يحتاجون لم يمكن من ذلك وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل كما يلزم الذى يشترى الحنطة ويطحنها ليتجر فيها والذى يشترى الدقيق ويخبزه ليتجر فيه مع حاجة الناس إلى ما عنده بل الزامه ببيع ذلك بثمن المثل أولى وأحرى بل اذا امتنع من صنعة الخبز والطحن حتى يتضرر الناس بذلك الزم بصنعتها كما تقدم واذا كانت حاجة الناس تندفع اذا عملوا ما يكفى الناس بحيث يشترى إذ ذاك بالثمن المعروف لم يحتج إلى تسعير وأما اذا كانت حاجة الناس لا تندفع الا بالتسعير العادل سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط
فصل
فأما الغش والتدليس فى ( الديانات ( فمثل البدع المخالفة للكتاب والسنة واجماع سلف الأمة من الأقوال والأفعال مثل أظهار المكاء والتصدية فى مساجد المسلمين ومثل سب جمهور الصحابة وجمهور المسلمين أو سب أئمة المسلمين ومشايخهم وولاة أمورهم المشهورين عند عموم الأمة بالخير ومثل التكذيب بأحاديث النبى التى تلقاها أهل العلم بالقبول ومثل رواية الأحاديث الموضوعة المفتراة على رسول الله ومثل الغلو فى الدين
____________________
(28/105)
بأن ينزل البشر منزلة الاله ومثل تجويز الخروج عن شريعة النبى ومثل الالحاد فى أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه والتكذيب بقدر الله ومعارضة أمره ونهيه بقضائه وقدره ومثل اظهار الخزعبلات السحرية والشعبذية الطبيعية وغيرها التى يضاهى بها ما للأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات ليصد بها عن سبيل الله أو يظن بها الخير فيمن ليس من أهله وهذا باب واسع يطول وصفه
فمن ظهر منه شيء من هذه المنكرات وجب منعه من ذلك وعقوبته عليها إذا لم يتب حتى قدر عليه بحسب ما جاءت به الشريعة من قتل أو جلد أو غير ذلك وأما المحتسب فعليه أن يعزر من أظهر ذلك قولا أو فعلا ويمنع من الاجتماع فى مظان التهم فالعقوبة لا تكون الا على ذنب ثابت وأما المنع والاحتراز فيكون مع التهمة كما منع عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن يجتمع الصبيان بمن كان يتهم بالفاحشة وهذا مثل الاحتراز عن قبول شهادة المتهم بالكذب وائتمان المتهم بالخيانة ومعاملة المتهم بالمطل
____________________
(28/106)
فصل
( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ( لا يتم الا بالعقوبات الشرعية فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن واقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات فمنها عقوبات مقدرة مثل جلد المفترى ثمانين وقطع السارق ومنها عقوبات غير مقدرة قد تسمى ( التعزير ( وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها وبحسب حال المذنب وبحسب حال الذنب فى قلته وكثرته
( والتعزير ( أجناس فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام ومنه ما يكون بالحبس ومنه ما يكون بالنفى عن الوطن ومنه ما يكون بالضرب فان كان ذلك لترك واجب مثل الضرب على ترك الصلاة او ترك أداء الحقوق الواجبة مثل ترك وفاء الدين مع القدرة عليه أو على ترك رد المغصوب أو أداء الامانة إلى أهلها فانه يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدى الواجب ويفرق الضرب عليه يوما بعد يوم وان كان الضرب على ذنب ماض جزاء بما كسب ونكالا من الله له ولغيره فهذا يفعل منه بقدر الحاجة فقط وليس لأقله حد
____________________
(28/107)
وأما أكثر التعزير ففيه ثلاثة أقوال فى مذهب أحمد وغيره احدها عشر جلدات
والثانى دون أقل الحدود اما تسعة وثلاثون سوطا واما تسعة وسبعون سوطا وهذا قول كثير من أصحاب أبى حنيفة والشافعى وأحمد
والثالث انه لا يتقدر بذلك وهو قول أصحاب مالك وطائفة من أصحاب الشافعى واحمد وهو أحدى الروايتين عنه لكن ان كان التعزير فيما فيه مقدر لم يبلغ به ذلك المقدر مثل التعزير على سرقة دون النصاب لا يبلغ به القطع والتعزير على المضمضة بالخمر لا يبلغ به حد الشرب والتعزير على القذف بغير الزنى لا يبلغ به الحد
وهذا القول أعدل الأقوال عليه دلت سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين فقد أمر النبى بضرب الذى أحلت له امراته جاريتها مائة ودرأ عنه الحد بالشبهة وأمر ابو بكر وعمر بضرب رجل وامراة وجدا فى لحاف واحد مائة مائة وامر بضرب الذى نقش على خاتمه وأخذ من بيت المال مائة ثم ضربه فى اليوم الثانى مائة ثم ضربه فى اليوم الثالث مائة وضرب صبيغ بن عسل لما رأى من بدعته ضربا كثيرا لم يعده
ومن لم يندفع فساده فى الأرض الا بالقتل قتل مثل المفرق
____________________
(28/108)
لجماعة المسلمين والداعى إلى البدع فى الدين قال تعالى { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } ) وفى الصحيح عن النبى أنه قال ( اذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ( وقال ( من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد ان يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان ( وأمر النبى بقتل رجل تعمد عليه الكذب وسأله بن الديلمى عمن لم ينته عن شرب الخمر فقال ( من لم ينته عنها فاقتلوه (
فلهذا ذهب مالك وطائفة من أصحاب أحمد إلى جواز قتل الجاسوس وذهب مالك ومن وافقه من أصحاب الشافعى إلى قتل الداعية إلى البدع وليست هذه القاعدة المختصرة موضع ذلك فان المحتسب ليس له القتل والقطع
ومن أنواع التعزير النفى والتغريب كما كان عمر بن الخطاب يعزر بالنفى فى شرب الخمر إلى خيبر وكما نفى صبيغ بن عسل إلى البصرة وأخرج نصر بن حجاج إلى البصرة لما افتتن به النساء
فصل
و ( التعزير بالعقوبات المالية ( مشروع أيضا
____________________
(28/109)
فى مواضع مخصوصة فى مذهب مالك فى المشهور عنه ومذهب احمد فى مواضع بلا نزاع عنه وفى مواضع فيها نزاع عنه والشافعى فى قول وان تنازعوا فى تفصيل ذلك كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مثل اباحته سلب الذى يصطاد فى حرم المدينة لمن وجده ومثل أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه ومثل أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين وقال له أغسلهما قال ( لا بل أحرقهما ( وأمره لهم يوم خيبر بكسر الاوعية التى فيها لحوم الحمر ثم لما استأذنوه فى الاراقة أذن فانه لما رأى القدور تفور بلحم الحمر أمر بكسرها واراقة ما فيها فقالوا أفلا نريقها ونغسلها فقال ( افعلوا ( فدل ذلك على جواز الامرين لأن العقوبة بذلك لم تكن واجبة
ومثل هدمه لمسجد الضرار ومثل تحريق موسى للعجل المتخذ إلها ومثل تضعيفه صلى الله عليه وسلم الغرم على من سرق من غير حرز ومثل ما روى من احراق متاع الغال ومن حرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الامير
ومثل امر عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب بتحريق المكان الذى يباع فيه الخمر ومثل أخذ شطر مال مانع الزكاة ومثل تحريق عثمان بن عفان المصاحف المخالفة للامام وتحريق عمر بن الخطاب لكتب الأوائل وامره بتحريق قصر سعد بن أبى وقاص الذى بناه لما أراد
____________________
(28/110)
أن يحتجب عن الناس فأرسل محمد بن مسلمة وأمره أن يحرقه عليه فذهب فحرقه عليه
وهذه القضايا كلها صحيحة معروفة عند أهل العلم بذلك ونظائرها متعددة
ومن قال ان العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبهما ومن قاله مطلقا من أى مذهب كان فقد قال قولا بلا دليل ولم يجئ عن النبى شيء قط يقتضى أنه حرم جميع العقوبات المالية بل أخذ الخلفاء الراشدين وأكابر أصحابه بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ
وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه وبعضها قول عند الشافعى باعتبار ما بلغه من الحديث
ومذهب مالك وأحمد وغيرهما ان العقوبات المالية كالبدنية تنقسم إلى ما يوافق الشرع والى ما يخالفه وليست العقوبة المالية منسوخة عندهما والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ لا من كتاب ولا سنة وهذا شأن كثير ممن يخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة بلا حجة الا مجرد دعوى النسخ واذا طولب بالناسخ لم يكن معه حجة
____________________
(28/111)
لبعض النصوص توهمه ترك العمل الا ان مذهب طائفته ترك العمل بها إجماع والإجماع دليل على النسخ ولا ريب انه اذا ثبت الاجماع كان ذلك دليلا على أنه منسوخ فان الأمة لا تجتمع على ضلالة ولكن لا يعرف اجماع على ترك نص الا وقد عرف النص الناسخ له ولهذا كان أكثر من يدعى نسخ النصوص بما يدعيه من الاجماع اذا حقق الأمر عليه لم يكن الاجماع الذى ادعاه صحيحا بل غايته انه لم يعرف فيه نزاعا ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول اصحابه ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء
وأيضا فان واجبات الشريعة التى هي حق لله ثلاثة أقسام عبادات كالصلاة والزكاة والصيام وعقوبات اما مقدرة واما مفوضة وكفارات وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدنى والى مالى والى مركب منهما
فالعبادات البدنية كالصلاة والصيام والمالية كالزكاة والمركبة كالحج والكفارات المالية كالاطعام والبدنية كالصيام والمركبة كالهدى بذبح
والعقوبات البدنية كالقتل والقطع والمالية كاتلاف أوعية الخمر
____________________
(28/112)
والمركبة كجلد السارق من غير حرز وتضعيف الغرم عليه وكقتل الكفار وأخذ أموالهم
وكما أن العقوبات البدنية تارة تكون جزاء على ما مضى كقطع السارق وتارة تكون دفعا عن المستقبل كقتل القاتل فكذلك المالية فان منها ما هو من باب ازالة المنكر وهى تنقسم كالبدنية إلى اتلاف والى تغيير والى تمليك الغير
فالأول المنكرات من الأعيان والصفات يجوز اتلاف محلها تبعا لها مثل الأصنام المعبودة من دون الله لما كانت صورها منكرة جاز اتلاف مادتها فاذا كانت حجرا او خشبا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها وكذلك آلات الملاهى مثل الطنبور يجوز اتلافها عند اكثر الفقهاء وهو مذهب مالك واشهر الروايتين عن أحمد ومثل ذلك أوعية الخمر يجوز تكسيرها وتخريقها والحانوت الذى يباع فيه الخمر يجوز تحريقه وقد نص أحمد على ذلك هو وغيره من المالكية وغيرهم واتبعوا ما ثبت عن عمر بن الخطاب انه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفى وقال انما أنت فويسق لا رويشد وكذلك أمير المؤمنين على بن أبى طالب أمر بتحريق قرية كان يباع فيها الخمر رواه أبو عبيدة وغيره وذلك لأن مكان البيع مثل الاوعية وهذا ايضا على المشهور فى مذهب أحمد ومالك وغيرهما
____________________
(28/113)
ومما يشبه ذلك ما فعله عمر بن الخطاب حيث رأى رجلا قد شاب اللبن بالماء للبيع فأراقه عليه وهذا ثابت عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وبذلك أفتى طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل وذلك لما روى عن النبى أنه ( نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع ( وذلك بخلاف شوبه للشرب لأنه اذا خلط لم يعرف المشترى مقدار اللبن من الماء فأتلفه عمر
ونظيره ما أفتى به طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الاصل فى جواز اتلاف المغشوشات فى الصناعات مثل الثياب التى نسجت نسجا رديئا انه يجوز تمزيقها وتحريقها ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب على بن الزبير ثوبا من حرير مزقه عليه فقال الزبير أفزعت الصبى فقال لا تكسوهم الحرير وكذلك تحريق عبد الله بن عمر لثوبه المعصفر بأمر النبى صلى الله عليه وسلم
وهذا كما يتلف من البدن المحل الذى قامت به المعصية فتقطع يد السارق وتقطع رجل المحارب ويده وكذلك الذي قام به المنكر فى اتلافه نهى عن العود إلى ذلك المنكر وليس اتلاف ذلك واجبا على الاطلاق بل اذا لم يكن فى المحل مفسدة جاز ابقاؤه ايضا اما لله واما أن يتصدق به كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل أن الطعام المغشوش من الخبز والطبيخ والشواء كالخبز والطعام الذى لم
____________________
(28/114)
ينضج وكالطعام المغشوش وهو الذى خلط بالرديء وأظهر المشترى أنه جيد ونحو ذلك يتصدق به على الفقراء فان ذلك من اتلافه واذا كان عمر بن الخطاب قد اتلف اللبن الذى شيب للبيع فلأن يجوز التصدق بذلك بطريق الأولى فانه يحصل به عقوبة الغاش وزجره عن العود ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من اتلافه وعمر اتلفه لأنه كان يغنى الناس بالعطاء فكان الفقراء عنده فى المدينة اما قليلا واما معدومين
ولهذا جوز طائفة من العلماء التصدق به وكرهوا اتلافه ففى المدونة عن مالك بن أنس أن عمربن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش فى الأرض ادبا لصاحبه وكره ذلك مالك فى رواية بن القاسم وراى ان يتصدق به وهل يتصدق باليسير فيه قولان للعلماء
وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية وقال لا يحل ذنب من الذنوب مال انسان وان قتل نفسا لكن الأول أشهر عنه وقد استحسن أن يتصدق باللبن المغشوش وفى ذلك عقوبة الغاش باتلافه عليه ونفع المساكين باعطائهم إياه ولا يهراق قيل لمالك فالزعفران والمسك أتراه مثله قال ما أشبهه بذلك اذا كان هو غشه فهو كاللبن قال بن القاسم هذا فى الشيء الخفيف منه فاما
____________________
(28/115)
أذا كثر منه فلا أرى ذلك وعلى صاحبه العقوبة لانه يذهب فى ذلك أموال عظام يريد فى الصدقة بكثيره
قال بعض الشيوخ وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا او كثيرا لأنه ساوى فى ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره وخالفه بن القاسم فلم ير أن يتصدق من ذلك الا بما كان يسيرا وذلك اذا كان هو الذى غشه وأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو وانما اشتراه أو وهب له أو ورثه فلا خلاف فى أنه لا يتصدق بشيء من ذلك
وممن آفتى بجواز اتلاف المغشوش من الثياب بن القطان قال فى الملاحف الرديئة النسج تحرق بالنار وأفتى بن عتاب فيها بالتصدق وقال تقطع خرقا وتعطى للمساكين اذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا وكذلك أفتى باعطاء الخبز المغشوش للمساكين فأنكر عليه بن القطان وقال لا يحل هذا فى مال امرئ مسلم الا باذنه
قال القاضي أبو الأصبع وهذا اضطراب فى جوابه وتناقض فى قوله لأن جوابه فى الملاحف باحراقها بالنار أشد من اعطاء هذا الخبز للمساكين وبن عتاب أضبط فى أصله فى ذلك واتبع لقوله
واذا لم ير ولى الأمر عقوبة الغاش بالصدقة أو الاتلاف فلا بد
____________________
(28/116)
أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش إما بازالة الغش واما ببيع المغشوش ممن يعلم انه مغشوش ولا يغشه على غيره قال عبد الملك بن حبيب قلت لمطرف وبن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن قالا يعاقب بالضرب والحبس والاخراج من السوق وما كثر من الخبز واللبن او غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب قال عبد الملك بن حبيب ولا يرده الامام إليه وليؤمر ببيعه عليه من يأمن أن يغش به وبكسر الخبز اذا كثر ويسلمه لصاحبه ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذى يغشه ممن يأكله ويبين له غشه هكذا العمل فيما غش من التجارات قال وهو ايضاح من استوضحته ذلك من اصحاب مالك وغيرهم
فصل
وأما التغيير فمثل ما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر عن النبى ( أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم الا من بأس ( فاذا كانت الدراهم أو الدنانير الجائزة فيها بأس كسرت ومثل تغيير الصورة المجسمة وغير المجسمة اذا لم تكن موطواة مثل ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله
____________________
(28/117)
عليه وسلم ( أتانى جبريل فقال إنى أتيتك الليلة فلم يمنعنى أن أدخل عليك البيت الا أنه كان فى البيت تمثال رجل وكان فى البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان فى البيت كلب فأمر برأس التمثال الذى فى البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة وأمر بالستر يقطع فيجعل فى وسادتين منتبذتين يوطآن وأمر بالكلب يخرج ففعل رسول الله واذا الكلب جرو كان للحسن والحسين تحت نضيد لهم ( رواه الامام أحمد وابو داود والترمذى وصححه
وكل ما كان من العين أو التأليف المحرم فازالته وتغييره متفق عليها بين المسلمين مثل اراقة خمر المسلم وتفكيك الات الملاهي وتغيير الصور المصورة وانما تنازعوا فى جواز اتلاف محلها تبعا للحال والصواب جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة واجماع السلف وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد وغيرهما والصواب ان كل مسكر من الطعام والشراب فهو حرام ويدخل فى ذلك البتع والمزر والحشيشة القنبية وغير ذلك
وأما التغريم فمثل ما روى ابو داود وغيره من أهل السنن عن النبى فيمن سرق من الثمر المعلق قبل أن يؤويه إلى الجرين ان عليه جلدات نكال وغرمه مرتين وفيمن
____________________
(28/118)
سرق من الماشية قبل أن تؤوى إلى المراح أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين
وكذلك قضى عمر بن الخطاب فى الضالة المكتومة أنه يضعف غرمها وبذلك كله قال طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره وأضعف عمر وغيره الغرم فى ناقة اعرابى أخذها مماليك جياع فأضعف الغرم على سيدهم ودرا عنهم القطع وأضعف عثمان بن عفان فى المسلم اذا قتل الذمى عمدا انه يضعف عليه الدية لأن دية الذمى نصف دية المسلم وأخذ بذلك أحمد بن حنبل
فصل
الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل فى قدر الله وفى شرعه فان هذامن العدل الذى تقوم به السماء والأرض كما قال الله تعالى { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا } وقال { وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم } وقال النبى ( من لا يرحم لا يرحم ( وقال ( ان الله وتر يحب الوتر ( وقال ( ان الله جميل يحب الجمال ( وقال ( ان الله طيب لا يقبل الا طيبا ( وقال ( إن الله نظيف
____________________
(28/119)
يحب النظافة (
ولهذاقطع يد السارق وشرع قطع يد المحارب ورجله وشرع القصاص فى الدماء والأموال والأبشارفاذا أمكن ان تكون العقوبة من جنس المعصية كان ذلك هو المشروع بحسب الامكان مثل ما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى شاهد الزور انه أمر باركابه دابة مقلوبا وتسويد وجهه فانه لما قلب الحديث قلب وجهه ولما سود وجهه بالكذب سود وجهه وهذاقد ذكره فى تعزير شاهد الزور طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم
ولهذا قال الله تعالى { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا } ) وقال تعالى { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } وفى الحديث ( يحشر الجبارون والمتكبرون على صور الذر يطأهم الناس بأرجلهم ( فانهم لما أذلوا عباد الله أذلهم الله لعباده كما أن من تواضع لله رفعه الله فجعل العباد متواضعين له والله تعالى يصلحنا وسائر اخواننا المؤمنين ويوفقنا لما يحبه ويرضاه من القول والعمل وسائر اخواننا المؤمنين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
____________________
(28/120)
فصل فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين فان رساله الله اما إخبار وإما انشاء
فالاخبار عن نفسه وعن خلقه مثل التوحيد والقصص الذى يندرج فيه الوعد والوعيد والانشاء الأمر والنهى والاباحة وهذا كما ذكر فى أن { قل هو الله أحد } ) تعدل ثلث القرآن لتضمنها ثلث التوحيد اذ هو قصص وتو حيد وأمر
وقوله سبحانه فى صفة نبينا { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } ) هو بيان لكمال رسالته فانه هو الذى امر الله على لسانه بكل معروف ونهى عن كل منكر وأحل كل طيب وحرم كل خبيث ولهذا روى عنه أنه قال ( انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق ( وقال فى الحديث المتفق عليه ( مثلى ومثل الانبياء كمثل
____________________
(28/121)
رجل بنى دارا فاتمها وأكملها الا موضع لبنة فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها ويقولون لولا موضع اللبنة فأنا تلك اللبنة ( فبه كمل دين الله المتضمن للأمر بكل معروف والنهى عن كل منكر واحلال كل طيب وتحريم كل خبيث وأما من قبله من الرسل فقد كان يحرم على أممهم بعض الطيبات كما قال { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } ) وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث كما قال تعالى { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } وتحريم الخبائث يندرج فى معنى ( النهى عن المنكر ( كما ان احلال الطيبات يندرج فى ( الامر بالمعروف ( لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهى عن كل منكر مما لم يتم الا للرسول الذى تمم الله به مكارم الاخلاق المندرجة فى المعروف وقد قال الله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضى لنا الاسلام دينا
وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } ( وقال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر }
____________________
(28/122)
ولهذا قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس تأتون بهم فى الاقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة فبين سبحانه أن هذه الامة خير الأمم للناس فهم أنفعهم لهم وأعظمهم احسانا اليهم لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد وأقاموا ذلك بالجهاد فى سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال النفع للخلق
وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ولا جاهدوا على ذلك بل منهم من لم يجاهد والذين جاهدوا كبنى إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال موسى لقومه { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } إلى قوله { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون }
وقال تعالى ( ألم تر إلى الملأ من بنى اسرائيل من بعد موسى اذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل الله قال
____________________
(28/123)
{ هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ومع هذا فكانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك ولهذا لم تحل لهم الغنائم ولم يكونوا يطؤون بملك اليمين ومعلوم أن أعظم الأمم المؤمنين قبلنا بنوا اسرئيل كما جاء فى الحديث المتفق على صحته فى الصحيحين عن بن عباس رضى الله عنهما قال خرج علينا النبى يوما فقال ( عرضت على الامم فجعل يمر النبى ومعه الرجل والنبي معه الرجلان والنبى معه الرهط والنبى ليس معه أحد ورأيت سوادا كثيرا سد الافق فرجوت ان يكون أمتى فقيل هذا موسى وقومه ثم قيل لى أنظر فرأيت سوادا كثيرا سد الافق فقيل لى انظر هكذا وهكذا فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون الفا يدخلون الجنة بغير حساب ( فتفرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر اصحاب النبى فقالوا أما نحن فولدنا فى الشرك ولكنا آمنا بالله ورسوله ولكن هؤلاء ابناؤنا فبلغ النبى فقال ( هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون ( فقام عكاشة بن محصن فقال
____________________
(28/124)
أمنهم أنا يا رسول الله قال ( نعم ( فقام آخر فقال أمنهم أنا فقال ( سبقك بها عكاشة ( ولهذا كان اجماع هذه الامة حجة لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر فلو اتفقوا على إباحة محرم أو اسقاط واجب او تحريم حلال أو اخبار عن الله تعالى او خلقه بباطل لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهى عن معروف من الكلم الطيب والعمل الصالح بل الآية تقتضى أن مالم تأمر به الأمة فليس من المعروف ومالم تنه عنه فليس من المنكر وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر فكيف يجوز ان تأمر كلها بمنكر او تنهى كلها عن معروف والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }
وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل امر الآمر ونهى الناهى منها إلى كل مكلف فى العالم إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة فكيف يشترط فيما هو من توابعها بل الشرط ان يتمكن المكلفون من وصول ذلك اليهم ثم إذا فرطوا فلم يسعوا فى وصوله اليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه
____________________
(28/125)
كان التفريط منهم لا
منه
وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد ايضا كذلك فاذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته اذ هو واجب على كل انسان بحسب قدرته كما قال النبى ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان (
وإذا كان كذلك فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واتمامه بالجهاد هو من اعظم المعروف الذى أمرنا به ولهذا قيل ليكن امرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر واذا كان هو من اعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات لابد ان تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة اذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر الله به فهو صلاح وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذم المفسدين فى غير موضع فحيث كانت مفسدة الأمر والنهى أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به وان كان قد ترك واجب وفعل محرم إذ المؤمن عليه أن يتقى الله فى عباده وليس عليه هداهم
____________________
(28/126)
وهذا معنى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } والاهتداء انما يتم باداء الواجب فاذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال
وذلك يكون تارة بالقلب وتارة باللسان وتارة باليد فأما القلب فيجب بكل حال اذ لاضرر فى فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النبى ( وذلك أدنى أو أضعف الايمان ( وقال ( ليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل ( وقيل لابن مسعود من ميت الاحياء فقال الذى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وهذا هو المفتون الموصوف فى حديث حذيفة بن اليمان
وهنا يغلط فريقان من الناس فريق يترك ما يجب من الأمر والنهى تاويلا لهذه الآية كما قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى خطبته انكم تقرؤون هذه الآية { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وانكم تضعونها فى غير موضعها وانى سمعت النبى يقول ( ان الناس اذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك ان يعمهم الله بعقاب منه
____________________
(28/127)
والفريق الثانى من يريد ان يأمر وينهى إما بلسانه واما بيده مطلقا من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك ومالا يصلح وما يقدر عليه ومالا يقدر كما فى حديث أبى ثعلبة الخشنى سألت عنها رسول الله قال ( بل أئتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى اذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة واعجاب كل ذى رأى برأيه ورأيت أمرا لا يدان لك به فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام فان من ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر للعامل فيهن كاجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله ( فيأتى بالأمر والنهى معتقدا انه مطيع فى ذلك لله ورسوله وهو معتد فى حدوده كما انتصب كثير من أهل البدع والاهواء كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهى والجهاد على ذلك وكان فساده أعظم من صلاحه ولهذا أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة وقال ( أدوا اليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم ( وقد بسطنا القول فى ذلك فى غير هذا الموضع
ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال فى الفتنة واما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ويجعل المعتزلة أصول دينهم
____________________
(28/128)
خمسة ( التوحيد ( الذى هو سلب الصفات و ( العدل ( الذى هو التكذيب بالقدر و ( المنزلة بين المنزلتين ( و ( انفاذ الوعيد ( و ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ( الذى منه قتال الأئمة
وقد تكلمت على قتال الأئمة فى غير هذا الموضع وجماع ذلك داخل فى ( القاعدة العامة ( فيما اذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات او تزاحمت فانه يجب ترجيح الراجح منها فيما اذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد فان الأمر والنهى وان كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر فى المعارض له فان كان الذى يفوت من المصالح او يحصل من المفاسد اكثر لم يكن مأمورا به بل يكون محرما اذا كانت مفسدته اكثر من مصلحته لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الانسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها والا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل ان تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام
وعلى هذا اذا كان الشخص او الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما بل اما أن يفعلوهما جميعا أو يتركوهما جميعا لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر بل ينظر فان كان المعروف اكثر أمر به وان استلزم ما هو دونه من المنكر ولم ينه
____________________
(28/129)
عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه بل يكون النهى حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعى فى زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات وان كان المنكر أغلب نهى عنه وان استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا فى معصية الله ورسوله وان تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما
فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهى وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهى حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك فى الأمور المعينة الواقعة
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا وينهى عن المنكر مطلقا وفى الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات اكثر منه أو حصول منكر فوقه ولا يتضمن النهى عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه
واذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق فلا يقدم على الطاعة الا بعلم ونية واذا تركها كان عاصيا فترك الأمر الواجب معصية وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية وهذا باب واسع ولا
____________________
(28/130)
حول ولا قوة إلا بالله
ومن هذا الباب اقرار النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبى وامثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان فازالة منكره بنوع من عقابه مستلزمه ازالة معروف اكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفور الناس اذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه ولهذا لما خاطب الناس فى قصة الافك بما خاطبهم به واعتذر منه وقال له سعد بن معاذ قوله الذى أحسن فيه حمى له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه
وأصل هذا أن تكون محبة الانسان المعروف وبغضه للمنكر وارادته لهذا وكراهته لهذا موافقة لحب الله وبغضه وارادته وكراهته الشرعيين وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته فان الله لا يكلف نفسا الاوسعها وقد قال { فاتقوا الله ما استطعتم } فأما حب القلب وبغضه وارادته وكراهيته فينبغى أن تكون كاملة جازمة لا يوجب نقص ذلك الا نقص الايمان
وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته ومتى كانت ارادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته فانه يعطى ثواب الفاعل الكامل كما قد بيناه فى غير هذا الموضع فان من الناس من يكون حبه وبغضه وارادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها لا
____________________
(28/131)
بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله
وهذا من نوع الهوى فان اتبعه الانسان فقد اتبع هواه { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } فان أصل الهوى محبة النفس ويتبع ذلك بغضها ونفس الهوى وهو الحب والبغض الذى فى النفس لا يلام عليه فان ذلك قد لا يملك وإنما يلام على اتباعه كما قال تعالى { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } وقال تعالى { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وقال النبى ( ثلاث منجيات خشية الله فى السر والعلانية والقصد فى الفقر والغنى وكلمة الحق فى الغضب والرضا وثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه (
والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ووجد وارادة وغير ذلك فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ الهه هواه واتباع الأهواء فى الديانات أعظم من اتباع الاهواء فى الشهوات فان الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كما قال تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وقال تعالى { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم }
____________________
(28/132)
الآية إلى ان قال { بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم } وقال تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم } الآية وقال تعالى { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } وقال تعالى { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } وقال تعالى فى الآية الأخرى { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } وقال { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الاهواء كما كان السلف يسمونهم أهل الاهواء وذلك ان كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه والعلم بالدين لا يكون الا بهدى الله الذى بعث به رسوله ولهذا قال تعالى فى موضع { وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم } وقال فى موضع آخر { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } فالواجب على العبد أن ينظر فى نفس حبه وبغضه ومقدار حبه
____________________
(28/133)
وبغضه هل هو موافق لأمر الله ورسوله وهو هدى الله الذى أنزله على رسوله بحيث يكون مأمورا بذلك الحب والبغض لا يكون متقدما فيه بين يدى الله ورسوله فانه قد قال ( لا تقدموا بين يدى الله ورسوله ( ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدى الله ورسوله ومجرد الحب والبغض هوى لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله ولهذا قال { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد } ) فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذى بعث به رسوله وهو السبيل إليه وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال تعالى ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ( وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله أخلصه وأصوبه فان العمل اذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى فان الله تعالى لا يقبل من العمل الا ما أريد به وجهه وحده كما فى الصحيح عن النبى قال ( يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو كله للذى أشرك
____________________
(28/134)
وهذا هو التوحيد الذى هو أصل الاسلام وهو دين الله الذى بعث به جميع رسله وله خلق الخلق وهو حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ولا بد مع ذلك أن يكون العمل صالحا وهو ما أمر الله به ورسوله وهو الطاعة فكل طاعة عمل صالح وكل عمل صالح طاعة وهو العمل المشروع المسنون اذ المشروع المسنون هو المأمور به أمر ايجاب أو استحباب وهو العمل الصالح وهو الحسن وهو البر وهو الخير وضده المعصية والعمل الفاسد والسيئة والفجور والظلم
ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين النية والحركة كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( أصدق الأسماء حارث وهمام ( فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية لكن النية المحمودة التى يتقبلها الله ويثيب عليها أن يراد الله بذلك العمل والعمل المحمود الصالح وهو المأمور به ولهذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول فى دعائه اللهم اجعل عملى كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لا حد فيه شيئا
وإذا كان هذا حد كل عمل صالح فالآمر بالمعروف والناهى عن المنكر يجب أن يكون هكذا فى حق نفسه ولا يكون عمله صالحا ان لم يكن بعلم وفقه وكما قال عمر بن عبد العزيز من عبد الله بغير علم
____________________
(28/135)
كان ما يفسد اكثر مما يصلح وكما فى حديث معاذ بن جبل رضى الله عنه ( العلم امام العمل والعمل تابعه ( وهذا ظاهر فان القصد والعمل ان لم يكن بعلم كان جهلا وضلالا واتباعا للهوى كما تقدم وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الاسلام فلابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهى ومن الصلاح ان يأتى بالأمر والنهى بالصراط المستقيم وهو اقرب الطرق إلى حصول المقصود
ولابد فى ذلك من الرفق كما قال النبى ( ما كان الرفق فى شيء الا زانه ولا كان العنف فى شيء الا شانه ( وقال ( إن الله رفيق يحب الرفق فى الأمر كله ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف (
ولا بد أيضا أن يكون حليما صبورا على الأذى فانه لا بد ان يحصل له أذى فان لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح كما قال لقمان لابنه { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } ( ولهذا أمر الله الرسل وهم أئمة الامر بالمعروف والنهى عن المنكر بالصبر كقوله لخاتم الرسل بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة فانه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة { يا أيها المدثر } بعد ان أنزلت عليه سورة { اقرأ } التى بها نبئ
____________________
(28/136)
فقال { يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر } ) فافتتح أيات الارسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة وختمها بالأمر بالصبر ونفس الانذار أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فعلم انه يجب بعد ذلك الصبر وقال { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } وقال تعالى { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا } { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت } { واصبر وما صبرك إلا بالله } { واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فلا بد من هذه الثلاثة العلم والرفق والصبر العلم قبل الأمر والنهى والرفق معه والصبر بعده وان كان كل من الثلاثة مستصحبا فى هذه الاحوال وهذا كما جاء فى الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعا ذكره القاضي أبو يعلى فى المعتمد ( لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما ينهى عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه (
وليعلم أن الأمر بهذه الخصال فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس فيظن انه بذلك يسقط عنه فيدعه وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو
____________________
(28/137)
أقل فان ترك الأمر الواجب معصية فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار والمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل وقد يكون الثانى شرا من الأول وقد يكون دونه وقد يكونان سواء فهكذا تجد المقصر فى الأمر والنهى والمعتدى فيه قد يكون ذنب هذا أعظم وقد يكون ذنب هذا أعظم وقد يكونان سواء
ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته فى الآفاق وفى انفسنا وبما شهد به فى كتابه أن المعاصى سبب المصائب فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال وان الطاعة سبب النعمة فاحسان العمل سبب لا حسان الله قال تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وقال تعالى { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وقال تعالى { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم } وقال { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وقال { أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير } وقال { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } وقال تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون }
____________________
(28/138)
وقد أخبر سبحانه بما عاقب به أهل السيئات من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وقوم فرعون فى الدنيا وأخبر بما يعاقبهم به فى الآخرة ولهذا قال مؤمن آل فرعون { يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد } وقال تعالى { كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر } وقال { سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم } وقال { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون } وقال { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } ( إلى قوله ( يوم نبطش البطشة الكبرى انا منتقمون (
ولهذا يذكر الله فى عامة سور الانذار ما عاقب به أهل السيئات فى الدنيا وما أعده لهم فى الآخرة وقد يذكر فى السورة وعد الآخرة فقط اذ عذاب الآخرة أعظم وثوابها أعظم وهى دار القرار وإنما يذكر ما يذكره من الثواب والعذاب فى الدنيا تبعا كقوله فى قصة يوسف { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } وقال { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة }
____________________
(28/139)
وقال { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } وقال عن ابراهيم عليه الصلاة والسلام { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } (
وأما ذكره لعقوبة الدنيا والآخرة ففى سورة { والنازعات غرقا والناشطات نشطا } ثم قال { يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة } فذكر القيامة مطلقا ثم قال { هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى } إلى قوله { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } ثم ذكر المبدأ والمعاد مفصلا فقال { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها } إلى قوله تعالى { فإذا جاءت الطامة الكبرى } إلى قوله تعالى { فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } إلى آخر السورة وكذلك فى ( المزمل ( ذكر قوله { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما } إلى قوله تعالى { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا } وكذلك فى سورة الحاقة ذكر قصص الأمم كثمود وعاد وفرعون
____________________
(28/140)
ثم قال تعالى { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } إلى تمام ما ذكره من أمر الجنة والنار وكذلك فى سورة { ن والقلم } ذكر قصة أهل البستان الذين منعوا حق أموالهم وما عاقبهم به ثم قال ( كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (
وكذلك فى ( سورة التغابن ( قال { ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد } ثم قال { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } وكذلك فى سورة ( ق ( ذكر حال المخالفين للرسل وذكر الوعد والوعيد فى الآخرة
وكذلك فى ( سورة القمر ( ذكر هذا وهذا
وكذلك فى ( آل حم ( مثل حم غافر والسجدة والزخرف والدخان وغير ذلك إلى غير ذلك مما لا يحصى
فان التوحيد والوعد والوعيد هو أول ما أنزل كما فى صحيح
____________________
(28/141)
البخارى عن يوسف بن ماهك قال انى عند عائشة أم المؤمنين اذ جاءها عراقى فقال أى الكفن خير قالت ويحك وما يضرك قال يا أم المؤمنين أرينى مصحفك قالت لم قال لعلى أؤلف القرآن عليه فانه يقرأ غير مؤلف قالت وما يضرك أيه قرأت قبل إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى اذا ثاب الناس إلى الاسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنى أبدا لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وانى لجارية ألعب { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } وما نزلت ( سورة البقرة ( و ( النساء ( إلا وانا عنده قال فأخرجت له المصحف فأملت عليه آى السور
واذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهى فيكون ذلك من ذنوبهم وينكر عليهم آخرون انكارا منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم فيحصل التفرق والاختلاف والشر وهذا من أعظم الفتن والشرور قديما وحديثا اذ الانسان ظلوم جهول والظلم والجهل أنواع فيكون ظلم الاول وجهله من نوع وظلم كل من الثانى والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر
____________________
(28/142)
ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل فى ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن هذا أصلها يدخل فى ذلك أسباب الضلال والغى التى هي الأهواء الدينية والشهوانية وهى البدع فى الدين والفجور فى الدنيا وذلك أن أسباب الضلال والغى البدع فى الدين والفجور فى الدنيا وهى مشتركة تعم بنى آدم لما فيهم من الظلم والجهل فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره كالزنا بلواط وغيره أو شرب خمر أو ظلم فى المال بخيانة أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك
ومعلوم أن هذه المعاصى وان كانت مستقبحة مذمومة فى العقل والدين فهي مشتهاة أيضا ومن شأن النفوس أنها لا تحب اختصاص غيرها بها لكن تريد أن يحصل لها ما حصل له وهذا هو الغبطة التى هي أدنى نوعى الحسد فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه أو تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه وان لم يحصل ففيها من ارادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه أنها تختص عن غيرها بالشهوات فكيف اذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك واختص بها دونها فالمعتدل منهم فى ذلك الذى يحب الاشتراك والتساوى وأما الآخر فظلوم حسود وهذان يقعان فى الأمور المباحة والأمور المحرمة لحق الله فما كان
____________________
(28/143)
جنسة مباحا من أكل وشرب ونكاح ولباس وركوب وأموال اذا وقع فيها الاختصاص حصل الظلم والبخل والحسد وأصلهما الشح كما فى الصحيح عن النبى أنه قال ( اياكم والشح فانه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ( ولهذا قال الله تعالى فى وصف الانصار الذين تبوأوا الدار والايمان من قبل المهاجرين { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } أى لا يجدون الحسد مماأوتى اخوانهم من المهاجرين { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }
ثم قال { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } ورؤى عبد الرحمن بن عوف يطوف بالبيت ويقول رب قنى شح نفسى رب قنى شح نفسى فقيل له فى ذلك فقال اذا وقيت شح نفسى فقد وقيت البخل والظلم والقطيعة أو كما قال
فهذا الشح الذى هو شدة حرص النفس يوجب البخل بمنع ما هو عليه والظلم بأخذ مال الغير ويوجب قطيعه الرحم ويوجب الحسد وهو كراهة ما اختص به الغير والحسد فيه بخل وظلم فانه بخل بما أعطيه غيره وظلمه بطلب زوال ذلك عنه
فاذا كان هذا فى جنس الشهوات المباحة فكيف بالمحرمة
____________________
(28/144)
كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك واذا وقع فيها اختصاص فانه يصير فيها نوعان أحدهما بغضها لما فى ذلك من الأختصاص والظلم كما يقع فى الأمور المباحة الجنس والثانى بغضها لما فى ذلك من حق الله
ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام أحدها ما فيها ظلم للناس كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق والحسد ونحو ذلك
والثانى ما فيه ظلم للنفس فقط كشرب الخمر والزنا اذا لم يتعد ضررهما
والثالث ما يجتمع فيه الأمران مثل أن يأخذ المتولى أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر ومثل أن يزنى بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان وقد قال الله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }
____________________
(28/145)
وأمور الناس تستقيم فى الدنيا مع العدل الذى فيه الاشتراك فى أنواع الاثم اكثر مما تستقيم مع الظلم فى الحقوق وان لم تشترك فى أثم ولهذا قيل ان الله يقيم الدولة العادلة وان كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وان كانت مسلمة ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( ليس ذنب أسرع عقوبة من البغى وقطيعة الرحم ( فالباغى يصرع فى الدنيا وان كان مغفورا له مرحوما فى الآخرة وذلك ان العدل نظام كل شيء فاذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها فى الآخرة من خلاق ومتى لم تقم بعدل لم تقم وان كان لصاحبها من الايمان ما يجزى به فى الآخرة
فالنفس فيها داعى الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له والتعدى عليه فى حقه وداعى الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث فهي قد تظلم من لا يظلمها وتؤثر هذه الشهوات وان لم تفعلها فاذا رأت نظراءها قد ظلموا وتناولوا هذه الشهوات صار داعى هذه الشهوات أو الظلم فيها اعظم بكثير وقد تصبر ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه ما لم يكن فيها قبل ذلك ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين بكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين وان أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب والجهاد على ذلك من الدين
____________________
(28/146)
والناس هنا ثلاثة أقسام قوم لا يقومون الا فى أهواء نفوسهم فلا يرضون الا بما يعطونه ولا يغضبون الا لما يحرمونه فاذا أعطى أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه وصار الامر الذى كان عنده منكرا ينهى عنه ويعاقب عليه ويذم صاحبه ويغضب عليه مرضيا عنده وصار فاعلا له وشريكا فيه ومعاونا عليه ومعاديا لمن نهى عنه وينكر عليه وهذا غالب فى بنى آدم يرى الانسان ويسمع من ذلك مالا يحصيه وسببه ان الانسان ظلوم جهول فلذلك لا يعدل بل ربما كان ظالما فى الحالين يرى قوما ينكرون على المتولى ظلمه لرعيته واعتدائه عليهم فيرضى أولئك المنكرين ببعض الشيء فينقلبون أعوانا له وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الانكار عليه وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزنى ويسمع الملاهى حتى يدخلوا أحدهم معهم فى ذلك أو يرضوه ببعض ذلك فتراه قد صار عونا لهم وهؤلاء قد يعودون بانكارهم إلى أقبح من الحال التى كانوا عليها وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره
وقوم يقومون ديانة صحيحة يكونون فى ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم من خير أمة أخرجت للناس
____________________
(28/147)
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله
وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا وهم غالب المؤمنين فمن فيه دين وله شهوة تجتمع فى قلوبهم ارادة الطاعة وارادة المعصية وربما غلب هذا تارة وهذا تارة
وهذه القسمة الثلاثية كما قيل الأنفس ثلاث أمارة ومطمئنة ولوامة فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التى تأمره بالسوء والاوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التى قيل فيها { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التى تفعل الذنب ثم تلوم عليه وتتلون تارة كذا وتارة كذا وتخلط عملا صالحا وآخر سيئا
ولهذا لما كان الناس فى زمن أبى بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم ( اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر وعمر ( أقرب عهدا بالرسالة وأعظم ايمانا وصلاحا وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت فى الطمأنينة لم تقع فتنة اذ كانوا فى حكم القسم الوسط
ولما كان فى آخر خلافة عثمان وخلافة على كثر القسم الثالث فصار فيهم شهوة وشبهة مع الايمان والدين وصار ذلك فى بعض الولاة
____________________
(28/148)
وبعض الرعايا ثم كثر ذلك بعد فنشأت الفتنة التى سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة فى الطرفين واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية فى الطرفين وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وانه مع الحق والعدل ومع هذا التأويل نوع من الهوى ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس وان كانت احدى الطائفتين أولى بالحق من الاخرى
فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله ويتوكل عليه فى أن يقيم قلبه ولا يزيغه ويثبته على الهدى والتقوى ولا يتبع الهوى كما قال تعالى { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم }
وهذا ايضا حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت فى المقالات والعبادات وهذه الامور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين فانهم يحتاجون إلى شيئين إلى دفع الفتنة التى ابتلى بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضى لها فان معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضى عندهم كما هو الواقع فيقوى الداعى الذى فى نفس الانسان وشيطانهم وما يحصل من الداعى بفعل الغير والنظير فكم ممن لم يرد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره لا سيما ان كان نظيره
____________________
(28/149)
يفعله ففعله فان الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض
ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر له مثل من تبعه من الأجر والوزر كما قال النبى ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ( وذلك لاشتراكهم فى الحقيقة وان حكم الشيء حكم نظيره وشبه الشيء منجذب إليه فاذا كان هذان داعيين قويين فكيف اذا انضم اليهما داعيان آخران وذلك ان كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه ويبغضون من لا يوافقهم وهذا ظاهر فى الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم
وكذلك فى أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم اما للمعاونة على ذلك كما فى المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق ونحوهم واما بالموافقة كما فى المجتمعين على شرب الخمر فانهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم واما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير اما حسدا له على ذلك لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم وإما لئلا يكون له عليهم حجة واما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه أو بمن يرفع ذلك اليهم ولئلا يكونوا تحت منته وخطره
