم تر ولم توصف وهذا مذهب ابى حنيفة والشافعي والمشهور من مذهب أحمد
( والثاني ( انه يجوز بيعه اذا رأى ما ظهر منه على الوجه المعروف وهذا قول مالك وقول فى مذهب أحمد وهذا أصح القولين وعليه عمل المسلمين قديما وحديثا ولا تتم مصلحة الناس الا بهذا فان تأخير بيعه إلى حين قلعه يتعذر تارة ويتعسر أخرى ويفضى إلى
____________________
(29/486)
فساد الأموال
واما كون ذلك مغيبا فيكون غررا فليس كذلك بل اذا رؤي من المبيع ما يدل على ما لم ير جاز البيع باتفاق المسلمين فى مثل بيع العقار والحيوان وكذلك ما يحصل الحرج بمعرفة جميعه يكتفى برؤية ما يمكن منه كما في بيع الحيطان وما مأكوله في جوفه والحيوان الحامل وغير ذلك فالصواب جواز بيع مثل هذا والله أعلم
وسئل
عن بيع ما في بطن الأرض من اللفت والجزر والقلقاس ونحوه هل يجوز أم لا
فأجاب أما بيع المغروس فى الأرض الذي يظهر ورقه كاللفت والجوز والقلقاس والفجل والثوم والبصل وشبه ذلك ففيه قولان للعلماء
( احدهما ( أنه لا يجوز كما هو المشهور عن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما قالوا لأن هذه أعيان غائبة لم تر ولم توصف فلا يجوز بيعها كغيرها من الأعيان الغائبة وذلك داخل فى نهي النبي صلى الله
____________________
(29/487)
عليه وسلم عن بيع الغرر
( والثاني ( أن بيع ذلك جائز كما يقوله من يقوله من أصحاب مالك وغيره وهو قول فى مذهب أحمد وغيره وهذا القول هو الصواب لوجوه
منها أن هذا ليس من الغرر بل أهل الخبرة يستدلون بما يظهر من الورق على المغيب فى الأرض كما يستدلون بما يظهر من العقار من ظواهره على بواطنه وكما يستدلون بما يظهر من الحيوان على بواطنه ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك والمرجع في ذلك إليهم
( والثاني ( أن العلم فى جميع المبيع يشترط فى كل شيء بحسبه فما ظهر بعضه وخفي بعضه وكان في إظهار باطنه مشقة وحرج اكتفى بظاهره كالعقار فانه لا يشترط رؤية أساسه ودواخل الحيطان وكذلك الحيوان وكذلك أمثال ذلك
( الثالث ( أنه ما احتيج إلى بيعه فانه يوسع فيه ما لا يوسع فى غيره فيبيحه الشارع للحاجة مع قيام السبب الخاص كما أرخص فى بيع العرايا بخرصها وأقام الخرص مقام الكيل عند الحاجة ولم يجعل ذلك من المزابنة التى نهي عنها فان المزابنة بيع المال بجنسه مجازفة اذا كان
____________________
(29/488)
ربويا بالاتفاق وان كان غير ربوي فعلي قولين وكذلك رخص النبي صلى الله عليه وسلم في ابتياع الثمر بعد بدو صلاحه بشرط التبقية مع أن إتمام الثمر لم يخلق بعد ولم ير فجعل ما لم يوجد ولم يخلق ولم يعلم تابعا لذلك والناس محتاجون إلى بيع هذه النباتات فى الأرض
ومما يشبه ذلك بيع المقاثى كمقاثى البطيخ والخيار والقثاء وغير ذلك فمن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما من يقول لا يجوز بيعها إلا لقطة لقطة وكثير من العلماء من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما قالوا أنه يجوز بيعها مطلقا على الوجه المعتاد وهذا هو الصواب فان بيعها لا يمكن فى العادة إلا على هذا الوجه وبيعها لقطة لقطة إما متعذر وإما متعسر فانه لا يتميز لقطة عن لقطة اذ كثير من ذلك لا يمكن التقاطه ويمكن تأخيره فبيع المقثاة بعد ظهور صلاحها كبيع ثمرة البستان بعد بدو صلاحها وإن كان بعض المبيع لم يخلق بعد ولم ير ولهذا اذا بدا صلاح بعض الشجرة كان صلاحا لباقيها باتفاق العلماء ويكون صلاحها صلاحا لسائر ما في البستان من ذلك النوع فى أظهر قولي العلماء وقول جمهورهم بل يكون صلاحا لجميع ثمرة البستان التى جرت العادة بأن يباع جملة فى أحد قولي العلماء وهذه المسائل وغيرها مما ذكرنا فى هذا الجواب مبسوطة فى غير هذا الموضع
____________________
(29/489)
وسئل رحمه الله
عن بيع قصب السكر والقلقاس واللفت والجزر ونحو ذلك وهو قائم فى الأرض وفي بيع البطيخ ونحوه من المقاثى
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما بيع قصب السكر فلا شبهة فيه الا ما يذكر من كونه فى قشره الذي يكون صونا له فبيعه كبيع الجوز واللوز والباقلا فى قشريه وبيع ذلك جائز عند جماهير علماء المسلمين وهو قول سلف الأمة وعملها المتصل من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الزمان ولا تتم مصلحة الناس الا بذلك وهو مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وقول فى مذهب الشافعي فانه لما مرض أمر أن يشتري له باقلا أخضر وذلك فى مرض موته فهو متأخر عن نهيه الذي فى كتبه
وقد دل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد ( وذلك يدل على جواز بيع ذلك بعد اسوداده واشتداده فيدل على جواز بيع الحب فى سنبله
____________________
(29/490)
و هو من صور النزاع كالباقلا فى قشريه والذي كره بيع ذلك يظنه من الغرر الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس الأمر كذلك لوجهين
( أحدهما ( ان المشترين يعلمون ذلك كما يعلمون كثيرا من المبيعات المتفق على جواز بيعها بل علمهم بذلك أقوى من علمهم بكثير منها
( والثاني ( انه لو فرض أن فى ذلك جهلا فالشريعة استقرت على ما يحتاج إلى بيعه مع الغرر ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في بيع الثمار بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح ثم أنه بعد ذلك أمر بوضع الجوائح اذا أصابتها
وايضا فانه اذن فى بيع العقار بقوله صلى الله عليه وسلم ( من كان له شرك فى أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فان شاء أخذ وان شاء ترك ( وقد أجمع المسلمون على جواز بيع العقار مع أن أساس الحيطان وداخلها مغيب
وكذلك أذن فى بيع الثمار قبل بدو صلاحها تبعا للأصل بقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث المتفق عليه ( من باع نخلا مؤبرا فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ( وذلك أن بيع الغرر نهى عنه لما فيه من الميسر والقمار المتضمن لأكل المال بالباطل فاذا
____________________
(29/491)
كان فى بعض الصور من فوات الأموال وفسادها ونقصها على اصحابها بتحريم البيع أعظم مما فيها مع حله لم يجز دفع الفساد القليل بالتزام الفساد الكثير بل الواجب ما جاءت به الشريعة وهو تحصيل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما والفتيا لا تحتمل البسط اكثر من هذا
وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه فصل
وأما بيع القلقاس والجزر واللفت ونحو ذلك فهو جائز عند طوائف من أهل العلم وهو مذهب مالك وقول فى مذهب الامام أحمد وان كان المشهور عنه كمذهب ابى حنيفة والشافعي أنه لا يجوز والقول الأول هو الصواب فان الأصل المتفق عليه بين العلماء فى ذلك كون المبيع معلوما العلم المعتبر فى المبيع فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر يرجع فى ذلك إلى أهل الخبرة بذلك وأهل الخبرة يقولون أنهم يعلمون ذلك فى حال كونه فى الأرض بحيث يخرج عن كونه غررا ويستدلون على ذلك بما يقلعونه منه كما يعلم
____________________
(29/492)
المبيع المنفصل عن الأرض برؤية بعضه اذا كان متشابه الأجزاء ثم أن ظهر الخفي دون الظاهر بما لم تجربه العادة كان ذلك اما غبنا واما تدليسا بل أهل الخبرة يقولون أنهم يعلمون ذلك اكثر مما يعلمون كثيرا من المنفصل
وكون المبيع معلوما أو غير معلوم لا يؤخذ عن الفقهاء بخصوصهم بل يؤخذ عن أهل الخبرة بذلك الشيء وانما المأخوذ عنهم ما انفردوا به من معرفة الأحكام بأدلتها وقد قال الله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } والايمان بالشيء مشروط بقيام دليل يدل عليه فعلم أن الأمور الغائبة عن المشاهدة قد تعلم بما يدل عليها فاذا قال أهل الخبرة انهم يعلمون ذلك كان المرجع اليهم فى ذلك دون من لم يشاركهم فى ذلك وان كان أعلم بالدين منهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم في تأبير النخل ( أنتم اعلم بدنياكم فما كان من أمر دينكم فالي ( ثم يترتب الحكم الشرعي على ما تعلمه أهل الخبرة كما يترتب على التقويم والقيامة والخرص وغير ذلك
____________________
(29/493)
وسئل
عن انسان عاقد انسانا على قصب وقلقاس وهو تحت الأرض قبل ادراكه فعند ادراكه غرق وقد طلب منه ثمنه بلا مكاتبه ولا تسليم فما يجب في ذلك
فأجاب ما تلف من ذلك فهو من ضمان البائع سواء كان البيع صحيحا أو فاسدا كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ان بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك من ثمنها شيء بم يأخذ احدكم مال أخيه
____________________
(29/494)
& باب السلم
سئل شيخ الاسلام قدس الله روحه
عن السلم فى الزيتون هل يجوز
فأجاب وأما السلم فى الزيتون وأمثاله من المكيلات والموزونات فيجوز وما علمت بين الأئمة فى ذلك نزاعا ولكن النزاع فيما اذا أسلم فى غير المكيل والموزون كالحيوان ونحوه وفيه عن أحمد روايتان أشهرهما جواز ذلك وهو قول مالك والشافعي والثانية لا يجوز كقول أبى حنيفة
وسئل
عن رجل عنده قمح قيمته وزن ثمانية عشر درهما باعه إلى أجل بخمسة وعشرين هل يجوز والسلم فى الغلة حلال أم حرام
فأجاب أما السلف فانه جائز بالاجماع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من أسلف فليسلف فى كيل معلوم ووزن معلوم
____________________
(29/495)
إلى أجل معلوم ( وأما اذا قوم السلعة بقيمة حالة وباعها إلى أجل بأكثر من ذلك فهذا منهي عنه فى أصح قولي العلماء كما قال بن عباس اذا استقمت بنقد ثم بعت بنقد فلا بأس واذا استقمت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم ومعنى قوله استقمت أي قومت والله أعلم
وسئل
عن امرأة تشتري قماشا بثمن حال وتبيعه بزائد الثلث إلى أجل معلوم فهل هذا ربا
فأجاب الحمد لله رب العالمين اذا كان المشتري يشتريها لينتفع بها أو يتجر بها لا يشتريها ليبيعها ويأخذ ثمنها لحاجته إليه فلا بأس بذلك لكن ينبغي اذا كان المشتري محتاجا أن يربح عليه الربح الذي جرت به العادة والله أعلم
وسئل
هل يجوز بيع شاة بشاة إلى أجل
فأجاب يجوز بيع شاة بشاة إلى أجل
____________________
(29/496)
وسئل
عن رجل يشتري عش الحمامات ويقدم الفضة على عش السنة كلها ونص عند الشهود على أرادب معلومة وليس ثم كيل أصلا بل يفعل ذلك ليصح السلم وكان العادة اذا تحصل منه شيء جعل فى وعائه وختم عليه كله وبيع فهل هذا صحيح أم لا
فأجاب هذه المسألة مبنية على أصلين
أحدهما أن هذا المنعقد من الدخان هل هو طاهر أو نجس فى ذلك تفصيل ونزاع وان كان الوقود طاهرا كوقود الأفران وكالوقود الطاهر للحمام فذلك المنعقد طاهر وان كان الوقود بنجاسة فهل يكون هذا المنعقد طاهرا على قولين للعلماء وكذلك فى كل نجاسة استحالت كالرماد والقصرمل والجرسيف ونحو ذلك وان كان مستحيلا عن نجاسة فهذا نجس فى مذهب الشافعي وأحد القولين فى مذهب مالك وأحمد وهو ظاهر فى مذهب ابى حنيفة
والقول الآخر فى مذهب مالك واحمد أنه طاهر وهذا القول
____________________
(29/497)
أقوى فى دلالة الكتاب والسنة والقياس فانهم اتفقوا على أن الخمر اذا انقلبت خلا بفعل الله تعالى كانت طاهرة وهذا لم يتناوله لفظ التحريم ولا معناه فلا يكون محرما نجسا فمن قال أنه طاهر جوز بيعه ومنهم من يجوز بيعه مع نجاسته والخلاف فيه مشهور فى ( مسألة السرجين النجس (
و ( الأصل الثاني ( أنه اذا جاز بيعه فلا يقال يباع على الوجه المشروع ولا ريب أنه يجوز السلف فيه وليس السؤال عن بيعه معينا حتى يشترط الرؤية ونحوها لكن اذا اسلف فيه فلا بد أن يسلف فى قدر معلوم إلى أجل معلوم وان يقبض رأس المال في المجلس وغير ذلك من شروط السلم
فاذا كانوا قد أظهروا صورة السلم وكان المسلم يقبض ما تحصل وهو المقصود فى الباطن سواء كان اكثر من المقدار أو أقل فهذا عقد باطل يجب النهي عنه ومنع فاعله
وسئل رحمه الله
عن رجل محتاج إلى تاجر عنده قماش فقال اعطنى هذه القطعة
____________________
(29/498)
فقال التاجر مشتراها بثلاثين وما أبيعها الا بخمسين إلى أجل فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب المشتري على ثلاثة أنواع
أحدها ( ان يكون مقصوده السلعة ينتفع بها للأكل والشرب واللبس والركوب وغير ذلك
والثاني ( أن يكون مقصوده التجارة فيها فهذان نوعان جائزان بالكتاب والسنة والاجماع كما قال تعالى ( وأحل الله البيع ( وقال تعالى ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ( لكن لابد من مراعاة الشروط الشرعية فاذا كان المشتري مضطرا لم يجز أن يباع الا بقيمة المثل مثل أن يضطر الانسان إلى مشتري طعام لا يجده الا عند شخص فعليه أن يبيعه اياه بالقيمة قيمة المثل وان لم يبعه الا بأكثر فللمشتري أن يأخذه بغير اختياره بقيمة المثل وإذا أعطاه إياه لم يجب عليه الا قيمة المثل واذا باعه إياه بالقيمة إلى ذلك الأجل فان الأجل يأخذ قسطا من الثمن
النوع الثالث ( أن يكون المشتري انما يريد به دراهم مثلا ليوفي بها دينا واشتري بها شيئا فيتفقان على أن يعطيه مثلا المائة بمائة وعشرين إلى أجل فهذا كله منهي عنه فان اتفقا على أن يعيد
____________________
(29/499)
السلعة إليه فهو ( بيعتان فى بيعة ( وان أدخلا ثالثا يشتري منه السلعة ثم تعاد إليه فكذلك وان باعه وأقرضه فكذلك وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم
وان كان المشتري يأخذ السلعة فيبيعها فى موضع آخر يشتريها بمائة ويبيعها بسبعين لأجل الحاجة إلى دراهم فهذه تسمى ( مسألة التورق ( وفيها نزاع بين العلماء والأقوى أيضا انه منهى عنها وأنها أصل الربا كما قال ذلك عمر بن عبد العزيز وغيره والله أعلم
وسئل
عن رجل يخرج على القمح والشعير والفول والحمص ونحو ذلك واذا جاء أوان أخذه باعه للذي هو عنده بسعر ما يسوى من قبل أن يقبضه منه فهل هذا حلال أم حرام وما عليه فيما مضى من السنين وما كان يفعله
فأجاب هذا يسمى ( السلم ( و ( السلف ( ولا يجوز بيع هذا الدين الذي هو دين السلم قبل قبضه لا من المستلف ولا من غيره فى مذهب الأئمة الأربعة بل هذا يدخل فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيع ما لم يقبض وقد يدخل فى ربح ما لم يضمن
____________________
(29/500)
أيضا واذا وقع هذا البيع فهو فاسد ولا يستحق هذا البائع السلف الا دين السلم دون ما جعله عوضا عنه وعليه أن يرد هذا العوض ان كان قبضه ويطالب بدين السلم فان تعذر ذلك مثل أن يطول الزمان أو لا يعرف ذلك ونحو ذلك فليأخذ بقدر دين السلم من تلك الأعواض وليتصدق بالربح فانه اذا أخذ مثل دين السلم فقد أخذ قدر حقه من ذلك المال والزيادة ربح ما لم يضمن وهي لا تحل له فليتصدق بها عن اصحابها وان كان لم يربح شيئا وانما باعه المستلف بسعره لم يكن عليه اخراج ماله
وسئل
عن رجل عنده فرس شراه بمائة وثمانين درهما فطلبه منه انسان بثلاثمائة درهم إلى مدة ثلاثة شهور فهل يحل ذلك
فأجاب الحمد لله ان كان الذي يشتريه لينتفع به أو يتجر به فلا بأس ببيعه إلى أجل لكن المحتاج لا يربح عليه الا الربح المعتاد لا يزيد عليه لأجل ضرورته
وأما ان كان محتاجا إلى دراهم فاشتراه ليبيعه فى الحال ويأخذ ثمنه فهذا مكروه فى أظهر قولي العلماء
____________________
(29/501)
وسئل
عن شخص عنده صنف دفع له فيه رجل الفين ومائة بالوزن ودفع له آخر الفين وسبعمائة إلى أجل معلوم أثناء الحول
فأجاب ان كان الذي يشتريها إلى أجل يشتريها ليتجر فيها أو ينتفع بها جاز للبائع أن يبيعها ان شاء بالنقد وان شاء إلى أجل وان كان المشتري مقصوده الدراهم وهو يريد أن يبيعها اذا اشتراها ويأخذ الدراهم فهذا يسمى ( التورق ( وهو مكروه فى أظهر قولي العلماء
____________________
(29/502)
وسئل عن رجل أسلف خمسين درهما فى رطل حرير إلى أجل معلوم ثم جاء الأجل فتعذر الحرير فهل يجوز ان يأخذ قيمة الحرير أو يأخذ عوضه أي شيء كان
فأجاب الحمد لله هذه المسألة فيها روايتان عن الامام أحمد
إحداهما لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره كقول الشافعي وأبي حنيفة لما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من أسلم فى شيء فلا يصرفه إلى غيره ( وهذه الرواية هي المعروفة عند متأخري أصحاب الامام أحمد وهي التى ذكرها الخرقي وغيره
والقول الثاني يجوز ذلك كما يجوز فى غير دين السلم وفي المبيع من الأعيان وهو مذهب مالك وقد نص أحمد على هذا في غير موضع وجعل دين السلم كغيره من المبيعات فاذا أخذ عوضا غير مكيل ولا موزون بقدر دين السلم حين الاعتياض لا بزيادة على ذلك أو أخذ من نوعه بقدره مثل أن يسلم فى حنطة فيأخذ
____________________
(29/503)
شعيرا بقدر الحنطة أو يسلم فى حرير فيأخذ عنه عوضا من خيل أو بقر او غنم فانه يجوز وقد ذكر ذلك طائفة من الأصحاب كابن أبى موسى والسامري صاحب المستوعب لكن [ في ] بعض الصور كما قال فى ( المستوعب ( ومن أسلم فى شيء لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال فى إحدى الروايتين وفى الأخرى يجوز وان يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب كالشعير ونحوه بمقدار كيل الحنطة لا أكثر منها ولا بقيمتها نص عليه قال في رواية أبي طالب اذا أسلفت فى كر حنطة فأخذت شعيرا فلا بأس وهو دون حقك ولا تأخذ مكان الشعير حنطة
وأما المطلعون على نصوص أحمد فذكروا ما هو أعم من ذلك وأنه يجوز الاعتياض عن دين السلم بغير المكيل والموزون مطلقا كما ذكر ذلك أبو حفص العكبري فى مجموعه ونقله عنه القاضي أبو يعلي بخطه فان كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه فى الجودة جاز وكذلك إن أخذ قيمته مما لا يكال ولا يوزن كيف شاء نقل بن القاسم عن أحمد قلت لأبى عبد الله اذا لم يجد ما أسلم فيه ووجد غيره من جنسه يأخذه قال نعم اذا كان دون الشيء الذي له [ قلت ] فانما أسلم في قفيز حنطة موصلي فقال فيأخذ مكانه سلتى أو قفيز شعير بكيلة واحدة
____________________
(29/504)
لا يزداد وان كان فوقه فلا يأخذ وذكر حديث بن عباس رواه طاوس عن بن عباس اذا اسلمت فى شيء فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت فخذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين
ونقل أيضا أحمد بن أصرم سئل أحمد عن رجل أسلم فى طعام إلى أجل فاذا جاء الأجل يشتري منه عقارا أو دارا فقال نعم يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن وقال حرب الكرمانى سألت أحمد قلت رجل أسلف رجلا دراهم فى بر فلما حل الأجل لم يكن عنده فقال قوم الشعير بالدراهم فخذ من الشعير قال لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كيل البر أو أنقص قلت اذا كان البر عشرة أجربة أيأخذ الشعير عشرة أجربة قال نعم
وكذلك نقل غير هؤلاء عن أحمد وهذه الرواية أكثر في نصوص أحمد وهي أشبه بأصوله فان علته فى منع بيع دين السلم كونه مبيعا فلا يباع قبل القبض وأحمد في ظاهر مذهبه لا يمنع من البيع قبل القبض مطلقا بل له فيه تفصيل وأقوال معروفة ولذلك فرق بين البيع من البائع وغيره وكذلك مذهب مالك يجوز بيع المسلم فيه اذا كان عوضا من بائعه بمثل ثمنه وأقل ولا يجوز بأكثر ولا يجوز ذلك فى الطعام
وقال بن المنذر ثبت ان بن عباس قال اذا أسلفت فى شيء
____________________
(29/505)
فحل الأجل فان وجدت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا بأنقص منه وهذا بن عباس لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه ( قال ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام
وأما ما ذكره الشيخ أبو محمد فى ( مغنيه ( لما ذكر قول الخرقي وبيع المسلم فيه من بائعه أو غيره قبل قبضه فاسد قال أبو محمد بيع المسلم قبل قبضه لا يعلم فى تحريمه خلاف فقال رحمه الله بحسب ما علمه وإلا فمذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه وهذا أيضا إحدى الروايتين عن أحمد نص عليه فى مواضع بيع الدين من غير من هو عليه كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه وكلاهما منصوص عن أحمد فى أجوبة كثيرة من أجوبته وان كان ذلك ليس فى كتب كثير من متأخري أصحابه
وهذا القول أصح وهو قياس أصول أحمد وذلك لأن دين السلم مبيع وقد تنازع العلماء فى جواز بيع المبيع قبل قبضه وبعد التمكن من قبضه وفى ضمان ذلك فالشافعي يمنعه مطلقا ويقول هو من ضمان البائع وهو رواية ضعيفة عن أحمد وأبو حنيفة يمنعه إلا فى العقار ويقول هو من ضمان البائع وهؤلاء يعللون المنع
____________________
(29/506)
بتوالي الضمانين
وأما مالك وأحمد فى المشهور عنه وغيرهما فيقولون ما تمكن المشتري من قبضه وهو المتعين بالعقد كالعبد والفرس ونحو ذلك فهو من ضمان المشتري على تفصيل لهم ونزاع فى بعض المتعينات لما رواه أحمد وغيره عن الزهري عن سالم عن بن عمر أنه قال ( مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من ضمان المشتري ( فظاهر مذهب أحمد أن الناقل للضمان إلى المشتري هو التمكن من القبض لا نفس القبض فظاهر مذهبه أن جواز التصرف فيه ليس ملازما للضمان ولا مبنيا عليه بل قد يجوز التصرف فيه حيث يكون من ضمان البائع كما ذكر فى الثمرة ومنافع الاجارة وبالعكس كما فى الصبرة المعينة
وقد ذكر الخرقي فى ( مختصره ( هذا وهذا فقال اذا اشتري الثمرة دون الأصل فتلفت بجائحة من السماء رجع بها على البائع وقال الأصحاب لا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض بدليل المنافع فى الاجارة ثم قال الخرقي واذا وقع البيع على مكيل أو موزون أو معدود فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع وهذا عند جمهور الأصحاب ما بيع بالكيل والوزن والعدد سواء كان متعينا أو غير متعين ثم قال الخرقي ومن اشتري ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه
____________________
(29/507)
حتى يقبضه ففرق بين ما يحتاج إلى القبض وما لا يحتاج فما لا يحتاج يكفى فيه التمكن كالمودع ثم قال ومن اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها فالصبرة مضمونة على المشتري بالتمكن والتخلية فلا يبيعها حتى ينقلها وهذا كله منصوص أحمد لكن فى ذلك نزاع بين الأصحاب وروايات ليس هذا موضعها
والمقصود هنا أن في ظاهر مذهب أحمد قد يكون المبيع مضمونا على البائع ويجوز للمشتري بيعه فى ظاهر المذهب كالثمر اذا بيع بعد بدو صلاحه فانه في مذهب مالك وأحمد من ضمان البائع وهو قول معلق للشافعي لما رواه مسلم في صحيحه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق (
ومع هذا فيجوز فى أصح الروايتين عن أحمد للمشتري أن يبيع هذا الثمر مع أنه من ضمان البائع وهذا كما يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره بمثل الأجرة بلا نزاع وان كانت المنافع مضمونة على البائع ولكن اذا أجرها بزيادة من غير إحداث زيادة ففيه روايتان
( إحداهما ( يجوز كقول الشافعي ( والثانية ( لا يجوز كقول
____________________
(29/508)
أبي حنيفة لأنه ربح ما لم يضمن والنبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن ربح ما لم يضمن ( قال الترمذي حديث صحيح
والقول الأول أصح لأن المشتري لو عطل المكان الذي اكتراه وقبضه لتلفت منافعه من ضمانه ولكن لو انهدمت الدار لتلفت من مال المؤجر وهذه المسائل مبسوطة فى موضعها
والمقصود هنا أن أصل احمد ومالك جواز التصرف وأنه يوسع فى البيع قبل انتقال الضمان إلى المشتري بخلاف أبي حنيفة والشافعي والرواية الأخرى عن أحمد فان البيع لا يجوز على أصلهما إلا اذا انتقل الضمان إلى المشتري وصار المبيع مضمونا عليه قالوا لئلا يتوالى الضمانان فان المبيع يكون مضمونا قبل القبض على البائع الأول فاذا بيع قبل أن يضمنه المشتري صار مضمونا عليه فيتوالى عليه الضمانان وعلى قول مالك وأحمد المشهور عنه هذا مأخذ ضعيف لا محذور فيه فان المبيع اذا تلف قبل التمكن من قبضه كان علي البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان هذا
واذا عرف هذا فعلى قول هؤلاء يمنع من بيع دين السلم لأنه لم يضمنه المسلف فانه لا يضمنه الا بالقبض فلا يبيع ما لم يضمن وعلي
____________________
(29/509)
قول مالك وأحمد فى المشهور عنه يجوز ذلك كما ثبت ذلك عن بن عباس ولكن لا يجوز بربح بل لا يباع إلا بالقيمة لئلا يربح المسلف فيما لا يضمن وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى عن ربح ما لم يضمن (
والدليل على ذلك أن الثمن يجوز الاعتياض عنه قبل قبضه بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بن عمر كنا نبيع الابل بالنقيع والنقيع بالنون هو سوق المدينة والبقيع بالباء هو مقبرتها قال كنا نبيع بالذهب ونقضي الورق ونبيع بالورق ونقضي الذهب فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ( لا بأس اذا كان بسعر يومه اذا تفرقتما وليس بينكما شيء ( فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه وإن كان مضمونا علي البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عنه اذا كان بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن
وهكذا قد نص أحمد على ذلك فى بدل القرض وغيره من الديون إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يكون ربحا فيما لا يضمن وهكذا ذكر الامام أحمد عن بن عباس لما أجاب فى السلم ان قال إذا أسلمت
____________________
(29/510)
فى شيء فجاء الأجل ولم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين
وكذلك مذهب مالك يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه كما أجاب به احمد ونقله عن بن عباس ومالك استثنى الطعام لأن من أصله أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز وهي رواية عن أحمد وأحمد فرق بين أن يبيع المكيل والموزون بمكيل وموزون أو غير ذلك فان باعه بغير ذلك مثل أن يعتاض عن المكيل والموزون كالحنطة والشعير الذي أسلم فيه بخيل أو بقر فانه جوز هذا كما جوزه مالك وقبلهما بن عباس اذا كان بسعر يومه
وأما اذا اعتاض عنه بمكيل أو موزون مثل أن يعتاض عن الحنطة بشعير كرهه إلا اذا كان بقدره فان بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون يشترط فيه الحلول والتقابض ولهذا لا يجوز بيع الحنطة بالشعير إلا يدا بيد ولا بيع الذهب بالفضة إلا يدا بيد والمسلم لم يقبض دين المسلم فكره هذا كما يكره هو فى إحدى الروايتين والشافعي فى أحد القولين بيع الدين ممن هو عليه مطلقا على أنه باع ما لم يضمنه ولم يقبضه
والصواب الذي عليه جمهور العلماء وهو ظاهر مذهب الشافعي
____________________
(29/511)
و أحمد أنه يجوز بيع الدين ممن هو عليه لأن ما في الذمة مقبوض للمدين لكن ان باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض لئلا يكون ربا وكذلك اذا باعه بموصوف فى الذمة وإن باعه بغيرهما ففيه وجهان
أحدهما ( لا يشترط كما لا يشترط فى غيرهما
والثاني ( يشترط لأن تأخير القبض نسيئة كبيع الدين بالدين ومالك لم يجوز بيع دين السلم اذا كان طعاما لأنه بيع وأحمد جوز بيعه وان كان طعاما أو مكيلا او موزونا من بائعه اذا باعه بغير مكيل أو موزون لأن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه هو في الطعام المعين وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء
وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له فلا يقاس هذا بهذا فان البيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه وهنا لم يملك شيئا بل سقط الدين من ذمته وهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل أنه باعه دراهم بدراهم بل يقال وفاه حقه بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بدراهم معينة فانه بيع فلما كان فى الأعيان اذا باعها بجنسها لم يكن بيعا فكذلك اذا أوفاها من غير جنسها لم يكن بيعا بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة
____________________
(29/512)
و لهذا لو حلف ليقضينه حقه فى غد فأعطاه عوضا بر في يمينه في أصح الوجهين فنهيه عن بيع الطعام قبل قبضه يريد به بيعه من غير البائع فيه نزاع وذلك أن من علله بتوالي الضمان يطرد النهي وأما من علل النهي بتمام الاستيفاء وانقطاع علق البائع حتى لا يطمع في الفسخ والامتناع من الاقباض اذا رأى المشتري قد ربح فيه فهو يعلل بذلك فى الصبرة قبل نقلها وإن كانت مقبوضة وهذه العلة منتفية فى بيعه من البائع
وأيضا فبيعه من البائع يشبه الاقالة وفى أحد قولي العلماء تجوز الاقالة فيه قبل القبض والاقالة هل هي فسخ أو بيع على قولين هما روايتان عن أحمد فاذا قلنا هي فسخ لم يجز الا بمثل الثمن واذا قلنا هي بيع ففيه وجهان ودين السلم تجوز الاقالة فيه بلا نزاع
فعلم أن الأمر فى دين السلم أخف منه في بيع الأعيان حيث كان الأكثرون لا يجوزون بيع المبيع لبائعه قبل التمكن من قبضه ويجوزون الاقالة فى دين السلم والاعتياض عنه يجوز كما تجوز الاقالة لكن انما يكون إقالة اذا أخذ رأس ماله أو مثله وإن كان مع زيادة أما اذا باعه بغير ذلك فليس إقالة بل هو استيفاء فى معني البيع لما لم يقبض
وأحمد جوز بيع دين السلم من المستسلف اتباعا لابن عباس وبن
____________________
(29/513)
عباس يقول ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه ( ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام فابن عباس لا يجوز البيع قبل القبض وجوز بيع دين السلم ممن هو عليه اذا لم يربح ولم يفرق بن عباس بين الطعام وغيره ولا بين المكيل والموزون وغيرهما لأن البيع هنا من البائع الذي هو عليه وهو الذي يقبضه من نفسه لنفسه بل ليس هنا قبض لكن يسقط عنه ما في ذمته فلا فائدة فى أخذه منه ثم إعادته إليه وهذا من فقه بن عباس
ومالك جعل هذا بمنزلة بيع المعين من الأجنبى فمنع بيع الطعام المسلف فيه من المستلف وأحمد لم يجعله كبيع الطعام قبل القبض من الأجنبى كما قال مالك بل جوزه بغير المكيل والموزون كما أجازه بن عباس
وأما بالمكيل والموزون فكرهه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض اذا كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين
وأما اذا أخذ عنه من جنسه بقدر مكيله ما هو دونه فجوزه لأن هذا من الاستيفاء من الجنس لا من باب البيع كما يستوفي عن الجيد بالرديء والحنطة والشعير قد يجريان مجري الجنس الواحد ولهذا في جواز بيع احدهما بالآخر متفاضلا روايتان
إحداهما ( المنع كقول مالك
____________________
(29/514)
والثانية ( الجواز كقول أبى حنيفة والشافعى وهذه الكراهة من احمد فى المكيل والموزون بمكيل او موزون قد يقال هي على سبيل التنزيه او يكون إذا أخر القبض وهذا الثانى أشبه بأصول احمد ونصوصه وهو موجب الدليل الشرعى وذلك أنه اذا باع المكيل بمكيل او الموزون بموزون اشترط فيه الحلول والتقابض فان باع أحدهما بالآخر فعنه فى ذلك روايتان وهذا بناء على ان العلة فى الأصناف الستة هي التماثل وهو مكيل جنس أو موزون جنس
فان العلماء متفقون على أن بيع الذهب بالفضة نسيئة لايجوز وكذلك بيع البر والتمر والشعير والملح بعضه ببعض نساء لايجوز فمن جعل العلة التماثل وهو الكيل والوزن أو الطعم أو مجموعهما حرم النسأ فيما جمعهما علة واحدة وهذه الأقوال هي روايات عن احمد فالتماثل وهو مكيل جنس او موزون جنس هو المشهور عنه وهو مذهب ابى حنيفة والطعم وهو مذهب الشافعى ومجموعهما قول بن المسيب وغيره وأحد قولي الشافعي وهو اختيار الشيخ أبى محمد المقدسي ومذهب مالك قريب من هذا وهو القوت وما يصلحه
واذا كان كذلك فدين السلم وغيره من الديون اذا عوض عنه بمكيل وجب قبضه فى مجلس التعويض وكذلك الموزون اذا عوض
____________________
(29/515)
عنه بموزون مثل ان يعوض عن الحرير بقطن أو كتان فاذا بيع المكيل بالمكيل بيعا مطلقا بحيث لا يقبض العوض فى المجلس لم يجز بخلاف ما اذا بيع بحيوان أو عقار فان هذا لا يشترط قبضه في المجلس فى أصح الوجهين وهو المنصوص عنه فكلام أحمد يخرج على هذا ونهيه عن البيع يحمل على هذا ولهذا قال اذا حل الأجل يشترى منه مالا يكال ولا يوزن فأطلق الاذن فى ذلك بخلاف المكيل والموزون فانه لا يشتري مطلقا بل يقبض فى المجلس كما اذا بيع بعين
يدل على ذلك أن أحمد اتبع قول بن عباس فى ذلك وبن عباس قال اذا أسلمت فى شيء فجاء الأجل ولم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضا بأنقص ولا تربح مرتين فانما نهاه عن الربح فيه بأن يبيعه دين السلم بأكثر مما يساوي وقت الاستيفاء ولهذا أحمد منع اذا استوفى عنه مكيلا كالشعير أن يكون بزيادة ولم يفرق بن عباس بين أن يبيعه بمكيل أو موزون وبين أن يبيعه بغيرهما
وليس هذا من ربا الفضل فيقال إن بن عباس يجيز ربا الفضل بل بيع الذهب بالفضة إلى أجل حرام باجماع المسلمين وكذلك بيع الحنطة بالشعير إلى أجل وهذا قياس مذهب أحمد وغيره فان ما في الذمة مقبوض فاذا كان مكيلا أو موزونا وباعه بمكيل أو موزون ولم يقبضه فقد باع مكيلا بمكيل ولم يقبضه وأما اذا قبضه فهذا جائز
____________________
(29/516)
وقد ثبت فى مذهب أحمد أنه اذا باع بذهب جاز أن يأخذ عنه ورقا واذا باع بورق جاز أن يأخذ عنه ذهبا فى المجلس كما في حديث بن عمر وهذا أخذ عن الموزون بالموزون فاذا جاز ذلك فى الثمن جاز فى المثمن ليس بينهما فرق الا على قول من يقول هذا مبيع لم يقبض فلا يجوز بيعه وقد ظهر فساد هذا المأخذ فى السلم وبن عباس الذي منع هذا جوز هذا وأن بيع دين السلم من بائعه ليس فيه محذور أصلا كما في بيعه من غير بائعه لا بتوالي الضمان ولا غير ذلك
وأما احتجاج من منع بيع دين السلم بقوله صلى الله عليه وسلم ( من أسلف فى شيء فلا يصرفه إلى غيره ( فعنه جوابان
أحدهما أن الحديث ضعيف
والثاني ( المراد به أن لا يجعل السلف سلما فى شيء آخر فيكون معناه النهي عن بيعه بشيء معين إلى أجل وهو من جنس بيع الدين بالدين ولهذا قال ( لا يصرفه إلى غيره ( أي لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر ومن اعتاض عنه بغيره قابضا للعوض لم يكن قد جعله سلما فى غيره وبسط هذه المسائل لا يحتمله هذا الجواب
لكن الرخصة فى هذا الباب ثابتة عن بن عباس وهي مذهب
____________________
(29/517)
مالك وأحمد رخص فيه اكثر من مالك وما ذكره الخرقي وغيره قد قيل أنه رواية أخرى كما ذكره بن أبى موسى وغيره رواية عن أحمد والصواب أن هذا جائز لا دليل على تحريمه والله أعلم
وسئل
عن الرجل يسلم فى شيء فهل له أن يأخذ من المسلم إليه غيره كمن أسلم في حنطة فهل له أن يأخذ بدلها شعيرا سواء تعذر المسلم فيه أم لا
فأجاب اذا اسلم فى حنطة فاعتاض عنها شعيرا ونحو ذلك فهذه فيها قولان للعلماء
أحدهما ( أنه لا يجوز الاعتياض عن السلم بغيره كما هو مذهب ابى حنيفة والشافعي واحمد في احدى الروايتين عنه
والثاني ( يجوز الاعتياض عنه فى الجملة اذا كان بسعر الوقت أو أقل وهذا هو المروي عن بن عباس حيث جوز اذا اسلم في شيء أن يأخذ عوضا بقيمته ولا يربح مرتين وهو الرواية الأخرى عن أحمد حيث يجوز أخذ الشعير عن الحنطة اذا لم يكن أغلى من
____________________
(29/518)
قيمة الحنطة وقال بقول بن عباس فى ذلك ومذهب مالك يجوز الاعتياض عن الطعام والعرض بعرض والأولون احتجوا بما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من أسلم فى شيء فلا يصرفه إلى غيره ( قالوا وهذا يقتضى أن لا يبيع دين السلم لا من صاحبه ولا من غيره
والقول الثاني ( اصح وهو قول بن عباس ولا يعرف له في الصحابة مخالف وذلك لأن دين السلم دين ثابت فجاز الاعتياض عنه كبدل القرض وكالثمن فى المبيع ولأنه أحد العوضين فى البيع فجاز الاعتياض عنه كالعوض الآخر وأما الحديث ففي اسناده نظر وان صح فالمراد به أنه لا يجعل دين السلم سلفا فى شيء آخر ولهذا قال ( فلا يصرفه إلى غيره ( أي لا يصرفه إلى سلف آخر وهذا لا يجوز لأنه يتضمن الربح فيما لم يضمن وكذلك اذا اعتاض عن ثمن المبيع والقرض فانما يعتاض عنه بسعره كما في السنن عن بن عمر أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا انا نبيع الابل بالنقيع بالذهب ونقبض الورق ونبيع بالورق ونقبض الذهب فقال ( لا بأس اذا كان بسعر يومه اذا افترقتما وليس بينكما شيء ( فيجوز الاعتياض بالسعر لئلا يربح فيما لم يضمن فان قيل فدين السلم يتبع ذلك فنهي عن بيع ما لم يقبض قيل النهي انما كان فى الأعيان لا فى الديون
____________________
(29/519)
وقال رحمه الله فصل
عوض المثل ( كثير الدوران فى كلام العلماء وهو أمر لابد منه فى العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة فهو ركن من أركان الشريعة مثل قولهم قيمة المثل واجرة المثل ومهر المثل ونحو ذلك كما فى قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من أعتق شركا له فى عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لاوكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ( وفى حديث أنه قضي في بروع بنت واشق بمهر مثلها لاوكس ولا شطط يحتاج إليه فيما يضمن بالاتلاف من النفوس والأموال والأبضاع والمنافع وما يضمن بالمثل من الأموال والمنافع وبعض النفوس وما يضمن بالعقود الفاسدة والصحيحة أيضا لأجل الأرش فى النفوس والأموال
____________________
(29/520)
ويحتاج إليه فى المعاوضة للغير مثل معاوضة الولي للمسلمين ولليتيم وللوقف وغيرهم ومعاوضة الوكيل كالوكيل فى المعاوضة والشريك والمضارب ومعاوضة من تعلق بماله حق الغير كالمريض ويحتاج إليه فيما يجب شراؤه لله تعالى كماء الطهارة وسترة الصلاة وآلات الحج او للآدميين كالمعاوضة الواجبة مثل
ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله وهو نفس العدل ونفس العرف الداخل فى قوله ( يأمرهم بالمعروف ( وقوله ( وامر بالعرف ( وهذا متفق عليه بين المسلمين بل بين أهل الأرض فانه اعتبار فى أعيان الأحكام لا فى أنواعها
وهو من معنى القسط الذي أرسل الله له الرسل وأنزل له الكتب وهو مقابلة الحسنة بمثلها والسيئة بمثلها كما قال تعالى { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } وقال ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ( وقال { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقال { كتب عليكم القصاص في القتلى } وقال { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وقال { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به }
لكن مقابلة الحسنة بمثلها عدل واجب والزيادة إحسان مستحب
____________________
(29/521)
و النقص ظلم محرم ومقابلة السيئة بمثلها عدل جائز والزيادة محرم والنقص إحسان مستحب فالظلم للظالم والعدل للمقتصد والاحسان المستحب للسابق بالخيرات
والأمة ثلاثة ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات
وكثيرا ما يشتبه على الفقهاء ويتنازعون فى حقيقة عوض المثل في جنسه ومقداره فى كثير من الصور لأن ذلك يختلف لاختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والأعواض والمعوضات والمتعاوضين فنقول
عوض المثل ( هو مثل المسمي فى العرف وهو الذي يقال له السعر والعادة فان المسمى فى العقود نوعان نوع اعتاده الناس وعرفوه فهو العوض المعروف المعتاد ونوع نادر لفرط رغبة أو مضارة أو غيرهما ويقال فيه ثمن المثل ويقال فيه المثل لأنه بقدر مثل العين ثم يقوم بثمن مثلها فالأصل فيه اختيار الآدميين وإرادتهم ورغبتهم
ولهذا قال كثير من العلماء قيمة المثل ما يساوي الشيء فى نفوس ذوي الرغبات ولابد أن يقال فى الأمر المعتاد فالأصل فيه إرادة الناس ورغبتهم وقد علم بالعقول أن حكم الشيء حكم مثله وهذا من العدل والقياس والاعتبار وضرب المثل الذي فطر الله عباده عليه
____________________
(29/522)
فاذا عرف أن إرادتهم المعروفة للشيء بمقدار علم أن ذلك ثمن مثله وهو قيمته وقيمة مثله لكن إن كانت تلك الرغبة والارادة لغرض محرم كصنعة الأصنام والصلبان ونحو ذلك كان ذلك العوض محرما فى الشرع
فعوض المثل في الشريعة يعتبر بالمسمى الشرعي وهو أن تكون التسمية شرعية وهي المباحة فأما التسمية المحظورة إما لجنسها كالخمر والخنزير وإما لمنفعة محرمة فى العين كالعنب لمن يعصره خمرا أو الغلام لمن يفجر به وإما لكونه تسمية مباهاة ورياء لا يقصد أداؤها أو فيها ضرر بأحد المتعاقدين كالمهور التى لا يقصد أداؤها وهي تضر الزوج إلى أجل كما يفعله جفاة الأعراب والحاضرة ونحو ذلك فان هذا ليس بتسمية شرعية فليس هو ميزانا شرعيا يعتبر به المثل حيث لا مسمى
فتدبر هذا فانه نافع خصوصا فى هذه الصدقات الثقيلة المؤخرة التى قد نهى الله عنها ورسوله فان من الفقهاء من يعتبرها فى مثل كون الأيم لا تزوج إلا بمهر مثلها فيرى ترك ما نهى الله عنه خلافا للشريعة بناء على أنه مهر المثل حتى فى مثل تزويج الأب ونحوه فهذا أصل
اذا عرف ذلك فرغبة الناس كثيرة الاختلاف والتنوع فانها
____________________
(29/523)
تختلف بكثرة المطلوب وقلته فعند قلته يرغب فيه ما لا يرغب فيه عند الكثرة وبكثرة الطلاب وقلتهم فانما كثر طالبوه يرتفع ثمنه بخلاف ما قل طالبوه وبحسب قلة الحاجة وكثرتها وقوتها وضعفها فعند كثرة الحاجة وقوتها ترتفع القيمة ما لا ترتفع عند قلتها وضعفها وبحسب المعاوض فان كان مليا دينا يرغب فى معاوضته بالثمن القليل الذي لا يبذل بمثله لمن يظن عجزه أو مطله أو جحده والملي المطلق عندنا هو الملي بماله وقوله وبدنه هكذا نص أحمد
وهذا المعنى وإن كان الفقهاء قد اعتبروه فى مهر المثل فهو يعتبر ايضا فى ثمن المثل واجرة المثل
وبحسب العوض فقد يرخص فيه اذا كان بنقد رائج ما لا يرخص فيه اذا كان بنقد آخر دونه فى الرواج كالدراهم والدنانير بدمشق فى هذه الأوقات فان المعاوضة بالدراهم هو المعتاد
وذلك أن المطلوب من العقود هو التقابض من الطرفين فاذا كان الباذل قادرا على التسليم موفيا بالعهد كان حصول المقصود بالعقد معه بخلا ما اذا لم يكن تام القدرة أو تام الوفاء ومراتب القدرة والوفاء تختلف وهو الخير المذكور فى قوله { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } قالوا قوة على الكسب ووفاء للعهد
____________________
(29/524)
و هذا يكون فى البائع وفي المشتري وفى المؤجر والمستأجر والناكح والمنكوحة فان المبيع قد يكون حاضرا وقد يكون غائبا فسعر الحاضر أقل من سعر الغائب وكذلك المشتري قد يكون قادرا فى الحال على الأداء لأن معه مالا وقد لا يكون معه لكنه يريد أن يقترض او يبيع السلعة فالثمن مع الأول أخف
وكذلك المؤجر قد يكون قادرا على تسليم المنفعة المستحقة بالعقد بحيث يستوفيها المستأجر بلا كلفة وقد لا يتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة إلا بكلفة كالقرى التى ينتابها الظلمة من ذي سلطان أو لصوص أو تنتابها السباع فليست قيمتها كقيمة الأرض التى لا تحتاج إلى ذلك بل من العقار ما لا يمكن أن يستوفي منفعته الا ذو قدرة يدفع الضرر من منفعته لأعوانه وأنصاره أو يستوفى غيره منه منفعة يسيرة وذو القدرة يستوفي كمال منفعته لدفع الضرر عنه
وعلى هذا يختلف الانتفاع بالمستأجر بل والمشتري والمنكوح وغير ذلك فينتفع به ذو القدرة أضعاف ما ينتفع به غيره لقدرته على جلب الأسباب التى بها يكثر الانتفاع وعلى دفع الموانع المانعة من الانتفاع فاذا كان كذلك لم يكن كثرة الانتفاع بما أقامه من الأسباب ودفعه من الموانع موجبا لأن يدخل ذلك التقويم إلا اذا فرض مثله فقد تكون الأرض تساوي اجرة قليلة لوجود الموانع من المعتدين أو السباع أو لاحتياج استيفاء المنفعة إلى قوة ومال
____________________
(29/525)
وسئل عن رجل له عند رجل مائة وثمانون فقال له رجل تبيعها بمائة وخمسين فهل يجوز ذلك
فأجاب الحمد لله ان كانت مؤجلة فباعها بأقل منها حالة فهذا ربا وان كانت حالة فأخذ البعض وأبرأه من البعض فأجره على الله وقد أحسن
وسئل
عن دين سلم حل فلم يكن عند المستسلف وفاء فقال بعنيه بزيادة على الثمن الأول
فأجاب لا يجوز بيع دين السلم قبل قبضه ولا بيع الدين بالدين فهذا حرام من وجهين ومن وجه ثالث أنه إن كان باعه الدراهم بالدراهم مثل من باع ربا نسيئة لم يجز أن يعتاض عن ثمنه
____________________
(29/526)
بما لا يباع به نسيئة كذلك من اشتري دينا بنسيئة لم يجز أن يعتاض عنه بما لا يباع بثمنه نسيئة والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن الرجل يتدين ثم يعسر ويموت هل يطالب به
فأجاب نعم يستوفيه صاحبه فان الدين لابد من وفائه ولهذا ثبت فى الصحيح ( ان الشهيد يغفر له كل شيء الا الدين
____________________
(29/527)
& باب القرض
سئل شيخ الاسلام عن رجل أقرض لرجل ألف درهم فطالبه فقال أنا معسر أنا اشتري منك صنفا بزائد إلى أن تصبر ستة شهور فهل يجوز ذلك
فأجاب قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يحل سلف وبيع ( فاذا باعه وأقرضه كان ذلك مما حرمه الله ورسوله وكلاهما يستحق التعزير اذا كان قد بلغه النهي ويجب رد القرض والسلعة إلى صاحبها فاذا تعذر ذلك لم يكن له إلا بدل القرض والا بدل السلعة قيمة المثل ولا يستحق الزيادة على ذلك والله أعلم
____________________
(29/528)
وسئل
عن انسان يريد أن يأخذ من انسان دراهم قرضا يعمر بها ملكه يشتري بها ارضا إلى مدة سنة وبلا كسب ما يعطي أحد ماله فكيف العمل فى مكسبه حتى يكون بطريق الحل
فأجاب الحمد لله له طريق بأن يكرى الملك أو بعضه يتسلفها ويعمر بالاجرة واذا كان بعض الملك خرابا واشترط على المستأجر عمارة موصوفة جاز ذلك فهذا طريق شرعي يحصل به مقصود هذا وهذا
واما اذا تواطآ على أن يعطيه دراهم بدراهم إلى أجل وتحيلا على ذلك ببعض الطرق لم يبارك الله لا لهذا ولا لهذا مثل أن يبيعه بعض الملك بيع أمانة على أنه يشترى منه الملك فيما بعد بأكثر من الثمن فهذا من الربا الذي حرمه الله
ورسوله وان كان عند المعطي سلعة يحتاج اليها الآخذ كرضاض يعمر به الحمام جاز أن يشتري السلعة إلى أجل بما يتفقان عليه من الربح لكن لا ينبغي للبائع أن يربح على المشتري الا ما جرت به العادة فى مثل ذلك
____________________
(29/529)
وسئل
عمن أقرض رجلا قرضا وامتنع أن يوفيه إياه الا في بلد آخر يحتاج فيه المقرض إلى سفر وحمل فهل عليه كلفة سفره
فأجاب يجب على المقترض أن يوفى المقرض فى البلد الذي اقترض فيه ولا يكلفه شيئا من مؤنة السفر والحمل فان قال ما أوفيك الا في بلد آخر غير هذا كان عليه ضمان ما ينفقه بالمعروف
وسئل
عما اذا أقرض رجل رجلا دراهم ليستوفيها منه فى بلد آخر فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب اذا أقرضه دراهم ليستوفيها منه فى بلد آخر مثل أن يكون المقرض غرضه حمل الدراهم إلى بلد آخر والمقترض له دراهم في ذلك البلد وهو محتاج إلى دراهم فى بلد المقرض فيقترض منه ويكتب له ( سفتجة ( أي ورقة إلى بلد المقترض فهذا يصح في
____________________
(29/530)
أحد قولي العلماء
وقيل نهى عنه لأنه قرض جر منفعة والقرض اذا جر منفعة كان ربا والصحيح الجواز لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق فى نقل دراهمه إلى ذلك البلد وقد انتفع المقترض أيضا بالوفاء في ذلك البلد وأمن خطر الطريق فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم وإنما ينهى عما يضرهم
وسئل رحمه الله
هل يجوز قرض الدراهم المغشوشة ويأخذها عددا
فأجاب يجوز قرض الدراهم المغشوشة اذا كانت متساوية الغش مثل دراهم الناس التى يتعاملون بها وكذلك اذا كان الغش متفاوتا يسيرا فالصحيح أنه يجوز قرضها بالدراهم التى يقال عيارها سبعون وعيار غيرها تسعة وستون
والصحيح أنه يجوز قرض الحنطة وغيرها من الحبوب وان كانت مغشوشة بالتراب والشعير فان ( باب القرض ( أسهل من ( باب البيع ( ولهذا يجوز على الصحيح قرض الخبز عددا وقرض الخمير
____________________
(29/531)
و ان كان لا يجوز عددا ويجوز فى القرض أن يرد خيرا مما اقترض بغير شرط كما استلف النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا ورد خيرا منه وقال ( خير الناس أحسنهم قضاء (
وكذلك يجوز قرض البيض ونحوه من المعدودات فى أصح قولي العلماء فإن النبي صلى الله عليه وسلم اقترض حيوانا والحيوان أكثر اختلافا من البيض
(
وسئل
عن جندي له أقطاع ويجيء إلى عند فلاحيه فيطعموه هل يأكل
فأجاب اذا أكل وأعطاهم عوض ما أكل فلا بأس والله أعلم
وسئل عن معلم
له دين عند صانع يستعمله لأجله يأكل من أجرته
فأجاب لا يجوز للاستاذ أن ينقص الصانع من أجرة مثله لأجل ماله عنده من القرض فان فعل ذلك برضاه كان مرابيا ظالما عاصيا مستحقا للتعزير وليس له أن يعسفه فى اقتضاء دينه
____________________
(29/532)
وسئل رحمه الله
عن رجل له اقطاع أرض يعمل له أربعمائة أردب فأعطى الفلاحين قوة تقارب مائتي اردب فيسجلوه بسبعمائة درهم فهل ذلك ربا
فأجاب الحمد لله كل قرض جر منفعة فهو ربا مثل أن يبايعه أو يؤاجره ويحابيه فى المبايعة والمؤاجرة لأجل قرضه قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يحل سلف وبيع (
فانه اذا أقرضه مائة درهم وباعه سلعة تساوي مائة بمائة وخمسين كانت تلك الزيادة ربا وكذلك اذا أقرضه مائة درهم واستأجره بدرهمين كل يوم اجرته تساوي ثلاثة بل ما يصنع كثير من المعلمين بصنائعهم يقرضونهم ليحابوهم فى الأجرة فهو ربا
وكذلك اذا كانت الأرض أو الدار أو الحانوت تساوي أجرتها مائة درهم فأكراها بمائة وخمسين لأجل المائة التى أقرضها إياه فهو ربا
وأما ( القوة ( فليست قرضا محضا فانه يشترط عليه فيها ان
____________________
(29/533)
يبذرها فى الأرض وان كان عاملا وان كان مستأجرا فكأنه أجره أرضا يقويها بالاجرة المسماة فاذا انقضت الاجارة استرجع الأرض ونظيره القوة وهذا فيه نزاع بين العلماء
منهم من يقول المنفعة هنا مشتركة بين المقرض والمقرض فان المقرض له غرض فى عمارة أرضه مثل ( السفتجة ( وهو أن يقرضه ببلد ليستوفي فى بلد آخر فيربح المقرض خطر الطريق ومؤونة الحمل ويربح المقترض منفعة الاقتراض
وكذلك ( القوة ( ليس مقصود المقوى يأخذ زيادة على قوته بل محتاج إلى إجارة أرضه وذلك محتاج إلى استئجارها فلا تتم مصلحتها الا بقوة من المؤجر لحاجة المستأجر وفى التحقيق ليس المقصود بالقوة القرض بل تقويته بالبذر كما لو قواه بالبقر
ومنهم من يجعله من باب القرض الذي يجر منفعة انما القوة من تمام منفعة الأرض كما لو كان مع الأرض بقر ليحرث عليها فيكون قد أجر أرضا وبقرا فهذا جائز بلا ريب ولكن القوة نفسها لا تبقى ولكن يرجع فى نظيرها كما يرجع فى المضاربة فى نظير رأس المال فلهذا منع من منع من العلماء من ذلك لأن الاجارة ترجع نفس العين فيها إلى المؤجر والمستأجر قد استوفى المنفعة ومثل هذا لا يجوز في
____________________
(29/534)
القرض فانه لا يجب فيه الا رد المثل بلا زيادة
ولو أجره حنطة أو نحوها لينتفع بها ثم يرد إليه مثلها مع الاجرة فهذا هو القرض المشروط فيه زيادة على المثل وهذا النزاع اذا اكراه بقيمة المثل وأقرضه القوة ونحوها مما يستعين به المكتري كما لو أكراه حانوتا ليعمل فيه صناعة أو تجارة وأقرضه ما يقيم به صناعته أو تجارته
فأما ان أكراه بأكثر من قيمة المثل لأجل القرض فهذا لا خير فيه بل هو القرض الذي يجر الربا
____________________
(29/535)
& باب الرهن
سئل رحمه الله
عن رجل أرهن داره عند رجل على مال إلى أجل فحل الأجل وهو عاجز فقال المرتهن بعنى الدار بشرط أن وفيتنى أخذتها بالثمن وان سكنتها لم آخذ منك أجرة فهل البيع صحيح وقد عمر المشتري فوقها بناء فما حكمه
فأجاب ليس هذا بيعا صحيحا بل تعاد الدار إلى صاحبها ويوفى الدين المستحق والعمارة التى عمرها المشترى تحسب له والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل له نصف بستان والباقي لرجل آخر واستعار من شريكه نصفه ليرهنه بدين إلى أجل وعرفه مقدار الدين والأجل فأعاره ورهن البستان عند صاحب الدين ثم أنه فك نصيبه وباعه لصاحب الدين بثمن معلوم وتقاصا فهل له ذلك وهل يبقى نصيب
____________________
(29/536)
المعير مرهونا على باقى الدين أم له الرجوع فى كل وقت
فأجاب الحمد لله نعم يجوز للمدين أن يبيع نصيبه لوفاء دينه كما ذكروا واذا باعه وكان مما تجب فيه الشفعة فللشريك أخذه بالشفعة
وأما نصيب المعير فيبقى مرهونا على باقى الدين كما كان قبل ذلك وليس للمعير الرجوع فى مثل هذه العارية لتعلق حق المرتهن بها والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل عنده رهن على مبلغ إلى مدة معلومة فلما انقضى الأجل دفع إلى رب الدين حقه الا مائة ثم قطعت القبالة الأولى وكتب بالمائة درهم حجة ولم يعاد فيه ذكر الرهن فهل لهذه المائة الباقية بالرهن المذكور تعلق
فأجاب اذا أوفى الغريم بعض الدين وبقي بعضه فالرهن باق بما بقي من الحق الا أن يحصل ما يوجب فكاكه مثل فك المرتهن له ونحو ذلك
____________________
(29/537)
وسئل
عن رجل أرهن داره ثم أشهد على نفسه أنه عوض امرأته بالدار عن حقها من مدة عشر سنين فهل يبطل الرهن وهل يجوز للمرتهن أن يؤجر الدار
فأجاب الحمد لله رب العالمين لا يقبل إقرار الراهن بما يبطل الرهن وان قيل أنه إذا أقر بالرهن فللمقر له أن يبطله بموجب إقراره بلا ريب لأنه اذا أقر أن الرهن كان ملكا لغيره وأنه رهنه بدون اذنه لم يبطل الرهن بمجرد ذلك والله أعلم
وسئل
عمن له علي شخص دين وأرهن عليه رهنا والدين حال ورب الدين محتاج إلى دراهمه فهل يجوز له بيع الرهن أم لا
فأجاب اذا كان أذن له في بيعه جاز والا باع الحاكم ان أمكن ووفاه حقه منه ومن العلماء من يقول اذا تعذر ذلك دفعه إلى ثقة يبيعه ويحتاط بالاشهاد على ذلك ويستوفي حقه منه والله أعلم
____________________
(29/538)
وسئل
عن رجل أمر أجيره أن يرهن شيئا عند شخص فرهنه عند غيره فعدم الرهن فحلف صاحب الرهن أن لم يأته به لم يستعمله معتقدا أنه لم يعدم ثم تبين له عدمه فهل يحنث اذا استعمله
فأجاب الحمد لله اذا كان حين حلف معتقدا أن الرهن باق بعينه لم يعدم فحلف ليحضره لم يحنث والحالة هذه والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رهن عند رجل على مبلغ إلى مدة وقد انقضت المدة ثم أنه أرهنه باذن مالكه على المبلغ عند انسان آخر وقد طلب الراهن الثانى ما علي الرهن وحبس لأجله ولم يكن له ما يستفكه فهل يجوز بيعه أم لا
فأجاب نعم يجوز بيع الرهن لاستيفاء الحق منه والحالة هذه لا سيما وقد أذن الراهن الأول في الرهن على الدين فيجوز بيعه
____________________
(29/539)
حينئذ لاستيفاء هذا الحق منه فاذا أمكن بيعه واستيفاء الحق منه لم يجز حبس الغريم والله أعلم
وسئل
عن امرأة أسرت ولها ملك وزوج وأخ فأرهنوا ملكها على دراهم لأجل فكاكها وراح أخوها بالدراهم فى طلبها فوجدها حصلت بلا ثمن فرجعت إلى بلدها وتخلف أخوها فى حوائجه فلما وصلت ووجدت ملكها مرهونا على الدراهم فقالت يرهن مالي بغير أمري وانكرت أن أخاها سلم اليها شيئا من الدراهم فهل يلزمها الرهن أم لا
فأجاب لا شيء عليهم والحالة هذه بل يعاد اليها ما قبضه أخوها ويفك الرهن على ملكها والله أعلم
____________________
(29/540)
وسئل رحمه الله
عن رجل أقرض عمه خمسة آلاف درهم ثم ان بن عمه تدين دراهم من ناس آخرين واشتري خمسة غلمان وجارية وكتب مكتوبا ان الخمسة الغلمان دون الجارية رهن عند أصحاب الدين ثم انه باع الغلمان وأوصلهما لمن كانوا رهنا عنده ثم إن صاحب الخمسة آلاف اشتري الجارية بالدين الذي له عليه فمسكوه أصحاب الدين الذين أخذوا ثمن الغلمان ليأخذوها من دينهم ايضا فهل لهم ذلك أم لا وهو لم يكن ضامنا ولا كفيلا
فأجاب الحمد لله اذا لم تكن الجارية مرهونة عند أهل الدين الثانى لم يكن لأهل هذا الدين اختصاص بها دون بقية الغرماء باتفاق المسلمين فكيف يكون اذا كان قد وفاها من الدين الذي لغيرهم فان العدل فى الوفاء بين الغرماء بعد الحجر على المفلس واجب باتفاق الأئمة واما قبل الحجر ففيه نزاع
____________________
(29/541)
وسئل رحمه الله
عن رجل له دين على انسان فوجد ولده راكبا على فرس فأخذ الفرس منه فحضر المديون إلى صاحب الفرس فطالبه صاحب الدين بدينه فقال له خذ هذه الفرس عندك حتى أوفيك دينك فقال له صاحب الدين لي عندك فضة مالي عندك فرس وهذا حيوان والموت والحياة بيد الله سبحانه وتعالى فقال له المديون أبرأك الله من هذه الفضة فمهما حدث كان فى دركي فقعدت عند صاحب الدين أياما يعلفها ويسقيها ولا يركبها فاسقطت الفرس ميتة لم تستهل بقضاء الله وقدره فجاء رجل آخر غير المديون ادعى أن الفرس له وطالب بسقط الفرس فقال صاحب الدين أنا لا أعرفك ولا لك معي كلام وأحلف لك أنى ما ركبت الفرس ولا ركبها احد عندي ولا ضربتها فهل يجب على صاحب الدين أو على الذي ارهن الفرس قيمة السقط أم لا وكم يكون قيمة السقط
فأجاب اذا قبضت الفرس من مالكها بغير حق فله ضمان ما نقصت وهو تفاوت ما بين القيمات فان كان المستولي عليها غاصبا متعديا
____________________
(29/542)
فقرار الضمان عليه وان كان مغرورا ولم يتلف بسبب منه فقرار الضمان على الأول الذي غره وضمن له الدرك والله أعلم
وسئل
عن رجل تحت يده رهن على دين ثم باعه مالكه فأراد المرتهن أن يثبت عقد الرهن ويفسخ البيع فعلى من يدعى
فأجاب بيع الرهن اللازم بدون اذن المرتهن لا يجوز وللمرتهن أن يطلب دينه من الراهن المدين أن كان قد حل وله أن يطلب عود الرهن أو استيفاء حقه منه وان شاء طالب البائع له وان شاء طالب المشتري له لكن المشترى ان كان مغرورا فقرار الضمان على البائع يجب عليه ضمان اجرة المبيع وان كان عالما بصورة الحال فهو ظالم عليه ضمان المنفعة
____________________
(29/543)
وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل أرهن حياصة فاستعملها المرتهن فقطع سيرها وعدم طليها
فأجاب ان كانت نقصت باستعمال المرتهن فعليه ضمان ما نقص بالاستعمال والله سبحانه أعلم
____________________
(29/544)
& باب الضمان
سئل رحمه الله
عن رجل ضامن معينا وقد طلبه غريمه بالمال ولم يكن للضامن مقدرة وقد ادعى غريمه عليه وادعى الاعسار فهل يحتاج إلى بينة أو القول قوله مع يمينه
فأجاب اذا كان الضامن لم يعرف له مال قبل ذلك وادعى الاعسار فالقول قوله مع يمينه فى ذلك ولا يحتاج إلى إقامة بينة وهذا هو المعروف من مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وهو قول طائفة من الحنفية فيما ذكروه عن مذهب أبى حنيفة وحكى منع ذلك أيضا بل هو حقيقة مذهبه فانه لا يحوجه إلى بينة اذا تبين أن الحال على ما ذكروا والله أعلم
____________________
(29/545)
وسئل
عن رجل ضمن آخر بدين فى الذمة بغير إذنه فهل يجوز ذلك
فأجاب نعم يصح ضمان ما في الذمة بغير إذن المضمون عنه ويطالب المستحق للضامن لكن اذا قضاه بغير إذن الغريم فهل له أن يرجع بذلك على المدين فيه قولان للعلماء قيل يرجع وهو قول مالك وأحمد فى المشهور عنه وقيل لا يرجع وهو قول أبي حنيفة والشافعي والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل تحت حجر والده وضمن بغير رضا والده ضمن أقواما مستأجرين بستانا أربع سنين وتفاصلوا من الاجارة التى ضمنهم وقد فضل عليهم شيء كتب عليهم به حجة بغير الاجارة وقد طلب الضامن لهم فهل يجوز طلبه بعد فسخ الاجارة
فأجاب الحمد لله ان كان ضمنهم ضمانا شرعيا بما عليهم من
____________________
(29/546)
الدين فلصاحب الحق أن يطالب الضامن بذلك الحق أو بما بقى منه وليس له أن يطالب بغير ما ضمنه وان كان تحت حجر أبيه لم يصح ضمانه وللضامن أن يطلب الغرماء اذا طلب
وسئل رحمه الله
عن رجل ضمن أملاكا فى ذمته وقد استحقت ولم يكن معه دراهم وله موجود ملك يحرز القيمة وزيادة فهل لصاحب الدين أن يعتقل الضامن قبل بيع الموجود أم لا واذا اعتقل الضامن وسأل خروجه مع ترسيم أو تسليم الملك لمن يبيعه حتى يستوفي الغريم
فأجاب اذا بذل بيع ماله على الوجه المعروف لم يجز عقوبته بحبس ولا غيره فان العقوبة إما أن تكون على ترك واجب أو فعل محرم وهو اذا بذل ما عليه من الوفاء لم يكن قد ترك واجبا لكن ان خاف الغريم أن يغيب أو لا يفى بما عليه فله أن يحتاط عليه إما بملازمته وإما بعائن فى وجهه والترسيم عليه ملازمة
ومتى اعتقله الحاكم ثم بذل بيع ماله وسأل التمكين من ذلك يمكنه من ذلك اما أن يخرج مع ترسيم واما ان يوكل من يبيع
____________________
(29/547)
الملك ويسلمه اذا لم يمكن ذلك إلا بخروجه ففي الجملة لا تجوز عقوبته بحبس مع عدم تركه الواجب لكن يحتاط بالملازمة
وسئل عن ضامن على أن دواب قوم تنزل فى خان البراة وله على الناس وظيفة على نزولهم وعلفهم فزاد في الوظيفة
فأجاب ليس للضامن لا في الشريعة النبوية ولا في السياسة السلطانية تغيير القاعدة المتقدمة ولا أن يحدث على الناس ما لم يكن عليهم موضوعا بأمر ولاة الأمور بل الواجب منعه من ذلك وعقوبته عليه واسترجاع ما قبضه من أموال الناس بغير إذن
وأما حكم الشريعة فانه ينزل صاحب الدابة حيث أحب ما لم تكن مفسدة شرعية ويعلفها هو ولا يجبر على أن يكترى لها أو يشترى من أحد ولو أكره على ذلك فلا يجوز أن يؤخذ منه زيادة على ثمن المثل بل أخذ الزيادة بمنزلة لحم الخنزير الميت حرام من وجهين والله أعلم
____________________
(29/548)
وسئل رحمه الله
عمن يكتب ضمان الأسواق وغيرها من الكتابة التى لا تجوز فى الشرع هل علي الكاتب إثم فانه يكتب ويشهد على من حضر بما يرضى فان كان لا يجوز فان الكتاب لا يخلون من ذلك فهل يأثمون بذلك أم
لا فأجاب ضمان السوق وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر من الديون وما يقبضه من الأعيان المضمونة ضمان صحيح وهو ضمان ما لم يجب وضمان المجهول وذلك جائز عند جمهور العلماء كمالك وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل وقد دل عليه الكتاب كقوله { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } والشافعي يبطله فيجوز للكاتب والشاهد أن يكتبه ويشهد عليه ولو لم ير جوازه لأنه من مسائل الاجتهاد وولي الأمر يحكم بما يراه من القولين
____________________
(29/549)
وسئل
عمن ضمن رجلا ضمان السوق باذنه فطلب منه فهرب حتى عجز عن إحضاره وغرم بسبب ذلك أموالا فهل له أن يرجع عليه بما خسره في ذلك
فأجاب له الرجوع فيما أنفقه بسبب ضمانه اذا كان ذلك بالمعروف
وسئل رحمه الله
عن رجل ضمن رجلا فى الذمة على مبلغ وعند استحقاق المبلغ مسك الغريم الضامن واعتقله فى السجن فطلب الغريم صاحب الدين فأخذه واعتقله وبقي الضامن والمضمون فى الحبس فهل يجوز اعتقال الضامن
فأجاب مذهب أبى حنيفة ومحمد والشافعي والامام أحمد أن للغريم أن يطلب من شاء منهما فاذا استوفى لم يكن له مطالبة وله أن يطالبهما جميعا
____________________
(29/550)
وسئل
عمن طلب بمال على ولده فتغيب الولد فطلب من جهة والده
فأجاب اذا لم يكن ضامنا ولده ولا له عنده مال لم تجز مطالبته بما عليه لكن إن أمكن الوالد معاونة صاحب الحق على إحضار ولده بالتعريف بمكانه ونحوه لزمه ذلك والا فلا شيء عليه ولا تحل مطالبته بشيء من جهته وعلى ولي الأمر كف العدوان عنه
(
وسئل
عن كاتب عند أمير واقترض الأمير من انسان فالزمه الأمير بالغصب ان يضمن فى ذمته وضمنه والكاتب تحت الحجر من والده فهل يلزمه ما ضمنه أم لا
فأجاب اذا ثبت أنه ضامن باقرار وبينة أو خطه لزمه ما ضمنه فان النبي صلى الله عليه وسلم ( قضى أن الزعيم غارم ( فان ثبت أنه كان محجورا عليه غير مستقل بالتصرف لنفسه لم يصح ضمانه
____________________
(29/551)
و لكن لا يفسد العقد بمجرد دعواه الحجر وإن قال أن المضمون له يعلم أنى كنت محجورا علي فله تحليفه وكذلك اذا ادعى الاكراه فله تحليف المضمون له
وسئل رحمه الله
عن ضامن يطلب منه السلطان على الأفراح التى يحصل فيها بعض المنكرات من غناء النساء الحرائر للرجال الأجانب ونحوه فان أمر السلطان بابطال ذلك الفعل أبطله وطالب الضامن بالمال الذي لم يلتزمه إلا على ذلك الفعل لأن عقد الضمان وجب لذلك الفعل والمضمون عنه يعتقد أن ذلك لم يدخل فى الضمان والضامن يعتقد دخوله لجريان عادة من تقدمه من الضمان به وان الضمان وقع على الحالة والعادة المتقدمة
فأجاب ظلم الضامن بمطالبته بما لا يجب عليه بالعقد الذي دخل فيه وان كان محرما أبلغ تحريما من غناء الأجنبية للرجال لأن الظلم من المحرمات العقلية الشرعية وأما هذا الغناء فانما نهي عنه لأنه قد يدعو إلى الزنى كما حرم النظر إلى الأجنبية ولأن فيه خلافا شاذا ولان غناء الاماء الذي يسمعه الرجل قد كان الصحابة يسمعونه في
____________________
(29/552)
العرسات كما كانوا ينظرون إلى الاماء لعدم الفتنة فى رؤيتهن وسماع أصواتهن فتحريم هذا أخف من تحريم الظلم فلا يدفع أخف المحرمين بالتزام أشدهما
وأما غناء الرجال للرجال فلم يبلغنا أنه كان فى عهد الصحابة يبقى غناء النساء للنساء فى العرس وأما غناء الحرائر للرجال بالدف فمشروع فى الافراح كحديث الناذرة وغناها مع ذلك
ولكن نصب مغنية للنساء والرجال هذا منكر بكل حال بخلاف من ليست صنعتها وكذلك أخذ العوض عليه والله أعلم
وسئل
عن رجل ضمن فى الذمة وهو من المضمون والضامن متزوج ابنة المضمون فأقام الضامن فى السجن خمسة أشهر وأنفق ثلاثمائة درهم فهل يلزم المضمون النفقة التى أنفقها فى مدة الاعتقال
فأجاب نعم ما ألزم الضامن بسبب عدوان المضمون مثل أن يكون قادرا على الوفاء فيغيب حتى أمسك الغريم للضامن وغرمه ما غرمه كان له أن يرجع بذلك على المضمون الذي ظلمه
____________________
(29/553)
(
وسئل رحمه الله
عن جماعة ضمنوا شخصا لرجل وكان الضامن ضامنا وجه المضمون فى حبس الشرع فهل يلزمهم باحضاره إلى بيته
فأجاب اذا سلمه إليه في حبس الشرع بريء بذلك ولم يلزمه إخراجه من الحبس له لكن المضمون له يطلب حقه منه ويستوفيه بحكم الشرع حينئذ وان كان فى الحبس وللحاكم أن يخرجه من الحبس حتى يحاكم غريمه ثم يعيده إليه ولا يلزمه إحضاره إليه وهو فى حبس الشرع عند أحد من أئمة المسلمين
وأجاب أيضا اذا سلمه ضامن الوجه الذي ضمنوه ضمان احضار في حبس الشرع فقد برئوا من الضمان وكان لأهل الحق الذي عليه أن يستوفوا حقهم منه حينئذ وان احتاجوا إلى الدعوى عليه مكنوا من اخراجه إلى مجلس الحكم والدعوى عليه هذا مذهب أئمة المسلمين كمالك وأحمد وغيرهما
____________________
(29/554)
وسئل
عن جمال ربط جماله فى الربيع ولكل مكان خفراء ثم سرق من الجمال جمل ولم يكن أحد من الخفراء حاضرا بائتا فهل يلزمه شيء أم لا
فأجاب الحمد لله اذا كانوا مستأجرين على حفظهم فعليهم الضمان بما تلف بتفريطهم والله أعلم
وسئل قدس الله روحه عن صبى مميز استدان دينا وكفله أبوه وثلاثة أخر باذنه ثم غاب أبوه فطلب صاحب الدين من أحد الكفلاء المال وألزمه بوزنه فهل لهذا الذي وزن المال أن يرجع بما وزنه على الصبي أو علي مال أبيه الغائب وعلى رفاقه فى الكفالة أم يروح ما وزنه مجانا
فأجاب له أن يرجع على من كفله فان كفالة أبيه له تقتضى
____________________
(29/555)
انه تصرف باذن ابيه فيلزمه الدين وتصح كفالته وان كان في الباطن قد استدان لأبيه ولكن ابوه أمره فالاستدانة للاب وإلا فله تحليف الأب ان الاستدانة لم تكن له
وسئل
أبو العباس عمن سلم غريمه إلى السجان ففرط فيه حتى هرب
فأجاب إن السجان ونحوه ممن هو وكيل على بدن الغريم بمنزلة الكفيل للوجه عليه إحضار الخصم فان تعذر إحضاره كما لو لم يحضر المكفول يضمن ما عليه عندنا وعند مالك
& باب الحوالة
سئل رحمه الله
عمن أحال بدين على صداق حال ثم أن المحيل قبض الدين من المحال عليه فهل تصح الحوالة بذلك وهل يكون هذا القبض صحيحا مبريا لذمة المحال عليه وهل للمحال مطالبة المحيل القابض لما قبضه ويرجع
فأجاب الحمد لله نعم تصح الحوالة بشروطها وليس للمحيل له قبض المحال به بعد الحوالة ولا تبرأ ذمة المحال عليه بالاقباض لها إلا أن يكون بأمر المحال
وللمحتال أن يطلب كل واحد من المحال عليه ليعاد منه في ذمته ومن القابض دينه بغير إذنه وان كان قبض الغاصب بغير حق بمنزلة غصب المشاع فان التعيين بالغصب كالقسمة فما له أن يطالب الغاصب بالقسمة
وللمحتال عليه أن يرجع على المحيل بما قبضه منه بغير حق لكن للخصم تحليف المقر له أن باطن هذا الاقرار كظاهره والله أعلم
____________________
(29/556)
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله
عن رجل اشترى دارا ولها بابان كل باب فى زقاق غير نافذ وأحدهما مسدود والكتب تشهد بالبابين والمسدود هو الباب الأصلي فى صدر الزقاق فأراد أن يفتح الباب فهل له أن يفتحه
فأجاب إذا اشترى دارا بحقوقها وكان ذلك الباب الذي سد من حقوقها فله أن يفتحه كما كان أولا إلا أن يكون هذا الحق مستثنى من المبيع لفظا أو عرفا
وسئل رحمه الله
عن دارين بينهما شارع فأراد صاحب أحد الدارين أن يعمر على داره غرفة تفضي إلى سد الفضاء عن الدار الأخرى فهل يجوز ذلك أم لا
____________________
(30/5)
فأجاب إن كان فى ذلك إضرار بالجار مثل أن يشرف عليه فإنه يلزم ما يمنع مشارفته الأسفل فإذا لم يكن فيه ضرر على الجار بأن يبنى ما يمنع الإشراف عليه أو لا يكون فيه إشراف عليه لم يمنع من البناء
وسئل
عن رجل إشترى دارا وهي تشرف إلى طريق المارة ثم إنه أراد أن يزيد فيها فاشترى من وكيل بيت المال من جانب الطريق أذرعا معلومة وأقام حائطا فيما اشتراه وأراد أن يعمل على طريق المسلمين ساباطا ليبني عليه دارا فهل يجوز ذلك أم لا وهل يصح بيع الأرض المبتاعة من وكيل بيت المال التى فى طريق المسلمين أم لا وهل يفسق الشاهد الذى يشهد بها لبيت المال أم لا وإذا ادعى الثاني أن بناءه لم يضر بالمسلمين هل يسمع ذلك منه وما الضرر الذى لأجله يمنع البناء على الطريق وهل يجوز لحاكم المسلمين تمكينه من ذلك على هذه الصفة المشروحة أم لا
فأجاب الحمد لله لا يجوز بيع شيء من طريق المسلمين النافذ وليس لوكيل بيت المال بيع ذلك سواء كانت الطريق واسعة أو
____________________
(30/6)
ضيقة وليس مع الشاهد علم ليس مع سائر الناس اللهم إلا أن يشهد أن هذه لبيت المال مثل أن تكون ملكا لرجل فانتقلت عنه إلى بيت المال وأدخلت في الطريق بطريق الغصب وأما شهادته أنها لبيت المال بمجرد كونها طريقا فهذا إن أراد أن الطريق المشتركة حق للمسلمين لم يسوغ ذلك بيعها وإن أراد أنها ملك لبيت المال يجوز بيعها كما يباع بيت المال فهذه شهادة زور يستحق صاحبها العقوبة التى تردعه وأمثاله وليس للحاكم أن يحكم بصحة هذا البيع
وسئل رحمه الله
عن بيتين أحدهما شرقى الآخر والدخول إلى أحدهما من تحت ميزاب الآخر من سلم وذلك من قديم فهل لصاحب البيت الذى سلمه ومجراه تحت الميزاب الآخر أن يمنع هذا الميزاب أن يجري على هذا السلم لأجل الضرر الذى يلحقه أم لا
فأجاب ليس له أن يمنع صاحب الحق القديم من حقه والله أعلم
____________________
(30/7)
وسئل رحمه الله
عن رجل أحدث بنيانا ورواشنا على باب الطبقات عليه من حيث يكشف حريم جاره وطبق عليه باب مطلعه من حيث لا يقدر ينزل طبق العجين ولا يطلع قربة سقاء
فأجاب ليس للجار أن يحدث فى الطريق المشترك الذى لا ينفذ شيئا بغير إذن رفيقه ولا شركائه ولا أن يحدث فى ملكه ما يضر بجاره وإذا فعل ذلك فللشريك إزالة ضرره قبل البيع وبعده لكن إذا أزيل قبل البيع لم يعد وبعد البيع فللمشتري فسخ البيع لأجل هذا النقص
وسئل
عن رجل اشترى حوانيت أرضا وبنى من مدة عشرين سنة وفوقهم علو فحضر من ادعى أن العلو ملكه ولم يصدقه مالك الحوانيت على صحة ملكه وأنشأ على العلو عمارة جديدة فهل يلزمه
____________________
(30/8)
هدم ما أنشأ مستجدا
فأجاب إذا كانت يده على العلو وصاحب السفل لا يدعي أنه له فهو لصاحب اليد حتى يقيم غيره حجة أنه له وأما ما أنشأه من العمارة الجديدة فليس له ذلك إلا أن يكون ذلك من حقوق ملكه والله أعلم
وسئل
عن رجل اشترى طبقة ولم يكن يروز ثم عمرها وأحدث روشنا على جيرانه فى زقاق ليس نافذا وادعى أن فيه بابا شرقى الظاهرية فهل له أن يحدث الروشن
فأجاب الحمد لله رب العالمين ليس له أن يحدث فى الدرب الذى لا ينفذ روشنا باتفاق الأئمة فإنهم لم يتنازعوا فى ذلك لكن تنازعوا فى جواز إحداثه فى الدرب النافذ وفى ذلك نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه
وأما الدرب الذى لا ينفذ فلا نزاع فيه سواء كان له باب إلى مدرسة أو لم يكن فإنه ليس بنافذ وإذا ادعى أن له فيه حق روشن لم يقبل قوله بغير حجة لكن له تحليف الجيران الذين تنازعوا فيه على نفي استحقاقه لذلك والله أعلم
____________________
(30/9)
وسئل رحمه الله
عمن له دار وبينهم طريق ونزل على أحدهم بأن كان ساباطا ولم يتضرر الجار والمار وقصد أحد الجيران أن يساويه بالبروز ويخرج عن جيرانه في الطريق ويضر بالجار
فأجاب أما الساباط ونحوه إذا كان مضرا فلا يجوز باتفاق العلماء وكذلك لا يجوز لأحد أن يخرج فى طريق المسلمين شيئا من أجزاء البناء حتى أنه ينهى عن تجصيص الحائط من خارج إلا أن يدخل حده بمقدار غلظ الجص
وأما إذا كان الساباط ونحوه لا يضر بالطريق ففيه نزاع مشهور بين العلماء قيل يجوز كقول الشافعى وقيل لا يجوز كأحد القولين فى مذهب أحمد ومالك وقيل يجوز بإذن الإمام كالقول الأخير وقيل إن منعه بعض العامة امتنع كما هو مذهب أبى حنيفة والله أعلم
____________________
(30/10)
وسئل
عن زقاق غير نافذ وفيه جماعة سكان وفيهم شخص له دار فهل له أن يفتح بابا غير بابه الأصلي
فأجاب ليس له أن يفتح فى الدرب الذى لا ينفذ بابا يكون أقرب إلى آخر الدرب من بابه الأصلي إلا بإذن المشاركين له فى الإستطراق فى ذلك والله أعلم
وسئل
عن رجل عمر حوانيت وبجنبها خربة لإنسان فهل لصاحب الدار أن يفتح مشرعا من الخربة أم لا
فأجاب ليس له أن يفتح مشرعا يعني بابا فى درب غير نافذ إلا بإذن أهله إلا أن يكون له فيه حق الإستطراق والله أعلم
____________________
(30/11)
وسئل
عن ملك مشترك بين مسلم وذمي فهدماه إلى آخره فهل يجوز تعليته على ملك جارهما المسلم أم لا
فأجاب الحمد لله ليس لهما تعليته على ملك المسلم فإن تعلية الذمي على المسلم محظورة ومالا يتم اجتناب المحظور إلا باجتنابه فهو محظور كما فى مسائل اختلاط الحرام بالحلال كما لو اختلط بالماء والمائعات نجاسة ظاهرة وكالمتولد بين مأكول وغير مأكول كالسمع والعسار والبغل وكما فى ( مسائل الأشتباه ( أيضا مثل أن تشتبه أخته بأجنبية والمذكى بالميت فإنه لما لم يمكن اجتناب المحظورات إلا باجتناب المباح فى الأصل وجب اجتنابهما جميعا كما أن ما لا يتم الواجب إلا بفعله ففعله واجب وإنما ذاك إذا كان ليس شرطا فى الوجوب وهو مقدور للمكلف وهنا لا يمكن منع الذمي من تعلية بنائه على المسلم لا أن يمنع شريكه فيجب منعهما وليس فى منع المسلم من تعلية بنائه على مسلم تعلية كافر على مسلم بخلاف ما إذا أمكن الشريك من التعلية فإنه يكون
____________________
(30/12)
في ذلك علو للكافر على المسلم وذلك لا يجوز وإذا عليا البناء وجب هدمه
ولا يجوز لمسلم أن يجعل جاه المسلم ذريعة لرفع كافر على مسلم ومن شارك الكافر أو استخدمه وأراد بجاه الإسلام أن يرفعوا على المسلمين فقد بخس الإسلام وإستحق أن يهان الإهانة الإسلامية والله أعلم
وسئل
عن بستان مشترك حصلت فيه القسمة فأراد أحد الشريكين أن يبني بينه وبين شريكه جدارا فامتنع أن يدعه يبنى أو يقوم معه على البناء
فأجاب أنه يجبر على ذلك ويؤخذ الجدار من أرض كل منهما بقدر حقه
____________________
(30/13)
وسئل
عن بستان بين شريكين ثم قسماه فأراد أحدهما أن يبني حائطه بينه وبين شريكه فامتنع الشريك أن يخليه يبنى فى أرضه وعلي غرامة البناء
فأجاب يجبر الممتنع أن يبني الجدار فى الحقين من الشريكين جميعا إذا كانا محتاجين إلى السترة
وسئل أيضا
فلو كانت المسألة بحالها فإن امتنع أحدهما أن يبنى مع شريكه وبناه أحدهما بماله لكنه وضع بعض أساسه من سهم هذا وبعضه من سهم هذا فهل له أن يمنع الذى لم يبن معه أن ينتفع بالجدار مثل أن يضع جاره عليه شيئا أو يبنى عليه أم لا
فأجاب لو كان الجدار مختصا بأحدهما لم يكن له أن يمنع جاره من الإنتفاع بما يحتاج إليه الجار ولا يضر بصاحب الجدار والله أعلم
____________________
(30/14)
وسئل
عن رجل اشترى من بيت المال بمصر شراء صحيحا شرعيا وبنى فتعرض له إنسان ومنعه من البناء فهل له ذلك
فأجاب الحمد لله إذا بنى فى ملكه بناء لم يتعد به على الجار لكن يخاف أن يسكن فى البناء الجديد ناس آخرون فينقص كراء الأول لم يكن له منعه لأجل ذلك بلا نزاع بين العلماء
وسئل
عن رجل له ملك وهو واقع فأعلموه بوقوعه فأبى أن ينقضه ثم وقع على صغير فهشمه هل يضمن أو لا
فأجاب هذا يجب الضمان عليه فى أحد قولى العلماء لأنه مفرط فى عدم إزالة هذا الضرر والضمان على المالك الرشيد الحاضر أو وكيله إن كان غائبا أو وليه إن كان محجورا عليه
____________________
(30/15)
ووجوب الضمان فى مثل هذا هو مذهب أبى حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعي
والواجب نصف الدية والأرش فى ما لا تقدير فيه ويجب ذلك على عاقلة هؤلاء إن أمكن وإلا فعليهم فى أصح قولي العلماء
وقال رحمه الله
إذا احتاج إلى إجراء مائه فى أرض غيره ولا ضرر فله ذلك وعنه لربها منعه كما لو استغنى عنه أو عن إجرائه فيها
قال ولو كان لرجل نهر يجري في أرض مباحة فأراد جار النهر أن يعرضه إلى أرضه أو بعضه ولا ضرر فيه إلا انتفاعه بالماء كما لو كان ينتفع به فى مجراه ولكنه يسهل عليه الإنتفاع به فأفتيت بجواز ذلك وأنه لا يحل منعه فإن المرور فى الأرض كما أنه ينتفع به صاحب الماء فيكون حقا له فإنه ينتفع به صاحب الأرض أيضا كما فى حديث عمر فهو هنا انتفع بإجراء مائة كما أنه هناك انتفع بأرضه
ونظيرها لو كان لرب الجدار مصلحة فى وضع الجذوع عليه من
____________________
(30/16)
غير ضرر الجذوع وعكس مسألة إمرار الماء لو أراد أن يجرى في أرضه من بقعه إلى بقعة ويخرجه إلى أرض مباحة أو إلى أرض جار راض من غير أن يكون على رب الماء ضرر لكن ينبغي أن يملك ذلك لأنه يستحق شغل المكان الفارغ فكذلك تفريغ المشغول
والضابط أن الجار إما أن يريد إحداث الإنتفاع بمكان جاره أو إزالة انتفاع الجار الذى ينفعه زواله ولا يضر الآخر
ومن أصلنا أن المجاورة توجب لكل من الحق ما لا يجب للأجنبي ويحرم عليه ما لا يحرم للأجنبى فيبيح الإنتفاع بملك الجار الخالي عن ضرر الجار ويحرم الإنتفاع بملك المنتفع إذا كان فيه إضرار فصل
وإذا قلنا بإجراء مائة على إحدى الروايتين فاحتاج أن يجري ماءه فى طريق مياه مثل أن يجرى مياه سطوحه وغيرها فى قناة لجاره أو يسوق فى قناة غدير ماء ثم يقاسمه جاز & باب الحجر
____________________
(30/17)
وسئل رحمه الله
عن رجل عسفه إنسان على دين يريد حبسه وهو معسر فهل القول قوله فى أنه معسر أو يلزم بإقامة البينة فى ذلك
فأجاب إذا كان الدين لزمه بغير معاوضة كالضمان ولم يعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله مع يمينه فى الإعسار والله أعلم
وسئل الشيخ رحمه الله
عن رجل مسلم اشترى من ذمي عقارا ثم رمى نفسه عليه واشترى منه قسطين والتزم يمينا شرعية الوفاء إلى شهر فهل على أحد أن يعلمه حيلة وهو قادر
فأجاب الحمد لله إذا كان الغريم قادرا على الوفاء لم يكن لأحد أن يلزم رب الدين بترك مطالبته ولا يطلب منه حيلة لا حقيقة لها
____________________
(30/18)
لأجل ذلك مثل أن يقبض منه ثم يعيد إليه غير حقيقة استيفاء وإن كان معسرا وجب إنظاره واليمين المطلقة محمولة على حال القدرة لا على حال العجز والله أعلم
وسئل
عمن ترك بعد موته كرما ودارا وعليه دين يستوعب ذلك كله وله من الورثة زوجة وبنت والسلطان ( 1 ) فطلب أرباب الدين من الورثة بيع الملك فهل يلزم الورثة البيع أو الحاكم
فأجاب إن باع الورثة ووفوا من الثمن جاز وإن سلموه للغرماء فباعه الغرماء واستوفوا ديونهم جاز وإن طلبوا من الحاكم أن يقيم لهم أمينا يتولى ذلك جاز وإن أقاموا هم أمينا يتولى ذلك جاز وإذا سلم الورثة ذلك إلى الغرماء لم يجب على الورثة أن يتولوا البيع والله أعلم
____________________
(30/19)
وسئل
عن رجل باع قماشا لإنسان تاجر وكسب فيه شيئا معينا وقسط عليه الثمن والمديون يطلب السفر ولم يقم له كافلا فهل لصاحب المال أن يمنعه من السفر أم لا
فأجاب إن كان الدين حالا وهو قادر على وفائه فله أن يمنعه من السفر قبل استيفائه وكذلك إن كان مؤجلا ومحله قبل قدوم المدين فله أن يمنعه من السفر حتى يوثق برهن يحفظ المال أو كفيل
وإن كان الدين لا يحل إلا بعد قدوم المدين ففيه نزاع بين العلماء والله أعلم وسئل رحمه الله عمن
____________________
(30/20)
أعتق عبدا وهو محتاج وعليه ديون وما له جدة فهل يجوز له أن يبيعه ويوفي به دينه
فأجاب إن كان حين أعتقه موسرا ليس عليه دين أو عليه دين له وفاء غير العبد فقد عتق ولا رجوع فيه وإن كان حين أعتقه عليه دين يحيط بما له ففي صحته نزاع بين العلماء والله أعلم
وسئل
عن رجل ادعى على غريم له عند الحاكم فاعترف له بدينه وبالقدرة والملاءة فاعتقله الحاكم وحجر عليه عقيب ذلك ثم أن المعتقل أراد إثبات إعساره عند حاكم آخر فهل له ذلك
فأجاب لا تقبل دعوى إعساره بعد الإعتراف بالقدرة وبعد الحجر عليه إذا لم يبين السبب الذى أزال الملاءة ويكون ذلك ممكنا فى العادة كحرق الدار التى فيها متاعه ونحوه وليس له طلب إتمام الحكم فى ذلك
____________________
(30/21)
وأن يدعي ذلك ويثبته عند غير الحاكم الذي حبسه وحجر عليه بدون إذنه والله أعلم
وسئل قدس الله روحه
عن رجل استدان من التجار أموالا وطولب بها وامتنع من الوفاء مع القدرة على ذلك واعتقلوه بحكم الشرع فهل يجوز للحاكم عقوبته حتى يوفي ما عليه وماذا حكم الشرع فيه
فأجاب إذا امتنع مما يجب عليه من إظهار ماله والتمكين من توفية الناس جميع حقوقهم وكان ماله ظاهرا واحتيج إلى التوفية إلى فعل منه وامتنع منه وأصر على الحبس فإنه يعاقب بالضرب حتى يقوم بالواجب عليه فى ذلك فى مذهب عامة الفقهاء وقد صرح بذلك أصحاب مالك والشافعي من العراقيين والخراسانيين وأصحاب الإمام أحمد وغيرهم
ولا نعلم فى ذلك نزاعا بل كرروا هذه المسألة فى غير موضع من كتبهم فإنهم مع ذكرهم لها فى موضعها المشهور ذكروها فى غيره كما ذكروها فى ( باب نكاح الكفار ) وجعلوها أصلا قاسوا عليه إذا أسلم الكافر وتحته أكثر من أربع نسوة وامتنع من الإختيار
____________________
(30/22)
قالوا يضرب حتى يختار لأنه امتنع من فعل وجب عليه ويضرب حتى يقوم به كما لو امتنع من أداء الدين الواجب عليه فإنه يضرب حتى يؤديه
وقد قال النبى فى الحديث المتفق عليه في الصحيحين مطل الغني ظلم والظالم مستوجب للعقوبة وفى السنن عن النبى لي الواجد يحل عرضه وعقوبته اللى المطل والواجد القادر فقد أباح النبى من القادر الماطل عرضه وقد اتفق العلماء على أن التعزير مشروع فى كل معصية لا حد فيها ولا كفارة
والمعاصي تنقسم إلى ترك مأمور وفعل محظور فإذا كانت العقوبة على ترك الواجب كعقوبة هذا وأمثاله من تاركى الواجب عوقب حتى يفعله ولهذا قال العلماء الذين ذكروا هذه المسألة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم أنه يضرب مرة بعد أخرى حتى يؤدي ثم منهم من قدر ضربه في كل مرة بتسعة وثلاثين سوطا ومنهم من لم يقدره بناء على أن التعزير هل هو مقدر أم ليس بمقدر للحاكم أن يعزره على امتناعه عقوبة لما مضى وله أيضا أن يعاقبه حتى يتولى الوفاء الواجب عليه وليس على الحاكم أن يتولى هو بيع ماله ووفاء الدين
____________________
(30/23)
وإن كان ذلك جائزا للحاكم لكن متى رأى أن يلزمه هو بالبيع والوفاء زجرا له ولأمثاله عن المطل أو لكون الحاكم مشغولا عن ذلك بغيره أو لمفسدة تخاف من ذلك كانت عقوبته بالضرب حتى يتولى ذلك
فإن قال إن فى بيعه بالنقد فى هذا الوقت علي خسارة ولكن أبيعه إلى أجل وأحيلكم به وقال الغرماء لا نحتال لكن نحن نرضى أن يباع إلى هذا الأجل وأن يستوفي ويوفي وما ذهب على المشترى كان من ماله فإنه يجاب الغرماء إلى ذلك وللحاكم أن يبيعه ويقيم من يستوفي ويوفي مع عقوبته على ترك الواجب وللغرماء أن يطلبوا تعجيل بيع ما يمكن بيعه نقدا إذا بيع بثمن المثل ويجب عليه الإجابة إلى ذلك وللحاكم أن يفعله كما تقدم وأن يعاقبه على ترك الواجب والله أعلم
وسئل
عمن عليه دين فلم يوفه حتى طولب به عند الحاكم وغيره وغرم أجرة الرحلة هل الغرم على المدين أم لا
فأجاب الحمد لله إذا كان الذى عليه الحق قادرا على الوفاء
____________________
(30/24)
ومطله حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المماطل إذا غرمه على الوجه المعتاد
وسئل
عمن حبس بدين وليس له وفاء إلا رهن عند الغريم فهل يمهل ويخرج إلى أن يبيعه
فأجاب إذا لم يكن له وفاء غير الرهن وجب على المدين إمهاله حتى يبيعه فمتى لم يمكن بيعه إلا بخروجه أو كان فى بيعه فى الحبس ضرر عليه وجب إخراجه ليبيعه ويضمن عليه أو يمشى الغريم أو وكيله إليه
وسئل
عن رجل عليه دين حال وله ملك لا تفضل فضلة عن نفقته ونفقة عياله وإذا أراد بيعه لم يتهيأ إلا بدون ثمن مثله فهل يلزمه بيعه بدون ثمن مثله وإذا لم يلزمه بيعه فهل يقسط الدين عليه على قدر حاله أم لا
فأجاب لا يباع إلا بثمن المثل المعتاد غالبا فى ذلك البلد إلا أن
____________________
(30/25)
تكون العادة تغيرت تغيرا مستقرا فيكون حينئذ ثمن المثل قد نقص فيباع بثمن المثل المستقر وإذا لم يجب بيعه فعلى الغريم الإنظار إلى وقت السعة أو الميسرة وله أن يطلب منه كل وقت ما يقدر عليه وهو التقسيط
وسئل رحمه الله
عن قزاز أسلمت له امرأة شقتي غزل فهرب وختم على دكانه فاشتكت صاحبة الشقتين على غزلها فرسم الوالي أن يفتح الدكان وكل من لقي شيئا من رحله يأخذه وبقيت الشقة الواحدة على النول فجاء إنسان موقع فذكر أن له عند القزاز قليل غزل فاشتكى إلى القاضي فرسم له أن يأخذ شقة المرأة ويقسم على أصحاب الأمانات وأنظر حال المرأة
فأجاب ما كان فى حانوت المفلس من الأمانات مثل الثياب الذى ينسجها للناس والغزل وغير ذلك فإنها لأصحابها باتفاق المسلمين لا تعطى لغير صاحبها
وإذا كان قد أخذ للناس غزلا ولم يوجد عين الغزل لم يجز لصاحب الغزل أن يأخذ مال غيره بدلا عن ماله بل إذا أقرض فيها كانت فى ذمته وكذلك ما أعطاه من الأجرة ولم يوف العمل فإنها دين في ذمته والديون التي
____________________
(30/26)
فى ذمته لا توفى من أعيان أموال الناس باتفاق العلماء
ومن أقام من الناس بينة بأن هذا عين ماله أخذه وإن لم يقم أحد بينة وكان الرجل خائفا قد علم أن الذي ينسجه ليس هو له وإنما هو للناس لم يوف ديونه من تلك الأموال
ولا يجوز أن يعطى بعض الغزل بدعواه دون بعض بل يجب أن يعدل فى ذلك بين الغرماء وأن أقام واحد شاهدا وحلف مع شاهده حكم له بذلك وإن تعذر ما يعرف به مال هذا ومال هذا إلا علامات مميزة مثل اسم كل واحد على متاعه عمل بذلك وإن تعذر ذلك كله أقرع بين المدعين فمن خرجت قرعته على عين أخذها مع يمينه فقد ثبت فى الصحيح عن النبى القرعة فى مثل هذا والله أعلم
وسئل
عمن عليه دين ولم يكن قادرا على وفاء دينه وثبت أنه ما حصل معه شيء أوفاه وله والد له مال [ ولم ] يوف عنه شيئا ويريد والده أن يأخذه معه إلى الحج فهل يسقط عنه الفرض الذى عليه بحكم
____________________
(30/27)
الدين الذي عليه وأن ما معه شيء يحج به إلا والده
فأجاب الحمد لله نعم متى حج به أبوه من ماله جاز ذلك ويسقط عنه الفرض باتفاق العلماء وتنازعوا هل يجب عليه الحج إذا بذل له أبوه المال والخلاف فى ذلك مشهور والفرض يسقط عنه سواء ملكه أبوه مالا أو أنفق عليه وأركبه من غير تمليك
فإن كان عليه دين فمتى أذن له الغرماء في السفر للحج فلا ريب فى جواز السفر وإن منعوه من السفر ليقيم ويعمل ويوفيهم كان لهم ذلك وكان مقامه ليكتسب ويوفى الغرماء أولى به وأوجب عليه من الحج وكان لهم منعه من الحج ولا يحل لهم أن يطالبوه إذا علموا إعساره ولا يمنعوه الحج
لكن إن قال الغرماء نخاف أن يحج فلا يرجع فنريد أن يقيم كفيلا ببدنه توجه مطالبتهم بهذا فإن حقوقهم باقية ولكنه عاجز عنها ولو كان قادرا على الوفاء والدين حال كان لهم منعه بلا ريب وكذلك لو كان مؤجلا يحل قبل رجوعه فلهم منعه حتى يوثق برهن أو كفيل وهناك حتى يوفي أو يوثق
وأما إن كان لا يحل إلا بعد رجوعه والسفر آمن ففى منعهم
____________________
(30/28)
له قولان معروفان هما روايتان عن أحمد
وإن كان السفر مخوفا كالجهاد فلهم منعه إذا تعين عليه وإذا تمكن الغرماء من استيفاء حقوقهم فلهم تخليته عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وعن أبى حنيفة لهم ملازمته وهذا فى المقام فإذا أراد المعسر أن كان فيه نزاع والله أعلم
وسئل
عن رجل عليه دين وتلف ماله وله بينة عادلة تشهد له بتلف ماله لكنها لا تدرى هل تجدد له مال بعد ذلك أم لا فهل القول قوله مع يمينه فى الإعسار أم يحتاج إلى بينة
فأجاب إذا قال لم يحدث لي بعد تلف مالى شيء فالقول قوله مع يمينه فى ذلك فى مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما والله أعلم
____________________
(30/29)
وسئل رضى الله عنه
عن رجل طحان له على رجل مسطور من مدة تزيد على عشر سنين واستوفى أكثره ولم يذكر أن تأخر له منه إلا دون المائة ثم إن صاحب المسطور أتى بمماليك من جهة أمير وأخذوا له رأسي خيل من غير رهن شرعي ولا دعوي عند حاكم ولا أذن لهم فى ذلك واستعملهما من مدة ثمانية أشهر ثم ادعى عدمهم فهل له أن يطالب بأجرة استعمالهم عن هذه المدة المذكورة وقيمة أثمانها وهل القول قوله فى القيمة أو قول مالكهما فى الأجرة والثمن
فأجاب الحمد لله رب العالمين إذا لم يكن بقي له من الدين إلا مائة وكانت قيمة الرأسين أكثر من مائة درهم كان هذا المتولي ضامنا لما زاد على قدر حقه وعليه أجرة ذلك لإستيلائه
والقول فى قيمتهما قول الضامن وهو الغاصب إلا أن يعرف صفتهما وأن قيمتهما أكثر من ذلك أو تقوم بينة ولو شاهد ويمين المدعي بالقيمة
وأما مقدار حقه فيقاص به ماله على المدين
____________________
(30/30)
وسئل
عن رجل مديون ولرجل معه معاملة فى بضاعة سبع سنين وصار له عنده خمسمائة درهم أوفى منها ثلاثمائة وتحت يده دار رهنا وقد رفعه إلى الحاكم فقال المدين يصبر على ثمانية أيام أوفيه فما فعل يمهله فهل يجوز أن يحبسه
فأجاب إذا كان للرجل سلعة فطلب أن يمهل حتى يبيعها ويوفيه من ثمنها أمهل بقدر ذلك وكذلك إن أمكنه أن يحتال لوفاء دينه باقتراض أو نحوه وطلب أن لا يرسم عليه حتى يفعل ذلك وجبت إجابته إلى ذلك ولم يجز منعه من ذلك بحبسه والله أعلم
وسئل
عن رجل عليه دين لجماعة وأعسر عن المبلغ واتفقوا جميعهم على أنهم يمهلوه ويخرجوه وكان قد بقي له بقية مال على أنه يعمل فيه ويوفيهم ففعلوا ذلك إلا رجل واحد منهم أبى أن يفعل
____________________
(30/31)
ذلك بعد اتفاق الجماعة معه فهل له أن يأخذ دون الجماعة الذي له أم لا
فأجاب ليس له بعد رضاه معهم بأنظارهم أن يختص بإستيفاء ماله حالا دونهم على مذهب من يقول إن الحال يتأجل كمالك وأحمد فى قول وعلى مذهب من يقول لا يتأجل كالشافعي وأحمد فى قول أو من يقول يتأجل فى المعاوضات دون التبرعات كأبي حنيفة وأحمد فى رواية ولا فرق فى مذهب أحمد ومالك وغيرهما بين أن يكون قد اتفق معهم على التأجيل إلى أجل معين أو يقسطه أقساطا أو اتفق معهم على أن يفعلوا ذلك فيما بعد ليس له أن يغدر بهم ويمكر بهم بل لو قدر أن التأجيل لم يلزم فإنهم مشتركون جميعهم فى الإستيفاء من ذلك المتبقى مع الغريم
وسئل
عن رجل عليه دين وله مدة فى الإعتقال ولا موجود له غير عمل يده فهل يحل لأصحاب الدين ضربه أو اعتقاله أو الصبر عليه ويأخذوا قليلا قليلا على قدر عمله
فأجاب لا يحل اعتقاله ولا ضربه والحالة هذه بل الواجب تمكينه حتى يعمل ما يوفى دينه بحسب الإمكان والله أعلم
____________________
(30/32)
وسئل
عن رجل عليه دين من ضمان وليس له وفاء إلا من شغله ويريد يذهب معلما فيحصل شيئا ويقيم له ضامن وجه بحضوره فهل يجوز حبسه أم يمكن من ذلك
وإن ادعى الغريم أنه قادر على وفاء الضمان وادعى هو العجز فهل القول قول الغريم وهل يحتاج إلى أن يقيم بينة
فأجاب بل يجب تمكينه من إيفاء الدين على الوجه الذى يمكنه ولا يجوز حبسه إن قام بذلك وإذا ادعى الإعسار وعرف له مال لم تقبل دعوى الإعسار إلا ببينة وإن لم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه دون قول غريمه وهذا مذهب الشافعي وأحمد وكذلك مذهب مالك نحو من ذلك وقد حكاه طائفة عن أبى حنيفة
____________________
(30/33)
وسئل
عن رجل عليه دين وادعى عليه عند الحاكم ورسم عليه فقال اقعد فى الترسيم حتى أبيع مالى وأوفى الدين فقال الغريم لابد من حبسك فهل يجوز حبسه أم يلزمه حتى يبيع ويوفى دينه
فأجاب بل إذا طلب أن يمكن من بيع ما يوفى دينه وجب تمكينه من ذلك ولم يجب حبسه العائق له عن ذلك وهذا باتفاق المسلمين والله أعلم
وسئل
عن رجل معسر وله عائلة وخشي من صاحب الدين أن يعتقله ويضيع هو وعائلته ونوى أنه إذا وسع الله عليه أعطاه دينه إذا أنكره فى ساعة وحلف هل عليه إثم أم لا
فأجاب لا يحل له أن يجحد حقه ولا يحلف أنه لا شيء عليه بل عليه أن يقر بحقه ويذكر عسرته ويستغفر الله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } والله أعلم
____________________
(30/34)
وسئل
عن رجل له مملوك وطلب بعض الظلمة شراءه فخاف أنه لا يعطيه ثمنه فقال هذا متى بعته ثمنه على حرام وعليه دين فهل يبيعه ويوفى ثمنه
فأجاب نعم يجوز له بيعه ويوفى الناس حقوقهم فإن قصد بقوله ثمنه على حرام أن ثمنه لا يبقى عنده بل أوفيه للغرماء فلا شيء عليه وإن قصد تحريم الثمن فقيل عليه كفارة يمين كمذهب أحمد وأبى حنيفة وقيل لا شيء عليه كمذهب مالك والشافعى والله أعلم
وسئل
عن رجل مديون وله بالقرافة ملك وباع منه نصفه بيع أمانة وله بهذا بينة وأشهره المشتري كل شهر بسعيه ونصف من تاريخ المبيع وأن مداينا آخر اشتكاه وضيق عليه باليد القوية حتى أخذ بقية الذى باع بها فى الأول وبقى الملك فى قبضة الثانى
____________________
(30/35)
فأجاب أما بيع الأمانة الذى مضمونه اتفاقهما على أن البائع إذا جاءه بالثمن أعاد عليه ملكه ذلك ينتفع به المشترى بالإجارة والسكن ونحو ذلك هو بيع باطل بإتفاق العلماء إذا كان الشرط مقترنا بالعقد
وإذا تنازعوا فى الشرط المقدم على العقد فالصحيح أنه باطل بكل حال ومقصودهما إنما هو الربا بإعطاء دراهم إلى أجل ومنفعة الدراهم هي الربح والواجب هو رد المبيع إلى صاحبه البائع وأن يرد البائع على المشتري ما قبضه منه لكن يحسب له منه ما قبضه المشتري من المال الذي سموه أجرة والله أعلم
وسئل
عن رجل فى الرق يبيع ويشترى لأستاذه وأستاذه يبيع ويشتري باسم المملوك وقد وجب على أستاذه دين فهل يطلب به المملوك أو المالك
فأجاب الحمد لله الدين على السيد يوفى من ماله وما كان بيد العبد هو من ماله يوفى به دينه ويباع أيضا فى وفاء دينه وإن كتم العبد شيئا من المال الذى للسيد بيده عوقب حتى يظهره فيوفى منه دينه والله أعلم
____________________
(30/36)
وسئل
عن رجل عليه دين ثم إن صاحب الدين اعتقله وإن المديون فقير لا مال له وانتقلت إليه منافع بستان من جهة وقف شرعي لا يتحصل من ريعه مقدار وفاء الدين المدة المذكورة إلى حين وفاء الدين
فأجاب إن كان معسرا لم يجز حبسه ولا مطالبته بل يجب إنظاره إلى الميسرة وإذا لم يكن له ما يوفى الدين إلا منافع الوقف عليه استوفى الدين من أجرة منافع الوقف بحسب الإمكان فإن ظهر له مال سوى ذلك استوفى منه ما أمكن والله أعلم
وسئل رحمه الله
عمن عليه حق وامتنع هل يجب إقراره بالعقوبة
فأجاب حكم الشريعة أن من وجب عليه حق وهو قادر على أدائه وامتنع من أدائه فإنه يعاقب بالضرب والحبس مرة بعد مرة حتى
____________________
(30/37)
يؤدى سواء كان الحق دينا عليه أو وديعة عنده أو مال غصب أو عارية أو مالا للمسلمين أو كان الحق عملا كتمكين المرأة زوجها من الإستمتاع بها وعمل الأجير ما وجب عليه من المنفعة وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } فأباح الله سبحانه للرجل أن يضرب المرأة إذا امتنعت من الحق الواجب عليها من المباشرة وفراش زوجها
وقال النبى مطل الغنى ظلم أخرجاه فى الصحيحين وقال لي الواجد يحل عرضه وعقوبته رواه أهل السنن واللي هو المطل والواجد هو القادر فأخبر صلى الله عليه وسلم أن مطل الغنى ظلم وإن ذلك يحل عرضه وعقوبته فثبت أن عقوبة المماطل مباحة
وروى البخاري فى صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح وسأل عم حيي بن أخطب عن كنزه فقال يا محمد أذهبته النفقات فقال للزبير دونك هذا فأخذه الزبير فمسه بشيء من العذاب فقال رأيته يأتي إلى هذه الخربة وكان فى جلد ثور لما علم النبى أن هذا الرجل الذى يعلم مكان المال الذى يستحقه النبي
____________________
(30/38)
وقد أخفاه أمر الزبير بعقوبته حتى دلهم على المال ومن كتم ماله أولى بالعقوبة وقد ذكر هذه المسألة الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ولا أعلم فيه خلافا وقد ذكروا بأن الممتنع من أداء الواجب من الدين وغيره إذا أصر على الإمتناع فإنه يعاقب ويضرب مرة بعد مرة حتى يؤديه ولا يقتصر على ضربه مرة بل يفرق عليه الضرب فى أيام متعددة حتى يؤدى
وقد أجمع العلماء على أن التعزير مشروع فى كل معصية لا حد فيها ولا كفارة والمعاصي نوعان ترك واجب وفعل محرم فمن ترك أداء الواجب مع القدرة عليه فهو عاص مستحق للعقوبة والتعزير والله سبحانه أعلم
وسئل
عن رجل أحضر إلى منزله شهودا فقال اشهدوا على أن ابنتي فلانة رشيدة جائزة التصرف لا حجر عليها وهى ذات زوج وأولاد بحضور زوجها وأحد إخوتها ووالدتها وكرر ذلك مرات
فلما انصرف شهوده قال أخوها للشهود الرشد لا تشهدوا به ثم بعد أيام حضر والدها وأخوها وقال والدها أنا قد رجعت عن
____________________
(30/39)
ترشيدها فهل يصح ذلك أم لا وهل له الرجوع بغير مستند شرعى
فأجاب ليس للشهود أن يلتفتوا إلى كلام أخيها ولا غيره والإمتناع من الشهادة بل عليهم أن يقيموا الشهادة لله كما أمر الله ورسوله وليس لأبيها أن يرجع عما أمر به من رشدها بل إن ثبت أنه حدث عليها سفه يوجب الحجر عليها لم يكن الحجر عليها لأبيها بل لولى الأمر ولو لم يقر الأب برشدها فمتى صارت رشيدة زال الحجر عنها سواء رشدها أو لم يرشدها وسواء حكم بذلك حاكم أو لم يحكم وإن نوزعت فى الرشد فشهد شاهدان أنها رشيدة قبلت شهادتهما ولم يلتفت إلى الأب ولا غيره وإذا تصرفت مدة وشهد الشاهد أنها كانت رشيدة فى مدة التصرف كان تصرفها صحيحا وإن كان الأب يدعى أنها كانت تحت حجره والله أعلم
وسئل
عن امرأة تحت الحجر وقد شهد لها بالرشد بينة عادلة ليسوا محارمها هل يقبل ذلك أم لا
فأجاب نعم اذا شهدت بينة عادلة برشدها حكم لها بذلك وإن لم يكونوا أقارب فإن العدالة والرشد ونحو ذلك قد تعلم بالإستفاضة كما يعلم المسلمون رشد أمهات المؤمنين والنسوة المشهورات والله أعلم
____________________
(30/40)
وسئل
عن رجل له بنت أرملة وعقد عقدها وتلفظ للشهود برشدها فلما تيقنت البنت بذلك اختارت أن تكون تحت حجر أبيها وما اختارت الرشد فهل لأبيها أن يفسخ الرشد أم لا
فأجاب الحمد لله بعد ان تصير رشيدة لا يمكن أن تكون تحت الحجر لكن لها أن لا تتصرف فى مالها إلا بإذن أبيها فإن قالت أنا لا أتصرف إلا بإذن أبى كان لها ذلك إذا لم يكن التصرف واجبا عليها
وسئل
عن رجل خلف ولدا ذكرا وإبنتين غير مرشدتين وإن البنت الواحدة تزوجت بزوج ووكلت زوجها فى قبض ما تستحقه من إرث والدها والتصرف فيه فهل للأخ المذكور الولاية عليها وهل يطلب الزوج بما قبضه وما صرفه لمصلحة اليتيمة
____________________
(30/41)
فأجاب للأخ الولاية من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا فعلت ما لايحل لها نهاها عن ذلك
وأما الحجر عليها إن كانت سفيهة فلوصيها إن كان لها وصي الحجر عليها وإلا فالحاكم يحجر عليها ولأخيها أن يرفع أمرها إلى الحاكم
وسئل رحمه الله
عن رجل له ولد عمره سبع سنين وإن رجلا أركبه دابة بغير إذن الوالد ولا أعلمه فرفست الدابة الصغير ورمته وهربت منه فاشتكى الرجل أبا الصغير وكتب عليه حجة غصب نحو الدابة فهل يضمن الوالد شيئا
فأجاب إذا لم يكن الوالد له سبب فى هذه القضية لم يكن عليه شيء ولا يلزمه شيء من الحجة التى كتبت عليه كرها فإن صاحب الدابة هو الذى أمر الصغير بركوبها من غير سعى الوالد
____________________
(30/42)
وسئل رحمه الله
عمن اشترى لليتيم من بيت المال بغبطة لبيت المال ولم يظهر غبطة لليتيم فهل يصح الشراء وهل يضمن الوصي الزيادة
فأجاب إن اشترى لليتيم بثمن المثل أو بزيادة للمصلحة جاز وإن اشترى بزيادة لا يتغابن الناس لمثلها كان عليه ضمان ما أداه من الزيادة الفاحشة وغبطة بيت المال لا تؤثر فإن هذا فى صورة لا حقيقة له والله أعلم
وسئل
عن رجل معتقل فى سجن السلطان وهو خائف على نفسه وطولب بدين شرعى عليه ثم أشهد عليه فى حال اعتقاله أن جميع ما يملكه من العقار ملكا لزوجته وصدقته على ذلك فهل يجوز إقراره بذلك وينفذ فى جميع ماله أو يختص هذا الإقرار بالثلث ويبقى الثلثان موقوفا على إجازة الورثة أم لا وإذا كانت له إبنة صغيرة
____________________
(30/43)
فقيرة هل ينفق عليها من ريع هذا العقار والحالة هذه
فأجاب إذا كان عليه حقوق شرعية فتبرع بملكه بحيث لا يبقى لأهل الحقوق ما يستوفونه بهذا التمليك فهو باطل فى أحد قولي العلماء كما هو مذهب مالك والإمام أحمد فى إحدى الروايتين من جهة أن قضاء الدين واجب ونفقة الولد واجبة فيحرم عليه أن يدع الواجب ويصرفه فيما لا يجب فيرد هذا التمليك ويصرفه فيما يجب عليه من قضاء دينه ونفقة ولده
وأما إن كان الملك مستحقا لغيره أو فيه ما يستحقه غيره لم يصح صرفه فى حق الغير إلا بولاية أو وكالة وإذا كان الإشهاد فيما يملكه ملكه لزوجته لم يدخل فى ذلك ما لا يملكه
وسئل رحمه الله
عمن ولي على مال يتامى وهو قاصر فما الحكم فى ولايته وأجرته
فأجاب لا يجوز أن يولى على مال اليتامى إلا من كان قويا خبيرا بما ولي عليه أمينا عليه
____________________
(30/44)
والواجب إذا لم يكن الولى بهذه الصفة أن يستبدل به من يصلح ولا يستحق الأجرة المسماة لكن إذا عمل لليتامى عملا يستحق أجرة مثله كان كالعمل فى سائر العقود الفاسدة
وسئل
عمن زوج ابنته لرجل ولها فى صحبته سنين فجاء والدها يطلب شيئا لمصالحها فقال الزوج أنا محجور علي وما ذكر فى الكتاب تحت الحجر فأجاب لا يقبل بمجرد قوله فى أنه محجور عليه بل الأصل صحة التصرف وعدم الحجر حتى يثبت والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجل تزوج إمرأة ورزق منها ولدا وأراد والد الزوجة المذكورة أن يضع يده على مال ابنته يتصرف فيه لنفسه فمنعته من ذلك فادعى أنها تحت الحجر فهل تقبل منه هذه الدعوى وهي لم يصدر منها سفه يحجر عليها وهل لها منعه من التصرف فى مالها
____________________
(30/45)
فأجاب ليس لأبيها أن يتصرف لنفسه بل إذا كان متصرفا فى مالها لنفسه كان ذلك قادحا فى أهليته ومنع من الولاية عليها كالحجر
وأما إن كان أهلا للولاية وإنما يتصرف لها بما فيه الحظ لها لا له وليس له الولاية عليها إلا بشرط دوام السفه فإنها إذا رشدت زال حجرها بغير اختياره وإذا أقامت بينة برشدها حكم برفع ولايته عنها ولها عليه اليمين أنه لا يعلم رشدها إذا طلب ذلك ولم يقم بينة والله أعلم
وسئل
عن زوجة لرجل ادعت أنها تحت الحجر ولم يكن الزوج يعلم بذلك ثم طلقها وأبرأته ثم تزوجت برجل آخر ثم ادعى على الأول بالصداق لكونها تحت الحجر فهل يقبل ذلك
فأجاب رحمه الله لا يقبل بمجرد دعواها أنها تحت الحجر بل إذا كانت تتصرف تصرف الرشيد فهي رشيدة نافذة البيوع ولو كانت تحت الحجر فإذا أقامت بينة أنها رشيدة فقد تم تبرعها والله أعلم
____________________
(30/46)
وسئل رحمه الله
عمن اعترف بمال لأيتام وأعطى خطه ثم إن اليتيم الواحد طالبه فأنكر عند الحاكم وحلف أنه لا يستحق عليه شيئا ثم إنه بعد ذلك طلب من اليتيم الإبراء وهو مريض فهل يصح إبراؤه وهو مريض
فأجاب لا يصح هذا الإبراء فى نفس الأمر ما دام المدعى عليه جاحدا للحق
وسئل
عمن دفع مال يتيم إلى عامل يشترى به ثمرة مضاربة ومعه آخر أمينا عليه وله النصف ولكل منهما الربع فخسر المال وإنفرد العامل بالعمل لتعذر الآخر وكانت للشركة بعد تأبير الثمرة وأفتى بعضهم بفسادها وأن على العامل وولي اليتيم ضمان ما صرف من ماله
فأجاب هذه الشركة فى صحتها خلاف والأظهر صحتها
وسواء كانت صحيحة أو فاسدة فإن كان ولي اليتيم فرط فيما
____________________
(30/47)
فعله ضمن وأما إذا فعل ما ظاهره المصلحة فلا ضمان عليه لجناية من عامله
وأما العامل فإن خان أو فرط فعليه الضمان وإلا فلا ضمان عليه ولو كان العقد فاسدا كان ما يضمن بالعقد الصحيح يضمن بالفاسد وما لا يضمن بالعقد الصحيح لا يضمن بالعقد الفاسد وعلى كل منهما اليمين فى نفى الجناية والتفريط
وسئل رحمه الله
عن أيتام تحت الحجر الشريف ثم إن التتار أسروهم سنة شقحب وهم صغار فوشى بعض الناس إلى ولاة الأمر فى أخذ مالهم ولهم وارث ذو رحم وعصبات فلما بلغ الورثة ذلك أثبتوا محضرا على تقدير عدمهم وأنهم وراثهم فهل يحل لأحد أن يتعرض لأخذه مع علمه ذلك وأن ينتظر لغيبتهم وهل يأثم المتخذ ذلك مع علمه بذلك
فأجاب ليس لأحد غير الورثة أن يأخذ هذا الملك لكن ينفق منه النفقة الواجبة على ربه مثل نفقة ولده ويقضي منه ديونه وإذا حكم بموته فهو للوارث وفى المدة التي ينتظرون إليها نزاع بين العلماء من العلماء من يقدرها ومنهم من يقول يرجعون فى ذلك إلى الحاكم
____________________
(30/48)
ومنهم من يحدث في ذلك ليصرف المال إلى غير مستحقه فإنه آثم في ذلك باتفاق الأئمة والله أعلم
وسئل رحمه الله
عمن عنده يتيم وله مال تحت يده وقد رفع كلفة اليتيم عن ماله وينفق عليه من عنده فهل له أن يتصرف فى ماله بتجارة أو شراء عقار مما يزيد المال وينميه بغير إذن الحاكم
فأجاب نعم يجوز له ذلك بل ينبغى له ولا يفتقر إلى إذن الحاكم إن كان وصيا وإن كان غير وصي وكان الناظر فى أموال اليتامى الحاكم العالم العادل يحفظه ويأمر فيه بالمصلحة وجب استئذانه فى ذلك وإن كان فى إستئذانه إضاعة المال مثل أن يكون الحاكم أو نائبه فاسقا أو جاهلا أو عاجزا أو لا يحفظ أموال اليتامى حفظه المستولي عليه وعمل فيه المصلحة من غير استئذان الحاكم
____________________
(30/49)
وسئل
عن رجل توفي إلى رحمة الله تعالى وخلف ثلاثة أولاد وملكا وكان فيهم ولد كبير وقد هدم بعض الملك وأنشأ وتزوج فيه ورزق فيه أولادا والورثة بطالون فلما طلبوا القسمة قصد هدم البناء
فأجاب أما العرصة فحقهم فيها باق
وأما البناء فإن كان بناه كله من ماله دون الأول فله أخذه ولكن عليه ضمان البناء الأول الذى كان لهم وإن كان أعاده بالإرث الأول فهو لهم
وسئل رحمه الله
عن كسوة الصبيان فى الأعياد وغيرها الحرير هل يجوز لولي اليتيم أن يلبسه الحرير أم لا وإذا فعل ذلك هل يأثم أم لا وكذلك تمويه أقباعهم بالذهب هل يجوز أم لا
____________________
(30/50)
فأجاب الحمد لله ليس لولي اليتيم إلباسه الحرير فى أظهر قولي العلماء كما ليس له إسقاؤه الخمر وإطعامه الميتة فما حرم على الرجال البالغين فعلى الولي أن يجنبه الصبيان
وقد مزق عمر بن الخطاب حريرا رآه على بن الزبير وقال لا تلبسوهم الحرير وكذلك ما يحرم على الرجال من الذهب
وأما نسبة الولي إلى البخل فيدفع ذلك بأن يكسوه من المباح ما يحصل به التجمل فى الأعياد وغيرها كالمقاطع الإسكندرانية وغيرها مما يحصل به التجمل والزينة ودفع البخل من غير تحريم ومن وضح له الحق ليس له أن يعدل عنه إلى سواه ولا يجب على أحد أن يتبع غير الرسول فى كل ما يأمر به وينهى عنه ويحلله ويحرمه والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن وصي له أملاك ووليه فى بلاد التتار وقد باع أملاكه برأي منه إلى الذي إشترى منه بغير نداء ولا إشهاد ولا حكم أحد فهل يصح البيع
فأجاب إذا باع قبل أن يرشد فبيعه باطل لاسيما إن كان
____________________
(30/51)
قد باع بالغبن الفاحش
فإن ادعى المشتري أنه كان رشيدا وقامت البينة بسفهه حكم ببطلان البيع والله أعلم
وسئل
عن أمير يعامل الناس ويتكل على حسابه فهل إذا أهمل ولم يكتبه يكون فى ذمته وإن الأمير لم يتحقق أن عليه فى ذمته شيئا لكن يتكل على دفتر العامل
فأجاب الحمد لله إن كان قد اجتهد فى استعمال ذلك وله كاتب وهو ثقة خبير يجتهد فى حفظ أموال الناس لم يكن فى ذمته شيء فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وإن كان قد فرط فى استعمال الكاتب بأن يكون خائنا أو عاجزا كان عليه درك بما ذهب من حقوق الناس بتفريطه والله أعلم
____________________
(30/52)
وسئل رحمه الله
عن الوكلاء على قرى الزرع قد قدر لهم على كل فدان شيء من القمح وغيره ومؤونتهم على الفلاحين وله على الجند دراهم معلومة
فأجاب إن كان الوكيل لا يأخذ لنفسه إلا أجرة عمله بالمعروف والزيادة يأخذها المقطع فالمقطع هو الذى ظلم الفلاحين وأما الذى أخذ أجرة عمله فقد أخذ ما يستحق فلا يحرم عليه ذلك فإن كان الوكيل قد أعطى المقطع من الضريبة ما يزيد على أجرة مثله ولم يأخذ لنفسه إلا أجرة عمله جاز ذلك والله أعلم
____________________
(30/53)
& باب الوكالة
سئل شيخ الإسلام رحمه الله
عن رجل وكل رجلا فى قبض ديون له ثم صرفه وطالبه بما بقى عليه ثم إن الوكيل المتصرف كتب مبارأة بينه وبين من عليه الدين بغير أمر الموكل فهل يصح الإبراء
فأجاب إن لم يكن فى وكالته إثبات ما يقتضي أنه مأذون له فى الإبراء لم يصح إبراؤه من دين هو ثابت للموكل وإن كان أقر بالإبراء قبل إقراره فيما هو وكيل فيه كالتوكيل بالقبض إذا أقر بذلك والله أعلم
وسئل
عن رجل يوكل الدلال في أن يشتري له سلعة فيشتريها له ويأخذ من البائع جعلا على أن باعها له بذلك الثمن
____________________
(30/54)
فأجاب لايجوز ذلك لأنه يشتريها لموكله بأكثر من قيمتها فيزيد البائع على الربح المعتاد إذا اشتراها بتخبير الثمن فيكون ذلك غشا لموكله هذا إذا حصل مواطأة من البائع أو عرف بذلك وأما لو وهبه البائع ذلك من غير أن يكون قد تقدم شعوره فهذه مذكورة فى غير هذا الموضع
وسئل
عن وكيل آجر أرض موكله بناقص عن شركته فأجاب إذا أجرها بنصف أجرة المثل كان الوكيل ضامنا للنقص وهل للمالك إبطال الإجارة فيه نزاع بين العلماء
وسئل عن جماعة من الجند استأجروا وكيلا على إقطاعهم وأمروه أن يخرج إلى ذلك الإقطاع ويسجل بالقيمة فواطأ الوكيل أصحابه ووافق المزارعين على رأيهم وسجل بدون القيمة الجارى بها العادة فهل يجوز تصرفه فيما لم يؤذن له فيه لأجل ما بيده من الوكالة الشرعية
____________________
(30/55)
فأجاب إذا أجر بدون أجرة المثل وسلم الأرض إليهم فهو ظالم معتد ولأرباب الأرض أن يضمنوه تمام أجرة المثل لأنه سلم أرضهم إلى من يتمتع بها
وأما المستأجرون إن كانوا علموا أنه ظالم وأنه حاباهم فلأصحاب الأرض تضمينهم أيضا وإن كانوا استوفوا المنفعة فلهم منعهم من الزرع إن كانوا لم يزرعوا فإن الإجارة حينئذ باطلة وإن كانوا لم يعلموا بل المؤجر عرفهم فهل لأصحاب الأرض تضمينهم على قولين للعلماء وإذا ضمنوهم فهل لهم الرجوع على هذا الغار بما لم يلزموا ضمانه بالعقد على قولين أيضا والثالثة فى مذهب أحمد وغيره من العلماء
وسئل رضى الله عنه
عن امرأة وكلت أخاها فى المطالبة بحقوقها كلها والدعوى لها وفى فسخ نكاحها من زوجها وثبت ذلك عند الحاكم ثم ادعى الوكيل عند الحاكم المذكور بنفقة موكلته وكسوتها على زوجها المذكور واعترف أنه عاجز عن ذلك ومضى على ذلك مدة وأحضره مرارا إلى الحاكم وهو مصر على الإعتراف بالعجز فطلب الوكيل من الحاكم المذكور أن يمكنه من فسخ نكاح موكلته من زوجها فمكنه من ذلك ففسخ الوكيل
____________________
(30/56)
نكاح موكلته من زوجها المذكور بحضور الزوج بعد أن أمهل المهلة الشرعية قبل الفسخ فهل يصح الفسخ وتقع الفرقة بين الزوجين بتمكين الحاكم الوكيل المذكور من فسخ نكاح موكلته والحالة هذه أم لا أو يشترط حكم الحاكم بصحة الفسخ
فأجاب إذا فسخ الوكيل المأذون له فى فسخ النكاح بعد تمكين الحاكم له من الفسخ صح فسخه ولم يحتج بعد ذلك إلى حكمه بصحة الفسخ فى مذهب مالك والشافعى وأحمد وغيرهم
ولكن الحاكم نفسه إذا فعل فعلا مختلفا فيه من عقد وفسخ كتزويج بلا ولي وشراء عين غائبة ليتيم ثم رفع إلى حاكم لا يراه فهل له نقضه قبل أن يحكم به أو يكون فعل الحاكم حكما على وجهين فى مذهب الشافعي وأحمد
والفسخ للإعسار جائز فى مذهب الثلاثة والحاكم ليس هو فاسخا وإنما هو الآذن فى الفسخ والحاكم بجوازه كما لو حكم لرجل بميراث وأذن له فى التصرف أو حكم لرجل بأنه ولى فى النكاح وأذن له فى عقده أو حكم لمشتر بأن له فسخ البيع لعيب ونحوه ففى كل موضع حكم لشخص باستحقاق العقد أو الفسخ صح بلا نزاع فى مثل هذا
وإنما النزاع فيما إذا كان هو العاقد أو الفاسخ ومع هذا
____________________
(30/57)
فالصحيح أنه لا يحتاج عقده وفسخه إلى حكم حاكم فيه وهذا كله لو رفع مثل هذا إلى حاكم حنفي لا يرى الفسخ بالإعسار فأما أن كان الحاكم الثاني ممن يرى ذلك كمن يعتقد مذهب مالك والشافعي والإمام أحمد لم يكن له نقض هذا الفسخ باتفاق الأئمة
والعلماء الذين اشترطوا فى فسخ النكاح بعيب أو إعسار ونحو ذلك من صور النزاع أن يكون بحكم حاكم وفرقوا بين ذلك وبين فسخ المعتقة تحت عبد قالوا لأن هذا فسخ مجمع عليه فلا يفتقر إلى حاكم وذلك فسخ مختلف فيه وسببه أيضا يدخله الإجتهاد بخلاف العتق فإنه سبب ظاهر معلوم فإشترطوا أن يكون الفسخ بحكم حاكم لم يشترطوا أن يكون الحاكم قد حكم بصحة الفسخ بعد وقوعه إذ هذا ليس من خصائص هذه المسائل بل كل تصرف متنازع فيه إذا حكم الحاكم بصحته لم يكن لغيره نقضه إذا لم يخالف نصا ولا إجماعا
فلو كان المعتبر هنا الحكم بعده لم يحتج إلى حكم الحاكم ابتداء بل كل مستحق له أن يفسخه ثم حكم الحاكم يمنع غيره من إبطال الفسخ كما لو عقد عقدا مختلفا فيه وحكم الحاكم بصحته وهذا بين لمن عرف ما قاله الفقهاء فى هذا والله أعلم
____________________
(30/58)
وسئل رحمه الله
عن رجل وكل رجلا فى عمارة إقطاعه ببيت فسجل طينه بالقيمة العادلة على الوجه المعتاد بالناحية ويراعي الغبطة والمصلحة لموكله فاتفق المزارعون وخدعوا الوكيل لكونه غريبا من الناحية عادم الخبرة والمعرفة بمواريها وخواصها فسجلوا منه الطين بأقل من القيمة العادلة المعتادة من نسبة الشركة المقطعين بالناحية التي بينهم الطين بالسوية دون الفرط الكثير والغبن الفاحش فهل يجوز للمقطع أن يطالب المزارعين بالخراج على القيمة العادلة أسوة شركائه المقطعين بالناحية
فأجاب إذا وكله فى أن يسجله وكالة مطلقة أو قال مسجلة أسوة أمثاله فسواء أطلق الوكالة أو قيدها بأسوة أمثاله ليس له أن يسجله إلا بقيمة المثل كنظرائه فإن فرط الوكيل بحيث سجله بدون الأجرة المعروفة وسلم الأرض إلى المستأجر كان له مطالبة الوكيل بما نقص
وإذا كان المسجل قد قال للوكيل هذه الأجرة هي أسوة الناس ثم تبين
____________________
(30/59)
كذبه فهنا يطالب المسجل بتمام الأجرة إن كان قد زرع الأرض ولكل واحد من الوكيل والموكل أن يطالب والله أعلم
وسئل رحمه الله
عمن وكل وكيلا فى بيع دار وفى قبض الثمن والتسليم والمكاتبة والإشهاد على الترسيم المعتاد فباع الوكيل الدار لشخص وقبض الثمن وثبت التبايع وحكم حاكم بصحته واستمرت الدار فى يد المشتري مدة ثم وقفها وشهد وحكم حاكم بصحة الوقف فى يد المشترى أولا وأخرا ثلاث سنين وموكل البائع عالم بذلك كله ولم يبد فيه مطعنا ثم بعد هذه المدة ادعى الموكل أنه عزل الوكيل قبل صدور البيع ولم يعلم وأقام بذلك بينة فى بلد آخر وحكم بها حاكم من غير دعوى على المشتري ولا وكيله ولا من بيده شيء من ريع العين المنتفعة فهل يصح هذا الحكم ويبطل البيع وهل يجب على المشتري أجرة المثل أو يكون انتفاعه شبهة وهل يجب على الوكيل البائع إعادة الثمن وإذا أقام الوكيل البائع بينة بوصول الثمن إلى موكله هل يكون ذلك رضى منه وهل يفسق الموكل فى ادعاء عزل الوكيل بعد ثلاث سنين وسكوته عن ذلك وغروره للمشتري ووصول الثمن إليه
____________________
(30/60)
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذه المسأله أولا مبنية على عزل الوكيل هل ينعزل قبل بلوغ العزل له على قولين مشهورين للعلماء
أحدهما لا ينعزل حتى يعلم وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد فى إحدى الروايتين وقول الشافعي وأحد القولين فى مذهب مالك بل أرجحهما فعلى هذا تصرف الوكيل قبل العلم صحيح نافذ وثبوت عزله قبل التصرف لا يقدح فى تصرفه قبل العلم فيصح البيع والوقف الواقع على الوجه المشروع ولا يبطل ذلك ولا حكم الحاكم به
والقول الثاني أنه ينعزل قبل العلم وهو المشهور فى مذهب الشافعي وأحمد فى إحدى الروايتين وهو مذهب مالك فى إحدى الروايتين فعلى هذا لا تقبل مجرد دعواه العزل بعد التصرف وإذا أقام بذلك بينة ببلد آخر وحكم به حاكم كان ذلك حكما على الغائب والحكم على الغائب إذا قيل بصحته فهو يصح مع بقاء كل ذى حجة على حجته وللمحكوم عليه أن يقدح فى الحكم والشهادة بما يسوغ قبوله إما الطعن فى الشهود أو الحكم أو غير ذلك مثل أن يكون الحاكم الذى حكم بالعزل لا يرى العزل قبل العلم ولكن ليس عليه أن يقبل البينة الشاهدة بالعزل فاسقة أو متهمة بشيء يمنع قبول الشهادة
ثم الحاكم الذى حكم بصحة البيع والوقف إن كان ممن لا يرى عزل الوكيل قبل العلم وقد بلغه ذلك كان حكمه نافذا لا يجوز
____________________
(30/61)
نقضه بحال بل الحكم الناقض له مردود وإن كان لم يعلم ذلك أو مذهبه عدم الحكم بالصحة إذا ثبت كان وجود حكمه كعدمه
والحاكم الثانى إذا لم يعلم بأن العزل قبل العلم أو علم بذلك وهو لا يراه أو رآه وهو لا يرى نقض الحكم المتقدم وما ذكر من علم موكل الوكيل البائع بما جرى وسكوته كان وجود حكمه كعدمه واستيثاق الحكم فى القصة وقبض الثمن من الوكيل دليل فى العادة على الإذن فى البيع والشراء وبقاء الوكالة إذا لم يعارض ذلك معارض راجح
وأكثر العلماء يقبلون مثل هذه الحجة ويدفعون بها دعوى الموكل للعزل ليبطل البيع لا سيما مع كثرة شهود الزور ولو حكم ببطلان الوقف لم يجب على الوكيل ولا على المشترى ضمان ما استوفاه من المنفعة فإن كان الوكيل والمشتري مغرورين غرهما الموكل لعدم إعلامه بالعزل فالتفريط جاء من جهته فلا يضمن له المنفعة
وإذا أنكر الموكل قبض الثمن ولم يقم عليه بينة به فإن كان الوكيل بلا جعل قبل قوله على الموكل لأنه أمينة كما يقبل قول المودع فى رد الوديعة إلى مالكها وإن كان بجعل ففيه قولان مشهوران للعلماء ولكن لا يقبل قول الوكيل على المشترى فإن كان البيع باقيا
____________________
(30/62)
فلا كلام وإن كان البيع مفسوخا فلهم أن يطالبوا الوكيل بالثمن والوكيل يرجع على الموكل
وسئل الشيخ رحمه الله
عن رجل وكيل باع لموكله حصته من حانوت ثم إن المشتري وقف تلك الحصة وثبت البيع والوقف وحكم بصحة الوقف وبعد ذلك ثبت أن الوكيل كان معزولا بتاريخ متقدم على بيعه محكوم بصحة عزله فهل يتبين بطلان البيع والوقف أم هما صحيحان وإذا بان البطلان فهل للموكل الرجوع بأجرة تلك الحصة مدة مقامها فى يد المشتري الواقف لها أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذه المسأله فيها نزاع مشهور وهو أن الوكيل إذا مات موكله أو عزله ولم يعلم بذلك حتى تصرف فهل ينعزل قبل العلم على ثلاثة أقوال لأهل العلم فى مذهب الشافعي والإمام أحمد وغيرهما
أحدها أنه ينعزل قبل العلم وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وقول فى مذهب مالك فعلى هذا يتبين بطلان البيع لكن على هذا لا ضمان على الوكيل لأنه لم يفرط وأما المشتري فهو
____________________
(30/63)
مغرور أيضا إذا لم يعلم وفى تضمينه نزاع فى مذهب أحمد وغيره وأحد قولي الشافعي وهذا الغار لا ضمان عليه ولا يضمن واحد منهما ولم يرجع على الغار فى أشهر قولي الشافعي والإمام أحمد فى رواية فعلى هذا يضمن المشتري ولا يرجع على أحد
والقول الثاني أنه ينعزل بالموت ولا ينعزل بالعزل حتى يعلم وهذا مذهب أبى حنيفة والمشهور فى مذهب مالك وأحد الأقوال فى مذهب الشافعي والإمام أحمد فعلى هذا تصرفه قبل العلم صحيح فيصح البيع إذا لم يكن الرجل عالما بالعزل فأما إن تصرف بعد علمه بالعزل لم يكن تصرفه لازما باتفاق المسلمين بل يكون بمنزلة تصرف الفضولي وهو مردود فى مذهب الشافعي والإمام أحمد فى المشهور عنه وموقوف على الإجازة فى مذهب أبى حنيفة والرواية الأخرى عن الإمام أحمد وحكي عن مالك فمتى لم يجزه المستحق بطل بالإجماع
والقول الثالث أنه لا ينعزل فى الموضعين قبل العلم كقول الشافعي والإمام أحمد رضى الله عنهما والحكم فيه كما تقدم والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(30/64)
وسئل شيخ الإسلام
عمن وكل رجلا فى بيع سلعة فباعها إلى أجل وتوى بعض الثمن فهل يطالب المالك بقيمتها حالة أو بمثل الثمن المؤجل وهو أكثر
فأجاب إذا لم يكن قد أذن له فى البيع إلى أجل فالمالك مخير بين أن يطالب البائع بقيمتها بنقد وبين أن يطالب بالثمن المؤجل جميعه ويحسب المنكسر على صاحب السلعة لأن تصرفه بدون إذن كتصرف غاصب والغاصب إذا تلفت العين عنده إلى بدل كان للمالك الخيرة بين المطالبة وبين البدل المطلق وهو المثل أو القيمة وبين البدل المعين وهذا يكون حيث لم يعرف المشترى بالغصب فلا يثبت عليه إلا الثمن المسمى
وإذا قلنا بوقف العقود على الإجازة إذا لم يثبت الإجازة واصطلحا على الثمن وتراضيا به صح الصلح عن بدل المتلف بأكثر من قيمته من ضمانه كما لو اتفقا على فرض المهر فى مسألة التفويض
____________________
(30/65)
وسئل رحمه الله تعالى
عن الأمراء الذين يطلبون ما يحتاجون إليه من القماش وغيره من الأسواق فيأخذون ما أعجبهم من ذلك ويكتب الأمير لصاحبه خطا بذلك أو ينزله ونوابه فى دفتره ويقترضون من أصحابهم دراهم وكل ذلك بغير حجج تكتب ولا إشهاد وهذه
عادتهم وإذا توفي الأمير وعلم ديوانه وأستاداره بحقوق الناس فهل يحل لهم منعهم أو مطلهم أم يلزمهم دفع حقوقهم التي علموها من التركة والحالة هذه
فأجاب بل كل ما وجد بخط الأمير أو أخبر به كاتبه أو لفظ وكيله فى ذلك مثل كاتبه وإستاداره فإنه يجب العمل بذلك فإن إقرار الوكيل على موكله فيما وكله فيه مقبول لأنه أمينه وخط الميت كلفظه فى الوصية والإقرار ونحوهما
ومع ذلك لا يحتاج أصحاب الحقوق إلى بينة وتكليفهم البينة إضاعة للحقوق وتعذيب للأموات ببقائهم مرتهنين بالذنوب ففيه ظلم للأموات
____________________
(30/66)
والأحياء لا سيما فى المعاملات التى لم تجرالعادة فيها بالإشهاد فتكليف البينة فى ذلك خروج عن العدل المعروف والله أعلم
وسئل
عن رجل متحدث لأمير فى تحصيل أمواله فهل يكون له العشر فيما حصله المقرر عن الوكالة عن كل ألف درهم مائة درهم وهل له أن يتناول ذلك فى حال حياته ومماته وبإذنه أو غير إذنه
فأجاب الحمد لله رب العالمين إن كان الأمير قد وكله بالعشر أو وكله توكيلا مطلقا على الوجه المعتاد الذى يقتضي فى العرف أن له العشر فله ذلك فإنه يستحق العشر بشرط لفظي أو عرفي
والاستئجار كاستئجار الأرض للزراعة بجزء من زرعها وهى مسألة ( قفيز الطحان ) ومن نقل عن النبى ( أنه نهى عن قفيز الطحان ) فقد غلط
واستيفاء المال بجزء مشاع منه جائز فى أظهر قولي العلماء وان كان قد عمل له على أن يعطيه عوضا ولم يبين له ذلك فله أيضا أجرة المثل الذى جرت به العادة فان استحق عليه شيئا فله أن
____________________
(30/67)
يستوفيه مطلقا له من تركته وبدون إذنه وإن لم يستحقه عليه لم يجز أن يأخذ شيئا إلا باذنه والله أعلم
وسئل
عن رجل وكل رجلا وكالة مطلقة بناء على أنه لا يتصرف إلا بالمصلحة والغبطة فأجر له أرضا تساوى إجارتها عشرة آلاف بخمسة آلاف فهل تصح هذه الاجارة أم لا وإذا صحت هل يلزم الوكيل التفاوت
فأجاب الحمد لله ليس له أن يؤجرها بمثل هذا الغبن وله أن يضمن الوكيل المفرط ما فوته عليه
وأما صحة الإجارة فأكثر الفقهاء يقولون إجارة باطلة كما هو مذهب الشافعي وأحمد فى أحد القولين لكن إذا كان المستأجر مغرورا لم يعلم بحال الوكيل مثل ان يظن أنه مالك عالم بالقيمة فله أن يرجع على من غره بما يلزمه فى أصح قولى العلماء وزرعه زرع محترم لا يجوز قطعه مجانا بل ينزل بأجرة المثل بما لا يتغابن الناس به فهنا هو ظالم وزرعه زرع غاصب
وهل للمالك قلعه مجانا على قولين مشهورين للعلماء وهل يملكه
____________________
(30/68)
بنفقته على قولين أيضا
وظاهر مذهب أحمد أن له تملكه بنفقته وأما إبقاؤه بأجرة المثل فيملكه بالاتفاق وإذا ادعى على المستأجر أنه عالم بالحال فأنكر فالقول قوله مع يمينه
وسئل رحمه الله
عن رجل وكل غلامه فى إيجار حانوت لشخص ثم إن المستأجر أجره لشخص فهل للوكيل أن يقبل الزيادة فى أجرة الحانوت أم لا وهل له مطالبة المستأجر الثاني أم لا وإذا غصب المستأجر الثاني وأخذ منه الأجرة فهل للمستأجر أن يستعيد منه أم لا وإذا كان هذا الغلام يتصرف لهذا الموكل بإيجار حوانيته وقبض الأجرة ويدعي بذلك عند القضاة لموكله وسيده يعلم بذلك كله ويقره عليه فهل يقبل قوله انه لم يوكله واذا أكره الموكل المستأجر الثانى على غير الإجارة الأولى فهل تصح هذه الإجارة الثانية أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين ليس للموكل والحالة هذه أن يؤجر الحانوت لأحد لا بزيادة ولا غير زيادة ولا للمستأجر الأول ذلك وليس للموكل مطالبة المستأجر الثاني واذا أخذ منه الأجرة
____________________
(30/69)
غصبا فله استرجاع ذلك منه ولا يقبل قوله فى انكار الوكالة مع كونه يتصرف له تصرف الوكلاء مع علمه بذلك وكونه معروفا بأنه وكيله بين الناس حتى لو قدر أنه لم يوكله والحالة هذه فتفريطه وتسليطه عدوان منه يوجب الضمان والإجارة الثانية التى أكره الموكل عليها للمستأجر الثانى باطلة والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن قوم أرسلوا قوما فى مصالح لهم ويعطونهم نفقة فهل يحل لهم أكل ذلك واستدانة تمام نفقتهم ومخالطتهم
فأجاب إذا أعطاهم الذين بعثوهم ما ينفقونه جاز ذلك وعليهم تمام نفقتهم ما داموا فى حوائجهم ويجوز مخالطتهم
____________________
(30/70)
وسئل رحمه الله
عن نوبة الوكلاء لحفظ الغلال على الفلاحين هل هي حلال
فأجاب إذا كان يحفظ الزرع لصاحب الأرض والفلاح فله أجرته عليها فإذا كانت المؤنة التى يأخذها من الفلاح بقدر حقه عليه فلا بأس بذلك والله أعلم
وسئل
عن رجل وكل رجلا فى شراء ولم يوكله فى الإقالة فأقال هل تصح فأجاب إذا وكل الإنسان وكيلا فى شراء شيء ولم يوكله فى الإقالة لم يكن للوكيل الإقالة ولا تنفذ إقالته بدون إذن الموكل باتفاق العلماء والله أعلم
____________________
(30/71)
وسئل رحمه الله
عن وكيل فى مبلغ لوالده يجبي الديون التي له على الناس فإذا جاء إلى أحد قال إني وقعته لأبيك ثم قال إن أبريتني وصالحتني على شيء وقع الإتفاق بيني وبينك ثم صالحه من جملة ألف بثلاثمائة درهم ثم أقر بالدين بعد الصلح وأخذ بيده الإبراء فهل تجوز دعواه عليه بعد إقراره والشهود على رب الدين بالابراء أم لا
فأجاب الوكيل فى الإستيفاء لا يصح إبراؤه ولا مصالحته على بعض الحق ولو كان وكيلا فى ذلك ثم إن الغريم إذا جحد الحق حتى صولح كان الصلح فى حقه باطلا ولم تبرأ ذمته وإذا كان المدعي إنما صالحه خوفا من ذهاب جميع الحق فهو مكره على ذلك فلا يصح صلحه وله ان يطالبه بالحق بعد ذلك إذا أقر به أو قامت به بينة
____________________
(30/72)
& باب الشركة
سئل شيخ الإسلام بن تيمية
عن جماعة اشتركوا شركة الأبدان بغير رضا بعضهم وعملوا عملا مجتمعين فيه وعملا متفرقين فيه فهل تصح هذه الشركة وما يستحق كل منهم من أجرة ما عمل وهل يجوز لمن لاعمل له أن يأخذ أجرة عن عمل غيره بغير رضا من عمل
فأجاب رضي الله عنه شركة الأبدان التى تنازع الفقهاء فيها نوعان
أحدهما أن يشتركا فيما يتقبلان من العمل فى ذمتهما كأهل الصناعات من الخياطة والنجارة والحياكة ونحو ذلك الذين تقدر أجرتهم بالعمل لا بالزمان ويسمى الأجير المشترك ويكون العمل فى ذمة أحدهم بحيث يسوغ له أن يقيم غيره أن يعمل ذلك العمل والعمل دين فى ذمته كديون الأعيان ليس واجبا على عينه
____________________
(30/73)
كالأجير الخاص فهؤلاء جوز أكثر الفقهاء اشتراكهم كأبي حنيفة ومالك وأحمد وذلك عندهم بمنزلة ( شركة الوجوه ) وهو ان يشترى أحد الشريكين بجاهه شيئا له ولشريكه كما يتقبل الشريك العمل له ولشريكه قالوا وهذه الشركة مبناها على الوكالة فكل من الشريكين يتصرف لنفسه بالملك ولشريكه بالوكالة
ولم يجوزها الشافعي بناء على أصله وهو أن مذهبه أن الشركة لا تثبت بالعقد وإنما تكون الشركة شركة الأملاك خاصة فإذا كانا شريكين فى مال كان لهما نماؤه وعليهما غرمه ولهذا لا يجوز شركة العنان مع اختلاف جنس المالين ولا يجوزها إلا مع خلط المالين ولا يجعل الربح إلا على قدر المالين
والجمهور يخالفونه فى هذا ويقولون الشركة نوعان ( شركة أملاك ) و ( شركة عقود ) وشركة العقود أصلا لا تفتقر إلى شركة الأملاك كما أن شركة الاملاك لا تفتقر إلى شركة العقود وإن كانا قد يجتمعان والمضاربة شركة عقود بالإجماع ليست شركة أملاك إذ المال لأحدهما والعمل للآخر وكذلك المساقاة والمزارعة وإن كان من الفقهاء من يزعم أنها من باب الإجارة وأنها خلاف القياس
____________________
(30/74)
فالصواب أنها أصل مستقل وهى من باب المشاركة لا من باب الإجارة الخاصة وهي على وفق قياس المشاركات ولما كان مبنى الشركة على هذا الأصل تنازعوا فى الشركة فى اكتساب المباحات بناء على جواز التوكل فيها فجوز ذلك أحمد ومنعه أبو حنيفة واحتج أحمد بحديث سعد وعمار وبن مسعود
وقد يقال هذه من النوع الثاني إذا تشاركا فيما يؤجران فيه أبدانهما ودابتيهما إجارة خاصة ففي هذه الإجارة قولان مرويان والبطلان مذهب ابى حنيفة وطائفة من اصحاب أحمد كأبى الخطاب والقاضي فى أحد قوليه وقال هو قياس المذهب بناء على أن شركة الأبدان لا يشترط فيها الضمان بذلك الإشتراك على كسب المباح كالإصطياد والإحتطاب لأنه لم يجب على أحدهما من العمل الذى وجب على الآخر شيء وإنما كان ذلك بمنزلة اشتراكهما فى نتاج ماشيتهما وتراث بساتينهما ونحو ذلك
ومن جوزه قال هو مثل الإشتراك فى اكتساب المباحات لأنه لم يثبت هناك فى ذمة أحدهما عمل ولكن بالشركة صار ما يعمله أحدهما عن نفسه وعن شريكه كذلك هنا ما يشترطه أحدهما من الأجرة أو شرط له من الجعل هو له ولشريكه والعمل الذى يعمل عن
____________________
(30/75)
نفسه وعن شريكه وهذا القول أصح لا سيما على قول من يجوز شركة العنان مع عدم اختلاط المالين ومع اختلاف الجنسين وقد قال تعالى ( أوفوا بالعقود ) وقال النبى ( المسلمون عند شروطهم الا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا ) وأظن هذا قول مالك
وأما اشتراك الشهود فقد يقال من مسألة ( شركة الأبدان ) التى تنازع الفقهاء فيها فان الشهادة لا تثبت فى الذمة ولا يصح التوكل فيها حتى يكون احد الشريكين متصرفا لنفسه بحكم الملك ولشريكه بحكم الوكالة والعوض فى الشهادة من باب الجعالة لا من باب الإجارة اللازمة فإنما هي اشتراك فى العقد لا عقد الشركة بمنزلة من يقول لجماعة ابنوا لى هذا الحائط ولكم عشرة أو إن بنيتموه فلكم عشرة أو إن خطتم هذا الثوب فلكم عشرة أو أن رددتم عبدى الآبق فلكم عشرة
وإن لم يقدر الجعل وقد علم أنهم يعملون بالجعل مثل حمالين يحملون مال تاجر متعاونين على ذلك فهم يستحقون جعل مثلهم عند جمهور العلماء ابى حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم كما يستحقه الطباخ الذى يطبخ بالأجرة والخباز الذى يخبز بالأجرة والنساج الذى ينسج بالأجرة والقصار الذى يقصر بالأجرة وصاحب الحمام
____________________
(30/76)
والسفينة والعرف الذى جرت عادته بأن يستوفى منفعته بالأجر فهؤلاء يستحقون عوض المثل عند الإطلاق فكذلك اذا استعمل جماعة فى أن يشهدوا عليه ويكتبوا خطوطهم بالشهادة يستحقون الجعل فهو بمنزلة استعماله إياهم فى نحو ذلك من الأعمال اذا قيل إنهم يستحقون الجعل فيستحقون جعل مثلهم على قدر أعمالهم فإن كانت أعمالهم ومنافعهم متساوية استحقوا الجعل بالسواء والصواب أن هذا الذى قاله هذا القائل صحيح اذا لم يتقدم منهم شركة فأما اذا اشتركوا فيما يكتسبونه بالشهادة فهو كاشتراكهم فيما يكتسبونه بسائر الجعالات والإجارات
ثم الجعل فى الشهادة قد يكون على عمل فى الذمة وللشاهد أن يقيم مقامه من يشهد للجاعل
فهنا تكون شركة صحيحة عند كل من يقول بشركة الأبدان وهم الجمهور أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم وهو الصحيح الذى يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار
إلا أن يكون الجعل على أن يشهد الشاهد بعينه فيكون فيها القولان المتقدمان والصحيح ايضا جواز الاشتراك فى ذلك كما هو قول مالك فى أصح القولين لكن ليس لأحد الشريكين أن يدع
____________________
(30/77)
العمل ويطلب مقاسمة الاخر بل عليه أن يعمل ما أوجبه العقد لفظا أو عرفا وأما إذا أكرههم القضاة على هذه الشركة بغير اختيارهم فهذا ليس من باب الإكراه على العقود بغير حق لأن القضاة هم الذين يأذنون لهم فى الارتزاق بالشهادة وذلك موقوف على تعديلهم ليس بمنزلة الصناع الذين يكتسبون بدون إذن ولى الأمر واذا كان للقضاة أمر فى ذلك جاز أن يكون لهم فى التشريك بينهم فإنه لابد من قعود اثنين فصاعدا ولابد من اشتراكهما فى الشهادة إذ شهادة واحد لا تحصل مقصود الشهادة
وإذا كان كذلك فالواجب ان يراعى فى ذلك موجب العدل بينهم فلا يمتنع أحدهم عن عمل هو عليه ولا يختص أحدهم بشيء من الرزق الذى وقعت الشركة عليه سواء كانوا مجتمعين او متفرقين والله سبحانه أعلم
____________________
(30/78)
وسئل رحمه الله
عمن ولي أمرا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز ( شركة الأبدان ) فهل يجوز له منع الناس
فأجاب ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو فى معنى ذلك لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك وهو مما يعمل به عامة المسلمين فى عامة الأمصار
وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره فى مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه فى مثل هذه المسائل
ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على ( موطئه ) فى مثل هذه المسائل منعه من ذلك وقال إن أصحاب رسول الله تفرقوا فى الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم وصنف رجل كتابا فى الاختلاف فقال أحمد لا تسمه ( كتاب الإختلاف ) ولكن سمه ( كتاب السنة
____________________
(30/79)
ولهذا كان بعض العلماء يقول إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة وكان عمر بن عبد العزيز يقول ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم اذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان فى الأمر سعة وكذلك قال غير مالك من الأئمة ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه
ولهذا قال العلماء المصنفون فى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه ونظائر هذه المسائل كثيرة مثل تنازع الناس فى بيع الباقلا الأخضر فى قشريه وفى بيع المقاثي جملة واحدة وبيع المعاطاة والسلم الحال واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه اذا لم تغيره والتوضؤ من مس الذكر والنساء وخروج النجاسات من غير السبيلين والقهقهة وترك الوضوء من ذلك والقراءة بالبسملة سرا أو جهرا وترك ذلك وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه او القول بطهارة ذلك وبيع الأعيان الغائبة بالصفة وترك ذلك والتيمم بضربة او ضربتين إلى الكوعين او المرفقين والتيمم لكل صلاة أو
____________________
(30/80)
لوقت كل صلاة أو الإكتفاء بتيمم واحد وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض او المنع من قبول شهادتهم
ومن هذا الباب الشركة بالعروض وشركة الوجوه والمساقاة على جميع انواع الشجر والمزارعة على الارض البيضاء فان هذه المسائل من جنس شركة الأبدان بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم والى اليوم فى جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقاة ولم ينكره عليهم أحد ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التى لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها
ولهذا كان ابو حنيفة يفتي بأن المزارعة لا تجوز ثم يفرع على القول بجوازها ويقول إن الناس لا يأخذون بقولي فى المنع ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعى وغيره
____________________
(30/81)
وسئل رحمه الله
عن رجل شارك قوما فى متجر بغير رأس مال وقد ذكر بعض الشركاء أن المال غرم فهل يلزم المذكور غرامة أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين اذا اشتركوا على أن بعضهم يعمل ببدنه كالمضارب وبعضهم بماله أو بماله وبدنه وتلف المال او بعضه من غير عدوان ولا تفريط من العامل ببدنه لم يكن عليه ضمان شيء من المال سواء كانت المضاربة صحيحة او فاسدة باتفاق العلماء والله أعلم
وسئل
عن رجل عنده قماش كثير فطلب رجل تاجر سفار أن يأخذ ذلك القماش على أن يشتري النصف مشاعا ويبقي النصف الآخر لصاحبه يشتركان فيه شركة عنان ويكون لهذا نصف الربح ولهذا نصف الربح وأخبره برأس المال وزاد عليه من الجانبين زيادة اتفقا
____________________
(30/82)
عليها واتفقا على ان يسافر إلى الديار المصرية ثم يعود إلى دمشق وإذا لم يصلح له البيع بدمشق يسافر إلى العراق والعجم وكتب وثيقة بالشركة إن المال جميعه بيد هذا المشتري يبيع ويشتري ويأخذ ويعطي وكتبا أن الشركة كانت بدراهم ولا يمكن الا بما ذكر ثم لما قدما إلى الإسكندرية فتشاجرا فطلب صاحب القماش منه الثمن وألزمه بأن يقسم القماش ويبيعه هنا بخسارة ويوفيه الثمن فهل هذا البيع الذى اتفقا عليه بشرط الشركة صحيح ام هو بيع فاسد وهل له اذا كان شريكا أن يجعله هو الذى يقبض المال ويبيع ويشترى ويأخذ ويعطي فإذا كان البيع فاسدا فليس له إلا عين ماله وقد عمل هذا العامل فيه على ان له نصف الربح فهل له المطالبة بنصف الربح ام لا وهل له بعد عمل هذا العامل وانتقال القماش من الشام إلى الإسكندرية أن يأخذ القماش ويذهب عمله وسعيه فيه ام له المطالبة بأجرة عمله ام بربح مثله أفتونا
فأجاب رحمه الله الحمد لله هذه المعاملة فاسدة من وجوه
منها الجمع بين البيع والشركة فإن ذلك لا يجوز وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز ان يشرط مع البيع عقدا مثل هذا فلا يجوز ان يبيعه على أن يقرضه وكذلك لا يجوز ان يؤجره على ان يساقيه او يشاركه على أن يقترض منه ولا أن يبيعه على أن يبتاع منه ونحو
____________________
(30/83)
ذلك فقد صح عن النبى أنه قال ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان فى بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ( كذلك ( نهى عن بيعتين فى بيعة ( وذلك انه اذا باعه او اجره مع القرض فانه يحابيه فى ذلك لأجل القرض والقرض موجبه رد المثل فقط فمتى اشترط زيادة لم تجز بالاتفاق
وكذلك المبايعة والمشاركة مبناها على العدالة من الجانبين
ولهذا لا يجوز أن يشترط اختصاص احدهما بربح سلعة معين ولا بمقدار من الربح ولا تخصيص أحدهما بالضمان ومتى بايعه على ان يشاركه فإنه يحابيه إما فى الشركة بأن يختص بالعمل وإما فى البيع بزيادة الثمن ونحو ذلك فتخرج العقود عن العدل الذى مبناها عليه
وأيضا ففى اشتراط المشاركة إلزام المشترى بتصرف خاص ومنعه بما يوجبه العقد المطلق ومثل هذا ممنوع على الإطلاق عند بعض الفقهاء وعند بعضهم إنما يسوغه فى مثل اشتراط عتق المبيع او وقفه عند من يقول به او غير ذلك مما فيه مصلحة خالية عن مفسدة راجحة بخلاف ما اذا تضمن ترك العدل فانه لا يجوز وفاقا
ومن وجه آخر إن مثل هذه المعاملة
____________________
(30/84)
إنما مقصودهما فى العادة المضاربة بالمال على ان يكون الربح بينهما لكن قد يريد رب المال ان يجعل نصف المال فى ضمان العامل وهذا لا يجوز وفاقا لأن الخراج بالضمان واذا اجتمع ( البيع والشركة ) بطلت الشركة وفاقا فيحتال على ذلك بأن يبيع العامل نصف المال ولهذا يجعل المال كله فى يده ولو كان المقصود محض الشركة لصنعا كمايصنع شريكا العنان مع كون المال فى أيديهما وهذا ( وجه ثالث ) فتبطل الشركة وهو اتفاقهما على ان يكون المال بيد أحد الشريكين فقط
وأما كون هذه شركة عرض فهذا فيه نزاع لكن الإقرار المكذب المخالف للواقع حرام قادح فى الدين وإذا كان كذلك فالمال باق على ملك صاحبه ولو كان شريكا لم يكن له ان يجعل الشريك الآخر هو الذى يتولى العقود والقبوض دونه فإن هذا إنما يكون فى المضاربة لا فى شركة العنان وإذا كان البيع فاسدا لم يكن له المطالبة بالثمن المسمى لكن إن تعذر رد العين رد القيمة وإن كان قد عمل فيها المشترى الشريك فله ربح مثله فى نصيب الشريك فإن الفقهاء متنازعون فيما فسد من المشاركة والمضاربة والمساقاة والمزارعة إذا عمل فيها العامل هل يستحق اجرة المثل او يستحق قسط مثله من الربح على قولين أظهرهما الثاني وهو قول بن القاسم والعوض فى العقود الفاسدة هو نظير ما يجب فى الصحيح عرفا وعادة كما يجب فى
____________________
(30/85)
البيع والإجارة الفاسدة ثمن المثل وأجرة المثل وفى الجعالة الفاسدة جعل المثل
ومعلوم أن الصحيح من هذه المشاركات إنما يجب فيه قسطه من الربح إن كان لا أجرة مقدرة وكذلك النصيب الذى اشتراه إن قيل يجب رد عينه مع ارتفاع قيمته كما يقوله من يقوله من اصحاب الشافعى والإمام أحمد وللعامل المشترى أن يطلب إما أجرة عمله وإما قسط مثله من الربح على اختلاف القولين
وأما إن قيل إنه بعد قبضه والتصرف فيه ليس عليه إلا رد القيمة كما يقوله من يقوله من أصحاب أبى حنيفة ومالك فالحكم فيه ظاهر وبكل حال لا يجب عليه رد الزيادة التى زيدت على قيمة المثل والحالة هذه بالاتفاق والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل دفع مالا مضاربة ومات فعمل فيه العامل بعد موته بغير إذن الورثة فهل تنفسخ المضاربة وما حكم الربح بعد موت المالك
____________________
(30/86)
فأجاب نعم تنفسخ المضاربة بموت المالك ثم اذا علم العامل بموته وتصرف بلا إذن المالك لفظا أو عرفا ولا ولاية شرعية فهو غاصب وقد اختلف العلماء فى الربح الحاصل فى هذا هل هو للمالك فقط كنماء الأعيان او للعامل فقط لأن عليه الضمان او يتصدقان به لأنه ربح خبيث او يكون بينهما على أربعة أقوال 87
أصحها الرابع وهو ان الربح بينهما كما يجري به العرف فى مثل ذلك وبهذا حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيما أخذه بنوه من مال بيت المال فاتجروا فيه بغير استحقاق فجعله مضاربة وعليه اعتمد الفقهاء فى ( باب المضاربة ( لأن الربح نماء حاصل من منفعة بدن هذا ومال هذا فكان بينهما كسائر النماء الحادث من أصلين والحق لهما لا يعدوهما ولا وجه لتحريمه عليهما ولا لتخصيص أحدهما به وايجاب قسط مثله من الربح أصح من قول من يوجب أجرة المثل فإن المال قد لا يكون له ربح وقد تكون أجرته أضعاف ربحه وبالعكس وليس المقصود من هذه المشاركات العمل حتى يستحق عليه أجرة ولا هي عقد إجارة وإنما هي أصل مستقل وهى نوع من المشاركات لا من المؤاجرات حتى يبطل فيها ما يبطل فيها فمن أوجب فيها مالا يجب فيها فقد غلط
وإن كان جرى بين العامل والورثة من الكلام ما يقتضي في
____________________
(30/87)
العرف أن يكون إبقاء لعقد المضاربة استحق المسمى له من الربح وكان ذلك مضاربة مستحقه واذا أقر بالربح لزمه ما أقر به فإن ادعى بعد ذلك غلطا لا يعذر فى مثله لم يقبل قوله وإن كان يعذر فى مثله ففى قبوله خلاف مشهور وليس له أن يدفع المال إلى غيره الا بإذن المالك او الشارع ومتى فعل كان ضامنا للمال سواء كان دفعه بعقد صحيح او فاسد فما ضمن بالعقد الصحيح ضمن بالفاسد وما لم يضمن بالصحيح لم يضمن بالفاسد
واما ان كان المال غصبا فهو ضامن بكل حال ومتى فرط العامل فى المال او اعتدى فعليه ضمانه وكذلك العامل الثانى اذا جحد الحق او كتم المال الواجب عليه او طلب التزامهم إجارة لغير مسوغ شرعى أثم بذلك وعلى ولي الأمر إيصال الحقوق إلى مستحقيها والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل دفع لرجل مالا على سبيل القراض ثم ظهر بعد ذلك على المدفوع له المال دين بتاريخ متقدم على القراض فهل يجوز له أن يعطى لأرباب الدين شيئا من هذا المال أم لا واذا ادعى أنه لم يقبض من مال القراض شيئا او عدم او وقع فيه تفريط بغير سبب
____________________
(30/88)
ظاهر يقبل هذا القول أم لا
فأجاب لايجوز أن يوفى من مال هذا القراض شيئا من الدين الذى يكون على العامل إلا أن يختار رب المال فإن ادعى ما يخالف العادة لم يقبل بمجرد قوله
وسئل
عن مضارب رفعه صاحب المال إلى الحاكم وطلب منه جميع المال وحكم عليه الحاكم بذلك فدفع إليه البعض وطلب منه الإنظار بالباقي فأنظره وضمن على وجهه فسافر المضارب عن البلد مدة فهل تبطل الشركة برفعه إلى الحاكم وحكم الحاكم عليه بدفع المبلغ وإنظاره وهل يضمن فى ذمته
فأجاب تنفسخ الشركة بمطالبته المذكورة ويضمن المال فى ذمته بالسفر المذكور بتأخير التسليم مع الإمكان عن وقت وجوبه
____________________
(30/89)
وسئل رحمه الله
هل يجوز للعامل فى القراض ان ينفق على نفسه من مال القارض حضرا او سفرا واذا جاز هل يجوز ان يبسط لذيذ الأكل والتنعمات منه ام يقتصر على كفايته المعتادة
فأجاب الحمد لله رب العالمين إن كان بينهما شرط فى النفقة جاز ذلك وكذلك إن كان هناك عرف وعادة معروفة بينهم وأطلق العقد فإنه يحمل على تلك العادة وأما بدون ذلك فإنه
لايجوز ومن العلماء من يقول له النفقة مطلقا وان لم يشترط كما يقوله أبو حنيفة ومالك والشافعى فى قول والمشهور أن لا نفقة بحال ولو شرطها وحيث كانت له النفقة فليس له النفقة إلا بالمعروف وأما البسط الخارج عن المعروف فيكون محسوبا عليه
____________________
(30/90)
وسئل رحمه الله
عن اثنين اشتركا من احدهما دابة ومن الآخر دراهم جعلا ذلك بينهما على ما قسم الله تعالى من ربح كان بينهما ثم ربحا فما الحكم
فأجاب ينظر قيمة البهيمة فتكون هي والدراهم رأس المال وذلك مشترك بينهما لأن عندنا أن الشركة والقسمة تصح بالأقوال لاتفتقر إلى خلط المالين ولا إلى تمييزهما ويثبت الملك مشتركا بعقد الشركة كما يتميز بعقد القسمة والمحاسبة فما ربحا كان بينهما وإذا تقاسما بيعت الدابة واقتسما ثمنها مع جملة المال
وهذا اذا صححنا الشركة بالعروض ظاهر وأما اذا أبطلناها فحكم الفاسد حكم الصحيح فى الضمان وعدمه وصحة التصرف وفساده وإنما يفترقان فى الحل وفي مقدار الربح على أحد القولين
فظاهر مذهب احمد على ما اشترطا وعلى القول الآخر يكون الربح تبعا للمال ويكون للآخر اجرة المثل والأصح في هذا أن له ربح المثل والاقوال ثلاثة
____________________
(30/91)
وسئل
عن شريكين فى فرس لا يتبايعان ولا يشتريان ولا يكون عند احدهما مشاهرة والفرس تضيع بينهما وان أحدهما أعارها بغير إذن شريكه فهلكت هل تلزم الشريك الذي اعار نصيب شريكه ام لا
فأجاب اذا لم يتفقا ان يكون عند احدهما ولا عند ثالث يختاراه لها ولا طلب احدهما مفاضلة الآخر فيها تباع جميع الفرس ويقسم ثمنها بينهما والله أعلم
وسئل
عن رجلين بينهما شركة فى فرس فأذن احدهما للآخر فى سيره لئلا يضربه الوقوف ولم يأذن له فى سوقه وأركب غيره فحصل له بذلك مرض فهل يلزمه إن مات او يلزمه ارشه بالنقص وهل يلزمه ما يحتاج إليه من دواء والشريك محجور عليه من جهة الحاكم
____________________
(30/92)
وهو رشيد في تصرفه غير ان المانع من ذلك بينة تشهد له واذا كان الأمر كذلك فهل لشريكه ان يأخذ من ماله قيمته
فأجاب اذا كان الشريك قد اعتدى ففعل مالم تأذن به الشريعة ولا المالك لا لفظا ولا عرفا فهو ضامن لما تلف بجنايته وإن كان محجورا عليه فإن كانت الجناية نقصت الفرس ضمن النقص وإن وجب بتلف الفرس ضمنه جميعه 93
وسئل عن زيد وعمرو مشتركان فى فرس وأخذ زيد الفرس وساقها غير العادة بغير إذن عمرو ثم بعد ذلك حصل للفرس ضعف فماتت تحت يد زيد
فأجاب نعم اذا اعتدى الشريك عليها فتلفت بسبب عدوانه ضمن نصيب شريكه والله أعلم
____________________
(30/93)
وسئل رحمه الله
عن رجل شارك شخصا فى بقرة وكانت عند أحدهما يستعملها ويعلفها وطلبها شريكه يفاضله فيها فأبى فادعى ثلثي البقرة ومنع المفاضلة
فأجاب الحمد لله رب العالمين عليه ان يفاضله فيها واذا طلب احد الشريكين بيعها بيعت عليهما واقتسما الثمن وهذا مذهب ابى حنيفة ومالك والإمام احمد وغيرهم
واذا كان الشريك يأخذ اللبن وكان اللبن بقدر العلف سواء فلا شيء عليه وإن كان انتفاعه بها اكثر من العلف أعطى شريكه نصيبه من الفضل والله أعلم
____________________
(30/94)
وسئل عن راع كان معه غنم خلطا واحتاجت إلى نفقة فباع بعضها وأنفقه على الباقى وكان المبيع مال بعضهم فمنهم من لم يبق من غنمه شيء ومنهم من بقي له قليل ومنهم كثير فهل يقتسمون على قدر رؤوس الأموال ام كل من بقي له شيء يأخذه
فأجاب رحمه الله بل يقتسمون الباقي على قدر رؤوس الأموال او يغرم أرباب الباقي ما أنفق عنهم وهو قيمة ما باعه
وسئل رحمه الله
عن شريكين بينهم خيل وكان عند احدهم فرس فماتت بقضاء الله وقدره وعمل بموتها محضرا
فأجاب إذا كان أحد الشريكين قد سلمها إلى الآخر وتلفت تحت يده من غير تفريط منه ولا عدوان فلا ضمان عليه
____________________
(30/95)
وسئل
عن رجل له شريك فى فرس وهى تحت يد الشريك برضاه فوقع على البلد أمر من السلطنة وأخذت الفرس مع خيل أخر وقماش وقد قصد الشريك ان يضمن شريكه فهل له ذلك
فأجاب الحمد لله اذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان فلا ضمان عليه بما ذكر والقول قوله مع يمينه فى نفى التفريط والعدوان والحالة هذه 96
وسئل
عن رجل بينه وبين رجل شركة فى بستان وانه استأجر منه نصيبه بإجارة شرعية وأن الشريك الذى استأجر تعدى وقطع من اخشاب البستان شيئا له ثمر يغل بغير اذن المالك وهو حاضر واستعمل منها بواقى وأحطاب لغرضه فهل عليه الرجوع بما تعدى عليه وهل للمالك ان يمسك اعوانه الذين تولوا قطع الخشب أم لا
فأجاب ليس له ان يأخذ نصيب شريكه مالم يستحقه بعقد
____________________
(30/96)
الإجارة وما أخذه بذلك فعليه ضمانه لشريكه يضمن له نصيبه وللمالك ان يطالب بالضمان من باشر الأخذ وله ان يطالب الشريك الآمر لهم فيأخذ حقه من أيهم شاء والله أعلم
وسئل
عن جماعة شهود اشتركوا فعمل بعضهم اكثر من بعض فهل يستحق الجماعة الجعالة بالسوية أو يستحقونها على قدر أعمالهم
فأجاب موجب عقد الشركة المطلقة التساوى فى العمل والأجر فإن عمل بعضهم اكثر تبرعا بالزيادة ساووه فى الأجر وإن لم يكن متبرعا طالبهم إما بما زاد فى العمل وإما باعطائه زيادة فى الأجرة بقدر عمله وإن اتفقوا على ان يشترطوا له زيادة جاز والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن جماعة دلالين مشتركين فى بيع السلع هل يقدح ذلك فى دينهم وهل لولي الأمر أعزه الله منعهم من غير ان يظهر عليهم غش أو تدليس
____________________
(30/97)
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما اذا كان التاجر الذى يسلم ماله إلى الدلال قد علم أنه يسلمه إلى غيره من الدلالين ورضى بذلك لم يكن بذلك بأس بلا ريب فإن الدلال وكيل التاجر والوكيل له ان يوكل غيره كالموكل باتفاق العلماء
وإنما تنازعوا فى جواز توكيله بلا إذن الموكل على قولين مشهورين للعلماء وعلى هذا تنازعوا فى شركة الدلالين لكونهم وكلاء فبنوا ذلك على جواز توكيل الوكيل
وإذا كان هناك عرف معروف أن الدلال يسلم السلعة إلى من يأتمنه كان العرف المعروف كالشرط المشروط ولهذا ذهب جمهور ائمة المسلمين كمالك وأبى حنيفة واحمد وغيرهم إلى جواز ( شركة الأبدان ( كما قال بن مسعود اشتركت أنا وسعد بن أبى وقاص وعمار يوم بدر فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء
و ( شركة الأبدان ( فى مصالح المسلمين فى عامة الأمصار وكثير من مصالح المسلمين لاينتظم بدونها كالصناع المشتركين فى الحوانيت من الدلالين وغيرهم فإن احدهم لايستقل بأعمال الناس فيحتاج إلى معاون والمعاون لايمكن ان تقدر أجرته وعمله كما لا يمكن مثله ذلك فى المضاربة ونحوها فيحتاجون إلى الإشتراك
____________________
(30/98)
وجمهور العلماء يجعلون الشركة عقدا قائما بنفسه فى الشريعة يوجب لكل من الشريكين بالعقد مالا يستحقه بدون العقد كما فى المضاربة ومنهم من لايجعل شركة الا شركة الأملاك فقط وما يتبعها من العقود فيمنع عامة المشاركات التى يحتاج الناس اليها كالتفاضل فى الربح مع التساوى فى المال وشركة الوجوه والأبدان وغير ذلك ولكن قول الجمهور أصح
وإذا اشترك اثنان كان كل منهما يتصرف لنفسه بحكم الملك ولشريكه بحكم الوكالة فما عقده من العقود عقده لنفسه ولشريكه وما قبضه قبضه لنفسه ولشريكه وإذا علم الناس أنهم شركاء ويسلمون اليهم أموالهم جعلوا ذلك إذنا لأحدهم ان يأذن لشريكه وليس لولي الأمر المنع فى مثل العقود والقبوض التى يجوزها جمهور العلماء ومصالح الناس وقف عليها مع ان المنع من جميعها لايمكن فى الشرع وتخصيص بعضها بالمنع تحكم والله أعلم
وسئل
عن تخبير الشراء مرابحة ولم يبين للمشتري أنه بالنسيئة فهل يحل ذلك أم يحرم
____________________
(30/99)
فأجاب أما البيع بتخبير الثمن فهو جائز سواء كان مرابحة أو مواضعة او تولية او شركة لكن لابد أن يستوي علم البائع والمشترى فى الثمن فإذا كان البائع قد اشتراه إلى أجل فلابد أن يعلم المشتري ذلك فإن أخبره بثمن مطلق ولم يبين له انه اشتراه إلى أجل فهذا جائر ظالم وفى الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبى انه قال ( البيعان بالخيار مالم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما فى بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما (
وسئل رحمه الله
عن رجل تاجر فى حانوت اشترى قطعة قماش بأحد عشر وربع وبعد ما اشتراها جاءه رجل واخبره انه اشتراها باحد عشر وربع وكسب نصف فأخذها المشترى وتفارقا بالأبدان وبعد ساعة جاء المشترى وأغصبه بردها وامتنع التاجر ولم يبين الفائدة فابى المشترى فتنازعا على الفائدة فقال المشترى خذ منى ربع وثمن فقال التاجر للمشترى ابتعنى بأحد عشر ونصف فقال عبارة نعم فهل يجوز ان يخبر بهذا الربع الزائد على المشترى الاول ويحل له ذلك فى وجه من الوجوه
فأجاب ليس لصاحب السلعة ان يخبر بأنه اشتراها بذلك من غير
____________________
(30/100)
بيان الحال بل ان اراد ان يخبر بذلك فليبين ان المشتري لها أعادها إليه بنصف الربح فان هذا سواء كان بيعا او اقالة ليس هو عند الناس بمنزلة الذي يشترى سرا مطلقا لا سيما ان كان اكرهه على اخذها منه
فإن من اشترى سلعة على وجه الإكراه لم يكن له ان يخبر بالثمن من غير بيان الحال باتفاق العلماء اذ هذا من نوع الخيانة
101 وقد تنازع العلماء فيما اذا باعها بربح ثم وجدها تباع في السوق فاشتراها هل عليه ان يسقط الأول من الثمن الثاني او يخبر بالحال او ليس عليه ذلك على قولين والأول قول ابى حنيفة وأحمد وغيرهما فاذا كان في مثل هذه الصورة فكيف اذا قال فيها بدون الثمن وكيف اذا كان كذلك على وجه الاكراه له والبيع بتخبير الثمن اصله الصدق والبيان كما قال النبى ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما فى بيعهما وان كذبا وكتما محقت بركة بيعهما (
فما كان من الأمور التى اذا اطلع المشترى عليها لم يشتر بذلك الثمن كان كتمانه خيانة والله أعلم
____________________
(30/101)
وسئل رحمه الله
عن رجل اشترى عشرة ازواج متاع جملة واحدة واخبر بزوج على حكم ما اشتراه وقسم الثمن على الأزواج لا زائد ولا ناقص هل ذلك حلال ام لا
فأجاب الحمد لله ان اخبر بالاشتراء على وجهه فيذكر انه اشتراها مع غيرها وانه قسط الثمن على الجميع فجاء قسط هذا كذا وهذا كذا فإن هذا حقيقة الصدق والبيان وقد قال ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ( والله تعالى أعلم
____________________
(30/102)
& باب المساقاة
قال شيخ الاسلام رحمه الله فصل قد ذكرت فيما تقدم من القواعد التى فيها قواعد فقهية ما جاء به الكتاب والسنة من قيام الناس بالقسط وتناول ذلك للمعاملات التى هي المعاوضات والمشاركات وذكرت ان المساقاة والمزارعة والمضاربة ونحوذلك نوع من المشاركات وبينت بعض ما دخل من الغلط على من اعتقد ان ذلك من المعاوضات كالبيع والإجارة حتى حكم فيها أحكام المعاوضات
وبينت جواز المزارعة ببذر من المالك او من العامل كما جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس الجلي وبينت ان حديث رافع بن خديج وغيره فى النهي عن المخابرة وعن كراء الأرض إن ما معناه ما كانوا يفعلونه من اشتراط زرع بقعة معينة لرب الأرض
____________________
(30/103)
كما بينه رافع بن خديج فى الصحيحين أيضا ومن سمى المعاملة ببذر من المالك مزارعة ومن العامل مخابرة فهو قول لا دليل عليه بمنزلة الأسماء التى سماها هؤلاء وآباؤهم لم ينزل الله بها سلطانا
فإن فى صحيح البخارى عن بن عمر ( ان رسول الله عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على ان يعمروها من أموالهم ( والمخابرة المنهى عنها لم يكن فيها بذر من العامل
والمقصود هنا أن النبى نهى عن المشاركة التى هي كراء الأرض بالمعنى العام اذا اشترط لرب الأرض فيها زرع مكان بعينه والأمر فى ذلك كما قال الليث بن سعد وهو فى البخاري ان الذي نهى عنه النبى شيء اذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه حرام او كما قال
وذلك لأن المشاركة والمعاملة تقتضي العدل من الجانبين فيشتركان فى المغنم والمغرم بعد أن يسترجع كل منهما أصل ماله فإذا اشترط لأحدهما زرع معين كان فيه تخصيصه بذلك وقد لا يسلم غيره فيكون ظلما لأحد الشريكين وهو من الغرر والقمار ايضا ففى معنى ذلك ما قاله العلماء وما أعلم فيه مخالفا أنه لا يجوز ان يشترط لأحدهما ثمرة شجرة بعينها ولا مقدارا محدودا من الثمر وكذلك لا
____________________
(30/104)
يشترط لأحدهما زرع مكان معين ولا مقدارا محدودا من نماء الزرع وكذلك لا يشترط لاحدهما ربح سلعة بعينها ولا مقدار محدود من الربح
فأما اشتراط عود مثل رأس المال فهو مثل اشتراط عود الشجر والأرض وفى اشتراط عود مثل البذر كلام ذكرته فى غير هذا الموضع فاذا كان هذا في تخصيص احدهما بمعين او مقدار من النماء حتى يكون مشاعا بينهما فتخصيص احدهما بما ليس من النماء اولى مثل ان يشترط أحدهما على الآخر ان يزرع له ارضا أخرى او يبضعه بضاعة يختص ربها بربحها أو يسقي له شجرة أخرى ونحو ذلك مما قد يفعله كثير من الناس
فإن العامل لحاجته قد يشترط عليه المالك نفعه فى قالب آخر فيضاربه ويبضعه بضاعة او يعامله على شجر وأرض ويستعمله فى أرض أخرى او فى إعانة ماشية له او يشترط استعارة دوابه او غير ذلك فإن هذا لا يجوز شرطه بلا نزاع أعلمه بين العلماء فإنه فى معنى اشتراط بمعين او بقدر من الربح لأنه اذا اشترط منفعته او منفعة ماله اختص احدهما باستيفاء هذه المنفعة وقد لا يحصل نماء او يحصل دون ما ظنه فيكون الآخر قد أخذ منفعته بالباطل وقامره وراباه فإن فيه ربا وميسرا
____________________
(30/105)
فإن تواطآ على ذلك قبل العقد فهو كالشرط فى العقد على ما قررناه فى ( كتاب بطلان التحليل ( أن الشرط المتقدم على العقد كالمقارن له
فإن تبرع احدهما بهدية إلى الآخر مثل ان يهدى العامل فى المضاربة إلى المالك شيئا او يهدي الفلاح غنما او دجاجا او غير ذلك فهذا بمنزلة إهداء المقترض من المقرض يخير المالك فيها بين الرد وبين القبول والمكافأة عليها بالمثل وبين ان يحسبها له من نصيبه من الربح اذا تقاسما كما يحسبه من أصل القرض
وهذا ينازعنا فيه بعض الناس ويقول متبرع بالإهداء وليس كذلك بل انما اهداه لأجل المعاملة التى بينهما من القرض والمعاوضة ونحو ذلك كما قال النبى فى حديث العامل الأزدي بن اللتبية لما قال هذا لكم وهذا أهدي الي فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( أفلا قعد فى بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ( وثبت عن عدد من الصحابة كعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس وأنس وغيرهم أنهم أمروا المقرض الذي قبل الهدية ان يحسبها من قرضه
وهذا ظاهر فى الإعتبار فإنه اذا قبل الهدية قبل الاستيفاء فقد
____________________
(30/106)
دخل معه على ان يأخذ الهدية وبدل القرض عوضا عن القرض وهذا عين الربا فإن القرض لا يستحق به الا مثله ولو قال له وقت القرض انا اعطيك مثله وهذه الهدية لم يجز بالإجماع فإذا اعطاه قبل الوفاء الهدية التى هي من أجل القرض على ان يوفيه معها مثل القرض كان ذلك معاقدة على أخذ أكثر من الأصل ولهذا لو أهدى إليه على العادة الجارية بينهما قبل القرض لم يكن كذلك
يبين ذلك أنه بقبول الهدية يريد ان ينظره لأجلها فيصير بمائة والهدية بمائة إلى أجل وهذا عين الربا بخلاف المائة بمائة مثلها فى الصفة ولو شرط فيها الأجل فإن هذا تبرع محض ليس بمعاوضة اذ العاقل لا يبيع الشيء بما يساويه من كل وجه إلى أجل وانما يفعل ذلك عند اختلاف الصفة كبيع الصحاح بالمكسرة ونقد بنقد آخر إلى أجل وذلك لا يجوز باتفاق
المسلمين وهكذا الأمر في المشاركة فإنه اذا قبل هدية العامل ونفعه الذي انما بذله لأجل المضاربة والمزارعة بلا عوض مع اشتراطه النصيب من الربح كان هذا القبول على هذا القول معاقدة على ان يأخذ مع النصيب الشائع شيئا غيره بمنزلة زرع مكان معين وقد لا يحصل ربح فيكون العامل مقمورا مظلوما ولهذا يطلب العامل بدل هديته ويحتسب بها على المالك فإن لم يعوضه عنها والا خانه فى المال أصله
____________________
(30/107)
وربحه كما يجري مثل ذلك بين المزارع والفلاح فإن الفلاح يخونه ويظلمه لما يزعم ان المزارع يختص به من ماله ونحوه كأخذ الهدايا وأكله هو ودوابه من ماله مدة بغير حق فيقرض السنبل قبل الحصاد ويترك الحب فى القصب والتبن وفى عفارة البيدر ويسرق منه ويحتال على السرقة بكل وجه والمزارع يظلمه فى بدنه بالضرب والإستخدام وفى ماله بالإستنفاق الذي لا يستحقه ويرى ان هذا بإزاء ما اختانه من ماله
وكذلك يجري بين مالك المال والعامل العامل يرى انه يأخذ نفعه وماله فإنه لابد له من هدايا ومن بضائع معه يتجر له فيها فيخصه بالربح لأجل المضاربة فيريد ان يعتاض عن نفعه وماله فيخون في المال والربح ويكذب ويكتم والمالك يرى ان العامل يخون فى المال والربح ويخرج من ماله بالإنفاق على مال له آخر او بالإهداء إلى اصدقائه ونحو ذلك مما ليس نفعه لأجل المضاربة فيطالبه بالهدايا ونحو ذلك حتى ان من العمال من لا يهدي الا لعلمه بأن المالك يطلب ذلك ويؤثره فيتقي بذلك شره وظلمه
وتفضى هذه المعاملات إلى المخاصمة والعداوة والظلم فى النفوس والأعراض والأموال وسبب ذلك اختصاص أحدهما بشيء خارج عن النصيب المشاع من النماء فان هذا خروج عن العدل الواجب
____________________
(30/108)
فى المشاركات وقول النبى صلى الله عليه وسلم ( أفلا قعد فى بيت ابيه وأمه فينظر ايهدى إليه أم لا ( يتناول هذه المعانى جميعها فان الهدية اذا كانت لاجل سبب من الأسباب كانت مقبوضة بحكم ذلك السبب كسائر المقبوض به فان العقد العرفي كالعقد اللفظي ومن أهدي له لأجل قرض او إقراض كانت الهدية كالمال المقبوض بعقد القرض والقراض اذا لم يحصل عنها مكافأة وهذا اصل عظيم يدخل بسبب اهماله من الظلم والفساد شيء عظيم فصل
وكما قلنا فى المقبوض انه قبل الوفاء ليس له أن يأخذ منه مالا ولا نفعا قبل الوفاء بغير عوض مثله لما فيه من الربا فالإهداء والإعارة من نوع فكذلك فى المضاربة والمزارعة متى أخذ رب المال مالا او نفعا قبل الاقتسام التام لم يجز الا بعوض مثله مثل استخدام العامل والفلاح في غير موجب عقد المشاركة او الانتفاع بماله او غير ذلك الا ان يحتسب له ذلك كله والله سبحانه أعلم
ولهذا تنازع الفقهاء لو أعطاه عرضا فقال بعه وضارب بثمنه
____________________
(30/109)
فقيل لا يجوز لأن المالك يختص بمنفعته قبل المضاربة فهو كما لو شرط عليه بيع سلعة أخرى
وقيل يجوز لأن هذا البيع مقصوده مقصود المضاربة فأشبه البيع الحاصل بعد العقد والمال أمانة بيده فى الموضعين وليس للمالك منفعة يختص بها زائدة على مقصود المضاربة وفى المسألة نظر
وقال قدس الله روحه فصل
وأما ( المزارعة ( فإذا كان البذر من العامل او من رب الأرض او كان من شخص ارض ومن آخر بذر ومن ثالث العمل ففي ذلك روايتان عن أحمد والصواب انها تصح فى ذلك كله
وأما اذا كان البذر من العامل فهو اولى بالصحة مما اذا كان البذر من المالك ( فإن النبى عامل أهل خيبر على ان يعمروها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع ( رواه البخارى وغيره وقصة أهل خيبر هي الأصل فى جواز ( المساقاة والمزارعة ( وانما كانوا يبذرون من أموالهم لم يكن النبى صلى الله عليه
____________________
(30/110)
وسلم يعطيهم بذرا من عنده وهكذا خلفاؤه من بعده مثل عمر وسعد بن ابي وقاص وعبد الله بن مسعود وغير واحد من الصحابة كانوا يزارعون ببذر من العامل
وقد نص الإمام أحمد فى رواية عامة أصحابه فى أجوبة كثيرة جدا على أنه يجوز ان يؤجر الأرض ببعض ما يخرج منها واحتج على ذلك بقصة أهل خيبر وأن النبى عاملهم عليها ببعض الخارج منها وهذا هو معنى إجارتها ببعض الخارج منها اذا كان البذر من العامل فان المستأجر هو الذي يبذر الارض وفى الصورتين للمالك بعض الزرع
ولهذا قال من حقق هذا الموضع من أصحابه كأبى الخطاب وغيره ان هذا مزارعة على ان البذر من العامل وقالت طائفة من أصحابه كالقاضي وغيره بل يجوز هذا العقد بلفظ الإجارة ولا يجوز بلفظ المزارعة لأنه نص فى موضع آخر أن المزارعة يجب ان يكون فيها البذر من المالك وقالت طائفة ثالثة بل يجوز هذا مزارعة ولا يجوز مؤاجرة لأن الإجارة عقد لازم بخلاف المزارعة فى احد الوجهين ولان هذا يشبه قفيز الطحان
وروي عن النبى انه نهى عن قفيز
____________________
(30/111)
الطحان وهو أن يستأجر ليطحن الحب بجزء من الدقيق
والصواب هو الطريقة الأولى فإن الاعتبار في العقود بالمعانى والمقاصد لا بمجرد اللفظ هذا أصل أحمد وجمهور العلماء وأحد الوجهين فى مذهب الشافعي ولكن بعض اصحاب احمد قد يجعلون الحكم يختلف بتغاير اللفظ كما قد يذكر الشافعي ذلك في بعض المواضع وهذا كالسلم الحال فى لفظ البيع والخلع بلفظ الطلاق والإجارة بلفظ البيع ونحو ذلك مما هو مبسوط فى موضعه
وأما من قال إن المزارعة يشترط فيها ان يكون البذر من المالك فليس معهم بذلك حجة شرعية ولا أثر عن الصحابة ولكنهم قاسوا ذلك على المضاربة قالوا كما انه فى المضاربة يكون العمل من شخص والمال من شخص فكذلك المساقاة والمزارعة يكون العمل من واحد والمال من واحد والبذر من رب المال وهذا قياس فاسد لأن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فنظيره الأرض او الشجر يعود إلى صاحبه ويقتسمان الثمر والزرع واما البذر فإنهم لا يعيدونه إلى صاحبه بل يذهب بلا بدل كما يذهب عمل العامل وعمل بقره بلا بدل فكان من جنس النفع لا من جنس المال وكان اشتراط كونه من العامل اقرب فى القياس مع موافقة هذا المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم فإن منهم من كان يزارع والبذر من
____________________
(30/112)
العامل وكان عمر يزارع على انه ان كان البذر من المالك فله كذا وان كان من العامل فله كذا ذكره البخاري فجوز عمر هذا وهذا هو الصواب
وأما الذين قالوا لا يجوز ذلك إجارة لنهيه عن قفيز الطحان فيقال هذا الحديث باطل لا اصل له وليس هو في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا رواه إمام من الأئمة والمدينة النبوية لم يكن بها طحان يطحن بالأجرة ولا خباز يخبز بالأجرة
وأيضا فأهل المدينة لم يكن لهم على عهد النبى مكيال يسمى القفيز وانما حدث هذا المكيال لما فتحت العراق وضرب عليهم الخراج فالعراق لم يفتح على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وهذا وغيره مما يبين ان هذا ليس من كلام النبى وانما هو من كلام بعض العراقيين الذين لا يسوغون مثل هذا قولا باجتهادهم والحديث ليس فيه نهيه عن اشتراط جزء مشاع من الدقيق بل عن شيء مسمى وهو القفيز وهو من المزارعة لو شرط لأحدهما زرعه بقعة بعينها او شيئا مقدرا كانت المزارعة فاسدة
وهذا هو المزارعة التى نهى عنها النبى فى
____________________
(30/113)
حديث رافع بن خديج في حديثه المتفق عليه ( انهم كانوا يشترطون لرب الارض زرع بقعة بعينها فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك ( وقد بسط الكلام على هذه المسائل فى غير هذا الموضع وبين ان المزارعة احل من المؤاجرة بأجرة مسماة وقد تنازع المسلمون فى الجميع فإن المزارعة مبناها على العدل إن حصل شيء فهو لهما وان لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان واما الإجارة فالمؤجر يقبض الأجرة والمستأجر على خطر قد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل فكانت المزارعة ابعد عن المخاطرة من الإجارة وليست المزارعة مؤاجرة على عمل معين حتى يشترط فيها العمل بالأجرة بل هي من جنس المشاركة كالمضاربة ونحوها واحمد عنده هذا الباب هو القياس
ويجوز عنده ان يدفع الخيل والبغال والحمير والجمال إلى من يكارى عليها والكراء بين المالك والعامل وقد جاء فى ذلك احاديث في سنن ابى داود وغيره ويجوز عنده ان يدفع ما يصطاد به الصقر والشباك والبهائم وغيرها إلى من يصطاد بها وما حصل بينهما ويجوز عنده ان يدفع الحنطة إلى من يطحنها وله الثلث او الربع وكذلك الدقيق إلى من يعجنه والغزل إلى من ينسجه والثياب إلى من يخيطها بجزء فى الجميع من النماء وكذلك الجلود إلى من يحذوها نعالا وان حكى عنه فى ذلك خلاف وكذلك يجوز عنده فى أظهر
____________________
(30/114)
الروايتين أن يدفع الماشية إلى من يعمل عليها بجزء من درها ونسلها ويدفع دود القز والورق إلى من يطعمه ويخدمه وله جزء من القز
وأما قول من فرق بين المزارعة والإجارة بأن الإجارة عقد لازم بخلاف المزارعة فيقال له هذا ممنوع بل إذا زارعه حولا بعينه فالمزارعة عقد لازم كما تلزم اذا كانت بلفظ الإجارة والإجارة قد لا تكون لازمة كما اذا قال آجرتك هذه الدار كل شهر بدرهمين فإنها صحيحة في ظاهر مذهب أحمد وغيره وكلما دخل شهر فله فسخ الإجارة
والجعالة في معنى الإجارة وليست عقدا لازما فالعقد المطلق الذي لا وقت له لا يكون لازما واما المؤقت فقد يكون لازما فصل
وأما إجارة الارض بجنس الطعام الخارج منها كإجارة الارض لمن يزرعها حنطة او شعيرا بمقدار معين من الحنطة والشعير فهو ايضا جائز فى اظهر الروايتين عن أحمد وهو مذهب ابى حنيفة والشافعي وفى الأخرى ينهى عنه كقول مالك
____________________
(30/115)
قالوا لأن المقصود بالإجارة هو الطعام فهو في معنى بيعه بجنسه وقالوا هو من المخابرة التى نهى عنها النبى وهو فى معنى المزابنة لأن المقصود بيع الشيء بجنسه جزافا
والصحيح قول الجمهور لأن المستحق بعقد الإجارة هو الانتفاع بالأرض ولهذا اذا تمكن من الزرع ولم يزرع وجبت عليه الأجرة والطعام إنما يحصل بعمله وبذره وبذره لم يعطه إياه المؤجر فليس هذا من الربا فى شيء
ونظير هذا ان يستأجر قوما ليستخرجوا له معدن ذهب او فضة او ركازا من الأرض بدراهم او دنانير فليس هذا كبيع الدراهم بدراهم وكذلك من استأجر من يشق الارض ويبذر فيها ويسقيها بطعام من عنده وقد استأجره على ان يبذر له طعاما فهذا مثل ذلك 116
والمخابرة التى نهى عنها النبى قد فسرها رافع راوى الحديث بأنها المزارعة التى يشترط فيها لرب الأرض زرع بقعة بعينها ولكن من العلماء من جعل المزارعة كلها من المخابرة كأبى حنيفة ومنهم من قال المزارعة على الأرض البيضاء من المخابرة كالشافعي ومنهم من قال المزارعة على ان يكون البذر من العامل من المخابرة ومنهم من قال كراء الأرض بجنس الخارج منها من
____________________
(30/116)
المخابرة كمالك
والصحيح ان المخابرة المنهى عنها كما فسرها به رافع بن خديج وكذلك قال الليث بن سعد الذى نهى عنه رسول الله شيء اذا نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم انه محرم وهذا مذهب عامة فقهاء الحديث كأحمد وإسحاق وبن المنذر وبن خزيمة وغيرهم
والنبى حرم أشياء داخلة فيما حرمه الله فى كتابه فإن الله حرم فى كتابه الربا والميسر وحرم النبى بيع الغرر فإنه من نوع الميسر وكذلك بيع الثمار قبل بدو صلاحها وبيع حبل الحبلة وحرم صلى الله عليه وسلم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلامثلا بمثل وغير ذلك مما يدخل فى الربا فصار بعض أهل العلم يظنون أنه دخل فى العام او علته العامة أشياء وهى غير داخلة فى ذلك كما أدخل بعضهم ضمان البساتين حولا كاملا او أحوالا لمن يسقيها ويخدمها حتى تثمر فظنوا ان هذا من باب بيع الثمار قبل بدو صلاحها فحرموه وإنما هذا من باب الإجارة كإجارة الأرض فلما نهى عن بيع الحب حتى يشتد وجوز اجارة الأرض لمن يعمل عليها حتى تنبت وكذلك نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها ولم ينه ان تضمن لمن يخدمها حتى تثمر ويحصل الثمر بخدمته على ملكه وبائع الثمر
____________________
(30/117)
والزرع عليه سقيه إلى كمال صلاحه خلاف المؤجر فانه ليس يسقي ما للمستأجر من ثمر وزرع بل سقي ذلك على الضامن المستأجر وعمر بن الخطاب ضمن حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين وتسلف كراءها فوفى به دينا كان عليه ونظائر هذا الباب كثيرة
وسئل
هل تصح المزارعة أم لا وإذا فرط المزارع فى نصف فدان فحلف رب الأرض بالطلاق الثلاث ليأخذن عوضه من الزرع الطيب
فأجاب الحمد لله المزارع بثلث الزرع او ربعه او غير ذلك من الأجزاء الشائعة جائز بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين وهو قول محققى الفقهاء
وإذا كان العامل قد فرط حتى فات بعض المقصود فأخذ المالك مثل ذلك من أرض أخرى وجعل ذلك له بحيث لا يكون فيه عدوان لم يحنث فى يمينه ولا حنث عليه والله أعلم 119
____________________
(30/118)
وسئل رحمه الله
عن رجل سلم أرضه إلى رجل ليزرعها ويكون الزرع بينهما بالسوية والبذر من الزارع لامن رب الأرض فهل يجوز ذلك ويكون بينهما شركة او لايجوز
فأجاب الحمد لله هذا جائز فى أصح قولي العلماء وبه مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وغيرهم من أصحابه فإنه قد ثبت عنه فى الصحيح أنه عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع وثمر على ان يعمروها من أموالهم فهذه مشاطرة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم والبذر من العامل لا من رب الأرض وكذلك كان أصحابه بعده يفعلون مثل آل أبى بكر وآل على بن أبى طالب ومثل سعد بن أبى وقاص وعبد الله بن مسعود والذين خالفوا ذلك لهم مأخذان ضعيفان
أحدهما أنهم ظنوا ان المزارعة مثل المؤاجرة
____________________
(30/119)
وليست من باب المؤاجرة فإن المؤاجرة يقصد منها عمل العامل ويكون العمل معلوما بل يشتركان هذا بمنفعة أرضه وهذا بمنفعة بدنه وبقره كسائر الشركاء وأما ما نهى عنه النبى من المخابرة فقد جاء مفسرا فى الصحيح أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة فلهذا نهى عنها ومن اشترط ان يكون البذر من المالك فإنه شبهها بالمضاربة التي يشترط ان يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر وظن ان البذر يكون من رب الأرض وكلاهما مال وهذا غلط فإن رأس المال يعود فى هذه العقود إلى صاحبه كما يعود رأس المال فى المضاربة والأرض فى المزارعة والأرض والشجر فى المساقاة
والعامل إذا بذر البذر وأماته فلم يأخذ مثله صار البذر يجري مجرى المنافع التي لايرجع بمثلها ومن اشترط أن يكون البذر من المالك ولا يعود فيه فقوله فى غاية الفساد فإنه لو كان كرأس المال لوجب ان يرجع فى نظيره كما يقول مثل ذلك فى المضاربة
وسئل رحمه الله
عن رجل له أرض مزروعة وغيرها وجاء من يزرعها له مشاطرة والبذر وسائر ما يلحق الزرع من الأجر حتى إذا أخذ الحصادون
____________________
(30/120)
شيئا أخذ صاحب الأرض مثله ونصف التبن أيضا فهل يجوز ذلك ام لا
فأجاب الحمد لله المزارعة على الأرض بشطر ما يخرج منها جائز سواء كان البذر من رب الأرض او من العامل وهذا هو الصواب الذى دلت عليه سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين فإن النبى عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على ان يعمروها من أموالهم وهذا مذهب أكثر الصحابة والتابعين
وجواز المزارعة على الأرض البيضاء هو مذهب الثوري وبن أبى ليلى وأحمد بن حنبل وأبى يوسف ومحمد والمحققون من أصحاب الشافعى العلماء بالحديث وبعض أصحاب مالك وغيرهم
وكذلك يجوز على أصح القولين فى مذهب أحمد وغيره أن يكون البذر من العامل كما فعل النبى مع أهل خيبر وتشبيه ذلك بمال المضاربة فاسد فان البذر لايعود إلى باذره كما يعود مال المالك
والذي نهى عنه النبى من المخابرة هو أنهم كانوا يعاملون ويشترطون للمالك منفعة معينة من الأرض وهذا
____________________
(30/121)
باطل بالاتفاق كما لو اشترط دراهم مقدرة فى المضاربة او ربح صنف بعينه من السلع والمساقاة والمزارعة والمضاربة ليست من أنواع الإجارة التى يشترط فيها تقدير العمل والأجرة فإن تلك يكون المقصود فيها العمل وإنما هي من جنس المشاركة فإنهما يشتركان بمنفعة بدن هذا ومنفعة مال هذا وهما مشتركان فى المغنم والمغرم
وكان آل أبى بكر يزارعون وآل عمر يزارعون وآل بن مسعود يزارعون وهذا عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى اليوم
وهي كانت فيهم أظهر من كراء الأرض بالدراهم والدنانير فإنها أبعد عن الظلم والغرور وأقرب إلى العدل الذي ثبتت عليه المعاملات وأما مؤنة الحصادين فعلى من اشترطاه إن اشترطا المؤنة عليهما فهي عليهما وان شرطاها على أحدهما فهي عليه وفى الإطلاق نزاع ولهما اقتسام الحب والتبن والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل استأجر أرضا بجزء من زرعها وتسلمها ولم يزرعها فهل للمالك عليه أجرة المثل
____________________
(30/122)
فأجاب الحمد لله هذه مختلف فى صحتها وظاهر المذهب عندنا صحتها ثم سواء سميت إجارة او مزارعة فأحمد يصححها فى غالب نصوصه وسماها إجاره وقال أبو الخطاب وغيره هي المزارعة ببذر العامل وأما القاضي وغيره فصححوها وأبطلوا المزارعة ببذر من العامل وإذا كانت صحيحة ضمنت بالمسمى الصحيح وهنا ليس هو فى الذمة فينظر إلى معدل المغل فيجب القسط المسمى فيه
وإذا جعلناها مزارعة وصححناها فينبغى ان تضمن بمثل ذلك لأن المعنى واحد وإن أفسدناها وسميناها إجارة ففي الواجب قولان
أحدهما أجرة المثل وهو ظاهر قول أصحابنا وغيرهم والثانى قسط المثل وهذا هو التحقيق
وأجاب بعض الناس أن هذه إجارة فاسدة فيجب بالقبض فيها أجرة المثل
____________________
(30/123)
وسئل رضى الله عنه
عما اذا كان من أحدهما ارض ومن آخر حب الخ
فأجاب وكذلك إذا تعاملا بأن يكون من رجل ارض ومن آخر حب او بقر او من رجل ماء ومن رجل حب وعنب ففيه قولان هما روايتان عن أحمد والاظهر جواز ذلك
وكذلك اذا استأجره ليطحن له طحينا بثلثه او ربعه او يخبز له رغيفا بثلثه أو ربعه او يخيط له ثيابا بثلثها او ربعها او يسقى له زرعا بثلثه او ربعه او يقطف له ثمرا بثلثه او ربعه فهذا ومثله جائز في ظاهر مذهب احمد وغيره
وكذلك اذا اعطاه ماءه ليسقى به قطنه او زرعه ويكون له ربعه او ثلثه فإن هذا جائز ايضا سواء كان الماء من هذا وهذا من جنس المشاركة لا من جنس الاجارة وهو بمنزلة المساقاة والمزارعة
والصحيح الذي عليه فقهاء الحديث ان المزارعة جائزة سواء كان البذر من المالك أو من العامل أو منهما وسواء كانت
____________________
(30/124)
أرض بيضاء او ذات شجر وكذلك المساقاة على جميع الاشجار ومن منع ذلك ظن انه اجارة بعوض مجهول وليس كذلك بل هو مشاركة كالمضاربة والمضاربة على وفق القياس لا على خلافه فإنها ليست من جنس الإجارة بل من جنس المشاركات كما بسط الكلام على هذا فى موضعه
وسئل رحمه الله
عمن رابع رجلا صورتها أن الأرض لواحد ومن آخر البقر والبذر ومن المرابع العمل على ان لرب الأرض النصف ولهذين النصف للمرابع ربعه فبقى فى الأرض فما نبت ونبت فى العام الثانى من غير عمل
فأجاب ان كان هذا من الأرض ومن الحب المشترك ففيه قولان ( احدهما ( انه لصاحب الأرض فقط و ( الثاني ( يقسم بينهم على قدر منفعة الأرض والحب وهذا أصح القولين
____________________
(30/125)
وسئل
عن رجل له أرض أعطاها لشخص مغارسة بجزء معلوم وشرط عليه عمارتها فغرس بعض الأرض وتعطل ما فى الأرض من الغرس فهل يجوز قلع المغروس أم لا وهل للحاكم أن يلزمهم بقلعه ام لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين اذا لم يقوموا بما شرط عليهم كان لرب الأرض الفسخ وإذا فسخ العامل او كانت فاسدة فلرب الأرض ان يتملك نصيب الغارس بقيمته إذا لم يتفقا على قلعه والله أعلم
وسئل
عن رجل غرس غراسا فى ارض بإذن مالكها ثم توفى مالكها عنها وخلف ورثة فوقفوا الأرض على معينين فتشاجر
الموقوف عليهم وصاحب الغراس على الأجرة فماذا يلزم صاحب الأرض فأجاب الحمد لله اذا كان الغراس قد غرس باذن المالك
____________________
(30/126)
أو بإجارة وانقضت مدته او كانت مطلقة فعلى صاحب الغراس اجرة المثل تقوم الأرض بيضاء لا غراس فيها ثم تقوم وفيها ذلك الغراس فما بلغ فهو أجرة المثل والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن جندي أقطع له السلطان إقطاعا وهو خراج أرض وتلك الأرض كانت مقطعة لجندي توفى إلى رحمة الله تعالى بعد ان زرعها ببذره وبقره فحكم له الديواني السلطاني ان يأخذ شطر الزر ع وورثة المتوفى شطره بعد ان يأخذ من جملة الزرع نصف العشر ثم يدفع لورثة المتوفى المزارع ربع الشطر الذي له لأن السلطان يأخذ لورثة المتوفى ربع الخراج وله ثلاثة أرباعه فهل تجوز هذه القسمة ويجوز اخذ الخراج على هذه الصورة واذا لم يكن ذلك جائزا فكيف يكون الحكم فيه على مقتضى الشرع الشريف ثم ان أهل الديوان امروه ان يأخذ من ورثته بذر هذه الأرض فى السنة الآتية تكون عنده قرضا بحجة برسم عمارة الإقطاع ويعيده لهم على سنتين فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب هذا الإقطاع ليس إقطاعا بمجرد خراج الأرض كما ظنه السائل بل هو إقطاع استغلال فإن الإقطاع نوعان إقطاع تمليك
____________________
(30/127)
كما يقطع الموات لمن يحييه بتملكه واقطاع استغلال وهو اقطاع منفعة الارض لمن يستغلها إن شاء أن يزرعها وإن شاء أن يؤجرها وإن شاء أن يزارع عليها
وهذا الإقطاع هو من هذا الباب فإن المقطعين لم يقطعوا مجرد خراج واجب على شيء من الأرض بيده كالخراج الشرعي الذي ضربه امير المؤمنين عمر على بلاد العنوة وكالأحكار التى تكون في ذمة من استأجر عقارا لبيت المال فمن اقطع ذلك فقد اقطع خراجا واما هؤلاء فأقطعوا المنفعة
وإذا عرف هذا فإذا انفسخ الإقطاع في اثناء الأمر إما لموت المقطع وإما لغيره واقطع لغيره كانت المنفعة الحادثة للمقطع الثاني دون الأول بحيث لو كان المقطع الأول قد أجر الأرض المقطعة ثم انفسخ إقطاعه انفسخت تلك الإجارة كما تنفسخ إجارة البطن الأول اذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في اصح الوجهين
وإذا كان كذلك فإن كان الإقطاع انتقل في نصف المدة كان للثاني نصف المنفعة وإن كان فى ريعها الماضي كان له ريع المنفعة فإن كان اهل الديوان أعطوا الثاني ثلاثة ارباع المنفعة المستحقة بالإقطاع والأول الربع لكون الثاني قام بثلاثة الأرباع بمائة استحق الإقطاع
____________________
(30/128)
مثل أن يخدم ثلاثة ارباع المدة المستوفية للمنفعة فقد عدلوا فى ذلك
ثم إن المقطع الأول لما ازدرعه بعمله وبذره وبقره وصار بعض المنفعة مستحقا لغيره صار مزدرعا فى أرض الغير لكن ليس هو غاصبا يجوز إتلاف زرعه بل زرعه زرع محترم كالمستأجر وأولى فهنا للفقهاء ثلاثة اقوال
أحدها ان يكون الزرع للمزدرع وعليه اجرة المثل لمنفعة الثانى
والثانى ان يكون الزرع لرب الأرض وعليه ما انفقه الأول على زرعه وهذان القولان معروفان فمن زرع فى ارض غيره بغير إذنه هل الزرع للمزدرع او لرب الارض يأخذه ويعطيه نفقته كما في السنن عن رافع بن خديج ان النبى قال ( من زرع في ارض قوم بغير اذنهم فليس له من الزرع شيء وعليه نفقته ( على القولين والمسألة معروفة
وهذا الثانى مذهب احمد وغيره والاول مذهب الشافعي وغيره والمزدرع في صورة السؤال ليس غاصبا لكن بمنزلة أنه مما يعد زرع فى ارض الغير بغير إذنه فهو كما لو اتجر في مال يظنه لنفسه فبان انه لغيره
وفي هذه المسألة ( قول ثالث ( هو الذي حكم به أهل الديوان
____________________
(30/129)
وهو الذي قضى به عمر بن الخطاب فى نظير ذلك وهو اصح الأقوال فإنه كان قد اجتمع عند ابى موسى الأشعري مال للمسلمين يريد أن يرسله إلى عمر فمر به ابنا عمر فقال إني لا أستطيع أن أعطيكما شيئا ولكن عندي مال أريد حمله إليه فخذاه اتجرا به واعطوه مثل المال فتكونان قد انتفعتما والمال حصل عنده مع ضمانكما له فاشتريا به بضاعة فلما قدما إلى عمر قال أكل العشر اقرهم مثل ما اقركما فقالا لا فقال ضعا الربح كله فى بيت المال فسكت عبد الله وقال له عبيد الله أرأيت لو ذهب هذا المال اما كان علينا ضمانه فقال بلى قال فكيف يكون الربح للمسلمين والضمان علينا فوقف عمر فقال له الصحابة اجعله مضاربة بينهما وبين المسلمين لهما نصف الربح وللمسلمين النصف فعمل عمر بذلك وهذا احسن الأقوال التى تنازعها الفقهاء في مسألة التجارة بالوديعة وغيرها من مال الغير فإن فيها اربعة اقوال فى مذهب احمد وغيره هل الربح لبيت المال بناء على أنه المال
أو الربح للعامل لأن الملك حصل له باشتراء الأعيان فى الذمة ويتصدقان بالربح لأنه خبيث او يقتسما بينهما كالمضاربة
وهذا الرابع الذي فعله عمر وعليه اعتمد من اعتمد من الفقهاء في
____________________
(30/130)
جواز المضاربة
ومسألة المزارعة كذلك ايضا فان هذا ازدراع فى الأرض يظنها لنفسه فتبين انها او بعضها لغيره فجعل الزرع بينهما مزارعة والمزارعة المطلقة تكون مشاطرة لهذا نصف الزرع ولهذا نصفه فلهذا جعل للأول نصف الزرع كالعامل فى المزارعة ويجعل النصف الثاني للمنفعة المقطعة والأول قد استحق ربعها فيجعل له النصف وربع النصف بناء على ما ذكر والثاني ثلاثة ارباع النصف وهذا اعدل الأقوال فى مثل هذه المسألة بل حقيقة الأمر ان المقطع الثاني مخير إن شاء ان يطالب من ازدرع فى ارضه بأجرة المثل وان شاء ان يجعلها مزارعة كما يخير ابتداء واما اذا قيل بأن له اخذ الزرع وعليه نفقة الاول فهذا أبلغ
وقد تضمن هذا الجواب ان المزارعة يجوز ان يكون البذر فيها من العامل وهذا هو الصواب المقطوع به وان سماه بعض الفقهاء مخابرة فانه قد ثبت فى الصحيح ( أن النبي عامل اهل خيبر بشطر ما يخرج من الأرض من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم ( وكذلك أصحاب رسول الله جوزوا ذلك كما كانوا يزارعون كآل أبي بكر وآل عمر وآل علي بن ابي طالب وغيرهم
____________________
(30/131)
والذي نهى عنه النبى من المخابرة انما كانوا يعملونه وهو أن يشترطوا لرب الأرض زرع بقعة بعينها فهذا هو المنهي عنه كما جاء مفسرا في الحديث الصحيح
واما القوة التي تجعل في الأرض فإنها ليست قرضا محضا كما يظنه بعض الناس فإن القرض المطلق هو بما يملكه المقترض فيتصرف فيه كما شاء وهذه القوة مشروطة على من يقبضها ان يبذرها في الأرض ليس له التصرف فيها بغير ذلك فقد جعلت قوة فى الأرض ينتفع بها كل من يستعمل الأرض من مقطع وعامل إذ مصلحة الأرض لا تقوم الا بها كما لو كان فى الأرض صهريج ماء ينتفع به ولهذا يقال من دخل على قوة خرج على نظيرها واذا كان الصهريج ملآن ماء عند دخولك فاملأه عند خروجك
وحقيقة الأمر ان للسلطان ان يشترط على المقاطعة ان يتركوا فى الأرض قوة وهذا من المصلحة واذا كان الأول قد ترك فيها قوة والثانى محتاج اليها فرأى من ولى من ولاة الأمر ان يجعل عطاءها للأول بقسطه بحسب المصلحة كان ذلك جائزا واذا جرت العادة بان من دخل على قوة خرج على نظيرها ومن اعطى قوة من عنده استوفاها مؤجلة كان اقطاع ولي الامر لهذا
____________________
(30/132)
الشرط وذلك جائز فإن الزر ع انما ملكه بالإقطاع وأورث الاول ما استحقه قبل الموت 133
وأما نصف العشر المذكور فلم يذكر وجهه حتى يفتى به وإقطاع ولى الأمر هو بمنزلة قسمته بيت مال المسلمين ليست قسمة الإمام للأموال السلطانية كالفيء بمنزلة قسمة المال بين الشركاء المعينين فإن المال المشترك بين الشركاء المعينين كالميراث يقسم بينهم على صنف منه إن كان قبل القسمة وإلا بيع وقسم ثمنه عند أكثر الفقهاء كمالك وأحمد وأبى حنيفة وتعدل السهام بالأجزاء إن كانت الأموال متماثلة كالمكيل والموزون وتعدل بالتقويم إن كانت مختلفة كأجزاء الأرض وإن كانت من المعدودات كالأبل والبقر والغنم قسمت أيضا على الصحيح وعدلت بالقسمة
وأما الدور المختلفة ففيها نزاع وليس لأحد الشريكين أن يختص بصنف وأما أموال الفيء فللإمام ان يخص طائفة بصنف وطائفة بصنف بل وكذلك فى المغانم على الصحيح ولو أعطى الإمام طائفة إبلا وطائفة غنما جاز وهل يجوز للإمام تفضيل بعض الغانمين لزيادة منفعة على قولين للعلماء أصحهما الجواز كما ثبت عن النبى ( أنه نفل فى بدايته الربع بعد الخمس وفي رجعته الثلث بعد الخمس ( وثبت عنه أنه نفل سلمة بن الأكوع وغيره
____________________
(30/133)
وأما مال الفيء فيستحق بحسب منفعة الإنسان للمسلمين وبحسب الحاجة أيضا والمقاتلة أحق به وهل هو مختص به على قولين
وإذا قسم بين المقاتلة فيجب ان يقسم بالعدل كما يجب العدل على كل حاكم وكل قاسم لكن اذا قدر ان القاسم والحاكم ليس عدلا لم تبطل جميع أحكامه وقسمه على الصحيح الذى كان عليه السلف فان هذا من الفساد الذى تفسد به أمور الناس فإنه قد ثبت عن النبى من الأحاديث الصحيحة التى يأمر فيها بطاعة ولاة الأمور مع جورهم ما يبين أنهم إذا أمروا بالمعروف وجبت طاعتهم وإن كانوا ظالمين فإذا حكم حكما عادلا وقسم قسما عادلا كان هذا من العدل الذى تجب طاعتهم فيه
فالظالم لو قسم ميراثا بين مستحقيه بكتاب الله كان هذا عدلا بإجماع المسلمين ولو قسم مغنما بين غانميه بالحق كان هذا عدلا باجماع المسلمين ولو حكم لمدع بينة عادلة لاتعارض كان هذا عدلا والحكم أمر ونهى وإباحة فيجب طاعته فيه هذا إذا كانت القسمة عادلة
فأما إذا كان فى القسمة ظلم مثل ان يعطى بعض الناس فوق ما يستحق وبعضهم دون ما يستحق فهذا هو الاستيثار الذى ذكره
____________________
(30/134)
النبي حيث قال ( على المسلم السمع والطاعة فى عسره ويسره ومنشطه ومكرهه واثرة عليه مالم يؤمر بمعصية ( وفى الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول الله على السمع والطاعة فى عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وان لا ننازع الأمر أهله وان نقول او نقوم بالحق حيث ما كنا لانخاف فى الله لومة لائم ومعلوم ان هذا ما زال فى الإسلام من ولاة الأمور ومن دخل فى هذه الأمور وإنما يستثنى فى الخلفاء الراشدين ومن اتبعهم
فإذا كان ذلك كذلك فالمعطى إذا أعطي قدر حقه او دون حقه كان له ذلك بحكم قسمة هذا القاسم كما لو قسم الميراث وأعطى بعض الورثة حقه كان ذلك بحكم هذا القاسم وكما لو حكم لمستحق بما استحقه كان له ان يأخذ ذلك بموجب هذا الحكم
وليس لقائل ان يقول أخذه بمجرد الاستيلاء كما لو لم يكن حاكم ولا قاسم فإنه على نفوذ هذه المقالة تبطل الأحكام والأعطية التى فعلها ولاة الأمور جميعهم غير الخلفاء وحينئذ فتسقط طاعة ولاة الأمور إذ لافرق بين حكم وقسم وبين عدمه وفى هذا القول من الفساد فى العقل والدين مالا يخفى على ذى لب فإنه لو فتح هذا الباب أفضى من الفساد إلى ما هو أعظم من ظلم الظالم ثم كان كل واحد يظن
____________________
(30/135)
أن ما يأخذه قدر حقه وكل واحد انما يشهد استحقاق نفسه دون استحقاق بقية الناس وهو لايعلم مقدار الأموال المشتركة وهل يجعل له منها بالقيمة هذا أو أقل والإنسان ليس له ان يكون حاكما لنفسه ولا شاهدا لنفسه فكيف يكون قاسما لنفسه
ومعلوم عند كل أحد ان دخول الشركاء تحت قاسم غيرهم ودخول الخصماء تحت حاكم غيرهم ولو كان ظالما أو جاهلا ( أولى ) من ان يكون كل خصم حاكما لنفسه وكل شريك قاسما لنفسه فان الفساد فى هذا أعظم من الفساد فى الأول
والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهما وهذا من فوائد نصب ولاة الأمور ولو كان على ما يظنه الجاهل لكان وجود السلطان كعدمه وهذا لايقوله عاقل فضلا عن ان يقوله مسلم بل قد قال العقلاء ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان وما أحسن قول عبد الله بن المبارك ** لولا الأئمة لم يأمن لنا سبل ** وكان أضعفنا نهبا لأقوانا ** وأصل هذه المسألة مبسوط بسطا تاما فى غير هذا الموضع وإنما نبهنا على قدر ما يعرف به مقصود الجواب والله أعلم
____________________
(30/136)
وسئل
عن قرية كانت جارية فى إقطاع رجل وأخذت ثم أقطعت لاثنين بعد ان زرع فلاحوها أراضيها من غلة المقطع الأول ثم طلب أحد المقطعين المستجدين ان يقسم حصته من زرعه فهل يجوز ذلك وهل تصح القسمة وهل يجب استمرار الناحية مشاعا إلى حيث يقسم المغل ويتناول كل ذي حق حقه من جميع المغل أو يقسم قبل إدراك المغل
فأجاب إن لم تنقص حصة الشركاء لا فى الأرض ولا فى الزرع فعليهم إجابة طالب القسمة التى ليس فيها ضرر عليهم وإن كان فى ذلك ضرر بنقص قسمة انصبائهم لم يرفع الضرر بالضرر بل إن أمكن انقسام عوض المقسوم من غير ضرر فعل
____________________
(30/137)
وسئل
عن صاحب إقطاع هل له ان يأخذ من الزرع جزءا معينا وهل له إذا شاطره بجزء مشاع وعلم أنهم قد حابوه ان يأخذ زائدا على ذلك ام لا
فأجاب الحمد لله تجوز المزارعة بجزء شائع سواء كان أقل من النصف او أكثر من النصف ولا فرق عند الأئمة الأربعة ونحوهم ان يزارع بالنصف او الثلث او الثلثين ونحو ذلك من الأجزاء الشائعة كثلاثة أخماس وخمسين وقد ثبت جواز المزارعة بسنة رسول الله الصحيحة باتفاق الصحابة وهى أعدل من التسجيل وإذا شرط عليه نصف الزرع فأخذوا زائدا على ذلك فله ان يأخذ منهم بقدر الزائد
____________________
(30/138)
139
وسئل رحمه الله
عن رجل معه دراهم حرام فدفعها إلى والده وأخذ منه عوضها من دراهمه الحلال واشترى منها شيئا يعود منه منفعة إما نتاج الإبل والغنم وإما زرع ارض واستعملها هل هي حرام أم لا
فأجاب متى اعتاض عن الحرام عوضا بقدره فحكم البدل حكم المبدل منه فإن كان قد نمى بفعله نماء من ربح او كسب او غير ذلك ففيه خلاف بين العلماء وأعدل الأقوال ان يقسم النماء بين منفعة المال وبين منفعة العامل بمنزلة المضاربة كما فعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى المال الذى اتجر منه أولاده من بيت المال وهكذا كل نماء بين أصلين إذا بيع الأصل
وأجاب ايضا أعدل الأقوال فى هذه المسألة وشبهها ان يقسط الزرع الحادث من منفعة الأرض والبذر والعامل والبقر على هذه الأصول فيكون قسط الحرام لمن يجب صرفه إليه وقسط الحلال لمن يستحقه كسائر الحادث عن الأصول المشتركة
____________________
(30/139)
وسئل رحمه الله
عن رجل له إقطاع من السلطان فزرعها لفلاح مشاطرة هل يجوز الإشهاد بينهما او ان بعض العدول امتنع من الإشهاد بينهما وهل اذا اشترط على الفلاح مثل دجاج او خراق او نحو ذلك من سائر الأصناف مع رضا الفلاح بذلك هل يجوز ام لا
فأجاب الحمد لله دفع الأرض الملك والإقطاع او غيرها إلى من يعمل فيها بشطر الزرع فيه قولان للعلماء لكن الصواب المقطوع به ان ذلك جائز فإن ذلك إجماع من الصحابة آل أبي بكر وآل عمر وآل علي وعبد الله بن مسعود وسعد بن ابى وقاص وغيرهم وهو عمل المسلمين من عهد نبيهم والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذلك وإنما نهى عن ما إذا اشترط لرب المال زرع بقعة بعينها بل قد عامل اهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع وقد ثبت عنه فى الصحيح انه شرط عليهم ان يعمروها من أموالهم
ولهذا كان الصواب انها تجوز وان كان البذر من العامل بل
____________________
(30/140)
هذه المعاملة أحل من دفع الأرض بالمؤاجرة فإن كلاهما مختلف فيه والإجارة أقرب إلى الغرر لان المؤجر يأخذ الأجرة والمستأجر لا يدري هل يحصل له مقصوده ام لا بخلاف المشاطرة فإنهما يشتركان فى المغنم والمغرم إن أنبت الله زرعا كان لهما وإن لم ينبت كان عليهما ومنفعة ارض هذا كمنفعة بذر هذا كما في المضاربة ولا يجوز فى المشاطرة ان يشترط على العامل شيء معين لا دجاج ولا غيره
وأما الشهادة على ذلك فإنها جائزة ولو كان الشاهد ممن لا يجيزها لأنه عنده مختلف فيه والشاهد يشهد بما جرى لا سيما والمحققون من أصحاب أبي حنيفة والشافعي على تجويزها كما هو مذهب فقهاء اهل الحديث
وسئل
عن مقطع يجمع غلته من الفلاحين وفيها غلة نظيفة وغلة علثة فى ايام القسم وخلطها إلى ايام البذر ثم فرقها عليهم خلال ذلك
فأجاب إذا كانت حنطة بعضهم خيرا من حنطة بعض فليس له أن يخلط ذلك وإن كانت الحنطة سواء وقد احتاج إلى الخلط فلا بأس
____________________
(30/141)
وسئل رحمه الله
عن جندي له أرض خالية فقال له فلاح أنا أزرع لك هذه الأرض والثلثان لي والثلث لك على ان يقوم للجندي بالثلث المذكور بخراج معين وشرط له ذلك ثم إن الجندي أعطى الفلاح المذكور وسق بزر كتان يزرعه فى تلك الأرض المذكورة وتوفي الجندي قبل إدراك المغل فاستولى الفلاح على جميع الزرع ومنع الورثة المبلغ المعين فهل له ذلك والشرط بغير مكتوب
فأجاب ما يستحقه الجندي من خراج او مقاسمة او غير ذلك فإنه ينتقل إلى ورثته وسواء كان الشرط بمكتوب او غير مكتوب ومتى شهد شاهد عدل او مزكى وحلف المدعي مع الشاهد حكم له بذلك
____________________
(30/142)
وسئل
عن رجل لم يكن فلاحا ولا له عادة بزرع فهل يجوز لأحد ان يزارعه من غير اختياره ام لا
فأجاب ليس لأحد أن يكرهه على فلاحة لم تجب عليه فإن ذلك ظلم والله تعالى يقول فيما رواه عنه رسوله ( يا عبادي إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ( بل مثل هذا لا يجوز إكراهه لا في الشريعة المطهرة ولا فى العادة السلطانية
وسئل
عمن يزرع فى أرض مشتركة بغير اذن الشركاء ولا أعلمهم
فأجاب إذا كانت العادة جارية بأن من يزرع فيها يكون له نصيب معلوم ولرب الأرض نصيب فإنه يجعل ما زرعه فى مقدار انصباء شركائه مقاسمة بينهم على الوجه المعتاد والله أعلم
____________________
(30/143)
والله أعلم
وسئل
عمن زارع بعض الشركاء فى الأرض المشاعة فى قدر حقه اذا امتنع الآخرون من الزرع
فأجاب اذا امتنع بعض الشركاء عن الإنفاق الذي يحتاج إليه الزرع جاز لبعضهم أن يزرع في مقدار نصيبه ويختص بما زرعه في قدر نصيبه والله أعلم
وسئل
عن أرض مشتركة بين اثنين طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه فإذن ثم تغيب فزرع الأول فى أقل من حقه فطلب الأول أجرته
فأجاب اذا طلب احد الشريكين من الآخر ان يزرع معه او يهايئه وامتنع الآخر من ذلك فللأول ان يزرع فى مقدار حقه ولا اجرة عليه فى ذلك للشريك لانه تارك لما وجب عليه والأول
____________________
(30/144)
مستوفي لما هو حقه وهو نظير ان يكون بينهما دار فيها بنيان فيسكن فيها أحدهما عند امتناع الأول مما وجب عليه
وسئل رحمه الله
عن امرأة دفعت إلى إنسان مبلغ دراهم ليزرع شركة وقد ذكر أنه زرع ثم بعد ذلك دفع إليها اربعين وذكر انه من الكسب ورأس المال باق ثم دفع لها خمسين درهما وقال هذا من جملة مالك وبقى من الدراهم مائة خارجا عن الكسب فطلبتها منه فقال الأربعون من جملة المائة ولم يبق لك سوى ستين فهل لها ان تأخذ المبلغ وما تكسب شيئا
فأجاب اذا دفعت إليه المال مضاربة واعطاها شيئا وقال هذا من الربح كان لها المطالبة بعد هذا برأس المال ولم يقبل قوله ان تلك الزيادة كانت من رأس المال والله أعلم
____________________
(30/145)
وسئل رحمه الله
عن قرية وقف على جهتين مشاعة بينهما فصرف العامل على أحد الجهتين إلى فلاحيها قدرا معلوما من القمح وغيره برسم الزراعة فزرعه الفلاحون فى الأرض المشتركة ولم يصرفوا بجهة أخرى شيئا وقد طلب أرباب الجهة الأخرى مشاركتهم فيما حصل من البذر الذي صرفه العامل إلى الفلاحين فهل لهم ذلك ام لا وهل القول قول العامل فيما صرفه وادعى أنه مختص بإحدى الجهتين ام لا واذا اختص الريع بأحد الجهتين هل يجو ز لاحد منازعتهم أم لا
فأجاب ليس لأرباب الجهة الأخرى مشار كة أرباب البذر كما يشاركونهم لو بذروا لكن اذا لم يمكن الفلاحين البذر وحده لشيوع الأرض وامتناع الشركاء من المقاسمة والمعاونة فالزرع كله لرب البذر إذا زرع فى قدر ملكه المشاع وإن جعل ما زرع فى نصيب التارك مزارعة من أرباب البذر بالمبذور من الآخر من الأرض والعمل للعامل ويقسم الزرع بينهم كما لو اشتركا فى هذا على ما جرى به العرف فى مثل ذلك اذ العامل ليس بغاصب بل مأذون له عرفا فى الازدراع
____________________
(30/146)
وسئل
عن رجل شارك في قطعة ارض ليزرعها فاخر تحضيرها عن وقت استحقاقه تفريط منه فنقصت بسبب ذلك مقدار النصف فهل للشريك النقص بسبب ما فرط
فأجاب اذا كان الشريك قد فرط في مال شريكه مثل ان يبذره في غير الوقت الذي يبذر مثله او فى ارض ليست على الوصف الذي اتفقا عليه ونحو ذلك كان من ضمان شريكه وأقل ما عليه مثل رأس المال والله أعلم
وسئل
عن عامل لرب الأرض فيها حب من العام الماضي يسمى الزريع عامله على سقيه على ان يكون الثلث بينهما
فأجاب إن هذه معاملة صحيحة ويستحق العامل ما شرط له إذا كان المقصود حصول الزرع بعمله سواء كان العمل قليلا او كثيرا والله أعلم
____________________
(30/147)
وسئل رحمه الله
عمن له في الأرض فلاحة لم ينتفع بها
فأجاب له قيمتها بعد الفسخ حتى يحكم بلزومها او عدمه وليس كعامل المساقاة لعدم الجامع بينهما والفرق ان المعقود عليه فى المساقاة الثمرة وهى معدومة لا العمل فإذا اعرض عن المعقود قبل وجوده لم يستحق منه شيئا وبهذا صرح الأصحاب بأنه بعد وجود الثمرة على استحقاق نصيبه فيها ويلزمه تمام العمل وفى الشركة المعقود عليه المال والعمل فالمال لا بد من وجوده والعمل ان وجد بعضه استحق مع الفساد ولفسخ مؤجر أجرة عمله
____________________
(30/148)
وسئل
عن رجل يزرع من كسبه على بقرة بأرض السلطان او بأرض مقطع ويدفع العشر على الذي له والذي للمقطع فهل يحل له ان يسرق من وراء المقطع شيئا أم لا
فأجاب اذا كان الفلاح مزارعا مثل ان يعمل بالثلث او الربع او النصف فليس عليه ان يعشر الا نصيبه واما نصيب المقطع فعشره عليه
ومن قال إن العشر جميعه على الفلاح والمقطع يستحق نصيبه من الزرع فقد خالف إجماع المسلمين ولكن للعلماء في المزارعة قولان
أحدهما انها باطلة وان الزرع جميعه لصاحب البذر وعليه العشر جميعه ولرب الأرض قيمة الأرض فمن كان من المقطعين يرى العشر كله على الفلاح فتمام قوله ان يعطيه الزرع كله ويطالبه بقيمة الأرض
والقول الثاني وهو الصحيح الذى مضت به سنة رسول الله
____________________
(30/149)
وسنة خلفائه الراشدين وعليه العمل ان المزارعة صحيحه فعلى هذا يكون للمقطع نصيبه وعليه زكاة نصيبه وللفلاح نصيبه وعليه زكاته فإذا كانوا يلزمون الفلاح بالعشر الواجب على الجندي فيؤدي العشر على الجندي من مال الجندي كما يظهر ذلك فإن هذا حق بين لانزاع فيه بين العلماء ليس حقا خفيا ولايمكن الجندي جحده كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لهند ( خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف ( فإن وجوب النفقة للزوجة وللولد حق ظاهر لايمكن أبا سفيان جحده
وهذا مثل قوله ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ( وفى رواية ( إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أفنأخذه فقال أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ( لأن الحق هنا خفى لايفوته الظلم فإذا أخذ شيئا من غير استحقاق ظاهر كان خيانة والله سبحانه أعلم
____________________
(30/150)
& باب الإجارة
سئل شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله
عن رجل أجر رجلا أرضا فيها شجر مثمر بأجرة معلومة مدة معلومة وبياضا لا تساوى الأجرة وانما الأجرة بعضها يوازى البياض وبعضها فى مقابلة الثمرة وكتبا كتاب الإجارة بعقد الإجارة على الأرض مساقاة على الشجر المثمر فهل يصح ذلك ام لا واذا صح فهل يدخل اشجار الجوز المثمر مع كونه مثمرا جميع ما له ثمرة فهل للمؤجر ان يخصص البعض دون البعض مع كونه مثمرا ام لا وهل اذا كان عقد المساقاة بجزء من الثمرة مما تعم به البلوى ورأى بعض الحكام جوازه فهل لغيره من الحكام إبطاله ام لا
فأجاب ضمان البساتين التى فيها ارض وشجر عدة سنين هو الصحيح الذي اختاره بن عقيل وغيره وثبت عن امير المؤمنين عمر بن الخطاب انه ضمن حديقة لأسيد بن الحضير بعد موته ثلاث سنين ووفى بالضمان دينه وهذه كثيرة لا تحتمل الفتيا تقريرها
____________________
(30/151)
فهذه الضمانات التى لبساتين دمشق الشتوية التى فيها أرض وشجر ضمانات صحيحة وإن كان قد كتب فى المكتوب إجارة الأرض والمساقاة على الشجر فالمقصود الذي اتفقا عليه هو الضمان المذكور والعبرة فى العقود بالشروط التى اتفق عليها المتعاقدان والمقاصد معتبرة
فإذا العقد الذي نهى عنه النبي من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها هو بيع الثمر المجرد كما تباع الكروم فى دمشق بحيث يكون السعي والعمل على البائع والضمانات شبيهة بالمؤاجرات
وسئل
عمن اجر بياضا مبلغها اربعة اسهم من مزرعة البستان والمقصبة المستديرة فهل يجوز إيجاره المقصبة فى إيجار بياض الأرض لحصته المذكورة
فأجاب يجوز إجارة منبت القصب ليزرع فيها المستأجر قصبا وكذلك اجارة المقصبة ليقوم عليها المستأجر ويسقيها فمنبت العروق التى فيها بمنزلة من يسقى الأرض لينبت له فيها الكلأ بلا بذر
____________________
(30/152)
وسئل
عن رجل سجل ارضا ليزرعها اول سنة كتانا وثاني سنة فولا فقصد المؤجر ان يأخذ زائدا كونه زرعها كتانا فما يجب عليه
فأجاب ان استأجرها على ان يزرع فيها نوعا من الحبوب لم يكن له ان يزرع ما هو اشد ضررا واذا زرع ما هو اشد ضررا كان للمؤجر مطالبته بالقيمة وإن استأجرها ليزرع فيها ما شاء فله ذلك ولا شيء على المستأجر اذا زرع فيها ما شاء والله أعلم 153
وسئل
عن رجل استأجر أرض بستان وساقاه على الشجر ثم إن الآخر قطع بعض الشجر الذى يثمر فهل يجوز له ان يقطعها قبل فراغ الإجارة وهل يلزم قيمة ثمرتها للمستأجر
فأجاب الحمد لله اذا قطعها نقص من العوض المستحق بقدر ما نقص من المنفعة التى يستحقها المستأجر وهذا وان كان فى اللفظ إجارة
____________________
(30/153)
الأرض ومساقاة الشجر فهو فى المعنى المقصود عوض عن الجميع فان المستأجر لم يبذل العوض إلا ليحصل له مع زرع الأرض ثمر الشجر وقد تنازع العلماء فى صحة هذا العقد وسواء قيل بصحته أو فساده فما ذهب من الشجر ذهب مايقابله من العوض سواء كان بقطع المالك او بغير قطعه والله أعلم 154
وسئل رحمه الله
عمن استأجر أرض بستان من مشارف الأجناس مدة ثم توفي المستأجر وخلف اولادا والأجرة مقسطة فى كل سنة عشرون درهما وقد طلب من أولاد المستأجر المتوفى تعجيل الأجرة بكمالها فهل يلزم الأولاد جميع الأجارة او يأخذ منهم على أقساطها فى كل سنة
فأجاب لايجب على أولاده تعجيل جميع الأجرة والحال هذه لكن اذا لم يثق أهل الأرض بذمتهم فلهم ان يطالبوهم بمن يضمن لهم الأجرة فى أقساطها
وهذا على قول من يقول ان الدين المؤجل لايحل بموت من هو عليه ظاهر وأما على قول من يقول إنه يحل عليه وكذلك هنا على
____________________
(30/154)
الصحيح من قولي العلماء لأن الوارث الذى ورث المنفعة عليه أجرة تلك المنفعة التى استوفاها بحيث لو كان على الميت ديون لم يكن للوارث ان يختص بمنفعة ويزاحم أهل الديون بالأجرة بناء على أنها من الديون التى على الميت كما لو كان الدين ثمن مبيع نافذ بمنزلة ان تنتقل المنفعة إلى مشتر او متهب مثل ان يبيع الأرض او يهبها او يورث فإن الأرض من حين الإنتقال تلزم المشتري والمتهب والولد فى أصح قولي العلماء كما عليه عمل المسلمين فإنهم يطالبون المشترى والوارث بالحكر قسطا لايطالبون الحكر جميعه من البائع او تركة الميت وذلك لأن المنافع لاتستقر الأجرة الا باستيفائها فلو تلفت المنافع قبل الاستيفاء سقطت الأجرة بالإتفاق
ولهذا كان مذهب أبى حنيفة وغيره ان الأجرة لايملك بالعقد بل بالإستيفاء ولا يملك المطالبة إلا شيئا فشيئا ولهذا قال إن الإجارة تنفسخ بالموت والشافعى وأحمد وان قالا تملك بالعقد وتملك المطالبة إذا سلم العين فلا نزاع انها لاتجب الا باستيفاء المنفعة ولا نزاع فى سقوطها بتلف المنافع قبل الإستيفاء
ولا نزاع انها إذا كانت مؤجلة لم تطلب إلا عند محل الأجل فإذا خلف الوارث ضامنا وتعجل الأجل الذى لم يجب الا مؤخرا مع تأخير استيفاء حقه من المنفعة كان هذا ظلما له مخالفا للعدل الذي هو
____________________
(30/155)
مبنى المعاوضة وإذا لم يرض الوارث بأن تجب عليه الأجرة وقال المؤجر أنا ما اسلم إليك المنفعة لتستوفى حقك منها فأوجبنا عليه أداء الأجرة حالة من التركة مع تأخر المنفعة تبين ما فى ذلك من الحيف عليه
وأما إذا كان المؤجر وقفا ونحوه فهنا ليس للناظر تعجيل الأجرة كلها بل لو شرط ذلك لم تجز لأن المنافع المستقبلة إذا لم يملكها وانما يملك أجرتها ما يحدث فى المستقبل فإذا تعجلت من غير حاجة إلى عمارة كان ذلك أخذا لما لم يستحقه الموقوف عليه الآن
وأجاب لايلزم تعجيل الأجرة فى أصح قولي العلماء لاسيما إذا كان المستأجر حبسا فإن تعجيل الأجرة فى الحبس لايجوز إلا لعمارة ونحوها لأن منافع الحبس يستحقها الموقوف عليه طبقة بعد طبقة وكل قوم يستحقون أجرة المنافع الحادثة فى زمانهم فإن تسلفوا منفعة المستقبل كانوا قد أخذوا عوض مالم يستحقوه من الوقف وهذا لايجوز لكن إذا طلب أهل المال من ورثة المستأجر ضمينا بالأجرة فلهم ذلك ويبقى المال فى ذمة الورثة مع ضامن خبير لأهل الوقف من يسكنه مع أنه لو لم يكن وقفا لم يحل بموت المدين
وكذلك على قول من يقول بحلوله في أظهر قوليهم إذ يفرقون بين الإجارة وغيرها كما يفرقون فى الأرض المحتكرة إذا بيعت أو
____________________
(30/156)
ورثت فإن الحكر يكون على المشتري والوارث وليس لهم أخذه من البائع وتركة الميت فى أظهر قوليهم
وسئل
عن رجل استأجر بستانا مدة عشر سنين وقام بقبض مبلغ الأجرة ثم توفي لانقضاء خمس سنين من المدة وبقي فى الإجارة خمس سنين وله ورثة واقاموا ورثة المتوفى بعد مدة سنة من وفاته فهل يجوز للمالك فسخ الإجارة على الأيتام ام لا
فأجاب ليس للمؤجر فسخ الإجارة بمجرد موت المستأجر عند جماهير العلماء لكن منهم من قال ان الأجرة على المستأجر تحل بموته وتستوفى من تركته فإن لم يكن له تركه فله فسخ الإجارة ومنهم من يقول لا تحل الأجرة اذا وثق الورثة برهن او ضمين يحفظ الأجرة بل يوفونه كما كان يوفيها الميت وهذا اظهر القولين والله أعلم
____________________
(30/157)
وسئل رحمه الله
عن أقوام ساكنين بقرية من قرى الفيوم والقرية قريبة من الجبل يرى فيها بعض السنين النصف فلما كان فى هذه السنة كتب على المشايخ إجارة البلدى مدة ثلاث سنين قبل خلو الأرض من الإجارة الماضية وقبل فراغ الأرض من الزرع فهل تصح هذه الإجارة
فأجاب أما إذا كانوا مكرهين على الإجارة بغير حق لم تصح الإجارة ولم تلزم بلا نزاع بين الأئمة
وأما لو كانوا استأجروها مختارين او مكرهين بحق وكانت حين الإجارة فى إجارة آخرين فهذه تسمى الإجارة المضافة كما عليه المسلمون فى غالب الأعصار والأمصار إذ لا محذور فيها يبطل الإجارة كعقد البيع فلا فرق بين ان تكون المنفعة على العقد أولا تكون
وكون المستأجر لايقبض عقيب العقد لايضر فإن القبض يتبع موجب العقد ومقتضاه فإن اقتضى القبض عقيبه وجب قبضه عقيبه وإن اقتضى تأخر القبض وجب القبض حين أوجبه العقد إذ المقبوض
____________________
(30/158)
في العقد ليس مما أوجبه الشارع على صفة معينة بل المرجع فى ذلك إلى ما أوجبا فى العقد ولهذا لو باع نخلا لم تؤبر كان الثمر للبائع عند مالك والشافعي والإمام أحمد كما دلت عليه السنة وكان للبائع أن يدخل لأجل ثمره وإن كان ذلك ينافى القبض التام فلو باع أمة مزوجة كانت منفعة البضع على ملك الزوج لم تدخل فيما يقبضه المشتري لنفسه باتفاق الأئمة الأربعة وكذلك العين المؤجرة عند أكثر العلماء فلهذا صح عند طوائف منهم استيفاء منفعة العين فى البيع والهبة والوقف والعتق وغير ذلك كما اقتضى حديث كما هو مذهب مالك وأحمد
ولهذا لو اقبض العين المؤجرة كانت فى المنفعة مع خراج تصرف المستأجر فيها باقية على ضمان المؤجر فلو تلفت بآفة سماوية كانت من ضمانه باتفاق المسلمين
وكذلك يقول مالك واحمد وغيرهما في بيع الثمار اذا اصابتها جائحة وبالجملة فلا يحرم من العقود الا ما حرمه نص او اجماع او قياس فى معنى ما دل على النص او الإجماع فكل ذلك منتف فى الإجارة المضافة واذا استأجر الأرض وفيها زرع للغير فانه يبقى لصاحبه بأجرة المثل كما تبقى لو لم يؤجر الأرض والله أعلم
____________________
(30/159)
وسئل
عن رجل استأجر حانوتا وقد جاء إنسان زاد عليه فى الحوانيت فقدمه فهل تفسخ إجارة المستأجر الحانوت الواحد ام لا
فأجاب الحمد لله إذا استأجرها من المالك او وكيله او وليه لم يكن لأحد أن يقبل عليه زيادة ولا يخرجه قبل انقضاء مدته وان لم يكن بينهما كتاب ولا شهود بل من قال اذهب اكتب عليك اجارة فاشهد عليه المستأجر بالأجارة ومكنه المؤجر من السكنى فهذه إجارة لازمة والله أعلم 160
وسئل
عن رجل زاد على قوم فى بيت ليسكن فيه فهل يأثم بذلك وهل يجب تعزيره على ذلك فأجاب قد ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( لايحل لمسلم ان يسوم على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ( فإذا
____________________
(30/160)
كان المؤجر قد ركن إلى شخص ليؤجره لم يجز لغيره الزيادة عليه فكيف إذا كان ساكنا فى المكان مستمرا فمن فعل ذلك استحق التعزير والله أعلم 161
وسئل
عن رجل استأجر دارا بجواره رجل سوء فراح المستأجر إلى المؤجر وقال له ما أرتضى به ان يكون جوارى اما ان تنقله او تعطينى أجرتى فقال له انا انقله فى هذا النهار فحلف المستأجر بالطلاق الثلاث متى لم ينتقل الجار فى هذا النهار والا ما أسكن الدار فلم ينقل المستأجر من الدار فطلب الاجارة فلم يعطه الإجارة
فأجاب إذا كان الأمر على ما ذكر فمثل هذا عيب فى العقار وإذا لم يعلم به المستأجر حال العقد فله ان يفسخ الإجارة ولا أجرة عليه من حين الفسخ والله أعلم
____________________
(30/161)
وسئل رحمه الله
عن رجل له ملك يستحق كراه خمسة دراهم يعطى المكترين دراهم تقوية ويزيدون فى الكرى هل يجوز ذلك ام لا
فأجاب اذا اقرضه عشرة على ان يكترى منه حانوته بأجرة اكثر من المثل لم يجز هذا باتفاق المسلمين بل لو قرر بينهما من غير شرط كان ذلك باطلا منهيا عنه عند أكثر العلماء كماثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان فى بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ( قال الترمذى حديث صحيح
فنهى صلى الله عليه وسلم ان يبيعه ويقرضه لأنه يحابيه فى البيع لأجل القرض فكيف اذا شارطه مع القرض ان يستأجر ويحابيه وليس عنده وإن كان الغريم معسرا انظر إلى ميسرة قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }
____________________
(30/162)
وسئل
عن جندي له إقطاع فألزمه إنسان ان يؤجره فآجره على سبيل الغصب بمائتى درهم ثم اظهر أنه يساوي أربعة آلاف درهم فهل يصح هذا الإيجار ام لا
فأجاب الحمد لله إن كان قد أكرهه بغير حق على الإجارة لم يصح وان كان قد دلس عليه فله فسخ الإجارة والله أعلم
وسئل
عمن جبى لإنسان دراهم كل الف بستة دراهم وعرف الناس وعادتهم اثنا عشر درهما وقد غرم فيها بجبايتها وهومغرور بالشرط
فأجاب اذا كان المستأجر قد دلس على المؤجر وغره حتى استأجر بدون قيمة المثل مما لا يتغابن الناس بمثله فله ان يطالبه بأجرة المثل
____________________
(30/163)
وسئل
عن رجل اجر رجلا عقارا مدة وفى اواخر المدة زاد رجل فى اجرتها فأجره فعارضه المستأجر الأول وقال هذه فى إجارتى هل له ذلك
فأجاب اذا كان قد اجر المدة التى تكون بعد إجارة الأول لم يكن للأول اعتراض عليه فى ذلك والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل له حوانيت وبها أقوام ساكنون من غير إجارة من المالك وفى هذا الوقت زاد اقوام على الساكنين بالحوانيت زيادة متضاعفة فهل يجوز للمالك إجارتهم وقبول الزيادة
فأجاب ان كانوا غاصبين ظالمين قد سكنوا المكان بغير اذن المالك فإخراج مثل هؤلاء لايحتاج إلى زيادة بل يجب عليهم ان يخرجوا قبل حصول الزيادة وللمالك ان يخرجهم قبل الزيادة ولا
____________________
(30/164)
يحل للمالك ان يطالبهم بأجرة مسماة بل انما عليهم اجرة المثل
وإن كان المؤجر ناظر وقف أو يتيم كان بإقراره لهم مع إمكان إخراجهم ظالما معتديا وذلك يقدح فى عدالته وولايته 165
وأما ان سكنوا على الوجه الذى جرت به العادة فى سكنى المستأجرين مثل أن يجيء إلى المالك فيقول أجرني المكان الفلاني بكذا فيقول اذهب فأشهد عليك ويشهد على نفسه المستأجر دون المؤجر ويسلم إليه المكان وإذا أراد الساكن ان يخرج لم يمكنه صاحب المكان فهذه إجارة شرعية ومن قال إن هذه ليست إجارة شرعيه وليس للساكن ان يخرج إلا بإذن المالك والمالك يخرجه متى شاء فقد خالف إجماع المسلمين فإن الإجارة إن كانت شرعية فهي لازمة من الطرفين وإن كانت باطلة فهي باطلة من الطرفين ومن جعلها لازمة من جانب المستأجر جائزة من جانب المؤجر فقد خالف إجماع المسلمين
ومتى كان المؤجر ناظر وقف أو مال يتيم يسلمه إلى الساكن وأمره أن يكتب عليه إجارة وطالبه بمكتوب الإجارة والأجرة المسماة وقال مع هذا 165 إنى لم أوجره إجارة شرعية كان ذلك قادحا فى عدالته وولايته فإن الفقهاء لهم فى الإجارة الشرعية قولان أحدهما 166
____________________
(30/165)
أنها تنعقد بما يعده الناس إجارة حتى لو دفع طعامه إلى طباخ يطبخ بالأجرة أو ثيابه إلى غسال يغسل بالأجرة او نساج او خياط او نحوهم من الصناع الذين جرت عادتهم انهم يصنعون بالأجرة يستحقون أجرة المثل وكذلك لو دخل حماما أو ركب سفينة او دابة كما جرت العادة بالركوب على الدواب والمراكب المعدة للكرى فإنه يستحق أجرة المثل فكيف إذا قال أجرنى بكذا فقال اذهب فاكتب إجارة فكتبها وسلم إليه المكان فهذه إجارة شرعية عند هؤلاء وهذا قول أكثر الفقهاء كمالك وأبى حنيفة والإمام أحمد وغيرهم
والقول الثاني أنه لابد من الصفة فى ذلك كما قيل مثل ذلك فى البيع كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعى فمن كان يعتقد هذا فعليه ان لايوجب أجرا إلا على هذا الوجه فمن اعتقد ان الأجرة لاتصح إلا على هذا الوجه وأجره على الوجه المعتاد وسلم المكان وطالب بالأجرة المسماة ثم عند الزيادة يدعى عدم الاجارة لم يقبل منه فإن هذا ظلم فإنه اذا التزم مذهبا كان عليه ان يلتزمه له وعليه واما ان يكون عند الذى له يعتقد صحة الإجارة وعند الذى عليه يعتقد فسادها فهذا غير مقبول ولا سائغ بإجماع المسلمين ومن أصر على مثل ذلك فهو ظالم باتفاق المسلمين بل هو فاسق مردود الشهادة والولاية
____________________
(30/166)
وسئل رحمه الله
عن رجل مستأجر ارضا بجواره فلما سافر اشترى إنسان الدار التى بجوار الأرض الذى هو مستأجرها فبناها وأدخلها فى داره فما يجب
فأجاب ليس له أن يستولي على الأرض المستأجرة مع غيرها ولا يدخلها فى داره بل هو بذلك غاصب ظالم والمستأجر بالخيار بين ان يفسخ الإجارة بهذا السبب وتسقط عنه الأجرة وبين أن يمضى فى الاجارة ويطالب الغاصب بأجرة ما انتفع به من الأرض وهو مخير بين أن يبقى بناؤه فيها وبين ان ينزله إن كان مما دخل فى عقد إجارته فإن لم يدخل فى عقد إجارته لم يتصرف فيها إلا بإذن المالك والله أعلم
____________________
(30/167)
وسئل
عن رجل وكل رجلا على أنه يستأجر له ويؤجر عنه ويبيع عنه ويبتاع له فاستأجر لموكله حصة بقرية مدة معلومة إجارة صحيحة لازمة فقايله مدة الإيجار من غير ان يكون الموكل وكله فى المقايلة فهل هذه المقايلة صحيحه وهل الإيجار باق على أصله الصحيح يستحقه للموكل ويستحق المؤجر الإجارة والحال هذه
فأجاب الحمد لله إذا تعذر استيفاء المستأجر الأجرة التى يستحقها فله فسخ الإجارة كما إذا تعذر استيفاء المشترى الثمن إذا طلب الفسخ والحال هذه وإجارة المستأجر للوكيل قد كان فعل ما وجب عليه وليس هذا من المقايلة الجائزة التى تفتقر إلى إذن الموكل والله أعلم
____________________
(30/168)
وسئل
عن جماعة بيدهم إقطاع وفى الإقطاع أرض عاطلة وأذنوا لشخص أن يؤجرها فأجرها مدة ثلاثين سنة ولم يشاور الوكيل المقطعين على الثلاثين سنة فهل تجوز هذه الإجارة أم لا
فأجاب لاتصح هذه الإجارة الا إذا كانت باذن المقطعين او ما يقتضي الإذن فيها فأما مجرد الإذن فى الإجارة مطلقا الذي يقتضي فى العرف سنة أو سنتين او نحو ذلك فلايفهم منه الإذن فى هذه المدة الطويلة فلا تصح الإجارة بمجرده 169
وسئل
عن رجل بيده إقطاع يشهد به منشوره وانه ضمن بعض نواحي الإقطاع لمن يزرعها وينتفع بها مدة معينة ثم انتقل الإقطاع الذى بيده إلى غيره فهل يصح الإيجار الأول وهل اذا صح يصح الإيجار على المقطع الثانى أو يفسخ وهل للمقطع ان يمنع المؤجرين الإنتفاع
____________________
(30/169)
فأجاب الحمد لله نعم يصح الإيجار الأول لكن ( إن شاء ) المقطع الثانى أمضاه بل من حين اقطعها صارت له فإن شاء اجرها لذلك المستأجر وإن شاء لم يؤجره فإن كان للمستأجر فيها زرع ابقاه بأجرة المثل إلى حين كماله وان لم يكن فيها لا عين ولا منفعة فلا شيء له
وسئل رحمه الله
عن رجل له إقطاع فحضر إليه شخص وطلب إيجار الطين منه فأجره طينة للشخص المذكور من غير ان يكشف طينة وسأل عنه وكان المستأجر ذكر للآخر ان لم تؤجر طينك وإلا يبور فخشي الجندي من بوران الطين فأجره من غير ان يكشف ثم حضر شخص آخر من اهل الناحية وعرف الجندي ان المستأجر استأجر طينك بدون القيمة فإن الشركة طينهم مسجل بأكثر من هذه القيمة فهل يجوز للجندى ان يفسخ الإجارة المكتبية ويؤجر لغيره بقيمته سنة أم لا
فأجاب الحمد لله اذا كان المستأجر قد دلس على المؤجر مثل أن يكون قد اخبره عنه بما ينقص قيمته ولم يكن الأمر كذلك فللمؤجر فسخ الإجارة
____________________
(30/170)
وكذلك ان اخبره بأنه ليس هناك من يستأجره وكان له هناك طلاب وامثال ذلك والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن جندى استأجر طينا من امير وانتقل عن الإقطاع واختار المستأجر الفسخ عن الإجارة وجاء الأمير المستجد وطلب منه التحضير فهل يلزمه ذلك
فأجاب اذا انتقل الاقطاع إلى آخر انفسخت الإجارة من حين انتقاله فإن المنفعة الحادثة بعد ذلك لم تكن ملكا للأول ولا للثاني
والمقطع ان شاء يؤجر وان شاء لا يؤجر والمستأجر إن شاء استأجر منه وإن شاء ان لا يستأجر منه ليس لواحد منهما إلزام الآخر لا بإجارة ولا له إلزامه بتحضير
____________________
(30/171)
وسئل
عن رجل استأجر ارضا ثم حدثت مظلمة على البلد وطلبوا منه ان يغرم في المظلمة فهل يلزم المستأجر شيء ام لا
فأجاب المظالم لا تلزم هذا ولا هذا لكن اذا وضعت على الزرع اخذت من رب الزرع وان وضعت على العقار اخذت من العقار اذا لم يشترط على المستأجر فإذا كان ما اشترط لم يدخل فيما اشترط على المستأجر وقد وضع على العقار دون الزرع اخذت من رب الأرض وإن وضع على الزرع أخذ من المستأجر وإن وضع مطلقا رجع فى ذلك إلى العادة فى مثله
وسئل رضى الله عنه
عن امير دخل على بلد وهى مستأجرة لشيخها وبعض الأرض مشغولة بزراعة اقصاب والأقصاب مستمرة فى عقد إيجار المستأجر من قبل دخول الأمير على الإقطاع والى حين انفصاله فهل إذا
____________________
(30/172)
كانت أرض الأقصاب مستمرة فى عقد ايجار المستأجر قبل الدخول والى حين الخروج يبطل حكم الإيجار او يستمر حكمه
فأجاب ايجار المقطع للأرض يصح وله أن يؤجرها لمن يزدرعها قصبا وغير قصب وكذلك للمستأجر منه ان يؤجرها لغيره بحكم ما استأجرها
وإذا مات ذلك المقطع او اقطع اقطاعه فالمقطع الثانى لا يلزمه إجارة الأول وليس له ان يقلع ما للمستأجر فيها من الزرع والقصب مجانا بل هو مخير ان شاء ان يبقي زرعه وقصبه بأجرة مستأنفة بمثل الأجرة الأولى او اقل او اكثر كما يتراضيان به لكن ليس له ان يلزم المستأجر بأكثر من اجرة المثل
وإذا استأجرها صاحب القصب والزرع صحت الإجارة فإنه يتمكن من الإنتفاع بها ولو استأجرها غيره جاز على الصحيح وقام غيره فيها مقام المؤجر إن شاء أن يبقى زرعه وقصبه بأجرة المثل وإن شاء ان يؤجره إياها برضاه والله أعلم
____________________
(30/173)
وسئل رحمه الله
عمن له قيراط فى بلد فأجره لشخص بمائة إردب وستين إردبا بناقص عن الغير بثمانين إردبا وذلك قبل ان يشمله الري فهل تصح الإجارة قبل شمول الري وهل له ان يطلب القيمة
فأجاب إذا كانت هذه البلاد مما تروى غالبا صحت إجارتها عند عامة الفقهاء قبل أن يروى وإنما النزاع فى مذهب الشافعي فظاهر مذهبه جواز إجارة ذلك كمذهب سائر الأئمة وما يوجد فى بعض كتبه من إطلاق العقد قد فسره أئمة مذهبه رضى الله عنهم وما زالت أرض مصر تؤجر قبل شمول الري فى أعصار السلف والأئمة وليس فيهم من انكر بسبب تأخره واذا طلب الزيادة فليس له الا الأجرة المسماة وإن كان غره فذاك شيء آخر ليبينه السائل حتى يجاب عنه
____________________
(30/174)
وسئل
عن شخص اجر ارضا جارية فى اقطاعه مدة ثم إن المستأجر تسلم الأرض وتسلم المؤجر بعض الأجرة واخذ ما دفعه من الأجرة إلى المؤجر وقطع الأجارة ثم إنه ذكر بأنه حرث بعض الأرض فألزم المؤجر بأجرة الحراثة فهل يستحق المؤجر مثل اجرة الحرث بمجرد قول المستأجر ام لا وهل يفسخ المؤجر بغير مستند شرعى
فأجاب اما اذا كان المستأجر فسخ الإجارة بعد استيلائه على الأرض فإن كانا قد تقايلا الإجارة او فسخها بحق فعليه من الأجرة بقدر ما استولى على الأرض وله قيمة حرثه بالمعروف
وسئل رحمه الله
عن ناظر وقف او مال يتيم هل يجوز له أن يسلم المكان من الوقف أو مال اليتيم لمن يسكنه بغير إجارة شرعية واذا اشهد احدا على نفسه أنه استأجر من مباشر الوقف مكانا معينا مدة معينة
____________________
(30/175)
بأجرة مسماه وسلم الإجارة للمباشر وتسلم منهم المكان وسكنه مدة وطالبوه بالأجرة المسلمة فهل للناظر ان يجعل هذه الإجارة لازمة من جهة المستأجر غير لازمة من جهة نفسه ونوابه يمنع بها المستأجر من الخروج اذا اراد الخروج ويطالبه بالأجرة المسماة فيها وتقبل عليه الزيادة متى حصلت ممن زاد عليه واذا لم يكن ذلك جائزا واصر الناظر على ذلك هل يكون ذلك قادحا فى عدالته وولايته وهل يجب عليه ان يؤجر الوقف او مال اليتيم اجارة صحيحة ام لا
فأجاب ليس له تسليم الوقف ولا مال اليتيم ولا غيرهما مما يتصرف ( فيه ) بحكم الولاية إلا بإجارة شرعية لا يجوز تسليمه إليه بإجارة فاسدة بل وكذلك الوكيل مع موكله ليس له ان يسلم ما وكل فى اجارته الا بإجارة شرعية وليس للناظر ان يجعل الإجارة لازمة من جهة المستأجر جائزة من جهة المؤجر فإن هذا خلاف اجماع المسلمين بل ان كان ممن يعتقد صحة الإجارة والبيع ونحوهما بما جرت به العادة كما هو قول الجمهور جاز له ان يسلمه بما هو اجارة فى العرف وان كان لا يرى صحة البيع والإجارة ونحوهما الا باللفظ كان عليه ان لا يسلمها الا اذا اجرها كذلك كان عليه ان لا يسلم ما باعه من مال اليتيم وغيره الا اذا باعه بيعا شرعيا
فمن اعتقد جواز بيع المعاطاة سلمه بهذا البيع وهذا هو القول
____________________
(30/176)
الذي عليه جمهور الأئمة وعليه عمل المسلمين من عهد نبيهم والى اليوم ومن كان يعتقد انه لا يصح بيع وانه لا بد من الصيغة من الجانبين لم يكن له مع وجود هذا الاعتقاد ان يسلم مال اليتيم الا بعقد صحيح كالإجارة والبيع ونحوهما من العقود التى يجوزها الجمهور بدون اللفظ وبعض العلماء لا يجوزها الا باللفظ يجب فيها على كل من اعتقد ان يعمل بموجب اعتقاده له وعليه ليس لأحد ان يعتقد احد القولين فيها له والقول الآخر فيها عليه كمن يعتقد انه اذا كان جارا استحق شفعة الجوار واذا كان مشتريا لم يجب عليه شفعة الجار او اذا كان من الإخوة للأم فى المسألة المشركة الحمارية يسقط ولد الأبوين واذا كان هو من الإخوة للأبوين استحق مشاركة ولد الأم واذا كان هو المدعى قضى له برد اليمين واذا كان هو الطالب حكم له بشاهد ويمين وامثال ذلك كثير فليس لأحد ان يعتقد فى مسألة نزاع مثل هذا باتفاق المسلمين
فإن مضمون هذا ان يحلل لنفسه ما يحرمه على مثله ويحرم على مثله ما يحلله لنفسه ويوجب على غيره الذى هو مثله ما لا يوجبه على نفسه ويوجب لنفسه على غيره ما لا يوجبه لمثله
ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام بل ومن كل دين ان هذا لا يجوز ومن اعتقد جواز هذا فهو كافر بل من اعتقد صحة
____________________
(30/177)
بيع المعاطاة ونحوه من الإجارات التى يعدها اهل العرف بيعا وإجارة اعتقد أن هذا العقد صحيح منه ومن غيره ومن اعتقده باطلا اعتقده منه ومن غيره
فالمؤجر الناظر ان اعتقد احد القولين التزمه له وعليه فإن اعتقد بطلان هذا العقد لم يجز له ان يسلم المؤجر ولا يطالب بالأجرة المسماة ولا المستأجرين من الخروج وكان بمنزلة من سلم العين الى الغاصب فما تلف تحت يد المستولي كان عليه ضمانه كما لو سلم ماله بعقد فاسد يعتقد هو فساده وان اعتقد صحة هذا العقد كان له تسليم العين والمطالبة بالأجرة المسماة ولم يكن له ان يقبل زيادة على المستأجر ولا يخرجه قبل انقضاء الأجرة من غيرسبب شرعى يوجب الفسخ
ومتى اصر الناظرعلى ان يجعله فاسدا بالنسبة إلى المستأجر صحيحا بالنسبة إليه غير لازم بالنسبة إلى المستأجر فإنه ظالم جائر وذلك قادح فى ولايته وعدالته وعليه ان يؤجر ما يؤجره اجارة صحيحة وليس له باتفاق المسلمين ان يؤجر اجارة يعلم انها غير صحيحة والله اعلم
____________________
(30/178)
وسئل رحمه الله
عن رجل عليه حصة وقف وعليه دين لشخص فأجره الضيعة وقاصصه بدينه المذكور عليه ثلاث سنين وهو شرط مذهب الواقف وعليه دين آخر لرجل آخر فاعتقله فى حبس السياسة مدة إلى ان هلك من السجن وحلف انه ما يخرجه حتى يضمنه الحصة فما وجد من الحبس والتهديد ضمنه الحصة المذكورة وهو ضامن حصة اخرى فاستولي عليها من اول المدة ومدة الإيجار خمس سنين ومبلغ الدين واحد فهل يعمل بالإيجار الاول التى هي شرط الواقف واغلى قيمة ام بالثانية التى هي كره وإجبار ودون القيمة وغير شرط الواقف واذا كان قد اخذ منها مغلات يرجع على المستأجر الأول ام لا واذا كان قد فرغ مدة الأول لمن يكون ولاية الإيجار
فأجاب الحمد لله اذا كان قد اجره اجارة صحيحة كانت اجارته تلك المدة او بعضها قبل انقضاء مدة هذه الإجارة إجارة باطلة سواء كانت باختيار المؤجر او كان قد اكره عليها وكان هذا المستأجر ظالما بوضع يده عليها واستغلالها وكان للمستأجر الاول الخيار بين ان يفسخ
____________________
(30/179)
الإجارة وتسقط عنه الأجرة من حين الفسخ وبين ان يضمنها فيؤدى الاجرة ويطالب هذا الظالم بعوض المنفعة
وسئل
عن دار وقف على صغير ورجل بالغ وقد اجرها ابو الواقف بالإكراه والإجبار من رجل له جاه منذ اربعين سنة فهل تصح اجارة الأب على ابنه البالغ وقد رآه مكرها وعليه الترسيم فأراد الابن خلاصه من يد الظالم الذى اكره على الإيجار فأشهد على نفسه بإمضاء الإجارة فهل يصح هذا الإشهاد وهل تصح اجارة اربعين سنة
فأجاب اذا اكره على الإيجار بغير حق او اكره بغير حق على تنفيذها لم يصح فان المكره بغير حق لا يلزم بيعه ولا اجارته ولا انفاذه باتفاق المسلمين
وأما إجارة الوقف هذه المدة ففيها نزاع بين العلماء كما فى مذهب ابى حنيفة والشافعى 181
____________________
(30/180)
وسئل رحمه الله
عن ايتام لهم نصيب فى ملك فأجره الوصي للشركة مدة ثلاث سنين بدون قيمة المثل فما الحكم فأجاب الحمد لله متى أجره الوصي بدون أجرة المثل كان ضامنا لما فوته على اليتيم ولم تكن الإجارة لازمة لليتيم بعد رشده بل هي باطلة منفسخة فى أحد قولي العلماء وفى الآخر له ان يفسخها
ثم ان كان المستأجر لم يعلم تحريم ما فعله الوصي كان له ان يضمنه ما لم يلتزم ضمانه وإن علم استقر الضمان عليه بل لو أجره بأجرة المثل مثل هذه المدة التى يعلم الوصي أنه يبلغ فى أثنائها فأكثر العلماء يجوزون لليتيم الفسخ والله أعلم
____________________
(30/181)
وسئل
عن رجل استأجر ثم احدث بعد حماما بجانب الدار يحصل من الماء الناموس وزوجته أسقطت من رائحة الدخان فهل يفسخ الإجارة
فأجاب إذا لم يكن المستأجر يعلم بأن هذه الحمام إذا أديرت يحصل من إدارتها الضرر الذى ينقص قيمة المنفعة فى العادة فله فسخ الإجارة والقول قوله فى عدم العلم مع يمينه والله أعلم
وسئل
عن اقطاع مسجل تقاوى على المقطع كل فدان بثلاثة أرادب وثلاثة دراهم والبقر من المستأجرين هل يجوز ذلك ام لا
فأجاب اذا كانت الضريبة ومؤجرها يؤجرها بها سواء كان الفلاح يقترض او لم يكن ولم يرد الضريبة لأجل القوة فهذا جائز فإن القرض لم يجر به منفعة وإن كان بعض العلماء كره ذلك وجعله من القرض الذى يجر منفعة إذ بالقوة يستأجرها الفلاح لكن هذه منفعة
____________________
(30/182)
للاثنين وإذا لم يزد الأجرة لأجل القوة فقد أحسن ولا فرق بين ان يسمى اجارة او مسجلا فالجميع سواء 183
وسئل
عمن استأجر أجيرا يعمل فى بستان فترك العمل حتى فسد بعض البستان فهل يستحق الأجرة او يضمن أم لا
فأجاب لاريب أنه إذا ترك العمل المشروط عليه لم يستحق الأجرة وإن عمل بعضه أعطى من الأجرة بقدر ما عمل وإذا تلف شيء من المال بسبب تفريطه كان عليه ضمان ما تلف بتفريطه والتفريط هو ترك ما يجب عليه من غير عذر
وسئل
عن دابة أيما أفضل ينقل الناس بلا أجرة او يأخذ الأجرة ويتصدق بها
فأجاب إن كانوا فقراء فتركه لهم أفضل وإن كانوا أغنياء وهنالك محتاج فأخذه لأجل المحتاج أفضل
____________________
(30/183)
وسئل رحمه الله
عمن أجر أراضى بيت المال لأقوام معينين فى إيجار كل واحد فى إجارة قدر معلوم بدرهم معلوم وزرعت الأراضى أنشابا وان الأراضى المستأجرة فيها زائد مع المستأجر بخارج عما يشهد به الإيجار فهل يجوز اعتبار الأراضي وإخراج الزائد لبيت المال فأجاب مازرعوه زائدا عما يستحقونه بالإجارة فزرعهم بأجرة المثل فمتى استعملوا الزائد كان عليهم اجرة المثل باتفاق المسلمين وإن لم يستعملوه فهل لرب الأرض قلعه بما انفقوه على قولين مشهورين للعلماء
وإن اختار ابقاءه والمطالبة بأجرة المثل فله ذلك بالإتفاق
____________________
(30/184)
وسئل رحمه الله
عمن استأجر مكانا من مباشريه مدة معينة بأجرة معينة ولو أراد الإقالة ما أقالوه الا بانقضاء المدة فهل لهم ان يقبلوا عليه زيادة قبل ان تنقضى مدة الإجارة
فأجاب إن كانت صحيحة فهي لازمة من الطرفين باتفاق المسلمين وليس للمؤجر ان يخرج المستأجر لأجل زيادة حصلت عليه والحال هذه ولا يقبل عليه زيادة والحال هذه باتفاق الأئمة
وإن كانت الإجارة فاسدة لم يجز لناظر الوقف ان يمكن المستأجر من تسلم المكان بمثل هذه الإجارة ولا له أن يمنعه من الخروج اذا أراد ولا يملك ان يطالبه بالأجرة المسماة فى العقد وكان دخول الناظر فى مثل ذلك قادحا فى عدالته وولايته فإنه يجب عليه باتفاق الأئمة ان لايؤجر المكان الا اجارة صحيحة فى الشرع ويجب عليه باتفاق الأئمة إذا اجره كذلك ان لايقبل عليه الزيادة على المستأجر ولا يخرجه لأجلها
وأما الذى زاد على المستأجر فلو زاد عليه بعد ركون المؤجر
____________________
(30/185)
إلى إجارته لكان قد سام على سوم أخيه ولو زاد عليه بعد العقد وامكان الفسخ فهو مثل الذى يبيع على بيع أخيه وكلاهما حرام بنص رسول الله وهو مذهب الأئمة الأربعة فكيف إذا زاد عليه مع وجود الإجارة الشرعية فإن هذا الزائد عاص آثم ظالم مستحق للتعزير والعقوبة ومن أعانه على ذلك فقد أعانه على الإثم والعدوان واشهاد المستأجر على نفسه دون إشهاد المؤجر لا أثر له فى ذلك فإن العقد لايفتقر إلى إشهاد بل يصح بدون الشهادة
وقول الناظر له أشهد على نفسك مع اشهاد المستأجر هو إجارة شرعيه بل بعد قول الناظر له اشهد على نفسك ليس لأحد ان يزيد عليه وعلى الناظر ان لايؤجرها حتى يغلب على ظنه أنه ليس هناك من يزيد عليه وعليه ان يشهر المكان عند أهل الرغبات الذين جرت العادة باستئجارهم مثل ذلك المكان فإذا فعل ذلك فقد آجره المثل وهى الإجارة الشرعية
فإن حاباه بعض أصدقائه او بعض من له عنده يد او غيرهم فأجره بدون أجرة المثل كان ظالما ضامنا لما نقص أهل الوقف من أجرة المثل ولو تغيرت أسعار العقار بعد الإجارة الشرعية لم يملك الفسخ بذلك فان هذا لاينضبط ولا يدخل فى التكليف والمنفعة بالنسبة إلى الزمان قد تكون مختلفة لامماثلة فتكون قيمتها فى الشتاء
____________________
(30/186)
أكثر من قيمتها فى الصيف وبالعكس ومن استأجره حولا فإنه يحتمل الزيادة فى زمان بعض الكرى لأجل مايحصل من ارتفاعه فى الزمان الآخر فليس لأحد ان يزيد عليه من ارتفاع سعر ذلك المكان ولو قدر ان الإجارة انفسخت فى بعض الأزمنة لبسطت القيمة فى مثل ذلك بالقيمة لا بأجزاء الزمان فيقال كم قيمته فى وقت الصيف ويقسم الأجرة على وقت القيمة ويحسب لكل زمان من الأجرة بقدر قيمته
والواجب على الناظر ان يفعل مصلحة الوقف فى اجارة المكان مسانهة أو مشاهرة او موايمة فان كانت المصلحة ان يؤجره يوما فيوما وكلما مضى يوم تمكن المستأجر من الإخلاء والمؤجر من أمره به فعل ذلك وإن كانت المصلحة ان يؤجره مشاهرة وعند رأس الشهر يتمكن المستأجر من الاخلاء والمؤجر من امره به فعل ذلك وأما إن كانت المصلحة مسانهة فقد فعل ماعليه وليس له ان يخرجه قبل انقضاء مدة الإجارة لأجل الزيادة وما ذكره بعض متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعى والإمام ( أحمد ) من التفريق بين ان تكون الزيادة بقدر الثلث أو أقل فهو قول مبتدع لا أصل له عن أحد من الأئمة لا الشافعى ولا أحمد ولا غيرهما لا فى الوقف ولا في غيره
____________________
(30/187)
وسئل رحمه الله
عمن استأجر حانوتا من مباشري الأوقاف مدة معينة بأجرة معينة وتسلم الحانوت وانتفع به وقبضوا منه ما استحق لهم من الأجرة ولو أراد الإقالة ما أقالوه إلا بانقضاء المدة فهل لهم ان يقبلوا عليه زيادة ممن زاد عليه قبل ان تنقضى مدة إجارته ام لا
فأجاب ليس لهم ان يقبلوا الزيادة عليه والحال هذه سواء كان هذا وقفا أو ملك يتيم او غير ذلك
ومن استجاز أن يقبل الزيادة ولا يمكن المستأجر الخروج إذا اراد فقد خالف إجماع المسلمين فإن الإجارة إن كانت فاسدة او غير جائزة كان لكل من المؤجر والمستأجر تركها وإن كانت صحيحة لازمة لم يكن لواحد منهما فسخها بغير سبب يوجب ذلك لأجل الزيادة ونحوها فأما أن تجعل جائزة من جانب المؤجر لازمة من جانب المستأجر فهذا خلاف إجماع المسلمين
وأيضا فإن زعم الناظر انه لم يؤجر هذا المكان او أجره إجارة فاسدة كان ذلك قادحا فى نظره وعدالته لأنه اقرار منه بأنه يسلم
____________________
(30/188)
العين الموقوفة إلى من لايجوز تسليمها إليه وتمكينه بغير اجرة مسماة ولا نزاع ان الناظر ليس له ذلك
وأيضا فإن هذا إقرار منه بأن المستأجر لاتجب عليه الأجرة المسماة وانما يجب عليه أجرة المثل وأجرة المثل كثيرا ما تكون دون المسماة فيكون ذلك إقرارا على نفسه بأنه ضامن لما فوته على أهل الوقف ولو ادعى الناظر ان الإجارة كانت فاسدة وادعى المستأجر انها صحيحة لكان القول قول من يدعي الصحة إذ الأصل فى عقود المسلمين الصحة والله أعلم
وسئل رضى الله عنه
عن رجل وزان بالقبان ويأخذ أجرته ممن يزن له فهل يجوز له ذلك وهل الأجرة حلال أم حرام
فأجاب الحمد لله الوزن بالقبان الصحيح كالوزن بسائر الموازين إذا وزن الوازن بهذه الآلات الصحيحة بالقسط جاز وزنه وإن كانت الآلة فاسدة والوازن باخسا كان من الظالمين المعتدين وإذا وزن بالعدل وأخذ أجرته ممن عليه الوزن جاز ذلك
____________________
(30/189)
وسئل
عن رجل يختم القماش وهو ساكن عنده رجل فإذا ادعى الرجل أن الأجرة من غير كسبه هل يجوز ان يأخذها
فأجاب أما إذا كان له جهة أخرى حلال وذكر أنه يعطى الأجرة منها وغلب على الظن صدقه أن يأخذ وإن لم يغلب على الظن كذبه جاز تصديقه فى ذلك إذا لم يعرف كذبه
وسئل رحمه الله
عن أجرة الحجام هل هي حرام وهل ينجس ما يصنعه بيده للمأكل وهل النبى أعطى الحجام أجره وماجاء فيه من التحريم وهل ورد فى الحديث عن النبى أنه قال ( شفاء أمتى فى ثلاث آية من كتاب الله أو لعقة من عسل أو كأس من حجام ( فكيف حرم هذا ووصف بالتداوى هنا وجعله شفاء
____________________
(30/190)
فأجاب الحمد لله أما يده إذا لم يكن فيها نجاسة فهي كسائر أيدى المسلمين ولا يضرها تلويثها بالدم اذا غسلها كما لايضرها تلوثها بالخبث حال الإستنجاء إذا غسلها بعد ذلك
وقد ثبت فى الصحيحين عن بن عباس قال ( احتجم رسول الله وأعطى الحجام اجره ( ولو كان سحتا لم يعطه إياه وفى الصحيحين عن أنس وسئل عن كسب الحجام قال ( احتجم رسول الله حجمه ابو طيبة فأمر له بصاعين من طعام وكلم أهله فخففوا عنه ( ولا ريب ان الحجام اذا حجم يستحق أجرة حجمه عند جماهير العلماء وان كان فيه قول ضعيف بخلاف ذلك
وقد ارخص النبى له ان يعلفه ناضحه ويطعمه رقيقه كما فى حديث محصن ان اباه استأذن رسول الله فى خراج الحجام فأبى ان يأذن له فلم يزل به حتى قال ( اطعمه رقيقك واعلفه ناضحك ( رواه ابو حاتم وبن حبان فى صحيحه وغيره
واحتج بهذا اكثر العلماء انه لايحرم وإنما يكره للحر تنزيها قالوا لو كان حراما لما أمره ان يطعمه رقيقه لأنهم متعبدون
____________________
(30/191)
ومن المحال ان يأذن النبى ان يطعم رقيقه حراما
ومنهم من قال بل يحرم لما روى مسلم فى صحيحه عن رافع بن خديج رضى الله عنهما أن رسول الله قال ( كسب الحجام خبيث وثمن الكلب خبيث ومهر البغى خبيث ( وفى الصحيحين عن بن أبي جحيفة قال ( رأيت ابى اشترى حجاما فأمر بمحاجمه فكسرت فسألته عن ذلك فقال ان رسول الله نهى عن ثمن الدم ( قال هؤلاء فتسميته خبيثا يقتضي تحريمه كتحريم مهر البغي وحلوان الكاهن
قال الأولون قد ثبت عنه أنه قال ( من أكل من هذين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا ( فسماهما خبيثتين بخبث ريحهما وليستا حراما وقال ( لايصلين احدكم وهو يدافع الأخبثين ( أى البول والغائط فيكون تسميته خبيثا لملاقاة صاحبه النجاسة لالتحريمه بدليل أنه اعطى الحجام أجره وأذن له ان يطعمه الرقيق والبهائم ومهر البغي وحلوان الكاهن لايستحقه ولا يطعم منه رقيق ولا بهيمه وبكل حال فحال المحتاج إليه ليست كحال المستغني عنه كما قال السلف كسب فيه بعض الدناءة خير من مسألة الناس
ولهذا لما تنازع العلماء فى أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه
____________________
(30/192)
كان فيه ثلاثة أقوال فى مذهب الإمام أحمد وغيره اعدلها انه يباح للمحتاج قال احمد أجرة التعليم خير من جوائز السلطان وجوائز السلطان خير من صلة الإخوان
وأصول الشريعة كلها مبنية على هذا الأصل انه يفرق فى المنهيات بين المحتاج وغيره كما فى المأمورات ولهذا أبيحت المحرمات عند الضرورة لاسيما إذا قدر انه يعدل عن ذلك إلى سؤال الناس فالمسألة أشد تحريما ولهذا قال العلماء يجب أداء الواجبات وإن لم تحصل إلا بالشبهات كما ذكر ابو طالب وابو حامد ان الإمام احمد سأله رجل قال إن ابنا لي مات وعليه دين وله ديون اكره تقاضيها فقال له الإمام احمد أتدع ذمة ابنك مرتهنة يقول قضاء الدين واجب وترك الشبهة لأداء الواجب هو المأمور
ولهذا اتفق العلماء على انه يرزق الحاكم وأمثاله عند الحاجة وتنازعوا فى الرزق عند عدم الحاجة وأصل ذلك فى كتاب الله فى قوله فى ولي اليتيم { ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } فهكذا يقال فى نظائر هذا إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما وقد جاء فى الحجامة أحاديث كثيرة وفى الصحيحين عن النبى
____________________
(30/193)
أنه قال ( شفاء أمتى فى ثلاث شربة عسل او شرطة محجم او كية نار وما احب ان اكتوى ( والتداوى بالحجامة جائز بالسنة المتواترة وباتفاق العلماء
وسئل
عن امراة منقطعة أرملة ولها مصاغ قليل تكريه وتأكل كراه فهل هو حلال ام لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذا جائز عند ابى حنيفة والشافعى وغيرهما من اهل العلم وقد كرهه مالك واحمد واصحاب مالك وكثير من اصحاب احمد وهذه كراهة تنزيه لا كراهة تحريم
وهذا اذا كانت بجنسه واما بغير جنسه فلا بأس فهذه المرأة اذا اكرته وأكلت كراه لحاجتها لم تنه عن ذلك لكن عليها الزكاة عند اكثر العلماء كأبى حنيفة ومالك والإمام أحمد
وهذا ان اكرته لمن تزين لزوجها أو سيدها او لمن يحضر به حضورا مباحا مثل ان يحضر عرسا يجوز حضوره
فأما ان أكرته لمن تزين به للرجال الاجانب فهذا لا يجوز
____________________
(30/194)
وأما إن اكرته لمن تزين به لفعل الفاحشة فهذا أعظم من ان تسأل عنه قال الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }
ولا يجوز ان يعان احد على الفاحشة ولا غيرها من المعاصى لابحلية ولا لباس ولا مسكن ولا دابة ولا غير ذلك لا بكرى ولا بغيره والله اعلم
وسئل
رحمه الله
عن الشماعين الذين يكرون الشمع ثم انهم يزنونه أولا فإذا رجع وزنوه ثانيا واخذوا نقصه فهل يكره ذلك واذا كسر الشمع فهل يلزم الذى اكتراه ام لا
فأجاب اما الشمع اذا أعطاه لمن يوقده وقال كلما نقص منه اوقية بكذا فإن هذا جائز وليس هذا من باب الإجارات ولا باب البيع اللازم فإن البيع اللازم لا بد ان يكون المبيع فيه معلوما بل هذا معاوضة جائزة لا لازمة كما لو قال اسكن فى هذه الدار كل يوم بدرهم ولم يوقت أجلا فإن هذا جائز فى أظهر قولي العلماء
فمسألة الأعيان نظير هذه المسألة فى المنافع وهو إذن في الإتلاف
____________________
(30/195)
على وجه الإنتفاع بعوض كما لو قال الق متاعك فى البحر وعلي ثمنه فإن هذا جائز بلا ريب لأن ذلك مما ينتفع به ملتزم الثمن للتخفيف كما ينتفع بلزوم الثمن هنا فإيقاد الشمع ( بالكراء جائز اذا علم ) توقيده لكن لابد ان يكون الايقاد فى أمر مباح لا محظور
وسئل رحمه الله
عن زركشي استعمل عنده منديل فلما فرغ أذنوا له فى غسله فعدت عليه أمة الصانع فى صقل الذهب فتقرض المنديل فهل يجب عليه غرامة المنديل
فأجاب الحمد لله اذا كانت الأمة قد جنت على المنديل فالجناية تتعلق برقبتها فعلى مالكها إما أرش الجناية وإما تسليمها لتستوفى الجناية من رقبتها وسواء كانت الجناية منها او من سيدها او غيرهما فليس على الجاني ما أنفقوا على المنديل وليس به هذا القرض ويقوم به بعد حصوله فيضمنون ما نقصت القيمة وإن تراضوا بأن يأخذ الصانع المنديل ويعطيهم قيمته التى تساوى فى السوق قبل القرض جاز ذلك وليس عليه أن يعطيهم جديدا خيرا منه
____________________
(30/196)
وسئل رحمه الله
عن إجارة الجواميس يستأجرها عاما واحدا مطلقا وغرضه لبنها ويستعملها لذلك وإنما جعلوه مطلقا أنه يستعملها والقصد اللبن والغنم ايضا هل تجوز إجارتها للبن وهل يجوز ان تعطى لمن يرعاها بصوفها ولبنها ام لا
فأجاب الحمد لله هذه المسالة فيها نزاع معروف بين السلف والعلماء وكذلك فى اشتراء اللبن مدة مقدارا معينا من ذلك اللبن يأخذه أقساطا من هذه الماشية والمنع من ذلك هو المعروف فى مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد
قال هؤلاء هذا بيع ما لم ير ولم يوصف بل بيع معدوم لم يوجد والاجارة انما تكون على المنافع دون الاعيان وهذه اعيان
وقال هؤلاء إجارة الظئر للرضاع على خلاف القياس جازت للحاجة وتنازع هؤلاء فى هذه الإجارة فقيل إن المعقود عليه هو الخدمة والرضاع تابع وهذا قول بن عقيل وغيره وقيل بل
____________________
(30/197)
المعقود عليه هو المقصود بالعقد وهو اللبن وهو قول القاضي أبى يعلى وغيره
وأما الرخصة فى ذلك فى الجملة فهو مذهب مالك وغيره وهؤلاء قد يسمون إجارة الظئر للرضاع تبعا للبن لأن الظئر تبع اللبن الذى لم يخلق بعد بناء على أنه عقد على الأعيان والعقد على العين هو من باب البيوع ( والنزاع ) فى ذلك لفظي فإنها داخلة فى مسمى البيع العام المتناول للأعيان والمنافع والموجود والمعدوم وليست داخلة فى مسمى البيع الخاص الذى يختص بالموجود من الأعيان
وكذلك السلف تنازعوا هل هو من البيع على القولين وهل يكون بلفظ البيع سلفا على وجهين فى مذهب أحمد وغيره حتى قال من لم يجعله بيعا ان السلف الحال يجوز بلفظ البيع دون لفظ السلم والصحيح ان العقود انما يعتبر فيها معانيها لا بمجرد اللفظ
والصواب ان الإجارة المسؤول عنها جائزة فإن الأدلة الشرعية الدالة على الجواز بعوضها ومقايستها تتناول هذه الإجارة وليس من الأدلة ما ينفى ذلك فإن قول القائل ان اجارة الظئر على خلاف القياس كلام فاسد فانه ليس فى كتاب الله اجارة منصوص عليها فى شريعتنا الا هذه الإجارة كما قال تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }
____________________
(30/198)
وقال { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } والسنة وإجماع الامة دلا على جوازها وانما تكون مخالفة للقياس لو عارضها قياس نص آخر وليس فى سائر النصوص واقيستها ما يناقض هذه
وقول القائل الإجارة انما تكون على المنافع دون الأعيان ليس هو قول لله ولا لرسوله ولا الصحابة ولا الأئمة وانما هوقول قالته طائفة من الناس
فيقال لهؤلاء لا نسلم ان الإجارة لا تكون الا على المنافع فقط بل الإجارة تكون على ما يتجدد ويحدث ويستخلف بدله مع بقاء العين كمياه البئر وغير ذلك سواء كان عينا او منفعة كما ان الموقوف يكون ما يتجدد وما تحدث فائدته شيئا بعد شيء سواء كانت الفائدة منفعة او عينا كالتمر واللبن والماء النابع
وكذلك العارية وهو عما يكون الإنتفاع بما يحدث ويستخلف بدله يقال افقر الظهر واعرى النخلة ومنح الناقة فإذا منحه الناقة يشرب لبنها ثم يردها او اعراه نخلة يأكل ثمرها ثم يردها وهو مثل ان يفقرة ظهرا يركبه ثم يرده
وكذلك إكراء المرأة او طير او ناقة او بقرة أو شاة يشرب
____________________
(30/199)
لبنها مدة معلومة فهو مثل ان يكون دابة يركب ظهرها مدة معلومة
وإذا تغيرت العادة فى ذلك كان تغير العادة فى المنفعة يملك المستأجر اما الفسخ واما الأرش وكذلك اذا اكراه حديقة يستعملها حولا او حولين كما فعل عمر بن الخطاب لما قبل حديقة اسيد بن الحضير ثلاث سنين وأخذ المال وقضى به دينا كان عليه
وإذا كان المستأجر هو الذي يقوم على هذه الدواب فهو إجارة وهو اولى بالجواز من إجارة الظئر
وأما اذا كان صاحب الماشية هو الذى يعلفها ويسقيها ويؤويها وطالب اللبن لا يعرف الا لبنها وقداستأجرها ترضع سخا لا له فهو مثل إجارة الظئر واذا كان ليأخذ اللبن هو فهو يشبه اجارة الظئر للرضاع المطلق لا لإرضاع طفل معين وهذا قد يسمى بيعا ويسمى اجارة وهو نزاع لفظى
وإذا قيل هو بيع معدوم قيل نعم وليس فى اصول الشرع ما ينهى عن بيع كل معدوم بل المعدوم الذي يحتاج إلى بيعه وهو معروف فى العادة يجوز بيعه كما يجوز بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإن ذلك يصح عند جمهور العلماء كما دلت عليه السنة مع ان الاجزاء التى تخلق بعد معدومة وقد دخلت فى العقد وكذلك
____________________
(30/200)
يجوز بيع المقاثى وغيرها على هذا القول والله أعلم والحمد لله
وسئل
عن مريض طلب من رجل أن يطببه وينفق عليه ففعل فهل للمنفق أن يطالب المريض بالنفقة
فأجاب إن كان ينفق طالبا للعوض لفظا أو عرفا فله المطالبة بالعوض والله أعلم
وسئل
عن رجل ضرير كتبت عليه إجارة فهل تصح إجارته
فأجاب يصح استئجار الأعمى واشتراؤه عند جمهور العلماء كمالك وأبى حنيفة والإمام أحمد فى المشهور عنه ولابد أن يوصف له المبيع والمستأجر فإن وجده بخلاف الصفة فله الفسخ
____________________
(30/201)
وسئل رحمه الله
عن رجل ليس له ما يكفيه وهو يصلى بالأجرة فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب الإستئجار على الإمامه لا يجوز فى المشهور من مذهب أبى حنيفة ومالك والإمام أحمد
وقيل يجوز وهو مذهب الشافعى ورواية عن الإمام أحمد وقول فى مذهب مالك والخلاف فى الأذان أيضا لكن المشهور من مذهب مالك أن الإستئجار يجوز على الأذان وعلى الإمامة معه لا منفردة وفى الإستئجار على هذا ونحوه كالتعليم قول ثالث فى مذهب أحمد وغيره أنه يجوز مع الحاجة ولا يجوز بدون الحاجة والله أعلم
____________________
(30/202)
وسئل رحمه الله
عن رجل توفى وأوصى أن يصلى عنه بدراهم
فأجاب صلاة الفرض لا يفعلها أحد عن أحد لا بأجرة ولا بغير أجرة بإتفاق الأئمة بل لا يجوز أن يستأجر أحدا ليصلى عنه نافلة بإتفاق الأئمة لا فى حياته ولا فى مماته فكيف من يستأجر ليصلى عنه فريضة
وإنما تنازع العلماء فيما إذا صلى نافلة بلا أجرة وأهدى ثوابها إلى الميت هل ينفعه ذلك فيه قولان للعلماء
ولو نذر الميت أن يصلي فمات فهل تفعل عنه الصلاة المنذورة على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد
لكن هذه الدراهم التى أوصى بها يتصدق بها عنه ويخص بالصدقة أهل الصلاة فيكون للميت أجر وكل صلاة يصلونها ويستعينون عليها بصدقته يكون له منها نصيب من غير أن ينقص من أجر المصلى شيء كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من فطر صائما فله مثل أجره وقال ( من جهز غازيا فقد غزا
____________________
(30/203)
وسئل رحمه الله
عن رجل من أهل العلم قصد لأن يقرأ عليه شيء من أحاديث رسول الله وغيرها من العلوم الشرعية فامتنع من إقرائها إلا بأجرة فقيل له قد روي من هدى السلف وأئمة الهدى تعليم العلم إبتغاء لوجه الله الكريم ما لا خفاء به على عاقل وهذا مما لا ينبغى فقال أقرئ العلم بغير أجرة يحرم على ذلك فكلامه صحيح أم باطل وهل هو جاهل بقوله أنه معذور وهل يجوز له أخذ الأجرة على تعليم العلم النافع أم يكره له ذلك
فأجاب الحمد لله أما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله وهذا مما يعلم بالإضطرار من دين الإسلام ليس هذا مما يخفى على أحد ممن نشأ بديار الإسلام والصحابة والتابعون وتابعو التابعين وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأمة بالقرآن والحديث والفقه إنما كانوا يعلمون بغير أجرة ولم يكن فيهم من يعلم بأجرة أصلا
فإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما
____________________
(30/204)
وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر والأنبياء صلوات الله تعالى عليهم أجمعين إنما كانوا يعلمون العلم بغير أجرة كما قال نوح عليه السلام { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم وكذلك قال خاتم الرسل { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } وقال { قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا }
وتعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك بغير أجرة لم يتنازع العلماء فى أنه عمل صالح فضلا عن أن يكون جائزا بل هو من فروض الكفاية فإن تعليم العلم الذى بينه فرض على الكفاية كما قال النبى فى الحديث الصحيح ( بلغوا عنى ولو آية وقال ( ليبلغ الشاهد الغائب (
وإنما تنازع العلماء فى جواز الإستئجار على تعليم القرآن والحديث والفقه على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد
إحداهما وهو مذهب أبى حنيفة وغيره أنه لايجوز الإستئجار على ذلك
والثانية وهو قول الشافعى أنه يجوز الإستئجار
وفيها قول ثالث فى مذهب أحمد أنه يجوز مع الحاجة دون الغنى كما قال تعالى فى ولى اليتيم { ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف }
____________________
(30/205)
ويجوز أن يعطى هؤلاء من مال المسلمين على التعليم كما يعطى الأئمة والمؤذنون والقضاة وذلك جائز مع الحاجة
وهل يجوز الإرتزاق مع الغنى على قولين للعلماء فلم يقل أحد من المسلمين أن عمل هذه الأعمال بغير أجر لا يجوز
ومن قال أن ذلك لا يجوز فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل لكن إن أراد أنه فقير متى علم بغير أجر عجز عن الكسب لعياله والكسب لعياله واجب عليه متعين فلا يجوز له ترك الواجب المتعين لغير متعين وإعتقد مع ذلك جواز التعليم بالأجرة مع الحاجة أو مطلقا فهذا متأول فى قوله لا يكفر بذلك ولا يفسق باتفاق الأئمة بل أما أن يكون مصيبا أو مخطئا
ومأخذ العلماء فى عدم جواز الإستئجار على هذا النفع أن هذه الأعمال يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب بتعليم القرآن والحديث والفقه والإمامة والأذان لا يجوز أن يفعله كافر ولا يفعله إلا مسلم بخلاف النفع الذى يفعله المسلم والكافر كالبناء والخياطة والنسج ونحو ذلك وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادة لله فإنه يبقى مستحقا بالعوض معمولا لأجله والعمل إذا عمل للعوض لم يبق
____________________
(30/206)
عبادة كالصناعات التى تعمل بالأجرة فمن قال لا يجوز الإستئجار على هذه الأعمال قال إنه لا يجوز إيقاعها على غير وجه العبادة لله كما لا يجوز إيقاع الصلاة والصوم والقراءة على غير وجه العبادة لله والإستئجار يخرجها عن ذلك
ومن جوز ذلك قال إنه نفع يصل إلى المستأجر فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر المنافع قال وإذا كانت لا عبادة فى هذه الحال لا تقع على وجه العبادة فيجوز إيقاعها على وجه العبادة وغير وجه العبادة لما فيها من النفع
ومن فرق بين المحتاج وغيره وهو أقرب قال المحتاج إذا اكتسب بها أمكنه أن ينوي عملها لله ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة فإن الكسب على العيال واجب أيضا فيؤدي الواجبات بهذا بخلاف الغني لأنه لا يحتاج إلى الكسب فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله بل إذا كان الله قد أغناه وهذا فرض على الكفاية كان هو مخاطبا به وإذا لم يقم إلا به كان ذلك واجبا عليه عينا والله أعلم
____________________
(30/207)
وسئل رحمه الله
عمن اكترى دارا لمرضاة نفسه هل يجوز له أن يكرى
فأجاب إن اكترى منفعة لفعل محرم مثل الغناء والزنا وشهادة الزور وقتل المعصوم كان كراه محرما وكذلك إن أكراها لفعل ما وجب عليه مثل أن يتعين عليه شهادة بحق أو فتيا فى مسألة أو قضاء فى حكومة أو جهاد متعين فإن هذا الكرى لا يجوز وإن كان لفعل يختص بأهل القربات كالكرى لإقراء القرأن والعلم والإمامة والأذان والحج عن غيره والجهاد الذى لم يتعين فهذا فيه خلاف بين العلماء وإن كان الكرى لعمل كالخياطة والنجارة والبناء جاز بالإتفاق
____________________
(30/208)
وقال رحمه الله فصل
الإستئجار على منفعة محرمة كالزنا واللواط والغناء وحمل الخمر وغير ذلك باطل لكن إذا إستوفى تلك المنفعة ومنع العامل أجرته كان غدرا وظلما أيضا
وقد استوفيت مسألة الإستئجار لحمل الخمر فى كتاب { الصراط المستقيم } بينت أن الصواب منصوص أحمد أنه يقضى له بالأجرة وأنها لا تطيب له إما كراهة تنزيه أو تحريم لكن هذه المسألة فيما كان جنسة مباحا كالحمل بخلاف الزنى ولا ريب أن مهر البغي خبيث وحلوان الكاهن خبيث والحاكم يقضي بعقوبة المستأجر المستوفى للمنفعة المحرمة فتكون عقوبته له عوضا عن الأجر
فأما فيما بينه وبين الله فهل ينبغى له أن يعطيه ذلك وإن كان لا يحل الأخذ لحق الله فهذا متقوم وإن لم يجب عليه ذلك كان فى ذلك درك لحاجته أنه يفعل المحرم ويعذر ولا يعاقبه فى الآخرة إلا
____________________
(30/209)
على فعل المحرم لا على الغدر والظلم
وهذا البحث يتصل بالبحث فى أحكام سائر العقود الفاسدة وقبوضها
وسئل رحمه الله عمن استعمل كتابا مذهبا مكتوبا وأعطى أجرته وتسلمه الذي استعمله وجلده وغاب به أربعين يوما ثم أتى به إلى الصانع الذي تولى كتابته وتذهيبه وقال له أعطنى ما تسلمته منى من الأجرة فإني واسطة فهل يجوز له أن يكرهه على رده وإعادة ما أعطاه من الأجرة
فأجاب إذا إستأجره لعمل من الأعمال التى تجوز الإجارة عليها وأعطاه أجرته مع توفية المستأجر عمله لم يجب عليه أن يرد عليه الأجرة بل إن لم يسم موكله فى عقد الإجارة كان ضامنا للأجرة بلا ريب وإن سماه فهل يكون ضامنا للأجرة على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد
فلو لم يعطه الأجرة كان للأجير أن يطالبه بها فكيف إذا أعطاه إياها بل إن كان أعطى الأجرة من مال موكله وإلا فللوكيل مطالبة الموكل بالأجرة التى أداها عنه والله أعلم
____________________
(30/210)
وسئل رحمه الله
عن إنسان جاءه سائل فى صورة مشبب فشبب فأعطاه شيئا فكان إنسان حاضرا فقال للمعطى تحرم عليه هذه العطية على هذه الصورة لكون الشبابة وسيلة فقال ما أعطيته إلا لكونه فقيرا وبعد هذا لو أعطيته لأجل تشبيبه لكان جائزا فإنه قد أباح بعضهم سماع الشبابة واستدل على ذلك بأن النبى عبر على راع ومعه بن عباس أو غيره وكان الراعى يشبب فسد النبى أذنيه بأصبعيه وصار يسأل الذى كان معه ( هل تسمع صوت الشبابة فما زال كذلك حتى أخبره أنه لم يسمعها ففتح أذنيه ( وقال لو كان سماع الشبابة حراما لأمر النبى لمن كان معه بسد أذنيه كما فعل أو نهى الراعي عن التشبيب وهذا دليل الإباحة فى حق غير الأنبياء فهل هذا الخبر صحيح وهل هذا الدليل موافق للسنة أم لا
فأجاب أما نقل هذا الخبر عن بن عباس فباطل لكن قد رواه أبو داود فى السنن أنه كان مع بن عمر فمر براع معه زمارة
____________________
(30/211)
فجعل يقول ( أتسمع يا نافع فلما أخبره أنه لا يسمع رفع أصبعيه من أذنيه ( وأخبره أنه كان مع النبى ففعل مثل ذلك وقال ابو داود لما روى هذا الحديث هذا حديث منكر وقد رواه أبو بكر الخلال من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا
فإن كان ثابتا فلا حجة فيه لمن أباح الشبابة لا سيما ومذهب الأئمة الأربعة أن الشبابة حرام ولم يتنازع فيها من أهل المذاهب الأربعة الا متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعى فإنهم ذكروا فيها وجهين وأما العراقيون وهم أعلم بمذهبه فقطعوا بالتحريم كما قطع به سائر المذاهب وبكل حال فهذا وجه ضعيف فى مذهبه وقد قال الشافعى الغناء مكروه يشبه الباطل ومن إستكثر منه فهو سفيه ترد شهادته وقال أيضا خلفت فى بغداد شيئا أحدثه الزنادقة يسمونه ( التغبير ( يصدون به الناس عن القرآن وآلات الملاهى لا يجوز اتخاذها ولا الإستئجار عليها عند الأئمة الأربعة
فهذا الحديث إن كان ثابتا فلا حجة فيه على إباحة الشبابة بل هو على النهى عنها أولى من وجوه
أحدها أن المحرم هو الإستماع لا السماع فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه بل كان مجتازا
____________________
(30/212)
بطريق فسمع ذلك لم يأثم بذلك باتفاق المسلمين ولو جلس وإستمع إلى ذلك ولم ينكره لا بقلبه ولا بلسانه ولا يده كان آثما باتفاق المسلمين كما قال تعالى { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون } وقال تعالى { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل
ولهذا يقال المستمع شريك المغتاب وفى الأثر من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه لقول النبى صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (
فلو كان الرجل مارا فسمع القرآن من غير أن يستمع إليه لم يؤجر على ذلك وإنما يؤجر على الإستماع الذى يقصد كما قال تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وقال لموسى { فاستمع لما يوحى }
____________________
(30/213)
فإذا عرف أن الأمر والنهى والوعد والوعيد يتعلق بالإستماع لا بالسماع فالنبى صلى الله عليه وسلم كان مارا مجتازا لم يكن مستمعا وكذلك كان بن عمر سامعا لا مستمعا فلم يكن عليه سد أذنه
الوجه الثاني أنه إنما سد النبى صلى الله عليه وسلم أذنيه مبالغة فى التحفظ حتى لا يسمع أصلا فتبين بذلك أن الإمتناع من أن يسمع ذلك خير من السماع وإن لم يكن فى السماع إثم ولو كان الصوت مباحا لما كان يسد أذنيه عن سماع المباح بل سد أذنيه لئلا يسمعه وإن لم يكن السماع محرما دل على أن الإمتناع من الإستماع أولى فيكون على المنع من الاستماع أدل منه على الإذن فيه
الوجه الثالث أنه لو قدر أن الإستماع لا يجوز فلو سد هو ورفيقه آذانهما لم يعرفا متى ينقطع الصوت فيترك المتبوع سد أذنيه
الرابع أنه لم يعلم أن الرفيق كان بالغا أو كان صغيرا دون البلوغ والصبيان يرخص لهم فى اللعب مالا يرخص فيه للبالغ
الخامس أن زمارة الراعي ليست مطربة كالشبابة التى يصنع غير الراعي فلو قدر الإذن فيها لم يلزم الأذن فى الموصوف وما يتبعه من الأصوات التى تفعل فى النفوس فعل حميا الكؤوس
____________________
(30/214)
السادس انه قد ذكر بن المنذر اتفاق العلماء على المنع من إجازة الغناء والنوح فقال أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال النائحة والمغنية كره ذلك الشعبى والنخعي ومالك وقال ابو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد لا تجوز الإجارة على شيء من الغناء والنوح وبه نقول
فإذا كان قد ذكر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم على ابطال اجارة النائحة والمغنية والغناء للنساء فى العرس والفرح جائز وهو للرجل إما محرم وإما مكروه وقد رخص فيه بعضهم فكيف بالشبابة التى لم يبحها أحد من العلماء لا للرجال ولا للنساء لا فى العرس ولا فى غيره وإنما يبيحها من ليس من الأئمة المتبوعين المشهورين بالإمامة فى الدين
فقول القائل لو أعطيته لأجل تشبيبه لكان جائزا قول باطل مخالف لمذاهب أئمة المسلمين لو كان التشبيب من الباطل المباح فكيف وهو من الباطل المنهى عنه وهذا يظهر بالوجه السابع
وهو أنه ليس كل ما جاز فعله جاز إعطاء العوض عليه ألا ترى أن فى الحديث المشهور عن النبى أنه قال ( لا سبق إلا فى خف أو حافر أو نصل فقد نهى عن السبق فى غير هذه
____________________
(30/215)
الثلاثة ومع هذا فالمصارعة قد تجوز كما صارع النبى ركانة بن عبد يزيد وتجوز المسابقة بالأقدام كما سابق النبى صلى الله عليه وسلم عائشة وكما أذن لسلمة بن الأكوع فى المسابقة فى غزوة الغابة وذى قرد وقد قال النبى ( كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة إمرأته فإنهن من الحق وهذا اللهو الباطل من أكل المال به كان أكلا بالباطل ومع هذا فيرخص فيه كما يرخص للصغار فى اللعب وكما كان صغيرتان من الأنصار تغنيان أيام العيد فى بيت عائشة والنبى لا يستمع إليهن ولا ينهاهن ولما قال أبو بكر أمزمار الشيطان فى بيت رسول الله قال النبى ( دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا فدل بذلك على أنه يرخص لمن يصلح له اللعب أن يلعب فى الأعياد وإن كان الرجال لا يفعلون ذلك ولا يبذل المال فى الباطل
فقد تبين أن المستدل بهذا الحديث على جواز ذلك وجواز إعطاء الأجرة عليه مخطئ من هذه الوجوه لو كان الحديث صحيحا فكيف وفيه ما فيه
____________________
(30/216)
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل
وإذا آجر الأرض أو الرباع كالدور والحوانيت والفنادق وغيرها إجارة كانت لازمة من الطرفين لا تكون لازمة من أحد الطرفين جائزة من الطرف الآخر بل إما أن تكون لازمة منهما أو تكون جائزة غير لازمة منهما عند كثير من العلماء
كما لو استكراه كل يوم بدرهم ولم يوقت أجلا فهذه الإجارة جائزة غير لازمة فى أحد قولي العلماء فكلما سكن يوما لزمته أجرته وله أن يسكن اليوم الثاني وللمؤجر أن يمنعه سكنى اليوم الثاني
وكذلك إذا كان أجل الشهر بكذا أو كل سنة بكذا ولم يؤجلا أجلا
وأما إذا كانت لازمة من الطرفين فإذا كان المستأجر لا يمكنه
____________________
(30/217)
الخروج قبل انقضاء المدة لم يكن للمؤجر أن يخرجه قبل انقضاء المدة لا لأجل زيادة حصلت عليه فى أثناء المدة ولا لغير زيادة سواء كانت العين وقفا أو طلقا وسواء كانت ليتيم أو لغير يتيم وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين لم يقل أحد من الأئمة إن الإجارة المطلقة تكون لازمة من جانب المستأجر غير لازمة من جانب المؤجر فى وقف أو مال يتيم ولا غيرهما وأن شذ بعض المتأخرين فحكى نزاعا فى بعض ذلك فذلك مسبوق باتفاق الأئمة قبله والله تعالى قد أمر بالوفاء بالعقود وأمر بالوفاء بالعهد وقال النبى ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أستة بقدر غدرته ( وقال ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر (
وإذا قال الناظر للطالب اكتب عليك إجارة واسكن فقد أجره فإن لم يكن أجره لم يحل له أن يسلم إليه العين فإنه يكون قد سلم الوقف ومال اليتيم إلى مالا يجوز تسليمه فيكون ظالما ضامنا ولو لم يستأجر لكان له أن يخرج إذا شاء ولكان غاصبا لا تجب عليه الأجرة المسماه بل أجرة المثل لما انتفع به فى أحد قولي العلماء وعلى قول من لا يضمن منافع الغصب لا يجب
____________________
(30/218)
عليه شيء وغاية ما يقال إنه قبضها بإجارة فاسدة ولو كان كذلك لكان له أن يخرج إذا شاء بل كان يجب عليه أن يرد العين على المؤجر كالمقبوض بالعقد الفاسد بل يجب عليه المسمى أو أجرة المثل فى أحد قولي العلماء وفى الآخر يجب أقل الأمرين من المسمى أو أجرة المثل فلا يجوز قبول الزيادة لا فى وقف أو مال يتيم وغيرهما إلا حيث لا تكون الإجارة لازمة وذلك حيث يكون المستأجر متمكنا من الخروج ورد العقار إليهم إذا شاء وهو الذى يسميه العامة الإخلاء والإغلاق
فإذا كان متمكنا من الإخلاء والإغلاق كان المؤجر أيضا متمكنا من أن يخرجه ويؤجره لغيره وإن لم يقع عليه زيادة ويجب أن يعمل ما يراه من المصلحة
____________________
(30/219)
وسئل رحمه الله
عن ضمان البساتين والأرض التى فيها النخل أو الشجر غير النخل قبل أن يبدو صلاحه هل يجوز ضمان السنة أو السنتين أم لا
فأجاب الحمد لله هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال
أحدها أن ذلك لا يجوز بحال بناء على أن هذا داخل فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها فلا يجوز كما لا يجوز فى غير الضمان مثل أن يشتري ثمرة مجردة بعد ظهورها وقبل بدو صلاحها بحيث يكون على البائع مؤنة سقيها وخدمتها إلى كمال الصلاح وهذا القول هو المعروف فى مذهب الشافعى وأحمد وهو منقول عن نصه ومذهب أبى حنيفة فى ذلك أشد منعا
وتنازع أصحاب هذا القول هل يجوز الإحتيال على ذلك بأن يؤجر الأرض ويساقي على الشجر بجزء يسير على قولين فالمنصوص عن أحمد أنه لا يجوز وذكر القاضي أبو يعلى فى كتاب ( إبطال الحيل
____________________
(30/220)
أنه يجوز وهو المعروف عند أصحاب الشافعى وهذه الحيلة قد تعذرت على أصل مصححي الحيل وهى باطلة من وجوه
منها أن الأمكنة كثيرة منها ما يكون وقفا أو يكون ليتيم ونحوه ممن يتصرف فى ماله بحكم الولاية والمساقاة على ذلك بجزء يسير لا يجوز واشتراط أحد العقدين من الآخر لا يصح
ومنها أن الفساد الذى من أجله نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها مثل كون ذلك غررا من جنس القمار وأنه يفضي إلى الخصومات والعداوات التى هي من المفاسد التى حرم القمار لأجلها ونحو ذلك يوجد فى مثل هذه المعاملات أكثر مما يوجد عند مجرد بيع الثمر قبل بدو صلاحه فإنه قد علم أن المتقبل لذلك لم يبذل ماله إلا بإزاء ما يحصل له من منفعة الأرض والشجر لا سيما إذا كانت منفعة الشجر هي الأغلب كالحدائق والبساتين التى يكون غالبها شجرا أو بياضها قليلا فهنا إذا منع الله الثمرة وطولب الضامن بجميع الأجرة كان فى ذلك من أكل المال بالباطل ومن الخصومات والشر مالا خفاء به
ومنها أن استئجار الأرض التى تساوي مائة درهم بألف درهم هو من أفعال السفهاء المستحقين للحجر وكذلك المساقاة على الشجر بجزء
____________________
(30/221)
من ألف جزء لربها هو من أفعال السفهاء التى يستحق عليها الحجر فمن فعل ذلك وجب على ولاة الأمر الحجر عليه فضلا عن إمضاء العقد والحكم بصحته
ولو قيل إن له محاباة فى هذا العقد لما يحصل من محاباة الآخر له فى العقد قيل له إن كان هذا مستحقا لزم أن يكون أحد العقدين شرطا فى الآخر وإن لم يكن مستحقا كان محابيا فى هذا العقد وليس محاباة للآخر فى ذلك العقد وهذا إنما ينفع إذا حصل التقابض فلو حابا رجلا فى سلعة وحاباه آخر فى أخرى وتقابضا فقد يقال إن الغرض يحصل بذلك إما فى مثل هذا وإما فى مثل هذا والثمر قد يحصل وقد لا يحصل وذاك له أن يطالبه بجميع الأجرة وإن لم يحصل الثمر فليس هذا من أفعال الرشد بل من أفعال السفهاء المستحقين للحجر لا سيما إن كان المتصرف من لا يملك التبرع كناظر الوقف واليتيم فإنه يقول له إنه يجب علي مطالبتك بجميع الأجرة حصلت الثمرة أو لم تحصل فهل يدخل رشيد فى مثل هذا فيبذل ألف درهم فى قيمة أرض تساوي مائة درهم طمعا فى أن يسلم الثمرة وتحصل له والأجرة عليه حصلت الثمرة أو لم تحصل ولو فعل هذا فهل هذا إلا دخول فى نفس ما نهى عنه النبى
____________________
(30/222)
فإن فى الصحيحين عن إبن عمر عن النبى ( أنه نهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها نهى البائع والمشترى وهذا المستأجر إذا بذل ماله لتحصل له الثمرة هو فى معنى المشترى الذى نهاه رسول الله على قولهم فكيف يبذل ماله فى مثل ذلك والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة قد تكلمنا عليها فى غير هذا الموضع
وليس الفقيه من عمد إلى ما نهى عنه النبى دفعا لفساد يحصل لهم فعدل عنه إلى فساد أشد منه فإن هذا بمنزلة المستجير من الرمضاء بالنار
وهذا يعلم من قاعدة إبطال الحيل فإن كثيرا منها يتضمن من الفساد والضرر أكثر مما فى إتيان المنهي عنه ظاهرا كما قال أيوب السختيانى يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي
ولهذا يوجد فى نكاح التحليل من الفساد أعظم مما يوجد فى نكاح المتعة إذ المتمتع قاصد للنكاح إلى وقت والمحلل لا غرض له فى ذلك فكل فساد نهي عنه المتمتع فهو فى التحليل وزيادة ولهذا تنكر قلوب الناس التحليل أعظم مما تنكر المتعة والمتعة أبيحت أول الإسلام
____________________
(30/223)
وتنازع السلف فى بقاء الحل ونكاح التحليل لم يبح قط ولا تنازع السلف فى تحريمه
ومن شنع على الشيعة بإباحة المتعة مع إباحته للتحليل فقد سلطهم على القدح فى السنة كما تسلطت النصارى على القدح فى الإسلام بمثل إباحة التحليل حتى قالوا إن هؤلاء قال لهم نبيهم إذا طلق أحدكم إمرأته لم تحل له حتى تزني وذلك أن نكاح التحليل سفاح كما سماه الصحابة بذلك
والقول الثاني فى أصل المسألة انه ان كان منفعة الأرض هوالمقصود والشجر تبع جاز أن تؤجر الأرض ويدخل فى ذلك الشجر تبعا وهذا مذهب مالك وهو يقدر التابع بقدر الثلث وصاحب هذا القول يجوز بيع الثمر قبل بدو الصلاح ما يدخل ضمنا وتبعا كما جاز اذا ابتاع ثمره بعد ان تؤبر ان يشترط المبتاع ثمرتها كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم والمبتاع هنا قد اشترى الثمر قبل بدو صلاحه لكن تبعا للأصل وهذا جائز باتفاق العلماء فيقيس ما كان تبعا فى الإجارة على ما كان تبعا فى البيع
والقول الثالث انه يجوز ضمان الأرض والشجر جميعا وان كان الشجر اكثر وهذا قول بن عقيل وهوالمأثور عن أمير
____________________
(30/224)
المؤمنين عمر بن الخطاب فإنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين وأخذ القبالة فوفى بها دينه روى ذلك حرب الكرمانى صاحب الإمام أحمد فى مسائله المشهورة عن احمد ورواه ابو زرعة الدمشقى وغيرهما وهو معروف عن عمر والحدائق التى بالمدينة يغلب عليها الشجر
وقد ذكر هذا الأثر عن عمر بعض المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب وزعم انه خلاف الإجماع وليس بشيء بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب فإن عمر فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد من المهاجرين والأنصار وهذه القضية فى مظنه الاشتهار ولم ينقل عن احد انه أنكرها وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وان فعله عمر كما انكر عليه عمران بن حصين وغيره ما فعله من متعة الحج وإنما هذه القضية بمنزلة توريث عثمان بن عفان لامرأة عبد الرحمن بن عوف التى بتها فى مرض موته وأمثال هذه القضية والذى فعله عمر بن الخطاب هوالصواب ( و ) اذا تدبر الفقيه أصول الشريعة تبين له ان مثل هذا المال ليس داخلا فيما نهى عنه النبي وهذا يظهر بأمور
أحدها أن يقال معلوم أن الأرض يمكن فيها الإجارة ويمكن فيها بيع حبها قبل أن يشتد ثم النبى لما نهى عن بيع الحب حتى يشتد لم يكن ذلك نهيا عن إجارة الأرض
____________________
(30/225)
وإن كان مقصود المستأجر هو الحب فان المستأجر هو الذى يعمل فى الأرض حتى يحصل له الحب بخلاف المشتري فإنه يشترى حبا مجردا وعلى البائع تمام خدمته حتى يتحصل فكذلك نهيه عن بيع العنب حتى يسود ليس نهيا عمن يأخذ الشجر فيقوم عليها ويسقيها حتى تثمر وإنما النهى لمن إشترى عنبا مجردا وعلى البائع خدمته حتى يكمل صلاحه كما يفعله المشترون للأعناب التى تسمى الكروم ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونها حتى يبدو صلاحها بخلاف التضمين
الوجه الثاني أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر وكلاهما جائز عند فقهاء الحديث كالإمام أحمد وغيره مثل بن خزيمة وبن المنذر وعند بن أبى ليلى وأبى يوسف ومحمد وعند الليث بن سعد وغيرهم من الأئمة جائزة كما دل على جواز المزارعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أصحابه من بعده والذين نهوا عنها ظنوا أنها من باب الإجارة فتكون إجارة بعوض مجهول وذلك لا يجوز وأبو حنيفة طرد قياسه فلم يجوزها بحال وأما الشافعى فاستثنى ما تدعو إليه الحاجة كالبياض إذا دخل تبعا للشجر فى المساقاة وكذلك مالك لكن يراعى القلة والكثرة على أصله
وهؤلاء جعلوا المضاربة أيضا خارجة عن القياس ظنا أنها من
____________________
(30/226)
باب الإجارة بعوض مجهول وأنها جوزت للحاجة لأن صاحب النقد لا يمكنه إجارتها
والتحقيق أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات والمزارعة مشاركة هذا يشارك بنفع بدنه وهذا بنفع ماله وما قسم الله من ربح كان بينهما كشريكي العنان ولهذا ليس العمل فيها مقصودا ولا معلوما كما يقصد ويعلم فى الإجارة ولو كانت إجارة لوجب أن يكون العمل فيها معلوما لكن إذا قيل هي جعالة كان أشبه فإن الجعالة لا يكون العمل فيها معلوما وكذلك هي عقد جائز غير لازم ولكن ليست جعالة أيضا فإن الجعالة يكون المقصود لأحدهما من غير جنس مقصود الآخر هذا يقصد رد آبقه أو بناء حائطة وهذا يقصدالجعل المشروط والمساقاه والمزارعة والمضاربة هما يشتركان فى جنس المقصود وهو الربح مستويان فى المغنم والمغرم إن أخذ هذا أخذ هذا وإن حرم هذا حرم هذا
ولهذا وجب أن يكون المشروط لأحدهما جزءا مشاعا من الربح من جنس المشروط للآخر وأنه لايجوز أن يكون مقدرا معلوما فعلم أنها من باب المشاركة كما فى شركة العنان فإنهما يشتركان فى الربح ولو شرط مال مقدر من الربح أو غيره لم يجز وهذا هو الذى نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المخابرة كما جاء ذلك
____________________
(30/227)
مفسرا فى صحيح مسلم وغيره عن رافع بن خديج أنهم كانوا يكرون الأرض ويشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها كما تنبت الماذيانات والجداول فربما سلم هذا ولم يسلم هذا
ولهذا قال الليث بن سعد إن الذى نهى عنه النبى من المخابرة أمر إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز وهذا من فقه الليث الذى قال فيه الشافعى كان الليث أفقه من مالك فإنه بين أن الذى نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم موافق لقياس الأصول لما فيه من أن يشترط لأحد الشريكين شيء معين من الربح والشركة حقها العدل بين الشريكين فيمالهما من المغنم وعليهما من المغرم فإذا خرجت كان ظلما محرما وأين من يجعل ما جاءت به السنة موافقا للأصول إلى من يجعل ما جاءت به السنة مخالفا للأصول
ومن أعطى النظر حقه علم أن ما جاءت به السنة من النهى عن هذه المخابرة ومن معاملة أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع بدون هذا الشرط وما عمل به الصحابة من المضاربة كل ذلك على وفق القياس وأن هذا من جنس المشاركات لا من جنس المؤجرات وإذا كان كذلك فنقول
معلوم أنه إذا ساقاه على الشجر بجزء من الثمرة كان كما اذا زارعه
____________________
(30/228)
على الأرض بجزء من الزرع وضاربه على النقد بجزء من الربح فقد جعلت الثمرة من باب النماء والفائدة الحاصلة ببدن هذا ومال هذا والذى نهى عنه النبى من بيع الثمرة ليس للمشترى عمل فى حصوله أصلا بل العمل كله على البائع فإذا إستأجر الأرض والشجر حتى حصل له ثمر وزرع كان كما إذا إستأجر الأرض حتى يحصل له الزرع
الوجه الثالث أن الثمرة تجرى مجرى المنافع والفوائد فى الوقف والعارية ونحوهما فيجوز أن يقف الشجر لينتفع أهل الوقف بثمرها كما يقف الأرض لينتفعوا بمغلها ويجوز إعراء الشجر كما يجوز إفقار الظهر وعارية الدار ومنيحة اللبن وهذا كله تبرع بنماء المال وفائدته فإن من دفع عقاره إلى من يسكنه كان بمنزلة من دفع دابته إلى من يركبها وبمنزلة من دفع شجره إلى من يستثمرها وبمنزلة من دفع أرضه إلى من يزرعها وبمنزلة من دفع الناقة والشاة إلى من يشرب لبنها فهذه الفوائد تدخل فى عقود التبرع سواء كان الأصل محبسا كالوقف أو غير محبس وتدخل أيضا فى عقود المشاركات فكذلك تدخل فى عقود المعاوضات
فإن قيل إن هذا يقتضي أن الأعيان معقود عليها فى الإجارة والإجارة إنما هي عقد على المنافع لا على الأعيان وإنما جازت إجارة الظئر على خلاف القياس قيل الجواب من وجهين
____________________
(30/229)
أحدهما أن تقبيل الأرض والشجر ليس هو عقدا على عين وإنما هو بمنزلة إجارة الأرض للإزدراع فالعين هي مقصود المستأجر فإنه إنما إستأجر الأرض ليحصل له الزرع لكن العقد ورد على المنافع التى هي شبه هذه الأعيان
الوجه الثاني أن يقال لا نسلم إن إجارة الظئر على خلاف القياس وكيف يقال وليس فى القرآن إجارة منصوصة فى شريعتنا إلا إجارة الظئر بقوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }
وإنما ظن من ظن أنها خلاف القياس حيث توهم أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة وليس الأمر كذلك بل الإجارة تكون على كل ما يستوفى مع بقاء أصله سواء كانت عينا أو منفعة فلما كان لبن الظئر يستوفى مع بقاء الأصل ونقع البئر يستوفى مع بقاء الأصل جازت الإجارة عليه كما جازت على المنفعة فإن هذه الأعيان يحدثها الله شيئا بعد شيء وأصلها باق كما يحدث الله المنافع شيئا بعد شيء وأصلها باق ولهذا جاز وقف هذه الأصول لإستثناء هذه الفوائد أعيانها ومنافعها
فإن قيل فهذا 1 يقتضي جواز إجارة الحيوان لشرب لبنه قيل وفى هذه المسألة نزاع بين الفقهاء أيضا والمزارعة إنما تكون بدليل
____________________
(30/230)
شرعى نص أو إجماع أو قياس ونحوه وأما مسائل النزاع إذا عورض فنجيب عنها بجواب عام وهو إن كان ما ذكرناه من الدليل موجبا لصحة هذه الإجارة لزم طرد الدليل والعمل بذلك وإن لم يكن موجبا لم يكن نقصا والدليل الذى يقال إنه مفسد لهذه الإجارة إن أمكن الجمع بينه وبين ما ذكر من الدليل فلا منافاة وإلا فما ذكرناه راجح إذ المنافع إنما يستند منعها إلى جنس ما يذكره فى مورد النزاع هنا
فإن قيل إن بن عقيل جوز إجارة الأرض والشجر جميعا لأجل الحاجة وأنه سلك مسلك مالك لكن مالك اعتبر القلة فى الشجر وبن عقيل عمم فإن الحاجة داعية إلى إجارة الأرض البيضاء التى فيها شجر وإفرادها عنها بالإجارة متعذر أومتعسر لما فيه من الضرر فجوز دخولها فى الإجارة كما جوز الشافعى دخول الأرض مع الشجر تبعا فى باب المساقاة
ومن حجة بن عقيل إن غاية ما فى ذلك جواز بيع الثمر قبل بدو صلاحه تبعا لغيره لأجل الحاجة وهذا يجوز بالنص والإجماع فيما إذا باع شجرا وعليها ثمر باد بما يشترطه المبتاع فإنه اشترى شجرا وثمرا قبل بدو صلاحه وماذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس وأنه جائز بدون الحاجة حتى مع الإنفراد
____________________
(30/231)
قيل هذا زيادة توكيد فإن هذه المسألة لها مأخذان أحدهما أن يسلم أن الأصل يقتضي المنع لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة كما فى نظائره
والثاني ان يمنع هذا ويقال لا نسلم ان الأصل يقتضي المنع بل الدليل لا يتناول مثل هذه الصورة لا لفظا ولا معنى اما لفظا فإن هذا لم يبع ثمرة قبل بدو صلاحها ولوكان قد باع لكان عليه مؤنة التوفية كما لو باعها بعد بدو صلاحها فإن مؤنة التوفية عليه ايضا فإن المسلمين اتفقوا على ما فعله امير المؤمنين عمربن الخطاب رضى الله عنه من ضرب الخراج على السواد وغيره من الأرض التى فتحت عنوة سواء قيل إنه يجب فى الأرض التى فتحت عنوة او تجعل فيئا كما قاله مالك وهو رواية عن أحمد او قيل انه يجب قسمتها بين الغانمين كما قاله الشافعى وهو رواية عن الإمام او قيل يخيرالامام فيها بين هذا وهذا كما هو مذهب ابى حنيفة والثورى وابى عبيد ونحوهم وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد
فإن الشافعى يقول ان عمر استطاب انفس الغانمين حتى جعلها فيئا وضرب الخراج عليها فاتفق المسلمون فى الجملة على ان وضع الخراج على ارض العنوة جائز اذا لم يكن فيه ظلم للغانمين
____________________
(30/232)
ثم الخراج عند اكثرهم اجرة الأرض وانه لم يقدر مدة الإجارة لعموم مصلحتها والخراج ضريبة على الأرض التى فيها شجر والأرض البيضاء وضرب على جريب النخل مقدارا وعلى جريب الكرم مقدارا وهذا بعينه اجارة للأرض مع الشجر فإن كان جواز هذا على وفق القياس فهو المطلوب وان كان جواز ذلك لحاجة داعية إلى ذلك فإن الناس لهم بساتين فيها مساكن ولها اجور وافرة فإن دفعوها إلى من يعملها مساقاة ومزارعة تعطلت منفعة المساكن عليها كما فى ارض دمشق ونحوها ثم قد يكون وقفا او ليتيم ونحوذلك فكيف يجوز تعطيل منفعة المسكن المبنية فى تلك الحدائق
وقد تكون منفعة المسكن هي اكثر المنفعة ومنفعة الشجر والأرض تابعة فيحتاجون إلى إجارة تلك المساكن ولا يمكن ان تؤجر دون منفعة الأرض والشجر فإن العامل اذا كان غير الساكن تضرر هذا وهذا تضرر ببناء المساكن ويبقى ممنوعا من الإنتفاع بالثمر والزرع هو وعياله مع كونه عندهم ويتضررون بدخول العامل عليهم فى دارهم والعامل ايضا لا يبقى مطمئنا إلى سلامة ثمره وزرعه بل يخاف عليها فى مغيبه وما كل ساكن امينا ولو كان امينا لم تؤمن الضيفان والصبيان والنسوان وكل هذا معلوم
فإذا كان النبى نهى عن المزابنة وهى بيع
____________________
(30/233)
الرطب بالتمر لما فى ذلك من بيع الربوى بجنسه مجازفة وباب الربا أشد من باب الميسر ثم إنه أرخص فى العرايا أن تباع بخرصها لأجل الحاجة وأمر رجلا أن يبيع شجرة له فى ملك الغير لتضرره بذلك لدخوله عليه أو يهبها له فلما لم يفعل أمر بقلعها فأوجب عليه المعاوضة لرفع الضرر عن مالك العقار كما أوجب للشريك أن يأخذ الشقص بثمنه رفعا لضرر المشاركة والمقاسمة فكيف إذا كان الضرر ما ذكر
ومعلوم أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأمرنا بتقديم خير الخيرين بتفويت أدناهما وبدفع شر الشرين باحتمال أدناهما والفساد فى ذلك أعظم مما ذكرنا من حصول ضرر ما لأحد المتعوضين فإن هذا ضرر كثير محقق وذاك إن حصل فيه ضرر فهو قليل مشكوك فيه
وأيضا فالمساقاة والمزارعة تعتمد أمانة العامل وقد يتعذر ذلك كثيرا فيحتاج الناس إلى المؤاجرة التى فيها مال مضمون فى الذمة ولهذا يعدل كثير من الناس فى كثير من الأمكنة والأزمنة عن المزارعة إلى المؤاجرة لأجل ذلك ومعلوم أن الشريعة توجب ما توجبه بحسب الإمكان وتشترط فى العبادات والعقود ما تشترطه بحسب الإمكان ولهذا جاز أن ينفذ من ولى الأمر مع فجوره من ولايته وقسمته
____________________
(30/234)
وحكمه ما يسوغ وإن كان ولى الأمر يجب فيه أن يكون عدلا إذا أمكن ذلك بلا مفسدة راجحة
وكذلك أئمة الصلاة إذا لم تمكن الصلاة إلا خلف الفاجر فإذا لم يمكن دفع الأرض إلا إلى فاجر وإئتمانه عليها يوجب الفساد احتيج إلى أن تدفع إليه مؤاجرة فهذا وجه من وجوه جواز المؤاجرة
وأيضا فقد لا يتفق من يأخذها مشاركة كالمساقاة أو المزارعة فإن لم تدفع مؤاجرة وإلا تعطلت وتضرر أهلها وإن كانوا فقراء وليس فى هذا من الفساد إلا إمكان نقص الثمر عن الوجه المعتاد فيبقى ذلك مخاطرة وهذا القدر ينجبر بما يجعل للمستأجر من جبران ذلك كما أن الإجارة الجائزة إذا تلفت فيها المنفعة سقطت الأجرة التى تقابلها وكذلك لو نقصت على الصحيح فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة
فقد ثبت فى الصحيح أن النبى أمر بوضع الجوائح وقال ( إذا بعت من أخيك بيعا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما وذلك لأن الثمرة قبضت ولم تقبض قبضا تاما بحيث يتمكن القابض من جذاذها كما أن المستأجر إذا قبض العين لم يحصل القبض التام الذى يتمكن به من استيفاء جميع المنفعة فإذا تلفت المنفعة قبل
____________________
(30/235)
تمكنه من استيفائها سقطت الأجرة فكذلك إذا تلفت الثمرة قبل التمكن من الجذاذ سقط الثمن
فهنا المستأجر للبستان إذا قدر أنه حصلت آفة منعت الأرض عن المنفعة المعتادة كما لو نقص ماء المطر والأنهار حتى نقصت المنفعة عن الوجه المعتاد لأن المعقود عليه لابد أن يبقى على الذى يمكن استيفاء المنفعة المقصوده منه فإذا خرج عن هذه الحال كان للمستأجر إما الفسخ وإما الأرش وليس من باب وضع الجائحة فى الممتنع كما فى الثمر المشترى بل هو من باب تلف المنفعة المقصوده بالعقد أو فواتها
وهنا المستأجر للبستان كالمستأجر للأرض سواء بسواء إنما يتسلم الأصول وهو الذى يقوم عليها حتى يشتد الزرع ويبدو صلاح الثمر كما يقوم على ذلك العامل فى المساقاة والمزارعة فإن جاز أن يقال أن هذا مشتر للثمرة فليقل إن المستأجر مشتر للزرع وإن العامل فى المساقاة والمزارعة والمضاربة مشتر لما يحصل من النماء فإذا كان هذا لا يدخل فى مسمى البيع امتنع شمول العموم له لفظا ويمتنع إلحاقه من جهة القياس أو شمول العموم المعنوى له لأن الفرق بينهما فى غاية الظهور فإن إلحاق هذه الإجارة للأرض لاشتراكهما فى المساقاة والمزارعة وفى المضاربة والوقف وغيرذلك مما يجعل حكم أحدهما حكم الآخر أولى من إلحاقها بالبيع كما تقدم
____________________
(30/236)
وكل من نظر فى هذا نظرا صحيحا سليما تبين له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التى تسمى الضمانات كما تسميه العامة ضمانا وكما سماه السلف قبالة ليس هو من باب المبايعات وأحكام البيع منتفية في هذا من كون مؤنة التوفية على البائع وكل ما نهى عنه النبى من بيع المعدومات مثل نهيه عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة وهو بيع ما فى أصلاب الفحول وأرحام الإناث ونتاج النتاج ونهيه عن بيع السنين وهو المعاومة وأمثال ذلك إنما هو أن يشترى المشترى تلك الأعيان التى لم تخلق بعد وأصولها يقوم عليها البائع فهو الذى يستنتجها ويستثمرها ويسلم إلى المشترى ما يحصل من النتاج والثمرة وهذا هو الذى كان اهل الجاهلية يفعلونه
وهذا على تفسير الجمهور فى ( حبل الحبلة ( انه بيع نتاج النتاج فإنه يكون إبطاله لجهالة الأجل وهذه البيوع التى نهى عنها النبى هي من باب القمار الذى هوميسر وذلك اكل مال بالباطل واصحاب هذه الأصول يمكنهم تأخير البيع إلى أن يخلق الله مايخلقه من هذه الثمار والأولاد وإنما يفعلون هذا مخاطرة ومباختة
والتجارات بضمان البستان لمن يقوم عليه كضمان الأرض لمن يقوم عليها فيزدرعها واحتكار الارض لمن يبنى فيها ويغرس فيها ونحو ذلك
____________________
(30/237)
وقد اتفق العلماء على أن المنفعة فى الإجارة إذا تلفت قبل التمكن من إستيفائها فإنه لا تجب أجرة ذلك مثل أن يستأجر حيوانا فيموت قبل التمكن من الإنتفاع وكذلك المبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه مثل أن يشترى قفيزا من صبرة فتتلف الصبرة قبل القبض والتمييز كان ذلك من ضمان البائع بلا نزاع لكن تنازعوا فى تلفه بعد التمكن من القبض وقبل القبض كمن اشترى معيبا ومكن من قبضه وفيه قولان مشهوران
أحدهما أنه لا يضمنه كقول مالك وأحمد فى المشهورعنه لقول بن عمر مضت السنة ان ما ادركته الصفقة حبا مجموعا فهو من مال المشترى
والثاني يضمنه كقول ابى حنيفة والشافعى لكن ابو حنيفة يستثني العقار ومع هذا فمذهبه ان التخلية قبض كقول احمد فى إحدى الروايتين فيتقارب مذهبه ومذهب مالك واحمد انما يتلف من ضمان البائع لما ثبت فى الصحيح عن النبى انه قال ( اذا بعت من اخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك ان تأخذ من مال اخيك شيئا بم يأخذ احدكم مال اخيه بغير حق ( ومذهب الشافعى المشهور عنه يكون من ضمان المشترى اذا تلف
____________________
(30/238)
بعد القبض واما ابوحنيفة فمذهبه ان التبقية ليست من مقتضى العقد ولا يجوز اشتراطها والأولون يقولون قبض هذا بمنزلة قبض المنفعة فى الإجارات وذلك ليس بقبض تام ينقل الضمان لأن القابض لم يتمكن من استيفاء المقصود وهذا طرد اصلهم فى ان المعتبرهو القدرة على الاستيفاء المقصود بالعقد ولهذا يقولون لو ان المشتري فرط فى قبض الثمرة بعد كمال صلاحها حتى تلفت كانت من ضمانه كما لو فرط فى قبض المعين حتى تلف
وهذا ظاهر فى المناسبة والتأثير فإن البائع اذا لم يكن منه تفريط فيما يجب عليه وانما التفريط من المشتري كان إحالة الضمان على المفرط اولى من احالته على من قام بما يجب عليه ولم يفرط ولهذا اتفقوا على مثل ذلك فى الإجارة فإن المستأجر لو فرط فى استيفاء المنافع حتى تلفت كانت من ضمانه ولوتلفت بغير تفريط كانت من ضمان المؤجر وفى الإجارة اذا لم يتمكن المستأجر من ازدراع الأرض لآفة حصلت لم تكن عليه الأجرة وإن نبت الزرع ثم حصلت آفة سماوية قبل التمكن من حصاده ففيه نزاع
ومن فرق بينه وبين الثمر والمنفعة قال الثمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة وهنا الزرع ليس بمعقود عليه بل المعقود عليه المنفعة وقد استوفاها ومن سوى بينهما قال المقصود بالإجارة هو الزرع فإذا
____________________
(30/239)
حالت الآفة السماوية بينه وبين المقصود بالإجارة كان قد تلف المقصود بالعقد قبل التمكن من قبضه والمؤجر وإن لم يعاوض على زرع فقد عاوض على المنفعة التى يتمكن بها من حصول الزرع فإذا حصلت الآفة السماوية المفسدة للزرع قبل التمكن من حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها بل تلفت قبل التمكن من الإنتفاع ولا فرق بين تعطل منفعة الأرض فى اول المدة او فى آخرها اذا لم يتمكن من استيفائها بشيء من المنفعة ومعلوم ان الآفة السماوية اذا فقد الزرع مطلقا بحيث لا يمكن الإنتفاع بالأرض مع تلك الآفة فلا فرق بين تقدمها وتأخرها وعلى هذا تنبنى مسألة ( ضمان الحدائق ( والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن تضمين البساتين قبل إدراك الثمرة هل يجوز ام لا
فأجاب اما تضمين حديقته او بستانه الذى فيه النخيل والاعناب وغير ذلك من الأشجار لمن يقوم عليها ويزرع ارضها بعوض معلوم فمن العلماء من نهى عن ذلك واعتقد انه داخل فى نهى النبى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها
____________________
(30/240)
ثم من هؤلاء من جوز ذلك اذا كان البياض هو المقصود والشجر تابع كما يذكر عن مالك ومن هؤلاء من يجوز الاحتيال على ذلك بأن يؤجر الأرض ويساقي على الشجر بجزء من الخارج منه ولكن هذا ان شرط فيه احد العقدين فى الآخر لم يصح وان لم يشترطا كان لرب البستان ان يلزمه بالأجرة عن الارض بدون المساقاه واكثر مقصود الضامن هوالثمر وهى جزء كبير من مقصوده وقد يكون المكان وقفا ومال يتيم فلا تجوز المحاباة فى مساقاته
وهذه الحيلة وان كان القاضي أبو يعلى ذكرها فى كتاب ( إبطال الحيل ( موافقة لغيره فالمنصوص عن احمد انها باطلة وقد بينا بطلان الحيل التى يكون ظاهرها مخالفا لباطنها ويكون المقصود بها فعل ما حرم الله ورسوله كالحيل على الربا وعلى إسقاط الشفعة وغير ذلك بالأدلة الكثيرة فى غير هذا الموضع
ومن العلماء من جوز الضمان للأرض والشجر مطلقا وإن كان الشجر مقصودا كما ذكر ذلك بن عقيل وهذا القول أصح وله مأخذان
أحدهما أنه إذا اجتمع الأرض والشجر فتجوز الإجارة لهما جميعا لتعذر التفريق بينهما في العادة
____________________
(30/241)
والمأخذ الثاني ان هذه الصورة لم تدخل فى نهى النبى صلى الله عليه وسلم فإن رب الارض لم يبع ثمره بلا أجر أصلا والفرق بينهما من وجوه أحدهما أنه لو استأجر الارض جاز ولو اشترى الزرع قبل اشتداد الحب بشرط البقاء لم يجز فكذلك يفرق فى الشجر
الثاني ان البائع عليه السقي وغيره مما فيه صلاح الثمرة حتى يكمل صلاحها وليس على المشترى شيء من ذلك واما الضامن والمستأجر فإنه هو الذى يقوم بالسقي والعمل حتى تحصل الثمرة والزرع فاشتراء الثمرة اشتراء للعنب والرطب فإن البائع عليه تمام العمل حتى يصلح بخلاف من دفع إليه الحديقة وكان هو القائم عليها
الثالث انه لو دفع البستان إلى من يعمل عليه بنصف ثمرة وزرعه كان هذا مساقاة ومزارعة فاستحق نصف الثمر والزرع بعمله وليس هذا اشتراء للحب والثمرة
الرابع انه لو أعار ارضه لمن يزرعها او اعطى شجرته لمن يستغلها ثم يدفعها إليه كان هذا من جنس العارية لا من جنس هبة الأعيان
الخامس ان ثمرة الشجر من مغل الوقف كمنفعة الأرض ولبن
____________________
(30/242)
الظئر واستئجار الظئر جائز بالكتاب والسنة والإجماع واللبن لما كان يحدث شيئا بعد شيء صح عقد الإجارة عليه كما يصح على المنافع وان كانت أعيانا ولهذا يجوز للمالك إجارة الماشية للبنها فإجارة البستان لمن يستغله بعمله هو من هذا الباب ليس هو من باب الشراء
وإذا قيل إن فى ذلك غررا قيل هو كالغرر فى الإجارة فانه اذا استأجر أرضا ليزرعها فإنما مقصوده الزرع وقد يحصل وقد لا يحصل وقد ثبت عن عمر بن الخطاب انه ضمن حديقة اسيد بن حضير بعد موته ثلاث سنين واخذ الضمان فصرفه فى دينه ولم ينكر ذلك عليه احد من الصحابة
وايضا فان ارض العنوة لما فتحها المسلمون دفعها عمراليهم وفيها النخيل والاعناب لمن يعمل عليها بالخراج وهذه إجارة عند اكثر العلماء
وسئل
عن ضمان بساتين وانهم لما سمعوا بقدوم العدو المخذول دخلوا الى المدينة وغلقت ابواب المدينة ولم يبق لهم سبيل إلى البساتين ونهب زرعهم وغلتهم فهل لهم الإجاحة في ذلك
____________________
(30/243)
فأجاب الخوف العام الذي يمنع من الإنتفاع هو من الآفات السماوية وإذا تلفت الزروع بآفة سماوية فهل توضع الجائحة فيه كما توضع فى الثمرة كما نص النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم حيث قال النبى ( اذا بعت اخاك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك ان تأخذ من مال أخيك شيئا بم يأخذ احدكم مال اخيه بغير حق ( اختلفوا فى الزرع اذا تلف قبل تمكن المستأجر من حصاده هل توضع فيه الجائحة على قولين اشبههما بالمنصوص والأصول انها توضع والله اعلم
وسئل
عن ضمان الإقطاع هل هو صحيح أم لا
فأجاب ضمان الإقطاع صحيح لا نعلم أحدا من علماء المسلمين الذين يفتى بقولهم قال إنه باطل ولا نعلم أحدا من العلماء المنصفين قال إنه باطل إلا ما بلغنا عن بعض الناس حكى فيه خلافا قول بالجواز وقول بالمنع وقول أنه يجوز سنة فقط
وما زال المسلمون يضمنونه ولم يفت أحد بتحريمه إلا بعض أهل هذا الزمان لشبهة عرضت لهم لكونهم إعتقدوا أن المقطع بمنزلة
____________________
(30/244)
المستعير وغفلواعن كون المنافع مستحقة لأهل الإقطاع لا مبذولة بمنزلة استحقاق أهل البطون للوقف وإن جاز انفساخ الإجارة بموت الموقوف عليه عند من يقول به والسلطان قاسم لا [ معين ] وقسمته للمنافع كقسمة الأموال وغفلوا عن كون السلطان المقطع أذن فى الإنتفاع بالمقطع استغلالا وإيجارا ولو أذن المعير فى الإجارة جازت وفاقا فكيف الإقطاع والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل مستأجر نصف بستان مشاعا غير مقسوم وقد تهدمت الحيطان فاتفق المستأجر للنصف وصاحب النصف الآخر على العمارة وتقاسما الحيطان ليبني كل منهما ما اقتسماه فعمر المستأجر نصيبه وإمتنع الآخر حتى سرق أكثر الثمرة وامتنع من السقي أيضا حتى تلف أكثر الثمرة
فأجاب الحمد لله نعم إذا لم يفعل ما اتفقا عليه حتى تلف شيء من الثمرة بسبب اهمال ذلك فعليه ضمان ما تلف من نصيب شريكه وأما إذا امتنع ابتداء من العمارة والسقي معه فإنه يجبر على ذلك فى أصح قولى العلماء وفى الآخر لا يجبر لكن للآخر أن يعمر ويسقي
____________________
(30/245)
ويمنع من لم يعمر ويسقي أن ينتفع بما يحصل من ماله ومن أصر على ترك الواجب قدح ذلك فى عدالته
وسئل
عن إجارة الوقف هل تجوز سنين وكل سنة بذاتها وإذا قطع المستأجر من الوقف أشجارا هل تلزمه القيمة أم لا وإذا شرى الوقف بدون القيمة ما يجب عليه
فأجاب إن كان الوقف على جهة عامة جازت إجارته بحسب المصلحة ولا يتوقت ذلك بعدد عند أكثر العلماء وما قطعه المستأجر فعليه ضمانه ولا يجوز للموقوف عليه بيع الوقف بل عليه رد الثمن على المشترى والوقف على حاله
____________________
(30/246)
وسئل رحمه الله
عن أمير دخل على إقطاع وجد فيه فلاحا مستأجرا إقطاعه بأجرة واستقر الفلاح المذكور مستأجرا إقطاعه إلى حين انقضائه ثم انتقل الإقطاع إلى غيره فوجد المقطع المستجد للفلاح بور بعض الأرض المستأجرة عليه فطالب المقطع المنفصل بخراج البور وادعى أن الإيجار المكتتب على الفلاح أجير إبطال بحكم أن بعض الأرض كانت مشغولة هل يبطل حكم الإيجار أو يصح وهل يلزم البور للمستأجر أم لا
فأجاب ليس للمقطع الثاني أن يطالب
المقطع المنفصل بما بور كما ليس له أن يطالبه بما زرع فإن حقه على المستأجر الذى أوجر الأرض وسلمت إليه سواء زرع الأرض أو لم يزرعها ولكن المقطع مخير أن شاء طالبه بالأجرة التى رضى بها الأول وإن شاء طالبه بأجرة المثل لما تسلمه من المنفعة وإجارة الأرض لمن يزرع فيها زرعا وقصبا جائزة لكن المقطع الثاني له أن يمضيها وله أن لا يمضيها ولو قدر أن الأول أجره إياها إجارة فاسدة وسلم إليه الأرض قبل إقطاع الثانى لكان على المستأجر ضمان الأرض كلها للمقطع
____________________
(30/247)
الثاني الذي يستحق منفعة الأرض سواء زرعها أو لم يزرعها لأن ما ضمن بالقبض في العقد الصحيح ضمن بالقبض فى العقد الفاسد كما لو قبض المبيع قبضا فاسدا فإن عليه ضمانه والله أعلم
وسئل
عن أجناد لهم ارض فآجروها لقوم فلاحين بغلة معينة ودراهم معينة وصيافة ليزرعوها او ينتفعوا بها مدة سنة كاملة وان الأجناد قبل انقضاء السنة عدوا على اغنام الفلاحين واخذوا عن المراعى جملة دراهم قبل انقضاء مدة الإجارة غصبا باليد القوية فهل ما يناله الأجناد حلال ام حرام
فأجاب ان كان بينهما إجارة شرط فيها شروط سائغة مثل ان يشترط المستأجر ان ينتفع بجميع ما في الأرض حتى فى الكلأ المباح واعقاب الزرع وغير ذلك فهذا شرط لازم يجب العمل به وكذلك ان لم يذكر هذا فى الإجارة لكن كانت الإجارة مطلقة وهذه هي العادة فان الإجارة المطلقة تحمل على المنفعة المعتادة فاذا كانت المنفعة تتناول بذلك تناولته الإجارة المطلقة فما تناوله لفظ الإجارة او العرف المعتاد كان للمستأجر
____________________
(30/248)
وأما ان كانت العادة ان الإجارة المطلقة لا تتناول الكلأ المباح لم تدخل فى الإجارة المطلقة والله اعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل استأجر لرجل ارضا بطريق شرعية مدة معينة ثم إن المستأجر له توفى وان الوكيل لما استأجر هذه المدة قدم للمؤجر حق سنة على يد وكيله وان صاحب الأرض ادعى على وارث المستأجر له فطلبوا منه تثبيت وكالة المستأجر الوكيل فهل يجب على المدعي اثبات الوكالة بعد القبض منه حق سنة وانه هو الذى استغل هذه الأرض المستأجرة دون الوكيل
فأجاب اذا كان الذى ادعى عليه ان الأرض استؤجرت له وقد استغل الأرض فقد وجب ضمان المنفعة التى استوفاها سواء استؤجرت أو لم تستأجر وإذا لم يعترف أنه استوفاها بطريق الإجارة ولا بإذن المالك والحالة هذه فهو غاصب يستحق تعزيره وعقوبته تعزيرا يمنعه وامثاله من المعتدين عن ظلم الخلق وجحد الحق
وهذا كله اذا لم يكن مما ذكر وما لم يذكر على ما يدل على الإجارة حتى لو ادعى المزدرع أنه إنما زرع بطريق العارية وقال
____________________
(30/249)
رب الأرض بل بطريق الإجارة فالقول قول رب الأرض كما نص عليه الأئمة مالك وأحمد والشافعى وغيرهم
وللشافعى قول فى مسألة الدابة إذا تنازعا فقال أعرتنى وقال المالك بل أكريتك فقال فى هذه المسألة القول قول الراكب فمن أصحابه من سوى بين الصورتين والمذهب فيهما أن القول قول المالك ومنهم من فرق وقال الدابة يسمح فى العادة بأن تعار بخلاف الأرض ولهذا قال مالك فى رواية أن القول قول المالك إلا أن يكون مثله لا يكري الدواب وكذلك قال أبو حنيفة فى الدابة القول قول الراكب وهو قول فى مذهب الإمام أحمد
وبالجملة فالصواب الذى عليه الجمهور فى مسألة الأرض أن القول قول المالك فيستحق المطالبة بالأجرة فى هذه الصورة لكن هل يطالب بالأجرة التى ادعاها أو بأجرة المثل أو بالأقل منهما على ثلاثة أقوال فى مذهب أحمد وغيره
____________________
(30/250)
وسئل
عن فلاح حرث أرضا ولم يزرعها ثم زرعها غيره فهل يستحق الإجارة والمقاسمة أم لا
فأجاب إذا كانت الأرض مقاسمة لرب الأرض سهم وللفلاح سهم فإنه يقسم نصيب الفلاح بين الحارث والزارع على مقدار ما بذلاه من نفع ومال والله أعلم
وسئل
عن رجل استأجر من ثلاثة نفر قطعة أرض وبئر ماء معين بأجرة معلومة وزرعها إنسان ثم إنه باع النصف من الإنسان المذكور لأحد المؤجرين وبقي على ملكه النصف من الإنسان المذكور ودفع الأجرة للآخرين المذكورين عن حصتهما خاصة ولم يدفع للمشترى من الأجرة المذكورة وعند وفاته أشهد أن جميع ما يخص المشترى من الأجرة المذكورة باق فى ذمته على حكمه ولم يخلف سوى
____________________
(30/251)
نصف الإنسان وعليه الأجرة المذكورة وعليه صداق زوجته فهل له أن يأخذ أسوة الشركاء أو يحاصصهم ينظر ماله بحكم غيره أفتونا
فأجاب الأجرة التى كان يستحقها أحد المؤجرين على المستأجر باقية فى ذمته ولو لم يقر ببقائها فإذا أقر ببقائها كان هذا مؤكدا لكن لغرمائه عليه اليمين أنه لم يبر المستأجر من هذه الأجرة لا بوفاء ولا إبراء ولا غير ذلك لكن من حين انتقلت لإنسان فلشركته مطالبته بحقهم من الأجرة من حين انتقلت إليه وهذه الأجرة دين من الديون يحاص بها سائر الغرماء
وسئل
عن رجل أقطع فدان طين وتركه بديوان الأحباس فزرعه ثم مات الجندي فترك عليه غيره فمنع من ذلك فأخذ توقيع السلطان المطلق له بأن يجري على عادته فمنعه وقد زرعه فهل له أجرة الأرض أم الزرع
فأجاب الحمد لله إذا كان المقطع أعطاه إياه من إقطاعه وخرج من ديوان الإقطاع إلى ديوان الأحباس الذى لا يقطع وأمضى ذلك
____________________
(30/252)
فليس للمقطع الثانى انتزاعه
وأما إن كان المقطع الأول تبرع له به من إقطاعه وللمقطع الثاني أن يتبرع وأن لا يتبرع فالأمر موكول للثانى والزرع لمن زرعه ولصاحب الأرض أجرة المثل من حين أقطع إلى حين كمال الإنتفاع وأما قبل إقطاعه فالمنفعة كانت للأول المتبرع لا للثانى والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن راعى أبقار سرح بالأبقار ليسقيها من مورد جرت العادة بسقي الأبقار منها فعند فراغ سقي الأبقار لحق إحدى الأبقار مرض من جهة الله تعالى فسقطت فى الماء فتسبب الناس فى إقامتها فلم تقم فجروها إلى البر لتقوم فلم تقم ولم يكن بها ضرب ولا غيره فحضر وكيل مالكها وجماعة من الناس وشاهدوا ما أصابها ورأوا ذبحها مصلحة فذبحوها فهل يلزم الراعى قيمتها
فأجاب لا يلزم الراعي شيء إذا لم يكن منه تفريط ولا عدوان بل أن كان الأمر كما ذكروا لا يلزم أيضا من ذبحها شيء فإنهم قد أحسنوا فيما فعلوا فإن ذبحها خير من تركها حتى تموت وقد فعل مثل هذا راع على عهد النبي ولم ينكر
____________________
(30/253)
النبى ذلك ولا بين أنه ضامن
وهو نظير خرق صاحب موسى السفينة لينتفع بها أهلها مرقوعة فإن ذلك خير لهم من ذهابها بالكلية ومثل هذا لو رأى الرجل مال أخيه المسلم يتلف بمثل هذا فأصلحه بحسب الإمكان كان ماجورا عليه وإن نقصت قيمته فناقص خير من تالف فكيف إذا كان مؤتمنا كالراعي ونحوه
وسئل
عن رجل يكون راعي إبل أو غنم ثم إن بعض الماشية تمرض أو يتسبب لها أمر فيدركه الموت أو غير راعى ثم أنه يذكي تلك الدابة خشية الهلاك على صاحبها فهل يضمن ذلك أم لا
فأجاب إذا أدركها الموت فينبغي للراعي أن يذكيها ويحسن فى ذلك فإن ذلك خير من أن تموت حتف أنفها ولا ضمان عليه فى ذلك والله أعلم
____________________
(30/254)
وسئل
عن راعي غنم تسلم غنما وسلمها لصبيه وهو عمره اثنا عشر سنة فسرح الغنم فذهب منها رأسان فهل تلزم الصبى الأجير أم الراعى الأصلى
فأجاب يجب ذلك على الذى يسلمها إلى الصبى بغير إذن أصحابها
وسئل
عن ضمان بساتين بدمشق وأن الجيش المنصور لما كسر العدو وقدم إلى دمشق ونزل فى البساتين رعى زرعهم وغلالهم فاستهلكت الغلال بسبب ذلك فهل لهم الإجاحة فى ذلك
فأجاب إتلاف الجيش الذى لا يمكن تضمينه هو من الآفات السماوية كالجراد وإذا تلف الزرع بآفة سماوية قبل تمكن الآخر من حصاده فهل توضع فيه الجائحة كما توضع فى الثمر المشترى على قولين للعلماء أصحهما وأشبههما بالكتاب والسنة والعدل وضع الجائحة
____________________
(30/255)
وسئل رحمه الله
عمن قال أضمنه بكذا وإن أكله الجراد مثلا
فأجاب أن هذا الشرط فاسد فإنه شرط غرر وقمار وإذا كان مع الشرط قد ضمنه بعوض كان ذلك دون عوض المثل إذا خلا من الشرط
وحينئذ يفرق بين صحة العقد وفساده على المشهور فإذا كان العقد فاسدا كان الواجب رد المقبوض به أو قيمته وإن كان صحيحا زيد على نصيب الباقي من المسمى بقدر قيمته مابين القيمة مع الشرط والقيمة مع عدمه
فإذا كان المسمى مثلا ألفا والباقي ثلث الثمرة كان نصيبه ثلث ما بقي من الألف فينظر قيمة الجميع بالشرط فيأخذ تسعمائة ألف ومائتان فيزاد على المسمى ونصيبه ثلثه والله أعلم
____________________
(30/256)
وسئل رحمه الله
عمن إستأجر أرضا فلم يأتها المطر المعتاد فتلف الزرع هل توضع الجائحة فأجاب أما إذا إستأجر أرضا للزرع فلم يأت المطر المعتاد فله الفسخ باتفاق العلماء بل إن تعطلت بطلت الإجارة بلا فسخ فى الأظهر
وأما اذا نقصت المنفعة فانه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة نص على هذا احمد بن حنبل وغيره فيقال كم اجرة الأرض مع حصول الماء المعتاد فيقال ألف درهم ويقال كم اجرتها مع نقص المطر هذا النقص فيقال خمسمائة درهم فيحط عن المستأجر نصف الأجرة المسماة فإنه تلف بعض المنفعة المستحقة بالعقد قبل التمكن من استيفائها فهو كما لو تلف بعض المبيع قبل التمكن من قبضه
وكذلك لو اصاب الأرض جراد او نار او جائحة اتلف بعض الزرع فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة
وأما ما تلف من الزرع فهو من ضمان مالكه لا يضمنه له رب
____________________
(30/257)
الأرض باتفاق العلماء ولما رأى بعض العلماء اتفاق العلماء على هذا ظن انهم متفقون على انه لا ينقص من الأجرة المسماة بقدر ما نقص من المنفعة ولم يميز بين كون المنفعة مضمونة على المؤجر حتى تنقضى المدة بخلاف الزرع نفسه فإنه ليس مضمونا عليه
وقد اتفق العلماء على انه لو نقصت المنفعة المستحقة بالعقد كان للمستأجر الفسخ كما لو استأجر طاحونا او حماما او بستانا له ماء معلوم فنقص ذلك الماء نقصا فاحشا عما جرت به العادة بخلاف الجائحة فى بيع الثمار فان فيها نزاعا مشهورا فلو اشترى ثمرا قبل بدو صلاحه فأصابته جائحة كان من ضمان البائع فى مذهب مالك واحمد وهو قول الشافعى الذى علقه على صحة الخبر وقد صح الخبر فى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( ان بعت من اخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك ان تأخذ من مال اخيك شيئا بم يأخذ احدكم مال اخيه بغير حق (
واشترط مالك ان يكون كثيره فوق الثلث وهو رواية عن احمد وظاهر مذهبه وضع القليل والكثير والمسألة لا تجيء على قول ابى حنيفة فانه لا يفرق بين ما قبل بدو الصلاح وما بعده بل يوجب العقد عند القطع فى الحال مطلقا ولو شرط التبقية ولو بعد بدو الصلاح لم يجز والثلاثة يفرقون ( بين ) ما قبل بدو الصلاح وما
____________________
(30/258)
بعده كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة
وأما ضمان البساتين عاما او اعواما ليستغلها الضامن بسقيه وعمله كالإجارة ففيها نزاع
وكذلك اذا بدا الصلاح فى جنس من الثمر كالتوت فهل يباع جميع البستان فيه نزاع والأظهر جواز هذا وهذا كما قد بسط الكلام عليه فى غير هذا الموضع
وسئل رحمه الله
عن الرجل يكتري ارضا للزرع فتصيبه آفة فيهلك فهل فيه جائحة أم لا
فأجاب أما إذا اكترى أرضا للزرع فأصابته آفة فهذه ( مسألة وضع الجوائح فى الثمر ( فإن اشترى ثمرا قد بدا صلاحه فأصابته جائحة أتلفته قبل كمال صلاحه فإنه يتلف من ضمان البائع عند فقهاء المدينة كمالك وغيره وفقهاء الحديث كأحمد وغيره وهو قول معلق للشافعى فإن الشافعى علق القول بصحة الحديث والحديث قد ثبت فى صحيح مسلم عن النبى قال
____________________
(30/259)
إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ( والإعتبار يؤيد هذا القول فإن المبيع تلف قبل تمكن المشترى من قبضه فأشبه ما لو تلفت منافع العين المؤجرة قبل التمكن من استيفائها فإذا قيل هذه الثمرة تلفت بعد القبض قبل قبض الثمرة التى لم يكمل صلاحها من جنس قبض المنافع فإن المقصود إنما هو جذاذها بعد كمال الصلاح ولهذا إذا شرط المشترى فى قبضها بعد كمال الصلاح كانت من ضمانه
وقد تنازع الفقهاء هل يجوز له أن يبيعها قبل الجذاذ على قولين هما روايتان عن أحمد
أحدهما لا يجوز لأنه بيع للمبيع قبل قبضه إذ لو كانت مقبوضة لكانت من ضمانه
والثاني يجوز بيعها وهو الصحيح لأنه قبضها القبض المبيح للتصرف وإن لم يقبضها القبض الناقل للضمان كقبض العين المؤجرة فإنه إذا قبضها جاز له التصرف فى المنافع وإن كانت إذا تلفت تكون من ضمان المؤجر لكن تنازع الفقهاء هل له أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها به على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد
____________________
(30/260)
قيل يجوز كقول الشافعى وقيل لا يجوز كقول أبى حنيفة وصاحبيه لأنه ربح فيما لم يضمن لأن المنافع لم يضمنها وقيل إن أحدث فيها عمارة جاز وإلا فلا والأول أصح لأنها مضمونة عليه بالقبض بمعنى أنه إذا لم يستوفها تلفت من ضمانه لا من ضمان المؤجر كما لو تلف الثمر بعد بدو صلاحه والتمكن من جذاذه ولكن إذا تلفت العين المؤجرة كانت المنافع تالفة من ضمان المؤجر لأن المستأجر لم يتمكن من استيفائها فيفرق بين ما قبل التمكن وبعده فصل
وأما إذا استأجر أرضا للإزدراع فأصابتها آفة فإذا تلف الزرع بعد تمكن المستأجر من أخذه مثل أن يكون فى البيدر فيسرقه اللص أو يؤخر حصاده عن الوقت حتى يتلف فهنا يجب على المستأجر الأجرة
وأما إذا كانت الآفة مانعة من الزرع فهنا لا أجرة عليه بلا نزاع
وأما إذا نبت الزرع ولكن الآفة منعته من تمام صلاحه مثل
____________________
(30/261)
نار أو ريح أو برد أو غير ذلك مما يفسده بحيث لو كان هناك زرع غيره لأتلفته فهنا فيه قولان
أظهرهما أن يكون من ضمان المؤجر لأن هذه الآفة أتلفت المنفعة المقصودة بالعقد لأن المقصود بالعقد المنفعة التى يثبت بها الزرع حتى يتمكن من حصاده فإذا حصل للأرض ما يمنع هذه المنفعة مطلقا بطل المقصود بالعقد قبل التمكن من استيفائه
ومثل هذا لوكانت الأرض سبخة فتلف الزرع أوكانت إلى جانب بحر أو نهر فأتلف الماء تلك الأرض قبل كمال الزرع ونحو ذلك ففى هذه الصور كلها تتلف من ضمان المؤجر وليس على المستأجر أجرة ما تعطل الإنتفاع به كما لو ماتت الدابة المستأجرة أو انقطع الماء ولم يمكن الإنتفاع بها فى شيء من المنفعة المقصودة بالعقد وأمثال هذه الصور وليس هذا مثل أن يسرق ماله أو يحترق من الدار فإن المنفعة المقصودة بالعقد لم تتغير فإنه يمكن أن ينتفع بها هو وغيره بأن يحفظها من اللص أو الحريق
ونظير ذلك أن يتلف المال الذى اكترى الدابة لحمله فإن الأجرة عليه بخلاف ما إذا كانت الآفة مانعة من الإنتفاع مطلقا له ولغيره فإن هذا بمنزلة موت الدابة واحتراق الدار المؤجرة ونظير سرقة
____________________
(30/262)
متاعه من الدار أن يسرق سارق زرعه وأما إذا جاء جيش عام فأفسد الزرع فهذه آفة سماوية فإن هذا لا يمكن تضمينه ولا الإحتراز منه ونظيره أن يجيء جيش عام فيخرج الناس من مساكنهم التى يسكنونها
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله تسليما فصل
فى ( وضع الجوائح ( فى المبايعات والضمانات والمؤاجرات مما تمس الحاجة إليه وذلك داخل فى ( قاعدة تلف المقصود المعقود عليه قبل التمكن من قبضه
____________________
(30/263)
قال الله تعالى فى كتابه { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } ) وقال تعالى فيما ذم به بنى إسرائيل { فبما نقضهم ميثاقهم } إلى قوله { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل }
ومن أكل أموال الناس بالباطل أخذ أحد العوضين بدون تسليم العوض الآخر لأن المقصود بالعهود والعقود المالية هوالتقابض فكل من العاقدين يطلب من الآخر تسليم ما عقد عليه ولهذا قال تعالى ( وإتقوا الله الذى تساءلون به ) أي تتعاهدون وتتعاقدون وهذا هو موجب العقود ومقتضاها لأن كلا من المتعاقدين أوجب على نفسه بالعقد ما طلبه الآخر وسأله منه
فالعقود موجبة للقبوض والقبوض هي المسؤولة المقصودة المطلوبة ولهذا تتم العقود بالتقابض من الطرفين حتى لو أسلم الكافران بعد التقابض فى العقود التى يعتقدون صحتها أو تحاكما إلينا لم نتعرض لذلك لانقضاء العقود بموجباتها ولهذا نهى عن بيع الكالئ بالكالئ لأنه عقد وإيجاب على النفوس بلا حصول مقصود لأحد الطرفين ولا لهما ولهذا حرم الله الميسر الذى منه بيع الغرر ومن الغرر ما يمكنه قبضه
____________________
(30/264)
وعدم قبضه كالدواب الشاردة لأن مقصود العقد وهو القبض غير مقدور عليه
ولهذا تنازع العلماء فى ( بيع الدين على الغير ( وفيه عن أحمد روايتان وإن كان المشهور عند أصحابه منعه
وبهذا وقع التعليل فى بيع الثمار قبل بدو صلاحها كما فى الصحيحين عن أنس بن مالك ( أن رسول الله نهى عن بيع الثمار حتى تزهى ( قيل وما تزهى قال ( حتى تحمر ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ارأيت اذا منع الله الثمرة بم يأخذ احدكم مال اخيه ( وفى لفظ انه ( نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وعن النخل حتى يزهو قيل وما يزهو قال يحمار ويصفار ( وفى لفظ ان النبى صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع الثمر حتى تزهو فقلت لأنس ما زهوها قال تحمر وتصفر أرأيت ان منع الله الثمر بم تستحل مال اخيك ( وهذه الفاظ البخارى وعند مسلم ( نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو ( وعنده أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إن لم يثمرها الله فبم يستحل احدكم مال اخيه ( قال ابو مسعود الدمشقي جعل مالك والدراوردي قول انس أرأيت ان منع الله الثمرة من حديث النبى أدرجاه فيه ويرون أنه غلط
____________________
(30/265)
وفيما قاله ابو مسعود نظر
وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين ليس فيه نزاع وهو من الأحكام التى يجب اتفاق الأمم والملل فيها في الجملة فإن مبنى ذلك على العدل والقسط الذى تقوم به السماء والأرض وبه أنزل الله الكتب وارسل الرسل كما قال تعالى ( لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط (
وذلك ان المعاوضة كالمبايعة والمؤاجرة مبناها على المعادلة والمساواة من الجانبين لم يبذل احدهما ما بذله الا ليحصل له ما طلبه فكل منهما آخذ معط طالب مطلوب فإذا تلف المقصود بالعقد المعقود عليه قبل التمكن من قبضه مثل تلف العين المؤجرة قبل التمكن من قبضها وتلف ما بيع بكيل او وزن قبل تمييزه بذلك واقباضه ونحو ذلك لم يجب على المؤجر او المشترى اداء الأجرة او الثمن
ثم ان كان التلف على وجه لا يمكن ضمانه وهو التلف بأمر سماوي بطل العقد ووجب رد الثمن إلى المشترى ان كان قبض منه وبريء منه ان لم يكن قبض وان كان على وجه يمكن فيه الضمان وهو ان يتلفه آدمى يمكن تضمينه فللمشتري الفسخ لأجل تلفه قبل التمكن من قبضه وله الإمضاء لإمكان مطالبة المتلف فإن
____________________
(30/266)
فسخ كانت مطالبة المتلف للبائع وكان للمشترى مطالبة البائع بالثمن ان كان قبضه وان لم يفسخ كان عليه الثمن وله مطالبة المتلف لكن المتلف لايطالب الا بالبدل الواجب بالإتلاف والمشتري لا يطالب الا بالمسمى الواجب بالعقد
ولهذا قال الفقهاء من اصحابنا وغيرهم ان المتلف اما ان يكون هوالبائع اوالمشترى او ثالثا او يكون بأمرسماوي فان كان هو المشترى فإتلافه كقبضه يستقر به العوض وان كان بأمر سماوي انفسخ العقد وان كان ثالثا فالمشترى بالخيار وان كان المتلف هو البائع فأشهر الوجهين انه كإتلاف الأجنبى والثانى انه كالتلف السماوي
وهذا الأصل مستقر فى جميع المعاوضات إذا تلف المعقودعليه قبل التمكن من القبض تلفا لا ضمان فيه انفسخ العقد وان كان فيه الضمان كان فى العقد الخيار وكذلك سائر الوجوه التى يتعذر فيها حصول المقصود بالعقد من غير اياس مثل ان يغصب المبيع او المستأجر غاصب او يفلس البائع بالثمن او يتعذر فيها ماتستحقه الزوجة من النفقة والمتعة والقسم او مايستحقه الزوج من المتعة ونحوها ولاينتقض هذا بموت احد الزوجين لأن ذلك تمام العقد ونهايته ولا بالطلاق قبل الدخول لأن نفس حصول الصلة بين الزوجين احد مقصودي العقد ولهذا ثبتت به حرمة المصاهرة فى غير الربيبة
____________________
(30/267)
فصل
والأصل فى ان تلف المبيع والمستأجر قبل التمكن من قبضه ينفسخ به العقد من السنة ما رواه مسلم فى صحيحه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ( لو بعت من اخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك ان تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال اخيك بغير حق ( وفى رواية اخرى ( ان رسول الله امر بوضع الجوائح (
فقد بين النبى فى هذا الحديث الصحيح انه اذا باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل له ان يأخذ منه شيئا ثم بين سبب ذلك وعلته فقال ( بم تأخذ مال اخيك بغير حق ( وهذا دلالة على ما ذكره الله فى كتابه من تحريم اكل المال بالباطل وانه اذا تلف المبيع قبل التمكن من قبضه كان اخذ شيء من الثمن اخذ ماله بغير حق بل بالباطل وقد حرم الله اكل المال بالباطل لأنه من الظلم المخالف للقسط الذى تقوم به السماء والارض وهذا الحديث اصل فى هذا الباب
____________________
(30/268)
والعلماء وان تنازعوا فى حكم هذا الحديث كما سنذكره واتفقوا على ان تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد ويحرم اخذ الثمن فلست اعلم عن النبى حديثا صحيحا صريحا فى هذه القاعدة وهي ( إن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد ) غير هذاالحديث
وهذا له نظائر متعددة قد ينص النبى صلى الله عليه وسلم نصا يوجب قاعدة ويخفى النص على بعض العلماء حتى يوافقوا غيرهم على بعض أحكام تلك القاعدة ويتنازعوا فيما لم يبلغهم فيه النص مثل اتفاقهم على المضاربة ومنازعتهم فى المساقاة والمزارعة وهما ثابتان بالنص والمضاربة ليس فيها نص وإنما فيها عمل الصحابة رضي الله عنهم
ولهذا كان فقهاء الحديث يؤصلون اصلا بالنص ويفرعون عليه لا ينازعون فى الأصل المنصوص ويوافقون فيما لا نص فيه ويتولد من ذلك ظهور الحكم المجمع عليه لهيبة الإتفاق فى القلوب وانه ليس لأحد خلافة
وتوقف بعض الناس فى الحكم المنصوص وقد يكون حكمه اقوى من المتفق عليه وان خفي مدركه على بعض العلماء فليس ذلك بمانع
____________________
(30/269)
من قوته فى نفس الامر حتى يقطع به من ظهر له مدركه
ووضع الجوائح من هذا الباب فإنها ثابتة بالنص وبالعمل القديم الذى لم يعلم فيه مخالف من الصحابة والتابعين وبالقياس الجلي والقواعد المقررة بل عند التأمل الصحيح ليس فى العلماء من يخالف هذا الحديث على التحقيق
وذلك ان القول به هو مذهب اهل المدينة قديما وحديثا وعليه العمل عندهم من لدن رسول الله إلى زمن مالك وغيره وهو مشهور عن علمائهم كالقاسم بن محمد ويحيى بن سعيد القاضي ومالك وأصحابه وهو مذهب فقهاء الحديث كالإمام احمد واصحابه وابى عبيد والشافعى فى قوله القديم واما فى القول الجديد فإنه علق القول به على ثبوته لأنه لم يعلم صحته فقال رضى الله عنه لم يثبت عندي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر بوضع الجوائح ولو ثبت لم اعده ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها فى القليل والكثير
فقد اخبر انه انما لم يجزم به لأنه لم يعلم صحته وعلق القول به على ثبوته فقال لو ثبت لم اعده والحديث ثابت عند اهل الحديث لم يقدح فيه احد من علماء الحديث بل صححوه ورووه فى الصحاح والسنن رواه مسلم وابو داود وبن ماجه والإمام أحمد فظهر وجوب القول به
____________________
(30/270)
على أصل الشافعى أصلا
وأما أبو حنيفة فإنه لا يتصور الخلاف معه فى هذا الأصل على الحقيقة لأن من اصله انه لا يفرق بين ما قبل بدو الصلاح وبعده ومطلق العقد عنده وجوب القطع فى الحال ولو شرط التبقية بعد بدو الصلاح لم يصح عنده بناء على ما رآه من أن العقد موجب التقابض فى الحال فلا يجوز تأخيره لأنه شرط يخالف مقتضى العقد فإذا تلف الثمر عنده بعد البيع والتخلية فقد تلف بعد وجوب قطعه كما لو تلف عند غيره بعد كمال صلاحه وطرد أصله فى الإجارة فعنده لا يملك المنافع فيها إلا بالقبض شيئا فشيئا لا تملك بمجرد العقد وقبض العين ولهذا يفسخها بالموت وغيره
ومعلوم أن الأحاديث عن النبى متواترة فى التفريق بين ما بعد بدو الصلاح وقبل بدوه كما عليه جماهير العلماء حيث نهى النبى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وذلك ثابت فى الصحاح من حديث بن عمر وبن عباس وجابر وأنس وأبى هريرة فلو كان أبو حنيفة ممن يقول ببيع الثمار بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح ظهر النزاع معه
والذين ينازعون فى وضع الجوائح لا ينازعون فى أن المبيع إذا
____________________
(30/271)
تلف قبل التمكن من القبض يكون من ضمان البائع بل الشافعى أشد الناس فى ذلك قولا فإنه يقول إذا تلف قبل القبض كان من ضمان البائع فى كل مبيع ويطرد ذلك فى غير البيع وأبو حنيفة يقول به فى كل منقول ومالك وأحمد القائلان بوضع الجوائح يفرقان بين ما أمكن قبضه كالعين الحاضرة ومالم يمكن قبضه لما روى البخارى من رواية الزهري عن سالم عن بن عمر قال ( مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا فهو من مال المشترى (
وأما النزاع فى أن تلف الثمر قبل كمال صلاحه تلف قبل التمكن من القبض أم لا فإنهم يقولون هذا تلف بعد قبضه لأن قبضه حصل بالتخلية بين المشترى وبينه فإن هذا قبض العقار وما يتصل به بالإتفاق ولأن المشترى يجوز تصرفه فيه بالبيع وغيره وجواز التصرف يدل على حصول القبض لأن التصرف فى المبيع قبل القبض لا يجوز فهذا سر قولهم
وقد احتجوا بظاهر من أحاديث معتضدين بها مثل ما رواه مسلم فى صحيحه عن أبى سعيد قال أصيب رجل فى عهد رسول الله فى ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله ( تصدقوا عليه ( فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله لغرمائه ( خذوا ما
____________________
(30/272)
وجدتم وليس لكم إلا ذلك ومثل ما روى فى الصحيحين أن امرأة أتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت أن ابنى اشترى ثمرة من فلان فأذهبتها الجائحة فسأله أن يضع عنه فتألى أن لا يفعل فقال النبى ( تألى أن لايفعل خيرا (
ولا دلالة فى واحد من الحديثين أما الأول فكلام مجمل فإنه حكى أن رجلا اشترى ثمارا فكثرت ديونه فيمكن أن السعر كان رخيصا فكثر دينه لذلك ويحتمل أنها تلفت أو بعضها بعد كمال الصلاح أو حوزها إلى الجرين أو إلى البيت أو السوق ويحتمل أن يكون هذا قبل نهيه أن تباع الثمار قبل بدو صلاحها ولو فرض أن هذا كان مخالفا لكان منسوخا لأنه باق على حكم الأصل وذاك ناقل عنه وفيه سنة جديدة فلو خولفت لوقع التغيير مرتين
وأما الحديث الثانى فليس فيه إلا قول النبى ( تألى أن لايفعل خيرا ( والخير قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا ولم يحكم عليه لعدم مطالبة الخصم وحضور البينة أو الإقرار ولعل التلف كان بعد كمال الصلاح
وقد اعترض بعضهم على حديث الجوائح بأنه محمول على بيع الثمر قبل بدو صلاحه كما فى حديث أنس وهذا باطل لعدة أوجه
____________________
(30/273)
أحدها أن النبى قال ( إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة والبيع المطلق لا ينصرف إلا إلى البيع الصحيح
( والثانى ) أنه أطلق بيع الثمرة ولم يقل قبل بدو صلاحها فأما تقييده ببيعها قبل بدو صلاحها فلا وجه له
( الثالث ) أنه قيد ذلك بحال الجائحة وبيع الثمر قبل بدو صلاحه لا يجب فيه ثمن بحال
( الرابع ) أن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون فلو كان الثمر على الشجر مقبوضا لوجب أن يكون مضمونا على المشترى فى العقد الفاسد وهذا الوجه يوجب أن يحتج بحديث أنس على وضع الجوائح فى البيع الصحيح كما توضع فى البيع الفاسد لأن ما ضمن فى الصحيح ضمن فى الفاسد وما لا يضمن فى الصحيح لا يضمن فى الفاسد
وأما قولهم أنه تلف بعد القبض فممنوع بل نقول ذلك تلف قبل تمام القبض وكماله بل وقبل التمكن من القبض لأن البائع عليه تمام التربية من سقي الثمر حتى لو ترك ذلك لكان مفرطا ولو فرض أن البائع فعل ما يقدر عليه من التخلية فالمشتري إنما عليه أن يقبضه على الوجه المعروف المعتاد فقد وجد التسليم دون تمام التسلم وذلك
____________________
(30/274)
أحد طرفى القبض ولم يقدر المشترى إلا على ذلك وإنما على المشترى أن يقبض المبيع على الوجه المعروف المعتاد الذى إقتضاه العقد سواء كان القبض مستعقبا للعقد أو مستأخرا وسواء كان جملة أو شيئا فشيئا
ونحن نطرد هذا الأصل فى جميع العقود فليس من شرط القبض أن يستعقب العقد بل القبض يجب وقوعه على حسب ما اقتضاه العقد لفظا وعرفا ولهذا يجوز استثناء بعض منفعة المبيع مدة معينة وإن تأخر بها القبض على الصحيح كما يجوز بيع العين المؤجرة ويجوز بيع الشجر واستثناء ثمره للبائع وإن تأخر معه كمال القبض ويجوز عقد الإجارة لمدة لا تلي العقد
وسر ذلك أن القبض هو موجب العقد فيجب فى ذلك ما أوجبه العاقدان بحسب قصدهما الذى يظهر بلفظهما وعرفهما ولهذا قلنا أن شرطا تعجيل القطع جاز إذا لم يكن فيه فساد يحظره الشرع فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا وإن أطلقا فالعرف تأخير الجذاذ والحصاد إلى كمال الصلاح
وأما استدلالهم بأن القبض هو التخلية فالقبض مرجعه إلى عرف الناس حيث لم يكن له حد فى اللغة ولا فى الشرع وقبض ثمر الشجر
____________________
(30/275)
لابد فيه من الخدمة والتخلية المستمرة إلى كمال الصلاح بخلاف قبض مجرد الأصول وتخلية كل شيء بحسبه ودليل ذلك المنافع فى العين المؤجرة
وأما استدلالهم بجواز التصرف فيه بالبيع فعن أحمد فى هذه المسألة روايتان ( احداهما ) لا يجوز بيعه ما دام مضمونا على البائع لآنه بيع مالم يقبض فلا يجوز وعلى هذا يمنع الحكم فى الأصل
( والرواية الثانية ) يجوز التصرف وعلى هذه الرواية فذلك بمنزلة منافع الإجارة بأنها لو تلفت قبل الإستيفاء كانت من ضمان المؤجر بالإتفاق ومع هذا فيجوز التصرف فيها قبل القبض وذلك لأنه فى الموضعين حصل الإقباض الممكن فجاز التصرف فيه باعتبار التمكن ولم يدخل فى الضمان لانتفاء كماله وتمامه الذى به يقدر المشترى والمستأجر على الإستيفاء وعلى هذا فعندنا لا ملازمة بين جواز التصرف والضمان بل يجوز التصرف بلا ضمان كما هنا وقد يحصل الضمان بلا جواز تصرف كما فى المقبوض قبضا فاسدا كما لو اشترى قفيزا من صبرة فقبض الصبرة كلها وكما فى الصبرة قبل نقلها على إحدى الروايتين اختارها الخرقى وقد يحصلان جميعا وقد لا يحصلان جميعا
____________________
(30/276)
ولنا فى جواز إيجار العين المؤجرة بأكثر من أجرتها روايتان لما فى ذلك من ربح مالم يضمن ورواية ثالثة إن زاد فيها عمارة جازت زيادة الأجرة فتكون الزيادة فى مقابلة الزيادة فالروايتان فى بيع الثمار المشتراة نظير الروايتين فى إيجار العين المؤجرة ولو قيل فى الثمار إنما يمنع من الزيادة على الثمن كرواية المنع فى الإجارة لتوجه ذلك
وبهذا الكلام يظهر المعنى فى المسألة وإن ذلك تلف قبل التمكن من القبض المقصود بالعقد فيكون مضمونا على البائع كتلف المنافع قبل التمكن من قبضها وذلك لأن التخلية ليست مقصودة لذاتها وإنما مقصودها تمكن المشتري من قبض المبيع والثمر على الشجر ليس بمحرز ولا مقبوض ولهذا لا قطع فيه ولا المقصود بالعقد كونه على الشجر وإنما المقصود حصاده وجذاذه ولهذا وجب على البائع ما به يتمكن من جذاذه وسقيه والأجزاء الحادثة بعد البيع داخلة فيه وإن كانت معدومة كما تدخل المنافع فى الإجارة وإن كانت معدومة فكيف يكون المعدوم مقبوضا قبضا مستقرا موجبا لانتقال الضمان
____________________
(30/277)
فصل
وعلى هذا الأصل تتفرع المسائل فالجائحة هي الآفات السماوية التى لا يمكن معها تضمين احد مثل الريح والبرد والحر والمطر والجليد والصاعقة ونحو ذلك كما لو تلف بها غير هذا المبيع فإن اتلفها آدمى يمكن تضمينه او غصبها غاصب فقال اصحابنا كالقاضي وغيره هي بمنزلة اتلاف المبيع قبل التمكن من قبضه يخير المشترى بين الإمضاء والفسخ كما تقدم وان اتلفها من الآدميين من لا يمكن ضمانه كالجيوش التى تنهبها واللصوص الذين يخربونها فخرجوا فيه وجهين
( أحدهما ) ليست جائحة لأنها من فعل آدمي ( والثاني ) وهو قياس أصول المذهب انها جائحة وهو مذهب مالك كما قلنا مثل ذلك فى منافع الإجارة لأن المأخذ انما هو امكان الضمان ولهذا لو كان المتلف جيوش الكفار او اهل الحرب كان ذلك كالآفة السماوية والجيوش واللصوص وان فعلوا ذلك ظلما ولم يمكن تضمينهم فهم بمنزلة البرد فى المعنى ولو كانت الجائحة قد عيبته ولم تتلفه فهو كالعيب
____________________
(30/278)
الحادث قبل التمكن من القبض وهو كالعيب القديم يملك به او الأرش حيث يقول به
وإذا كان ذلك بمنزلة تلف المبيع قبل التمكن من قبضه فلا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها فى اشهر الروايتين وهى قول الشافعى وابى عبيدة وغيرهما من فقهاء الحديث لعموم الحديث والمعنى
و ( الثانية ) ان الجائحة الثلث فما زاد كقول مالك لأنه لابد من تلف بعض الثمر فى العادة فيحتاج إلى تقدير الجائحة فتقدر بالثلث كما قدرت به الوصية والنذر ومواضع فى الجراح وغير ذلك لأن النبى قال ( الثلث والثلث كثير (
وعلى الرواية الأولى يقال الفرق مرجعه إلى العادة فما جرت العادة بسقوطه أو أكل الطير أو غيره له فهو مشروط فى العقد والجائحة ما زاد على ذلك واذا زادت على العادة وضعت جميعها وكذلك اذا زادت على الثلث وقلنا بتقديره فانها توضع جميعها وهل الثلث مقدر بثلث القيمة او ثلث المقدار على وجهين وهما قولان فى مذهب مالك
____________________
(30/279)
فصل
والجوائح موضوعة فى جميع الشجر عند اصحابنا وهو مذهب مالك وقد نقل عن أحمد أنه قال إنما الجوائح فى النخل وقد تأوله القاضي على انه اراد إخراج الزرع والخضر من ذلك ويمكن انه اراد ان لفظ الجوائح الذى جاء به الحديث هو فى النخل وباقى الشجر ثابتة بالقياس لا بالنص فإن شجر المدينة كان النخل واما الجوائح فيما يبتاع من الزرع ففيه وجهان ذكرهما القاضي وغيره
( أحدهما ) لا جائحة فيها قال القاضي وهذا أشبه لأنها لا تباع إلا بعد تكامل صلاحها واوان جذاذها بخلاف الثمرة فإن بيعها جائز بمجرد بدو الصلاح ومدته تطول وعلى هذا الوجه حمل القاضي كلام أحمد إنما الجوائح فى النخل يعنى لما كان ببغداد وقد سئل عن جوائح الزرع فقال إنما الجوائح فى النخل وكذلك مذهب مالك أنه لا جائحة فى الثمرة إذا يبست والزرع لا جائحة فيه كذلك لأنه إنما يباع يابسا وهذا قول من لا يضع الجوائح فى الثمر كأبى حنيفة والشافعى فى القول الجديد المعلق
( والوجه الثانى ) فيها الجائحة كالثمرة وهذا هو الذى قطع به
____________________
(30/280)
غير واحد من أصحابنا كأبى محمد لم يذكروا فيه خلافا ولم يفرقوا بين ذلك وبين الثمرة لأن النبى ( نهى عن بيع العنب حتى يسود وبيع الحب حتى يشتد ( فبيع هذا بعد إسوداده كبيع هذا بعد اشتداده ومن حين يشتد إلى حين يستحصد مدة قد تصيبه فيها جائحة
ومن أصحابنا من قال ما تكرر حملة كالقثاء والخيار ونحوهما من الخضر والبقول وغيرهما فهو كالشجر وثمره كثمره فى ذلك لصحة بيع أصوله صغارا كانت أو كبارا مثمرة أو غير مثمرة فصل
هذا إذا تلفت قبل كمال صلاحها ووقت جذاذها فإن تركها إلى حين الجذاذ فتلفت حينئذ فكذلك عند أصحابنا ونقل عن مالك أنها تكون من ضمان المشترى وللشافعى قولان وذلك لأنه لم يبق على البائع شيء من التسليم والمشترى لم يحصل منه تفريط لا خاص ولا عام فإن تأخيرها إلى هذا الحين من موجب العقد فأصحابنا راعوا عدم تمكن المشترى وعدم تفريطه والمنازع راعى تسليم البائع وتمكينه
وأما إن تركها حتى تجاوز وقت نقلها وتكامل بلوغها ثم تلفت
____________________
(30/281)
ففيها لأصحابنا ثلاثة أوجه
( أحدها ) أن تكون من ضمان البائع أيضا لعدم كمال قبض المشترى وهو الذى قطع به القاضي فى المجرد وبن عقيل وأكثر الأصحاب وهو مذهب مالك والشافعى لكن القاضي فى المجرد علله بما إذا لم يكن له عذر دون ما إذا عاقه مرض أو مانع وأما غيره فذهبوا إلى الوجه الثالث وهو عدم اعتبار إمكان الرفع والجد قال إبن عقيل هذا هو الذى يقتضيه مذهبنا وهو كما قال فإن هذه الثمرة بمنزلة المنفعة فى الإجارة ولو حال بين المستأجر وبينها حائل يخصه مثل مرضه ونحوه لم تسقط عنه الأجرة بخلاف العام فإنه يسقط أجرة ما ذهب به من المنفعة فصل
هذا اذا اشترى الثمرة والزرع فإن اشترى الأصل بعد ظهور الثمر او قبل التأبير واشترط الثمر فلا جائحة فى ذلك عند اصحابنا ومالك وغيرهما ولذلك احترز الخرقى من هذه الصورة فقال واذا اشترى الثمرة دون الأصل فتلفت بجائحة من السماء رجع بها على البائع وذلك لانه هنا حصل القبض الكامل بقبض الاصل ولهذا لا يجب
____________________
(30/282)
على البائع سقى ولا مؤونة اصلا فإن المبيع عقار والعقار قبض بالتخلية والثمر دخل ضمنا وتبعا فإذا جاز بيعه قبل صلاحه جاز هنا تبعا ولو بيع مقصودا لم يجز بيعه قبل صلاحه فصل
هذا الكلام فى البيع المحض للثمر والزرع وأما الضمان والقبالة وهو ان يضمن الأرض والشجر جميعا بعوض واحد لمن يقوم على الشجر والأرض ويكون الثمر والزرع له فهذا العقد فيه ثلاثة أقوال
( أحدها ) أنه باطل وهذا القول منصوص عن احمد وهو قول ابى حنيفة والشافعى بناء على انه فى ذلك تبعا للثمر قبل بدو صلاحه
( والثانى ) يجوز اذا كانت الأرض هي المقصودة والشجر تابع لها بأن يكون شجرا قليلا وهذا قول مالك
( والثالث ) جواز ذلك مطلقا قاله طائفة من اصحابنا وغيرهم منهم بن عقيل وهذا هو الصواب لأن إجارة الأرض جائزة ولا يمكن ذلك إلا بإدخال الشجر فى العقد فجاز للحاجة تبعا وان كان فى ذلك بيع ثمر قبل بدو صلاحه اذا بيع مع الاصل ولان ذلك ليس ببيع
____________________
(30/283)
للثمر لأن الضامن هنا هو الذى يسقى الشجر ويزرع الارض فهو في الشجر بمنزلة المستأجر فى الأرض والمبتاع للثمر بمنزلة المشترى للزرع فلا يصح الحاق احدهما بالآخر ولأن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قبل حديقة اسيد بن الحضير ثلاث سنين بعد موته واخذ القبالة فوفى بها دينه رواه حرب الكرماني فى مسائله وابو زرعة الدمشقي فى تاريخه بإسناد صحيح ولأن عمر بن الخطاب ضرب الخراج باتفاق الصحابة على الأرض التى فيها شجر نخل وعنب وجعل للأرض قسطا وللشجر قسطا وذلك إجارة عند اكثر من ينازعنا فى هذه المسألة وهو ضمان لأرض وشجر وقد بسطت الكلام فى هذه المسألة فى ( القواعد الفقهية (
والغرض هنا ( مسألة وضع الجوائح ( فإذا قلنا لا يصح هذا العقد فكيف الطريق فى المعاملة قيل إنه يؤجر الأرض ويساقي على الشجر فيها وهذا قول طائفة من أصحاب الشافعى وغيرهم وهو قول القاضي أبى يعلى فى كتاب ( إبطال الحيل ( والمنصوص عن أحمد إبطال هذه الحيلة وهو الصواب كما قررنا فى ( كتاب إبطال الحيل ( فساد ذلك من وجوه كثيرة
( منها ) أنه إن جعل أحد العقدين شرطا فى الآخر لم يصح وإن عقدهما عقدين مفردين لم تجز له هذه المحاباة فى مال موليه كالوقف
____________________
(30/284)
ومال اليتيم ونحوهما ولا مال موكله الغائب ونحوه
( ومنها ) أنه قد علم إن أعطاه العوض العظيم من الضامن لم يكن لأجل منفعة الأرض التى قد لا تساوى عشر العوض وإنما هو لأجل الثمرة وكذلك المالك قد علم أنه لم يشترط لنفسه من الثمرة شيئا وهو لا يطالب بذلك القدر النزر الذي لا قيمة له وإنما جعل الثمرة جميعها للضامن
وفي الجملة فهذا العقد إما أن يصح على الوجه المعروف بين الناس وإما أن لايصح بحال لكن الثانى فيه فساد عظيم لا تحتمله الشريعة فتعين الأول وأما هذه الحيلة فيعرف بطلانها بأدنى نظر
فعلى هذا إذا حصلت جائحة فى هذا الضمان فإن قلنا العقد فاسد فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها وقد خلى بينه وبينها وتلفت قبل كمال الصلاح أو لم تطلع وقد تقدم أن النبى إنما نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه لقوله ( أرأيت إن منع الله الثمرة ( أو قال ( أرأيت إن لم يثمرها الله فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق وإذا أصابتها جائحة منعت كمال صلاحها وأفسدتها فقد منع الله الثمرة فيجب أن لا يأخذ مال أخيه بغير حق
ومن قال أن الثمرة تضمن بالقبض فى العقد الصحيح فيلزمه أن
____________________
(30/285)
يقول أنها تضمن بالقبض فى العقد الفاسد فإذا تلفت هنا تكون من ضمانه لأن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون على المشترى لكن يجب أن يضمنوا قيمتها حين تلفت وقد يكون تلفها فى أوائل ظهورها وقيمتها قليلة وقد يكون بعد بدو صلاحها وهذا مما يلزمهم فيه إلزاما قويا وهو أنه إذا اشتراها بعد بدو صلاحها مستحقة التبقية فكثير من أجزائها وصفاتها لم يخلق بعد فإذا تلفت بجائحة ولم نضع عنه الجائحة فيجب أن لا يضمن إلا ما قبضه دون ما لم يخلق بعد ولم يقبضه فيجب أن ينظر قيمتها حين أصابتها الجائحة فينسب ذلك إلى قيمتها وقت بدو الصلاح فيضمن من الثمن بقدر ذلك بمنزلة من قبض بعض المبيع وبعض منفعة الإجارة دون بعض فإنه يضمن ما قبضه دون مالم يقبضه بعد
فأما ان يجعل الأجزاء والصفات المعدومة التى لم تخلق بعد من ضمانه وهى لم توجد فهذا خلاف أصول الإسلام وهو ظلم بين لا وجه له ومن قاله فعليه أن يقول أنه إذا اشترى الثمرة قبل بدو صلاحها وقبض أصلها ولم يخلق منها شيء لآفة منعت الطلع أن يضمن الثمن جميعه للبائع وهذا خلاف النص والإجماع ويلزمه أن يقول أنه لو بدا صلاحها فى العقد الفاسد وتلفت بآفة سماوية أن يضمن جميع الثمرة كما يضمنها عنده بالعقد الصحيح فإن ما ضمن بالقبض فى أحدهما
____________________
(30/286)
ضمن بالقبض فى الآخر إلا أنه يضمن هنا بالمسمى وهناك بالبدل وهذه حجة قوية لا محيص عنها فإنه أن جعل ما لم يخلق من الأجزاء مقبوضا لزمه أن يضمن فى العقد الفاسد وإن جعله غير مقبوض لزمه أن لا يضمن فى العقد الصحيح والأول باطل قطعا مخالف للنص والإجماع
ومن قال من الكوفيين أن المعقود عليه هو ما وجد فقط وهو المقبوض فقد سلم من هذا التناقض لكن لزمه مخالفة النصوص المستفيضة ومخالفة عمل المسلمين قديما وحديثا ومخالفة الأصول المستقرة ومخالفة العدل الذى به تقوم السماء والأرض كما هو مقرر فى موضعه
وهذا كالحجج القاطعة على وجوب وضع الجوائح فى العقود الصحيحة والفاسدة ووضعها فى العقد الفاسد أقوى وأما إذا جعلنا الضمان صحيحا فإنا نقول بوضع الجوائح فيه كما نقوله فى الشراء وأولى أيضا وأما من يصحح هذه الحيلة ويرى العقد صحيحا فقد يقول أنت مساق والمساقاة ليس فيها جائحة فيبنى هذا على وضع الجوائح فى المساقاة
____________________
(30/287)
فصل
وأما الجوائح فى الإجارة فنقول لا نزاع بين الأئمة أن منافع الإجارة إذا تعطلت قبل التمكن من استيفائها سقطت الأجرة لم يتنازعوا فى ذلك كما تنازعوا فى تلف الثمرة المبيعة لأن الثمرة هناك قد يقولون قبضت بالتخلية وأما المنفعة التى لم توجد فلم تقبض بحال ولهذا نقل الإجماع على أن العين المؤجرة إذا تلفت قبل قبضها بطلت الإجارة وكذلك إذا تلفت عقب قبضها وقبل التمكن من الإنتفاع إلا خلافا شاذا حكوه عن أبى ثور لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه فأشبه تلف المبيع بعد القبض جعلا لقبض العين قبضا للمنفعة
وقد يقال هو قياس قول من يقول بعدم وضع الجوائح لكن يقولون المعقود عليه هنا المنافع وهى معدومة لم تقبض وإنما قبضها باستيفائها أو التمكن من إستيفائها وإنما جعل قبض العين قبضا لها فى انتقال الملك والإستحقاق وجواز التصرف فإذا تلفت العين فقد تلفت قبل التمكن من استيفاء المنفعة فتبطل الإجارة
وهذا يلزمهم مثله فى الثمرة باعتبار ما لم يوجد من أجزائها
____________________
(30/288)
والأصول فى الثمرة كالعين فى المنفعة وعدم التمكن من استيفاء المقصود بالعقد موجود فى الموضعين فأبو ثور طرد القياس الفاسد كما طرد الجمهور القياس الصحيح فى وضع الجوائح وإبطال الإجارة
وإن تلفت العين فى أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقى من المدة دون ما مضى وفى إنفساخها فى الماضى خلاف شاذ وتعطل بعض الأعيان المستأجرة يسقط نصيبه من الأجرة كتلف بعض الأعيان المبيعة مثل موت بعض الدواب المستأجرة وانهدام بعض الدور
وتعطل المنفعة يكون بوجهين
( أحدهما ) تلف العين كموت العبد والدابة المستأجرة ( والثاني ) زوال نفعها بأن يحدث عليها ما يمنع نفعها كدار انهدمت وأرض للزرع غرقت أو إنقطع ماؤها فهذه إذا لم يبق فيها نفع فهي كالتالفة سواء لا فرق بينهما عند أحد من العلماء وإن زال بعض نفعها المقصود وبقي بعضه مثل أن يمكنه زرع الأرض بغير ماء ويكون زرعا ناقصا وكان الماء ينحسر عن الأرض التى غرقت على وجه يمنع بعض الزراعة أو نشوء الزرع ملك فسخ الإجارة فإن ذلك كالعيب فى البيع ولم تبطل به الإجارة وفي إمساكه بالأرش قولان فى المذهب وأن تعطل نفعها بعض المدة لزمه من الأجرة بقدر ما انتفع
____________________
(30/289)
به كما قال الخرقى
فإن جاء أمر غالب يحجر المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد لزمه من الأجرة بمقدار مدة انتفاعه واذا بقي من المنفعة ما ليس هو المقصود بالعقد مثل أن ينقطع الماء عن الأرض المستأجرة للزرع ويمكن الانتفاع بها بوضع حطب ونصب خيمة وكذلك الدار المتهدمة يمكن نصب خيمة فيها والأرض التى غرقت يمكن صيد السمك منها فهل تبطل الإجارة هنا أو يكون هذا كالنقص الذى يملك به الفسخ على وجهين
( أحدهما ) تبطل وهو قول أكثر العلماء كأبى حنيفة ومالك والشافعى فى صورة الهدم لأن هذه المنفعة لما لم تكن هي المقصودة بالعقد كان وجودها وعدمها سواء
( والثانى ) يملك الفسخ وهو نص الشافعى فى صورة انقطاع الماء وقد اختاره القاضي وبن عقيل فى بعض المواضع والأول اختاره غيرهما من الأصحاب
____________________
(30/290)
فصل
إذا تبين هذا فإذا استأجر أرضا للزرع فقد ينقطع الماء عنها أو تغرق قبل الزرع وقد ينقطع الماء عنها أو تغرق أو يصيب الزرع آفة بعد زرعها وقبل وقت الحصاد فما الحكم فى هذه المسائل
المنصوص عن أحمد والأصحاب وغيرهم فى انقطاع الماء أن إنقطاعه بعد الزرع كإنقطاعه قبله أن حصل معه بعض المنفعة وجب من الأجرة بقسط ذلك وإن تعطلت المنفعة كلها فلا أجرة قال أحمد بن القاسم سألت أبا عبد الله عن رجل اكترى أرضا يزرعها وإنقطع الماء عنها قبل تمام الوقت قال يحط عنه من الأجرة بقدر ما لم ينتفع بها أو بقدر إنقطاع الماء عنها فصرح بأن انقطاع الماء بعد الزرع يوجب أن يحط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة وعلى هذا أصحابنا من غير خلاف أعلمه
وذكر القاضي وغيره أنه إذا اكترى أرضا للزرع فزرعها ثم أصابها غرق آفة من غير الشرب فلم ينبت لزمه الكراء وذكر أن أحمد نص على ذلك وأنها لو غرقت فى وقت زرعها فلم يمكنه الزراعة
____________________
(30/291)
لم تلزمه الأجرة لتعذر التسليم وكذلك ذكر صاحب التفريع مذهب مالك فى الصورتين فالقاضى يفرق بين الصورتين كالنصين المفترقين يفرق بين انقطاع الماء وبين حدوث الغرق وغيره من الآفات بأن انقطاع الماء فوات نفس المنفعة المعقود عليها لأن المعقود عليه أرض لها ماء فانقطاع الماء المعتاد بمنزلة عدم التسليم المستحق كموت الدابة والأجرة إنما تستحق بدوام التسليم المستحق وأما الغرق وغيره من الآفات التى تفسد الزرع فهو إتلاف لعين ملك المستأجر فهو كما لو استأجر دارا فتلف له فيها ثوب
وحقيقة الفرق أنه مع انقطاع الماء لم تسلم المنفعة ومع تلف الزرع تسلم المنفعة لكن حصل ما أتلف ملك المستأجر فهو كما لو تلف بعد الحصاد
وسوى طائفة من أصحابنا كالشيخ أبى محمد فى الإجارة بين انقطاع الماء وحدوث الغرق الذى يمنع الزرع أو يضر الزرع بأن ذلك إن عطل المنفعة أسقط الأجرة وإن أمكن الإنتفاع معه على تعب من القصور مثل أن يكون الغرق يمنع بعض الزراعة أو يسوء الزرع ثبت به الفسخ وإن كان ذلك لا يضر كغرق بماء ينحسر فى قرب من الزمان لا يمنع الزرع ولا يضره وانقطاع الماء عنها إذا ساق المؤجر إليها الماء من مكان آخر أو كان انقطاعه فى زمن لا يحتاج إليه فيه لم
____________________
(30/292)
يكن له الفسخ
وعلى هذه الطريقة ينقل جواب أحمد من مسألة إنقطاع الماء إلى مسألة غرق الزرع ومن مسألة غرق الزرع إلى مسألة انقطاع الماء لأن المعنى فى الجميع واحد وذلك أن غرق الزرع الحادث قبل الزرع إذا منع من الزرع فالحادث بعده يمنع من نبات الزرع كما أن انقطاع الماء يمنع من نبات الزرع والمعقود عليه المقصود بالعقد هو التمكن من الإنتفاع إلى حين الحصاد ليس إلقاء البذر هو جميع المعقود عليه ولو كان ذلك وحده هو المعقود عليه لوجب إذا انقطع الماء بعد ذلك أن لا يملك الفسخ ولا يسقط شيء من الأجرة ولم يقولوا به ولا يجوز أن يقال به لأنا نعلم يقينا أن مقصود المستأجر الذى عقد عليه العقد هو تمكنه من الإنتفاع بتربة الأرض وهوائها ومائها وشمسها إلى أن يكمل صلاح زرعه فمتى زالت منفعة التراب أو الماء أو الهواء أو الشمس لم ينبت الزرع ولم يستوف المنفعة المقصودة بالعقد كما لو إستأجر دارا للسكنى فتعذرت السكنى بها لبعض الأسباب مثل خراب حائط أو انقطاع ماء أو انهدام سقف ونحو ذلك
ولا خلاف بين الأمة أن تعطل المنفعة بأمر سماوي يوجب سقوط الأجرة أو نقصها أو الفسخ وإن لم يكن للمستأجر فيه صنع كموت الدابة وانهدام الدار وانقطاع ماء السماء فكذلك حدوث الغرق
____________________
(30/293)
وغيره من الآفات المانعة من كمال الإنتفاع
بالزرع يوضح ذلك أن المقصود المعقود عليه ليس هو مجرد فعل المستأجر الذى هو شق الأرض والقاء البذر حتى يقال إذا تمكن من ذلك فقد تمكن من المنفعة جميعها وإن حصل بعده ما يفسد الزرع ويمنع الإنتفاع به لأن ذلك منتقض بانقطاع الماء بعد ذلك ولأن المعقود عليه نفس منفعة الأرض وانتفاعه بها ليس هو فعله فإن فعله ليس هو منفعة له ولا فيه انتفاع له بل هو كلفة عليه وتعب ونصب يذهب فيه نفعه وماله وهذا بخلاف سكنى الدار وركوب الدابة فإن نفس السكنى والركوب إنتفاع وبذلك قد نفعته العين المؤجرة
وأما شق الأرض فتعب ونصب وإلقاء البذر إخراج مال وإنما يفعل ذلك لما يرجوه من انتفاعه بالنفع الذى يخلقه الله فى الأرض من الإنبات كما قال تعالى { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } وقال { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب } وقال { فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا }
وليس لقائل أن يقول أن إنبات الأرض ليس مقدورا للمستأجر ولا للمؤجر والمعقود عليه يجب إن يكون مقدورا عليه لأن هذا
____________________
(30/294)
خلاف إجماع المسلمين بل وسائر العقلاء فإن المعقود عليه المقصود بالإجارة لا يجب أن يكون من فعل أحد المتآجرين بل يجوز أن يجعل غيرهما من حيوان أو جماد وإن كانا عاجزين عن تلك المنفعة مثل أن يؤجره عبدا أو دابة ونفعها هو باختيارها ومثل أن يؤجره دارا للسكنى ونفس الإنتفاع بها هو بما خلق الله فيها من البقاء على تلك الصورة ليس ذلك من فعل المؤجر وكذلك جريان الماء من السماء ونبعه من الأرض هو داخل فى المعقود عليه وليس هو من مقدور أحدهما
وكذلك إذا آجره منقولا من سلاح أو كتب أو ثياب أو آلة صناعة أو غير ذلك فإن المنفعة التى فيه ليست من فعل المؤجر ونظائر ذلك كثيرة فكذلك نفع الأرض الذى يخلقه الله فيها حتى ينبت الزرع بترابها ومائها وهوائها وشمسها وإن كان أكثره لا يدخل فى مقدور البشر هو المعقود عليه المقصود بالعقد فإذا تلف هذا المعقود عليه بطل العقد وإن بطل بعضه كان كما لو تعطل منفعة غيره من الأعيان المؤجرة بل بطلان الإجارة أو نقص الأجرة هنا أولى منه فى جوائح الثمر
فإن الذين تنازعوا هناك من أصحاب أبى حنيفة والشافعى حجتهم أن الثمرة تلفت بعد القبض فهو كما لو تلفت بعد الجذاذ أو بعد
____________________
(30/295)
وقته وأما هنا فقد اتفق الأئمة على أن المنفعة إنما تقبض القبض المضمون على المستأجر شيئا فشيئا ولهذا إتفقوا على أنه إذا تلفت العين أو تعطلت المنفعة أو بعضها فى أثناء المدة سقطت الأجرة أو بعضها أو ملك الفسخ
وإنما دخلت الشبهة على من دخلت عليه حيث ظن ان المنفعة المقصودة بالعقد اثارة الارض والبذر فيها وظن ان تلف الزرع بعد ذلك بغرق او غيره بمنزلة تلف زرع الزارع بعد الحصاد وبمنزلة تلف ثوب له فى الدار المستأجرة وهذه غفلة بينة لمن تدبر ولهذا ينكر كل ذى فطرة سليمة ذلك حتى من لم يمارس علم الفقه من الفلاحين وشذاذ المتفقهة ونحوهم فإنهم يعلمون ان المعقود عليه هو انتفاع المستأجر منفعة العين المؤجرة لا مجرد تعبه ونفقته الذى هو طريق إلى الانتفاع فإن ذلك بمنزلة اسراجه وإلجامه واقتياده للفرس المستأجرة وذلك طريق إلى الانتفاع بالركوب لا انه المعقود عليه وان كان داخلا فيه وكذلك شد الاحمال وعقد الحبال ونحو ذلك هو طريق إلى الانتفاع بالحمل على الدابة وهو داخل فى المعقود عليه بطريق التبع والا فالمعقود عليه المقصود هو نفس حمل الدابة للحمل والركوب وان كان الحمل نفع الدابة والإسراج والشد فعل المستأجر فكذلك هنا الشق والبذر وإن كان فعله فهو داخل فى الإجارة بطريق التبع لأنه طريق إلى النفع المعقود عليه المقصود بالعقد وهو
____________________
(30/296)
نفع الأرض بما يخلقه فيها من ماء وهواء وشمس فمن ظن ان مجرد فعله هو المعقود عليه فقد غلط غلطا بينا باليقين الذى لا شبهة فيه وسبب غلطه كون فعله امرا محسوسا لحركته وكون نفع الأرض امرا معقولا لعدم حركتها فالذهن لما ادرك الحركة المحسوسة توهم أنها هي المعقود عليه وهذا غلط منقوض بسائر صور الإجارة فان المعقود عليه هو نفع الأعيان المؤجرة سواء كانت جامدة كالأرض والدار والثياب او متحركة كالأناسي والدواب لا عمل الشخص المستأجر وانما عمل الشخص المستأجر طريق إلى استيفاء المنفعة فتارة يقترن به الاستيفاء كالركوب واللبس وتارة يتأخر عنه الاستيفاء كالبناء والغراس والزرع فإن المعقود عليه حصول منفعة الأرض للبناء والغراس والزرع لا مجرد عمل الباني الغارس الزارع الذى هو حق نفسه كيف يكون حق نفسه هو الذى بذل الأجرة فى مقابلته وإنما يبذل الأجرة فيما يصل إليه من منفعة العين المؤجرة لا فيما هو له من عمل نفسه فإن شراء حقه بحقه محال ومن تصور هذه قطع بما ذكرناه ولم يبق عنده فيه شبهة إن شاء الله
وإذا كان المعقود عليه نفس منفعة العين من أول المدة إلى آخرها
____________________
(30/297)
فأي وقت نقصت فيه هذه المنفعة بنقص ماء وإنقطاعه أو بزيادته وتغريقه أو حدوث جراد أو برد أو حر أو ثلج ونحو ذلك مما يكون خارجا عن العادة ومانعا من المنفعة المعتادة فإن ذلك يمنع المنفعة المستحقة المعقود عليها فيجب أن يملك الفسخ أو يسقط من الأجرة بقدر ما فات من المنفعة كانقطاع الماء وليس بين انقطاع الماء وزيادته وسائر الموانع فرق يصلح لإفتراق الحكم فصل
إذا تبين ذلك فقد تقدم نص أحمد والخرقى وغيرهما على أنه عليه من الأجرة بقدر ما حصل له من المنفعة وهذا نوعان
( أحدهما ) حصول المنفعة فى بعض زمن الإجارة أو بعض أجزاء العين المستأجرة فهذا تسقط فيه الأجرة على قدر ذلك ويجب بقسط ما حصل من المنفعة وتكون الأجرة مقسومة على قدر قيمة الأمكنة والأزمنة فإن كلا منهما قد يكون متماثلا وقد يكون مختلفا بأن يكون بعض الأرض خيرا من بعض وكرى بعض فصول السنة أغلى من بعض وقد صرح بذلك أصحابنا وغيرهم
( والثانى ) نقص المنفعة فى نفس المكان الواحد والزمان الواحد
____________________
(30/298)
مثل أن يقل ماء السماء عن الوجه المعتاد أو يحصل غرق ينقص الزرع ونحو ذلك فهنا لأصحابنا وجهان
( أحدهما ) أنه لا يملك إلا الفسخ
( والثانى ) وهو مقتضى المنصوص وقياس المذهب أنه يخير بين الفسخ وبين الأرش كالبيع بل هو فى الإجارة أوكد لأنه فى البيع يمكنه الرد والمطالبة بالثمن وهنا لا يمكنه رد جميع المنفعة فإنه لا يردها إلا متغيرة
فلو قيل هنا إنه ليس له إلا المطالبة بالأرش كما نقول على إحدى الروايتين أن تعيب المبيع عند المشترى يمنع الرد بالعيب القديم ويوجب الأرش لكان ذلك أوجه وأقيس من قول من يقول ليس له إذا تعقب المنفعة إلا الرد دون المطالبة بالأرش فهذا قول ضعيف جدا بعيد عن أصول الشريعة وقواعد المذهب وخلاف ما نص عليه أحمد وأئمة أصحابه وإن كان القاضي قد يقوله فى ( المجرد ( ويتبعه عليه بن عقيل او غيره فالقاضى رضى الله عنه صنف ( المجرد ( قديما بعد أن صنف ( شرح المذهب ( وقبل أن يحكم ( التعليق ( و ( الجامع الكبير ( وهو يأخذ المسائل التى وضعها الناس وأجابوا فيها على أصولهم فيجيب فيها بما نص عليه أحمد
____________________
(30/299)
وأصحابه وبما تقتضيه أصوله عنده فربما حصل فى بعض المسائل التى تتفرع وتتشعب ذهول للمفرع فى بعض فروعها عن رعاية الأصول والنصوص فى نحو ذلك
وعلى هذا فإذا حصل من الضرر كالبرد الشديد والغرق والهواء المؤذي والجراد والجليد والفأر ونحو ذلك ما نقص المنفعة المقصودة المعتادة المستحقة بالعقد فيصنع فى ذلك كما يصنع فى أرش المبيع المعيب تنظر قيمة الأرض بدون تلك الآفة وقيمتها مع تلك الآفة وينسب النقص إلى القيمة الكاملة ويحط من الأجرة المسماة بقدر النقص كأن تكون أجرتها مع السلامة تساوى ألفا ومع الآفة تساوى ثمانمائة فالآفة قد نقصت خمس القيمة فيحط خمس الأجرة المسماة وكذلك فى جائحة الثمر ينظركم نقصته الجائحة هل نقصته ثلث قيمته أو ربعها أو خمسها يحط عنه من الثمن بقدره وكذلك لو تغير الثمر وعاب نظركم نقصه ذلك العيب من قيمته وحط من الثمن بنسبته
وأما ما قد يتوهمه بعض الناس أن جائحة الزرع فى الأرض المستأجرة توضع من رب الأرض أو يوضع من رب الأرض بعض الزرع قياسا على جائحة المبيع فى الثمر والزرع فهذا غلط فإن المشترى للثمر والزرع ملك بالعقد نفس الثمر والزرع فإذا تلفت قبل التمكن من
____________________
(30/300)
القبض تلفت من ملك البائع وأما المستأجر فإنما إستحق بالعقد الإنتفاع بالأرض وأما الزرع نفسه فهو ملكه الحادث على ملكه لم يملكه بعقد الإجارة وإنما ملك بعقد الإجارة المنفعة التى تنبته إلى حين كمال صلاحه
فيجب الفرق بين جائحة الزرع والثمر المشترى وبين الجائحة فى منفعة الأرض المستاجرة المزروعة فإن هذا مزلة اقدام ومضلة افهام غلط فيها خلائق من الحكام والمقومين والمجيحين والملاك والمستأجرين حتى أن بعضهم يظنون أن جائحة الإجارة للأرض المزروعة بمنزلة جائحة الزرع المشترى وبعض المتفقهة يظن أن الأرض المزروعة إذا حصل بها آفة منعت من كمال الزرع لم تنقص المنفعة ولم يتلف شيء منها وكلا الأمرين غلط لمن تدبر
ونظير الأرض المستأجرة للإزدراع الأرض المستأجرة للغراس والبناء فإن المؤجر لا يضمن قيمة الغراس والبناء إذا تلف ولكن لو حصلت آفة منعت كمال المنفعة المستحقة بالعقد مثل أن يستولى عدو يمنع الإنتفاع بالغراس والبناء أو تحصل آفة من جراد أو آفة تفسد الشجر المغروس أو حصل ريح يهدم الأبنية ونحو ذلك فهنا نقصت المنفعة المستحقة بالعقد نظير نقص المنفعة فى الأرض المزروعة ولما كان كثير من الناس يتوهم أن المستأجر توضع عنه الجائحة فى
____________________
(30/301)
نفس الزرع والبناء والغراس كالمشترى نفى ذلك العلماء ويشبه أن يكون هذا معنى ما نص عليه أحمد ونقله أصحابنا كالقاضى وأبى محمد حيث قالوا واللفظ لأبى محمد إذا إستأجر أرضا فزرعها فتلف الزرع فلا شيء على المؤجر نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا لأن المعقود عليه منافع الأرض ولم تتلف إنما تلف مال المستأجر فيها فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابا فتلفت الثياب فيها
فهذا الكلام يقتضي أن المؤجر لا يضمن شيئا من زرع المستأجر كما يضمن البائع بزرع المشترى ولذلك ذكر ذلك فى باب جوائح الأعيان وعلل ذلك بأن التالف إنما هو عين ملك المستأجر لا المنفعة وهذا حسن فى نفى ضمان نفس الزرع ويظهر ذلك فيما إذا تلف الزرع بعد كماله وقد بينا فيما تقدم أن نفس المنفعة المعقود عليها تنقص وتتعطل بما يصيب الزرع من الآفة فيحط من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة
فما نفى فيه الشيخ الخلاف ضمان نقص العين ولم يذكر ضمان نقص المنفعة هنا لكن ذكره فى كتاب الإجارة والموضع موضع إشتباه وفى كلام أكثر العلماء فيها إجمال وبما حققناه يتضح الصواب والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(30/302)
وسئل رحمه الله
عن رجل استأجر أرضا مقيلا ومراحا وللزراعة إن أمكن أيضا لينتفع بذلك انتفاع مثله بمثلها ثم إن الأرض المذكورة شمل الماء بعضها وترك بعضها فهل تصح الإجارة بذلك وهل يلزم المستأجر خراج الأرض كاملا ولم ينتفع ببعضها وهل القول قول المستأجر فى الإنتفاع أم لا والرجل يستأجر أرضا أو دارا أو حانوتا أو غير ذلك من ناظر وقف أو ولى يتيم ثم كان غبطة وزيادة لليتيم والوقف فهل يفسخ حكم الإجارة ويقبل زيادة ما جرى
فأجاب أما إجارة أرض تصلح للزراعة فجائز سواء كان قد شملها الرى أو لم يكن يشملها إذا كانت الأرض مما جرت العادة بأن الرى يشملها كما تكرى الأرض التى جرت عادتها أن تشرب من الماء قبل أن ينزل المطر عليها وهذا مذهب أئمة المسلمين كمالك وأبى حنيفة والإمام أحمد وهو أيضا مذهب الشافعى الصحيح فى مذهبه
____________________
(30/303)
ولكن بعض أصحابه غلط فى معرفة مذهبه فلم يفرق بين الأرض التى ينالها الماء في أغلب الأوقات والأرض التي لا ينالها الماء إلا نادرا كالأراضى التى تشرب فى غير الأوقات ثم هذه الأرض التى صحت إجارتها إن شملها الرى وأمكن الزرع المعتاد وجبت الأجرة وإن لم يرو منها لم يجب على المستأجر شيء من الأجرة وإن روى بعضها دون بعض وجب من الأجرة بقدر ما روى ومن ألزم المستأجر بالإجارة وطالبه بالأجرة إذا لم ترو الأرض فقد خالف إجماع المسلمين
فإذا كان كذلك فقول القائل أجرتكها مقيلا ومراحا لا حاجة إليه ولا فائدة فيه وإنما فعل ذلك من ظن أنه لا تجوز الإجارة قبل رى الأرض والذى فعلوه من إجارتها مقيلا ومراحا باطل بإجماع المسلمين لوجهين
أحدهما أن هذه الأرض لا تصلح مقيلا ومراحا فإن الماشية لا تروح وتقيل إلا بأرض تقيم بها فى العادة مثل أن تكون بقرب ما ترعاه وتشرب منه فأما التى ليس فيها ماء ولا زرع ولا عمارة فلا تصلح مقيلا ومراحا وإجارة العين بمنفعة ليست فيها إجارة باطلة
الثانى أن هذه المنفعة إن كانت حاصلة فهي منفعة غير متقومة في
____________________
(30/304)
مثل هذه الأرض بل البرية كلها تشارك هذه الأرض فى كونها مقيلا ومراحا والمنفعة التى لا قيمة لها فى العادة بمنزلة الأعيان التى لا قيمة لها لا يصح أن يرد على هذه عقد إجارة ولا على هذه عقد بيع بالإتفاق كالإستظلال والإستضاءة من بعد
وأما إجارة الأرض لينتفع بذلك إنتفاع مثله بمثلها فجائز
وأما قوله استأجر مقيلا ومراحا وللزراعة أن أمكن أيضا لينتفع بذلك انتفاع مثله بمثله فالإجارة صحيحة لكن قوله مقيلا ومراحا كلام لغو لا فائدة فيه وإذا لم يمكن الإنتفاع بها سقطت الأجرة وإن أمكن الإنتفاع ببعضها وجبت الأجرة بقدر ذلك وأما إذا تنازعا فى إمكان الإنتفاع رجع فى ذلك إلى غيرهما فإن الناس يعلمون هل رويت ام لم ترو
وسئل رحمه الله
عن رجل استأجر أرضا وصرح فى الإجارة أنه كان عاينها ولم يعاينها قبل إيجارها ووصفها المؤجر بأنها تروى كل عام ولم يسلم المؤجر للمستأجرين وصرح أن فيها مقيلا ومراحا وظهر فيها بقدر ربعها شرافي فهل تصح هذه الإجارة إذا لم يعاينها المستأجرون وهل
____________________
(30/305)
يلزمهم القيام بما روى من الأرض المذكورة خاصة أو يلزمهم القيام بما شرق فلم ينتفعوا به ولم يعاينوه
فأجاب إذا لم يرها ولم توصف له لم تصح الإجارة عند جمهور العلماء ومن صححها أثبت لهم الخيار خيار الرؤية وإن وصفت بوصف بأنها تروى كل عام فلم ترو فلهم فسخ الإجارة إذا وجدت بخلاف الصفة والشرط الذى شرط لهم ولو أجرهم إجارة مطلقة فروى بعضها ولم يرو بعض لم تجب عليهم الأجرة مالم يرو ولو ذكر فى الإجارة أنها مقيل ومراح فإن إجارة هذه الأرض التى لا تروى للمقيل والمراح باطلة بين العلماء لأن مالا يروى لا ينتفع به مقيلا ومراحا فإنها كسائر البرية التي لا زرع فيها ولا ماء ومثل هذه المنفعة لا تتقوم ولا قدر لها لو كانت موجودة فكيف وهى منتفية
والإجارة انما تصح على منفعة مقصودة واذا كان ما لا نفع فيه أو لا قيمة لنفعه لم يصح فكذلك اجارة ما لا نفع فيه لما استؤجر له ولا قيمة لتلك المنفعة وهذا على قول من صحح الحيل وليس يبطلها فان الأمر عنده ظاهر فانه علم أن المقصود بالعقد انما هو الانتفاع بالزرع واظهار ما سوى ذلك كذب وخداع
وإجارة الأرض التى تروى غالبا قبل الرى جائزة عند الأئمة وأما ما تروى أحيانا ففيه نزاع
____________________
(30/306)
وسئل رحمه الله
عن رجل استأجر أرضا قبالة بلا معرفة مساحتها مقيلا ومراحا ومرعى ومزرعا لينتفع بها مدة سبع سنين وأن الأرض المذكورة غرقت وتبحرت وعدم الإنتفاع بها وعندما غرقت قصد الإقالة منها وقد بقى فى الإجارة لما غرقت وعدم الآخر من الإنتفاع فهل يجب عليه فى سنة غرقها وتبحرها خراج أم لا وهل يجوز أن يقال
فأجاب إجارة الأرض المعينة جائزة وإن لم يعلم ذرعاتها كما يجوز بيعها وبيع سائر المعينات وإن لم يعلم مقدارها فإن بيع العين جزافا جائز بالسنة والإجماع كما ثبت عن النبى أنه أجاز بيع الشرك فى الأرض الربعة والحائط وبيع الثمر على الشجر بعد بدو صلاحه وأقرهم على بيع الطعام جزافا
ثم إذا تعطلت منفعتها بغرق أو غيره لم يجب عليه أجرة ما تعطل من المنفعة باتفاق المسلمين
____________________
(30/307)
وسئل
عن رجل استأجر قرية وغلب على أرضها الماء بسبب أنه انكسر عليه نهر وعجزوا عن رده فهل يسقط عنهم من الأجرة بقدر ما غرق أم لا وإذا حكم عليه حاكم بلزوم جميع الأجرة فهل ينفذ حكمه أم لا فأجاب الحمد لله له أن يفسخ الإجارة وله أن يحط من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة ومن حكم بلزوم العقد وجميع الأجرة فقد حكم بخلاف الإجماع ولا ينفذ حكمه
وسئل رحمه الله
إذا تعطل بعض منافع الدار فهل يسقط من الأجرة بقدر ذلك فأجاب نعم يسقط عنه من الأجرة بقدر ما تعطل من المنفعة المستحقة بالعقد
____________________
(30/308)
وسئل رحمه الله
عمن استأجر بستانا فيه أرض بياض وشجره أكثر إستأجره سنتين وصورة الأرض بياض وساقاه على الشجر بجزء من ألف جزء وجعلوا المساقاة حيلة لبيع الثمر قبل حله فأتلف الجراد أكثر الثمر فهل يسقط عن المستأجر ما أتلفه الجراد
فأجاب هذه المعاملات الواقعة على البساتين المسماة بالضمان سواء كانت قبل ظهور الثمرة وقبل بدو صلاحها أو بعدهما أو بينهما وسواء سميت ضمانا أو سميت للتحيل مساقاة وإجارة فإنه اذا تلف الثمر بجراد أو نحوه من الآفات السماوية كنهب الجيوش وغير ذلك فإنه يجب وضع الجائحة عن المستأجر المشترى فيحط عنه من العوض بقدر ما تلف من العوض سواء كان العقد فاسدا أو صحيحا وعلى كلا الصورتين نص رسول الله فى الصحيح من حديث أنس وجابر وهو قول جماهير العلماء فى العقد الصحيح فكيف فى العقد الفاسد أو المختلف فيه أو المتحيل على صحته والله أعلم
____________________
(30/309)
وسئل رحمه الله
عن قوم عليهم لأصحاب القرية دراهم وتقاوي وأن التقاوي جميعها بذروها فى القرية المذكورة وقد جاء برد أهلك الزرع بعد إقباله فهل يلزم الفلاحين المذكورين القيام بجميع التقاوى التى قبضوها أم لا
فأجاب إن كانت التقاوى من الملاك بذرا فى الأرض فى زراعة صحيحة أو فاسدة فلا ضمان على الفلاحين إذا فعلوا بها ما أمروا به وإن سميت مع ذلك بإسم القرض الفاسد فإن المقصود بها مزارعة وإذا بذر المالك فيها بذرا يرجع به
وأما إن كانت قرضا مطلقا فى الذمة يتصرف فيه المقترض بأشياء فهي فى ذمة المقترض وإن تلف زرعه والدراهم
____________________
(30/310)
وسئل
عن رجل إستأجر أملاكا موقوفة وقلت الرغبات فى سكانها وعمل بذلك محضرا بأرباب الخبرة فهل يضع عنه شيئا إذا رأى فى ذلك مصلحة للوقف وإذا حط عنه هل يرجع عليه إذا انقضت مدة الإجارة وهل لمستحقى ريع الوقف التعرض على الناظر بسبب ذلك
فأجاب الحمد لله إذا استأجر ما تكون منفعة إيجاره للناس مثل الحمام والفندق والقيسارية ونحو ذلك فنقصت المنفعة المعروفة مثل أن ينتقل جيران المكان ويقل الزبون لخوف أو خراب أو تحويل ذي سلطان لهم ونحو ذلك فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة المعروفة سواء رضى الناظر وأهل الوقف أو سخطوا ولا يرجع على المستأجر بما وضع عنه إذا لم توضع إلا قدر ما نقص من المنفعة المعروفة والله أعلم
____________________
(30/311)
وسئل رحمه الله
عن رجل استأجر من رجل اقطاعه وهو قيراط واحد ونصف قيراط من الناحية إجارة شرعية لينتفع المستأجر بذلك بالزراعة كيف شاء على الوجه المشروع ولم يكن فى الإجارة المذكورة مراحا ولا مقيلا وقد سرق بعض ما فى الناحية المذكورة ولم ينتفع به فهل يلزم المستأجر المذكور أجرة ما تعطل أم لا
فأجاب ما لم يشمله الرى من الأرض فإنه يسقط بقدره من الأجرة باتفاق العلماء وإن قال فى الإجارة مقيلا ومراحا أو أطلق ولو لم يرو شيء من الأرض لم يجب عليه شيء من الأجرة باتفاق العلماء وإن قال فى الإجارة مقيلا ومراحا والله أعلم
____________________
(30/312)
& باب العارية
سئل شيخ الإسلام رحمه الله
عمن استعار من رجل فرسا ليركبها إلى باب النصر واشترط المستعير على أن لا يسير بالفرس سوى إلى باب النصر ويجيء من ساعته فسار بها إلى بركة الحجاج ولم يجيء إلا بعد العصر فانتكب الفرس وباعها صاحبها بنصف قيمتها فهل يجب على المستعير نصف نقص القيمة
فأجاب نعم إذا كان قد زاد فى الإستعمال على ما أذن له صاحبها فهو ظالم ضامن ما يتلف بعدوانه فما نقص من قيمة الفرس بهذا الظلم كان ضامنا له باتفاق الأئمة
____________________
(30/313)
وسئل رحمه الله
عن رجل أعار فرسا وهى شركة بغير إذن شريكه فماتت الفرس عند الذى أعارها شريكه فمن يضمن حصة الشريك
فأجاب إذا أعار نصيب الشريك بغير إذنه وتلفت الفرس كان له مطالبة المعير المعتدى بقيمة نصيبه وله مطالبة المستعير أيضا والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن امرأة استعارت زوجى حلق وقد عدموا منها فهل يلزمها قيمة الحلق
فأجاب إن كانت فرطت فى حفظها لزمها غرامتها بإتفاق العلماء
وإن لم تفرط ففي ذلك نزاع مشهور بينهم ففى مذهب أبى حنيفة لا ضمان عليها وفى مذهب الشافعى وأحمد عليها الضمان وعند مالك إذا تلفت بسبب معلوم فلا ضمان عليها وإذا أدعت التلف بسبب خفى لم يقبل منها والله أعلم
____________________
(30/314)
وسئل رحمه الله
عن رجل سافر وانتهى به الطريق إلى قرية فعزم عليه رجل فبات عنده وطلب منه دابة فلما وصل إلى الفندق ماتت
فأجاب هذه المسألة فيها قولان للعلماء
أحدهما لا ضمان عليه إذا تلفت بغير تفريطه ولا عدوانه وهذا مذهب أبى حنيفة ومالك وبعض أصحاب الإمام أحمد
والقول الثانى عليه الضمان وهو مذهب الشافعى وأحمد والله أعلم
وسئل
عمن استعار من رجل شيئا فأعاره وهو لا يشك فى أنه عمر وقطع بأنه ذلك الشخص وطلب ما أعاره فأنكر فحلف بالطلاق الثلاث أنه هو المستعير فطلع خلاف ما ظنه وجاء بالعارية فهل يقع عليه الطلاق والحالة هذه أم لا
____________________
(30/315)
فأجاب إذا كان الأمر على ما ذكر من أنه يعتقد صدق نفسه فما حلف عليه لم يقع به الطلاق وإن تبين له فيما بعد أنه أخطأ والله أعلم والحمد لله رب العالمين
وسئل رحمه الله
عن رجلين عند أمير فقال الأمير لأحدهما أطلب سيف رفيقك على سبيل العارية فأجاب وأخذه الأمير فعدم عنده هل تلزم المطالبة للأمير أو للرسول الذى استعاره
فأجاب إذا كان الرسول لم يكذب ولم يتعد فلا ضمان عليه بل الضمان على المستعير إن كان فرط أو اعتدى باتفاق العلماء وإلا ففى ضمانه نزاع والله أعلم
____________________
(30/316)
& باب الغصب
سئل شيخ الإسلام رحمه الله
عمن غصب زرع رجل وحصده هل يباح للفقراء اللقاط المتساقط
فأجاب نعم يباح اللقاط كما كان يباح لو حصدها المالك كما يباح رعى الكلأ فى الأرض المغصوبة نص الإمام أحمد على هذه المسألة الثانية وذلك لأن ما يباح من الكلأ واللقاط لا يختلف بالغصب وعدمه ولا يمنعه حق المالك
وسئل
عن رجل له أرض ملك وهى بيده ثلاثون سنة فجاء رجل جذ زرعه منها ثم زرعها فى ثانى سنة فما يجب عليه
فأجاب ليس لأحد أن يستولى عليه بغير حق بل له أن يطالب
____________________
(30/317)
من زرع فى ملكه بأجرة المثل وله أن يأخذ الزرع إذا كان قائما ويعطيه نفقته والله أعلم
وسئل
عمن سرق كيل غلة وبذره ولم يعرف مالكه فهل يحل له الزرع كله
فأجاب أما مقدار البذر فيتصدق به بلا ريب وأما الزيادة ففيها نزاع وأعدل الأقوال أن يجعل ذلك مزارعة فيأخذ نصيبه ونصيب صاحب البذر يتصدق به عنه والله أعلم
وسئل
عن رجل غصب عينا فباعها من رجل عالم بالغصب فجاء صاحب العين فأخذها من يد المشترى فهل للمشترى أن يرجع على الغاصب الذى اشتراها منه مع علمه بالغصب بالثمن الذى بذله له أم المشترى لا يرجع على الغاصب بشيء والذى نقده للغاصب يروح مجانا فكيف الحكم فى ذلك
____________________
(30/318)
فأجاب الحمد لله رب العالمين بل للمشترى أن يرجع على الغاصب بالثمن الذى قبضه منه سواء كان عالما بالغصب أو لم يكن عالما فإن الثمن قبضه بغير حق ولو كان برضاه
فإنهما لو تبايعا ما لا يحل بيعه من خمر أو خنزير برضاهما لوجب أن يرد المبيع فيتلف الخمر والخنزير ويرد على المشترى الثمن فكيف إذا باعه مال الغير وبأى وجه بقى الثمن فى يد الغاصب فلا حق له فيه وإنما هو ملك المشترى والله أعلم
وسئل رضى الله عنه
عن رجل غرس نوى فى أرض الغير
فأجاب الحمد لله إذا غرس نخلة تملكها فى أرض الغير ابنه لم يكن لورثة ابنه فيها حق بل الحق فيها له ولأهل الأرض فالنخلة له وعليه أجرة الأرض لأهلها إذا أبقوها فى أرضهم والله أعلم
____________________
(30/319)
وسئل
عن رجل كسب بعيرا وجاب البعير بعيرا فهل فى نتاجها رخصة فى الأربع مذاهب
فأجاب نتاج الدابة لمالكها ولا يحل للغاصب لكن إذا كان النتاج مستولدا من عمل المستولى فمن الناس من يجعل النماء بين المالك والعامل كالمضاربة ونحوها والله أعلم
وسئل
عن رجل له بهائم حلال وأنزى عليها فحل حرام فهل فى نتاجهم شبهة
فأجاب إذا أنزى على بهائمه فحل غيره فالنتاج له ولكن إذا كان ظالما فى الإنزاء بحيث يضر بالفحل المنزى فعليه ضمان ما نقص لصاحبه فإن لم يعرف صاحبه تصدق بقيمة نقصه وأما إن كان لا يضره فلا قيمة له فإن النبى نهى عن عسب الفحل والله أعلم
____________________
(30/320)
وسئل رحمه الله
عن رجل اشترى بهيمة بثمن بعضه حلال وبعضه حرام فأى شيء يحكم به الشرع
فأجاب إذا كان اشتراها بثمن بعضه له وبعضه مغصوب فنصفها ملكه والنصف الآخر لا يستحقه بل يدفعه إلى صاحبه إن أمكن وإلا تصدق به عنه فإن حصل من ذلك نماء كان حكمه حكم الأصل نصفه له ونصفه للجهة الأخرى والله أعلم
وسئل
عن جارية لسيدة تطلب لنفسها زركشا على لسان سيدتها ثم إن الجارية طلبت على لسان سيدتها خاتما وأنكرت السيدة والجارية معترفة
فأجاب إذا كانت طلبت على لسان سيدتها ولم تكن أذنت لها كانت الجارية غاصبة قابضة لذلك بغير حق فإذا تلفت فى يدها فضمانه فى رقبة الجارية وسيدتها بالخيار بين أن تفتديها فتؤدي قيمة ما أخذته وبين أن تسلمها لتباع ويؤخذ من ثمنها ذلك والله أعلم
____________________
(30/321)
وسئل قدس الله روحه
عن الأموال التى تقبض بطريق المناهب التى تجرى بين الأعراب إذا كان فيها حيوان تناسل وعين حصل فيها ربح أو شجر أثمر هل النسل والربح للغاصب لكونه هو الذى يرعى الحيوان ويتجر فى العين ويسقي الشجر أم للمالك المغصوب منه والأموال التى بأيدى هؤلاء الأعراب هل تزكى أم لا وإذا تاب الغاصب وقد جهل المالك ما حكمه هل يتصدق بالجميع أو البعض وهل تصح التوبة من الزنى والسرقة ونحو ذلك وفى أقوام من الأحمدية وغيرهم ممن يحضر سماع الغناء والملاهى ويمسكون الحيات ويدخلون النار ولا يحترقون وإذا لم يعطوا من الزكاة غضبوا وتوجهوا على المانع لهم ويقولون هذه فى إبلك هذه فى غنمك في كذا ويموت بعض الإبل والغنم فيقولون هذه بخواطرنا فهل يجوز إعطاء هؤلاء من الزكاة خوفا منهم أو لغير ذلك
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما المال المغصوب إذا عمل فيه الغاصب حتى حصل منه نماء ففيه أقوال للعلماء هل النماء للمالك
____________________
(30/322)
وحده أو يتصدقان به أو يكون بينهما كما يكون بينهما إذا عمل فيه بطريق المضاربة والمساقاة والمزارعة وكما يدفع الحيوان إلى من يعمل عليه بجزء من دره ونسله أو يكون للعامل أجرة مثله إن كانت عادتهم جارية بمثل ذلك كما فعل عمر بن الخطاب لما أقرض أبو موسى الأشعرى ابنيه من مال الفيء مائتي ألف درهم وخصهما بها دون سائر المسلمين ورأى عمر بن الخطاب أن ذلك محاباة لهما لا تجوز وكان المال قد ربح ربحا كثيرا بلغ به المال ثمانمائة ألف درهم فأمرهما أن يدفعا المال وربحه إلى بيت المال وأنه لا شيء لهما من الربح لكونهما قبضا المال بغير حق فقال له ابنه عبد الله إن هذا لا يحل لك فإن المال لو خسر وتلف كان ذلك من ضماننا فلماذا تجعل علينا الضمان ولا تجعل لنا الربح فتوقف عمر فقال له بعض الصحابة نجعله مضاربة بينهم وبين المسلمين لهما نصف الربح وللمسلمين نصف الربح فعمل عمر بذلك
وهذا مما اعتمد عليه الفقهاء في المضاربة وهو الذى استقر عليه قضاء عمر بن الخطاب ووافقه عليه أصحاب رسول الله وهو العدل فإن النماء حصل بمال هذا وعمل هذا فلا يختص أحدهما بالربح ولا تجب عليهم الصدقة بالنماء فإن الحق لهما لا يعدوهما بل يجعل الربح بينهما كما لو كانا مشتركين شركة مضاربة
____________________
(30/323)
وهكذا الذى يعمل على ماشية غيره أو بستانه أو أرضه حتى يحصل بمزروع أو در أو نسل لكن من العلماء من لا يجوز العمل هنا بجزء من النماء وإنما تجوز عنده الإجارة وأصح قولى العلماء أنها تجوز المساقاة وتجوز المزارعة سواء كان البذر من المالك أو من العامل أو منهما كما عامل النبى أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم رواه البخارى فى صحيحه
وكذلك أصحاب رسول الله كسعد بن أبى وقاص وعبد الله بن مسعود وغيرهما كانوا يدفعون إلى من يزرعها ليبذر من عنده والزرع بينهما وكان عامة بيوت المهاجرين والأنصار مزارعون
والنبى نهى عن المخابرة التى كانوا يفعلونها وهو أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها كما ثبت ذلك فى الصحيحين وهذا الذي نهى عنه النبى محرم باتفاق العلماء كما لو شرط فى المضاربة أن يكون لأحدهما دراهم مقدرة وإنما العدل ان يشتركا فيما يرزقه الله من النماء لهذا جزء شائع ولهذا جزء شائع فيشتركان فى المغنم ويشتركان فى المغرم فإن لم يحصل شيء ذهب نفع مال هذا ونفع بدن هذا
____________________
(30/324)
فصل
والأموال التى بأيدى هؤلاء الأعراب المتناهبين إذا لم يعرف لها مالك معين فإنه يخرج زكاتها فإنها إن كانت ملكا لمن هي فى يده كانت زكاتها عليه وإن لم تكن ملكا له ومالكها مجهول لا يعرف فإنه يتصدق بها كلها فإذا تصدق بقدر زكاتها كان خيرا من أن لا يتصدق بشيء منها فإخراج قدر الزكاة منها أحسن من ترك ذلك على كل تقدير
وإذا كان ينهب بعضهم بعضا فإن كان النهب بين طائفتين معروفتين فإنه ينظر قدر ما أخذته كل طائفة من الأخرى فإن كانوا سواء تقاضيا وأقر كل قوم على ما بأيديهم وإن لم يعرف عين المنهوب منه كما لو تقاتلوا قتال جاهلية وقتل هؤلاء بعض هؤلاء وهؤلاء بعض هؤلاء وأتلف هؤلاء بعض أموال هؤلاء فإن الواجب القصاص بين الطائفتين فتقابل النفوس بالنفوس والأموال بالأموال فإن فضل لإحدى الطائفتين على الأخرى شيء طالبتها بذلك
____________________
(30/325)
وعلى ذلك يدل قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } قال غير واحد من السلف نزلت هذه الآية فى قبيلتين من العرب كان بينهما قتال فأمر الله تعالى أن يقاص من القتلى الحر من هؤلاء بالحر من هؤلاء والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ثم قال { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } يقول إن فضل لأحدهما على الآخر شيء فليؤده إليهم بمعروف والتتبعة الأخرى أن يطالبهم به بإحسان والإتباع هوالمطالبة كما قال النبى ( مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع (
وهذا لأن الطوائف الممتنعة التى يعين بعضها بعضا فى القتال ثم يكون الضمان فيها على الذى يباشر القتال والأخذ والإتلاف وعلى الردء الذى يعينه عند جمهور العلماء
ولهذا كان فى مذهب الجمهور إن قطاع الطريق يقتل منهم الردء والمباشر وعمر بن الخطاب رضى الله عنه قتل ربيئة المحاربين وهو الناظر الذى ينظر لهم الطريق فالمتعاونون على الظلم والعدوان تجب عليهم العقوبة بالضمان وغيره ولهذا قال عامة الفقهاء إن الطائفتين المقتتلتين على عصبية ورياسة تضمن كل طائفة ما أتلفت للأخرى من
____________________
(30/326)
نفس ومال فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة وإن لم يعرف عين المتلف
وإن كان قدر المنهوب مجهولا لا يعرف ما نهب هؤلاء من هؤلاء ولا قدر ما نهب هؤلاء من هؤلاء فإنه يحمل الأمر على التساوي كمن اختلط فى ماله حلال وحرام ولم يعرف أيهما أكثر فإنه يخرج نصف ماله والنصف الباقي له حلال كما فعل عمر بن الخطاب بالعمال على الأموال فإنه شاطرهم فأخذ نصف أموال عماله على الشام ومصر والعراق فإنه رأى أنه اختلط بأموالهم شيء من أموال المسلمين ولم يعرف لا أعيان المملوك ولا مقدار ما أخذه هؤلاء من هؤلاء ولا هؤلاء من هؤلاء بل يجوز أن يكون مع الواحد أقل من حقه وأكثر ففي مثل هذا يقر كل واحد على ما فى يده إذا تاب من التعاون على الإثم والعدوان فإن المجهول كالمعدوم يسقط التكليف به ويزكى ذلك المال كما يزكيه المالك
وإن عرف أن فى ماله حلالا مملوكا وحراما لا يعرف مالكه وعرف قدره فإنه يقسم المال على قدرالحلال والحرام فيأخذ قدر الحلال وأما الحرام فيتصدق به عن أصحابه كما يفعل من عنده أموال مجهولة الملاك من غصوب وعواري وودائع فإن جمهور العلماء كمالك
____________________
(30/327)
وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون إنه يتصدق بها وهذا هو المأثور فى مثل ذلك عن أصحاب رسول الله
وإن لم يعرف مقدار الحلال والحرام فإنه يجعل المال نصفين يأخذ لنفسه نصفه والنصف الثانى يوصله إلى أصحابه إن عرفهم وإلا تصدق به
وما تصدق به فإنه يصرف في مصالح المسلمين فيعطى منه من يستحق الزكاة ويقري منه الضيف ويعان فيه الحاج وينفق فى الجهاد وفى أبواب البر التى يحبها الله ورسوله كما يفعل بسائر الأموال المجهولة وهكذا يفعل من تاب من الحرام وبيده الحرام لا يعرف مالكه
وسئل رحمه الله
عن وال وضع يده على عشرين ألف درهم لإنسان وثبت عليه عند حاكم وهم يعلمون أن جميع موجوده حراما نهب أموال الناس فهل يجوز لهم أن يأخذوا من هذا المال عوض ما أخذه لهم لأنهم يعلمون أن جميع ماله حرام
فأجاب الحمد لله رب العالمين إن كان جميع ما بيده أخذه من
____________________
(30/328)
الناس بغير حق مثل أن يأخذ من اللصوص وقطاع الطريق بعض ما يأخذونه من أموال الناس ومثل أن يطلب ظلم أقوام فيعطوه ما ينكف به عن ظلمهم ومثل أن يحمى بعض الناس عن مساواة نظرائهم فيما يطلب منهم ليعطوه رشوة ومثل أن يظلم فى حكمه أو يعدل برشوة يأخذها ومثل أن يغصب مال قوم بافتراء يفتريه عليهم ومثل أن يهدر دماء المقتولين برشوة من القاتلين فهذه الأموال ونحوها هي مستحقة لأصحابها كاللص الذى يسرق أموالا ويخلط بعضها ببعض فإن ذلك لا يحرمها على أصحابها بل يقتسمون الأموال بينهم على قدر حقوقهم وأن جهل عين مال الرجل لكونه باعه ونحو ذلك فعوضه يقوم مقامه ومن اكتسب بهذه الأموال بتجارة ونحوها فقيل الربح لأرباب الأموال وقيل له إذا اشترى فى ذمته وقيل بل يتصدقان به لأنه ربح خبيث وقيل بل يقسم الربح بينه وبين أرباب الأموال كالمضاربة كما فعل عمر بن الخطاب فى المال الذى أقرضه أبو موسى الأشعري لابنيه دون العسكر وهذا أعدل الأقوال
وإذا كان كذلك فأهل الأموال يقتسمون ما وجدوه على قدر حقوقهم فإن ذلك إما عين أموالهم وإما وفاء ديونهم الثابتة فى ذمته بل الحق أن حقوقهم متعلقة بالأمرين جميعا بذمته وبالأموال فأما إذا لم يعرف مقدار ما غصبه ولا أعيان الغرماء كلهم فمن أخذ منهم من هذه
____________________
(30/329)
الأموال قدر حقه لم يحكم بأن ذلك حرام لا سيما إذا كان قد اتجر فى الأموال التى بيده فإنه يستحق حينئذ أكثر من قدر حقه لكن يخاف أ ن تكون الأموال التى بيده تضيق عن حقوق جميع المستحقين لكن المجهول منهم الذى لا يعلم صار كالمعدوم فإن كان الذى يأخذ قدر حقه له ولم يظلم سائر الغرماء المعروفين لم نحكم بتحريم ما أخذه لكن إن ظهر فيما بعد غرماء ولهم قسط من ماله كان لهم المطالبة بقدر حقوقهم فمن استولى على المال يؤخذ من كل واحد بقدر ما إستولى والله أعلم
وقال رحمه الله
سئلت عن قوم أخذت لهم غنم أو غيرها من المال ثم ردت عليهم أو بعضها وقد اشتبه ملك بعضهم ببعض
فأجبتهم أنه إن عرف قدر المال تحقيقا قسم الموجود بينهم على قدره وإن لم يعرف إلا عدده قسم على العدد لأن المالين إذا اختلطا قسما بينهما وإن كان يدفع لكل منهم عن ماله ما كان للآخر لأن الإختلاط جعلهم شركاء لا سيما على أصلنا أن الشركة تصح بالعقد مع إمتياز المالين لكن الإشتباه فى الغنم ونحوها يقوم مقام الإختلاط فى المائعات
____________________
(30/330)
وعلى هذا فينبغى أنه إذا اشتركا فيما يتشابه من الحيوان والثياب أنه يصح كما لو كان رأس المال دراهم إذا صححناها بالعروض وإذا كانوا شركاء بالإختلاط والإشتباه فعند القسمة يقسم على قدر المالين فإن كان المردود جميع مالهم فظاهر وإن كان بعضه فذلك البعض هو بعض المشترك كما لو رد بعض الدراهم المختلطة
يبقى إن كان حيوانا فهل يجب قسمته أعيانا عند طلب بعضهم قولا واحدا أو يخرج على القولين فى الحيوان المشترك فالأشبه خروجه على الخلاف لأنه إذا كان لأحدهما عشرة رؤوس وللآخر عشرون فما وجد فلأحدهما ثلثه وللآخر ثلثاه كذلك لكن المحذور فى هذه المسألة أن مال كل منهما إن عرف قيمته فظاهر وإن لم يعرف إلا عدده مع أن غنم أحدهما قد تكون خيرا من غنم الآخر فالواجب عند تعذر معرفة رجحان أحدهما على الآخر التسوية لأن الضرورة تلجىء إلى التسوية وعلى هذا فسواء اختلط غنم أحدهما بالآخر عمدا أو خطأ يقسم المالان على العدد إن لم يعرف الرجحان وإن عرف وجهل قدره أثبت منه القدر المتيقن وأسقط الزائد المشكوك فيه لأن الأصل عدمه
____________________
(30/331)
وسئل رحمه الله
هل يجوز له أن يخرق ثوبه كما يخرق ثوبه
فأجاب وأما القصاص فى إتلاف الأموال مثل أن يخرق ثوبه فيخرق ثوبه المماثل له أو يهدم داره فيهدم داره ونحو ذلك فهذا فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد
أحدهما أن ذلك غير مشروع لأنه إفساد ولأن العقار والثياب غير مماثلة
والثاني أن ذلك مشروع لأن الأنفس والأطراف أعظم قدرا من الأموال وإذا جاز إتلافها على سبيل القصاص لأجل إستيفاء المظلوم فالأموال أولى ولهذا يجوز لنا أن نفسد أموال أهل الحرب إذا أفسدوا أموالنا كقطع الشجر المثمر
وإن قيل بالمنع من ذلك لغير حاجة فهذا فيه نزاع فإنه إذا أتلف له ثيابا أو حيوانا أو عقارا ونحو ذلك فهل يضمنه بالقيمة أو يضمنه بجنسه مع القيمة على قولين معروفين للعلماء وهما قولان فى
____________________
(30/332)
مذهب الشافعى وأحمد فإن الشافعى قد نص على أنه إذا هدم داره بناها كما كانت فضمنه بالمثل وقد روى عنه فى الحيوان نحو ذلك وكذلك أحمد يضمن أولاد المغرور بجنسهم فى المشهور عنه وإذا إقترض حيوانا رد مثله فى المنصوص عنه
وقصة داود وسليمان هي من هذا الباب فإن داود عليه السلام قد ضمن أهل الحرث الذى نفشت فيه غنم القوم بالقيمة وأعطاهم الماشية مكان القيمة وسليمان عليه السلام أمرهم أن يعمروا الحرث حتى يعود كما كان وينتفعوا بالماشية بدل ما فاتهم من منفعة الحرث وبهذا أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز لما كان قد إعتدى بعض بنى أمية على بستان له فقلعوه وسألوه ما يجب فى ذلك فقال يغرسه كما كان فقيل له إن ربيعة وأبا الزناد قالا تجب القيمة فتكلم الزهري فيهما بكلام مضمونه أنهما خالفا السنة
ولا ريب أن ضمان المال بجنسه مع اعتبار القيمة أقرب إلى العدل من ضمانه بغير جنسه وهو الدراهم والدنانير مع اعتبار القيمة فإن القيمة معتبرة فى الموضعين والجنس مختص بأحدهما ولا ريب أن الأغراض متعلقة بالجنس وإلا فمن له غرض فى كتاب أو فرس أو بستان ما يصنع بالدراهم فإن قيل يشترى بها مثله قيل الظالم الذى فوته ماله هو أحق بأن يضمن له مثل ما فوته إياه أو نظير ما أفسده من ماله
____________________
(30/333)
وسئل
عن تجار أخذهم حرامية ثم ردوا عليهم من المال شيئا فهل من عرف شيئا من ماله يأخذه أو يقسم على رؤوس الأموال المأخوذة بالسوية الخ
فأجاب الحمد لله أما من وجد ماله بعينه فهو أحق به وأما الذين عدمت أموالهم فيتقاسمون ما غرمه الحرامية لهم على قدر أموالهم لا على عدد الرؤوس والله أعلم
وسئل
عن عسكر نزلوا مكانا باتوا فيه فجاء أناس سرقوا لهم قماشا فلحقوا السارق فضربه أحدهم بالسيف ثم حمل إلى مقدم العسكر ثم مات بعد ذلك
فأجاب إذا كان هذا هو الطريق فى استرجاع ما مع السارق لم يلزم الضارب شيء وقد روى بن عمر أن لصا دخل داره فقام
____________________
(30/334)
إليه بالسيف فلولا أنهم ردوه عنه لضربه بالسيف وفى الصحيحين ( من قتل دون ماله فهو شهيد (
وسئل
عما قدمه للسلطان من المغصوب الخ
فأجاب أما ما قدمه للسلطان من المغصوب وأعطاه ما أعطاه فليتصدق بقدر ذلك المغصوب عن صاحبه إن لم يعرفه وكذلك ما أهداه للأمير أو عوضه عنه
وسئل رحمه الله
عن رجل يطحن فى طواحين السلطان يستأجرها وهو يعلم أن بعضها ما هو غصب وفى رجل يعمل فى زرع السلطان هل نصيبه منه حلال وما يكسبه الأول من الطاحون
فأجاب أما الأراضي السلطانية والطواحين السلطانية التى لم يعلم أنها مغصوبة فيجوز للإنسان أن يعمل فيها مزارعه بنصيب من الزرع ويجوز أن يستأجرها ويجوز ان يعمل فيها بأجرته
____________________
(30/335)
مع الضمان
وأما إذا علم أنها مغصوبة ولم يعرف لها مالك معين فهذه فيها نزاع والأظهر أنه يجوز العمل فيها إذا كان العامل لا يأخذ إلا أجرة عمله فإنه حينئذ لايكون قد ظلم أحدا شيئا فالعمل فيها خير من تعطيلها على كل تقدير وهذا إن أمكن أن ترد إلى أصحابها وإلا صرفت فى مصالح المسلمين والمجهول كالمعدوم
وأما إذا عرف أن للأرض مالكا معينا وقد أخذت منه بغير حق فلا يعمل فيها بغير إذنه أو إذن وليه أو وكيله والله أعلم
وسئل
عمن يطلب منهم كلف يجمعونها من أهل البلد
فإذا كانوا سووا بين الناس فيما طلب منهم وهم مغصوبون فى ذلك فهل عليهم إثم
فأجاب بل هذه الكلف التى تطلب من الناس بحق أو بغير حق يجب العدل فيها ويحرم أن يوفر فيها بعض الناس ويجعل قسطه على غيره ومن قام فيها بنية العدل وتخفيف الظلم مهما أمكن وإعانة الضعيف لئلا يتكرر الظلم عليه بلا نية إعانة الظالم كان كالمجاهد فى سبيل الله إذا تحرى العدل وابتغى وجه الله
____________________
(30/336)
وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحرانى قدس الله روحه ونور ضريحه بمنه وكرمه الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما فصل فى ( المظالم المشتركة ( التى تطلب من الشركاء مثل المشتركين فى قرية أو مدينة إذا طلب منهم شيء يؤخذ على أموالهم أو رؤوسهم مثل الكلف السلطانية التى توضع عليهم كلهم إما على عدد رؤوسهم أو عدد دوابهم أو عدد أشجارهم أو على قدر أموالهم كما يؤخذ منهم أكثر من الزكوات الواجبة بالشرع أو أكثر من الخراج الواجب بالشرع أو تؤخذ منهم الكلف التى أحدثت فى غير الأجناس الشرعية
____________________
(30/337)
كما يوضع على المتبايعين للطعام والثياب والدواب والفاكهة وغير ذلك يؤخذ منهم إذا باعوا ويؤخذ ذلك تارة من البائعين وتارة من المشترين وإن كان قد قيل أن بعض ذلك وضع بتأويل وجوب الجهاد عليهم بأموالهم وإحتياج الجهاد إلى تلك الأموال كما ذكره صاحب ( غياث الأمم ) وغيره مع ما دخل فى ذلك من الظلم الذى لا مساغ له عند العلماء
ومثل الجبايات التى يجبيها بعض الملوك من أهل بلده كل مدة ويقول أنها مساعدة له على ما يريد ومثل ما يطلبه الولاة أحيانا من غير أن يكون راتبا إما لكونهم جيشا قادمين يجمعون ما يجمعونه لجيشهم وإما لكونهم يجمعون لبعض العوارض كقدوم السلطان أو حدوث ولد له ونحو ذلك وإما أن ترمى عليهم سلع تباع منهم بأكثر من أثمانها وتسمى ( الحطائط ومثل القافلة الذين يسيرون حجاجا أو تجارا أو غير ذلك فيطلب منهم على عدد رؤوسهم أو دوابهم أو قدر أموالهم أو يطلب مطلقا منهم كلهم سواء كان الطالب ذا السلطان فى بعض المدائن والقرى كالذين يقعدون على الجسور وأبواب المدائن فيأخذون ما يأخذونه أو كان الآخذون قطاع طريق كالأعراب والأكراد والترك الذين يأخذون مكوسا من أبناء السبيل ولا يمكنونهم من العبور حتى يعطوهم ما يطلبون
فهؤلاء المكرهون على أداء هذه الأموال عليهم لزوم العدل فيما
____________________
(30/338)
يطلب منهم وليس لبعضهم أن يظلم بعضا فيما يطلب منهم بل عليهم إلتزام العدل فيما يؤخذ منهم بغير حق كما عليهم إلتزام العدل فيما يؤخذ منهم بحق فإن هذه الكلف التى أخذت منهم بسبب نفوسهم وأموالهم هي بمنزلة غيرها بالنسبة إليهم وإنما يختلف حالها بالنسبة إلى الأخذ فقد يكون أخذا بحق وقد يكون أخذا بباطل
وأما المطالبون بها فهذه كلف تؤخذ منهم بسبب نفوسهم وأموالهم فليس لبعضهم أن يظلم بعضا فى ذلك بل العدل واجب لكل أحد على كل أحد فى جميع الأحوال والظلم لا يباح شيء منه بحال حتى أن الله تعالى قد أو جب على المؤمنين أن يعدلوا على الكفار فى قوله تعالى { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } والمؤمنون كانوا يعادون الكفار بأمر الله فقال تعالى لا يحملكم بغضكم للكفار على أن لا تعدلوا عليهم بل أعدلوا عليهم فإنه أقرب للتقوى
وحينئذ فهؤلاء المشتركون ليس لبعضهم أن يفعل ما به ظلم غيره بل أما أن يؤدى قسطه فيكون عادلا وأما أن يؤدى زائدا على قسطه فيعين شركاءه بما أخذ منهم فيكون محسنا وليس له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذلك المال إمتناعا يؤخذ به قسطه من سائر الشركاء فيتضاعف الظلم عليهم فإن المال إذا كان يؤخذ لا محالة وامتنع بجاه
____________________
(30/339)
أو رشوة أو غيرهما كان قد ظلم من يؤخذ منه القسط الذى يخصه وليس هذا بمنزلة أن يدفع عن نفسه الظلم من غير ظلم لغيره فإن هذا جائز مثل أن يمتنع عن أداء ما يخصه فلا يؤخذ ذلك منه ولا من غيره
وهذا كالوظائف السلطانية التى توضع على القرى مثل أن يوضع عليهم عشرة آلاف درهم فيطلب من له جاه بأمرة أو مشيخة أو رشوة أو غير ذلك أن لا يؤخذ منه شيء وهم لابد لهم من أخذ جميع المال وإذا فعل ذلك أخذ ما يخصه من سائر الشركاء فيمتنع من أداء ماينوبه ويؤخذ من سائر الشركاء فإن هذا ظلم منه لشركائه لأن هذا لم يدفع الظلم عن نفسه إلا بظلم شركائه وهذا لا يجوز وليس له أن يقول أنا لم أظلمهم بل ظلمهم من أخذ منهم الحصتين لأنه يقال ( أولا ) هذا الطالب قد يكون مأمورا ممن فوقه أن يأخذ ذلك المال فلا يسقط عن بعضهم نصيبه إلا أخذه من نصيب ذلك الآخر فيكون أمره بأن لا يأخذ أمرا بالظلم
( الثانى ) أنه لو فرض أنه الآمر الأعلى فعليه أن يعدل بينهم فيما يطلبه منهم وإن كان أصل الطلب ظلما فعليه أن يعدل فى هذا الظلم ولا يظلم فيه ظلما ثانيا فيبقى ظلما مكررا فإن الواحد منهم إذا كان قسطه مائة فطولب بمائتين كان قد ظلم ظلما مكررا بخلاف ما إذا
____________________
(30/340)
أخذ من كل قسطه ولأن النفوس ترضى بالعدل بينها فى الحرمان وفيما يؤخذ منها ظلما ولا ترضى بأن يخص بعضها بالعطاء أو الإعفاء
ولهذا جاءت الشريعة بأن المريض له أن يوصى بثلث ماله لغير وارث ولا يخص الوارث بزيادة على حقه من ذلك الثلث وإن كان له أن يعطيه كله للأجنبى وكذلك فى عطية الأولاد هو مأمور ان يسوى بينهم فى العطاء أو الحرمان ولا يخص بعضهم بالإعطاء من غير سبب يوجب ذلك لحديث النعمان بن بشير وغيره
( الثالث ) انه اذا طلب من القاهر ان لا ياخذ منه وهو يعلم انه يضع قسطه على غيره فقد امره بما يعلم انه يظلم فيه غيره وليس للإنسان ان يطلب من غيره ما يظلم فيه غيره وان كان هو لم يأمره بالظلم كمن يولى شخصا ويأمره ان لا يظلم وهو يعلم انه يظلم فليس له ان يوليه وكذلك من وكل وكيلا وامره ان لا يظلم وهو يعلم أنه يظلم وكذلك من طلب من غيره ان يوفيه دينه من ماله الحلال وهو يعلم انه لا يوفيه الا مما ظلمه من الناس وكذلك هذا طلب منه أن يعفيه من الظلم وهو يعلم أنه لا يعفيه إلا بظلم غيره فليس له أن يطلب منه ذلك
( الرابع ) أن هذا يفضي إلى أن الضعفاء الذين لا ناصر لهم يؤخذ منهم جميع ذلك المال والأقوياء لا يؤخذ منهم شيء من وظائف الأملاك مع أن أملاكهم أكثر وهذا يستلزم من الفساد والشر
____________________
(30/341)
مالا يعلمه إلا الله تعالى كما هو الواقع ( الخامس ) أن المسلمين إذا احتاجوا إلى مال يجمعونه لدفع عدوهم وجب على القادرين الإشتراك فى ذلك وإن كان الكفار يأخذونه بغير حق فلأن يشتركوا فيما يأخذه الظلمة من المسلمين أولى وأحرى فصل
وعلى هذا فإذا تغيب بعض الشركاء أو إمتنع من الأداء فلم يؤخذ منه وأخذ من غيره حصته كان عليه أن يؤدى قدر نصيبه إلى من أدى عنه فى أظهر قولى العلماء كما يؤدى ما عليه من الحقوق الواجبة ويلزم بذلك ويعاقب على أدائه كما يعاقب على أداء سائر الحقوق الواجبة عليه كالعامل فى الزكاة إذا طلب من أحد الشريكين أكثر من الواجب وأخذه بتأويل فللمأخوذ منه أن يرجع على الآخر بقسطه وإن كان بغير تأويل فعلى قولين
أظهرهما أن له أن يرجع أيضا كناظر الوقف وولى اليتيم والمضارب والشريك والوكيل وسائر من تصرف لغيره بولاية أو وكالة إذا طلب منه ما ينوب ذلك المال من الكلف مثل ما إذا أخذت منه الكلف السلطانية عن الأملاك أو أخذ من التجار فى الطرق والقرى ما ينوب الأموال التى معهم فإن لهم أن يؤدوا ذلك من نفس المال بل يجب عليهم إذا خافوا أن لم يؤدوه أن يؤخذ أكثر منه وإذا قدر
____________________
(30/342)
أن المال صار غائبا فاقترضوا عليه وأدوا عنه أو أدوا من مال لهم عن مال الموكل والمولى عليه كان لهم الرجوع بقدر ذلك من ماله وعلى هذا عمل المسلمين فى جميع الأعصار والأمصار
ومن لم يقل بذلك فإنه يلزم قوله من الفساد مالا يعلمه إلا رب العباد فإن الكلف التى تؤخذ من الأموال على وجه الظلم كثيرة جدا فلو كان ما يؤديه المؤتمن على مال غيره عنه من تلك الكلف التى تؤخذ منه قهرا بغير حق تحسب عليه إذا لم يؤدها من غير مال المؤتمن لزم من ذلك ذهاب كثير من أموال الأمناء ولزم ان لا يدخل الامناء فى مثل ذلك لئلا تذهب اموالهم
وحينئذ يدخل فى ذلك الخونة الفجار الذين لا يتقون الله بل يأخذون من الأموال ما قدروا عليه ويدعون نقص المقبوض المستخرج او زيادة المصروف المؤدى كما هو المعروف من حال كثير من المؤتمنين على الأموال السلطانية لكن هؤلاء قد يدخل فى بعض ما يفعلونه تأويل بخلاف الوكيل والشريك والمضارب وولى اليتيم وناظر الوقف ونحوهم
وإذا كان كذلك فالمؤتمن على المال المشترك بينه وبين شريكه اذا كان يعتد له بما اخذ منه من هذه الكلف فما قبضه عمال الزكاة بإسم الزكاة أولى ان يعتد له به وان قبضوا فوق الواجب بلا تأويل لا سيما وهذا
____________________
(30/343)
هو الواقع كثيرا أو غالبا فى هذه الأزمان فإن عمال الزكاة يأخذون من زكوات الماشية اكثر من الواجب بكثير وكذلك من زكوات التجارات ويأخذون من كل من كان المال بيده سواء كان مالكا أو وكيلا أو شريكا أومضاربا أو غيرهم فلو لم يعتد للامناء بما أخذ منهم ظلما لزم من الفساد ما لا يحصيه الا رب العباد
وأيضا فذلك الاعطاء قد يكون واجبا للمصلحة فإنه لو لم يؤده لأخذ الظلمة اكثر منه ومعلوم ان المؤتمن على مال غيره اذا لم يمكنه دفع الظلم الكثير الا باداء بعض المطلوب وجب ذلك عليه فإن حفظ المال واجب فاذا لم يمكن الا بذلك وجب فما لا يتم الواجب الا به فهو واجب
وايضا فالمنازع يسلم انهم لو اكرهوا المؤتمن على أخذ غير المال لم يكن ضامنا وان العامل الظالم اذا اخذ من المال المشترك اكثر من الواجب لم يكن ضامنا وانما وقعت لهم الشبهة اذا اكره المؤدي على الأداء عنه كيف كان فأدى عنه مما اقترض عليه او من مال انسان ليرجع عليه فيقال لهم أي فرق بين ان يكرهه على الأداء عنه من مال نفسه او من مال الغائب ومعلوم ان إلزامه بالأداء عن الغائب والممتنع اعظم ضررا عليه من الأداء من عين مال الغائب والممتنع فإن أداء ما يطلب من الغائب اهون عليه من اداء ذلك من مال نفسه فإذا عذر فيما
____________________
(30/344)
يؤديه من مال الغائب لكونه مكرها على الاداء فلأن يعذر اذا اكره على الأداء عنه اولى واحرى
فإن قال المنازع لأن المؤدى هناك عين مال المكره المؤدي فهو المظلوم فيقال لهم بل كلاهما مظلوم هذا مظلوم بالأداء عن ذاك وذاك مظلوم بطلب ماله فكيف يحمل كله على المؤدى والمقصود بالقصد الأول هو طلب المال من المؤدى عنه وانما الأعمال بالنيات والطالب الظالم انما قصده اخذ مال ذلك لا مال هذا وانما طلب من هذا الأداء عن ذاك
وأيضا فهذا المكره على الأداء عن الغائب مظلوم محض بسبب نفسه وماله وذاك مظلوم بسبب ماله فكيف يجعل مال هذا وقاية لمال ذاك لظلم هذا الظالم الذى اكرهه او يكون صاحب المال القليل قد اخذ منه أضعاف ما يخصه وصاحب المال الكثير لم يؤخذ منه شيء
وغاية هذا أن يشبه بغصب المشاع فإن الغاصب اذا قبض من العين المشتركة نصيب أحد الشريكين كان ذلك من مال ذلك الشريك فى أظهر قولى العلماء وهو ظاهر مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما لأنه انما قصد أخذ مال أحد الشريكين
____________________
(30/345)
ولو أقر أحد الابنين بأخ ثالث وكذبه أخوه لزم المقر أن يدفع إلى المقر به ما فضل عن حقه وهو السدس فى مذهب مالك وأحمد بن حنبل وكذلك ظاهر مذهب الشافعى وهو قول جمهور السلف جعلوا ما غصبه الأخ المنكر من مال المقر به خاصة لأنه لم يقصد أن يأخذ شيئا من حق المقر
ولكن أبو حنيفة قال فى غصب المشاع أن ما قبضه الغاصب يكون من الشريكين جميعا باعتبار صورة القبض من غير إعتبار نية وكذلك قال فى الأخ المنكر إن ما غصبه يكون منهما جميعا فيدفع المقر إلى المقر به نصف ما فى يده وهو الربع ويكون النصف الذى غصبه المنكر منهما جميعا وهذا قول فى مذهب أحمد والشافعى وقول الجمهور هو الصواب لأجل النية وكذلك هنا إنما قبض الظالم عن ذلك المطلوب لم يقصد أخذ مال الدافع
فإن قيل فلو غلط الظالم مثل أن يقصد القطاع أخذ مال شخص فيأخذون غيره ظنا أنه الأول فهل يضمن الأول مال هذا الذى ظنوه الأول قيل باب الغلط فيه تفصيل ليس هذا موضعه ولكن الفرق بينهما معلوم وليس هذا مثل هذا فإن الظالم الغالط الذى أخذ مال هذا لم يأخذه عن غيره ولكنه ظنه مال زيد فظهر أنه مال عمرو فقد قصد أن يأخذ مال زيد فأخذ مال عمرو كمن طلب قتل معصوم
____________________
(30/346)
فقتل معصوما آخر ظنا منه أنه الأول
وهذا بخلاف من قصد مال زيد بعينه وأن يأخذ من الشركاء ما يقسم بينهم بالعدل وأخذ من بعضهم عن بعض فإن هذا لم يغلط بل فعل ما أراده قصد أخذ مال شخص وطلب المال من المستولى على ماله من شريك أو وكيل ونحو ذلك ليؤديه عنه أو طلبوا من أحد الشركاء مالا عن الأمور المشتركة تؤخذ من الشركاء كلهم لم يغلطوا فى ظنهم فإذا كانوا إنما قصدوا الأخذ من واحد بل قصدوا العدل بينه وبين شركائه ولكن إنما قدروا على الأخذ من شريكه فكيف يظلم هذا الشريك مرتين
ونظير هذا أن يحتاج ولى بيت المال إلى اعطاء ظالم لدفع شره عن المسلمين كإعطاء المؤلفة قلوبهم لدفع شرهم أو اعطاء الكفار إذا احتاج والعياذ بالله إلى ذلك ولم يكن فى بيت المال شيء واستسلف من الناس أموالا أداها فهل يقول عاقل إن تلك الأموال تذهب من ضمان من أخذت منه ولا يرجع على بيت المال بشيء لأن المقبوض كان عين أموالهم لا عين أموال بيت المال وقد كان النبي وأصحابه يعطون ما يعطونه تارة من عين المال وتارة مما يستسلفونه فكان النبى صلى الله عليه وسلم يستسلف على الصدقة وعلى الفيء فيصرفه فى المصارف الشرعية من إعطاء المؤلفة
____________________
(30/347)
قلوبهم وغيرهم وكان فى الآخذين من لا يحل له الأخذ بل كان النبى يقول ( أنى لأعطى أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا ( قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال ( يأبون إلا أن يسألونى ويأبى الله لى البخل (
ولا يقول عاقل ان ذلك المال يذهب من عين من اقترض منه بل هو بمنزلة ما إذا كان عين مال الصدقة والفىء لأن المعطى جاز له الإعطاء وإن لم يجز للآخذ الأخذ هذا وهو يعطيه باختياره فكيف بمن أكره على الإعطاء وجاز له الإعطاء أو وجب عليه ولا يقال ولي الأمر هنا اقترض أموال الناس منهم لأنه يقال إنما إقترضها ليدفعها إلى ذلك الظالم الذى طلب أخذ أموال المسلمين فأدى عنهم ما إقترضه ليدفع به عنهم الضرر وعليه أن يوفى ذلك من أموالهم المشتركة مال الصدقات والفىء ولا يقال لا يحل له صرف أموالهم فإن الذى أخذه ذلك الظالم كان مال بعضهم بل أعطاء هذا القليل لحفظ نفوسهم وأموالهم واجب
وإذا كان الإعطاء واجبا لدفع ضرر هو أعظم منه فمذهب مالك وأحمد بن حنبل المشهور عنه وغيرهما إن كل من أدى عن غيره واجبا فله أن يرجع به عليه إذا لم يكن متبرعا بذلك وإن أداه بغير أذنه مثل من قضى دين غيره بغير اذنه سواء كان قد ضمنه بغير أذنه وأداه بغير إذنه أو أداه عنه بلا ضمان
____________________
(30/348)
وكذلك من افتك أسيرا من الأسر بغير اذنه يرجع عليه بما أفتكه به وكذلك من أدى عن غيره نفقة واجبة عليه مثل أن ينفق على إبنه أو زوجته أو بهائمه لا سيما إذا كان للمنفق فيها حق مثل أن يكون مرتهنا أو مستأجرا أو كان مؤتمنا عليها مثل المودع ومثل راد العبد الآبق ومثل إنفاق أحد الشريكين على البهائم المشتركة وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فأمر بإيتاء الأجر بمجرد إرضاعهن ولم يشترط عقد إستئجار ولا أذن الأب لها فى أن ترضع بالأجر بل لما كان إرضاع الطفل واجبا على أبيه فإن أرضعته المرأة إستحقت الأجر بمجرد إرضاعها وهذا فى الأم المطلقة قول أكثر الفقهاء يقولون أنها تستحق الأجر بمجرد الإرضاع وأبو حنيفة يقول بذلك فى الأم وإن كان لا يقول برجوع المؤدى للدين وخالفه صاحباه
والمفرق يقول الأم أحق برضاع ابنها من غيرها حتى لو طلبت الإرضاع بالأجر لقدمت على المتبرعة قيل فكذلك من له حق فى بهائم الغير كالمستأجر والمرتهن يستحق مطالبة المالك بالنفقة على بهائمه فذلك أحق من الأم بالإرضاع
وأيضا فلا يلزم من كونه يستحق ذلك بعقد المعاوضة أن يستحقه بدون عقد إلا أن يكون الإرضاع واجبا على الأب وإذا كان إنما
____________________
(30/349)
أداه لكونه واجبا عليه فهكذا جميع الواجبات عليه أن يؤديها إلى من أدى عنه وأحسن إليه بالأداء عنه وهذا إذا كان المعطى مختارا فكيف إذا أكره على أداء ما يجب عليه فإن الظالم القادر إذا لم يعطه المطلوب الذى طلبه منه ضره ضررا عظيما أما بعقوبة بدنية واما بأخذ أكثر منه وحينئذ يجب عليه دفع ما يندفع به أعظم الضررين بالتزام أدناهما فلو أدى الغير عنه بغير إكراه لكان له أن يرجع عليه بما أداه عنه فكيف إذا أكره على الأداء عنه
وأيضا فإذا كان الطلب من الشركاء كلهم فقد تقدم أنه ليس لبعضهم أن يمتنع مما عليه امتناعا يستلزم تكثير الظلم على غيره وحينئذ فيكون الأداء واجبا على جميع الشركاء كل يؤدى قسطه الذى ينوبه إذا قسم المطلوب بينهم بالعدل ومن أدى عن غيره قسطه بغير إكراه كان له أن يرجع به عليه وكان محسنا إليه فى الأداء عنه ومباشرة الظالمين دونه فإن المباشر يحصل له ضرر فى نفسه وماله والغالب إنما يحصل له الضرر فى ماله فقط فإذا أدى عنه لئلا يحضر كان محسنا إليه فى ذلك فيلزمه أن يعطيه ما أداه عنه كما يوفى المقرض المحسن فإن جزاء القرض الوفاء والحمد ومن غاب ولم يؤد حتى أدى عنه الحاضرون لزمه أن يعطيهم قدر ما أدوه عنه ويلزم بذلك ويعاقب أن امتنع عن أدائه ويطيب لمن أدى عنه أن يأخذ نظير ذلك من ماله كما يأخذ
____________________
(30/350)
المقرض من المقترض نظير ما أقرضه ومن قبض ذلك من ذلك المؤدى عنه وأداه إلى هذا المؤدى جاز له أخذه سواء كان الملزم له بالأداء هو الظالم الأول أو غيره