____________________
(28/150)
ونحو ذلك من الاسباب قال الله تعالى { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } وقال تعالى فى المنافقين { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } وقال عثمان بن عفان رضى الله عنه ودت الزانية لو زنى النساء كلهن
والمشاركة قد يختارونها فى نفس الفجور كالاشتراك فى الشرب والكذب والاعتقاد الفاسد وقد يختارونها فى النوع كالزانى الذى يود أن غيره يزنى والسارق الذى يود أن غيره يسرق أيضا لكن فى غير العين التى زنى بها أو سرقها
وأما الداعى الثانى فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر فان شاركهم والا عادوه وآذوه على وجه ينتهى إلى حد الا كراه أولا ينتهى إلى حد الأكراه ثم أن هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم فى قبيح فعلهم أو يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه متى شاركهم وعاونهم وأطاعهم انتقصوه واستخفوا به وجعلوا ذلك حجة عليه فى أمور أخرى وان لم يشاركهم عادوه وآذوه وهذه حال غالب الظالمين القادرين
وهذا الموجود فى المنكر نظيره فى المعروف وأبلغ منه كما قال
____________________
(28/151)
تعالى { والذين آمنوا أشد حبا لله } فان داعى الخير أقوى فان الانسان فيه داع يدعوه إلى الايمان والعلم والصدق والعدل واداء الامانة فاذا وجد من يعمل مثل ذلك صار له داع آخر لا سيما اذا كان نظيره لا سيما مع المنافسة وهذا محمود حسن فان وجد من يحب موافقته على ذلك ومشاركته له من المؤمنين والصالحين ويبغضه اذا لم يفعل صار له داع ثالث فاذا أمروه بذلك ووالوه على ذلك وعادوه وعاقبوه على تركه صار له داع رابع
ولهذا يؤمر المؤمنون ان يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات كما يقابل الطبيب المرض بضده فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفسه وذلك بشيئين بفعل الحسنات وترك السيئات مع وجود ما ينفى الحسنات ويقتضى السيئات وهذه أربعة أنواع
ويؤمر ايضا باصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة بحسب قدرته وامكانه قال تعالى { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وروى عن الشافعى رضى الله عنه انه قال لو فكر الناس كلهم فى سورة ( والعصر ( لكفتهم وهو كما قال فان الله تعالى اخبر ان جميع الناس خاسرون الا من كان فى نفسه مؤمنا صالحا ومع غيره موصيا بالحق موصيا بالصبر واذا عظمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سببا لعلو
____________________
(28/152)
الدرجة وعظيم الأجر كما سئل النبى أى الناس أشد بلاء قال ( الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالامثل يبتلى الرجل على حسب دينه فان كان فى دينه صلابة زيد فى بلائه وان كان فى دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على وجه الأرض وليس عليه خطيئة ( وحينئذ فيحتاج من الصبر مالا يحتاج إليه غيره وذلك هو سبب الامامة فى الدين كما قال تعالى { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فلابد من الصبر على فعل الحسن المأمور به وترك السئ المحظور ويدخل فى ذلك الصبر على الاذى وعلى ما يقال والصبر على ما يصيبه من المكاره والصبر عن البطر عند النعم وغير ذلك من أنواع الصبر ولا يمكن العبد ان يصبر ان لم يكن له ما يطمئن به ويتنعم به ويغتذى به وهو اليقين كما فى الحديث الذى رواه أبو بكر الصديق رضى الله عنه عن النبى انه قال ( يا أيها الناس سلوا الله اليقين والعافية فانه لم يعط احد بعد اليقين خيرا من العافية فسلوهما الله )
وكذلك إذا أمر غيره بحسن او أحب موافقته على ذلك او نهى
____________________
(28/153)
غيره عن شيء فيحتاج أن يحسن إلى ذلك الغير احسانا يحصل به مقصوده من حصول المحبوب واندفاع المكروه
فان النفوس لا تصبر على المر الا بنوع من الحلو لا يمكن غير ذلك ولهذا أمر الله تعالى بتاليف القلوب حتى جعل للمؤلفة قلوبهم نصيبا فى الصدقات وقال تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) ) وقال تعالى { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } فلا بد أن يصبر وان يرحم وهذا هو الشجاعة والكرم
ولهذا يقرن الله بين الصلاة والزكاة تارة وهى الاحسان إلى الخلق وبينهما وبين الصبر تارة ولابد من الثلاثة الصلاة والزكاة والصبر لا تقوم مصلحة المؤمنين الا بذلك فى صلاح نفوسهم واصلاح غيرهم لا سيما كلما قويت الفتنة والمحنة فالحاجة إلى ذلك تكون أشد فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بنى أدم لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم الا به
ولهذا جميعهم يتمادحون بالشجاعة والكرم حتى ان ذلك عامة ما يمدح به الشعراء فى شعرهم وكذلك يتذامون بالبخل والجبن والقضايا التى يتفق عليها بنوا آدم لا تكون الا حقا كاتفاقهم على مدح الصدق والعدل وذم الكذب والظلم وقد قال النبى لما سأله الأعراب حتى اضطروه إلى سمرة فتعلقت بردائه فالتفت اليهم
____________________
(28/154)
وقال ( ( والذى نفسى بيده لو أن عندى عدد هذه العضاه نعما لقسمته عليكم ثم لا تجدونى بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا ) لكن يتنوع ذلك بتنوع المقاصد والصفات فانما الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى
ولهذا جاء الكتاب والسنة بذم البخل والجبن ومدح الشجاعة والسماحة فى سبيله دون ما ليس فى سبيله فقال النبى ( شر ما فى المرء شح هالع وجبن خالع ( وقال ( من سيدكم يا بنى سلمة فقالوا الجد بن قيس على أنا نزنه بالبخل فقال وأى داء أدوا من البخل ( وفى رواية ( ان السيد لا يكون بخيلا بل سيدكم الأبيض الجعد البراء بن معرور ( وكذلك فى الصحيح قول جابر بن عبد الله لابى بكر الصديق رضى الله عنهما اما ان تعطينى واما أن تبخل عنى فقال تقول واما أن تبخل عنى وأى داء أدوأ من البخل فجعل البخل من أعظم الأمراض
وفى صحيح مسلم عن سلمان بن ربيعة قال قال عمر قسم النبى صلى الله عليه وسلم قسما فقلت يا رسول الله والله لغير هؤلاء أحق به منهم فقال ( انهم خيرونى بين ان يسألونى بالفحش وبين أن يبخلونى ولست بباخل ( يقول انهم يسألونى مسألة لا تصلح فان أعطيتهم والا قالوا هو بخيل فقد خيرونى بين أمرين مكرهين لا يتركونى من أحدهما الفاحشة والتبخيل والتبخيل أشد فادفع
____________________
(28/155)
الاشد باعطائهم
والبخل جنس تحته أنواع كبائر وغير كبائر قال تعالى { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وقال { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } إلى قوله { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } وقال تعالى { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } وقال { فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه } وقال { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } وقال { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون } وقال { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } الآية
وما فى القرآن من الأمر بالايتاء والاعطاء وذم من ترك ذلك كله ذم للبخل وكذلك ذمه للجبن كثير مثل قوله { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } وقوله عن المنافقين { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون }
____________________
(28/156)
وقوله { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } وقوله { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا }
وما فى القرآن من الحض على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له كله ذم للجبن ولما كان صلاح بنى آدم لا يتم فى دينهم ودنياهم الا بالشجاعة والكرم بين سبحانه ان من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك فقال { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير } وقال تعالى { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }
____________________
(28/157)
وبالشجاعة والكرم فى سبيل الله فضل الله السابقين فقال { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } )
وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال فى سبيلة ومدحة فى غير آية من كتابة وذلك هو الشجاعة والسماحة فى طاعتة سبحانة فقال
( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله والله مع الصابرين ( وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعواالله ورسولة ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين )
والشجاعة ليست هي قوة البدن وقد يكون الرجل قوى البدن ضعيف القلب وانما هي قوة القلب وثباته فان القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال وعلى قوة القلب وخبرته به والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة دون التهور الذى لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم ولهذا كان القوى الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح فاما المغلوب حين غضبه
فليس بشجاع ولا شديد وقد تقدم أن جماع ذلك هو الصبر فانه لا بد منه والصبر صبران صبر عند الغضب وصبر عند المصيبة كما قال الحسن ما تجرع عبد
____________________
(28/158)
جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب وجرعة صبر عند المصيبة وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم وهذا هو الشجاع الشديد الذى يصبر على المؤلم
والمؤلم ان كان مما يمكن دفعه أثار الغضب وان كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز ولهذا جمع النبى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذى رواه مسلم عن بن مسعود قال قال النبى ( ما تعدون الرقوب فيكم قالوا الرقوب الذى لا يولد له قال ليس ذلك بالرقوب ولكن الرقوب الرجل الذى لم يقدم من ولده شيئا ثم قال ما تعدون الصرعة فيكم قلنا الذى لا تصرعه الرجال فقال ليس بذلك ولكن الصرعة الذى يملك نفسه عند الغضب ( فذكر ما يتضمن الصبر عند المصيبة والصبر عند الغضب قال الله تعالى فى المصيبة { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } الآية وقال تعالى فى الغضب { وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }
وهذا الجمع بين صبر المصيبة وصبر الغضب نظير الجمع بين صبر النعمة وصبر المصيبة كما فى قوله تعالى { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير }
____________________
(28/159)
وقال { لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } وبهذا وصف كعب بن زهير من وصفه من الصحابة المهاجرين حيث قال ** لا يفرحون اذا نالت سيوفهم ** قوما وليسوا مجازيعا اذا ** نيلوا وكذلك قال حسان بن ثابت فى صفة الانصار ** لا فخر ان هم أصابوا من عدوهم ** ** وان أصيبوا فلا خور ولا هلع ** وقال بعض العرب فى صفة النبى يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر
ولما كان الشيطان يدعو الناس عند هذين النوعين إلى تعدي الحدود بقلوبهم وأصواتهم وأيديهم نهى النبى عن ذلك فقال لما قيل له وقد بكى لما رأى ابراهيم فى النزع اتبكى أو لم تنه عن البكاء فقال ( انما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان وصوت عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية ( فجمع بين الصوتين
____________________
(28/160)
وأما نهيه عن ذلك فى المصائب فمثل قوله صلى الله عليه وسلم ( ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ( وقال ( أنا بريء من الحالقة والصالقة والشاقة ( وقال ( ما كان من العين والقلب فمن الله وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان ( وقال ( ان الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا حزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه ( وقال ( من ينح عليه فانه يعذب بما نيح عليه ( واشترط على النساء فى البيعة أن لا ينحن وقال ( ان النائحة اذا لم تتب قبل موتها فانها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران (
وقال فى الغلبة والمصائب والفرح ( ان الله كتب الاحسان على كل شيء فاذا قتلتم فاحسنوا القتلة واذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ( وقال ( ان اعف الناس قتلة أهل الايمان ( وقال ( لا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا ( إلى غير ذلك مما أمر به فى الجهاد من العدل وترك العدوان اتباعا لقوله تعالى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ( ولقوله تعالى { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين }
ونهى عن لباس الحرير وتختم الذهب والشرب فى آنية الذهب
____________________
(28/161)
والفضة واطالة الثياب إلى غير ذلك من أنواع السرف والخيلاء فى النعم وذم الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف وجعل فيهم الخسف والمسخ وقد قال الله تعالى { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } وقال عن قارون ( اذ قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين ( وهذه الامور الثلاثة مع الصبر عن الاعتداء فى الشهوة هي جوامع هذا الباب
وذلك أن الانسان بين ما يحبه ويشتهيه وبين ما يبغضه ويكرهه فهو يطلب الاول بمحبته وشهوته ويدفع الثانى ببغضه ونفرته واذا حصل الاول او اندفع الثانى أوجب له فرحا وسرورا وان حصل الثانى أو اندفع الاول حصل له حزن فهو محتاج عند المحبة والشهوة ان يصبر عن عدوانهما وعند الغضب والنفرة ان يصبر عن عدوانهما وعند الفرح أن يصبر عن عدوانه وعند المصيبة أن يصبر عن الجزع منها فالنبى صلى الله عليه وسلم ذكر الصوتين الاحمقين الفاجرين الصوت الذى يوجب الاعتداء فى الفرح حتى يصير الانسان فرحا فخورا والصوت الذى يوجب الجزع
وأما الصوت الذى يثير الغضب لله كالاصوات التى تقال فى الجهاد من الاشعار المنشدة فتلك لم تكن بآلات وكذلك أصوات الشهوة فى الفرح فرخص منها فيما وردت به السنة من الضرب بالدف
____________________
(28/162)
فى الاعراس والأفراح للنساء والصبيان
وعامة الأشعار التى تنشد بالأصوات لتحريك النفوس هي من هذه الأقسام الأربعة وهى التشبيب واشعار الغضب والحمية وهى الحماسة والهجاء واشعار المصائب كالمراثى واشعار النعم والفرح وهى المدائح والشعراء جرت عادتهم أن يمشوا مع الطبع كما قال الله تعالى { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون } ولهذا أخبر أنهم يتبعهم الغاوون والغاوي هو الذى يتبع هواه بغير علم وهذا هو الغى وهو خلاف الرشد كما ان الضال الذى لا يعلم مصلحته هو خلاف المهتدى قال الله سبحانه وتعالى { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى } ولهذا قال النبى ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى ( فلهذا تجدهم يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة اذ كان عدم هذين مذموما على الاطلاق وأما وجودهما فبه تحصل مقاصد النفوس على الاطلاق لكن العاقبة فى ذلك للمتقين وأما غير المتقين فلهم عاجلة لا عاقبة والعاقبة وان كانت فى الآخرة فتكون فى الدنيا ايضا كما قال تعالى لما ذكر قصة نوح ونجاته بالسفينة ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ( إلى قوله { فاصبر إن العاقبة للمتقين } وقال
____________________
(28/163)
( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين (
والفرقان أن يحمد من ذلك ما حمده الله ورسوله فان الله تعالى هو الذى حمده زين وذمه شين دون غيره من الشعراء والخطباء وغيرهم ولهذا لما قال القائل من بنى تميم للنبى ان حمدى زين وذمى شين قال له ( ذاك الله (
والله سبحانه حمد الشجاعة والسماحة فى سبيله كما فى الصحيح عن أبى موسى قال قيل يارسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فاى ذلك فى سبيل الله فقال ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو فى سبيل الله ( وقد قال سبحانه { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وذلك ان هذا هو المقصود الذى خلق الخلق له كما قال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فكل ما كان لأجل الغاية التى خلق لها الخلق كان محمودا عندالله وهو الذى يبقى لصاحبه وهذه الاعمال الصالحات
ولهذا كان الناس أربعة أصناف من يعمل لله بشجاعة وسماحة فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة ومن يعمل لغير الله بشجاعة وسماحة
____________________
(28/164)
فهذا ينتفع بذلك فى الدنيا وليس له فى الآخرة من خلاق ومن يعمل لله لكن لا بشجاعة ولا سماحة فهذا فيه من النفاق ونقص الايمان بقدر ذلك ومن لا يعمل لله وليس فيه شجاعة ولا سماحة فهذا ليس له دنيا ولا آخرة
فهذه الأخلاق والأفعال يحتاج اليها المؤمن عموما وخصوصا فى أوقات المحن والفتن الشديدة فانهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضى للفتنة عندهم ويحتاجون أيضا إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم وكل من هذين الأمرين فيه من الصعوبة ما فيه وان كان يسيرا على من يسره الله عليه وهذا لان الله أمر المؤمنين بالايمان والعمل الصالح وأمرهم بدعوة الناس وجهادهم على الايمان والعمل الصالح كما قال الله تعالى { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } وكما قال { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وكما قال { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وكما قال { وإن جندنا لهم الغالبون }
ولما كان في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد فى سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة صار فى الناس من يتعلل
____________________
(28/165)
لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة كما قال عن المنافقين { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا } الآية وقد ذكر فى التفسير أنها نزلت فى الجد بن قيس لما أمره النبى بالتجهز لغزو الروم وأظنه قال ( هل لك فى نساء بنى الأصفر ( فقال يارسول الله اني رجل لا أصبر عن النساء وانى أخاف الفتنة بنساء بنى الأصفر فائذن لى ولا تفتني وهذا الجد هو الذى تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة واستتر بجمل أحمر وجاء فيه الحديث ( ان كلهم مغفور له الا صاحب الجمل الأحمر ( فأنزل الله تعالى فيه { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا }
يقول انه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء فلا يفتتن بهن فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم فان من رأى الصور الجميلة وأحبها فان لم يتمكن منها اما لتحريم الشارع واما للعجز عنها يعذب قلبه وان قدر عليها وفعل المحظور هلك وفى الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء فهذا وجه قوله { ولا تفتني } قال الله تعالى { ألا في الفتنة سقطوا } يقول نفس اعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف ايمانه ومرض قلبه الذى زين له ترك الجهاد فتنة عظيمة قد سقط فيها
____________________
(28/166)
فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه فى فتنة عظيمة قد أصابته والله يقول { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } فمن ترك القتال الذى أمر الله به لئلا تكون فتنة فهو فى الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده وتركه ما أمر الله به من الجهاد
فتدبر هذا فان هذا مقام خطر فان الناس هنا ثلاثة أقسام قسم يأمرون وينهون ويقاتلون طلبا لا زالة الفتنة التى زعموا ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة كالمقتتلين فى الفتنة الواقعة بين الامة
وأقوام ينكلون عن الأمر والنهى والقتال الذى يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا لئلا يفتنوا وهم قد سقطوا فى الفتنة وهذه الفتنة المذكورة فى ( سورة براءة ( دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة فانها سبب نزول الآية وهذه حال كثير من المتدينين يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهى وجهاد يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا لئلا يفتنوا بجنس الشهوات وهم قد وقعوا فى الفتنة التى هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه وانما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور وهما متلازمان وانما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم الا على فعلهما جميعا أو تركهما جميعا مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو
____________________
(28/167)
المال وشهوات الغى فانه اذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهى وجهاد وامارة ونحو ذلك فلا بد أن يفعل شيئا من المحظورات
فالواجب عليه ان ينظر أغلب الأمرين فان كان المأمور أعظم أجرا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه فى المفسدة وان كان ترك المحظور أعظم أجرا لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات فهذا هذا وتفصيل ذلك يطول
وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهى ولا بد أن يأمر وينهى حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها اما بمعروف واما بمنكر كما قال تعالى { إن النفس لأمارة بالسوء } فان الأمر هو طلب الفعل وارادته والنهى طلب الترك وارادته ولا بد لكل حى من ارادة وطلب فى نفسه يقتضى بهما فعل نفسه ويقتضى بهما فعل غيره اذا أمكن ذلك فان الانسان حى يتحرك بارادته وبنوا آدم لا يعيشون الا باجتماع بعضهم مع بعض واذا اجتمع اثنان فصاعدا فلابد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر ولهذا كان أقل الجماعة فى الصلاة اثنين كما قيل الاثنان فما فوقهما جماعة لكن لما كان ذلك اشتراكا فى مجرد الصلاة حصل باثنين أحدهما إمام
____________________
(28/168)
والآخر مأموم كما قال النبى لمالك بن الحويرث وصاحبه ( اذا حضرت الصلاة فاذنا وأقيما وليؤمكما اكبركما ( وكانا متقاربين فى القراءة
وأما الأمور العادية ففى السنن انه قال ( لا يحل لثلاثة يكونون فى سفر الا أمروا عليهم أحدهم (
وإذا كان الأمر والنهى من لوازم وجود بنى آدم فمن لم يأمر بالمعروف الذى أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذى نهى الله عنه ورسوله ويؤمر بالمعروف الذى أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذى نهى الله عنه ورسوله والا فلا بد أن يأمر وينهى ويؤمر وينهى اما بما يضاد ذلك واما بما يشترك فيه الحق الذى أنزل الله بالباطل الذى لم ينزله الله واذا اتخذ ذلك دينا كان دينا مبتدعا وهذا كما أن كل بشر فانه متحرك بارادته همام حارث فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملا صالحا لوجه الله والا كان عملا فاسدا أو لغير وجه الله وهو الباطل كما قال تعالى { إن سعيكم لشتى }
وهذه الأعمال كلها باطلة من جنس أعمال الكفار { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } وقال تعالى { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب }
____________________
(28/169)
وقال { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا }
وقد أمر الله فى كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولى الأمر من المؤمنين كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } و { وأولي الأمر } أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام فلهذا كان أولوا الأمر صنفين العلماء والأمراء فاذا صلحوا صلح الناس واذا فسدوا فسد الناس كما قال ابو بكر الصديق رضى الله عنه للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا على هذا الامر قال ما استقامت لكم أئمتكم ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل من كان متبوعا فإنه من أولى الأمر وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى عنه وعلى كل واحد ممن عليه طاعته ان يطيعه فى طاعة الله ولا يطيعه فى معصية الله كما قال ابو بكر الصديق رضى الله عنه حين تولى أمر المسلمين وخطبهم فقال فى خطبته أيها الناس القوى فيكم الضعيف عندى حتى آخذ منه الحق
____________________
(28/170)
والضعيف فيكم القوى عندى حتى آخذ له الحق أطيعونى ما أطعت الله 1 فاذا عصيت الله فلا طاعة لى عليكم
فصل
واذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين أن يراد بها وجه الله وان تكون موافقة للشريعة فهذا فى الأقوال والأفعال فى الكلم الطيب والعمل الصالح في الأمور العلمية والأمور العبادية ولهذا ثبت فى الصحيح عن النبى ( ان أول ثلاثة تسجر بهم جهنم رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القر آن وأقرأه ليقول الناس هو عالم وقارئ ورجل قاتل وجاهد ليقول الناس هو شجاع وجريء ورجل تصدق واعطى ليقول الناس جواد سخى ( فان هؤلاء الثلاثة الذين يريدون الرياء والسمعة هم بازاء الثلاثة الذين بعد النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين فان من تعلم العلم الذى بعث الله به رسله وعلمه لوجه الله كان صديقا ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وقتل كان شهيدا ومن تصدق يبتغى بذلك وجه الله كان صالحا ولهذا يسأل المفرط فى ماله الرجعة وقت الموت كما قال بن عباس من اعطى مالا فلم يحج منه ولم يزك منه ولم سأل الرجعة وقت الموت وقرأ قوله تعالى { وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين }
____________________
(28/171)
فهذه الأمور العلمية الكلامية يحتاج المخبر بها ان يكون ما يخبر به عن الله واليوم الاخر وما كان وما يكون حقا صوابا وما يأمر به وينهى عنه كما جاءت به الرسل عن الله فهذا هو الصواب المو افق للسنة والشريعة المتبع لكتاب الله وسنة رسوله كما ان العبادات التى يتعبد العباد بها إذا كانت مما شرعه الله وأمر الله به ورسوله كانت حقا صوابا موافقا لما بعث الله به رسله وما لم يكن كذلك من القسمين كان من الباطل والبدع المضلة والجهل وان كان يسميه من يسميه علوما ومعقولات وعبادات ومجاهدات وأذواقا ومقامات
ويحتاج ايضا ان يؤمر بذلك لامر الله وينهى عنه لنهى الله ويخبر بما اخبر الله به لأنه حق وايمان وهدى كما أخبرت به الرسل كما تحتاج العبادة ان يقصد بها وجه الله فاذا قيل ذلك لاتباع الهوى والحمية أو لاظهار العلم والفضيلة أو لطلب السمعة والرياء كان بمنزلة المقاتل شجاعة وحمية ورياء
ومن هنا يتبين لك ما وقع فيه كثير من أهل العلم والمقال وأهل العبادة والحال فكثيرا ما يقول هؤلاء من الأقوال ما هو خلاف
____________________
(28/172)
الكتاب والسنة ووفاقها وكثيرا ما يتعبد هؤلاء بعبادات لم يأمر الله بها بل قد نهى عنها أو ما يتضمن مشروعا محظورا وكثيرا ما يقاتل هؤلاء قتالا مخالفا للقتال المأمور به او متضمنا لمأمور محظور
ثم كل من الاقسام الثلاثة المأمور والمحظور والمشتمل على الأمرين قد يكون لصاحبه نية حسنة وقد يكون متبعا لهواه وقد يجتمع له هذا وهذا