ولهذا له أن يدعي بما أداه عنه عند حكام العدل وعليهم أن يحكموا على هذا بأن يعطيه ما أداه عنه كما يحكم عليه بأداء بدل القرض ولا شبهة على الآخذ فى أخذ بدل ماله ولا يقال إنه أخذ أموال الناس فإنه إنما أخذ منهم ما أداه عنهم وبدل ما أقرضهم إياه من مال وبدل ما وجب عليهم أداؤه فإنه ليس لأحد الشركاء أن يمتنع عن أداء ما ينوبه إذا علم أن ذلك يؤخذ من سائر الشركاء كما تقدم وإذا لم يكن له هذا الإمتناع كان الأداء واجبا عليه فمن أدى عنه ناويا للرجوع فله الرجوع إذا أداه طوعا لإحسانه إليه بالأداء عنه فكيف إذا أكره على الأداء عنه ولو لم يكن الأداء واجبا عليه بل قد أكره ذلك الرجل على الأداء عنه رجع عليه فإنه بسببه أكره ذاك وأخذ ماله وهذا كمن صودر على مال فأكره أقاربه أو جيرانه أو أصدقاؤه أو شركاؤه على أن يؤدوا عنه ويرجعوا عليه فلهم الرجوع فإن أموالهم إنما أخذت بسببه وبسبب الدفع عنه
فإن الآخذ منه إما أن يأخذ لإعتقاده أنه ظالم كما يصادر ولاة الأمور بعض نوابهم ويقولون أنهم أخذوا من الأموال أكثر مما
____________________
(30/351)
صودروا عليه وأما أن يكون صاحب مال كثير فيطلب منه الطالب ما يقول أنه ينوب ماله فأقاربه وجيرانه وأصدقاؤه وغيرهم ممن أخذ ماله بسبب مال هذا أو بسبب أعماله إنما ظلموا لأجله وأخذت أموالهم لأجل ماله وصيانة لماله والطالب إنما مقصوده ماله لا أموال أولئك وشبهته وإرادته إنما هي متعلقة بماله دون أموالهم فكيف تذهب أموالهم هدرا من غير سبب منهم ويبقى مال هذا محفوظا وهو الذى طولبوا لأجله ولو لم يستحق هؤلاء المؤدون عن غيرهم الرجوع لحصل فساد كثير فى النفوس والأموال فإن النفوس والأموال قد يعتريها من الضرر والفساد مالا يندفع إلا بأداء مال عنهم فلو علم المؤدون أنهم لا يستحقون الرجوع بما أدوه إلا إذا أذن ذلك الشخص لم يؤدوا وهو قد لا يأذن إما لتغيبه أو لحبسه أو غير ذلك وإما لظلمه نفسه وتماديه على ما يضر نفسه وماله سفها منه وظلما حرمه الشارع عليه
ومعلوم أن الناس تحت أمر الله ورسوله فليس لأحد أن يضر نفسه وماله ضررا نهاه الله عنه ومن دفع ذلك الضرر العظيم عنه بما هو أخف منه فقد أحسن إليه وفى فطر الناس جميعهم أن من لم يقابل الإحسان بالإحسان فهو ظالم معتد وما عده المسلمون ظلما فهو ظلم كما قال بن مسعود رضى الله عنه ما رآه المسلمون حسنا فهو عند
____________________
(30/352)
الله حسن وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح
وأصل هذا اعتبار المقاصد والنيات فى التصرفات وهذا الأصل قد قرر وبسط فى كتاب ( بيان الدليل على بطلان التحليل ( وقد قال النبى فى بن اللتبية العامل الذي قبل الهدايا لما إستعمله على الصدقات فأهدى إليه هدايا فلما رجع حاسبه النبى على ما أخذ وأعطى وهو الذى يسميه أهل الديوان الإستيفاء كما يحاسب الإنسان وكيله وشريكه على مقبوضه ومصروفه وهو الذى يسميه أهل الديوان المستخرج والمصروف فقال إبن اللتبية هذا لكم وهذا أهدى لى فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدى لى أفلا قعد فى بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا والذى نفسى بيده ما من رجل نستعمله على العمل فيغل منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه إلى السماء ثم قال ألا هل بلغت ( أو كما قال والحديث متفق على صحته
فلما كان المعطون المهدون إنما أعطوه وأهدوا إليه لأجل ولايته جعل ذلك من جملة المال المستحق لأهل الصدقات لأنه بسبب أموالهم قبض ولم يخص به العامل الذى قبضه فكذلك ما قبض بسبب
____________________
(30/353)
اموال بعض الناس فعنها يحسب وهو من توابعها فكما أنه أعطى لأجلها فهو مغنم ونماء لها لا لمن أخذه فما أخذ لأجلها فهو مغرم ونقص منها لا على من أعطاه
وكذلك من خلص مال غيره من التلف بما أداه عنه يرجع به عليه مثل من خلص مالا من قطاع أو عسكر ظالم أو متول ظالم ولم يخلصه إلا بما أدى عنه فإنه يرجع بذلك وهو محسن إليه بذلك وإن لم يكن مؤتمنا على ذلك المال ولا مكرها على الأداء عنه فإنه محسن إليه بذلك وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان فإذا خلص عشرة آلاف درهم بألف أداها عنه كان من المحسنين فإذا أعطاه الألف كان قد أعطاه بدل قرضه وبقى عمله وسعيه فى تخليص المال إحسانا إليه لم يجزه به هذا أصوب قولى العلماء
ومن جعله فى مثل هذا متبرعا ولم يعطه شيئا فقد قال منكرا من القول وزورا وقد قابل الإحسان بالإساءة
ومن قال هذا هو الشرع الذى بعث الله به رسوله فقد قال على الله غير الحق لكنه قول بعض العلماء وقد خالفهم آخرون ونسبة مثل هذه الأقوال إلى الشرع توجب سوء ظن كثير من الناس فى الشرع وفرارهم منه والقدح فى أصحابه فإن من العلماء من قال قولا برأيه
____________________
(30/354)
وخالفه فيه آخرون وليس معه شرع منزل من عند الله بل الأدلة الشرعية قد تدل على نقيض قوله وقد يتفق أن من يحكم بذلك يزيد ذلك ظلما بجهله وظلمه ويتفق أن كل أهل ظلم وشر يزيدون الشر شرا وينسبون هذا الظلم كله إلى شرع من نزهه الله عن الظلم وبعثه بالعدل والحكمة والرحمة وجعل العدل المحض الذى لا ظلم فيه هو شرعه
ولهذا كان العدل وشرعه متلازمين قال الله تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقال تعالى { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } وقال تعالى { فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق }
فما أنزل عليه والقسط متلازمان فليس فيما أنزل الله عليه ظلم قط بل قد قال تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل
____________________
(30/355)
وسئل الشيخ قدس الله روحه
عن رجل متول ولايات ومقطع إقطاعات وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة وهو يختار أن يسقط الظلم كله ويجتهد فى ذلك بحسب ما قدر عليه وهو يعلم أنه إن ترك ذلك واقطعها غيره وولى غيره فإن الظلم لا يترك منه شيء بل ربما يزداد وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التى فى إقطاعه فيسقط النصف والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها وهو عاجز عن ذلك لا يمكنه ردها فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه وقد عرفت نيته وإجتهاده وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه أم عليه أن يرفع يده عن هذه الولاية والإقطاع وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم بل يبقى ويزداد فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر وهل عليه إثم فى هذا الفعل أم لا وإذا لم يكن عليه إثم فهل يطالب على ذلك أم لا وأى الأمرين خير له أن يستمر مع اجتهاده فى رفع الظلم وتقليله أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها فى ذلك من المنفعة به ورفع ما رفعه من الظلم فهل الأولى
____________________
(30/356)
له أن يوافق الرعية أم يرفع يده والرعية تكره ذلك لعلمها أن الظلم يبقى ويزداد برفع يده
فأجاب الحمد لله نعم إذا كان مجتهدا فى العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره وإستيلاؤه على الإقطاع خير من إستيلاء غيره كما قد ذكر فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع ولا إثم عليه فى ذلك بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه
وقد يكون ذلك عليه واجبا إذا لم يقم به غيره قادرا عليه فنشر العدل بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره فى ذلك مقامه ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم
وما يقرره الملوك من الوظائف التى لا يمكنه رفعها لا يطلب بها وإذا كانوا هم ونوابهم يطلبون أموالا لا يمكن دفعها إلا بإقرار بعض تلك الوظائف وإذا لم يدفع إليهم أعطوا تلك الإقطاعات والولاية لمن يقرر الظلم أو يزيده ولا يخففه كان أخذ تلك الوظائف ودفعها إليهم خيرا للمسلمين من إقرارها كلها ومن صرف من هذه إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره ومن تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل والإحسان
____________________
(30/357)
من غيره والمقطع الذى يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم يثاب ولا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره ولا ضمان عليه فيما أخذه ولا إثم عليه فى الدنيا والآخرة إذا كان مجتهدا فى العدل والإحسان بحسب الإمكان
وهذا كوصي اليتيم وناظر الوقف والعامل فى المضاربة والشريك وغير هؤلاء ممن يتصرف لغيره بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم إلا بأداء بعضه من أموالهم للقادر الظالم فإنه محسن فى ذلك غير مسيء وذلك مثل ما يعطى هؤلاء المكاسين وغيرهم فى الطرقات والأشوال والأموال التى ائتمنوا كما يعطونه من الوظائف المرتبة على العقار والوظائف المرتبة على ما يباع ويشترى فإن كل من تصرف لغيره أو لنفسه فى هذه الأوقات من هذه البلاد ونحوها فلابد أن يؤدى هذه الوظائف فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف لغيره لزم من ذلك فساد العباد وفوات مصالحهم
والذى ينهى عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قبل الناس منه تضاعف الظلم والفساد عليهم فهو بمنزلة من كانوا فى طريق وخرج عليهم قطاع الطريق فإن لم يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم فمن قال لتلك القافلة لا يحل لكم أن تعطوا لهؤلاء شيئا من الأموال
____________________
(30/358)
التى معكم للناس فإنه يقصد بهذا حفظ ذلك القليل الذى ينهى عن دفعه ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل والكثير وسلبوا مع ذلك فهذا مما لا يشير به عاقل فضلا أن تأتى به الشرائع فإن الله تعالى بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان
فهذا المتولى المقطع الذى يدفع بما يوجد من الوظائف ويصرف إلى من نسبه مستقرا على ولايته وإقطاعه ظلما وشرا كثيرا عن المسلمين أعظم من ذلك ولا يمكنه دفعه إلا بذلك إذا رفع يده تولى من يقره ولا ينقص منه شيئا هو مثاب على ذلك ولا إثم عليه فى ذلك ولا ضمان فى الدنيا والآخرة
وهذا بمنزلة وصى اليتيم وناظر الوقف الذى لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا بدفع ما يوصل من المظالم السلطانية إذا رفع يده تولى من يجور ويريد الظلم فولايته جائزة ولا إثم عليه فيما يدفعه بل قد تجب عليه هذه الولاية
وكذلك الجندى المقطع الذى يخفف الوظائف عن بلاده ولا يمكنه دفعها كلها لأنه يطلب منه خيل وسلاح ونفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف وهذا مع هذا ينفع المسلمين فى
____________________
(30/359)
الجهاد فإذا قيل له لا يحل لك أن تأخذ شيئا من هذا بل إرفع يدك عن هذا الإقطاع فتركه وأخذه من يريد الظلم ولا ينفع المسلمين كان هذا القائل مخطئا جاهلا بحقائق الدين بل بقاء الخيل من الترك والعرب الذين هم خير من غيرهم وأنفع للمسلمين وأقرب للعدل على إقطاعهم مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان خير للمسلمين من أن يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعا وأكثر ظلما
والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم فى العدل والإحسان بحسب الإمكان يجزيه الله على ما فعل من الخير ولا يعاقبه على ما عجز عنه ولا يؤاخذه بما يأخذ ويصرف إذا لم يكن إلا ذلك كان ترك ذلك يوجب شرا أعظم منه والله أعلم
____________________
(30/360)
وسئل شيخ الإسلام
عن رجل أخذ ماله ظلما بغير حق وإنتهك عرضه أو نيل منه فى بدنه فلم يقتص فى الدنيا وعلم أن ما عند الله خير وأبقى فهل يكون عفوه عن ظالمه مسقطا عند الله أم نقصا له أم لا يكون أو يكون أجره باقيا كاملا موفرا وأيما أولى مطالبة هذا الظالم والإنتقام منه يوم القيامة وتعذيب الله له أو العفو عنه وقبول الحوالة على الله تعالى
فأجاب لا يكون العفو عن الظالم ولا قليله مسقطا لأجر المظلوم عند الله ولا منقصا له بل العفو عن الظالم يصير أجره على الله تعالى فإنه إذا لم يعف كان حقه على الظالم فله أن يقتص منه بقدر مظلمته وإذا عفا وأصلح فأجره على الله وأجره الذى هو على الله خير وأبقى قال تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين } فقد أخبر أن جزاء السيئة سيئة مثلها بلا عدوان وهذا هو القصاص فى الدماء والأموال والأعراض ونحو ذلك ثم قال
____________________
(30/361)
{ فمن عفا وأصلح فأجره على الله } وقد ذكر [ عن ] الإمام أحمد لما ظلم فى محنته المشهورة أنه لم يخرج حتى حلل من ظلمه وقال ذكرت حديثا ذكر عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد ألا ليقم من وجب أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا وأصلح
وقد قال تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } وأباح لهم سبحانه وتعالى إذا عاقبوا الظالم أن يعاقبوه بمثل ما عاقب به ثم قال { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } فعلم أن الصبر عن عقوبته بالمثل خير من عقوبته فكيف يكون مسقطا للأجر أو منقصا له
وقد قال تعالى { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } فجعل الصدقة بالقصاص الواجب على الظالم وهو العفو عن القصاص كفارة للعافى والإقتصاص ليس بكفارة له فعلم أن العفو خير له من الإقتصاص وهذا لأن ما أصابه من المصائب مكفر للذنوب ويؤجر العبد على صبره عليها ويرفع درجته برضاه بما يقضيه الله عليه منها قال الله تعالى { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } قال بعض السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم وفى الصحيحين عن النبى
____________________
(30/362)
أنه قال ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه
وفى المسند أنه لما نزل قوله تعالى { من يعمل سوءا يجز به } قال أبو بكر يا رسول الله نزلت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا فقال يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به وفيه أيضا ( المصائب حطة تحط الخطايا عن صاحبها كما تحط الشجرة القائمة ورقها (
والدلائل على أن المصائب كفارات كثيرة إذا صبر عليها أثيب على صبره فالثواب والجزاء إنما يكون على العمل وهو الصبر وأما نفس المصيبة فهي من فعل الله لا من فعل العبد وهى من جزاء الله للعبد على ذنبه وتكفيره ذنبه بها وفى المسند ( أنهم دخلوا على أبى عبيدة بن الجراح وهو مريض فذكروا أنه يؤجر على مرضه فقال مالى من الأجر ولا مثل هذه ولكن المصائب حطة ( فبين لهم أبو عبيدة رضى الله عنه أن نفس المرض لا يؤجر عليه بل يكفر به عن خطاياه
وكثيرا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب فيكون فيه أجر بهذا
____________________
(30/363)
الإعتبار ومن الناس من يقول لابد فيه من التعويض والأجر والإمتنان وقد يحصل له ثواب بغير عمل كما يفعل عنه من أعمال البر
وأما الصبر على المصائب ففيها أجر عظيم قال تعالى { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } فالرجل إذا ظلم بجرح ونحوه فتصدق به كان الجرح مصيبة يكفر بها عنه ويؤجر على صبره وعلى إحسانه إلى الظالم بالعفو عنه فإن الإحسان يكون بجلب منفعة وبدفع مضرة ولهذا سماه الله صدقة
وقد قال تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } فذكر أنه يحب المحسنين والعافين عن الناس وتبين بهذا أن هذا من الإحسان والإحسان ضد الإساءة وهو فعل الحسن سواء كان لازما لصاحبه أو متعديا إلى الغير ومنه قوله { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } فالكاظم للغيظ والعافى عن الناس قد أحسن إلى نفسه والى الناس فإن ذلك عمل حسنة مع نفسه ومع الناس ومن أحسن إلى الناس فإلى نفسه كما يروى عن بعض السلف أنه قال ما أحسنت إلى أحد وما أسأت إلى أحد
____________________
(30/364)
وإنما أحسنت إلى نفسى وأسأت إلى نفسى قال تعالى { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } وقال تعالى { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها }
ولو لم يكن الإحسان إلى الخلق إحسانا إلى المحسن يعود نفعه عليه لكان فاعلا إثما أو ضررا فإن العمل الذى لا يعود نفعه على فاعله إما حيث لم يكن فيه فائدة وإما شر من العبث إذا ضر فاعله والعفو عن الظالم أحد نوعى الصدقة المعروف والإحسان إلى الناس وجماع ذلك الزكاة
والله سبحانه دائما يأمر بالصلاة والزكاة وهى الصدقة وقد ثبت فى الصحيح عن النبى من غير وجه أنه قال ( كل معروف صدقة ) وذلك نوعان
أحدهما اتصال نفع إليه
الثانى دفع ضرر عنه فإذا كان المظلوم يستحق عقوبة الظلم ونفسه تدعوه إليه فكف نفسه عن ذلك ودفع عنه ما يدعوه إليه من إضراره فهذا إحسان منه إليه وصدقة عليه والله تعالى يجزى المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين فكيف يسقط أجر العافى
وهذا عام فى سائر ما للعبد من الحقوق على الناس ولهذا إذا
____________________
(30/365)
ذكر الله فى كتابه حقوق العباد وذكر فيها العدل ندب فيها إلى الإحسان فإنه سبحانه يأمر بالعدل والإحسان كما قال تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } فجعل الصدقة على المدين المعسر بإسقاط الدين عنه خيرا للمتصدق من مجرد إنظاره
وقال تعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } فسمى إسقاط الدية صدقة وقال تعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى } فجعل العفو عن نصف الصداق الواجب على الزوج بالطلاق قبل الدخول أقرب للتقوى من إستيفائه وعفو المرأة إسقاط نصف الصداق باتفاق الأمة
وأما عفو الذى بيده عقدة النكاح فقيل هو عفو الزوج وأنه تكميل للصداق للمرأة وعلى هذا يكون هذا العفو من جنس ذلك العفو فهذا العفو إعطاء الجميع وذلك العفو إسقاط الجميع والذى حمل من قال هذا القول عليه انهم رأوا أن غير المرأة لا تملك إسقاط حقها الواجب كما لا تملك إسقاط سائر ديونها وقيل الذى بيده عقدة النكاح هو ولى المرأة المستقل بالعقد بدون استئذانها
____________________
(30/366)
كالأب للبكر الصغيرة وكالسيد للأمة وعلى هذا يكون العفوان من جنس واحد ولهذا لم يقل إلا أن يعفون أو يعفوهم والخطاب فى الآية للأزواج
وقال تعالى حكاية عن لقمان أنه قال لابنه { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } وقال تعالى { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور }
فهناك فى قول لقمان ذكر الصبر على المصيبة فقال { إن ذلك من عزم الأمور } وهنا ذكر الصبر والعفو فقال { إن ذلك لمن عزم الأمور } وذكر ذلك بعد قوله { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } فذكر سبحانه الأصناف الثلاثة فى باب الظلم الذى يكون بغير اختيار المظلوم وهم العادل والظالم والمحسن
فالعادل من انتصر بعد ظلمه وهذا جزاؤه انه ما عليه من سبيل فلم يكن بذلك ممدوحا ولكن لم يكن بذلك مذموما وذكر الظالم بقوله { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } فهؤلاء عليهم السبيل للعقوبة والإقتصاص وذكر المحسنين
____________________
(30/367)
فقال { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } والقرآن فيه جوامع الكلم
وهذا كما ذكر فى آخر البقرة أصناف الناس فى المعاملات التى تكون باختيار المتعاملين وهم ثلاثة محسن وظالم وعادل فالمحسن هو المتصدق والظالم هو المربى والعادل هو البائع فذكر هنا حكم الصدقات وحكم الربا وحكم المبايعات والمداينات
وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه أو ينقص غالط جاهل ضال بل بالعفو يكون أجره أعظم فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل ويحصل للظالم عز واستطالة عليه فهو غالط فى ذلك كما ثبت فى الصحيح وغيره عن النبى أنه قال ( ثلاث إن كنت لحالفا عليهن ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما نقصت صدقة من مال وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ( فبين الصادق المصدوق إن الله لا يزيد العبد بالعفو إلا عزا وأنه لا تنقص صدقة من مال وأنه ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن وما تهوى الأنفس من أن العفو يذله والصدقة تنقص ماله والتواضع يخفضه
وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت ( ما ضرب
____________________
(30/368)
رسول الله خادما له ولا إمرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد فى سبيل الله ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا إنتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله ( وخلق رسول الله القرآن أكمل الأخلاق وقد كان من خلقه أنه لا ينتقم لنفسه وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله فيعفو عن حقه ويستوفى حق ربه
والناس فى الباب أربعة أقسام
منهم من ينتصر لنفسه ولربه وهو الذى يكون فيه دين وغضب
ومنهم من لا ينتصرلا لنفسه ولا لربه وهو الذى فيه جهل وضعف دين
ومنهم من ينتقم لنفسه لا لربه وهم شر الأقسام وأما الكامل فهو الذى ينتصر لحق الله ويعفو عن حقه كما قال أنس بن مالك ( خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لى أف قط وما قال لى لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول دعوه لو قضي شيء لكان ( فهذا فى العفو عما يتعلق بحقوقه
____________________
(30/369)
وأما فى حدود الله فلما شفع عنده أسامة بن زيد وهو الحب بن الحب وكان هو أحب إليه من أنس وأعز عنده فى امرأة سرقت شريفة أن يعفو عن قطع يدها غضب وقال يا أسامة أتشفع فى حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذى نفس محمد بيده لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ( فغضب على أسامة لما شفع فى حد لله وعفا عن أنس فى حقه وكذلك لما أخبره أسامة أنه قتل رجلا بعد أن قال لا إله إلا الله قال ( أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله فما زال يكررها حتى قلت ليته سكت (
والأحاديث والآثار فى إستحباب العفو عن الظالم وأن أجره بذلك أعظم كثيرة جدا وهذا من العلم المستقر فى فطر الآدميين وقد قال تعالى لنبيه { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } فأمره أن يأخذ بالعفو فى أخلاق الناس وهو ما يقر من ذلك قال بن الزبير أمر الله نبيه أن يأخذ بالعفو من أخلاق الناس وهذا كقوله { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } من أموالهم هذا من العفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين وهذه الآية فيها جماع الأخلاق الكريمة فإن الإنسان مع الناس إما أن يفعلوا معه غير
____________________
(30/370)
ما يحب أو ما يكره فأمر أن يأخذ منهم ما يحب ما سمحوا به ولا يطالبهم بزيادة وإذا فعلوا معه ما يكره أعرض عنهم وأما هو فيأمرهم بالمعروف وهذا باب واسع
وسئل رحمه الله
عن الرجل يكون له على الرجل دين فيجحده أو يغصبه شيئا ثم يصيب له مالا من جنس ماله فهل له أن يأخذ منه مقدار حقه
فأجاب وأما إذا كان لرجل عند غيره حق من عين أو دين فهل يأخذه أو نظيره بغير اذنه فهذا نوعان
أحدهما أن يكون سبب الإستحقاق ظاهرا لا يحتاج إلى إثبات مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها واستحقاق الولد أن ينفق عليه والده واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به فهنا له أن يأخذ بدون إذن من عليه الحق بلا ريب كما ثبت فى الصحيحين أن هند بنت عتبة بن ربيعة قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطينى من النفقة ما يكفينى وبنى فقال ( خذى مايكفيك وولدك بالمعروف ( فأذن لها أن تأخذ نفقتها بالمعروف بدون إذن وليه
____________________
(30/371)
وهكذا من علم أنه غصب منه ماله غصبا ظاهرا يعرفه الناس فأخذ المغصوب أو نظيره من مال الغاصب وكذلك لو كان له دين عند الحاكم وهو يمطله فأخذ من ماله بقدره ونحو ذلك
والثانى أن لايكون سبب الإستحقاق ظاهرا مثل أن يكون قد جحد دينه أو جحد الغصب ولا بينة للمدعى فهذا فيه قولان
أحدهما ليس له أن يأخذ وهو مذهب مالك وأحمد
والثانى له أن يأخذ وهو مذهب الشافعى وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيسوغ الأخذ من جنس الحق لأنه استيفاء ولا يسوغ الأخذ من غير الجنس لأنه معاوضة فلا يجوز إلا برضا الغريم
والمجوزون يقولون إذا امتنع من أداء الواجب عليه ثبتت المعاوضة بدون إذنه للحاجة لكن من منع الأخذ مع عدم ظهورالحق إستدل بما فى السنن عن أبى هريرة عن النبى أنه
____________________
(30/372)
قال ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ( وفى المسند عن بشير بن الخصاصية أنه قال يا رسول الله إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه قال ( لا أد الأمانة إلى من إئتمنك ولا تخن من خانك ( وفى السنن عن النبى أنه قيل له ( أن أهل الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا قال لا ( رواه أبو داود وغيره
فهذة الأحاديث تبين أن ( حق ) المظلوم فى نفس الامر اذا كان ( سببه ليس ) ظاهرا أخذه خيانة لم يكن له ذلك وان كان هو يقصد اخذ نظير حقه لكنه خان الذى ائتمنه فإنه لما سلم إليه ماله فأخذ بعضه بغير اذنه والاستحقاق ( ليس ) ظاهرا كان خائنا واذا قال أنا مستحق لما اخذته فى نفس الامر لم يكن ما ادعاه ظاهرا معلوما وصار كما لو تزوج امرأة فأنكرت نكاحه ولا بينة له فإذا قهرها على الوطء من غير حجة ظاهرة فإنه ليس له ذلك ولو قدر ان الحاكم حكم على رجل بطلاق امرأته ببينة اعتقد صدقها وكانت كاذبة فى الباطن لم يكن له ان يطأها لما هو الامر عليه فى الباطن
فإن قيل لاريب ان هذا يمنع منه ظاهرا وليس له ان يظهر ذلك قدام الناس لانهم مأمورون بإنكار ذلك لأنه حرام فى الظاهر لكن الشأن إذا كان يعلم سرا فيما بينه وبين الله
قيل فعل ذلك سرا يقتضى مفاسد كثيرة منهى عنها فإن فعل
____________________
(30/373)
ذلك في مظنة الظهور والشهرة وفيه أن لا يتشبه به من ليس حاله كحاله فى الباطن فقد يظن الإنسان خفاء ذلك فيظهر مفاسد كثيرة ويفتح أيضا باب التأويل وصار هذا كالمظلوم الذى لايمكنه الإنتصار إلا بالظلم كالمقتص الذى لايمكنه الإقتصاص إلا بعدوان فإنه لا يجوز له الإقتصاص وذلك أن نفس الخيانة محرمة الجنس فلايجوز إستيفاء الحق بها كما لو جرعه خمرا أو تلوط به أو شهد عليه بالزور لم يكن له أن يفعل ذلك فإن هذا محرم الجنس والخيانة من جنس الكذب
فإن قيل هذا ليس بخيانة بل هو إستيفاء حق والنبى نهى عن خيانة من خان وهو أن يأخذ من ماله ما لا يستحق نظيره قيل هذا ضعيف لوجوه
أحدها أن الحديث فيه أن قوما لايدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون فقال ( لا أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ( وكذلك قوله فى حديث الزكاة أفنكتم من أموالنا بقدر ما يأخذون منا فقال ( لا (
الثانى أنه قال ( ولا تخن من خانك ( ولو أراد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة لم يكن فرق بين من خانه ومن لم يخنه وتحريم مثل
____________________
(30/374)
هذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان وسؤال وقد قال ( ولا تخن من خانك ( فعلم أنه أراد إنك لا تقابله على خيانته فتفعل به مثل ما فعل بك فإذا أودع الرجل مالا فخانه فى بعضه ثم أودع الأول نظيره ففعل به مثل ما فعل فهذا هو المراد بقوله ( ولا تخن من خانك (
الثالث أن كون هذا خيانة لا ريب فيه وإنما الشأن فى جوازه على وجه القصاص فإن الأمور منها ما يباح فيه القصاص كالقتل وقطع الطريق وأخذ المال ومنها مالا يباح فيه القصاص كالفواحش والكذب ونحو ذلك قال تعالى فى الأول { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقال { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقال { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فأباح العقوبة والاعتداء بالمثل فلما قال ها هنا ( ولا تخن من خانك ( علم ان هذا مما لا يباح فيه العقوبة بالمثل
وسئل رحمه الله
عن رجل مديون وله عند صاحب الدين بضاعة والثمن سبعون درهما ومقدار البضاعة تسعون درهما وقد توفى المديون واحتاط على موجوده فأراد صاحب الدين ان يطلع الورثة على البضاعة
____________________
(30/375)
فاختشى أن يأخذوها ولم يوصلوه إلى حقه وان اخفاها فيبقى اثم فرطها عليه ويخاف ان يطالبه بغير البضاعة فأجاب يبيعها ويستوفى من الثمن ماله فى ذمة الميت من الاجرة والثمن ومابقى يوصله إلى مستحق تركته واذا حلفوه فله ان يحلف انه ليس له عندى غير هذا وان احب ان يشترى بضاعة مثل تلك البضاعة ويحلف انه لا يستحق عنده الا هذا بشرط ان تكون البضاعة مثل تلك او خيرا منها
وسئل
عن رجل له مال غصب او مطل فى دين ثم مات فهل تكون المطالبة له فى الآخرة ام للورثة افتونا مأجورين
فأجاب اما من غصب له مال او مطل به فالمطالبة فى الآخرة له كما ثبت فى الصحيح عن النبى انه قال ( من كانت لأخيه عنده مظلمة فى دم او مال او عرض فليستحلل من قبل ان يأتى يوم لا دينار فيه ولا درهم فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته وان لم يكن له حسنات اخذ من سيئات صاحبه فألقيت عليه
____________________
(30/376)
فبين النبى ان الظلامة اذا كانت فى المال طالب المظلوم بها ظالمه ولم يجعل المطالبة لورثته وذلك ان الورثة يخالفونه فى الدنيا فما امكن استيفاؤه فى الدنيا كان للورثة وما لم يمكن استيفاؤه فى الدنيا فالطالب به فى الآخرة المظلوم نفسه والله اعلم
وسئل
عن قوم دخل فى زرعهم جاموسان فعرقبوهما فماتا وقد يمكن دفعهما بدون ذلك فما يجب عليهم وما يجب على ارباب المواشى من حفظها وعلى ارباب الزرع من حفظه
فأجاب ليس لهم دفع البهائم الداخلة إلى زرعهم الا بالأسهل فالأسهل فإذا امكن اخراجهما بدون العرقبة فعرقبوهما عزروا على تعذيب الحيوان بغير حق
وعلى العدوان على اموال الناس بما يردعهم عن ذلك وضمنوا للمالك بدلهما وعلى أهل الزرع حفظ زرعهم بالنهار وعلى اهل المواشى حفظ مواشيهم بالليل كما قال بذلك النبى
____________________
(30/377)
وسئل
عن المال المغصوب من الإبل وغيرها اذا نمت عند الغاصب ثم تاب كيف يتخلص من المال وهل هو حرام ام لا
فأجاب اعدل الاقوال فى ذلك ان يجعل نماء المال بين المالك والعامل كما لو دفعه إلى من يقوم عليه بجزء من نمائه ثم ان الأصل ونصيب المالك اذا تعذر دفعه إلى مالكه صرفه فى مصالح المسلمين
وسئل
عمن غصب شاة ثم تراضى هو ومالكها هل يجوز اكلها
فأجاب نعم اذا تراضى هو ومالكها جاز اكلها
____________________
(30/378)
وسئل رحمه الله
عن غلام فى يده فرس فطلعت نعامة من إصطبل وهجمت على الخيل والغلام ماسك الفرس واثنان قعود فرفس أحدهما وتوفى فما يجب على الغلام وما يجب على صاحب الفرس
فأجاب اذا رفسته برجلها فلا ضمان على الغلام ولا على صاحب الفرس بل الفرس باق على ملك صاحبه وهذا مذهب جمهور الأئمة كمالك وابى حنيفة واحمد وغيرهم
وفى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( الرجل جبار ( وقال الشافعى يضمن ما ضربه برجله إذا كان على الفرس راكب او قائد او سائق كما وافقه احمد وغيره على ذلك فى اليد واما اذا لم يفرط الغلام الذى هو ممسك للفرس فلا ضمان عليه باتفاق العلماء مثل ان تجفل الفرس ويحذر القريب منها فيقول حاذروا فاذا قال ذلك فمن رفست منهما كان هو المفرط ولم يكن على احد ضمان باتفاق الأئمة والله أعلم
____________________
(30/379)
وسئل رحمه الله
عن جمل كبير مربوط على الربيع والى جانبه قعود صغير لآخر غيرصاحب الجمل الكبير ثم غاب اصحاب الجملين فانقلب الكبير على الصغير فقتله فما حكمه
فأجاب إذا كان صاحب الجمل الكبير لم يفرط فى منعه فلا ضمان عليه مثل أن يكون قيده القيد الذى يمنعه واما إذا كان قد فرط بأن قيده قيدا خفيفا لا يمنعه فعليه ضمان ما اتلفه والله أعلم
____________________
(30/380)
& باب الشفعة
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله فصل
اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة فى العقار الذى يقبل القسمة قسمة الإجبار كالقرية والبستان ونحو ذلك وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار وإنما يقسم بضرر أو رد عوض فيحتاج إلى التراضى هل تثبت فيه الشفعة على قولين
أحدهما تثبت وهو مذهب ابى حنيفة واختاره بعض اصحاب الشافعى كابن سريج وطائفة من اصحاب أحمد كأبى الوفاء بن عقيل وهى رواية المهذب عن مالك وهذا القول هو الصواب كما سنبينه إن شاء الله
والثانى لا تثبت فيه الشفعة وهو قول الشافعى نفسه واختيار
____________________
(30/381)
كثير من أصحاب أحمد وهذا القول له حجتان
أحدهما قولهم أن الشفعة إنما شرعت لرفع ضرر مؤنة القسمة وما لا تجب قسمته ليس فيه هذا الضرر
والثانى أنه لو وجبت فيه الشفعة لتضرر الشريك فإنه إن باعه لم يرغب الناس فى الشراء لخوفهم من انتزاعه بالشفعة وإن طلب القسمة لم تجب إجابته فلا يمكنه البيع ولا القسمة فلا يقدر أن يتخلص من ضرر شريكه فلو أثبتنا فيه الشفعة لرفع ضرر الشريك الذى لم يبع لزم إضرار الشريك البائع والضرر لا يزال بالضرر
والقول الأول أصح فإنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( من كان له شريك فى أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له ان يبيع حتى يؤذن شريكه فان شاء اخذ وان شاء ترك فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به ( ولم يشترط النبى فى الأرض والربعة والحائط ان يكون مما يقبل القسمة فلا يجوز تقييد كلام الرسول بغير دلالة من كلامه لا سيما وقد ذكر هذا فى باب تأسيس اثبات الشفعة
وليس عنه لفظ صحيح صريح فى الشفعة اثبت من هذا ففى الصحيحين عن النبى ( انه قضى بالشفعة فى كل مالم يقسم
____________________
(30/382)
فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ( فلم يمنع الشفعة الا مع اقامة الحدود وصرف الطرق وهذا الحديث فى الصحيح عن جابر وفى السنن عنه عن النبى أنه قال ( الجار أحق بشفعة جاره ينتظره بها وان كان غائبا اذا كان طريقهما واحدا ( فاذا قضى بها للاشتراك فى الطريق فلأن يقضى بها للاشتراك فى رقبة الملك أولى وأحرى
وقد تنازع الناس فى شفعة الجار على ثلاثة اقوال اعدلها هذا القول انه ان كان شريكا فى حقوق الملك ثبتت له الشفعة والا فلا وايضا فمن المعلوم انه اذا أثبت النبى الشفعة فيما يقبل القسمة فما لا يقبل القسمة أولى بثبوت الشفعة فيه فان الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة وما لا يمكن فيه القسمة يكون ضرر المشاركة فيه أشد
وظن من ظن انها تثبت لرفع المقاسمة لا لضرر المشاركة كلام ظاهر البطلان فانه قد ثبت بالنص والإجماع أنه اذا طلب احد الشريكين القسمة فيما يقبلها وجبت اجابته إلى المقاسمة ولو كان ضرر المشاركة اقوى لم يرفع أدنى الضررين بالتزام اعلاهما ولم يوجب الله ورسوله الدخول فى الشيء الكثير لرفع الشيء القليل فإن شريعة
____________________
(30/383)
الله منزهة عن مثل هذا
وأما قولهم هذا يستلزم ضرر الشريك البائع فجوابه انه اذا طلب المقاسمة ولم يمكن قسمة العين فإن العين تباع ويجبر الممتنع على البيع ويقسم الثمن بينهما وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك وابى حنيفة واحمد بن حنبل
وذكر بعض المالكية ان هذا اجماع وقد دل على ذلك ما ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( من اعتق شركا له فى غلام وكان له من المال ما يبلغ ثمن الغلام قوم عليه قيمة عدل لاوكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق ( فدل هذا الحديث على أن حق الشريك فى نصف قيمة الجميع لا فى قيمة نصف الجميع فإنه إذا بيع العبد كله ساوى ألف درهم مثلا وإذا بيع نصفه ساوى أقل من خمسمائة درهم وحق الشريك نصف الألف
فهكذا فى العقار الذى لا يقسم يستحق نصف قيمته جميعه فيباع جميع العقار ويعطى حصته من الثمن إذا طلب ذلك وبهذا يرتفع عنه الضرر وبهذا يتبين كمال محاسن الشريعة وما فيها من مصالح العباد فى المعاش والمعاد والحمد لله وحده
____________________
(30/384)
وسئل
عن رجل له ملك وله شركة فيه فاحتاج إلى بيعه فأعطاه إنسان فيه شيئا معلوما فباعه فقال زن لى ما قلت فنقصه عن المثل فهل يجب عليه أداؤه أم لا وهل يصح للشريك شفعة أم لا
فأجاب إذا باعه بثمن معلوم كان على المشترى أداء ذلك الثمن وإن كان البيع فاسدا وقد فات كان عليه قيمة مثله وإذا كان الشقص مشفوعا فللشريك فيه الشفعة والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل اشترى شقصا مشفوعا وكلما طلبه الشفيع أ ظهر صورة أن البيع كان بدون الرؤية المعتبرة ففسخه الحاكم وأقر المشترى ببراءة البائع مما كان قبضه ووقف الشقص على المشترى كل ذلك دفعا للشفعة فهل يكون ذلك مسقطا للشفعة وهل تكون هذه
____________________
(30/385)
التصرفات صحيحة
فأجاب الإحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز بالاتفاق وإنما اختلف الناس فى الإحتيال عليها قبل وجوبها وبعد انعقاد السبب وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع مع أن الصواب أنه لا يجوز الاحتيال على اسقاط حق مسلم وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرم فهو باطل وما ذكر من اظهار صورة انفساخ المبيع وعود الشقص إلى البائع ثم اظهار براءة البائع ووقفه فكل ذلك باطل والشقص باق على ملك المشترى وحق الشفيع ثابت فيه الا ان يترك تركا يسقط الشفعة والله اعلم
وسئل
عن شقص مشفوع ثبت وقفه وثبت ان حاكما حكم بالشفعة فيه للشريك ولم يثبت الشريك اخذها
فأجاب لا يبطل الوقف الا اذا اثبت ان الشريك يملك الشقص المشفوع الموقوف على ما فى تملكه من إختلاف العلماء
وأما مجرد حكم الحاكم باستحقاق الشفعة فلا ينقض الوقف المتقدم
____________________
(30/386)
قبل ذلك كما لا يزيل ملك المشترى بل يبقى الأمر موقوفا فإن اخذ الشريك الشقص بالشفعة بطل التصرف الموجود فيه قبل ذلك عند من يقول به والا فلا
وسئل رحمه الله
عن رجل اشترى نصف حوش والنصف الآخر اشتراه رجل آخر واوقف حصته قبل طلب الشريك الأول وان الشريك الأول قال انا آخذه بالشفعة فهل له ذلك
فأجاب اذا كان الأمر كذلك فلا شفعة له فإن المشترى الثانى وقفه فلا شفعة فيه وشفعة الأول بطلت لكونه اخر الطلب بعد علمه حتى خرجت عن ملك المشترى بوقف او غيره فلا شفعة
وإن كان قد اخرجه من ملكه بالبيع قبل علمه بالبيع فله الشفعة واما الوقف والهبة ففيه نزاع والله أعلم
____________________
(30/387)
وسئل رحمه الله
عن رجل له حصة مع شاهد ثم باع الشريك حصته لشاهد آخر بزيادة كثيرة على ثمن المثل فى الظاهر وتواطآ بينهما فى الباطن على ثمن المثل دفعا للشفعة فهل تسقط الشفعة ام لا
فأجاب لا يحل الكذب والاحتيال على اسقاط حق المسلم ويجب على المشترى ان يسلم الشقص المشفوع بالثمن الذى تراضيا عليه فى الباطن اذا طلب الشريك ذلك وان منعه ذلك قدح فى دينه وعلى الحاكم ان يحكم بالشفعة اذا تبين حقيقة الأمر
____________________
(30/388)
& باب الوديعة
سئل شيخ الاسلام رحمه الله
عن دلال اعطاه انسان قماشا ليختمه ويبيعه فما وجد الختام فأودعه عند رجل خياط امين عادتهم يودعون عنده فحضر صاحب القماش هو ودلال آخر واخذوا القماش من عنده ولم يكن الذى اودعه حاضرا فادعى صاحب القماش انه عدم له منهم ثوب وانكر ذلك الدلال فهل يلزم الدلال الذى كانت عنده الوديعة شيء ام لا
فأجاب الحمد لله اذا ادعوا عدم قبض الوديعة وانكر ذلك الدلال فالقول قوله مع يمينه ما لم تقم حجة شرعية على تصديق دعواهم واما اذا عدم منها شيء فإن كان الدلال فرط بحيث فعل ما لم يؤذن فيه لفظا ولا عرفا ضمن فاذا كان من عادتهم الايداع عند هذا الأمين واصحاب القماش يعلمون ذلك ويقرونه عليه فلا ضمان على الدلالين والله أعلم
____________________
(30/389)
وسئل رضى الله عنه
عن رجل مات وترك بنتين وزوجة واحدى البنتين غائبة فهل يجوز لمن له النظر على هذه التركة ان يودع مال الغائبة بحيث لا يعلم هل يحفظه المودع عنده ام يتصرف فيه لنفسه واذا حدث مظلمة على جملة التركة هل يختص باستدفاعها عن التركة مال الغائبة او يعم جميع المال المتروك واذا استودع عنده قد يحفظه وقد يتصرف لمصلحة نفسه فهل للمستحق له مطالبة من وضع يده عليه او من اودعه حيث لا يؤمن عليه وقد مات الناظر والمودع وطلب من تركه المودع فلم يوجد ولم يعلم هل غصب ام لا وهل الإبراء لذمة المستودع عنده ان يترك مع احتمال ان يكون قد وضع عين يده عليه او يدفع عنه وليه من ورثته ذلك القدر عنه من صدقاته التى هي غير معينة بجهة مخصوصة
فأجاب الحمد لله هذا المال صار تحت يده امانة فعليه ان يحفظه حفظ الامانات ولا يودعه الا لحاجة فان أودعه عند من يغلب على الظن حفظه له كالحاكم العادل ان وجد او غيره بحيث لا يكون فى ايداعه تفريطا فلا ضمان عليه وان فرط فى ايداعه فاودعه لخائن
____________________
(30/390)
أو عاجز مع امكان ان لا يفعل ذلك فهو مفرط ضامن
وأما المودع اذا لم يعلم انه وديعة عنده ففى تضمينه قولان لأهل العلم فى مذهب احمد وغيره
أظهرهما انه لا ضمان عليه وما حصل بسبب المال المشترك من المغارم التى تؤخذ ظلما او غير ظلم فهي على المال جميعه لا يختص بها بعضه واذا غصب الوديعة غاصب فلناظر المودع ان يطالبه وللمودع ايضا أن يطالبه فى غيبة المودع
وأما المستحق المالك فله ان يطالب الغاصب وله ان يطالب الناظر او المودع ان حصل منه تفريط فأما بدون التفريط والعدوان فليس له المطالبة
وإذا مات هذا المودع ولم يعلم حال الوديعة هل اخذت منه او اخذها او تلفت فانها تكون دينا على تركته عند جماهير العلماء كأبى حنيفة ومالك واحمد وهو ظاهر نص الشافعى وأحد القولين فى مذهبه
وإذا كانت دينا عليه وجب وفاؤها من ماله فإن كان له مال غير الوقف وفيت منه وإن لم يكن له مال غير الوقف ففى الوقف على المدين الذى أحاط الدين بماله نزاع مشهور بين أهل العلم
____________________
(30/391)
وكذلك الوقف الذى لم يخرج عن يده حتى مات فإنه يبطل فى احد قولي العلماء كمالك وهو احد القولين فى مذهب أبى حنيفة وأحمد واما ان كان الوقف قد صح ولزم وله مستحقون ولم يكن صاحب الدين ممن تناوله الوقف لم يكن وفاء الدين من ذلك لكن ان كان ممن تناوله الوقف مثل ان يكون على الفقراء وصاحب الدين فقير فلا ريب ان الصرف إلى هذا الفقير الذى له دين على الواقف اولى من الصرف إلى غيره والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل استودع مالا على انه يوصله ان مات المودع لأولاده فمات وترك ورثة غير اولاده وهم زوجتان ومن احداهما ابنان وبنتان من غيرها وادعى ذو السلطان ان ام الابنين جارية له تحت رقه واخذها واولادها ثم مات أحد الولدين ثم ماتت أمه فهل يكون الأولاد مختصين بجميع المال أو هو لجميع الورثة وإذا لم تصح دعوى من إدعى أن أم الولدين مملوكة هل له أن يوصل إليه جميع ما يخص الولدين وأمهم أو له أن يبقى نصيبهم للولد رجاء فى رفع الملك عنه أو يفديه من الرق وهل له أن يتجر فى المال إن أبقاه لئلا تفنيه الزكاة
____________________
(30/392)
فأجاب إذا كان هذا المال للمودع وجب أن يوصل إلى كل وارث حقه منه سواء خص به المالك أولاده أو لم يخصهم وليس لهذا المستودع أن يخص بعض الورثة إلا بإجازة الباقين فإن النبى قال ( إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث ( ولو صرح الوصى بتخصيص بعض الورثة بالمال لم يجز ذلك بدون إجازة الباقين باتفاق الأئمة
وأما المدعى المستولدة فلا يحكم له بمجرد دعواه باتفاق المسلمين لا سيما إن اعترف انه أعطاه الجارية فإن هذا إقرار منه بالتمليك بل الأمة أم الولد وأولاده منها أحرار ولو فرض أنها أمة المدعى فى نفس الأمر وكان الواطىء يعتقد أنها أمته فأولاده أحرار باتفاق الأئمة وهذا المودع يحفظ نصيب هؤلاء الصغار فإن كان فى البلد حاكم عالم عادل قادر يحفظ هذا المال لهم سلمه إليه وإن لم يجد من يحفظ المال لهم أبقاه بيده وليتجر فيه بالمعروف والربح لليتيم وأجره على الله وأم الولد لا ترث من سيدها شيئا لكن إذا مات أحد بنيها ورثت منه والله أعلم
____________________
(30/393)
وسئل
عن رجل تحت يده بعير وديعة فسرق من جملة إبله ثم لحق السارق وأخذ منه الأبل وإمتنع من دفع ذلك البعير المودع حتى يحلف أنه كان البعير على ملكه فحلف بالله العظيم أنه على ملكه وقصد بذلك ملك الحفظ
فأجاب اما إذا ملك قبضه والإستيلاء عليه فلا حنث عليه فى ذلك ولا إثم وإن قصد انه ملكه الملك المعروف فهذا كذب لكنه إذا إعتقد جواز هذا لدفع الظلم وفى المعاريض مندوحة عن الكذب وليستغفر الله من ذلك ويتوب إليه ولا كفارة عليه والله أعلم
وسئل
عن الإقتراض من الوديعة بلا إذنه
فأجاب وأما الإقتراض من مال المودع فإن علم المودع علما اطمأن إليه قلبه أن صاحب المال راض بذلك فلا بأس بذلك وهذا
____________________
(30/394)
إنما يعرف من رجل اختبرته خبرة تامة وعلمت منزلتك عنده كما نقل مثل ذلك عن غير واحد وكما كان النبى يفعل فى بيوت بعض أصحابه وكما بايع عن عثمان رضى الله عنه وهو غائب ومتى وقع فى ذلك شك لم يجز الإقتراض
وقال
إذا اشترى إنسان سلعة جملا أو غيره وهو مودع فأودعه المشترى عند المودع ثم باعه الآخر كان البيع الثانى باطلا وإذا سلمه المودع إلى المشترى الثانى كان لمالكه وهو المشترى الأول أن يطالب به المودع الذى سلمه ويطالب به المشترى الذى تسلمه
وسئل رحمه الله
عن قوم لهم عند راهب فى دير وديعة وإدعى عدمها مع ما كان فى الدير ثم ظهر الذى إدعى أن ما عدم من الدير قد باعه فهل يلزم بالمال أم لا وهل القول قوله ودير هذا الراهب على ساحل البحر المالح وله أخ حرامى فى البحر يأوي إليه والحرامية أيضا
____________________
(30/395)
فما يجب على ولاة الأمور فيه وهل يجوز قتله وخراب ديره وكان أهل المال طلبوا مالهم منه فلم يسلمه لهم ولهم شهود نصارى يشهدون بذلك
فأجاب الحمد لله إذا ظهر أن المال الذى للمودع لم يذهب فادعى أن الوديعة ذهبت دون ماله فهنا يكون ضامنا للوديعة فى أحد قولى العلماء كقول مالك وأحمد فى إحدى الروايتين فإن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضمن أنس بن مالك وديعة إدعى أنها ذهبت دون ماله
وأما إذا ادعى أنه ذهب جميع المال ثم ظهر كذبه فهنا وجوب الضمان عليه أوكد فإذا ادعى المودع صاحب الوديعة أنه طلب الوديعة منه فلم يسلمها إليه أو أنه خان فى الوديعة ولم تتلف كان قبول قوله مع يمينه أقوى وأوكد بل يستحق فى مثل هذه الصورة التعزير البليغ الذى يردعه وأمثاله عن الكذب وهذا مع كونه من أهل الذمة
وإذا شهد عليه من أهل دينه المقبولين عندهم قبلت شهادتهم فى أحد قولى العلماء وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد فى إحدى الروايتين وقبول شهادتهم عليه هنا أوكد ومن لم يقبل شهادتهم فإنه يحكم بيمين المدعى عليه فى مثل هذه الصورة لظهور رجحان قول المدعى
____________________
(30/396)
فى أحد قوليه أيضا وأما من كان من أهل الذمة يؤوى أهل الحرب أو يعاونهم على المسلمين فإنه قد إنتقض عهده وحل دمه وماله والواجب على ولاة الأمور أن لا يتركوا مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون على المسلمين فى موضع يخاف ضررهم على المسلمين أو ينقل إليهم أولاد المسلمين فإنه قد إنتقض عهده وحل دمه وماله
وسئل
عن وديعة فى كيس مختوم ولم يعلم ما فيه ولا عاينه وذكر المودع أنها ألف وخمسمائة وثلاث تفاصيل وعدمت الوديعة فى جملة قماش ولما عدمت قال صاحب الوديعة إن ما فيها شيء يساوى سبعة آلاف فهل يلزم المودع غرامة ما ذكره فى الأول أم يلزمه ما ذكر فى الآخر
فأجاب إن تلفت بغير تفريط منه ولا عدوان لم يلزمه ضمان وإذا ذهبت مع ماله كان أبلغ وإذا ادعى ذلك بسبب ظاهر معلوم [ كلف البينة وقبل قوله
____________________
(30/397)
ما تقول السادة الفقهاء
في إنسان يضع فى بيت إنسان وديعة بيده من مدة تزيد على عشر سنين تزيد وتنقص فى صندوق غير مقفول بقفل وهو يعلم ذلك فمرض المودع مرضا بلغ فيه الموت وصاحبها حاضر عنده يبيت ويصبح فسأله مرارا كثيرة أن يأخذ وديعته أو يقفل عليها بقفل فلم يفعل فعدمت الوديعة من حرزه بغير تفريط وحدها ولم يعلم هل عدمت فى المرض أو فى الصحة فهل يجب على المودع والحالة هذه ضمانها أم لا وهل يجوز لصاحبها إلزام المودع بها وعسفه بالولاية أم محرم عليه طلب ذلك بالولاية وهل إذا أصر على ذلك يجب على ولى الأمر وفقه الله ردعه وزجره عن ذلك أم لا أفتونا مأجورين إن شاء الله تعالى
فأجاب الحمد لله إذا كان الأمر على ما وصف وعدمت بغير تفريط ولا عدوان من المودع وعدمت مع ماله لم يضمنها بإتفاق الأئمة وكذلك إذا عدمت بتفريط صاحبها كما ذكر فإنه لا ضمان على المودع سواء ضاعت وحدها أو ضاعت مع ماله
____________________
(30/398)
& باب إحياء الموات
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن حكم البناء فى طريق المسلمين الواسع إذا كان البناء لا يضر بالمارة
فأجاب إن ذلك نوعان
أحدهما أن يبني لنفسه فهذا لا يجوز فى المشهور من مذهب أحمد وجوزه بعضهم بإذن الإمام وقد ذكره القاضي أبو يعلى ومن خطه نقلته أن هذه المسألة حدثت فى أيامه واختلف فيها جواب المفتين فذكر فى مسألة حادثة فى الطريق الواسع هل يجوز للإمام أن يأذن فى حيازة بعضه بينا أن بعضهم أفتى بالجواز وبعضهم أفتى بالمنع واختاره القاضي وذكر أنه كلام أحمد فإنه قال فى رواية إبن القاسم إذا كان الطريق قد سلكه الناس فصار طريقا فليس لأحد أن يأخذ منه شيئا قليلا ولا كثيرا قيل له وإن كان واسعا مثل الشوارع قال وإن كان واسعا قال وهو أشد ممن أخذ حدا
____________________
(30/399)
بينه وبين شريكه لأن هذا يأخذ من واحد وهذا يأخذ من جماعة المسلمين
قلت وقد صنف أبو عبد الله بن بطة مصنفا فيمن أخذ شيئا من طريق المسلمين وذكر فى ذلك آثارا عن أحمد وغيره من السلف وقد ذكر هذه المسألة غير واحد من المتقدمين والمتأخرين من أصحاب أحمد منهم الشيخ أبو محمد المقدسي قال فى المغني وما كان من الشوارع والطرقات والرحبات بين العمران فليس لأحد إحياؤه سواء كان واسعا أو ضيقا وسواء ضيق على الناس بذلك أو لم يضيق لأن ذلك يشترك فيه المسلمون وتتعلق به مصلحتهم فأشبه مساجدهم ويجوز الإرتفاق بالقعود فى الواسع مع ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد ولا يضر بالمارة لاتفاق أهل الأمصار فى جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار ولأنه إرتفاق بمباح من غير إضرار فلم يمنع كالإجتياز
قال أحمد فى السابق إلى دكاكين السوق دعوه فهو له إلى الليل وكان هذا فى سوق المدينة فيما مضى وقد قال النبى ( منى مناخ من سبق ( وله أن يظلل على نفسه بمالا ضرر فيه من بارية وتابوت وكساء ونحوه لأن الحاجة تدعو إليه من غير مضرة فيه وليس له البناء لا دكة ولا غيرها لأنه يضيق
____________________
(30/400)
على الناس وتعثر به المارة بالليل والضرير بالليل والنهار ويبقى على الدوام فربما ادعى ملكه بسبب ذلك والسابق أحق به ما دام فيه
( قلت ) هذا كله فيما إذا بنى الدكة لنفسه كما يدل عليه أول الكلام وآخره ولهذا علل بأنه قد يدعى ( أنها ) ملكه بسبب ذلك مع ان تعليله هذه المسألة يقتضى ان المنع انما يكون فى مظنة الضرر فإذا قدر ان البناء يحاذى ما على يمينه وشماله ولا يضر بالمارة اصلا فهذه العلة منتفية فيه وموجب هذا التعليل الجواز اذا إنتفت العلة كأحد القولين اللذين ذكرهما القاضي
وفى الجملة فى جواز البناء المختص بالباني الذى لا ضرر فيه أصلا بإذن الإمام قولان
ونظير هذا إذا أخرج روشنا أو ميزابا إلى الطريق النافذ ولا مضرة فيه فهل يجوز بإذن الإمام على قولين فى مذهب أحمد
( أحدهما ) يجوز كما اختاره بن عقيل وابو البركات
( والثانى ) لايجوز كما اختاره غير واحد والمشهور عن احمد تحريما او تنزيها وذكر ابو بكر المروزي فى ( كتاب الورع ( آثارا فى ذلك منها ما نقله المروزي عن احمد انه سقف له دارا وجعل ميزابها إلى الطريق فلما أصبح قال ادع لي النجار حتى يحول الماء
____________________
(30/401)
إلى الدار فدعوته له فحوله وقال ان يحيى القطان كانت مياهه فى الطريق فعزم عليها وصيرها إلى الدار وذكر عن احمد انه ذكر ورع شعيب بن حرب وأنه قال ليس لك ان تطين الحائط لئلا يخرج إلى الطريق وسأله المروزى عن الرجل يحتفر في فنائه البئر أو المحرم للعلو قال لا هذا طريق المسلمين قال المروزى قلت إنما هو بئر يحفر ويسد رأسها قال أليس هي فى طريق المسلمين وسأله بن الحكم عن الرجل يخرج إلى طريق المسلمين الكنيف أو الاصطوانة هل يكون عدلا قال لا يكون عدلا ولا تجوز شهادته وروى احمد باسناده عن علي أنه كان يأمر بالمثاعب والكنف تقطع عن طريق المسلمين وعن عائذ بن عمرو المزنى قال لان يصب طينى فى حجلتى احب الي من ان يصب فى طريق المسلمين قال وبلغنا أنه لم يكن يخرج من داره إلى الطريق ماء السماء قال فرؤى له أنه من أهل الجنة قيل له بم ذلك قال بكف أذاه عن المسلمين
ومن جوز ذلك إحتج بحديث ميزاب العباس
( النوع الثانى ) أن يبنى فى الطريق الواسع ما لا يضر المارة لمصلحة المسلمين مثل بناء مسجد يحتاج إليه الناس أو توسيع مسجد ضيق بإدخال بعض الطريق الواسع فيه أو أخذ بعض الطريق لمصلحة المسجد مثل حانوت ينتفع به المسجد فهذا النوع يجوز فى مذهب
____________________
(30/402)
أحمد المعروف وكذلك ذكره أصحاب أبى حنيفة ولكن هل يفتقر إلى إذن ولى الأمر على روايتين عن أحمد ومن أصحاب أحمد من لم يحك نزاعا فى جواز هذا النوع ومنهم من ذكر رواية ثالثة بالمنع مطلقا
والمسألة فى كتب أصحاب أحمد القديمة والحديثة من زمن أصحابه وأصحاب أصحابه إلى زمن متأخرى المصنفين منهم كأبى البركات وإبن تميم وإبن حمدان وغيرهم وألفاظ أحمد فى ( جامع الخلال ( و ( الشافى ( لأبى بكر عبد العزيز ( وزاد المسافر ( و ( المترجم ( لأبى إسحاق الجوزجانى وغير ذلك قال إسماعيل بن سعيد الشالنجى سألت أحمد عن طريق واسع وللمسلمين عنه غنى وبهم إلى أن يكون مسجدا حاجة هل يجوز أن يبنى هناك مسجد قال لا بأس إذا لم يضر بالطريق
( ومسائل إسماعيل بن سعيد ( هذا من أجل مسائل أحمد وقد شرحها أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجانى فى ( كتابه المترجم ( وكان خطيبا بجامع دمشق هنا وله عن أحمد مسائل وكان يقرأ كتب أحمد إليه على منبر جامع دمشق فأحمد اجاز البناء هنا مطلقا ولم يشترط إذن الامام وقال له محمد بن الحكم تكره الصلاة في المسجد
____________________
(30/403)
الذى يؤخذ من الطريق فقال أكره الصلاة فيه الا ان يكون بإذن الإمام فهنا إشترط فى الجواز إذن الإمام
ومسائل إسماعيل عن أحمد بعد مسائل بن الحكم فإن بن الحكم صحب أحمد قديما ومات قبل موته بنحو عشرين سنة وأما إسماعيل فإنه كان على مذهب أهل الرأى ثم انتقل إلى مذهب أهل الحديث وسأل أحمد متأخرا وسأل معه سليمان بن داود الهاشمى وغيره من علماء أهل الحديث وسليمان كان يقرن بأحمد حتى قال الشافعى ما رأيت ببغداد أعقل من رجلين أحمد بن حنبل وسليمان بن داود الهاشمى
وأما الذين جعلوا فى المسألة رواية ثالثة فأخذوها من قوله فى رواية المروزى حكم هذه المساجد التى قد بنيت فى الطريق أن تهدم وقال محمد بن يحيى الكحال قلت لأحمد الرجل يزيد فى المسجد من الطريق قال لا يصلى فيه ومن لم يثبت رواية ثالثة فإنه يقول هذا إشارة من أحمد إلى مساجد ضيقت الطريق وأضرت بالمسلمين وهذه لا يجوز بناؤها بلا ريب فإن فى هذا جمعا بين نصوصه فهو أولى من التناقض بينها
وأبلغ من ذلك أن أحمد يجوز إبدال المسجد بغيره للمصلحه كما فعل ذلك الصحابة قال صالح بن احمد قلت لأبى المسجد يخرب
____________________
(30/404)
ويذهب أهله ترى أن يحول إلى مكان آخر قال إذا كان يريد منفعة الناس فنعم وإلا فلا قال وبن مسعود قد حول المسجد الجامع من التمارين فإذا كان على المنفعة فلا بأس وإلا فلا وقد سألت أبى عن رجل بنى مسجدا ثم أراد تحويله إلى موضع آخر قال أن كان الذى بنى المسجد يريد أن يحوله خوفا من لصوص أو يكون موضعه موضعا قذرا فلا بأس قال أحمد حدثنا يزيد بن هارون ثنا المسعودى عن القاسم قال لما قدم عبد الله بن مسعود إلى بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر واتخذ مسجدا عند أصحاب التمر قال فنقب بيت المال فأخذ الرجل الذى نقبه فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب فكتب عمر إن أقطع الرجل وأنقل المسجد وأجعل بيت المال فى قبلة المسجد فإنه لن يزال فى المسجد مصل فنقله عبد الله فخط له هذه الخطة قال صالح قال أبى يقال أن بيت المال نقب فى مسجد الكوفة فحول عبد الله بن مسعود المسجد موضع التمارين اليوم فى موضع المسجد العتيق يعني أحمد أن المسجد الذى بناه بن مسعود كان موضع التمارين فى زمان أحمد وهذا المسجد هو المسجد العتيق ثم غير مسجد الكوفة مرة ثالثة
وقال أبو الخطاب سئل أبو عبد الله يحول المسجد قال إذا كان ضيقا لا يسع أهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه
____________________
(30/405)
وجوز أحمد أن يرفع المسجد الذى على الأرض ويبنى تحته سقاية للمصلحة وإن تنازع الجيران فقال بعضهم نحن شيوخ لا نصعد فى الدرج واختار بعضهم بناءه فقال أحمد ينظر إلى ما يختار الأكثر وقد تأول بعض أصحابه هذا على أنه ابتدأ البناء ومحققوا أصحابه يعلمون أن هذا التأويل خطأ لأن نصوصه فى غير موضع صريحة بتحويل المسجد
فإذا كان أحمد قد أفتى بما فعله الصحابة حيث جعلوا المسجد غير المسجد لأجل المصلحة مع أن حرمة المسجد أعظم من حرمة سائر البقاع فإنه قد ثبت فى صحيح مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله قال ( أحب البقاع إلى الله مساجدها وأبغض البقاع إلى الله أسواقها فإذا جاز جعل البقعة المحترمة المشتركة بين المسلمين بقعة غير محترمة للمصلحة فلأن يجوز جعل المشتركة التى ليست محترمة كالطريق الواسع بقعة محترمة وتابعة للبقعة المحترمة بطريق الأولى والأحرى فإنه لا ريب أن حرمة المساجد أعظم من حرمة الطرقات وكلاهما منفعة مشتركة
____________________
(30/406)
فصل
والأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه فما كان إلى الحكام فأمر الحاكم الذى هو نائب الإمام فيه كأمر الإمام مثل تزويج الأيامى والنظر فى الوقوف وإجرائها على شروط واقفيها وعمارة المساجد ووقوفها حيث يجوز للإمام فعل ذلك فما جاز له التصرف فيه جاز لنائبه فيه
وإذا كانت المسألة من مسائل الإجتهاد التى شاع فيها النزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام ولا على نائبه من حاكم وغيره ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك وهذا إذا كان البناء فى الطريق وإن كان متصلا بالطريق عند أكثر العلماء مالك والشافعى وأحمد
وكذلك فناء الدار ولكن هل الفناء ملك لصاحب الدار أو حق من حقوقها فيه وجهان فى مذهب أحمد
( أحدهما ) أنه مملوك لصاحبها وهو مذهب مالك والشافعى حتى قال مالك فى الأفنية التى فى الطريق يكريها أهلها فقال إن
____________________
(30/407)
كانت ضيقة تضر بالمسلمين وصنع شيء فيها منعوا ولم يمكنوا وأما كل فناء إذا انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين فى ممرهم فلا أرى به بأسا قال الطحاوى وهذا يدل على أنه كان يرى الأفنية مملوكة لأهلها إذ أجاز اجارتها فينبغى أن لا يفسد البيع بشرطها قال والذى يدل عليه قول الشافعى أنه إن كان فيه صلاح للدار فهو ملك لصاحبها إلا أنه لا يجوز بيعه عنده وذكر الطحاوى أن مذهب أبى حنيفة أن الأفنية لجماعة المسلمين غير مملوكة كسائر الطريق
والذى ذكره القاضي وإبن عقيل وغيرهما من أصحاب أحمد هو الوجه الثانى وهو أن الأرض تملك دون الطريق إلا أن صاحب الأرض أحق بالمرافق من غيره ولذلك هو أحق بفناء الدار من غيره وهذا مذهب أحمد فى الكلأ النابت فى ملكه أنه أحق به من غيره وإن كان لا يملكه على قول الجمهور مالك والشافعى وأحمد
فإذا كان البناء فى فناء المسجد والدار فإنه أحق بالجواز منه فى جادة الطريق وقد ثبت فى الصحيح عن عائشة أن أبا بكر الصديق رضى الله تعالى عنه اتخذ مسجدا بفناء داره وهذا كالبطحاء التى كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه جعلها خارج مسجد رسول الله لمن يتحدث ويفعل ما يصان عنه المسجد فلم يكن مسجدا ولم يكن كالطريق بل اختصاص بالمسجد فمثل هذه
____________________
(30/408)
يجوز البناء فيها بطريق الأولى والبناء كالدخلات التى تكون منحرفة عن جادة الطريق متصلة بالدار والمسجد ومتصلة بالطريق وأهل الطريق لا يحتاجون إليها إلا إذا قدر رحبة خارجة عن العادة وهى تشبه الطريق الذى ينفذ المتصل بالطريق النافذ فإن هذا كله أحق من غيرهم
ولو أرادوا أن يبنوا فيه ويجعلوا عليه بابا جاز عند الأكثرين لما تقدم وعند أبى حنيفة ليس لهم ذلك لما فيه من إبطال حق غيرهم من الدخول إليه عند الحاجة والأكثرون يقولون حقهم فيه إنما هو جواز الإنتفاع إذا لم يحجر عليه أصحابه كما يجوز الإنتفاع بالصحراء المملوكة على وجه لا يضر بأصحابها كالصلاة فيها والمقيل فيها ونزول المسافر فيها فإن هذا جائز فيها وفى أفنية الدور بدون إذن المالك عند جماهير العلماء
وذكر أصحاب الشافعى فى الإنتفاع بالفناء بدون إذن المالك قولين وذكر أصحاب أحمد فى الصحراء وجها بالمنع من الصلاة فيها وهو بعيد على نصوص أحمد وأصوله فإنه يجوز أكل الثمرة فى مثل ذلك فكيف بالمنافع التى لا تضره ويجوز على المنصوص عنه رعي الكلأ فى الأرض المغصوبة فيدخلها بغير إذن صاحبها لأجل الكلأ وإن كان من أصحابه من منع ذلك
____________________
(30/409)
وأما الإنتفاع الذى لا يضر بوجه فهو كالإستظلال بظله والإستضاءة بناره ومثل هذا لا يحتاج إلى إذن فإذا حجر عليها صاحبها صارت ممنوعة ولهذا يفرق بين الثمار التى ليس عليها حائط ولا ناطور فيجوز فيها من الأكل بلا عوض مالا يجوز فى الممنوعة على مذهب أحمد إما مطلقا واما للمحتاج وإن لم يجز الحمل
وإذا جاز البناء فى فناء الملك لصاحبه ففى فناء المسجد للمسجد بطريق الأولى وفناء الدار والمسجد لا يختص بناحية الباب بل قد يكون من جميع الجوانب قال القاضي وإبن عقيل وغيرهما إذا كان المحيى أرضا كان أحق بفنائها فلو أراد غيره أن يحفر فى أصل حائطه بئرا لم يكن له ذلك وكذلك ذكر أبو حامد والماوردى وغيرهما من أصحاب الشافعى والله أعلم
____________________
(30/410)
& باب اللقطة
سئل شيخ الإسلام رحمه الله
عن رجل وجد فرسا لرجل من المسلمين مع أناس من العرب فأخذ الفرس منهم ثم أن الفرس مرض بحيث أنه لم يقدر على المشى فهل للآخذ بيع الفرس لصاحبها أم لا
فأجاب الحمد لله نعم يجوز بل يجب فى هذه الحال أن يبيعه الذى استنقذه لصاحبه وإن لم يكن وكله فى البيع وقد نص الأئمة على هذه المسألة ونظائرها ويحفظ الثمن والله أعلم
وسئل
عن رجل لقى لقية فى وسط فلاة وقد أنشد عليها إلى حيث دخل إلى بلده فهل هي حلال أم لا
____________________
(30/411)
فأجاب يعرفها سنة قريبا من المكان الذى وجدها فيه فإن لم يجد بعد سنة صاحبها فله أن يتصرف فيها وله أن يتصدق بها والله أعلم
وسئل
عن الدراهم المنثورة يجدها الرجل
فأجاب يعرفها حولا فإن وجد صاحبها وإلا فله أن ينفقها وله أن يتصدق بها
وسئل
عن رجل وجد لقطة وعرف بها بعض الناس بينه وبينه سرا أياما ولها عنده مدة سنين فما الحكم فيها
فأجاب الحمد لله لا يحل له مثل هذا التعريف بل عليه أن يعرفها تعريفا ظاهرا لكن على وجه مجمل بأن يقول من ضاع له نفقة أو نحو ذلك والله أعلم
____________________
(30/412)
وسئل رحمه الله
عن حجاج التقوا مع عرب قد قطعوا الطريق على الناس وأخذوا قماشهم فهربوا وتركوا جمالهم والقماش فهل يحل أخذ الجمال التى للحرامية والقماش الذى سرقوه أم لا فأجاب الحمد لله ما أخذوه من مال الحجاج فإنه يجب رده إليهم إن أمكن فإن هذا كاللقطة تعرف سنة فإن جاء صاحبها فذاك وإلا فلآخذها أن ينفقها بشرط ضمانها ولو أيس من وجود صاحبها فإنه يتصدق به ويصرف فى مصالح المسلمين
وكذلك كل مال لا يعرف مالكه من الغصوب والعوارى والودائع وما أخذ من الحرامية من أموال الناس أو ما هو منبوذ من أموال الناس فإن هذا كله يتصدق به ويصرف فى مصالح المسلمين
وسئل رحمه الله
لما جاء التتار وجفل الناس من بين أيديهم وخلفوا دوابا وأثاثا من النحاس وغيره وضمه مسلم وطالت مدته ولم يظهر له صاحب
____________________
(30/413)
ولا منشد وهو يستعمل الدواب والمتاع فما يصنع
فأجاب يجوز له أن يستعمله ويجوز له أن يتصدق به على من ينتفع به والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن سفينة غرقت فى البحر ثم أنها انحدرت وهى معلومة إلى بعض البلاد وقد كان فيها جرار زيت حار ثم إن أهل القرية تعاونوا على المركب حتى أخرجوها إلى البر وقلبوها فطفى الزيت على وجه الماء وبقي رائحا مع الماء ثم أن أهل القرية جاؤا إلى البحر فوجدوا الزيت على الماء فجمع كل واحد ما قدر عليه والمركب قريبة منهم فهذا الزيت المجموع حلال أم حرام ومركب رمان غرقت وجميع ما فيها انحدر فى البحر فبقي كل أحد يجمع من ذلك ولم يعرف له صاحب فهل مالا يعرف صاحبه حلال أم حرام
فأجاب الذين جمعوا الزيت على وجه الماء قد خلصوا مال المعصوم من التلف ولهم أجرة المثل والزيت لصاحبه وأما كون الزيت لصاحبه فلا أعلم فيه نزاعا إلا نزاعا قليلا فإنه يروى عن الحسن بأنه قال هو لمن خلصه
____________________
(30/414)
وأما وجوب أجرة المثل لمن خلصه فهذا فيه قولان للعلماء أصحهما وجوب الأجرة وهو منصوص أحمد وغيره لأن هذا المخلص متبرع وأصحاب القول يقولون ان خلصوه لله تعالى فأجرهم على الله تعالى وأن خلصوه لأجل العوض فلهم العوض لأن ذلك لو لم يفعل لأفضى إلى هلاك الأموال لأن الناس لا يخلصونها من المهالك إذا عرفوا أنهم لا فائدة لهم فى ذلك والصحابة قد قالوا فيمن اشترى أموال المسلمين من الكفار إنه يأخذه ممن اشتراه بالثمن لأنه هو الذى خلصه بذلك الثمن ولأن هذا المال كان مستهلكا لولا أخذ هذا وتخليصه عمل مباح ليس هو عاصيا فيه فيكون المال إذا حصل بعمل هذا والأصل لهذا فيكون مشتركا بينهما لكن لا تجب الشركة على المعين فيجب أجرة المثل ولأن مثل هذا مأذون فيه من جهة العرف فإن عادة الناس أنهم يطلبون من يخلص لهم هذا بالأجرة والإجارة تثبت بالعرف والعادة كمن دخل إلى حمام أو ركب فى سفينة بغير مشارطة وكمن دفع طعاما إلى طباخ وغسال بغير مشارطة ونظائر ذلك متعددة
ولو كان المال حيوانا فخلصه من مهلكة ملكه كما ورد به الأثر لأن الحيوان له حرمة فى نفسه بخلاف المتاع فإن حرمته لحرمة صاحبه فهناك تخليصه لحق الحيوان وهو بالمهلكة قد ييأس صاحبه
____________________
(30/415)
بخلاف المتاع فإن صاحبه يقول للمخلص كان يجوز لك من حين أن أدعه والحق فيه لى فإذا لم تعطني حقى لم آذن لك فى تخليصه
وأما الرمان إذا لم يعرف صاحبه فهو كاللقطة واللقطة أن رجى وجود صاحبها عرفت حولا وإن كانوا لا يرجون وجود صاحبه ففى تعريفه قولان لكن على القولين لهم أن يأكلوا الرمان أو يبيعوه ويحفظوا ثمنه ثم يعرفوه بعد ذلك والله أعلم
وسئل قدس الله روحه
عمن وجد طفلا ومعه شيء من المال ثم رباه حتى بلغ من العمر شهرين فجاء رجل آخر لترضعه إمرأته لله فلما كبر الطفل ادعت المرأة أنه ابنها وأنها ربته فى حضن أبيه فهل يقبل قولها وهل يجب عليها أن تعطى الرجل الثانى ما أنفقه عليه ويلزم الرجل الأول ما وجد مع ابنه
فأجاب إذا كان الطفل مجهول النسب وادعت أنه ابنها قبل قولها فى ذلك ويصرف من المال الذى وجد معه فى نفقته مدة مقامه عند الملتقط والله أعلم
____________________
(30/416)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده سئل شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل احتكر من رجل قطعة أرض بستان ثم ان المحتكر عمر فى أرض البستان صورة مسجد وبنى فيها محرابا وقال لمالك الأرض هذا عمرته مسجدا فلا تأخذ منى حكره فأجابه إلى ذلك ثم أن مالك الأرض باع البستان ولم يستثن منه شيئا فهل يصير هذا المكان مسجدا بذلك أم لا وإذا لم يصر مسجدا بذلك فهل يكون عدم أخذ مالك الأرض الحكر يصير مسجدا وإذا لم يصر بيع البستان جميعه هل يجوز لبانى صورة المسجد أن يضع ما بناه
فأجاب إذا لم يسبل للناس كما تسبل المساجد بحيث تصلى فيه الصلوات الخمس التى تصلى فى المساجد لم يصر مسجدا بمجرد الإذن فى العمارة المذكورة وإذا لم يكن قربة يقتضى خروجه من المبيع دخل فى المبيع فان الشروع فى تصييره مسجدا لا يجعله مسجدا
____________________
(31/5)
وكذلك القول فى العمارة لكن ينبغى لمن أخرج ثمن ذلك أن لا يعود إلى ملكه
كمن أخرج من ماله مالا ليتصدق به فلم يجد السائل ينبغى له أن يمضى ذلك ويتصدق به على سائل آخر ولا يعيده إلى ملكه وإن لم يجب
وإذا صرف مثل هذا المكان فى مصالح مسجد آخر جاز ذلك بل إذا صار مسجدا وكان بحيث لا يصلى فيه أحد جاز أن ينقل إلى مسجد ينتفع به بل إذا جاز أن يباع ويصرف ثمنه فى مسجد آخر بل يجوز أن يعمر عمارة ينتفع بها لمسجد آخر
( وسئل رحمه الله ( عمن بنى مسجدا وأوقف حانوتا على مؤذن وقيم معين ولم يتسلم من ريع الحانوت شيئا فى حياته فهل يجوز تناوله بعد وفاته فأجاب الحمد لله رب العالمين إذا وقف وقفا ولم يخرج من يده ففيه
قولان مشهوران لأهل العلم
أحدهما يبطل وهو مذهب مالك والامام أحمد فى احدى الروايتين وقول أبى حنيفة وصاحبه محمد
____________________
(31/6)
والثانى يلزم وهو مذهب الشافعى والامام أحمد فى احدى الروايتين عن أحمد والقول الثانى فى مذهب أبى حنيفة وقول أبى يوسف والله أعلم
)
وسئل
عن حقوق زاوية وهو بظاهرها وقد أقيم فيه محراب منذ سنين فرأى من له النظر على المكان المذكور المصلحة فى بناء طبقة على ذلك المحراب أما لسكن الامام أو لمن يخدم المكان من غير ضرورة تعود على المكان المذكور ولا على أهله فهل يجوز ذلك
فأجاب إذا لم يكن ذلك مسجدا معدا للصلوات الخمس بل هو من حقوق المكان جاز أن يبنى فيه ما يكون من مصلحة المكان ومجرد تصوير محراب لا يجعله مسجدا لا سيما إذا كان المسجد المعد للصلوات ففى البناء عليه نزاع بين العلماء
____________________
(31/7)
( وسئل رحمه الله (
عمن استأجر أرضا وبنى فيها دارا ودكانا أو شيئا يستحق له كرى عشرين درهما كل شهر إذا يعمر وعليه حكر فى كل شهر درهم ونصف توقف قديما فهل يجوز للمستأجر أن يعمر مع ما قد عمره من الملك مسجدا لله ويوقف الملك على المسجد
فأجاب يجوز أن يقف البناء الذى بناه فى الأرض المستأجرة سواء وقفه مسجدا أو غير مسجد ولا يسقط ذلك حق أهل أهل الأرض فإنه متى انقضت مدة الاجارة وانهدم البناء زال حكم الوقف سواء كان مسجدا أو غير مسجد وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها ومادام البناء قائما فيها فعليه أجرة المثل ولو وقف على ربع أودار مسجدا ثم انهدمت الدار أو الربع فان وقف العلو لا يسقط حق ملاك السفل كذلك وقف البناء لا يسقط على ملاك الأرض
____________________
(31/8)
( وسئل رحمه الله (
عمن وصى أو وقف على جيرانه فما الحكم فأجاب إذا لم يعرف مقصود الواقف والوصي لا بقرينة لفظية
ولا عرفية ولا كان له عرف فى مسمى الجيران رجع فى ذلك إلى المسمى الشرعى وهو أربعون دارا من كل جانب لما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الجيران أربعون من ها هنا وها هنا والذى نفسى بيده لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ( والله أعلم
وسئل ( عن رجل معرف على المراكب وبنى مسجدا وجعل للامام فى كل المراكب شهر أجرة من عنده فهل هو حلال أم حرام وهل تجوز الصلاة فى المسجد أم لا
فأجاب ان كان يعطى هذه الدراهم من أجرة المراكب التى له جاز اخذها وان كان يعطيها مما يأخذ من الناس بغير حق فلا والله أعلم
____________________
(31/9)
( وسئل رحمه الله (
عن قوم بيدهم وقف من جدهم من أكثر من مائة وخمسين سنة على شهد مضاف إلى شيث وعلى ذرية الواقف والفقراء ونظره لهم والوقف معروف بذلك من الزمان القديم وقد ثبت ذلك فى مجلس الحكم الشريف وبيدهم مراسيم الملوك من زمان نور الدين وصلاح الدين تشهد بذلك وتأمر باعفاء هذا الوقف ورعاية حرمته وقد قام نظار هذا الوقف فى هذا الوقت طلبوا أن يفرقوا نصف المغل فى عمارة المشهد والنصف الذى يبقى لذريته يأخذونه لا يعطونهم إياه ولا يصرفونه فى مصارف الوقف
فأجاب لا يجوز هذا للناظر ولا يجوز تمكينهم من أن يصرفوا الوقف فى غير مصارفه الشرعية ولا حرمان ورثة الواقف والفقراء الداخلين فى شرط الواقف بل ذريته والفقراء أحق بأن يصرف إليهم ما شرط لهم من المشهد المذكور فكيف يحرمون والحال هذه بل لو كان الوقف على المشهد وحده لكان صرف ما يفضل إليهم مع حاجتهم أولى من صرفه إلى غيرهم
____________________
(31/10)
فمن صرف بعض الوقف على المشهد وأخذ بعضه يصرفه فيما لم يقتضه الشرط وحرم الذرية الداخلين فى الشرط فقد عصى الله ورسوله وتعدى حدوده من وجوب أداء الوقف على ذرية الواقف جائر باتفاق أئمة المسلمين المجوزين للوقف وهو أمر قديم من زمن الصحابة والتابعين
)
وأما بناء المشاهد على القبور والوقف عليها فبدعة لم يكن على عهد الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم بل ولا على عهد الأربعة
وقد اتفق الأئمة على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور ولا الاعانة على ذلك بوقف ولا غيره ولا النذر لها ولا العكوف عليها ولا فضيلة للصلاة والدعاء ( فيها على ( المساجد الخالية عن القبور فانه يعرف ان هذا خلاف دين الاسلام المعلوم بالاضطرار المتفق عليه بين الأئمة فانه إن لم يرجع فانه يستتاب بل قد نص الأئمة المعتبرون على أن بناء المساجد على القبور مثل هذا المشهد ونحوه حرام لما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ( قالت عائشة رضى الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره ان يتخذ مسجدا وفى صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس (
أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد الا فلا
____________________
(31/11)
تتخذوا القبور مساجد فانى انهاكم عن ذلك ( وفى السنن عنه أنه قال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( فقد لعن من يبنى مسجدا على قبر ويوقد فيه سراجا مثل قنديل وشمعة ونحو ذلك فكيف يصرف مال أحدهم إلى ما نهى عنه رسول الله ويترك صرف ما شرط لهم مع استحقاقهم ذلك فى دين الله نعم لو كان هذا مسجدا لله خاليا عن قبر لكانوا هم وهو فى تناول شرط الواقف لهما سواء
أما ما يصرف لبناء المشهد فمعصية لله والصرف إليهم واجب وان كان المسجد منفصلا عن القبر فحكمه حكم سائر مساجد المسلمين ولكن لا فضيلة له على غيره والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن رجل وقف وقفا على مدرسة وشرط فى كتاب الوقف أنه لا ينزل بالمدرسة المذكورة الا من لم يكن له وظيفة بجامكية ولا مرتب وأنه لا يصرف ريعها لمن له مرتب فى جهة أخرى وشرط لكل طالب جامكية معلومة فهل يصح هذا الشرط والحالة هذه وإذا صح فنقص ريع الوقف ولم يصل كل طالب إلى الجامكية المقررة له فهل يجوز
____________________
(31/12)
للطالب أن يتناول جامكية فى مكان آخر وإذا نقص ريع الوقف ولم يصل كل طالب إلى تمام حقه فهل يجوز للناظر أن يبطل الشرط المذكور أم لا وإذا حكم بصحة الوقف المذكور حاكم هل يبطل الشرط والحالة هذه
فأجاب أصل هذه المسائل أن شرط الواقف إن كان قربة وطاعة لله ورسوله كان صحيحا وإن لم يكن شرطا لازما وان كان مباحا كما لم يسوغ النبى السبق إلا فى خف أو حافر أو نصل وإن كانت المسابقة بلا عوض قد جوزها بالأقدام وغيرها ولأن الله تعالى قال فى مال الفيء ( كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ( فعلم أن الله يكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء
)
وإن كان الغنى وصفا مباحا فلا يجوز الوقف على الأغنياء وعلى قياسه سائر الصفات المباحة ولأن العمل إذا لم يكن قربة لم يكن الواقف مثابا على بذل المال فيه فيكون قد صرف المال فيما لا ينفعه لا فى حياته ولا فى مماته ثم إذا لم يكن للعامل فيه منفعة فى الدنيا كان تعذيبا له بلا فائدة تصل إليه ولا إلى الواقف ويشبه ما كانت الجاهلية تفعله من الاحباس المنبه عليها فى سورة الأنعام والمائدة
وإذا خلا العمل المشروط فى العقود كلها عن منفعة فى الدين أو فى الدنيا
____________________
(31/13)
كان باطلا بالاتفاق فى أصول كثيرة لأنه شرط ليس فى كتاب الله تعالى فيكون باطلا ولو كان مائة شرط
مثال ذلك أن يشرط عليه التزام نوع من المطعم أو الملبس أو المسكن الذى لم تستحبه الشريعة أو ترك بعض الأعمال التى تستحب الشريعة عملها ونحو ذلك
يبقى الكلام فى تحقيق هذا المناط فى اعتبار المسائل فانه قد يكون متفقا عليه وقد يكون مختلفا فيه لاختلاف الاجتهاد فى بعض الاعمال فينظر فى شرط ترك من جهة أخرى فما لم يكن فيه مقصود شرعى خالص أو راجح كان باطلا وإن كان صحيحا ثم ( إذا ) نقص الريع عما شرطه الواقف جاز للمطالب أن يرتزق تمام كفايته من جهة أخرى لأن رزق الكفاية لطلبة العلم من الواجبات الشرعية بل هو من المصالح الكلية التى لا قيام للخلق بدونها فليس لأحد أن يشرط ما ينافيها فكيف إذا لم يعلم أنه قصد ذلك
ويجوز للناظر مع هذه الحالة أن يوصل إلى المرتزقة بالعلم ما جعل لهم أن لا يمنعهم من تناول تمام كفايتهم من جهة أخرى يرتبون فيها وليس هذا ابطالا للشرط لكنه ترك العمل به عند تعذره وشروط الله حكمها كذلك وحكم الحاكم لا يمنع ما ذكر
____________________
(31/14)
وهذه الارزاق المأخوذة على الأعمال الدينية إنما هي أرزاق ومعاون على الدين بمنزلة ما يرتزقه المقاتلة والعلماء من الفيء والواجبات الشرعية تسقط بالعذر وليست كالجعالات على عمل دنيوى ولا بمنزلة الاجارة عليها فهذه حقيقة حال هذه الأموال والله أعلم
)
( وسئل (
عن رجل وقف مدرسة وشرط من يكون له بها وظيفة أن لا يشتغل بوظيفة أخرى بغير مدرسته وشرط له فيها مرتبا معلوما وقال فى كتاب الوقف وإذا حصل فى ريع هذه المدرسة نقص بسبب محل أو غيره كان ما بقى من ريع هذا الوقف مصروفا فى أرباب الوظائف بها لكل منهم بالنسبة إلى معلومة بالمحاصصة وقال فى كتاب الوقف وإذا حصل فى السعر غلاء فللناظر أن يرتب لهم زيادة على ما قرر لهم بحسب كفايتهم فى ذلك الوقت ثم إذا حصل فى ريع الوقف نقص من جهة نقص وقفها بحيث أنه إذا ألغى هذا الشرط من عدم الجمع بينها وبين غيرها يؤدى إلى تعطيل المدرسة فهل يجوز لمن يكون بها أن يجمع بينها وبين غيرها ليحصل له قدر كفايته والحالة هذه حيث راعى الواقف الكفاية لمن يكون بها أو كما تقدم فى فصل غلاء السعر أم لا
____________________
(31/15)
فأجاب الحمد لله هذه الشروط المشروطة على من فيها كعدم الجمع إنما يلزم الوفاء بها إذا لم يفض ذلك إلى الاخلال بالمقصود الشرعى الذى هو يكون اسمك إما واجب وإما مستحب فاما المحافظة على بعض الشروط مع فوات المقصود بالشروط فلا يجوز فاشتراط عدم الجمع باطل مع ذهاب بعض أصل الوقف وعدم حصول الكفاية للمرتب بها لا يجب التزامه ولا يجوز الالزام به لوجهين
( أحدهما ( أن ذلك إنما شرط عليهم مع وجود ريع الموقوف عليهم سواء كان كاملا أو ناقصا فاذا ذهب بعض أصل الوقف لم تكن الشروط مشروطة فى هذه الحال وفرق بين نقص ريع الوقف مع وجود أصله وبين ذهاب بعض أصله
( الوجه الثانى ( أن حصول الكفاية المرتب بها أمر لا بد منه حتى لو قدر أن الواقف صرح بخلاف ذلك كان شرطا باطلا مثل أن يقول إن المرتب بها لا يرتزق من غيرها ولو لم تحصل له كفايته فلو صرح بهذا لم يصح لأن هذا شرط يخالف كتاب الله فإن حصول الكفاية لابد منها وتحصيلها للمسلم واجب أما عليه وإما على المسلمين فلا يصح شرط يخالف ذلك
وقد ظهر أن الواقف لم يقصد ذلك لأنه شرط لهم الكفاية ولكن ذهاب بعض أموال الوقف بمنزلة تلف العين الموقوفة ونحو ذلك
____________________
(31/16)
والوقف سواء شبه بالجعل أو بالأجرة أو بالرزق فان ما على العامل أن يعمل إذا وفى له بما شرط له والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
عن رجل وقف وقفا على مسجد واكفان الموتى وشرط فيه الأرشد فالأرشد من ورثته ثم للحاكم وشرط لامام المسجد ستة دراهم والمؤذن والقيم بالتربة ستة دراهم وشرط لهما دارين لسكناهما ثم أن ريع الوقف زاد خمسة أمثاله بحيث لا يحتاج الأكفان إلى زيادة فجعل لهما الحاكم كل شهر ثلاثين درهما ثم اطلع بعد ذلك على شرط الواقف فتوقف فى أن يصرف عليهم ما زاد على شرط الواقف فهل يجوز له ذلك وهل يجوز لهما تناوله
وأيضا الدار المذكورة انهدمت فأحكرها ناظرالوقف كل سنة بدرهمين فعمرها المستأجر وأجرها فى السنة بخمسين درهما فهل يصح هذا الاحكار
فأجاب نعم يجوز أن يعطى الامام والمؤذن من مثل هذا الوقف الفائض رزق مثلهما وإن كان زائدا على ثلثين بل إذا كانا فقيرين وليس لما زاد مصرف معروف جاز أن يصرف إليهما منه تمام كفايتهما وذلك لوجهين
____________________
(31/17)
أحدهما أن تقدير الواقف دراهم مقدرة فى وقف مقدار ريع قد يراد به النسبة مثل أن يشرط له عشرة والمغل مائة ويراد به العشر فان كان هناك قرينة تدل على إرادة هذا عمل به ومن المعلوم فى العرف أن الوقف إذا كان مغله مائة درهم وشرط له ستة ثم صار خمسمائة فان العادة فى مثل هذا أن يشرط له أضعاف ذلك مثل خمسة أمثاله ولم تجر عادة من شرط ستة من مائة أن يشترط ستة من خمسمائة فيحمل كلام الناس على ما جرت به عادتهم فى خطابهم
الثانى أن الواقف لو لم يشترط هذا فزائد الوقف يصرف فى المصالح التى هي نظير مصالحه وما يشبهها مثل صرفه فى مساجد أخر وفى فقراء الجيران ونحو ذلك لأن الأمر دائر بين أن يصرف فى مثل ذلك أو يرصد لما يحدث من عمارة ونحوه ورصده دائما مع زيادة الريع لافائدة فيه بل فيه مضرة وهو حبسه لمن يتولى عليهم من الظالمين المباشرين والمتولين الذين يأخذونه بغير حق وقد روى عن على بن أبى طالب أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له ففضلت فضلة فأمر بصرفها فى المكاتبين والسبب فيه أنه إذا تعذر المعين صار الصرف إلى نوعه
ولهذا كان الصحيح فى الوقف هو هذا القول وإن يتصدق بما فضل من كسوته كما كان عمر بن الخطاب يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج
____________________
(31/18)
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن صرف الفاضل إلى إمامه ومؤذنه مع الاستحقاق أولى من الصرف إلى غيرهما وتقدير الواقف لا يمنع استحقاق الزيادة بسبب آخر كما لا يمنع استحقاق غير مسجده
وإذا كان كذلك وقدر الاكفان التى هي المصروفة ببعض الريع صرف ما يفضل إلى الامام والمؤذن ما ذكر والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
عن رجل أوقف وقفا وشرط التنزيل فيه للشيخ وشرط أن لا ينزل فيه شرير ولا متجوه وأنه نزل فيه شخص بالجاه ثم بدا منه أمر يدل على أنه شرير فرأى الشيخ المصلحة فى صرفه اعتمادا على شرط الواقف ونزل الشيخ شخصا آخر بطريق شرط الواقف ومرسوم ألفاظه فهل يجوز صرف من نزل بشرط الواقف بغير مستند شرعى وإعادة المتجوه الشرير المخالف لشرط الواقف وهل يحرم على الناظر والشيخ ذلك ويقدح ذلك فى ولايتهما وهل يحرم على الساعى فى ذلك المساعد له
فأجاب إذا علم شرط الواقف عدل عنه إلى شرط الله قبل شرط الواقف إذا كان مخالفا لشرط الله
____________________
(31/19)
فإن الجهات الدينية مثل الخوانك والمدارس وغيرها لا يجوز ان ينزل فيها فاسق سواء كان فسقه بظلمه للخلق وتعديه عليهم بقوله وفعله أو فسقه بتعديه حقوق الله التى بينه وبين الله فان كلا من هذين الضربين يجب الانكار عليه وعقوبته فكيف يجوز أن يقرر فى الجهات الدينية ونحوها فكيف إذا شرط الواقف ذلك فانه يصير وجوبه مؤكدا
ومن نزل من أهل الاستحقاق تنزيلا شرعيا لم يجز صرفه لأجل هذا الظلم ولا لغيره فكيف يجوز أن يستبدل الظالم بالعادل والفاجر بالبر ومن أعان على ذلك فقد أعان على الاثم والعدوان سواء علم شرط الواقف أو لم يعلم
____________________
(31/20)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل أوقف وقفا على مدرسة وشرط فيها أن ريع الوقف للعمارة والثلثين يكون للفقهاء وللمدرسة وأرباب الوظائف وشرط أن الناظر يرى بالمصلحة والحال جاريا كذلك مدة ثلاثين سنة وإن حصر المدرسة وملء الصهريج يكون من جامكية الفقهاء لأن لهم غيبة وأماكن غيرها وان معلوم الامام فى كل شهر من الدراهم عشرون درهما وكذلك المؤذن فطلب الفقهاء بعد هذه المسألة أرباب الوظائف أن يشاركوهم فيما يؤخذ من جوامكهم لأجل الحصر وملء الصهريج وأن أرباب الوظائف قائمون بهذه الوظيفة ولو لم يكن لهم غيرها هل يجب للناظر موافقة الفقهاء على ما طلبوه ونقص هؤلاء المساكين عن معلومهم اليسير أم لا
فأجاب الحمد لله إذا رأى الناظر تقديم أرباب الوظائف الذين يأخذون على عمل معلوم كالامام والمؤذن فقد أصاب فى ذلك إذا كان الذى يأخذونه لا يزيد على جعل مثلهم فى العادة كما أنه يجب ( أن يقدم ( الجابى والعامل والصانع والبناء ونحوهم ممن يأخذ على عمل يعمله فى تحصيل المال أو عمارة المكان يقدمون بأخذ الأجرة
____________________
(31/21)
والامامة والأذان شعائر لا يمكن إبطالها ولا تنقيصها بحال فالجاعل جعل مثل ذلك لأصحابها يقدم على ما يأخذه الفقهاء وهذا بخلاف المدرس والمفيد والفقهاء فإنهم من جنس واحد
وإن امكن صرف ثمن الحصر وملء الصهريج من ثلث العمارة أو غيره يجعل ذلك ويوفر الثلثان على مستحقيه فإنه إذا شرط أن الثلث للعمارة والثلثين لأرباب الوظائف لم يكن أخذ ثمن الحصر ونحوها من هذا أولى من صرفها من هذا الا أن يكون للوقف شرط شرعى بخلاف هذا
( وسئل (
عمن وقف تربة وشرط المقرئ عزبا فهل يحل التنزل مع التزوج
فأجاب هذا شرط باطل والمتأهل أحق بمثل هذا من المتعزب إذا استويا فى سائر الصفات إذ ليس فى التعزب هنا مقصود شرعى
____________________
(31/22)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل وقف وقفا على عدد معلوم من النساء والأرامل والأيتام وشرط النظر لنفسه فى حياته ثم الصالح من ولده بعد وفاته ذكرا كان أو انثى وللواقف أقارب من أولاد أولاده ممن هو محتاج وقصد الناظر أن يميزهم على غيرهم فى الصرف هل يجوز أن يميزهم فأجاب إذا استووا هم وغيرهم فى الحاجة فأقارب الواقف يقدمون على نظرائهم الأجانب كما يقدمون لصلته فى حياته كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( صدقتك على المسلمين صدقة وعلى ذوى الرحم صدقة وصلة (
ولهذا يؤمر أن يوصي لأقاربه الذين لا يرثون أما أمر ايجاب على قول بعض العلماء وأما أمر استحباب كقول الأكثرين وهما روايتان عن أحمد والله أعلم
____________________
(31/23)
( وسئل قدس الله روحه (
عن رجل وقف وقفا على جهة معينة وشرط شروطا ومات الواقف ولم يثبت الوقف على حاكم وعدم الكتاب قبل ذلك ثم عمل محضرا مجردا يخالف الشروط والأحكام المذكورة فى كتاب الوقف واثبت على حاكم بعد تاريخ الوقف المتقدم ذكره سنتين ثم ظهر كتاب الوقف وفيه شروط لم يتضمن المحضر شيئا منها وتوجه الكتاب للثبوت فهل يجوز منع ثبوته والعمل المذكور أم لا
فأجاب الحمد لله لا يجوز منع ثبوته بحال من الأحوال بل إذا أمكن ثبوته وجب ثبوته والعمل به وأن خالفه المحضر المثبت بعده وان حكم بذلك المحضر حاكم فالحاكم به معذور بكونه لم يثبت عنده ما يخالفه ولكن إذا ظهر ما يقال انه كتاب الوقف وجب التمكن من اثباته بالطريق الشرعى فان ثبت وجب العمل به والله أعلم
____________________
(31/24)
( وسئل (
عن رجل أوقف وقفا وشرط فى بعض شروطه أنهم يقرؤون ما تيسر ويسبحون ويهللون ويكبرون ويصلون على النبى صلى الله عليه وسلم بعد الفجر إلى طلوع الشمس فهل الأفضل السر أو الجهر وان شرط الواقف فما يكون
فأجاب الحمد لله بل الاسرار بالذكر والدعاء كالصلاة على النبى وغيرها أفضل ولا هو الأفضل مطلقا الا لعارض راجح وهو فى هذا الوقت أفضل خصوصا فان الله يقول ( واذكر ربك فى نفسك تضرعا وخيفة ( وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه لما رأى الصحابة رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم بالذكر قال ( أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا وإنما تدعون سميعا قريبا ان الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ( وفى الحديث ( خير الذكر الخفي وخير الرزق ما كفى ( والله أعلم
____________________
(31/25)
( وسئل رحمه الله ( عن رجل وقف وقفا وشرط فيه شروطا على جماعة قراء وانهم يحضرون كل يوم بعد صلاة الصبح يقرؤون ما تيسر من القرآن إلى طلوع الشمس ثم يتداولون النهار بينهم يوما مثنى مثنى ويجتمعون أيضا بعد صلاة العصر يقرأ كل منهم حزبين ويجتمعون أيضا فى كل ليلة جمعة جملة اجتماعهم فى الشهر سبعة وسبعون مرة على هذا النحو عند قبره بالتربة وشرط عليهم أيضا أن يبيتوا كل ليلة بالتربة المذكورة وجعل لكل منهم سكنا يليق به وشرط لهم جاريا من ريع الوقف يتناولون فى كل يوم وفى كل شهر فهل يلزمهم الحضور على شرطه عليهم أم يلزمهم أن يتصفوا بتلك الصفات فى أى مكان أمكن اقامتهم بوظيفة القراءة أو لا يتعين المكان ولا الزمان
وهل يلزمهم أيضا أن يبيتوا بالمكان المذكور أم لا وان قيل باللزوم فاستخلف أحدهم من يقرأ عنه وظيفته فى الوقف والمكان والواقف شرط فى كتاب الوقف أن يستنيبوا فى أوقات الضرورات فما هي الضرورة التى تبيح النيابة
____________________
(31/26)
وأيضا أن نقصهم الناظر من معلومهم الشاهد به كتاب الوقف فهل يجوز أن ينقصوا مما شرط عليهم وسواء كان النقص بسبب ضرورة أو من اجتهاد الناظر أو من غير اجتهاده وليشف سيدنا بالجواب مستوعبا بالأدلة ويجلى به عن القلوب كل عسر مثابا فى ذلك
فأجاب الحمد لله رب العالمين
أصل هذه المسألة وهو على أهل الأعمال التى يتقرب بها إلى الله تعالى والوصية لأهلها والنذر لهم ان تلك الأعمال لابد أن تكون من الطاعات التى يحبها الله ورسوله فإذا كانت منهيا عنها لم يجز الوقف عليها ولا اشتراطها فى الوقف باتفاق المسلمين وكذلك فى النذر ونحوه وهذا متفق عليه بين المسلمين فى الوقف والنذر ونحو ذلك ليس فيه نزاع بين العلماء أصلا ومن أصول ذلك ما أخرجه البخارى فى صحيحه عن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله ( من نذر أن يطيع الله فليطعه
ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه (
)
ومن أصوله ما أخرجه البخارى ومسلم فى الصحيحين عن عائشة أيضا أن رسول الله خطب على المنبر لما أراد أهل بريرة أن
____________________
(31/27)
يشترطوا الولاء لغير المعتق فقال ( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (
وهذا الحديث الشريف المستفيض الذى اتفق العلماء على تلقيه بالقبول اتفقوا على أنه عام فى الشروط فى جميع العقود ليس ذلك مخصوصا عند أحد منهم بالشروط فى البيع بل من اشترط فى الوقف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر أو غير ذلك شروطا تخالف ما كتبه الله على عباده بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه أو النهى عما أمر به أو تحليل ما حرمه أو تحريم ما حلله فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين فى جميع العقود الوقف وغيره
وقد روى أهل السنن أبو داود وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا والمسلمون على شروطهم الا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا (
وحديث عائشة هو من العام الوارد على سبب وهذا وإن كان أكثر العلماء يقولون أنه يؤخذ فيه بعموم اللفظ ولا يقتصر على سببه فلا نزاع بينهم أن أكثر العمومات الواردة على أسباب لا تختص بأسبابها كالآيات النازلة بسبب معين مثل آيات المواريث والجهاد والظهار
____________________
(31/28)
واللعان والقذف والمحاربة والقضاء والفيء والربا والصدقات وغير ذلك فعامتها نزلت على أسباب معينة مشهورة فى كتب الحديث والتفسير والفقه والمغازى مع اتفاق الأمة على أن حكمها عام فى حق غير أولئك المعينين وغير ذلك مما يماثل قضاياهم من كل وجه
وكذلك الأحاديث وحديث عائشة مما اتفقوا على عمومه وأنه من جوامع الكلم التى أوتيها وبعث بها حيث قال ( من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (
ولكن تنازعوا فى العقود المباحات كالبيع والاجارة والنكاح هل معنى الحديث من اشترط شرطا لم يثبت أنه خالف فيه شرعا أو من اشترط شرطا يعلم أنه مخالف لما شرعه الله هذا فيه تنازع لأن قوله فى آخر الحديث ( كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ( يدل على أن الشرط الباطل ما خالف ذلك وقوله ( من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل ( قد يفهم منه ما ليس بمشروع
وصاحب القول الأول يقول ما لم ينه عنه من المباحات فهو مما أذن فيه فيكون مشروعا بكتاب الله وأما ما كان فى العقود التى يقصد بها
____________________
(31/29)
الطاعات كالنذر فلابد أن يكون المنذور طاعة فمتى كان مباحا لم يجب الوفاء به لكن فى وجوب الكفارة به نزاع مشهور بين العلماء كالنزاع فى الكفارة بنذر المعصية لكن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به ونذر المباح مخير بين الأمرين وكذلك الوقف أيضا
وحكم الشروط فيه يعرف بذكر أصلين ان الواقف إنما وقف الوقوف بعد موته لينتفع بثوابه وأجره عند الله لا ينتفع به فى الدنيا فانه بعد الموت لا ينتفع الميت إلا بالأجر والثواب
ولهذا فرق بين ما قد يقصد به منفعة الدنيا وبين ما لا يقصد به إلا الأجر والثواب فالأول كالبيع والاجارة والنكاح فهذا يجوز للانسان أن يبذل ماله فيها ليحصل اغراضا مباحة دنيوية ومستحبة ودينية بخلاف الاغراض المحرمة وأما الوقف فليس له أن يبذل ملكه الا فيما ينفعه فى دينه فإنه إذا بذله فيما لا ينفعه فى الدين والوقف لا ينتفع به بعد موته فى الدنيا صار بذل المال لغير فائدة تعود إليه لا فى دينه ولا فى دنياه وهذا لا يجوز
ولهذا فرق العلماء بين الوقف على معين وعلى جهة فلو وقف أو وصى لمعين جاز وإن كان كافرا ذميا لأن صلته مشروعة كما دل على ذلك الكتاب والسنة فى مثل قوله تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } ومثل حديث
____________________
(31/30)
أسماء بنت أبى بكر لما قدمت أمها وكانت مشركة فقالت يا رسول الله إن أمى قدمت وهى راغبة أفأصلها قال ( صلي أمك ) والحديث فى الصحيحين وفى ذلك نزل قوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } وقوله تعالى { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون }
فبين أن عطية مثل هؤلاء إنما يعطونها لوجه الله وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( فى كل ذات كبد رطبة أجر ( فإذا أوصى أو وقف على معين وكان كافرا أو فاسقا لم يكن الكفر والفسق هو سبب الاستحقاق ولا شرطا فيه بل هو يستحق ما أعطاه وإن كان مسلما عدلا فكانت المعصية عديمة التأثير بخلاف ما لو جعلها شرطا فى ذلك على جهة الكفار والفساق أو على الطائفة الفلانية بشرط أن يكونوا كفارا أو فساقا فهذا الذى لا ريب فى بطلانه عند العلماء
ولكن تنازعوا فى الوقف على جهة مباحة كالوقف على الأغنياء على قولين مشهورين والصحيح الذى دل عليه الكتاب والسنة والاصول أنه باطل أيضا لأن الله سبحانه قال فى مال الفيء { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم }
____________________
(31/31)
فأخبر سبحانه أنه شرع ما ذكره لئلا يكون الفيء متداولا بين الأغنياء دون الفقراء فعلم أنه سبحانه يكره هذا وينهى عنه ويذمه فمن جعل الوقف للأغنياء فقط فقد جعل المال دولة بين الأغنياء فيتداولونه بطنا بعد بطن دون الفقراء وهذا مضاد لله فى أمره ودينه فلا يجوز ذلك
وفى السنن عن النبى أنه قال ( لا سبق إلا فى خف أو حافر أو نصل ( فإذا كان قد نهى عن بذل السبق الا فيما يعين على الطاعة والجهاد مع أنه بذل لذلك فى الحياة وهو منقطع غير مؤبد فكيف يكون الامر فى الوقف وهذا بين فى أصول الشريعة من وجهين
أحدهما أن بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة فى الدين أو الدنيا وهذا أصل متفق عليه بين العلماء ومن خرج عن ذلك كان سفيها وحجر عليه عند جمهور العلماء الذين يحجرون على السفيه وكان مبذرا لماله وقد نهى الله فى كتابه عن تبذير المال ( ولا تبذر تبذيرا ( وهو انفاقه فى غير مصلحة وكان مضيعا لماله وقد نهى النبى عن اضاعة المال فى الحديث المتفق عليه عن المغيرة
____________________
(31/32)
بن شعبة عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال (
وقد قال الله تعالى فى كتابه ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما (
وقد قال كثير من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم هذا مثل توكيل السفيه وهو أن يدفع الرجل ماله إلى ولده السفيه أو امرأته السفيهة فينفقان عليه ويكون تحت أمرهما وقال آخرون ذلك أن يسلم إلى السفيه مال نفسه فإن الله نهى عن تسليم مال نفسه إليه إلا إذا أونس منه الرشد
والآية تدل على النوعين كليهما فقد نهى الله أن يجعل السفيه متصرفا لنفسه أو لغيره بالوكالة أو الولاية وصرف المال فيما لا ينفع فى الدين ولا الدنيا من أعظم السفه فيكون ذلك منهيا عنه فى الشرع
إذا عرف هذا فمن المعلوم أن الواقف لا ينتفع بوقفه فى الدنيا كما ينتفع بما يبذله فى البيع والاجارة والنكاح وهذا أيضا لا ينتفع به فى الدين إن لم ينفقه فى سبيل الله وسبيل الله طاعته وطاعة رسوله فإن الله إنما يثيب العباد على ما أنفقوه فيما يحبه وأما مالا يحبه فلا ثواب فى النفقة عليه ونفقة
____________________
(31/33)
الإنسان على نفسه وولده وزوجته واجبة فلهذا كان الثواب عليها أعظم من الثواب على التطوعات على الاجانب
وإذا كان كذلك فالمباحات التي لا يثيب الشارع عليها لا يثيب على الانفاق فيها والوقف عليها ولا يكون في الوقف عليها منفعة وثواب في الدين ولا منفعة في الوقف عليها في الدنيا فالوقف عليها خال من انتفاع الواقف في الدين والدنيا فيكون باطلا وهذا ظاهر في الاغنياء وإن كان قد يكون مستحبا بل واجبا فإنما ذاك إذا أعطوا بسبب غير الغني من القرابة والجهاد والدين ونحو ذلك
فأما إن جعل سبب الاستحقاق هوالغني وتخصيص الغني بالاعطاء مع مشاركة الفقير له في أسباب الاستحقاق سوى الغني مع زيادة استحقاق الفقير عليه فهذا مما يعلم بالاضطرار في كل ملة إن الله لا يحبه ولا يرضاه فلا يجوز اشتراط ذلك في الوقف
الوجه الثاني إن الوقف يكون فيما يؤبد على الكفار ونحوهم وفيما يمنع منه التوارث وهذا لو أن فيه منفعة راجحة وإلا كان يمنع منه الواقف لأنه فيه حبس المال عن أهل المواريث ومن ينتقل إليهم وهذا مأخذ من قال لا حبس عن فرائض الله لكن هذا القول ترك لقول عمر وغيره وما في ذلك من المصلحة الراجحة فأما إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة بل قد حبس المال
____________________
(31/34)
فمنعه الوارث وسائر الناس أن ينتفع به وهو لم ينتفع به فهذا لا يجوز تنفيذه بلا ريب
ثم هذه المسألة المتنازع فيها هي فى الوقف على الصفات المباحة الدنيوية كالغنى بالمال وأما الوقف على الأعمال الدينية كالقرآن والحديث والفقه والصلاة والأذان والامامة والجهاد ونحو ذلك والكلام فى ذلك هو الأصل الثانى وذلك لايمكن أن يكون فى ذلك نزاع بين العلماء فى أنه لا يجوز أن يوقف الا على ما شرعه الله واحبه من هذه الأعمال
فأما من أبتدع عملا لم يشرعه الله وجعله دينا فهذا ينهى عن عمل هذا العمل فكيف يشرع له أن يقف عليه الأموال بل هذا من جنس الوقف على ما يعتقده اليهود والنصارى عبادات وذلك من الدين المبدل أو المنسوخ ولهذا جعلنا هذا أحد الأصلين فى الوقف
وذلك أن باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله فليس لأحد أن يجعل شيئا عبادة أو قربة الا بدليل شرعى قال تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وقال تعالى { المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون }
____________________
(31/35)
ونظائر ذلك فى الكتاب كثير يأمر الله فيه بطاعة رسوله واتباع كتابه وينهى عن اتباع ما ليس من ذلك
والبدع جميعها كذلك فان البدعة الشرعية أى المذمومة فى الشرع هي ما لم يشرعه الله فى الدين أى ما لم يدخل فى أمر الله ورسوله وطاعة الله ورسوله فاما إن دخل فى ذلك فإنه من الشرعة لا من البدعة الشرعية وإن كان قد فعل بعد موت النبى بما عرف من أمره كاخراج اليهود والنصارى بعد موته وجمع المصحف وجمع الناس على قارئ واحد فى قيام رمضان ونحو ذلك
وعمر بن الخطاب الذى أمر بذلك وإن سماه بدعة فإنما ذلك لأنه بدعة فى اللغة إذ كل أمر فعل على غير مثال متقدم يسمى فى اللغة بدعة وليس مما تسميه الشريعة بدعة وينهى عنه فلا يدخل فيما رواه مسلم من صحيحه عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى خطبته ( إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ( فإن قوله صلى الله عليه وسلم ( كل بدعة ضلالة ( حق وليس فيما دلت عليه الادلة الشرعية على الاستحباب بدعة كما قال فى الحديث الذى رواه أهل السنن وصححه الترمذى عن العرباض بن سارية عن
____________________
(31/36)
النبى صلى الله عليه وسلم قال ( وعظنا رسول الله موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بتقوى الله وعليكم بالسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة ( وفى رواية ( فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ( وفى رواية ( وكل ضلالة فى النار (
ففى هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين وبين أن المحدثات التى هي البدع التى نهى عنها ما خالف ذلك فالتراويح ونحو ذلك لو لم تعلم دلالة نصوصه وأفعاله عليها لكان أدنى أمرها أن تكون من سنة الخلفاء الراشدين فلا تكون من البدع الشرعية التى سماها النبى بدعة ونهى عنها
وبالجملة لا خلاف بين العلماء أن من وقف على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعى ونحو ذلك لم يصح وقفه بل هو ينهى عن ذلك العمل وعن البذل فيه والخلاف الذى بينهم فى المباحات لا يخرج مثله هنا لأن اتخاذ الشيء عبادة واعتقاد كونه عبادة وعمله لأنه عبادة لا يخلو من أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه فان كان مأمورا به واجبا
____________________
(31/37)
أو مستحبا فى الشريعة كان اعتقاد كونه عبادة والرغبة فيه لأجل العبادة ومحبته وعمله مشروعا وإن لم يكن الله يحبه ولا يرضاه فليس بواجب ولا مستحب لم يجز لأحد أن يعتقد أنه مستحب ولا أنه قربة وطاعة ولا يتخذه دينا ولا يرغب فيه لأجل كونه عبادة
وهذا أصل عظيم من أصول الديانات وهو التفريق بين المباح الذى يفعل لأنه مباح وبين ما يتخذ دينا وعبادة وطاعة وقربة واعتقادا ورغبة وعملا فمن جعل ما ليس مشروعا ولا هو دينا ولا طاعة ولا قربة جعله دينا وطاعة وقربة كان ذلك حراما باتفاق المسلمين
لكن قد يتنازع العلماء فى بعض الأمور هل هو من باب القرب والعبادات أم لا سواء كان من باب الاعتقادات القولية أو من باب الارادات العملية حتى قد يرى أحدهم واجبا ما يراه الآخر حراما كما يرى بعضهم وجوب قتل المرتد ويرى آخر تحريم ذلك ويرى أحدهم وجوب التفريق بين السكران وامرأته إذا طلقها فى سكره ويرى الآخر تحريم التفريق بينهما وكما يرى أحدهم وجوب قراءة فاتحة الكتاب على المأموم ويرى الآخر كراهة قراءته أما مطلقا واما اذا سمع جهر الامام ونحو ذلك من موارد النزاع كما أن اعتقادها وعملها من موارد النزاع فبذل المال عليها هو من موارد النزاع أيضا وهو الاجتهادية
____________________
(31/38)
وأما كل عمل يعلم المسلم أنه بدعة منهى عنها فإن العالم بذلك لا يجوز الوقف باتفاق المسلمين وان كان قد يشرط بعضهم بعض هذه الأعمال من لم يعلم الشريعة أو من هو يقلد فى ذلك لمن لا يجوز تقليده فى ذلك فإن هذا باطل كما قال عمر بن الخطاب ردوا الجهالات إلى السنة ولما فى الصحيح عن عائشة عن النبى أنه قال ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (
ولهذا اتفق العلماء أن حكم الحاكم العادل إذا خالف نصا أو اجماعا لم يعلمه فهو منقوض فكيف بتصرف من ليس يعلم هذا الباب من واقف لا يعلم حكم الشريعة ومن يتولى ذلك له من وكلائه وإن قدر ان حاكما حكم بصورة ذلك ولزومه فغايته أن يكون عالما عادلا فلا ينفذ ما خالف فيه نصا أو اجماعا باتفاق المسلمين
والشروط المتضمنة للأمر بما نهى الله عنه والنهى عن ما أمر الله به مخالفة للنص والاجماع وكل ما أمر الله به أو نهى عنه فان طاعته فيه بحسب الامكان كما قال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وكما قال النبى فى الحديث المتفق عليه ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما أستطعتم )
____________________
(31/39)
فهذه القواعد هي الكلمات الجامعة والاصول الكلية التى تنبنى عليها هذه المسائل ونحوها وقد ذكرنا منها نكتا جامعة بحسب ما تحتمله الورقة يعرفها المتدرب فى فقه الدين
وبعد هذا ينظر فى تحقيق مناط الحكم فى صورة السؤال وغيرها بنظره فما تبين أنه من الشروط الفاسدة الغي وما تبين أنه شرط موافق لكتاب الله عمل به وما
أشتبه أمره أو كان فيه نزاع فله حكم نظائره ومن هذه الشروط الباطلة ما يحتاج تغييره إلى همة قوية وقدرة نافذة ويؤيدها الله بالعلم والدين والا فمجرد قيام الشخص فى هوى نفسه لجلب دنيا أو دفع مضرة دنيوية إذا أخرج ذلك مخرج الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يكاد ينجح سعيه وإن كان متظلما طالبا من يعينه فإن أعانه الله بمن هو متصف بذلك أو بما يقدره له من جهة تعينه حصل مقصوده ولا حول ولا قوة إلا بالله
وما ذكره السائلون فرض تمام الوجود والله يسهل لهم ولسائر المسلمين من يعينهم على خير الدين والدنيا إنه على كل شيء قدير
)
فمن ما لا نزاع فيه بين العلماء أن مبيت الشخص فى مكان معين دائما ليس قربة ولا طاعة باتفاق العلماء ولا يكون ذلك الا فى بعض الاوقات إذا كان فى التعيين مصلحة شرعية مثل المبيت فى ليالى منى ومثل
____________________
(31/40)
مبيت الانسان فى الثغر للرباط أو مبيته فى الحرس فى سبيل الله أو عند عالم أو رجل صالح ينتفع به ونحو ذلك
فأما أن المسلم يجب عليه أن يرابط دائما ببقعة بالليل لغير مصلحة دينية فهذا ليس من الدين بل لو كان المبيت عارضا وكان يشرع فيها ذلك لم يكن أيضا من الدين ومن شرط عليه ذلك ووقف عليه المال لأجل ذلك فلا ريب فى بطلان مثل هذا الشرط وسقوطه
بل تعيين مكان معين للصلوات الخمس أو قراءة القرآن أو إهدائه غير ما عينه الشارع ليس أيضا مشروعا باتفاق العلماء حتى لو نذر أن يصلى أو يقرأ أو يعتكف فى مسجد بعينه غير الثلاثة لم يتعين وله أن يفعل ذلك فى غيره لكن فى وجوب الكفارة لفوات التعيين قولان للعلماء
والعلماء لهم فى وصول العبادات البدنية كالقراءة والصلاة والصيام إلى الميت قولان أصحهما أنه يصل لكن لم يقل أحد من العلماء بالتفاضل فى مكان دون مكان ولا قال أحد قط من علماء الأمة المتبوعين أن الصلاة أو القراءة عند القبر أفضل منها عند غيره بل القراءة عند القبر قد اختلفوا فى كراهتها فكرهها أبو حنيفة ومالك والامام أحمد فى احدى الروايتين وطوائف من السلف ورخص فيها طائفة أخرى
____________________
(31/41)
من أصحاب أبى حنيفة والامام أحمد وغيرهم وهو احدى الروايتين عن أحمد وليس عن الشافعى فى ذلك كله نص نعرفه
ولم يقل احد من العلماء أن القراءة عند القبر أفضل ومن قال أنه عند القبر ينتفع الميت بسماعها دون ما إذا بعد القارئ فقوله هذا بدعة باطلة مخالفة لاجماع العلماء والميت بعد موته لا ينتفع باعمال يعملها هو بعد الموت لا من استماع ولا قراءة ولا غير ذلك باتفاق المسلمين وإنما ينتفع بآثار ما عمله فى حياته كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ( وينتفع أيضا بما يهدى إليه من ثواب العبادات المالية كالصدقة والهبة باتفاق الفقهاء وكذلك العبادات البدنية فى أصح قوليهم وإلزام المسلمين أن لا يعملوا ولا يتصدقوا إلا فى بقعة معينة مثل كنائس النصارى باطل
وبكل حال فالاستخلاف فى مثل هذه الأعمال المشروطة جائز وكونها عن الواقف إذا كان النائب مثل المستنيب فقد يكون فى ذلك مفسدة راجحة على المصلحة الشرعية كالأعمال المشروطة فى الاجارة على عمل فى الذمة لأن
____________________
(31/42)
التعيين فيه مصلحة شرعية فشرط باطل ومتى نقصوا من المشروط لهم كان لهم أن ينقصوا من المشروط عليهم بحسب ذلك والله أعلم
)
( وقال رحمه الله (
( قاعدة ) فيما يشترط الناس فى الوقف فان فيها ما فيه عوض دنيوى وأخروى وما ليس كذلك وفى بعضها تشديد على الموقوف عليه
)
فنقول الأعمال المشروطة فى الوقف على الأمور الدينية مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين والمشتغلين بالعلم من القرآن والحديث والفقه ونحو ذلك أو بالعبادات أو بالجهاد فى سبيل الله تنقسم ثلاثة أقسام
أحدها عمل يقترب به إلى الله تعالى وهو الواجبات والمستحبات التى رغب رسول الله فيها وحض على تحصيلها فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به ويقف استحقاق الوقف على حصوله فى الجملة
والثانى عمل نهى النبى صلى الله عليه وسلم عنه نهى تحريم أو نهى تنزيه فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء لما قد استفاض عن النبى أنه خطب على منبره فقال
____________________
(31/43)
( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ( وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق فان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء وهو مجمع عليه فى هذا الحديث
وكذا ما كان من الشروط مستلزما وجود ما نهى عنه الشارع فهو بمنزلة ما نهى عنه وما علم أنه نهى عنه ببعض الأدلة الشرعية فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهى عنه لكن قد يختلف اجتهاد العلماء فى بعض الأعمال هل هو من باب المنهى عنه فيختلف اجتهادهم فى ذلك الشرط بناء على هذا وهذا أمر لابد منه فى الأمة ومن هذا الباب أن يكون العمل المشترط ليس محرما فى نفسه لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به ومثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته وهذا مكروه فى الشريعة مما أحدثه الناس أو يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة أو بعض الاقوال المحرمة أو يشترط على الامام أو المؤذن ترك بعض سنن الصلاة والاذان أو فعل بعض بدعهما مثل أن يشترط على الامام أن يقرأ فى الفجر بقصار المفصل أو أن يصل الأذان بذكر غير مشروع أو أن يقيم صلاة العيد فى المدرسة أو المسجد مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم
____________________
(31/44)
ومن هذا الباب أن يشترط عليهم ان يصلوا وحدانا ومما يلحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزما ترك ما ندب إليه الشارع مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم فإن هذا دعاء إلى ترك الفرض على الوجه الذى هو أحب إلى الله ورسوله فلا يلتفت إلى مثل هذا بل الصلاة فى المسجد الاعظم هو الأفضل بل الواجب هدم مساجد الضرار مما ليس هذا موضع تفصيله
ومن هذا الباب اشتراط الايقاد على القبور ايقاد الشمع أو الدهن ونحو ذلك فان النبى قال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( وبناء المسجد واسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم فيه خلافا أنه معصية لله ورسوله وتفاصيل هذه الشروط يطول جدا وإنما نذكرها هنا جماع الشروط
( القسم الثالث ( عمل ليس بمكروه فى الشرع ولا مستحب بل هو مباح مستوى الطرفين فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أن شرطه باطل فلا يصح عندهم أن يشرط الا ما كان قربة إلى الله تعالى وذلك لأن الانسان ليس له أن يبذل ماله الا لما له فيه منفعة فى الدين أو الدنيا فما دام
____________________
(31/45)
الانسان حيا فله أن يبذل ماله فى تحصيل الأغراض المباحة لأنه ينتفع بذلك فأما الميت فما بقى بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو اعان عليه أو أهدى إليه ونحو ذلك فأما الأعمال التى ليست طاعة لله ورسوله فلا ينتفع بها الميت بحال فإذا اشترط الموصى أو الواقف عملا أو صفة لاثواب فيها كان السعى فى تحصيلها سعيا فيما لا ينتفع به فى دنياه ولا فى آخرته ومثل هذا لا يجوز وهذا إنما مقصوده بالوقف التقرب والله أعلم وسئل رحمه الله
عمن اوقف رباطا وجعل فيه جماعة من أهل القرآن وجعل لهم كل يوم ما يكفيهم وشرط عليهم شروطا غير مشروعة منها ان يجتمعوا في وقتين معينين من النهار فيقرؤون شيئا معينا من القرآن في المكان الذى اوقفه لا في غيره مجتمعين في ذلك غير متفرقين وشرط ان يهدوا له ثواب التلاوة ومن لم يفعل ما شرط في المكان الذى أوقفه لم يأخذ ما جعل له فهل جميع الشروط لازمة لمن أخذ المعلوم ام بعضها ام لا أثر لجميعها وهل إذا لزمت القراءة فهل يلزم جميع ما شرطه منها أم يقرؤون ما تيسر عليهم قراءته من غير ان يهدوا شيئا
____________________
(31/46)
فأجاب الحمد لله الأصل في هذا ان كل ما شرط من العمل من الوقوف التى توقف على الأعمال فلا بد ان تكون قربة إما واجبا وإما مستحبا واما اشتراط عمل محرم فلا يصح باتفاق علماء المسلمين بل وكذلك المكروه وكذلك المباح على الصحيح
وقد اتفق المسلمون على ان شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وفاسد كالشروط في سائر العقود ومن قال من الفقهاء ان شروط الواقف نصوص كالفاظ الشارع فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف لا في وجوب العمل بها أى ان مراد الواقف يستفاد من الفاظه المشروطة كما يستفاد مراد الشارع من الفاظه فكما يعرف العموم والخصوص والاطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من الفاظ الشارع فكذلك تعرف في الوقف من الفاظ الواقف
مع أن التحقيق في هذا ان لفظ الواقف ولفظ الحالف والشافع والموصى وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التى يتكلم بها سواء وافقت العربية العرباء او العربية المولدة أو العربية الملحونة أو كانت غير عربية وسواء وافقت لغة الشارع او لم توافقها فان المقصود من الالفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع لان معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده وكذلك في
____________________
(31/47)
خطاب كل أمة وكل قوم فاذا تخاطبوا بينهم في البيع والاجارة او الوقف او الوصية او النذر او غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم والى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب وما يقترن بذلك من الأسباب
وأما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع فى وجوب العمل بها فهذا كفر باتفاق المسلمين إذ لا أحد يطاع فى كل ما يأمر به من البشر بعد رسول الله والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة وان خالفت كتاب الله كانت باطلة كما ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه خطب على منبره وقال ( ما بال اقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (
وهذا الكلام حكمه ثابت فى البيع والاجارة والوقف وغير ذلك باتفاق الأئمة سواء تناوله لفظ الشارع أولا إذ الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أو كان متناولا لغير الشروط فى البيع بطريق الاعتبار عموما معنويا
____________________
(31/48)
وإذا كانت شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وباطل بالإتفاق فإن شرط فعلا محرما ظهر أنه باطل فانه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق وإن شرط مباحا لا قربة فيه كان أيضا باطلا لأنه شرط شرطا لا منفعة فيه لا له ولا للموقوف عليه فانه فى نفسه لا ينتفع الا بالاعانة على البر والتقوى
وأما بذل المال فى مباح فهذا إذا بذله فى حياته مثل الابتياع والاستئجار جاز لأنه ينتفع بتناول المباحات فى حياته
وأما الواقف والموصي فانهما لا ينتفعان بما يفعل الموصى له والموقوف عليه من المباحات فى الدنيا ولا يثابان على بذل المال فى ذلك فى الآخرة فلو بذل المال فى ذلك عبثا وسفها لم يكن فيه حجة على تناول المال فكيف إذا الزم بمباح لاغرض له فيه فلا هو ينتفع به فى الدنيا ولا فى الآخرة بل يبقى هذا منفقا للمال فى الباطل مسخر معذب آكل للمال بالباطل
وإذا كان الشارع قد قال ( لاسبق إلا فى خف أو حافر أو نصل ( فلم يجوز بالجعل شيئا لا يستعان به على الجهاد وإن كان مباحا وقد يكون فيه منفعة كما فى المصارعة والمسابقة على الاقدام فكيف يبذل العوض المؤبد فى عمل لا منفعة فيه لا سيما والوقف محبس مؤبد فكيف يحبس المال
____________________
(31/49)
دائما مؤبدا على عمل لا ينتفع به هو ولا ينتفع به العامل فيكون فى ذلك ضرر على حبس الورثة وسائر الآدميين بحبس المال عليهم بلا منفعة حصلت لأحد وفى ذلك ضرر على المتناولين باستعمالهم فى عمل هم فيه مسخرون يعوقهم عن مصالحهم الدينية والدنيوية فلا فائدة تحصل له ولا لهم وقد بسطنا الكلام فى هذه القاعدة فى غير هذا الموضع
فإذا عرف هذا فقراءة القرآن كل واحد على حدته أفضل من قراءة مجتمعين بصوت واحد فان هذه تسمى ( قراءة الارادة ( وقد كرهها طوائف من أهل العلم كمالك وطائفة من أصحاب الامام أحمد وغيرهم ومن رخص فيها كبعض أصحاب الامام أحمد لم يقل انها أفضل من قراءة الانفراد يقرأ كل منهم جميع القرآن
وأما هذه القراءة فلا يحصل لواحد جميع القرآن بل هذا يتم ما قرأه هذا وهذا يتم ما قرأه هذا ومن كان لا يحفظ القرآن يترك قراءة ما لم يحفظه
وليس فى القراءة بعد المغرب فضيلة مستحبة يقدم بها على القراءة فى جوف الليل أو بعد الفجر ونحو ذلك من الأوقات فلا قربة فى تخصيص مثل ذلك بالوقت
ولو نذر صلاة أو صياما أو قراءة أو اعتكافا فى مكان بعينه
____________________
(31/50)
فإن كان للتعيين مزية فى الشرع كالصلاة والاعتكاف فى المساجد الثلاثة لزم الوفاء به وإن لم يكن له مزية كالصلاة والاعتكاف فى مساجد الامصار لم يتعين بالنذر الذى أمر الله بالوفاء به وقال النبى ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه (
فإذا كان النذر الذى يجب الوفاء به لا يجب أن يوفى به إلا ما كان طاعة باتفاق الأئمة فلا يجب أن يوفى منه بمباح كما لا يحب أن يوفى منه بمحرم باتفاق العلماء فى الصورتين وإنما تنازعوا فى لزوم الكفارة كمذهب مالك وأبى حنيفة والشافعى فكيف بغير النذر من العقود التى ليس فى لزومها من الأدلة الشرعية ما فى النذر
)
وأما اشتراط إهداء ثواب التلاوة فهذا ينبنى على اهداء ثواب العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقراءة فان العبادات المالية يجوز إهداء ثوابها بلا نزاع وأما البدنية ففيها قولان مشهوران
فمن كان من مذهبه أنه لا يجوز إهداء ثوابها كأكثر أصحاب مالك والشافعى كان هذا الشرط عندهم باطلا كما لو شرط أن يحمل عن الواقف ديونه فانه لا تزر وازرة وزر أخرى
ومن كان من مذهبه أنه يجوز إهداء ثواب العبادات البدنية كأحمد
____________________
(31/51)
وأصحاب أبى حنيفة وطائفة من أصحاب مالك فهذا يعتبر أمرا آخر وهو أن هذا إنما يكون من العبادات ما قصد بها وجه الله فأما ما يقع مستحقا بعقد إجارة أو جعالة فانه لا يكون قربة فان جاز أخذ الأجر والجعل عليه فانه يجوز الاستئجار على الامامة والأذان وتعليم القرآن نقول ( 1 )
( وسئل رحمه الله ( عمن وقف مدرسة بيت المقدس وشرط على أهلها الصلوات الخمس فيها فهل يصح هذا الشرط وهل يجوز للمنزلين الصلوات الخمس فى المسجد الأقصى دونها ويتناولون ما قرر لهم أم لا يحل التناول الا بفعل هذا الشرط
فأجاب ليس هذا شرطا صحيحا يقف الاستحقاق عليه كما كان يفتى بذلك فى هذه الصورة بعينها الشيخ عز الدين بن عبد السلام وغيره من العلماء لأدلة متعددة وقد بسطناها فى غير هذا الموضع مع ما فى ذلك من أقوال العلماء
ويجوز للمنزلين أن يصلوا فى المسجد الاقصى الصلوات الخمس ولا يصلوها فى المدرسة ويستحقون مع ذلك ما قدر لهم وذلك أفضل لهم
____________________
(31/52)
من أن يصلوا فى المدرسة والامتناع من أداء الغرض فى المسجد الاقصى لأجل حل الجارى ورع فاسد يمنع صاحبه الثواب العظيم فى الصلاة فى المسجد والله أعلم
ما تقول السادة العلماء
فى واقف وقف رباطا على الصوفية وكان هذا الرباط قديما جاريا على قاعدة الصوفية فى الربط من الطعام والاجتماع بعد العصر فقط فتولى نظره شخص فاجتهد فى تبطيل قاعدته وشرط على من به شروطا ليست فى الرباط أصلا ثم إنهم يصلون الصلوات الخمس فى هذا الرباط ويقرؤون بعد الصبح قريبا من جزء ونصف وبعد العصر قريبا من ثلاثة أجزاء حتى أن أحدهم إذا غاب عن صلاة أو قراءة كتب عليه غيبة مع أن هذا الرباط لم يعرف له كتاب وقف ولا شرط فهل يجوز إحداث هذه الشروط عليهم أم لا وهل يأثم من أحدثها أم لا وهل يحل للناظر الآن أن يكتب عليهم غيبة أم لا وهل يجب ابطال هذه الشروط أم لا وهل يثاب ولى الامر إذا أبطلها أم لا وإذ كانت هذه الشروط قد شرطها الواقف هل يجب الوفاء بها أم لا وما الصور فى الذى يستحق ذلك وهل إذا كان فى الجماعة من هو مشتغل بالعلوم الشرعية يكون أولى ممن هو مترسم برسم ظاهر لا علم عنده ومن لم يكن متأدبا
____________________
(31/53)
بالآداب الشرعية هل يجوز له تناول شيء من ذلك أم لا وإذا كان فيهم من هو مشتغل بالعلم الشريف وله من الدنيا ما لا يقوم ببعض كفايته هل يكون أولى ممن ليس متأدبا بالآداب الشرعية ولاعنده شيء من العلم أفتونا مأجورين وبينوا لنا ذلك بيانا شافيا بالدليل من الكتاب والسنة رضى الله عنكم فأجاب رحمه الله لا يجوز للناظر إحداث هذه الشروط ولا غيرها فان الناظر إنما هو منفذ لما شرطه الواقف ليس له أن يبتدئ شروطا لم يوجبها الواقف ولا أوجبها الشارع ويأثم من أحدثها فإنه منع المستحقين حقهم حتى يعملوا أعمالا لا تجب ولا يحل أن يكتب على من أخل بذلك غيبة بل يجب أبطال هذه الشروط ويثاب الساعى فى ابطالها مبتغيا بذلك وجه الله تعالى
وأما الصوفى الذى يدخل فى الوقف على الصوفية فيعتبر له ثلاثة شروط
أحدها أن يكون عدلا فى دينه يؤدى الفرائض ويجتنب المحارم
الثانى أن يكون ملازما لغالب الآداب الشرعية فى غالب الاوقات وان لم تكن واجبة مثل آداب الأكل والشرب واللباس والنوم
____________________
(31/54)
والسفر والركوب والصحبة والعشرة والمعاملة مع الخلق إلى غير ذلك من الآداب الشريفة قولا وفعلا ولا يلتفت إلى ما أحدثه بعض المتصوفة من الآداب التى لا أصل لها فى الدين من التزام شكل مخصوص فى اللبسة ونحوها مما لا يستحب فى الشريعة فان مبنى الآداب على اتباع السنة ولا يلتفت ايضا إلى ما يهدره بعض المتفقهة من الآداب المشروعة يعتقد لقلة علمه أن ذلك ليس من آداب الشريعة لكونه ليس فيما بلغه من العلم أو طالعه من كتبه بل العبرة فى الآداب بما جاءت به الشريعة قولا وفعلا وتركا كما أن العبرة فى الفرائض والمحارم بذلك أيضا
والشرط الثالث فى الصوفى قناعته بالكفاف من الرزق بحيث لا يمسك من الدنيا ما يفضل عن حاجته فمن كان جامعا لفضول المال لم يكن من الصوفية الذين يقصد اجراء الارزاق عليهم وان كان قد يفسح لهم فى مجرد السكنى فى الربط ونحوها فمن حمل هذه الخصال الثلاث كان من الصوفية المقصودين بالربط والوقف عليها وما فوق هؤلاء من أرباب المقامات العلية والأحوال الزكية وذوى الحقائق الدينية والمنح الربانية فيدخلون فى العموم لكن لا يختص الوقف بهم لقلة هؤلاء ولعسر تمييز الأحوال الباطنة على غالب الخلق فلا يمكن ربط استحقاق الدنيا بذلك ولأن مثل هؤلاء قد لا ينزل الربط إلا نادرا
وما دون هذه الصفات من المقتصرين على مجرد رسم فى لبسة أو مشية ونحو ذلك لا يستحقون الوقف ولا يدخلون فى مسمى الصوفية لا سيما
____________________
(31/55)
ان كان ذلك محدثا لا أصل له فى السنة فان بذل المال على مثل هذه الرسوم فيه نوع من التلاعب بالدين وأكل لأموال الناس بالباطل وصدود عن سبيل الله
ومن كان من الصوفية المذكورين المستحقين فيه قدر زائد مثل اجتهاد فى نوافل العبادات أو سعى فى تصحيح أحوال القلب أو طلب شيء من الاعيان أو علم الكفاية فهو أولى من غيره ومن لم يكن متأدبا بالآداب الشرعية فلا يستحق شيئا البتة وطالب العلم الذى ليس له تمام الكفاية أولى ممن ليس فيه الآداب الشرعية ولا علم عنده بل مثل هذا لا يستحق شيئا
____________________
(31/56)
ما تقول السادة العلماء
فى الشروط التى قد جرت العوائد فى اشتراط امثالها من الواقفين على الموقوف عليهم مما بعضه له فائدة ظاهرة وفيه مصلحة مطلوبة وبعضها ليس فيها كبير غرض للواقف وقد يكون فيه مشقة على الموقوف عليه فان وفى به شق عليه وإن أهمله خشى الاثم وأن يكون متناولا للحرام وذلك كشرط واقف الرباط أو المدرسة المبيت والعزوبة وتأدية الصلوات المفروضات بالرباط وتخصيص القراءة المعينة بالمكان بعينه وان يكونوا من مدينة معينة أو قبيلة معينة أو مذهب معين وما أشبه ذلك من الشروط فى الامامة بالمساجد والأذان وسماع الحديث بحلق الحديث بالخوانك فهل هذه الشروط وما أشبهها مما هو مباح فى الجملة وللواقف فيه يسير غرض لازمة لا يحل لأحد الاخلال بها ولا بشيء منها أم يلزم البعض منها دون البعض وأى ذلك هو اللازم وأى ذلك الذى لا يلزم وما الضابط فيما يلزم وما لا يلزم
فأجاب قدس الله روحه الحمد لله رب العالمين الأعمال المشروطة فى الوقف من الأمور الدينية مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين والمشتغلين بالعلم
____________________
(31/57)
والقرآن والحديث والفقه ونحو ذلك أو بالعبادة أو بالجهاد فى سبيل الله تنقسم ثلاثة أقسام
أحدها عمل يتقرب به إلى الله تعالى وهو الواجبات والمستحبات التى رغب رسول الله فيها وحض على تحصيلها فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به ويقف استحقاق الوقف على حصوله فى الجملة
والثانى عمل قد نهى رسول الله عنه نهي تحريم أو نهى تنزيه فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء لما قد استفاض عن رسول الله أنه خطب على منبره فقال ( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ( وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق فان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء وهو مجمع عليه فى هذا الحديث وما كان من الشروط مستلزما وجود ما نهى عنه الشارع فهو بمنزلة ما نهى عنه وما علم ببعض الادلة الشرعية أنه نهى عنه فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهى عنه لكن قد يختلف اجتهاد العلماء فى بعض الاعمال هل هو من باب المنهى عنه فيختلف اجتهادهم فى ذلك الشرط بناء على هذا وهذا أمر لابد منه فى الأمة
____________________
(31/58)
ومن هذا الباب ان يكون المشترط ليس محرما فى نفسه لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به فمثال هذه الشروط ان يشترط على أهل الرباط ملازمته هذا مكروه فى الشريعة كما قد احدثه الناس او ان يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة أو بعض الأقوال المحرمة أو يشترط على الامام والمؤذن ترك بعض سنن الصلاة والأذان أو فعل بعض بدعها مثل ان يشترط على الامام ان يقرأ فى الفجر بقصار المفصل وان يصل الأذان بذكر غير مشروع أو ان يقيم صلاة العيد فى المدرسة والمسجد مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم
ومن هذا الباب لو اشترط عليهم ان يصلوا وحدانا ومما يلتحق بهذا القسم ان يكون الشرط مستلزما للحض على ترك ما ندب إليه الشارع مثل ان يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الاعظم ان يصلوا فيها فرضهم فان هذا دعاء إلى ترك أداء الفرض على الوجه الذى هو احب إلى الله ورسوله فلا يلتفت إلى مثل هذا بل الصلاة فى المسجد الأعظم هو الأفضل بل الواجب هدم مساجد الضرار مما ليس هذا موضع تفصيله
ومن هذا الباب اشتراط الايقاد على القبور وإيقاد شمع أو دهن ونحو ذلك فان النبى قال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين
____________________
(31/59)
عليها المساجد والسرج ) وبناء المسجد وإسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم خلافا أنه معصية لله ورسوله وتفاصيل هذه الشروط تطول جدا وإنما نذكر هنا جماع الشروط
القسم الثالث عمل ليس بمكروه فى الشرع ولا مستحب بل هو مباح مستوى الطرفين فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أنه شرط باطل ولا يصح عندهم ان يشترط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى وذلك ان الانسان ليس له ان يبذل ماله إلا لما فيه منفعة فى الدين أو الدنيا فما دام الرجل حيا فله ان يبذل ماله فى تحصيل الاعراض المباحة لانه ينتفع بذلك فأما الميت فما بقى بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه او قد أهدى إليه ونحو ذلك فأما الأعمال التى ليست طاعة لله ورسوله فلا ينتفع بها الميت بحال
فإذا اشترط الموصى أو الواقف عملا أو صفة لا ثواب فيها كان السعى فيها بتحصيلها سعيا فيما لا ينتفع به فى دنياه وآخرته ومثل هذا لا يجوز وهو إنما مقصوده بالوقف التقرب إلى الله تعالى والشارع أعلم من الواقفين بما يتقرب به إلى الله تعالى فالواجب أن يعمل فى شروطهم بما شرطه الله ورضيه فى شروطهم
____________________
(31/60)
وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ( لا سبق إلا فى نصل أو خف أو حافر ( وعمل بهذا الحديث فقهاء الحديث ومتابعوهم فنهى عن بذل المال فى المسابقة إلا فى مسابقة يستعان بها على الجهاد الذى هو طاعة لله تعالى فكيف يجوز أن يبذل الجعل المؤبد لمن يعمل دائما عملا ليس طاعة لله تعالى
وهذه القاعدة معروفة عند العلماء لكن قد تختلف آراء الناس وأهواؤهم فى بعض ذلك ولا يمكن هنا تفصيل هذه الجملة ولكن من له هداية من الله تعالى لا يكاد يخفى عليه المقصود فى غالب الأمر وتسمى العلماء مثل هذه الأصول ( تحقيق المناط ( وذلك كما أنهم جميعهم يشترطون العدالة فى الشهادة ويوجبون النفقة بالمعروف ونحو ذلك ثم قد يختلف اجتهادهم فى بعض الشروط هل هو شرط فى العدالة ويختلفون فى صفة الانفاق بالمعروف ونحن نذكر ما ينبه عن مثاله
)
أما إذا اشترط على أهل الرباط أو المدرسة أن يصلوا فيها الخمس الصلوات المفروضات فان كانت فيما فيه مقصود شرعى كما لو نذر أن يصلي فى مكان بعينه فان كان فى تعيين ذلك المكان قربة وجب الوفاء به بأن يصلي فيه إذا لم يصل صلاة تكون مثل تلك أو أفضل وإلا
____________________
(31/61)
وجب الوفاء بالصلاة دون التعيين والمكان والغالب أنه ليس فى التعيين مقصود شرعى
فإذا كان قد شرط عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس هناك فى جماعة اعتبرت الجماعة فانها مقصود شرعى بحيث من لم يصل فى جماعة لم يف بالشرط الصحيح وأما التعيين فعلى ما تقدم
وأما اشتراط التعزب والرهبانية فالأشبه بالكتاب والسنة أنه لا يصح اشتراطه بحال لا على أهل العلم ولا على أهل العبادة ولا على أهل الجهاد فان غالب الخلق يكون لهم شهوات والنكاح فى حقهم مع القدرة إما واجب أو مستحب فاشتراط التعزب فى حق هؤلاء إن كان فهو مناقضة للشرع
وإن قيل المقصود بالتعزب الذى لا يستحب له النكاح عند بعض أهل العلم خرج عامة الشباب عن هذا الشرط وهم الذين ترجى المنفعة بتعليمهم فى الغالب فيكون كأنه قال وقفت على المتعلمين الذين لا ترجى منفعتهم فى الغالب وقد كان النبى إذا أتاه مال قسم للآهل قسمين وللعزب قسما فكيف يكون الآهل محروما وقد قال لأصحابه المتعلمين المتعبدين ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه أغض للبصر وأحصن للفرج
____________________
(31/62)
فكيف يقال للمتعلمين والمتعبدين لا تتزوجوا والشارع ندب إلى ذلك العمل وحض عليه وقد قال ( لا رهبانية فى الاسلام ( فكيف يصح اشتراط رهبانية
وما يتوهم من أن التعزب أعون على كيد الشيطان والتعلم والتعبد غلط مخالف للشرع وللواقع بل عدم التعزب أعون على كيد الشيطان والاعانة للمتعبدين والمتعلمين أحب إلى الله ورسوله من إعانة المترهبين منهم وليس هذا موضع استقصاء ذلك
وكذلك اشتراط أهل بلد أو قبيلة من الأئمة والمؤذنين مما لا يصح فإن النبى قال ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم سنا ( رواه مسلم والمساجد لله تبنى لله على الوجه الذى شرعه الله فاذا قيد إمام
المسجد ببلد فقد يوجد فى غير أهل ذلك البلد من هو أولى منه بالامامة فى شرط الله ورسوله فان وفينا بشرط الواقف فى هذه الحال لزم ترك ما أمر الله به ورسوله وشرط الله أحق وأوثق
____________________
(31/63)
وأما بقية الشروط المسئول عنها فيحتاج كل شرط منها إلى كلام خاص فيه لا تتسع له هذه الورقة وقد ذكرنا الأصل فعلى المؤمن بالله أن ينظر دائما فى كل ما يحبه الله ورسوله من الخلق فيسعى فى تحصيله بالوقف وغيره وما يكرهه الله ورسوله يسعى فى إعدامه وما لا يكرهه الله ولايحبه يعرض عنه ولا يعلق به استحقاق وقف ولا عدمه ولا غيره والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
( وسئل رحمه الله (
عن زاوية فيها عشرة فقراء مقيمون وبتلك الزاوية مطلع به امرأة عزباء وهى من أوسط النساء ولم يكن شرط الواقف لها مسكنها فى تلك الزاوية ولم تكن من أقارب الواقف ولم يكن ساكن فى المطلع سوى المرأة المذكورة وباب المطلع المذكور يغلق عليه باب الزاوية فهل يجوز لها السكنى بين هؤلاء الفقراء المقيمين أم لا أفتونا
فأجاب إن كان شرط الواقف لا يسكنه إلا الرجال سواء كانوا عزبا أو متأهلين منعت لمقتضى الشرط وكذلك سكنى المرأة بين الرجال والرجال بين النساء يمنع منه لحق الله والله أعلم
____________________
(31/64)
( وسئل رحمه الله (
عن ناظر وقف له عليه ولاية شرعية وبالوقف ( شخص ) يتصرف بغير ولاية الناظر يتصرف بولاية أحد الحكام لأن له النظر العام وأن الناظر عزل هذا المباشر فباشر بعد عزله وسأل الناظر الحاكم أن يدفع هذا عن المباشرة فادعى الحاكم على الناظر دعوى فأنكرها فهل له أن يولى بدون أمر الناظر الشرعى وهل له أن يكون هو الحاكم بينه وبين هذا الناظر الذى هو خصمه دون سائر الحكام وإذا اعتدى على الناظر فماذا يستحق على عدوانه عليه
فأجاب ليس للحاكم أن يولي ولا يتصرف فى الوقف بدون أمر الناظر الشرعى الخاص إلا أن يكون الناظر الشرعى قد تعدى فيما يفعله وللحاكم أن يعترض عليه إذا خرج عما يجب عليه
وإذا كان بين الناظر والحاكم منازعة حكم بينهما غيرهما بحكم الله ورسوله ومن اعتدى على غيره فانه يقابل على عدوانه أما أن يعاقب بمثل ذلك أن أمكنت المماثلة وإلا عوقب بحسب ما يمكن شرعا والله أعلم
____________________
(31/65)
)
( وسئل رحمه الله ( عن ناظرين هل لهما أن يقتسما المنظور عليه بحيث ينظر كل منهما فى نصفه فقط
فأجاب لا يتصرفان إلا جميعا فى جميع المنظور فيه فإن أحدهما لو انفرد بالتصرف لم يجز فكيف إذا وزع المفرد فان الشرع شرع جمع المتفرق بالقسمة والشفعة فكيف يفرق المجتمع
)
( وسئل (
عمن وقف وقفا وشرط للناظر جراية وجامكية كما شرط للمعين والفقهاء فهل يقدم الناظر بمعلومه أم لا
فأجاب ليس فى اللفظ المذكور ما يقتضى تقدمه بشيء من معلومه بل هو مذكور بالواو التى مقتضاها الاشتراك والجمع المطلق فان كان ثم دليل منفصل يقتضى جواز الاختصاص والتقدم غير الشرط المذكور
____________________
(31/66)
مثل كونه حائزا أجرة عمله مع فقره كوصى اليتيم عمل بذلك الدليل المنفصل الشرعى وإلا فشرط الواقف لا يقتضى التقديم ولا فرق بين الجامكية والجراية فهو بمنزلة العمارة من مال الوقف لا من عمالة الناظر والله أعلم
( وسئل رضى الله عنه (
عمن وقف وقفا على جماعة معينين وفيهم من قرر الواقف لوظيفته شيئا معلوما وجعل للناظر على هذا الوقف صرف من شاء منهم يخرج بغير خراج وإخراج من شاء منهم والتعوض عنه وزيادة من أراد زيادته ونقصانه على ما يراه ويختاره ويرى المصلحة فيه فعزل أحد المعينين واستبدل به غيره من هو أهل للقيام بها ببعض ذلك المعلوم المقدر للوظيفة ووفى باقى ذلك لمصلحة الوقف فهل للناظر فعل ذلك أم لا واذا عزل أحد المعينين للمصلحة واستمر على تناول المعلوم بعد علمه بالعزل يفسق بذلك ويجب عليه إعادة ما أخذه أم لا وهل يلزم الناظر بيان المصلحة أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين الناظر ليس له أن يفعل شيئا فى أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية وعليه أن يفعل الأصلح فالأصلح وإذا جعل الواقف للناظر صرف من شاء وزيادة من أراد زيادته ونقصانه
____________________
(31/67)
فليس للذى يستحقه بهذا الشرط أن يفعل ما يشتهيه أو ما يكون فيه اتباع الظن وما تهوى الانفس بل الذى يستحقه بهذا الشرط أن يفعل من الأمور الذى هو خير ما يكون إرضاء لله ورسوله وهذا فى كل من تصرف لغيره بحكم الولاية كالامام والحاكم والواقف وناظر الوقف وغيرهم إذا قيل هو مخير بين كذا وكذا أو يفعل ما شاء وما رأى فانما ذاك تخيير مصلحة لا تخيير شهوة
والمقصود بذلك أنه لا يتعين عليه فعل معين بل له أن يعدل عنه إلى ما هو أصلح وارضى لله ورسوله وقد قال الواقف على ما يراه ويختاره ويرى المصلحة فيه وموجب هذا كله أن يتصرف برأيه واختياره الشرعى الذى يتبع فيه المصلحة الشرعية وقد يرى هو مصلحة والله ورسوله يأمر بخلاف ذلك ولا يكون هذا مصلحة كما يراه مصلحة وقد يختار ما يهواه لا ما فيه رضى الله فلا يلتفت إلى اختياره حتى لو صرح الواقف بأن للناظر أن يفعل ما يهواه وما يراه مطلقا لم يكن هذا الشرط صحيحا بل كان باطلا لأنه شرط مخالف لكتاب الله ( ومن اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (
وإذا كان كذلك وكان عزل الناظر واستبداله موافقا لأمر الله ورسوله لم يكن للمعزول ولا غيره رد ذلك ولا يتناول شيئا من الوقف
____________________
(31/68)
والحال هذه وإن لم يكن موافقا لأمر الله ورسوله كان مردودا بحسب الامكان فان النبى صلى الله عليه وسلم قال ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ( وقال ( لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق (
)
وإن تنازعوا هل الذى فعله هو المأمور به أم لا رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله فان كان الذى فعل الناظر أرضى لله ورسوله نفذ وإن كان الأول هو الأرضى ألزم الناظر بإقراره وان كان هناك أمر ثالث هو الأرضى لزم اتباعه وعلى الناظر بيان المصلحة فإن ظهرت وجب اتباعها وإن ظهر أنها مفسدة ردت وإن اشتبه الأمر وكان الناظر عالما عادلا سوغ له اجتهاده والله أعلم
)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل له مزرعة وبها شجر وقف للفقراء تباع كل سنة وتصرف فى مصارفها ثم إن الناظر أجر الوقف لمن يضر بالوقف وكان هناك حوض للسبيل ومطهرة للمسلمين فهدمها هذا المستأجر وهدم الحيطان فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب لا يجوز إكراء الوقف لمن يضر به باتفاق المسلمين بل ولا يجوز إكراء الشجر بحال وإن سوقى عليها بجزء حيلة لم يجز بالوقف
____________________
(31/69)
باتفاق العلماء ولا يجوز ازالة ما كان ينتفع به المسلمون للشرب والطهارة بل يعزر هذا المستأجر الظالم الذى فعل ذلك ويلزم بضمان ما أتلفه من البناء وأما القيمة والشجر فيستغل كما جرت عادتها وتصرف الغلة فى مصارفها الشرعية
( وسئل (
عن مساجد وجوامع لهم أوقاف وفيها قوام وأئمة ومؤذنون فهل لقاضى المكان أن يصرف منه إلى نفسه
فأجاب بل الواجب صرف هذه الأموال فى مصارفها الشرعية فيصرف من الجوامع والمساجد إلى الأئمة والمؤذنين والقوام ما يستحقه أمثالهم وكذلك يصرف فى فرش المساجد وتنويرها كفايتها بالمعروف وما فضل عن ذلك إما أن يصرف فى مصالح مساجد أخر ويصرف فى المصالح كأرزاق القضاة فى أحد قولي العلماء وأما صرفها للقضاة ومنع مصالح المساجد فلا يجوز والله أعلم
____________________
(31/70)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل بنى مدرسة وأوقف عليها وقفا على فقهاء وأرباب وظائف ثم أن السلطنة أخذت أكثر الوقف وأن الواقف اشترط المحاصصة بينهم فهل يجوز للناظر أن يعطى أصحاب الوظائف بالكامل وما بقى للفقهاء
فأجاب الحمد لله ان كان الذى يحصل بالمحاصصة لأرباب الأعمال التى يستأجر عليها كالبواب والقيم والسواق ونحوهم أجرة مثلهم يعطوه زيادة على ذلك وان كان ما يحصل دون أجرة المثل وامكن من يعمل بذلك لم يحتج إلى الزيادة وان كان الحاصل لهم أقل من أجرة المثل ولا يحصل من يعمل بأقل من أجرة المثل فلا بد من تكميل المثل لهم إذا لم تقم مصلحة المكان إلا بهم وان أمكن أن يجعل شخص واحد قيما وبوابا أو قيما ومؤذنا أو يجمع له بين تلك الوظائف ويقوم بها فانه يفعل ذلك ولا يكثر العدد الذى لا يحتاج إليه مع كون الوقف قد عاد إلى ريعه بل إذا أمكن سد أربع وظائف بواحد فعل ذلك والله أعلم
____________________
(31/71)
( وسئل ( عن دار حديث شرط واقفها فى كتاب وقفها ما صورته بحروفه قال والنظر فى أمر أهل الدار على اختلاف أصنافهم إثباتا وصرفا وإعطاء ومنعا وزيادة ونقصا ونحو ذلك إلى شيخ المكان وكذلك النظر إليه فى خزانة كتبها وسائر ما يشبه ذلك أو يلحق به وله إذا كان عنده الوقف فى أمر من الأمور أن يفوض ذلك إلى من يتولاه ثم قال والنظر فى أمر الأوقاف وأمورها المالية إلى الواقف ضاعف الله ثوابه يفوض ذلك إلى من يشاء ومتى فوض ذلك إليه تلقاه بحكم الشرط المقارن لانشاء الوقف وينتقل بعد ذلك إلى حاكم المسلمين بدمشق وله أن يصرف إلى من سوى ذلك من عامل وغيره من مغل الوقف على حسب ما تقتضيه الحال فهل إذا لم يكن فى شرط النظر فى كتاب الوقف شيء آخر يكون النظر المشروط للحاكم مختصا بحاكم مذهب معين بمقتضى لفظ الشرط المذكور أم لا يختص بحاكم معين بل يكون النظر المذكور لمن كان حاكما بدمشق على أى مذهب كان من المذاهب الأربعة وإذا لم يكن
____________________
(31/72)
مختصا وفوض بعض الحكام قضاة القضاة أعزهم الله بدمشق المحروسة لأهل كان النظر المذكور بمقتضى ما رآه من عدم الاختصاص يجوز لحاكم آخر منعه من ذلك أو بعض ما فعله بغير قادح
فأجاب ليس فى اللفظ المذكور فى شرط الواقف ما يقتضى اختصاصه بمذهب معين على الاطلاق فان ذلك يقتضى أنه لو لم يكن فى البلد إلا حاكم على غير المذهب الذى كان عليه حاكم البلد ومن الواقف أن لا يكون له النظر وهذا باطل باتفاق المسلمين
)
فما زال المسلمون يقفون الاوقاف ويشرطون أن يكون النظر للحاكم أو لا يشترطون ذلك فى كتاب الوقف فان ذلك يقتضى بطلان الشرع فى الوقوف العامة التى لم يعين ولى الأمر لها ناظرا خاصا وفى الوقوف الخاصة نزاع معروف
ثم قد يكون الحاكم وقت الوقف له مذهب وبعد ذلك يكون للحاكم مذهب آخر كما يكون فى العراق وغيرها من بلاد الاسلام فانهم كانوا يولون قضاة القضاة تارة لحنفى وتارة لمالكي وتارة لشافعى وتارة لحنبلى وهذا القاضي يولى فى الاطراف من يوافقه على مذهبه تارة ومن يخالفه أخرى ولو شرط الامام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط وفى فساد العقد وجهان
____________________
(31/73)
ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط ( فعلوا ) فأما إذا قدر أن فى الخروج عن ذلك من الفساد جهلا وظلما أعظم مما فى التقدير كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ولكن هذا لا يسوغ لواقف أن لا يجعل النظر فى الوقف إلا لذى مذهب معين دائما مع إمكان الا أن يتولى فى ذلك المذهب فكيف إذا لم يشرط ذلك
ولهذا كان فى بعض بلاد الاسلام يشرط على الحاكم أن لا يحكم الا بمذهب معين كما صار أيضا فى بعضها بولاية قضاة مستقلين ثم عموم النظر فى عموم العمل
)
وإن كان فى كل من هذا نزاع معروف وفيمن يعين إذا تنازع الخصمان هل يعين الأقرب أو بالقرعة فيه نزاع معروف وهذه الأمور التى فيها اجتهاد إذا فعلها ولى الأمر نفذت
وإذا كان كذلك فالحاكم على أى مذهب كان إذا كانت ولايته تتناول النظر فى هذا الوقف كان تفويضه سائبا ولم يجز لحاكم آخر نقض مثل هذا لا سيما إذا كان فى التفويض إليه من المصلحة فى المال ومستحقه ما ليس فى غيره
ولو قدر أن حاكمين ولى أحدهما شخصا وولى آخر شخصا كان الواجب على ولى الأمر أن يقدم أحقهما بالولاية فان من عرفت قوته وأمانته يقدم على من ليس كذلك باتفاق المسلمين
____________________
(31/74)
( وسئل (
عن الناظر متى يستحق معلومه من حين فوض إليه أو من حين مكنه السلطان أو من حين المباشرة
فأجاب الحمد لله المال المشروط للناظر مستحق على العمل المشروط عليه فمن عمل ما عليه يستحق ماله والله أعلم
وسئل ( عمن استأجر أرض وقف من الناظر على الوقف النظر الشرعى ثلاثين سنة بأجرة المثل وأثبت الاجارة عند حاكم من الحكام وأنشأ عمارة وغرس فى المكان مدة أربع سنين ثم سافر والمكان فى إجارته وغاب احدى عشرة سنة فلما حضر وجد بعض الناس قد وضع يده على الأرض وأدعى أنه استأجرها وذلك بطريق شرعى فهل له نزع هذا الثانى وطلبه بتفاوت الأجرة
____________________
(31/75)
فأجاب إن كان الثانى قد استأجر المكان من غير من له ولاية الايجار واستأجره مع بقاء إجارة صحيحة عليه فالاجارة باطلة ويده يد عادية مستحقة للرفع والازالة وإذا كان الثانى استأجرها وتسلمها وهى فى إجارة الأول فالأول مخير بين أن يفسخ الاجارة وتسقط عنه الاجارة من حين الفسخ ويطالب أهل المكان بالاجارة لهذا الثانى المتولى عليه يطلبون منه أجرة المثل إن كانت الاجارة فاسدة وإن كانت صحيحة طالبوه بالفسخ وبين إمضاء الاجارة ويعطى أهل المكان أجرتهم ويطالب الغاصب بأجرة المثل من حين استيلائه على ما استأجره
)
( وسئل رحمه الله (
عن قوم وقف عليهم حصة من حوانيت وبعضها وقف على جهة أخرى وتلك ملكا لغيرهم وشرط الواقف المذكور النظر فى ذلك للأسن فاذا استووا فى ذلك فهم شركاء فى النظر فتداعى الوقف المذكور إلى الخراب فأجروه لمالكى باقى الحصة مدة ثلاثين سنة بأجرة حالة وأجرة مؤجلة وعينوا شهود الاجارة جميع ما فى الحوانيت المذكورة من خشب وقصب وجريد وجدر وطولها وعرضها وغير ذلك وذكر شهود الاجارة فيها اعترف فلان وفلان الآخران المذكوران بقبض الأجرة الحالة بتمامها ومن فى درجتها ومات المستأجر وانتقل
____________________
(31/76)
ما كان ملكا له من ذلك لغيره وانقضت مدة الاجارة وانتقل الوقف المذكور إلى البطن الثانى فهل للبطن الثانى أن يتسلموا الحوانيت المذكورة على ما هي عليه الآن وقد أعترف الآخران بقبض ا لأجرة الحالة ليصرفاها فى عمارة الوقف وإعادته إلى ما كان عليه أو يلزمهم إقامة البينة على أن الآخران المذكوران لما قبضا الأجرة صرفاها فى العمارة أو المستأجرين أو من انتقل إليهم ما كان ملكا للمستأجر المنع من تسليم الحصة المذكورة من الحوانيت إلا على صورتها الأولى والحالة
هذه فأجاب الحمد لله بل ما كان فى العرصة المشتركة من البناء بيد أهل العرصة ثابتة عليه بحكم الاشتراك أيضا حتى يقيم أحدهم حجة شرعية باختصاصه بالبناء ولا يقبل مجرد دعوى أحد الشركاء فى العرصة الاختصاص بالبناء سواء كانت العرصة المشتركة بين وقف وطلق أو بين طلقين أو وقفين ويد المستأجر إنما هي على المنفعة وليس بمجرد الاجارة تثبت دعوى استحقاق البناء إلا أن يقيم بذلك حجة والله أعلم
____________________
(31/77)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل أقر قبل موته بعشرة أيام أن جميع الحانوت والأعيان التى بها وقف على وجوه البر والقربات وتصرف الأجرة والثواب من مدة تتقدم على اقراره هذا بعشرين سنة ففعل بمقتضى شرط اقراره وعين الناظر الامام بعد موته ثم عين ناظرا آخر من غير عزل الامام الناظر الأول فصرف أحد الناظرين على ثبوت الوقف ما جرت العادة بصرفه على ثبوت مثله من ريع الوقف من غير أن يصرف إلى مستحقى الريع شيئا فهل تجب الأجرة من الريع أم من تركة الميت المقر بالوقف المذكور وإذا تعذر إيجار العين الموقوفة بسبب اشتغالها بمال الورثة فهل تجب الأجرة على الورثة تلك المدة وهل تفوت الأجرة السابقة فى ذمة الميت بمقتضى إقراره بالمدة الأولى ويرجع بها فى تركته وهل إذا عين ناظرا ثم عين ناظرا آخر يكون عزلا للأول من غير أن يتلفظ بعزله أم يشتركان فى النظر وهل إذا علم الشهود ثبوت المال فى تركة الميت يحل كتمه أم لا
فأجاب ليست أجرة اثبات الوقف والسعى فى مصالحه من تركة
____________________
(31/78)
الميت فان ما زاد على المقر به كله مستحق للورثة وإنما عليهم رفع أيديهم عن ذلك وتمكين الناظر منه وليس عليه السعى ولا أجرة ذلك وأما العين المقر بها إذا انتفع بها الورثة أو وضعوا أيديهم عليها بحيث يمنع الانتفاع المستحق بها فعليهم أجرة المنفعة فى مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما ممن يقول بأن منافع الغصب مضمونة والنزاع فى المسألة مشهور واقرار الميت بانها وقف من المدة المتقدمة ليس بصريح فى أنه كان مستوليا عليها بطريق الغصب والضمان لا يجب بالاحتمال
وأما تعيين ناظر بعد آخر فيرجع فى ذلك إلى عرف مثل هذا الوقف وعادة أمثاله فان كان هذا فى العادة رجوعا كان رجوعا وكذلك إن كان فى لفظه ما يقتضى انفراد الثانى بالتصرف وإلا فقد عرفت المسألة
وهى ما إذا وصى بالعين لشخص ثم وصى بها لآخر هل يكون رجوعا أم لا وما علمه الشهود من حق مستحق يصل الحق إلى مستحقه بشهادتهم لم يكتموها وأن كان يوجد من لا يستحقه ولا يصل إلى من يستحقه فليس عليهم أن يعينوا واحدا منهما وان كان أخذه بتأويل واجتهاد لم يكن عليهم أيضا نزعه من يده بل يعان المتأول المجتهد على من لا تأويل له ولا اجتهاد
____________________
(31/79)
( وسئل رحمه الله ( عن صورة كتاب وقف نصه هذا ما وقفه عامر بن يوسف بن عامر على أولاده علي وطريفة وزبيدة بينهم على الفريضة الشرعية ثم على أولادهم من بعدهم ثم على أولاد أولادهم ثم على أولاد أولاد أولادهم ثم على نسلهم وعقبهم من بعدهم وإن سفلوا كل ذلك على الفريضة الشرعية على أنه من توفى من أولادهم المذكورين وأولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم من بعدهم عن ولد أو ولد ولد ونسل أو عقب وان سفل كان ما كان موقوفا عليه راجعا إلى ولده وولد ولده ونسله وعقبه من بعده وان سفل كل ذلك على الفريضة الشرعية ومن توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب وان بعد كان ما كان موقوفا عليه راجعا إلى من هو فى طبقته وأهل درجته من أهل الوقف على الفريضة الشرعية ثم على جهات ذكرها فى كتاب الوقف والمسئول من السادة العلماء أن يتأملوا شرط الواقف المذكور ثم توفى عن بنتين فتناولتا ما انتقل اليهما عنه ثم توفيت احداهما عن بن وابنة بن
____________________
(31/80)
فهل يشتركان فى نصيبها ام يختص به الابن دون ابنه الابن ثم أن الابن المذكور توفى عن بن هل يختص بما كان جاريا على ابيه دون ابنة الابن وهل يقتضى شرط الواقف المذكور ترتيب الجملة على الجملة أو الأفراد على الأفراد
فأجاب هذه المسألة فيها قولان عند الاطلاق معروفان للفقهاء فى مذهب الامام احمد وغيره ولكن الاقوى انها لترتيب الأفراد على الأفراد وأن ولد الولد يقوم مقام أبيه لو كان الابن موجودا مستحقا قد عاش بعد موت الجد واستحق أو عاش ولم يستحق لمانع فيه أو لعدم قبوله للوقف أو لغير ذلك أولم يعش بل مات فى حياة الجد ويكون على هذا التقدير مقابله الجمع بالجمع وهى تقتضى توزيع الأفراد على الأفراد كما فى قوله { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } أي لكل واحد نصف ما تركت زوجته وقوله { حرمت عليكم أمهاتكم } أي حرم على كل واحد أمه ونحو ذلك كذلك قوله على أولادهم ثم على أولاد أولادهم أى على كل واحد بعد موت أبيه وأما فى هذة فقد صرح الواقف بانه من مات عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده وهذا صريح فى أنه لترتيب الأفراد على الأفراد فلم يبق فى هذه المسألة نزاع
وإنما الشبهة فى أن الولد إذا مات فى حياة أبيه وله ولد ثم مات الاب عن ولد آخر وعن ولد الولد الأول هل يشتركان أو ينفرد به الاول
____________________
(31/81)
الأظهر فى هذه المسألة أنهما يشتركان لانه اذا كان المراد ان كل ولد مستحق بعد موت أبيه سواء كان عمه حيا أو ميتا فمثل هذا الكلام اذا يشترط فيه عدم استحقاق الاب كما قال الفقهاء فى ترتيب العصبه أنهم الابن ثم إبنه ثم الاب ثم أبوه ثم العم ثم بنو العم ونحو ذلك فإنه لا يشترط فى الطبقه الثانيه الا عدم استحقاق الاولى فمتى كانت الثانيه موجودة والاولى لا استحقاق لها استحقت الثانية سواء كانت الأولى استحقت أو لم تستحق ولا يشترط لا ستحقاق الثانية استحقاق الأولى وذلك لأن الطبقه الثانية تتلقى الوقف من الواقف لا من الثانية فليس هو كالميراث الذى يرثه الابن ثم ينتقل إلى ابنه وانما هو كالولاء الذى يورث به فاذا كان بن المعتق قد مات فى حياة المعتق ورث الولاء بن ابنه
وإنما يغلط من يغلط فى مثل هذه المسألة حين يظن ان الطبقة الثانية تتلقى من التى قبلها فان لم تستحق الأولى شيئا لم تستحق الثانية ثم يظنون ان الوالد إذا مات قبل الاستحقاق لم يستحق ابنه وليس كذلك بل هم يتلقون من الواقف حتى لو كانت الاولى محجوبة بمانع من الموانع مثل ان يشترط الواقف فى المستحقين ان يكونوا فقراء أو علماء أو عدولا أوغير ذلك ويكون الاب مخالفا للشرط المذكور وابنه متصفا به فانه يستحق الابن وان لم يستحق أبوه كذلك إذا مات
____________________
(31/82)
الاب قبل الاستحقاق فإنه يستحق ابنه وهكذا جميع الترتيب فى الحضانة وولاية النكاح والمال وترتيب عصبة النسب والولاء فى الميراث وسائر ما جعل المستحقون فيه طبقات ودرجات فان الأمر فيه على ما ذكر
وهذا المعنى هو الذى يقصده الواقفون إذا سئلوا عن مرادهم ومن صرح منهم بمراده فإنه يصرح بأن ولد الولد ينتقل إليه ما ينتقل إلى ولده لو كان حيا لا سيما والناس يرحمون من مات والده ولم يرث حتى أن الجد قد يوصى لولد ولده ومعلوم أن نسبة هذا الولد ونسبة ولد ذلك الولد إلى الجد سواء فكيف يحرم ولد ولده اليتيم ويعطى ولد ولده الذى ليس بيتيم فان هذا لا يقصده عاقل ومتى لم نقل بالتشريك بقى الوقف فى هذا الولد وولده دون ذرية الولد الذى مات فى حياة أبيه والله أعلم
____________________
(31/83)
( وسئل ( عن امرأة أوقفت وقفا على تربتها بعد موتها وأرصدت للمقرئين شيئا معلوما وما يفضل عن ذلك للفقراء أو وجوه البر وان لها قرابه خالها قد افتقر واحتاج وانقطع عن الخدم وان الناظر لم يصرف له ما يقوم بأوده فهل يجب الزام الناظر بما يقوم بأود القرابة ودفع حاجته دون غيره
فأجاب إذا كان للموقفة قرابة محتاج كالخال ونحوه فهو أحق من الفقير المساوى له فى الحاجة وينبغى تقديمه وإذا اتسع الوقف لسد حاجته سدت حاجته منه
( وسئل رحمه الله ( عن أوقاف ببلد على أماكن مختلفة من مدارس ومساجد وخوانك وجوامع ومارستانات وربط وصدقات وفكاك أسرى من أيدى الكفار وبعضها له ناظر خاص وبعضها له ناظر من جهة
____________________
(31/84)
ولي الأمر وقد أقام ولى الأمر على كل صنف من هذه الأصناف ديوانا يحفظون أوقافه ويصرفون ريعه فى مصارفه ورأى الناظر أن يفرز لهذه المعاملات مستوفيا يستوفى حساب هذه المعاملات يعنى الأوقاف كلها وينظر فى تصرفات النظار والمباشرين ويحقق عليهم ما يجب تحقيقه من الأموال المصروفة والباقى وضبط ذلك عنده ليحفظ أموال الأوقاف عند اختلاف الأيدى وتغيير المباشرين ويظهر بمباشرته محافظة بعض العمال على فائدة فهل لولى الأمر أن يفعل ذلك إذا رأى فيه المصلحة أم لا وإذا صار الآن يفعل ذلك إذا رأى فيه المصلحة وقرر المذكور وقرر له معلوما يسير على كل من هذه لا يصل إلى ريع معلوم أحد المباشرين لها ودون ذلك بكثير لما يظهر له من المصلحة فيه فهل يكون ذلك سائغا وهل يستحق المستوفى المذكور تناول ما قرر له أم لا إذا قام بوظيفته وإذا كانت وظيفته استرجاع الحساب عن كل سنة على حكم أوضاع الكتاب ووجد ارتفاع حساب سنين أو أكثر فتصرف وعمل فيه وظيفته هل يستحق معلوم المدة التى استرجع حسابهم فيها وقام بوظيفته بذلك الحساب
فأجاب نعم لولى الأمر أن ينصب ديوانا مستوفيا لحساب الأموال الموقوفة عند المصلحة كما له أن ينصب الدواوين مستوفيا لحساب الأموال السلطانية كالفيء وغيره وله أن يفرض له على عمله ما يستحقه مثله
____________________
(31/85)
من كل مال يعمل فيه بقدر ذلك المال واستيفاء الحساب وضبط مقبوض المال ومصروفه من العمل الذى له أصل لقوله تعالى { والعاملين عليها }
وفى الصحيح ( أن النبى استعمل رجلا على الصدقة فلما رجع حاسبه ( وهذا أصل فى محاسبه العمال المتفرقين والمستوفى الجامع نائب الامام فى محاسبتهم ولابد عند كثرة الأموال ومحاسبتهم من ديوان جامع
ولهذا لما كثرت الأموال على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه وضع ( الدواوين ( ديوان الخراج وهو ديوان المستخدمين على الارتزاق واستعمل عليه عثمان بن حنيف وديوان النفقات وهو ديوان المصروف على المقاتلة والذرية الذى يشبه فى هذه الأوقات ديوان الحبس والثبوتات ونحو ذلك واستعمل عليه زيد بن ثابت
وكذلك الأموال الموقوفة على ولاة الأمر من الامام والحاكم ونحوه اجراؤها على الشروط الصحيحة الموافقة لكتاب الله وإقامة العمال على ما ليس عليه عامل من جهة الناظر والعامل فى عرف الشرع يدخل فيه الذى يسمى ناظرا ويدخل فيه غير الناظر لقبض المال ممن هو عليه صرفه ودفعه إلى من هو له لقوله { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } ونصب المستوفى الجامع للعمال المتفرقين بحسب الحاجة والمصلحة وقد يكون واجبا إذا لم تتم مصلحة قبض المال وصرفه إلا به فإن مالا
____________________
(31/86)
يتم الواجب الا به فهو واجب وقد يستغنى عنه عند قلة العمل ومباشرة الامام للمحاسبة بنفسه كما فى نصب الامام للحاكم عليه أن ينصب حاكما عند الحاجة والمصلحة إذا لم تصل الحقوق إلى مستحقها أو لم يتم فعل الواجب وترك المحرم إلا به وقد يستغنى عنه الامام إذا أمكنه مباشرة الحكم بنفسه
ولهذا كان النبى يباشر الحكم واستيفاء الحساب بنفسه وفيما بعد عنه يولى من يقوم بالامر ولما كثرت الرعية على عهد أبى بكر وعمر والخلفاء استعملوا القضاة ودونوا الدواوين فى أمصارهم وغيرها فكان عمر يستنيب زيد بن ثابت بالمدينة على القضاء والديوان وكان بالكوفة قد استعمل عمار بن ياسر على الصلاة والحرب مثل نائب السلطان والخطيب فإن السنة كانت أنه يصلى بالناس أمير حربهم واستعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال واستعمل عثمان بن حنيف على ديوان الخراج
وإذا قام المستوفى بما عليه من العمل استحق ما فرض له والجعل الذى ساغ له فرضه وإذا عمل هذا ولم يعط جعله فله أن يطلب على العمل الخاص فإن ما وجب بطريق المعاملة يجب
____________________
(31/87)
( وسئل (
عن رجل استأجر قطع أرض وقف وغرس فيها غراسا وأثمر ومضت مدة للايجار فأراد نظار الوقف قلع الغراس فهل لهم ذلك أو أجرة المثل وهل يثاب ولى الأمر على مساعدته
فأجاب ليس لأهل الأرض قلع الغراس بل لهم المطالبة بأجرة المثل أو تملك الغراس بقيمته أو ضمان نقصه إذا قلع وما دام باقيا فعلى صاحبه أجرة مثله وعلى ولى الأمر منع الظالم من ظلمه والله أعلم ( وسئل رحمه الله (
عن رجل متولى إمامة مسجد وخطابته ونظر وقفه من سنين معدودة بمرسوم ولى الأمر وله مستحق بحكم ولايته الشرعية فهل لنظار وقف آخر أن يضعوا أيديهم على هذا الوقف أو يتصرفوا فيه بدون هذا الناظر وأن يصرفوا مال المسجد المذكور فى غير جهته أو يمنعوا ما قدر له على ذلك ولو قدر أن هذا الوقف كان فى ديوان أولئك من مدة ثم
____________________
(31/88)
أخرجه ولى الأمر وجعله للامام الخطيب فهل لهم ذلك والحالة هذه أن يتصرفوا فيه ويمنعوه التصرف مع بقاء ولايته وهل إذا تصرف فيه متعد وصرف منه شيئا إلى غيره مع حاجة الامام وقيام المصالح وأصر على ذلك والحالة هذه يقدح فى دينه وعدالته أم لا
فأجاب ليس لناظر غير الناظر المتولى هذا الوقف أن يضع يده عليه ولا يتصرف فيه بغير إذنه لا نظار وقف آخر ولا غيرهم سواء كانوا قبل ذلك متولين نظره أو لم يكونوا متولين نظره ولا لهم أن يصرفوا مال المسجد فى غير جهاته التى وقف عليها والحال ما ذكر بل يجب أن يعطى الامام وغيره ما يستحقونه كاملا ولا ينقصون من مستحقهم لأجل أن يصرفوا الفاضل إلى وقف آخر فإن هذا لا نزاع فى أنه لا يجوز وإنما تنازع العلماء فى جواز صرف الفاضل ومن جوزه فلم يجوز لغير الناظر المتولى أن يستقل بذلك ومن أصر على صرف مال لغير مستحقه ومنع المستحق قدح فى دينه وعدالته
____________________
(31/89)
( وسئل رحمه الله (
عن واقف وقف على فقراء المسلمين فهل يجوز لناظر الوقف أن يصرف جميع ريعه إلى ثلاثة والحالة هذه أم لا وإن جاز له أن يصرف إلى ثلاثة وكان من أقارب الواقف فقير ثبت فقره واستحقاقه للصرف إليه من ذلك فهل يجوز الصرف إليه عوضا عن أحد الثلاثة الاجانب من الواقف وإذا جاز الصرف إليه فهل هو أولى من الاجنبيين المصروف إليهما وإذا كان أولى فهل يجوز للناظر أن يصرف إلى قريب الواقف المذكور قدر كفايته من الوقف والحالة هذه وإذا جاز له ذلك فهل يكون فعله ذلك أولى وأفضل من أن ينقص من كفايته ويصرف ذلك القدر إلى الأجنبى والحالة هذه
فأجاب الحمد لله يجب على ناظر الوقف أن يجتهد فى مصرفه فيقدم الأحق فالاحق وإذا قدر أن المصلحة الشرعية اقتضت صرفه إلى ثلاثة مثل أن لا يكفيهم أقل من ذلك فلا يدخل غيرهم من الفقراء وإذا كفاهم وغيرهم من الفقراء يدخل الفقراء معهم ويساويهم مما يحصل من ربعه وهم أحق منه عند التزاحم ونحو ذلك وأقارب
____________________
(31/90)
الواقف الفقراء أولى من الفقراء الاجانب مع التساوى فى الحاجة ويجوز أن يصرف إليه كفايته إذا لم يوجد من هو أحق منه وإذا قدر وجود فقير مضطر كان دفع ضرورته واجبا وإذا لم يندفع إلا بتنقيص كفاية أولئك من هذا الوقف من غير ضرورة تحصل لهم تعين ذلك والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
عن رجل ولى ذا شوكة على وقف من مساجد وربط وغير ذلك اعتمادا على دينه وعلما بقصده للمصلحة فعند توليته وجد تلك الوقوف على غير سنن مستقيم ويتعرض إليها كره مباشرتها لئلا يقع الطمع فى مالها وغير ملتفتين إلى صرفها فى استحقاقها وهم مثل القاضي والخطيب وامام الجامع وغير ذلك فإنهم يأخذون من عموم الوقف وهو مع هذا عاجز عن صد التعرض عنها ومع اجتهاده فيها ومبالغته فهل يحل للسائل عزل نفسه عنها وعن القيام بما يقدر عليه من مصالحها مع العلم بأنه بأجرة يكثر التعرض فيها والطمع فى مالها
وهل يحل له تناول أجرة عمله منها مع كونه ذا عائلة وعاجز عن تحصيل قوتهم من غيرها وهل يحل للناظر إذا وجد مكانا خربا أن يصرف
____________________
(31/91)
ماله فى مصلحة غيره عند تحققه بأن مصلحته ما يتصور أن تقوم بعمارته وهل إذا فضل عن جهته شيء من ملكها صرفه إلى مهم غيره وعمارة لازمة يمكن أن تحفظه لكثرة التعرض إليه أم لا
فأجاب أصل هذه إنما أوجبه الله من طاعته وتقواه مشروط بالقدرة كما قال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وكما قال النبى ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما أستطعتم ( ولهذا جاءت الشريعة عند تعارض المصالح والمفاسد بتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وباحتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما فمتى لم يندفع الفساد الكبير عن هذه الأموال الموقوفة ومصارفها الشرعية إلا بما ذكر من احتمال المفسدة القليلة كان ذلك هو الواجب شرعا
وإذا تعين ذلك على هذا الرجل فليس له ترك ذلك إلا مع ضرر أوجب التزامه أو مزاحمة ما هو أوجب من ذلك وله بإجماع المسلمين مع الحاجة تناول أجرة عمله فيها بل قد جوزه من جوزه مع الغنى أيضا كما جوز الله تعالى للعاملين على الصدقات الأخذ مع الغنى عنها
وإذا خرب مكان موقوف فتعطل نفعه بيع وصرف ثمنه فى نظيره أو نقلت إلى نظيره وكذلك إذا خرب بعض الاماكن الموقوف عليها
____________________
(31/92)
كمسجد ونحوه على وجه يتعذر عمارته فإنه يصرف ريع الوقف عليه إلى غيره
وما فضل من ريع وقف عن مصلحته صرف فى نظيره أو مصلحة المسلمين من أهل ناحيته ولم يحبس المال دائما بلا فائدة وقد كان عمر بن الخطاب كل عام يقسم كسوة الكعبة بين الحجيج ونظير كسوة الكعبة المسجد المستغنى عنه من الحصر ونحوها وأمر بتحويل مسجد الكوفة من مكان إلى مكان حتى صار موضع الأول سوقا
( وسئل رحمه الله (
عن الوقف الذى أوقف على الأشراف ويقول أنهم أقارب هل الأقارب شرفاء أم غير شرفاء وهل يجوز أن يتناولوا شيئا من الوقف أم لا
فأجاب الحمد لله إن كان الوقف على أهل بيت النبى أو على بعض أهل البيت كالعلويين والفاطميين أو الطالبيين الذين يدخل فيهم بنو جعفر وبنو عقيل أو على العباسيين ونحو ذلك فانه لا يستحق من ذلك إلا من كان نسبه صحيحا ثابتا فأما من ادعى أنه منهم ولم يثبت أنه منهم أو علم أنه ليس منهم فلا يستحق من هذا الوقف وإن ادعى أنه منهم كبنى عبد الله بن ميمون القداح فإن أهل
____________________
(31/93)
العلم بالانساب وغيرهم يعلمون أنه ليس لهم نسب صحيح وقد شهد بذلك طوائف أهل العلم من أهل الفقه والحديث والكلام والانساب وثبت فى ذلك محاضر شرعية وهذا مذكور فى كتب عظيمة من كتب المسلمين بل ذلك مما تواتر عند أهل العلم
وكذلك من وقف على ( الاشراف ( فان هذا اللفظ فى العرف لا يدخل فيه إلا من كان صحيح النسب من أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم
وأما أن وقف واقف على بنى فلان أو أقارب فلان ونحو ذلك ولم يكن فى الوقف ما يقتضى أنه لأهل البيت النبوى وكان الموقوف ملكا للواقف يصح وقفه على ذرية المعين لم يدخل بنو هاشم فى هذا الوقف وسئل قدس الله روحه (
عن رجل بيده مسجد بتواقيع أحياء سنة شرعية بحكم نزول من كان بيده توقيعا بالنزول ثابتا بالحكام ثم أن ولد من كان بيده المسجد أولا تعرض لمن بيده المسجد الآن وطلب مشاركته ولم يكن له مستند شرعى غير أنه كان بيد والده فهل يجوز أن يلجأ إلى الشركة بغير رضاه
____________________
(31/94)
فأجاب الحمد لله لا يجوز إلزام إمام مسجد على المشاركة والحالة هذه ولا التشريك بينهما أو عزله بمجرد ما ذكر من كون أبيه كان هو الامام
فإن المساجد يجب أن يولى فيها الاحق شرعا وهو الأقرأ لكتاب الله والأعلم بسنة رسول الله الاسبق إلى الأعمال الصالحة مثل أن يكون أسبق هجرة أو أقدم سنا فكيف إذا كان الأحق هو المتولى فإنه لا يجوز عزله باتفاق العلماء والله أعلم
( وسئل (
عن مدرسة وقفت على الفقهاء والمتفقهة الفلانية برسم سكناهم واشتغالهم فيها فهل تكون السكنى مختصة بالمرتزقين وهل يجوز إخراج أحد من الساكنين مع كونه من الصنف الموقوف عليه
فأجاب لا تختص السكنى والارتزاق بشخص واحد وتجوز السكنى من غير ارتزاق من المال كما يجوز الارتزاق من غير سكنى ولا يجوز قطع أحد الصنفين إلا بسبب شرعي إذا كان الساكن مشتغلا سواء كان يحضر الدرس أم لا
____________________
(31/95)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل ملك إنسانا أنشابا قائمة على الأرض الموقوفة على الملك المذكور وغيره أيام حياته ثم بعد وفاته على أولاده وعلى من يحدثه الله من الأولاد من الذكور والاناث بينهم بالسوية على أن من توفى منهم وترك ولدا كان نصيبه من الوقف إلى ولده أو ولد ولده وان سفل واحدا كان أو أكثر ذكرا كان أو أنثى من ولد الظهر والبطن يستوى فى ذلك الذكور والأناث وإن توفى ولم يكن له ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك كان نصيبه من ذلك مصروفا إلى من هو فى درجته مضافا إلى ما يستحقه من ريع هذا الوقف فإن لم يكن له أخ ولا أخت ولا من يساويه فى الدرجة كان نصيبه مصروفا إلى أقرب الناس إليه الأقرب فالأقرب من ولد الظهر والبطن تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى من ولد الظهر والبطن بالسوية إلى حين انقراضهم فان لم يبق أحد يرجع بنسبه إلى الموقوف عليه لا من جهة الأب ولا من جهة البنت كان مغل الوقف مصروفا إلى الفقراء والمساكين بثغر دمياط المحروسة والواردين إليه والمترددين عليه يفرقه الناظر على ما يراه ثم على أسارى المسلمين
____________________
(31/96)
فمن أهل الوقف الأول أحد البنات توفيت ولم يكن لها ولد أخذ إخوتها نصيبها ثم ماتت البنت الثانية ولها ابنتان أخذتا نصيبها ثم بعد ذلك ماتت البنت الثالثة ولم يكن لها ولد أخذت أختها نصيبها ثم بعد ذلك ماتت الأخت الرابعة فأخذوا لها الثلثين فهل يصح لأولاد خالته نصيب معه أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين البنت الأولى انتقل نصيبها إلى إخوتها الثلاثة كما شرطه الواقف لا يشارك أولاد هذه لأولاد هذه فى النصيب الأصلى الذى كان لأمها وأما النصيب العائد وهو الذى كان للثالثة وانتقل إلى الرابعة فهذا يشترك فيه أولاد هذه وأولاد هذه كما يشترك فيه أمهما هذا أظهر القولين فى هذه المسألة
وقيل أن جميع ما حصل للرابعة وهو نصيبها ونصيب الثالثة ينتقل إلى أولادها خاصة لأن الواقف قال وإن توفى ولم يكن له ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك كان نصيبه مصروفا إلى من فى درجته مضافا إلى ما يستحقه من ريع الوقف قالوا فالمضاف كالمضاف إليه فإذا كان هذا ينتقل إلى أولاده فكذلك الآخر لأن قول الواقف من مات منهم وترك ولدا كان نصيبه من الوقف إلى ولده يتناول الأصلى والعائد
والأظهر هو القول الأول فإن قوله كان نصيبه يتناول النصيب
____________________
(31/97)
الذى تقدم ذكره وأما تناوله لما بعد ذلك فمشكوك فيه فلا يدخل بالشك بل قد يقال هذا هو فى الأصل نصيب الميت عنه كما ذكر الواقف والظاهر من حال الواقف لفظا وعرفا أنه سوى بين الطبقة فى نصيب من ولد له ولد فأخذه المساوى بكونه كان فى الطبقة وأولاده فى الطبقة كأولاد الميت الأول فكما أن الميتين لو كانا حيين اشتركا فى هذا النصيب العائد فكذلك يشترك فيه ولدهما من بعدهما فإن نسبتهما إلى صاحب النصيب نسبة واحدة
وهذا هو الذى يقصده الناس بمثل هذه الشروط كما يشهد بذلك عرفهم وعادتهم والمقصود إجراء الوقف على الشروط الذى يقصدها الواقف ولهذا قال الفقهاء إن نصوصه كنصوص الشارع يعنى فى الفهم والدلالة فيفهم مقصود ذلك من وجوه متعددة كما يفهم مقصود الشارع
ومن كشف أحوال الواقفين علم أنهم يقصدون هذا المعنى فإنه أشبه بالعدل ونسبة أولاد الأولاد إلى الواقف سواء فليس له غرض فى أن يعطى بن هذا نصيبان أو ثلاثة لتأخر موت أبيه وأولئك لا يعطون الا نصيبا واحدا لا سيما وهذا المتأخر قد استغل الوقف فقد يكون خلف لأولاده بعض ما استغله والذى مات أولا لم يستغله إلا قليلا فأولاده أقرب إلى
____________________
(31/98)
الحاجة ونسبتهما إلى الواقف سواء فكيف يقدم من هو أقرب إلى الحاجة إلى من هو أبعد عنها وهما فى القرب إليه وإلى الميت صاحب النصيب بعد انقراض الطبقة سواء
وهو كما لو مات صاحبه آخرا ولو مات آخرا اشترك جميع الأولاد فيه بل هذا يتناوله قول الواقف أن توفى ولم يكن له ولد ولا ولد ولد كان نصيبه مصروفا إلى من هو فى درجته فإن لم يكن له أخ ولا أخت ولا من يساويه فى الدرجة فيكون نصيبه مصروفا إلى أقرب الناس وكلهم فى القرب إليه سواء والله أعلم
____________________
(31/99)
وسئل شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله (
عن واقف وقف وقفا على أولاده ثم على أولاد أولاده ثم على أولاد أولاد أولاده ونسله وعقبه دائما ما تناسلوا على أنه من توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب كان ما كان جاريا عليه من ذلك على من فى درجته وذوى طبقته فإذا توفى بعض هؤلاء الموقوف عليهم عن ولد أو ولد ولد أو نسل أو عقب لمن يكون نصيبه هل يكون لولده أو لمن فى درجته من الأخوة وبنى العم ونحوهم
فأجاب نصيبه ينتقل إلى ولده دون إخوته وبنى عمه لوجوه متعددة نذكر منها ثلاثة
أحدها أن قوله على أولاده ثم على أولاد أولاده مقيد بالصفة المذكورة بعده وهى قوله على أنه من توفى منهم عن غير ولد انتقل نصيبه إلى ذوى طبقته وكل كلام اتصل بما يقيده فإنه يجب اعتبار ذلك المقيد دون إطلاقه أول الكلام
بيان المقدمة الأولى أن هذه الجملة وهى قوله على أنه من توفى منهم فى موضع نصب على الحال والحال صفة فى المعنى والصفة مقيدة للموصوف
____________________
(31/100)
وإن شئت قلت لأنه جار ومجرور متصل بالفعل والجار والمجرور مفعول فى النفى وذلك مقيد للفعل وان شئت قلت لأنه كلام لم يستقل بنفسه فيجب ضمه إلى ما قبله وإن شئت قلت لأن الكلام الأول لم يسكت عليه المتكلم حتى وصله بغيره وصلة الكلام مقيدة له وكل هذه القضايا معلومة بالاضطرار فى كل لغة
بيان الثانية أن الكلام متى أتصل به صفة أو شرط أو غير ذلك من الالفاظ التى تغير موجبه عند الاطلاق وجب العمل بها ولم يجز قطع ذلك الكلام عن تلك الصفات المتصلة به وهذا مما لا خلاف فيه أيضا بين الفقهاء بل ولا بين العقلاء وعلى هذا تنبنى جميع الأحكام المتعلقة باقوال المكلفين من العبادات والمعاملات مثل الوقف والوصية والاقرار والبيع والهبة والرهن والاجارة والشركة وغير ذلك
ولهذا قال الفقهاء يرجع إلى لفظ الواقف فى الاطلاق والتقييد ولهذا لو كان أول الكلام مطلقا أو عاما ووصله المتكلم بما يخصه أو يقيده كان الاعتبار بذلك التقييد والتخصيص فاذا قال وقفت على أولادى كان عاما فلو قال الفقراء أو العدول أو الذكور إختص الوقف بهم وإن كان أول كلامه عاما
وليس لقائل أن يقول لفظ الأولاد عام وتخصيص أحد النوعين بالذكر لا ينفى الحكم عن النوع الآخر بل العقلاء كلهم مجمعون على أنه
____________________
(31/101)
قصر الحكم على أولئك المخصوصين فى آخر الكلام مثبتوا المفهوم ونفاته ويسمون هذا ( التخصيص المتصل ( ويقولون لما وصل اللفظ العام بالصفة الخاصة صار الحكم متعلقا بذلك الوصف فقط وصار الخارجون عن ذلك الوصف خارجين عن الحكم أما عند نفاة المفهوم فلانهم لم يكونوا يستحقون شيئا الا إذا دخلوا فى اللفظ فلما وصل اللفظ العام بالصفة الخاصة أخرجهم من اللفظ فلم يصيروا داخلين فيه فلا يستحقون فهم ينفون استحقاقهم لعدم موجب الاستحقاق وأما عند مثبتى المفهوم فيخرجون لهذا المعنى ولمعنى آخر وهو أن تخصيص أحد النوعين بالذكر يدل على قصد تخصيصه بالحكم وقصد تخصيصهم بالحكم ملتزم لنفيه عن غيرهم فهم يمنعون استحقاقهم لانتفاء موجبه ولقيام مانعه
وكذلك لو قيد المطلق مثل أن يقول وقفت على أولادى على أنهم يعطون أن كانوا فقراء أو على أنهم يستحقون إذا كانوا فقراء أو وقفت على أولادى على أنه يصرف من الوقف إلى الموجودين منهم إذا كانوا فقراء ووقفت على أنه من كان فقيرا كان من أهل الوقف فان هذا مثل قوله وقفت على أولادى على الفقراء منهم أو بشرط أن يكونوا فقراء أو إن كان فقيرا
ولو قال وقفت على بناتى على أنه من كانت أيما أعطيت ومن تزوجت ثم طلقها زوجها أعطيت فان هذا مثل قوله وقفت على
____________________
(31/102)
بناتى على الأيامى منهم فان صيغة ( على ( من صيغ الاشتراط كما قال ( إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج
واتفق الفقهاء أنه لو قال زوجتك بنتى على ألف أو على أن تعطيها ألفا أو على أن يكون لها فى ذمتك ألف كان ذلك شرطا ثابتا وتسميته صحيحة وليس فى هذا خلاف وقد أخطأ من اعتقد أن فى مذهب الامام أحمد أو غيره خلافا فى ذلك من أجل اختلافهم فيما إذا قال لزوجته أنت طالق على ألف أو لعبده أنت حر على ألف فلم تقبل الزوجة والعبد فانه فى إحدى الروايتين عن أحمد يقع العتق والطلاق فانه ليس مأخذه أن هذه الصيغة ليست للشرط فانه لا يختلف مذهبه أنه لو قال خلعتك على ألف أو كاتبتك على ألف أو زوجتك على ألف أو قال بعتك هذا العبد على أن ترهننى به كذا أو على أن يضمنه زيد أو زوجتك بنتى على أنك حر إن هذه شروط صحيحة ولا خلاف فى ذلك بين الفقهاء كلهم
وإنما المأخذ أن العتق والطلاق لا يفتقران إلى عوض ولم يعلق الطلاق بشرط وإنما شرط فيه شرطا وفرق بين التعليق على الشرط وبين الشرط فى الكلام المنجز ولهذا لا يصح كثير من التصرفات المعلقة مع صحة الاشتراط فيها وهذه الصفة قد تعذر وجودها والطلاق
____________________
(31/103)
الموصوف إذا فاتت صفته هل يفوت جميعه أو يثبت هو دون الصفة فيه اختلاف
إذا تبين أن قوله على أنه من توفى منهم شرط حكمى ووصف معنوى للوقف المذكور وأنه يجب اعتباره والعمل بموجبه فمعلوم أنه إذا اعتبر القيد المذكور فى الكلام كان انتقال نصيب المتوفى إلى ذوى طبقته مشروطا بعدم ولده وان الواقف لم يصرف إليهم نصيب المتوفى فى هذه الحال ومعلوم حينئذ أنه لا يجوز صرف نصيب المتوفى إليهم فى ضد هذه الحال وهو ما إذا كان له ولد وهو المطلوب
وعلم أن هذا ثابت باتفاق الفقهاء بل والعقلاء القائلين بالمفهوم والنافين له فان صرف الوقف إلى غير من صرفه إليه الواقف حرام وهو لم يصرفه إليهم فهذا المنع لانتفاء الموجب متفق عليه ولأنه قد منع صرفه إليهم وهذا المنع لوجود المانع مختلف فيه وتقدير الكلام وقفت على أولادى ثم على أولادهم بشرط أن ينتقل نصيب المتوفى منهم إلى أهل طبقته إذا كان قد توفى عن غير ولد
وليس يختلف أحد من الفقهاء فى أن هذا الباب يقصر على القيود المذكورة وإنما يغلط هنا من لم يحكم دلالات الألفاظ اللغوية ولم يميز بين أنواع أصول الفقه السمعية ولم يتدرب فيما علق بأقوال المكلفين من الأحكام الشرعية
____________________
(31/104)
ولا هو جرى فى فهم هذا الخطاب على الطبيعة العربية والفطرة السليمة النقية فأرتفع عن شأن العامة بحيث لم يدخل فى زمرتهم فيما يفهمونه فى عرف خطابهم وانحط عن أوج الخاصة فلم يهتد للتمييز بين المشتبهات فى الكلام حتى تقر الفطر على ما فطرها عليه الذى أحسن كل شيء خلقه والحمق أدى به إلى الخلاص من كناسة بترا ومن أحكم العلوم حتى احاط بغاياتها رده ذلك إلى تقرير الفطر على بداياتها وإنما بعثت الرسل لتكميل الفطرة لا لتغييرها ( فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله (
ومعلوم أن كل من سمع هذا الكلام من أهل اللسان العربى خاصتهم وعامتهم لم يفهموا منه إلا إعطاء أهل طبقة المتوفى بشرط أن لا يكون للمتوفى ولد ويعقلون أن هذا الكلام واحد متصل بعضه ببعض وإنما نشأ غلط الغالط من حيث توهم أن الكلام الأول فيه عموم والكلام الثانى قد خص أحد النوعين بالذكر فيكون من ( باب تعارض العموم والمفهوم (
ثم قد يكون ممن نظر فى كتب بعض المتكلمين أو بعض الفقهاء الذين لا يقولون بدلالة المفهوم وإذا قالوا بها رأوا دلالة العموم راجحة عليها لكون الخلافات فيها أضعف منه فى دلالة المفهوم فانه لم يخالف فى العموم الا شرذمة لا يعتدبهم وقد خالف فى المفهوم طائفة من الفقهاء
____________________
(31/105)
وطوائف من أهل الكلام حتى قد يتوهم من وقع له هذا أنه لا ينبغى أن يترك صريح الشرط أو عمومه لمفهوم الصفة مع ضعفه فنعوذ بالله من العمى فى البصيرة أو حول يرى الواحد اثنين فإن الأعمى أسلم حالا فى إدراكه من الأحول إذا كان مقلدا للبصير والبصير صحيح الإدراك ولو لاخشية أن يحسب حاسب أن لهذا القول مساغا أو أنه قد يصح على أصول بعض الفقهاء لكان الاضراب عن بيانه أولى
فيقال هذا الذى تكلم الناس فيه من دلالة المفهوم هل هي حجة أم لا وإذا كانت حجة فهل يخص بها العام أم لا إنما هو فى كلامين منفصلين من متكلم واحد أو فى حكم الواحد ليس ذلك فى كلام واحد متصل بعضه ببعض ولا فى كلام متكلمين لا يجب اتحاد مقصودهما فهنا ثلاثة أقسام
أحدها كلامان من متكلم واحد او فى حكم الواحد وإنما ذكرنا ذلك ليدخل فيه إذا كان أحدهما كلام الله والآخر كلام رسوله فان حكم ذلك حكم مالو كانا جميعا من كلام الله أو كلام رسوله مثل قوله ( الماء طهور لا ينجسه شيء ( مع قوله ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ( فان المتكلم بهما واحد وهما كلامان فمن قال أن المفهوم حجة يخص به العموم خص عموم قوله ( الماء طهور لا ينجسه شيء ( بمفهوم ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ( مع أن مفهوم العدد
____________________
(31/106)
أضعف من مفهوم الصفة وهذا مذهب الشافعى وأحمد فى المشهور عنه وغيرهما ومن إمتنع من ذلك قال قوله ( الماء طهور ( عام وقوله ( إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس ( هو بعض ذلك العام وهو موافق له فى حكمه فلا تترك دلالة العموم لهذا
وكذلك قوله فى كتاب الصدقة الذى أخرجه أبو بكر ( فى الابل فى خمس منها شاة ( إلى آخره مع قوله فى حديث آخر ( فى الإبل السائمة فى كل أربعين بنت لبون وفى كل خمسين حقة ( ونظائره كثيرة منها ما قد اتفق الناس على ترجيح المفهوم فيه مثل قوله ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ( مع قوله ( جعلت لى كل أرض طيبة مسجدا وطهورا ( فانه لاخلاف أن الأرض الخبيثة ليست بطهور ومنها ما قد اختلفوا فيه كقوله فى هذا الحديث ( وجعلت تربتها لى طهورا ) فان الشافعى وأحمد وغيرهما جعلوا مفهوم هذا الحديث مخصصا لقوله ( جعلت لى كل أرض طيبة طهورا ( ومنها ما قد اتفقوا على تقديم العموم فيه كقوله ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن ( مع قوله ( ولا تأكلوها اسرافا وبدارا أن يكبروا ( فان أكلها حرام سواء قصد بدارا كبر اليتيم أولا
وقد اختلف الناس فى هاتين الدلالتين إذا تعارضتا فذهب أهل الرأى وأهل الظاهر وكثير من المتكلمين وطائفة من المالكية والشافعية
____________________
(31/107)
والحنبلية إلى ترجيح العمموم وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنبلية وطائفة من المتكلمين إلى تقديم المفهوم وهو المنقول صريحا عن الشافعى وأحمد وغيرهما والمسئلة محتملة وليس هذا موضع تفصيلها فإنها ذات شعب كثيرة وهى متصلة بمسئلة ( المطلق والمقيد ( وهى غمرة من غمرات ( أصول الفقه ( وقد اشتبهت أنواعها على كثير من السابحين فيه
لكن المقصود أن مسئلتنا ليست من هذا الباب مع أنها لو كانت منه لكان الواجب على من يفتى بمذهب الشافعى وأحمد أن يبنى هذه المسألة على أصولهما وأصول أصحابهما دون ما أصله بعض المتكلمين الذين لم يمعنوا النظر فى آيات الله ودلائله التى بينها فى كتابه وعلى لسان رسوله ولا احاطوا علما بوجوه الأدلة ودقائقها التى أودعها الله فى وحيه الذى أنزله ولا ضبطوا وجوه دلالات اللسان الذى هو أبين الألسنة وقد أنزل الله به أشرف الكتب
وإنما هذه المسألة هي من القسم الثانى وهو أن يكون كلام واحد متصل بعضه ببعض آخره مقيد لأوله مثل ما لو قال ( الماء طهور لا ينجسه شيء إذا بلغ قلتين ( أو يقول ( الماء طهور إذا بلغ قلتين
____________________
(31/108)
لا ينجسه شيء ( أو يقول ( فى كل خمس من الأبل شاة وفى عشر شاتان تجب هذه الزكاة فى الابل السائمة ( كما قال ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ( فأطلق وعمم ثم قال فى آخره ( ذلك لمن خشى العنت منكم ( فانه لا خلاف بين الناس أن هذا الكلام لا يؤخذ بعموم أوله بل إنما تضمن طهارة القلتين فصاعدا ووجوب الزكاة فى السائمة
لكن نفاة المفهوم يقولون لم يتعرض لما سوى ذلك بنفى ولا إثبات فنحن ننفيه بالأصل إلا أن يقوم دليل ناقل عن الأصل والجمهور يقولون بل ننفيه بدليل هذا الخطاب الموافق للاصل
ومما يوضح الفرق بين الكلام المتصل والمنفصل أن رجلا لو قال وصيت بهذا المال للعلماء يعطون منه إذا كانوا فقراء ولو قال مرة وصيت به للعلماء ثم قال أعطوا من مالى للعلماء إذا كانوا فقراء فهنا يقال تعارض العموم والمفهوم لكن مثل هذا لا يجى فى الوقف فانه إذا وقف على صفة عامة أو خاصة لم يمكن تغييرها بخلاف الوصية ولو فسر الموصى لفظه بما يخالف ظاهره قبل منه بخلاف الواقف ولهذا قلنا إن تقييد هذا الكلام بالصفة المتأخرة واجب عند جميع الناس القائلين بالمفهوم ونفته فان هذا ليس من هذا الباب وإنما هو من باب الكلام المقيد بوصف فى آخره
____________________
(31/109)
القسم الثالث أن يكون فى كلام متكلمين لا يجب اتحاد مقصودهما مثل شاهدين شهدا أن جميع الدار لزيد وشهد آخران أن الموضع الفلانى منها لعمرو فان هاتين البينتين يتعارضان فى ذلك الموضع ولا يقول أحد أنه يبنى العام كل الخاص هنا وقد غلط بعض الناس مرة فى مثل هذه المسألة فرأى أنه يجمع بين البينتين لأنه من باب العام والخاص كما غلط بعضهم فى القسم الثانى فألحقوه بالأول
ومن نور الله قلبه فرق بين هذه الأقسام الثلاثة وعلم أن الفرق بينها ثابت فى جميع الفطر وإنما خاصة العلماء إخراج مافى القوة إلى الفعل فلو سلم أن الكلام الأول عام أو مطلق فقد وصل بما يقيده ويخصصه وقد أطبق جميع العقلاء على أن مثل هذا مخصوص مقيد وليس عاما ولا مطلقا ففرق أصلحك الله بين أن يتم الكلام العام المطلق فيسكت عليه ثم يعارضه مفهوم خاص أو مقيد وبين أن يوصل بما يقيده ويخصصه ألست تعلم أن جميع الاحكام مبنية على هذا فانه لو حلف وسكت سكوتا طويلا ثم وصله باستثناء أو عطف أو وصف أو غير ذلك لم يؤثر فلو قال والله لا أسافر ثم سكت سكوتا طويلا ثم قال إن شاء الله أو قال إلى المكان الفلانى أو قال ولا أتزوج أو قال لا أسافر راجلا لم تتقيد اليمين بذلك ولو حلف مرة لا أسافر ثم حلف مرة ثانية لا يسافر راجلا لم تقيد
____________________
(31/110)
اليمين الأولى بقيد الثانية ولو قال لا أسافر راجلا لتقيدت يمينه بذلك بالاتفاق
)
فلما قال هنا وقفت على أولادى ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم على أنه من توفى منهم عن غير ولد كان نصيبه لذوى طبقته صار المعنى وقفت وقفا مقيدا بهذا القيد المتضمن انتقال نصيب المتوفى إلى أهل طبقته بشرط عدم ولده وصار مثل هذا أن يقول وقفت على ولدى وولد ولدى ونسلى وعقبى على أن الأولاد يستحقون هذا الوقف بعد موت آبائهم أفليس كل فقيه يوجب أن استحقاق الأولاد مشروط بموت الآباء وأنه لو أقتصر على قوله على ولدى وولد ولدى اقتضى التشريك
ويوضح هذه المسألة التى قد يظن أنها مثل هذه أنه لو وقف على زيد وعمرو وبكر ثم على المساكين لم ينتقل إلى المساكين شيء حتى يموت الثلاثة هذا هو المشهور فلو قال فى هذه الصورة وقفت على زيد وعمر وبكر ثم على المساكين على أنه من مات من الثلاثة انتقل نصيبه إلى الآخرين إذا لم يكن فى بلد الوقف مسكين أو قال على أنه من مات من الثلاثة ولم يوجد من المساكين أحد انتقل نصيبه إلى الآخرين أو يقول على أنه من مات من الثلاثة انتقل نصيبه إلى الآخرين أن كانا فقيرين أو أن كانا مقيمين ببلد الوقف ونحو
____________________
(31/111)
ذلك أفليس كل فقيه بل كل عاقل يقضى بان استحقاق الباقين لنصيب المتوفى مشروط بهذا الشرط وإن هذا الشرط الذى تضمنه الكلام يجب الرجوع إليه فان الكلام إنما يتم بآخره ولا يجوز اعتبار الكلام المقيد دون مطلقه وهذا مما قد اضطر الله العقلاء إلى معرفته إلا أن يحول بين البصيرة وبين الادراك مانع فيفعل الله ما يشاء ومسألتنا أوضح من هذه الأمثلة
ومثال ذلك أن يقول وقف على أولادى ثم على أولادهم على أنه من مات منهم وهو عدل انتقل نصيبه إلى ولده فهل يجوز أن ينتقل الوقف إلى الولد سواء كان الميت مسلما أو كافرا وسواء كان عدلا أو فاسقا فمن توهم أنه ينتقل إليه لا ندراجه فى اللفظ العام قيل له اللفظ العام لم ينقطع ويسكت عليه حتى يعمل به وإنما هو موصول بما قيده وخصصه ولا يجوز أن يعتبر بعض الكلام الواحد دون بعض وهذا أبين من فلق الصبح ولكن من لم يجعل الله له نورا فماله من نور
ومن أراد أن يبهر المتكلم فى هذا فاليكثر من النظائر التى يصل فيها الكلام العام أو المطلق بما يخصه ويقيده مثل أن تقول وقفت على الفقهاء على أنه من حضر الدرس صبيحة كل يوم استحق أو وقفت على الفقراء على أنه من جاور بالحرمين منهم استحق أو تقول على أن
____________________
(31/112)
يجاور بأحد الحرمين أو على أن الفقهاء يشهدون الدرس فى كل غداة ونحو ذلك من النظائر التى تفوت العدد والاحصاء
ومما يغلط فيه بعض الاذهان فى مثل هذا أن يحسب أن بين أول الكلام وآخره تناقضا أو تعارضا وهذا شبهة من شبهات بعض الطماطم من منكرى العموم فانهم قالوا لو كانت هذه الصيغ عامة لكان الاستثناء رجوعا أو نقضا وهذا جهل فان ألفاظ العدد نصوص مع جواز ورود الاستثناء عليها كما قال تعالى { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } وكذلك النكرة فى الموجب مطلقة مع جواز تقييدها فى مثل قوله { فتحرير رقبة }
وإنما أتى هؤلاء من حيث توهموا أن الصيغ إذا قيل هي عامة قيل أنها عامة مطلقا وإذا قيل إنها عامة مطلقا ثم رفع بالاستثناء بعض موجبها فقد اجتمع فى ذلك المرفوع العموم المثبت له والاستثناء النافى له وذلك تناقض أو رجوع 3 فيقال لهم إذا قيل هي عامة فمن شرط عمومها أن تكون منفصلة عن صلة مخصصة فهي عامة عند الاطلاق لا عامة على الاطلاق واللفظ الواحد تختلف دلالته بحسب إطلاقه وتقييده ولهذا أجمع الفقهاء أن الرجل لو قال له ألف درهم من النقد الفلانى أو مكسرة
____________________
(31/113)
وسود أو ناقصة أو طبرية أو ألف إلا خمسين ونحو ذلك كان مقرى بتلك الصفة المقيدة ولو كان الاستثناء رجوعا لما قبل فى الاقرار إذ لا يقبل رجوع المقر فى حقوق الآدميين
وكثيرا ما قد يغلط بعض المتطرفين من الفقهاء فى مثل هذا المقام فانه يسأل عن شرط واقف أو يمين حالف ونحو ذلك فيرى أول الكلام مطلقا أو عاما وقد قيد فى آخره فتارة يجعل هذا من باب تعارض الدليلين ويحكم عليهما بالأحكام المعروفة للدلائل المتعارضة من التكافؤ والترجيح وتارة يرى أن هذا الكلام متناقض لاختلاف آخره وأوله وتارة يتلدد تلدد المتحير وينسب الشاطر إلى فعل المقصر وربما قال هذا غلط من الكاتب وكل هذا منشؤه من عدم التمييز بين الكلام المتصل والكلام المنفصل ومن علم أن المتكلم لا يجوز اعتبار أول كلامه حتى يسكت سكوتا قاطعا وأن الكاتب لا يجوز اعتبار كتابه حتى يفرغ فراغا قاطعا زالت عنه كل شبهة فى هذا الباب وعلم صحة ما تقوله العلماء فى دلالات الخطاب
ومن أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس ثم يعتبر أحد الموضعين المتعارضين بالغلط دون الآخر فلو جاز أن يقال قوله على أنه من مات منهم عن غير ولد غلط لم يكن ذلك بأولى من أن
____________________
(31/114)
يقال قوله ( ثم ( هو الغلط فان الغلط فى تبديل حرف بحرف بالنسبة إلى الكاتب أولى من الغلط بذكر عدة كلمات فان قوله عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب مشتمل على أكثر من عشر كلمات
ثم من العجب أن يتوهم ان هذا توكيد والمؤكد انما يزيح الشبهة فكان قوله من مات منهم عن ولد أولى من قوله من مات منهم عن غير ولد اذا كان الحكم فى البابين واحدا وقصد التوكيد فان نقل نصيب الميت إلى اخوته مع ولده تنبيه على نقله اليهم مع عدمهم اما أن يكون التوكيد ببيان الحكم الجلى دون الخفى فهذا خروج عن حدود العقل والكلام ثم التوكيد لا يكون بالاوصاف المقيدة للموصوف فانه لو قال أكرم الرجال المسلمين وقال أردت إكرام جميع الرجال وخصصت المسلمين بالذكر توكيدا وذكرهم لا ينفى غيرهم بعد دخولهم فى الأسم الأول لكان هذا القول ساقطا غير مقبول أصلا فان المسلمين صفة للرجال والصفة تخصص الموصوف فلا يبقى فيه عموم لكن لو قال أكرم الرجال والمسلمين بحرف العطف مع اتفاق الحكم فى المعطوف والمعطوف عليه وكونه بعضه لكان توكيدا لأن المعطوف لا يجب ان يقيد المعطوف عليه ويخصصه لما بينهما من المغايرة الحاصلة بحرف العطف بخلاف الصفات
____________________
(31/115)
ونحوها فانها مقيدة وكذلك بعض أنواع العطف لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك ولهذا فرق الفقهاء بين العطف المغير وغير المغير فى ( باب الاقرار والطلاق والعقود (
3 ومن رام أن يجعل الكلام معنى صحيحا قبل أن يتم لزمه أن يجعل أول كلمة التوحيد كفرا وآخرها إيمانا وان المتكلم بها قد كفر ثم آمن فنعوذ بالله من هذا الخبال وان كان قد نقل عن بعض الناس أنه قال ما كلمة أولها كفر وآخرها إيمان فقيل له ما هي فقال كلمة الاخلاص قلت قصد بذلك ان أولها لو سكت عليه كان كفرا ولم يرد أنها كفر مع اتصالها بالاستثناء فانه لو أراد هذا لكان قد كفر
ولهذا قال المحققون الاستثناء تكلم بما عدى المستثنى وغلط بعضهم فظن أنه إذا قال ألف إلا خمسين كانت الألف مجازا لأنه مستعمل فى غير ما وضع له لأنه موضوع لجملة العدد ولم يرد المتكلم ذلك فيقال له هو موضوع له اذا كان منفردا عن صلة وذلك الشرط قد زال ثم يقال له إنما فهم المعنى هنا بمجموع قوله ألف إلا خمسين لا بنفس الألف فصارت هذه الألفاظ الثلاثة هي الدالة على تسعمائة وخمسين
وهذه شبهة من رأى ان العام المخصوص تخصيصا متصلا مجاز كالعام المخصوص تخصيصا منفصلا عند كثير من الناس
____________________
(31/116)
وسياق هذا القول يوجب ان كل اسم أو فعل وصل بوصف أو عطف بيان أو بدل أو أحد المفعولات المقيدة أو الحال أو التمييز أو نحو ذلك كان استعماله مجازا وفساد هذا معلوم بالاضطرار والفرق بين القرينة اللفظية المتصلة باللفظ الدالة بالوضع وبينما ليس كذلك من القرائن الحالية والقرائن اللفظية التى لا تدل على المقصود بالوضع كقوله رأيت أسدا يكتب وبحرا راكبا فى البحر وبين الالفاظ المنفصلة معلوم يقينا من لغة العرب والعجم ومع هذا فلا ريب عند أحد من العقلاء ان الكلام إنما يتم بآخره وان دلالته إنما تستفاد بعد تمامه وكماله وأنه لا يجوز ان يكون أوله دالا دون آخره سواء سمى أوله ( حقيقة أو مجازا ( ولا أن يقال إن أوله يعارض آخره فان التعارض إنما يكون بين دليلين مستقلين والكلام المتصل كله دليل واحد فالمعارضة بين أبعاضه كالمعارضة بين أبعاض الاسماء المركبة
وهذا كلام بين خصوصا فى ( باب الوقوف ( فان الواقف يريد أن يشرط شروطا كثيرة فى الموقوف والموقوف عليه من الجمع والترتيب والتسوية والتفضيل والاطلاق والتقيد يحتمل سجلا كبيرا ثم أنه لم يخالف مسلم فى أنه لا يجوز اعتبار أول كلامه إطلاقا وعموما وإلغاء آخره أو يجعل ما قيده وفصله وخصصه فى آخر كلامه مناقضا أو معارضا لما صدر
____________________
(31/117)
به كلامه من الأسماء المطلقة أو العامة فان مثل هذا مثل رجل نظر فى وقف قد قال واقفه وقفت على أولادى ثم على أولادهم ثم قال بعد ذلك ومن شرط الموقوف عليهم أن يكونوا فقراء أو عدولا ونحو ذلك فقال هذا الكلام متعارض لأنه فى أول كلامه قد وقف على الجميع وهذا مناقض لتخصيص البعض ثم يجعل هذا من ( باب الخاص والعام ومن ( باب تعارض الأدلة ( فمعلوم أن هذا كله خبط إذ التعارض فرع على استقلال كل منهما بالدلالة والاستقلال بالدلالة فرع على انقضاء الكلام وانفصاله فأما مع اتصاله بما يغير حكمه فلا يجوز جعل بعضه دليلا مخالفا لبعض والله سبحانه يوفقنا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه
فإن قيل قوله على أنه من مات منهم يجوز أن يكون شرطه الواقف ليبين ان الوقف ينتقل إلى من بقى وانه لا ينقطع فى وسطه
فإن من الفقهاء من قد خرج فى قوله على ولدى ثم على ولد ولدى إذا مات أحدهم ثلاثة أقوال كألاقوال الثلاثة فى قوله على أولادى الثلاثة ثم على المساكين
أحدها وهو المشهور أنه يكون للباقين من الطبقة العليا
والثانى أنه ينتقل إلى الطبقة الثانية كما لو أنقرضت الطبقة العليا
____________________
(31/118)
والثالث أنه يكون مسكوتا فيكون منقطع الوسط كما لو قال وقفته على زيد وبعد موته بعشر سنين على المساكين وإذا كان انقطاعه فى وسط عند موت الواحد محتملا فقد ذكر الواقف هذا الشرط لينفى هذا الاحتمال وان كان هذا الشرط مقتضى الوقف على القول الأول ثم من الشروط ما يكون مطابقا لمقتضى المدلول فيزيد موجبها توكيدا
قلنا سبحان الله العظيم هذا كلام من قد نأى عن موضع استدلالنا فانا لم نستدل بصيغة الشرط المطلقة وانما استدللنا بما تضمنه الشرط من التقييد فان هذا الكلام جيد لو كان الواقف قال على أنه من مات منهم انتقل نصيبه إلى ذوى طبقته ولو قال هذا لم يكن فى المسألة شبهة أن نصيب الميت ينتقل إلى ذوى الطبقة مع الولد وعدمه من وجوه متعددة
منها أن هذا هو موجب الكلام الأول عند الاطلاق ولم يوصل بما يغيره
ومنها أنه وصل بما وكد موجب مطلقه
ومنها أنه قد شرط ذلك شرطا نفى به الصرف إلى الطبقة الثانية ونفى به الانقطاع سواء كان للميت ولد أو لم يكن
)
وإنما صورة مسألتنا أنه قال على أنه من توفى منهم عن غير ولد
____________________
(31/119)
ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب كان نصيبه لذوى طبقته فجعل الانتقال إليهم مشروطا بموت الميت عن غير ولد وهذا الشرط كما أنه قد نفى به الانقطاع فقد قيد به الانتقال إلى ذوى الطبقة واللفظ دال عليهما دلالة صريحة فإفادته لاحداهما لا تنفى افادته للاخرى كما لو قال وقفت على أولادى الثلاثة ثم على المساكين على أنه من مات منهم فى حياة الواقف صرف نصيبه إلى من فى درجته فهل يجوز أن يصرف نصيبه إلى ذوى الطبقة إذا مات بعد موت الواقف هذا لم يقله أحد فى هذه الصورة لكن قد يقال إنه مسكوت عن موته بعد موت الواقف فيكون منقطع الوسط
والصواب الذى عليه الناس قديما وحديثا إنه يكون للمساكين لأن اللفظ اقتضى جعله للثلاثة ثم للمساكين فحيث لم يصرف إلى الثلاثة تعين صرفه إلى المساكين لحصر الواقف الوقف فيها مع أن بحث مسألتنا أظهر من هذه كما تقدم بل لو فرض أن قائلا قد قال إذا مات عن غير ولد يكون منقطعا وإذا مات عن ولد لم يكن لجاز أن يقال هذا الشرط لنفى احتمال الانقطاع ومع هذا فهو دال على التقييد كما ذكرناه فانه يدل على صرف نصيب الميت عن غير ولد إلى طبقته وعلى عدم الصرف اليهم مع الولد فالدلالة الأولى تنفى الانقطاع والدلالة الثانية توجب الاشتراك ولا منافاة بينهما
____________________
(31/120)
بل الأولى حصلت من وضع هذا اللفظ والثانية حصلت من مجموع الشرط أو الكلام الأول فكيف والامر ليس كذلك
فإن قيل هذا نفى للاحتمال فى هذه الصورة وإن كان لم ينفه فى أخرى قلنا هذا إنما يستقيم أن لو لم تكن الصورة المذكورة مقيدة للفظ المطلق فان قوله من مات منهم مطلق وقد قيده عن غير ولد وفى مثل هذا لا يقال ذكر صورة وترك أخرى إلا إذا كان الكلام مستقلا بنفسه غير متصل بغيره فأما إذا كان الكلام متصلا بغيره فانه يصير قيدا فى ذلك الأول فإن قوله عن غير ولد نصب على الحال أيضا والحال صفة والصفة مقيدة فكأنه قال بشرط أنه من كان موته على هذه الصفة انتقل نصيبه إلى ذوى الطبقة أو أنه ينتقل نصيب الميت إلى ذوى الطبقة بشرط أن لا يكون للميت ولد ومعلوم بالاضطرار أن الانتقال المشروط بصفة لا يجوز اثباته بدون تلك الصفة
فقوله عن غير ولد صفة لموت الميت والانتقال إذا مات الميت على هذه الحال صفة للوقف والوقف الموصوف بصفة وتلك الصفة موصوفة بأخرى لا يجوز إثباته الا مع وجود الصفة وصفة الصفة فلا يجوز أن يكون وقفا على الأولاد ثم أولادهم إلا بشرط انتقال نصيب المتوفى إلى ذوى الطبقة
____________________
(31/121)
ولا يجوز نقل نصيب الميت إلى ذوى الطبقة إلا بشرط موته عن غير ولد أو ولد ولدا ونسل أو عقب حتى لو كان له ولد وإن بعد كان وجوده مانعا من الانتقال إلى ذوى الطبقة وموجبا للانتقال إليه بقوله على أولاده ثم أولاد أولاده ثم نسله وعقبه دائما ما تناسلوا وأعلم أن هذا السؤال لا يكاد ينضبط وجوه فساده مع ما ذكرناه لكثرتها منها أنه لو كان قصده مجرد نفى احتمال الانقطاع لكان التعميم بقوله من مات منهم انتقل نصيبه أو التنبيه بقوله من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إلى ذوى طبقته هو الواجب فانه إذا انتقل نصيبه إلى ذوى الطبقة مع الولد فمع عدمه أولى أما أن ينص على إنتقاله إلى الطبقة مع عدم الولد نافيا بذلك احتمال الانقطاع ثم يريد منا أن نفهم انتقاله إليهم أيضا مع الولد لمجرد قوله على ولدى ثم ولد ولدى مع أن احتمال الانقطاع هنا قائم مع احتمال آخر ينفرد به وهو الانتقال إلى الولد لأن احتمال انتقاله إلى ولد الولد هنا أظهر من احتمال الانقطاع ومع أن فهم التخصيص مع التقييد أظهر من فهم الانقطاع ومع أن دلالة قوله على ولد ولدى فى الانتقال إلى الطبقة مع عدم الولد اظهر من دلالته فى الانتقال اليهم مع وجود الولد فقد أراد منا أن نفهم الكلام المقلوب ونخرج عن حدود العقل والبيان فإن
____________________
(31/122)
تركه لرفع احتمال الانقطاع وغيره فيما هو فيه أظهر وعدوله عن العبارة المحققة لنفى الانقطاع مطلقا بلا لبس إلى عبارة هي فى التقييد أظهر منها فى مجرد نفى انقطاع بعض الصور دليل قاطع على أنه لم يقصد بذلك
ونظير هذا رجل قال لعبده أكرم زيدا إن كان رجلا صالحا فأكرمه وكان غير صالح فلم يكرمه الغلام فقال له سيده عصيت أمرى ألم آمرك باكرامه قال قد قلت لى إن كان صالحا فأكرمه قال إنما قلت هذا لئلا تتوهم أنى أبغض الصالحين فلا تكرمه مع صلاحه فنفيت احتمال التخصيص فى هذه الصورة فهل يقبل هذا الكلام من عاقل أو ينسب الغلام إلى تفريط أو يقول للسيد هذه العبارة دالة على التخصيص ولو كنت مثبتا للتعميم لكان الواجب أن تقول أكرمه وأن لم يكن صالحا لأن اكرام الصالح يصير من باب التنبيه أو اكرمه وان كان صالحا أن كان حبا لك صحيحا
وكذا هنا يقول المنازع هو نقله إلى الطبقة سواء كان له ولد أو لم يكن فإذا قيل له فلم قيد النقل بقوله على أنه من مات منهم عن غير ولد انتقل نصيبه إلى الطبقة قال لينفى احتمال الانقطاع فى هذه الصورة دون الصورة التى هي أولى بنفى الانقطاع فيها فيقال له كان الكلام
____________________
(31/123)
العربى فى مثل هذا على أنه من توفى منهم وإن كان له ولد انتقل نصيبه إلى من فى درجته أو يقول على أنه من توفى منهم وان لم يكن له ولد فيأتى بحرف العطف أما إذا قال على أنه من توفى منهم عن غير ولد فهذا نص فى التقييد لا يقبل غيره ومن توهم غير هذا أو جوزه ولو على بعد أو جوز لعاقل أن يجوزه فلا ريب أنه خارج عن نعمة الله التى أنعم بها على الانسان حيث علمه البيان وما ظنى أنه لو ترك وفطرته توهم هذا ولكن قد يعرض للفطر آفات تصدها عن سلامتها كما نطقت به الأحاديث
ومنها أن العاقل لا ينفى احتمالا بعيدا باثبات احتمال أظهر منه ومعلوم أنه لو سكت عن هذا الشرط لكان احتمال الانقطاع فى غاية البعد فانه إما خلاف الاجماع أو معدود من الوجوه السود وإذا ذكر الشرط صار احتمال التقييد وترتيب التوزيع احتمالا قويا أما ظاهرا عند المنازع أو قاطعا عند غيره فكيف يجوز أن يحمل كلام الواقف على المنهج الذميم دون الطريق الحميد مع إمكانه
ومنها أن هذا الاحتمال لا يتفطن له إلا بعض الفقهاء ولعله لم يخلق فى الاسلام إلا من زمن قريب واحتمال التقييد أمر لغوى موجود قبل الاسلام فكيف يحمل كلام واقف متقدم على الاحتراز من احتمال لا
____________________
(31/124)
يخطر إلا بقلب الفرد من الناس بعد الفرد ولعله لم يخطر ببال الواقف دون أن يحمل على الاحتراز من احتمال قائم بقلب كل متكلم أو غالب المتكلمين منذ علم آدم البيان
ومنها أن الواقف إذا كان قصده نفى احتمال الانقطاع فى هذه الصورة بقوله عن غير ولد أيضا صالح لأن يكون نفى به احتمال الانقطاع فى الصورة الأخرى ويكون نفى احتمال الانقطاع فيها بانتقال نصيب من مات عن ولد إلى ولده فان هذا فيه صون هذا التقييد عن الألغاء ورفع للانقطاع فى الصورتين ومعلوم أن حمل كلام الواقف على هذا أحسن من جعله مهدرا مبتورا
ومنها أن هذا المقصود كان حاصلا على التمام لو قال على أنه من مات منهم فزيادة اللفظ ونقص المعنى خطأ لا يجوز حمل كلام المتكلم عليه إذا أمكن أن يكون له وجه صحيح وهو هنا كذلك
ومنها أن هذا الكلام مبني على أن قوله على أولادى ثم على أولادهم مقتض لترتيب المجموع على المجموع وهذا الاقتضاء مشروط بعدم وصل اللفظ بما يقيده فانه إذا وصل بما يقيده ويقتضى ترتيب الافراد على الافراد مثل قوله على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده ونحو ذلك من العبارات كان ذلك الاقتضاء منتفيا
____________________
(31/125)
بالاتفاق وهذا اللفظ وهو قوله على أنه من توفى منهم عن غير ولد ظاهر فى تقييد الانتقال بعدم الولد وإنما يصرفه من يصرفه عن هذا الظهور لمعارضة الأول له وشرط كون الأول دليلا عدم الصلة المغيرة فيدور الأمر فتبطل الدلالة وذلك أنه لا يثبت كون الأول مقتضيا لترتيب المجموع إلا مع الانقطاع عن المغير ولا يثبت هنا الانقطاع عن المغير حتى يثبت أن هذا لا يدل على التغيير بل على معنى آخر ولا تثبت دلالته على ذلك المعنى حتى يثبت أن المتقدم دليل على ترتيب المجموع وهذا هو الدور وهو مصادرة على المطلوب فانه جعل المطلوب مقدمة فى اثبات نفسه
ومنها أن يقال قوله عن غير ولد قيد فى الانتقال أم لا فان قال ليس بقيد فهو مكابرة ظاهرة فى اللغة وأن قال هو قيد قيل له فيجوز إثبات الحكم المقيد بدون قيده فان قال نعم بالدليل الأول قيل فيجوز الاستدال بأول الكلام مطلقا عما قيد به فى آخره فان قال نعم علم أنه مكابر وإن قال لا ثبت المطلوب وهذه مقدمات يقينية لا يقدح فيها كون الكلام له فوائد أخر ومن وقف عليها مقدمة لم يبق إلا معاندا أو مسلما للحق
ومنها أنه إذا قيل بأن الوقف يكون منقطع الوسط إذا مات الميت عن غير ولد ولا يكون منقطعا إذا مات عن ولد كان لهذا السؤال
____________________
(31/126)
وجه لكن يكون حجة على المنازع فانه إذا كان متصلا مع موته عن ولد فان كان ينتقل إلى الولد فهو المطلوب وإن كان ينتقل إلى الطبقة فمحال أن يقول فقيه إنه ينتقل إلى الطبقة مع الولد ويكون منقطعا مع عدم الولد فثبت أن جعل هذا الكلام رفعا لا حتمال الانقطاع دليل ظاهر على انتقال نصيب المتوفى عن ولد إلى ولده ودلائل هذا مثل المطر والله يهدى من يشاء إلى سواء الصراط
الوجه الثانى فى أصل المسألة أن قوله على أولاده ثم على أولادهم مقتض للترتيب وهو أن استحقاق أولاد الأولاد بعد الأولاد وهنا جمعان أحدهما مرتب على الآخر والاحكام المرتبة على الأسماء العامة نوعان
أحدهما ما يثبت لكل فرد من أفراد ذلك العام سواء قدر وجود الفرد الآخر أو عدمه
والثانى ما يثبت لمجموع تلك الأفراد فيكون وجود كل منها شرطا فى ثبوت الحكم للآخر
مثال الأول قوله تعالى { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } ومثال
____________________
(31/127)
الثانى قوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } فإن الخلق ثابت لكل واحد من الناس وكلا منهم مخاطب بالعبادة والطهارة وليس كل واحد من الأمة أمة وسطا ولا خير أمة
)
ثم العموم المقابل بعموم آخر قد يقابل كل فرد من هذا 1 بكل فرد من هذا كما فى قوله { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } فإن كل واحد من المؤمنين آمن بكل واحد من الملائكة والكتب والرسل وقد يقابل المجموع بالمجموع بشرط الاجتماع منهما كما فى قوله { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } فإن الالتقاء ثبت لكل منهما حال اجتماعهما وقد يقابل شرط الاجتماع من أحدهما كقوله { كنتم خير أمة أخرجت للناس } فإن مجموع الأمة خير للناس مجتمعين ومنفردين وقد يقابل المجموع بالمجموع بتوزيع الأفراد على الأفراد فيكون لكل واحد من العمومين واحد من العموم الآخر كما يقال لبس الناس ثيابهم وركب الناس دوابهم فان كل واحد منهم ركب دابته ولبس ثوبه وكذلك إذا قيل الناس يحبون أولادهم أى كل واحد يحب ولده ومن هذا قوله سبحانه { والوالدات يرضعن أولادهن } أى كل والدة ترضع ولدها بخلاف مالو قلت الناس يعظمون الأنبياء فان كل واحد منهم يعظم كل واحد من الأنبياء
فقول الواقف على أولاده ثم على أولادهم قد اقتضى ترتيب
____________________
(31/128)
أحد العمومين على الآخر فيجوز أن يريد أن العموم الثانى بمجموعه مرتب على مجموع العموم الأول وعلى كل فرد من أفراده فلا يدخل شيء من هذا العموم الثانى فى الوقف حتى ينقضى جميع أفراد العموم الأول ويجوز أن يريد ترتيبا يوزع فيه الافراد على الافراد فيكون كل فرد من أولاد الأولاد داخلا عند عدم والده لا عند عدم والد غيره كما فى قوله { والوالدات يرضعن أولادهن } وقولهم الناس يحبون أولادهم واللفظ صالح لكلا المعنيين صلاحا قويا
)
لكن قد يترجح أحدهما على الآخر بأسباب أخرى كما رجح الجمهور ترتيب الكل على الكل فى قوله وقفت على زيد وعمرو وبكر ثم على المساكين فانه ليس بين المساكين وبين أولئك الثلاثة مساواة فى العدد حتى يجعل كل واحد مرتبا على الآخر ولا مناسبة تقتضى أن يعين لزيد هذا المسكين ولعمرو هذا ولبكر هذا بخلاف قولنا الناس يحبون أولادهم فان المراد هنا من له ولد فصار أحد العمومين مقاوما للآخر وفى أولادهم من الاضافة ما اقتضى أن يعين لكل انسان ولده دون ولد غيره
وكما يترجح المعنى الثانى فى قوله سبحانه { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } إلى آخره فانه لم يحرم على كل واحد من المخاطبين جميع أمهات المخاطبين وبناتهم وإنما حرم على كل واحد أمه وبنته
____________________
(31/129)
وكذلك قوله { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } فانه ليس لجميع الأزواج نصف ما ترك جميع النساء وإنما لكل واحد نصف ما تركت زوجته فقط وكذلك قوله ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان الحقنا بهم ذريتهم ( إنما معناه اتبع كل واحد ذريته ليس معناه أن كل واحد من الذرية اتبع كل واحد من الآباء
وهذا كثير فى الكلام مثل أن يقول الناس فى ديارهم ومع أزواجهم يتصرفون فى أموالهم وينفقون على أولادهم وما أشبه ذلك
ثم الذى يوضح أن هذا المعنى قوى فى الوقف ثلاثة أشياء
أحدها أن أكثر الواقفين ينقلون نصيب كل والد إلى ولده لا يؤخرون الانتقال إلى انقضاء الطبقة والكثرة دليل القوة بل والرجحان
الثانى أن الوقف على الأولاد يقصد به غالبا أن يكون بمنزلة الموروث الذى لا يمكن بيعه فان المقصود الأكبر انتفاع الذرية به على وجه لا يمكنهم إذهاب عبنه
وأيضا فان بين الوقف والميراث هنا شبه من جهة ان الانتقال إلى ولد الولد مشروط بعدم الولد فيهما ثم مثل هذه العبارة لو أطلقت فى الميراث كما اطلقها الله تعالى فى قوله { ولكم نصف ما ترك أزواجكم }
____________________
(31/130)
{ ولهن الربع مما تركتم } لما فهم منها الا مقابلة التوزيع للافراد على الأفراد لا مقابلة المجموع بالمجموع ولا مقابلة كل واحد بكل واحد ولا مقابلة كل واحد بالمجموع كما لو قال الفقيه لرجل مالك ينتقل إلى ورثتك ثم إلى ورثتهم فانه يفهم منه ان مال كل واحد ينتقل إلى وارثه فليكن قوله على أولادهم ثم على أولاد أولادهم كذلك أما صلاحا وأما ظهورا الثالث
أن قوله على أولادهم محال أن يحصل فى هذه الاضافة مقابلة كل فرد بكل فرد فان كل واحد من الأولاد ليس مضافا إلى كل واحد من الوالدين وإنما المعنى ثم على ما لكل واحد من الأولاد فاذا قال وقفت على زيد وعمرو وبكر ثم على أولادهم فالضمير عائد إلى زيد وعمرو وبكر وهذه المقابلة مقابلة التوزيع
وفى الكلام معنيان اضافة وترتيب فاذا كانت مقابلة الاضافة مقابلة توزيع امكن أن يكون مقابلة الترتيب أيضا مقابلة توزيع كما أن قوله { يرضعن أولادهن } لما كان معنى ارضاع وأضافة والاضافة موزعة كان الارضاع موزعا وقوله { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } لما كان معنى اضافة موزعة كان الاستحقاق موزعا وهذا يبين لك أن مقابلة التوزيع فى هذا الضرب قوية سواء كانت راجحة أو مرجوحة أو مكافية
____________________
(31/131)
وللناس تردد فى موجب هذه العبارة عند الاطلاق فى الوقف وإن كان كثير منهم أو أكثرهم يرجحون ترتيب الجمع على الجمع بلا توزيع كما فى قولنا على هؤلاء ثم على المساكين ولأصحابنا فى موجب ذلك عند الاطلاق وجهان مع أنهم لم يذكروا فى قوله وقفت على هذين ثم على المساكين خلافا والفرق بينهما على أحد الوجهين ما قدمناه والمشهور عند أصحاب الشافعى أنه لترتيب الجمع على الجمع ولهم وجه أنه من مات عن ولد أو غير ولد فنصيبه منقطع الوسط وخرج بعضهم وجها أن نصيب الميت ينتقل إلى جميع الطبقة الثانية
وليس الغرض هنا الكلام فى موجب هذا اللفظ لو أطلق فانا إنما نتكلم على تقدير التسليم لكونه يقتضى ترتيب الجمع على الجمع إذ الكلام على التقدير الآخر ظاهر فاما صلاح اللفظ للمعنيين فلا ينازع فيه من تصور ما قلناه وإذا ثبت أنه صالح فمن المعلوم أن اللفظ إذا وصل بما يميز أحد المعنيين الصالحين له وجب العمل به ولا يستريب عاقل فى أن الكلام الثانى يبين أن الواقف قصد أن ينقل نصيب كل والد إلى ولده وإلا لم يكن فرق بين أن يموت أحد منهم عن ولد أو عن غير ولد بل لم يكن إلى ذكر الشرط حاجة أصلا أكثر ما يقال أنه توكيد لو خلا عن دلالة المفهوم فيقال حمله على التأسيس أولى من حمله على التوكيد
____________________
(31/132)
وأعلم ان هذه الدلالة مستمدة من أشياء أحدها صلاح اللفظ الأول لترتيب التوزيع
الثانى أن المفهوم يشعر بالاختصاص وهذا لا ينازع فيه عاقل وان نازع فى كونه دليلا
الثالث أن التأسيس أولى من التوكيد وليس هذا من باب تعارض الدليلين ولا من باب تقييد الكلام المطلق وإنما هو من باب تفسير اللفظ الذى فيه احتمال المعنيين فان قلتم اللفظ الأول إن كان ظاهرا فى ترتيب الجمع فهذا صرف للظاهر وان قلتم هو محتمل أو ظاهر فى التوزيع منعناكم وان قلتم لا يوصف اللفظ بظهور ولا إكمال إلا عند تمامه والأول لم يتم فهذا هو الدليل الأول فما الفرق بينهما قلنا فى الدليل الأول بيان أن اللفظ الأول لو كان نصا لا يقبل التأويل عند الاطلاق فان وصله بما يقيده يبطل تلك الدلالة كما لو قال وقفت على زيد ثم قال ان كان فقيرا فهذا لا يعد تفسيرا للفظ محتمل وإنما هو تقييد وفى هذا الدليل بيان أن اللفظ الأول محتمل لمعنيين ولا يجوز وصفه بظهور فى أحدهما إلا أن ينفصل عما بعده فأما إذا اتصل بما بعده بين ذلك الوصل أحد المعنيين
____________________
(31/133)
فقولكم اللفظ الأول لا يخلو أن يكون ظاهرا فى أحدهما أو محتملا قلنا قبل تمامه لا يوصف بواحد من الثلاثة وإنما قد يوصف بالصلاح للمعانى الثلاثة ولا يقال فيه صرف للظاهر أصلا فانه لا ظاهر لكلام لم يتم بعد وإنما ظاهر الكلام ما يظهر منه عند فراغ المتكلم
وبهذا يتبين منشأ الغلط فى عموم اللفظ الأول فان قوله على أولادى ثم على أولادهم عام فى أولاد أولاده بلا تردد فلا يجوز إخراج أحد منهم وهو مقتض للترتيب أيضا فان الأولاد مرتبون على أولاد الأولاد لكن ما صفة هذا العموم أهو عموم التفسير والتوزيع المقتضى لمقابلة كل فرد بفرد أو عموم الشياع المقتضى لمقابلة كل فرد بكل فرد ومن ادعى أن اللفظ صريح فى هذا بمعنى أنه نص فيه فهو جاهل بالأدلة السمعية والأحكام الشرعية خارج عن مناهج العقول الطبيعية ومن سلم صلاح اللفظ لهما وادعى رجحان أحدهما عند انقطاع الكلام لم ننازعه فانها ليست مسألتنا وان نازع فى رجحان المعنى الأول بعد تلك الصلة فهو أيضا مخطىء قطعا
وهذه حجة عند مثبتى المفهوم ونفاته كالوجه الأول فان نافى المفهوم يقول المسكوت لم يدخل فى الثانى لكن إن دخل فى الأول عملت به ونسلم أنه إذا غلب على الظن أو إذا علم أن لا موجب للتخصيص سوى الاختصاص بالحكم كان المفهوم دليلا فاذا تأمل قوله
____________________
(31/134)
على أنه من مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لأهل طبقته قال أن كان مراد الواقف عموم الشياع كان هذا اللفظ مقيدا لبيان مراده ومتى دار الأمر بين أن تجعل هذه الكلمة مفسرة للفظ الأول وبين أن تكون لغوا كان حملها على الافادة والتفسير أولى لوجهين
أحدهما أنى اعتبرها واعتبار كلام الواقف أولى من اهداره
والثانى أجعلها بيانا للفظ المحتمل حينئذ فأدفع بها احتمالا كنت أعمل به لولا هي وإذا كان الكلام محتملا لمعنيين كان المقتضى لتعيين احدهما قائما سواء كان ذلك الاقتضاء مانعا من النقيض أو غير مانع فاذا حملت هذا اللفظ على البيان كنت قد وفيت المقتضى حقه من الاقتضاء وصنت الكلام الذى يميز بين الحلال والحرام عن الاهدار والالغاء فأين هذا ممن يأخذ بما يحتمله أول اللفظ ويهدر آخره وينسب المتكلم به إلى العى واللغو
والذى يوضح هذا أن قوله على أنه من صيغ الاشتراط والتقييد والشرط إنما يكون لما يحتمله العقد مع أن اطلاقه لا يقتضيه بيان ذلك أن قوله بعت واشتريت لا يقتضى اجلا ولا رهنا ولا ضمينا ولا نقدا غير نقد البلد ولا صفة زائدة فى المبيع لكن اللفظ يحتمله بمعنى أنه صالح لهذا ولهذا لكن عند الاطلاق ينفى هذه الاشياء فإن اللفظ لا يوجبها والاصل عدمها فمتى قال على أن ترهننى به
____________________
(31/135)
كذا كان هذا تفسيرا لقوله بعتك بألف بمنزلة قوله بألف متعلقة برهن
الوجه الثالث أن قوله على أنه من مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لذوى طبقته دليل على أن من مات منهم عن ولد لم يكن نصيبه لذوى طبقته وهذه دلالة المفهوم وليس هذا موضع تقريرها لكن نذكر هنا نكتا تحصل المقصود
أحدها أن القول بهذه الدلالة مذهب جمهور الفقهاء قديما وحديثا من المالكية والشافعية والحنبلية بل هو نص هؤلاء الأئمة وإنما خالف طوائف من المتكلمين مع بعض الفقهاء فيجب أن يضاف إلى مذاهب الفقهاء ما يوافق أصولهم فمن نسب خلاف هذا القول إلى مذهب هؤلاء كان مخطئا وان كان بما يتكلم به مجتهدا فيجب أن يحتوى على أدوات الاجتهاد
ومما يقضى منه العجب ظن بعض الناس أن دلالة المفهوم حجة فى كلام الشارع دون كلام الناس بمنزلة القياس وهذا خلاف إجماع الناس فان الناس إما قائل بأن المفهوم من جملة دلالات الألفاظ أو قائل أنه ليس من جملتها أما هذا التفصيل فمحدث
ثم القائلون بأنه حجة إنما قالوا هو حجة فى الكلام مطلقا واستدلوا على كونه حجة بكلام الناس وبما ذكره أهل اللغة وبأدلة عقلية
____________________
(31/136)
تبين لكل ذى نظر أن دلالة المفهوم من جنس دلالة العموم والاطلاق والتقييد وهو دلالة من دلالات اللفظ وهذا ظاهر فى كلام العلماء والقياس ليس من دلالات الالفاظ المعلومة من جهة اللغة وإنما يصير دليلا بنص الشارع بخلاف المفهوم فانه دليل فى اللغة والشارع بين الأحكام بلغة العرب
الثانى أن هذا المفهوم من باب مفهوم الصفة الخاصة المذكورة بعد الاسم العام وهذا قد وافق عليه كثير ممن خالف فى الصفة المبتدأة حتى أن هذا المفهوم يكون حجة فى الاسم غير المشتق كما احتج به الشافعى وأحمد فى قول النبى ( جعلت لى الأرض مسجدا ( وجعلت تربتها طهورا ( وذلك أنه إذا قال الناس رجلان مسلم وكافر فأما المسلم فيجب عليك ان تحسن إليه علم بالاضطرار ان المتكلم قصد تخصيص المسلم بهذا الحكم بخلاف ما لو قال ابتداء يجب عليك ان تحسن إلى المسلم فانه قد يظن انه انما ذكره على العادة لانه هو المحتاج إلى بيان حكمه غالبا كما فى قوله ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) وكذلك ( فى الابل السائمة الزكاة ) أقوى من قوله ( فى السائمة الزكاة ) لانه اذا قال ( فى الابل السائمة ) فلو كان حكمها مع السوم وعدمه سواء لكان قد طول اللفظ ونقص المعنى اما
____________________
(31/137)
إذا قال ( فى السائمة ) فقد يظن انه خصها بالذكر لكونها أغلب الأموال أو لكون الحاجة إلى بيانها امس وهذا بين كذلك هنا إذا كان مقصوده انتقال نصيب الميت إلى طبقته مع الولد وعدمه
فلو قال فمن مات منهم كان نصيبه لذوى طبقته كان قد عمم الحكم الذى أراده واختصر اللفظ فاذا قال فمن مات منهم عن غير ولد ولا نسل ولا عقب كان ما كان جاريا عليه من ذلك لمن فى درجته وذوى طبقته كان قد طول الكلام ونقص المعنى بخلاف ما إذا حمل فى ذلك على الاختصاص بالحكم فانه يبقى الكلام صحيحا معتبرا والواجب اعتبار كلام المصنف ما أمكن ولا يجوز الغاؤه بحال مع امكان اعتباره
الوجه الثالث ان نفاة المفهوم لا مكان ان يكون للتخصيص بالذكر سبب غير التخصيص بالحكم اما عدم الشعور بالمسكوت أو عدم قصد بيان حكمه أو كون المسكوت اولى بالحكم منه او كونه مساويا له فى بادىء الرأى أو كونه سئل عن المنطوق أو كونه قد جرى بسبب أوجب بيان المنطوق أو كون الحاجة داعية إلى بيان المنطوق او كون الغالب على افراد ذلك النوع هو المنطوق فاذا علم أو غلب على الظن ان لا موجب للتخصيص بالذكر من هذه الأسباب ونحوها علم انه انما خصه بالذكر لأنه مخصوص بالحكم
____________________
(31/138)
ولهذا كان نفاة المفهوم يحتجون فى مواضع كثيرة بمفهومات لأنهم لا يمنعون ان يظهر قصد التخصيص فى بعض المفهومات وهذا من هذا الباب فإن قوله من مات منهم عن غير ولد قد يشعر بالقسمين وله مقصود فى بيان الشرط وليس هذا من باب التنبيه فانه إذا جعل نصيب الميت ينتقل إلى اخوته عند عدم ولده لم يلزم ان ينقله اليهم مع وجود ولده والحاجة داعية إلى بيان النوعين بل لو كان النوعان عنده سواء وقد خص بالذكر حال عدم الوالد لكان ملبسا معميا لانه يوهم خلاف ما قصد بخلاف ما اذا حمل على التخصيص
الرابع ان الوصف اذا كان مناسبا اقتضى العلية وكون الميت لم يخلف ولدا مناسب لنقل حقه إلى اهل طبقته فيدل على ان علة النقل إلى ذوى الطبقة الموت عن غير ولد فيزول هذا بزوال علته وهو وجود الولد
الخامس ان كل من سمع هذا الخطاب فهم منه التخصيص وذلك يوجب ان هذا حقيقة عرفية اما اصلية لغوية أو طارية منقولة وعلى التقديرين يجب حمل كلام المتصرفين عليها باتفاق الفقهاء
واعلم ان اثبات هذا فى هذه الصورة الخاصة لا يحتاج إلى بيان كون المفهوم دليلا لأن المخالف فى المفهوم انما يدعى سلب العموم عن المفهومات
____________________
(31/139)
لا عموم السلب فيها فقد يكون بعض المفهومات دليلا لظهور المقصود فيها وهذا المفهوم كذلك بدليل فهم الناس منه ذلك ومن نازع فى فهم ذلك فاما فاسد العقل او معاند
وإذا ثبت ان هذا الكلام يقتضى عدم الانتقال إلى ذوى الطبقة مع وجود الأولاد فاما ان لا يصرف اليهم ولا إلى الأولاد وهو خلاف قوله على أولادهم ثم على أولاد أولادهم ابدا ما تناسلوا أو يصرف إلى الأولاد فهو المطلوب
فإن قيل قد يسلم أن المفهوم دليل لكن قد عارضه اللفظ الصريح أولا أو اللفظ العام فلا يترك ذلك الدليل لاجل المفهوم قيل عنه أجوبة
أحدها أن اللفظ الأول لا دلالة فيه بحال على شيء لأن اللفظ إنما يصير دليلا إذا تم وقطع عما بعده أما إذا وصل بما بعده فانه يكون جزءا من الدليل لا دليلا وجزء الدليل ليس هو الدليل ومن اعتقد أن الكلام المتصل بعضه ببعض يعارض آخره المقيد أوله المطلق فما درى أى شيء هو تعارض الدليلين
الثانى أن اللفظ الأول لو فرض تمامه ليس بصريح كما تقدم بيانه بل هو محتمل لمعنيين وأما كونه عاما فمسلم لكنا لا نخصه بل نبقيه على
____________________
(31/140)
عمومه وإنما الكلام فى صفة عمومه بل ما حملناه عليه أبلغ فى عمومه لأن أولاد الأولاد يأخذ كل منهم فى حياة أعمامه وبعد موتهم وعلى ذلك التقدير إنما يأخذ فى حياتهم فقط واللفظ المتناول لهم فى حالين أعم من المتناول لهم فى أحدهما
الثالث لو فرض أن هذا من ( باب تعارض العموم والمفهوم ( فالصواب أن مثل هذا المفهوم يقدم على العموم كما هو قول أكثر المالكية والشافعية والحنبلية وقد حكاه بعض الناس اجماعا من القائلين بالمفهوم لأن المفهوم دليل خاص والدليل الخاص مقدم على العام ولا عبرة بالخلاف فى المفهوم فان القياس الجلى مقدم على المفهوم مع أن المخالفين فى القياس قريبون من المخالفين فى المفهوم وخبر الواحد يخص به عموم الكتاب مع أن المخالفين فى خبر الواحد أكثر من المخالفين عموم الكتاب
)
فإن قيل هذا الذى ذكرتموه مبني على أن الضمير فى قوله على أنه من مات عائد إلى جميع من تقدم وهذا ممنوع فان من الفقهاء المعتبرين من قال أن الاستثناء فى شروط الواقف إذا تعقب جملا معطوفة ( 1 ) وإذا كان الضمير عائدا إلى الجملة الاخيرة فتبقى الجمل الأولى على ترتيبها
____________________
(31/141)
قيل هذا باطل من وجوه
أحدها أن لازم هذا القول أنه لو قال على أولادى ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم ثم أولاد أولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده ومن مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لمن فى درجته لكان هذا الشرط فى الطبقة الآخرة وأن الطبقة الأولى والثانية والثالثة إذا مات الميت منهم لم ينتقل نصيبه إلى ولده بل إلى ذوى الطبقة عملا بمقتضى مطلق الترتيب فان التزم المنازع هذا اللازم وقال كذلك أقول كان هذا قولا مخالفا لما عليه عمل المسلمين قديما وحديثا فى كل عصر وكل مصر فان الوقوف المشرطة بهذه الشروط لا يحصى عددها إلا الله تعالى
وما زال المسلمون من قضاتهم ومفتيهم وخاصتهم وعامتهم يجعلون مثل هذا الشرط ثابتا فى جميع الطبقات من غير نكير لذلك ولا منازع فيه فمن قال خلاف ذلك علم أنه قد ابتدع قولا يخالف ما أجمعت عليه القرون السالفة والعلم بهذا ضرورى
ثم لو فرض أن فى هذا خلافا لكان خلافا شاذا معدودا من الزلات وبحسب قول من الضعف أن يبنى على مثل هذا ومن لوازم هذا القول أنه لو قال وقف على أولادى ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم على أنه من
____________________
(31/142)
كان منهم فقيرا صرف إليه ومن كان منهم غنيا لم يصرف إليه فانه يصرف إلى الطبقة الأولى والثانية سواء كانوا أغنياء أو فقراء أو يختص التفصيل بالطبقة الثالثة وكذلك لو قال على أنه من تزوج منهم أعطى ومن لم يتزوج لم يعط وكذلك لو قال ومن شرط الوقف على أنه يصرف إلى الفقراء منهم دون الأغنياء أو بشرط أن يصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم
وهكذا صور كثيرة لايأتى عليها الاحصاء من التزم فيها قياس هذا القول كان قد أتى بداهية دهيا وإن قال بل يعود الشرط إلى جميع الطبقات كما هو المعلوم عند الناس فقد علم بالاضطرار أن مسألتنا واحدة من هذا النوع ليس بينها وبين هذه الصور من الفرق ما يجوز أن يذهب على مميز
الوجه الثانى أن الناس لا يفهمون من هذا الكلام الا الاشتراط فى جميع الطبقات والدليل عليه أن الوقوف المشروطة بمثل هذا أكثر من أن تحصى ثم لم يفهم الناس منها الا هذا ولعله لم يخطر الاختصاص بالطبقة الأخيرة ببال واقف ولا كاتب ولا شاهد ولا مستمع ولا حاكم ولا موقوف عليه وإذا كان هذا هو المفهوم من هذا الكلام فى عرف الناس وجب حمل كلام المتكلمين على عرفهم فى خطابهم سواء كان عرفهم موافقا للوضع اللغوى أو مخالفا له فان كان موجب اللغة
____________________
(31/143)
عود الشرط إلى الطبقات كلها فالعرف مقرر له وان فرض أن موجب اللغة قصره على الطبقة الأخيرة كان العرف مغيرا لذلك الوضع
وكلام الواقفين والحالفين والموصين ونحوهم محمول على الحقائق العرفية دون اللغوية على أنا نقول هذا هو المفهوم من هذا الكلام فى العرف والاصل تقرير اللغة لا تغييرها فيستدل بذلك على أن هذا هو مفهوم اللفظ فى اللغة إذ الاصل عدم النقل ومن نازع فى أن الناس خاصتهم وعامتهم يفهمون من هذا الكلام عند الاطلاق عود الشرط إلى جميع الطبقات علم أنه مكابر وإذا سلمه ونازع فى حمل كلام المتصرف على المعنى الذى يفهمونه علم أنه خارج عن قوانين الشريعة فهاتان مقدمتان يقينيتان والعلم بهما مستلزم لعود الشرط إلى جميع الطبقات
الوجه الثالث أنه إذا حمل الكلام على عود الشرط إلى الجملة الأخيرة فقط كانت فائدته على رأى المنازع أنه لولا هذا الشرط لاشترك العقب فى جميع الوقف الذى انتقل إليهم من الطبقة التى فوقهم والذى انتقل إليهم ممن مات منهم عن ولد أو عن غير ولد فاذا قال فمن مات منهم عن غير ولد فنصيبه لذوى طبقته أفاد ذلك أن يختص ذووا الطبقة بنصيب المتوفى إذا لم يكن له ولد دون من فوقهم ومن دونهم وهذا لم يكن مفهوما من اللفظ وإذا كان له ولد اشترك جميع أهل الوقف فى نصيب المتوفى ولده وغير ولده وإذا حمل الكلام
____________________
(31/144)
على عود الشرط إلى الطبقات كلها أفاد أن ينتقل نصيب المتوفى إلى طبقته إذا لم يكن له ولد وإلى ولده إذا كان له ولد
ومعلوم قطعا من أحوال الخلق أن من شرك بين جميع الطبقات لا ينقل نصيب الميت إلى ذوى طبقته فقط دون من هو فوقه وإذا كان له ولد لم ينقله إلى ولده بل يجعله كأحدهم فانه على هذا التقدير يكون قد جعل ذوى الطبقة أولى من ولد الميت مع أنه لم يراع ترتيب الطبقات ومعلوم أن هذا لا يقصده عاقل فان العاقل إما أن يراعى ترتيب الطبقات فلا يشرك أو ينقل نصيب المتوفى إلى ولده كالارث أما أنه مع التشريك يخص نصيب المتوفى اخوته دون ولده فهذا خلاف المعلوم من أحوال الناس ولو فرض أن الضمير متردد بين عوده إلى الجميع وعوده إلى الطبقة الأخيرة كانت هذه الدلالة الحالية العرفية معينة لأحد الاحتمالين
فإن قيل هذا يلزمكم إذا أعدتم الضمير إلى الجميع فان اللفظ يقتضى الترتيب فى أربع طبقات والتشريك فى الباقية فأنتم تقولون فى بقية الطبقات مثلما نقوله
قلنا هذا فيه خلاف فان الطبقات الباقية هل يشرك بينها عملا بما تقتضيه الواو من مطلق التشريك أو يرتب بينها استدلالا بالترتيب فيما
____________________
(31/145)
ذكره على الترتيب فى الباقى كما هو مفهوم عامة الناس من مثل هذا الكلام فان الواو كما أنها لا تقتضى الترتيب فهي لا تنفيه فإن كان فى الكلام قرينة تدل عليه وجب رعايتها وقد تنازع الناس فى هذا فان قلنا بالثانى فلا كلام وإن قلنا بالأول قلنا أيضا إنه يقتضى انتقال نصيب الميت إلى ولده فى جميع الطبقات فان نقل نصيب الميت إلى ذوى طبقته إذا لم يكن له ولد دون سائر أهل الوقف تنبيه على أنه ينقله إلى ولده إن كان له ولد والتنبيه دليل أقوى من النص حتى فى شروط الواقفين
ولهذا لو قال وقفت على ولدى على أنه من كان فاسقا لا يعطى درهما واحدا فانه لا يجوز أن يعطى درهمان بلا ريب فانه نبه بحرمانه القليل على حرمانه الكثير كذلك نبه بنقل نصيب الميت إذا لم يكن له ولد إلى أخوته على نقله إلى الولد إذا كان موجودين فيكون منع الاخوة مع الولد مستفادا من التقييد وإعطاء الولد مستفادا من تنبيه الخطاب وفحواه
وإيضاح ذلك أن اعطاء نصيب الميت لذوى طبقته دون سائر أهل الوقف ودون تخصيص الأقرب إلى الميت دليل على أنه جعل سبب الاختصاص القرب إلى الميت لا القرب إلى الواقف ولا مطلق الاستحقاق ومعلوم
____________________
(31/146)
أن الولد عند وجودهم أقرب إلى الميت فيكون سبب استحقاقهم أوكد فيكون ذلك دليلا على أن الواقف قصد اعطاءهم وسنذكر إن شاء الله ما يرد على هذا
الوجه الرابع إن الضمير يجب عوده إلى جميع ما تقدم ذكره فان تعذر عوده إلى الجميع أعيد إلى أقرب المذكورين أو إلى ما يدل دليل على تعيينه فأما اختصاصه ببعض المذكور من غير موجب فمن باب التخصيص المخالف للأصل الذى لا يجوز حمل الكلام عليه إلا بدليل وذلك لأن الاسماء المضمرة إضمار الغيبة هي فى الأمر العام موضوعة لما تقدم ذكره من غير أن يكون لها فى نفسها دلالة على جنس أو قدر فلو قال أدخل على بنى هاشم ثم بنى المطلب ثم سائر قريش وأكرمهم وأجلسهم ونحو هذا الكلام لكان الضمير عائدا إلى ما تقدم ذكره وليس هذا من باب اختلاف الناس فى الاستثناء المتعقب جملا هل يعود إلى جميعها أو إلى أقربها لأن الخلاف هناك إنما نشأ لأن الاستثناء يرفع بعض ما دخل فى اللفظ فقال من قصره على الجملة الأخيرة إن المقتضى للدخول فى الجمل السابقة قائم والمخرج مشكوك فيه فلا يزال عن المقتضى بالشك وهذا المعنى غير موجود فى الضمير فان الضمير اسم موضوع لما تقدم ذكره وهو صالح للعموم على سبيل الجمع فانه يجب حمله على العموم إذا لم يقم مخصص وعلى هذا فحمل الضمير على العموم حقيقة فيه وحمله على الخصوص مثل تخصيص اللفظ العام
____________________
(31/147)
الوجه الخامس أنه إذا قال وقفت على أولادى ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم على أنه من توفى منهم عن ولد أو عن غير ولد فان إعادة الضمير إلى الطبقة الثالثة ترجيح من غير مرجح والظاهر بل المقطوع به من حال العاقل أنه لا يفعل ذلك فان العاقل لا يفرق بين المتماثلات من غير سبب فاما أن يكون مقصوده اعطاء الأقرب إليه فالأقرب فى جميع الطبقات إذا نقل نصيب الميت إلى ابنه فى جميع الطبقات إما كونه فى بعض الطبقات يخص الاقربين إليه وفى بعضها ينقل النصيب إلى ولد الميت أو إلى ذوى طبقته فما يكاد عاقل يقصد هذا وإذا دار حمل اللفظ بين ما الظاهر إرادته وبين ما الظاهر عدم إرادته كان حمله على ما ظهرت إرادته هو الواجب فان اللفظ إنما يعمل به لكونه دليلا على المقصود فاذا كان فى نفسه محتملا وقد ترجح أحد الاحتمالين تعين الصرف إليه فاذا انضم إلى ذلك أنه تخصيص للعموم ببعض الافراد التى نسبتها ونسبة غيرها إلى غرض الواقف سواء كان كالقاطع فى العموم
)
الوجه السادس أن هذه الصفة فى معنى الشرط والشرط المتعقب جملا يعود إلى جميعها باتفاق الفقهاء ولا عبرة فى هذا المقام بمن خالف ذلك من بعض المتأخرين فان الفقهاء قد نصوا أن رجلا لو قال والله لأفعلن كذا ولأفعلن كذا إن شاء الله أن كلا الفعلين يكون معلقا
____________________
(31/148)
بالمشيئة وكذلك لو قال لأضربن زيدا ثم عمرا ثم بكرا إن شاء الله وكذلك لو قال الطلاق يلزمه ليفعلن كذا وعبده حر ليفعلن كذا أو امرأته كظهر أمه ليفعلن كذا إن شاء الله وإنما اختلفوا فى الاستثناء المخصص لا فى الاستثناء المعلق وهذا من باب الاستثناء المعلق مثل الشروط لأوجه
أحدها أن الاستثناء بالا ونحوها متعلق بالأسماء لا بالكلام والاستثناء بحروف الجزاء متعلق بالكلام وقوله على أنه ونحوه متعلق بالكلام فهو بحروف الجزاء أشبه منه بحروف الاستثناء إلا وأخواتها وذلك أن قوله وقفت على أولادى إلا زيدا الاستثناء فيه متعلق بأولادى وقوله وقفت على أولادى إن كانوا فقراء الشرط فيه متعلق بقوله وقفت وهو الكلام وهو المعنى المركب وكذلك قوله على أن يكونوا فقراء حرف الاستعلاء معلق لمعنى الكلام وهو وقفت وهذا قاطع لمن تدبره
الثانى أن هذا بيان لشروط الوقف التى يقف الاستحقاق عليها ليس المقصود بها إخراج بعض ما دخل فى اللفظ فهي شروط معنوية
الثالث أن قوله من مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لمن فى درجته جملة شرطية جزائية مجعولة خبر أن المفتوحة وإسم أن ضمير
____________________
(31/149)
الشأن وان وما فى خبرها فى تأويل المصدر فيصير التقدير وقفت على هذا
الرابع أن حرف ( على ( للاستعلاء فاذا قال الرجل وقفت على أنه يكون كذا أو بعتك على أن ترهننى كان المعنى وقفت وقفا مستعليا على هذا الشرط فيكون الشرط اساسا وأصلا لما على عليه وصار فوقه والأصل متقدم على الفرع وهذا خاصية الشرط ولهذا فرق من فرق بين الشرط والاستثناء بأن الشرط منزلته التقدم على المشروط فاذا أخر لفظا كان كالمتصدر فى الكلام ولو تصدر فى الكلام تعلقت به جميع الجمل فكذلك إذا تأخر فلو قال وقفت على أولادى ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء كان بمنزلة قوله على أن يكونوا فقراء وأحد اللفظين موجب لعود الضمير إلى جميع الطبقات فكذلك الآخر
وأعلم أن هذه الدلائل توجب أن الضمير يعود إلى جميع الطبقات فى هذه المسألة عند القائلين بأن الاستثناء المتعقب جملا يعود إلى جميعها والقائلين بأنه يعود إلى الأخيرة منها كما اتفقوا على مثل ذلك فى الشرط
الوجه السابع أن هذا السؤال فاسد على مذهب الشافعى خصوصا وعلى مذهب غيره أيضا وذلك أن الرجل لو قال لامرأته
____________________
(31/150)
أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار فانه لا يقع بها طلاق حتى تدخل الدار فطلق حينئذ ثلاثا إن كانت مدخولا بها أو واحدة إن كانت غير مدخول بها هذا قول أبى يوسف ومحمد وقيل عن أبى يوسف ومحمد تطلق غير المدخول بها ثلاثا كالواو عندهما وهو مذهب الشافعى وأقوى الوجهين فى مذهب أحمد وقال أبو حنيفة والقاضى أبو يعلى من أصحاب أحمد وطائفة معه بل تتعلق بالشرط الجملة الأخيرة فقط فان كانت مدخولا بها تنجز طلقتان وتعلق بالشرط واحدة وان كانت غير مدخول بها تنجزت طلقة بانت بها فلم يصح ايقاع الآخرتين لا تنجيزا ولا تعليقا 3 قالوا لأن ثم للترتيب مع التراخى فيصير كانه قال أنت طالق ثم سكت ثم قال أنت طالق إن دخلت الدار
3 وأما الأولون فقالوا ( ثم ( حرف عطف يقتضى التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه كالواو لكن الواو تقتضى مطلق الجمع والتشريك من غير دلالة على تقدم أو تأخر أو مقارنة وثم تقتضى التشريك مع التأخر وافتراقهما فى المعنى لا يوجب افتراقهما فى نفس التشريك وأما كونها للتراخى فعنه جوابان
أحدهما أن مقتضاها مطلق الترتيب فيعطف بها المتعقب والمتراخى
____________________
(31/151)
لكن لما كان للمتعقب حرف يخصه وهو الفاء صارت ( ثم ) علامة على المعنى الذى أنفردت به وهو التراخى والا فلو قال لمدخول بها أنت طالق ثم طالق أو أنت طالق فطالق لم يكن بين هذين الكلامين فرق هنا
الثانى أن ما فيها من التراخى إنما هو فى المعنى لا فى اللفظ فاذا قال الرجل جاء زيد ثم عمرو فهذا كلام متصل بعضه ببعض لا يجوز أن يقال هو بمنزلة من سكت ثم قال عمرو فمن قال أن قوله أنت طالق ثم طالق بمنزلة من سكت ثم قال طالق فقد أخطأ وإنما غايته أن يكون بمنزلة من قال أنت طالق طلاقا يتراخى عنه طلاق آخر وهذا لا يمنع من تعلق الجميع بالشرط تقدم أو تأخر
فإذا كان من مذهب الشافعي وهؤلاء أن قوله أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار بمنزلة قوله أنت طالق فطالق فطالق إن دخلت الدار وقوله أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار فى المدخول بها وكذلك قوله أنتن طوالق ثم أنتن طوالق إن دخلتن الدار وإن الشرط تعلق بالجميع فكيف يجوز أن ينسب إلى مذهبه أن العطف بما يقتضى الترتيب يوجب الصرف إلى من يليه الشرط دون السابقين وهلا قيل هنا إذا ثبت وقوع الطلاق نصا باللفظين الأولين ولم يثبت ما يغيره وجب
____________________
(31/152)
تقرير الطلاق الواقع بل مسألة الطلاق أولى بقصر الشرط على الجملة الأخيرة لأن إحدى الطلقتين ليس لها تعلق بالأخرى من حيث الوجود بل يمكن ايقاعهما معا بخلاف ولد الولد فانهم لا يوجدون الامتعاقبين فالحاجة هنا داعية إلى الترتيب مالا تدعو إليه فى الطلاق
وأيضا فان جواز تعقيب البيع والوقف ونحوهما بالشروط متفق عليه بخلاف الطلاق فان مذهب شريح وطائفة معه وهى رواية مرجوحة عن أحمد ان الطلاق لا يصح تعليقه بشرط متأخر كما ذهب بعض الفقهاء من أصحاب وغيرهم إلى أنه لا يصح الاستثناء من الطلاق فاذا كانوا قد أعادوا الشرط إلى جميع الجمل المرتبة بثم فالقول بذلك فى غيرها أولى
وهذا الكلام لمن تدبره يجتث قاعدة من نسب إلى مذهب الشافعي ما يخالف هذا فان قيل فقد قال به بعض الفقهاء من الحنفية والحنبلية فهؤلاء يقولون به هنا قلنا قد اسلفنا فيما مضى ان الضمير عائد إلى الجميع على أصول الجميع لدليل دل على الرجوع من جهة كون الضمير حقيقة
____________________
(31/153)
فى جميع ما تقدم وان هذا هو المفهوم من الكلام ثم الذى يقول بهذا يفرق بين هذا وبين الطلاق من وجوه
أحدها أن الشرط فى الطلاق متعلق بالفعل الذى هو وتلك الأسماء المعطوفة بعضها على بعض كلها داخلة فى حيز هذا الفعل وهى من جهة المعنى مفاعيل له بمنزلة الشرط فى القسم فانه اذا قال والله لأفلعن كذا وكذا ثم كذا إن شاء الله كان الشرط متعلقا بالفعل فى جواب القسم والمفاعيل داخله فى مستثناه وتناول الفعل لمفاعيله على حد واحد فاذا كان قد قيد تناوله لها بقيد تقيد تناوله للجميع بذلك القيد بخلاف قوله أنت طالق ثم طالق إن شاء زيد فان المتعلق بالشرط هنا اسم الفاعل لا نفس المبتدأ والخبر الثانى ليس بداخل فى خبر الخبر الآخر بل كلاهما داخل فى خبر المبتدأ فلهذا خرج هنا خلاف وهذا فرق بين لمن تأمله
الوجه الثانى ان الشرط فى الطلاق وهو قوله إن دخلت الدار ليس فيه ما يوجب تعلقه بجميع الجمل بخلاف قوله على انه من مات منهم فان الضمير يقتضى العود إلى جميع المذكور
الثالث ان إحدى الجملتين فى الطلاق لا تعلق لها بالأخرى فإن
____________________
(31/154)
الطلقة تقع مع وجود الأولى وعدمها فاذا علقت بالشرط لم تستلزم تعليق الأولى لا نفصالها عنها وقد اعتقدوا أن ( ثم ) بمنزلة التراخى فى اللفظ فيزول التعلق اللفظى والمعنوي فتبقى الجملة الاولى أجنبية عن الشرط على قولهم وأما قوله ثم على أولادهم فانه متعلق بالجملة الأولى من جهة الضمير ومن جهة الوجود ومن جهة الاستحقاق فلا يصح اللفظ بهذه الجملة إلا بعد الأولى ولا وجود لمعناها إلا بعد الأولى ولا استحقاق لهم إلا بعد الأولى سواء قدر التراخى فى اللفظ او لم يقدر فلا يمكن أن تجعل الاولى أجنبية عن الثانية حتى تعلق الثانية وحدها بالشرط
والذى تحقق ان النزاع انما هو فى الطلاق فقط انه لو قال والله لأضربن زيدا ثم عمرا ثم بكرا ان شاء الله عاد استثناء إلى الجميع فقوله وقفت على أولادى ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء أبلغ من قوله ان شاء الله من حيث أن هنا تعلق الضمير
الوجه الثامن ان هذا الفرق الذى ذكره بعض الفقهاء بين العطف بالحرف المرتب والحرف الجامع انما ذكره فى الاستثناء ثم قال وكذلك القول فى الصفة والصفة إذا أطلقت فكثيرا ما يراد بها الصفة الصناعية النحوية وهو الاسم التابع لما قبله فى إعرابه مثل أن تقول
____________________
(31/155)
وقفت على أولادى ثم على الفقراء العدول فان اختصاص الجملة هنا بالصفة الآخرة قريب ومسئلتنا شروط حكمية وهى إلى الشروط اللفظية أقرب منها إلى الاستثناء وإن سميت صفات من جهة المعنى
والدليل على انه قصد هذا أنه قال وإن كان العطف بالواو ولا فاصل فمذهب الشافعى رجوع الاستثناء إلى الجميع وكذلك القول فى الصفة فعلم انه قصد أن هذا مذهب الشافعى مشيرا إلى خلاف أبى حنيفة فانه إنما يعيد ذلك إلى الجملة الأخيرة وهذا إنما يقوله أبو حنيفة فى الاستثناء والصفات التابعة لا يقوله فى الشروط والصفات التى تجرى مجرى الشروط فصار هنا أربعة أقسام
أحدها الاستثناء بحرف ( إلا ) المتعقب جملا والخلاف فيه مشهور
الثانى الاستثناء بحروف الشرط فالاستثناء هنا عائد إلى الجميع
الثالث الصفات التابعة للاسم الموصوف بها وما أشبهها وعطف البيان فهذه توابع مخصصة للأسماء المتقدمة فهي بمنزلة الاستثناء
الرابع الشروط المعنوية بحرف الجر مثل قوله على أنه أو تشرط أن يفعل أو بحروف العطف مثل قوله ومن شرطه كذا
____________________
(31/156)
ونحو ذلك فهذه مثل الاستثناء بحروف الجزاء والضابط أن كل ما كان من تمام الاسم فهو من جنس الاستثناء بالا وكلما كان متعلقا بنفس الكلام وهو النسبة الحكمية التى بين المبتدأ والخبر وبين الفعل والفاعل فهو فى معنى الاستثناء بحرف الشرط ومعلوم أن حروف الجر وحروف الشرط المتأخرة إنما تتعلق بنفس الفعل المتقدم وهو قوله وقفت وهو الكلام والجملة والاستثناء والبدل والصفة النحوية وعطف البيان متعلق بنفس الأسماء التى هي مفاعيل هذا الفعل
ويجوز كلام من فرق على جمل أجنبيات مثل أن تقول وقفت على أولادى ثم على ولد فلان ثم على المساكين على أنه لا يعطى منهم إلا صاحب عيال ففى مثل هذا قد يقوى اختصاص الشرط بالجملة الأخيرة لكونها أجنبية من الجملة الأولى ليست من جنسها بخلاف الأولاد وأولاد الأولاد فانهم من جنس واحد
وحمل الكلام على أحد هذين المعنيين او نحوهما متعين مع ما ذكرنا من دليل إرادة ذلك على أنه لو كان فيه تخصيص لكلامه فانه واجب لما ذكرناه فانه إذا كان قد جاء إلى كلام الأئمة الذين قالوا الاستثناء أو الصفة إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض عاد إلى جميع الجمل فخص ذلك ببعض حروف العطف لما رآه من الدليل فلأن نخص نحن كلامه بما ذكرناه من نصوص كلامهم
____________________
(31/157)
الموجب للتسوية بين الواو وثم بطريق الأولى فان سلم ان كلامه محمول على ما ذكرناه وإلا تكلمنا معه ب ( الوجه التاسع ) )
وهو أن هذا الفرق المدعى بين الحرف الجامع جمعا مطلقا والحرف المرتب فرق لا أصل له فى اللغة ولا فى العرف ولا فى كلام الفقهاء ولا فى كلام الأصوليين ولا فى الأحكام الشرعية والدليل المذكور على صحته فاسد فيجب أن يكون فاسدا
أما الاول فان أهل اللغة قالوا حروف العطف هي التى تشرك بين ما قبلها وما بعدها فى الاعراب وهى نوعان نوع يشرك بينهما فى المعنى أيضا وهى الواو والفاء وثم فأما الواو فتدل على مطلق التشريك والجمع إلا عند من يقول إنها للترتيب وأما ( ثم ) فانها تدل على مطلق الترتيب وقد يقال إنها للتراخى وأما الفاء فانها تدل على نوع من الترتيب وهو التعقيب فهذه الحروف لا يخالف بعضها بعضا فى نفس اجتماع المعطوف والمعطوف عليه فى المعنى واشتراكهما فيه وإنما تفترق فى زمان الاجتماع
فلو قيل إن العطف بالواو يقتضى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما يلحق الجمل من استثناء ونعت ونحو ذلك والعطف بثم لا يقتضى اشتراكهما فى هذه اللواحق للزم من ذلك أن لا تكون ثم
____________________
(31/158)
مشتركة حيث تكون الواو مشتركة ومعلوم أن هذا مخالف لما عليه أهل اللغة بل هو خلاف المعلوم من لغة العرب والاحكام اللغوية التى هي دلالات الالفاظ تستفاد من استعمال أهل اللغة والنقل عنهم فاذا كان النقل والاستعمال قد اقتضيا أنهما للاشتراك فى المعنى كان دعوى انفراد احدهما بالتشريك دون الآخر خروجا عن لغة العرب وعن المنقول عنهم
وأما العرف فقد أسلفنا ان الناس لا يفهمون من مثل هذا الكلام إلا عود الشرط إلى الجميع والعلم بهذا من عرف الناس ضرورى وأما كلام العلماء من الفقهاء والأصوليين فانهم تكلموا فى الاستثناء المتعقب جملا فقال قوم أنه يعود إلى جميعها وقال قوم يعود إلى الاخيرة منها وقال قوم ان كان بين الجملتين تعلق عاد الاستثناء إلى جميعها وان كانتا أجنبيتين عاد إلى الأخيرة ثم فصلوا الجمل المتعلق بعضها ببعض من الأجنبية وذكروا عدة أنواع من التفصيل وقال قوم العطف مشترك بين الجميع وقال قوم بالوقف فى جميع هذه المذاهب ثم ليس أحد من هؤلاء فرق بين العطف بالواو والفاء او ثم بل قولهم المعطوف بعضها على بعض يعم الجميع
وكذلك الفقهاء ذكروا هذا فى ( باب الايمان ) و ( باب الوقف ) ثم بنوه على أصلهم فقالوا الاستثناء أو الوصف إذا تعقب جملا عاد
____________________
(31/159)
إلى جميعها أو إلى بعضها وقد اعترف من فصل بأن الأئمة أطلقوا هذا الكلام وأنه هو الذى فصل فلا يجوز أن ينسب إلى الأئمة إلا ما قالوه
وأما الأحكام فانه لو قال والله لأضربن زيدا ثم عمرا ثم بكرا ان شاء الله عاد الاستثناء إلى الجميع وكذلك لو قال الطلاق يلزمنى لأضربن هذا ثم هذا ثم هذا أو قال لآخذن المدية لأذبحن الشاة لأطبخنها إلى غير ذلك من الصور
وأما ما أستدل به فانه قال إذا كان العطف بما يقتضى ترتيبها فالصرف إلى جميع المتقدمين فيه بعض النظر والغموض فان انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به وانعطافه على جميع السابقين والعطف بالحرف المرتب محتمل غير مقطوع به واذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا ولم يثبت ما يغيره وجب تقرير الاستحقاق ولم يجز تغييره لمحتمل متردد فنقول الجواب من وجوه )
أحدها أن هذا بعينه موجود فى العطف بالواو فان انعطافه على جميع السابقين محتمل غير مقطوع سواء كان العطف بحرف مرتب أو مشترك غير مرتب وهذا بعينه دليل من أوجب قصر الاستثناء على الجملة الأخيرة
____________________
(31/160)
فإن قال قد ثبت العموم فى الجمل المتقدمة فلا يجوز تخصيصه بمحتمل متردد وليس غرضنا هنا افساد هذا الدليل بل نقول موجب هذا الدليل اختصاص التوابع بالجملة الأخيرة مطلقا أما التفريق بين عاطف وعاطف فليس فى هذا الدليل ما يقتضيه أصلا وأى فرق عند العقلاء بين أن يقول وقفت على أولادى وعلى المساكين إلا ان يكونوا فساقا نعم صاحب هذا القول ربما قوى عنده اختصاص الإستثناء بالجملة الآخرة وهاب مخالفة الشافعى فغاظ ما عنده من الرجحان مع أنا قد بينا أن مسألتنا ليست من موارد الخلاف وإنما الخلاف فى الإستثناء أو الصفة الاعرابية فأما الشرط والصفة الشرطية فلا خلاف فيهما بين الفقهاء
وبالجملة من سلم ان الجمل المعطوفة بالواو يعود الإستثناء إلى جميعها كان ذكره لهذا الدليل مبطلا لما سلمه فلا يقبل منه فإن تسليم الحكم مستلزم تسليم بطلان ما يدل على نقيضه فلا يقبل منه دليل يدل على عدم عود الإستثناء إلى الجميع
الوجه الثانى أن قوله انصراف الإستثناء إلى الذين يليهم الإستثناء مقطوع به فمنوع بل يجوز أن يعود الإستثناء إلى الجملة الأولى فقط إذا دل على ذلك دليل ويجوز للمتكلم أن ينوى ذلك ويقصده وإن
____________________
(31/161)
كان حالفا مظلوما فإنه لو قال قاتل أهل الكتاب وعادهم وأبغضهم إلا ان يعطوا الجزية كان الإستثناء عائدا إلى الجملة الأولى فقط وقد قال سبحانه { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة } وهذا الإستثناء فى الظاهر عائد إلى الجملة الأولى وقال سبحانه { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } إلى قوله إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وليس هذا مستثنى مما يليه بل من أول الكلام
وقد قال جماعة من أهل العلم فى قوله ( لا تبعتم الشيطان إلا قليلا ( إن ( قليلا ( عائد إلى قوله ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ( إلا قليلا ( وهذا الإستثناء عائد إلى جملة بينها وبين الإستثناء جمل أخرى ( والمقدم فى القرآن والمؤخر ( باب من العلم وقد صنف فيه العلماء منهم الإمام أحمد وغيره وهو متضمن هذا وشبهه أن يكون الإستثناء مؤخرا فى اللفظ مقدما فى النية
ثم التقديم والتأخير فى لغة العرب والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة معترضة وبين غيرهما لا ينكره إلا من لم يعرف اللغة وقد قال سبحانه { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم }
____________________
(31/162)
فقوله { أن يؤتى } من تمام قول أهل الكتاب أى كراهة أن يؤتى فهو مفعول تؤمنوا وقد فصل بينهما بقوله { قل إن الهدى هدى الله } وهى جملة أجنبية ليست من كلام أهل الكتاب فأيما أبلغ الفصل بين الفعل والمفعول أو بين المستثنى والمستثنى منه وإذا لم يكن عود الاستثناء إلى الأخيرة مقطوعا به لم يجب عود الإستثناء إليها بل ربما كان فى سياقه ما يقتضى أن عوده إلى الأولى أوكد ومسألتنا من هذا الباب كما تقدم
الثالث قوله إذا ثبت الإستحقاق بلفظ الواقف نصا ولم يثبت ما يغيره وجب تقرير الإستحقاق
قلنا أولا مسألتنا ليست من هذا الباب فان قوله على أولاده ثم على أولادهم ليس نصا فى ترتيب الطبقة على الطبقة فانه صالح لترتيب الأفراد على الأفراد لكن هذا يجب فى خصوص مسألتنا مع من يريد ان يدخلها تحت عموم هذا الكلام ثم من يقول من راس لا نسلم ثبوت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا فى شيء من الصور التى يعقبها استثناء أو شرط فان اللفظ انما يكون نصا إذا لم يتصل بما يغيره والتغيير محتمل فشرط كونه نصا مشكوك فيه ومتى كان شرط
____________________
(31/163)
الحكم مشكوكا فيه لم يثبت فانه لا نص مع احتمال التغيير لا سيما مثل هذا الاحتمال القوى الذى هو عند اكثر العلماء راجح فان قال المقتضى لدخولهم قائم والمانع من خروجهم مشكوك فيه قلت على قول من يمنع تخصيص العلة لا اسلم قيام المقتضى لدخولهم
فإن المقتضى لدخولهم هو اللفظ الذى لم يوصل به ما يخرجهم فلا أعلم أن هذا اللفظ لم يوصل به ما يخرجهم حتى أعلم ان هذا الاستثناء لا يخرجهم وهذا الشرط مشكوك فيه وأما على قول من يقول بتخصيصها فأسلم قيام المقتضى لكن شرط اقتضائه عدم المانع المعارض وهنا ما يصلح أن يكون مانعا معارضا فما لم يقم دليل يبقى صلاحه للمعارضة وإلا لم يعمل المقتضى عمله والصلاح للمعارضة لا مزية فيه
وهذا البحث بعينه وهو بحث القائلين بعود الاستثناء إلى جميع الجمل مع القاصرين على الجملة الأخيرة ثم يقول من راس اذا قال مثلا وقفت على أولادى ثم على الفقراء الا الفساق المنازع يقول ولدى نص فى أولاده والفساق يجوز ان يختص بالفقراء
فنقول له هذا معارض بمثله فإن الفساق نص فى جميع الفساق فانه اسم جمع معرف باللام واذا كان عاما وجب شموله لكل فاسق فدعوى اختصاصه بفساق الفقراء دون الأولاد يحتاج إلى مخصص
____________________
(31/164)
فليست المحافظة على عموم الأولاد لعدم العلم بالتخصيص بأولى من المحافظة على عموم الفساق لعدم العلم بالمخصص بل الراجح اخراجهم لأسباب
أحدها ان الأصل عدم دخولهم فى الوقف وقد تعارض عمومان فى دخولهم وخروجهم فيسلم النافى لدخولهم عن معارض راجح
الثانى انا قد تيقنا خروجهم من احدى الجملتين فكان احدى العمومين المعطوفين مخصوصا فإلحاق شريكه فى التخصيص اولى من ادخال التخصيص على ما ليس بشريكه
الثالث ان المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الجملة الواحدة فاذا ورد التخصيص عليها ضعفت بخلاف عموم المستثنى فانه لم يرد عليه تخصيص
الرابع كون الفسق مانعا يقتضى رجحانه عند الواقف على المقتضى للاعطاء فاذا تيقنا رجحانه فى موضع كان ترجيحه فى موضع آخر أولى من ترجيح ما لم يعرف رجحانه بحال
الخامس ان قوله نص الواقف ان عنى به ظاهر لفظه فعود الاستثناء إلى جميع الجمل ظاهر لفظه ايضا عند هذا القول فلا فرق بينهما وان عنى به النص الذى لا يحتمل الا معنى واحدا فمعلوم ان
____________________
(31/165)
كل لفظ يقبل الاستثناء فلابد أن يكون إما عددا أو عموما والعمومات ظواهر ليست نصوصا )
السادس قوله لا يجوز تغييره بمحتمل متردد نقول بموجبه فان عود الاستثناء عندنا إلى جميع الجمل ليس بمحتمل متردد بل هو نص ايضا بالتفسير الأول والدليل على ذلك غلبته على الاستعمال قال تعالى { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } إلى قوله { ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب } وهو عائد إلى قوله { يلق } و { يضاعف } { ويخلد } وقال سبحانه { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } وقال تعالى { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } وقال تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } إلى قوله { ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } فهذا استثناء قد تعقب عدة جمل
فإن معنى الجملة فى هذا الباب هو اللفظ الذى يصح اخراج بعضه وهو الاسم العام أو اسم العدد ليس معناه الجملة التى هي الكلام
____________________
(31/166)
المركب من اسمين او اسم وفعل او اسم وحرف وقد ثبت بما روى عن الصحابة أن قوله { إلا الذين تابوا } فى آية القذف عائد إلى الجملتين وقال النبى ( لا يؤمن الرجل الرجل فى سلطانه ولا يجلس على تكرمته الا باذنه ) وقال النبى لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأسود على أبيض ( ولا لأبيض على أسود الا بالتقوى ) وهذا كثير فى الكتاب والسنة بل من تأمل غالب الاستثناءات الموجودة فى الكتاب والسنة التى تعقبت جملا وجدها عائدة إلى الجميع هذا فى الاستثناء فاما فى الشروط والصفات فلا يكاد يحصيها الا الله
وإذا كان الغالب على الكتاب والسنة وكلام العرب عود الاستثناء إلى جميع الجمل فالأصل الحاق الفرد بالأعم الأغلب لأن الاستثناء اما ان يكون موضوعا لهما حقيقة فالاصل عدم الاشتراك او يكون موضوعا للاقل فقط فيلزم ان يكون استعماله فى الباقى مجازا والمجاز على خلاف الاصل فكثرته على خلاف الأصل فاذا جعل حقيقة فيما غلب على استعماله فيه مجازا فيما قل استعماله فيه كنا قد عملنا بالاصل النافى للاشتراك وبالأصل النافى للمجاز فى صور التفاوت وهو أولى من تركه مطلقا
____________________
(31/167)
)
وإذا ثبت أن عود الاستثناء إلى جميع الجمل نص بمعنى انه ظاهر اللفظ فهو المطلوب وليس الغرض هنا تقرير هذه المسألة وانما الغرض التنبيه على مواضع المنع
وهذا البحث الذى ذكره وارد فى كل تخصيص متصل فانه ليس المحافظة على عموم المخصوص بأولى من المحافظة على عموم المخصص بل هذا أولى لأنه عام باق على عمومه ولأن ذكر التخصيص عقب كل جملة مستقبح فلو قال وقفت على أولادى على أنه من مات منهم عن ولد أو عن غير ولد كان نصيبه لولده أو لذوى طبقته ثم على ولد ولدى على هذا الشرط ثم على ولد ولد ولدى على هذا الشرط لعد هذا من الكلام الذى غيره أفصح منه وأحسن
ثم يقال لمن نازعنا ومعلوم قطعا ان عامة الواقفين يقصدون الاشتراط فى جميع الطبقات ولا يعبرون بهذه العبارة المستغربة بل يقتصرون على ما ذكره أولا فلولا ان ذلك كاف فى تبليغ ما فى نفوسهم لما اقتصروا عليه والله يشهد وكفى بالله شهيدا انا نتيقن ان الكلام فى مسألتنا يقينى وانه ليس من مسالك المظنون لكن فى قدرة الله سبحانه ان يجعل اليقين عند قوم جهلا عند آخرين ويعد الكلام على هذا تكلفا ولولا أن الحاجة مست إلى ذلك بظن من يظن ان لمن ينازع فى هذه المسألة متعلقا او انها مسألة من مسائل الاجتهاد ( لما اطلنا هذه الاطالة
____________________
(31/168)
فإن قيل الذى يرجح عود الضمير إلى الجملة الأخيرة هنا ان الجملة الأخيرة عطفت بالواو وعطف عليها بالواو فاقتضى ذلك مخالفتها لحكم الأولى فى الترتيب اذا الوقف ها هنا مشترك بين البطون فلم يبق بينها وبين الأولى من الاحكام إلا مسمى الوقفية على الجميع والكيفية مختلفة فاقتضى ذلك استقلالها بنفسها واختصاصها بما يعقبها فانه اذا تخلل الجمل الفصل بشرط كل جملة أوجب ذلك اختصاص الشرط الأخير وماذاك الا لاختلاف الأحكام حينئذ والاختلاف موجود ها هنا
قيل عنه وجوه
أحدها أن قوله عطفت بالواو وعطف عليها بالواو يقتضى أنها هي لفظ النسل فان كان لفظ النسل والعقب بمعنى واحد فلم يعطف عليها فى المعنى شيء وإن كانا بمعنيين فيجب ان يكون الضمير عائدا إلى الجملة المعطوفة لا المعطوف عليها
الثانى قوله فاقتضى ذلك مخالفتها للأولى فى حكم الترتيب قد تقدم منع ذلك وذكرنا ان من الفقهاء من يجعل هذا الوقف مرتبا إلى يوم القيامة فإن قوله ثم على أولاد أولاده ونسله وعقبه لم يتعرض فيه للترتيب بنفى ولا اثبات لكن لما كان الأصل عدم الترتيب نفيناه عند الانطلاق
____________________
(31/169)
فلما رتب هنا فى كلامه الأول مع العلم بأن العاقل لا يفرق فى مثل هذا بل يكتفى بما ذكره أولا كان إعادة الشرط تسمح ولكن غرضنا هنا تقرير هذا
الثالث ( لو ) سلمنا أنه يوجب الاشتراك بين المعطوف فلا يوجب ذلك اختلافهما فى الحكم الذى اشتركا فيه بحرف العطف فإن غاية ما فى هذا انه جعل البطن الرابع وما بعده طبقة واحدة كما جعل فى البطن الاول ولد الكبير والصغير والولد الكبير والصغير طبقة واحدة ولم يرتب بعضهم على بعض باعتبار الاسنان فقوله فاقتضى ذلك مخالفتها لحكم الاولى فى الترتيب فيه إبهام فانه إن عنى به أن هذه الجملة بالنسبة إلى افرادها مخالفة لتلك الجمل فليس كذلك بل جملة فانها حاوية لأفرادها على سبيل الاشتراك لاعلى سبيل الترتيب وإن عنى به أن هذه الجملة لم يرتب عليها غيرها فالجملة الاولى لم تترتب على غيرها وهذا انما جاء من ضرورة كونها آ خر الجمل وليس ذلك بفرق مؤثر كما لم يكن كون الأولى غير مرتبة فرقا مؤثرا
وإن عنى به أن هذه الجملة مشتملة على طبقات متفاوتة بخلاف الجمل الأولى فذلك فرق لا يعود إلى دلالة اللفظ ولا إلى الحكم المدلول عليه باللفظ مع ان الجمل الاولى قد يحصل فيها من التفاوت اكثر من ذلك فقد يكون أولاد الأولاد عشرين بين الأول والآخر سبعون سنة ويكون للأول
____________________
(31/170)
أولاد قبل وجود اخوته فيموت أولاده وأولاد أولاده وأولاد أولاد أولاده قبل انقراض اخوته وربما لم يكن قد بقى من النسل والعقب الا نفر يسير فينقرضون ثم هذه فروق عادت إلى الموجود لا إلى دلالة اللفظ
الرابع قوله فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام الا مسمى الوقفية قيل ليس بينهما فرق أصلا بل تناول الجملة الأولى لأفرادها كتناول الثانية لأفرادها لكن الجملة الثانية اكثر فى الغالب وهذا غير مؤثر وقوله الكيفية مختلفة ممنوع فان كيفية الوقف على الأولاد مثل كيفية الوقف على النسل والعقب يشترك هؤلاء فيه وهؤلاء فيه
الخامس لو سلم أن بينهما فرقا خارجا عن دلالة اللفظ فذلك لا يقدح فى اشتراكهما فى العطف فان هذا الاختلاف فى الكيفية لو كان صحيحا كان بمنزلة قوله ( كل نفس ذائقة الموت ) فان ذوق الميت يختلف اختلافا متباينا لكن هذا الاختلاف لا دلالة للفظ عليه فلم يمنع من الاشتراك الذى دل عليه العموم
السادس ان الكيفية المختلفة مدلول عليها بالعطف وذلك لا يوجب الاستقلال والاختصاص بما يعقبها كما لو قال وقفت على اولادى الذكور والاناث وأولاد بنى وأولاد أولاد أولادى على انه من توفى منهم
____________________
(31/171)
وإنما الفصل الذى يقطع الثانية عن الأولى أن يفصل بين الجملتين بشرط مثل ان يقول وقفت على أولادى على ان يكونوا فقراء ثم على أولاد أولادى على أن يكونوا عدولا فان الشرط الثانى مختص عما قبله لكون الأول قد عقب بشرطه والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بشرط يفصله عن مشاركة الثانى فى جميع أحكامه بخلاف ما إذا كان الاختلاف من غير فصل لفظى
السابع قوله وماذاك الا لاختلاف الأحكام قلنا لا نسلم بل إنما ذاك لأجل الفصول اللفظية المانعة من الاشتراك فيما ذكر من الاحكام للفظ اما إذا كان الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه لمعنى يرجع إلى لفظ المعطوف فهذا شأن كل معطوف ومعطوف عليه من جنسين وفرق بين أن يفصل بين الجملتين بشرط مذكور وبين ان يكون مفهوم لفظ احدى الجملتين غير مفهوم الأخرى وهذا بين لمن تدبره فإن قيل هنا مرجح ثان وهو ان جعله مختص بالجملة الأخيرة يفيد
ما لم يدل اللفظ عليه وهو منع اشتراك النسل فى نصيب من مات عن غير ولد فانه لولا هذا الشرط لاشتركوا فى جميع حقهم المتلقى عمن فوقهم وعمن مات عن ولد أو غير ولد بخلاف ما اذا عاد إلى جميع
____________________
(31/172)
الجمل فإنه يكون مؤكدا فقط فانا كنا نجعل نصيب الميت عن غير ولد لطبقته
قيل عنه وجوه
أحدها أنا قدمنا ان هذه الفائدة باطلة فان العاقل لا يقول هؤلاء اعلاهم واسفلهم مشتركون فى الوقف فمن مات عن غير ولد اختص بنصيبه اخوته دون ابائه وأعمامه ومن مات عن ولد لم يختص بنصيبه أحد لا ولده ولا غيره فان هذا لم يفعله احد ولا يفعله من يستحضره فانه بمنزلة ( من يقول ) أعطوا البعيد منى ومن الميت واحرموا القريب منى ومن الميت وقول القائل يقصد مثل هذا فى العادات فما علمنا أحدا قصد هذا
الثانى انا قد منعنا كون هذا مقتضاه التشريك فتبطل الفائدة
الثالث ان فى عوده إلى جميع الجمل فوائد
أحدها أنه يدل بنطقه على نقل نصيب الميت عن غير ولد إلى ذوى طبقته وتنبيهه الذى هو اقوى من النطق على نقل نصيب المتوفى عن ولد إلى ولده كما تقدم ذكره
____________________
(31/173)
الفائدة الثانية ان قوله على أولاده ثم أولاد أولاده إلى قوله دائما ما تناسلوا وأبدا ما تعاقبوا يقتضى استحقاق ذريته للوقف فاذا مات الميت وليس له إلا ذوى طبقته وأولاد أولاده أفاد الشرط إخراج الطبقة فيبقى الأولاد داخلين فى اللفظ الاول مع الثانى فمجموع قوله على أولادى ثم أولاد أولادى مع قوله على ان نصيب الميت عن غير ولد ينتقل إلى اخوته دلنا على ان نصيب الميت عن ولد ينتقل إلى ولده لأنهم فى عموم قوله أولاد أولادى ودخلت الطبقة فى العموم فلما خرجت الطبقة بالشرط بقى ولد الولد وهكذا كل لفظ عام لنوعين أخرج أحدهما فإنه يتعين الآخر وهذه دلالة ثانية على انتقال نصيب الميت عن ولد إلى ولده من جهة اللفظ العام الذى لم يبق فيه إلا هم وهى غير دلالة التنبيه
وإن شئت عبرت عن ذلك بأن تقول نصيب الميت اما للأولاد أو لأولاد الأولاد كما دل على انحصار الوقف فيهما قوله على أولادى ثم على أولادهم فكما منع الأولاد ان ينتقل اليهم نصيب الميت عن ولد تعين ان يكون للنوع الآخر يبقى ان يقال فقد يكون هناك من ليس من الطبقة ولا من الولد قلنا
إذا ظهرت الفائدة فى بعض الصور حصل المقصود وهى صورة مسألتنا فانا لم نتكلم إلا فى نصيب الميت هل يصرف إلى إخوته أو ولده
____________________
(31/174)
أما لو كان للميت عم مثلا فنقول حرمان طبقة الميت تنبيه على حرمان من هم ابعد عنه فان طبقته لم يحرمهم لبعدهم من الوقف فان الولد ابعد منهم وقد بينا ان ذلك يقتضى اعطاء الولد فى اكثر الصور فعلم انه حرمهم لبعدهم عن الميت وهذا المعنى فى أعمام الميت أقوى فيكونون بالمنع مع الولد احرى
الفائدة الثالثة انه دليل على انه قصد ترتيب الأفراد على الأفراد لا ترتيب المجموع على المجموع كما لو قال على انه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده
فإن قيل هذا حمل اللفظ الواحد على مفهومين مختلفين فان فائدته فى الاول بيان ترتيب الأفراد على الأفراد وفى الثانى بيان اختصاص الطبقة بنصيب المتوفى فمن منع من ان يراد باللفظ الواحد حقيقتان او مجازان او حقيقة ومجاز يمنع منه ومن جوزه قلنا على هذا التقدير اذا ثبت أمر بلفظ الواقف نصا لم يجز تغييره بمحتمل متردد قيل هذا السؤال ضعيف جدا لوجوه
أحدها ان مورده جعله مقررا لوجه ثان فى بيان عود الضمير إلى الجملة الأخيرة غير ما ذكر أولا من عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ثم انه فى آخر الأمر على قول المجوزين لأن يراد باللفظ الواحد معنياه اعتمد على ذلك الجواب فما صار وجها آخر
____________________
(31/175)
الثانى أنا نقول هذا مبنى على أن الشرط افاد فى الطبقة الأخيرة عدد نصيب المتوفى عن غير ولد إلى ذوى طبقته والمتوفى عن ولد يشترك فيه جميع الطبقة وهذا ممنوع من وجهين تقدما
الثالث لو سلمنا ذلك فليس هذا من باب استعمال اللفظ فى معنيين مختلفين إنما هو من باب استعمال اللفظ الواحد فى معنى واحد وذلك معدود من الألفاظ المتواطئة وذلك ان فائدة اللفظ بمنطوقه نقل نصيب المتوفى عن غير ولد إلى طبقته وهذه فائدة متجددة فى جميع الجمل ثم إن تقيد الانتقال إلى الطبقة بوجود الولد دليل على انه عنا ترتيب الأفراد وهذه دلالة لزومية واللفظ اذا دل بالمطابقة على معنى وبالالتزام على معنى آخر لم يكن هذا من القسم المختلف فيه كعامة الألفاظ فان كونه دليلا على ترتيب الأفراد إنما جاء من جهة أنه شرط فى استحقاق الطبقة نصيب المتوفى عدم ولده ثم علم بالعقل انه لو قصد ترتيب المجموع لم يشرطه بهذا الشرط فان ترتيب المجموع واشتراط هذا الشرط متنافيان وكون هذين المعنيين يتنافيان قضية عقلية فهمت بعد تصور كل واحد من المعنيين لان احد اللفظين دل عليهما بالوضع وهذا كما فهموا من قوله ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) مع قوله تعالى ( يرضعن اولادهن حولين كاملين ) أن أقل الحمل ستة أشهر ونظائره كثيرة
____________________
(31/176)
الرابع لو فرض أن هذا من ( باب استعمال اللفظ الواحد فى معنييه ) فلا نسلم أن منع ذلك هو الحق بل ليس ذلك مذهب احد من الأئمة المعتبرين وإنما هو قول طائفة من المتكلمين والذى يدل عليه كلام عامة الصحابة والتابعين وعامة الفقهاء وعامة أهل اللغة وأكثر المتكلمين جواز ذلك فلم لا يجوز أن يحمل كلامه على ما يعتقد هو صحته ويناظر عليه
الخامس أن ما ادعوه من أن النص لا يدفع بمحتمل تقدم جوابه وبينا أنه لا نص هنا بل يدفع المحتمل بالنص وذكرنا أن هذا البحث هو المنصوص عن الأئمة الكبار
الفائدة الرابعة أنه قصد بهذا الشرط نفى انقطاع الوقف ونفى اشتراك جميع أهل الوقف فى نصيب المتوفى عن غير ولد ونبه بذلك على أنه عنى بقوله عن ولده ترتيب الأفراد
فإن قيل عوده إلى جميع الجمل يوجب انقطاع الوقف فى الوسط فحمل اللفظ على ما ينفى الانقطاع أولى لأن من مات عن ولد لا يصرف نصيبه إلى الطبقة عملا بموجب الشرط ولا إلى الولد عملا بموجب الترتيب المطلق فإن قلتم إذا جعلناه مبنيا لترتيب الأفراد لم يكن موجبا للانقطاع
____________________
(31/177)
فنجيب عنه بالبحث المتقدم وهو أن استحقاق الطبقة مستحق لظاهر اللفظ فلا يترك بمتردد محتمل
قيل أولا هذا الوجه لا يتم الا بهذا البحث وهو انما ذكر ليكون مؤيدا له والمؤيد للشيء يجب أن يكون غيره ولا يكون معتمدا عليه فاذا كان الوجه لا يتم الا بذلك البحث كانت صحته موقوفة على صحته والفرع لا يكون أقوى من أصله ولا يكسبه قوة بل يكون تقوية ذلك الوجه به تقوية الشيء بنفسه وهذا نوع من المصادرة واذا كان هذا مبنيا على ذلك الوجه وقد أجبنا عنه فيما مضى فقد حصل الجواب عن هذا
ثم نقول الانتفاع ينتفى من ثلاثة أوجه
أحدها أن الوقف محصور فى الأولاد ثم أولادهم فاذا مات الميت عن ولد فنصيبه إما لاخوته أو لبنيهم أو لبنيه أو لعمومته لأن الشرط يقتضى انحصار الوقف فى الأولاد ثم أولاد الأولاد وهم إما ذو طبقته أو من هو أعلى منه عمومته ونحوهم فانه لا يستحق شيئا مع وجود أبيه ومن هو اسفل منه ولده وولد إخوته وطبقتهم فأما طبقته فانتفوا بالقيد المذكور فى استحقاقهم وأما بنوهم فانتفوا لثلاثة
____________________
(31/178)
أسباب أحدها بطريق التنبيه فان أباهم أقرب إلى الميت والى الواقف فاذا لم ينقل إلى الأقرب فالى الأبعد أولى
والثانى أنه سواء عنى بالترتيب ترتيب المجموع او ترتيب الأفراد لا يستحقون فى هذه الحال فان الطبقة العليا لم تنقرض وآباؤهم لم يموتوا
الثالث أنهم فى هذه الحال ليسوا من أهل الوقف ولم ينتقل إليهم ما هم أصل فيه فلا ينتقل اليهم ما هم فروع فيه وأما العمومة فانه لا يتصور أن يستحق الميت شيئا مع وجود عمومته إلا على قولنا ففرض هذه الصورة على رأى المنازع محال وإذا كان وجود العمومة مستلزما لصحة هذا القول فمحال أنه يستلزم ذلك ما يفسده فان الشى الواحد لا يستلزم صحة الشيء وفساده لكن يقال قد كان الميت أولا لم يخلف إلا إخوة وولدا ثم مات ولده عن ولد وأعمامه فنقول حرمان الأخوة مع الولد تنبيه على حرمان العمومة وهذا حقيقة الجواب أن نفى إخوته تنيبه على نفى عمومته كما تقدم
الوجه الثانى النافى للانقطاع أن إعطاء الاخوة نصيب الميت دون سائر أهل الوقف تنبيه على اعطاء الولد كما تقدم
____________________
(31/179)
الثالث أن ذلك دليل على أن الترتيب المتقدم ترتيب الافراد على الافراد وقد قدمنا تقرير هذا
والله سبحانه يوفقنا لما يحبه ويرضاه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
( وسئل رحمه الله (
عن وقف على أربعة أنفس عمرو وياقوتة وجهمة وعائشة يجرى عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين فمن توفى منهم عن ولد أو ولد ولد أو عن نسل وعقب وان سفل عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده ثم على ولد ولده ثم على نسله وعقبه ثم من بعده وان سفل بينهم للذكر مثل حظ الانثيين ومن توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفا على اخوته الباقين ثم على أنسالهم وأعقابهم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما فإذا لم يبق لهؤلاء الاخوة الموقوف عليهم نسل ولا عقب أو توفوا باجمعهم ولم يعقبوا ولا واحد منهم عاد ذلك وقفا على الأسارى ثم على الفقراء ثم توفى عمر عن فاطمة وتوفيت فاطمة عن عيناشى ابنة إسماعيل بن أبى يعلى ثم توفيت عيناشى عن غير نسل ولا عقب ولم يبق من
____________________
(31/180)
ذرية هؤلاء الأربعة إلا بنت إسماعيل بن أبى يعلى وكلاهما من ذرية جهمة فهاتان الجهتان اللتان تليهما عيناشى بعد موت أبيها هل ينتقل إلى أختها رقية أو اليها أو إلى ابنة عمها صفية
فأجاب هذا النصيب الذى كان لعيناشى من أمها ينتقل إلى ابنتى العم المذكورتين ولا يجوز أن تخص به أختها لأبيها لأن الواقف ذكر أن من توفى من هؤلاء الأخوة الموقوف عليهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفا على اخوته ثم على انسالهم وأعقابهم على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما وهذه العبارة تعم من انقطع نسله أولا وآخرا فكل من انقطع نسله من هؤلاء الاخوة كان نصيبه لأخوته ثم لأولادهم لأن الواقف لو لم يرد هذا لكان قد سكت عن بيان حكم من أعقب اولا ثم انقطع عقبه ولم يبين مصرف نصيبه وذلك غير جائز لأنه انما نقل الوقف إلى الأسرى والفقراء إذا لم يبق له ولا لموقوف عليهم نسل ولا عقب فمتى أعقبوا ولو واحدا منهم لم ينتقل إلى الأسرى شيء ولا إلى الفقراء وذلك يوجب أن ينتقل نصيب من انقطع نسله منهم إلى الأخوة الباقين وهو المطلوب
وأيضا فإنه قسم حال المتوفى من الأربعة الموقوف عليهم إلى حالين أما أن يكون له ولد او نسل وعقب أولا يكون فان كان له
____________________
(31/181)
انتقل نصيبه إلى الولد ثم إلى ولد الولد ثم إلى النسل والعقب وإن لم يكن انتقل إلى الأخوة ثم إلى أولادهم فينبغى أن يعم هذا القسم ما لم يدخل فى القسم الأول ليعم البيان جميع الأحوال لأنه هو الظاهر من حال المتكلم ولأنه لو لم يكن كذلك لزم الاهمال والالغاء وإبطال الوقف على قول ودلالة الحال تنفى هذا الاحتمال وإذا عم ما لم يدخل فى القسم الأول دخل فيه من لا ولد له ومن لا ولد لولده ومن لا عقب له وإذا كان كذلك فأى هؤلاء الأربعة لم يكن له عقب كان نصيبه لاخوته ثم لعقبه
وأيضا فإن الواقف قد صرح بأن من مات منهم عن غير عقب انتقل نصيبه إلى اخوته ثم إلى أولادهم وهذا المقصود لا يختلف بين أن لا يخلف ولدا أو يخلف ولدا ثم يخلف ولده ولدا فان العاقل لا يقصد الفرق بين هاتين الحالتين لأن التفريق بين المتماثلين قد علم بمطرد العادة أن العاقل لا يقصده فيجب أن لا يحمل كلامه عليه بل يحمل كلامه على ما دل عليه دلالة الحال والعرف المطرد إذا لم يكن فى اللفظ ما هو أولى منه وإذا كان انقطاع النسل أولا وآخرا سواء بالنسبة إلى الانتقال إلى الاخوة وجب حمل الكلام عليه واعلم أن من أمعن النظر علم قطعا أن الواقف انما قصد هذا بدلالة الحال
____________________
(31/182)
واللفظ سائغ له وليس فى الكلام وجه ممكن هو أولى منه فيجب الحمل عليه قطعا