فهذه تسعة أقسام فى هذه الامور وفى الأموال المنفقة عليها من الأموال السلطانية الفيء وغيره والأموال الموقوفة والأموال الموصى بها والمنذورة وانواع العطايا والصدقات والصلات وهذا كله من لبس الحق بالباطل وخلط عمل صالح وآخر سيء والسيئ من ذلك قد يكون صاحبه مخطئا او ناسيا مغفورا له كالمجتهد المخطئ الذى له أجر وخطؤه مغفور له وقد يكون صغيرا مكفرا باجتناب الكبائر وقد يكون مغفورا بتوبة أو بحسنات تمحو السيئات او مكفرا بمصائب الدنيا ونحو ذلك الا أن دين الله الذى أنزل به كتبه وبعث به رسله ما تقدم من إرادة الله وحده بالعمل الصالح وهذا هو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد غيره قال تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } وقال تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام }
____________________
(28/173)
والاسلام يجمع معنيين أحدهما الاستسلام والانقياد فلا يكون متكبرا والثانى الاخلاص من قوله تعالى { ورجلا سلما لرجل } فلا يكون مشركا وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين كما قال تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال تعالى { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }
والاسلام يستعمل لا زما معدى بحرف اللام مثل ما ذكر فى هذه الآيات ومثل قوله تعالى { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } ومثل قوله تعالى { قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } ومثل قوله { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون }
____________________
(28/174)
ومثل قوله { قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه }
ويستعمل متعديا مقرونا بالاحسان كقوله تعالى { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ( وقوله { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا } فقد انكر أن يكون دين أحسن من هذا الدين وهو اسلام الوجه لله مع الاحسان وأخبر ان كل من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون أثبتت هذه الكلمة الجامعة والقضية العامة ردا لما زعم من زعمه أن لا يدخل الجنة الا متهود او متنصر
وهذان الوصفان وهما اسلام الوجه لله والاحسان هما الأصلان المتقدمان وهما كون العمل خالصا لله صوابا موافقا للسنة والشريعة وذلك ان اسلام الوجه لله هو متضمن للقصد والنية لله كما
____________________
(28/175)
قال ** بعضهم استغفر الله ذنبا لست محصيه ** ** رب العباد إليه الوجه والعمل **
وقد استعمل هنا أربعة ألفاظ إسلام الوجه واقامة الوجه كقوله تعالى { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } وقوله { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } وتوجيه الوجه كقول الخليل { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } وكذلك كان النبى يقول فى دعاء الاستفتاح فى صلاته { وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } وفى الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبى صلى الله عليه وسلم مما يقول اذا أوى إلى فراشه ( اللهم اسلمت نفسى اليك ووجهت وجهى اليك )
فالوجه يتناول المتوجه والمتوجه إليه ويتناول المتوجه نحوه كما يقال أى وجه تريد أى أى وجهة وناحية تقصد وذلك أنهما متلازمان فحيث توجه الإنسان توجه وجهه ووجهه مستلزم لتوجهه وهذا فى باطنه وظاهره جميعا فهذه أربعة أمور والباطن هو الأصل والظاهر هو الكمال والشعار فاذا توجه قلبه إلى شيء تبعه وجهه الظاهر فاذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله فهذا صلاح ارادته وقصده
____________________
(28/176)
فاذا كان مع ذلك محسنا فقد اجتمع أن يكون عمله صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وهو قول عمر رضى الله عنه اللهم اجعل عملى كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا والعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات وهو ما أمر الله به والذى أمر الله به هو الذى شرعه الله وهو الموافق لسنة اللهوسنة رسوله فقد أخبر الله تعالى انه من أخلص قصده لله وكان محسنا فى عمله فانه مستحق للثواب سالم من العقاب
ولهذا كان أئمة السلف يجمعون هذين الأصلين كقول الفضيل بن عياض فى قوله تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال أخلصه وأصوبه فقيل يا أبا على ما اخلصه وأصوبه فقال ان العمل اذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل واذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
وقد روى بن شاهين واللالكائى عن سعيد بن جبير قال لا يقبل قول وعمل الا بنية ولا يقبل قول وعمل ونية الا بموافقة السنة ورويا عن الحسن البصرى مثله ولفظه ( لا يصلح ( مكان يقبل وهذا فيه رد على المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافيا فأخبر أنه لابد من قول وعمل اذ الايمان قول وعمل لا بد من هذين كما قد بسطناه فى غير هذا الموضع وبينا أن مجرد تصديق القلب واللسان
____________________
(28/177)
مع البغض والاستكبار لا يكون ايمانا باتفاق المؤمنين حتى يقترن بالتصديق عمل
وأصل العملعمل القلب وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار ثم قالوا ولا يقبل قول وعمل الا بنية وهذا ظاهر فان القول والعمل اذا لم يكن خالصا لله تعالى لم يقبله الله تعالى ثم قالوا ولا يقبل قول وعمل ونية الا بموافقة السنة وهى الشريعة وهى ما أمر الله به ورسوله لأن القول والعمل والنية الذى لا يكون مسنونا مشروعا قد أمر الله به يكون بدعة ليس مما يحبه الله فلا يقبله الله ولا يصلح مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب
ولفظ ( السنة ( فى كلام السلف يتناول السنة فى العبادات وفى الإعتقادات وان كان كثير ممن صنف فى السنة يقصدون الكلام فى الاعتقادات وهذا كقول بن مسعود وابى بن كعب وابى الدرداء رضى الله عنهم اقتصاد فى سنة خير من اجتهاد فى بدعة وأمثال ذلك والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحابة أجمعين
____________________
(28/178)
وقال شيخ الاسلام بعد كلام سبق
وأصل ذلك العلم فإنه لا يعلم العدل والظلم الا بالعلم فصار الدين كله العلم والعدل وضد ذلك الظلم والجهل قال الله تعالى { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } ولما كان ظلوما جهو لا وذلك يقع من الرعاة تارة ومن الرعية تارة ومن غيرهم تارة كان من العلم والعدل المأمور به الصبر على ظلم الأئمة وجورهم كما هو من اصول أهل السنة والجماعة وكما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم فى الأحاديث المشهورة عنه لما قال ( إنكم ستلقون بعدى أثرة فاصبروا حتى تلقونى على الحوض ( وقال ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ( إلى أمثال ذلك وقال ( ادوا اليهم الذى لهم واسألوا الله الذى لكم ( ونهوا عن قتالهم ما صلوا وذلك لان معهم أصل الدين المقصود وهو توحيد الله وعبادته ومعهم حسنات وترك سيئات كثيرة
وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلم وجور كما هو عادة أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شر منه وتزيل العدوان بما هو أعدى منه
____________________
(28/179)
فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم فيصبر عليه كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على ظلم المامور والمنهى فى مواضع كثيرة كقوله ( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصاب ) ك ( وقوله { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } وقوله { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا }
وهذا عام فى ولاة الأمور وفى الرعية اذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فعليهم أن يصبروا على ما أصيبوا به فى ذات الله كما يصبر المجاهدون على ما يصاب من أنفسهم وأموالهم فالصبر على الأذى فى العرض أولى وأولى وذلك لأن مصلحة الأمر والنهى لا تتم إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويندرج فى ذلك ولاة الأمور فان عليهم من الصبر والحلم ما ليس على غيرهم كما أن عليهم من الشجاعة والسماحة ما ليس على غيرهم لأن مصلحة الامارة لا تتم الا بذلك فكما وجب على الأئمة الصبر على أذى الرعية وظلمها إذا لم تتم المصلحة إلا بذلك اذ كان تركه يفضى إلى فساد اكثر منه فكذلك يجب على الرعية الصبر على جور الائمة وظلمهم إذا لم يكن فى ترك الصبر مفسدة راجحة
فعلى كل من الراعى والرعية للآخر حقوقا يجب عليه أداؤها كما ذكر بعضه فى ( كتاب الجهاد والقضاء ( وعليه أن يصبر للآخر ويحلم
____________________
(28/180)
عنه فى أمور فلا بد من السماحة والصبر فى كل منهما كما قال تعالى { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } وفى الحديث ( أفضل الايمان السماحة والصبر ( ومن اسماء الله الغفور الرحيم فبالحلم يعفو عن سيئاتهم وبالسماحة يوصل اليهم المنافع فيجمع جلب المنفعة ودفع المضرة
فأما الامساك عن ظلمهم والعدل عليهم فوجوب ذلك أظهر من هذا فلا حاجة إلى بيانه والله أعلم
فصل فى مراتب الذنوب أما مراتبها فى الآخرة فله موضع غير هذا وإنما الغرض هنا مراتبها فى الدنيا فى الذم والعقاب وقد ذكرت فيما قبل هذا أن الذنوب التى فيها ظلم الغير والاضرار به فى الدين والدنيا أعظم عقوبة فى الدنيا مما لم يتضمن ضرر الغير وان كان عقوبة هذا فى الآخرة اكبر كما يعاقب ذووا الجرائم من المسلمين بما لا يعاقب به اهل الذمة من الكافرين وان كان الكافر اشد عذابا فى الآخرة من المسلم ويعاقب الثانى على عدالته مثل شارب النبيذ متأولا والبغاة المتأولين بما لا يعاقب به الفاسق المستسر بالذنب ويعاقب
____________________
(28/181)
الداعى إلى بدعة والمظهر للمنكر بما لا يعاقب به المنافق المستسر بنفاقه من غير دعوة للغير فهذه أمثلة فى الكافر والفاسق وفى الفاسق والعدل وفى المنافق والمؤمن المظهر لبدعة أو ذنب وبينت سبب ذلك أن عقوبة هؤلاء من باب دفع ظلم الظالمين عن الدين والدنيا بخلاف من لم يظلم الا نفسه فان عقوبته إلى ربه
( وجماع الأمر ( أن الذنوب كلها ظلم فاما ظلم العبد لنفسه فقط او ظلمه مع ذلك لغيره فما كان من ظلم الغير فلا بد ان يشرع من عقوبته ما يدفع به ظلم الظالم عن الدين والدنيا كما قال تعالى { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } فجعل السبب المبيح لعقوبة الغير التى هي قتاله { بأنهم ظلموا } وقال { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } فبين أن الظالم يعتدى عليه أى بتجاوز الحد المطلق فى حقه وهو العقوبة وهذا عدوان جائز
كما قال { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }
وقول بعضهم إن هذا ليس بعدوان فى الحقيقة وانما سماه عدوانا على سبيل المقابلة كما قالوا مثل ذلك فى قوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها } لا يحتاج إليه فان العدوان المطلق هو مجاوزة الحد المطلق وهذا لا يجوز فى حقه الا اذا اعتدى فيتجاوز الحد فى حقه بقدر تجاوزه
____________________
(28/182)
والسيئة اسم لما يسوء الانسان فان المصائب والعقوبات تسمى سيئة فى غير موضع من كتاب الله تعالى
والظلم نوعان تفريط فى الحق وتعد للحد فالأول ترك ما يجب للغير مثل ترك قضاء الديون وسائر الأمانات وغيرها من الأموال والثانى الاعتداء عليه مثل القتل واخذ المال وكلاهما ظلم ولهذا قال النبى فى الحديث المتفق عليه ( مطل الغنى ظلم واذا اتبع احدكم على مليء فليتبع ( فجعل مجرد المطل الذى هو تأخير الاداء مع القدرة ظلما فكيف بالترك رأسا وقد قال تعالى { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } إلى قوله { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } قالت عائشة رضى الله عنها هي اليتيمة تكون فى حجر وليها فيريد ان يتزوجها بدون أن يقسط لها فى مهرها فسمى الله تكميل المهر قسطا وضده الظلم
وهذا فى الجملة ظاهر متفق عليه بين المسلمين أن العدل قد يكون اداء واجب وقد يكون ترك محرم وقد يجمع الأمرين وان الظلم ايضا قد يكون ترك واجب وقد يكون فعل محرم وقد يجمع الامرين فاذا عرف هذا وقد عرف ان العدل والظلم يكون
____________________
(28/183)
فى حق نفس الانسان ويكون فى حقوق الناس كما تقدم وقد كتبت فيما تقدم من ( القواعد ( وفى آخر ( مسودة الفقه ( كلاما كليا فى ان جميع الحسنات تدخل فى العدل وجميع السيئات تدخل فى الظلم فانه يتبين بهذا مسائل نافعة
منها ان أولى الأمر من المسلمين من العلماء والأمراء ومن يتبعهم على كل واحد منهم حقوق للناس هي المقصوده الواجبة منه فى مرتبته وان لم تكن مطلوبة من غير ذلك النوع ولا واجبة عليه اذ وجوبها عليه دون ذلك وكذلك قد تكون عليه محرمات حرمتها عليه مرتبته وإن لم تحرم على غير أهل تلك المرتبة أو تحريمها عليهم أخف
مثال ذلك الجهاد فانه واجب على المسلمين عموما على الكفاية منهم وقد يجب أحيانا على أعيانهم لكن وجوبه على المرتزقة الذين يعطون مال الفيء لأجل الجهاد أوكد بل هو واجب عليهم عينا واجب بالشرع وواجب بالعقد الذى دخلوا فيه لما عقدوا مع ولاة الأمر عقد الطاعة فى الجهاد وواجب بالعوض فانه لو لم يكن واجبا لا بشرع ولا ببيعة إمام لوجب بالمعاوضة عليه كما يجب العمل على الأجير الذى قبض الأجرة ويجب تسليم المبيع على من قبض الثمن وهذا وجوب بعقد المعاوضة وبقبض العوض كما ان الأول وجوب
____________________
(28/184)
بالشرع وبمجرد مبايعة الأمام وهو واجب ايضا من جهة ما فى تركه من تغرير المسلمين والضرر اللاحق لهم بتركه وجوب الضمان للمضمون له
فان ( المرتزقة ( ضمنوا للمسلمين بالارتزاق الدفع عنهم فاطمأن الناس إلى ذلك واكتفوا بهم واعرضوا عن الدفع بأنفسهم أعظم مما يطمئن الموكل والمضارب إلى وكيله وعامله فاذا فرط بعضهم وضيع كان ذلك من أعظم الضرر على المسلمين فانهم أدخلوا الضرر العظيم على المسلمين فى دينهم ودنياهم بما تركوه من القتال عن المسلمين الواجب عليهم حتى لحق المسلمين من الضرر فى دينهم ودنياهم فى الأنفس والذرية والأموال مالا يقدر قدره أحد
فظلم المقاتلة بترك الجهاد عن المسلمين من أعظم ظلم يكون بخلاف ما يلحق أحدهم من الضرر فان ذاك ظلم لنفسه وكذلك ما يفعله من المعصية المختصة به كشرب الخمر وفعل الفاحشة فان هذا ظلم لنفسه مختص به فعقوبته على ترك الجهاد وذمه على ذلك أعظم بكثير من ذمه وعقوبته على ذلك
واذا لم يمكن جمع العقوبتين كانت العقوبة على ترك الجهاد مقدمة على العقوبة على هذه المعاصى كما أن منفعة الجهاد له وللمسلمين قد
____________________
(28/185)
تكون أعظم بكثير من منفعة ردعه عن الخمر والفاحشة اذا استسر بذلك ولم يظلم به غيره فيدفع هنا أعظم الفاسدين باحتمال ادناهما وفى مثل هذا قال ( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم ( ويذم أحد هؤلاء او يؤجر بما فيه من عجز عن الجهاد او تفريط فيه مالا يفعل بغيره ممن ليس مرصدا للجهاد
وكذلك أهل العلم الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة صورة ومعنى مع أن حفظ ذلك واجب على الأمة عمو ما على الكفاية منهم ومنه ما يجب على أعيانهم وهو علم العين الذى يجب على المسلم فى خاصة نفسه لكن وجوب ذلك عينا وكفاية على أهل العلم الذين رأسوا فيه أو رزقوا عليه أعظم من وجوبه على غيرهم لأنه واجب بالشرع عموما وقد يتعين عليهم لقدرتهم عليه وعجز غيرهم ويدخل فى القدرة استعداد العقل وسابقة الطلب ومعرفة الطرق الموصلة إليه من الكتب المصنفة والعلماء المتقدمين وسائر الأدلة المتعدده والتفرغ له عما يشغل به غيرهم
و
لهذا مضت السنة بأن الشروع فى العلم والجهاد يلزم كالشروع فى الحج يعنى ان ما حفظه من علم الدين وعلم الجهاد ليس له
____________________
(28/186)
اضاعته لقول النبى ( من قرأ القرآن ثم نسيه لقى الله وهو أجذم ( رواه ابو داود وقال ( عرضت على أعمال أمتى حسنها وسيئها فرأيت فى مساوئ اعمالها الرجل يؤتيه الله آية من القرآن ثم ينام عنها حتى ينساها ( وقال ( من تعلم الرمى ثم نسيه فليس منا ( رواه مسلم
وكذلك الشروع فى عمل الجهاد فان المسلمين اذا صافوا عدوا او حاصروا حصنا ليس لهم الانصراف عنه حتى يفتحوه ولذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ( ما ينبغى لنبي اذا لبس لأمته ان ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه (
فالمرصدون للعلم عليهم للامة حفظ علم الدين وتبليغه فاذا لم يبلغوهم علم الدين او ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين ولهذا قال تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } فان ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها فلعنهم اللاعنون حتى البهائم
كما ان معلم الخير يصلى عليه الله وملائكتة ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان فى جوف البحر والطير فى جو السماء
____________________
(28/187)
وكذلك كذبهم فى العلم من أعظم الظلم وكذلك اظهارهم للمعاصى والبدع التى تمنع الثقة بأقوالهم وتصرف القلوب عن اتباعهم وتقتضى متابعة الناس لهم فيها هي من اعظم الظلم ويستحقون من الذم والعقوبة عليها مالا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصى والبدع من غيرهم لأن أظهار غير العالم وان كان فيه نوع ضرر فليس هو مثل العالم فى الضرر الذى يمنع ظهور الحق ويوجب ظهور الباطل فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع بمنزلة اعراض المقاتلة عن الجهاد ودفع العدو ليس هو مثل اعراض آحاد المقاتلة لما فى ذلك من الضرر العظيم على المسلمين
فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم كلاهما ذنب عظيم وليس هو مثل ترك ما تحتاج الأمة إليه مما هو مفوض اليهم فان ترك هذا أعظم من ترك أداء المال الواجب إلى مستحقة وما يظهرونه من البدع والمعاصى التى تمنع قبول قولهم وتدعو النفوس إلى موافقتهم وتمنعهم وغيرهم من اظهار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أشد ضررا للأمة وضررا عليهم من إظهار غيرهم لذلك
ولهذا جبل الله قلوب الامة على انها تستعظم جبن الجندى
____________________
(28/188)
وفشله وتركه للجهاد ومعاونته للعدو اكثر مما تستعظمه من غيره وتستعظم إظهار العالم الفسوق والبدع اكثر مما تستعظم ذلك من غيره بخلاف فسوق الجندى وظلمه وفاحشته وبخلاف قعود العالم عن الجهاد بالبدن
ومثل ذلك ولاة الأمور كل بحسبه من الوالى والقاضى فان تفريط أحدهم فيما عليه رعايته من مصالح الأمة او فعل ضد ذلك من العدوان عليهم يستعظم أعظم مما يستعظم ذنب يخص أحدهم
____________________
(28/189)
وقال شيخ الاسلام رحمه الله فصل فى الولاية والعداوة
فان المؤمنين أولياء الله وبعضهم أولياء بعض والكفار أعداء الله وأعداء المؤمنين وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين وبين ان ذلك من لوازم الايمان ونهى عن موالاة الكفار وبين ان ذلك منتف فى حق المؤمنين وبين حال المنافقين فى موالاة الكافرين
فأما ( موالاة المؤمنين ( فكثيرة كقوله { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } إلى قوله { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وقوله { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } إلى قوله { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } وقال تعالى { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون }
____________________
(28/190)
وقال { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } إلى قوله { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } هـ ( إلى آخر السورة وقوله { لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } وقال { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } وقال { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } وقال { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } وقال { فإن الله عدو للكافرين } وقال { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم } إلى قوله { والله لا يهدي القوم الفاسقين } وقال { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } إلى قوله
____________________
(28/191)
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } إلى تمام الكلام وقال { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون }
فذم من يتولى الكفار من أهل الكتاب قبلنا وبين أن ذلك ينافى الايمان { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } إلى قوله { سبيلا } وقال { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا } وقال عن المنافقين { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون } كما قال عن الكفار المنافقين من أهل الكتاب { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون }
____________________
(28/192)
وقال { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم } ( نزلت فيمن تولى اليهود من المنافقين وقال { ما هم منكم } ولا من اليهود { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين } إلى قوله { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } وقال { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم } إلى تمام القصة وقال { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم }
وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم ولهذا ذكر فى سورة المائدة ( أئمة المرتدين عقب النهى عن موالاة الكفار قوله { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وقال { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا }
____________________
(28/193)
فذكر المنافقين والكفار المهادنين وأخبر أنهم يسمعون لقوم آخرين لم يأتوك وهو استماع المنافقين والكفار المهادنين للكفار المعلنين الذين لم يهادنوا كما أن فى المؤمنين من قد يكون سماعا للمنافقين كما قال { وفيكم سماعون لهم }
وبعض الناس يظن أن المعنى سماعون لأجلهم بمنزلة الجاسوس أى يسمعون ما يقول وينقلونه اليهم حتى قيل لبعضهم أين فى القرآن الحيطان لها أذان قال فى قوله { وفيكم سماعون لهم } وكذلك قوله { سماعون للكذب } أى ليكذبوا أن اللام لام التعدية لا لام التبعية وليس هذا معنى الآيتين وإنما المعنى فيكم من يسمع لهم أى يستجيب لهم ويتبعهم كما فى قوله سمع الله لمن حمده استجاب الله لمن حمده أى قبل منه يقال فلان يسمع لفلان أى يستجيب له ويطيعه
وذلك أن المسمع وإن كان أصله نفس السمع الذى يشبه الإدراك لكن اذا كان المسموع طلبا ففائدته وموجبه الاستجابة والقبول واذا كان المسموع خبرا ففائدته التصديق والاعتقاد فصار يدخل
____________________
(28/194)
مقصوده وفائدته فى مسماه نفيا وإثباتا فيقال فلان يسمع لفلا ن أى يطيعه فى أمره أو يصدقه فى خبره وفلان لا يسمع ما يقال له أى لا يصدق الخبر ولا يطيع الأمر كما بين الله السمع عن الكفار فى غير موضع كقوله { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } وقوله { ولا يسمع الصم الدعاء } وذلك لأن سمع الحق يوجب قبوله ايجاب الاحساس الحركة وايجاب علم القلب حركة القلب فان الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه فحيث انتفى موجب ذلك دل على إنتفاء مبدئه ولهذا قال تعالى { إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله }
ولهذا جعل سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة أى يسمعون مجرد الأصوات سمع الحيوان لا يسمعون ما فيها من تأليف الحروف المتضمنة للمعانى السمع الذى لا بد أن يكون بالقلب مع الجسم فقال تعالى { سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } هـ ( يقول هم يستجيبون { لقوم آخرين } وأولئك { لم يأتوك } وأولئك { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } يقولون لهؤلاء الذين أتوك { إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } كما ذكروا فى سبب نزول
____________________
(28/195)
الآية أنهم قالوا فى حد الزنى وفى القتل إذهبوا إلى هذا النبى الأمى فان حكم لكم بما تريدونه فاقبلوه وان حكم بغيره فانتم قد تركتم حكم التوراة أفلا تتركون حكمه فهذا هو استماع المتحاكمين من أولئك الذين لم يأتوه ولو كانوا بمنزلة الجاسوس لم يخص ذلك بالسماع بل يرون ويسمعون وان كانوا قد ينقلون إلى شياطينهم ما رأوه وسمعوه لكن هذا من توابع كونهم يستجيبون لهم ويوالونهم
يبين ذلك أنه قال { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } أى لأسرعوا بينكم يطلبون الفتنة بينكم ثم قال وفيكم مستجيبون لهم اذا أوضعوا خلالكم ولو كان المعنى وفيكم من تجسس لهم لم يكن مناسبا وانما المقصود أنهم إذا أوضعوا بينكم يطلبون الفتنة وفيكم من يسمع منهم حصل الشر واما الجس فلم يكونوا يحتاجون إليه فانهم بين المؤمنين وهم يوضعون خلالهم
مما يبين ذلك أنه قال { سماعون للكذب أكالون للسحت } فذكر ما يدخل فى أذانهم وقلوبهم من الكلام وما يدخل فى أفواههم وبطونهم من الطعام غذاء الجسوم وغذاء القلوب فانهما غذآن
____________________
(28/196)
خبيثان الكذب والسحت وهكذا من يأكل السحت من البرطيل ونحوه يسمع الكذب كشهادة الزور ولهذا قال { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت } فلما كان هؤلاء يستجيبون لغير الرسول كما يستجيبون له اذا وافق أراءهم وأهواءهم لم يجب عليه الحكم بينهم فانهم متخيرون بين القبول منه والقبول ممن يخالفه فكان هو متخيرا فى الحكم بينهم والاعراض عنهم وانما يجب عليه الحكم بين من لابد له منه من المؤمنين
واذا ظهر المعنى تبين فصل الخطاب فى وجوب الحكم بين المعاهدين من أهل الحرب كالمستأمن والمهادن والذمى فان فيه نزاعا مشهورا بين العلماء قيل ليس بواجب للتخير وقيل بل هو واجب والتخيير منسوخ بقوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله }
قال الأولون أما الأمر هنا أن يحكم بما أنزل الله اذا حكم فهو أمر بصفة الحكم لا بأصله كقوله { وإن حكمت } { فاحكم بينهم بما أنزل الله } وقوله { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وهذا أصوب فان النسخ لا يكون بمحتمل فكيف بمرجوح وقيل يجب فى مظالم العباد دون غيرها والخلاف فى ذلك مشهور فى
____________________
(28/197)
مذهب الامام أحمد وغيره من الأئمة
وحقيقة الآية إن كان مستجيبا لقوم آخرين لم يأتوه لم يجب عليه الحكم بينهم كالمعاهد من المستأمن وغيره الذى يرجع إلى أمرآئه وعلمائه فى دراهم وكالذمى الذى إن حكم له بما يوافق غرضه وإلارجع إلى اكابرهم وعلمائهم فيكون متخيرا بين الطاعة لحكم الله ورسوله وبين الاعراض عنه واما من لم يكن الا مطيعا لحكم الله ورسوله ليس عنه مندوحة كالمظلوم الذى يطلب نصره من ظالمه وليس له من ينصره من أهل دينه فهذا ليس فى الآية تخيير واذا كان عقد الذمة قد أوجب نصره من أهل الحرب فنصره ممن يظلمه من أهل الذمة أولى ان يوجب ذلك
وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة وبين ترك ذلك لم يجب عليه الحكم بينهم وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبى
ومن هذا الباب من لا يكون قصده فى استفتائه وحكومته الحق بل غرضه من يوافقه على هواه كائنا من كان سواء كان صحيحا أو باطلا فهذا سماع لغير ما بعث الله به رسوله فان الله إنما بعث رسوله
____________________
(28/198)
بالهدى ودين الحق فليس على خلفاء رسول الله أن يفتوه ويحكموا له كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين لم يستجيبوا لله ورسوله