وأيضا فإن الوقف يراد للتأبيد فيجب بيان حال المتوفى فى جميع الطبقات فيكون قوله ومن توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب فى قوة قوله ومن كان منهم ميتا ولا عقب له لأن عدم نسله بعد موته بمنزلة كونهم معدومين حال موته فلا فرق فى قوله هذا وقوله ومن مات منهم ولا ولد له وقوله ومن مات منهم ولم يكن له ولد وهذه العبارة وإن كان قد لا يفهم منها الا عدم الذرية حين الموت فى بعض الأوقات لكن اللفظ سائغ لعدم الذرية مطلقا بحيث لو كان المتكلم قال قد أردت هذا لم يكن خارجا عن حد الافهام واذا كان اللفظ سائغا له ولم يتناول صورة الحادثة إلا هذا اللفظ وجب إدراجها تحته لأن الأمر اذا دار بين صورة يحكم فيها بما يصلح له لفظ الواقف ودلالة حاله وعرف الناس كان الأول هو الواجب بلا تردد
إذا تقرر هذا فعم جد عيناشى هو الآن متوفى عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب فيكون نصيبه لأخوته الثلاثة على أنسالهم وأعقابهم والحال التى انقطع فيها نسله لم يكن من ذريته إلا هاتان المرأتان فيجب أن تستويا فى نصيب عيناشى وهكذا القول فى كل واحد انقطع نسله فان نصيبه ينتقل إلى ذرية إخوته إلا أن
____________________
(31/183)
يبقى أحد من ذرية ابيهم الذى انتقل إليه الوقف منه أو من ذرية أمه التى انتقل إليه الوقف منها فيكون باقى الذرية هم المستحقين لنصيب أمهم أو أبيهم لدخولهم فى قوله فمن توفى منهم عن ولد أو ولد ولد
وأعلم أن الكلام إن لم يحمل على هذا كان نصيب هذا وقفا منقطع الانتهاء لأنه قال فمن توفى منهم عن ولد كان نصيبه لولده ثم لولد ولده ثم لنسله وعقبه ولم يبين بعد انقراض النسل إلى من يصير لكن بين فى آخر الشرط أنه لا ينتقل إلى الأسرى والفقراء حتى تنقرض ذرية الأربعة فيكون مفهوم هذا الكلام صرفه إلى الذرية وهاتان من الذرية وهما سواء فى الدرجة ولم يبق غيرهما فيجب أن يشتركا فيه وليس بعد هذين الاحتمالين الا أن يكون قوله ومن توفى منهم عائدا إلى الأربعة وذريتهم
فيقال حينئذ عيناشى قد توفيت عن أخت من أبيها وابنة عم فيكون نصيبها لاختها وهذا الحمل باطل قطعا لا ينفذ حكم حاكم أن حكم بموجبه لأن الضمير أولا فى قوله فمن توفى منهم عائد إلى الأربعة فالضمير فى قوله ومن توفى منهم عائد ثانيا إلى هؤلاء الأربعة لأن الرجل إذا قال هؤلاء الاربعة من فعل منهم كذا فافعل به كذا وكذا ومن فعل منهم كذا فافعل لولده كذا علم بالاضطرار أن الضمير الثانى هو الضمير الأول ولأنه قال ومن توفى منهم عن غير ولد عاد نصيبه
____________________
(31/184)
إلى إخوته الباقين وهذا لا يقال الا فيمن له اخوة تبقى بعد موته وانا نعلم هذا فى هؤلاء الأربعة لأن الواحد من ذريتهم قد لا يكون له أخوة باقون فلو أريد ذلك المعنى لقليل على إخوته ان كان له إخوة أو قيل ومن مات منهم عن إخوة كما قيل فى الولد ومن مات منهم عن ولد وهذا ظاهر لا خفاء به
وأيضا فلو فرض أن من مات من أهل الوقف عن اخوة كان نصيبه لأخوته فإنما ذلك فى الاخوة الذين شركوه فى نصيب أبيه وأمه لا فى الأخوة الذين هم أجانب عن النصيب الذى خلفه على ما هو مقرر فى موضعه من كتب الفقه على المذاهب المشهورة وهذا النصيب انما تلقته عيناشى من أمها وأختها رقية اجنبية من أمها لأنها أختها من أبيها فقط فنسبة أختها لابيها وابنة عمها إلى نصيب الأم سواء وهذا بين لمن تأمله والله أعلم
( وسئل ( عن واقف وقف وقفا على ولديه عمر وعبد الله بينهما بالسوية نصفين أيام حياتهما ابدا ما عاشا دائما ما بقيا ثم على أولادهما من بعدهما وأولاد أولادهما ونسلهما وعقبهما أبدا ما تناسلوا
____________________
(31/185)
بطنا بعد بطن فتوفى عبد الله المذكور وخلف أولادا فرفع عمر ولد عبد الله إلى حاكم يرى الحكم بالترتيب وسأله رفع يد ولد عبد الله عن الوقف وتسليمه إليه فرفع يد ولد عبد الله وسلمه إلى عمر بحكم أنه من البطن الأول فهل يكون ذلك الحكم جاريا فى جميع البطون أم لا ثم إن عمر توفى وخلف أولادا فوضعوا أيديهم على الوقف بغير حكم حاكم فطلب ولد عبد الله من حاكم يرى الحكم بالتشريك بينهم فى الوقف تشريكهم لأن الواقف جمع بين الأولاد والنسل والعقب فى الاستحقاق بعد عبد الله وعمر بالواو الذى يقتضى التشريك دون الترتيب وأن قوله بطنا بعد بطن لا يقتضى الترتيب فهل الحكم لهم بالمشاركة صحيح أم لا وهل حكم الأول لعمر متقدم على ولد عبد الله مناقضا للحكم بالتشريك بين أولاد عمر وأولاد عبد الله وهل لحاكم ثالث أن يبطل هذا الحكم والتنفيذ
فأجاب مجرد الحكم لأحد الأخوين الأولين بجميع الوقف بعد موت أخيه المتوفى لا يكون جاريا فى جميع البطون ولا يكون حكما لأولاده بما حكم له به فان قوله ثم على أولادهما هل هو لترتيب المجموع على المجموع أو لترتيب الأفراد على الأفراد بحيث ينتقل نصيب كل ميت إلى ولده فيه قولان للفقهاء وكذلك قوله وأولادهما من بعدهما بطنا بعد بطن هل هو للترتيب أو للتشريك فيه قولان فاذا حكم الحاكم باستحقاق عمر الجميع بعد موت عبد الله كان هذا لاعتقاده
____________________
(31/186)
لترتيب المجموع على المجموع فاذا مات عمر فقد يرى ذلك الحاكم الترتيب فى الطبقة الأولى فقط كما قد يشعر به ظاهر اللفظ وقد يكون يرى أن الترتيب فى جميع البطون لكن ترتيب الجميع على الجميع ويشترك كل طبقة من الطبقتين فى الوقف دون من هو أسفل منها وقد يرى غيره وأنه بعد ذلك لترتيب الأفراد على الأفراد فاذا حكم حاكم ثان فيما لم يحكم فيه الأول بما لا يناقض حكمه لم يكن نقضا لحكمه فلا ينقض هذا الثانى إلا بمخالفة نص أو إجماع والله أعلم
( وسئل رضى الله عنه ( عمن وقف وقفا على بن ابنه فلان ثم على أولاده واحدا كان أم أكثر ثم على أولاد أولاده ثم نسله وعقبه فمن توفى منهم عن ولد أو ولد ولد أو عن نسل وعقب عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على من معه فى درجته فتوفى الأول عن أولاد توفى أحدهم فى حياته عن أولاد ثم مات الأول وخلف بنته وولدى ابنه فهل تأخذ البنت الجميع أو ينتقل إلى ولدى الابن ما كان يستحقه أبوهما لو كان حيا
فأجاب بل النصيب الذى كان يستحقه محمد الميت فى حياة أبيه لو عاش ينتقل إلى ولديه دون أخته فان الواقف قد ذكر أن قوله على
____________________
(31/187)
أولاده ثم على أولاد أولاده إنما أراد به ترتيب الأفراد على الأفراد لا ترتيب الجملة على الجملة بما بينه وإن كان ذلك هو مدلول اللفظ عند الاطلاق على أحد القولين
والحقوق المرتب أهلها شرعا أو شرطا إنما يشترط انتقالها إلى الطبقة الثانية عند عدم الأولى أو عدم استحقاقها لاستحقاق الأولى أولا كما يقول الفقهاء فى العصب بالميراث أو النكاح الابن ثم ابنه ثم الأب ثم أبوه فاستحقاق بن الابن مشروط بعدم أبيه لعدم استحقاقه لمانع يقوم به من كفر وغيره لا يشترط أن أباه يستحق شيئا لم
ينتقل إليه كذلك فى الأم النكاح والحضانة وولاية غسل الميت والصلاة عليه وإنما يتوهم من يتوهم اشتراط استحقاق الطبقة الأولى لتوهمه أن الوقف ينتقل من الأولى اليها وتتلقاه الثانية عن الأولى كالميراث وليس كذلك بل هي تتلقى الوقف عن الواقف كما تلقته الأولى وكما تتلقى الأقارب حقوقهم عن الشارع لكن يرجع فى الاستحقاق إلى ما شرطه الشارع والواقف من الترتيب
____________________
(31/188)
( وسئل رحمه الله (
عن وقف انسان شيئا على زيد ثم على أولاد زيد الثمانية فمات واحد من أولاد زيد الثمانية المعينين فى حال حياة زيد وترك ولدا ثم مات زيد فهل ينتقل إلى ولد ولد زيد ما أستحقه ولد زيد لو كان حيا أم يختص الجميع بأولاد زيد
فأجاب نعم يستحق ولد الولد ما كان يستحقه والده ولا ينتقل ذلك إلى أهل طبقة الميت ما بقى من ولده وولد ولده أحد وذلك لأن قول الواقف على زيد ثم على أولاده ثم أولاد أولاده فيه للفقهاء من أصحاب الامام أحمد وغيرهم عند الإطلاق قولان
( أحدهما ( أنه لترتيب الجملة على الجملة كالمشهور فى قوله على زيد وعمرو ثم على المساكين
( والثانى ( انه لترتيب الأفراد على الأفراد كما فى قوله تعالى { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } أي لكل واحد نصف ما تركته زوجته وكذلك قوله ( حرمت عليكم أمهاتكم ( أى حرمت على كل واحد أمه إذ
____________________
(31/189)
مقابلة الجمع بالجمع تقتضى توزيع الأفراد على الأفراد كما فى قوله لبس الناس ثيابهم وركب الناس دوابهم وهذا المعنى هو المراد فى صورة السؤال قطعا اذ قد صرح الواقف بان من مات من هؤلاء عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده فصار المراد ترتيب الأفراد على الأفراد فى هذه الصورة المقيدة بلا خلاف اذ الخلاف انما هو مع الإطلاق
وإذا كان كذلك فاستحقاق المرتب فى الشرع والشرط فى الوصية والوقف وغير ذلك انما يشترط فى انتقاله إلى الثانى عدم استحقاق الأول سواء كان قد وجد واستحق أو وجد ولم يستحق أو لم يوجد بحال كما فى قول الفقهاء فى ترتيب العصبات وأولياء النكاح والحضانة وغيرهم فيستحق ذلك الابن ثم ابنه وان سفل ثم الأب ثم أبوه وان علا فان الأقرب إذا عدم أو كان ممنوعا لكفر أو رق انتقل الحق إلى من يليه ولا يشترط فى انتقال الحق إلى من يليه أن يكون الأول قد استحق وكذلك لو قال النظر فى هذا لفلان ثم لفلان أو لابنه فمتى انتفى النظر عن الأول لعدمه أو جنونه أو كفره انتقل إلى الثانى سواء كان ولدا أو غير ولد وكذلك ترتيب العصبة فى الميراث وفى الأرث بالولاء وفى الحضانة وغير ذلك
____________________
(31/190)
وكذلك فى الوقف لو وقف على أولاده طبقة بعد طبقة عصبتهم وشرط أن يكونوا عدولا أو فقراء او غير ذلك وانتفى شرط الاستحقاق فى واحد من الطبقة الأولى أو كلهم انتقل الحق عند عدم استحقاق الأول إلى الطبقة الثانية اذا كانوا متصفين بالاستحقاق
وسر ذلك أن الطبقة الثانية تتلقى الوقف من الواقف لا من الطبقة الأولى لكن تلقيهم ذلك مشروط بعدم الأولى كما أن العصبة البعيدة تتلقى الأرث من الميت لا من العاصب القريب لكن شرط استحقاقه عدم العاصب القريب وكذلك الولاء فى القول المشهور عند الأئمة يرث به اقرب عصبة الميت يوم موت المعتق لأنه يورث كما يورث المال
وإنما يغلط ذهن بعض الناس فى مثل هذا حيث يظن أن الولد يأخذ هذا الحق ارثا عن أبيه أو كالأرث فيظن أن الانتقال إلى الثانية مشروط باستحقاق الأولى كما ظن ذلك بعض الفقهاء فيقول اذا لم يكن الأب قد ترك شيئا لم يرثه الابن وهذا غلط فان الابن لا يأخذ ما يأخذ الأب بحال ولا يأخذ عن الأب شيئا اذ لو كان الأب موجودا لكان يأخذ الريع مدة حياته ثم ينتقل إلى ابنه الريع الحادث بعد موت الأب لا الريع الذى يستحقه وأما رقبة الوقف فهي باقية على حالها حق الثانى فيها فى وقته نظير حق الأول فى وقته لم ينتقل اليهم ارثا
____________________
(31/191)
ولهذا اتفق المسلمون فى طبقات الوقف انه لو انتفت الشروط فى الطبقة الاولى أو بعضهم لم يلزم حرمان الطبقة الثانية إذا كانت الشروط موجودة فيهم وانما نازع بعضهم فيما اذا عدموا قبل زمن الاستحقاق ولا فرق بين الصورتين
ويبين هذا أنه لو قيل بانتقال نصيب الميت إلى أخوته لكونه من الطبقة كان ذلك مستلزما لترتيب جملة الطبقة على الطبقة أو ان بعض الطبقة الثانية أو كلهم لا يستحق الا مع عدم جميع الطبقة الأولى ونص الواقف يبين انه أراد ترتيب الأفراد على الأفراد مع انا نذكر فى الاطلاق قولين الأقوى ترتيب الأفراد مطلقا اذ هذا هو المقصود من هذه العبارة وهم يختارون تقديم ولد الميت على أخيه فيما يرثه أبوه فانه يقدم الولد على الأخ وان قيل بأن الوقف فى هذا منقطع فقد صرح هذا الواقف بالألفاظ الدالة على الاتصال فتعين ان ينتقل نصيبه إلى ولده
وفى الجملة فهذا مقطوع به لا يقبل نزاعا فقهيا وانما يقبل نزاعا غلطا وقول الواقف فمن مات من أولاد زيد أو أولاد أولاده وترك ولدا أو ولد ولد وان سفل كان نصيبه إلى ولد ولده أو ولد ولد ولده يقال فيه اما أن يكون قوله نصيبه يعم النصيب الذى يستحقه اذا كان متصفا بصفة الاستحقاق سواء استحقه أو لم يستحقه ولا يتناول الا ما استحقه فان كان الاول فلا كلام وهو الأرجح لأنه بعد موته ليس هو فى هذه الحال مستحقا له ولأنه لو كان الاب ممنوعا لانتفاء
____________________
(31/192)
صفة مشروطة فيه مثلا مثل أن يشترط فيهم الاسلام أو العدالة أو الفقر كان ينتقل مع وجود المانع إلى ولده كما ينتقل مع عدمه ولأن الشيء يضاف إلى الشيء بأدنى ملابسة فيصدق ان يقال نصيبه بهذا الاعتبار ولأن حمل اللفظ على ذلك يقتضى أن يكون كلام الواقف متناولا لجميع الصور الواقعة فهو أولى من حمله على الاخلال بذكر البعض ولأنه يكون مطابقا للترتيب الكلامى وليس ذلك هو المفهوم من ذلك عند العامة الشارطين مثل هذا
وهذا أيضا موجب الاعتبار والقياس النظرى عند الناس فى شروطهم إلى استحقاق ولد الولد الذى يكون يتيما لم يرث هو وأبوه من الجد شيئا فيرى الواقف أن يجبره بالاستحقاق حينئذ فانه يكون لاحقا فيما ورث أبوه من التركة وانتقل إليه الارث وهذا الذى يقصده الناس موافق لمقصود الشارع أيضا ولهذا يوصون كثيرا بمثل هذا الولد
وإن قيل إن هذا اللفظ لا يتناول إلا ما استحقه كان هذا مفهوم منطوق خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له واذا لم يكن له مفهوم كان مسكوتا عنه فى هذا الموضع ولكن قد يتناوله فى قوله على زيد ثم على أولاده ثم على أولاد أولادهم فانا ذكرنا أن موجب هذا اللفظ مع ما ذكر بعده من أن الميت ينتقل نصيبه إلى ولده صريح فى أن المراد ترتيب الأفراد على الأفراد والتقدير على زيد ثم على أولاده ثم على ولد كل واحد
____________________
(31/193)
بعد والده وهذا اللفظ يوجب أن يستحق كل واحد ما كان أبوه مستحقه لو كان متصفا بصفة الاستحقاق كما يستحق ذلك أهل طبقاته وهذا متفق عليه بين علماء المسلمين فى أمثال ذلك شرعا وشرطا وإذا كان هذا موجب استحقاق الولد وذلك التفصيل اما أن يوجب استحقاق الولد أيضا وهو الأظهر أو لا يوجب حرمانه فيقر العمل بالدليل السالم عن المعارض المقاوم والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
عمن وقف وقفا على أولاده فلان وفلان وفلان وعلى بن ابنه فلان على أنه من توفى منهم عن ولد ذكر انتقل نصيبه إلى ولده ومن مات عن بنت انتقل نصيبه إليها ثم إلى أعمامها ثم بنى أعمامها الأقرب فالأقرب منهم فمات بن بن عن غير ولد وترك أخته من أبويه وأعمامه فأيهم أحق
فأجاب ينتقل نصيبه إلى أخته لأبويه فانه قد ظهر من قصد الواقف تخصيص ما كان ينبغى أن يستحقه أصله وتخصيص نصيب الميت عن غير ولد بالأقرب إليه وأنه أقام موسى بن الابن مقام ابنه لأن أباه كان ميتا وقت الوقف والله أعلم
____________________
(31/194)
( وسئل رحمه الله ( عن قرية وقفها السلطان صلاح الدين فجعل ريعها وقفا على شخص معين ثم على أولاده من بعده والنصف والربع على الفقراء واستمر الامر على هذه الصورة والقرية عامرة فلما كان سنة دخول قازان خربت هذه القرية وأستمرت داثرة مدة ثمان سنين فجاء رجل من المشائخ وأخذ توقيعا سلطانيا بتمكينه من أن يعمر هذه القرية فعمرها وتوفى إلى رحمة الله وخلف أيتاما صغارا فقراء لا مال لهم فجائت امرأة من ذرية الموقوف عليه صاحب الريع فأثبتت نسبها وتسلمت ريع هذه القرية وأستمر النصف والربع على الفقراء بحكم شرط الواقف وبقى أولاد الذى عمر القرية فقراء فهل يجوز لهم أن يقبضوا كفايتهم فى جملة الفقراء أم لهم ما غرمه والدهم على تعميرها ما لم يستوف عوضه قبل وفاته
فأجاب ان كانوا داخلين فى شروط الواقف فانهم يستحقون ما يقتضيه الشرط وان قدر تعذر الصرف إلى الموصوفين لتعذر بعض الأوصاف فكان هؤلاء الأطفال مشاركين فى الاستحقاق لمن يصرف إليه المال فينبغى
____________________
(31/195)
أن يصرف إليهم أيضا ما غرمه والدهم من القرية بالمعروف من ماله ليستوفى عوضه فانهم يستوفونه من مغل الوقف
( وسئل رحمه الله (
عن قسمة الوقف ومنافعه
فأجاب ما كان وقفا على جهة واحدة لم يجز قسمة عينه وانما يجوز قسمة منافعه بالمهايئة واذا تهايؤا ثم أرادوا نقضها فلهم ذلك واذا لم يقع من المستحق أو وكيله فهي باطلة والله أعلم
( وسئل (
عن وقف على جهة واحدة فقسمه قاسم حنبلى معتقدا جواز ذلك حيث وجد فى المختصرات انا اذا قلنا القسمة اقرار جاز قسمة الوقف ثم تناقل الشريكان بعض الأعيان ثم طلب بعضهم نصيبه الاول من المقاسمة
فأجاب اذا كان الوقف على جهة واحدة فان عينه لا تقسم قسمة
____________________
(31/196)
لازمة لا فى مذهب أحمد ولا غيره وانما فى المختصرات لما أرادوا بيان فروع قولنا القسمة إقرار أو بيع فاذا قلنا هي بيع لم يجز لأن الوقف لا يباع واذا قلنا هي اقرار جاز قسمته فى الجملة ولم يذكروا شروط القسمة كما جرت به العادة فى امثال ذلك وقد ذكر طائفة منهم فى قسمة الوقف وجهين وصرح الأصحاب بأن الوقف إنما يجوز قسمته إذا كان على جهتين فأما الوقف على جهة واحدة فلا تقسم عينه اتفاقا فالتعليق حق الطبقة الثانية والثالثة لكن تجوز المهايأة على منافعه و ( المهايأة ( قسمة المنافع ولا فرق فى ذلك بين مناقلة المنافع وبين تركها على المهايأة بلا مناقلة فان تراضوا بذلك أعيد المكان شائعا كما كان فى العين والمنفعة والله أعلم
( وسئل (
عن وقف على جماعة وان بعض الشركة قد دفع فى الفاكهة مبلغا وان بعض الشركة أمتنع من التضمين والضمان وطلب ان يأخذ ممن يشتريه قدر حصته من الثمرة فهل يحكم عليه الحاكم بالبيع مع الشركة أم لا فأجاب
اذا لم تمكن قسمة ذلك قبل البيع بلا ضرر فعليه ان يبيع مع شركائه ويقاسمهم الثمن
____________________
(31/197)
( وسئل ( عن وقف لمصالح الحرم وعمارته ثم بعد ذلك يصرف فى وجوه البر والصدقات وعلى الفقراء والمساكين المقيمين بالحرم فهل يجوز ان يصرف من ذلك على القوام والفراشين القائمين بالوظائف
فأجاب نعم القائمون بالوظائف مما يحتاج إليه المسجد من تنظيف وحفظ وفرش وتنويره وفتح الأبواب وإغلاقها ونحو ذلك هم من مصالحه يستحقون من الوقف على مصالحه
( وسئل رحمه الله (
عن رجل اشترى دارا ولم يكن فى كتبه غير ثلاث حدود والحد الرابع لدار وقف ثم إن الذى اشترى هدم الدار وعمرها ثم أنه فتح الطاقة فى دار الوقف يخرج النور منها إلى مخزن وجعل إلى جنب الجدار سقاية مجاورة للوقف محدثة تضر حائط الوقف وبرز بروزا على دور قاعة الوقف فاذا بنى على دور القاعة وجعل أخشاب سقف على الجدار الذى
____________________
(31/198)
للوقف وفعل هذا هذا بغير إذن ولى الأمر وذكر أنه استأجره كل سنة بثلاثة دراهم وولى الأمر لم يؤجره إلى الآن ولا المباشرين ثم ان رجلا حلف بالله أنه يستأجر هذا الجدار وهو بين الدور وأزيل ما فعله من البروز والسقاية ولم أحدث فيه عمارة الا احتسابا لله تعالى وأستأجره كل سنة بعشرين درهما مدة عشرين سنة حتى بقى دور قاعة الوقف نيرة ولم تتضرر الجيرة بالعلو فهل يجوز الايجار للذى تعدى أم للذى قصد المثوبة وزيادة للوقف بالاجرة إن أجره ولى الأمر المنفعة بالزيادة ولازالة الضرر عن الوقف
فأجاب ليس له أن يبنى على جدار الوقف ما يضر به باتفاق الناس بل وكذلك إذا لم يضربه عند جمهور العلماء ودعواه الاستئجار غير مقبولة بغير حجة ولو آجر اجارة فيها ضرر على الوقف لم تكن إجارة شرعية ومن طلب استئجاره بعد هذا وكان ذلك مصلحة للوقف فانه يجوز بل يجب أن يؤجر واذا كان له نية حسنة حصل له من الأجر والثواب بحسب ذلك والله أعلم
____________________
(31/199)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل ساكن فى خان وقف وله مباشر لرسم عمارته واصلاحه وإن الساكن أخبر المباشر أن مسكنه يخشى سقوطه وهو يدافعه ثم أن المباشر صعد إلى المسكن المذكور ورآه بعينه وركضه برجله وقال ليس بهذا سقوط ولا عليك منه ضرر وتركه ونزل فبعد نزوله سقط المسكن المذكور على زوجة الساكن وأولاده فمات ثلاثة وعدم جميع ماله فهل يلزم المباشر من مات ويغرم المال الذى عدم أم لا
فأجاب على هذا المباشر المذكور الذى تقدم إليه وأخر الاستهدام ضمان ما تلف بسقوطه بل يضمن ولو كان مالك المكان اذا خيف السقوط وأعلم بذلك وان لم يكن المعلم له مستأجرا منه عند جماهير العلماء كأبى حنيفة ومالك وأحمد فى المشهور وطائفة من أصحاب الشافعى وغيرهم لكن بعضهم يشترط الاشهاد عليه واكثرهم لا يشترط ذلك فانه مفرط بترك نقضه واصلاحه ولو ظن أنه لا يسقط فانه كان عليه أن يرى ذلك لأرباب الخبرة بالبناء فاذا ترك ذلك كان مفرطا ضامنا لما تلف بتفريطه لا سيما مع قوله للمستأجر ان شئت فاسكن وان شئت فلا تسكن فان هذا عدوان منه
____________________
(31/200)
فإن المستأجر له مطالبة المؤجر بالعمارة التى يحتاج اليها المكان والتى هي من موجب العقد وهذه العمارة واجبة من وجهين من جهة حق أهل الوقف ومن جهة حق المستأجر والعلماء متفقون على أنه ليس لناظر الوقف ان يفرط فى العمارة التى استحقها المستأجر فهذان التفريطان يجب عليه بتركهما ضمان ما يكف بتفريطه فيضمن مال الوقف للوقف ويدخل فى ذلك المنافع التى استحقها المستأجر بخلاف ما لو كانت العين باقية فان له أن يضمنه إياها وله أن يفسخ الاجارة واما ما تلف بالتفريط من النفوس والأموال التى للمستأجر فيضمن من هذه الوجوه الثلاثة ويضمن ما تلف للجيران من الوجه الأول كما ذهب إليه جماهير العلماء وسئل (
عن مال موقوف على فكاك الأسرى واذا استدين بمال فى ذمم الأسرى بخلاصهم لا يجدون وفاءه هل يجوز صرفه من الوقف وكذلك لو استدانه ولى فكاكهم بأمر ناظر الوقف أو غيره
فأجاب نعم يجوز ذلك بل هو الطريق فى خلاص الأسرى أجود من اعطاء المال ابتداء لمن يفتكهم بعينهم فان ذلك يخاف عليه وقد يصرف
____________________
(31/201)
فى غير الفكاك وأما هذا فهو مصروف فى الفكاك قطعا ولا فرق بين أن يصرف عين المال فى جهة الاستحقاق أو يصرف ما استدين كما كان النبى تارة يصرف مال الزكاة إلى أهل السهمان وتارة يستدين لأهل السهمان ثم يصرف الزكاة إلى أهل الدين فعلم أن الصرف وفاء كالصرف أداء والله أعلم
( وسئل (
عن رجل تحته حصة فى حمام وهى موقوفة على الفقراء والمساكين فخرب شيء من الحمام فى زمان العدو فأجر تلك الحصة لشخص مدة ثمان سنين بثمانمائة درهم واذن له ان يصرف تلك الأجرة فى العمارة الضرورية فى الحمام فعمر المستأجر وصرف فى العمارة حتى صارت اجرة الحصة المذكورة وذكر أنه فضل له على الوقف مال زائد عن الأجرة من غير اذن المؤجر فهل يجوز له ذلك أم لا
فأجاب الحمد لله إذا عمر عمارة زائدة عن العمارة الواجبة على الوجه المأذون فيها لم يكن على أهل الحمام ان يقوموا ببقية تلك العمارة الزائدة ولا قيمتها بل له أن يأخذها إذا لم يضر أخذها بالوقف واذا كانت العمارة تزيد كراء الحمام فأتفقوا على أن تبقى العمارة له لا يعطونه بقيمتها بل
____________________
(31/202)
يكون ما يحصل من زيادة الأجرة بإزاء ذلك جاز ذلك وان أراد أهل الوقف أن يقلعوا العمارة الزائدة فلهم ذلك اذا لم تنقص المنفعة المستحقة بالعقد وإن اتفقوا على أن يعطوه بقية العمارة ويزيدهم فى الاجرة بقدر ما زاد من المنفعة جاز والله أعلم
( وسئل (
عن وقف على تكفين الموتى يفيض ريعه كل سنة على الشرط هل يتصدق به وهل يعطى منه أقارب الواقف الفقراء
فأجاب اذا فاض الوقف عن الأكفان صرف الفاضل فى مصالح المسلمين واذا كان أقاربه محاويج فهم أحق من غيرهم والله أعلم
)
( وسئل (
عن فقيه منزل فى مدرسة ثم غاب مدة البطالة فهل يحل منعه من الجامكية أم لا
فأجاب الحمد لله اذا لم يغب إلا شهر البطالة فانه يستحق ما يستحقه الشاهد لا فرق فى أشهر البطالة بين أن يكون البطال شاهدا أو غائبا والله أعلم
____________________
(31/203)
وسئل (
عن مقرىء على وظيفة ثم أنه سافر واستناب شخصا ولم يشترط عليه فلما عاد قبض الجميع ولم يخرج من المكان فهل يستحق النائب المشروط أم لا
فأجاب الحمد لله نعم النائب يستحق المشروط كله لكن إذا عاد المستنيب فهو أحق بمكانه والله أعلم
( وسئل (
عمن وقف وقفا مستغلا ثم مات فظهر عليه دين فهل يباع الوقف فى دينه
فأجاب إذا أمكن وفاء الدين من ريع الوقف لم يجز بيعه وان لم يمكن وفاء الدين الا ببيع شيء من الوقف وهو فى مرض الموت بيع باتفاق العلماء وإن كان الوقف فى الصحة فهل يباع لوفاء الدين فيه خلاف بين العلماء فى مذهب أحمد وغيره ومنعه قول قوى
____________________
(31/204)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل قال فى مرضه اذا مت فدارى وقف على المسجد الفلانى فتعافى ثم حدث عليه ديون فهل يصح هذا الوقف ويلزم أم لا
فأجاب يجوز أن يبيعها فى الدين الذى عليه وإن كان التعليق صحيحا كما هو أحد قولى العلماء وليس هذا بأبلغ من التدبير وقد ثبت عن النبى أنه باع المدبر فى الدين والله أعلم
)
( وسئل (
عمن وقف وقفا على ضريح رسول الله برسم شمع أو زيت وذلك بعد موته ثم إنه قصد أن يغير الوقف ويجعله على الفقراء والمساكين بالقاهرة وإن لم يجز ذلك فهل يجوز على الفقراء المجاورين بالمدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا
____________________
(31/205)
فأجاب أما الوصية بما يفعل بعد موته فله أن يرجع فيها ويغيرها باتفاق المسلمين ولو كان قد أشهد بها وأثبتها سواء كانت وصية بوقف أو عتق أو غير ذلك وفى الوقف المعلق بموته والعتق نزاعان مشهوران والوقف على زيت وشمع يوقد على قبر ليس برا باتفاق العلماء بل ثبت عن النبى أنه قال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (
وأما تنوير المسجد النبوى على المصلين وغيره فتنوير بيوت الله حسن لكن إذا كان للمسجد ما يكفى تنويره لم يكن للزيادة التى لافائدة فيها فائدة مشروعة ولم يكن ذلك مصروفا فى تنويره بل تصرف فى غيره والله أعلم
( وسئل (
عن الوقف إذا فضل من ريعه واستغنى عنه
فأجاب يصرف فى نظير تلك الجهة كالمسجد إذا فضل عن مصالحه صرف فى مسجد آخر لأن الواقف غرضه فى الجنس والجنس واحد فلو قدر ان المسجد الأول خرب ولم ينتفع به أحد صرف ريعه فى مسجد آخر فكذلك إذا فضل عن مصلحته شيء فإن هذا
____________________
(31/206)
الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه ولا إلى تعطيله فصرفه فى جنس المقصود أولى وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف وقد روى أحمد عن على رضى الله عنه أنه حض الناس على اعطاء مكاتب ففضل شيء عن حاجته فصرفه فى المكاتبين
( وسئل ( عن رجل صالح فرض له القاضي بشيء من الصدقات لأجله وأجل الفقراء الواردين عليه فهل يجوز لأحد أن يزاحمه فى ذلك أو يتغلب عليه باليد القوية
فأجاب قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( المسلم أخو المسلم لا يحل للمسلم أن يبيع على بيع أخيه ولا يستام على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما فى صفحتها فان لها ما قدر لها ( فاذا كان النبى فى عقود المعاوضات قد نهى أن يستام الرجل على سوم أخيه وان يخطب على خطبته قبل أن يدخل المطلوب فى ملك الانسان فكيف يحل للرجل أن يجيء إلى من فرض له ولى الأمر على الصدقات أو غيرها ما يستحقه ويحتاج إليه فيزاحمه على ذلك ويريد أن ينزعه منه فان هذا أشد تحريما من ذلك والله أعلم
____________________
(31/207)
وسئل رحمه الله (
عن وقف أرض على مسجد فيها أشجار معطلة من الثمر وتعطلت الأرض من الزراعة بسببها فهل يجوز قلع الأشجار وصرف ثمنها فى مصالح المسجد وتزرع الأرض وينتفع بها
فأجاب نعم إذا كان قلع الأشجار مصلحة للأرض بحيث يزيد الانتفاع بالأرض إذا قلعت فانها تقلع وينبغى للناظر أن يقلعها ويفعل ما هو الأصلح للوقف ويصرف ثمنها فيما هو أصلح للوقف من عمارة الوقف أو مسجد أن إحتاج إلى ذلك والله أعلم
( وسئل (
عن مصيف مسجد بنى فيه قبر فسقية وهدم بحكم الشرع وللمسجد بيت خلاء ولم يكن فيه موضع يسع الوضوء فهل يجوز أن يعمل فى المصيف مكان للوضوء ويترك ما هو فى الفسقية التى كانت بنيت قبرا
____________________
(31/208)
فأجاب رحمه الله الحمد الله نعم إذا كان هذا مصلحة للمسجد وأهله وليس فيه محذور الا مجرد الوضوء فى المسجد جاز أن يفعل ذلك فان الوضوء فى المسجد جائز بل لا يكره عند جمهور العلماء والله أعلم وسئل (
عن مسجد مغلق عتيق فسقط وهدم وأعيد مثل ما كان فى طوله وعرضه ورفعه البانى له عن ما كان عليه وقدمه إلى قدام وكان تحته خلوة فعمل تحته بيتا لمصلحة المسجد فهل يجوز تجديد البيت وسكنه
فأجاب الحمد الله نعم يجوز أن يعمل فى ذلك ما كان مصلحة للمسجد وأهله من تجديد عمارة وتغيير العمارة من صورة إلى صورة ونحو ذلك والله سبحانه أعلم
____________________
(31/209)
( وسئل رحمه الله (
عن مساجد وجامع يحتاج إلى عمارة وعليها رواتب مقررة على القابض والريع لا يقوم بذلك فهل يحل أن يصرف لأحد قبل العمارة الضرورية وإلى من يحل وما يصنع بما يفضل عن الريع أيدخر أم يشترى به عقارا
فأجاب الحمد لله إذا أمكن الجمع بين المصلحتين بأن يصرف ما لابد من صرفه لضرورة أهله وقيام العمل الواجب بهم وأن يعمر بالباقى كان هذا هو المشروع وأن تأخر بعض العمارة قدرا لا يضر تأخره فإن العمارة واجبة والأعمال التى لا تقوم إلا بالرزق واجبة وسد الفاقات واجبة فإذا أقيمت الواجبات كان أولى من ترك بعضها
وأما من لا تقوم العمارة إلا بهم من العمال والحساب فهم من العمارة وأما ما فضل من الريع عن المصارف المشروطة ومصارف المساجد فيصرف فى جنس ذلك مثل عمارة مسجد آخر ومصالحها وإلى جنس المصالح ولا يحبس المال أبدا لغير علة محدودة لا سيما فى مساجد قد علم أن ريعها يفضل عن كفايتها دائما فان حبس مثل هذا المال من الفساد ( والله لا يحب الفساد
____________________
(31/210)
( وسئل رحمه الله (
عن حاكم خطيب رتب له على فائض مسجد رزقه فيبقى سنتين لايتناول شيئا لعدم الفائض ثم زاد الريع فى السنة الثالثة فهل له أن يتناول رزق ثلاث سنين من ذلك المغل
فأجاب إن كان لمغل السنة الثالثة مصارف شرعية بالشرط الصحيح وجب صرفها فيه ولم يجز للحاكم أخذه وأما إذا لم يكن له مصرف أصلا واقتضى نظر الامام أن يصرفه إلى الحاكم عوضا عما فاته فى الماضى جاز ذلك والله أعلم
____________________
(31/211)
وقال الشيخ الامام العالم العلامة أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية قدس الله روحه ( فصل (
فى ( إبدال الوقف ) حتى المساجد بمثلها أو خير منها للحاجة أو المصلحة وكذلك إبدال الهدى والأضحية والمنذور وكذلك إبدال المستحق بنظيره إذا تعذر صرفه إلى المستحق والابدال يكون تارة بأن يعوض فيها بالبدل وتارة بأن يباع ويشترى بثمنها المبدل
فمذهب أحمد فى غير المسجد يجوز بيعه للحاجة وأما المسجد فيجوز بيعه أيضا للحاجة فى أشهر الروايتين عنه وفى الأخرى لاتباع عرصته بل تنقل آلتها إلى موضع آخر
ونظير هذا ( المصحف ( فانه يكره بيعه كراهة تحريم أو تنزيه وأما ابداله فيجوز عنده فى إحدى الروايتين عنه من غير كراهة ولكن ظاهر مذهبه أنه إذا بيع واشترى بثمنه فان هذا من جنس
____________________
(31/212)
الإبدال إذ فيه مقصوده فان هذا فيه صرف نفعه إلى نظير المستحق إذا تعذر صرفه إلى عينه
فان المسجد إذا كان موقوفا ببلدة أو محلة فاذا تعذر انتفاع أهل تلك الناحية به صرفت المنفعة فى نظير ذلك فيبنى بها مسجد فى موضع آخر كما يقول مثل ذلك فى زيت المسجد وحصره إذا استغنى عنها المسجد تصرف إلى مسجد آخر ويجوز صرفها عنده فى فقراء الجيران واحتج على ذلك بأن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يقسم كسوة الكعبة بين المسلمين فكذلك كسوة سائر المساجد لأن المسلمين هم المستحقون لمنفعة المساجد واحتج على صرفها فى نظير ذلك بأن على بن أبى طالب رضى الله عنه جمع مالا لمكاتب ففضلت فضلة عن قدر كتابته فصرفها فى مكاتب آخر فإن المعطين أعطوا المال للكتابة فلما استغنى المعين صرفها فى النظير
والمقصود ان أحمد بن حنبل رحمه الله اختلف قوله فى بيع المسجد عند عدم الانتفاع به ولم يختلف قوله فى بيع غيره عند الحاجة قال فى رواية ابنه عبد الله إذا خرب المسجد يباع وينفق ثمنه على مسجد آخر
)
وقال القاضي أبو يعلى فى ( المجرد ( وبن عقيل فى ( الفصول ( وغيرهما واللفظ للقاضى ونفقة الوقف من غلته لأن القصد الانتفاع به مع بقاء عينه وهذا لا يمكن الا بالانفاق عليه فكان إبقاؤه يتضمن الانفاق
____________________
(31/213)
عليه وما يبقى للموقوف عليه فان لم تكن له غلة مثل أن كان عبدا تعطل أو بهيمة هزلت فالموقوف عليه بالخيار بين الانفاق عليه لأنه هو المالك وبين أن يبيعه ويصرف ثمنه فى مثله وان كان الموقوف على المساكين فالنفقة فى بيت المال لأنه لا مالك له بعينه فهو كالمسجد صلى الله عليه وسلم ( 1 ) وان رأى الامام بيعه وصرف ثمنه فى مثله جاز وإذا كان الوقف دارا فخربت وبطل الانتفاع بها بيعت وصرف ثمنها إلى شراء دار ويجعل وقفا مكانها وكذلك الفرس الحبيس إذا هرم وتعطل يباع ويشترى بثمنه فرس يصلح لما وقف له قال فى رواية بكر بن محمد إن أمكن أن يشترى بثمنه فرسا اشترى وجعل حبيسا وإلا جعله فى ثمن دابة حبيس وكذلك المسجد إذا خرب وحصل بموضع لا يصلى فيه جاز نقله إلى موضع عامر وجاز بيع عرصته نص عليه فى رواية عبد الله قال أبو بكر وتكون الشهادة فى ذلك على الامام
قال وقال أبو بكر فى ( كتاب القولين ) وقد روى على بن سعيد أن المساجد لا تباع ولكن تنقل قال أبو بكر وبالأول أقول يعنى رواية عبد الله لاجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس وقال أحمد فى رواية الحسن بن ثواب فى عبد لرجل بمكة يعنى وقفا فأبى العبد أن يعمل
____________________
(31/214)
يباع فيبدل عبدا مكانه ذكرها القاضي أبو يعلى فى مسألة عتق الرهن فى ( التعليق ( قال أبو البركات فجعل امتناعه كتعطل نفعه يعنى ويلزم باجباره على العمل كما يجبر المستأجر وإن كان امتناعه محرما وجعل تعذر الانتفاع بهذا الوجه كتعطله نظرا إلى مصلحة الوقف
)
( فصل (
وإما إبدال المسجد بغيره للمصلحة مع إمكان الانتفاع بالأول ففيه قولان فى مذهب أحمد واختلف أصحابه فى ذلك لكن الجواز أظهر فى نصوصه وأدلته والقول الآخر ليس عنه به نص صريح وإنما تمسك أصحابه بمفهوم خطه فإنه كثيرا ما يفتى بالجواز للحاجة وهذا قد يكون تخصيصا للجواز بالحاجة وقد يكون التخصيص لكون ذلك هو الذى سئل عنه واحتاج إلى بيانه
وقد بسط أبو بكر عبد العزيز ذلك فى ( الشافى ( الذى اختصر منه ( زاد المسافر ( فقال حدثنا الخلال ثنا صالح بن أحمد ثنا أبى ثنا يزيد بن هارون ثنا المسعودى عن القاسم قال لما قدم عبد الله بن مسعود رضى الله عنه على بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى
____________________
(31/215)
القصر واتخذ مسجدا عند أصحاب التمر قال فنقب بيت المال فأخذ الرجل الذى نقبه فكتب إلى عمر بن الخطاب فكتب عمر أن لا تقطع الرجل وانقل المسجد واجعل بيت المال فى قبلته فانه لن يزال فى المسجد مصل فنقله عبد الله فخط له هذه الخطة قال صالح قال أبى يقال إن بيت المال نقب من مسجد الكوفة فحول عبد الله بن مسعود المسجد فموضع التمارين اليوم فى موضع المسجد العتيق
قال وسألت أبى عن رجل بنى مسجدا ثم أراد تحويله إلى موضع آخر قال إن كان الذى بنى المسجد يريد أن يحوله خوفا من لصوص أو يكون موضعه موضع قذر فلا بأس أن يحوله يقال إن بيت المال نقب وكان فى المسجد فحول بن مسعود المسجد ثنا محمد بن على ثنا أبو يحيى ثنا أبو طالب سئل أبو عبد الله هل يحول المسجد قال إذا كان ضيقا لا يسع أهله فلا بأس أن يجعل إلى موضع أوسع منه ثنا محمد بن على ثنا عبد الله بن أحمد قال سألت أبى عن مسجد خرب ترى أن تباع أرضه وتنفق على مسجد آخر أحدثوه قال إذا لم يكن له جيران ولم يكن أحد يعمره فلا أرى به بأسا أن يباع وينفق على الآخر ثنا محمد بن عبد الله ثنا أبو داود قال سمعت أحمد سئل عن مسجد فيه خشبتان لهما قيمة
____________________
(31/216)
وقد تشعثت وخافوا سقوطه أتباع هاتان الخشبتان وينفق على المسجد ويبدل مكانهما جذعين قال ما أرى به بأسا واحتج بدواب الحبيس التى لا ينتفع بها تباع ويجعل ثمنها فى الحبيس
ولا ريب أن فى كلامه ما يبين جواز ابدال المسجد للمصلحة وان أمكن الانتفاع به لكون النفع بالثانى أكمل ويعود الأول طلقا وقال أبو بكر فى ( زاد المسافر ( قال أحمد فى رواية صالح نقب بيت المال بالكوفة وعلى بيت المال بن مسعود فكتب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه فكتب إليه عمر أن انقل المسجد وصير بيت المال فى قبلته فانه لن يخلو من مصل فيه فنقله سعد إلى موضع التمارين اليوم وصار سوق التمارين فى موضعه وعمل بيت المال فى قبلته فلا بأس أن تنقل المساجد إذا خربت وقال فى رواية أبى طالب إذا كان المسجد يضيق بأهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه جوز تحويله لنقص الانتفاع بالأول لا لتعذره
وقال القاضي أبو يعلى وقال فى رواية صالح يحول المسجد خوفا من لصوص وإذا كان موضعه قذرا وبالثانى قال القاضي أبو يعلى وقال فى رواية أبى داود فى مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض ويجعل تحته سقاية وحوانيت وامتنع بعضهم من ذلك ينظر إلى قول أكثرهم
____________________
(31/217)
ولا بأس به
قال فظاهر هذا أنه أجاز أن يجعل سفل المسجد حوانيت وسقاية قال ويجب أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود بالمسجد قال وكان شيخنا أبو عبد الله هو بن حامد يمنع من ذلك ويتأول المسألة على أنهم اختلفوا فى ذلك عند ابتداء بناء المسجد قبل وقفه قال وليس يمتنع على أصلنا جواز ذلك إذا كان فيه مصلحة لأنا نجيز بيعه ونقله إلى موضع آخر قال وقد قال أحمد فى رواية بكر بن محمد فى مسجد ليس بحصين من الكلاب وغيرها وله منارة فرخص فى نقضها ويبنى بها حائط المسجد للمصلحة
ومال بن عقيل فى ( الفصول ( إلى قول بن حامد فقال هذا يجب أن يحمل على أن الحاجة دعت إلى ذلك كما أن تغيير المسجد ونقله ما جاز عنده الا للحاجة فيحمل هذا الاطلاق على ذلك لا على المستقر قال والاشبه أن يحمل على مسجد يبتدأ انشاؤه وعلى هذا فاختلفوا كيف يبنى فأما بعد كونه مسجدا فلا يجوز أن يباع ولا أن يجعل سقاية تحته
وكذلك رجح أبو محمد قول إبن حامد وقال هو أصح وأولى وان خالف الظاهر قال فان المسجد لا يجوز نقله وإبداله وبيع ساحته وجعلها سقاية وحوانيت إلا عند تعذر الانتفاع والحاجة إلى سقاية وحوانيت لا يعطل نفع المسجد فلا يجوز صرفه فى ذلك قال ولو جاز جعل
____________________
(31/218)
أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة لجاز تخريب المسجد وجعله سقاية وحوانيت ويجعل بدله مسجد فى موضع آخر
وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصه فان نصه صريح فى أن المسجد إذا أرادوا رفعه من الأرض وأن يجعل تحته سقاية وحوانيت وأن بعضهم امتنع من ذلك وقد أجاب بأنه ينظر إلى قول أكثرهم ولو كان هذا عند ابتدائه لم يكن لأحد أن ينازع فى بنيه إذا كان جائزا ولم ينظر فى ذلك إلى قول أكثرهم فإنهم إن كانوا مشتركين فى البناء لم يجبر أحد الشركاء على ما يريده الآخرون إذا لم يكن واجبا ولم يبن إلا باتفاقهم ولأن قوله أرادوا رفعه من الأرض وأن يجعل تحته سقاية بين فى أنه ملصق بالأرض فأرادوا رفعه وجعل سقاية تحته وأحمد اعتبر اختيار الاكثر من المصلين فى المسجد لأن الواجب ترجيح أصلح الأمرين وما أختاره أكثرهم كان أنفع للأكثرين فيكون أرجح
وأيضا فلفظ المسألة على ما ذكره أبو بكر عبد العزيز قال قال فى رواية سليمان بن الأشعث إذا بنى رجل مسجدا فأراد غيره أن يهدمه ويبنيه بناء أجود من الأول فأبى عليه البانى الأول فإنه يصير إلى قول الجيران ورضاهم اذا أحبوا هدمه وبناءه وإذا أراوا أن يرفعوا المسجد من الأرض ويعمل فى أسفله سقاية فمنعهم من ذلك مشايخ ضعفاء وقالوا لا نقدر أن نصعد فانه يرفع ويجعل سقاية ولا أعلم
____________________
(31/219)
بذلك بأسا وينظر إلى قول أكثرهم فقد نص على هذا وتبديل بنائه بأجود وان كره الواقف الأول وعلى جواز رفعه وعمل سقاية تحته وان منعهم مشايخ ضعفاء إذا اختار ذلك الجيران واعتبر أكثرهم قال وقال فى رواية إبن الحكم إذا كان للمسجد منارة والمسجد ليس بحصين فلا بأس أن تنقض المنارة فتجعل فى حائط المسجد لتحصينه
قال أبو العباس وما ذكروه من الأدلة لو صح لكان يقتضى ترجيح غير هذا القول فيكون فى المسألة قولان وقد رجحوا أحدهما فكيف وهى حجج ضعيفة أما قول القائل لا يجوز النقل والابدال الا عند تعذر الانتفاع فممنوع ولم يذكروا على ذلك حجة لا شرعية ولا مذهبية فليس عن الشارع ولا عن صاحب المذهب هذا النفى الذى احتجوا به بل قد دلت الأدلة الشرعية وأقوال صاحب المذهب على خلاف ذلك وقد قال أحمد إذا كان المسجد يضيق بأهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه وضيقه بأهله لم يعطل نفعه بل نفعه باق كما كان ولكن الناس زادوا وقد أمكن أن يبنى لهم مسجد آخر وليس من شرط المسجد أن يسع جميع الناس ومع هذا جوز تحويله إلى موضع آخر لأن اجتماع الناس فى مسجد واحد أفضل من تفريقهم فى مسجدين لأن الجمع كلما كثر كان أفضل لقول النبى ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده
____________________
(31/220)
وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى ( رواه أبو داود وغيره
وهذا مع أنه يجوز بناء مسجد آخر إذا كثر الناس وإن كان قريبا مع منعه لبناء مسجد ضرارا قال أحمد فى رواية صالح لا يبنى مسجد يراد به الضرار لمسجد إلى جانبه فان كثر الناس فلا بأس أن يبنى وإن قرب فمع تجويزه بناء مسجد آخر عند كثرة الناس وإن قرب أجاز تحويل المسجد إذا ضاق بأهله إلى أوسع منه لأن ذلك أصلح وأنفع لا لأجل الضرورة ولأن الخلفاء الراشدين عمر وعثمان رضى الله عنهما غيرا مسجد النبى وأمر عمر بن الخطاب بنقل مسجد الكوفة إلى مكان آخر وصار الأول سوق التمارين للمصلحة الراجحة لا لأجل تعطل منفعة تلك المساجد فانه لم يتعطل نفعها بل ما زال باقيا وكذلك خلفاء المسلمين بعدهم كالوليد والمنصور والمهدى فعلوا مثل ذلك بمسجدى الحرمين وفعل ذلك الوليد بمسجد دمشق وغيرها مع مشورة العلماء فى ذلك وإقرارهم
حتى أفتى مالك وغيره بأن يشترى الوقف المجاور للمسجد ويعوض أهله عنه فجوزوا بيع الوقف والتعويض عنه لمصلحة المسجد لا لمصلحة أهله فإذا بيع وعوض عنه لمصلحة أهله كان أولى بالجواز
وقول القائل لو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه
____________________
(31/221)
الحاجة لجاز تخريب المسجد وجعله سقاية وحوانيت ويجعل بدله مسجد فى موضع آخر قيل نقول بموجب ذلك وهذا هو الذى ذكره أحمد ورواه عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعليه بنى مذهبه فان عمر بن الخطاب خرب المسجد الأول مسجد الجامع الذى كان لأهل الكوفة وجعل بدله مسجدا فى موضع آخر من المدينة وصار موضع المسجد الأول سوق التمارين
فهذه الصورة التى جعلوها نقضا فى المعارضة وأصلا فى قياسهم هي الصورة التى نقلها أحمد وغيره عن الصحابة وبها احتج هو وأصحابه على من خالفهم وقال أصحاب أحمد هذا يقتضى إجماع الصحابة رضى الله عنهم عليها فقالوا وهذا لفظ بن عقيل فى المفردات فى مسألة إبدال المسجد وأيضا روى يزيد بن هارون قال ثنا المسعودى عن القاسم قال لما قدم عبد الله بن مسعود على بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر واتخذ مسجدا عند أصحاب التمر فنقب بيت المال وأخذ الرجل الذى نقبه فكتب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه فكتب عمر لا تقطع الرجل وانقل المسجد واجعل بيت المال فى قبلة المسجد فانه لن يزال فى المسجد مصل فنقله عبد الله فخط له هذه الخطة قال أحمد يقال إن بيت المال نقب فى مسجد الكوفة فحول عبد الله المسجد وموضع التمارين اليوم فى موضع المسجد العتيق قال بن عقيل وهذا كان مع توفر الصحابة فهو
____________________
(31/222)
كالاجماع اذ لم ينكر أحد ذلك مع كونهم لا يسكتون عن إنكار ما يعدونه خطأ لأنهم أنكروا على عمر النهى عن المغالات فى الصدقات حتى ردت عليه امرأة وردوه عن أن يحد الحامل فقالوا إن جعل الله لك على ظهرها سبيلا فما جعل لك على ما فى بطنها سبيلا وأنكروا على عثمان فى إتمام الصلاة فى الحج حتى قال إنى دخلت بلدا فيه أهلى وعارضوا عليا حين رأى بيع أمهات الأولاد فلو كان نقل المسجد منكرا لكان أحق بالانكار لأنه أمر ظاهر فيه شناعة
واحتج أيضا بما روى أبو حفص فى المناسك عن عائشة رضى الله عنها أنه قيل لها يا أم المؤمنين إن كسوة الكعبة قد يداول عليها فقالت تباع ويجعل ثمنها فى سبيل الخير فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة مع أنها وقف وصرف ثمنها فى سبيل الخير لأن ذلك أصلح للمسلمين وهكذا قال من رجح قول بن حامد فى وقف الاستغلال كأبى محمد قال وإن لم تتعطل منفعة الوقف بالكلية لكن قلت أو كان غيره أنفع منه وأكثر ردا على أهل الوقف لم يجز بيعه لأن الأصل تحريم البيع وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع إمكان تحصيله ومع الانتفاع به وإن قلنا يضيع المقصود اللهم إلا أن يبلغ من قلة النفع إلى حد لا يعد نفعا فيكون وجود ذلك كالعدم
فيقال ما ذكروه ممنوع ولم يذكروا عليه دليلا شرعيا ولا مذهبيا
____________________
(31/223)
وإن ذكروا شيئا من مفهوم كلام أحمد أو منطوقه فغايته أن يكون رواية عنه قد عارضها رواية أخرى عنه هي أشبه بنصوصه وأصوله وإذا ثبت فى نصوصه وأصوله جواز ابدال المسجد للمصلحة الراجحة فغيره أولى وقد نص على جواز بيع غيره أيضا للمصلحة لا للضرورة كما سنذكره إن شاء الله تعالى
وأيضا فيقال لهم لا ضرورة إلى بيع الوقف وإنما يباع للمصلحة الراجحة ولحاجة الموقوف عليهم إلى كمال المنفعة لا لضرورة تبيح المحظورات فانه يجوز بيعه لكمال المنفعة وان لم يكونوا مضطرين ولو كان بيعه لا يجوز لأنه حرام لم يجز بيعه لضرورة ولا غيرها كما لم يجز بيع الحر المعتق ولو أضطر سيده المعتق إلى ثمنه وغايته أن يتعطل نفعه فيكون كما لو كان حيوانا فمات
ثم يقال لهم بيعه فى عامة المواضع لم يكن الا مع قلة نفعه لا مع تعطل نفعه بالكلية فانه لو تعطل نفعه بالكلية لم ينتفع به أحد لا المشترى ولا غيره وبيع مالا منفعة فيه لا يجوز أيضا فغايته أن يخرب ويصير عرصة وهذه يمكن الانتفاع بها بالاجارة بأن تكرى لمن يعمرها وهو الذى يسميه الناس ( الحكر ) ويمكن أيضا أن يستسلف ما يعمر به ويوفى من كرى الوقف وهذا على وجهين
أحدهما أن يتبرع متبرع بالقرض ولكن هذا لا يعتمد عليه
____________________
(31/224)
والثانى أن يؤجر اجارة غير موصوفة فى الذمة وتؤخذ الأجرة فيعمر بها ليستوفى المستأجر المقابلة للأجرة وهذان طريقان يكونان للناس إذا خرب الوقف تارة يؤجرون الأرض وتبقى حكرا وتارة يستسلفون من الأجرة ما يعمرون به وتكون تلك الأجرة أقل منها لو لم تكن سلفا وعامة ما يخرب من الوقف يمكن فيه هذا
ومع هذا فقد جوزوا بيعه والتعويض بثمنه لأن ذلك أصلح لأهل الوقف لا للضرورة ولا لتعطل الانتفاع بالكلية فان هذا لا يكاد ينفع ومالا ينتفع به لا يشتريه أحد لكن قد يتعذر أن لا يحصل مستأجر ويحصل مشتر ولكن جواز بيع الوقف إذا خرب ليس مشروطا بأن لا يوجد مستأجر بل يباع ويعوض عنه إذا كان ذلك أصلح من الايجار فانه إذا أكريت الأرض مجردة كان كراها قليلا وكذلك إذا أستسلفت الأجرة للعمارة قلت المنفعة فانهم لا ينتفعون بها مدة استيفاء المنفعة المقابلة لما عمر به وإنما ينتفعون بها بعد ذلك ولكن الأجرة المسلفة تكون قليلة ففى هذا قلت منفعة الوقف
فتبين أن المسوغ للبيع والتعويض نقص المنفعة لكون العوض أصلح وأنفع ليس المسوغ تعطيل النفع بالكلية ولو قدر التعطيل لم يكن ذلك من الضرورات التى تبيح المحرمات وكلما جوز للحاجة لا للضرورة كتحلى النساء بالذهب والحرير والتداوى بالذهب والحرير فانما أبيح لكمال
____________________
(31/225)
الانتفاع لا لأجل الضرورة التى تبيح الميتة ونحوها وإنما الحاجة فى هذا تكميل الانتفاع فان المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها فهذه هي الحاجة فى مثل هذا وأما الضرورة التى يحصل بعدمها حصول موت أو مرض أو العجز عن الواجبات كالضرورة المعتبرة فى أكل الميتة فتلك الضرورة المعتبرة فى أكل الميتة لا تعتبر فى مثل هذا والله أعلم
ولهذا جوز طائفة من الأصحاب هذا الموضع بينوا أنه عند التعطيل بالكلية ينتهى الوقف وإنما الكلام إذا بقى منه ما ينتفع به ومن هؤلاء أبو عبد الله بن تيمية قال فى ( ترغيب القاصد ( الحكم الخامس إذا تعطل الوقف فله أحوال
أحدها أن ينعدم بالكلية كالفرس إذا مات فقد أنتهت الوقفية
الثانية أن يبقى منه بقية متمولة كالشجرة إذا عطبت والفرس إذا أعجف والمسجد إذا خرب فان ذلك يباع ويصرف فى تحصيل مثله أو فى شقيص من مثله
الثالثة حصر المسجد إذا بليت وجذوعه إذا تكسرت وتحطمت فإنه يباع
ويصرف فى مصالح المسجد وكذلك إذا أشرفت جذوعه على التكسير أو داره على الانهدام وعلم أنه لو أخر لخرج عن أن ينتفع به فانه يباع
____________________
(31/226)
قال أحمد رحمه الله تعالى فى رواية أبى داود اذا كان فى المسجد خشبات لها قيمة وقد تشعثت جاز بيعها وصرف ثمنها عليه
الرابعة إذا خرب المسجد وآلته تصلح لمسجد آخر يحتاج إلى مثلها فإنها تحول إليه وأما الأرض فتباع هذا اذا لم يمكن عمارته بثمن بعض آلته والا بيع ذلك وعمر به نص عليه
الخامسة إذا ضاق المسجد بأهله أو تفرق الناس عنه لخراب المحلة فإنه يباع ويصرف ثمنه فى انشاء مسجد آخر أو فى شقص فى مسجد
فقد بين من قال هذا أنه لا يمكن بيعه مع تعطل المنفعة بالكلية بل إذا أبقى منه ما ينتفع به وحينئذ فالمقصود التعويض عنه بما هو أنفع لأهل الوقف منه ولم يشترط أحد من الأصحاب تعذر إجارة العرصة مع العلم بأنه فى غالب الأحوال يمكن إجارة العرصة لكن يحصل لأهل الوقف منها أقل مما كان يحصل لو كان معمورا وإذا بيعت فقد يشترى بثمنها ما تكون اجرته أنفع لهم لأن العرصة يشتريها من يعمرها لنفسه فينتفع بها ملكا ويرغب فيها لذلك ويشترى بثمنها ما تكون غلته أنفع من غلة العرصة فهذا محل الجواز الذى أتفق الأصحاب عليه وحقيقته تعود إلى أنهم عوضوا أهل الوقف عنه بما هو أنفع لهم منه
____________________
(31/227)
فإن قيل فلفظ الخرقى وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئا بيع واشترى بثمنه ما يرد على أهل الوقف قيل هذا اللفظ إما أن يراد به أنه لم يرد شيئا مما كان يرده لما كان معمورا مثل دور وحوانيت خربت فانها لو تشعثت ردت بعض ما كانت ترده مع كمال العمارة بخلاف ما إذا خربت بالكلية فانها لا ترد شيئا من ذلك وأما أن يراد به لا ترد شيئا لتعطيل نفعه من جميع الوجوه فان كان مراده هو الأول وهو الظاهر الذى يليق أن يحمل عليه كلامه فهو مطابق لما قلناه ولهذا قال بيع ولو تعطل نفعه من كل الجهات لم يجز بيعه وان كان مراده أنه تعطل على أهل الوقف انتفاعهم به من كل وجه لتعذر اجارة العرصة مع إمكان انتفاع غيرهم بها كما قال أحمد فى العبد فان أراد هذه الصورة كان منطوق كلامه موافقا لما تقدم ولكن مفهومه يقتضى أنه إذا أمكن أهل الوقف أن يؤجروه بأقل أجرة لم يجز بيعه وهذا غايته أن يكون قولا فى المذهب لكن نصوص أحمد تخالف ذلك فى بيع المسجد والفرس الجيس وغيرهما كما قد ذكر المسجد وأما الفرس الجيس إذا عطب فان الذى يشتريه قد يشتريه ليركبه أو يديره فى الرحى ويمكن أهل الجهاد أن ينتفعوا به فى مثل ذلك مثل الحمل عليه واستعماله فى الرحى واجارته وانتفاعهم بأجرته ولكن المنفعة المقصودة لحبسه وهى الجهاد عليه تعطلت ولم يتعطل انتفاعهم به بكل وجه
____________________
(31/228)
( فصل (
وإذا كان يجوز فى ظاهر مذهبه فى المسجد الموقوف الذى يوقف للانتفاع بعينه وعينه محترمة شرعا يجوز أن يبدل به غيره للمصلحة لكون البدل أنفع وأصلح وإن لم تتعطل منفعته بالكلية ويعود الأول طلقا مع أنه مع تعطل نفعه بالكلية هل يجوز بيعه عنه فيه روايتان فلأن يجوز الابدال بالأصلح والأنفع فيما يوقف للاستغلال أولى وأحرى فانه عنده يجوز بيع ما يوقف للاستغلال للحاجة قولا واحدا وفى بيع المسجد للحاجة روايتان
فإذا جوز على ظاهر مذهبه ان يجعل المسجد الأول طلقا ويوقف مسجد بدله للمصلحة وإن لم تتعطل منفعة الأول فلأن يجوز أن يجعل الموقوف للاستغلال طلقا ويوقف بدله أصلح منه وإن لم تتعطل منفعة الأول أحرى فإن بيع الوقف المستغل أولى من بيع المسجد وإبداله أولى من إبدال المسجد لأن المسجد تحترم عينه شرعا ويقصد الانتفاع بعينه فلا يجوز اجارته ولا المعاوضة عن منفعته بخلاف وقف الاستغلال فانه يجوز اجارته والمعاوضة عن نفعه وليس المقصود أن يستوفى الموقوف عليه منفعته بنفسه كما يقصد مثل ذلك فى المسجد ولا له حرمة شرعية لحق الله تعالى كما للمسجد
____________________
(31/229)
وأيضا فالوقف لله فيه شبه من التحرير وشبه من التمليك وهو أشبه بأم الولد عند من يمنع نقل الملك فيها فإن الوقف من جهة كونه لا يبيعه أحد يملك ثمنه ولا يهبه ولا يورث عنه يشبه التحرير والاعتاق ومن جهة أنه يقبل المعاوضة بأن يأخذ عوضه فيشترى به ما يقوم مقامه يشبه التمليك فإنه إذا أتلف ضمن بالبدل واشترى بثمنه ما يقوم مقامه عند عامة العلماء بخلاف المعتق فإنه صار حرا لا يقبل المعاوضة فالبيع الثابت فى الطلق لا يثبت فى الوقف بحال وهو أن يبيعه المالك أو وليه أو وكيله ويملك عوضه من غير بدل يقوم مقامه وهذا هو البيع الذى تقرن به الهبة والارث كما قال عمر بن الخطاب فى وقفه لا يباع ولا يوهب ولا يورث
ويشبه هذا أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضى الله عنهما جعلا الأرض المفتوحة عنوة فيئا للمسلمين كأرض السواد وغيرها ولم يقسما شيئا مما فتح عنوة و ( لما ) كانوا يمنعون من شرائها لئلا يقر المسلم بالصغار فإن الخراج كالجزية أو يبطل حق المسلمين ظن بعض العلماء أنهم منعوا بيعها لكونها وقفا والوقف لا يباع وزعموا أن ذلك يوجب أن مكة لاتباع لكونها فتحت عنوة وهذا غلط فإن أرض الخراج المفتوحة عنوة المجعولة فيئا توهب وتورث فإنها تنتقل عمن هي بيده إلى وارثه ويهبها وهذا ممتنع فى الوقف وإذا بيعت لمن يقوم فيها مقام البائع ولم يغير شيئا فهذه المسألة تعلقت بالأحكام الشرعية بأعيانها وما سواها تعلقت بجنسه لا بعينه فيؤدى خراجها فلم يكن فى ذلك ضرر على مستحقها ولا زال حقهم عنها
____________________
(31/230)
والوقف إنما منع بيعه لئلا يبطل حق مستحقيه وهذه يجوز فيها ابدال شخص بشخص بالاتفاق فسواء كان بطريق المعاوضة أو غيرها )
والمقصود هنا أن الوقف فيه شوب التحرير والتمليك ولهذا اختلف الفقهاء فى الوقف على المعين هل يفتقر إلى قبوله كالهبة أو لا يفتقر إلى قبوله كالعتق على قولين مشهورين بخلاف الوقف على جهة عامة كالمساجد والوقف على المعين أقرب إلى التمليك من وقف المساجد ونحوها مما يوقف على جهه عامة ووقف المساجد أشبه بالتحرير من غيرها فانها خالصة لله عز وجل كما قال تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } والمساجد بيوت الله كما أن العتيق صار حرا أى خالصا لله والتحرير التخليص من الرق ومنه الطين الحر وهو الخالص فالعتق تخليص العبد لله
ولهذا منع الشارع أن يجعل بعض مملوكة حرا وبعضه رقيقا وقال ( ليس لله شريك ) فاذا اعتق بعضه عتق جميعه وفى الصحيحين عن بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( من أعتق شركا له فى عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ) وكذلك
____________________
(31/231)
فى الصحيحين مثله من حديث ابى هريرة فأوجب تكميل عتقه وإن كان ملكا لغيره والزم المعتق بأن يعطى شركاءه حصصهم من الثمن لتكميل عتق العبد لئلا يكون لله شريك
ومذهب الأئمة الأربعة وسائر الأمة وجوب تكميل العتق لكن الجمهور يقولون إذا كان موسرا ألزم بالعوض كما فى حديث بن عمر وأبى هريرة وإن كان معسرا فمنهم من قال بالسعاية بأن يستسعى العبد وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد فى أحدى الروايتين اختارها أبو الخطاب ومنهم من لا يقول بها وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد فى الرواية الأخرى واختارها أكثر أصحابه
والمقصود أن المساجد أبلغ الموقوفات تحريرا وشبها بالعتق وليس لأحد أن يعتاض عن منفعتها كما يجوز ذلك فى غيرها كما أنه لا يملك أحد اعتق عبدا منافعه ومع هذا فأحمد اتبع الصحابة فى جواز إبدال المسجد بمسجد آخر وجعل المسجد الأول سوقا وجوز إبدال الهدى والأضحية بخير منها مع أنها أيضا لله تعالى يجب ذبحها لله فلأن يجوز الابدال فى غيرها وهو أقرب إلى التمليك أولى فان حقوق الآدميين تقبل من المعاوضة والبدل ما لا يقبلها حقوق الله تعالى ولا تمنع المعاوضة فى حق الآدمى إلا أن يكون فى ذلك ظلم لغيره أو يكون فى ذلك حق لله أو يكون من حقوق الله فإنه لايجوز إبدال الصلوات والحج بعمل آخر ولاالقبلة
____________________
(31/232)
بقبلة أخرى ولا شهر رمضان بشهر آخر ولا وقت الحج ومكانه بوقت آخر ومكان آخر بل أهل الجاهلية لما ابتدعوا النسىء الذى يتضمن إبدال وقت الحج بوقت آخر قال الله تعالى إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله )
والمساجد الثلاثة التى بنتها الأنبياء عليهم السلام وشرع للناس السفر إليها ووجب السفر إليها بالنذر لا يجوز إبدال عرصتها بغيرها بل يجوز الزيادة فيها وإبدال التأليف والبناء بغيره كما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة بخلاف غيرها فانه لا يتعين للنذر ولا يسافر إليه فيجوز إبداله للمصلحة كما تقدم والله أعلم
ومما يبين ذلك أن الوقف على معين قد تنازع العلماء فيه هل هو ملك للموقوف عليه أو هو باق على ملك الواقف أو هو ملك لله تعالى على ثلاثة أقوال معروفة فى مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما وأكثر أصحاب أحمد يختارون أنه ملك للموقوف عليه كالقاضى وبن عقيل وأما المسجد ونحوه فليس ملكا لمعين باتفاق المسلمين وإنما يقال هو ملك لله وقد يقال هو ملك لجماعة المسلمين لأنهم المستحقون للانتفاع به فإذا جاز إبدال هذا بخير منه للمصلحة فالأول أولى أما بان يعوض عنها بالبدل وأما أن تباع ويشترى بثمنها البدل والابدال كما تقدم يبدل بجنسه بما هو انفع للموقوف عليه
____________________
(31/233)
( فصل (
قد نص أحمد على أبلغ من ذلك وهو وقف ما لا ينتفع به الا مع إبدال عينه فقال أبو بكر عبد العزيز فى ( الشافى ( نقل الميمونى عن أحمد أن الدراهم إذا كانت موقوفة على أهل بيته ففيها الصدقة وإذا كانت على المساكين فليس فيها صدقة قلت رجل وقف ألف درهم فى السبيل قال إن كانت للمساكين فليس فيها شيء قلت فان وقفها فى الكراع والسلاح قال هذه مسألة لبس واشتباه قال أبو البركات وظاهر هذا جواز وقف الأثمان لغرض القرض أو التنمية والتصدق بالربح كما قد حكينا عن مالك والأنصارى قال ومذهب مالك صحة وقف الأثمان للقرض ذكره صاحب ( التهذيب ) وغيره فى الزكاة وأوجبوا فيها الزكاة كقولهم فى الماشية الموقوفة على الفقراء وقال محمد بن عبد الله الأنصارى يجوز وقف الدنانير لأنه لا ينتفع بها الاباستهلاك عينها وتدفع مضاربة ويصرف ربحها فى مصرف الوقف ومعلوم أن القرض والقراض يذهب عينه ويقوم بدله مقامه وجعل المبدل به قائما مقامه لمصلحة الوقف وان لم تكن الحاجة ضرورة الوقف لذلك وهذه المسألة فيها نزاع فى مذهبه فكثير من أصحابه منعوا وقف الدراهم والدنانير لما ذكره الخرقى ومن اتبعه ولم يذكروا عن أحمد نصا بذلك ولم ينقله القاضي وغيره الا عن الخرقى وغيره
____________________
(31/234)
وقد تأول القاضي رواية الميمونى فقال ولا يصح وقف الدراهم والدنانير على ما نقل الخرقى قال قال أحمد فى رواية الميمونى إذا وقف ألف درهم فى سبيل الله وللمساكين فلا زكاة فيها وإن وقفها فى الكراع والسلاح فهي مسألة لبس قال ولم يرد بهذا وقف الدراهم وإنما أراد إذا أوصى بألف تنفق على أفراس فى سبيل الله فتوقف فى صحة هذه الوصية قال أبو بكر لأن نفقة الكراع والسلاح على من وقفه فكانه اشتبه عليه إلى أين تصرف هذه الدراهم إذا كان نفقة الكراع والسلاح على أصحابه
والأول أصح لأن المسألة صريحة فى أنه وقف الألف لم يوص بها بعد موته
لأنه لو وصى أن تنفق على خيل وقفها غيره جاز ذلك بلا نزاع كما لو وصى بما ينفق على مسجد بناه غيره وقول القائل أن نفقة الكراع والسلاح على من وقفه ليس بمسلم فى ظاهر المذهب بل إن شرط له الواقف نفقة وإلا كان من بيت المال كسائر ما يوقف للجهات العامة كالمساجد وإذا تعذر من ينفق عليه بيع ولم يكن على الواقف الانفاق عليه وأحمد توقف فى وجوب الزكاة لا فى وقفها فانه إنما سئل عن ذلك لأن مذهبه أن الوقف إذا كان على جهة خاصة كبنى فلان وجبت فيه الزكاة عنده فى عينه فلو وقف أربعين شاة على بنى فلان وجبت الزكاة فى عينها فى المنصوص عنه وهو مذهب مالك قال فى رواية مهنا فيمن وقف أرضا أو غنما فى سبيل الله لا زكاة عليه ولا عشر هذا فى السبيل إنما يكون ذلك إذا جعله فى قرابته
____________________
(31/235)
ولهذا قال أصحابه هذا يدل على ملك الموقوف عليه لرقبة الوقف وجعلوا ذلك إحدى الروايتين عنه وفى مذهبه قول آخر أنه لا زكاة فى عين الوقف لقصور ذلك واختاره القاضي فى ( المجرد ( وبن عقيل وهو قول أكثر أصحاب الشافعى
وأما ما وقفه على جهة عامة كالجهاد والفقراء والمساكين فلا زكاة فيه فى مذهبه ومذهب الشافعى وأما مالك فيوجب فيه الزكاة فتوقف أحمد فيما وقف فى الكراع والسلاح لأن فيها اشتباها لأن الكراع والسلاح قد يعينه لقوم بعينهم إما لأولاده أو غيرهم بخلاف ما هو عام لا يعتقبه التخصيص
( فصل (
وقال فى رواية بكر بن محمد فيمن وصى بفرس وسرج ولجام مفضض يوقف فى سبيل الله حبيس فهو على ما وقف وأوصى وان بيع الفضة من السرج واللجام وجعل فى وقف مثله فهو أحب إلى لأن الفضة لا ينتفع بها ولعله يشترى بتلك الفضة سرج ولجام فيكون أنفع للمسلمين فقيل له تباع الفضة وتصرف فى نفقة الفرس قال لا وهذا مما ذكره الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز والقاضى وأبو محمد المقدسى وغيرهم فقد صرح أحمد بأن الفرس واللجام المفضض هو على ما وقف وأوصى وأنه أن بيعت الفضة من السرج واللجام وجعل فى وقف مثله فهو أحب إليه قال لأن الفضة لا ينتفع بها ولعله يشترى بتلك الفضة سرج ولجام فيكون أنفع للمسلمين فخير بين إبقاء الحلية الموقوفة وقفا وبين
____________________
(31/236)
أن تباع ويشترى بثمنها ما هو أنفع للمسلمين من سرج ولجام وهذا يبين أفضل الأمرين
وقوله لأن الفضة لا ينتفع بها لم يرد به أنه لا منفعة بها بحال فإن التحلى منفعة مباحة ويجوز استئجار من يصوغ الحلية المباحة ولو أتلف متلف الصياغة المباحة ضمن ذلك وقد نص أحمد على ذلك ولو لم يكن منفعة لم يصح الاستئجار عليها ولا ضمنت بالاتلاف بل أراد نفى كمال المنفعة كما يقال هذا لا ينفع يراد أنه لا ينفع منفعة تامة ويدل على ذلك قوله ويشترى بثمنها ما هو أنفع للمسلمين فدل على أن كلاهما سائغ والثانى أنفع ولأنه لو لم تكن فيه منفعة بحال لم يصح وقفه فان وقف مالا ينتفع به لا يجوز وهذا يبين أن أفضل الأمرين أن يباع الوقف ويبدل بما هو أنفع منه للموقوف عليه وان ذلك أفضل من ابقائه وقفا لأنه أصلح للموقوف عليه ولم يوجب الابدال )
وقوله فهو على ما وقف وأوصى يقتضى أن هذا حكم ما وقفه وما وصى بوقفه وان كانت المسألة التى سئل عنها هي فيمن وصى بوقفه ومعلوم أنه يجب اتباع شرطه فيما وصى بوقفه كما يجب فيما وقفه كما يجب اتباع كلامه فيما وصى بعتقه كما يجب ذلك فيما أعتقه وأنه لا يجوز أن يوقف ويعتق غير ما أوصى بوقفه وعتقه كما لا يجوز أن يجعل الموقوف والمعتق غير ما وقفه وأعتقه فجواز الابدال فى أحدهما كجوازه فى الآخر وقد علل استحبابه للابدال بمجرد كون البدل أنفع للمسلمين من الزينة
____________________
(31/237)
ونظير هذا إذا وقف ما هو مزين بنقوش ورخام وخشب وغير ذلك مما يكون ثمنه مرتفعا لزينته فإنه يباع ويشترى بثمنه ما هو أنفع لأهل الوقف فالاعتبار بما هو أنفع لأهل الوقف وقد تكون تلك الفضة أنفع لمشتريها وهذا لأن انتفاع المالك غير إنتفاع أهل الوقف ولهذا يباع الوقف الخرب لتعطل نفعه ومعلوم أن مالا نفع فيه لا يجوز بيعه لكن تعطل نفعه على أهل الوقف ولم يتعطل على المالك لأن أهل الوقف مقصودهم الاستغلال أو السكنى وهذا يتعذر فى الخراب والمالك يشتريه فيعمره بماله
وقد اختلف مذهب أحمد فى مثل هذه الحلية على قولين كحلية الخوذة والجوشن وحمائل السيف ونحو ذلك من لباس الجهاد فان لباس خيل الجهاد كلباس المجاهدين وهذه الرواية تدل على جواز تحلية لباس الخيل بالفضة كالسرج واللجام فانه جوز وقف ذلك وجعل بيعه وصرف ثمنه فى وقف مثله أحب إليه ولو لم يبح ذلك لم يخير بين هذا وهذا وقال القاضي فى ( المجرد ) ظاهر هذا أنه أبطل الوقف فى الفضة التى على اللجام والسرج لأن الانتفاع بذلك محرم وليس كذلك الحلى الذى استعماله مباح وأجاز صرف ذلك فى جنس ما وقفه من السروج واللجم ومنع من صرفه فى نفقة الفرس لأنه ليس من جنس الوقف
والقاضى بنى هذا على أن هذه الحلية محرمة وأنه إذا وقف ما يحرم الانتفاع به فانه يباع ويشترى به ما يباح الانتفاع به فيوقف على تلك الجهة ومعلوم أنه لولا أن مقتضى عقد الوقف جواز الابدال للمصلحة لم يجز هذا كما أنه فى البيع
____________________
(31/238)
والنكاح لما لم يكن مقتضى العقد جواز الابدال لم يصح بيع مالا يحل الانتفاع به ولا نكاح من يحرم وطؤها وهذا يشبه ما لو أهدى مالا يجوز أن يكون هديا فانه يشترى بثمنه ما يكون هديا وكذلك فى الأضحية
وكلام أحمد يدل على الطريقة الأولى لا على الثانية وهى طريقة أبى محمد وغيره من أصحاب أحمد قال أبو محمد أباح أحمد أن يشترى بفضة السرج واللجام سرجا ولجاما لأنه صرف لهما فى جنس ما كانت عليه حيث لم ينتفع بهما فيه فأشبه الفرس الحبيس إذا عطب فلم ينتفع به فى الجهاد جاز بيعه وصرف ثمنه فى مثله قال ولم يجز انفاقها على الفرس لأنه صرف لها إلى غير جهتها
وأبو محمد جعل ذلك من باب تعطل النفع بالكلية كعطب الفرس وخراب الوقف بناء على أصله فانه لا يجوز بيعه إلا إذا تعطل نفعه بالكلية كما تقدم ويدل على أن وقف الحلية صحيح وهو قول الخرقى والقاضى وغيرهما والقاضى يجعل المذهب قولا واحدا فى صحة وقفه
وأما أبو الخطاب وغيره فيجعلون فى المسألة خلافا بل ويذكرون النصوص أنه لا يصح بحسب ما بلغهم من نصه قال القاضي فان وقف الحلى على الاعارة واللبس فقال فى رواية الأثرم وحنبل لا يصح وأنكر الحديث الذى يروى عن أم سلمة فى وقفه قال القاضي وظاهر ما نقله الخرقى جواز وقفه لأنه يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه وقوله لا يصح يعنى لا يصح الحديث
____________________
(31/239)
فيه ولم يقصد لا يصح الوقف فيه وقال أبو الخطاب وأما وقف الحلى على الاعارة واللبس فجائز على ظاهر ما نقله الخرقي ونقل عنه الأثرم وحنبل أنه لا يصح
وتجويزه لوقف السرج واللجام المفضض يوافق ما ذكره الخرقى لكن ابداله بما هو أنفع لأهل الوقف أفضل عنده أن يشترى بالحلية سرج ولجام
فصل (
ونصوص أحمد فى غير موضع واختيار جمهور أصحابه جواز إبدال ( الهدى والأضحية ) بخير منها قال أحمد فى رواية أبى طالب فى الرجل يشترى الأضحية يسمنها للأضحى يبدلها بما هو خير منها لا يبدلها بما هو دونها فقيل له فان أبدلها بما هو خير منها يبيعها قال نعم قال القاضي وقد أطلق القول فى رواية صالح وبن منصور وعبد الله بجواز أن تبدل الأضحية بما هو خير منها قال ورأيت فى مسائل الفضل بن زياد إذا سماها لا يبيعها إلا لمن يريد أن يضحى بها
وهاتان الروايتان عنه كالروايتين عنه فى المسجد هل يباع أو تنقل آلته لخير منه كذلك هنا منع فى احدى الروايتين أن يأخذ عنها بدلا
____________________
(31/240)
إلا إذا كانت يضحى بها لتعلق حرمة التضحية بعينها وقال الخرقى ويجوز أن تبدل الأضحية إذا أوجبها بخير منها وقال القاضي أبو يعلى فى ( التعليق ( إذا أوجب بدنة جاز بيعها وعليه بدنة مكانها فان لم يوجب مكانها حتى زادت فى بدن أو شعر أو ولدت كان عليه مثلها زائدة ومثل ولدها ولو أوجب مكانها قبل الزيادة والولد لم يكن عليه شيء من الزيادة
ولم أعلم فى أصحاب أحمد من خالف فى هذا إلا أبا الخطاب فإنه اختار أنه لا يجوز ابدالها
وقال إذا نذر أضحية وعينها زال ملكه عنها ولم يجز أن يتصرف فيها ببيع ولا إبدال وكذلك إذا نذر عتق عبد معين أو دراهم معينة وقال هذا قياس المذهب عندى لأن التعيين يجرى مجرى النص فى النذر الذى لا يلحقه الفسخ لأن أحمد قد نص فى رواية صالح وإبراهيم بن الحارث فيمن نذر أضحية بعينها فأعورت أو أصابها عيب تجزيه ولو كانت فى ملكه لم تجزه ووجبت عليه صحيحة كما لو نذر أضحية مطلقة قال وكذلك نص فى رواية حنبل فى الهدى إذا عطب فى الحرم فقد أجزأ عنه ولو كان فى ملكه لم يجزه ووجب بدله وغير ذلك من المسائل فدل على ما قلت
وأبو الخطاب بنى ذلك على أن ملكه زال عنها فلا يجوز الابدال بعد زوال الملك وهو قول أصحاب مالك والشافعى وأبو حنيفة يجوزون ابدالها بخير منها وبنى أصحابه ذلك هم والقاضى أبو يعلى وموافقوه على أن ملكه لم يزل عنها والنزاع بين الطائفتين فى هذا الأصل وأحمد وفقهاء أصحابه
____________________
(31/241)
لا يحتاجون أن يبنوا على هذا الأصل وقال أبو الخطاب هذا هو القياس فى النذر أنه إذا نذر الصلاة فى مسجد بعينه لزمه وإنما تركناه للشرع وهو قوله ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ( فقيل له فلو نذر الصلاة فى المسجد الأقصى جاز له الصلاة فى المسجد الحرام فقال إن لم يصح الخبر بذلك لم نسلم على هذه الرواية
وهذا الذى قاله أبو الخطاب كما أنه خلاف نصوص أحمد وجمهور أصحابه فهو خلاف سائر أصوله فإن جواز الابدال عند أحمد لا يفتقر إلى كون ذلك فى ملكه بل ولا تأثير لذلك فى جواز الابدال فانه لو نذر عتق عبد فعينه لم يجز إبداله بلا ريب وإن لم يخرج عن ملكه بل ويقول خرجت الأضحية عن ملكه ويجوز إبدالها بخير منها كما نقول مثل ذلك فى المساجد وكما نقول بجواز الابدال فى المنذورات لأن الذبح عبادة لله وذبح الأفضل أحب إلى الله تعالى فكان هذا كابدال المنذور بخير منه وذلك خير لأهل الحرم بخلاف العتق فان مستحقه هو العبد فبطل حقه بالابدال
والنزاع فى كون الأضحية المعينة بالنذر ثابتة على ملكه أو خارجة عن ملكه إلى الله يشبه النزاع فى الوقف على الجهة العامة والمشهور فى مذهب أحمد والجمهور فى ذلك أنها ملك لله وقد يقال لجماعة المسلمين والمتصرف فيه بالتحويل هم المسلمون المستحقون للانتفاع به فيتصرفون فيه بحكم الولاية لا بحكم الملك
____________________
(31/242)
وكذلك الهدى والأضحية المعين بالنذر إذا قيل إنه يخرج عن ملك صاحبه فان له ولاية التصرف فيه بالذبح والتفريق فكذلك له ولاية التصرف فيه بالابدال كما لو أتلفه متلف فانه كان يأخذ ثمنه يشترى به بدله وإن لم يكن مالكا له فكونه خارجا عن ملكه لا يناقض جواز تصرفه فيه بولاية شرعية
وقول القائل يملكه صاحبه أو لا يملكه في ذلك وفى نظائره كقوله العبد يملك أو لا يملك وأهل الحرب هل يملكون أموال المسلمين أو لا يملكونها والموقوف عليه هل يملك الوقف أو لا يملكه إنما نشأ فيها النزاع بسبب ظن كون الملك جنسا واحدا تتماثل أنواعه وليس الأمر كذلك بل الملك هو القدرة الشرعية والشارع قد يأذن للانسان فى تصرف دون تصرف ويملكه ذلك التصرف دون هذا فيكون مالكا ملكا خاصا ليس هو مثل ملك الوارث ولا ملك الوارث كملك المشترى من كل وجه بل قد يفترقان وكذلك ملك النهب والغنائم ونحوهما قد خالف ملك المبتاع والوارث
فقول القائل أنه يملك الأضحية المعينة إن أراد أنه يملكها كما يملك المبتاع بحيث يبيعها ويأخذ ثمنها لنفسه ويهبها لمن يشاء وتورث عنه ملكا فليس الأمر كذلك وكذلك إن أراد بخروجها عن ملكه أنه انقطع تصرفه فيها كما ينقطع التصرف بالرق أو البيع فليس الأمر كذلك بل له فيها ملك خاص وهو ملكه ان يحفظها ويذبحها ويقسم لحمها ويهدى ويتصدق ويأكل وهذا الذى يملكه من أضحيته لا يملكه من أضحيته غيره
____________________
(31/243)
( فصل (
والدليل على ذلك وجوه
أحدها ما ثبت فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها عن النبى أنه قال ( لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه ( ومعلوم أن الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه واجبا لم يتركه فعلم أنه كان جائزا وأنه كان أصلح لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالاسلام وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر فعلم أن هذا جائز فى الجملة وتبديل التأليف بتأليف آخر هو أحد أنواع الابدال
وأيضا فقد ثبت أن عمر وعثمان غيرا بناء مسجد النبى صلى الله عليه وسلم أما عمر فبناه بنظير بنائه الأول باللبن والجذوع وأما عثمان فبناه بمادة أعلى من تلك كالساج وبكل حال فاللبن والجذوع التى كانت وقفا أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر ولا فرق بين إبدال البناء ببناء وإبدال العرصة بعرصة إذا اقتضت المصلحة ذلك ولهذا أبدل عمر بن الخطاب مسجد الكوفة بمسجد آخر أبدل نفس العرصة
____________________
(31/244)
وصارت العرصة الأولى سوقا للتمارين فصارت العرصة سوقا بعد أن كانت مسجدا وهذا أبلغ ما يكون فى ابدال الوقف للمصلحة وأيضا فقد ثبت عن النبى أنه جوز إبدال المنذور بخير منه ففى المسند مسند أحمد وسنن أبى داود قال أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد يعنى بن سلمة أنا حبيب المعلم عن عطاء بن أبى رباح عن جابر بن عبد الله أن رجلا قام يوم الفتح فقال يا رسول الله إنى نذرت أن فتح الله عز وجل عليك مكة أن أصلى فى بيت المقدس قال أبو سلمة مرة ركعتين قال ( صل ها هنا ( ثم أعاد عليه فقال ( صل ها هنا ( ثم أعاد عليه قال ( فشأنك إذا ( قال أبو داود وروى نحوه عن عبد الرحمن بن عوف عن النبى
ولهذا فى السنن طريق ثالث رواه أحمد وأبو داود عن طائفة من أصحاب النبى قال أبو داود ثنا ( 1 ) بن خالد ثنا أبو عاصم وثنا عباس العمبرى ثنا روح عن بن جريج أنا يوسف بن الحكم بن أبي سفيان أنه سمع حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن رجال من أصحاب النبى بهذا الخبر زاد فقال النبى ( والذى بعث محمدا بالحق لو صليت ها هنا لأجزأ عنك صلاة فى بيت المقدس ( قال أبو داود رواه الأنصار عن بن جريح قال حفص بن عمر بن حنة وقال عمر أخبراه عن عبد الرحمن بن عوف عن رجال من أصحاب النبى
____________________
(31/245)
وفى المسند وصحيح مسلم عن إبن عباس رضى الله عنهما أن امرأة شكت شكوى فقالت إن شفانى الله فلأخرجن فلأصلين فى بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها وأخبرتها بذلك فقالت إجلسى وكلى ما صنعت وصلى فى مسجد رسول الله فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا مسجد الكعبة (
وهذا مذهب عامة العلماء كالشافعى وأحمد بن حنبل وغيرهما وأبى يوسف صاحب أبى حنيفة وبن المنذر وغيرهم قالوا إذا نذر أن يصلى فى بيت المقدس أجزأه الصلاة فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم أجزاه الصلاة فى المسجد الحرام وان نذر الصلاة فى المسجد الحرام لم تجزه الصلاة فى غيره عند الأكثرين وهو مذهب بن المسيب ومالك والشافعى فى أصح قوليه ومذهب أبى يوسف صاحب أبى حنيفة وحكى عن أبى حنيفة لا يتعين شيء للصلاة بخلاف ما لو نذر أن يأتى المسجد الحرام لحج أو عمرة فان هذا يلزمه بلا نزاع وأبو حنيفة بنى هذا على أصله وهو أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع
وأما مالك وأحمد والشافعى فى ظاهر مذهبه فيوجبون بالنذر ما كان طاعة وأن لم يكن جنسه واجبا بالشرع كما ثبت فى صحيح البخارى عن عائشة
____________________
(31/246)
رضى الله عنها عن النبى أنه قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر ان يعصى الله فلا يعصه ) والنبى قال ( صل ها هنا ) وقال ( لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة أو كل صلاة فى بيت المقدس ) فخص الأمر بالصلاة فى المسجد الحرام ولم يقل صل حيث شئت وقال ( لو صليت ها هنا لأجزأ عنك صلاة فى بيت المقدس ) فجعل المجزى عنه الصلاة فى المسجد الأفضل لا فى كل مكان فدل هذا على أنه لم ينقله إلى البدل إلا لفضله لا لكون الصلاة لم تتعين
وقد ثبت عنه فى الصحاح تفضيل مسجده والمسجد الحرام على المسجد الأقصى وفى السنن والمسند تفضيل المسجد الحرام على مسجده وثبت عنه فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وأبى سعيد أنه قال ( لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا ( وفى لفظ لمسلم ( إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد ( فدل ذلك على أن السفر إلى هذه الثلاثة بر وقربة وعمل صالح ولهذا أذن له النبى أن يذهب إلى الأقصى مع أمره له أن يصلى فى المسجد الحرام وأخباره أن ذلك يجزيه فدل ذلك على أنه أمر ندب وأنه مخير بين أن يفعل عين المنذور وأن يفعل ما هو أفضل منه
ومعلوم أن النذر يوجب عليه ما نذره لله تعالى من الطاعة لقوله ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) وهو أمر أوجبه هو على نفسه لم يجب بالشرع ابتداء
____________________
(31/247)
ثم أن الشارع بين أن البدل الأفضل يقوم مقام هذا والأضحية والهدى المعين وجوبه من جنس وجوب النذر المعين فدل ذلك على أن إبداله بخير منه أفضل من ذبحه بعينه كالواجب بالشرع فى الذمة كما لو وجب عليه بنت مخاض فأدى بنت لبون أو وجب عليه بنت لبون فأدى حقة وفى ذلك حديث فى السنن عن النبى يبين أنه إذا أدى أفضل مما وجب عليه أجزأه رواه أبو داود فى السنن وغيره
قال أبو داود ثنا محمد بن منصور ثنا يعقوب بن إبراهيم ثنا أبى عن إبن إسحاق حدثنى عبد الله بن أبى بكر عن يحى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عمارة بن عمرو بن حزم عن أبى بن كعب قال بعثنى النبى مصدقا فمررت برجل فلما جمع لى ماله لم أجد عليه فيه إلا بنت مخاض فقلت له أد بنت مخاض فانها صدقتك فقال ذاك مالا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها فقلت له ما أنا بآخذ ما لم أومر به وهذا رسول الله منك قريب فان أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت على فأفعل فإن قبله منك قبلته وإن رده عليك رددته قال فإنى فاعل فخرج معى وخرج بالناقة التى عرض علي حتى قدمنا على رسول الله فقال يا نبى الله أتانى رسولك ليأخذ من صدقة مالى وأيم الله ما قام فى مالى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله فجمعت له مالى فزعم أن ما على الا بنت مخاض وذلك
____________________
(31/248)
ما لا لبن فيه ولا ظهر وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى على وها هي هذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها فقال له رسول الله ( ذلك الذى عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك ( قال فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها قال ( فأمر رسول الله بقبضها ودعا له فى ماله بالبركة (
وما فى هذا الحديث من أجزاء سن أعلا من الواجب مذهب عامة أهل العلم الفقهاء المشهورين وغيرهم فقد ثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز بل يستحب فيما وجب بايجاب الشرع وبايجاب العبد ولا فرق بين الواجب فى الذمة وما أوجبه معينا فإنما وجب فى الذمة وإن كان مطلقا من وجه فانه مخصوص متميز عن غيره ولهذا لم يكن له إبداله بدونه بلا ريب )
وعلى هذا فلو نذر أن يقف شيئا فوقف خيرا منه كان أفضل فلو نذر أن يبنى لله مسجدا وصفه أو يقف وقفا وصفه فبنى مسجدا خيرا منه ووقف وقفا خيرا منه كان أفضل ولو عينه فقال لله على أن أبنى هذه الدار مسجدا أو وقفها على الفقراء والمساكين فبنى خيرا منها ووقف خيرا منها كان أفضل كالذى نذر الصلاة بالمسجد الأقصى وصلى فى المسجد الحرام أو كانت عليه بنت مخاض فأدى خيرا منها
وقد تنازع الفقهاء فى الواجب المقدر إذا زاده كصدقة الفطر إذا أخرج أكثر من صاع فجوزه أكثرهم وهو مذهب الشافعى وأبى حنيفة وأحمد
____________________
(31/249)
وغيرهم وروى عن مالك كراهة ذلك وأما الزيادة فى الصفة فاتفقوا عليها والصحيح جواز الأمرين لقوله تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } وقد ثبت باتفاق أهل العلم وهو فى كتب الحديث الصحاح وغيرها وكتب التفسير والفقه إن الله لما أوجب رمضان كان المقيم مخيرا بين الصوم وبين أن يطعم كل يوم مسكينا فكان الواجب هو إطعام المسكين وندب سبحانه إلى إطعام أكثر من ذلك فقال تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له } ثم قال { وأن تصوموا خير لكم } فلما كانوا مخيرين كانوا على ثلاث درجات أعلاها الصوم ويليه أن يطعم فى كل يوم أكثر من مسكين وأدناها أن يقتصر على إطعام مسكين ثم إن الله حتم الصوم بعد ذلك وأسقط التخيير فى الثلاثة )
فإن قيل ففى سنن أبى داود ثنا عبد الله بن محمد العقيلى ثنا محمد بن سلمة عن أبى عبد الرحيم عن جهم بن الجارود عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال أهدى عمر بن الخطاب رضى الله عنه نجيبة فأعطى بها ثلاثمائة دينار فأتى النبى فقال يا رسول الله إنى أهديت نجيبة فأعطيت بها ثلاثمائة دينار أفأبيعها وأشترى بثمنها بدنا قال ( لا انحرها إياها ( فقد نهاه عن بيعها وإن يشترى بثمنها بدنا
____________________
(31/250)
قيل هذه القضية بتقدير صحتها قضية معينة ليس فيها لفظ عام يقتضى النهى عن الابدال مطلقا ونحن لم نجوز الابدال مطلقا ولا يجوزه أحد من أهل العلم بدون الأصل وليس فى هذا الحديث أن البدل كان خيرا من الأصل بل ظاهره أنها كانت أفضل فقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه سئل أى الرقاب أفضل فقال ( أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ) وقد قال تعالى { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } وقد قيل من تعظيمها استحسانها واستسمانها والمغالات فى أثمانها
وهذه النجيبة كانت نفيسة ولهذا بذل فيها ثمن كثير فكان اهدؤها إلى الله أفضل من أن يهدى بثمنها عدد دونها والملك العظيم قد يهدى له فرس نفيسة فتكون أحب إليه من عدة أفراس بثمنها فالفضل ليس بكثرة العدد فقط بل قد قال الله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فما كان أحب إلى المرء إذا تقرب به إلى الله تعالى كان أفضل له من غيره وإن استويا فى القيمة فإن الهدية والأضحية عبادة بدنية ومالية ليست كالصدقة المحضة بل إذا ذبح النفيس من ماله لله تعالى كان أحب إلى الله تعالى قال بعض السلف لا يهدى أحدكم لله تعالى ما يستحى أن يهديه لكريمه وقد قال تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } وقد قرب ابنى آدم قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر وقد ذكر أن سبب ذلك أن أحدهما قرب نفيس ماله والآخر قرب الدون من ماله والله أعلم
____________________
(31/251)
وسئل شيخ الاسلام (
عن الواقف والناذر يوقف شيئا ثم يرى غيره أحظ للموقوف عليه منه هل يجوز إبداله كما فى الأضحية
فأجاب وأما إبدال المنذور والموقوف بخير منه كما فى إبدال الهدى فهذا نوعان
أحدهما أن الابدال للحاجة مثل أن يتعطل فيباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه كالفرس الحبيس للغزو إذا لم يمكن الانتفاع به للغزو فإنه يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه والمسجد إذا خرب ما حوله فتنقل آلته إلى مكان آخر أو يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه أو لا يمكن الانتفاع بالموقوف عليه من مقصود الواقف فيباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه وإذا خرب ولم تمكن عمارته فتباع العرصة ويشترى بثمنها ما يقوم مقامها فهذا كله جائز فإن الأصل إذا لم يحصل به المقصود قام بدلة مقامه
والثانى الإبدال لمصلحة راجحة مثل أن يبدل الهدى بخير منه ومثل المسجد إذا بنى بدله مسجد آخر أصلح لأهل البلد منه وبيع الأول فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء واحتج أحمد بأن عمر بن الخطاب رضى الله عنه نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر وصار الأول سوقا للتمارين فهذا إبدال لعرصة المسجد
____________________
(31/252)
وأما إبدال بنائه ببناء آخر فإن عمر وعثمان بنيا مسجد النبى بناء غير بنائه الأول وزادا فيه وكذلك المسجد الحرام فقد ثبت فى الصحيحين أن النبى قال لعائشة ( لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرج الناس منه فلولا المعارض الراجح لكان النبى صلى الله عليه وسلم يغير بناء الكعبة فيجوز تغيير بناء الوقف من صورة إلى صورة لأجل المصلحة الراجحة
وأما إبدال العرصة بعرصة أخرى فهذا قد نص أحمد وغيره على جوازه اتباعا لأصحاب رسول الله حيث فعل ذلك عمر واشتهرت القضية ولم تنكر
وأما ما وقف للغلة إذا أبدل بخير منه مثل أن يقف دارا أو حانوتا أو بستانا أو قرية يكون مغلها قليلا فيبدلها بما هو أنفع للوقف فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء مثل أبى عبيد بن حرمويه قاضى مصر وحكم بذلك وهو قياس قول أحمد فى تبديل المسجد من عرصة إلى عرصة للمصلحة بل إذا جاز أن يبدل المسجد بما ليس بمسجد للمصلحة بحيث يصير المسجد سوقا فلأن يجوز إبدال المستغل بمستغل آخر أولى وأحرى وهو قياس قوله فى إبدال الهدى بخير منه وقد نص على أن المسجد اللاصق بأرض إذا رفعوه وبنوا تحته سقاية واختار ذلك الجيران فعل ذلك لكن من أصحابه من منع إبدال المسجد والهدى والأرض الموقوفة وهو قول الشافعى وغيره لكن النصوص والآثار والقياس تقتضى جواز الإبدال للمصلحة والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(31/253)
وسئل رحمه الله تعالى (
عمن أوقف وقفا على الفقراء وهو من كروم يحصل لأصحابها ضرر به فهل يجوز أن يرجع فيه ويقف غيره وهل إذا فعل يكون الاثنان وقفا
فأجاب إذا كان فى ذلك ضرر على الجيران جاز أن يناقل عنه ما يقوم مقامه ويعود الأول ملكا والثانى وقفا كما فعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى مسجد الكوفة لما جعل مكانه مسجدا صار الأول سوقا للتمارين
( وسئل (
عن حوض سبيل وعليه وقف اسطبل وقد باعه الناظر ولم يشتر بثمنه شيئا من مدة ست سنين فهل يجوز ذلك
فأجاب الحمد لله أما بيعه بغير استبدال لما يقوم مقامه فلا ريب أنه لا يجوز وأما إذا باعه لتعطل نفعه واشترى بالثمن ما يقوم مقامه فهذا يجوز على الصحيح فى قولى العلماء وان استبدال به خيرا منه مع وجود نفعه ففيه نزاع والله أعلم
____________________
(31/254)
( وسئل رحمه الله (
عن قرية بها عدة مساجد بعضها قد خرب لاتقام الصلاة إلا فى واحد منها ولها وقف عليها كلها فهل تجب عمارة الخرب وإقامة الجماعة فى مسجد ثان وهل يحل إغلاقها
فأجاب نعم تجب عمارة المسجد إلى إقامة الصلاة فيه وكذلك ترتيب إمام فى مسجد آخر يجب أن يفعل عند المصلحة والحاجة ولا يحل إغلاق المساجد عما شرعت له وأما عند قلة أهل البقعة واكتفائهم بمسجد واحد مثل أن يكونوا حوله فلا يجب تفريق شملهم فى غير مسجدهم )
( وسئل أيضا (
عن وقف على جماعة توفى بعضهم وله شقيق وولد وللعلماء فى ذلك خلاف مستفيض فى مثله هل يخص الولد أم الأخ فشهد قوم أنه يخص الولد دون الأخ بمقتضى شرط الواقف مع عدم تحقيقهم الحد الموقوف بحيث أنهم غيروا بعض الحدود عما هي عليه فهل يجوز لهم ذلك وهل للحاكم أن يحكم
____________________
(31/255)
بشهادتهم هذه من غير استفصال وما الحكم فى مجموع السؤال أفتونا مفصلا مأجورين إن شاء الله تعالى
فأجاب الحمد لله الشهادة فى الوقف بالاستحقاق غير مقبولة وكذلك فى الارث من الأمور الاجتهادية كطهارة الماء ونجاسته ولكن الشاهد يشهد بما يعلمه من الشروط ثم الحاكم يحكم فى الشرط بموجب اجتهاده والله أعلم
( وسئل (
عن وقف على رجل ثم على أولاده فاقتسمه الفلاحون ثم تناقل بعضهم حصته إلى جانب حصة شريكه فهل تنفسخ القسمة والمناقلة
فأجاب لا تصح قسمة رقبة الوقف الموقوف على جهة واحدة لكن تصح قسمة المنافع وهى ( المهايأه ( وإذا كانت مطلقة لم تكن لازمة لا سيما إذا تغير الموقوف فتجوز بغير هذه المهايأة )
( وسئل (
عن بيعة بقرية ولها وقف وانقرض النصارى بتلك القرية وأسلم من بقى منهم فهل يجوز أن يتخذ مسجدا فأجاب نعم إذا لم يبق من أهل الذمة الذين استحقوا تلك أحد جاز أن يتخذ مسجدا لاسيما إن كانت ببر الشام فإنه فتح عنوة
____________________
(31/256)
( وسئل رحمه الله (
عن مسجد مجاور كنيسة مغلقة خراب سقط بعض جدرانها على باب المسجد وعلى رحابه التى يتوصل منها وزال بعض الجدار الذى انهدم وسقط على جدار المسجد ويخاف على المسلمين من وقعها ومن يصلي بالمسجد وإذا آلت كلها للخراب هل تهدم
فأجاب نعم إذا خيف تضرر المسجد وإيذاء المصلين فيه وجب إزالة ما يخاف من الضرر على المسجد وأهله وإذا لم يزل إلا بالهدم هدمت بل قد ثبت عن النبى أنه قال ( لا قبلتان بأرض ولا جزية على مسلم ( وإذا كانت هذه فى أرض فتحت عنوة وجب أن تزال ولا تترك مجاورة والله أعلم
( وسئل رحمه الله )
عن مسجد ليس له وقف وبجواره ساحة هل يجوز أن تعمل سكنا للامام أفتونا
فأجاب يجوز ذلك والحالة هذه فإن الساحة ليست من المسجد كما ذكر والله أعلم
____________________
(31/257)
( وسئل رحمه الله (
عمن هو فى مسجد يأكل وقفه ولا يقوم بمصالحه وللواقف أولاد محتاجين فهل لهم تغييره وإقامة غيره وأخذ الفائض عن مصلحة المسجد
فأجاب الحمد لله إذا لم يقم بالواجب فإنه يغيره من له ولاية ذلك لمن يقوم بالواجب إذا لم يتب الأول ويلتزم بالواجب وأما الفاضل عن مصلحة المسجد فيجوز صرفه فى مساجد أخر وفى المستحقين للصدقة من أقارب الواقف وجيران المسجد
( وسئل رحمه الله (
هل يجوز أن يبنى خارج المسجد من ريع الوقف مسكنا ليأوى فيه أهل المسجد الذين يقومون بمصالحه
فأجاب نعم يجوز لهم أن يبنوا خارج المسجد من المساكن ما كان مصلحة لأهل الاستحقاق لريع الوقف القائمين بمصلحته
____________________
(31/258)
( وسئل رحمه الله ( عن مسجد أعلاه طبقة وهو عتيق البناء وإن الطبقة لم يسكنها أحد ولم ينتفع بها لكونها ساقطة وأنها ضرر على المسجد لثقلها عليه تخربه ولا له شيء يعمر منه فهل يجوز نقض الطبقة التى أعلاه أو يغلق ذلك المسجد
فأجاب إذا كان نقض الطبقة مصلحة للمسجد فتنقض وتصرف الأنقاض فى مصالح المسجد وإن أمكن أن يشترى بها ما يوقف عليه أو يصرف فى عمارته أو عمارة وقفه فعل ذلك
( وسئل (
عن رجل استأجر أرضا موقوفة وبنى عليها ما أراد ثم أوقف ذلك البناء وشرط ان يعطى الأجرة الموقوفة من ريع وقفه عليها وحكم الحاكم بصحة الوقف على الشروط المذكورة فى الوقف فهل يجوز نقض ذلك أم لا وإذا أراد الواقف نقض الوقف بعد ثبوته ليدخل فيه عددا آخر بوقف ثان هل يجوز ذلك
فأجاب إذا حكم الحاكم بصحة الوقف لم يجز فيه تغييره ولا تبديل شروطه
____________________
(31/259)
وسئل (
عن وقف على الفقراء والمساكين وفيه أشجار زيتون وغيره يحمل بعض السنين بثمر قليل فإذا قطعت وأبيعت يشترى بثمنها ملك يغل بأكثر منها فهل للناظر ذلك وهل إذا طالبه بعض المستحقين للوقف يقطع الشجر ويبيعه ويقسم منه عليهم فهل لهم ذلك أم شراء الملك وإذا تولى شخص فوجد من تقدمه غير شرط الواقف فجهد فى عمل شرط الواقف فهل له أن يأخذ ما جرت به العادة من الجامكية بكونه لم يقدر أن يعمل بما شرطه الواقف وهذا الناظر فقير لا مال له فهل له أن يأخذ من نسبة الفقراء ويكون نظره تبرعا بينوا لنا ذلك
فأجاب الحمد لله نعم يجوز بيع تلك الاشجار وأن يشترى بها ما يكون مغله أكثر فان الشجر كالبناء وللناظر أن يغير صورة الوقف من صورة إلى صورة أصلح منها كما غير الخلفاء الراشدون صورة المسجدين اللذين بالحرمين الشريفين وكما نقل عمر بن الخطاب مسجد الكوفة من موضع إلى موضع وأمثال ذلك ولا يقسم ثمن الشجر بين الموجودين لأن الشجر كالبناء لا يختص بثمنه الموجودون وليس هو بمنزلة الشجر والزرع والمنافع التى يختص كل أهل طبقة بما يؤخذ فى زمنها منها
____________________
(31/260)
وأما الناظر فعليه أن يعمل ما يقدر عليه من العمل الواجب ويأخذ لذلك العمل ما يقابله فان كان الواجب عشرة أجزاء من العوض المستحق أخذه وان كان يستحق الجميع على ما يعمله أخذ الجميع وله أن يأخذ على فقره ما يأخذه الفقير على فقره والله أعلم
( وسئل عن تغيير صورة الوقف (
فأجاب الحمد لله أما ما خرج من ذلك عن حدود الوقف إلى طريق المسلمين وإلى حقوق الجيران فيجب إزالته بلا ريب وأما ما خرج إلى الطريق النافذ فلا بد من إزالته وأما إن كان خرج إلى ملك الغير فإن أذن فيه والا أزيل
وأما تغيير صورة البناء من غير عدوان فينظر فى ذلك إلى المصلحة فان كانت هذه الصورة أصلح للوقف وأهله أقرت وإن كان أعادتها إلى ما كانت عليه أصلح أعيدت وإن كان بناء ذلك على صورة ثالثة أصلح للوقف بنيت فيتبع فى صورة البناء مصلحة الوقف ويدار مع المصلحة حيث كانت وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين كعمر وعثمان أنهما قد غيرا صورة الوقف للمصلحة بل فعل عمر بن الخطاب ما هو أبلغ من ذلك حيث حول مسجد الكوفة القديم فصار سوق التمارين وبنى لهم مسجدا فى مكان آخر والله أعلم
____________________
(31/261)
( وسئل (
عمن ناصب على أرض وقف على أن للوقف ثلثى الشجر المنصوب وللعامل الثلث فهل لمن بعده من النظار بيع نصيب الوقف من الشجر
فأجاب لا يجوز له بيع ذلك إلا لحاجة تقتضى ذلك والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن امرأة وقفت على ولديها دكاكين ودارا ثم بعد بنيها وبنى أولادها يرجع على وقف مدرسة نور الدين الشهيد وغيره من المصارف الشرعية ثم إن بعض قرائب المرأة تعدى وتحيل وباع الوقف ثم إن الورثة حاكموا المشترى ورقم القاضي على شهود الكتاب وهو صحيح ثابت فقام المشترى وأوقفها صدقة على خبز يصرف للمساكين وجعل الرئيس ناظرا على الصدقة فهل يصح ذلك وإذا علم الرئيس العالم المتعبد أن هذا مغتصب فهل يحل له أن يكون ناظرا عليه وما يكون
فأجاب بيع الوقف الصحيح اللازم الذى يحصل به مقصود الوقف من الانتفاع لا يجوز ولا يصح وقف المشترى له ولا يجوز للناظر على الوقف الثانى أن يصرفه إلى غير المستحقين قبل ولا يتصرف فيه بغير مسوغ شرعى سواء تصرف بحكم النظر الباطل أو بغير ذلك والله أعلم
____________________
(31/262)
( وسئل رحمه الله ( عن رجل بنى حائطا فى مقبرة المسلمين يقصد أن يحوز نفعه لدفن موتاه فادعى رجل أن له موتى تحت الحائط وما هو داخل الحائط فهل يجوز له ذلك
فأجاب ليس له أن يبنى على مقبرة المسلمين حائطا ولا أن يحتجر من مقبرة المسلمين ما يختص به دون سائر المستحقين والله أعلم
( وسئل رحمه الله ( عن حمام أكثرها وقف على الفقراء والمساكين والفقهاء وأن انسانا له حمامات بالقرب منها وأنه احتال واشترى منها نصيبا وأخذ الرصاص الذى يخصه من الحاصل وعطل الحمام وضار فهل يلزمه العمارة أسوة الوقف أم لا
فأجاب الحمد لله ليس له أن يتصرف فى الحمام المشتركة بغير إذن الشركاء ولا باذن الشارع ولا يستولى على شيء منها بغير إذن الشركاء ولا يقسم
____________________
(31/263)
بنفسه شيئا ويأخذ نصيبه منه سواء كان رصاصا أو غيره ولا يغير بناء شيء منها ولا يغير القدر ولا غيرها وهذا كله باتفاق المسلمين وليس له أن يغلقها بل يكرى على جميع الشركاء إذا طلب بعضهم ذلك وتقسم بينهم الأجرة وهذا مذهب جماهير العلماء كأبى حنيفة ومالك وأحمد وإذا احتاجت الحمام إلى عمارة لابد منها فعلى الشريك أن يعمر معهم فى أصح قولى العلماء والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
عن قناة سبيل لها فايض ينزل على قناة الوسخ وقريب منها قناة طاهرة قليلة الماء فهل يجوز أن يساق ذلك الفائض إلى المطهرة وهل يثاب فاعل ذلك وهل يجوز منعه
فأجاب نعم يجوز ذلك بإذن ولي الأمر ولا يجوز منع ذلك إذا لم يكن فيه مصلحة شرعية ويثاب الساعى فى ذلك والله أعلم
____________________
(31/264)
( وسئل رحمه الله (
عن الوقف الذى يشترى بعوضه ما يقوم مقامه وذلك مثل الوقف الذى أتلفه متلف فإنه يؤخذ منه عوضه يشترى به ما يقوم مقامه فإن الوقف مضمون بالاتلاف باتفاق العلماء ومضمون باليد فلو غصبه غاصب تلف تحت يده العادية فان عليه ضمانه باتفاق العلماء لكن قد تنازع بعضهم فى بعض الأشياء هل تضمن بالغصب كالعقار وفى بعضها هل يصح وقفه كالمنقول )
ولكن لم يتنازعوا أنه مضمون بالاتلاف باليد كالأموال بخلاف أم الولد فإنهم وإن اتفقوا على أنها مضمونة بالاتلاف فقد تنازعوا هل تضمن باليد أو لا فأكثرهم يقول هي مضمونة باليد كمالك والشافعى وأحمد وأما أبو حنيفة فيقول لا تضمن باليد وضمان اليد هو ضمان العقد كضمان البايع تسليم المبيع وسلامته من العيب وأنه بيع بحق وضمان دركه عليه بموجب العقد وإن لم يشترطه بلفظه
ومن أصول الاشتراء ببدل الوقف إذا تعطل نفع الوقف فانه يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه فى مذهب أحمد وغيره وهل يجوز مع كونه مغلا أن يبدل بخير منه فيه قولان فى مذهبه والجواز مذهب أبى ثور وغيره
____________________
(31/265)
والمقصود أنه حيث جاز البدل )
هل يشترط أن يكون فى الدرب أو البلد الذى فيه الوقف الأول أم يجوز أن يكون بغيره إذا كان ذلك أصلح لأهل الوقف مثل أن يكونوا مقيمين ببلد غير بلد الوقف وإذا اشترى فيه البدل كان أنفع لهم لكثرة الريع ويسر التناول فنقول ما علمت أحدا اشترط أن يكون البدل فى بلد الوقف الأول بل النصوص عند أحمد وأصوله وعموم كلامه وكلام أصحابه وإطلاقه يقتضى أن يفعل فى ذلك ما هو مصلحة أهل الوقف فإن أصله فى هذا الباب مراعاة مصلحة الوقف بل أصله فى عامة العقود اعتبار مصلحة الناس فإن الله أمر بالصلاح ونهى عن الفساد وبعث رسله بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ( وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ( وقال شعيب ( أن أريد الا الاصلاح ما استطعت ( وقال تعالى { فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وقال تعالى { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون }
وقد جوز أحمد بن حنبل إبدال مسجد بمسجد آخر للمصلحة كما جوز تغييره للمصلحة واحتج بان عمر بن الخطاب رضى الله عنه أبدل مسجد الكوفة القديم بمسجد آخر وصار المسجد الأول سوقا للتمارين وجوز أحمد إذا خرب المكان أن ينقل المسجد إلى قرية أخرى بل ويجوز فى أظهر الروايتين عنه أن يباع ذلك المسجد ويعمر بثمنه مسجد آخر فى قرية أخرى إذا لم يحتج إليه فى القرية الأولى فاعتبر المصلحة بجنس المسجد وإن كان فى
____________________
(31/266)
قرية غير القرية الأولى إذ كان جنس المساجد مشتركة بين المسلمين والوقف على قوم بعينهم أحق بجواز نقله إلى مدينتهم من المسجد فان الوقف على معينين حق لهم لا يشركهم فيه غيرهم وغاية ما فيه أن يكون بعد انقضائهم لجهة عامة كالفقراء والمساكين فيكون كالمسجد فإذا كان الوقف ببلدهم أصلح لهم كان اشتراء البدل ببلدهم هو الذى ينبغى فعله لمتولى ذلك )
وصار هذا كالفرس الحبيس الذى يباع ويشترى بقيمته ما يقوم مقامه إذا كان محبوسا على ناس ببعض الثغور ثم انتقلوا إلى ثغر آخر فشراء البدل بالثغر الذى هو فيه مضمون أولى من شرائه بثغر آخر وإن كان الفرس حبيسا على جميع المسلمين فهو بمنزلة الوقف على جهة عامة كالمساجد والوقف على المساكين
ومما يبين هذا أن الوقف لو كان منقولا كالنور والسلاح وكتب العلم وهو وقف على ذرية رجل بعينهم جاز أن يكون مقر الوقف حيث كانوا بل كان هذا هو المتعين بخلاف ما لو أوقف على أهل بلد بعينه
لكن إذا صار له عوض هل يشترى به ما يقوم مقامه إذا كان العوض منقولا فأن يشترى بهذا العوض فى بلد مقامهم أولى من أن يشترى به فى مكان العقار الأول إذا كان ذلك أصلح لهم إذ ليس فى تخصيص مكان العقار
____________________
(31/267)
الأول مقصود شرعى ولا مصلحة لأهل الوقف وما لم يأمر به الشارع ولا مصلحة فيه للانسان فليس بواجب ولا مستحب فعلم أن تعيين المكان الأول ليس بواجب ولا مستحب لمن يشترى بالعوض ما يقوم مقامه بل العدول عن ذلك جائز وقد يكون مستحبا وقد يكون واجبا إذا تعينت المصلحة فيه والله أعلم
____________________
(31/268)
( باب الهبة والعطية (
( وسئل شيخ الاسلام رحمه الله (
عن الصدقة والهدية أيهما أفضل
فأجاب الحمد لله ( الصدقة ( ما يعطى لوجه الله عبادة محضة من غير قصد فى شخص معين ولا طلب غرض من جهته لكن يوضع فى مواضع الصدقة كأهل الحاجات وأما ( الهدية ( فيقصد بها اكرام شخص معين إما لمحبة وإما لصداقة وإما لطلب حاجة ولهذا كان النبى يقبل الهدية ويثيب عليها فلا يكون لأحد عليه منة ولا يأكل أوساخ الناس التى يتطهرون بها من ذنوبهم وهى الصدقات ولم يكن يأكل الصدقة لذلك وغيره )
وإذا تبين ذلك فالصدقة أفضل إلا أن يكون فى الهدية معنى تكون به أفضل من الصدقة مثل الاهداء لرسول الله فى حياته محبة له ومثل الاهداء لقريب يصل به رحمه وأخ له فى الله فهذا قد يكون أفضل من الصدقة
____________________
(31/269)
( وسئل (
عمن وهب أو أباح لرجل شيئا مجهولا هل يصح كما لو أباحه ثمر شجرة فى قابل ولو أراد الرجوع هل يصح
فأجاب تنازع العلماء فى هبة المجهول فجوزه مالك حتى جوز أن يهب غيره ما ورثه من فلان وإن لم يعلم قدره وإن لم يعلم أثلث هو أم ربع وكذلك إذا وهبه حصة من دار ولا يعلم ما هو وكذلك يجوز هبة المعدوم كأن يهبه ثمر شجره هذا العام أو عشرة أعوام ولم يجوز ذلك الشافعى وكذلك المعروف فى مذهب أبى حنيفة وأحمد المنع من ذلك لكن أحمد وغيره يجوز فى الصلح على المجهول والإبراء منه ما لا يجوزه الشافعى وكذلك أبو حنيفة يجوز من ذلك ما لا يجوزه الشافعى
فإن الشافعى يشترط العلم بمقدار المعقود عليه فى عامة العقود حتى عوض الخلع والصداق وفيما شرط على أهل الذمة وأكثر العلماء يوسعون فى ذلك وهو مذكور فى موضعه ومذهب مالك فى هذا أرجح
وهذه المسألة متعلقة بأصل آخر وهو أن عقود المعاوضة كالبيع والنكاح والخلع تلزم قبل القبض فالقبض موجب العقد ومقتضاه
____________________
(31/270)
ليس شرطا فى لزومه والتبرعات كالهبة والعارية فمذهب أبى حنيفة والشافعى أنها لا تلزم الا بالقبض وعند مالك تلزم بالعقد وفى مذهب أحمد نزاع كالنزاع فى المعين هل يلزم بالعقد أم لابد من القبض وفيه عنه روايتان وكذلك فى بعض صور العارية وما زال السلف يعيرون الشجرة ويمنحون المنايح وكذلك هبة الثمر واللبن الذى لم يوجد ويرون ذلك لازما ولكن هذا يشبه العارية لأن المقصود بالعقد يحدث شيئا بعد شيء كالمنفعة ولهذا كان هذا مما يستحقه الموقوف عليه كالمنافع ولهذا تصح المعاملة بجزء من هذا كالمساقاة وأما إباحة ذلك فلا نزاع بين العلماء فيه وسواء كان ما أباحه معدوما أو موجودا معلوما أو مجهولا لكن لا تكون الإباحة عقدا لازما كالعارية عند من لا يجعل العارية عقدا لازما كأبى حنيفة والشافعى وأما مالك فيجعل ذلك لازما إذا كان محدودا بشرط أو عرف وفى مذهب أحمد نزاع وتفصيل
( وسئل رحمه الله (
عن امرأة وهبت لزوجها كتابها ولم يكن لها أب سوى اخوة فهل لهم أن يمنعوها ذلك
فأجاب الحمد لله رب العالمين ليس لاخوتها عليها ولاية ولا حجر فإن كانت ممن يجوز تبرعها فى مالها صحت هبتها سواء رضوا أو لم يرضوا والله أعلم
____________________
(31/271)
( وسئل رحمه الله (
عن امرأة لها أولاد غير أشقاء فخصصت أحد الأولاد وتصدقت عليه بحصة من ملكها دون بقية إخوته ثم توفيت المذكورة وهى مقيمة بالمكان المتصدق به فهل تصح الصدقة أم لا
فأجاب الحمد لله إذا لم يقبضها حتى ماتت بطلت الهبة فى المشهور من مذهب الأئمة الأربعة وإن أقبضته إياه لم يجز على الصحيح أن يختص به الموهوب له بل يكون مشتركا بينه وبين إخوته والله أعلم
وقال ( فصل ( وأما العقود التى يشترط القبض فى لزومها واستقرارها كالصدقة والهبة والرهن والوقف عند من يقول إن القبض شرط فى لزومه فهذا أيضا يصح فى المشاع عند جمهور العلماء كمالك والشافعى وأحمد ولم يجوزها أبو حنيفة قال لأن القبض شرط فيها وقبضها غير ممكن قبل القسمة وأما الجمهور فقالوا تقبض فى هذه العقود كما تقبض فى البيع وإن كان القبض من موجب البيع ليس شرطا فى صحته ولا لزومه ويقبض مالا ينقسم فإنهم اتفقوا على جواز هبته مشاعا لتعذر القسمة فيه
____________________
(31/272)
ثم إذا وهب المشاع الذى تصح هبته بالاتفاق كالذى لا ينقسم والمتنازع فيه عند من يجوز هبته كمالك والشافعى وأحمد وقبض ذلك قبض مثله وحازه الموهوب له والمتصدق عليه لزم بذلك باتفاق المسلمين يتصرف فيه بأنواع التصرفات الجائزة فى المشاع فان شاء أن يبيعه أو يهبه وإن شاء تهايئآ هو والمتهب فيه بالمكان أو بالزمان وان شاءا أكرياه جميعا كما يفعل ذلك كل شريكين للشقص مع مالك الشقص الذى لم يوهب وان تصرف فيه بالمساكنة للمتهب مهايأة أو غير مهايأة لا ينقص الهبة ولا يبطلها ومن قال ( غير ) ذلك فقد خرق إجماع المسلمين
وما فعله الفقهاء من أصحاب مالك فى كتبهم من اشتراط الخيار وان بقاءه فى يد الواهب باكراء أو استعارة أو غيرها يبطل الحيازة وأن حيازة المتهب له ثم عوده إلى الواهب فى الزمن القريب يبطل حيازته وفى الزمن الطويل كالسنة نزاع وأنه إذا مرض أو أفلس قبل الحيازة بطلت ونحو ذلك ومثل تنازعهم هل يجبر على الاقباض أم لا وعند أبى حنيفة والشافعى لا يجبر وعند مالك يجبر وعند أحمد فى الغبن روايتان وأمثال هذه المسائل فهذا كله فى نفس الموهوب المفرد والمشاع )
فأما النصف الباقى على ملك الواهب فهم متفقون اتفاقا معلوما عند علماء الشريعة بالاضطرار من دين الاسلام أن تصرف المالك فيه لا يبطل ما وقع من الهبة والحيازة السابقة فى النصيب ومتفقون على أن هذين الشريكين يتصرفان كتصرف الشركاء ومن توهم من المتفقهة أنه
____________________
(31/273)
بعد اقباض النصيب المشاع إذا تساكنا فى الدار فسكن هذا فى النصف الباقى له وهذا فى النصف الآخر مهايأة أو غير مهايأة أن ذلك ينقض الهبة كما لو كان السكنى فى نفس الموهوب كما يقوله مالك فى ذلك فقد خرق إجماع المسلمين وهو من أبعد الناس عن مذاق الفقه ومعرفة الشريعة
فإن هذا لو كان صحيحا لكان الواهب للمشاع يتعطل انتفاعه بما بقى له وكان بمنزلة واهب الجميع ولأن الفقهاء إنما ذكروا ذلك فى الموهوب لأن بقاء يد الواهب عليه وعوده إليه فى المدة اليسيرة يمتنع معها الحوز فى العادة وربما كان ذلك ذريعة إلى الهبة من غير حوز فيظهر سكناها بطريق العارية حيلة ولهذا روى عن عثمان رضى الله عنه أنه قال ما بال أقوام يعطى أحدهم ولده العطية فان مات ولده قال مالى وفى يدى وإن مات هو قال كنت وهبته لا يثبت من الهبة الا ما حازه الولد من مال والده ثم سألوه عن الصغير فقال حوز والده حوز له وبهذا أخذ مالك وغيره وهذا ظاهر فى نفس الأمر مفردا كان أو مشاعا
فأما النصيب الآخر الذى لم يوهب فهو بمنزلة عين أخرى لم توهب يتصرف تصرف الشريك بحيث لو احتاج إلى عمارة أجبر على ذلك عند أحمد ومالك فى ظاهر مذهبه وبحيث تجب فيه الشفعة وإذا كان قسمة عينه تمكن قسم إن كان قابلا للقسمة وإن لم يقبلها فهل يجبر على البيع إذا طلبه الآخر ليقتسما الثمن فيه قولان للعلماء والاجبار قول مالك وأبى حنيفة وأحمد وعدمه قول
____________________
(31/274)
الشافعى وهذا واضح على من له فى الفقه بالشريعة أدنى المام إذا كان يفهم مأخذ الفقهاء ولكن من لم يميز إذا رأى ما ذكروه من الفروع فى الموهوب وخيل إليه أن هذا فيه وفى النصيب الآخر كان هذا بعيدا من التميز فى الاحكام الشرعية والمسائل الفقهية وليست هذه المسألة مما تقبل النزاع والخلاف أصلا
ومن العجب أنهم يطلبون النقل فى هذه المسألة من ( كتاب الهبة والصدقة (
ونحو ذلك وليس هذا موضعها وإنما موضعها ( كتاب الشركة والقسمة ( ونحو ذلك فان السؤال إنما وقع عن التصرف فى الشقص الباقى لم يقع فى النصيب الموهوب وإن تخيل متخيل أن التساكت يقتضى ثبوت يد كل منهما على الجميع قيل له فحينئذ تكون يد كل من الشريكين على جميع المشترك وان صح هذا لم يصح يد المشترك بحال فان أبا حنيفة إنما قاله فيما يقبل القسمة ثم إذا قدر أن يد الشريك على الجميع فهذه لا تمنع الحيازة المعتبرة فى المشاع فانه إذا وهب شقصا من عين فانما عليه أن يقبض الموهوب فقط مع بقاء يده على ما لم يهبه سواء قيل ان بقاء يده على نصيبه يعم الجميع أو لا يعم فعلم أن استيلاء الشريك الواهب على نصيبه وتصرفه فيه لا يمنع الحوز ابتداء ولا يمنعه دواما باتفاق المسلمين
( وسئل (
عمن وهب ربع مكان فتبين أقل من ذلك هل تبطل الهبة
فأجاب لا تبطل
____________________
(31/275)
( وسئل رحمه الله ( عن رجل له بنتان ومطلقة حامل وكتب لابنتيه الفى دينار وأربع أملاك ثم بعد ذلك ولد للمطلقة ولد ذكر ولم يكتب له شيئا ثم بعد ذلك توفى الوالد وخلف موجودا خارجا عما كتبه لبنتيه وقسم الموجود بينهم على حكم الفريضة الشرعية فهل يفسخ ما كتب للبنات أم لا
فأجاب هذه المسألة فيها نزاع بين أهل العلم إن كان قد ملك البنات تمليكا تاما مقبوضا فأما أن يكون كتب لهن فى ذمته الفى دينار من غير اقباض أو اعطاهن شيئا ولم يقبضه لهن فهذا العقد مفسوخ ويقسم الجميع بين الذكر والانثيين وأما مع حصول القبض ففيه نزاع وقد روى أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده فلما مات ولد له حمل فأمر أبو بكر وعمر أن يعطى الحمل نصيبه من الميراث فلهذا ينبغى أن يفعل بهذا كذلك فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( اتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ( وقال ( إني لا أشهد على جور ( لمن أراد تخصيص بعض أولاده بالعطية وعلى البنات أن يتقين الله ويعطين الابن حقه
____________________
(31/276)
وقول النبى للذى خصص بعض أولاده ( أشهد على هذا غيرى ( تهديدا له فانه قال ( أردده ( وقد رده ذلك الرجل وأما إذا وصى لهن بعد موته فهي غير لازمة باتفاق العلماء والصحيح من قولى العلماء أن هذا الذى خص بناته بالعطية دون حمله يجب عليه أن يرد ذلك فى حياته كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم وأن مات ولم يرده رد بعد موته على أصح القولين أيضا طاعة لله ولرسوله واتباعا للعدل الذى أمر به واقتداء بأبي بكر وعمر رضى الله عنهما ولا يحل للذى فضل أن يأخذ الفضل بل عليه أن يقاسم اخوته فى جميع المال بالعدل الذى أمر الله به والله سبحانه وتعالى أعلم
( وسئل (
عن رجل له جارية فأذن لولده أن يستمتع بالجارية المذكورة ويطأها ولم يصدر منه تمليك له بالجارية ولا هبة ولا غير ذلك وان الجارية حصل لها ولد من ولد مالك الجارية المذكورة فهل يكون الاذن فى الاستمتاع والوطىء تمليكا للولد وهل يكون الولد حرا وتكون الجارية أم ولد لولد مالك الجارية فيحرم بيعها للمالك والد الصبى الآذن لولده فى استمتاعها ووطئها
الجواب الحمد لله هذه المسألة تبنى على أصلين أحدهما صفة العقود ومذهب مالك وأحمد فى المشهور من مذهبه وغيرهما أن البيع والهبة والاجارة لا تفتقر إلى صيغة بل يثبت ذلك
____________________
(31/277)
بالمعاطاة فما عدة الناس بيعا أو هبة أو اجارة فهو كذلك ومذهب الشافعى المشهور اعتبار الصيغة الا فى مواضع مستثناة وحيث كان ذلك بالصيغة فليس لذلك عند الجمهور صيغة محدودة فى الشرع بل المرجع فى الصيغة المفيدة لذلك إلى عرف الخطاب وهذا مذهب الجمهور ولذلك صححوا الهبة بمثل قوله أعمرتك هذه الدار وأطعمتك هذا الطعام وحملتك على هذه الدابة ونحو ذلك مما يفهم منه أهل الخطاب به الهبة وتجهيز المرأة بجهازها إلى بيت زوجها تمليك كما أفتى به أصحاب أبى حنيفة وأحمد وغيرهما
وذلك أن الله ذكر البيع والاجارة والعطية مطلقا فى كتابه ليس لها حد فى اللغة ولا الشرع فيرجع فيها إلى العرف والمقصود بالخطاب إفهام المعانى فأى لفظ دل عليه مقصود العقد انعقد به وعلى هذا قاعدة الناس إذا اشترى أحد لابنه أمة وقال خذها لك استمتع بها ونحو ذلك كان هذا تمليكا عندهم
وأيضا فمن كان يعلم أن الأمة لا توطأ إلا بملك إذا أذن لابنه فى الاستمتاع بها لا يكون مقصوده الا تمليكها فان كان قد حصل ما يدل على التمليك على قول جمهور العلماء وهو أصح قوليهم كان الابن واطئا فى ملكه وولده حر لاحق النسب والامة أم ولد له لاتباع ولا توهب ولا تورث
وأما ان قدر أن الأب لم يصدر منه تمليك بحال واعتقد الابن أنه قد ملكها كان ولده أيضا حرا ونسبه لاحق ولاحد عليه
وإن
____________________
(31/278)
اعتقد الابن أيضا أنه لم يملكها ولكن وطئها بالاذن فهذا ينبنى على ( الأصل الثانى (
فإن العلماء اختلفوا فيمن وطىء أمة غيره بإذنه قال مالك يملكها بالقيمة حبلت أو لم تحبل وقال الثلاثة لا يملكها بذلك فعلى قول مالك هي أيضا ملك للولد وأم ولد له وولده حر وعلى قول الثلاثة الأمة لا تصير أم ولد لكن الولد هل يصير حرا مثل أن يطأ جارية امرأته بإذنها فيه عن أحمد روايتان ( أحداهما ( لا يكون حرا وهذا مذهب أبى حنيفة وإن ظن أنها حلال له ( الثانى ( أن الولد يكون حرا وهذا هو الصحيح إذا ظن الواطىء أنها حلال فهو المنصوص عن الشافعى وأحمد فى المرتهن
فإذا وطىء الأمة المرهونة بأذن الراهن وظن أن ذلك جائز فان ولده ينعقد حرا لأجل الشبهة فإن شبه الاعتقاد أو الملك يسقط الحد باتفاق الأئمة فكذلك يؤثر فى حرية الولد ونسبه كما لو وطئها فى نكاح فاسد أو ملك فاسد فان الولد يكون حرا باتفاق الأئمة وأبو حنيفة يخالفهما فى هذا ويقول الولد مملوك وأما مالك فعنده أن الواطىء قد ملك الجارية بالوطء المأذون فيه وهل على هذا الواطىء بالاذن قيمة الولد فيه قولان للشافعى
( أحدهما ( وهو المنصوص عن أحمد أنه لا تلزمه قيمته لانه وطىء باذن المالك فهو كما لو أتلف ماله بإذنه ( والثانى ( تلزمه قيمته وهو قول بعض
____________________
(31/279)
أصحاب أحمد ومن أصحاب الشافعى من زعم أن هذا مذهبه قولا واحدا وأما المهر فلا يلزمه فى مذهب أحمد ومالك وغيرهما وللشافعى فيه قولان ( أحدهما ( يلزمه كما هو مذهب أبى حنيفة وكل موضع لا تصير الأمة أم ولد فانه يجوز بيعها
( وسئل (
عن امرأة تصدقت على ولدها فى حال صحتها وسلامتها بحصة من كل ما يحتمل القسمة من مدة تزيد على عشر سنين وماتت المتصدقة ثم تصدق المتصدق عليه بجميع ما تصدقت به والدته عليه على ولده فى حياته وثبت ذلك جميعه بعد وفاة المتصدقة الأولى عند بعض القضاة وحكم به فهل لبقية الورثة أن تبطل ذلك بحكم استمراره بالسكنى بعد تسليمه لولدها المتصدق عليه أم لا
فأجاب رحمه الله إذا كانت هذه الصدقة لم تخرج عن يد المتصدق حتى مات بطلت باتفاق الأئمة فى أقوالهم المشهورة وإذا أثبت الحاكم ذلك لم يكن اثباته لذلك العقد موجبا لصحته وأما الحكم بصحته وله ورثة والحالة هذه فلا يفعل ذلك حاكم عالم الا أن تكون القضية ليست على هذه الصفة فلا يكون حينئذ حاكما وإما أن تكون الصدقة قد أخرجها المتصدق
____________________
(31/280)
عن يده إلى من تصدق عليه وسلمها التسليم الشرعى فهذه مسألة معروفة عند العلماء فان لم يكن المعطى أعطى بقية الأولاد مثل ذلك والا وجب عليه أن يرد ذلك أو يعطى الباقين مثل ذلك لما ثبت فى الصحيح عن النعمان بن بشير قال نحلنى أبى غلاما فقالت أمى عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم وقلت إنى نحلت إبنى غلاما وأن أمه قالت لا أرضى حتى تشهد رسول الله قال ( لك ولد غيره ( قلت نعم قال ( فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته ( قلت لا قال ( أشهد على هذا غيرى ( وفى رواية ( لا تشهدنى فانى لا أشهد على جور واتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم أردده ( فرده والله أعلم )
( وسئل (
عن دار لرجل وأنه تصدق منها بالنصف والربع على ولده لصلبه والباقى وهو الربع تصدق به على أخته شقيقته ثم بعد ذلك توفى ولده الذى كان تصدق عليه بالنصف والربع ثم إن المتصدق تصدق بجميع الدار على ابنته فهل تصح الصدقة الأخيرة ويبطل ما تصدق به أم لا
فأجاب إذا كان قد ملك أخته الربع تمليكا مقبوضا وملك ابنه الثلاثة أرباع فملك الأخت ينتقل إلى ورثتها لا إلى البنت وليس للمالك أن ينقله إلى ابنته والله أعلم
____________________
(31/281)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن امرأة ماتت ولها أب وأم وزوج وهى رشيدة وقد أخذ أبوها القماش ولم يعط الورثة شيئا
فأجاب لا يقبل منه ذلك بل ما كان فى يدها من المال فهو لها ينتقل إلى ورثتها وان كان هو اشتراه وجهزها به على الوجه المعتاد فى الجهاز فهو تمليك لها فليس له الرجوع بعد موتها
( وسئل (
هل لمن أهدى كلب صيد فأهدى للمهدى عوضا هل له أكل هذه الهدية
فأجاب إذا أعطى الكلب المعلم ولم يكن من نيته أن يأخذ عوضا ولا قصد بالهدية الثواب بل إكراما للمهدى إليه ثم أن المهدى إليه أعطاه شيئا فلا بأس
____________________
(31/282)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عما إذا وهب لانسان شيئا ثم رجع فيه هل يجوز ذلك أم لا
فأجاب الحمد لله فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ليس لواهب أن يرجع فى هبته الا الوالد فيما وهبه لولده ( وهذا مذهب الشافعى ومالك وأحمد وغيرهم إلا أن يكون المقصود بالهبة المعاوضة مثل من يعطى رجلا عطية ليعاوضه عليها أو يقضى له حاجة فهذا إذا لم يوف بالشرط المعروف لفظا أو عرفا فله أن يرجع فى هبته أو قدرها والله أعلم
( وسئل ( عن الرجل يهب الرجل شيئا إما ابتداء أو يكون دينا عليه ثم يحصل بينهما شنئان فيرجع فى هبته فهل له ذلك وإذا أنكر الهبة وحلف الموهوب له أنه لا يستحق الواهب فى ذمته شيئا هل يحنث أم لا
____________________
(31/283)
فأجاب الحمد لله ليس لواهب أن يرجع فى هبته غير الوالد إلا أن تكون الهبة على جهة المعاوضة لفظا أو عرفا فإذا كانت لأجل عوض ولم يحصل فللواهب الرجوع فيها والله أعلم
( وسئل (
عمن وهب لابنه هبة ثم تصرف فيها وادعى أنها ملكه فهل يتضمن هذا الرجوع فى الهبة أم لا
فأجاب نعم يتضمن ذلك الرجوع والله أعلم وسئل (
عن رجل وهب لانسان فرسا ثم بعد ذلك بمدة طلب الواهب منه أجرتها فقال له ما أقدر على شيء والافرسك خذها قال الواهب ما آخذها إلا أن تعطينى أجرتها فهل يجوز ذلك وتجوز له اجرة أم لا
فأجاب إذا أعاد إليه العين الموهوبة فلاشىء له غير ذلك وليس له المطالبة بأجرتها ولا مطالبته بالضمان فانه كان ضامنا لها وكان يطعمها بانتفاعه بها مقابلة لذلك
____________________
(31/284)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل قدم لأمير مملوكا على سبيل التعويض المعروف بين الناس من غير مبايعة فمكث الغلام عند الأمير مدة سنة يخدمه ثم مات الأمير فهل لصاحب المملوك التعلق على ورثة الأمير بوجه بثمن أو أجرة خدمة أو بحال من الأحوال
فأجاب نعم إذا وهبه بشرط الثواب لفظا أو عرفا فله أن يرجع فى الموهوب ما لم يحصل له الثواب الذى استحقه إذا كان الموهوب باقيا وإن كان تالفا فله قيمته أو الثواب والثواب هنا هو العوض المشروط على الموهوب
( وسئل (
عن رجل أهدى الأمير هدية لطلب حاجة أو التقرب أو للاشتغال بالخدمة عنده أو ما أشبه ذلك فهل يجوز أخذ هذه الهدية على هذه الصورة أم لا وإن أخذ الهدية أنبعثت النفس إلى قضاء الشغل وإن لم يأخذ لم تنبعث النفس فى قضاء الشعل فهل يجوز أخذها وقضاء شغله أولا يأخذ ولا يقضى
____________________
(31/285)
ورجل مسموع القول عند مخدومه إذا أعطوه شيئا للأكل أو هدية لغير قضاء حاجة فهل يجوز أخذها وأن ردها على المهدى إنكسر خاطره فهل يحل أخذ هذا أم لا
فأجاب الحمد لله فى سنن أبى داود وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من شفع لأخيه شفاعة فاهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا ( وسئل بن مسعود عن السحت فقال هو أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدى لك هدية فتقبلها فقال له أرأيت إن كانت هدية فى باطل فقال ذلك كفر ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون (
ولهذا قال العلماء إن من أهدى هدية لولى أمر ليفعل معه ما لا يجوز كان حراما على المهدى والمهدى إليه وهذه من الرشوة التى قال فيها النبى ( لعن الله الراشى والمرتشى ( والرشوة تسمى ( البرطيل ( والبرطيل ( فى اللغة هو الحجر المستطيل فاه فاما إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حراما على الآخذ وجاز للدافع أن يدفعها إليه كما كان النبى يقول ( انى لأعطى أحدهم العطية فيخرج بها يتابطها نارا ( قيل يا رسول الله فلم تعطيهم قال ( يأبون إلا أن يسألونى ويأبى الله لى البخل (
ومثل ذلك اعطاء من أعتق وكتم عتقه أو أسر خبرا أو كان ظالما للناس فاعطاء هؤلاء جائز للمعطى حرام عليهم أخذه
وأما الهدية فى الشفاعة
____________________
(31/286)
مثل أن يشفع لرجل عند ولي أمر ليرفع عنه مظلمة أو يوصل إليه حقه أو يوليه ولاية يستحقها أو يستخدمه فى الجند المقاتلة وهو مستحق لذلك أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القراء أو النساك أو غيرهم وهو من أهل الاستحقاق ونحو هذه الشفاعة التى فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهدية ويجوز للمهدى أن يبذل فى ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر
وقد رخص بعض المتأخرين من الفقهاء فى ذلك وجعل هذا من ( باب الجعالة ( وهذا مخالف للسنة وأقوال الصحابة والأئمة فهو غلط لأن مثل هذا العمل هو من المصالح العامة التى يكون القيام بها فرضا أما على الأعيان وأما على الكفاية ومتى شرع أخذ الجعل على مثل هذا لزم أن تكون الولاية وإعطاء أموال الفيء والصدقات وغيرها لمن يبذل فى ذلك ولزم أن يكون كف الظلم عمن يبذل فى ذلك والذى لا يبذل لا يولى ولا يعطى ولا يكف عنه الظلم وأن كان أحق وأنفع للمسلمين من هذا والمنفعة فى هذا ليست لهذا الباذل حتى يؤخذ منه الجعل على الآبق والشارد وإنما المنفعة لعموم الناس أعنى المسلمين فإنه يجب أن يولى فى كل مرتبة أصلح من يقدر عليها وإن يرزق من رزق المقاتلة والأئمة والمؤذنين وأهل العلم الذين هم أحق الناس وأنفعهم للمسلمين وهذا واجب على الامام وعلى الامة أن يعاونوه على ذلك فأخذ جعل من شخص معين على ذلك يفضى إلى أن تطلب هذه
____________________
(31/287)
لأمور بالعوض ونفس طلب الولايات منهى عنه فكيف بالعوض ولزم أن من كان ممكنا فيها يولى ويعطى وأن كان غيره أحق وأولى بل يلزم تولية الجاهل والفاسق والفاجر وترك العالم العادل القادر وإن يرزق فى ديوان المقاتلة الفاسق والجبان العاجز عن القتال وترك العدل الشجاع النافع للمسلمين وفساد مثل هذا كثير
وإذا أخذ وشفع لمن لا يستحق وغيره أولى فليس له أن يأخذ ولا يشفع وتركهما خير وإذا أخذ وشفع لمن هو الأحق الأولى وترك من لا يستحق فحينئذ ترك الشفاعة والأخذ أضر من الشفاعة لمن لا يستحق ويقال لهذا الشافع الذى له الحاجة التى تقبل بها الشفاعة يجب عليك أن تكون ناصحالله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ولو لم يكن لك هذا الجاه والمال فكيف إذا كان لك هذا الجاه والمال فأنت عليك أن تنصح المشفوع إليه فتبين له من يستحق الولاية والاستخدام والعطاء ومن لا يستحق ذلك وتنصح للمسلمين بفعل مثل ذلك وتنصح لله ولرسوله بطاعته فإن هذا من أعظم طاعته وتنفع هذا المستحق بمعاونته على ذلك كما عليك أن تصلى وتصوم وتجاهد فى سبيل الله
وأما الرجل المسموع الكلام فإذا أكل قدرا زائدا عن الضيافة الشرعية فلابد له أن يكافئ المطعم بمثل ذلك أو لا يأكل القدر الزائد والا فقبوله الضيافة الزائدة مثل قبوله للهدية وهو من جنس الشاهد والشافع إذا أدى الشهادة وقام بالشفاعة لضيافة أو جعل فإن هذا من أسباب الفساد والله أعلم
____________________
(31/288)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل قدم لبعض الأكابر غلاما والعادة جارية أنه إذا قدم يعطى ثمنه أو نظير الثمن فلم يعط شيئا وتزوج وجاءه أولاد وتوفى فهل أولاده أحرار أم لا وهل يرث أولاد مالك الأصل صاحب العهدة أم لا
فأجاب الحمد لله إذا كانت العادة الجارية بالتعويض وأعطاه على هذا الشرط فإنه يستحق أحد الأمرين إما التعويض وإما الرجوع فى الموهوب وأما المملوك فإنه إذا لم يعتقه الموهوب له فانه يكون باقيا على ملكه
وأما أولاده فيتبعون أمهم فإن كانت حرة فهم أحرار وإن كانت مملوكة فهم ملك لمالكها لا لمالك الأب إذ الأولاد فى المذاهب الأربعة وغيرها يتبعون أمهم فى الحرية والرق ويتبعون أباهم فى النسب والولاء وإذا لم يرجع الواهب حتى فات الرجوع فله أن يطالب الموهوب له بالتعويض إن كان حيا وفى تركته إن كان ميتا كسائر الديون وإن كان قد عتق وله أولاد من حرة فهم أحرار
____________________
(31/289)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل اشترى عبدا ووهبه شيئا حتى أثرى العبد ثم ظهر أن العبد كان حرا فهل يأخذ منه ما وهبه ظنا منه أنه عبد
فأجاب نعم له أخذه
( وسئل (
عن رجل طلق زوجته وسألها الصلح فصالحها وكتب لها دينارين فقال لها هبينى الدينار الواحد فوهبته ثم طلقها فهل لها الرجوع فى الهبة والحال هذه
فأجاب نعم لها أن ترجع فيما وهبته والحال هذه فإنه سألها الهبة وطلقها مع ذلك وهى لم تطلب نفسها أن يأخذ مالها بسؤالها ويطلقها والله أعلم
____________________
(31/290)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل وهب لزوجته ألف درهم وكتب عليه بها حجة ولم يقبضها شيئا وماتت وقد طالبه ورثتها بالمبلغ فهل له أن يرجع فى الهبة
فأجاب الحمد لله إذا لم يكن لها فى ذمته شيء قبل ذلك لا هذا المبلغ ولا ما يصلح أن يكون هذا المبلغ عوضا عنه مثل أن يكون قد أخذ بعض جهازها وصالحها عن قيمته بهذا المبلغ ونحو ذلك فانه لا يستحق ورثتها شيئا من هذا الدين فى نفس الأمر فإن كان إقرارا فله أن يحلفهم أنهم لا يعلمون أن باطن هذا الاقرار يخالف ظاهره وإذا قامت بينة على المقر والمقر له بأن هذا الاقرار تلجئة فلا حقيقة له ولو كان قيمة ما أقر به من مالها أقل من هذا المبلغ فصالحها على أكثر من قيمته ففى لزوم هذه الزيادة نزاع بين العلماء تبطله طوائف من أصحاب الشافعى وأحمد ويصححه أبو حنيفة وهو قياس قول أحمد وغيره وهو الصحيح والله أعلم
____________________
(31/291)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل عليه دين وله مال يستغرقه الدين ويفضل عليه من الدين وأوهب فى مرض موته لمملوك معتوق من ذلك المال فهل لأهل الدين استرجاعه أم لا
فأجاب الحمد الله نعم إذا كان عليه دين مستغرق لماله فليس له فى مرض الموت أن يتبرع لأحد بهبة لا محاباة ولاإبراء من دين إلا بإجازة الغرماء بل ليس للورثة حق إلا بعد وفاء الدين وهذا باتفاق المسلمين كما أن النبى قضى بالدين قبل الوصية والتبرع فى مرض الموت كالوصية باتفاق الأئمة الأربعة
( وسئل ( عن رجل مات وخلف ولدين ذكرين وبنتا وزوجة وقسم عليهم الميراث ثم إن لهم أختا بالمشرق فلما قدمت تطلب ميراثها فوجدت الولدين ماتا والزوجة أيضا ووجدت الموجود عند أختها فلما ادعت عليها وألزمت بذلك فخافت من القطيعة بينهما فأشهدت على نفسها بأنها أبرأتها
____________________
(31/292)
فلما حصل الابراء منها حلف زوجها بالطلاق أن أختها لا تجيء إليها ولا هي تروح لها والمذكورة لم تهبها المال إلا لتحصيل الصلة والمودة بينهما ولم يحصل غرضها فهل لها الرجوع فى الهبة وهل يمنع الابراء أن تدعى بذلك وتطلب أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين إذا كانت قد قالت عند الهبة أنا أهب أختى لتعيننى على أمورى ونتعاون أنا وهى فى بلاد الغربة أو قالت لها أختها هبينى هذا الميراث قالت ما أوهبك إلا لتخدمينى فى بلاد الغربة ثم أوهبتها أو جرى بينهما من الاتفاق ما يشبه ذلك بحيث وهبتها لأجل منفعة تحصل لها منها فإذا لم يحصل لها الغرض فلها أن تفسخ الهبة وترجع فيها فالعوض فى مثل هذه الهبة فيه قولان فى مذهب أحمد وغيره قيل إن منفعته تكون بقدر قيمة ذلك والله أعلم
( وسئل (
عن إمرأة لها زوج ولها عليه صداق فلما حضرتها الوفاة أحضرت شاهد عدل وجماعة نسوة وأشهدت على نفسها أنها أبرأته من الصداق فهل يصح هذا الإبراء أم لا
فأجاب الحمد لله إن كان الصداق ثابتا عليه إلى أن مرضت مرض الموت لم يصح ذلك الا باجازة الورثة الباقين وأما إن كانت أبرأته فى الصحة
____________________
(31/293)
جاز ذلك وثبت بشاهد ويمين عند مالك والشافعى وأحمد وثبت أيضا بشهادة امرأتين ويمين عند مالك وقول فى مذهب أحمد وإن أقرت فى مرضها أنها أبرأته فى الصحة لم يقبل هذا الاقرار عند أبى حنيفة وأحمد وغيرهما ويقبل عند الشافعى وقد قال النبى ( إن الله قد أعطى كل ذى حظ حظه فلا وصية لوارث ) وليس للمريض أن يخص الوارث بأكثر مما أعطاه الله
( وسئل رحمه الله (
عن رجل خص بعض الأولاد على بعض
فأجاب ليس له فى حال مرضه أن يخص أحدا منهم بأكثر من قدر ميراثه باتفاق المسلمين وإذا فعل ذلك فلباقى الورثة رده وأخذ حقوقهم بل لو فعل ذلك فى صحته لم يجز ذلك فى أصح قولى العلماء بل عليه أن يرده كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يرده حيا وميتا ويرده المخصص بعد موته
____________________
(31/294)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل أعطى بعض أولاده شيئا ولم يعط الآخر لكون الأول طائعا له فهل له بر من أطاعه وحرمان من عصاه وحلف الذى لم يعطه بالطلاق أنه لا يكلم أباه إن لم يواسيه فهل له مخرج وهل اليمين بالطلاق تجرى مجرى الايمان أم لا
فأجاب على الرجل أن يعدل بين أولاده كما أمر الله ورسوله فقد ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال لبشير بن سعد لما نحل ابنه النعمان نحلا وأتى النبى صلى الله عليه وسلم ليشهده على ذلك فقال له ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ( وقال ( لا تشهدنى على هذا فإني لا أشهد على جور ( وقال له ( أردده ( فرده بشير وقال له على سبيل التهديد ( أشهد على هذا غيرى (
لكن إذا خص أحدهما بسبب شرعى مثل أن يكون محتاجا مطيعا لله والآخر غنى عاص يستعين بالمال على المعصية فإذا أعطى من أمر الله بإعطائه ومنع من أمر الله بمنعه فقد أحسن
____________________
(31/295)
وأما الذى حلف أنه لا يكلم أباه فأيما يمين من أيمان المسلمين حلف بها الرجل فعليه إذا حنث كفارة يمين وأى يمين حلف عليها ورأى الحنث خيرا من الاصرار عليها فإنه يكفر عن يمينه ويحنث كما دل عليه الكتاب والسنة وسواء حلف باسم الله أو بالنذر أو بالطلاق أو العتاق أو الظهار أو الحرام كقوله أن فعلت كذا فمالى صدقة وعلى عشر حجج وعلى صوم سنة ونسائى طوالق وعبيدى أحرار ونحو ذلك فكل ما كان من أيمان المسلمين أجزأت فيه كفارة
وما لم يكن من أيمان المسلمين كالحلف بالكعبة والمشايخ والملوك والآباء فإنها أيمان محرمة غير منعقدة ولا حرمة لها وليس فى شرع الله ورسوله إلا يمينان يمين منعقدة ففيها الكفارة ويمين غير منعقدة فلا شيء فيها إذا حنث ومن أثبت من العلماء يمينا منعقدة غير مكفرة فقوله ضعيف مخالف للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس الجلى والله أعلم
( وسئل (
عن رجل له أولاد ذكور وأناث فنحل البنات دون الذكور قبل وفاته فهل يبقى فى ذمته شيء أم لا
____________________
(31/296)
فأجاب لا يحل له أن ينحل بعض أولاده دون بعض بل عليه أن يعدل بينهم كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم حيث قال ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ( وكان رجل قد نحل بعض أولاده وطلب أن يشهد فقال ( إني لا أشهد على جور وامره برد ذلك ( فإن كان ذلك بالكلام ولم يسلم إلى البنات ما أعطاهم حتى مات أو مرض مرض الموت فهذا مردود باتفاق الأئمة وإن كان فيه خلاف شاذ وإن كان قد أقبضهم فى الصحة ففى رده قولان للعلماء والله أعلم
( وسئل ( عن رجل ترك أولادا ذكورا وإناثا وتزوج الاناث قبل موت أبيهم فأخذوا الجهاز جملة كثيرة ثم لما مات الرجل لم يرث الذكور الا شيئا يسيرا فهل على البنات أن يتحاصوا هم والذكور فى الميراث والذى معهم أو لا
فأجاب يجب على الرجل أن يسوى بين أولاده فى العطية ولا يجوز أن يفضل بعضا على بعض كما أمر النبى بذلك حيث نهى عن الجور فى التفضيل وأمر برده فإن فعل ومات قبل العدل كان الواجب على من فضل أن يتبع العدل بين إخوته فيقتسمون جميع المال الاول والآخر على كتاب الله تعالى ( للذكر مثل حظ الأنثيين ( والله أعلم
____________________
(31/297)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل وهب لأولاده مماليك ثم قصد عتقهم فهل الأفضل استرجاعهم منهم وعتقهم أو ابقاؤهم فى يد الأولاد
فأجاب الحمد لله إن كان أولاده محتاجين إلى المماليك فتركهم لأولاده أفضل من استرجاعهم وعتقهم بل صلة ذى الرحم المحتاج أفضل من العتق كما ثبت فى الصحيح أن ميمونة زوج النبى اعتقت جارية لها فذ كرت ذلك للنبى فقال ( لو أعطيتها أخوالك كان خيرا لك ( فإذا كان النبى قد فضل اعطاء الخال على العتق فكيف الأولاد المحتاجون وأما إن كان الأولاد مستعنين عن بعضهم فعتقه حسن وله أن يرجع فى هذه الهبة عند الشافعى وأحمد وغيرهما ولا يرجع فيها عند أبى حنيفة والله أعلم
____________________
(31/298)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل توفيت زوجته وخلفت أولادا وموجودا تحت يده وليس له قدرة أن يتزوج فهل له أن يشترى من موجود الأولاد جارية تخدمهم ويطؤها ويتزوج من ما لهم
فأجاب الحمد لله إذا لم يكن ذلك مضرا بأولاده فله أن يتملك من ما لهم ما يشترى به أمة يطؤها وتخدمهم والله أعلم وسئل (
عن امرأة أعطاها زوجها حقوقها فى حال حياته ولها منه أولاد وأعطاها مبلغا عن صداقها لتنفع به نفسها وأولادها فإن أدعى عليها أحد وأراد أن يحلفها فهل يجوز لها أن تحلف لنفى الظلم عنها
فأجاب الحمد لله إذا وهب لأولاده منها ما وهبه وقبض ذلك ولم يكن فيه ظلم لأحد كان ذلك هبة صحيحة ولم يكن لأحد أن ينتزعه
____________________
(31/299)
منها وإذا كان قد جعل نصيب الأولاد اليها حيا وميتا وهى أهل لم يكن لأحد نزعه منها وإذا حلفت تحلف أن عندها للميت شيء والله أعلم
( وسئل (
عن رجل تصدق على ولده بصدقة ونزلها فى كتاب زوجته وقد ضعف حال الوالد وجفاه ولده فهل له الرجوع فى هبته أم لا
فأجاب إذا كان قد أعطاه للمرأة فى صداق زوجته لم يكن للإنسان أن يرجع فيه باتفاق العلماء
( وسئل (
عن رجل أعطى أولاده الكبار شيئا ثم أعطى لأولاده الصغار نظيره ثم أنه قال اشتروا بالريع ملكا أو قفوه على الجميع بعد أن قبضوا ما أعطاهم فهل يكون ذلك رجوعا أم لا
فأجاب الحمد لله لا يزول ملك الولدين المملكين بما ذكر إذ ليس ذلك رجوعا فى الهبة ولو كان رجوعا فى الهبة لم يجز له الرجوع فى مثل هذه الهبة فإنه إذا أعطى الولدين الآخرين ما عدل به بينهما وبين
____________________
(31/300)
الباقين فليس له أن يرجع عن العدل الذى أمره الله به ورسوله كيف وقد قال النبى ( اتقوا الله وأعدلوا فى أولادكم ( وقال ( إنى لا أشهد على جور ( وقال فى التفضيل ( أردده ( وقال على سبيل التهديد للمفضل ( أشهد على هذا غيرى ( والله أعلم
( وسئل (
عن رجل ملك بنته ملكا ثم ماتت وخلفت والدها وولدها فهل يجوز للرجل أن يرجع فيما كتبه لبنته أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين ما ملكته البنت ملكا تاما مقبوضا وماتت انتقل إلى ورثتها فلأبيها السدس والباقى لابنها إذا لم يكن لها وارث وليس له الرجوع بعد موت البنت فيما ملكها بالاتفاق )
( وسئل (
عن رجل وهب لابنته مصاغا لم يتعلق به حق لأحد وحلف بالطلاق أن لا يأخذ منها شيئا منه واحتاج أن يأخذ منها شيئا فهل له أن يرجع فى هبته أم لا وإن أعطته شيئا من طيب نفسها هل يحنث أم لا
____________________
(31/301)
فأجاب الحمد لله له أن يرجع فيما وهبه لها لكنه أن فعل المحلوف عليه حنث فان كان قصده أن لا يأخذ شيئا بغير طيب قلبها أو بغير إذنها فإن طابت نفسها أو أذنت لم يحنث
( وسئل ( عن رجل له أولاد وهب لهم ماله ووهب أحدهم نصيبه لولده وقد رجع الوالد الأول فيما وهبه لأولاده فردوا عليه إلا الذى وهبه لولده امتنع فهل يلزمه أن ينتزعه من ولده ويسلمه لوالده
فأجاب الحمد لله إذا كان قد وهب لولده شيئا ولم يتعلق به حق الغير مثل أن يكون قد صار عليه دين أو زوجوه لأجل ذلك فله أن يرجع فى ذلك والله أعلم وسئل (
عن رجل ماتت والدته وخلفته ووالده وكريمته ثم ماتت كريمته فأراد والده أن يزوجه فقال ما أزوجك حتى تملكنى ما ورثته عن والدتك فملكه ذلك وتصدق عليه بالربع بشهود ثم بعد ذلك مرض
____________________
(31/302)
والده مرضا غيب عقله فرجع فيما تصدق به على ولده وأوقفها على زوجته وولده وابنته ولم يذكر ولده وانتسخ كتاب الوقف مرتين فهل له أن يخصص أولاده ويخرج ولده من جميع إرث والدته
فأجاب إن كان الأب قد أعطى ابنه شيئا عوضا عما أخذه له فليس له أن يرجع بذلك بلا نزاع بين العلماء وأما إن كان تصدق به عليه صدقة لله ففى رجوعه عليه قولان للعلماء ( أحدهما ( لا يرجع و ( الثانى ( يرجع عند مالك والشافعى وأحمد ومتى رجع وعقله غائب أو أوقف وعقله غائب أو عقد عقدا لم يصح رجوعه ولا وقفه إذا كان مغيبا عقله بمرض بلا نزاع بين العلماء