ومن جنس موالاة الكفار التى ذم الله بها أهل الكتاب والمنافقين الايمان ببعض ما هم عليه من الكفر او التحاكم اليهم دون كتاب الله كما قال تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } وقد عرف أن سبب نزولها شأن كعب بن الأشرف أحد رؤساء اليهود لما ذهب إلى المشركين ورجح دينهم على دين محمد واصحابه والقصة قد ذكرناها فى ( الصارم المسلول ( لما ذكرنا قول النبى ( من لكعب بن الأشرف فانه قد آذى الله ورسوله (
ونظير هذه الآية قوله تعالى عن بعض أهل الكتاب { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } ( الآية فأخبر أنهم اتبعوا السحر وتركوا كتاب الله كما يفعله كثير من اليهود وبعض المنتسبين إلى الاسلام من اتباعهم كتب السحرة أعداء ابراهيم وموسى من المتفلسفة ونحوهم
____________________
(28/199)
وهو كايمانهم بالجبت والطاغوت فان الطاغوت هو الطاغى من الأعيان والجبت هو من الأعمال والأقوال كما قال عمر بن الخطاب الجبت السحر والطاغوت الشيطان ولهذا قال النبى ( العيافة والطيرة والطرق من الجبت ( رواه أبو داود
وكذلك ما أخبر عن أهل الكتاب بقوله ( قل 2 هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ( أى ومن عبد الطاغوت فان أهل الكتاب كان منهم من أشرك وعبد الطواغيت فهنا
ذكر عبادتهم للطاغوت وفى ( البقرة ( ذكر اتباعهم للسحر وذكر فى ( النساء ( أيمانهم بهما جميعا بالجبت والطاغوت
وأما التحاكم إلى غير كتاب الله فقد قال { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } (
والطاغوت فعلوت من الطغيان كما أن الملكوت فعلوت من الملك والرحموت والرهبوت والرغبوت فعلوت من الرحمة
____________________
(28/200)
والرهبة والرغبة والطغيان مجاوزة الحد وهو الظلم والبغى فالمعبود من دون الله اذا لم يكن كارها لذلك طاغوت ولهذا سمى النبى الأصنام طواغيت فى الحديث الصحيح لما قال ( ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت ( والمطاع فى معصية الله والمطاع فى اتباع غير الهدى ودين الحق سواء كان مقبولا خبره المخالف لكتاب الله او مطاعا امره المخالف لأمر الله هو طاغوت ولهذا سمى من تحوكم إليه من حاكم بغير كتاب الله طاغوت وسمى الله فرعون ( وعادا طغاة ( وقال فى صيحة ثمود { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية }
فمن كان من هذه الأمة مواليا للكفار من المشركين او اهل الكتاب ببعض انواع الموالاة ونحوها مثل اتيانه ( أهل ( الباطل واتباعهم فى شيء من مقالهم وفعالهم الباطل كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك وذلك مثل متابعتهم فى آرائهم وأعمالهم كنحو أقوال الصابئة وافعالهم من الفلاسفة ونحوهم المخالفة للكتاب والسنة ونحو أقوال اليهود والنصارى وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة ونحو أقوال المجوس والمشركين وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة
ومن تولى أمواتهم أو أحياءهم بالمحبة والتعظيم والموافقة فهو منهم كالذين وافقوا أعداء إبراهيم الخليل من الكلدانيين وغيرهم
____________________
(28/201)
من المشركين عباد الكواكب أهل السحر والذين وافقوا أعداء موسى من فرعون وقومه بالسحر أو ادعى أنه ليس ثم صانع غير الصنعه ولا خالق غير المخلوق ولا فوق السماوات اله كما يقوله الاتحادية وغيرهم من الجهمية والذين وافقوا الصائبة والفلاسفة فيما كانوا يقولونه فى الخالق ورسله في أسمائه وصفاته والمعاد وغير ذلك
ولا ريب أن هذه الطوائف وان كان كفرها ظاهرا فان كثيرا من الداخلين فى الاسلام حتى من المشهورين بالعلم والعبادة والامارة قد دخل فى كثير من كفرهم وعظمهم ويرى تحكيم ما قرروه من القواعد ونحو ذلك وهؤلاء كثروا فى المستأخرين ولبسوا الحق الذى جاءت به الرسل بالباطل الذى كان عليه أعداؤهم
والله تعالى يحب تمييز الخبيث من الطيب والحق من الباطل فيعرف ان هؤلاء الأصناف منافقون أو فيهم نفاق وان كانوا مع المسلمين فان كون الرجل مسلما فى الظاهر لا يمنع أن يكون منافقا فى الباطن فان المنافقين كلهم مسلمون فى الظاهر والقرآن قد بين صفاتهم وأحكامهم واذا كانوا موجودين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى عزة الاسلام مع ظهور أعلام النبوة ونور الرسالة فهم مع بعدهم عنهما اشد وجودا لاسيما وسبب النفاق هو سبب الكفر وهو المعارض لما جاءت به الرسل
____________________
(28/202)
وسئل رحمه الله
عمن يجب أو يجوز بغضه او هجره او كلاهما لله تعالى وماذا يشترط على الذى يبغضه او يهجره لله تعالى من الشروط وهل يدخل ترك السلام فى الهجران أم لا واذا بدأ المهجور الهاجر بالسلام هل يجب الرد عليه أم لا وهل يستمر البغض والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التى أبغضه وهجره عليها ام يكون لذلك مدة معلومة فان كان لها مدة معلومة فما حدها افتونا مأجورين
فأجاب الهجر الشرعى نوعان ( أحدهما ( بمعنى الترك للمنكرات و ( الثانى ( بمعنى العقوبة عليها
فالأول هو المذكور فى قوله تعالى { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } وقوله تعالى { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم }
____________________
(28/203)
فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك بخلاف من حضر عندهم للانكار عليهم او حضر بغير اختياره ولهذا يقال حاضر المنكر كفاعله وفى الحديث ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر ( وهذا الهجر من جنس هجر الانسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه (
ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الاسلام والايمان فانه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به ومن هذا قوله تعالى { والرجز فاهجر }
النوع الثانى الهجر على وجه التاديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها كما هجر النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ولم يهجر من أظهر الخير
____________________
(28/204)
وان كان منافقا فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير
والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعى إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة واجماع سلف الامة التى ظهر انها بدع
وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة ان الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية لأن الداعية اظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فانه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبى صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم ولهذا جاء فى الحديث ( ان المعصية اذا خفيت لم تضر الا صاحبها ولكن اذا اعلنت فلم تنكر ضرت العامة ( وذلك لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( ان الناس اذا رأوا المنكر فلم يغيروه اوشك ان يعمهم الله بعقاب منه (
فالمنكرات الظاهرة يجب انكارها بخلاف الباطنة فان عقوبتها على صاحبها
____________________
(28/205)
خاصة
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين فى قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فان المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فان كانت المصلحة فى ذلك راجحة بحيث يفضى هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا وان كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبى يتألف قوما ويهجر آخرين كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من اكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين فى عشائرهم فكانت المصلحة الدينية فى تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان فى هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم وهذا كما أن المشروع فى العدو القتال تارة والمهادنه تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الاحوال والمصالح
وجواب الائمة كأحمد وغيره فى هذا الباب مبنى على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التى كثرت فيها البدع كما كثر القدر فى البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس
____________________
(28/206)
كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم واذا عرف مقصود الشريعة سلك فى حصوله أوصل الطرق إليه
واذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الاعمال التى أمر الله بها ورسوله فالطاعة لابد أن تكون خالصه لله وأن تكون موافقة لامره فتكون خالصة لله صوابا فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به كان خارجا عن هذا وما اكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله
والهجر لأجل حظ الانسان لا يجوز اكثر من ثلاث كما جاء فى الصحيحين عن النبى انه قال ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذى يبدأ بالسلام ( فلم يرخص فى هذا الهجر اكثر من ثلاث كما لم يرخص فى احداد غير الزوجة اكثر من ثلاث وفى الصحيحين عنه أنه قال ( تفتح أبواب الجنة كل أثنين وخميس فيغفر لكل عبد لايشرك بالله شيئا الا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا ( فهذا الهجر لحق الانسان حرام وانما رخص فى بعضه كما رخص للزوج ان يهجر امرأته فى المضجع اذا نشزت وكما رخص فى هجر الثلاث
فينبغى ان يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه
____________________
(28/207)
ف ( الأول ( مأمور به و ( الثانى ( منهى عنه لأن المؤمنين أخوة وقد قال النبى فى الحديث الصحيح ( لاتقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخوانا المسلم أخو المسلم ( وقال فى الحديث الذى فى السنن ( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قالوا بلى يا رسول الله قال اصلاح ذات البين فان فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ( وقال فى الحديث الصحيح ( مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذ اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (
وهذا لأن الهجر من ( باب العقوبات الشرعية ( فهو من جنس الجهاد فى سبيل الله وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله والمؤمن عليه أن يعادى فى الله ويوالى فى الله فان كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وان ظلمه فان الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة } فجعلهم أخوة
____________________
(28/208)
مع وجود القتال والبغى والأمر بالاصلاح بينهم
فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وان ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وان أعطاك وأحسن اليك فان الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والاكرام لأوليائه والاهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه
واذا اجتمع فى الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع فى الشخص الواحد موجبات الأكرام والأهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته
هذا هو الأصل الذى اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط وأهل السنة يقولون ان الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن
____________________
(28/209)
له فى الشفاعة بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبى والله سبحانه وتعالى أعلم وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وقال رحمه الله فصل
فى مسائل إسحاق بن منصور وذكره الخلال فى ( كتاب السنة ( فى باب مجانبة من قال القرآن مخلوق عن إسحاق انه قال لأبى عبد الله من قال القرآن مخلوق قال ألحق به كل بلية قلت فيظهر العداوة لهم أم يداريهم قال أهل خراسان لا يقوون بهم وهذا الجواب منه مع قوله فى القدرية لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن اكثر اهل البصرة ومع ما كان يعاملهم به فى المحنة من الدفع بالتى هي أحسن ومخاطبتهم بالحجج يفسر ما فى كلامه وأفعاله من هجرهم والنهى عن مجالستهم ومكالمتهم حتى هجر
فى زمن غير ما أعيان من الاكابر وامر بهجرهم لنوع ما من التجهم
____________________
(28/210)
فان الهجرة نوع من أنواع التعزير والعقوبة نوع من أنواع الهجرة التى هي ترك السيئات فان النبى صلى الله عليه وسلم قال ( المهاجر من هجر السيئات ( وقال ( من هجر ما نهى الله عنه ( فهذا هجرة التقوى وفى هجرة التعزير والجهاد هجرة الثلاثة الذين خلفوا وأمر المسلمين بهجرهم حتى تيب عليهم
فالهجرة تارة تكون من نوع التقوى إذا كانت هجرا للسيئات كما قال تعالى { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون } فبين سبحانه ان المتقين خلاف الظالمين وان المأمورين بهجران مجالس الخوض فى آيات الله هم المتقون وتارة تكون من نوع الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واقامة الحدود وهو عقوبة من اعتدى وكان ظالما
وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة فلهذا اختلف حكم الشرع فى نوعى الهجرتين بين القادر والعاجز وبين قلة نوع الظالم المبتدع وكثرته وقوته وضعفه كما يختلف الحكم بذلك فى سائر أنواع الظلم من الكفر والفسوق والعصيان فإن كلما حرمه الله فهو ظلم اما فى حق الله فقط واما فى حق عباده واما فيهما وما امر به من هجر الترك والانتهاء وهجر العقوبة والتعزير إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة
____________________
(28/211)
دينية راجحة على فعله والا فاذا كان فى السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة واذا كان فى العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة بل تكون سيئة وان كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة
فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التى هي ظلم وذنب وأثم وفساد وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهى عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا وليقوى الايمان والعمل الصالح عند اهله فان عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه وتحضها على فعل ضد ظلمه من الايمان والسنة ونحو ذلك فاذا لم يكن فى هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء احد بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مامورا بها كما ذكره أحمد عن أهل خراسان اذ ذاك انهم لم يكونوا يقوون بالجهمية فاذا عجزوا عن أظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ولعله ان يكون فيه تأليف الفاجر القوى وكذلك لما كثر القدر فى أهل البصرة فلو ترك رواية الحديث عنهم لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم فاذا تعذر اقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك الا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس ولهذا كان الكلام فى هذه المسائل فيه تفصيل
____________________
(28/212)
وكثير من أجوبة الامام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول إنما يثبت حكمها فى نظيرها
فان أقواما جعلوا ذلك عاما فاستعملوا من الهجر والأنكار ما لم يؤمروا به فلا يجب ولا يستحب وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهى الكاره أو وقعوا فيها وقد يتركونها ترك المنتهى الكاره ولا ينهون عنها غيرهم ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها فيكونون قد ضيعوا من النهى عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو إستحبابا فهم بين فعل المنكر أو ترك النهى عنه وذلك فعل مانهوا عنه وترك ما أمروا به فهذا هذا ودين الله وسط بين الغالى فيه والجافى عنه والله سبحانه أعلم
____________________
(28/213)
وسئل شيخ الاسلام
عن مسلم بدرت منه معصية فى حال صباه توجب مهاجرته ومجانبته فقالت طائفة منهم يستغفر الله ويصفح عنه ويتجاوز عن كل ما كان منه وقالت طائفة أخرى لا تجوز أخوته ولا مصاحبته فأى الطائفتين أحق بالحق فأجاب لا ريب أن من تاب إلى الله توبة نصوحا تاب الله عليه كما قال تعالى { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون } وقال تعالى { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } أى لمن تاب
واذا كان كذلك وتاب الرجل فان عمل عملا صالحا سنة من الزمان ولم ينقض التوبة فانه يقبل منه ذلك ويجالس ويكلم وأما اذا تاب ولم تمض عليه سنة فللعلماء فيه قولان مشهوران منهم من يقول فى الحال يجالس وتقبل شهادته ومنهم من يقول لابد من مضى سنة كما فعل عمر بن الخطاب بصبيغ بن عسل وهذه من
____________________
(28/214)
مسائل الاجتهاد فمن رأى أن تقبل توبة هذا التائب ويجالس فى الحال قبل اختباره فقد أخذ بقول سائغ ومن رأى أنه يؤخر مدة حتى يعمل صالحا ويظهر صدق توبته فقد أخذ بقول سائغ وكلا القولين ليس من المنكرات
وقال الشيخ
نهى الله عن اشاعة الفاحشة بقوله تعالى { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة } وكذلك أمر بستر الفواحش كما قال النبى ( من ابتلى بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فانه من يبدلنا صفحته نقم عليه الكتاب ( وقال ( كل أمتى معافى الا المجاهرين والمجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به ( فما دام الذنب مستورا فمصيبته على صاحبه خاصة فاذا اظهر ولم ينكر كان ضرره عاما فكيف إذا كان فى ظهوره تحريك غيره إليه
ولهذا أنكر الامام أحمد وغيره أشكال الشعر الغزلى الرقيق لئلا تتحرك النفوس إلى الفواحش فلهذا أمر من إبتلى بالعشق ان يعف ويكتم فيكون حينئذ ممن قال الله فيه { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } والله أعلم
____________________
(28/215)
وقال رحمه الله
وأما تارك الصلاة ونحوه من المظهرين لبدعة أو فجور فحكم المسلم يتنوع كما تنوع الحكم فى حق رسول الله فى حق مكة وفى المدينة فليس حكم القادر على تعزيرهم بالهجرة حكم العاجز ولا هجرة من لا يحتاج إلى مجالستهم كهجرة المحتاج والأصل ان هجرة الفجار نوعان هجرة ترك وهجرة تعزير أما الأولى فقد دل عليها قوله تعالى { واهجرهم هجرا جميلا } وقوله { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره }
ومن هذا الباب هجرة المسلم من دار الحرب فالمقصود بهذا ان يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضره صحبتهم الا لحاجة او مصلحة راجحة وأما ( هجر التعزير ( فمثل هجر النبى وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا وهجر عمر والمسلمين لصبيغ فهذا من نوع العقوبات فاذا كان يحصل
____________________
(28/216)
بهذا الهجر حصول معروف او اندفاع منكر فهي مشروعة وان كان يحصل بها من الفساد ما يزيد على فساد الذنب فليست مشروعة والله أعلم
وسئل
عن شارب الخمر هل يسلم عليه وهل اذا سلم رد عليه وهل تشيع جنازته وهل يكفر اذا شك فى تحريمها
فأجاب الحمد لله من فعل شيئا من المنكرات كالفواحش والخمر والعدوان وغير ذلك فانه يجب الأنكار عليه بحسب القدرة كما قال النبى ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان ( فان كان الرجل متسترا بذلك وليس معلنا له انكر عليه سرا وستر عليه كما قال النبى ( من ستر عبدا ستره الله فى الدنيا والاخرة ( إلا ان يتعدى ضرره والمتعدى لابد من كف عدوانه واذا نهاه المرء سرا فلم ينته فعل ما ينكف به من هجر وغيره اذا كان ذلك أنفع فى الدين
وأما اذا اظهر الرجل المنكرات وجب الانكار عليه علانية ولم
____________________
(28/217)
يبق له غيبة ووجب ان يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره فلا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام اذا كان الفاعل لذلك متمكنا من ذلك من غير مفسدة راجحة
وينبغى لأهل الخير والدين ان يهجروه ميتا كما هجروه حيا اذا كان فى ذلك كف لامثاله من المجرمين فيتركون تشييع جنازته كما ترك النبى الصلاة على غير واحد من أهل الجرائم وكما قيل لسمرة بن جندب ان أبنك مات البارحة فقال لو مات لم أصل عليه يعنى لأنه أعان على قتل نفسه فيكون كقاتل نفسه وقد ترك النبى الصلاه على قاتل نفسه وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم فى ترك الجهاد الواجب حتى تاب الله عليهم فاذا أظهر التوبة أظهر له الخير
واما من انكر تحريم شيء من المحرمات المتواترة كالخمر والميتة والفواحش أو شك فى تحريمه فانه يستتاب ويعرف التحريم فان تاب والا قتل وكان مرتدا عن دين الاسلام ولم يصل عليه ولم يدفن بين المسلمين
____________________
(28/218)
وسئل
عن قوله ( لا غيبة لفاسق ( وما حد الفسق ورجل شاجر رجلين احدهما شارب خمر او جليس فى الشرب أو آكل حرام او حاضر الرقص او السماع للدف او الشبابة فهل على من لم يسلم عليه اثم
فأجاب اما الحديث فليس هو من كلام النبى ولكنه مأثور عن الحسن البصرى أنه قال اترغبون عن ذكر الفاجر اذ كروه بما فيه يحذره الناس وفى حديث آخر من القى جلباب الحياء فلا غيبة له وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء
أحدهما ان يكون الرجل مظهرا للفجور مثل الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة فاذا أظهر المنكر وجب الانكار عليه بحسب القدرة كما قال النبى ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان ( رواه مسلم وفى المسند والسنن عن ابى بكر الصديق رضى الله عنه انه قال ايها
____________________
(28/219)
الناس انكم تقرؤون القرآن وتقرآون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وانى سمعت رسول الله يقول ( ان الناس اذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك ان يعمهم الله بعقاب منه ( فمن أظهر المنكر وجب عليه الانكار وان يهجر ويذم على ذلك فهذا معنى قولهم من القى جلباب الحياء فلا غيبة له بخلاف من كان مستترا بذنبه مستخفيا فان هذا يستر عليه لكن ينصح سرا ويهجره من عرف حاله حتى يتوب ويذكر امره على وجه النصيحة
النوع الثانى ان يستشار الرجل فى مناكحته ومعاملته أو استشهاده ويعلم انه لا يصلح لذلك فينصحه مستشاره ببيان حاله كما ثبت فى الصحيح ان النبى قالت له فاطمة بنت قيس قد خطبنى ابو جهم ومعاوية فقال لها ( أما ابو جهم فرجل ضراب للنساء وأما معاوية فصعلوك لا مال له ( فبين النبى حال الخاطبين للمرأة فهذا حجة لقول الحسن اترغبون عن ذكر الفاجر أذكروه بما فيه يحذره الناس فان النصح فى الدين أعظم من النصح فى الدنيا فاذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نصح المراة فى دنياها فالنصيحة فى الدين أعظم
واذا كان الرجل يترك الصلوات ويرتكب المنكرات وقد عاشره
____________________
(28/220)
من يخاف ان يفسد دينه بين أمره له لتتقى معاشرته وإذا كان مبتدعا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة أو يسلك طريقا يخالف الكتاب والسنة ويخاف ان يضل الرجل الناس بذلك بين أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله وهذا كله يجب ان يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الأنسان مثل ان يكون بينهما عداوة دنيوية أو تحاسد أو تباغض أو تنازع على الرئاسة فيتكلم بمساويه مظهرا للنصح وقصده فى الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه فهذا من عمل الشيطان و ( انما الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى ( بل يكون الناصح قصده ان الله يصلح ذلك الشخص وان يكفى المسلمين ضرره فى دينهم ودنياهم ويسلك فى هذا المقصود ايسر الطرق التى تمكنه
ولا يجوز لأحد ان يحضر مجالس المنكر باختياره لغير ضرورة كما فى الحديث انه قال ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر ( ورفع لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر فامر بجلدهم فقيل له ان فيهم صائما فقال ابداوا به اما سمعتم الله يقول { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } بين عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه ان الله جعل حاضر
____________________
(28/221)
المنكر كفاعله ولهذا قال العلماء اذا دعى إلى وليمة فيها منكر كالخمر والزمر لم يجز حضورها وذلك ان الله تعالى قد أمرنا بانكار المنكر بحسب الامكان فمن حضر باختياره ولم ينكره فقد عصى الله ورسوله بترك ما امره به من بغض انكاره والنهى عنه واذا كان كذلك فهذا الذى يحضر مجالس الخمر باختياره من غير ضرورة ولا ينكر المنكر كما امره الله هو شريك الفساق فى فسقهم فيلحق بهم
وسئل رحمه
الله عن الغيبة هل تجوز على أناس معينين أو يعين شخص بعينه وما حكم ذلك افتونا بجوا ب بسيط ليعلم ذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويستمد كل واحد بحسب قوته بالعلم والحكم
فأجاب الحمد لله رب العالمين أصل الكلام فى هذا ان يعلم ان الغيبة هي كما فسرها النبى فى الحديث الصحيح لما سئل عن الغيبة فقال ( هي ذكرك أخاك بما يكره ( قيل يا رسول الله أرأيت ان كان فى أخى ما أقول قال ( ان كان فيه ما تقول فقد اغتبته وان لم يكن فيه ما تقول فقد بهته (
بين الفرق بين الغيبة والبهتان وان الكذب
____________________
(28/222)
عليه بهت له كما قال سبحانه { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } وقال تعالى { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } وفى الحديث الصحيح ( ان اليهود قوم بهت ( فالكذب على الشخص حرام كله سواء كان الرجل مسلما أو كافرا برا او فاجرا لكن الافتراء على المؤمن أشد بل الكذب كله حرام
ولكن تباح عند الحاجة الشرعية ( المعاريض ( وقد تسمى كذبا لأن الكلام يعنى به المتكلم معنى وذلك المعنى يريد ان يفهمه المخاطب فاذا لم يكن على ما يعنيه فهو الكذب المحض وان كان على ما يعنيه ولكن ليس على ما يفهمه المخاطب فهذه المعاريض وهى كذب باعتبار الافهام وان لم تكن كذبا باعتبار الغاية السائغة ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم ( لم يكذب ابراهيم الا ثلاث كذبات كلهن فى ذات الله قوله لسارة أختى وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } وقوله { إني سقيم } وهذه الثلاثة معاريض
وبها احتج العلماء على جواز التعريض للمظلوم وهو أن يعنى بكلامه ما يحتمله اللفظ وإن لم يفهمه المخاطب ولهذا قال من قال من
____________________
(28/223)
العلماء إن ما رخص فيه رسول الله انما هو من هذا كما فى حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( ليس الكاذب بالذى يصلح بين الناس فيقول خيرا او ينمى خيرا ( ولم يرخص فيما يقول الناس انه كذب الا فى ثلاث فى الاصلاح بين الناس وفى الحرب وفى الرجل يحدث امرأته قال فهذا كله من المعاريض خاصة
ولهذا نفى عنه النبى اسم الكذب باعتبار القصد والغاية كما ثبت عنه انه قال ( الحرب خدعة ( وانه كان اذا اراد غزوة ورى بغيرها ومن هذا الباب قول الصديق فى سفر الهجرة عن النبى هذا الرجل يهدينى السبيل وقول النبى للكافر السائل له فى غزوة بدر ( نحن من ماء ( وقوله للرجل الذى حلف على المسلم الذى اراد الكفار اسره انه أخى وعنى أخوة الدين وفهموا منه أخوة النسب فقال النبى ( إن كنت لأبرهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم (
والمقصود هنا ان النبى فرق بين الاغتياب وبين البهتان وأخبر أن المخبر بما يكره أخوه المؤمن عنه اذا كان صادقا فهو المغتاب وفى قوله ( ذكرك أخاك بما
____________________
(28/224)