( وسئل ( عن رجل سرق له مبلغ فظن فى أحد أولاده أنه هو أخذه ثم صار يدعو عليه وهجره وهو بريء ولم يكن أخذ شيئا فهل يؤجر الولد بدعاء والده عليه
فأجاب نعم إذا كان الولد مظلوما فإن الله يكفر عنه بما يظلمه ويؤجره على صبره ويأثم من يدعو على غيره عدوانا
____________________
(31/303)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل خلف شيئا من الدنيا وتقاسمه أولاده وأعطوا أمهم كتابها وثمنها وبعد قليل وجد الأولاد مع أمهم شيئا يجيء ثلث الوراثة فقالوا من أين لك هذا المال فقالت لما كان أبوكم مريضا طلبت منه شيئا فأعطانى ثلث ماله فأخذوا المال من أمهم وقالوا ما أعطاك أبونا شيئا فهل يجب رد المال إليها
فأجاب ما أعطى المريض فى مرض الموت لوراثه فانه لا ينفذ إلا بإجازة الورثة فما أعطاه المريض لامرأته فهو كسائر ماله إلا أن يجيز ذلك باقى الورثة وينبغى للأولاد أن يقروا أمهم ويجيزوا ذلك لها لكن لا يجبرون على ذلك بل تقسم جميع التركة قال ( النبى ( لا وصية لوارث
____________________
(31/304)
= ( كتاب الوصايا (
( سئل رحمه الله تعالى (
عمن قال يدفع هذا المال إلى يتامى فلان فى مرض موته ولم يعرف أهذا إقرار أو وصية
فأجاب إن كان هناك قرينة تبين مراده هل هو إقرار أو وصية عمل بها وإن لم يعرف فما كان محكوما له به لم يزل عن ملكه بلفظ مجمل بل يجعل وصية
( وسئل (
عن مودع مرض مودعه فقال له أما يعرف ابنك بهذه الوديعة فقال فلان الاسير يجى ما يقدر على شيء يعود عليه وقصد بذلك أن يكون موصدا له ولم يزد على ذلك فإذا خرج من الثلث هل يجوز أن يصرفه فى مصالح ذلك الأسير
____________________
(31/305)
فأجاب تنعقد الوصية بكل لفظ يدل على ذلك كما إذا فهمت المخاطبة من الموصى ويبقى قبول الوصية فى التصرف فيها موقوفا على قبول الموصى له لفظا أو عرفا وعلى إذنه فى التصرف فيها على قبول الموصى له لفظا أو عرفا وعلى إذنه فى التصرف أو اذن الشارع ويجوز صرف مال الأسير فى فكاكه بلا اذنه والله أعلم
( وسئل (
عن رجل كتب وصيته وذكر فى وصيته أن فى ذمته لزوجته مائة درهم ولم تكن زوجته تعلم أن لها فى ذمته شيئا فهل يجوز لوصيه بعد موته دفع الدراهم لزوجته بغير يمين إذا كان قد أقر لها من غير استحقاق
فأجاب لا يحل لها أن تأخذ من ذلك شيئا فان هذا يكون وصية لوارث لا يجوز له وصيته بإجماع المسلمين إلا بإجازة بقية الورثة وأما فى الحكم فلا تعطى شيئا حتى تصدقه على الاقرار فى مرض الموت وإلا كان باطلا عند أكثر العلماء وإذا صدقته على الاقرار فادعى الوصي أو بعض الورثة أن هذا الاقرار من غير استحقاق كما جرت عادة بعض الناس أنه يجعل الانشاء إقرارا فإن ذلك بمنزلة أن يدعى فى الاقرار أنه أقر قبل القبض ومثل ذلك قد تنازع العلماء فى التحليف عليه والصحيح أنه يحلف والصحيح أنها لا تعطى شيئا حتى تحلف
____________________
(31/306)
( وسئل (
عن امرأة أعتقت جارية دون البلوغ وكتبت لها أموالها ولم تزل تحت يدها إلى حال وفاتها أى السيدة المعتقة وخلفت ورثة فهل يصح تمليكها للجارية أم للورثة انتزاعها أو بعضها
فأجاب الحمد لله أما مجرد التمليك بدون القبض الشرعى فلا يلزم به عقد الهبة بل للوارث أن ينتزع ذلك وكذلك إن كانت هبة تلجئة بحيث توهب فى الظاهر وتقبض مع اتفاق الواهب والموهوب له على أنه ينتزعه منه إذا شاء ونحو ذلك من الحيل التى تجعل طريقا إلى منع الوارث أو الغريم حقوقهم فإذا كان الأمر كذلك كانت أيضا هبة باطلة والله أعلم
( وسئل (
عمن أشهد على أبيه أن عنده ثلاثمائة ( فى ) حجة عن فلانة فقال ورثتها لا يخرج إلا بثلثها فقال المشهود عليه أمى تبرع بها فما الحكم
فأجاب مجرد هذا الاشهاد لا يوجب أن يكون هذا المال تركة مخلفة يستحق الورثة ثلثيها لاحتمال أن لا يكون من مال المرأة ولاحتمال أن يكون حجة الاسلام الخارجة من صلب التركة والله أعلم
____________________
(31/307)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل تصدق على إبنته لصلبه وأسند وصيته لرجل ( 1 ) فآجره مدة ثلاثين سنة وقد توفى الوصى المذكور ورشد من كان وصية عليها ولم ترض الموصى عليها بعد رشدها بإجارة الوصى وأن الوصى أجر ذلك بغير قيمة المثل فهل تنفسخ الاجارة وتتصرف فى ملكها عادة الملاك
فأجاب لها أن تفسخ هذه الاجارة بلا نزاع بين العلماء وإنما النزاع هل تقع باطلة من أصلها أو مضمونة على المؤجر والله أعلم
( وسئل (
عن رجل أوصى لأولاده بسهام مختلفة وأشهد عليه عند وفاته بذلك فهل تنفذ هذه الوصية أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين لا يجوز للمريض تخصيص بعض أولاده بعطية منجزة ولا وصية بعد الموت ولا أن يقر له بشيء فى ذمته وإذا فعل ذلك لم يجز تنفيذه بدون إجازة بقية الورثة وهذا كله باتفاق
____________________
(31/308)
المسلمين ولا يجوز لأحد من الشهود أن يشهد على ذلك شهادة يعين بها على الظلم وهذا التخصيص من الكبائر الموجبة للنار حتى قد روى أهل السنن ما يدل على الوعيد الشديد لمن فعل ذلك لأنه كالمتسبب فى الشحناء وعدم الاتحاد بين ذريته لا سيما فى حقه فإنه يتسبب فى عقوقه وعدم بره )
( وسئل (
عن رجل له زرع ونخل فقال عند موته لأهله أنفقوا من ثلثى على الفقراء والمساكين إلى أن يولد لولدى ولد فيكون لهم فهل تصح هذه الوصية أم لا
فأجاب نعم تصح هذه الوصية فإن الوصية لولد الولد الذين لا يرثون جائزة كما وصى الزبير بن العوام لولد عبد الله بن الزبير والوصية تصح للمعدوم بالمعدوم فيكون الريع للفقراء إلى أن يحدث ولد الولد فيكون لهم والله أعلم وسئل (
عن رجل أوصى لأولاده الذكور بتخصيص ملك دون الاناث وأثبته على يد الحاكم قبل وفاته فهل يجوز ذلك
فأجاب لا يجوز أن يخص بعض أولاده دون بعض فى وصيته ولا مرض موته باتفاق العلماء ولا يجوز له على أصح قولى العلماء أن يخص بعضهم بالعطية
____________________
(31/309)
فى صحته أيضا بل عليه أن يعدل بينهم ويرد الفضل كما أمر النبى بشير بن سعيد حيث قال له ( أردده ( فرده وقال ( إنى لا أشهد على جور ( وقال له على سبيل التهديد ( أشهد على هذا غيرى ( ولا يجوز للولد الذى فضل أن يأخذ الفضل بل عليه أن يرد ذلك فى حياة الظالم الجائر وبعد موته كما يرد فى حياته فى أصح قولى العلماء
( وسئل رحمه الله ( عن إمرأة وصت لطفلة تحت نظر أبيها بمبلغ من ثلث مالها وتوفيت الموصية وقبل للطفلة والدها الوصية المذكورة بعد وفاتها وادعى لها عند الحاكم بما وصت الموصية وقامت البينة بوفاتها وعليها بما نسب إليها من الايصاء وعلى والدها بقبول الوصية لابنته وتوقف الحاكم عن الحكم للطفلة بما ثبت لها عنده بالبينة لتعذر حلفها لصغر سنها فهل يحلف والدها أو يوقف الحكم إلى البلوغ ويحلفها أم لا
فأجاب الحمد لله لا يحلف والدها لأنه غير مستحق ولا يوقف الحكم إلى بلوغها وحلفها بل يحكم لها بذلك بلا نزاع بين العلماء مالم يثبت معارض بل أبلغ من هذا لو ثبت لصبى أو لمجنون حق على غائب عنه من دين عن مبيع أو بدل قرض أو أرش جناية أو غير ذلك مما لو كان مستحقا بالغا عاقلا يحلف على عدم الابراء أو الاستيفاء فى أحد قولى
____________________
(31/310)
العلماء ويحكم به للصبى والمجنون ولا يحلف وليه كما قد نص عليه العلماء ولهذا لو ادعى مدع على صبي أو مجنون جناية أو حقا لم يحكم له ولا يحلف الصبى والمجنون وإن كان البالغ العاقل لا يقول إلا بيمين ولها نظائر هذا فيما يشرع فيه اليمين بالاتفاق أو على أحد قولى العلماء فكيف بالوصية التى لم يذكر العلماء تحليف الموصى له فيها وإنما أخذ به بعض الناس والوصية تكون للحمل باتفاق العلماء ويستحقها إذا ولد حيا ولم يقل مسلم إنها تؤخر إلى حين بلوغه ولا يحلف والله أعلم وسئل (
عن إمرأة وصت وصايا فى حال مرضها ولزوجها ولأخيها بشيء ثم بعد مدة طويلة وضعت ولدا ذكرا وبعد ذلك توفيت فهل يبطل حكم الوصية
فأجاب أما ما زاد على ثلث التركة فهو للوارث والولد اليتيم لا يتبرع بشيء من ماله فأما الزوج الوارث فالوصية له باطلة لأنه وارث وأما الأخ فالوصية له صحيحة لأنه مع الولد ليس بوارث وإن كان عند الوصية وارثا فينظر ما وصت به للأخ والناس فان وسعه الثلث وإلا قسم بينهم على قدر وصاياها
____________________
(31/311)
( وسئل رحمه الله (
عن إمرأة ماتت ولم يكن لها وارث سوى بن أخت لأم وقد أوصت بصدقة أكثر من الثلث فهل للوصى أن ينفذ ذلك ويعطى ما بقى لابن أختها
فأجاب يعطى الموصى له الثلث وما زاد عن ذلك أن أجازه الوارث جاز وإلا بطل وبن الأخت يرث المال كله عند من يقول بتوريث ذوى الأرحام وهو الوارث فى هذه المسألة عندهم وهو مذهب جمهور السلف وأبى حنيفة وأحمد وطوائف من أصحاب الشافعى وهو قول فى مذهب مالك إذا فسد بيت المال والله أعلم
( وسئل (
عن رجل مات وخلف ستة أولاد ذكور وبن بن وبنت بن ووصى لابن ابنه بمثل نصيب أولاده ولبنت ابنه بثلث ما بقى من الثلث بعد أن كان يعطى بن ابنه نصيبه فكم يكون نصيب كل واحد من أولاده
فأجاب الحمد لله ظاهر مذهب الشافعى وأحمد وأبى حنيفة أن هذه المسألة تصح من ستين لكل بن ثمانية ولصاحب الوصية ثلث ما بقى بعد الثلث اثنى عشر ثلث ذلك أربعة ولها طرق يعمل بها
وجواب هذه المسألة معروف فى كتب العلم
____________________
(31/312)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل توفى وله مال كثير وله ولد صغير وأوصى فى حال مرضه أن يباع فرسه الفلانى ويعطى ثمنه كله لمن يحج عنه حجة الاسلام وبيعت بتسعمائة درهم فأراد الحاكم أن يستأجر انسانا أجنبيا ليحج بهذا المقدار فجاء رجل غيره فقال أنا أحج بأربعمائة فهل يجوز ذلك أو يتعين ما أوصى به
فأجاب الحمد لله بل يجب إخراج جميع ما أوصى به إن كان يخرج من ثلثه وإن كان لا يخرج من ثلثه لم يجب على الورثة اخراج ما زاد على الثلث إلا أن يكون واجبا عليه بحيث لا يحصل حجة الاسلام والله أعلم
( وسئل (
عن رجل خلف أولادا وأوصى لأخته كل يوم بدرهم فأعطيت ذلك حتى نفد المال ولم يبق من التركة إلا عقار مغله كل سنة ستمائة درهم فهل تعطى ذلك أو درهما كما أوصى لها
____________________
(31/313)
فاجاب الحمد لله إذا لم يكن ما بقى متسعا لأن تعطى منه كل يوم درهما ويبقى للورثة درهم فلا تعطى إلا ما يبقى معه للورثة الثلثان لا يزاد على مقدار الثلث شيء إلا بإجازة الورثة المستحقين إذا كان المجيز بالغا رشيدا أهلا للتبرع وإن لم يكن المجيز كذلك أو لم يجز لم تعط شيئا ولو لم يخلف الميت إلا العقار فإنها تعطى من مغله أقل الأمرين من الدرهم الموصى به أو ثلث المغل فإن كان المغل أقل من ثلاثة دراهم كل يوم لم تعط إلا ثلث ذلك فلو كان درهما أعطيت ثلث درهم فقط وان أخذت زيادة على مقدار ثلث المغل استرجع منها ذلك وليس فى ذلك نزاع بين العلماء والله أعلم
( وسئل (
عن امرأة توفيت وخلفت أباها وعمها أخا أبيها شقيقه وجدتها وكان أبوها قد رشدها قبل أن يزوجها ثم أنها أوصت فى مرض موتها لزوجها بالنصف ولعمها بالنصف الآخر ولم توص لأبيها وجدتها بشيء فهل تصح هذه الوصية
فأجاب أما الوصية للعم صحيحة لكن لا ينفذ فيما زاد على الثلث إلا بإجازة والوصية للزوج لا ينفذ شيء منها إلا بإجازة الورثة وإذا لم تجز الورثة بما زاد على الثلث كان للزوج نصف الباقى بعد هذه الوصية التى هي الثلث وللجدة السدس وللاب الباقى وهو الثلث
____________________
(31/314)
( وسئل رحمه الله (
عن إمرأة أوصت قبل موتها بخمسة أيام بأشياء من حج وقرأة وصدقة فهل تنفذ الوصية
فأجاب إذا أوصت بأن يخرج من ثلث مالها ما يصرف فى قربة لله وطاعته وجب تنفيذ وصيتها وإن كان فى مرض الموت وأما إن كان الموصى به أكثر من الثلث كان الزائد موقوفا فإن أجازه الورثة جاز وإلا بطل وإن وصت بشيء فى غير طاعة لم تنفذ وصيتها
( وسئل (
عن رجل أوصى زوجته عند موته أنها لا توهب شيئا من متاع الدنيا لمن يقرأ القرآن ويهدى له وقد ادعى أن فى صدره قرآنا يكفيه ولم تكن زوجته تعلم بأنه كان يحفظ القرآن فهل أصاب فيما أوصى وقد قصدت الزوجة الموصى إليها أنها تعطى شيئا لمن يستحقه يستعين به على سبيل الهدية ويقرأ جزءا من القرآن ويهديه لميتها فهل يفسح لها فى ذلك
____________________
(31/315)
فأجاب الحمد لله تنفذ وصيته فان أعطاء أجرة لمن يقرأ القرآن ويهديه للميت بدعة لم ينقل عن أحد من السلف وإنما تكلم العلماء فيمن يقرأ لله ويهدى للميت وفيمن يعطى أجرة على تعليم القرآن وجوه فأما الاستئجار على القراءة واهدائها فهذا لم ينقل عن أحد من الأئمة ولا اذن فى ذلك فإن القراءة إذا كانت باجرة كانت معاوضة فلا يكون فيها أجر ولا يصل إلى الميت شيء وإنما يصل إليه العمل الصالح والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة وإنما تكلموا فى الاستئجار على التعليم لكن هذه المرأة إذا أرادت نفع زوجها فلتتصدق عنه بما تريد الاستئجار به فان الصدقة تصل إلى الميت باتفاق الأئمة وينفعه الله بها وإن تصدقت بذلك على قوم من قراء القرآن الفقراء ليستغنوا بذلك عن قراءتهم حصل من الأجر بقدر ما أعينوا على القراءة وينفع الله الميت بذلك والله أعلم
( وسئل (
عن مسجد لرجل وعليه وقف والوقف عليه حكر وأوصى قبل وفاته أن يخرج من الثلث ويشترى الحكر الذى للوقف فتعذر مشتراه لأن الحكر وقف وله ورثة وهم ضعفاء الحال وقد وافقهم الوصى على شيء من الثلث لعمارة المسجد فهل إذا تأخر من الثلث شيء للايتام يتعلق فى ذمة الوصى
فأجاب بل على الوصى أن يخرج جميع الثلث كما أوصاه الميت ولا يدع للورثة شيئا ثم إن أمكن شراء الأرض التى عينها الموصى اشتراها ووقفها
____________________
(31/316)
وإلا اشترى مكانا آخر ووقف على الجهة التى وصى بها الموصى كما ذكره العلماء فيما إذا قال بيعوا غلامى من زيد وتصدقوا بثمنه فامتنع فلان من شرائه فإنه يباع من غيره ويتصدق بثمنه فالوصية بشراء معين والتصدق به لوقف كالوصية ببيع معين والتصدق بثمنه لأن الموصى له هنا جهة الصدقة والوقف وهى باقية والتعيين إذا فات قام بدله مقامه كما لو أتلف الوقف متلف أو اتلف الموصى به متلف فإن بدلهما يقوم مقامهما فى ذلك فيفرق بين الموصى به والموقوف وبين بدل الموصى له والموقوف عليه فإنه لو وصى لزيد لم يكن لغيره ولو وصى أن يعتق عبده المعين أو نذر عتق عبد معين فمات المعين لم يقم غيره مقامه
وتنازع الفقهاء إذا وصى أن يحج عنه فلان بكذا فامتنع ذلك المعين من الحج وكان الحج تطوعا فهل يحج عنه أم لا على قولين هما وجهان فى مذهب أحمد وغيره لأن الحج مقصود فى نفسه ويقع المعين مقصودا فمن الفقهاء من غلب جانب التعيين ومنهم من قال بل الحج مقصود أيضا كما أن الصدقة والوقف مقصود وتعيين الحج كتعيين الموقوف والمتصدق به فإذا فات التعيين أقيم بدله كما يقام فى الصدقة والوقف
____________________
(31/317)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل أوصى فى مرضه المتصل بموته بان يباع شراب فى حانوت العطر قيمته مائة وخمسون درهما يضاف ذلك إلى ثلاثمائة درهم من ماله وإن يشترى بذلك عقار ويجعل وقفا على مصالح مسجد لإمامه ومؤذنه وزيته وكتب ذلك قبل مرضه
فأجاب الحمد لله رب العالمين إذا أوصى أن يباع شيء معين من ماله من عقار أو منقول يضم إلى ثمنه شيء اخر قدره من ماله ويصرف ذلك فى وقف شرعى جاز واذا كان ذلك يخرج من الثلث اخرج وان لم ترض الورثة وما اعطاه للورثة فى مرض موته إن أعطى احدا منهم زيادة على قدر ميراثه لم يجوز الا باجازة الورثة وان أعطى كل انسان شيئا معينا بقدر حقه أو بعض حقه ففيه قولان للعلماء فى مذهب أحمد وغيره ( احدهما ) له ذلك وهو مذهب الشافعى ( والثانى ) ليس له ذلك وهو مذهب أبى حنيفة وإذا قيل ان له ذلك بحسب ميراث احدهم فان عطية المريض فى مرض الموت المخوف بمنزلة وصيته بعد موته فى مثل ذلك باتفاق الأئمة والله أعلم
____________________
(31/318)
( باب الموصى إليه (
( سئل رحمه الله تعالى (
عن وصى على أيتام بوكالة شرعية وللأيتام دار فباعها وكيل الوصى من قبل أن ينظرها وقبض الثمن ثم زيد فيها فهل له أن يقبل الزيادة أم لا
فأجاب إن كان الوكيل باعها بثمن المثل وقد رؤيت له صح البيع وإن لم تر له فيه نزاع وإن باعها بدون ثمن المثل فقد فرط فى الوصية ويرجع عليه بما فرط فيه أو يفسخ البيع إذا لم يبذل له تمام المثل والله أعلم
( وسئل (
عن رجل جليل القدر له تعلقات كثيرة مع الناس وأوصى بأمور فجاء رجل إلى وصيه فى حياة الموصى وقال يا فلان جئتك فى حياة فلان
____________________
(31/319)
الموصى بمال فلى عنده كذا وكذا فذكر الوصى ذلك للموصى فقال الموصى من أدعى بعد موتى على شيئا فحلفه واعطه بلا بينة فهل يجوز أو يجب على الوصى فعل ذلك مع يمين المدعى
فأجاب نعم يجب على الوصى تسليم ما ادعاه هذا المدعى إذا حلف عليه وسواء كان يخرج من الثلث أولا أما إذا كان يخرج من الثلث كان أسوأ الأحوال كما يكون هذا الموصى متبرعا بهذا الاعطاء ولو وصى لمعين إذا فعل فعلا أو وصى لمطلق موصوف فكل من الوصيتين جائز باتفاق الأئمة فانهم لا ينازعون فى جواز الوصية بالمجهول ولم يتنازعوا فى جواز الاقرار بالمجهول ولهذا لا يقع شبهة لأحد فى أنه إذا خرج من الثلث وجب تسليمه وإنما قد تقع الشبهة فيما إذا لم يخرج من الثلث والصواب المقطوع به أنه يجب تسليم ذلك من رأس المال لأن الدين مقدم على الوصايا فإن هذا الكلام مفهومه رد اليمين على المدعى والأمر بتسليم ما حلف عليه
لكن رد اليمين هل هو كالاقرار أو كالبينة فيه للعلماء قولان فاذا قيل هو كالاقرار صار هذا اقرار لهذا المدعى غايته أنه أقر بموصوف أو بمجهول وكل من هذين اقرار يصح باتفاق العلماء مع أن هذا الشخص المعين ليس الاقرار له اقرارا بمجهول فانه هو سبب اللفظ العام وسبب اللفظ العام مراد فيه قطعا كانه قال هذا الشخص المعين أن حلف على ما ادعاه فاعطوه إياه ومثل هذه الصفة جائزة باتفاق العلماء واجب تنفيذها وإن
____________________
(31/320)
قيل أن الرد كالبينة صار حلف المدعى مع نكول المدعى عليه بينة ويصير المدعى قد أقام بينة على ما ادعاه ومثل هذا يجب تسليم ما ادعاه إليه بلا ريب هذا على أصل من لا يقضى برد اليمين على المدعى كمالك والشافعى واحد القولين فى مذهب الامام أحمد
وأما عند من يقضى بالنكول كأبى حنيفة وأحمد فى أشهر الروايتين عنه فالأمر عنده أوكد فانه إذا رضى الخصمان فحلف المدعى كان جائزا عندهم وكان من النكول أيضا فالرجل الذى قد علم أن بينه وبين الناس معاملات متعددة منها ما هو بغير بينة وعليه حقوق قد لا يعلم أربابها ولا مقدارها لا تكون مثل هذه الصفة منه تبرعا بل تكون وصية بواجب والوصية بواجب لآدمى تكون من رأس المال باتفاق المسلمين وذلك أنه إذا علم أن عليه حقا وشك فى أدائه لم يكن له أن يحلف بل إذا حلف المدعى عليه وأعطاه فقد فعل الواجب فإذا كان عليه حق لا يعلم عين صاحبه كان عليه أن يفعل ما تبرأ به ذمته فإن ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب كمن نسى صلاة من يوم لا يعلم عينها وكمن عليه دين لأحد رجلين لا يعلم عين المستحق فإذا قال من حلف منكما فهو له ونحو ذلك فقد أدى الواجب
وأيضا فإنه إذا ادعى عليه بأمر لا يعلم ثبوته ولا انتفاءه لم يكن له أن يحلف على نفيه يمين بت لأن ذلك حلف على ما لا يعلم بل عليه أن يفعل ما يغلب على ظنه وإذا أخبره من يصدقه بأمر بنى عليه وإذا رد اليمين على المدعى
____________________
(31/321)
عند اشتباه الحال عليه فقد فعل ما يجب عليه فانه لو نهاهم عن اعطائه قد يكون ظالما مانعا المستحق وإن أمر بإعطاء كل مدع أفضى إلى أن يدعى الانسان بما لا يستحقه وذلك تبرع فإذا أمر بتحليفه واعطائه فقد فعل ما يجب عليه حيث بنى الأمر على ما يغلب على ظنه أن تبرأ ذمته منه فإن كان قد فعل الواجب أخرج ذلك من رأس المال
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن وصى على أولاد أخيه وتوفى وخلف أولادا وضعوا أيديهم على موجود والدهم فهل يلزم أولاد الوصى المتوفى الخروج عن ذلك والدعوى عليهم
فأجاب إذا عرف أن مال اليتامى كان مختلطا بمال الرجل فأنه ينظر كم خرج من مال اليتامى نفقة وغيرها ويطلب الباقى وما أشبه ذلك ويرجع فيه إلى العرف المطرد
( وسئل (
عن رجل وصى على مال يتيم وقد قارض فيه مدة ثلاث سنين وقد ربح فيه فائدة من وجه حل فهل يحل للوصى أن يأخذ من الفائدة شيئا أو هي لليتيم خاصة
____________________
(31/322)
فأجاب الربح كله لليتيم لكن إن كان الوصى فقيرا وقد عمل فى المال فله أن يأخذ أقل الأمرين من أجرة مثله أو كفايته فلا يأخذ فوق أجرة عمله وإن كانت الأجرة أكثر من كفايته لم يأخذ أكثر منها
( وسئل رحمه الله (
عن وصى تحت يده أيتام أطفال ووالدتهم حامل فهل يعطى الأطفال نفقة والذى يخدم الأطفال والوالدة إذا أخذت صداقها فهل يجوز أن تأكل الأطفال ووالدتهم ومن يخدمهم جميع المال
فأجاب أما الزوجة فتعطى قبل وضع الحمل وأما سائر الورثة فإن أخرت قسمة التركة إلى حين الوضع فينفق على اليتامى بالمعروف ولا بأس أن يختلط مالهم بمال الأم ويكون خبزهم جميعا وطبخهم جميعا إذا كان ذلك مصلحة لليتامى فإن الصحابة سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ( وأما الحمل فإن أخرت فلا كلام وإن عجلت أخر له نصيب ذكر احتياطا
وهل تستحق الزوجة نفقة لأجل الحمل الذى فى بطنها وسكنى على ثلاثة أقوال للعلماء
____________________
(31/323)
أحدها لا نفقة لها ولا سكنى وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد فى إحدى الروايتين والشافعى فى قول
والثانى لها النفقة والسكنى وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقول طائفة
والثالث لها السكنى دون النفقة كما نقل عن مالك والشافعى فى قول
( وسئل رحمه الله (
عن يتيمة حضر من يرغب فى تزويجها ولها أملاك فهل يجوز للوصى أن يبيع من عقارها شيئا ويصرف ثمنه فى جهاز وقماش لها وحلى يصلح لمثلها أم لا
فأجاب نعم للولى أن يبيع من عقارها ما يجهزها به ويجهزها الجهاز المعروف والحلى المعروف
( وسئل (
عن وصى على أختيه وقد كبرتا وولديهما وآنس منهما الرشد فهل يحتاج إلى إثبات عند الحاكم أو إلى شهود
____________________
(31/324)
فأجاب إذا آنس الوصى منهم الرشد دفع إليهم المال ولايحتاج إلى شهود بل يقر برشدهم ويسلم إليهم المال وذلك جائز بغير إذن الحاكم لكن له إثبات ذلك عند الحاكم والله أعلم وسئل (
عن وصى قضى دينا عن الموصى بغير ثبوت عند الحاكم وعوض عن الغائب بدون قيمة المثل فهل للورثة فسخ ذلك
فأجاب ليس للوصى أن يقضى ما يدعى من الدين إلا بمستند شرعى بل ولا بمجرد دعوى من المدعى فإنه ضامن له ولا يجوز له التعويض إلا بقيمة المثل وما عوضه بدون القيمة بما لا يتغابن الناس به فإما أن يضمن ما نقص من حق الورثة وإما أن يفسخ التعويض ويوفى الغريم حقه والمستند الشرعى متعدد مثل إقرار الميت أو إقرار من يقبل إقراره عليه مثل وكيله إذا أقر بما وكله فيه ويدخل فى ذلك ديوان الأمير واستاذ داره مثل شاهد يحلف معه المدعى ومثل خط الميت الذى يعلم أنه خطه وغير ذلك
( وسئل (
عن نصرانى توفى وخلف تركة وأوصى وصيته وظهرت عليه ديون بمساطر وغير مساطر فهل للوصى أن يعطى أرباب الديون بغير ثبوت على يد حاكم
____________________
(31/325)
فأجاب إذا كان الميت ممن يكتب ما عليه للناس فى دفتر ونحوه وله كاتب يكتب بإذنه ما عليه ونحوه فإنه يرجع فى ذلك إلى الكتاب الذى بخطه أو خط وكيله فما كان مكتوبا وليس عليه علامة الوفاء كان بمنزلة إقرار الميت به فالخط فى مثل ذلك كاللفظ وإقرار الوكيل فيما وكل فيه بلفظه أو خطه المعتبر مقبول ولكن على صاحب الدين اليمين بالاستحقاق أو نفى البراءة كما لو ثبت الدين بإقرار لفظى وأما إعطاء المدعى ما يدعيه بمجرد قوله الذى لا فرق فيه بين دعواه ودعوى غيره فلا يجوز والله أعلم
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن الوصى ونحوه إذا كان بعض مال الوصى مشتركا بينه وبين وصى عليه وللموصى فيه نصيب وباع الشركاء أنصباءهم أو أكتروه للوصى واحتاج الولى أن يبيع نصيب اليتيم أو يكريه معهم فهل يجوز له الشراء
فأجاب يجوز له الشراء لأن الشركاء غير متهمين فى بيع نصيبهم ولأن الشركاء إذا عينوا الوصى تعين عن غيره فى نصيب اليتيم دخل ضرورة ويشهد له المعنى قال الله تعالى ( وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح
____________________
(31/326)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن وصى يتيم وهو يتجر له ولنفسه بماله فاشترى لليتيم صنفا ثم باعه واشترى له بثمنه ثم بعد ذلك اشترى المذكور ومات ولم يعين هل هو لأحدهم أو لهما فهل يكون الصنف لورثة الوصى أم لليتيم
فأجاب إذا علم أنه لم يشتره إلا بماله وحده وبمال اليتيم وحده فانه لأحدهما ينظر فى ذلك هل يمكن علمه بأن يعرف مقدار مال اليتيم ومقدار مال نفسه وينظر دفاتر الحساب وما كتبه بخطه ونحو ذلك وإن كان مال اليتيم متميزا بأن يكون ما اشتراه بكتبه ونحو ذلك كان مما لم يكتبه لنفسه فإن تعذر معرفة المستحق من كل وجه كان فيه للفقهاء ثلاثة أقوال
أحدها أن يقسم بينهما كقول أبى حنيفة كما لو تداعيا عينا يدهما عليها
والثانى يوقف الأمر حتى يصطلحا كقول الشافعى لأن المستحق أحدهما لا بعينه
والثالث وهو مذهب أحمد أنه يقرع بينهما فمن أصابته القرعة حلف وأخذ لما فى السنن عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رجلين اختصما فى متاع إلى النبى ليس لواحد منهما بينة فقال النبى ( استهما عليه ( رواه أبو داود والنسائى وفى لفظ لأبى داود ( إذا كره الاثنان اليمين أو استحباها فليستهما عليه ( رواه البخارى ولفظه ( أن النبى صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم أيهم يحلف ( والله أعلم
____________________
(31/327)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن آيتام تحت الحجر ولهم وصى وكفيل ولأمهم زوج أجنبى فهل له عليهم حكم
فأجاب الحمد لله رب العالمين ليس لزوج الأم عليهم حكم فى أبدانهم ولا أموالهم بل الأم المزوجة بالإجنبى لا حضانة لها لئلا يحضنهم الأجنبى فإن الزوجة تحت أمر الزوج فأسقط الشارع حضانتها لئلا يكونوا فى حضانة أجنبى وإنما الحضانة لأم الأم أو لغيرها من الأقارب وأما المال فأمره إلى الوصى والنكاح للعصبة
( وسئل (
عن رجل حضرته الوفاة فأوصى وصية بحضرته أن هذه الدار نصفها للحرم الشريف ونصفها لمملوكى ( سنقر ( المعتوق الحر ولم يكن له وارث سوى إبن استاذه وان الوصى قال لإبن استاذه هذا ما يجوز للمسلمين منعه فخلى كلام الوصى وباعه وتصرف فيها تصرف المالك فهل يصح بيعه
فأجاب إذ كانت الوصية تخرج من الثلث وجب تنفيذها ولم يكن للورثة إبطالها فإن جحدوها فله تحليفهم ومتى شهد له شاهد بقبول الوصى أو غيره فله أن يحلف مع شاهده ويأخذ حصته
____________________
(31/328)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل تحت حجر بطريق شرعى وأن الوصى توفى إلى رحمة الله تعالى وترك ولده وإن ولده قد وضع يده على ما ترك والده وعلى ما كان والده وضع يده عليه من مال المحجور عليه وإن اليتيم طلب الحساب من ولد الوصى فهل له ذلك وأن ولده أدعى أن والده أقبض بعض مال محجوره لزيد وهو لا يستحق إقباض ذلك شرعا وأنه باشهاد عليهما ثم إن ذلك القابض الذى أقبضه الوصى أدعى أنه أقبض ذلك المال لليتيم فهل تجوز هذه الشهادة على اليتيم المحجور عليه ما ذكر أم لا وهل له أن يرجع على مال الوصى بما أقبضه من ماله لمن لا يستحق إقباضه شرعا وهل لولد الوصى الرجوع عن ما أقبضه والده بغير مستند شرعى وما الحكم فى ذلك
فأجاب رحمه الله إذا مات الوصى ولم يعرف أن مال اليتيم قد ذهب بغير تفريط فهو باق بحكم يوجب إبقائه فى تركة الميت لكن هل يكون دينا يحاص الغرماء أو يكون أمانة يؤخذ من أصل المال فيه نزاع وإذا أدعى الوارث رده إليه لم يقبل بمجرد قوله وأما إذا كان الوصى قد أقبضه لغيره وذلك الغير أقبضه لليتيم فإن ثبت ذلك وكان الاقباض مما يسوغ فقد برئت ذمة الوصى فى ذلك مثل أن
____________________
(31/329)
يكون اليتيم قد رشد فسلم إليه ماله بعد أنه آنس الرشد وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم فإن ذلك الحجر عنه لا يحتاج إلى ثبوت الحاكم ولا حكمه بل متى آنس الوصى منه الرشد فعليه أن يدفع إليه ماله كما قال الله تعالى { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا }
وأما إن كان الوصى قد سلم المال من لا يجوز تسليمه إليه فهو ضامن له ثم إن كان المال وصل إلى اليتيم الباين رشده فقد برئت ذمة الوصى كما تبرأ ذمة كل غاصب يوصل المال إلى مستحقه ولو كان بغير فعل الغاصب ولا تعد مثل أن يأخذه المالك قهرا أو يخلصه له بعض الناس أو تطيره إليه الريح فان أنكر اليتيم بعد إيناس الرشد وصوله إليه من جهة ذلك القابض الذى ليس بوكيل للوصى فالقول قوله مع يمينه وأما إن أنكر إقباض الوصى أو وكيله لأحد فهل يقبل قوله أو قول الوصى فيه نزاع مشهور بين العلماء
( وسئل رحمه الله (
عن وصي تحت يده مال لأيتام فهل يجوز أن يخرج من ماله حصته ومن مالهم حصته وينفقه عليهم وعليه
____________________
(31/330)
فأجاب ينفق على اليتيم بالمعروف وإذا كان خلط طعامه بطعام الرجل أصلح لليتيم فعل ذلك كما قال تعالى { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح } فإن الصحابة كانوا لما توعد الله على من يأكل مال اليتيم بالعذاب العظيم يميزون طعام اليتيم عن طعامهم فيفسد فسألوا عن ذلك النبى فأنزل الله هذه الآية
( وسئل رحمه الله (
عن أيتام تحت يد وصى ولهم أخ من أم وقد باع الوصى حصته على إخوته وذكر الملك كان واقعا ولم تعلم الأيتام ببيعه لما باعه الوصى منه إليهم فهل يجوز البيع أم لا
فأجاب بيع العقار ليس للوصى أن يفعله إلا لحاجة أو مصلحة راجحة بينة وإذا ذكر أنه باعه للاستهدام لم يكن له أن يشتريه لليتيم الآخر لأن فى ذلك ضررا لليتيم الآخر إن كان صادقا وضررا للأول إن كان كاذبا
____________________
(31/331)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل له جارية وله منها أولاد خمسة وأودع عند إنسان دراهم وقال له إن أنا مت تعطيها الدراهم ثم إنه مات فأخذت من الوصى بعض الدراهم ثم أن أولادها طلبوها إلى الحاكم وطلبوا منها الدراهم فأعطتهم إياها واعترفت أنها أخذتها من الموصى ثم أنهم طلبوا الوصى بجملة المال وادعوا أن الذى أقرت به أنه منها لم يكن منه إلا كان بعد أن أكرهوها على ذلك فالقول قول المرأة أنه من المبلغ أم لا
فأجاب القول قول المستودع الموصى إليه فى قدر المال مع يمينه والقول قوله أنه دفع إلى المرأة ما دفع إذا صدقته على ذلك والقول قول كل منهما مع يمينه أنه ليس عنده أكثر من ذلك والوصية لأم الولد وصية صحيحة إذا كانت تخرج من الثلث ولهذه المرأة أن تأخذ ما وصى لها به إذا كان دون الثلث فإن أنكر الوارث الوصية فلها عليه اليمين وأن شهد لها شاهد عدل وحلفت مع شاهدها حكم لها بذلك وإذا خرج المال عن يد الوصى وشهد لها قبلت شهادته لها
____________________
(31/332)
وإذا كانت كتمت أولا ما عند الوصى لتأخذ منه ما وصى لها به كان ذلك عذرا لها فى الباطن وإن لم يقم لها بذلك بينة فان من علم أنه يستحق مالا فى باطن ذلك وأخذه كان متأولا فى ذلك مع اختلاف العلماء فى مسائل هذا الباب والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
عن وصى نزل عن وصيته عند الحاكم وسلم المال إلى الحاكم وطلب منه أن يأذن له فى محضر ليسلمه فهل يجب ذلك على الحاكم
فأجاب إذا كان محتاجا إلى ذلك لدفع ضرر عن نفسه فعلى الحاكم إجابته إلى ذلك فإن المقصود بالحكم إيصال الحقوق إلى مستحقيها ودفع العدوان وهو يعود إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والالزام بذلك والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
عن رجل وصى لرجلين على ولده ثم إنهما اجتهدا فى ثبوت الوصية فهل لهم أن يأخذوا من مال اليتيم ما غرموا على ثبوتها
فأجاب إذا كانا متبرعين بالوصية فما أنفقاه على إثباتها بالمعروف فهو من مال اليتيم والله أعلم
____________________
(31/333)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل توفى صاحب له فى الجهاد فجمع تركته فى مدة ثلاث سنين بعد تعب فهل يجب له على ذلك أجرة
فأجاب إن كان وصيا فله أقل الأمرين من أجرة مثله أو كفايته وإن كان مكرها على هذا العمل فله أجرة مثله وإن عمل متبرعا فلا شيء له من الأجرة بل أجره على الله وإن عمل ما يجب غير متبرع ففى وجوب أجره نزاع والأظهر الوجوب
____________________
(31/334)
= ( كتاب الفرائض (
( سئل شيخ الاسلام رحمه الله (
عن إمرأة توفى زوجها وخلف أولادا
فأجاب للزوجة الصداق والباقى فى ذمته حكمها فيه حكم سائر الغرماء وما بقى بعد الدين والوصية النافذة إن كان هناك وصية فلها ثمنه مع الأولاد
( وسئل رحمه الله (
عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وأبوين وقد احتاط الاب على التركة وذكر أنها غير رشيدة فهل للزوج ميراث منها
فأجاب ما خلفته هذه المرأة فلزوجها نصفه ولأبيها الثلث والباقى للأم وهو السدس فى مذهب الأئمة الأربعة سواء كانت رشيدة أو غير رشيدة
____________________
(31/335)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن إمرأة ماتت عن أبوين وزوج وأربعة أولاد ذكور وأنثى فقال الزوج لجماعة شهود اشهدوا على أن نصيبى هو ستة لأبوى زوجتى وأولادها المذكورين بالفريضة الشرعية فما خص كل واحد منهم
فأجاب إذا كان قد ملكه نصيبه الذى هو ستة أسهم لسائر الورثة على الفريضة الشرعية والباقى ثمانية عشر سهما للأبوين ثمانية أسهم وأولاده عشرة أسهم فترد تلك الستة على هذه الثمانية عشر سهما ويقسم الجميع بينهم على ثمانية عشر سهما كما يرد الفاضل عن ذوى السهام بينهم عند من يقول بالرد فان نصيب الوارث جعله لهم بمنزلة النصيب المردود بينهم
( وسئل (
عن إمرأة ماتت ولها زوج وجدة وإخوة أشقاء وإبن فما يستحق كل واحد من الميراث
فأجاب للزوج الربع وللجدة السدس وللإبن الباقى ولا شيء للأخوة باتفاق الأئمة
____________________
(31/336)
( وسئل (
عن امرأة توفيت وخلفت زوجا وابنتين ووالدتها واختين أشقاء فهل ترث الأخوات
فأجاب يفرض للزوج الربع وللأم السدس وللبنتين الثلثان أصلها من اثنى عشر وتعول إلى ثلاثة عشر وأما الأخوات فلا شيء لهن مع البنات لأن الأخوات مع البنات عصبة ولم يفضل للعصبة شيء هذا مذهب الأئمة الأربعة
( وسئل (
عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وأما وأختا شقيقة وأختا لأب وأخا وأختا لأم
فأجاب المسألة على عشرة أسهم أصلها من ستة وتعول إلى عشرة وتسمى ( ذات الفروخ ( لكثرة عولها للزوج النصف وللأم السدس سهم وللشقيقة ثلاثة وللأخت من الأب السدس تكملة الثلثين ولولدى الأم الثلث سهمان فالمجموع عشرة أسهم وهذا باتفاق الأئمة الأربعة
____________________
(31/337)
( وسئل رحمه الله (
عن إمرأة ماتت وخلفت زوجا وبنتا وأما وأختا من أم فما يستحق كل واحد منهم فأجاب هذه الفريضة تقسم على أحد عشر للبنت ستة أسهم وللزوج ثلاثة أسهم وللأم سهمان ولا شيء للأخت من الأم فإنها تسقط بالبنت باتفاق الأئمة كلهم وهذا على قول من يقول بالرد كأبى حنيفة وأحمد
ومن لا يقول بالرد كمالك والشافعى فيقسم عندهم على اثنى عشر سهما للبنت ستة وللزوج ثلاثة وللأم سهمان والسهم الثانى عشر لبيت المال
( فصل ( والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام ونحن نبين ذلك فيما هو من أشكل الأشياء لننبه به على ما سواه والفرائض من أشكلها فنقول
____________________
(31/338)
النص والقياس وهما الكتاب والميزان دلا على أن الثلث يختص به ولد الأم كما هو قول على ومن وافقه وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد فى المشهور عنه وروى حرب التشريك وهو قول زيد ومن وافقه وقول مالك والشافعى واختلف فى ذلك عن عمر وعثمان وغيرهما من الصحابة
حتى قيل إنه اختلف فيها عن جميع الصحابة إلا عليا وزيدا فإن عليا لم يختلف عنه أنه لم يشرك وزيد لم يختلف عنه أنه يشرك
قال العنبرى القياس ما قال على والاستحسان ما قال زيد قال قال العنبرى هذه وساطة مليحة وعبارة صحيحة
فيقال النص والقياس دلا على ما قال على أما النص فقوله تعالى { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } والمراد به ولد الأم وإذا أدخلنا فيهم ولد الأبوين لم يشتركوا فى الثلث بل زاحمهم غيرهم وإن قيل إن ولد الأبوين منهم وأنهم من ولد الأم فهو غلط والله تعالى قال { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس } الآية وفى قراءة سعد وإبن مسعود ( من الأم ) والمراد به ولد الأم بالاجماع ودل على ذلك قوله { فلكل واحد منهما السدس } وولد الأبوين والأب فى آية فى قوله { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد }
____________________
(31/339)
فجعل لها النصف وله جميع المال وهكذا حكم ولد الأبوين
ثم قال ( وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ( وهذا حكم ولد الأبوين لا الأم باتفاق المسلمين
فدل ذكره تعالى لهذا الحكم فى هذه الآية وكذلك الحكم فى تلك الآية على أن أحد الصنفين غير الآخر وإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث فمن نقصهم منه فقد ظلمهم وولد الأبوين جنس آخر
وقد قال النبى ( الحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر (
وهذا يقتضى أنه إذا لم تبق الفرائض شيئا لم يكن للعصبة شيء وهنا لم تبق الفرائض شيئا
وأما قول القائل إن أباهم كان حمارا فقد اشتركوا فى الأم فقول فاسد حسا وشرعا
أما الحس فلأن الأب لو كان حمارا لكانت الأم أتانا ولم يكونوا من بنى آدم وإذا قيل مراده أن وجوده كعدمه فيقال هذا باطل فإن الوجود لا يكون معدوما
وأما الشرع فلأن الله حكم فى ولد الأبوين بخلاف حكمه فى ولد الأم
____________________
(31/340)
وإذا قيل فالأب إذا لم ينفعهم لم يضرهم
قيل بلى قد يضرهم كما ينفعهم بدليل ما لو كان ولد الأم واحدا وولد الأبوين كثيرين فإن ولد الأم وحده يأخذالسدس والباقى يكون لهم كله ولولا الأب لتشاركواهم وذاك الواحد فى الثلث وإذا جاز أن يكون وجود الأب ينفعهم جاز أن يحرمهم فعلم أنه يضرهم وأيضا فأصول الفرائض مبنية على أن القرابة المتصلة ذكر وأنثى لا تفرق أحكامها فالاخ من الأبوين لا يكون كأخ من أب ولا كأخ من أم ولا يعطى بقرابة الأم وحدها كما لا يعطى بقرابة الأب وحده بل القرابة المشتركة من الأبوين وإنما يفرد إذا كان قرابة لأم منفردا
مثل ابنى عم أحدهما أخ لأم فهنا ذهب الجمهور إلى أن للأخ لأم السدس ويشتركان فى الباقى وهو مأثور عن على وروى عن شريح أنه جعل الجميع للأخ من الأم كما لو كان إبن عم لأبوين والجمهور يقولون كلاهما فى بنوة العم سواء هما إبن عم من أبوين أو من أب والأخوة من الأم مستقلة ليست مقترنة حتى يجعل كأبن عم لأبوين
ومما يبين الحكم فى ( مسألة المشركة ) أن لو كان فيهن أخوات من أب لفرض لهن الثلثان وعالت الفريضة فلو كان معهن أخوهن سقطن ويسمى ( الأخ المشئوم ) فلما صرن بوجوده يصرن عصبة صار تارة ينفعهن وتارة يضرهن ولم يجعل وجوده كعدمه فى حالة الضر كذلك قرابة الأب لما
____________________
(31/341)
الأخوة بها عصبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى فهذا مجرى ( العصوبة ( فان العصبة تارة يحوز المال كله وتارة يحوز أكثره وتارة أقله وتارة لا يبقى له شيء وهو إذا أستغرقت الفرائض المال فمن جعل العصبة تأخذ مع استغراق الفرائض المال فقد خرج عن الأصول المنصوصة فى الفرائض
وقول القائل هو استحسان يقال هذا استحسان يخالف الكتاب والميزان فإنه ظلم للأخوة من الأم حيث يؤخذ حقهم فيعطاه
غيرهم والمنازعون فى هذه المسألة ليس معهم حجة إلا أنه قول زيد فقد روى عن عمر أنه حكم بها فعمل بذلك من عمل من أهل المدينة وغيرها كما عملوا بمثل ذلك فى ميراث الجد والأخوة وعملوا بقول زيد فى غير ذلك من الفرائض تقليدا له وإن كان النص والقياس مع من خالفه وبعضهم يحتج لذلك بقوله ( أفرضكم زيد ( وهو حديث ضعيف لا أصل له ولم يكن زيد على عهد النبى معروفا بالفرائض ( حتى أبو عبيدة لم يصح فيه ) إلا قوله ( لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح (
وكذلك إتباعهم لزيد فى ( الجد ( مع أن جمهور الصحابة على خلافه فجمهور الصحابة موافقون للصديق فى أن الجد كالأب يحجب الأخوة وهو مروى عن بضعة عشر من الصحابة ومذهب أبى حنيفة واحد الوجهين فى مذهب الشافعى وأحمد اختاره أبو حفص البرمكى من أصحابه وحكاه
____________________
(31/342)
بعضهم رواية عن أحمد وأما المورثون للأخوة مع الجد فهم على وإبن مسعود وزيد ولكل واحد قول انفرد به وعمر بن الخطاب كان متوفقا فى أمره والصواب بلا ريب قول الصديق لأدلة متعددة ذكرناها فى غير هذا الموضع
وأما ( العمريتان ) فليس فى القرآن ما يدل على أن للأم الثلث مع الأب والزوج بل إنما أعطاها الله الثلث إذ ورثت المال هي والأب فكان القرآن قد دل على أن ما ورثته هي والأب تأخذ ثلثه والأب ثلثيه واستدل بهذا أكابر الصحابة كعمر وعثمان وعلى وإبن مسعود وزيد وجمهور العلماء على أن ما يبقى بعد فرض الزوجين يكونان فيه أثلاثا قياسا على جميع المال إذا اشتركا فيه وكما يشتركان فيما يبقى بعد الدين والوصية
ومفهوم القرآن ينفى أن تأخذ الأم الثلث مطلقا فمن أعطاها الثلث مطلقا حتى مع الزوجة فقد خالف مفهوم القرآن
وأما الجمهور فقد عملوا بالمفهوم فلم يجعلوا ميراثها إذا ورثه أبوه كميراثها إذا لم يرث بل إن ورثه أبوه فلأمه الثلث مطلقا وأما إذا لم يرثه أبوه بل ورثه من دون الأب كالجد والعم والأخ فهي بالثلث أولى فإنها إذا أخذت الثلث مع الأب فمع غيره من العصبة أولى
____________________
(31/343)
فدل القرآن على أنه إذا لم يرثه إلا الأم والأب أو عصبة غير الأب سوى الابن فلأمه الثلث وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى وأما الابن فإنه أقوى من الأب فلها معه السدس وإذا كان مع العصبة ذو فرض فالبنات والأخوات قد أعطوا الأم معهن السدس والأخت الواحدة إذا كانت هي والأم فالأم تأخذ الثلث مع الذكر من الأخوة فمع الأنثى أولى
وإنما الحجب عن الثلث إلى السدس بالأخوة والواحد ليس إخوة فإذا كانت مع الأخ الواحد تأخذ الثلث فمع العم وغيره بطريق الأولى
وفى الجد نزاع يروى عن إبن مسعود والجمهور على أنها مع الجد تأخذ ثلث المال وهو الصواب لأن الجد أبعد منها وهو محجوب بالأب فلا يحجبها عن شيء من حقها ومحض القياس أن الأب مع الأم كالبنت مع الأبن والأخت مع الأخ لأنهما ذكر وأنثى من جنس واحد هما عصبة وقد أعطيت الزوجة نصف ما يعطاه الزوج لأنهما ذكر وأنثى من جنس
وأما دلالة الكتاب على ميراث الأم فإن الله يقول { لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } فالله تعالى فرض لها بشرطين أن لا يكون له ولد وأن يرثه أبوه فكان فى هذا دلالة على أنها لا تعطى الثلث مطلقا مع عدم الولد
____________________
(31/344)
وهذا مما يدل على صحة قول أكابر الصحابة والجمهور الذين يقولون لا تعطى فى ( العمريتين ( زوج وأبوان وزوجة وأبوان ثلث جميع المال
قال إبن عباس وموافقوه فانها لو أعطيت الثلث هنا لكانت تعطاه مع عدم الولد مطلقا وهو خلاف ما دل عليه القرآن وقد روى عنه أنه قال لزيد أفى كتاب الله ثلث ما بقى أى ليس فى كتاب الله إلا سدس وثلث فيقال وليس فى كتاب الله إعطاؤها الثلث مطلقا فكيف يعطيها مع الزوجين الثلث بل فى كتاب الله ما يمنع إعطاؤها الثلث مع الأب وأحد الزوجين فإنه لو كان كذلك كان يقول فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث فإنها على هذا التقدير تستحق الثلث مطلقا فلما خص الثلث ببعض الحال علم أنها لا تستحق مطلقا فهذا مفهوم المخالفة الذى يسمى دليل الخطاب يدل على بطلان قول من أعطاها الثلث إلا العمريتين ولا وجه لاعطائها الثلث مع مخالفته للاجماع
إلى أن قال فإن قوله { وورثه أبواه فلأمه الثلث } دل على أن لها الثلث والباقى للأب بقوله ورثه أبواه فإنه لما جعل الميراث ميراثا بينهما ثم أخرج نصيبها دل على أن الباقى نصيبه وإذا أعطى الأب الباقى معها لم يلزم أن يعطى غيره مثل ما أعطى
وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وبقوله { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون }
____________________
(31/345)
وبقول النبى ( الحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر (
( فصل (
وأما ميراث الأخوات مع البنات وانهن عصبة كما قال ( وله أخت ( الذى هو قول جمهور الصحابة والعلماء فقد دل عليه القرآن والسنة أيضا فان قوله تعالى { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } فدل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد وأنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها
وذلك يقتضى أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك إذ لو كان كذلك لكان لها النصف سواء كان له ولد أو لم يكن له فكان ذكر الولد تدليسا وعبثا مضرا وكلام الله منزه عن ذلك
ومن هذا قوله تعالى { ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } وقوله { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } وإذا علم أنها مع الولد لا ترث النصف فالولد إما ذكر وإما أنثى
____________________
(31/346)
أما الذكر فانه يسقطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى بدليل قوله { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } فلم يثبت له الإرث المطلق إلا إذا لم يكن لها ولد والأرث المطلق هو حوز جميع المال فدل ذلك على أنه إذا كان لها ولد لم يحز المال بل إما أن يسقط وإما أن يأخذ بعضه فيبقى إذا كان لها ولد فأما بن وإما بنت والقرآن قد بين أن البنت إنما تأخذ النصف فدل على أن البنت لا تمنعه النصف الآخر إذا لم يكن الا بنت وأخ ولما كان فتيا الله إنما هو فى الكلالة والكلالة من لا والد له ولا ولد علم أن من ليس له ولد ووالد ليس هذا حكمه
ولما كان قد بين تعالى أن الأخ يحوز المال مال الأخت فيكون لها عصبة كان الأب أن يكون له عصبة بطريق الأولى وإذا كان الأب والأخ عصبة فالابن بطريق الأولى وقد قال تعالى { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } ودل أيضا قول النبى ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر ( أن ما بقى بعد الفرائض لا يرثه إلا العصبة وقد علم أن الابن أقرب ثم الأب ثم الجد ثم الأخوة وقضى النبى صلى الله عليه وسلم أن أولاد بنى الأم يتوارثون دون بنى العلاقات فالأخ للأبوين أولى من الأخ للأب وإبن الابن يقوم مقام الابن وكذلك كل بنى أب أدنى هم أقرب من بنى الأب الذى هو أعلى منه وأقربهم إلى الأب الأعلى
____________________
(31/347)
فهو أقرب إلى الميت وإذا استوى فى الدرجة فمن كان لأبوين أولى ممن كان للأب
فما دل القرآن على أن للأخت النصف مع عدم الولد وأنه مع ذكور ولد يكون الابن عاصبا يحجب الأخت كما يحجب أخاها بقى الأخت مع إناث الولد ليس فى القرآن ما ينفى ميراث الأخت فى هذه الحال بقى مع البنت إما أن تسقط وإما أن يكون لها النصف وإما أن تكون عصبة ولا وجه لسقوطها فإنها لا تزاحم البنت وأخوها لا يسقط فلا تسقط هي ولو سقطت بمن هو أبعد منها من الأقارب والبعيد لا يسقط القريب ولأنها كانت تساوى البنت مع اجتماعهما والبنت أولى منها فلا تساوى بها فإنه لو فرض لها النصف لنقصت البنت عن النصف كزوج وبنت فلو فرض لها النصف لعالت فنقصت البنت عن النصف والأخوة لا يزاحمون الأولاد بفرض ولا تعصيب فإن الأولاد أولى منهم
والله إنما أعطاها النصف إذا كان الميت كلالة فلما بطل سقوطها وفرضها لم يبق إلا أن تكون عصبة أولى من البعيد كالعم وبن العم وهذا قول الجمهور
وقد دل عليه حديث البخارى عن بن مسعود لما ذكر له أن أبا موسى وسلمان بن ربيعة قالا فى بنت وبنت بن وأخت للبنت النصف
____________________
(31/348)
وللأخت النصف وائت بن مسعود فانه سيتابعنا فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين لأقضين فيها بقضاء رسول الله ( للبنت النصف وبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقى للأخت ( فدل ذلك أن الأخوات مع البنات عصبة والأخت تكون عصبة بغيرها وهو أخوها فلا يمتنع أن تكون عصبة مع البنت )
وقوله ( الحقوا الفرائض بأهلها الخ ( فهذا عام خص منه المعتقة والملاعنة والملتقطة لقوله ( تحوز المرأة ثلاث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذى لاعنت عليه ( وإذا كان عاما مخصوصا خصت منه هذه الصورة بما ذكر من الأدلة
( فصل (
وأما ( ميراث البنتين ( فقد قال تعالى { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف }
فدل القرآن على أن البنت لها مع أخيها الذكر الثلث ولها وحدها النصف ولما فوق اثنتين الثلثان بقيت البنت إذا كان لها مع الذكر الثلث لا الربع فأن يكون لها مع الأنثى الثلث لا الربع أولى وأحرى ولأنه قال { وإن كانت واحدة فلها النصف }
____________________
(31/349)
فقيد النصف بكونها واحدة فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا مع هذا الوصف بخلاف قوله { فإن كن نساء } ذكر ضمير ( كن ) و ( ونساء ) وذلك جمع لم يمكن أن يقال اثنتين لأن ضمير الجمع لا يختص باثنتين ولأن الحكم لا يختص باثنتين فلزم أن يقال ( فوق اثنتين ) لأنه قد عرف حكم الثنتين وعرف حكم الواحدة وإذا كانت واحدة فلها النصف ولما فوق الثنتين الثلثان امتنع أن يكون للبنتين أكثر من الثلثين فلا يكون لهما جميع المال لكل واحدة النصف فإن الثلاث ليس لهن إلا الثلثان فكيف الثلاثة ولا يكفيها النصف لأنه لها بشرط أن تكون واحدة فلا يكون لها إذا لم تكن واحدة
وهذه الدلالة تظهر من قراءة النصب ( وإن كانت واحدة ) فإن هذا خبر كان تقديره فإن كانت بنتا واحدة أى مفردة ليس معها غيرها ( فلها النصف ) فلا يكون لها ذلك إذا كان معها غيرها فانتفى النصف وانتفى الجميع فلم ( يبق ) إلا الثلثان وهذه دلالة من الآية
وأيضا فإن الله لما قال فى الأخوات { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } كان دليلا على أن البنتين أولى بالثلثين من الأختين وأيضا فسنة رسول الله ( لما أعطى ابنتى سعد بن الربيع الثلثين وأمهما الثمن والعم ما بقى ( وهذا إجماع لا يصح فيه خلاف عن إبن عباس
____________________
(31/350)
ودلت آية الولد على أن حكم ما فوق الاثنين حكم الاثنتين فكذلك قال فى الأخوات { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } ولم يذكر ما فوقهما فإنه إذا كانت الثنتان يستحقان الثلثين فما فوقهما بطريق الأولى والأحرى بخلاف آية البنات فإنه لم يدل قوله { للذكر مثل حظ الأنثيين } إلا على أن لها الثلث مع أخيها وإذا كن اثنتين لم يستحقوا الثلث فصار بيانه فى كل من الآيتين من أحسن البيان لما دل الكلام الأول على ميراث البنتين دون ما زاد على ذلك بين بعد ذلك ميراث ما زاد على البنتين فى آية الصيف لما دل الكلام على ميراث الأختين وكان ذلك دال بطريق الأولى على ميراث الثلاثة أو الأربعة وما زاد لم يحتج أن يذكر ما زاد على الأختين فهناك ذكر ما فوق البنتين دون البنتين وفى الآية الأخرى ذكر البنتين دون ما فوقهما لما يقتضيه حسن البيان فى كل موضوع
ولما بين حكم الأخت الواحدة والأخ الواحد وحكم الأختين فصاعدا بقى بيان الابنتين فصاعدا من الصنفين ليكون البيان مستوعبا للاقسام ولفظ ( الأخوة ( وسائر جميع ألفاظ الجمع قد يعنى به الجنس من غير قصد القدر منه فيتناول الاثنين فصاعدا وقد يعنى به الثلاثة فصاعدا وفى هذه الآية إنما عنى به العدد مطلقا لأنه بين الواحدة قبل ذلك ولأن ما ذكره من الأحكام فى الفرائض فرق فيه بين الواحد والعدد وسوى فيه بين مراتب العدد الاثنين والثلاثة وقد صرح بذلك فى قوله { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة } إلى قوله { فهم شركاء في الثلث } فقوله كانوا
____________________
(31/351)
ضمير جمع وقوله { أكثر من ذلك } أي من أخ وأخت ثم قال { فهم شركاء في الثلث } فذكرهم بصيغة الجمع المضمر وهو قوله ( فهم ) والمظهر وهو قوله { شركاء }
فدل على أن صيغة الجمع فى آيات الفرائض تناولت العدد مطلقا الأثنين فصاعدا لقوله { يوصيكم الله في أولادكم } وقوله { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } وقوله { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء }
( فصل (
وأما ( الجدة ) فكما قال الصديق ليس لها فى كتاب الله شيء فان الأم المذكورة فى كتاب الله مقيدة بقيود توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا فالجدة وإن سميت أما لم تدخل فى لفظ الأم المذكورة فى الفرائض فأدخلت فى لفظ الأمهات فى قوله { حرمت عليكم أمهاتكم } ولكن رسول الله ( أعطاها السدس ( فثبت ميراثها بسنة رسول الله ولم ينقل عنه لفظ عام فى الجدات بل ورث الجدة التى ( سألته ) فلما جاءت الثانية أبا بكر جعلها شريكة الأولى فى السدس
وقد تنازع الناس فى ( الجدات ( فقيل لا يرث الاثنتان أم الأم وأم الأب كقول مالك وأبى ثور وقيل لا يرث إلا ثلاث هاتان وأم الجد لما روى إبراهيم النخعى ( أن النبى
____________________
(31/352)
ورث ثلاث جدات جدتيك من قبل أبيك وجدتك من قبل أمك ( وهذا مرسل حسن
فإن مراسيل إبراهيم من أحسن المراسيل فأخذ به أحمد ولم يرد فى النص إلا توريث هؤلاء
وقيل بل يرث جنس الجدات المدليات بوارث وهو قول الأكثرين كأبى حنيفة والشافعى وغيرهما وهو وجه فى مذهب أحمد وهذا القول أرجح لأن لفظ النص وإن لم يرد فى كل جدة فالصديق لما جاءته الثانية قال لها لم يكن السدس التى أعطى إلا لغيرك ولكن هي لو خلت به فهو لها فورث الثانية والنص إنما كان فى غيرها
ولأنه لا نزاع أن من علت بالأمومة ورثت فترث أم أم الأب وأم أم الأم بالاتفاق فيبقى أم أبى الجد أى فرق بينها وبين أم الجد وإن فرق بين أم الأب وأم الجد ومعلوم أن أبا الجد يقوم مقام الجد بل هو جد أعلا وكذلك الجد كالأب كأي وصف يفرق بين أم أم الأب وأم أبى الجد
يبين ذلك أن أم أم الميت وأم أبيه بالنسبة إليه سواء فكذلك أم أم أبيه وأم أبى أبيه بالنسبة إلى أبيه سواء فوجب اشتراكهما فى الميراث
وأيضا فهؤلاء جعلوا أم أم الأم وإن زادت أمومتها ترث وأم أبى الأب لا ترث ورجحوا الجدة من جهة الأم على الجدة من جهة الأب وهذا ضعيف فلم تكن أم الأم أولى به من أم الأب وأقارب الأم لم
____________________
(31/353)
يقدموا فى شيء من الأحكام بل أقارب الأب أولى فى جميع الاحكام فكذلك فى الحضانة
والصحيح أنها لا تسقط بابنها أى الأب كما هو أظهر الروايتين عن أحمد لحديث بن مسعود ولأنها ولو أدلت به فهي لا ترث ميراثه بل هي معه كولد الأم مع الأم لم يسقطوا بها
وقول من قال من أدلى بشخص سقط به باطل طردا وعكسا باطل طردا بولد الأم مع الأم وعكسا بولد الابن مع عمهم وولد الأخ مع عمهم وأمثال ذلك مما فيه سقوط شخص بمن لم يدل به وإنما العلة أنه يرث ميراثه فكل من ورث ميراث شخص سقط به إذا كان أقرب منه والجدات يقمن مقام الأم فيسقطن بها وإن لم يدلين بها )
وأما كون ( بنات الابن مع البنت ( لهن السدس تكملة الثلثين وكذلك الأخوات من الأب مع أخت الأبوين فلأن الله قال { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } وقد علم أن الخطاب تناول ولد البنين دون ولد البنات وأن قوله ( أولادكم ) يتناول من ينسب إلى الميت وهم ولده وولد ابنته وأنه متناولهم على الترتيب يدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب لما قد عرف من إنما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر والابن
____________________
(31/354)
أقرب من بن الابن فإذا لم تكن إلا بنت فلها النصف وبقى من نصيب البنات السدس فإذا كان هنا بنات إبن فانهن يستحققن الجميع لولا البنت فإذا أخذت النصف فالباقى لهن
وكذلك فى الأخت من الابوين مع الأخت من الاب أخبر إبن مسعود أن النبى ( قضى للبنت بالنصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين (
وأما إذا استكملت البنات الثلثين لم يبق فرض فإن كان هناك عصبة من ولد البنين فالمال له لأنه أولى ذكر وإن كان معه أو فوقه عصبها عند جمهور الصحابة والعلماء كالأربعة وغيرهم وأما بن مسعود فإنه يسقطها لأنها لا ترث مفردة )
والنزاع فى الأخت للاب مع أخيها إذا أستكمل البنات الثلثين فالجمهور يجعلون البنات عصبة مع اخوانهن يقتسمون الباقى للذكر مثل حظ الأنثين سواء زاد ميراثهن بالتعصيب أو نقص وتوريثهن هنا أقوى وقول بن مسعود معروف فى نقصانهن
____________________
(31/355)
( فصل (
وفى من ( عمى موتهم ( فلم يعرف أيهم مات أولا فالنزاع مشهور فيهم والأشبه بأصول الشريعة أنه لا يرث بعضهم من بعض بل يرث كل واحد ورثته الأحياء وهو قول الجمهور وهو قول فى مذهب أحمد لكن خلاف المشهور فى مذهبه وذلك لأن المجهول كالمعدوم فى الأصول كالملتقط لما جهل حال المالك كان المجهول كالمعدوم فصار مالكا لما التقطه لعدم العلم بالملك
وكذلك ( المفقود ( قد أخذ أحمد بأقوال الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم فجعلوها زوجة الثانى ما دام الأول مجهولا باطنا وظاهرا كما فى اللقط فإذا علم صار النكاح موقوفا على إجازته ورده فخير بين إمرأته والمهر فإن اختار إمرأته كانت زوجته وبطل نكاح الثانى ولم يحتج إلى طلاقه
والمقصود هنا أن أحمد تبع الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم وهنا إذا كان أحدهما قد مات قبل الآخر فذاك مجهول والمجهول كالمعدوم فيكون تقدم أحدهما على الآخر معدوما فلا يرث أحدهما صاحبه
وأيضا فالميراث جعل للحى ليكون خليفة للميت ينتفع بماله
____________________
(31/356)
( وسئل رحمه الله (
عن رجل توفى وله عم شقيق وله أخت من أبيه فما الميراث
فأجاب للأخت النصف والباقى للعم وذلك باتفاق المسلمين )
( وسئل (
عن إمرأة ماتت وخلفت من الورثة بنتا وأخا من أمها وبن عم فما يخص كل واحد
فأجاب للبنت النصف ولإبن العم الباقى ولا شيء للأخ من الأم لكن إذا حضر القسمة فينبغى أن يرضخ له والبنت تسقط الأخ من الأم فى مذهب الأئمة الأربعة والله أعلم )
( وسئل رحمه الله (
عن إمرأة ماتت عن زوج وأب وأم وولدين أنثى وذكر ثم بعد وفاتها توفى والدها وترك أباه وأخته وجده وجدته
____________________
(31/357)
فأجاب للزوج الربع وللأبوين السدسان وهو الثلث والباقى للولدين أثلاثا ثم ما تركه الأب فلجدته سدسه ولأبيه الباقى ولا شيء لأخته ولا جده بل كلاهما يسقط بالأب
( وسئل رحمه الله (
عن رجل له أولاد وكسب جارية وأولدها فولدت ذكرا فعتقها وتزوجت ورزقت أولادا فتوفى الشخص فخص ابنه الذى من الجارية دارا وقد توفى فهل يخص أخوته من أمه شيء مع إخوته الذين من أبيه
فأجاب للأم السدس ولأخوته من الأم الثلث والباقى لأخوته من أبيه للذكر مثل حظ الأنثيين والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
عن امرأة ماتت وخلفت زوجا وإبن أخت
فأجاب للزوج النصف وأما بن الأخت ففى أحد الأقوال له الباقى وهو قول أبى حنيفة وأصحابه وأحمد فى المشهور عنه وطائفة من أصحاب الشافعى
____________________
(31/358)
وفى القول الثانى الباقى لبيت المال وهو قول كثير من أصحاب الشافعى وأحمد فى إحدى الروايات
وأصل هذه المسألة تنازع العلماء فى ( ذوى الأرحام ( الذين لا فرض لهم ولا تعصيب فمذهب مالك والشافعى وأحمد فى رواية أن من لا وارث له بفرض ولا تعصيب يكون ماله لبيت مال المسلمين ومذهب أكثر السلف وأبى حنيفة والثورى واسحق وأحمد فى المشهور عنه يكون الباقى لذوى الأرحام ( بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله ( ولقول النبى ( الخال وارث من لا وارث له يرث ماله ويفك عانه (
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن رجل مات وترك زوجة وأختا لأبويه وثلاث بنات أخ لأبويه فهل لبنات الأخ معهن شيء وما يخص كل واحدة منهن
فأجاب للزوجة الربع وللأخت لأبوين النصف ولا شيء لبنات الأخ والربع الثانى إن كان هناك عصبة فهو للعصبة وإلا فهو مردود على الأخت على أحد قولي العلماء وعلى الآخر هو لبيت المال
____________________
(31/359)
( وسئل شيخ الاسلام رحمه الله (
عن رجل مات وخلف بنتا وله أولاد أخ من أبيه وهم صغار وله بن عم راجل وله بنت عم وله أخ من أمه وليس هو من أولاد أعمامه فمن يأخذ المال ومن يكون ولى البنت
فأجاب أما الميراث فنصفه للبنت ونصفه لأبناء الأخ وأما حضانة الجارية فهي لبنت العم دون العم من الأم ودون إبن العم الذى ليس بمحرم وله الولاية على المال الذى لليتيمة لوصى أو نوابه
( وسئل (
عمن ترك ابنتين وعمه أخا أبيه من أمه فما الحكم
فأجاب إذا مات الميت وترك بنتيه وأخاه من أمه فلا شيء لأخيه لأمه باتفاق الأئمة بل للبنتين الثلثان والباقى للعصبة إن كان له عصبة وإلا فهو مردود على البنتين أو بيت المال
____________________
(31/360)
( وسئل الشيخ رحمه الله (
عن رجل توفى وخلف أخا له وأختين شقيقين وبنتين وزوجة وخلف موجودا وكان الأخ المذكور غائبا فما تكون القسمة
فأجاب للزوجة الثمن وللبنتين الثلثان وللأخوة خمسة قراريط بين الأخ والأخت أثلاثا فتحصل للزوجة ثلاثة قراريط ولكل بنت ثمانية قراريط وللأخ ثلاثة قراريط وثلث وللأخت قيراط وثلثا قيراط
( وسئل (
عن رجل له خالة ماتت وخلفت موجودا ولم يكن لها وارث فهل يرثها بن أختها
فأجاب هذا فى أحد قولى العلماء هو الوارث وفى الآخر بيت المال الشرعى
( وسئل ( عن رجل كانت له بنت عم وبن عم فتوفيت بنت العم وتركت بنتا ثم توفى بن العم المذكور وترك ولدين فبقى الولدان وبنت بنت
____________________
(31/361)
العم المتوفية ثم توفيت البنت وتركت أولاد عم فمن يستحق الميراث أولاد بن العم من الأم أم أولاد عمها
الجواب مذهب الامام أحمد وغيره ممن يقول بالتنزيل كما نقل نحو ذلك عن الصحابة والتابعين وهو قول الجمهور فتنزيل كل واحد من ذوى الأرحام منزلة من أدلى به قريبا كان أو بعيدا ولا يعتبر القرب إلى الوارث ثم اتحدت الجهة فإن أولاد العم لهم ثلثا المال وأولاد بن عم الأم ثلث المال فإن أولئك ينتهى أمرهم إلى الأم وإذا وجد أم مع أب أو مع جد كان للأم الثلث والباقى له والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
عن رجل خلف زوجة وثلاثة أولاد ذكور منها ثم مات أحدهم وخلف أمه وأخويه ثم مات الآخر وخلف أمه وآخاه ثم مات الثالث وخلف أمه وابنا له فما يحصل للأم من تركته
فأجاب للزوجة من تركة الميت الأول الثمن والباقى للأخوة الذين هم أولاد الميت ثم الأخ الأول لأمه سدس تركته والباقى لأخويه والأخ الثانى لأمه ثلث تركته والباقى لأخيه والأخ الثالث لأمه سدس التركة والباقى لابنه
____________________
(31/362)
( وسئل رحمه الله (
عن رجلين أخوة لأب وكانت أم أحدهما ام ولد تزوجت بانسان ورزقت منه اثنين وكان إبن الأم المذكورة تزوج ورزق ولدا ومات وخلف ولده فورث أباه ثم مات الولد وكان قد مات أخوه من أبيه فى حياته وخلف ابنا فلما مات الولد خلف أخوه اثنين وهم أخوة أبيه من أمه وخلف بن عم من أبيه فما الذى يخص أخوة أبيه وما الذى يخص بن عمه
فأجاب الحمد لله الميراث جميعه لابن عمه من الأب واما اخوة أبيه من الأم فلا ميراث لهما وهذا باتفاق المسلمين لكن ينبغى للميت أن يوصى لقرابته الذين لا يرثونه فاذا لم يوص فينبغى إذا حضروا القسمة أن يعطوا منه كما قال تعالى { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا }
( وسئل (
عن رجل توفى وخلف ابنين وبنتين وزوجة وبن أخ فتوفى الابنان وأخذت الزوجة ما خصها وتزوجت بأجنبى وبقى نصيب الذكرين ما قسم وأن الزوجة حبلت من الزوج الجديد فأراد بقية الورثة
____________________
(31/363)
قسمة الموجود فمنع البقية إلى حيث تلد الزوجة فهل يكون لها إذا ولدت مشاركة فى الموجود
فأجاب الحمد لله الميت الأول لزوجته الثمن والباقى لبنيه وبناته للذكر مثل حظ الأنثيين ولا شيء لابن الأخ فيكون للزوجة ثلاثة قراريط ولكل بن سبعة قراريط وللبنتين سبعة قراريط
ثم الابن الأول لما مات خلف أخاه وأختين وأمه والأخ الثانى خلف أختيه وأمه وبن عمه والحمل إن كان موجودا عند موت أحدهما ورثا منه لأنه أخوة من أمه وينبغى لزوج المرأة أن يكف عن وطئها من حين موت هذا وهذا كما أمر بذلك على بن أبى طالب رضى الله عنه فإنه إذا لم يطأها وولدته علم أنه كان موجودا وقت الموت وإذا وطئها وتأخر الحمل اشتبه لكن من أراد من الورثة أن يعطى حقه أعطى الثلثين ووقف للحمل نصيب وهو الثلث والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
عن يتيم له موجود تحت أمين الحكم وأن عمه تعمد قتله حسدا فقتله وثبت عليه ذلك فما الذى يجب عليه شرعا وما حكم الله فى قسم ميراثه من وقف وغيره وله من الورثة والدة وأخ من أمه وجد لأمه وأولاد القاتل
____________________
(31/364)
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما الميراث من المال فإنه لورثته والقاتل لا يرث شيئا باتفاق الأئمة بل للأم الثلث والأخ من الأم السدس والباقى لابن العم ولا شيء للجد أبى الأم
وأما ( الوقف ( فيرجع فيه إلى شرط الواقف الموافق للشرع
وأما ( دم المقتول ( فإنه لورثته وهم الأم والأخ وبن العم القاتل فى مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما ومذهب مالك أنهم إن اختلفوا فأرادت الأم أمرا وبن العم أمرا فإنه يقدم ما أراده بن العم وهو ذو العصبية فى إحدى الروايات التى اختارها كثير من أصحابه وفى ( الثانية ( وهى رواية بن القاسم التى عليها العمل عند المغاربة أن الأمر أمر من طلب الدم سواء كان هو العاصب أو ذات الفرض و ( الرواية الثالثة ( كمذهب الشافعى أن من عفا من الورثة صح عفوه وصار حق الباقين فى الذمة لكن بن العم هل يقتل أباه هذا فيه قولان أيضا ( أحدهما ( لا يقتله كمذهب الشافعى وأحمد فى المشهور عنه وفى ( الثانى ( يقتله كقول مالك وهو قول فى مذهب أحمد لكن القود ثبت للمقتول ثم انتقل إلى الوارث لكن كره مالك له قتله ومن وجب له القود فله أن يعفو وله أن يأخذ الدية وإذا عفا بعض المستحق للقود سقط وكان حق الباقين فى الدية وله أن يأخذ الدية بغير رضى القاتل فى مذهب الشافعى
____________________
(31/365)
وأحمد فى المشهور وفى رواية أخرى لا يأخذ الدية إلا برضى القاتل وهو مذهب أبى حنيفة ومالك
وإذا سقط القود عن قاتل العمد فإنه يضرب مائة جلدة ويحبس سنة عند مالك وطائفة من أهل العلم دون الباقين
( وسئل عن قوله ( ** جدتى أمه وأبى جده ** وأنا عمة له وهو خالى ** افتنا يا إمام حماك الله ** ويكفيك حادثات الليالى **
فأجاب رحمه الله ** رجل زوج إبنه أم بنته ** وأتى البنت بالنكاح الحلال ** فأتت منه ببنت قالت الشعراء ** وقالت لابن هاتيك خالى **
رجل تزوج امرأة وتزوج ابنه بأمها ولد له بنت ولابنه بن فبنته هي المخاطبة بالشعر فجدتها أم أمها هي أم بن الابن زوجة الابن وأبوها جد بن ابنه وهى عمته أخت أبيه من الأب وهو خالها أخو أمها من الأم والله أعلم
____________________
(31/366)
( وسئل رحمه الله عن قوله ( ** ما بال قوم غدوا قد مات ميتهم ** فأصبحوا يقسمون المال والحللا ** فقالت امرأة من غير عترتهم ** ألا أخبركم أعجوبة مثلا ** فى البطن منى جنين دام يشكركم ** فأخروا القسم حتى تعرفوا الحملا ** فإن يكن ذكرا لم يعط خردلة ** وإن يكن غيره أنثى فقد فضلا ** بالنصف حقا يقينا ليس ينكره ** من كان يعرف فرض الله لازللا ** ** إنى ذكرت لكم أمرى بلا كذب ** فلا أقول لكم جهلا ولا مثلا **
فأجاب زوج وأم واثنان من ولد الأم وحمل من الأب والمرأة الحامل ليست أم الميت بل هي زوجة أبيها فللزوج النصف وللأم السدس ولولد الأم الثلث فان كان الحمل ذكرا فهو أخ من أب فلا شيء له باتفاق العلماء وإن كان الحمل انثى فهو أخت من أب فيفرض لها النصف وهو فاضل عن السهام فاصلها من ستة وتعول إلى تسعة وأما إن كان الحمل من أم الميت فهكذا الجواب فى أحد قولى العلماء من الصحابة ومن بعدهم وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد فى المشهور عنه وعلى القول الآخر إن كان الحمل ذكرا يشارك ولد الأم كواحد منهم ولا يسقط وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد فى رواية عنه
____________________
(31/367)
( وسئل الشيخ رحمه الله (
عن امرأة مزوجة ولزوجها ثلاث شهور وهو فى مرض مزمن فطلب منها شرابا فأبطأت عليه فنفر منها وقال لها أنت طالق ثلاثة وهى مقيمة عنده تخدمه وبعد عشرين يوما توفى الزوج فهل يقع الطلاق وهل إذا حلف على حكم هذه الصورة يحنث وهل للوارث أن يمنعها الأرث
فأجاب أما الطلاق فإنه يقع إن كان عاقلا مختارا لكن ترثه عند جمهور أئمة الاسلام وهو مذهب مالك وأحمد وأبى حنيفة والشافعى فى القول القديم كما قضى به عثمان بن عفان فى امرأة عبد الرحمن بن عوف فإنه طلقها فى مرض موته فورثها منه عثمان وعليها أن تعتد أبعد الأجلين من عدة الطلاق أو عدة الوفاة وأما إن كان عقله قد زال فلا طلاق عليه
( وسئل رحمه الله (
عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة قبل الدخول بها فى مرضه الذى مات فيه فهل يكون ذلك طلاق الفار ويعامل بنقيض قصده وترثه الزوجة وتستكمل جميع صداقها عليه أم لا ترث وتأخذ نصف الصداق والحالة هذه
____________________
(31/368)
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذه المسألة مبنية على ( مسألة المطلق بعد الدخول فى مرض الموت ( والذى عليه جمهور السلف والخلف توريثها كما قضى بذلك عثمان بن عفان رضى الله عنه لأمرأة عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ وقد كان طلقها فى مرضه وهذا مذهب مالك وأحمد وأبى حنيفة والشافعى فى القديم
ثم على هذا هل ترث بعد انقضاء العدة والمطلقة قبل الدخول على قولين للعلماء أصحهما انها ترث أيضا وهو مذهب مالك وأحمد فى المشهور عنه وقول للشافعي لانه قد روى ان عثمان ورثها بعد انقضاء العدة ولأن هذه انما ورثت لتعلق حقها بالتركة لما مرض مرض الموت وصار محجورا عليه فى حقها وحق سائر الورثة بحيث لا يملك التبرع لوارث ولا يملكه لغير وارث بزيادة على الثلث كما لا يملك ذلك بعد الموت فلما كان تصرفه فى مرض موته بالنسبة إلى الورثة كتصرفه بعد الموت لا يملك قطع إرثها فكذلك لا يملك بعد مرضه وهذا هو ( طلاق الفار ( المشهور بهذا الاسم عند العلماء وهو القول الصحيح الذى أفتى به
( وسئل رحمه الله (
عن رجل زوج ابنته وكتب الصداق عليه ثم إن الزوج مرض بعد ذلك فحين قوى عليه المرض فقبل موته بثلاثة أيام طلق الزوجة ليمنعها من الميراث فهل يقع هذا الطلاق وما الذى يجب لها فى تركته
____________________
(31/369)
فأجاب هذه المطلقة إن كانت مطلقة طلاقا رجعيا ومات زوجها وهى فى العدة ورثته باتفاق المسلمين وإن كان الطلاق بائنا كالمطلقة ثلاثا ورثته أيضا عند جماهير أئمة الاسلام وبه قضى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه لما طلق عبد الرحمن بن عوف زوجته بنت الأصبغ الكلبية طلقها ثلاثا فى مرض موته فشاور عثمان الصحابة فاشاروا على أنها ترث منه ولم يعرف عن أحد من الصحابة فى ذلك خلاف
وإنما ظهر الخلاف فى خلافة إبن الزبير فإنه قال لو كنت أنا لم أورثها وإبن الزبير قد انعقد الاجماع قبل أن يصير من أهل الاجتهاد وإلى ذلك ذهب أئمة التابعين ومن بعدهم وهو مذهب أهل العراق كالثورى وأبى حنيفة وأصحابه ومذهب اهل المدينة كمالك وأصحابه ومذهب فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وأمثاله وهو القول القديم للشافعى وفى الجديد وافق إبن الزبير لأن الطلاق واقع بحيث لو ماتت هي لم يرثها هو بالاتفاق فكذلك لا ترثه هي ولأنها حرمت عليه بالطلاق فلا يحل له وطؤها ولا الاستمتاع بها فتكون أجنبية فلا ترث
والجمهور قالوا إن المريض مرض الموت قد تعلق الورثة بماله من حين المرض وصار محجورا عليه بالنسبة إليهم فلا يتصرف فى مرض موته من التبرعات إلا ما يتصرفه بعد موته فليس له فى مرض الموت أن يحرم بعض الورثة ميراثه ويخص بعضهم بالارث كما ليس له ذلك بعد الموت وليس له أن يتبرع لاجنبى بما زاد على الثلث فى مرض موته كما لا يملك ذلك بعد الموت
____________________
(31/370)
وفى الحديث ( من قطع ميراثا قطع الله ميراثه من الجنة ( وإذا كان كذلك فليس له بعد المرض أن يقطع حقها من الأرث لا بطلاق ولا غيره وإن وقع الطلاق بالنسبة له إذ له أن يقطع نفسه منها ولا يقطع حقها منه وعلى هذا القول ففى وجوب العدة نزاع هل تعتد عدة الطلاق أو عدة الوفاة أوأطولهما على ثلاثة أقوال أظهرها أنها تعتد أبعد الأجلين وكذلك هل يكمل لها المهر قولان أظهرهما أنه يكمل لها المهر أيضا فإنه من حقوقها التى تستقر كما تستحق الأرث
( وسئل رحمه الله ( عن رجل تزوج بامرأتين أحداهما مسلمة والأخرى كتابية ثم قال احداكما كما طالق ومات قبل البيان فلمن تكون التركة من بعده وأيهما تعتد عدة الطلاق
فأجاب هذه المسألة فيها تفصيل ونزاع بين العلماء فمنهم من فرق بين أن يطلق معينة وينساها أو يجهل عينها وبين أن يطلق مبهمة ويموت قبل تمييزها بتعيينة أو تعريفه
ثم منهم من يقول يقع الطلاق بالجميع كقول مالك ومنهم من يقول لا يقع إلا بواحدة كقوله الثلاثة وإذا قدر تعيينها ولم تعين فهل تقسم
____________________
(31/371)
التركة بين المطلقة وغيرها كما يقوله أبو حنيفة أو يوقف الامر حتى يصطلحا كما يقول الشافعى أو يقرع بين المطلقة وغيرها كما يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث على ثلاثة أقوال
والقرعة بعد الموت هي قرعة على المال فلهذا قال بها من لم ير القرعة فى المطلقات والصحيح فى هذه المسألة سواء كانت المطلقة مبهمة أو مجهولة أن يقرع بين الزوجتين فإذا خرجت القرعة على المسلمة لم ترث هي ولا الذمية شيئا اما هي فلأنها مطلقة وأما الذمية فإن الكافر لا يرث المسلم وإن خرجت القرعة على الذمية ورثت المسلمة ميراث زوجة كاملة هذا إذا كان الطلاق طلاقا محرما للميراث مثل أن يبينها فى حال صحته
فأما إن كان الطلاق رجعيا فى الصحة والمرض ومات قبل انقضاء العدة فهذه زوجته ترث وعليها عدة الوفاة باتفاق الأئمة وتنقضى بذلك عدتها عند جمهورهم كمالك والشافعى وأبى حنيفة وهو قول أحمد فى أحدى الروايتين والمشهور عنه أنها تعتد أطول الأجلين من مدة الوفاة والطلاق وإن كان الطلاق بائنا فى مرض الموت فإن جمهور العلماء على أن البائنة فى مرض الموت ترث إذا كان طلقها طلاقا فيه قصد حرمانها الميراث هذا قول مالك وهو يرثها وإن انقضت عدتها وتزوجت وهو مذهب أبى حنيفة وهو يرثها ما دامت فى العدة وهو المشهور عنه مالم تتزوج وللشافعى ثلاثة أقوال كذلك لكن قوله الجديد أنها لا ترث
____________________
(31/372)
وأما إذا لم يتهم بقصد حرمانها فالأكثرون على أنها لا ترث فعلى هذا لا ترث هذه المرأة لأن مثل هذا الطلاق الذى لم يعين فيه لا يظهر فيه قصد الحرمان ومن ورثها مطلقا كأحمد فى إحدى الروايتين فالحكم عنده كذلك
وإذا ورثت المبتوتة فقيل تعتد أبعد الأجلين وهو ظاهر مذهب أحمد وقول أبى حنيفة ومحمد وقيل تعتد عدة الطلاق فقط وهو قول مالك والشافعى المشهور عنه ورواية عن أحمد وقول للشافعى
وأما صورة أنها لم تتبين المطلقة فإحداهما وجبت عليها عدة الوفاة والأخرى عدة الطلاق وكل منهما وجبت عليه إحدى العدتين فاشتبه الواجب بغيره فلهذا كان الأظهر هنا وجوب العدتين على كل منهما لأن الذمة لا تبرأ من أداء الواجب إلا بذلك )
( وسئل رحمه الله (
عن رجل توفى وخلف مستولدة له ثم بعد ذلك توفيت المستولدة وخلفت ولدا ذكرا وبنتين فهل للبنات ولاء مع الذكر وهل يرثن معه شيئا
____________________
(31/373)
فأجاب هذا فيه روايتان عن أحمد ( إحداهما ( وهو قول أبى حنيفة ومالك والشافعى أن الولاء يختص بالذكور ( والثانية ( أن الولاء مشترك بين البنين والبنات للذكر مثل حظ الأنثيين والله أعلم )
( وسئل رحمه الله (
عن رجل له جارية وله ولد فزنى بالجارية وهى تزنى مع غيره فجاءت بولد ونسبته إلى ولده فاستلحقه ورضى السيد فهل يرث إذا مات مستلحقه أم لا فأجاب إن كان الولد استلحقه فى حياته وقال هذا ابنى لحقه النسب وكان من أولاده إذا لم يكن له أب يعرف غيره وكذلك إن علم أن الجارية كانت ملكا للإبن فان ( الولد للفراش وللعاهر الحجر (
( وسئل رحمه الله (
عمن له والدة ولها جارية فواقعها بغير إذن والدته فحملت منه فولدت غلاما وملكهما ويريد أن يبيع ولده من الزنى
فأجاب هذا ينبغى له أن يعتقه باتفاق العلماء بل قد تنازع العلماء هل يعتق عليه من غير إعتاق على قولين
____________________
(31/374)
( أحدهما ( أنه يعتق عليه وهو مذهب أبى حنيفة وقول القاضي أبى يعلى من أصحاب أحمد ولكن مع هذا لا يرث هذا لهذا ولا هذا لهذا
و ( الثانى ( لا يعتق عليه وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد فى المنصوص عنه والله أعلم )
( وسئل رحمه الله (
عن رجل أعطى لزوجته من صداقها جارية فأعتقتها ثم بعد مدة وطىء الجارية فولدت ابنا وولدت زوجته بنتا وتوفى فهل يرث الابن الذى من الجارية مع بنت زوجته
فأجاب إذا كان قد وطىء الجارية المعتقة بغير نكاح وهو يعلم أن الوطىء حرام فولده ولد زنا لا يرث هذا الواطىء ولا يرثه الواطىء فى مذهب الأئمة الأربعة والله أعلم
____________________
(31/375)
= ( باب العتق (
( سئل عن عتق ولد الزنى (
فأجاب يجوز عتق ولد الزنى ويثاب بعتقه والله أعلم ( وسئل الشيخ رحمه الله ( عن رجل قرشى تزوج بجارية مملوكة فأولدها ولدا هل يكون الولد حرا أم يكون عبدا مملوكا
فأجاب الحمد لله رب العالمين إذا تزوج الرجل المرأة وعلم أنها مملوكة فإن ولدها منه مملوك لسيدها باتفاق الأئمة فإن الولد يتبع أباه فى النسب والولاء ويتبع أمه فى الحرية والرق
فإن كان الولد ممن يسترق جنسه بالاتفاق فهو رقيق بالاتفاق وإن كان ممن تنازع الفقهاء فى رقه وقع النزاع فى رقه كالعرب
والصحيح أنه يجوز ( استرقاق العرب والعجم ( لما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه قال لا أزال أحب بنى تميم بعد ثلاث
____________________
(31/376)
سمعنهن من رسول الله يقولها فيهم سمعت رسول الله يقول ( هم أشد أمتى على الرجال ) وجاءت صدقاتهم فقال النبى ( هذه صدقات قومنا ( قال وكانت سبية منهم عند عائشة فقال النبى ( اعتقيها فإنها من ولد إسماعيل (
وفى لفظ لمسلم ثلاث خلال سمعتهن من رسول الله فى بنى تميم لاأزال أحبهم بعدها كان على عائشة محرر فقال رسول الله ( أعتقى من هؤلاء ( وجاءت صدقاتهم فقال ( هذه صدقات قومى ( وقال ( هم أشد الناس قتلا فى الملاحم (
وفى الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبى أيوب الأنصارى عن النبى قال ( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل ( ففى هذا الحديث أن بنى إسماعيل يعتقون فدل على ثبوت الرق عليهم كما أمر عائشة أن تعتق عن المحرر الذى كان عليها ( من بنى إسماعيل ( وفيه ( من بنى تميم ( لأنهم من ولد إسماعيل وفى صحيح البخارى عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة ( أن رسول الله قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم النبى معي من ترون
____________________
(31/377)
وأحب الحديث إلى أصدقه فأختاروا إحدى الطائفتين إما المال وإما السبي وقد كنت استأنيت بكم وكان انتظرهم رسول الله بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول الله غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا فانا نختار سبينا فقام رسول الله فى المسلمين واثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن إخوانكم قد جاؤنا تائبين وإنى رأيت إن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه من أول ما يفىء الله علينا فليفعل فقال الناس طيبنا ذلك يا رسول الله فقال رسول الله أنا لا ندرى من أذن فى ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد طيبوا واذنوا ( ففى هذا الحديث الصحيح أنه سبى نساء هوازن وهم عرب وقسمهم بين الغانمين فصاروا رقيقا لهم ثم بعد ذلك طلب أخذهم منهم إما تبرعا وإما معاوضة وقد جاء فى الحديث أنه اعتقهم كما فى حديث عمر لما اعتكف وبلغه أن النبى صلى الله عليه وسلم أعتق السبى فاعتق جارية كانت عنده والمسلمون كانو يطؤن ذلك السبى بملك اليمين كما فى سبى أوطاس وهو من سبي هوازن فإن النبى قال فيه ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة
____________________
(31/378)
وفى المسند للامام أحمد عن عائشة رضى الله عنها قالت ( قسم رسول الله سبايا بنى المصطلق فوقعت جويرية بنت الحارث لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له كاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة فاتت رسول الله وقالت يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيد قومه وقد أصابنى من البلاء مالم يخف عليك وجئتك أستعينك على كتابتى فقال رسول الله هل لك فى خير من ذلك قالت وما هو يا رسول الله قال اقضى كتابتك واتزوجك قالت نعم يا رسول الله قال قد فعلت قالت وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله تزوج جويرية بنت الحارث فارسلوا ما بأيديهم قالت فقد عتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق وما أعلم إمرأة كانت أعظم بركة على قومها منها ( وهذه الأحاديث ونحوها مشهور بل متواترة أن النبى كان يسبى العرب وكذلك خلفاؤه بعده كما قال الأئمة وغيرهم سبى النبى العرب وسبى أبو بكر بنى ناحية وكان يطارد العرب بذلك الاسترقاق وقد قال الله لهم { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم } وفى حديث أبى سعيد وغيره أنها نزلت فى المسبيات أباح الله لهم وطأها بملك اليمين
____________________
(31/379)
وإذا سبيب واسترقت بدون زوجها جاز وطؤها بلا ريب وإنما فيه خلاف شاذ فى مذهب أحمد وحكى الخلاف فى مذهب مالك قال إبن المنذر أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة إذا وقعت فى ملك ولها زوج مقيم بدار الحرب أن نكاح زوجها قد انفسخ وحل لمالكها وطؤها بعد الاستبراء وأما إذا سبيت مع زوجها ففيه نزاع بين أهل العلم
ومعلوم أن عامة السبى الذى كان يسبيه النبى كان فى ( الحرب ( وقد قاتل أهل الكتاب فإنه خرج لقتال النصارى عام تبوك ولم يجر بينهم قتال وقد بعث إليهم السرية التى أمر عليها زيد ثم جعفر ثم عبد الله بن رواحة ومع هذا فكان فى النصارى العرب والروم وكذلك قاتل اليهود بخيبر والنظير وقينقاع وكان فى يهود العرب وبنوا اسرائيل وكذلك يهود اليمن كان فيهم العرب وبنو اسرائيل
وأيضا فسبب الاسترقاق هو ( الكفر ( بشرط ( الحرب ( فالحر المسلم لا يسترق بحال والمعاهد لا يسترق والكفر مع المحاربة موجود فى كل كافر فجاز استرقاقه كما يجوز قتاله فكل ما أباح قتل المقاتلة أباح سبي الذرية وهذا حكم عام فى العرب والعجم وهذا مذهب مالك والشافعى فى الجديد من قوليه وأحمد
وأما أبو حنيفة فلا يجوز استرقاق العرب كما لا يجوز ضرب الجزية عليهم لأن العرب اختصوا بشرف النسب لكون النبى صلى الله عليه وسلم منهم
____________________
(31/380)
واختص كفارهم بفرط عدوانه فصار ذلك مانعا من قبول الجزية كما أن المرتد لا تؤخذ منه الجزية للتغليظ ولما حصل له من الشرف بالاسلام السابق واحتج بما روى عن عمر أنه قال ليس على عربى ملك
والذين نازعوه لهم قولان فى جواز استرقاق من لا تقبل منه الجزية هما روايتان عن أحمد
( أحداهما ( أن الاسترقاق كاخذ الجزية فمن لم تؤخذ منه الجزية لا يسترق وهذا مذهب أبى حنيفة وغيره وهو اختيار الخرقى والقاضى وغيرهما من أصحاب أحمد وهو قول الاصطخرى من أصحاب الشافعى وعند أبى حنيفة تقبل الجزية من كل كافر الا من مشركى العرب وهو رواية عن أحمد فعلى هذا لا يجوز استرقاق مشركى العرب لكون الجزية لا تؤخذ منهم ويجوز استرقاق مشركى العجم وهو قول الشافعى بناء على قوله إن العرب لا يسترقون
والرواية الأخرى عن أحمد أن الجزية لا تقبل الا من أهل الكتاب والمجوس كمذهب الشافعى فعلى هذا القول فى مذهب أحمد لا يجوز استرقاق أحد من المشركين لا من العرب ولا من غيرهم كاختيار الخرقى والقاضى وغيرهما وهذان القولان فى مذهب أحمد لا يمنع فيه الرق لأجل النسب لكن لأجل الدين فإذا سبى عربية فاسلمت
____________________
(31/381)
استرقها وإن لم تسلم أجبرها على الاسلام وعلى هذا يحملون ما كان النبى والصحابة يفعلونه من استرقاق العرب
وأما الرقيق الوثنى فلا يجوز اقراره عندهم برق كما يجوز بجزية وهذا كما أن الصحابة سبوا العربيات والوثنيات ووطؤهم وقد قال النبى ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة ( ثم الأئمة الأربعة متفقون على أن الوطأ إنما كان بعد الاسلام وأن وطأ الوثنية لا يجوز كما لا يجوز تزويجها
( والقول الثانى ( أنه يجوز استرقاق من لا تؤخذ منهم الجزية من أهل الاوثان وهو مذهب الشافعى وأحمد فى الرواية الأخرى بناء على أن الصحابة استرقوهم ولم نعلم أنهم أجبروهم على الاسلام ولأنه لا يجوز قتلهم فلا بد من استرقاقهم والرق فيه من الغل ما ليس فى أخذ الجزية وقد تبين مما ذكرناه أن الصحيح جواز استرقاق العرب
وأما ( الأثر ( المذكور عن عمر إذا كان صحيحا صريحا فى محل النزاع فقد خالفه أبو بكر وعلى فإنهم سبوا العرب ويحتمل أن يكون قول عمر محمولا على أن العرب أسلموا قبل أن يسترق رجالهم فلا يضرب عليهم رق كما أن قريشا اسلموا كلهم فلم يضرب عليهم رق لأجل إسلامهم لا لأجل النسب ولم تتمكن الصحابة من سبي نساء قريش كما تمكنوا
____________________
(31/382)
من سبي نساء طوائف من العرب ولهذا لم يسترق منهم أحد ولم يحفظ عن النبى فى النهى عن سبيهم شيء
وأما إذا تزوج العربى مملوكة فنكاح الحر للمملوكة لا يجوز إلا بشرطين خوف العنت وعدم الطول إلى نكاح حرة فى مذهب مالك والشافعى وأحمد وعللوا ذلك بأن تزوجه يفضى إلى استرقاق ولده فلا يجوز للحر العربى ولا العجمى أن يتزوج مملوكة إلا لضرورة وإذا تزوجها للضرورة كان ولده مملوكا وأما أبو حنيفة فالمانع عنده أن تكون تحته حرة وهو يفرق فى الاسترقاق بين العربى وغيره )
وأما إذا وطىء الأمة بزنا فان ولدها مملوك لسيدها بالاتفاق وإن كان أبوه عربيا لأن النسب غير لاحق وأما إذا وطئها بنكاح وهو يعتقدها حرة أو استبرأها فوطئها يظنها مملوكته فهنا ولده حر سواء كان عربيا أو عجميا وهذا يسمى ( المغرور ( فولد المغرور من النكاح أو البيع حر لاعتقاده أنه وطىء زوجة حرة أو مملوكته وعليه الفداء لسيد الأمة كما قضت بذلك الصحابة لأنه فوت سيد الأمة ملكهم فكان عليه الضمان وفى ذلك تفريع ونزاع ليس هذا موضعه والله أعلم
____________________
(31/383)
( وسئل شيخ الاسلام رحمه الله (
عن رجل له مملوك هرب ثم رجع فلما رجع أخفى سكينته وقتل نفسه فهل يأثم سيده وهل تجوز عليه صلاة
فأجاب الحمد لله لم يكن له أن يقتل نفسه وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى عليه بل كان عليه إذا لم يمكنه دفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرج الله فإن كان سيده ظلمه حتى فعل ذلك مثل أن يقتر عليه فى النفقة أو يعتدى عليه فى الاستعمال أو يضربه بغير حق أو يريد به فاحشة ونحو ذلك فإن على سيده من الوزر بقدر ما نسب إليه من المعصية
ولم يصل النبى على من قتل نفسه فقال لأصحابه ( صلوا عليه ( فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه وأما أئمة الدين الذين يقتدى بهم فإذا تركوا الصلاة عليه زجرا لغيره اقتداء بالنبى فهذا حق والله أعلم
____________________
(31/384)
( وسئل رحمه الله تعالى (
عن مماليك ضمنوا رجلا وكانوا مماليك انسان وهو مسلم نجس ببلاد التتر وهم متفقون على طاعة الله ورسوله يطلبون الحج ويصلون ويزكون ويتصدقون وهو غلب عليه العصيان يمنعهم عن طاعة الله ورسوله فلم تطب لهم مخالفة الله ورسوله وهو قاطع طريق وشارب خمر وزان وتارك للصلاة وقاتل النفس التى حرم الله ويطلبون منه البيع فلم يبعهم ويطلبون العتق فلم يعتقهم وكلما تلفظوا له بشيء من ذلك ضربهم ويسجنهم فيموتوا جوعا فاتفقوا وهربوا إلى مصر طالبين طاعة الله ورسوله فمنهم اليوم حجاج فهل فى طاعة الله ورسوله نص لأجل ابقهم
فأجاب إذا كانوا كما ذكروا يمنعهم ذلك الرجل من فعل ما أمر الله ورسوله ويكرههم على فعل ما نهى الله عنه ورسوله كان خروجهم من تحت يده جائزا بل واجبا وقد أحسنوا فيما فعلوا فإنه لا حرمة لمن يكون كذلك إذ لو كان فى طاعة المسلمين فكيف إذا كان فى طاعة التتر فإنه يجب قتاله وإن كان مسلما
وهؤلاء المهاجرون الذين فروا بأنفسهم قد أحسنوا فى ذلك والعبد إذا هاجر من أرض الحرب فإنه حر ولا حكم عليه لأحد
____________________
(31/385)
( وسئل (
عن نائب أخذ من مال مخدومه مبلغا وأشترى به مماليك فقيل له لأى شيء تأخذ مال أستاذك وتشترى به مماليك فقال أشتريها له وهى باقية على ملكه ثم أعتقها جميعها وأدعى فى العتق أنها مماليكه وهو اليوم معسر عن قيمة ثمنهم فهل يصح العتق
فأجاب إذا اشترى مماليك للرجل بإذنه فهم كذلك للرجل وإذا أعتقهم بغير إذن المالك لم يصح عتقه وإن اشتراهم بمال الرجل بغير إذنه فلصاحب المال أن يأخذهم وله أن يغرم هذا الغاصب ماله وإذا أعتقهم هذا المشترى فلصاحب المال أن يأخذهم ويكون العتق باطلا والله أعلم
____________________
(31/386)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه عمن أصابه سهم من سهام إبليس المسمومة
فأجاب من أصابه جرح مسموم فعليه بما يخرج السم ويبرئ الجرح بالترياق والمرهم وذلك بأمور منها أن يتزوج أو يتسرى فإن النبي قال ( اذا نظر أحدكم إلى محاسن امرأة فليأت أهله فإنما معها مثل ما معها ) وهذا مما ينقص الشهوة ويضعف العشق الثاني أن يداوم على الصلوات الخمس والدعاء والتضرع وقت السحر وتكون صلاته بحضور قلب وخشوع وليكثر من الدعاء بقوله ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك ) فإنه متى أدمن الدعاء والتضرع لله صرف قلبه عن ذلك كما قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين
____________________
(32/5)
الثالث أن يبعد عن مسكن هذا الشخص والاجتماع بمن يجتمع به بحيث لا يسمع له خبر ولا يقع له على عين ولا أثر فإن البعد جفا ومتى قل الذكر ضعف الأثر في القلب فليفعل هذه الأمور وليطالع بما تجدد له من الأحوال والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن رجل عازب ونفسه تتوق إلى الزواج غير أنه يخاف أن يتكلف من المرأة ما لايقدر عليه وقد عاهد الله أن لا يسأل أحدا شيئا فيه منة لنفسة وهو كثير التطلع إلى الزواج فهل يأثم بترك الزواج أم لا
فأجاب قد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) واستطاعة النكاح ) هو القدرة على المؤنة ليس هو القدرة على الوطء فإن الحديث إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء ولهذا أمر من لم يستطع أن يصوم فإنه له وجاء ومن لا مال له هل يستحب أن يقترض ويتزوج فيه نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره وقد قال تعالى { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } وأما ( الرجل الصالح ) فهو القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده
____________________
(32/6)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل خطب على خطبته رجل آخر فهل يجوز ذلك
فأجاب الحمد لله ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال ( لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه ولا يستام على سوم أخيه ) ولهذا اتفق الأئمة الأربعة في المنصوص عنهم وغيرهم من الأئمة على تحريم ذلك وإنما تنازعوا في صحة نكاح الثاني على قولين أحدهما أنه باطل كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين والآخر أنه صحيح كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى بناء على أن المحرم هو ما تقدم على العقد وهو الخطبة ومن ابطله قال إن ذلك تحريم للعقد بطريق الأولى ولا نزاع بينهم في أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله وإن نازع في ذلك بعض أصحابهم والأصرار على المعصية مع العلم بها يقدح في دين الرجل وعدالته وولايته على المسلمين
____________________
(32/7)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن امرأة فارقت زوجها وخطبها رجل في عدتها وهو ينفق عليها فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب الحمد لله لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة ولو كانت في عدة وفاة باتفاق المسلمين فكيف إذا كانت في عدة الطلاق ومن فعل ذلك يستحق العقوبة التي تردعه وأمثاله عن ذلك فيعاقب الخاطب والمخطوبة جميعا ويزجر عن التزويج بها معاقبة له بنقيض قصده والله أعلم وسئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا وأوفت العدة عنده وخرجت وبعد وفاء العدة تزوجت وطلقت في يومها ولم يعلم مطلقها إلا ثاني يوم فهل يجوز له أن يتفق معها إذا أوفت عدتها أن يراجعها
فأجاب ليس له في زمن العدة من غيره أن يخطبها ولا ينفق عليها ليتزوجها وإذا كان الطلاق رجعيا لم يجز له التعريض أيضا وإن كان بائنا ففي جواز التعريض نزاع هذا إذا كانت قد تزوجت بنكاح رغبة وأما إن كانت قد تزوجت بنكاح محلل فقد ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له
____________________
(32/8)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل خطب إبنة رجل من العدول واتفق معه على المهر منه عاجل ومنه آجل وأوصل إلى والدها المعجل من مدة أربع سنين وهو يواصلهم بالنفقة ولم يكن بينهم مكاتبة ثم بعد هذا جاء رجل فخطبها وزاد عليه في المهر ومنع الزوج الأول
فأجاب لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه إذا أجيب إلى النكاح وركنوا إليه باتفاق الأئمة كما ثبت عن النبي أنه قال ( لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه ) وتجب عقوبة من فعل ذلك وأعان عليه عقوبة تمنعهم وأمثالهم عن ذلك وهل يكون نكاح الثاني صحيحا أو فاسدا فيه قولان للعلماء في مذهب مالك وأحمد وغيرهما وسئل رحمه الله عن رجل يدخل على امرأة أخيه وبنات عمه وبنات خاله هل يحل له ذلك أم لا
فأجاب لا يجوز له أن يخلو بها ولكن إذا دخل مع غيره من غير خلوة ولا ريبة جاز له ذلك والله أعلم
____________________
(32/9)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أملك على بنت وله مدة سنين ينفق عليها ودفع لها وعزم على الدخول فوجد والدها قد زوجها غيره
فأجاب قد ثبت عن النبي أنه قال ( المسلم أخو المسلم لا يحل للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه ولا يستام على سوم أخيه ولا يبيع على بيع أخيه ) فالرجل إذا خطب امرأة وركن إليه من إليه نكاحها كالأب المجبر فإنه لا يحل لغيره أن يخطبها فكيف إذا كانوا قد ركنوا إليه وأشهدوا بالاملاك المتقدم للعقد وقبضوا منه الهدايا وطالت المدة فإن هؤلاء فعلوا محرما يستحقون العقوبة عليه بلا ريب ولكن العقد الثاني هل يقع صحيحا أو باطلا فيه قولان للعلماء أحدهما وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد أن عقد الثاني باطل فتنزع منه وترد إلى الأول والثاني أن النكاح صحيح وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي فيعاقب من فعل المحرم ويرد إلى الأول جميع ما أخذ منه والقول الأول أشبه بما في الكتاب والسنة
____________________
(32/10)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل طلق زوجته ثلاثا ولهما ولدان وهي مقيمة عند الزوج في بيته مدة سنين ويبصرها وتبصره فهل يحل لها الأكل الذي تأكل من عنده أم لا وهل له عليها حكم أم لا
فأجاب المطلقة ثلاثا هي أجنبية من الرجل بمنزلة سائر الأجنبيات فليس للرجل أن يخلو بها كما ليس له أن يخلو بالأجنبية وليس له أن ينظر إليها إلى ما لا ينظر إليه من الأجنبية وليس له عليها حكم أصلا ولا يجوز له أن يواطئها على أن تزوج غيره ثم تطلقه وترجع إليه ولا يجوز أن يعطيها ما تنفقه في ذلك فإنها لو تزوجت رجلا غيره بالنكاح المعروف الذي جرت به عادة المسلمين ثم مات زوجها أو طلقها ثلاثا لم يجز لهذا الأول أن يخطبها في العدة صريحا باتفاق المسلمين كما قال تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا } ونهاه أن يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله أي حتى تنقضي العدة فإذا كان قد نهاه عن هذه المواعدة والعزم في العدة فكيف إذا كانت في عصمة زوجها فكيف إذا كان الرجل لم يتزوجها بعد تواعد
____________________
(32/11)
على أن تتزوجه ثم تطلقه وتزوج بها المواعد فهذا حرام باتفاق المسلمين سواء قيل إنه يصح نكاح المحلل أو قيل لا فلم يتنازعوا في أن التصريح بخطبة معتدة من غيره أو متزوجة بغيره أو بخطبة مطلقة ثلاثا أنه لا يجوز ومن فعل ذلك يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة باتفاق الأئمة وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يتكلم شبه كلام النساء وهو ( طنجير ) هل يحل دخوله على النساء وما الحكم فيه
فأجاب بل مثل هذا يجب نفيه وإخراجه فلا يسكن بين الرجال ولا بين النساء فإن النبي نفى المخنث وأمر بنفي المخنثين وقال ( أخرجوهم من بيوتكم ) ومع هذا فلم يكن طنجيرا فكيف الطنجير وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل في الأسباب التي بين الله وعباده وبين العباد الخلقية والكسبية الشرعية والشرطية قال الله تعالى { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا } افتتح السورة بذكر خلق الجنس الإنساني من نفس واحدة وأن زوجها مخلوق منها وأنه بث منهما الرجال والنساء أكمل الأسباب وأجلها ثم
____________________
(32/12)
ذكر ما بين الآدميين من الأسباب المخلوقة الشرعية كالولادة ومن الكسبية الشرطية كالنكاح ثم قال { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } قال طائفة من المفسرين من السلف { تساءلون به } تتعاهدون به وتتعاقدون وهو كما قالوا لأن كل واحد من المتعاقدين عقد البيع أو النكاح أو الهدنة أو غير ذلك يسأل الآخر مطلوبه هذا يطلب تسليم المبيع وهذا تسليم الثمن وكل منهما قد أوجب على نفسه مطلوب الآخر فكل منهما طالب من الآخر موجب لمطلوب الآخر ثم قال { والأرحام } والعهود والأرحام هما جماع الأسباب التي بين بني آدم فإن الأسباب التي بينهم أما أن تكون بفعل الله أو بفعلهم فالأول الأرحام والثاني العهود ولهذا جمع الله بينهما في مواضع في مثل قوله { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } فالإل القرابة والرحم والذمة العهد والميثاق وقال تعالى في أول البقرة { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } وقال { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } إلى قوله { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } وأعلم أن حق الله داخل في الحقين ومقدم عليهما ولهذا قدمه في قوله { اتقوا ربكم الذي خلقكم } فإن الله خلق العبد وخلق أبويه وخلقه من أبويه فالسبب الذي بينه وبين الله هو الخلقي التام بخلاف سبب الأبوين فإن أصل مادته منهما وله مادة من غيرهما ثم إنهما لم يصوراه في الأرحام والعبد ليس له مادة إلا
____________________
(32/13)
من أبويه والله هو خالقه وبارؤه ومصوره ورازقه وناصره وهاديه وإنما حق الأبوين فيه بعض المناسبة لذلك فلذلك قرن حق الأبوين بحقه في قوله { أن اشكر لي ولوالديك } وفي قوله { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } وفي قوله { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } وجعل النبي صلى الله عليه وسلم التبرؤ من الأبوين كفرا لمناسبته للتبريء من الرب وفي الحديث الصحيح ( من أدعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ) أخرجاه في الصحيحين وقوله ( كفر بالله من تبرء من نسب وإن دق ) وقوله ( لا ترغبوا عن آبائكم فان كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) فحق النسب والقرابة والرحم تقدمه حق الربوبية وحق القريب المجيب الرحمن فإن غاية تلك أن تتصل بهذا كما قال الله ( أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته ) وقال ( الرحم شجنة من الرحمن ) وقال ( لما خلق لله الرحم تعلقت بحقو الرحمن فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة ) وقد قيل في قوله { لا يرقبون في مؤمن إلا } إن الإل الرب كقول الصديق لما سمع قرآن مسيلمة إن هذا كلام لم يخرج من إل وأما دخول حق الرب في العهود والعقود فكدخول العبد في الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله فإن هذا عهد الإسلام وهو أشرف العهود وأوكدها وأعمها وأكملها
____________________
(32/14)
& باب أركان النكاح وشروطه & قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى فصل عمدة من قال لا يصح النكاح إلا بلفظ الإنكاح والتزويج وهم أصحاب الشافعي وبن حامد ومن وافقهم من أصحابنا كأبي الخطاب والقاضي وأصحابه ومن بعده إلا في لفظ أعتقتك وجعل عتقك صداقك ) أنهم قالوا ما سوى هذين اللفظين ( كناية ) والكناية لا تقتضي الحكم إلا بالنية والنية في القلب لا تعلم فلا يصح عقد النكاح بالكناية لأن صحته مفتقرة إلى الشهادة عليه والنية لا يشهد عليها بخلاف ما يصح بالكناية من طلاق وعتق وبيع فإن الشهادة لا تشترط في صحة ذلك ومنهم من يجعل ذلك تعبدا لما فيه من ثبوت العبادات وهذا قول من لا يصححه إلا بالعربية من أصحابنا وغيرهم وهذا ضعيف لوجوه أحدها لا نسلم أن ما سوى هذين كناية بل ثم ألفاظ هي حقائق عرفية في العقد أبلغ من لفظ ( أنكحت ) فإن هذا اللفظ مشترك بين الوطء والعقد ولفظ ( الإملاك ) خاص بالعقد لا يفهم إذا قال القائل أملك فلان على فلانة إلا العقد كما في الصحيحين ( أملكتكها على ما معك من القرآن ) سواء كانت الرواية باللفظ أو بالمعنى
____________________
(32/15)
الثاني إنا لا نسلم أن الكناية تفتقر إلى النية مطلقا بل إذا قرن بها لفظ من ألفاظ الصريح أو حكم من أحكام العقد كانت صريحة كما قالوا في ( الوقف ) إنه ينعقد بالكناية كتصدقت وحرمت وأبدت إذا قرن بها لفظ أو حكم فإذا قال أملكتكها فقال قبلت هذا التزويج أو أعطيتكها زوجة فقال قبلت أو أملكتكها على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ونحو ذلك فقد قرن بها من الألفاظ والأحكام ما يجعله صريحا الثالث أن إضافة ذلك إلى الحرة يبين المعنى فإنه إذا قال في ابنته ملكتكها أو أعطيتكها أو زوجتكها ونحو ذلك فالمحل ينفي الاجمال والاشتراك الرابع أن هذا منقوض عليهم بالشهادة في الرجعة فإنها مشروعة اما واجبة وإما مستحبة وهي شرط في صحة الرجعة على قول وبالشهادة على البيع وسائر العقود فإن ذلك مشروع مطلقا سواء كان العقد بصريح أو كناية مفسرة الخامس أن الشهادة تصح على العقد ويثبت بها عند الحاكم على أي صورة انعقدت فعلم أن اعتبار الشهادة فيه لا يمنع ذلك السادس أن العاقدين يمكنهما تفسير مرادهما ويشهد الشهود على ما فسروه
____________________
(32/16)
( السابع ) أن الكناية عندنا إذا أقترن بها دلالة الحال كانت صريحة في الظاهر بلا نزاع ومعلوم أن اجتماع الناس وتقديم الخطبة وذكر المهر والمفاوضة فيه والتحدث بأمر النكاح قاطع في إرادة النكاح وأما التعبد فيحتاج إلى دليل شرعي ثم العقد جنس لا يشرع فيه التعبد بالألفاظ لأنها لا يشترط فيها الإيمان بل تصح من الكافر وما يصح من الكافر لا تعبد فيه والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن رجل وكل ذميا في قبول نكاح إمرأة مسلمة هل يصح النكاح
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذه المسألة فيها نزاع فإن الوكيل في قبول النكاح لابد أن يكون ممن يصح منه قبوله النكاح لنفسه في الجملة فلو وكل امرأة أو مجنونا أو صبيا غير مميز لم يجز ولكن إذا كان الوكيل ممن يصح منه قبول النكاح بإذن وليه ولا يصح منه القبول بدون إذن وليه فوكل في ذلك مثل أن يوكل عبدا في قبول النكاح بلا إذن سيده أو يوكل سفيها محجورا عليه بدون [ إذن ] وليه أو يوكل صبيا مميزا بدون إذن وليه فهذا فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره وإن كان يصح منه قبول النكاح بغير إذن لكن في الصورة المعينة لا يجوز لمانع فيه مثل أن يوكل في نكاح الأمة من لا يجوز له تزوجها صحت الوكالة
____________________
(32/17)
وأما ( توكل الذمي ) في قبول النكاح له فهو يشبه تزويج الذمي إبنته الذمية من مسلم ولوزوجها من ذمي جاز ولكن إذا زوجها من مسلم ففيها قولان في مذهب أحمد وغيره قيل يجوز وقيل لا يجوز بل يوكل مسلما وقيل لا يزوجها إلا الحاكم بإذنه وكونه وليا في تزويج المسلم مثل كونه وكيلا في تزويج المسلمة ومن قال إن ذلك كله جائز قال إن الملك في النكاح يحصل للزوج لاللوكيل باتفاق العلماء بخلاف الملك في غيره فإن الفقهاء تنازعوا في ذلك فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أن حقوق العقد تتعلق بالموكل والملك يحصل له فلو وكل مسلم ذميا في شراء خمر لم يجز وأبو حنيفة يخالف في ذلك وإذا كان الملك يحصل للزوج وهو الموكل للمسلم فتوكيل الذمي بمنزلة توكله في تزويج المرأة بعض محارمها كخالها فإنه يجوز توكله في قبول نكاحها للموكل وان كان لا يجوز له تزوجها كذلك الذمي إذا توكل في نكاح مسلم وان كان لا يجوز له تزوج المسلمة لكن الأحوط ان لايفعل ذلك لما فيه من النزاع ولأن النكاح فيه شوب العبادات ويستحب ( عقده في المساجد ) وقد جاء في الآثار ( من شهد إملاك مسلم فكأنما شهد فتحا في سبيل الله ولهذا وجب في احد القولين مذهب احمد وغيره ان يعقد بالعربية كالاذكار المشروعة وأذا كان كذلك لم ينبغ ان يكون الكافر متوليا لنكاح مسلم ولكن لايظهر مع ذلك أن العقد باطل فإنه ليس على بطلانه دليل شرعي والكافر يصح منه النكاح وليس هو من أهل العبادات والله أعلم
____________________
(32/18)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن مريض تزوج في مرضه فهل يصح العقد
فأجاب نكاح المريض صحيح ترث المرأة في قول جماهير علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ولا تستحق إلا مهر المثل لا تستحق الزيادة على ذلك بالاتفاق وسئل رحمه الله عن رجل له بنت وهي دون البلوغ فزوجوها في غيبة أبيها ولم يكن لها ولي وجعلوا أن أباها توفي وهو حي وشهدوا أن خالها أخوها فهل يصح العقد أم لا
فأجاب إذا شهدوا أن خالها أخوها فهذه شهادة زور ولا يصير الخال وليا بذلك بل هذه قد تزوجت بغير ولي فيكون نكاحها باطلا عند أكثر العلماء والفقهاء كا الشافعي وأحمد وغيرهما وللأب أن يجدده ومن شهد أن خالها أخوها وان أباها مات فهو شاهد زور يجب تعزيره ويعزر الخال وان كان دخل بها فلها المهر ويجوز ان يزوجها الأب في عدة النكاح الفاسد عند أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه والله اعلم
____________________
(32/19)
وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة لها اب وأخ ووكيل أبيها في النكاح وغيره حاضر فذهبت إلى الشهود وغيرت اسمها واسم أبيها وادعت ان لها مطلقا يريد تجديد النكاح وأحضرت رجلا اجنبيا وذكرت انه اخوها فكتبت الشهود كتابها على ذلك ثم ظهر ما فعلته وثبت ذلك بمجلس الحكم فهل تعزر على ذلك وهل يجب تعزير المعرفين والذي ادعى أنه أخوها والذي عرف الشهود بما ذكر وهل يختص التعزير بالحاكم أو يعزرهم ولي الأمر من محتسب وغيره
فأجاب الحمد لله تعزر تعزيرا بلينا ولو عزرها ولي الأمر مرات كان ذلك حسنا كما كان عمر بن الخطاب يكرر التعزير في الفعل إذا اشتمل على أنواع من المحرمات فكان يعزر في اليوم الأول مائة وفي الثاني مائة وفي الثالث مائة يفرق التعزير لئلا يفضي إلى فساد بعض الأعضاء وذلك ان هذه قد ادعت إلى غير أبيها واستخلفت اخاها وهذا من الكبائر فقد ثبت في الصحيح عن النبي انه قال ( من ادعى إلى غير أبيه أوتولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ) بل قد ثبت في الصحيح عن سعد وأبي بكرة انهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من ادعى إلى غير أبيه
____________________
(32/20)
فالجنة عليه حرام ) وثبت ماهو ابلغ من ذلك في الصحيح عن أبي ذر عن النبي انه يقول ( ليس منا من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم الاكفر ومن ادعى ماليس له فليس منا وليتبؤ مقعده من النار ومن رمى رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك الاحار عليه ) وهذا تغليظ عظيم يقتضي ان يعاقب على ذلك عقوبة عظيمة يستحق فيها مائة سوط ونحو ذلك وايضا فإنها لبست على الشهود وأوقعتهم في العقود الباطلة ونكحت نكاحا باطلا فإن جمهور العلماء يقولون النكاح بغير ولي باطل يعزرون من يفعل ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا مذهب الشافعي وغيره بل طائفة منهم يقيمون الحد في ذلك بالرجم وغيره ومن جوز النكاح بلا ولي مطلقا أو في المدينة فلم يجوز على هذا الوجه من دعوى النسب الكاذب وأقامة الولي الباطل فكان عقوبة هذه متفقا عليها بين المسلمين وتعاقب أيضا على كذبها وكذلك الدعوى انه كان زوجها وطلقها ويعاقب الزوج ايضا وكذلك الذي ادعى انه أخوها يعاقب على هذين الريبتين واما المعرفون بهم يعاقبون على شهادة الزور بالنسب لها والتزويج والتطليق وعدم ولي حاضر وينبغي ان يبالغ في عقوبة هؤلاء فإن الفقهاء قد نصوا على ان شاهد الزور يسود وجهه بما نقل عن عمر بن الخطاب رضي
____________________
(32/21)
الله عنه أنه كان يسود وجهه اشارة إلى سواد وجهه بالكذب وانه كان يركبه دابة مقلوبا إلى خلف اشارة إلى انه قلب الحديث ويطاف به حتى يشهره بين الناس انه شاهد زور وتعزير هؤلاء ليس يختص بالحاكم بل يعزره الحاكم والمحتسب وغيرهما من ولاة الأمور القادرين على ذلك ويتعين ذلك في مثل هذه الحال التي ظهر فيها فساد كثير في النساء وشهادة الزور كثيرة فإن النبي قال ( ان الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن إجبار الأب لابنته البكر البالغ على النكاح هل يجوز أم لا
فأجاب وأما إجبار الأب لابنته البكر البالغه على النكاح ففيه قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد ( احدهما ) انه يجبر البكر البالغ كما هو مذهب مالك والشافعي وهو اختيار الخرقي والقاضي وأصحابه و ( الثاني ) لا يجبرها كمذهب أبي حنيفه وغيره وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز بن جعفر وهذا القول هو الصواب والناس متنازعون في ( مناط الاءجبار ) هل
____________________
(32/22)
هو البكارة أو الصغر أو مجموعها أو كل منهما على أربعة اقوال في مذهب أحمد وغيره والصحيح ان مناط الاجبار هو الصغر وان البكر البالغ لايجبرها أحد على النكاح فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر ) فقيل له ان البكر تستحى فقال ( إذنها صماتها ) وفي لفظ في الصحيح ( البكر يستأذنها أبوها ) فهذا نهي النبي لا تنكح حتى تستأذن وهذا يتناول الأب وغيره وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة وأن الأب نفسه يستأذنها وأيضا فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة الآ بإذنها وبضعها أعظم من مالها فكيف يجوز ان يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها وأيضا فإن الصغر سبب الحجر بالنص والاجماع وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام فإن الشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع وايضا فإن الذين قالوا بالاجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفوا وعين الأب كفوا آخر هل يؤخذ بتعيينها أو بتعيين الأب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد فمن جعل العبرة بتعيينها نقض أصله ومن جعل
____________________
(32/23)
العبرة بتعيين الأب كان في قوله من الفساد والضرر والشر ما لايخفى فإنه قد قال النبي في الحديث الصحيح ( الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن واذنها صماتها ) وفي رواية ( الثيب احق بنفسها من وليها ) فلما جعل الثيب احق بنفسها دل على ان البكر ليست احق بنفسها بل الولي احق وليس ذلك إلا للأب والجد هذه عمدة المجبرين وهم تركوا العمل بنص الحديث وظاهره وتمسكوا بدليل خطابه ولم يعلموا مراد الرسول وذلك ان قوله ( الأيم احق بنفسها من وليها ) يعم كل ولي وهم يخصونه بالأب والجد ( والثاني ) قوله ( والبكر تستأذن ) وهم لا يوجبون استئذانها بل قالوا هو مستحب حتى طرد بعضهم قياسه وقالوا لما كان مستحبا أكتفى فيه بالسكوت وادعى انه حيث يجب استئذان البكر فلا بد من النطق وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي واحمد وهذا مخالف لا جماع المسلمين قبلهم ولنصوص رسول الله فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة واتفاق الأئمة قبل هؤلاء انه إذا زوج البكر اخوها أو عمها فإنه يستأذنها وإذنها صماتها وأما المفهوم فالنبي فرق بين البكر والثيب كما قال في الحديث الآخر ( لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر ) فذكر في هذه لفظ 0 ( الاذن وفي هذه لفظ ( الأمر ) وجعل إذن هذه الصمات كما أن إذن تلك النطق فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي بين البكر
____________________
(32/24)
والثيب لم يفرق بينهما في الاجبار وعدم الاجبار وذلك لأن ( البكر ) لما كانت تستحي ان تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها بل تخطب إلى وليها ووليها يستأذنها فتأذن له لا تأمره ابتداء بل تأذن له إذا أستأذنها واذنها صماتها وأما الثيب فقد زال عنها حياء البكر فتتكلم بالنكاح فتخطب إلى نفسها وتأمر الولي ان يزوجها فهي آمرة له وعليه ان يعطيها فيزوجها من الكفؤ إذا أمرته بذلك فالولي مأمور من جهة الثيب ومستأذن للبكر فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم واما تزويجها مع كراهتها للنكاح فهذا مخالف للأصول والعقول والله لم يسوغ لو ليها ان يكرهها على بيع أو إجارة إلا باذنها ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته ومعاشرة من تكره معاشرته والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له ونفورها عنه فأي مودة ورحمة في ذلك ثم إنه إذا وقع الشقاق بين الزوجين فقد أمر الله ببعث حكم من أهله وحكم من أهلها و ( والحكمان ) كما سماها الله عز وجل هما حكمان عند أهل المدينة وهو أحد القولين للشافعي وأحمد وعند أبي حنيفة والقول الآخر هما ( وكيلان ) والأول اصح لأن الوكيل
____________________
(32/25)
ليس بحكم ولا يحتاج فيه إلى أمر الأئمة ولا يشترط ان يكون من الأهل ولا يختص بحال الشقاق ولا يحتاج في ذلك إلى نص خاص ولكن إذا وقع الشقاق فلا بد من ولي لهما يتولى امرهما لتعذر أختصاص أحدهما بالحكم على الآخر فأمر الله ان يجعل امرهما إلى اثنين من اهلهما فيفعلان ما هو الأصلح من جمع بينهما وتفريق بعوض أو بغيره وهنا يملك الحكم الواحد مع الآخر الطلاق بدون إذن الرجل ويملك الحكم الآخر مع الأول بذل العوض من مالها بدون إذنها لكونهما صارا وليين لهما وطرد هذا القول ان الأب يطلق على ابنه الصغير والمجنون إذا رأى المصلحة كما هو أحدى الروايتين عن أحمد وكذلك يخالع عن ابنته إذا رأى المصلحة لها وأبلغ من ذلك انه إذا طلقهاقبل الدخول فللأب أن يعفو عن نصف الصداق إذا قيل هو الذي بيده عقده النكاح كما هو قول مالك وأحمد في أحدى لا الروايتين عنه والقرآن يدل على صحة هذا القول وليس الصداق كسائر مالها فإنه وجب في الأصل نحلة وبضعها عاد إليها من غير نقص وكان إلحاق الطلاق بالفسوخ فوجب ان لا يتنصف لكن الشارع جبرها بتنصيف الصداق لما حصل لها من الانكسار به ولهذا جعل ذلك عوضا عن المتعة عند بن عمر والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه فأوجبوا المتعة لكل مطلقة إلا لمن طلقت بعد الفرض وقبل
____________________
(32/26)
الدخول والمسيس فحسبها ما فرض لها وأحمد في الروية الأخرى مع أبي حنيفة وغيره لا يوجبون المتعة إلا لمن طلقت قبل الفرض والدخول ويجعلون المتعة عوضا عن نصف الصداق ويقولون كل مطلقة فإنها تأخذ صداقا الا هذه وأولئك يقولون الصداق استقر قبل الطلاق بالعقد والدخول والمتعة سببها الطلاق فتجب لكل مطلقة لكن المطلقة بعد الفرض وقبل المسيس متعت بنصف الصداق فلا تستحق الزيادة وهذا القول أقوى من ذلك القول فإن الله جعل الطلاق سبب المتعة فلا يجعل عوضا عما سببه العقد والدخول لكن يقال على هذا فالقول الثالث اصح وهو الرواية الأخرى عن أحمد ان كل مطلقة لها متعة كما دل عليه ظاهر القرآن وعمومه حيث قال وللمطلقات متاع بالمعروف ) وايضا فإنه قد قال ( إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ) فأمر بتمتيع المطلقات قبل المسيس ولم يخص ذلك بمن لم يفرض لها مع ان غالب النساء يطلقهن بعد الفرض وأيضا فإذا كان سبب المتعة هو الطلاق فسبب المهر هو العقد فالمفوضة التي لم يسم لها مهرا يجب لها مهر المثل بالعقد ويستقر بالموت على القول الصحيح الذي دل عليه حديث بروع بنت واشق التي تزوجت ومات عنها زوجها قبل ان يفرض لها مهر وقضى لها النبي بإن ( لها مهر امرأة من نسائها لا وكس ولا شطط ) لكن هذه لو طلقت قبل
____________________
(32/27)
المسيس لم يجب لها نصف المهر بنص القرآن لكونها لم تشترط مهرا مسمى والكسر الذي حصل لها بالطلاق انجبر بالمتعة وليس هذا موضع بسط هذه المسائل ولكن ( المقصود ) أن الشارع لا يكره المرأة على النكاح إذا لم ترده بل إذا كرهت الزوج وحصل بينهما شقاق فإنه يجعل أمرها إلى غير الزوج لمن ينظر في المصلحة من أهلها مع من ينظر في المصلحة من أهله فيخلصها من الزوج بدون أمره فكيف تؤسر معه أبدا بدون أمرها والمرأة أسيرة مع الزوج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) وسئل رحمه الله تعالى عن بنت بالغ وقد خطبت لقرابة لها فأبت وقال أهلها للعاقد اعقد وابوها حاضر فهل يجوز تزويجها
فأجاب أما إن كان الزوج ليس كفؤا لها فلا تجبر على نكاحه بلا ريب وأما إن كان كفؤا فللعلماء فيه قولان مشهوران لكن الأظهر في الكتاب والسنة والاعتبار انها لا تجبر كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم لا تنكح البكر حتى يستأذنها أبوها وإذنها صماتها ) والله أعلم
____________________
(32/28)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج بكرا بولاية أبيها ولم يستأذن حين العقد وكان قدم العقد عليها لزوج قبله وطلقت قبل الدخول بغير إصابة ثم دخل بها الزوج الثاني فوجدها بنتا فكتم ذلك وحملت الزوجة منه واستقر الحال بينهما فلما علم الزوج انها لم تستأذن [ حين ] العقد عليها سأل عن ذلك قيل له إن العقد مفسوخ لكونها بنتا ولم تستأذن فهل يكون العقد مفسوخا والوطوء شبهة ويلزم تجديد العقد أم لا
فأجاب أما إذا كانت ثيبا من زوج وهي بالغ فهذه لا تنكح إلا بإذنها باتفاق الأئمة ولكن إذا زوجت بغير إذنها ثم أجازت العقد جاز ذلك في مذهب أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين ولم يجز في مذهب الشافعي وأحمد في رواية أخرى وان كانت ثيبا من زنا فهي كالثيب من النكاح في مذهب الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة وفيه قول آخر أنها كالبكر وهو مذهب أبي حنيفة نفسه ومالك وان كانت البكارة زالت بوثبة أو بأصبع أو نحو ذلك فهي كالبكر عند الأئمة الأربعة وإذا كانت بكرا فالبكر يجبرها أبوها على النكاح وإن كانت بالية في مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وفي الأخرى وهي
____________________
(32/29)
مذهب أبي حنيفة وغيره ان الأب لا يجبرها إذا كانت بالغا وهذا اصح مادل عليه سنة رسول الله وشواهد الأصول فقد تبين في هذه المسألة ان أكثر العلماء يقولون إذا اختارت هي العقد جاز وإلا يحتاج إلى استئناف وقد يقال هو الأقوى هنا لا سيما وإلاب إنما عقد معتقدا أنها بكر وانه لا يحتاج إلى إستئذانها فإذا كانت في الباطن بخلاف ذلك كان معذورا فإذا اختارت هي النكاح لم يكن هذا بمنزلة تصرف الفضولي ووقف العقد على الاجازة فيه نزاع مشهور بين العلماء والأظهر فيه التفصيل بين بعضها وبعض كما هو مبسوط في غير هذا الموضع وقال الشيخ رحمه الله ليس لأحد الأبوين ان يلزم الولد بنكاح من لا يريد وانه إذا امتنع لا يكون عاقا وإذا لم يكن لأحد ان يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك وأولى فإن أكل المكروه مرارة ساعة وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك ولايمكن فراقه وسئل رحمه الله عن رجل تحت حجر والده وقد تزوج بغير إذن والده وشهد المعروفون ان والده مات وهو حي فهل يصح العقد أم لا وهل يجب على الولد إذا تزوج بغير إذن والده حق أم لا
____________________
(32/30)
فأجاب إن كان سفيها محجورا عليه لا يصح نكاحه بدون إذن أبيه ويفرق بينهما وإذا فرق بينهما قبل الدخول فلا شيء عليه وإن كان رشيدا صح نكاحه وإن لم يأذن له أبوه وإذا تنازع الزوجان هل نكح وهو رشيد أو وهو سفيه فالقول قول مدعي صحة النكاح وسئل رحمه الله عن رجل خطب امرأة ولها ولد والعاقد مالكي فطلب العاقد الولد فتعذر حضوره وجيء بغيره وأجاب العاقد في تزويجها فهل يصح العقد
فأجاب لا يصح هذا العقد وذلك لأن الولد وليها وإذا كان حاضرا غير ممتنع لم تزوج إلا بإذنه فأما إن غاب غيبة بعيدة انتقلت الولاية إلى الأبعد أو الحاكم ولو زوجها شافعي معقدا أن الولد لا ولاية له كان من مسائل الاجتهاد لكن الذي زوجها مالكي يعتقد أن لا يزوجها إلا ولدها فإذا لبس عليه وزوجها من يعتقده ولدها ولم يكن هذا الحاكم قد زوجها بولايته ولا زوجت بولاية ولي من نسب أو ولاء فتكون منكوحة بدون إذن ولي أصلا وهذا النكاح باطل عند الجمهور كما وردت به النصوص وسئل رحمه الله عن امرأة خلاها أخوها في مكان لتوفي عدة زوجها فلما انقضت العدة هربت إلى بلد مسيرة يوم وتزوجت بغير إذن أخيها ولم يكن لها ولي غيره فهل يصح العقد أم لا
____________________
(32/31)
فأجاب إذا لم يكن أخوها عاضلا لها وكان أهلا للولاية لم يصح نكاحها بدون إذنه والحال هذه والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج بالغة من جدها أبي أبيها وما رشدها ولا معه وصية من أبيها فلما دنت وفاة جدها أوصى على البنت رجلا أجنبيا فهل للجد المذكور على الزوجة ولاية بعد أن أصابها الزوج وهل له أن يوصي عليها
فأجاب أما إذا كانت رشيدة فلا ولاية عليها لا للجد ولا غيره باتفاق الأئمة وإن كانت ممن يستحق الحجر عليها ففيه للعلماء قولان أحدهما أن الجد له ولاية وهذا مذهب ابي حنيفة والثاني لا ولاية له وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وإذا تزوجت الجارية ومضت عليها سنة وأولدها أمكن أن تكون رشيدة باتفاق العلماء وسئل عمن برطل ولي امرأة ليزوجها إياه فزوجها ثم صالح صاحب المال عنه فهل على المرأة من ذلك درك
فأجاب آثم فيما فعل وأما النكاح فصحيح ولا شيء على المرأة من ذلك
____________________
(32/32)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل له جارية وقد أعتقها وتزوج بها ومات ثم خطبها من يصلح فهل لأولاد سيدها أن يزوجوها
فأجاب الحمد لله إذا خطبها من يصلح لها فعلى أولاد سيدها أن يزوجوها فإن امتنعوا من ذلك زوجها الحاكم أو عصبة المعتق إن كان له عصبة غير أولاده لكن من العلماء من يقدم الحاكم إذا عضل الولي الأقرب وهو مذهب الشافعي وأحمد في رواية ومنهم من يقدم العصبة كأبي حنيفة في المشهور عنه فإذا لم يكن له عصبة زوج الحاكم باتفاق العلماء ولو امتنع العصبة كلهم زوج الحاكم بالاتفاق وإذا أذن العصبة للحاكم جاز باتفاق العلماء وسئل رحمه الله عن رجل تزوج معتقة رجل وطلقها وتزوجت بآخر وطلقها ثم حضرت إلى البلد الذي فيه الزوج الأول فأراد ردها ولم يكن معها براءة فخاف أن يطلب منه براءة فحضرا عند قاضي البلد وادعى أنها جاريته وأولدها وأنه يريد عتقها ويكتب لها كتابا فهل يصح هذا العقد أم لا
____________________
(32/33)
فأجاب إذا زوجها القاضي بحكم أنه وليها وكانت خلية من الموانع الشرعية ولم يكن لها ولي أولى من الحاكم صح النكاح وإن ظن القاضي أنها عتيقة وكانت حرة الأصل فهذا الظن لا يقدح في صحة النكاح وهذا ظاهر على أصل الشافعي فإن الزوج عنده لا يكون وليا وأما من يقول إن المعتقة يكون زوجها المعتق وليها والقاضي نائبه فهنا إذا زوج الحاكم بهذه النيابة ولم يكن قبولها من جهتها ولكن من كونها حرة الأصل فهذا فيه نظر والله أعلم وسئل رحمه الله عن أعراب نازلين على البحر وأهل بادية وليس عندهم ولا قريبا منهم حاكم ولا لهم عادة أن يعقدوا نكاحا إلا في القرى التي حولهم عند أئمتها فهل يصح عقد أئمة القرى لهم مطلقا لمن لها ولي ولمن ليس لها ولي وربما كان أئمة ليس لهم إذن من متول فهل يصح عقدهم في الشرع مع إشهاد من اتفق من المسلمين على العقود أم لا وهل على الأئمة إثم إذا لم يكن في العقد مانع غير هذا الحال الذي هو عدم إذن الحاكم للإمام بذلك أم لا
فأجاب الحمد لله أما من كان لها ولي من النسب وهو العصبة من النسب اوالولاء مثل أبيها وجدها وأخيها وعمها وبن أخيها وبن عمها وعم أبيها وبن عم أبيها وإن كانت معتقة فمعتقها أو عصبة معتقها فهذه يزوجها الولي بإذنها والابن ولي عند الجمهور ولا يفتقر ذلك إلى حاكم باتفاق العلماء
____________________
(32/34)
وإذا كان النكاح بحضرة شاهدين من المسلمين صح النكاح وإن لم يكن هناك أحد من الأئمة ولو لم يكن الشاهدان معدلين عند القاضي بأن كانا مستورين صح النكاح إذا أعلنوه ولم يكتموه في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة ولو كان بحضرة فاسقين صح النكاح أيضا عند أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين ولو لم يكن بحضرة شهود بل زوجها وليها وشاع ذلك بين الناس صح النكاح في مذهب مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وهذا أظهر قولي العلماء فإن المسلمين ما زالوا يزوجون النساء على عهد النبي ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالإشهاد وليس في اشتراط الشهادة في النكاح حديث ثابت لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المساند وأما من لا ولي لها فإن كان في القرية أو الحلة نائب حاكم زوجها هو وأمير الأعراب ورئيس القرية وإذا كان فيهم إمام مطاع زوجها أيضا بإذنها والله أعلم وسئل قدس الله روحه عن رجل أسلم هل يبقى له ولاية على أولاده الكتابيين
فأجاب لا ولاية له عليهم في النكاح كما لا ولاية له عليهم في الميراث فلا يزوج المسلم الكافرة سواء كانت بنته أو غيرها ولا يرث كافر مسلما ولا مسلم كافرا وهذا مذهب الأئمة الأربعة وأصحابهم من السلف والخلف
____________________
(32/35)
لكن المسلم إذا كان مالكا للأمة زوجها بحكم الملك وكذلك إذا كان ولي أمر زواجها بحكم الولاية وأما بالقرابة والعتاقة فلا يزوجها إذ ليس في ذلك إلا خلاف شاذ عن بعض أصحاب مالك في النصراني يزوج ابنته كما نقل عن بعض السلف أنه يرثها وهما قولان شاذان وقد اتفق المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم ولا يتزوج الكافر المسلمة والله سبحانه قد قطع الولاية في كتابه بين المؤمنين والكافرين وأوجب البراءة بينهم من الطرفين وأثبت الولاية بين المؤمنين فقد قال تعالى { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } وقال تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } إلى قوله { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } إلى قوله { فإن حزب الله هم الغالبون } والله تعالى إنما أثبت الولاية بين أولى الأرحام بشرط الإيمان كما قال تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين } وقال تعالى { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض }
____________________
(32/36)
إلى قوله { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } إلى قوله { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له جارية معتوقة وقد طلبها منه رجل ليتزوجها فحلف بالطلاق ما أعطيك إياها فهل يلزمه الطلاق إذا وكل رجلا في زواجها لذلك الرجل
فأجاب متى فعل المحلوف عليه بنفسه أو وكيله حنث لكن إذا كان الخاطب كفوا فله أن يزوجها الولي الأبعد مثل ابنه أو أبيه أو أخيه أو يزوجها الحاكم بإذنها ودون إذن المعتق فإنه عاضل ولا يحتاج إلى إذنه ولا حنث عليه إذا زوجت على هذا الوجه وسئل رحمه الله عمن يعقد عقود الأنكحة بولي وشاهدي عدل هل للحاكم منعه
فأجاب ليس للحاكم أن يمنع المذكور أن يتوكل للولي فيعقد العقد على الوجه الشرعي لكن من لا ولي لها لا تزوج إلا بإذن السلطان وهو الحاكم والله أعلم
____________________
(32/37)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل خطب امرأة حرة لها ولي غير الحاكم فجاء بشهود وهو يعلم فسق الشهود لكن لو شهدوا عند الحاكم قبلهم فهل يصح نكاح المرأة بشهادتهم وإذا صح هل يكره
فأجاب نعم يصح النكاح والحال هذه و ( العدالة ) المشترطة في شاهدي النكاح إنما هي أن يكونا مستورين غير ظاهري الفسق وإذا كانا في الباطن فاسقين وذلك غير ظاهر بل ظاهرهما الستر انعقد النكاح بهما في أصح قولي العلماء في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما إذ لو اعتبر في شاهدي النكاح أن يكونا معدلين عند الحاكم لما صح نكاح أكثر الناس إلا بذلك وقد علم أن الناس على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا يعقدون الأنكحة بمحضر من بعضهم وإن لم يكن الحاضرون معدلين عند اولي الأمر ومن الفقهاء من قال يشترط أن يكونا مبرزي العدالة فهؤلاء شهود الحكام معدلون عندهم وإن كان فيهم من هو فاسق في نفس الأمر فعلى التقديرين ينعقد النكاح بشهادتهم وإن كانوا في الباطن فساقا والله أعلم
____________________
(32/38)
وسئل رحمه الله تعالى عن حديث أبي هريرة رضي عنه قال قال رسول الله ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا يا رسول الله كيف إذنها قال أن تسكت ) متفق عليه وعن بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صمتها ) وفي رواية ( البكر يستأذنها أبوها في نفسها وصمتها إقرارها ) رواه مسلم في صحيحه وعن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا فقال لها رسول الله ( نعم تستأمر ) قالت عائشة فقلت له فإنها تستحي فقال رسول الله ( فذلك إذنها إذا هي سكتت ) وعن خنساء ابنة خدام ( أن أباها زوجها وهي بنت فكرهت ذلك فأتت رسول الله فرد نكاحه ) رواه البخاري
فأجاب المرأة لا ينبغي لأحد أن يزوجها إلا بإذنها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فإن كرهت ذلك لم تجبر على النكاح إلا الصغيرة البكر فإن أباها يزوجها ولا إذن لها وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها
____________________
(32/39)
لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين وكذلك البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها بإجماع المسلمين فأما الأب والجد فينبغي لهما إستئذانها وأختلف العلماء في أستئذانها هل هو واجب أو مستحب والصحيح أنه واجب ويجب على ولى المرأة أن يتقي الله فيمن يزوجها به وينظر في الزوج هل هو كفؤ أو غير كفؤ فإنه إنما يزوجها لمصلحتها لا لمصلحته وليس له أن يزوجها بزوج ناقص لغرض له مثل أن يتزوج مولية ذلك الزوج بدلها فيكون من جنس الشغار الذي نهى عنه النبي أو يزوجها بأقوام يحالفهم على أغراض له فاسدة أو يزوجها لرجل لمال يبذله له وقد خطبها من هو أصلح لها من ذلك الزوج فيقدم الخاطب الذي برطله على الخاطب الكفؤ الذي لم يبرطله وأصل ذلك أن تصرف الولي في بضع وليته كتصرفه في مالها فكما لا يتصرف في مالها إلا بما هو أصلح كذلك لا يتصرف في بضعها إلا بما هو أصلح لها إلا أن الأب له من التبسط في مال ولده ما ليس لغيره كما قال النبي ( أنت ومالك لأبيك ) بخلاف غير الأب وسئل رحمه الله عن المرأة التي يعتبر إذنها في الزواج شرعا هل يشترط الأشهاد عليها بإذنها لوليها أم لا وإذا قال الولي إنها أذنت لي في تزويجها من هذا
____________________
(32/40)
الشخص فهل للعاقد أن يعقد بمجرد قول الولي أم قولها وكيفية الحكم في هذه المسالة بين العلماء
فأجاب الحمد لله الإشهاد على إذنها ليس شرطا في صحة العقد عند جماهير العلماء وإنما فيه خلاف شاذ في مذهب الشافعي وأحمد فإن ذلك شرط والمشهور في المذهبين كقول الجمهور إن ذلك لا يشترط فلو قال الولي أذنت لي في العقد فعقد العقد وشهد الشهود على العقد ثم صدقته الزوجة على الإذن كان النكاح ثابتا صحيحا باطنا وظاهرا وإن أنكرت الإذن كان القول قولها مع يمينها ولم يثبت النكاح وداعوه الإذن عليها كما لو ادعى النكاح بعد موت الشهود ونحو ذلك والذي ينبغي لشهود النكاح أن يشهدوا على إذن الزوجة قبل العقد لوجوه ثلاثة أحدها إن ذلك عقد متفق على صحته ومهما أمكن أن يكون العقد متفقا على صحته فلا ينبغي أن يعدل عنه إلى ما فيه خلاف وإن كان مرجوحا إلا لمعارض راجح الوجه الثاني إن ذلك معونة على تحصيل مقصود العقد وأمان من جحوده لا سيما في مثل المكان والزمان الذي يكثر فيه جحد النساء وكذبهن فإن ترك الإشهاد عليها كثيرا ما يفضي إلى خلاف ذلك ثم إنه يفضي إلى أن تكون زوجة في الباطن دون الظاهر وفي ذلك مفاسد متعددة
____________________
(32/41)
والوجه الثالث أن الولي قد يكون كاذبا في دعوى الاستئذان وأن يحتال بذلك على أن يشهد أنه قد زوجها وأن يظن الجهال أن النكاح يصح بدون ذلك إذا كان عند العامة أنها إذا زوجت عند الحاكم صارت زوجة فيفضي إلى قهرها وجعلها زوجة بدون رضاها وأما العاقد الذي هو نائب الحاكم إذا كان هو المزوج لها بطريق الولاية عليها لا بطريق الوكالة للولي فلا يزوجها حتى يعلم أنها قد أذنت وذلك بخلاف ما إذا كان شاهدا على العقد وأن زوجها الولي بدون إذنها فهو نكاح الفضولي وهو موقوف على إذنها عند أبي حنيفة ومالك وهو باطل مردود عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه وسئل رحمه الله عن بنت زالت بكارتها بمكروه ولم يعقد عليها عقد قط وطلبها من يتزوجها فذكر له ذلك فرضي فهل يصح العقد بما ذكر إذا شهد المعروفون أنها بنت لتسهيل الأمر في ذلك
فأجاب إذا شهدوا أنها ما زوجت كانوا صادقين ولم يكن في ذلك تلبيس على الزوج لعلمه بالحال وينبغي استنطاقها بالأدب فإن العلماء متنازعون هل إذنها إذا زالت بكارتها بالزنى الصمت أو النطق والأول مذهب الشافعي وأحمد كصاحبي أبي حنيفة وعند أبي حنيفة ومالك إذنها الصمات كالتي لم تزل عذرتها
____________________
(32/42)
وسئل رحمه الله تعالى عن بنت يتيمة ولها من العمر عشر سنين ولم يكن لها أحد وهي مضطرة إلى من يكفلها فهل يجوز لأحد أن يتزوجها بإذنها أم لا
فأجاب هذه يجوز تزويجها بكفؤ لها عند أكثر السلف والفقهاء وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه وغيرهما وقد دل على ذلك الكتاب والسنة كقوله تعالى { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء } الآية وقد أخرجا تفسير هذه الآية في الصحيحين عن عائشة وهو دليل في اليتيمة وزوجها من يعدل عليها في المهر لكن تنازع هؤلاء هل تزوج بإذنها أم لا فذهب أبو حنيفة أنها تزوج بغير إذنها ولها الخيار إذا بلغت وهي رواية عن أحمد وظاهر مذهب أحمد أنها تزوج بغير إذنها إذا بلغت تسع سنين ولا خيار لها إذا بلغت لما في السنن عن النبي أنه قال ( اليتيمة تستأذن في نفسها فإن سكتت فقد أذنت وأن أبت فلا جواز عليها ) وفي لفظ ( لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن فإن سكتت فقد أذنت وإن أبت فلا جواز عليها
____________________
(32/43)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن صغيرة دون البلوغ مات أبوها هل يجوز للحاكم أو نائبه أن يزوجها أم لا وهل يثبت لها الخيار إذا بلغت أم لا
فأجاب إذا بلغت تسع سنين فإنه يزوجها الأولياء من العصبات والحاكم ونائبه في ظاهر مذهب أحمد وهو مذهب أبي حنيفة وغيرهما كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } وأخرجا في الصحيحين عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله عز وجل { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } قالت يا بن أختي هذه اليتيمة في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن على سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة قالت عائشة ثم إن الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله
____________________
(32/44)