يكره ( موافقة لقوله تعالى { ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } هـ ( فجعل جهة التحريم كونه أخا اخوة الايمان ولذلك تغلظت الغيبة بحسب حال المؤمن فكلما كان أعظم ايمانا كان أغتيابه أشد
ومن جنس الغيبة الهمز واللمز فان كلاهما فيه عيب الناس والطعن عليهم كما فى الغيبة لكن الهمز هو الطعن بشدة وعنف بخلاف اللمز فانه قد يخلو من الشدة والعنف كما قال تعالى { ومنهم من يلمزك في الصدقات } أى يعيبك ويطعن عليك وقال تعالى { ولا تلمزوا أنفسكم } أي لا يلمز بعضكم بعضا وقال { هماز مشاء بنميم } وقال { ويل لكل همزة لمزة }
إذا تبين هذا فنقول ذكر الناس بما يكرهون هو فى الأصل على وجهين ( أحدهما ( ذكر النوع ( والثانى ( ذكر الشخص المعين الحى أو الميت
أما الأول فكل صنف ذمه الله ورسوله يجب ذمه وليس ذلك من الغيبة كما ان كل صنف مدحه الله ورسوله يجب مدحه وما لعنه الله ورسوله لعن كما أن من صلى الله عليه وملائكته يصلى عليه فالله تعالى ذم الكافر والفاجر والفاسق والظالم والغاوى
____________________
(28/225)
والضال والحاسد والبخيل والساحر وآكل الربا وموكله والسارق والزانى والمختال والفخور والمتكبر الجبار وأمثال هؤلاء كما حمد المؤمن التقى والصادق والبار والعادل والمهتدى والراشد والكريم والمتصدق والرحيم وأمثال هؤلاء ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له ولعن من عمل عمل قوم لوط ولعن من احدث حدثا او آوى محدثا ولعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها ولعن اليهود والنصارى حيث حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها ولعن الله الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات من بعد ما بينه للناس وذكر لعنة الظالمين
والله هو وملائكته يصلون على النبى ويصلون على الذين آمنوا والصابر المسترجع عليه صلاة من ربه ورحمة والله وملائكتة يصلون على معلم الناس الخير ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان والطير وأمر الله نبيه أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات
فاذا كان المقصود الأمر بالخير والترغيب فيه والنهى عن الشر والتحذير منه فلابد من ذكر ذلك ولهذا كان النبى اذا بلغه أن احدا فعل ما ينهى عنه يقول ( ما بال رجال يشترطون
____________________
(28/226)
شروطا ليست فى كتاب الله من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط ( ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها والله انى لأتقاكم لله واعلمكم بحدوده ( ما بال رجال يقول احدهم أما أنا فأصوم ولا افطر ويقول الآخر أما انا فأقوم ولا أنام ويقول الآخر لا أتزوج النساء ويقول الآخر لا آكل اللحم لكنى أصوم وأفطر واقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى (
وليس لأحد ان يعلق الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة والصلاة واللعن بغير الأسماء التى علق الله بها ذلك مثل اسماء القبائل والمدائن والمذاهب والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ ونحو ذلك مما يراد به التعريف كما قال تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال تعالى { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } وقال { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا } وقد قال صلى الله عليه وسلم ( ان آل ابى فلان ليسوا لى بأولياء انما وليى الله وصالح المؤمنين ( وقال ( الا ان أوليائى المتقون حيث كانوا ومن كانوا ( وقال ( ان الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالاباء الناس رجلان مؤمن تقى وفاجر شقى
____________________
(28/227)
الناس من آدم وآدم من تراب ( وقال ( انه لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأبيض على اسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى (
فذكر الازمان والعدل باسماء الايثار والولاء والبلد والانتساب إلى عالم أو شيخ إنما يقصد بها التعريف به ليتميز عن غيره فأما الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة فانما تكون بالأشياء التى انزل الله بها سلطانه وسلطانه كتابه فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من أي صنف كان ومن كان كافرا وجبت معاداته من أى صنف كان قال تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } وقال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } وقال تعالى { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } وقال تعالى { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } وقال تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } ( ومن كان فيه ايمان وفيه فجور أعطى من الموالاة بحسب ايمانه
____________________
(28/228)
ومن البغض بحسب فجوره ولا يخرج من الايمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصى كما يقوله الخوارج والمعتزلة ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق فى الايمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة قال الله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } إلى قوله { إنما المؤمنون إخوة } فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغى وقال تعالى { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } وقد قال تعالى { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فهذا الكلام فى الأنواع
وأما الشخص المعين فيذكر ما فيه من الشر فى مواضع
منها المظلوم له ان يذكر ظالمه بما فيه إما على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقه كما قالت هند يا رسول الله ان ابا سفيان رجل شحيح وانه ليس يعطينى من النفقة ما يكفينى وولدى فقال لها النبى ( خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف ( كما قال ( لى الواجد يحل عرضه وعقوبته ( وقال وكيع عرضه شكايته وعقوبته حبسه وقال تعالى ( لا يحب الله الجهر بالسوء
____________________
(28/229)
{ من القول إلا من ظلم } وقد روى انها نزلت فى رجل نزل بقوم فلم يقروه فاذا كان هذا فيمن ظلم بترك قراه الذى تنازع الناس فى وجوبه وان كان الصحيح انه واجب فكيف بمن ظلم بمنع حقه الذى اتفق المسلمون على استحقاقه إياه او يذكر ظالمه على وجه القصاص من غير عدوان ولا دخول فى كذب ولا ظلم الغير وترك ذلك أفضل
ومنها أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين فى دينهم ودنياهم ( كما فى الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبى صلى الله عليه وسلم من تنكح وقالت انه خطبنى معاوية وابو جهم فقال ( أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما ابو جهم فرجل ضراب للنساء ( وروى ( لا يضع عصاه عن عاتقه ( فبين لها أن هذا فقير قد يعجز عن حقك وهذا يؤذيك بالضرب وكان هذا نصحا لها وان تضمن ذكر عيب الخاطب
وفى معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله ومن يوكله ويوصى إليه ومن يستشهده بل ومن يتحاكم إليه وامثال ذلك واذا كان هذا فى مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين من الأمراء والحكام والشهود والعمال أهل الديوان وغيرهم فلا ريب أن النصح فى ذلك أعظم كما قال النبى
____________________
(28/230)
( الدين النصيحة الدين النصيحة ( قالوا لمن يا رسول الله قال ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (
وقد قالوا لعمر بن الخطاب فى أهل الشورى أمر فلانا وفلانا فجعل يذكر فى حق كل واحد من الستة وهم أفضل الأمة أمرا جعله مانعا له من تعيينه
واذا كان النصح واجبا فى المصالح الدينية الخاصة والعامة مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد سألت مالكا والثورى والليث بن سعد أظنه والأوزاعى عن الرجل يتهم فى الحديث أو لا يحفظ فقالوا بين أمره وقال بعضهم لاحمد بن حنبل انه يثقل على أن أقول فلان كذا وفلان كذا فقال اذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة او العبادات المخالفة للكتاب والسنة فان بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لاحمد بن حنبل الرجل يصوم ويصلى ويعتكف أحب اليك أو يتكلم فى أهل البدع فقال اذا قام وصلى واعتكف فانما هو لنفسه واذا تكلم فى أهل البدع فانما هو للمسلمين هذا أفضل فبين أن نفع هذا عام للمسلمين فى دينهم من جنس الجهاد
____________________
(28/231)
فى سبيل الله اذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغى هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب فان هؤلاء اذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين الا تبعا وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء
وقد قال النبى ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وانما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ( وذلك ان الله يقول فى كتابه { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } فأخبر انه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانه أنزل الحديد كما ذكره فقوام الدين بالكتاب الهادى والسيف الناصر { وكفى بربك هاديا ونصيرا }
والكتاب هو الأصل ولهذا أول ما بعث الله رسوله أنزل عليه الكتاب ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوان على الجهاد
وأعداء الدين نوعان الكفار والمنافقون وقد أمرالله نبيه
____________________
(28/232)
بجهاد الطائفتين فى قوله { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } فى آيتين من القرآن
فاذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبدل الدين كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذى لم ينكر على أهله
واذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فان فيهم ايمانا يوجب موالاتهم وقد دخلوا فى بدع من بدع المنافقين التى تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وان اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وانها خير وانها دين ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها
ولهذا وجب بيان حال من يغلط فى الحديث والرواية ومن
____________________
(28/233)
يغلط فى الرأى والفتيا ومن يغلط فى الزهد والعبادة
وان كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطؤه وهو مأجور على اجتهاده فبيان القول والعمل الذى دل عليه الكتاب والسنة واجب وان كان فى ذلك مخالفة لقوله وعمله ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز ان يذكر على وجه الذم والتاثيم له فان الله غفر له خطأه بل يجب لما فيه من الايمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك وان علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله مثل عبد الله بن أبى وذويه وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضه عبد الله بن سبأ وأمثاله مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب فهذا يذكر بالنفاق وان اعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقا أو مؤمنا مخطئا ذكر بما يعلم منه فلا يحل للرجل ان يقفو ما ليس له به علم ولا يحل له ان يتكلم فى هذا الباب الا قاصدا بذلك وجه الله تعالى وان تكون كلمة الله هي العليا وان يكون الدين كله لله فمن تكلم فى ذلك بغير علم او بما يعلم خلافه كان آثما
وكذلك القاضي والشاهد والمفتى كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو فى الجنة ورجل
قضى للناس على جهل فهو فى النار
____________________
(28/234)
ورجل علم الحق فقضى بخلاف ذلك فهو فى النار (
وقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } و اللى ( هو الكذب و ( الاعراض ( كتمان الحق ومثله ما فى الصحيحين عن النبى انه قال ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فان صدقا وبينا بورك لهما فى بيعهما وان كذبا وكتما محقت بركة بيعهما (
ثم القائل فى ذلك بعلم لابد له من حسن النية فلو تكلم بحق لقصد العلو فى الارض او الفساد كان بمنزلة الذى يقاتل حمية ورياء وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصا له الدين كان من المجاهدين فى سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرسل وليس هذا الباب مخالفا لقوله الغيبة ذكرك اخاك بما يكره ( فان الأخ هو المؤمن والأخ المؤمن إن كان صادقا فى ايمانه لم يكره ما قلته من هذا الحق الذى يحبه الله ورسوله وان كان فيه شهادة عليه وعلى ذويه بل عليه أن يقوم بالقسط ويكون شاهدا لله ولو على نفسه او والديه او اقربيه ومتى كره هذا الحق كان ناقصا فى ايمانه ينقص من اخوته بقدر ما نقص من ايمانه فلم يعتبر كراهته من الجهه التى نقص منها ايمانه اذ كراهته لما
____________________
(28/235)
لا يحبه الله ورسوله توجب تقديم محبة الله ورسوله كما قال تعالى { والله ورسوله أحق أن يرضوه }
ثم قد يقال هذا لم يدخل فى حديث الغيبة لفظا ومعنى وقد يقال دخل فى ذلك الذين خص منه كما يخص العموم اللفظى والعموم المعنوى وسواء زال الحكم لزوال سببه او لوجود ما نعه فالحكم واحد والنزاع فى ذلك يؤول إلى اللفظ اذ العلة قد يعنى بها التامة وقد يعنى بها المقتضية والله اعلم واحكم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم وقال رحمه الله تعالى
فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم
____________________
(28/236)
ومنهم من يخرج الغيبة فى قوالب شتى تارة فى قالب ديانة وصلاح فيقول ليس لى عادة أن أذكر أحدا الا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله ويقول والله إنه مسكين أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت وربما يقول دعونا منه الله يغفر لنا وله وإنما قصده استنقاصه وهضما لجنابه ويخرجون الغيبة فى قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقا وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه
ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه فيقول لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان لما بلغنى عنه كيت وكيت ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده او يقول فلان بليد الذهن قليل الفهم وقصده مدح نفسه واثبات معرفته وانه أفضل منه
ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين الغيبة والحسد واذا اثنى على شخص ازال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه فى قالب دين وصلاح أو فى قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه
ومنهم من يخرج الغيبة فى قالب تمسخر ولعب ليضحك غيره
____________________
(28/237)
باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به
ومنهم من يخرج الغيبة فى قالب التعجب فيقول تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت وكيف فعل كيت وكيت فيخرج اسمه فى معرض تعجبه
ومنهم من يخرج الاغتمام فيقول مسكين فلان غمنى ما جرى له وما تم له فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفى به ولو قدر لزاد على ما به وربما يذكره عند اعدائه ليشتفوا به وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه
ومنهم من يظهر الغيبة فى قالب غضب وإنكار منكر فيظهر فى هذا الباب اشياء من زخارف القول وقصده غير ما أظهر والله المستعان
____________________
(28/238)
وسئل رحمه الله
عن رجل مقبول القول عند الحكام يخرج للفرجة فى الزهر فى مواسم الفرج حيث يكون مجمع الناس ويرى المنكر ولا يقدر على ازالته وتخرج امرأته أيضا معه هل يجوز ذلك وهل يقدح فى عدالته
فأجاب ليس للانسان أن يحضر الأماكن التى يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الانكار الا لموجب شرعى مثل ان يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لابد فيه من حضوره أو يكون مكرها فأما حضوره لمجرد الفرجة واحضار امرأته تشاهد ذلك فهذا مما يقدح فى عدالته ومروأته اذا اصر عليه والله أعلم
____________________
(28/239)
وسئل رحمه الله
عن بلد ( ماردين ( هل هي بلد حرب أم بلد سلم وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الاسلام أم لا واذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر وساعد اعداء المسلمين بنفسه او ماله هل يأثم فى ذلك وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا
فأجاب الحمد لله دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا فى ( ماردين ( او غيرها واعانة الخارجين عن شريعة دين الاسلام محرمة سواء كانوا أهل ماردين او غيرهم والمقيم بها ان كان عاجزا عن اقامة دينه وجبت الهجرة عليه والا استحبت ولم تجب
ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والاموال محرمة عليهم ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأى طريق أمكنهم من تغيب او تعريض او مصانعة فاذا لم يمكن الا بالهجرة تعينت
ولا يحل سبهم عموما ورميهم بالنفاق بل السب والرمى بالنفاق يقع على الصفات المذكورة فى الكتاب والسنة فيدخل فيها بعض
____________________
(28/240)
أهل ماردين وغيرهم
وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ليست بمنزلة دار السلم التى تجرى عليها أحكام الاسلام لكون جندها مسلمين ولا بمنزلة دار الحرب التى أهلها كفار بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الاسلام بما يستحقه
وقال رحمه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم
من أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين وولى أمر المؤمنين نائب رسول الله فى أمته باقامة فرض الدين وسنته أيده الله تأييدا يصلح به له وللمسلمين أمر الدنيا والآخرة ويقيم به جميع الامور الباطنة والظاهرة حتى يدخل فى قول الله تعالى { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } وفى قوله سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل ( إلى آخر الحديث وفى قوله صلى الله عليه
____________________
(28/241)
وسلم ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير ان ينقص من أجورهم شيء ( وقد استجاب الله الدعاء فى السلطان فجعل فيه من الخير الذى شهدت به قلوب الأمة ما فضله به على غيره
والله المسؤول أن يعينه فانه أفقر خلق الله إلى معونة الله وتأييده قال تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } الآية
وصلاح أمر السلطان بتجريد المتابعة لكتاب الله وسنة رسوله ونبيه وحمل الناس على ذلك فانه سبحانه جعل صلاح أهل التمكين فى أربعة أشياء إقام الصلاة وايتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فاذا أقام الصلاة فى مواقيتها جماعة هو وحاشيته وأهل طاعته وأمر بذلك جميع الرعية وعاقب من تهاون فى ذلك العقوبة التى شرعها الله فقد تم هذا الأصل ثم إنه مضطر إلى الله تعالى فاذا ناجى ربه فى السحر واستغاث به وقال ياحى يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك استغيث أعطاه الله من التمكين مالا يعلمه إلا الله قال الله تعالى { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما }
____________________
(28/242)
ا ( ثم كل نفع وخير يوصله إلى الخلق هو من جنس الزكاة فمن اعظم العبادات سد الفاقات وقضاء الحاجات ونصر المظلوم واغاثة الملهوف والأمر بالمعروف وهو الأمر بما أمر الله به ورسوله من العدل والاحسان وأمر نوائب البلاد وولاة الأمور باتباع حكم الكتاب والسنة واجتنابهم حرمات الله والنهى عن المنكر وهو النهى عما نهى الله عنه ورسوله
واذا تقدم السلطان ايده الله بذلك فى عامة بلاد الاسلام كان فيه من صلاح الدنيا والآخرة له وللمسلمين ما لا يعلمه إلا الله والله يوفقه لما يحبه ويرضاه
____________________
(28/243)
وقال شيخ الاسلام رضى الله عنه وأرضاه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى أرسل رسله بالبينات والهدى وانزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز وختمهم بمحمد الذى ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزير وأشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة أخلص من الذهب الابريز واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا شهادة يكون صاحبها فى حرز حريز
( أما بعد ) فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة
____________________
(28/244)
الالهية والايات النبوية لا يستغنى عنها الراعى والرعية اقتضاها من اوجب الله نصحه من ولاة الامور كما قال النبى فيما ثبت عنه من غير وجه فى صحيح مسلم وغيره ( إن الله يرضى لكم ثلاثا ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وان تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وان تناصحوا من ولاه الله امركم (
وهذه الرسالة مبنية على آيتين فى كتاب الله وهى قوله تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } قال العلماء نزلت الآية الأولى فى ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى اهلها واذا حكموا بين الناس ان يحكموا بالعدل ونزلت الثانية فى الرعية من الجيوش وغيرهم عليهم ان يطيعوا أولى الأمر الفاعلين لذلك فى قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك إلا ان يأمروا بمعصية الله فاذا امروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق فان تنازعوا فى شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله وان لم تفعل ولاة الامر ذلك اطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله لان ذلك من طاعة الله
____________________
(28/245)
ورسوله وأديت حقوقهم اليهم كما امر الله ورسوله قال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } واذا كانت الآية قد اوجبت أداء الأمانات إلى اهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة
فصل
اما أداء الامانات ففيه نوعان احدهما الولايات وهو كان سبب نزول الآية فان النبى صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بنى شيبة طلبها منه العباس ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله هذه الآية فدفع مفاتيح الكعبة إلى بنى شيبة فيجب على ولى الأمر أن يولى على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من ولى من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله ( وفى رواية ( من ولى رجلا على عصابة وهو يجد فى تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد
____________________
(28/246)
خان الله ورسوله وخان المؤمنين ( رواه الحاكم فى صحيحة وروى بعضهم أنه من قول عمر لابن عمر روى ذلك عنه وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ( من ولى من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة او قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين ( وهذا واجب عليه
فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار من الأمراء الذين هم نواب ذى السلطان والقضاة ونحوهم ومن أمراء الأجناد ومقدمى العساكر الصغار والكبار وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات وغير ذلك من الأموال التى للمسلمين وعلى كل واحد من هؤلاء ان يستنيب ويستعمل أصلح من يجده وينتهى ذلك إلى ائمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمراء الحاج والبرد والعيون الذين هم القصاد وخزان الاموال وحراس الحصون والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن ونقباء العساكر الكبار والصغار وعرفاء القبائل والاسواق
ورؤساء القرى الذين هم ( الدهاقين ) فيجب على كل من ولى شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده فى كل موضع أصلح من يقدر عليه ولايقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو سبق فى الطلب
____________________
(28/247)
بل يكون ذلك سببا للمنع فان فى الصحيح عن النبى ( أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال إنا لانولى امرنا هذا من طلبه ) وقال لعبد الرحمن بن سمرة ( ياعبد الرحمن لاتسأل الامارة فانك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن اعطيتها عن مسألة وكلت اليها ( أخرجاه فى الصحيحين وقال ( من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده ( رواه اهل السنن
فان عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما او ولاء عتاقة أو صداقة او مرافقة فى بلد او مذهب او طريقة او جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية أو لرشوة يأخذها منه من مال او منفعة أو غير ذلك من الأسباب او لضغن فى قلبه على الأحق او عداوة بينهما فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى عنه فى قوله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا لاتخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وانتم تعلمون ) ثم قال ( واعلموا أنما اموالكم واولادكم فتنة وان الله عنده أجر عظيم )
فان الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره فى بعض الولايات او يعطيه مالا يستحقه فيكون قد خان أمانته وكذلك قد يؤثره زيادة فى
____________________
(28/248)
ماله أو حفظه بأخذ مالا يستحقه او محاباة من يداهنه فى بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته
ثم إن المؤدى للأمانة مع مخالفة هواه يثبته الله فيحفظه فى أهله وماله بعده والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله ويذهب ماله وفى ذلك الحكاية المشهورة أن بعض خلفاء بنى العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك فقال أدركت عمر بن عبد العزيز قيل له يا أمير المؤمنين أقفرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم وكان فى مرض موته فقال أدخلوهم على فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكرا ليس فيهم بالغ فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال لهم يابنى والله ما منعتكم حقا هو لكم ولم أكن بالذى آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم وإنما انتم احد رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين وإما غير صالح فلا اخلف له ما يستعين به على معصية الله قوموا عنى قال فلقد رأيت بعض بنيه حمل على مائه فرس فى سبيل الله يعنى أعطاها لمن يغزو عليها
قلت هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق بلاد الترك إلى أقصى المغرب بلاد الأندلس وغيرها ومن جزائر قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها إلى اقصى اليمن وإنما أخذ كل واحد من أولاده من تركته شيئا يسيرا يقال اقل من
____________________
(28/249)
عشرين درهما قال وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه فأخذ كل واحد منهم ستمائه ألف دينار ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس أي يسألهم بكفه وفى هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة فى الزمان والمسموعة عما قبله ما فيه عبرة لكل ذى لب
وقد دلت سنة رسول الله على أن الولاية امانة يجب أداؤها فى مواضع مثل ماتقدم ومثل قوله لأبى ذر رضى الله عنه فى الامارة ( إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها ) رواه مسلم وروى البخارى فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه ان النبى قال ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل يارسول الله وما إضاعتها قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ( وقد أجمع المسلمون على معنى هذا فان وصي اليتيم وناظرالوقف ووكيل الرجل فى ماله عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح كما قال الله تعالى ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن ) ولم يقل إلا بالتى هي حسنة
وذلك لأن الوالى راع على الناس بمنزلة راعى الغنم كما قال النبى ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
____________________
(28/250)
فالامام الذى على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية فى بيت زوجها وهى مسئوله عن رعيتها والولد راع فى مال ابيه وهو مسؤول عن رعيته والعبد راع فى مال سيده وهو مسؤول عن رعيته ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ( أخرجاه فى الصحيحين وقال ( ما من راع يسترعيه الله رعيه يموت يوم يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه رائحة الجنة ) رواه مسلم
ودخل أبو مسلم الخولانى على معاوية بن أبى سفيان فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا قل السلام عليك أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا قل السلام عليك ايها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا قل السلام عليك أيها الأمير فقال السلام عليك ايها الأجير فقال معاوية دعوا أبا مسلم فانه اعلم بما يقول فقال إنما أنت اجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها فان انت هنأت جرباها وداويت مرضاها وحبست اولاها على أخراها وفاك سيدها أجرك وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها
وهذا ظاهر فى الاعتبار فان الخلق عباد الله والولاة نواب الله على عباده وهم وكلاء العباد على نفوسهم بمنزلة احد الشريكين مع
____________________
(28/251)
الآخر ففيهم معنى الولاية والوكالة ثم الولى والوكيل متى استناب فى أموره رجلا وترك من هو أصلح للتجارة او العقار منه وباع السلعة بثمن وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن فقد خان صاحبه لاسيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قرابة فان صاحبه يبغضه ويذمه ويرى انه قد خانه وداهن قريبه او صديقه
فصل
إذا عرف هذا فليس عليه ان يستعمل إلا أصلح الموجود وقد لايكون فى موجوده من هو اصلح لتلك الولاية فيختار الأمثل فالأمثل فى كل منصب بحسبه وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام وأخذه للولاية بحقها فقد أدى الأمانة وقام بالواجب فى هذا وصار فى هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله وان اختل بعض الأمور بسبب من غيره إذا لم يمكن إلا ذلك فان الله يقول ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ويقول ( لايكلف الله نفسا إلا وسعها ) وقال فى الجهاد فى سبيل الله ( فقاتل فى سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين ) وقال ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم ) فمن أدى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إذا امرتكم بأمر فاتوا
____________________
(28/252)
منه ما استطعتم ( أخرجاه فى الصحيحين لكن إن كان منه عجز بلا حاجة إليه او خيانة عوقب على ذلك وينبغى ان يعرف الأصلح فى كل منصب
فان الولاية لها ركنان القوة والأمانة كما قال تعالى ( إن خير من استأجرت القوى الأمين ) وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام ( إنك اليوم لدينا مكين أمين ) وقال تعالى فى صفة جبريل ( إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين )
والقوة فى كل ولاية بحسبها فالقوة فى إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فان الحرب خدعة والى القدرة على انواع القتال من رمى وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك كما قال الله تعالى ( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) وقال النبى ( ارموا واركبوا وان ترموا أحب إلى من ان تركبوا ومن تعلم الرمى ثم نسيه فليس منا ( وفى رواية ( فهي نعمة جحدها ( رواه مسلم
والقوة فى الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذى دل عليه الكتاب والسنة والى القدرة على تنفيذ الأحكام
والآمانة ترجع إلى خشية الله وألا يشترى بآياته ثمنا قليلا
____________________
(28/253)
وترك خشية الناس وهذه الخصال الثلاث التى اخذها الله على كل من حكم على الناس فى قوله تعالى ( فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون ) ولهذا قال النبى ( القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة فرجل علم الحق وقضى بخلافة فهو فى النار ورجل قضى بين الناس على جهل فهو فى النار ورجل علم الحق وقضى به فهو فى الجنة ( رواه أهل السنن
والقاضى اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما سواء كان خليفة او سلطانا او نائبا او واليا او كان منصوبا ليقضى بالشرع او نائبا له حتى من يحكم بين الصبيان فى الخطوط إذا تخايروا هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر
فصل
اجتماع القوة والأمانة فى الناس قليل ولهذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول اللهم اشكو اليك جلد الفاجر وعجز الثقة فالواجب فى كل ولاية الأصلح بحسبها فاذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر اعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما
____________________
(28/254)
ضررا فيها فيقدم فى إمارة الحروب الرجل القوى الشجاع وان كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا كما سئل الامام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين فى الغزو واحدهما قوى فاجر والآخر صالح ضعيف مع ايهما يغزى فقال أما الفاجر القوى فقوته للمسلمين وفجورة على نفسه وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوى الفاجر وقد قال النبى ( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ( وروى ( بأقوام لا خلاق لهم ( وان لم يكن فاجرا كان أولى بامارة الحرب ممن هو أصلح منه فى الدين إذا لم يسد مسده
ولهذا كان النبى يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم وقال ( ان خالدا سيف سله الله على المشركين ( مع انه أحيانا قد كان يعمل ما ينكره النبى حتى إنه مرة قام ثم رفع يديه إلى السماء وقال ( اللهم إنى أبرأ اليك مما فعل خالد ( لما ارسله إلى بنى جذيمة فقتلهم واخذ اموالهم بنوع شبهة ولم يكن يجوز ذلك وانكره عليه بعض من معه من الصحابة حتى وداهم النبى صلى الله عليه وسلم وضمن اموالهم ومع هذا فما زال يقدمه فى إمارة الحرب لأنه كان اصلح فى هذا الباب من غيره وفعل ما فعل بنوع تأويل
____________________
(28/255)
وكان ابو ذر رضى الله عنه اصلح منه فى الأمانة والصدق ومع هذا فقال له النبى ( صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر انى اراك ضعيفا وانى احب لك ما احب لنفسى لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ( رواه مسلم نهى ابا ذر عن الامارة والولاية لأنه رآه ضعيفا مع انه قد روى ( ما اظلت الخضراء ولا اقلت الغبراء اصدق لهجة من ابى ذر (
وأمر النبى صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص فى غزوة ( ذات السلاسل استعطافا لاقاربه الذين بعثه اليهم على من هم افضل منه وامر اسامة بن زيد لأجل طلب ثأر ابيه كذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة مع انه قد كان يكون مع الأمير من هو افضل منه فى العلم والايمان
وهكذا ابو بكر خليفة رسول الله رضى الله عنه ما زال يستعمل خالدا فى حرب اهل الردة وفى فتوح العراق والشام وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل وقد ذكر له عنه انه كان له فيها هوى فلم يعزله من أجلها بل عاتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة فى بقائه وأن غيره لم يكن يقوم مقامه لأن المتولى الكبير اذا كان خلقه يميل إلى اللين فينبغى ان يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة واذا كان خلقه يميل إلى الشدة فينبغى ان
____________________
(28/256)
يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ليعتدل الأمر ولهذا كان ابو بكر الصديق رضى الله عنه يؤثر استنابة خالد وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يؤثر عزل خالد واستنابة ابى عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لأن خالدا كان شديدا كعمر بن الخطاب وابا عبيدة كان لينا كأبى بكر وكان الأصلح لكل منهما ان يولى من ولاة ليكون امره معتدلا ويكون بذلك من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى هو معتدل حتى قال النبى ( انا نبى الرحمة انا نبى الملحمة ( وقال ( انا الضحوك القتال ( وامته وسط قال الله تعالى فيهم ( أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ( وقال تعالى ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين )
ولهذا لما تولى ابو بكر وعمر رضى الله عنهما صارا كاملين فى الولاية واعتدل منهما ما كان ينسبان فيه إلى احد الطرفين فى حياة النبى من لين احدهما وشدة الآخر حتى قال فيهما النبى ( اقتدوا باللذين من بعدى ابى بكر وعمر ( وظهر من ابى بكر من شجاعة القلب فى قتال أهل الردة وغيرهم ما برز به على عمر وسائر الصحابة رضى الله عنهم اجمعين
واذا كانت الحاجة فى الولاية إلى الامانة أشد قدم الأمين مثل
____________________
(28/257)
حفظ الاموال ونحوها فاما استخراجها وحفظها فلا بد فيه من قوة وأمانة فيولى عليها شاد قوى يستخرجها بقوته وكاتب امين يحفظها بخبرته وامانته وكذلك فى إمارة الحرب اذا امر الأمير بمشاورة اهل العلم والدين جمع بين المصلحتين وهكذا فى سائر الولايات اذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد فلا بد من ترجيح الأصلح او تعدد المولى اذا لم تقع الكفاية بواحد تام
ويقدم فى ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ فان كان احدهما اعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى الاورع وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه الاعلم ففى الحديث عن النبى انه قال ( ان الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات )
ويقدمان على الأكفأ ان كان القاضي مؤيدا تأييدا تاما من جهة والى الحرب او العامة
ويقدم الأكفأ ان كان القضاء يحتاج إلى قوة واعانة للقاضى اكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع فان القاضي المطلق يحتاج ان يكون عالما عادلا قادرا بل وكذلك كل وال للمسلمين فأى صفة من هذه الصفات نقصت ظهر الخلل بسببه والكفاءة إما بقهر ورهبة
____________________
(28/258)
وإما باحسان ورغبة وفى الحقيقة فلا بد منهما وسئل بعض العلماء اذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق او جاهل دين فايهما يقدم فقال ان كانت الحاجة إلى الدين اكثر لغلبة الفساد قدم الدين وان كانت الحاجة إلى العلم اكثر لخفاء الحكومات قدم العالم واكثر العلماء يقدمون ذا الدين فان الأئمة متفقون على أنه لابد فى المتولى من أن يكون عدلا أهلا للشهادة واختلفوا فى اشتراط العلم هل يجب أن يكون مجتهدا او يجوز أن يكون مقلدا او الواجب تولية الامثل فالامثل كيفما تيسر على ثلاثة أقوال وبسط الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع
ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان اصلح الموجود فيجب مع ذلك السعى فى إصلاح الأحوال حتى يكمل فى الناس مالا بد لهم منه من أمور الولايات والامارات ونحوها كما يجب على المعسر السعى فى وفاء دينه وان كان فى الحال لا يطلب منه الا ما يقدر عليه وكما يجب الاستعداد للجهاد باعداد القوة ورباط الخيل فى وقت سقوطه للعجز فان ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب بخلاف الاستطاعة فى الحج ونحوها فانه لا يجب تحصيلها لأن الوجوب هنا لا يتم الا بها
____________________
(28/259)
فصل
واهم ما فى هذا الباب معرفة الأصلح وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود فاذا عرفت المقاصد والوسائل تم الامر فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا دون الدين قدموا فى ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد وكان من يطلب رئاسة نفسه يؤثر تقديم من يقيم رئاسته وقد كانت السنة أن الذى يصلى بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم هم أمراء الحرب الذين هم نواب ذى السلطان على الأجناد ولهذا لما قدم النبى أبا بكر فى الصلاة قدمه المسلمون فى إمارة الحرب وغيرها
وكان النبى اذا بعث أميرا على حرب كان هو الذى يؤمره للصلاة بأصحابه وكذلك اذا استعمل رجلا نائبا على مدينة كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة وعثمان بن أبى العاص على الطائف وعليا ومعاذا وأبا موسى على اليمن وعمرو بن حزم على نجران كان نائبه هو الذى يصلى بهم ويقيم
____________________
(28/260)
فيهم الحدود وغيرها مما يفعله أمير الحرب وكذلك خلفاؤه بعده ومن بعدهم من الملوك الامويين وبعض العباسيين
وذلك لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبى في الصلاة والجهاد وكان اذا عاد مريضا يقول ( اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا )
ولما بعث النبى معاذ إلى اليمن قال ( يا معاذ إن أهم أمرك عندى الصلاة (
وكذلك كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يكتب إلى عماله ( ان أهم أموركم عندى الصلاة فمن حافظ عليها وحفظهاحفظ دينه ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة )
وذلك لأن النبى قال ( الصلاة عماد الدين ) فاذا اقام المتولى عماد الدين فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهى التى تعين الناس على ما سواها من الطاعات كما قال الله تعالى ( واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين ) وقال سبحانه وتعالى ( يا ايها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ( وقال لنبيه ( وأمر أهلك بالصلاة وأصطبر عليها لانسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ) وقال
____________________
(28/261)
تعالى ( وماخلقت الجن والانس الا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )
فالمقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذى متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به فى الدنيا واصلاح مالا يقوم الدين الا به من أمر دنياهم وهو نوعان قسم المال بين مستحقيه وعقوبات المعتدين فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول ( انما بعثت عمالى اليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقسموا بينكم فيأكم فلما تغيرت الرعية من وجه والرعاة من وجه تناقضت الأمور فإذا اجتهد الراعى فى اصلاح دينهم ودنياهم بحسب الامكان كان من افضل اهل زمانه وكان من أفضل المجاهدين فى سبيل الله فقد روى ( يوم من امام عادل افضل من عبادة ستين سنة ) وفى مسند الامام احمد عن النبى انه قال ( احب الخلق إلى الله امام عادل وأبغضهم إليه امام جائر ) وفى الصحيحين عن ابى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل الا ظله امام عادل وشاب نشا فى طاعة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد اذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا فى الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت
____________________
(28/262)
عيناه ورجل دعته إمراة ذات منصب وجمال فقال إنى اخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )
وفى صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضى الله عنه قال قال رسول الله ( اهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذى قربى ومسلم ورجل غنى عفيف متصدق ) وفى السنن عنه أنه قال ( الساعى على الصدقة بالحق كالمجاهد فى سبيل الله ) وقد قال الله تعالى لما أمر بالجهاد ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) وقيل للنبى يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأى ذلك فى سبيل الله فقال ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو فى سبيل الله ) أخرجاه فى الصحيحين
فالمقصود أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الله اسم جامع لكلماته التى تضمنها كتابه وهكذا قال الله تعالى ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط فى حقوق الله وحقوق خلقه ثم قال تعالى
____________________
(28/263)
{ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف وقد روى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نضرب بهذا يعنى السيف من عدل عن هذا يعنى المصحف فاذا كان هذا هو المقصود فانه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب وينظر إلى الرجلين أيهما كان أقرب إلى المقصود ولى فاذا كانت الولاية مثلا إمامة صلاة فقط قدم من قدمه النبى حيث قال ( يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله فان كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة فان كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل الرجل فى سلطانه ولا يجلس فى بيته على تكرمته إلا باذنه ( رواه مسلم فاذا تكأفا رجلان وخفى أصلحهما أقرع بينهما كما أقرع سعد بن أبى وقاص بين الناس يوم القادسية لما تشاجروا على الأذان متابعة لقوله ( لو يعلم الناس ما فى النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا ان يستهموا عليه لاستهموا فاذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر وبفعله وهو ما يرجحه بالقرعة إذا خفى الأمر كان المتولى قد أدى الأمانات فى الولايات إلى أهلها
____________________
(28/264)
فصل
القسم الثانى من الأمانات الأموال كما قال تعالى فى الديون ( فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ) ويدخل فى هذا القسم الأعيان والديون الخاصة والعامة مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك وقد قال الله تعالى ( إن الانسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) إلى قوله ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) وقال تعالى ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) أى لاتخاصم عنهم وقال النبى ( اد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ( وقال النبى ( المؤمن من امنه المسلمون على دمائهم وأموالهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما
____________________
(28/265)
نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه فى ذات الله ( وهو حديث صحيح بعضه فى الصحيحين وبعضه فى سنن الترمذى وقال ( من أخذ اموال الناس يريد اداءها أداها الله عنه ومن اخذها يريد إتلافها اتلفه الله ( رواه البخارى
وإذا كان الله قد اوجب أداء الأمانات التى قبضت بحق ففيه تنبيه على وجوب اداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم وكذلك أداء العارية وقد خطب النبى فى حجة الوداع وقال فى خطبته ( العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضى والزعيم غارم إن الله قد اعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث
( وهذا القسم يتناول الولاة والرعية فعلى كل منهما أن يؤدى إلى الآخر ما يجب اداؤه إليه فعلى ذى السلطان ونوابه فى العطاء أن يؤتوا كل ذى حق حقه وعلى جباة الأموال كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذى السلطان ما يجب إيتاؤه إليه وكذلك على الرعية الذين تجب عليهم الحقوق وليس للرعية ان يطلبوا من ولاة الأموال مالا يستحقونه فيكونون من جنس من قال الله تعالى فيه ( ومنهم من يلمزك فى الصدقات فان اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو انهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) ثم بين سبحانه لمن تكون
____________________
(28/266)
بقوله ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وبن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم )
ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه إليه من الحقوق وإن كان ظالما كما أمر النبى لما ذكر جور الولاة فقال ( أدوا اليهم الذى لهم فان الله سائلهم عما استرعاهم ( ففى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى قال ( كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبى خلفه نبى وانه لا نبى بعدى وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا فما تأمرنا فقال اوفوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فان الله سائلهم عما استرعاهم (
وفيهما عن بن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله ( انكم سترون بعدى أثرة وأمورا تنكرونها قالوا فما تأمرنا به يارسول الله قال ادوا اليهم حقهم واسألوا الله حقكم (
وليس لولاة الأمور ان يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه فانما هم امناء ونواب ووكلاء ليسوا ملا كا كما قال رسول الله
____________________
(28/267)
( إنى والله لاأعطى أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ( رواه البخارى وعن أبى هريرة رضى الله عنه نحوه فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بارادته واختياره كما يفعل ذلك المالك الذى أبيح له التصرف فى ماله وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا ويمنعون من ابغضوا وإنما هو عبد الله يقسم المال بأمره فيضعه حيث امره الله تعالى
وهكذا قال رجل لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين لو وسعت على نفسك فى النفقة من مال الله تعالى فقال له عمر أتدرى ما مثلى ومثل هؤلاء كمثل قوم كانوا فى سفر فجمعوا منهم مالا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من اموالهم وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه مال عظيم من الخمس فقال إن قوما أدوا الأمانة فى هذا لأمناء فقال له بعض الحاضرين إنك اديت الأمانة إلى الله تعالى فأدوا إليك الأمانة ولو رتعت لرتعوا
وينبغى ان يعرف أن اولى الأمر كالسوق ما نفق فيه جلب إليه هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه فان نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة جلب إليه ذلك وان نفق فيه الكذب والفجور
____________________
(28/268)
والجور والخيانة جلب إليه ذلك والذى على ولى الأمر أن يأخذ المال من حله ويضعه فى حقه ولا يمنعه من مستحقه وكان على بن أبى طالب رضى الله عنه إذا بلغه أن بعض نوابه ظلم يقول اللهم إنى لم آمرهم أن يظلموا خلقك ولا يتركوا حقك فصل
الأموال السلطانية التى أصلها فى الكتاب والسنة ثلاثة أصناف الغنيمة والصدقة والفيء
فأما ( الغنيمة ( فهي المال المأخوذ من الكفار بالقتال ذكرها الله فى سورة الأنفال التى أنزلها فى غزوة بدر وسماها انفالالأنها زيادة فى أموال المسلمين فقال { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } إلى قوله { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } الآية وقال { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم }
وفى الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما ان النبى قال ( أعطيت خمسا لم يعطهن نبى قبلى نصرت
____________________
(28/269)
بالرعب مسيرة شهر وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى واعطيت الشفاعة وكان النبى بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ( وقال النبى ( بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقى تحت ظل رمحى وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى ومن تشبه بقوم فهو منهم ( رواه أحمد فى المسند عن بن عمر واستشهد به البخارى
فالواجب فى المغنم تخميسه وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى وقسمة الباقى بين الغانمين قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة وهم الذين شهدوها للقتال قاتلوا أو لم يقاتلوا ويجب قسمها بينهم بالعدل فلا يحابى أحد لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله كما كان النبى وخلفاؤه يقسمونها وفى صحيح البخارى أن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه رأى له فضلا على من دونه فقال النبى ( هل تنصرون وترزقون الا بضعفائكم ( وفى مسند احمد عن سعد بن ابى وقاص قال قلت يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم يكون سهمه وسهم غيره سواء قال ( ثكلتك أمك بن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون
____________________
(28/270)
إلا بضعفائكم (
وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين فى دولة بنى أمية ودولة بنى العباس لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر لكن يجوز للأمام أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية كسرية تسرت من الجيش او رجل صعد حصنا عاليا ففتحه او حمل على مقدم العدو فقتله فهزم العدو ونحو ذلك لأن النبى وخلفاءه كانوا ينفلون لذلك
وكان ينفل السرية فى البداية الربع بعد الخمس وفى الرجعة الثلث بعد الخمس وهذا النفل قال العلماء انه يكون من الخمس وقال بعضهم إنه يكون من خمس الخمس لئلا يفضل بعض الغانمين على بعض والصحيح انه يجوز من أربعة الاخماس وان كان فيه تفضيل بعضهم على بعض لمصلحة دينية لا لهوى النفس كما فعل رسول الله غير مرة وهذا قول فقهاء الشام وابى حنيفة واحمد وغيرهم وعلى هذا فقد قيل إنه ينفل الربع والثلث بشرط وغير شرط وينفل الزيادة على ذلك بالشرط مثل ان يقول من دلنى على قلعة فله كذا او من جاءنى براس فله كذا ونحو ذلك وقيل لا ينفل زيادة على الثلث ولا ينفله الا بالشرط وهذان قولان لأحمد وغيره وكذلك على القول الصحيح
____________________
(28/271)
للامام ان يقول من أخذ شيئا فهو له كما روى ان النبى كان قد قال ذلك فى غزوة بدر اذا رأى ذلك مصلحة راجحة على المفسدة
واذا كان الامام يجمع الغنائم ويقسمها لم يجز لأحد ان يغل منها شيئا ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ( فان الغلول خيانة ولا تجوز النهبة فان النبى نهى عنها فاذا ترك الامام الجمع والقسمة واذن فى الأخذ إذنا جائزا فمن اخذ شيئا بلا عدوان حل له بعد تخميسه وكل ما دل على الاذن فهو إذن وأما إذا لم يأذن أو أذن إذنا غير جائز جاز للانسان ان يأخذ مقدار ما يصيبه بالقسمة متحريا للعدل فى ذلك
ومن حرم على المسلمين جمع الغنائم والحال هذه واباح للامام ان يفعل فيها ما يشاء فقد تقابل القولان تقابل الطرفين ودين الله وسط والعدل فى القسمة ان يقسم للراجل سهم وللفارس ذى الفرس العربى ثلاثة اسهم سهم له وسهمان لفرسه هكذا قسم النبى صلى الله عليه وسلم عام خيبر ومن الفقهاء من يقول للفارس سهمان والأول هو الذى دلت عليه السنة الصحيحة ولأن الفرس يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه ومنفعة الفارس به اكثر من منفعة راجلين ومنهم من يقول يسوى بين الفرس العربى والهجين
____________________
(28/272)
فى هذا ومنهم من يقول بل الهجين يسهم له سهم واحد كما روى عن النبى واصحابه والفرس الهجين الذى تكون امة نبطية ويسمى البرذون وبعضهم يسميه التترى سواء كان حصانا او خصيا ويسمى الأكديش او رمكة وهى الحجر كان السلف يعدون للقتال الحصان لقوته وحدته وللإغارة والبيات الحجر لأنه ليس لها صهيل ينذر العدو فيحترزون وللسير الخصى لأنه اصبر على السير