عز وجل { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } الآية قالت عائشة والذي ذكر الله أنه { يتلى عليكم في الكتاب } الآية الأولى التي قالها الله عز وجل { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } قالت عائشة وقول الله عز وجل في الآية الأخرى { وترغبون أن تنكحوهن } رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجرة حيث تكون قليلة المال والحال وفي لفظ آخر إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال رغبوا عنها وأخذوا غيرها من النساء قال فكما يتركونها حتى يرغبوا عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها من الصداق فهذا يبين إن الله أذن لهم أن يزوجوا اليتامى من النساء إذا فرضوا لهن صداق مثلهن ولم يأذن لهم في تزويجهن بدون صداق المثل لأنها ليست من أهل التبرع ودلائل ذلك متعددة ثم الجمهور الذين جوزوا انكاحها لهم قولان أحدهما وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين إنها تزوج بدون اذنها ولها الخيار إذا بلغت والثاني وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره إنها لا تزوج إلا بإذنها ولا خيار لها إذا بائت وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة كما روى أبو هريرة قال قال رسول الله ( تستأذن
____________________
(32/45)
اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال ( تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد أذنت وإن أبت فلا جواز عليها ) فهذه السنة نص في القول الثالث الذي هو أعدل الأقوال أنها تزوج خلافا لمن قال إنها لا تزوج حتى تبلغ فلا تصير يتيمة والكتاب والسنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضى بدون صداق المثل ولأن ذلك مدلول اللفظ وحقيقته ولأن ما بعد البلوغ وإن سمي صاحبه يتيما مجازا فغايته أن يكون داخلا في العموم وإما أن يكون المراد باليتيمة البالغة دون التي لم تبلغ فهذا لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن بنت يتيمة ليس لها أب ولا لها ولي إلا أخوها وسنها اثنا عشر سنة ولم تبلغ الحلم وقد عقد عليها أخوها بإذنها فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب هذا العقد صحيح في مذهب أحمد المنصوص عنه في أكثر أجوبته الذي عليه عامة أصحابه ومذهب أبي حنيفة أيضا لكن أحمد في المشهور عنه يقول إذا زوجت بإذنها وإذن أخيها لم يكن لها الخيار إذا
____________________
(32/46)
بلغت وأبو حنيفة وأحمد في رواية يقول تزوج بلا إذنها ولها الخيار إذا بلغت وهذا أحد القولين في مذهب مالك أيضا ثم عنه رواية إن دعت حاجة إلى نكاحها ومثلها يوطأ جاز وقيل تزوج ولها الخيار إذا بلغت وقال بن بشير اتفق المتأخرون إنه يجوز نكاحها إذا خيف عليها الفساد والقول الثالث وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى إنها لا تزوج حتى تبلغ إذا لم يكن لها أب وجد قالوا لأنه ليس لها ولي يجبر وهي في نفسها لا إذن لها قبل البلوغ فتعذر تزويجها بإذنها وإذن وليها والقول الأول أصح بدلالة الكتاب والسنة والإعتبار فإن الله تعالى يقول { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما } وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها إن هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها فإن كان لها مال وجمال تزوجها ولم يقسط في صداقها فإن لم يكن لها مال لم يتزوجها فنهى أن يتزوجها حتى يقسط في صداقها من أجل رغبته عن نكاحها إذا لم يكن لها مال وقوله { قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب } يفتيكم ونفتيكم في المستضعفين فقد أخبرت
____________________
(32/47)
عائشة في هذا الحديث الصحيح الذي اخرجه البخاري ومسلم إن هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها وإن الله أذن له في تزويجها إذا أقسط في صداقها وقد اخبر أنها في حجرة فدل على أنها محجور عليها وايضا فقد ثبت في السنن من حديث أبي موسى وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن فإن سكتت فقد أذنت وإن ابت فلا جواز عليها ) فيجوز تزويجها بإذنها ومنعه بدون إذنها وقد قال ( لا يتم بعد احتلام ) ولو أريد ( باليتيم ) ما بعد البلوغ فبطريق المجاز فلا بد أن يعم ما قبل البلوغ وما بعده أما تخصيص لفظ ( اليتيم ) بما بعد البلوغ فلا يحتمله اللفظ بحال ولأن الصغير المميز يصح لفظه مع إذن وليه كما يصح إحرامه بالحج بإذن الولي وكما يصح تصرفه في البيع وغيره بإذن وليه عند أكثر العلماء كما دل على ذلك القرآن بقوله { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } الآية فأمر بالابتلاء قبل البلوغ وذلك قد لا يأتي إلا بالبيع ولا تصح وصيته وتدبيره عند الجمهور وكذلك إسلامه كما يصح صومه وصلاته وغير ذلك لما له في ذلك من المنفعة فإذا زوجها الولي بإذنها من كفؤ جاز وكان هذا تصرفا بإذنها وهو مصلحة لها وكل واحد من هذين مصحح لتصرف المميز والله أعلم
____________________
(32/48)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن بنت دون البلوغ وحضر من يرغب في تزويجها فهل يجوز للحاكم أن يزوجها أم لا
فأجاب الحمد لله إذا كان الخاطب لها كفؤا جاز تزويجها في اصح قولي العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه ثم منهم من يقول تزوج بلا أمرها ولها الخيار كمذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد ومنهم من يقول إذا بلغت تسع سنين زوجت بإذنها ولا خيار لها إذا بلغت وهو ظاهر مذهب أحمد لقول النبي ( لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن فإن سكتت فقد أذنت وإن أبت فلا جواز عليها ) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما وتزويج اليتيمة ثابت بالكتاب والسنة قال تعالى { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان } وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في اليتيمة التي يرغب وليها أن ينكحها إذا كان لها مال ولا ينكحها إذا لم يكن لها مال فنهوا عن نكاحهن حتى يقسطوا لهن في الصداق فقد أذن الله للولي أن ينكح اليتيمة إذا أصدقها صداق المثل والله أعلم
____________________
(32/49)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج يتيمة صغيرة وعقد عقدها الشافعي المذهب ولم تدرك إلا بعد العقد بشهرين فهل هذا العقد جائز أم لا
فأجاب أما اليتيمة التي لم تبلغ قبل لا يجبرها على تزويجها غير الأب والجد والأخ والعم والسلطان الذي هو الحاكم أو نواب الحاكم في العقود للفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال أحدها لا يجوز وهو قول الشافعي ومالك والإمام أحمد في رواية والثاني يجوز النكاح بلا إذنها ولها الخيار إذا بلغت وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد والثالث أنها تزوج بإذنها ولا خيار لها إذا بلغت وهذا هو المشهور من مذهب أحمد فهذه التي لم تبلغ يجوز نكاحها في مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما ولو زوجها حاكم يرى ذلك فهل يكون تزويجه
____________________
(32/50)
حكما لا يمكن نقضه أو يفتقر إلى حاكم غيره يحكم بصحة ذلك على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أصحهما الأول لكن الحاكم المزوج هنا شافعي فإن كان قد قلد قول من يصحح هذا النكاح وراعي سائر شروطه وكان ممن له ذلك جاز وإن كان قد أقدم على ما يعتقد تحريمه كان فعله غير جائز وإن كان قد ظنها بالغا فزوجها فكانت غير بالغ لم يكن في الحقيقة قد زوجها ولا يكون النكاح صحيحا والله أعلم وسئل رحمه الله عن رجل وجد صغيرة فرباها فلما بلغت زوجها الحاكم له ورزق منها أولادا ثم وجد لها أخ بعد ذلك فهل هذا النكاح صحيح
فأجاب إذا كان لها أخ غائب غيبة منقطعة ولم يكن يعرف حينئذ لها أخ لكونها ضاعت من أهلها حين صغرها إلى ما بعد النكاح لم يبطل النكاح المذكور والله أعلم
____________________
(32/51)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن بنت يتيمة وقد طلبها رجل وكيل على جهات المدينة وزوج أمها كاره في الوكيل فهل يجوز أن يزوجها عمها وأخوها بلا إذن منها أم لا
فأجاب الحمد لله المرأة البالغ لا يزوجها غير الأب والجد بغير إذنها باتفاق الأئمة بل وكذلك لا يزوجها الأب إلا بإذنها في أحد قولي العلماء بل في أصحهما وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين كما قال النبي ( لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر ) قالوا يا رسول الله فإن البكر تستحي قال ( إذنها صماتها ) وفي لفظ ( يستأذنها أبوها وإذنها صماتها ) وأما العم والأخ فلا يزوجانها بغير إذنها باتفاق العلماء وإذا رضيت رجلا وكان كفؤا لها وجب على وليها كالأخ ثم العم أن يزوجها به فإن عضلها وامتنع من تزويجها زوجها الولي الأبعد منه أو الحاكم بغير إذنه باتفاق العلماء فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤا باتفاق الأئمة وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة الذين يزوجون نساءهم لمن يختارونه لغرض لا لمصلحة المرأة ويكرهونها على ذلك أو يخجلونها حتى تفعل ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤا لها لعداوة
____________________
(32/52)
أو غرض وهذا كله من عمل الجاهلية والظلم والعدوان وهو مما حرمه الله ورسوله واتفق المسلمون على تحريمه وأوجب الله على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة لا في أهواءهم كسائر الأولياء والوكلاء ممن تصرف لغيره فإنه يقصد مصلحة من تصرف له لا يقصد هواه فإن هذا من الأمانة التي أمر الله أن تؤدي إلى أهلها فقال { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وهذا من النصيحة الواجبة وقد قال النبي ( الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) والله أعلم وسئل رحمه الله عن رجل تزوج امرأة وقعدت معه أياما وجاء أناس ادعوا أنها في المملكة وأخذوها من بيته ونهبوه ولم يكن حاضرا فهل يجوز أخذها وهي حامل
فأجاب الحمد لله إذا لم يبين للزوج أنها أمة بل تزوجها نكاحا مطلقا كما جرت به العادة وظن أنها حرة وقيل له إنها حرة فهو مغرور وولده منها حر لا رقيق وأما النكاح فباطل إذا لم يجزه السيد باتفاق المسلمين وإن أجازه السيد صح في مذهب أبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين ولم يصح في مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى بل يحتاج
____________________
(32/53)
إلى نكاح جديد وأما إن ظهرت حاملا من غير الزوج فالنكاح باطل بلا ريب ولا صداق عليه إذا لم يدخل بها وليس لهم أن يأخذوا شيئا من ماله بل كل ما أخذ من ماله رد إليه وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن تزويج المماليك بالجوار من غير عتق إذا كانوا لمالك واحد ومن يعقد طرفي النكاح في الطرفين لهما ولأولادهم وهل للسيد أن يتسرى بهن
فأجاب تزويج المماليك بالإماء جائز سواء كانوا لمالك واحد أو لمالكين مع بقائهم على الرق وهذا مما اتفق عليه أئمة المسلمين والذي يزوج الأمة سيدها أو وكيله وأما المملوك فهو يقبل النكاح لنفسه إذا كان كبيرا أو يقبل له وكيله وإن كان صغيرا فسيده يقبل له فإذا كان الزوجان له قال بحضرة شاهدين زوجت مملوكي فلان بأمتي فلانة وينعقد النكاح بذلك وأما العبد البالغ فهل لسيده أن يزوجه بغير إذنه ويكرهه على ذلك فيه قولان للعلماء أحدهما لا يجوز وهو مذهب الشافعي وأحمد والثاني يجبره وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والأمة والمملوك الصغير يزوجهما بغير إذنهما بالاتفاق
____________________
(32/54)
وأما الأولاد فهم تبع لامهم في الحرية والرق وهم تبع لأبيهم في النسب والولاء باتفاق المسلمين فمن كان سيد الأم كان أولادها له سواء ولدوا من زوج أو من زنا كما أن البهائم من الخيل والإبل والحمير إذا نرى ذكرها على أنثاها كان الأولاد لمالك الأم ولو كانت الأم معتقة أو حرة الأصل والأب مملوكا كان الأولاد أحرارا وأما النسب فإنهم ينتسبون إلى أبيهم وإذا كان الأب عتيقا والأم عتيقة كانوا منتسبين إلى موالي الأب وإن كان الأب مملوكا انتسبوا إلى موالي الأم فإن عتق الأب بعد ذلك أنجر الولاء من موالي الأم إلى موالي الأب وهذا مذهب الأئمة الأربعة ومن كان مالكا للأم ملك أولادها وكان له أن يتسرى بالبنات من أولاد إمائه إذا لم يكن يستمتع بالأم فإنه يستمع ببناتها فإن استمتع بالأم فلا يجوز أن يستمتع ببناتها والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن رجل شريف زوج ابنته وهي بكر بالغ لرجل غير شريف مغربي معروف بين الناس بالصلاح برضى ابنته وإذنها ولم يشهد عليها الأب بالرضي فهل يكون ذلك قادحا في العقد أم لا مع استمرار الزوجة بالرضي وذلك قبل الدخول وبعده وقدح قادح فأشهدت الزوجة أن الرضا والإذن صدرا منها فهل يحتاج في ذلك تجديد العقد
____________________
(32/55)
فأجاب لا يفتقر صحة النكاح إلى الاشهاد على إذن المرأة قبل النكاح في المذاهب الأربعة إلا وجها ضعيفا في مذهب الشافعي وأحمد بل قال إذا قال الولي أذنت لي جاز عقد النكاح والشهادة على الولي والزوج ثم المرأة بعد ذلك إن أنكرت فالنكاح ثابت هذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وأما مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في راية عنه إذا لم تأذن حتى عقد النكاح جاز وتسمى مسألة وقف العقود كذلك العبد إذا تزوج بدون إذن مواليه فهو على هذا النزاع أما الكفاءه في النسب فالنسب معتبر عند مالك أما عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه فهي حق للزوجة والأبوين فإذا رضوا بدون كفء جاز وعند أحمد هي حق لله فلا يصح النكاح مع فراقها والله أعلم وسئل رحمه الله عن رجل زوج ابنة أخيه من ابنه والزوج فاسق لا يصلي وخوفوها حتى أذنت في النكاح وقالوا إن لم تأذني وإلا زوجك الشرع بغير اختيارك وهو الآن يأخذ مالها ويمنع من يدخل عليها لكشف حالها كأمها وغيرها
____________________
(32/56)
فأجاب الحمد لله ليس للعم ولا غيره من الأولياء أن يزوج موليته بغير كفئ إذا لم تكن راضية بذلك باتفاق الأئمة وإذا فعل ذلك استحق العقوبة الشرعية التي تردعه وأمثاله عن مثل ذلك بل لو رضيت هي بغير كفئ كان لولي آخر غير المزوج أن يفسخ النكاح وليس للعم أن يكره المرأة البالغة على النكاح بكفئ فكيف إذا أكرهها على التزويج بغير كفئ بل لا يزوجها إلا بمن ترضاه باتفاق المسلمين وإذا قال لها إن لم تأذني وإلا زوجك الشرع بغير اختيارك فأذنت بذلك لم يصح هذا الإذن ولا النكاح المترتب عليه فإن الشرع لا يمكن غير الأب والجد من إجبار الصغيرة باتفاق الأئمة وإنما تنازع العلماء في الأب والجد في الكبيرة وفي الصغيرة مطلقا وإذا تزوجها بنكاح صحيح كان عليه أن يقوم بما يجب لها ولا يتعدى عليها في نفسها ولا مالها وما أخذه من ذلك ضمنه وليس له أن يمنع من يكشف حالها إذا اشتكت بل إما أن يمكن من يدخل عليها ويكشف حالها كالأم وغيرها وإما أن تسكن بجنب جيران من أهل الصدق والدين يكشفون حالها والله أعلم
____________________
(32/57)
وسئل رحمه الله عن رجل له عبد وقد حبس نفسه وقصد الزواج فهل له أن يتزوج أم لا
فأجاب نعم له التزوج على أصل من يجبر السيد على تزويجه كمذهب أحمد والشافعي على أحد قوليه فإن تزويجه كالإنفاق عليه إذا كان محتاجا إلى ذلك وقد قال تعالى { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } فأمر بتزويج العبيد والإماء كما أمر بتزويج الأيامي وتزويج الأمة إذا طلبت النكاح من كفؤ واجب باتفاق العلماء والذي يأذن له في النكاح مالك نصفه أو وكيله وناظر النصيب المحبس وسئل عن رجل تزوج عتيقة بعض بنات الملوك الذين يشترون الرقيق من مالهم ومال المسلمين بغير إذن معتقها فهل يكون العقد صحيحا أم لا فأجاب أما إذا أعتقها من مالها عتقا شرعيا فالولاية لها باتفاق العلماء وهي التي ترثها ثم أقرب عصباتها من بعدها
____________________
(32/58)
وأما تزويج هذه العتيقة بدون إذن المعتقة فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء فإن من لا يشترط إذن الولي كأبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين يقول بأن هذا النكاح يصح عنده لكن من يشترط إذن الولي كالشافعي وأحمد لهم قولان في هذه المسألة وهما روايتان عن أحمد إحداهما أنها لا تزوج إلا بإذن المعتقة فإنها عصبتها وعلى هذا فهل للمرأة نفسها أن تزوجها على قولين هما روايتان عن أحمد والثاني أن تزويجها لا يفتقر إلى إذن المعتقة لأنها لا تكون ولية لنفسها فلا تكون ولية لغيرها ولأنه لا يجوز تزوجها عندهم فلا يفتقر إلى إذنها فعلى هذا يزوج هذه المعتقة من يزوج معتقها بإذن العتيقة مثل أخ المعتقة ونحوه إن كان من أهل ولاية النكاح وإن لم يكن أهلا وزوجها الحاكم جاز وإلا فلا وإن كانوا أهلا عند أبي حنيفة فالولاء لهم والحاكم يزوجها وسئل عن رجل خطب امرأة فسئل عن نفقته فقيل له من الجهات السلطانية شيء فأبي الولي تزويجها فذكر الخاطب أن فقهاء الحنفية جوزوا تناول ذلك فهل ذكر ذلك أحد في جواز تناوله من الجهات وهل للولي المذكور دفع الخاطب بهذا السبب مع رضاء المخطوبة
____________________
(32/59)
فأجاب أما الفقهاء الأئمة الذين يفتي بقولهم فلم يذكر أحد منهم جواز ذلك ولكن في أوائل الدولة السلجوقية أفتى طائفة من الحنفية والشافعية بجواز ذلك وحكى أبو محمد بن حزم في كتابه إجماع العلماء على تحريم ذلك وقد كان نور الدين محمود الشهيد التركي قد أبطل جميع الوظائف المحدثة بالشام والجزيرة ومصر والحجاز وكان أعرف الناس بالجهاد وهو الذي أقام الإسلام بعد استيلاء الإفرنج والقرامطة على أكثر من ذلك ومن فعل ما يعتقد حكمه متأولا تأويلا سائغا لا سيما مع حاجته لم يجعل فاسقا بمجرد ذلك لكن بكل حال فالولي له أن يمنع موليته ممن يتناول مثل هذا الرزق الذي يعتقده حراما لا سيما وإن رزقها منه فإذا كان الزوج يطعمها من غيره أو تأكل هي من غيره فله أن يزوجها إذا كان الزوج متأولا فيما يأكله وسئل رحمه الله عن رجل زوج ابنته لشخص ولم يعلم ما هو عليه فأقام في صحبة الزوجة سنين فعلم الولي والزوجة ما الزوج عليه من النجس والفساد وشرب الخمر والكذب والأيمان الخائنة فبانت الزوجة منه بالثلاث فهل يجوز للولي الإقدام على تزويجه أم لا ثم إن الولي استتوب الزوج مرارا عديدة ونكث ولم يرجع فهل يحل تزويجها
____________________
(32/60)
فأجاب إذا كان مصرا على الفسق فإنه لا ينبغي للولي تزويجها له كما قال بعض السلف من زوج كريمته من فاجر فقد قطع رحمها لكن إن علم أنه تاب فتزوج به إذا كان كفؤا لها وهي راضية به وأما نكاح التحليل فقد ثبت عن النبي أنه قال ( لعن الله المحلل والمحلل له ) ولا تجبر المرأة على نكاح التحليل باتفاق العلماء وسئل عن الرافضة هل تزوج
فأجاب الرافضة المحضة هم أهل أهواء وبدع وضلال ولا ينبغي للمسلم أن يزوج موليته من رافضي وإن تزوج هو رافضية صح النكاح إن كان يرجو أن تتوب وإلا فترك نكاحها أفضل لئلا تفسد عليه ولده والله أعلم وسئل رحمه الله عن الرافضي ومن يقول لا تلزمه الصلوات الخمس هل يصح نكاحه من الرجال والنساء فإن تاب من الرفض ولزم الصلاة حينا ثم عاد لما كان عليه هل يقر على ما كان عليه من النكاح
فأجاب لا يجوز لأحد أن ينكح موليته رافضيا ولا من يترك الصلاة ومتى زوجوه على أنه سني فصلى الخمس ثم ظهر أنه رافضي لا يصلي أو عاد إلى الرفض وترك الصلاة فإنهم يفسخون النكاح
____________________
(32/61)
& باب المحرمات في النكاح قاعدة في المحرمات في النكاح نسبا وصهرا سئل الشيخ رحمه الله عن بيانها مختصرا
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما المحرمات بالنسب فالضابط فيه أن جميع أقارب الرجل من النسب حرام عليه إلا بنات أعمامه وأخواله وعماته وخالاته وهذه الأصناف الأربعة هن اللاتي أحلهن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } الآية فأحل سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم من النساء أجناسا أربعة ولم يجعل خالصا له من دون المؤمنين إلا الموهوبة التي تهب نفسها للنبي فجعل هذه من خصائصه له أن يتزوج الموهوبة بلا مهر وليس هذا لغيره باتفاق المسلمين بل ليس لغيره أن يستحل بضع امرأة إلا مع وجوب مهر كما قال تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } واتفق العلماء على أن من تزوج امرأة ولم يقدر لها مهرا صح النكاح ووجب لها المهر إذا دخل بها وإن طلقها قبل الدخول فليس لها مهر بل
____________________
(32/62)
لها المتعة بنص القرآن وإن مات عنها ففيها قولان وهي مسألة بروع بنت واشق التي استفتى عنها بن مسعود شهرا ثم قال أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطئا فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام رجال من أشجع فقالوا نشهد ( إن رسول الله قضي في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به في هذه ) قال علقمة فما رأيت عبد الله فرح بشيء كفرحة بذلك وهذا الذي أجاب به بن مسعود هو قول فقهاء الكوفة كأبي حنيفة وغيره وفقهاء الحديث كأحمد وغيره وهو أحد قولي الشافعي والقول الآخر له وهو مذهب مالك أنه لا مهر لها وهو مروي عن علي وزيد وغيرهما من الصحابة وتنازعوا في النكاح إذا شرط فيه نفي المهر هل يصح النكاح على قولين في مذهب أحمد وغيره أحدهما يبطل النكاح كقول مالك والثاني يصح ويجب مهر المثل كقول أبي حنيفة والشافعي والأولون يقولون هو نكاح الشغار الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نفى فيه المهر وجعل البضع مهرا للبضع وهذا تعليل أحمد بن حنبل في غير موضع من كلامه وهذا تعليل أكثر قدماء أصحابه والآخرون منهم من يصحح نكاح الشغار كأبي حنيفة وقوله أقيس على هذا الأصل لكنه مخالف للنص وآثار الصحابة فإنهم أبطلوا نكاح الشغار ومنهم من يبطله
____________________
(32/63)
ويعلل البطلان إما بدعوى التشريك في البضع وإما بغير ذلك من العلل كما يفعله أصحاب الشافعي ومن وافقهم من أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وأتباعه والقول الأول أشبه بالنص والقياس الصحيح كما قد بسط في موضعه وتنازعوا أيضا في انعقاد النكاح مع المهر بلفظ التمليك والهبة وغيرهما فجوز ذلك الجمهور كمالك وأبي حنيفة وعليه تدل نصوص أحمد وكلام قدماء أصحابه ومنعه الشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد كابن حامد والقاضي ومن تبعهما ولم أعلم أحدا قال هذا قبل بن حامد من أصحاب أحمد والمقصود هنا إن الله تعالى لم يخص رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بنكاح الموهوبة بقوله { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } فدل ذلك على أن سائر ما أحله لنبيه حلال لأمته وقد دل على ذلك قوله { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } فلما احل امرأة المتبني لا سيما للنبي ليكون ذلك إحلالا للمؤمنين دل ذلك على أن الإحلال له إحلال لأمته وقد أباح له من أقاربه بنات العم والعمات وبنات الخال والخالات وتخصيصهن بالذكر يدل على تحريم ما سواهن لا سيما وقد قال بعد ذلك { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } أي من بعد هؤلاء
____________________
(32/64)
اللاتي أحللناهن لك وهن المذكورات في قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } فدخل في الأمهات أم أبيه وأم أمه وإن علت بلا نزاع اعلمه بين العلماء وكذلك دخل في البنات بنت ابنه وبنت بن ابنته وإن سفلت بلا نزاع أعلمه وكذلك دخل في الأخوات الأخت من الأبوين والأب والأم ودخل في العمات والخالات عمات الأبوين وخالات الأبوين وفي بنات الأخ والأخت ولد الأخوة وإن سفلن فإذا حرم عليه أصوله وفروعه وفروع أصوله البعيدة دون بنات العم والعمات وبنات الخال والخالات وأما المحرمات بالصهر فيقول كل نساء الصهر حلال له إلا أربعة أصناف بخلاف الأقارب فأقارب الإنسان كلهن حرام إلا أربعة أصناف وأقارب الزوجين كلهن حلال إلا أربعة أصناف وهن حلائل الاباء والأبناء وأمهات النساء وبناتهن فيحرم على كل من الزوجين أصول الآخر وفروعه يحرم على الرجل أم امرأته وام أمها وابيها وإن علت وتحرم عليه بنت إمرأته وهي الربيبة وبنت بنتها وإن سفلت وبنت الربيب أيضا حرام كما نص عليه الأئمة المشهورون الشافعي وأحمد وغيرهما ولا أعلم فيه نزاعا ويحرم عليه أن يتزوج بإمراة أبيه وإن علا وإمرأة ابنه وإن سفل فهؤلاء الأربعة هن المحرمات بالمصاهرة في كتاب الله وكل من الزوجين
____________________
(32/65)
يكون أقارب الآخر أصهارا له وأقارب الرجل أحماء المرأة وأقارب المرأة أختان الرجل وهؤلاء الأصناف الأربعة يحرمن بالعقد إلا الربيبة فإنها لا تحرم حتى يدخل بأمها فإن الله لم يجعل هذا الشرط إلا في الربيبة والبواقي أطلق فيهن التحريم فلهذا قال الصحابة أبهموا ما أبهم الله وعلى هذا الأئمة الأربعة وجماهير العلماء وأما بنات هاتين وأمهاتهما فلا يحرمن فيجوز له أن يتزوج بنت امرأة أبيه وابنه باتفاق العلماء فان هذه ليست من حلائل الآباء والأبناء فإن الحليلة هي الزوجة وبنت الزوجة وأمها ليست زوجة بخلاف الربيبة فإن ولد الربيب ربيب كما أن ولد الولد ولد وكذلك أم أم الزوجة أم للزوجة وبنت أم الزوجة لم تحرم فإنها ليست أما فلهذا قال من قال من الفقهاء بنات المحرمات محرمات إلا بنات العمات والخالات وأمهات النساء وحلائل الآباء والأبناء فجعل بنت الربيبة محرمة دون بنات الثلاثة وهذا مما لا أعلم فيه نزاعا ومن وطىء امرأة بما يعتقده نكاحا فإنه يلحق به النسب ويثبت فيه حرمة المصاهرة باتفاق العلماء فيما أعلم وإن كان ذلك النكاح باطلا عند الله ورسوله مثل الكافر إذا تزوج نكاحا محرما في دين الإسلام فإن هذا يلحقه فيه النسب وتثبت به المصاهرة فيحرم على كل واحد منهما أصول الآخر وفروعه باتفاق العلماء وكذلك كل وطىء اعتقد أنه ليس حراما وهو حرام مثل
____________________
(32/66)
من تزوج امرأة نكاحا فاسدا وطلقها وظن أنه لم يقع به الطلاق لخطئه أو لخطأ من أفتاه فوطئها بعد ذلك فجاءه ولد فهنا يلحقه النسب وتكون هذه مدخولا بها فتحرم وإن كانت ربيبة لم يدخل بأمها باتفاق العلماء فالكفار إذا تزوج أحدهم امرأة نكاحا يراه في دينه وأسلم بعد ذلك ابنه كما جرى للعرب الذين أسلم اولادهم وكما يجري في هذا الزمان كثيرا فهذا ليس له أن يتزوج بامراة ابنه وإن كان نكاحها فاسدا باتفاق العلماء فالنسب يتبع باعتقاد الوطئ للحل وإن كان مخطئا في اعتقاده والمصاهرة تتبع النسب فاذا ثبت النسب فالمصاهرة بطريق الأولى وكذلك حرية الولد يتبع إعتقاد أبيه فإن الولد يتبع أباه في النسب والحرية ويتبع أمه في هذا باتفاق العلماء ويتبع في الدين خيرهما دينا عند جماهير أهل العلم وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد واحد القولين في مذهب مالك فمن وطأ أمة غيره بنكاح أو زنا كان ولده مملوكا لسيدها وإن اشتراها ممن ظن أنه مالك لها أو تزوجها يظنها حرة فهذا يسمى المغرور وولدها حر باتفاق الأئمة لاعتقاده أنه يطأ من يصير الولد بوطئها حرا فالنسب والحرية يتبع إعتقاد الواطئ وإن كان مخطئا فكذلك تحريم المصاهرة وإنما تنازع العلماء في الزنى المحض هل ينشر حرمة المصاهرة فيه نزاع مشهور بين السلف والخلف التحريم قول ابي حنيفة وأحمد والجواز مذهب الشافعي وعن مالك روايتان
____________________
(32/67)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل كان له سرية بكتاب ثم توفي إلى رحمة الله وله بن بن وقد تزوج سرية جده المذكور فهل يحل ذلك
فأجاب لا يجوز له تزويج سرية جده التي كان يطؤها باتفاق المسلمين وإذا تزوجها فرق بينهما ولا يحل ابقاؤه معها وإن استحل ذلك استتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل وقال الشيخ رحمه الله تعالى فصل وأما تحريم الجمع فلا يجمع بين الأختين بنص القرآن ولا بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها لا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي نهى عن ذلك فروى أنه قال ( إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم بين أرحامكم ) ولو رضيت إحداهما بنكاح الأخرى عليها لم يجز فإن الطبع يتغير ولهذا لما عرضت أم حبيبة على النبي أن يتزوج أختها فقال لها النبي ( أو تحبين ذلك ) فقالت
____________________
(32/68)
لست لك بمخلية وأحق من شركني في الخير أختي فقال ( إنها لا تحل لي ) فقيل له أنا نتحدث أنك ناكح درة بنت أبي سلمة فقال ( لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي فإنها بنت أخي من الرضاع أرضعتني وأباها أبا سلمة ثويبة أمة أبي لهب فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن ) وهذا متفق عليه بين العلماء والضابط في هذا إن كل امرأتين بينهما رحم محرم فإنه يحرم الجمع بينهما بحيث لو كانت إحداهما ذكرا لم يجز له التزوج بالأخرى لأجل النسب فإن الرحم المحرم لها أربعة أحكام حكمان متفق عليهما وحكمان متنازع فيهما فلا يجوز ملكهما بالنكاح ولا وطئها فلا يتزوج الرجل ذات رحمه المحرم ولا يتسرى بها وهذا متفق عليه بل هنا يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فلا تحل له بنكاح ولا ملك يمين ولا يجوز له أن يجمع بينهما في ملك النكاح فلا يجمع بين الاختين ولا بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وهذا أيضا متفق عليه ويجوز له أن يملكهما لكن ليس له أن يتسراهما فمن حرم جمعهما في النكاح حرم جمعهما في التسري فليس له أن يتسرى الأختين ولا الأمة زعمتها والامة وخالتها وهذا هو الذي استقر عليه قول أكثر الصحابة وهو قول أكثر العلماء وهم متفقون على أنه لا يتسرى من تحرم عليه بنسب أو رضاع وإنما تنازعوا في الجمع فتوقف بعض الصحابة فيها وقال أحلتهما آية وحرمتهما
____________________
(32/69)
آية وظن أن تحريم الجمع قد يكون كتحريم العدد فإن له يتسرى ما شاء من العدد ولا يتزوج الأباريع فهذا تحريم عارض وهذا عارض بخلاف تحريم النسب والصهر فإنه لازم ولهذا تصير المرأة من ذوات المحارم بهذا ولا تصير من ذوات المحارم بذلك بل أخت امرأته أجنبية منه لا يخلو بها ولا يسافر بها كما لا يخلو بما زاد على أربع من النساء لتحريم ما زاد على العدد وأما الجمهور فقطعوا بالتحريم وهو المعروف من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم قالوا لأن كل ما حرم الله في الآية بملك النكاح حرم بملك اليمين وآية التحليل وهي قوله { أو ما ملكت أيمانكم } إنما أبيح فيها جنس المملوكات ولم يذكر فيها ما يباح ويحرم من التسري كما لم يذكر ما يباح ويحرم من الممهورات والمرأة يحرم وطئها إذا كانت معتدة ومحرمة وإن كانت زوجة أو سرية وتحريم العدد كان لأجل وجوب العدل بينهن في القسم كما قال تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } أي لا تجوروا في القسم هكذا قال السلف وجمهور العلماء وظن طائفة من العلماء أن المراد أن لا تكثر عيالكم وقالوا هذا يدل على وجوب نفقة الزوجة وغلط أكثر العلماء من قال ذلك لفظا ومعنى أما اللفظ فلأنه يقال عال يعول إذا جار وعال يعيل إذا افتقر وأعال يعيل إذا كثر عياله وهو سبحانه قال { تعولوا } لم يقل تعيلوا وأما المعنى فإن كثرة النفقة والعيال يحصل بالتسري كما يحصل بالزوجات ومع هذا فقد أباح
____________________
(32/70)
مما ملكت اليمين ما شاء الإنسان بغير عدد لأن المملوكات لا يجب لهن قسم ولا يستحققن على الرجل وطئا ولهذا يملك من لا يحل له وطؤها كام امرأته وبنتها وأخته وابنته من الرضاع ولو كان عنينا أو موليا لم يجب أن يزال ملكه عنها والزوجات عليه أن يعدل بينهن في القسم وخير الصحابة أربعة فالعدل الذي يطيقه عامة الناس ينتهي إلى الأربعة وأما رسول الله فإن الله قواه على العدل فيما هو أكثر من ذلك على القول المشهور وهو وجوب القسم عليه وسقوط القسم عنه على القول الآخر كما أنه لما كان أحق بالمؤمنين من أنفسهم احل له التزوج بلا مهر قالوا وإذا كان تحريم جمع العدد إنما حرم لوجوب العدل في القسم وهذا المعنى منتف في المملوكة فلهذا لم يحرم عليه أن يتسرى بأكثر من أربع بخلاف الجمع بين الأختين فإنه إنما كان دفعا لقطيعة الرحم بينهما وهذا المعنى موجود بين المملوكتين كما يوجد في الزوجتين فاذا جمع بينهما بالتسري حصل بينهما من التغاير ما يحصل إذا جمع بينهما في النكاح فيفضي إلى قطيعة الرحم ولما كان هذا المعنى هو المؤثر في الشرع جاز له أن يجمع بين المرأتين إذا كان بينهما حرمة بلا نسب أو نسب بلا حرمة فالأول مثل ان يجمع بين المرأة وابنة زوجها كما جمع عبد الله بن جعفر لما مات علي بن أبي طالب بين امرأة علي وابنته
____________________
(32/71)
وهذا يباح عند أكثر العلماء الأئمة الأربعة وغيرهم فإن هاتين المرأتين وإن كانت احداهما تحرم على الأخرى فذاك تحريم بالمصاهرة لا بالرحم والمعنى إنما كان بتحريم قطيعة الرحم فلم يدخل في آية التحريم لا لفظا ولا معنى وأما إذا كان بينهما رحم غير محرم مثل بنت العم والخال فيجوز الجمع بينهما لكن هل يكره فيه قولان هما روايتان عن أحمد لأن بينهما رحما غير محرم وأما الحكمان المتنازع فيهما فهل له أن يملك ذا الرحم المحرم وهل له أن يفرق بينهما في ملك فيبيع أحدهما دون الآخر هاتان فيهما نزاع وأقوال ليس هذا موضعها وتحريم الجمع يزول بزوال النكاح فإذا ماتت إحدى الاربع أو الأختين أو طلقها أو انفسخ نكاحها وانقضت عدتها كان له أن يتزوج رابعة ويتزوج الأخت الأخرى باتفاق العلماء وإن طلقها طلاقا رجعيا لم يكن له تزوج الأخرى عند عامة العلماء الأئمة الأربعة وغيرهم وقد روى عبيدة السلماني قال لم يتفق أصحاب محمد على شيء كاتفاقهم على أن الخامسة لا تنكح في عدة الرابعة ولا تنكح الأخت في عدة أختها وذلك لأن الرجعية بمنزلة الزوجة فإن كلا منهما يرث الآخر لكنها صائرة إلى البينونة وذلك لا يمنع كونها زوجة كما لو أحالها إلى أجل مثل أن يقول إن أعطيتني ألفا في رأس الحول فأنت طالق فإن هذه صائرة إلى بينونة
____________________
(32/72)
صغرى ومع هذا فهي زوجة باتفاق العلماء وإذا قيل لا يمكن أن تعطيه العوض المعلق به فيدوم النكاح قيل والرجعية يمكن أن يراجعها فيدوم النكاح وكذلك لو قال إن لم تلدي في هذا الشهر فأنت طالق وكانت قد بقيت على واحدة فها هنا هي زوجة لا يزول نكاحها إلا إذا انقضى الشهر ولم تلد وإن كانت صائرة إلى بينونة وإنما تنازع العلماء هل يجوز له وطؤها كما تنازعوا في وطىء الرجعية وأما إذا كان الطلاق بائنا فهل يتزوج الخامسة في عدة الرابعة والأخت في عدة أختها هذا فيه نزاع مشهور بين السلف والخلف والجواز مذهب مالك والشافعي والتحريم مذهب أبي حنيفة وأحمد والله أعلم
____________________
(32/73)
وسئل رحمه الله تعالى عن قوم يتزوج هذا أخت هذا وهذا أخت هذا أو ابنته وكلما أنفق هذا أنفق هذا وإذا كسا هذا كسا هذا وكذلك في جميع الأشياء وفي الإرضاء والغضب إذا رضي هذا رضي هذا وإذا أغضبها الآخر فهل يحل ذلك
فأجاب يجب على كل من الزوجين أن يمسك زوجته بمعروف أو يسرحها بإحسان ولا له أن يعلق ذلك على فعل الزوج الآخر فإن المرأة لها حق على زوجها وحقها لا يسقط بظلم أبيها وأخيها قال الله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } فإذا كان أحدهما يظلم زوجته وجب إقامة الحق عليه ولم يحل للآخر أن يظلم زوجته لكونها بنتا للأول وإذا كان كل منهما يظلم زوجته لأجل ظلم الآخر فيسحق كل منهما العقوبة وكان لزوجة كل منهما أن تطلب حقها من زوجها ولو شرط هذا في النكاح لكان هذا شرطا باطلا من جنس نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل أخته أو ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته أو أخته فكيف إذا زوجه على أنه إن أنصفها أنصف الآخر وإن ظلمها ظلم الآخر زوجته فإن هذا محرم بإجماع المسلمين ومن فعل ذلك استحق العقوبة التى تزجره عن مثل ذلك
____________________
(32/74)
وسئل الشيخ رحمه الله عن رجل متزوج بخالة إنسان وله بنت فتزوج بها فجمع بين خالته وابنته فهل يصح فأجاب لا يجوز أن يتزوج خالة رجل وابنته بأن يجمع بينهما فإن النبي ( نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ) وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة وهم متفقون على أن هذا الحديث يتناول خالة الأب وخالة الأم والجدة ويتناول عمة كل من الأبوين أيضا فليس له أن يجمع بين المرأة وخالة أبيها ولا خالة أمها عند الأئمة الأربعة وسئل عن رجل جمع في نكاح واحد بين خالة رجل وابنة أخ له من الأبوين فهل يجوز الجمع بينهما أم لا
فأجاب الجمع بين هذه المرأة وبين الأخرى هو الجمع بين المرأة وبين خالة أبيها فإن أباها إذا كان أخا لهذا الآخر من أمه أو أمه وأبيه كانت
____________________
(32/75)
خالة هذا خالة هذا بخلاف ما إذا كان أخاه من أبيه فقط فإنه لا تكون خالة أحدهما خالة الآخر بل تكون عمته والجمع بين المرأة وخالة أبيها وخالة أمها أو عمة أبيها أو عمة أمها كالجمع بين المرأة وعمتها وخالتها عند أئمة المسلمين وذلك حرام باتفاقهم وإذا تزوج إحداهما بعد الأخرى كان نكاح الثانية باطلا لا يحتاج إلى طلاق ولا يجب بعقد مهر ولا ميراث ولا يحل له الدخول بها وإن دخل بها فارقها كما تفارق الأجنبية فإن أراد نكاح الثانية فارق الأولى فإذا انقضت عدتها تزوج الثانية فإن تزوجها في عدة طلاق رجعي لم يصح العقد الثاني باتفاق الأئمة وإن كان الطلاق بائنا لم يجز في مذهب أبي حنيفة وأحمد وجاز في مذهب مالك والشافعي فإذا طلقها طلقة أو طلقتين بلا عوض كان الطلاق رجعيا ولم يصح نكاح الثانية حتى تنقضي عدة الأولى باتفاق الأئمة فإن تزوجها لم يجز أن يدخل بها فإن دخل بها في النكاح الفاسد وجب عليه أن يعتزلها فإنها أجنبية ولا يعقد عليها حتى تنقضي عدة الأولى المطلقة باتفاق الأئمة وهل له أن يتزوج هذه الموطوءة بالنكاح الفاسد في عدتها منه فيه قولان للعلماء أحدهما يجوز وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والثاني لا يجوز وهو مذهب مالك وفي مذهب أحمد القولان
____________________
(32/76)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل اشترى جارية ووطأها ثم ملكها لولده فهل يجوز لولده وطؤها فأجاب الحمد الله لا يجوز للابن أن يطأها بعد وطء أبيه والحال هذه باتفاق المسلمين ومن استحل ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل وفي السنن عن البراء بن عازب قال رأيت خالي أبا بردة ومعه رايته فقلت إلى أين فقال ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وأخمس ماله ) ولا نزاع بين الأئمة أنه لا فرق بين وطئها بالنكاح وبين وطئها بملك اليمين وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بإمرأة من مدة سنة ولم يدخل بها وطلقها قبل الإصابة فهل يجوز له أن يدخل بالأم بعد طلاق البنت
فأجاب لا يجوز تزويج أم امرأته وإن لم يدخل بها والله أعلم
____________________
(32/77)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل طلق امرأته وهي مرضعة لولده فلبثت مطلقة ثمانية أشهر ثم تزوجت برجل آخر فلبثت معه دورة شهر ثم طلقها فلبثت مطلقة ثلاثة أشهر ولم تحض لا في الثمانية الأولى ولا في مدة عصمتها مع الرجل الثاني ولا في الثلاثة الأشهر الأخيرة ثم تزوج بها المطلق الأول أبو الولد فهل يصح هذان العقدان أو أحدهما
فأجاب الحمد لله لا يصح العقد الأول والثاني بل عليها أن تكمل عدة الأول ثم تقضي عدة الثاني ثم بعد انقضاء العدتين تتزوج من شاءت منهما والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين رزق منها ولدا له من العمر سنتان وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين وصدقها الزوج وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ
____________________
(32/78)
فأجاب إن صدقها الزوج في كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل وعليه أن يفارقها وعليها أن تكمل عدة الأول ثم تعتد من وطىء الثاني فإن كانت حاضت الثالثة قبل أن يطأها الثاني فقد انقضت عدة الأول ثم إذا فارقها الثاني اعتدت له ثلاث حيض ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد وولده ولد حلال يلحقه نسبه وإن كان قد ولد بوطئ في عقد فاسد لا يعلم فساوه وسئل رحمه الله عن مطلقة ادعت وحلفت أنها قضت عدتها فتزوجها زوج ثان ثم حضرت امرأة أخرى وزعمت أنها حاضت حيضتين وصدقها الزوج على ذلك
فأجاب إذا لم تحض إلا حيضتين فالنكاح الثاني باطل باتفاق الأئمة وإذا كان الزوج مصدقا لها وجب أن يفرق بينهما فتكمل عدة الأول بحيضة ثم تعتد من وطء الثاني عدة كاملة ثم بعد ذلك إن شاء الثاني أن يتزوجها تزوجها وسئل عن امرأة بانت فتزوجت بعد شهر ونصف بحيضة واحدة
فأجاب تفارق هذا الثاني وتتم عدة الأول بحيضتين ثم بعد ذلك تعتد من وطء الثاني بثلاث حيضات ثم بعد ذلك يتزوجها بعقد جديد
____________________
(32/79)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل عقد العقد على أنها تكون بالغا ولم يدخل بها ولم يصبها ثم طلقها ثلاثا ثم عقد عليها شخص آخر ولم يدخل بها ولم يصبها ثم طلقها ثلاثا فهل يجوز للذي طلقها أولا أن يتزوج بها
فأجاب إذا طلقها قبل الدخول فهو كما لو طلقها بعد الدخول عند الأئمة الأربعة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويدخل بها فإذا طلقها قبل الدخول لم تحل للأول وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بنتا بكرا ثم طلقها ثلاثا ولم يصبها فهل يجوز أن يعقد عليها عقدا ثانيا أم لا
فأجاب طلاق البكر ثلاثا كطلاق المدخول بها ثلاثا عند أكثر الأئمة
____________________
(32/80)
وسئل رحمه الله تعالى عمن يقول إن المرأة إذا وقع بها الطلاق الثلاث تباح بدون نكاح ثان للذي طلقها ثلاثا فهل قال هذا القول أحد من المسلمين ومن قال هذا القول ماذا يجب عليه ومن استحلها بعد وقوع الثلاث بدون نكاح ثان ماذا يجب عليه وما صفة النكاح الثاني الذي يبيحها للأول أفتونا مأجورين مثابين يرحمكم الله
فأجاب رضي الله عنه الحمد لله رب العالمين إذا وقع بالمرأة الطلاق الثلاث فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ولم يقل أحد من علماء المسلمين إنها تباح بعد وقوع الطلاق الثلاث بدون زوج ثان ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد كذب ومن قال ذلك أو استحل وطأها بعد وقوع الطلاق الثلاث بدون نكاح زوج ثان فإن كان جاهلا يعذر بجهله مثل أن يكون نشأ بمكان قوم لا يعرفون فيه شرائع الإسلام أو يكون حديث عهد بالإسلام أو نحو ذلك فإنه يعرف دين الإسلام فإن أصر على القول بأنها تباح بعد وقوع الثلاث بدون نكاح ثان أو على استحلال هذا الفعل فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كأمثاله من
____________________
(32/81)
المرتدين الذين يجحدون وجوب الواجبات وتحريم المحرمات وحل المباحات التي علم أنها من دين الإسلام وثبت ذلك بنقل الأمة المتواتر عن نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام وظهر ذلك بين الخاص والعام كمن يجحد وجوب مباني الإسلام من الشهادتين والصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام أو جحد تحريم الظلم وأنواعه كالربا والميسر أو تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما يدخل في ذلك من تحريم نكاح الأقارب سوى بنات العمومة والخؤولة وتحريم المحرمات بالمصاهرة وهن أمهات النساء وبناتهن وحلائل الآباء والأبناء ونحو ذلك من المحرمات أو حل الخبز واللحم والنكاح واللباس وغير ذلك مما علمت اباحته بالإضطرار من دين الإسلام فهذه المسائل مما لم يتنازع فيها المسلمون لا سنيهم ولا بدعيهم ولكن تنازعوا في مسائل كثيرة من مسائل الطلاق والنكاح وغير ذلك من الأحكام كتنازع الصحابة والفقهاء بعدهم في الحرام هل هو طلاق أو يمين أو غير ذلك وكتنازعهم في الكنايات الظاهرة كالخلية والبرية والبتة هل يقع بها واحدة رجعية أو بائن أو ثلاث أو يفرق بين حال وحال وكتنازعهم في المولي هل يقع به الطلاق عند انقضاء المدة إذا لم يف فيها أم يوقف بعد انقضائها حتى يفيء أو يطلق وكتنازع العلماء في طلاق السكران والمكره وفي الطلاق بالخط وطلاق
____________________
(32/82)
الصبي المميز وطلاق الأب على ابنه وطلاق الحكم الذي هو من أهل الزوج بدون توكيله كما تنازعوا في بذل أجر العوض بدون توكيلها وغير ذلك من المسائل التي يعرفها العلماء وتنازعوا أيضا في مسائل تعليق الطلاق بالشرط ومسائل الحلف بالطلاق والعتاق والظهار والحرام والنذر كقوله إن فعلت كذا فعلي الحج أو صوم شهر أو الصدقة بألف وتنازعوا أيضا في كثير من مسائل الأيمان مطلقا في موجب اليمين وهذا كتنازعهم في تعليق الطلاق بالنكاح هل يقع أو لا يقع أو يفرق بين العموم والخصوص أو بين ما يكون فيه مقصود شرعي وبين أن يقع في نوع ملك أو غير ملك وتنازعوا في الطلاق المعلق بالشرط بعد النكاح على ثلاثة أقوال فقيل يقع مطلقا وقيل لا يقع وقيل يفرق بين الشرط الذي يقصد وقوع الطلاق عند كونه وبين الشرط الذي يقصد عدمه وعدم الطلاق عنده فالأول كقوله إن أعطيتني ألفا فأنت طالق والثاني كقوله إن فعلت كذا فعبيدي أحرار ونسائي طوالق وعلي الحج وأما النذر المعلق بالشرط فاتفقوا على أنه إذا كان مقصوده وجود الشرط كقوله إن شفي الله مريضي أو سلم مالي الغائب فعلي صوم شهر أو الصدقة بمائة أنه يلزمه وتنازعوا فيما إذا لم يكن مقصوده وجود الشرط بل مقصوده عدم الشرط وهو حالف بالنذر كما إذا قال لا أسافر وإن سافرت
____________________
(32/83)
فعلي الصوم أو الحج أو الصدقة أو علي عتق رقبة ونحو ذلك على ثلاثة أقوال فالصحابة وجمهور السلف على أنه يجزيه كفارة يمين وهو مذهب الشافعي وأحمد وهو آخر الروايتين عن أبي حنيفة وقول طائفة من المالكية كابن وهب وبن أبي العمر وغيرهما وهل يتعين ذلك أم يجزيه الوفاء على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وقيل عليه الوفاء كقول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وحكاه بعض المتأخرين قولا للشافعي ولا أصل له في كلامه وقيل لا شيء عليه بحال كقول طائفة من التابعين وهو قول داود وبن حزم وهكذا تنازعوا على هذه الأقوال الثلاثة فيمن حلف بالعناق أو الطلاق أن لا يفعل شيئا كقوله إن فعلت كذا فعبدي حر أو امرأتي طالق هل يقع ذلك إذا حنث أو يجزيه كفارة يمين أو لا شيء عليه على ثلاثة أقوال ومنهم من فرق بين الطلاق والعتاق واتفقوا على أنه إذا قال إن فعلت كذا فعلي إن أطلق امرأتي لا يقع به الطلاق بل ولا يجب عليه إذ لم يكن قربة ولكن هل عليه كفارة يمين على قولين أحدهما يجب عليه كفارة يمين وهو مذهب أحمد في المشهور عنه ومذهب أبي حنيفة فيما حكاه بن المنذر والخطابي وبن عبدالبر وغيرهم وهو الذي وصل إلينا في كتب أصحابه وحكى القاضي أبو يعلى وغيره وعنه أنه لا كفارة فيه والثاني لا شيء عليه وهو مذهب الشافعي
____________________
(32/84)
فصل وأما إذا قال إن فعلته فعلي إذا عتق عبدي فاتفقوا على أنه لا يقع العتق بمجرد الفعل لكن يجب عليه العتق وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وقيل لا يجب عليه شيء وهو قول طائفة من التابعين وقول داود وبن حزم وقيل عليه كفارة يمين وهو قول الصحابة وجمهور التابعين ومذهب الشافعي وأحمد وهو مخير بين التكفير والأعتاق على المشهور عنهما وقيل يجب التكفير عينا ولم ينقل عن الصحابة شيء في الحلف بالطلاق فيما بلغنا بعد كثرة البحث وتتبع كتب المتقدمين والمتأخرين بل المنقول عنهم أما ضعيف بل كذب من جهة النقل وإما أن لا يكون دليلا على الحلف بالطلاق فإن الناس لم يكونوا يحلفون بالطلاق على عهدهم ولكن نقل عن طائفة منهم في الحلف بالعتق أن يجزيه كفارة يمين كما إذا قال إن فعلت كذا فعبدي حر وقد نقل عن بعض هؤلاء نقيض هذا القول وإنه يعتق وقد تكلمنا على أسانيد ذلك في غير هذا الموضع ومن قال من الصحابة والتابعين إنه لا يقع العتق فإنه لا يقع الطلاق بطريق الأولى كما صرح بذلك من صرح به من التابعين وبعض العلماء ظن أن الطلاق لا نزاع فيه فاضطره ذلك إلى أن عكس موجب الدليل فقال يقع الطلاق دون العتاق وقد بسط الكلام على هذه المسائل وبين ما فيها من مذاهب الصحابة والتابعين لهم
____________________
(32/85)
بإحسان والأئمة الأربعة وغيرهم من علماء المسلمين وحجة كل قوم في غير هذا الموضع وتنازع العلماء فيما إذا حلف بالله أو الطلاق أو الظهار أو الحرام أو النذر أنه لا يفعل شيئا ففعله ناسيا ليمينه أو جاهلا بأنه المحلوف عليه فهل يحنث كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد واحد القولين للشافعي وإحدى الروايات عن أحمد أو لا يحنث بحال كقول المكيين والقول الآخر للشافعي والرواية الثانية عن أحمد أو يفرق بين اليمين بالطلاق والعتاق وغيرهما كالرواية الثالثة عن أحمد وهو اختيار القاضي والخرقي وغيرهما من أصحاب أحمد والقفال من أصحاب الشافعي وكذلك لو اعتقد أن إمرأته بانت بفعل المحلوف عليه ثم تبين له أنها لم تبن فقيه قولان وكذلك إذا حلف بالطلاق أو غيره على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافة ففيه ثلاثة أقوال كما ذكر ولو حلف على شيء يشك فيه ثم تبين صدقه ففيه قولان عند مالك يقع وعند الأكثرين لا يقع وهو المشهور من مذهب أحمد والمنصوص عنه في رواية حرب التوقف في المسألة فيخرج على وجهين كما إذا حلف ليفعلن اليوم كذا ومضى اليوم أو شك في فعله هل يحنث على وجهين واتفقوا على أنه يرجع في اليمين إلى نية الحالف إذا احتملها لفظه ولم يخالف الظاهر أو خالفه وكان مظلوما وتنازعوا هل يرجع إلى سبب
____________________
(32/86)
اليمين وسياقها وما هيجها على قولين فمذهب المدنيين كمالك وأحمد وغيره إنه يرجع إلى ذلك والمعروف في مذهب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يرجع لكن في مسائلهما ما يقتضي خلاف ذلك وأن كان السبب أعم من اليمين عمل به عند من يرى السبب وإن كان خاصا فهل يقصر اليمين عليه فيه قولان في مذهب أحمد وغيره وإن حلف على معين يعتقده على صفة فتبين بخلافها ففيه أيضا قولان وكذلك لو طلق إمرأته بصفة ثم تبين بخلافها مثل أن يقول أنت طالق إن دخلت الدار بالفتح أي لأجل دخولك الدار ولم تكن دخلت فهل يقع به الطلاق على قولين في مذهب أحمد وغيره وكذلك إذا قال أنت طالق لأنك فعلت كذا ونحو ذلك ولم تكن فعلته ولو قيل له امرأتك فعلت كذا فقال هي طالق ثم تبين إنهم كذبوا عليها ففيه قولان وتنازعوا في الطلاق المحرم كالطلاق في الحيض وكجمع الثلاث عند الجمهور الذين يقولون إنه حرام ولكن الأربعة وجمهور العلماء يقولون كونه حراما لا يمنع وقوعه كما أن الظهار محرم وإذا ظاهر ثبت حكم الظهار وكذلك النذر قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه نهى عنه ومع هذا يجب عليه الوفاء به بالنص والإجماع والذين قالوا لا يقع اعتقدوا أن كل ما نهى الله عنه فإنه يقع فاسدا لا يترتب عليه حكم والجمهور فرقوا بين أن يكون الحكم يعمه لا يناسب فعل
____________________
(32/87)
المحرم كحل الأموال والإبضاع وإجزاء العبادات وبين أن يكون عبادة تناسب فعل المحرم كالإيجاب والتحريم فإن المنهي عن شيء إذا فعله قد تلزمه بفعله كفارة أو حد أو غير ذلك من العقوبات فكذلك قد ينهى عن فعل شيء فإذا فعله لزمه به واجبات ومحرمات ولكن لا ينهى عن شيء إذا فعله أحلت له بسبب فعل المحرم الطيبات فبرئت ذمته من الواجبات فإن هذا من باب الإكرام والإحسان والمحرمات لا تكون سببا محضا للإكرام والإحسان بل هي سبب للعقوبات إذا لم يتقوا الله تبارك وتعالى كما قال تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وقال تعالى { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } إلى قوله تبارك وتعالى { ذلك جزيناهم ببغيهم } وكذلك ما ذكره تعالى في قصة البقرة من كثرة سؤالهم وتوقفهم عن امتثال أمره كان سببا لزيادة الايجاب ومنه قوله تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } وحديث النبي إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ولما سألوه عن الحج أفي كل عام قال ( لا ولو قلت نعم لوجب ولو وجب لم تطيقوه ذروني ما تركتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ومن هنا قال طائفة من العلماء إن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق فإن الله يبغض الطلاق وإنما يأمر به الشياطين والسحرة كما قال تعالى في السحر { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } وفي
____________________
(32/88)
الصحيح عن النبي إنه قال ( إن الشيطان ينصب عرشه على البحر ويبعث جنوده فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة فيأتي أحدهم فيقول ما زلت به حتى شرب الخمر فيقول الساعة يتوب ويأتي الآخر فيقول ما زلت به حتى فرقت بينه وبين إمرأته فيقبله بين عينيه ويقول أنت أنت ) وقد روى أهل التفسير والحديث والفقه أنهم كانوا في أول الإسلام يطلقون بغير عدد يطلق الرجل المرأة ثم يدعها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ضرارا فقصرهم الله على الطلقات الثلاث لأن الثلاث أول حد الكثرة وآخر حد القلة ولولا ان الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه كما دلت عليه الآثار والأصول ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعبادة لحاجتهم إليه أحيانا وحرمه في مواضع باتفاق العلماء كما إذا طلقها في الحيض ولم تكن سألته الطلاق فإن هذا الطلاق حرام باتفاق العلماء والله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل الشرائع وهي الحنيفية السمحة كما قال ( أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ) فأباح لعباده المؤمنين الوطء بالنكاح والوطء بملك اليمين واليهود والنصارى لا يطئون إلا بالنكاح لا يطئون بملك اليمين وأصل ابتداء الرق إنما يقع من السبي والغنائم لم تحل إلا لأمة محمد كما ثبت في الحديث الصحيح إنه قال ( فضلنا على الأنبياء بخمس جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة
____________________
(32/89)
وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وأعطيت الشفاعة فأباح سبحانه للمؤمنين أن ينكحوا وأن يطلقوا وإن يتزوجوا المرأة المطلقة بعد أن تتزوج بغير زوجها والنصارى يحرمون النكاح على بعضهم ومن أباحوا له النكاح لم يبيحوا له الطلاق واليهود يبيحون الطلاق لكن إذا تزوجت المطلقة بغير زوجها حرمت عليه عندهم والنصارى لإطلاق عندهم واليهود لا مراجعة بعد أن تتزوج غيره عندهم والله تعالى أباح للمؤمنين هذا وهذا ولو أبيح الطلاق بغير عدد كما كان في أول الأمر لكان الناس يطلقون دائما إذا لم يكن أمر يزجرهم عن الطلاق وفي ذلك من الضرر والفساد ما أوجب حرمة ذلك ولم يكن فساد الطلاق لمجرد حق المرأة فقط كالطلاق في الحيض حتى يباح دائما بسؤالها بل نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة منهي عنه باتفاق العلماء إما نهي تحريم أو نهي تنزيه وما كان مباحا للحاجة قدر بقدر الحاجة والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة كما قال النبي ( لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) وكما قال ( لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج
____________________
(32/90)
فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا ) وكما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وهذه الأحاديث في الصحيح وهذا مما احتج به من لا يرى وقوع الطلاق إلا من القصد ولا يرى وقوع طلاق المكره كما لا يكفر من تكلم بالكفر مكرها بالنص والإجماع ولو تكلم بالكفر مستهزئا بآيات الله وبالله ورسوله كفر كذلك من تكلم بالطلاق هازلا وقع به ولو حلف بالكفر فقال إن فعل كذا فهو بريء من الله ورسوله أو فهو يهودي أو نصراني لم يكفر بفعل المحلوف عليه وإن كان هذا حكما معلقا بشرط في اللفظ لأن مقصوده الحلف به بغضاله ونفورا عنه لا إرادة له بخلاف من قال إن أعطيتموني ألفا كفرت فإن هذا يكفر وهكذا يقول من يفرق بين الحلف بالطلاق وتعليقه بشرط لا يقصد كونه وبين الطلاق المقصود عند وقوع الشرط ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن الخلع فسخ للنكاح وليس هو من الطلقات الثلاث كقول بن عباس والشافعي وأحمد في أحد قوليهما لأن المرأة افتدت نفسها من الزوج كافتدآء الأسير وليس هو من الطلاق المكروه في الأصل ولهذا يباح في الحيض بخلاف الطلاق وأما إذا عدل هو عن الخلع وطلقها إحدى الثلات بعوض فالتفريط منه وذهب طائفة من السلف كعثمان بن عفان وغيره ورووا في ذلك حديثا مرفوعا وبعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد جعلوه مع الأجنبي فسخا كالا قاله والصواب أنه مع الأجنبي كما هو مع المرأة فإنه إذا كان افتداء المرأة كما يفدي
____________________
(32/91)
الأسير فقد يفتدي الأسير بمال منه ومال من غيره وكذلك العبد يعتق بمال يبذله هو وما يبذله الأجنبي وكذلك الصلح يصح مع المدعي عليه ومع أجنبي فإن هذا جميعه من باب الإسقاط والإزالة وإذ كان الخلع رفعا للنكاح وليس هو من الطلاق الثلاث فلا فرق بين أن يكون المال المبذول من المرأة أو من اجنبي وتشبيه فسخ النكاح بفسخ البيع فيه نظر فإن البيع لا يزول إلا برضى المتابعين لا يستقل أحدهما بإزالته بخلاف النكاح فإن المرأة ليس إليها إزالته بل الزوج يستقل بذلك لكن افتدؤها نفسها منه كافتداء الأجنبي لها ومسائل الطلاق وما فيها من الاجماع والنزاع مبسوط في غير هذا الموضوع والمقصود هنا إذا وقع به الثلاث حرمت عليه المرأة بإجماع المسلمين كما دل عليه الكتاب والسنة ولا يباح إلا بنكاح ثان وبوطئه لها عند عامة السلف والخلف فإن النكاح المأمور به يؤمر فيه بالعقد وبالوطء بخلاف المنهي عنه فإنه ينهى فيه عن كل من العقد والوطء ولهذا كان النكاح الواجب والمستحب يؤمر فيه بالوطء من العقد والنكاح المحرم يحرم فيه مجرد العقد وقد ثبت في الصحيح أن النبي قال لإمرأة رفاعة القرظي لما أرادت أن ترجع إلى رفاعة بدون الوطء ( لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) وليس في هذا خلاف إلا عن سعيد بن المسيب فإنه مع أنه أعلم التابعين لم تبلغه السنة في هذه المسألة والنكاح المبيح هو النكاح المعروف عند المسلمين وهو النكاح الذي جعل الله فيه بين
____________________
(32/92)
الزوجين مودة ورحمة ولهذا قال النبي فيه ( حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) فأما نكاح المحلل فإنه لا يحلها للأول عند جماهير السلف وقد صح عن النبي أنه قال ( لعن الله المحلل والمحلل له ) وقال عمر بن الخطاب لا أوتي بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما وكذلك قال عثمان وعلي وبن عباس وبن عمر وغيرهم إنه لا يبيحها إلا بنكاح رغبة لا نكاح محلل ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه رخص في نكاح التحليل ولكن تنازعوا في نكاح المتعة فإن نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من ثلاثة أوجه أحدها أنه كان مباحا في أول الإسلام بخلاف التحليل الثاني أنه رخص فيه بن عباس وطائفة من السلف بخلاف التحليل فإنه لم يرخص فيه أحد من الصحابة الثالث أن المتمتع له رغبة في المرأة وللمراة رغبة فيه إلى أجل بخلاف المحلل فإن المرأة ليس لها رغبة فيه بحال وهو ليس له رغبة فيها بل في أخذ ما يعطاه وإن كان له رغبة فهي من رغبته في الوطئ لا في اتخاذها زوجة من جنس رغبة الزاني ولهذا قال بن عمر لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذ الله علم من قلبه أنه يريد أن يحلها له ولهذا تعدم فيه خصائص النكاح فإن النكاح المعروف كما قال تعالى { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة }
____________________
(32/93)
والتحليل فيه البغضة والنفرة ولهذا لا يظهره أصحابه بل يكتمونه كما يكتم السفاح ومن شعائر النكاح إعلانه كما قال النبي ( أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف ولهذا يكفي في إعلانه الشهادة عليه عند طائفة من العلماء وطائفة أخرى توجب الإشهاد والإعلان فإذا تواصوا بكتمانه بطل ومن ذلك الوليمة عليه والنثار والطيب والشراب ونحو ذلك مما جرت به عادات الناس في النكاح وأما التحليل فإنه لا يفعل فيه شيء من هذا لأن أهله لم يريدوا أن يكون المحلل زوج المرأة ولا أن تكون المرأة امرأته وإنما المقصود استعارته لينزو عليها كما جاء في الحديث المرفوع تسميته بالتيس المستعار ولهذا شبه بحمار العشريين الذي يكترى للتقفيز على الإناث ولهذا لا تبقى المرأة مع زوجها بعد التحليل كما كانت قبله بل يحصل بينهما نوع من النفرة ولهذا لما لم يكن في التحليل مقصود صحيح يأمر به الشارع صار الشيطان يشبه به أشياء مخالفة للإجماع فصار طائفة من عامة الناس يظنون ان ولادتها لذكر يحلها أو أن وطئها بالرجل على قدمها أو رأسها أو فوق سقف أو سلم هي تحته يحلها ومنهم من يظن إنهما إذا إلتقيا بعرفات كما إلتقي آدم وامرأته أحلها ذلك ومنهن من إذا تزوجت بالمحلل به لم تمكنه من نفسها بل تمكنه من أمة لها ومنهن من تعطيه شيئا وتوصيه بأن يقر بوطئها ومنهم من يحلل الأم وبنتها إلى أمور أخر قد بسطت في غير هذا الموضع بيناها
____________________
(32/94)
في كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل ولا ريب أن المنسوخ من الشريعة وما تنازع فيه السلف خير من مثل هذا فإنه لو قدر أن الشريعة تأتي بأن الطلاق لا عدد له لكان هذا ممكنا وإن كان هذا منسوخا وأما أن يقال إن من طلق امرأته لا تحل له حتى يستكرى من يطأها فهذا لا تأتي به شريعة وكثير من أهل التحليل يفعلون أشياء محرمة باتفاق المسلمين فإن المرأة المعتدة لا يحل لغير زوجها أن يصرح بخطبتها سواء كانت معتدة من عدة طلاق أو عدة وفاة قال تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } فنهى الله تعالى عن المواعدة سرا وعن عزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله وإذا كان هذا في عدة الموت فهو في عدة الطلاق أشد باتفاق المسلمين فإن المطلقة قد ترجع إلى زوجها بخلاف من مات عنها وأما التعريض فإنه يجوز في عدة المتوفى عنها ولا يجوز في عدة الرجعية وفيما سواهما فهذه المطلقة ثلاثا لا يحل لأحد أن يواعدها سرا ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله باتفاق المسلمين وإذا تزوجت بزوج ثان وطلقها ثلاثا لم يحل للأول أن يواعدها سرا ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله باتفاق المسلمين وذلك أشد وأشد
____________________
(32/95)
وإذا كانت مع زوجها لم يحل لأحد أن يخطبها لا تصريحا ولا تعريضا باتفاق المسلمين فإذا كانت لم تتزوج بعد لم يحل للمطلق ثلاثا أن يخطبها لاتصريحا ولا تعريضا باتفاق المسلمين وخطبتها في هذه الحال أعظم من خطبتها بعد أن تتزوج بالثاني وهؤلاء أهل التحليل قد يواعد أحدهم المطلقة ثلاثا ويعزمان قبل أن تنقضي عدتها وقبل نكاح الثاني على عقدة النكاح بعد النكاح الثاني نكاح المحلل ويعطيها ما تنفقه على شهود عقد التحليل وللمحلل وما ينفقه عليها في عدة التحليل والزوج المحلل لا يعطها مهرا ولا نفقة عدة ولا نفقة طلاق فإذا كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز في هذه وقت نكاحها بالثاني أن يخطبها الأول لا تصريحا ولا تعريضا فكيف إذا خطبها قبل أن تتزوج بالثاني أو إذا كان بعد أن يطلقها الثاني لا يحل للأول أن يواعدها سرا ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله فكيف إذا فعل ذلك من قبل أن يطلق بل قبل أن يتزوج بل قبل أن تنقضي عدتها منه فهذا كله يحرم باتفاق المسلمين وكثير من أهل التحليل يفعله وليس في التحليل صورة اتفق المسلمون على حلها ولا صورة أباحها النص بل من صور التحليل ما أجمع المسلمون على تحريمه ومنها ما تنازع فيه العلماء وأما الصحابة فلم يثبت عن النبي أنه لعن المحلل والمحلل له منهم وهذا وغيره يبين أن من التحليل ما هو شر من نكاح المتعة وغيره
____________________
(32/96)
من الأنكحة التي تنازع فيها السلف وبكل حال فالصحابة أفضل هذه الأمة وبعدهم التابعون كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال ( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) فنكاح تنازع السلف في جوازه أقرب من نكاح أجمع السلف على تحريمه وإذا تنازع فيه الخلف فإن أولئك أعظم علما ودينا وما أجمعوا على تعظيم تحريمه كان أمره أحق مما اتفقوا على تحريمه وإن اشتبه تحريمه على من بعدهم والله تعالى أعلم وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بيتيمة وشهدت أمها ببلوغها فمكثت في صحبته أربع سنين ثم بانت منه بالثلاث ثم شهدت أخواتها ونساء أخر انها ما بلغت إلا بعد دخول الزوج بها بتسعة أيام وشهدت أمها بهذه الصورة والأم ماتت والزوج يريد المراجعة
فأجاب الحمد لله لا يحل للزوج أن يتزوجها إذا طلقها ثلاثا عند جمهور العلماء فإن مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه أن نكاح هذه صحيح وإن كان قبل البلوغ ومذهب مالك وأحمد في المشهور أن الطلاق يقع في النكاح الفاسد المختلف فيه ومثل هذه المسائل يقبح فإنها
____________________
(32/97)
من أهل البغي فإنهم لا يتكلمون في صحة النكاح حين كان يطأها ويستمتع بها حتى إذا طلقت ثلاثا أخذوا يسعون فيما يبطل النكاح حتى لا يقال إن الطلاق وقع وهذا من المضادة لله في أمره فإنه حين كان الوطئ حراما لم يتحر ولم يسأل فلما حرمه الله أخذ يسأل عما يباح به الوطء ومثل هذا يقع في المحرم بإجماع المسلمين وهو فاسق لأن مثل هذه المرأة إما أن يكون نكاحها الأول صحيحا وإما أن لا يكون فإن كان صحيحا فالطلاق الثلاث واقع والوطؤ قبل نكاح زوج غيره حرام وإن كان النكاح الأول باطلا كان الوطوء فيه حراما وهذا الزوج لم يتب من ذلك الوطئ وإنما سأل حين طلق لئلا يقع به الطلاق فكان سؤالهم عما به يحرم الوطؤ الأول لأجل استحلال الوطئ الثاني وهذه المضادة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد فإن كان هذا الرجل طلقها ثلاثا فليتق الله وليجتنبها وليحفظ حدود الله فإن { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } والله أعلم وسئل عن رجل تزوج امرأة بولاية أجنبي ووليها في مسافة دون القصر معتقدا أن الأجنبي حاكم ودخل بها واستولدها ثم طلقها ثلاثا ثم أراد
____________________
(32/98)
ردها قبل أن تنكح زوجا غيره فهل له ذلك لبطلان النكاح الأول بغير إسقاط الحد ووجوب المهر ويلحق النسب ويحصل به الإحصان
فأجاب لايجب في هذا النكاح حد إذا اعتقد صحته بل يلحق به النسب ويجب فيه المهر ولا يحصل الإحصان بالنكاح الفاسد ويقع الطلاق في النكاح المختلف فيه إذا اعتقد صحته وإذا تبين أن المزوج ليس له ولاية بحال ففارقها الزوج حين علم فطلقها ثلاثا لم يقع طلاق والحال هذه وله أن يتزوجها من غير أن تنكح زوجا غيره وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن تزوج امرأة من سنتين ثم طلقها ثلاثا وكان والي نكاحها فاسقا فهل يصح عقد الفاسق بحيث إذا طلقت ثلاثا لاتحل له إلا بعد نكاح غيره أو لا يصح عقده فله أن يتزوجها بعقد جديد وولي مرشد من غير أن ينكحها غيره
فأجاب الحمد لله إن كان قد طلقها ثلاثا فقد وقع به الطلاق وليس لأحد بعد الطلاق الثلاث أن ينظر في الولي هل كان عدلا أو فاسقا ليجعل فسق الولي ذريعة إلى عدم وقوع الطلاق فإن أكثر
____________________
(32/99)
الفقهاء يصححون ولاية الفاسق وأكثرهم يوقعون الطلاق في مثل هذا النكاح بل وفي غيره من الأنكحة الفاسدة فإذا فرع على أن النكاح فاسد وأن الطلاق لا يقع فيه فإنما يجوز أن يستحل الحلال من يحرم الحرام وليس لأحد أن يعتقد الشيء حلالا حراما وهذا الزوج كان وطأها قبل الطلاق ولو ماتت لورثها فهو عامل على صحة النكاح فكيف يعمل بعد الطلاق على فساده فيكون النكاح صحيحا إذا كان له غرض في صحته فاسدا إذ كان له غرض في فساده وهذا القول يخالف إجماع المسلمين فإنهم متفقون على أن من اعتقد حل الشيء كان عليه أن يعتقد ذلك سواء وافق غرضه أو خالفه ومن اعتقد تحريمه كان عليه أن يعتقد ذلك في الحالين وهؤلاء المطلقون لا يفكرون في فساد النكاح بفسق الولى إلا عند الطلاق الثلاث لا عند الإستمتاع والتوارث فيكونون في وقت يقلدون من يفسده وفي وقت يقلدون من يصححه بحسب الغرض والهوى ومثل هذا لا يجوز باتفاق الأمة ونظير هذا أن يعتقد الرجل ثبوت شفعة الجوار إذا كان طالبا لها ويعتقد عدم الثبوت إذا كان مشتريا فإن هذا لا يجوز بالإجماع وهذا أمر مبني على صحة ولاية الفاسق في حال نكاحه وبني على فساد ولايته
____________________
(32/100)
في حال طلاقه فلم يجز ذلك بإجماع المسلمين ولو قال المستفتي المعين أنالم أكن أعرف ذلك وأنا من اليوم ألتزم ذلك لم يكن من ذلك لأن ذلك يفتح باب التلاعب بالدين وفتح للذريعة إلى أن يكون التحليل والتحريم بحسب الأهواء والله أعلم وسئل رحمه الله عن رجل تزوج بامرأة وليها فاسق يأكل الحرام ويشرب الخمر والشهود أيضا كذلك وقد وقع به الطلاق الثلاث فهل له بذلك الرخصة في رجعتها
فأجاب إذا طلقها ثلاثا وقع به الطلاق ومن أخذ ينظر بعد الطلاق في صفة العقد ولم ينظر في صفته قبل ذلك فهو من المتعدين لحدود الله فإنه يريد أن يستحل محارم الله قبل الطلاق وبعده والطلاق في النكاح الفاسد المختلف فيه عند مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة والنكاح بولاية الفاسق يصح عند جماهير الأئمة والله أعلم
____________________
(32/101)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج امرأة مصافحة على صداق خمسة دنانير كل سنة نصف دينار وقد دخل عليها وأصابها فهل يصح النكاح أم لا وهل إذا رزق بينهما ولد يرث أم لا وهل عليهما الحد أم لا
فأجاب الحمد لله إذا تزوجها بلا ولي ولا شهود وكتما النكاح فهذا نكاح باطل باتفاق الأئمة بل الذي عليه العلماء أنه ( لانكاح إلا بولي ) ( وأيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل ) وكلا هذين اللفظين مأثور في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال غير واحد من السلف لا نكاح إلا بشاهدين وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك يوجب إعلان النكاح ونكاح السر هو من جنس نكاح البغايا وقد قال الله تعالى { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } فنكاح السر من جنس ذوات الأخدان وقال تعالى { وأنكحوا الأيامى منكم } وقال تعالى { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا }
____________________
(32/102)
فخاطب الرجال بتزويج النساء ولهذا قال من قال من السلف إن المرأة لا تنكح نفسها وإن البغي هي التي تنكح نفسها لكن إن اعتقد هذا نكاحا جائزا كان الوطؤ فيه وطأ شبهة يلحق الولد فيه ويرث أباه وأما العقوبة فإنهما يستحقان العقوبة على مثل هذا العقد وسئل رحمه الله عن رجل تزوج مصافحة وقعدت معه أياما فطلع لها زوج آخر فحمل الزوج والزوجة وزوجها الأول فقال لها تريدين الأول أو الثاني فقالت ما أريد إلا الزوج الثاني فطلقها الأول ورسم للزوجة أن توفي عدته وتم معها الزوج فهل يصح ذلك لها أم لا
فاجاب إذا تزوجت بالثاني قبل أن توفي عدة الأول وقد فارقها الأول إما لفساد نكاحه وإما لتطليقه لها وإما لتفريق الحاكم بينهما فنكاحها فاسد تستحق العقوبة هي وهو ومن زوجها بل عليها أن تتم عدة الأول ثم إن كان الثاني قد وطأها اعتدت له عدة أخرى فإذا انقضت العدتان تزوجت حينئذ بمن شاءت بالأول أو بالثاني أو غيرهما
____________________
(32/103)
وسئل رحمه الله عن أمة متزوجة وسافر زوجها وباعها سيدها وشرط أن لها زوجا فقعدت عند الذي اشتراها أياما فأدركه الموت فاعتقها فتزوجت ولم يعلم أن لها زوجا فلما جاء زوجها الأول من السفر أعطى سيدها الذي باعها الكتاب لزوجها الذي جاء من السفر والكتاب بعقد صحيح شرعي فهل يصح العقد بكتاب الأول أو الثاني
فاجاب إن كان تزوجها نكاحا شرعيا إما على قول أبي حنيفة بصحة نكاح الحر بالأمة وإما على قول مالك والشافعي وأحمد بان يكون عادما للطول خائفا من العنت فنكاحه لا يبطل بعتقها بل هي زوجته بعد العتق لكن عند أبي حنيفة في رواية لها الفسخ فلها أن تفسخ النكاح فإذا قضت عدته تزوجت بغيره ان شاءت وعند مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه لاخيار لها بل هي زوجته ومتى تزوجت قبل أن يفسخ النكاح فنكاحها باطل باتفاق الأئمة وأما إن كان نكاحها الأول فاسدا فإنه يفرق بينهما وتتزوج من شاءت بعد انقضاء العدة
____________________
(32/104)
وسئل رحمه الله عن رجل أقر عند عدول أنه طلق إمرأته من مدة تزيد على العدة الشرعية فهل يجوز لهم تزويجها له الآن
فأجاب الحمد لله أما إن كان المقر فاسقا أو مجهولا لم يقبل قوله في إسقاط العدة التي فيها حق الله وليس هذا اقرارا محضا على نفسه حتى يقبل من الفاسق بل فيه حق لله إذ في العدة حق الله وحق للزوج وأما إذا كان عدلا غير متهم مثل أن يكون غائبا فلما حضر أخبرها أنه طلق من مدة كذا وكذا فهل تعتد من حين بلغها الخبر إذا لم تقم بذلك بينة أو من حين الطلاق كما لو قامت به بينة فيه خلاف مشهور عن أحمد وغيره والمشهور عنه هو الثاني والله أعلم وسئل عن رجل تزوج بإمرأة ولم يدخل بها ولا أصابها فولدت بعد شهرين فهل يصح النكاح وهل يلزمه الصداق أم لا
____________________
(32/105)
فاجاب الحمد لله لا يلحق به الولد باتفاق المسلمين وكذلك لا يستقر عليه المهر باتفاق المسلمين لكن للعلماء في العقد قولان أصحهما ان العقد باطل كمذهب مالك وأحمد وغيرهما وحينئذ فيجب التفريق بينهما ولامهر عليه ولا نصف مهر ولا متعة كسائر العقود الفاسدة إذا حصلت الفرقة فيها قبل الدخول لكن ينبغي ان يفرق بينهما حاكم يرى فساد العقد لقطع النزاع ( والقول الثاني ) ان العقد صحيح ثم لا يحل له الوطؤ حى تضع كقول أبي حنيفة وقيل يجوز له الوطؤ قبل الوضع كقول الشافعي فعلى هذين القولين إذا طلقها قبل الدخول فعليه نصف المهر لكن هذا النزاع إذا كانت حاملا من وطىء شبهة أو سيد أو زوج فإن النكاح باطل باتفاق المسلمين ولا مهر عليه إذا فارق قبل الدخول وأما الحامل من الزنى فلا كلام في صحة نكاحها والنزاع فيما إذا كان نكحها طائعا وأما إذا نكحها مكرها فالنكاح باطل في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وسئل رحمه الله عن رجل ركاض يسير في البلاد في كل مدينة شهرا او شهرين ويعزل عنها ويخاف ان يقع في المعصية فهل له ان يتزوج في مدة إقامته
____________________
(32/106)
في تلك البلدة وإذا سافر طلقها وأعطاها حقها أو لا وهل يصح النكاح أم لا
فأجاب له أن يتزوج لكن ينكح نكاحا مطلقا لا يشترط فيه توقيتا بحيث يكون إن شاء مسكها وإن شاء طلقها وإن نوى طلاقها حتما عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك وفي صحة النكاح نزاع ولو نوى أنه إذا سافر واعجبته أمسكها وإلا طلقها جاز ذلك فأما أن يشترط التوقيت فهذا نكاح المتعة الذي اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريمه وإن كان طائفة يرخصون فيه إما مطلقا وإما للمضطر كما قد كان ذلك في صدر الإسلام فالصواب إن ذلك منسوخ كما ثبت في الصحيح أن النبي بعد أن رخص لهم في المتعة عام الفتح قال ( إن الله قد حرم المتعة إلى يوم القيامة ) والقرآن قد حرم أن يطأ الرجل إلا زوجة أو مملوكة بقوله { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } وهذه المستمتع بها ليست من الأزواج ولا ما ملكت اليمين فإن الله قد جعل للأزواج أحكاما من الميراث والإعتداد بعد الوفاة بأربعة أشهر وعشر وعدة الطلاق ثلاثة قروء ونحو ذلك من الأحكام التي لا تثبت في حق المستمتع بها فلو كانت
____________________
(32/107)
زوجة لثبت في حقها هذه الأحكام ولهذا قال من قال من السلف إن هذه الأحكام نسخت المتعة وبسط هذا طويل وليس هذا موضعه وإذا اشترط الأجل قبل العقد فهو كالشرط المقارن في أصح قولي العلماء وكذلك في نكاح المحلل وأما إذا نوى الزوج الأجل ولم يظهره للمرأة فهذا فيه نزاع يرخص فيه أبو حنيفة والشافعي ويكرهه مالك وأحمد وغيرهما كما أنه لو نوى التحليل كان ذلك مما اتفق الصحابة على النهي عنه وجعلوه من نكاح المحلل لكن نكاح المحلل شر من نكاح المتعة فإن نكاح المحلل لم يبح قط إذ ليس مقصود المحلل أن ينكح وإنما مقصوده أن يعيدها إلى المطلق قبله فهو يثبت العقد ليزيله وهذا لا يكون مشروعا بحال بخلاف المستمتع فإن له غرضا في الاستمتاع لكن التأجيل يخل بمقصود النكاح من المودة والرحمة والسكن ويجعل الزوجة بمنزلة المستأجرة فلهذا كانت النية في نكاح المتعة أخف من النية في نكاح المحلل وهو يتردد بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه وأما العزل فقد حرمه طائفة من العلماء لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز بإذن المرأة والله أعلم
____________________
(32/108)
وسئل رحمه الله تعالى عمن قال إن المرأة المطلقة إذا وطئها الرجل في الدبر تحل لزوجها هل هو صحيح أم لا
فأجاب هذا قول باطل مخالف لأئمة المسلمين المشهورين وغيرهم من أئمة المسلمين فإن النبي قال للمطلقة ثلاثا ( لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) وهذا نص في أنه لابد من العسيلة وهذا لا يكون بالدبر ولايعرف في هذا خلاف وأما ما يذكر عن بعض المالكية وهم يطعنون في أن يكون هذا قولا وما يذكر عن سعيد بن المسيب من عدم اشتراط الوطء فذاك لم يذكر فيه وطؤ الدبر وهو قول شاذ صحت السنة بخلافه وانعقد الإجماع قبله وبعده وقال الشيخ رحمه الله نكاح الزانية حرام حتى تتوب سواء كان زنى بها هو أو غيره هذا هو الصواب بلا ريب وهو مذهب طائفة من السلف والخلف منهم
____________________
(32/109)
أحمد بن حنبل وغيره وذهب كثير من السلف والخلف إلى جوازه وهو قول الثلاثة لكن مالك يشترط الاستبراء وأبو حنيفة يجوز العقد قبل الاستبراء إذا كانت حاملا لكن إذا كانت حاملا لا يجوز وطأها حتى تضع والشافعي يبيح العقد والوطء مطلقا لأن ماء الزاني غير محترم وحكمه لا يلحقه نسبه هذا مأخذه وأبو حنيفة يفرق بين الحامل وغير الحامل فإن الحامل إذا وطئها استلحق ولدا ليس منه قطعا بخلاف غير الحامل ومالك وأحمد يشترطان الاستبراء وهو الصواب لكن مالك وأحمد في رواية يشترطان الاستبراء بحيضة والرواية الأخرى عن أحمد هي التي عليها كثير من أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأتباعه أنه لابد من ثلاث حيض والصحيح أنه لا يجب إلا الاستبراء فقط فإن هذه ليست زوجة يجب عليها عدة وليست أعظم من المستبرأة التي يلحق ولدها سيدها وتلك لا يجب عليها إلا الاستبراء فهذه أولى وإن قدر أنها حرة كالتي أعتقت بعد وطء سيدها وأريد تزويجها إما من المعتق وإما من غيره فإن هذه عليها استبراء عند الجمهور ولا عدة عليها وهذه الزانية ليست كالموطوءة بشبهة التي يلحق ولدها بالواطئ مع أن في إيجاب العدة على تلك نزاعا وقد ثبت بدلالة الكتاب وصريح السنة وأقوال الصحابة إن المختلعة ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة لا عدة كعدة المطلقة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقول عثمان بن عفان وبن عباس وبن عمر في آخر قوليه وذكر مكي أنه إجماع الصحابة وهو قول قبيصة بن ذؤيب
____________________
(32/110)
وإسحاق بن راهويه وبن المنذر وغيرهم من فقهاء الحديث وهذا هو الصحيح كما قد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر فإذا كانت المختلعة لكونها ليست مطلقة ليس عليها عدة المطلقة بل الإستبراء ويسمى الإستبراء عدة فالموطوءة بشبهة أولى والزانية أولى وأيضا فالمهاجرة من دار الكفر كالممتحنة التي أنزل الله فيها { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } الآية قد ذكرنا في غير هذا الموضع الحديث المأثور فيها وأن ذلك كان يكون بعد إستبرائها بحيضة مع أنها كانت مزوجة لكن حصلت الفرقة بإسلامها واختيارها فراقه لا بطلاق منه وكذلك قوله { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } فكانوا إذا سبوا المرأة أبيحت بعد الإستبراء والمسبية ليس عليها إلا الإستبراء بالسنة واتفاق الناس وقد يسمى ذلك عدة وفي السنن في حديث بريرة لما أعتقت ( أن النبي أمر أن تعتد ) فلهذا قال من قال من أهل الظاهر كابن حزم إن من ليست بمطلقة تستبرأ بحيضة إلا هذه وهذا ضعيف فإن لفظ ( تعتد ) في كلامهم يراد به الإستبراء كما ذكرنا سو هذه وقد روى بن ماجه عن عائشة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد بثلاث حيض ) فقال كذا لكن هذا حديث معلول
____________________
(32/111)
أما أولا فإن عائشة قد ثبت عنها من غير وجه أن العدة عندها ثلاثة أطهار وأنها إذا طعنت في الحيضة الثالثة حلت فكيف تروي عن النبي أنه أمرها أن تعتد بثلاث حيض والنزاع بين المسلمين من عهد الصحابة إلى اليوم في العدة هل هي ثلاث حيض أو ثلاث أطهار وما سمعنا أحدا من أهل العلم احتج بهذا الحديث على أنها ثلاث حيض ولو كان لهذا أصل عن عائشة لم يخف ذلك على أهل العلم قاطبة ثم هذه سنة عظيمة تتوافر الهمم والدواعي على معرفتها لأن فيها أمرين عظيمين أحدهما أن المعتقة تحت عبد تعتد بثلاث حيض والثاني أن العدة ثلاث حيض وأيضا فلو ثبت ذلك كان يحتج به من يرى أن المعتقة إذا اختارت نفسها كان ذلك طلقة بائنة كقول مالك وغيره وعلى هذا فالعدة لا تكون إلا من طلاق لكن هذا أيضا قول ضعيف والقرآن والسنة والإعتبار يدل على أن الطلاق لا يكون إلا رجعيا وأن كل فرقة مباينة فليست من الطلقات الثلاث حتى الخلع كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع والمقصود هنا الكلام في نكاح الزانية وفيه مسئلتان إحداهما في إستبرائها وهو عدتها وقد تقدم قول من قال لا حرمة لماء الزاني يقال له الإستبراء لم يكن لحرمة ماء الأول بل لحرمة ماء الثاني فإن الإنسان ليس له أن يستلحق ولدا ليس منه وكذلك إذا لم يستبرئها وكانت قد علقت من الزاني وأيضا ففي استلحاق الزاني ولده إذا لم تكن المرأة
____________________
(32/112)
فراشا قولان لأهل العلم والنبي صلى الله عليه وسلم قال ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) فجعل الولد للفراش دون العاهر فإذا لم تكن المرأة فراشا لم يتناوله الحديث وعمر الحق أولادا ولدوا في الجاهلية بآبائهم وليس هذا موضع بسط هذه المسألة والثانية أنها لا تحل حتى تتوب وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإعتبار والمشهور في ذلك آية النور قوله تعالى { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } وفي السنن حديث أبي مرثد الغنوى في عناق والذين لم يعملوا بهذه الآية ذكروا لها تأويلا ونسخا أما التأويل فقالوا المراد بالنكاح الوطء وهذا مما يظهر فساده بأدنى تأمل أما أولا فليس في القرآن لفظ نكاح إلا ولابد أن يراد به العقد وإن دخل فيه الوطء أيضا فأما أن يراد به مجرد الوطئ فهذا لا يوجد في كتاب الله قط وثانيها إن سبب نزول الآية إنما هو استفتاء النبي في التزوج بزانية فكيف يكون سبب النزول خارجا من اللفظ الثالث إن قول القائل الزاني لا يطأ إلا زانية أو الزانية لا يطؤها إلا زان كقوله الآكل لا يأكل إلا مأكولا والمأكول لا يأكله إلا
____________________
(32/113)
آكل والزوج لا يتزوج إلا بزوجة والزوجة لا يتزوجها إلا زوج وهذا كلام ينزه عنه كلام الله الرابع إن الزاني قد يستكره إمرأة فيطؤها فكون زانيا ولا تكون زانية وكذلك المرأة قد تزني بنائم ومكره على أحد القولين ولا يكون زانيا الخامس إن تحريم الزنى قد علمه المسلمون بآيات نزلت بمكة وتحريمه أشهر من أن تنزل هذه الآية بتحريمه السادس قال { لا ينكحها إلا زان أو مشرك } فلو أريد الوطء لم يكن حاجة إلى ذكر المشرك فإنه زان وكذلك المشركة إذا زنى بها رجل فهي زانية فلا حاجة إلى التقسيم السابع أنه قد قال قبل ذلك { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } فأي حاجة إلى أن يذكر تحريم الزنى بعد ذلك وأما النسخ فقال سعيد بن المسيب وطائفة نسخها قوله { وأنكحوا الأيامى منكم } ولما علم أهل هذا القول أن دعوى النسخ بهذه الآية ضعيف جدا ولم يجدوا ما ينسخها فاعتقدوا أنه لم يقل بها أحد قالوا هي منسوخة بالإجماع كما زعم ذلك أبو علي الجبائي وغيره أما
____________________
(32/114)
على قول من يرى من هؤلاء أن الإجماع ينسخ النصوص كما يذكر ذلك عن عيسى بن أبان وغيره وهو قول في غاية الفساد مضمونة أن الأمة يجوز لها تبديل دينها بعد نبيها وأن ذلك جائز لهم كما تقول النصارى أبيح لعلمائهم أن ينسخوا من شريعة المسيح ما يرونه وليس هذا من أقوال المسلمين وممن يظن الإجماع من يقول الإجماع دل على نص ناسخ لم يبلغنا ولا حديث إجماع في خلاف هذه الآية وكل من عارض نصا بإجماع وأدعى نسخه من غير نص يعارض ذلك النص فإنه مخطئ في ذلك كما قد بسط الكلام على هذا في موضع آخر وبين أن النصوص لم ينسخ منها شيء إلا بنص باق محفوظ عند الأمة وعلمها بالناسخ الذي العمل به اهم عندها من علمها بالمنسوخ الذي لا يجوز العمل به وحفظ الله النصوص الناسخة أولى من حفظه المنسوخة وقول من قال هي منسوخة بقوله { وأنكحوا الأيامى منكم } في غاية الضعف فإن كونها زانية وصف عارض لها يوجب تحريما عارضا مثل كونها محرمة ومعتدة ومنكوحة للغير ونحو ذلك مما يوجب التحريم إلى غاية ولو قدر أنها محرمة على التأييد لكانت كالوثنية ومعلوم أن هذه الآية لم تتعرض للصفات التي بها تحرم المرأة مطلقا أو مؤقتا وإنما أمر بإنكاح الأيامى من حيث الجملة وهو أمر بإنكاحهن بالشروط التي بينها وكما أنها لا تنكح في العدة وإلا حرام لا تنكح حتى تتوب
____________________
(32/115)
وقد أحتجوا بالحديث الذي فيه ( إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال طلقها فقال إني أحبها قال فاستمتع بها ) الحديث رواه النسائي وقد ضعفه أحمد وغيره فلا تقوم به حجة في معارضة الكتاب والسنة ولو صح لم يكن صريحا فإن من الناس من يؤول اللامس بطالب المال لكنه ضعيف لكن لفظ اللامس قد يراد به من مسها بيده وإن لم يطأها فإن من النساء من يكون فيها تبرج وإذا نظر إليها رجل أو وضع يده عليها لم تنفر عنه ولا تمكنه من وطئها ومثل هذا نكاحها مكروه ولهذا أمره بفراقها ولم يوجب ذلك عليه لما ذكر أنه يحبها فإن هذه لم تزن ولكنها مذنبة ببعض المقدمات ولهذا قال لا ترد يد لامس فجعل اللمس باليد فقط ولفظ اللمس والملامسة إذا عني بهما الجماع لا يخص باليد بل إذا قرن باليد فهو كقوله تعالى { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم } وأيضا فالتي تزني بعد النكاح ليست كالتي تتزوج وهي زانية فإن دوام النكاح أقوى من ابتدائه والإحرام والعدة تمنع الابتداء دون الدوام فلو قدر أنه قام دليل شرعي على أن الزانية بعد العقد لا يجب فراقها لكان الزنى كالعدة تمنع الابتداء دون الدوام جمعا بين الدليلين فإن قيل ما معنى قوله { لا ينكحها إلا زان أو مشرك } قيل المتزوج بها إن كان مسلما فهو زان وإن لم يكن مسلما فهو كافر فإن كان مؤمنا بما جاء به الرسول من تحريم هذا وفعله فهو زان وإن لم يكن مؤمنا بما جاء به الرسول فهو مشرك كما كانوا عليه في الجاهلية كانوا يتزوجون
____________________
(32/116)
البغايا يقول فإن تزوجتم بهن كما كنتم تفعلون من غير إعتقاد تحريم ذلك فأنتم مشركون وإن اعتقدتم التحريم فأنتم زناة لأن هذه تمكن من نفسها غير الزوج من وطئها فيبقى الزوج يطؤها كما يطؤها أولئك وكل إمرأة اشترك في وطئها رجلان فهي زانية فإن الفروج لا تحتمل الاشتراك بل لا تكون الزوجة إلا محصنة ولهذا لما كان المتزوج بالزانية زانيا كان مذموما عند الناس وهو مذموم أعظم مما يذم الذي يزني بنساء الناس ولهذا يقول في الشتمة سبه بالزاي والقاف أي قال يا زوج القحبة فهذا أعظم ما يتشاتم به الناس لما قد استقر عند المسلمين من قبح ذلك فكيف يكون مباحا ولهذا كان قذف المرأة طعنا في زوجها فلو كان يجوز له التزوج ببغي لم يكن ذلك طعنا في الزوج ولهذا قال من قال من السلف ما بغت إمرأة نبي قط فالله تعالى أباح للأنبياء أن يتزوجوا كافرة ولم يبح تزوج البغي لأن هذه تفسد مقصود النكاح بخلاف الكافرة ولهذا أباح الله للرجل أن يلاعن مكان أربعة شهداء إذا زنت إمرأته واسقط عنه الحد بلعانه لما في ذلك من الضرر عليه وفي الحديث ( لا يدخل الجنة ديوث ) والذي يتزوج ببغي هو ديوث وهذا مما فطر الله على ذمه وعيبه بذلك جميع عباده المؤمنين بل وغير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم كلهم يذم من تكون
____________________
(32/117)
إمرأته بغيا ويشتم بذلك ويعير به فكيف ينسب إلى شرع الإسلام إباحة ذلك وهذا لا يجوز أن يأتي به نبي من الأنبياء فضلا عن أفضل الشرائع بل يجب أن تنزه الشريعة عن مثل هذا القول الذي إذا تصوره المؤمن ولوازمه استعظم أن يضاف مثل هذا إلى الشريعة ورأى أن تنزيهها عنه أعظم من تنزيه عائشة عما قاله أهل الإفك وقد أمر الله المؤمنين أن يقولوا { سبحانك هذا بهتان عظيم } والنبي إنما لم يفارق عائشة لأنه لم يصدق ما قيل أولا ولما حصل له الشك استشار عليا وزيد بن حارثة وسأل الجارية لينظر إن كان حقا فارقها حتى أنزل الله براءتها من السماء فذلك الذي ثبت نكاحها ولم يقل مسلم أنه يجوز إمساك بغي وكان المنافقون يقصدون بالكلام فيها الطعن في الرسول ولو جاز التزوج ببغي لقال هذا لا حرج علي فيه كما كان النساء أحيانا يؤذينه حتى يهجرهن فليس ذنوب المرأة طعنا بخلاف بغائها فإنه طعن فيه عند الناس قاطبة ليس أحد يدفع الذم عمن تزوج بمن يعلم أنها بغية مقيمة على البغاء ولهذا توسل المنافقون إلى الطعن حتى أنزل الله براءتها من السماء وقد كان سعد بن معاذ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ) فقام سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن فقال أنا اعذرك منه إن كان من إخواننا من الأوس ضربت عنقه وإن كان من
____________________
(32/118)
إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فأخذت سعد بن عبادة غيرة قالت عائشة وكان قبل ذلك امرأ صالحا ولكن أخذته حمية لان بن أبي كان كبير قومه فقال كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير فقال كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين وثار الحيان حتى نزل رسول الله فجعل يسكنهم فلولا أن ما قيل في عائشة طعن في النبي لم يطلب المؤمنون قتل من تكلم بذلك من الأوس والخزرج لقذفه لامرأته ولهذا كان من قذف أم النبي يقتل لأنه قدح في نسبه وكذلك من قذف نساءه يقتل لأنه قدح في دينه وإنما لم يقتلهم النبي لأنهم تكلموا بذلك قبل أن يعلم براءتها وأنها من أمهات المؤمنين اللاتي لم يفارقهن عليه إذا كان يمكن أن يطلقها فتخرج بذلك من هذه الأمومة في أظهر قولي العلماء فإن فيمن طلقها النبي ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره أحدها أنها ليست من أمهات المؤمنين والثاني أنها من أمهات المؤمنين والثالث يفرق بين المدخول بها وغير المدخول بها والأول أصح لأن النبي لما خير نساءه بين الإمساك والفراق وكان المقصود لمن فارقها أن يتزوجها غيره فلو كان هذا مباحا لم يكن ذلك قدحا في دينه
____________________
(32/119)
وبالجملة فهذه المسألة في قلوب المؤمنين أعظم من أن تحتاح إلى كثرة الأدلة فإن الإيمان والقرآن يحرم مثل ذلك لكن لما كان قد أباح مثل ذلك كثير من علماء المسلمين الذين لا ريب في علمهم ودينهم من التابعين ومن بعدهم وعلو قدرهم بنوع تأويل تأولوه احتيج إلى البسط في ذلك ولهذا نظائر كثيرة يكون القول ضعيفا جدا وقد اشتبه أمره على كثير من أهل العلم والإيمان وسادات الناس لأن الله لم يجعل العصمة عند تنازع المسلمين إلا في الرد إلى الكتاب والسنة وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله الذي لا ينطق على الهوى فإن قيل فقد قال { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } قيل هذا يدل على أن الزاني الذي لم يتب لا يجوز أن يتزوج عفيفة كما هو إحدى الروايتين عن أحمد فإنه إذا كان يطأ هذه وهذه وهذه كما كان كان وطؤه لهذه من جنس وطئه لغيرها من الزواني وقد قال الشعبي من زوج كريمته من فاجر فقد قطع رحمها وأيضا فإنه إذا كان يزني بنساء الناس كان هذا مما يدعو المرأة إلى أن تمكن منها غيره كما هو الواقع كثيرا فلم أر من يزني بنساء الناس أو ذكران إلا فيحمل إمرأته على أن تزني بغيره مقابلة على ذلك ومغايظة وأيضا فإذا كان عادته الزنى استغنى بالبغايا فلم يكف إمرأته في الإعفاف فتحتاج إلى الزنى
____________________
(32/120)
وأيضا فإذا زنى بنساء الناس طلب الناس أن يزنوا بنساءه كما هو الواقع فإمرأة الزاني تصير زانية من وجوه كثيرة وإن استحلت ما حرمه الله كانت مشركة وإن لم تزن بفرجها زنت بعينها وغير ذلك فلا يكاد يعرف في نساء الرجال الزناة المصرين على الزنى الذين لم يتوبوا منه إمرأة سليمة سلامة تامة وطبع المرأة يدعو إلى الرجال الاجانب إذا رأت زوجها يذهب إلى النساء الأجانب وقد جاء في الحديث ( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم ) فقوله { الزاني لا ينكح إلا زانية } إما أن يراد أن نفس نكاحه ووطئه لها زنا أو أن ذلك يفضي إلى زناها وإما الزانية فنفس وطئها مع إصرارها على الزنى زنا وكذلك { والمحصنات من المؤمنات } الحرائر وعن بن عباس هن العفائف فقد نقل عن بن عباس تفسير { المحصنات } بالحرائر وبالعفائف وهذا حق فنقول مما يدل على ذلك قوله تعالى { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين } المحصنات قد قال أهل التفسير هن العفائف هكذا قال الشعبي والحسن والنخعي والضحاك والسدي وعن بن عباس هن الحرائر ولفظ المحصنات إن أريد به الحرائر فالعفة داخلة في الإحصان بطريق الأولى فإن أصل
____________________
(32/121)
المحصنة هي العفيفة التي أحصن فرجها قال الله تعالى { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها } وقال تعالى { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } وهن العفائف قال حسان بن ثابت ** حصان رزان ما تزن بريبة ** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل ** ثم عادة العرب أن الحرة عندهم لا تعرف الزنى وإنما تعرف بالزنى الإماء ولهذا لما بايع النبي هند امرأة أبي سفيان على ألا تزني قالت أو تزني الحرة فهذا لم يكن معروفا عندهم والحرة خلاف الأمة صارت في عرف العامة أن الحرة هي العفيفة لأن الحرة التي ليست أمة كانت معروفة عندهم بالعفة وصار لفظ الإحصان يتناول الحرية مع العفة لأن الاماء لم تكن عفائف وكذلك الإسلام هو ينهى عن الفحشاء والمنكر وكذلك المرأة المتزوجة زوجها يحصنها لأنها تستكفي به ولأنه يغار عليها فصار لفظ الإحصان يتناول الإسلام والحرية والنكاح وأصله إنما هو العفة فإن العفيفة هي التي أحصن فرجها من غير صاحبها كالمحصن الذي يمتنع من غير أهله وإذا كان الله إنما أباح من المسلمين وأهل الكتاب نكاح المحصنات والبغايا لسن محصنات فلم يبح الله نكاحهن ومما يدل على ذلك قوله { إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } والمسافح الزاني الذي يسفح ماءه مع هذه وهذه
____________________
(32/122)
وكذلك المسافحة والمتخذة الخدن الذي تكون له صديقة يزني بها دون غيره فشرط في الحل أن يكون الرجل غير مسافح ولا متخذ خدن فإذا كانت المرأة بغيا وتسافح هذا وهذا لم يكن زوجها محصنالها عن غيره إذ لو كان محصنا لها كانت محصنة وإذا كانت مسافحة لم تكن محصنة والله إنما أباح النكاح إذا كان الرجال محصنين غير مسافحين وإذا شرط فيه أن لا يزني بغيرها فلا يسفح ماءه مع غيرها كان أبلغ وابلغ وقال أهل اللغة السفاح الزنى قال بن قتيبة محصنين أي متزوجين غير مسافحين قال وأصله من سفحت القربة إذا صببتها فسمى الزنى سفاحا لأنه يصب النطفة وتصب المرأة النطفة وقال بن فارس السفاح صب الماء بلا عقد ولا نكاح فهي التي تسفح ماءها وقال الزجاج محصنين أي عاقدين التزوج وقال غيرهما متعففين غير زانين وكذلك قال في النساء { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } ففي هاتين الآيتين اشترط أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين بكسر الصاد والمحصن هو الذي يحصن غيره ليس هو المحصن بالفتح الذي يشترط في الحد فلم يبح إلا تزوج من يكون محصنا للمرأة غير مسافح ومن تزوج ببغي مع بقائها على البغاء ولم يحصنها من غيره بل هي كما كانت قبل النكاح تبغي مع غيره فهو مسافح بها لا محصن لها وهذا حرام بدلالة القرآن
____________________
(32/123)
فإن قيل إنما أراد بذلك أنك تبتغي بمالك النكاح لا تبتغي به السفاح فتعطيها المهر على أن تكون زوجتك ليس لغيرك فيها حق بخلاف ما إذا أعطيتها على أنها مسافحة لمن تريد وإنها صديقة لك تزني بك دون غيرك فهذا حرام قيل فإذا كان النكاح مقصوده أنها تكون له لا لغيره وهي لم تتب من الزنى لم تكن موفية بمقتضى العقد فإن قيل فإنه يحصنها بغير اختيارها فيسكنها حيث لا يمكنها الزنى قيل أما إذا أحصنها بالقهر فليس هو بمثل الذي يمكنها من الخروج إلى الرجال ودخول الرجال إليها لكن قد عرف بالعادات والتجارب أن المرأة إذا كانت لها إرادة في غير الزوج احتالت إلى ذلك بطرق كثيرة وتخفي على الزوج وربما افسدت عقل الزوج بما تطعمه وربما سحرته أيضا وهذا كثير موجود رجال أطعمهم نساؤهم وسحرتهم نساؤهم حتى يمكن المرأة أن تفعل ما شاءت وقد يكون قصدها مع ذلك أن لا يذهب هو إلى غيرها فهي تقصد منعه من الحلال أو من الحرام والحلال وقد تقصد أن يمكنها أن تفعل ما شاءت فلا يبقى محصنا لها قواما عليها بل تبقى هي الحاكمة عليه فإذا كان هذا موجودا فيمن تزوجت ولم تكن بغيا فكيف بمن كانت بغيا والحكايات في هذا الباب كثيرة ويا ليتها مع التوبة يلزم
____________________
(32/124)
معه دوام التوبة فهذا إذا أبيح له نكاحها وقيل له أحصنها وأحتفظ أمكن ذلك أما بدون التوبة فهذا متعذر أو متعسر ولهذا تكلموا في توبتها فقال بن عمر وأحمد بن حنبل يراودها على نفسها فإن أجابته كما كانت تجيبه لم تتب وقالت طائفة منهم أبو محمد لا يراودها لأنها قد تكون تابت فاذا راودها نقضت التوبة ولأنه يخاف عليه إذا راودها أن يقع في ذنب معها والذين اشترطوا امتحانها قالوا لا يعرف صدق توبتها بمجرد القول فصار كقوله { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } ) والمهاجر قد يتناول التائب قال النبي ( المهاجر من هجر ما نهى إلله عنه والمهاجر من هجر السوء ) فهذه إذا ادعت أنها هجرت السوء امتحنت على ذلك وبالجملة لا بد أن يغلب على قلبه صدق توبتها وقوله تعالى { ولا متخذي أخدان } حرم به أن يتخذ صديقة في السر تزني معه لا مع غيره وقد قال سبحانه في آية الإماء { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فذكر في الإماء محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان وأما الحرائر فاشترط فيهن أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين وذكر في المائدة { ولا متخذي أخدان }
____________________
(32/125)
لما ذكر نساء أهل الكتاب وفي النساء لم يذكر إلا غير مسافحين وذلك أن الإماء كن معروفات بالزنى دون الحرائر فاشترط في نكاحهن أن يكن محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فدل ذلك أيضا على أن الأمة التي تبغي لا يجوز تزوجها إلا إذا تزوجها على أنها محصنة يحصنها زوجها فلا تسافح الرجال ولا تتخذ صديقا وهذا من ابين الأمور في تحريم نكاح الأمة الفاجرة مع ما تقدم وقد روى عن بن عباس محصنات عفائف غير زوان { ولا متخذات أخدان } يعني أخلاء كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنى ويستحلون ما خفي وعنه رواية أخرى المسافحات المعلنات بالزنى والمتخذات أخدان ذوات الخليل الواحد قال بعض المفسرين كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه ولا تزني مع غيره فقد فسر بن عباس هو وغيره من السلف المحصنات بالعفائف وهو كما قالوا وذكروا أن الزنى في الجاهلية كان نوعين نوعا مشتركا ونوعا مختصا والمشترك ما يظهر في العادة بخلاف المختص فإنه مستتر في العادة ولما حرم الله المختص وهو شبيه بالنكاح فإن النكاح تختص فيه المرأة بالرجل وجب الفرق بين النكاح الحلال والحرام من اتخاذ الأخدان فإن هذه اذا كان يزني بها وحدها لم يعرف أنها لم يطأها غيره ولم يعرف أن الولد الذي تلده منه ولا يثبت لها خصائص النكاح فلهذا كان عمر بن الخطاب يضرب على نكاح السر فإن نكاح السر من جنس إتخاذ الأخدان شبيه به لا سيما إذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود
____________________
(32/126)
وكتما ذلك فهذا مثل الذي يتخذ صديقة ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا فلا يشاء من يزني بأمره صديقة له إلا قال تزوجتها ولا يشاء أحد أن يقول لمن تزوج في السر إنه يزني بها إلا قال ذلك فلا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق مبين قال الله تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وقال تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فإذا ظهر للناس أن هذه المرأة قد أحصنها تميزت عن المسافحات والمتخذات أخدانا وإذا كان يمكنها أن تذهب إلى الأجانب لم تتميز المحصنات كما أنه إذا كتم نكاحها فلم يعلم به أحد لم تتميز من المتخذات أخدانا وقد اختلف العلماء فيما يتميز به هذا عن هذا فقيل الواجب الإعلان فقط سواء أشهد أو لم يشهد كقول مالك وكثير من فقهاء الحديث وأهل الظاهر وأحمد في رواية وقيل الواجب الإشهاد سواء أعلن أو لم يعلن كقول أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد وقيل يجب الأمران وهو الرواية الثالثة عن أحمد وقيل يجب أحدهما وهو الرواية الرابعة عن أحمد واشتراط الإشهاد وحده ضعيف ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة فإنه لم يثبت عن النبي فيه حديث ومن الممتنع أن يكون الذي يفعله المسلمون دائما له شروط لم يبنها رسول الله وهذا مما تعم به البلوى فجميع المسلمين يحتاجون إلى معرفة هذا وإذا كان هذا شرطا كان ذكره أولى من ذكر المهر وغيره مما لم يكن له ذكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله فتبين أنه ليس مما
____________________
(32/127)
أوجبه الله على المسلمين في مناكحهم قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث لم يثبت عن النبي في الإشهاد على النكاح شيء ولو أوجبه لكان الإيجاب إنما يعرف من جهة النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا من الأحكام التي يجب إظهارها وإعلانها فاشتراط المهر أولى فإن المهر لا يجب تقديره في العقد بالكتاب والسنة والاجماع ولو كان قد أظهر ذلك لنقل ذلك عن الصحابة ولم يضيعوا حفظ ما لا بد للمسلمين عامة من معرفته فإن الهمم والدواعي تتوافر على نقل ذلك والذي يأمر بحفظ ذلك وهم قد حفظوا نهيه عن نكاح الشغار ونكاح المحرم ونحو ذلك من الأمور التي تقع قليلا فكيف النكاح بلا إشهاد إذا كان الله ورسوله قد حرمه وأبطله كيف لا يحفظ في ذلك نص عن رسول الله بل لو نقل في ذلك شيء من أخبار الآحاد لكان مردودا عند من يرى مثل ذلك فإن هذا من أعظم ما تعم به البلوى أعظم من البلوى بكثير من الأحكام فيمتنع أن يكون كل نكاح للمسلمين لا يصح إلا بإشهاد وقد عقد المسلمون من عقود الأنكحة ما لا يحصيه إلا رب السماوات فعلم ان إشتراط الإشهاد دون غيره باطل قطعا ولهذا كان المشترطون للإشهاد مضطر بين اضطرابا يدل على فساد الأصل فليس لهم قول يثبت على معيار الشرع إذا كان فيهم من يجوزه بشهادة فاسقين والشهادة التي لا تجب عندهم قد أمر الله فيها بإشهاد ذوي العدل فكيف بالإشهاد الواجب
____________________
(32/128)
ثم من العجب أن الله أمر بالإشهاد في الرجعة ولم يأمر به في النكاح ثم يأمرون به في النكاح ولا يوجبه أكثرهم في الرجعة والله أمر بالإشهاد في الرجعة لئلا ينكر الزوج ويدوم مع امرأته فيفضي إلى إقامته معها حراما ولم يأمر بالإشهاد على طلاق لا رجعة معه لأنه حينئذ يسرحها بإحسان عقيب العدة فيظهر الطلاق ولهذا قال يزيد بن هارون مما يعيب به أهل الرأي أمر الله بالإشهاد في البيع دون النكاح وهم أمروا به في النكاح دون البيع وهو كما قال والإشهاد في البيع إما واجب وإما مستحب وقد دل القرآن والسنة على أنه مستحب وأما النكاح فلم يرد الشرع فيه بإشهاد واجب ولا مستحب وذلك أن النكاح أمر فيه بالإعلان فأغنى إعلانه مع دوامه عن الإشهاد فإن المرأة تكون عند الرجل والناس يعلمون أنها امرأته فكان هذا الإظهار الدائم مغنيا عن الإشهاد كالنسب فإن النسب لا يحتاج إلى ان يشهد فيه أحدا على ولادة امرأته بل هذا يظهر ويعرف أن امرأته ولدت هذا فأغنى هذا عن الإشهاد بخلاف البيع فإنه قد يجحد ويتعذر إقامة البينة عليه ولهذا إذا كان النكاح في موضع لا يظهر فيه كان إعلانه بالإشهاد فالاشهاد قد يجب في النكاح لأنه به يعلن ويظهر لا لأن كل نكاح لا ينعقد إلا بشاهدين بل إذا زوجه وليته ثم خرجا فتحدثا بذلك وسمع الناس أو جاء الشهود والناس بعد العقد فأخبروهم بأنه تزوجها كان هذا كافيا وهكذا كانت عادة السلف لم يكونوا يكلفون احظار شاهدين ولا كتابة صداق
____________________
(32/129)
ومن القائلين بالإيجاب من إشتراط شاهدين مستورين وهو لايقبل عند الأداء إلا من تعرف عدالته فهذا أيضا لا يحصل به المقصود وقد شذ بعضهم فأوجب من يكون معلوم العدالة وهذا مما يعلم فساده قطعا فإن أنكحة المسلمين لم يكونوا يلتزمون فيها هذا وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد على قوله باشتراط الشهادة فقيل يجزئ فاسقان كقول أبي حنيفة وقيل يجزئ مستوران وهذا المشهور عن مذهبه ومذهب الشافعي وقيل في المذهب لابد من معروف العدالة وقيل بل أن عقد حاكم فلا يعقده إلا بمعروف العدالة بخلاف غيره فإن الحكام هم الذين يميزون بين المبرور والمستور ثم المعروف العدالة عند حاكم البلد فهو خلاف ما أجمع المسلمون عليه قديما وحديثا حيث يعقدون الأنكحة فيما بينهم والحاكم بينهم والحاكم لا يعرفهم وإن اشترطوا من يكون مشهورا عندهم بالخير فليس من شرط العدل المقبول الشهادة أن يكون كذلك ثم الشهود يموتون وتتغير أحوالهم وهم يقولون مقصود الشهادة اثبات الفراش عند التجاحد حفظا لنسب الولد فيقال هذا حاصل بإعلان النكاح ولا يحصل بالإشهاد مع الكتمان مطلقا فالذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإعلان يصح وأن لم يشهد شاهدان وأما مع الكتمان والإشهاد فهذا مما ينظر فيه وإذا اجتمع الإشهاد والإعلان فهذا الذي لا نزاع في صحته وإن خلا عن الإشهاد والإعلان فهو باطل عند العامة فإن قدر فيه خلاف
____________________
(32/130)
فهو قليل وقد يظن أن في ذلك خلافا في مذهب أحمد ثم يقال بما يميز هذا عن المتخدات أخذانا وفي المشترطين للشهادة من أصحاب أبي حنيفة من لا يعلل ذلك بإثبات الفراش لكن كان المقصود حضور اثنين تعظيما للنكاح وهذا يعود إلى مقصود الإعلان وإذا كان الناس ممن يجهل بعضهم حال بعض ولا يعرف من عنده هل هي امرأته أو خدينه مثل الأماكن التي يكثر فيها الناس المجاهيل فهذا قد يقال يجب الإشهاد هنا ولم يكن الصحابة يكتبون صداقات لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر بل يعجلون المهر وإن أخروه فهو معروف فلما صار الناس يتزوجون على المؤخر والمدة تطول وينسى صاروا يكتبون المؤخر وصار ذلك حجة في إثبات الصداق وفي أنها زوجة له لكن هذا الإشهاد يحصل به المقصود سواء حضر الشهود العقد أو جاؤا بعد العقد فشهدوا على إقرار الزوج والزوجة والولي وقد علموا أن ذلك نكاح قد أعلن وإشهادهم عليه من غير تواص بكتمانه إعلان وهذا بخلاف الولي فإنه قد دل عليه القرآن في غير موضع والسنة في غير موضع وهو عادة الصحابة إنما كان يزوج النساء الرجال لا يعرف أن امرأة تزوج نفسها وهذا مما يفرق فيه بين النكاح ومتخذات اخدان ولهذا قالت عائشة لا تزوج المرأة نفسها فإن البغي هي التى تزوج نفسها لكن لا يكتفي بالولي حتى يعلن فإن من الأولياء من يكون مستحسنا على قرابته
____________________
(32/131)
قال الله تعالى { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } وقال تعالى { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } فخاطب الرجال بإنكاح الأيامى كما خاطبهم بتزويج الرقيق وفرق بين قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركين } وقوله { ولا تنكحوا المشركات } وهذا الفرق مما احتج به بعض السلف من أهل البيت وأيضا فإن الله أوجب الصداق في غير هذا الموضع ولم يوجب الإشهاد فمن قال إن النكاح يصح مع نفي المهر ولا يصح إلا مع الإشهاد فقد أسقط ما أوجبه الله وأوجب ما لم يوجبه الله وهذا مما يبين أن قول المدنيين وأهل الحديث أصح من قول الكوفيين في تحريمهم نكاح الشغار وان علة ذلك أنما هو نفي المهر فحيث يكون المهر فالنكاح صحيح كما هو قول المدنيين وهو أنص الروايتين وأصرحهما عن أحمد بن حنبل واختيار قدماء أصحابه وهذا وأمثاله مما يبين رجحان أقوال أهل الحديث والأثر وأهل الحجاز كأهل المدينة على ما خالفها من الأقوال التي قيلت برأي يخالف النصوص لكن الفقهاء الذين قالوا برأي يخالف النصوص بعد اجتهادهم واستفراغ وسعهم رضي الله عنهم قد فعلوا ما قدروا عليه من طلب العلم واجتهدوا والله يثيبهم وهم مطيعون لله سبحانه في ذلك والله يثيبهم على اجتهادهم فآجرهم الله على ذلك وإن كان الذين علموا ما جاءت به النصوص
____________________
(32/132)
أفضل ممن خفيت عليه النصوص وهؤلاء لهم أجران وأولئك لهم أجر كما قال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } ومن تدبر نصوص الكتاب والسنة وجدها مفسرة لأمر النكاح لا تشترط فيه ما يشترطه طائفة من الفقهاء كما اشترط بعضهم ألا يكون إلا بلفظ الإنكاح والتزويج واشترط بعضهم أن يكون بالعربية واشترط هؤلاء وطائفة ألا يكون إلا بحضرة شاهدين ثم إنهم مع هذا صححوا النكاح مع نفي المهر ثم صاروا طائفتين طائفة تصحح نكاح الشغار لأنه لا مفسد له إلا نفي المهر وذلك ليس بمفسد عندهم وطائفة تبطله وتعلل ذلك بعلل فاسدة كما قد بسطناه في مواضع وصححوا نكاح المحلل الذي يقصد التحليل فكان قول أهل الحديث وأهل المدينة الذين لم يشترطوا لفظا معينا في النكاح ولا إشهاد شاهدين مع إعلانه وإظهاره وأبطلوا نكاح الشغار وكل نكاح نفي فيه المهر وابطلوا نكاح المحلل أشبه بالكتاب والسنة وآثار الصحابة ثم إن كثيرا من أهل الرأي الحجازي والعراقي وسعوا باب الطلاق فأوقعوا طلاق السكران والطلاق المحلوف به وأوقع هؤلاء طلاق
____________________
(32/133)
المكره وهؤلاء الطلاق المشكوك فيه فيما حلف به وجعلوا الفرقة البائنة طلاقا محسوبا من الثلاث فجعلوا الخلع طلاقا بائنا محسوبا من الثلاث إلى أمور أخرى وسعوا بها الطلاق الذي يحرم الحلال وضيقوا النكاح الحلال ثم لما وسعوا الطلاق صار هؤلاء يوسعون في الاحتيال في عود المرأة إلى زوجها وهؤلاء لا سبيل عندهم إلى ردها فكان هؤلاء في آصار وأغلال وهؤلاء في خداع واحتيال ومن تأمل الكتاب والسنة وآثار الصحابة تبين له أن الله أغنى عن هذا وأن الله بعث محمدا بالحنيفة السمحة التي أمر فيها بالمعروف ونهي عن المنكر وأحل الطيبات وحرم الخبائث والله سبحانه أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم وسئل شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله عن بنت الزنى هل تزوج بأبيها
فأجاب الحمد لله مذهب الجمهور من العلماء أنه لا يجوز التزويج بها وهو الصواب المقطوع به حتى تنازع الجمهور هل يقتل من فعل ذلك على قولين والمنقول عن أحمد أنه يقتل من فعل ذلك فقد يقال هذا إذا لم يكن متأولا وأما المتأول فلا يقتل وإن كان مخطئا وقد يقال هذا مطلقا كما قاله الجمهور إنه يجلد من شرب النبيذ المختلف فيه متأولا وإن كان مع ذلك لا يفسق عند الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وفسقه
____________________
(32/134)
مالك وأحمد في الرواية الأخرى والصحيح أن المتأول المعذور لا يفسق بل ولا يأثم وأحمد لم يبلغه أن في هذه المسألة خلافا فإن الخلاف فيها إنما ظهر في زمنه لم يظهر في زمن السلف فلهذا لم يعرفه والذين سوغوا نكاح البنت من الزنى حجتهم في ذلك أن قالوا ليست هذه بنتا في الشرع بدليل أنهما لا يتوارثان ولا يجب نفقتها ولا يلي نكاحها ولا تعتق عليه بالملك ونحو ذلك من أحكام النسب وإذا لم تكن بنتا في الشرع لم تدخل في آية التحريم فتبقى داخلة في قوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } وأما حجة الجمهور فهو أن يقال قول الله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } الآية هو متناول لكل من شمله هذا اللفظ سواء كان حقيقة أو مجازا وسواء ثبت في حقه التوارث وغيره من الأحكام أم لم يثبت إلا التحريم خاصة ليس العموم في آية التحريم كالعموم في اية الفرائض ونحوها كقوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } وبيان ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أن آية التحريم تتناول البنت وبنت الابن وبنت البنت كما يتناول لفظ العمة عمة الأب والأم والجد وكذلك بنت الأخت وبنت بن الأخت وبنت بنت الأخت ومثل هذا العموم لا يثبت لا في آية الفرائض ولا نحوها من الآيات والنصوص التي علق فيها الأحكام بالأنساب
____________________
(32/135)
الثاني إن تحريم النكاح يثبت بمجرد الرضاعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ) وفي لفظ ( ما يحرم من النسب ) وهذا حديث متفق على صحته وعمل الأئمة به فقد حرم الله على المرأة أن تتزوج بطفل غذته من لبنها أو أن تنكح أولاده وحرم على أمهاتها وعماتها وخالتها بل حرم على الطفلة المرتضعة من إمرأة أن تتزوج بالفحل صاحب اللبن وهو الذي وطىء المرأة حتى در اللبن بوطئه فإذا كان يحرم على الرجل أن ينكح بنته من الرضاع ولا يثبت في حقها شيء من أحكام النسب سوى التحريم وما يتبعها من الحرمة فكيف يباح له نكاح بنت خلقت من مائة وأين المخلوقة من مائة من المتغذية بلبن در بوطئه فهذا يبين التحريم من جهة عموم الخطاب ومن جهة التنبيه والفحوى وقياس الأولى الثالث أن الله تعالى قال { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } قال العلماء احتراز عن ابنه الذي تبناه كما قال { لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } ومعلوم أنهم في الجاهلية كانوا يستلحقون ولد الزنى أعظم مما يستلحقون ولد المتبني فإذا كان الله تعالى قيد ذلك بقوله { من أصلابكم } علم أن لفظ البنات ونحوها يشمل كل من كان في لغتهم داخلا في الإسم وأما قول القائل إنه لا يثبت في حقها الميراث ونحوه فجوابه أن النسب تتبعض أحكامه فقد ثبت بعض أحكام النسب دون بعض كما
____________________
(32/136)
وافق أكثر المنازعين في ولد الملاعنة على أنه يحرم على الملاعن ولا يرثه واختلف العلماء في استلحاق ولد الزنى إذا لم يكن فراشا على قولين كما ثبت عن النبي أنه الحق بن وليدة زمعة بن الأسود بن زمعة بن الأسود وكان قد أحبلها عتبة بن أبي وقاص فاختصم فيه سعد وعبد بن زمعة فقال سعد بن أخي عهد إلي أن بن وليدة زمعة هذا ابني فقال عبد أخي وبن وليدة أبي ولد على فراش أبي فقال النبي ( هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر احتجبي منه يا سودة ) لما رأى من شبهه البين بعتبة فجعله أخاها في الميراث دون الحرمة وقد تنازع العلماء في ولد الزنى هل يعتق بالملك على قولين في مذهب أبي حنيفة وأحمد وهذه المسألة لها بسط لا تسعه هذه الورقة ومثل هذه المسألة الضعيفة ليس لأحد أن يحكيها عن امام من أئمة المسلمين لا على وجه القدح فيه ولا على وجه المتابعة له فيها فإن في ذلك ضربا من الطعن في الأئمة وأتباع الأقوال الضعيفة وبمثل ذلك صار وزير التتر يلقى الفتنة بين مذاهب اهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة ويوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد والله أعلم
____________________
(32/137)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل زنا بإمرأة في حال شبوبيته وقد رأى معها في هذه الأيام بنتا وهو يطلب التزويج بها ولم يعلم هل هي منه أو من غيره وهو متوقف في تزويجها
فأجاب الحمد لله لايحل له التزويج بها عند أكثر العلماء فإن بنت التي زنا بها من غيره لايحل التزوج بها عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وأما بنته من الزنى فأغلظ من ذلك وإذا اشتبهت عليه بغيرها حرمتا عليه وسئل رحمه الله عمن زنا بامرأة وحملت منه فاتت بأنثى فهل له ان يتزوج البنت
فأجاب الحمد لله لا يحل ذلك عند جماهير العلماء ولم يحل ذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولهذا لم يعرف أحمد بن حنبل وغيره من العلماء مع كثرة اطلاعهم في ذلك نزاعا بين السلف فافتى أحمد
____________________
(32/138)
بن حنبل ان فعل ذلك قتل فقيل له انه حكى فلان في ذلك خلافا عن مالك فقال يكذب فلان وذكر ان ولد الزنى يلحق بأبيه الزاني إذا استلحقه عند طائفة من العلماء وان عمر بن الخطاب ( ألاط ) أي ألحق أولاد الجاهلية بآبائهم والنبي قال ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) هذا إذا كان للمرأة زوج وأما ( البغي ) التي لا زوج لها ففي استلحاق الزاني ولده منها نزاع ( وبنت الملاعنة ) لاتباح للملاعن عند عامة العلماء وليس فيه إلا نزاع شاذ مع أن نسبها ينقطع من أبيها ولكن لو استلحقها للحقته وهما لا يتوارثان باتفاق الأئمة وهذا لأن ( النسب ) تتبعض احكامه فقد يكون الرجل أبنا في بعض الأحكام دون بعض فابن الملاعنة ليس بابن لايرث ولا يورث وهو بن في ( باب النكاح ) تحرم بنت الملاعنة على الأب والله سبحانه وتعالى حرم من الرضاعة ما يحرم من النسب فلا يحل للرجل ان يتزوج بنته من الرضاعة ولا أخته مع انه لا يثبت في حقها من ( أحكام النسب ) لا ارث ولا عقل ولا ولاية ولا نفقة ولا غير ذلك إنما تثبت في حقها حرمة النكاح والمحرمية وامهات المؤمنين أمهات في الحرمة فقط لا في المحرمية فإذا كانت البنت التي أرضعتها امرأته بلبن در بوطئه تحرم عليه وإن لم تكن منسوبة إليه في الميراث وغيره فكيف بما خلقت من نطفته فإن هذه أشد اتصالا به من تلك وقوله تعالى في القرآن
____________________
(32/139)
{ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } الآية يتناول كل ما يسمى بنتا حتى يحرم عليه بنت بنته وبنت ابنه بخلاف قوله في الفرائض { يوصيكم الله في أولادكم } فإن هذا إنما يتناول ولده وولد ابنه لا يتناول ولد بنته ولهذا لما كان لفظ الابن والبنت يتناول ما يسمى بذلك مطلقا قال الله تعالى ( وحلائل ابنائكم الذين من أصلابكم ) ليحرز عن الابن المتبني كزيد الذي كان يدعى زيد بن محمد فإن هذا كانوا يسمونه ( ابنا ) فلو أطلق اللفظ لظن انه داخل فيه فقال تعالى ( الذين من أصلابكم ) ليخرج ذلك واباح للمسلمين ان يتزوج الرجل امرأة من تبناه بقوله تعالى ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجنا كها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في ازواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) فإذا كان لفظ الابن والبنت يتناول كل من ينتسب إلى الشخص حتى قد حرم الله بنته من الرضاعة فبنته من الزنى تسمى بنته فهي أولى بالتحريم شرعا واولى ان يدخلوها في آية التحريم وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وجماهير أئمة المسلمين ولكن النزاع المشهور بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الزنى ( هل ينشر حرمة المصاهرة فإذا أراد أن يتزوج بأمها وبنتها من غيره فهذه فيها نزاع قديم بين السلف وقد ذهب إلى كل قول كثير من أهل العلم كالشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنه يبيحون ذلك وأبو حنيفة وأحمد ومالك في الرواية الأخرى يحرمون ذلك فهذه إذا قلد الإنسان فيها أحد القولين جاز ذلك والله أعلم
____________________
(32/140)
وسئل رحمه الله تعالى عمن طلع إلى بيته ووجد عند إمرأته رجلا أجنبيا فوفاها حقها وطلقها ثم رجع وصالحها وسمع أنها وجدت بجنب أجنبي
فأجاب في الحديث عنه ( أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الجنة قال وعزتي وجلالي لا يدخلك بخيل ولا كذاب ولا ديوث ) والديوث الذي لا غيرة له وفي الصحيح عن النبي انه قال ( إن المؤمن يغار وان الله يغار وغيرة الله ان يأتي العبد ماحرم عليه ) وقد قال تعالى ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء ان الزانية لا يجوز تزوجها إلا بعد التوبة وكذلك إذا كانت المرأة تزني لم يكن له ان يمسكها على تلك الحال بل يفارقها وإلا كان ديوثا
____________________
(32/141)
وسئل عن رجل تزوج ابنته من الزنى
فأجاب لا يجوز ان يتزوج بها عند جمهور أئمة المسلمين حتى ان الإمام أحمد انكر ان يكون في ذلك نزاع بين السلف وقال من فعل ذلك فإنه يقتل وقيل له عن مالك انه اباحه فكذب النقل عن مالك وتحريم هذا هو قول أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه ومالك وجمهور أصحابه وهو قول كثير من أصحاب الشافعي وانكر ان يكون الشافعي نص على خلاف ذلك وقالوا إنما نص على بنته من الرضاع دون الزانية التي زنى بها والله أعلم وسئل رحمه الله عن رجل زنى بأمرأة ومات الزاني فهل يجوز للولد المذكور ان يتزوج بها أم لا
فأجاب هذه حرام في مذهب أبي حنيفة وأحمد واحد القولين في مذهب مالك وفي القول الآخر يجوز وهو مذهب الشافعي
____________________
(32/142)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن كان له أمة يطؤها وهو يعلم ان غيره يطؤها ولا يحصنها
فأجاب هو ديوث ( ولا يدخل الجنة ديوث ) والله أعلم وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له جارية تزني فهل يحل له وطؤها
فأجاب إذا كانت تزني فليس له ان يطأها حتى تحيض ويستبرئها من الزنى فإن ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) عقدا ووطأ ومتى وطاها مع كونها زانية كان ديوثا والله أعلم وسئل رحمه الله عن حديث عن النبي انه ( قال له رجل يا رسول الله إن إمرأتي لا ترد كف لامس ) فهل هو ما ترد نفسها عن أحد أو ما ترد يدها في العطاء عن أحد وهل هو الصحيح أم لا
____________________
(32/143)
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذا الحديث قد ضعفه أحمد وغير وقد تأوله بعض الناس على أنها لا ترد طالب مال لكن ظاهر الحديث وسياقه يدل على خلاف ذلك ومن الناس من اعتقد ثبوته وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يمسكها مع كونها لا تمنع الرجال وهذا مما أنكره غير واحد من الأئمة فإن الله قال في كتابه العزيز { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } وفي سنن أبي داود وغيره أن رجلا كان له في الجاهلية قرينة من البغايا يقال لها عناق وأنه سأل النبي عن تزوجها فأنزل الله هذه الآية وقد قال سبحانه وتعالى { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } فإنما أباح الله نكاح الإماء في حال كونهن غير مسافحات ولا متخذات أخدان والمسافحة التي تسافح مع كل أحد والمتخذات الخدن التى يكون لها صديق واحد فاذا كانمن هذه حالها لا تنكح فكيف بمن لا ترد يد لامس بل تسافح من اتفق وإذا كان من هذه حالها في الإماء فكيف بالحرائر وقد قال تعالى { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } فاشترط هذه الشروط في الرجال هنا
____________________
(32/144)
كما اشترطة في النساء هناك وهذا يوافق ما ذكره في سورة النور من قوله تعالى { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } لأنه من تزوج زانية تزانى مع غيره لم يكن ماؤه مصونا محفوظا فكان ماؤه مختلطا بماء غيره والفرج الذي يطأه مشتركا وهذا هو الزنى والمرأة إذا كان زوجها يزني بغيرها لا يميز بين الحلال والحرام كان وطؤه لها من جنس وطىء الزاني للمرأة التي يزني بها وإن لم يطأها غيره وإن من صور الزنى اتخاذ الأخدان والعلماء قد تنازعوا في جواز نكاح الزانية قبل توبتها على قولين مشهورين لكن الكتاب والسنة والإعتبار يدل على أن ذلك لا يجوز ومن تأول آية النور بالعقد وجعل ذلك منسوخا فبطلان قوله ظاهر من وجوه ثم المسلمون متفقون على ذم الدياثة ومن تزوج بغيا كان ديوثا بالاتفاق وفي الحديث ( لا يدخل الجنة بخيل ولا كذاب ولا ديوث ) قال تعالى { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } أي الرجال الطيبون للنساء الطيبات والرجال الخبيثون للنساء الخبيثات وكذلك في النساء فإذا كانت المرأة خبيثة كان قرينها خبيثا وإذا كان قرينها خبيثا كانت خبيثة وبهذا عظم القول فيمن قذف عائشة ونحوها من أمهات المؤمنين ولولا ما على الزوج في ذلك من العيب ما حصل هذا التغليظ ولهذا قال السلف ما بغت إمرأة قط قط ولو كان تزوج البغي جائزا لوجب تنزيه
____________________
(32/145)
الأنبياء عما يباح كيف وفي نساء الأنبياء من هي كافرة كما في أزواج المؤمنات من هو كافر كما قال تعالى { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين } وأما البغايا فليس في الأنبياء ولا الصالحين من تزوج بغيا لأن البغاء يفسد فراشه ولهذا أبيح للمسلم أن يتزوج الكتابية اليهودية والنصرانية إذا كان محصنا غير مسافح ولا متخذ خدن فعلم إن تزوج الكافرة قد يجوز وتجوز البغي لا يجوز لأن ضرر دينها لا يتعدى إليه وأما ضرر البغايا فيتعدي إليه والله أعلم فصل في اعتبار النية في النكاح قد بسط الكلام في غير هذا الموضع وبين أن المقصود في العقود معتبر وعلى هذا ينبغي إبطال الحيل وإبطال نكاح المحلل إذا قصد التحليل والمخالع بخلع اليمين فإن هذا لم يقصد
____________________
(32/146)
النكاح وهذا لم يقصد فراق المرأة بل هذا مقصوده أن تكون إمرأته وقصد الخلع مع هذا ممتنع وذاك مقصوده أن تكون زوجة المطلق ثلاثا وقصده مع هذا أن تكون زوجة له ممتنع ولهذا لا يعطي مهرا بل قد يعطونه من عندهم ولا يطلب استلحاق ولد ولا مصاهرة في تزويجها بل قد يحلل الأم وبنتها إلى غير ذلك مما يبين أنه لم يقصد النكاح وأما نكاح المتعة إذا قصد أن يستمتع بها إلى مدة ثم يفارقها مثل المسافر الذي يسافر إلى بلد يقيم به مدة فيتزوج وفي نيته إذا عاد إلى وطنه أن يطلقها ولكن النكاح عقده عقدا مطلقا فهذا فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد قيل هو نكاح جائز وهو اختيار أبي محمد المقدسي وهو قول الجمهور وقيل إنه نكاح تحليل لا يجوز وروي عن الأوزاعي وهو الذي نصره القاضي وأصحابه في الخلاف وقيل هو مكروه وليس بمحرم والصحيح أن هذا ليس بنكاح متعة ولا يحرم وذلك أنه قاصد للنكاح وراغب فيه بخلاف المحلل لكن لا يريد دوام المرأة معه وهذا ليس بشرط فإن دوام المراة معه ليس بواجب بل له أن يطلقها فإذا قصد أن يطلقها بعد مدة فقد قصد أمرا جائزا بخلاف نكاح المتعة فإنه مثل الإجارة تنقضي فيه بانقضاء المدة ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل وأما هذا فملكه ثابت مطلق وقد تتغير نيته فيمسكها دائما وذلك جائز له كما أنه لو تزوج بنية إمساكها دائما ثم بدا له طلاقها جاز ذلك ولو تزوجها
____________________
(32/147)
بنية أنها إذا أعجبته أمسكها وإلا فارقها جاز ولكن هذا لا يشترط في العقد لكن لو شرط أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان فهذا موجب العقد شرعا وهو شرط صحيح عند جمهور العلماء ولزمه موجب الشرع كاشتراط النبي في عقد البيع ( بيع المسلم للمسلم لا داء ولا غائلة ولا خبيثة ) وهذا موجب العقد وقد كان الحسن بن علي كثير الطلاق فلعل غالب من تزوجها كان في نيته أن يطلقها بعد مدة ولم يقل أحد إن ذلك متعة وهذا أيضا لا ينوي طلاقها عند أجل مسمى بل عند انقضاء غرضه منها ومن البلد الذي أقام به ولو قدر أنه نواه في وقت بعينه فقد تتغير نيته فليس في هذا ما يوجب تأجيل النكاح وجعله كالإجارة المسماة وعزم الطلاق لو قدر بعد عقد النكاح لم يبطله ولم يكره مقامه مع المرأة وإن نوى طلاقها من غير نزاع نعلمه في ذلك مع اختلافهم فيما حدث من تأجيل النكاح مثل أن يؤجل الطلاق الذي بينهما فهذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد أحدهما تنجز الفرقة وهو قول مالك لئلا يصير النكاح مؤجلا والثاني لا تنجز لأن هذا التأجيل طرأ على النكاح والدوام أقوى من الابتداء فالعدة والردة والاحرام تمنع ابتداءه دون دوامه فلا يلزم إذا منع التأجيل في الابتداء أن يمنع في الدوام لكن يقال ومن الموانع ما يمنع الدوام والابتداء أيضا فهذا محل اجتهاد كما اختلف في
____________________
(32/148)
العيوب الحادثة وزوال الكفاءة هل تثبت الفسخ فأما حدوث نية الطلاق إذا أراد أن يطلقها بعد شهر فلم نعلم أن أحدا قال إن ذلك يبطل النكاح فإنه قد يطلق وقد لا يطلق عند الأجل كذلك الناوي عند العقد في النكاح وكل منهما يتزوج الآخر إلى أن يموت فلا بد من الفرقة والرجل يتزوج الأمة التي يريد سيدها عتقها ولو أعتقت كان الأمر بيدها وهو يعلم أنها لا تختاره وهو نكاح صحيح ولو كان عتقها مؤجلا أو كانت مدبرة وتزوجها وإن كانت لها عند مدة الأجل اختيار فراقه والنكاح مبناه على أن الزوج يملك الطلاق من حين العقد فهو بالنسبة إليه ليس بلازم وهو بالنسبة إلى المرأة لازم ثم إذا عرف أنه بعد مدة يزول اللزوم من جهتها ويبقى جائزا لم يقدح في النكاح ولهذا يصح نكاح المجبوب والعنين وبشروط يشترطها الزوج مع أن المرأة لها الخيار إذا لم يوف بتلك الشروط فعلم أن مصيره جائزا من جهة المرأة لا يقدح وإن كان هذا يوجب انتفاء كمال الطمأنينة من الزوجين فعزمه على الملك ببعض الطمأنينة مثل هذا إذا كانت المرأة مقدمة على أنه إن شاء طلق وهذا من لوازم النكاح فلم يعزم إلا على ما يملكه بموجب العقد وهو كما لو عزم أن يطلقها إن فعلت ذنبا أو إذا نقص ماله ونحو ذلك فعزمه على الطلاق إذا سافر إلى أهله أو قدمت إمرأته الغائبة أو قضى وطره منها من هذا الباب
____________________
(32/149)
وزيد كان قد عزم على طلاق إمرأته ولم تخرج بذلك عن زوجيته بل ما زالت زوجته حتى طلقها وقال له النبي ( اتق الله وأمسك عليك زوجك ) وقيل إن الله قد كان اعلمه أنه سيتزوجها وكتم هذا الإعلام عن الناس فعاتبه الله على كتمانه فقال { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } من إعلام الله لك بذلك وقيل بل الذي أخفاه أنه إن طلقها تزوجها وبكل حال لم يكن عزم زيد على الطلاق قادحا في النكاح في الاستدامة وهذا مما لا نعرف فيه نزاعا وإذا ثبت بالنص والإجماع أنه لا يؤثر العزم على طلاقها في الحال وهذا يرد على من قال إنه إذا نوى الطلاق بقلبه وقع فإن قلب زيد كان قد خرج عنها ولم تزل زوجته إلى حين تكلم بطلاقها وقال النبي ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به ) وهذا مذهب الجمهور كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وهو إحدى الروايتين عن مالك ولا يلزم إذا أبطله شرط التوقيت أن تبطله نية التطليق فيما بعد فإن النية المبطلة ما كانت مناقضة لمقصود العقد والطلاق بعد مدة أمر جائز لا يناقض مقصود العقد إلى حين الطلاق بخلاف المحلل فإنه لا رغبة له في نكاحها البتة بل في كونها زوجة الأول ولو أمكنه ذلك بغير تحليل لم يحلها هذا وإن كان مقصوده العوض فلو حصل له بدون نكاحها لم يتزوج وإن كان مقصوده هنا وطأها ذلك اليوم فهذا من
____________________
(32/150)
جنس البغي التي يقصد وطأها يوما أو يومين بخلاف المتزوج الذي يقصد المقام والأمر بيده ولم يشرط عليه أحد أن يطلقها كما شرط على المحلل فإن قدر من تزوجها نكاحا مطلقا ليس فيه شرط ولا عدة ولكن كانت نيته أن يستمتع بها أياما ثم يطلقها ليس مقصوده أن تعود إلى الأول فهذا هو محل الكلام وأن حصل بذلك تحليلها للأول فهو لا يكون محللا إلا إذا قصده أو شرط عليه شرطا لفظيا أو عرفيا سواء كان الشرط قبل العقد أو بعده وأما إذا لم يكن فيه قصد تحليل ولا شرط أصلا فهذا نكاح من الأنكحة وسئل رحمه الله تعالى عن هذا التحليل الذي يفعله الناس اليوم إذا وقع على الوجه الذي يفعلونه من الاستحقاق والإشهاد وغير ذلك من سائر الحيل المعروفة هل هو صحيح أم لا وإذا قلد من قال به هل يفرق بين إعتقاد واعتقاد وهل الأولى إمساك المرأة أم لا
فأجاب التحليل الذي يتواطئون فيه مع الزوج لفظا أو عرفا على أن يطلق المرأة أو ينوي الزوج ذلك محرم لعن النبي صلى الله عليه
____________________
(32/151)
وسلم فاعله في أحاديث متعددة وسماه التيس المستعار وقال ( لعن الله المحلل والمحلل له ) وكذلك مثل عمر وعثمان وعلي وبن عمر وغيرهم لهم بذلك آثار مشهورة يصرحون فيها بان من قصد التحليل بقلبه فهو محلل وإن لم يشترطه في العقد وسموه سفاحا ولا تحل لمطلقها الأول بمثل هذا العقد ولا يحل للزوج المحلل إمساكها بهذا التحليل بل يجب عليه فراقها لكن إذا كان قد تبين بإجتهاد أو تقليد جواز ذلك فتحللت وتزوجها بعد ذلك ثم تبين له تحريم ذلك فالأقوى أنه لا يجب عليه فراقها بل يمنع من ذلك في المستقبل وقد عفا الله في الماضي عما سلف وسئل رحمه الله تعالى عن إمام عدل طلق إمرأته وبقيت عنده في بيته حتى استحلت تحليل أهل مصر وتزوجها
فأجاب إذا تزوجها الرجل بنية أنه إذا وطئها طلقها لتحلها لزوجها الأول أو تواطآ على ذلك قبل العقد أو شرطاه في صلب العقد لفظا أو عرفا فهذا وأنواعه نكاح التحليل الذي اتفقت الأمة على بطلانه وقد ثبت عن النبي أنه قال ( لعن الله المحلل والمحلل له
____________________
(32/152)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل طلق زوجته ثلاثا ثم أوفت العدة ثم تزوجت بزوج ثان وهو المستحل فهل الاستحلال يجوز بحكم ما جرى لرفاعة مع زوجته في أيام النبي أم لا ثم إنها اتت لبيت الزوج الأول طالبة لبعض حقها فغلبها على نفسها ثم إنها قعدت أياما وخافت وادعت أنها حاضت لكي يردها الزوج الأول فراجعها إلى عصمته بعقد شرعي وأقام معها أياما فظهر عليها الحمل وعلم أنها كانت كاذبة في الحيض فاعتزلها إلى أن يهتدي بحكم الشرع الشريف
فأجاب أما إذا تزوجها زوج ليحلها لزوجها المطلق فهذا المحلل وقد صح عن النبي أنه قال ( لعن الله المحلل والمحلل له ) وأما حديث رفاعة فذاك كان قد تزوجها نكاحا ثابتا لم يكن قد تزوجها ليحلها للمطلق وإذا تزوجت بالمحلل ثم طلقها فعليها العدة باتفاق العلماء إذ غايتها أن تكون موطؤة في نكاح فاسد فعليها العدة منه وما كان يحل للأول وطؤها وإذا وطئها فهو زان عاهر ونكاحها الأول قبل أن تحيض ثلاثا باطل باتفاق الأئمة وعليه أن يعتزلها فإذا جاءت
____________________
(32/153)
بولد الحق بالمحلل فإنه هو الذي وطأها في نكاح فاسد ولا يلحق الولد في النكاح الأول لأن عدته انقضت وتزوجت بعد ذلك لمن وطئها وهذا يقطع حكم الفراش بلا نزاع بين الأئمة ولا يلحق بوطئه زنا لأن النبي قال ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) لكن إن علم المحلل أن الولد ليس منه بل من هذا العاهر فعليه أن ينفيه باللعان فيلاعنها لعانا ينقطع فيه نسب الولد ويلحق نسب الولد بأمه ولا يلحق بالعاهر وسئل رحمه الله هل تصح مسألة العبد أم لا
فأجاب الحمد لله تزوج المرأة المطلقة بعبد يطؤها ثم تباح الزوجة هي من صور التحليل وقد صح عن النبي أنه قال ( لعن الله المحلل والمحلل له ) وسئل عن رجل حنث من زوجته فنكحت غيره ليحلها للأول فهل هذا النكاح صحيح أم لا
____________________
(32/154)
فأجاب قد صح عن النبي أنه قال ( لعن الله المحلل والمحلل له ) وعنه أنه قال ( ألا أنبئكم بالتيس المستعار ) قالوا بلى يا رسول الله قال ( هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له ) واتفق على تحريم ذلك أصحاب رسول الله والتابعون لهم بإحسان مثل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهم حتى قال بعضهم لا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله من قلبه أنه يريد أن يحلها له وقال بعضهم لا نكاح إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة وقال بعضهم من يخادع الله يخدعه وقال بعضهم كنا نعدها على عهد رسول الله سفاحا وقد اتفق أئمة الفتوى كلهم أنه إذا شرط التحليل في العقد كان باطلا وبعضهم لم يجعل للشرط المتقدم ولا العرف المطرد تأثيرا وجعل العقد مع ذلك كالنكاح المعروف نكاح الرغبة وأما الصحابة والتابعون وأكثر أئمة الفتيا فلا فرق عندهم بين هذا العرف واللفظ وهذا مذهب أهل المدينة وأهل الحديث وغيرهما والله أعلم وسئل رحمه الله عن العبد الصغير إذا استحلت به النساء وهو دون البلوغ هل يكون ذلك زوجا وهو لا يدري الجماع
____________________
(32/155)