واذا كان المغنوم مالا قد كان للمسلمين قبل ذلك من عقار اومنقول وعرف صاحبه قبل القسمة فانه يرد إليه باجماع المسلمين وتفاريع المغانم واحكامها فيها آثار واقوال اتفق المسلمون على بعضها وتنازعوا فى بعض ذلك وليس هذا موضعها وانما الغرض ذكر الجمل الجامعة
فصل
واما الصدقات فهي لمن سمى الله تعالى فى كتابه فقد روى عن النبى ان رجلا سأله من الصدقة فقال ( ان الله لم يرض فى الصدقة بقسم نبى ولا غيره ولكن جزأها ثمانية اجزاء فان
____________________
(28/273)
كنت من تلك الاجزاء اعطيتك (
فالفقراء والمساكين يجمعهما معنى الحاجة إلى الكفاية فلا تحل الصدقة لغنى ولا لقوى مكتسب والعاملين عليه ا هم الذين يجبونها ويحفظونها ويكتبونها ونحو ذلك { والمؤلفة قلوبهم } فنذكرهم ان شاء الله تعالى فى مال الفيء { وفي الرقاب } ب ( يدخل فيه اعانة المكاتبين وافتداء الأسرى وعتق الرقاب هذا اقوى الاقوال فيها { والغارمين } هم الذين عليهم ديون لا يجدون وفاءها فيعطون وفاء ديونهم ولو كان كثيرا الا ان يكونوا غرموه فى معصية الله تعالى فلا يعطون حتى يتوبوا { وفي سبيل الله } وهم الغزاة الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم فيعطون ما يغزون به او تمام ما يغزون به من خيل وسلاح ونفقة واجرة والحج من سبيل الله كما قال النبى { وابن السبيل } هو المجتاز من بلد إلى بلد
فصل
وأما الفيء فأصله ما ذكره الله تعالى فى سورة الحشر التى انزلها الله فى غزوة بنى النضير بعد بدر من قوله تعالى { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم }
____________________
(28/274)
فذكر سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار والذين جاؤوا من بعدهم على ما وصف فدخل فى الصنف الثالث كل من جاء على هذا الوجه إلى يوم القيامة كما دخلوا فى قوله تعالى { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } وفى قوله { والذين اتبعوهم بإحسان } وفى قوله { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم } ومعنى قوله { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } أي ما
____________________
(28/275)
حركتم ولا سقتم خيلا ولا ابلا ولهذا قال الفقهاء ان الفيء هو ما أخذ من الكفار بغير قتال لأن ايجاف الخيل والركاب هومعنى القتال وسمى فيئا لأن الله افاءه على المسلمين أي رده عليهم من الكفار فان الأصل ان الله تعالى انما خلق الاموال اعانة على عبادته لأنه إنما خلق الخلق لعبادته فالكافرون به اباح انفسهم التى لم يعبدوه بها واموالهم التى لم يستعينوا بها على عبادته لعبادة المؤمنين الذين يعبدونه وافاء اليهم ما يستحقونه كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه وان لم يكن قبضه قبل ذلك وهذا مثل الجزية التى على اليهود والنصارى والمال الذى يصالح عليه العدو او يهدونه إلى سلطان المسلمين كالحمل الذى يحمل من بلاد النصارى ونحوهم وما يؤخذ من تجار اهل الحرب وهو العشر ومن تجار اهل الذمة اذا اتجروا فى غير بلادهم وهو نصف العشر هكذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يأخذ وما يؤخذ من اموال من ينقض العهد منهم والخراج الذي كان مضروبا فى الأصل عليهم وان كان قد صار بعضه على بعض المسلمين
ثم انه يجتمع من الفيء جميع الأموال السلطانية التى لبيت مال المسلمين كالأموال التى ليس لها مالك معين مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين وكالغصوب والعواري والودائع
____________________
(28/276)
التى تعذر معرفة اصحابها وغير ذلك من اموال المسلمين العقار والمنقول فهذا ونحوه مال المسلمين وانما ذكر الله تعالى فى القرآن الفيء فقط لأن النبى ما كان يموت على عهده ميت الا وله وارث معين لظهور الأنساب فى اصحابه
وقد مات مرة رجل من قبيلة فدفع ميراثه إلى اكبر رجل من تلك القبيلة أي أقربهم نسبا إلى جدهم وقد قال بذلك طائفة من العلماء كأحمد في قول منصوص وغيره ومات رجل لم يخلف إلا عتيقا له فدفع ميراثه إلى عتيقه وقال بذلك طائفة من أصحاب احمد وغيرهم ودفع ميراث رجل إلى رجل من أهل قريته وكان هو وخلفاؤه يتوسعون فى دفع ميراث الميت إلى من بينه وبينه نسب كما ذكرناه
ولم يكن يأخذ من المسلمين الا الصدقات وكان يأمرهم ان يجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وانفسهم كما امر الله به فى كتابه
ولم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة ديوان جامع على عهد رسول الله وابي بكر رضى الله عنه بل كان يقسم المال شيئا فشيئا فلما كان فى زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثر المال واتسعت البلاد وكثر الناس فجعل ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم وديوان الجيش فى هذا الزمان مشتمل على
____________________
(28/277)
أكثره وذلك الديوان هو اهم دواوين المسلمين وكان للأمصار دواوين الخراج والفيء وما يقبض من الاموال وكان النبي وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات والفيء وغير ذلك
فصارت الأموال فى هذا الزمان وما قبله ثلاثة أنواع نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والاجماع كما ذكرناه ونوع يحرم اخذه بالاجماع كالجبايات التى تؤخذ من اهل القرية لبيت المال لأجل قتيل قتل بينهم وان كان له وارث او على حد ارتكبه وتسقط عنه العقوبة بذلك وكالمكوس التى لا يسوغ وضعها اتفاقا ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم وليس بذى فرض ولا عصبة ونحو ذلك
وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية هؤلاء يأخذون ما لا يحل وهؤلاء يمنعون مايجب كما قد يتظالم الجند والفلاحون وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب ويكنز الولاة من مال الله مالا يحل كنزه وكذلك العقوبات على أداء الأموال فانه قد يترك منها ما يباح او يجب وقد يفعل ما لا يحل
والأصل فى ذلك ان كل من عليه مال يجب أداؤه كرجل
____________________
(28/278)
عنده وديعة أو مضاربة أو شركة أو مال لموكله أومال يتيم أو مال وقف أو مال لبيت المال او عنده دين وهو قادر على أدائه
فانه اذا امتنع من أداء الحق الواجب من عين او دين وعرف انه قادر على أدائه فانه يستحق العقوبة حتى يظهر المال او يدل على موضعه فاذا عرف المال وصبر على الحبس فانه يستوفى الحق من المال ولا حاجة إلى ضربه وان امتنع من الدلالة على ماله ومن الايفاء ضرب حتى يؤدى الحق او يمكن من ادائه وكذلك لو امتنع من اداء النفقة الواجبة عليه مع القدرة عليها لما روى عمرو بن الشريد عن ابيه عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( لى الواجد يحل عرضه وعقوبته ( رواه اهل السنن وقال صلى الله عليه وسلم ( مطل الغني ظلم ( أخرجاه فى الصحيحين و ( اللي ( هو المطل والظالم يستحق العقوبة والتعزير
وهذا أصل متفق عليه ان كل من فعل محرما او ترك واجبا استحق العقوبة فان لم تكن مقدرة بالشرع كان تعزيرا يجتهد فيه ولي الأمر فيعاقب الغني المماطل بالحبس فان اصر عوقب بالضرب حتى يؤدى الواجب وقد نص على ذلك الفقهاء من اصحاب مالك والشافعى واحمد وغيرهم رضى الله عنهم ولا اعلم فيه خلافا
وقد روى البخارى فى صحيحه عن بن عمر رضى الله عنهما ان
____________________
(28/279)
النبى صلى الله عليه وسلم لما صالح اهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح سأل بعض اليهود وهو سعية عم حيي بن أخطب عن كنز مال حيي بن أخطب فقال اذهبته النفقات والحروب فقال ( العهد قريب والمال اكثر من ذلك ( فدفع النبى سعيه إلى الزبير فمسه بعذاب فقال قد رأيت حييا يطوف فى خربة ها هنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك فى الخربة وهذا الرجل كان ذميا والذمي لا تحل عقوبته الا بحق وكذلك كل من كتم ما يجب اظهاره من دلالة واجبة ونحو ذلك يعاقب على ترك الواجب
وما اخذه العمال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق فلولي الأمر العادل استخراجه منهم كالهدايا التى يأخذونها بسبب العمل قال ابو سعيد الخدري رضى الله عنه هدايا العمال غلول وروى ابراهيم الحربي فى كتاب الهدايا عن بن عباس رضى الله عنهما ان النبى قال ( هدايا الأمراء غلول ( وفي الصحيحين عن ابي حميد الساعدى رضى الله عنه قال استعمل النبى صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له بن اللتبيه على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا اهدى إلى فقال النبى ( صلى الله عليه وسلم ما بال الرجل نستعمله على العمل مما
____________________
(28/280)
ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا اهدى إلى فهلا جلس فى بيت أبيه أو بيت امه فينظر ايهدى إليه ام لا والذى نفسى بيده لا يأخذ منه شيئا الا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ان كان بعيرا له رغاء او بقرة لها خوار او شاه تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتى ابطيه ثم قال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ثلاثا (
وكذلك محاباه الولاة فى المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاه والمزارعة ونحو ذلك هو من نوع الهدية ولهذا شاطر عمر بن الخطاب رضى الله عنه من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة وانما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها وكان الأمر يقتضى ذلك لأنه كان امام عدل يقسم بالسوية
فلما تغير الامام والرعية كان الواجب على كل انسان ان يفعل من الواجب ما يقدر عليه ويترك ما حرم عليه ولا يحرم عليه ما اباح الله له
وقد يبتلى الناس من الولاة بمن يمتنع من الهدية ونحوها ليتمكن بذلك من استيفاء المظالم منهم ويترك ما اوجبه الله من قضاء حوائجهم
____________________
(28/281)
فيكون من اخذ منهم عوضا على كف ظلم وقضاء حاجة مباحة احب اليهم من هذا فان الأول قد باع آخرته بدنيا غيره وأخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره وانما الواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة وقضاء حوائجهم التى لا تتم مصلحة الناس الا بها من تبليغ ذى السلطان حاجاتهم وتعريفه بأمورهم ودلالته على مصالحهم وصرفه عن مفاسدهم بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة كما يفعل ذووا الاغراض من الكتاب ونحوهم فى اغراضهم
ففى حديث هند بن ابى هالة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم انه كان يقول ( ابلغونى حاجة من لا يستطيع ابلاغها فانه من ابلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع ابلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام ( وقد روى الامام احمد وابو داود فى سننه عن ابى امامه الباهلى رضى الله عنه قال قال رسول الله من شفع لاخية شفاعة فأهدى له عليها هديه فقبلها فقد اتى بابا عظيما من ابواب الربا ( وروى ابراهيم الحربى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال السحت ان يطلب الحاجة للرجل فتقضى له فيهدى إليه هدية فيقبلها وروى ايضا عن مسروق انه كلم بن زياد فى مظلمة فردها فأهدى له صاحبها وصيفا فرده عليه وقال سمعت بن مسعود يقول من
____________________
(28/282)
رد عن مسلم مظلمة فرزأه عليها قليلا او كثيرا فهو سحت فقلت يا ابا عبد الرحمن ما كنا نرى السحت الا الرشوة فى الحكم قال ذاك كفر
فاما اذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال مايريد ان يختص به هو وذووه فلا ينبغى اعانة واحد منهمااذ كل منها ظالم كلص سرق من لص وكالطائفتين المقتتلتين على عصبية ورئاسة ولا يحل للرجل ان يكون عونا على ظلم فان التعاون نوعان
الأول تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق واعطاء المستحقين فهذا مما امر الله به ورسوله ومن امسك عنه خشية ان يكون من اعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان او على الكفاية متوهما انه متورع وما اكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع إذ كل منهما كف وامساك
والثانى تعاون على الاثم والعدوان كالاعانة على دم معصوم أو أخذ مال معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك فهذا الذي حرمه الله ورسوله
نعم اذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق وقد تعذر ردها إلى اصحابها ككثير من الأموال السلطانية فالاعانة على صرف هذه
____________________
(28/283)
الأموال فى مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحوذلك من الاعانة على البر والتقوى اذ الواجب على السلطان فى هذه الاموال اذا لم يمكن معرفة اصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم ان يصرفها مع التوبة ان كان هوالظالم إلى مصالح المسلمين هذا هو قول جمهور العلماء كمالك وابى حنيفة واحمد وهو منقول عن غير واحد من الصحابة وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية كما هو منصوص فى موضع آخر
وان كان غيره قد اخذها فعليه هو ان يفعل بها ذلك وكذلك لو امتنع السلطان من ردها كانت الاعانة على انفاقها فى مصالح اصحابها اولى من تركها بيد من يضيعها على اصحابها وعلى المسلمين
فان مدار الشريعة على قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } المفسر لقوله { اتقوا الله حق تقاته } وعلى قول النبى ( إذا امرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم ( اخرجاه فى الصحيحين وعلى ان الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فاذا تعارضت كان تحصيل اعظم المصلحتين بتفويت ادناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال ادناهما هو المشروع
والمعين على الأثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه أما من
____________________
(28/284)
أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه او على اداء المظلمة فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم بمنزلة الذى يقرضه او الذى يتوكل فى حمل المال له إلى الظالم مثال ذلك ولي اليتيم والوقف اذا طلب ظالم منه ما لا فاجتهد فى دفع ذلك بمال اقل منه إليه او إلى غيره بعد الاجتهاد التام فى الدفع فهو محسن وما على المحسنين من سبيل
وكذلك وكيل المالك من المنادين والكتاب وغيرهم الذى يتوكل لهم فى العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم لا يتوكل للظالمين فى الأخذ ل
وكذلك لو وضعت مظلمة على اهل قرية او درب او سوق او مدينة فتوسط رجل منهم محسن فى الدفع عنهم بغاية الامكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ولا ارتشاء بل توكل لهم فى الدفع عنهم والاعطاء كان محسنا لكن الغالب ان من يدخل فى ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد وآخذا ممن يريد وهذا من اكبر الظلمة الذين يحشرون فى توابيت من نار هم واعوانهم واشباههم ثم يقذفون فى النار
____________________
(28/285)
فصل
واما المصارف فالواجب ان يبدأ فى القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين العامة كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة
فمنهم المقاتلة الذين هم اهل النصرة والجهاد وهم احق الناس بالفيء فإنه لا يحصل الا بهم حتى اختلف الفقهاء فى مال الفيء هل هو مختص بهم او مشترك فى جميع المصالح واما سائر الأموال السلطانية فلجميع المصالح وفاقا الا ما خص به نوع كالصدقات والمغنم
ومن المستحقين ذوو الولايات عليهم كالولاة والقضاه والعلماء والسعاه على المال جمعا وحفظا وقسمة ونحو ذلك حتى ائمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك
وكذا صرفه فى الأثمان والأجور لما يعم نفعه من سداد الثغور بالكراع والسلاح وعمارة ما يحتاج إلى عمارته من طرقات الناس كالجسور والقناطر وطرقات المياه كالأنهار
ومن المستحقين ذوو الحاجات فان الفقهاء قد اختلفوا هل يقدمون
____________________
(28/286)
فى غير الصدقات من الفيء ونحوه على غيرهم على قولين فى مذهب احمد وغيره منهم من قال يقدمون ومنهم من قال المال استحق بالاسلام فيشتركون فيه كما يشترك الورثة فى الميراث والصحيح انهم يقدمون فان النبى كان يقدم ذوى الحاجات كما قدمهم فى مال بني النضير وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس احد احق بهذا المال من احد انما هو الرجل وسابقته والرجل وغناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وحاجته
فجعلهم عمر رضي الله عنه اربعة اقسام
الأول ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال الثانى من يغنى عن المسلمين فى جلب المنافع لهم كولاة الأمور والعلماء الذين يجتلبون لهم منافع الدين والدنيا
الثالث من يبلى بلاء حسنا فى دفع الضرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد والعيون من القصاد والناصحين ونحوهم
الرابع ذوو الحاجات واذا حصل من هؤلاء متبرع فقد اغنى الله به والا اعطى ما يكفيه او قدر عمله واذا عرفت ان العطاء يكون بحسب منفعة
____________________
(28/287)
الرجل وبحسب حاجته فى مال المصالح وفى الصدقات ايضا فما زاد على ذلك لايستحقه الرجل إلا كما يستحقه نظراؤه مثل أن يكون شريكا فى غنيمة او ميراث
ولا يجوز للامام ان يعطى احدا ما لا يستحقه لهوى نفسه من قرابة بينهما اومودة ونحو ذلك فضلا عن ان يعطيه لأجل منفعة محرمة منه كعطية المخنثين من الصبيان المردان الأحرار والمماليك ونحوهم والبغايا والمغنين والمساخر ونحو ذلك او إعطاء العرافين من الكهان والمنجمين ونحوهم
لكن يجوز بل يجب الأعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه وأن كان هو لا يحل له أخذ ذلك كما أباح الله تعالى فى القرآن العطاء للمؤلفة قلوبهم من الصدقات وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى المؤلفة قلوبهم من الفيء ونحوه وهم السادة المطاعون فى عشائرهم كما كان النبى يعطى الأقرع بن حابس سيد بنى تميم وعيينة بن حصن سيد بني فزاره وزيد الخير الطائى سيد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامرى سيد بني كلاب ومثل سادات قريش من الطلقاء كصفوان بن أمية وعكرمة بن ابي جهل وابي سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وعدد كثير
ففى الصحيحين عن ابي سعيد الخدرى رضى الله عنه قال
____________________
(28/288)
بعث علي وهو باليمن بذهيبة فى تربتها إلى رسول الله فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين اربعة الأقرع بن حابس الحنظلى وعيينة بن حصن الفزارى وعلقمة بن علاثة العامرى سيد بني كلاب وزيد الخير الطائى سيد بني نبهان قال فغضبت قريش والأنصار فقالوا يعطى صناديد نجد ويدعنا فقال رسول الله ( إنى إنما فعلت ذلك لتأليفهم ( فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتىء الجبين محلوق الرأس فقال اتق الله يا محمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فمن يتق الله إن عصيته أيأمننى على أهل الأرض ولا تأمنونى ( قال ثم أدبر الرجل فإستأذن رجل من القوم فى قتله ويرون أنه خالد بن الوليد فقال رسول الله ( إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الاوثان يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن ادركتهم لأقتلنهم قتل عاد (
وعن رافع بن خديج رضى الله عنه قال ( اعطى رسول الله ابا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل انسان منهم مائة من الأبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس
____________________
(28/289)
** أتجعل نهبى ونهب العبيد ** ** بين عيينة والأقرع ** ** وما كان حصن ولا حابس ** يفوقان مرداس فى المجمع ** وما كنت دون امرئ منهما ** ** ومن يخفض اليوم لا يرفع ** قال فأتم له رسول الله مائة رواه مسلم و ( العبيد ( اسم فرس له
والمؤلفة قلوبهم نوعان كافر ومسلم فالكافر اما أن يرجى بعطيته منفعة كاسلامه أو دفع مضرته اذا لم يندفع الا بذلك والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة ايضا كحسن إسلامه اواسلام نظيره او جباية المال ممن لايعطيه الا لخوف او النكاية فى العدو او كف ضرره عن المسلمين اذا لم ينكف الا بذلك
وهذا النوع من العطاء وان كان ظاهره اعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما يفعل الملوك فالأعمال بالنيات فاذا كان القصد بذلك مصلحة الدين واهله كان من جنس عطاء النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه وان كان المقصود العلو فى الأرض والفساد كان من جنس عطاء فرعون وانما ينكره ذوو الدين الفاسد كذى الخويصرة الذى انكره على النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال فيه ما قال وكذلك حزبه الخوارج انكروا على امير المؤمنين على رضى الله عنه ما قصد
____________________
(28/290)
به المصلحة من التحكيم ومحو اسمه وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم
وهؤلاء امر النبى بقتالهم لأن معهم دينا فاسدا لا يصلح به دنيا ولا آخرة
وكثيرا مايشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل فان كلاهما فيه ترك فيشتبه ترك الفساد لخشية الله تعالى بترك مايؤمر به من الجهاد والنفقة جبنا وبخلا وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( شر ما فى المرء شح هالع وجبن خالع ( قال الترمذى حديث صحيح
وكذلك قد يترك الانسان العمل ظنا أو إظهارا أنه ورع وإنما هو كبر وإرادة للعلو وقول النبى ( إنما الأعمال بالنيات ( كلمة جامعة كاملة فان النية للعمل كالروح للجسد وإلا فكل واحد من الساجد لله والساجد للشمس والقمر قد وضع جبهته على الأرض فصورتهما واحدة ثم هذا أقرب الخلق إلى الله تعالى وهذا أبعد الخلق عن الله وقد قال الله تعالى { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } وفى الأثر أفضل الايمان السماحة والصبر فلا تتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود الذى هو العطاء والنجدة التى هي الشجاعة بل لايصلح الدين والدنيا إلا بذلك
ولهذا كان من لايقوم بهما سلبه الله الأمر ونقله إلى غيره كما قال
____________________
(28/291)
الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير } وقال تعالى { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } وقد قال الله تعالى { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } فعلق الأمر بالانفاق الذى هو السخاء والقتال الذى هو الشجاعة وكذلك قال الله تعالى فى غير موضع { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله }
وبين أن البخل من الكبائر فى قوله تعالى { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وفى قوله { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } الآية وكذلك الجبن فى مثل قوله تعالى { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير }
____________________
(28/292)
) وفى قوله تعالى { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } وهو كثير فى الكتاب والسنة وهو مما اتفق عليه أهل الأرض حتى إنهم يقولون فى الأمثال العامية ( لاطعنة ولا جفنة ( ويقولون ( لافارس الخيل ولاوجه العرب (
ولكن افترق الناس هنا ثلاث فرق فريق غلب عليهم حب العلو فى الأرض والفساد فلم ينظروا فى عاقبة المعاد ورأوا أن السلطان لايقوم إلا بعطاء وقد لايتأتى العطاء إلا باستخراج أموال من غير حلها فصاروا نهابين وهابين وهؤلاء يقولون لايمكن أن يتولى على الناس إلا من يأكل ويطعم فانه إذا تولى العفيف الذى لا يأكل ولا يطعم سخط عليه الرؤساء وعزلوه ان لم يضروه فى نفسه وماله وهؤلاء نظروا فى عاجل دنياهم وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرتهم فعاقبتهم عاقبة رديئة فى الدنيا والآخرة ان لم يحصل لهم مايصلح عاقبتهم من توبة ونحوها
وفريق عندهم خوف من الله تعالى ودين يمنعهم عما يعتقدونه قبيحا من ظلم الخلق وفعل المحارم فهذا حسن واجب ولكن قد يعتقدون مع ذلك أن السياسة لاتتم الا بما يفعله أولئك من الحرام فيمتنعون عنها مطلقا وربما كان فى نفوسهم جبن او بخل او ضيق خلق ينضم إلى ما معهم من الدين فيقعون احيانا فى ترك واجب يكون تركه
____________________
(28/293)
اضر عليهم من بعض المحرمات او يقعون فى النهى عن واجب يكون النهى عنه من الصد عن سبيل الله وقد يكونون متأولين وربما اعتقدوا ان انكار ذلك واجب ولا يتم الا بالقتال فيقاتلون المسلمين كما فعلت الخوارج وهؤلاء لا تصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل لكن قد يصلح بهم كثير من أنواع الدين وبعض امور الدنيا وقد يعفى عنهم فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا ويغفر لهم قصورهم وقد يكونون من الأخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه ولا يعطى غيره ولا يرى انه يتألف الناس من الكفار والفجار لا بمال ولا بنفع ويرى ان اعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرم
الفريق الثالث الأمة الوسط وهم اهل دين محمد وخلفائه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة وهو انفاق المال والمنافع للناس وان كانوا رؤساء بحسب الحاجة إلى صلاح الاحوال ولاقامة الدين والدنيا التى يحتاج اليها الدين وعفته فى نفسه فلا يأخذ مالا يستحقه فيجمعون بين التقوى والاحسان ( ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )
ولا تتم السياسة الدينية الابهذا ولا يصلح الدين والدنيا الا
____________________
(28/294)
بهذه الطريقة وهذا هو الذي يطعم الناس مايحتاجون إلى طعامه ولا يأكل هوإلا الحلال الطيب ثم هذا يكفيه من الانفاق اقل مما يحتاج إليه الاول فان الذي يأخذ لنفسه تطمع فيه النفوس مالا تطمع فى العفيف ويصلح به الناس فى دينهم ما لا يصلحون بالثانى فان العفة مع القدرة تقوى حرمة الدين وفى الصحيحين عن ابى سفيان بن حرب ان هرقل ملك الروم سأله عن النبى بماذا يأمركم قال يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة وفى الأثر ( ان الله أوحى إلى ابراهيم الخليل عليه السلام يا ابراهيم اتدرى لم اتخذتك خليلا لأنى رأيت العطاء احب اليك من الأخذ ( وهذا الذي ذكرناه فى الرزق والعطاء الذى هو السخاء وبذل المنافع نظيره فى الصبر والغضب الذي هوالشجاعة ودفع المضار
فان الناس ثلاثة اقسام قسم يغضبون لنفوسهم ولربهم وقسم لايغضبون لنفوسهم ولا لربهم والثالث وهو الوسط الذي يغضب لربه لا لنفسه كما فى الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت ( ماضرب رسول الله بيده خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط الا ان يجاهد فى سبيل الله ولا
____________________
(28/295)
نيل منه شيء فانتقم لنفسه قط الا أن تنتهك حرمات الله فاذا انتهكت حرمات الله لميقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله (
فأما من يغضب لنفسه لا لربه أو يأخذ لنفسه ولا يعطى غيره فهذا القسم الرابع شر الخلق لايصلح بهم دين ولا دنيا
كما أن الصالحين ارباب السياسة الكاملة هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه ولا يأخذون الا ما ابيح لهم ويغضبون لربهم اذا انتهكت محارمه ويعفون عن حقوقهم وهذه اخلاق رسول الله فى بذله ودفعة وهي اكمل الأمور
وكلما كان اليها اقرب كان افضل فليجتهد المسلم فى التقرب اليها بجهده ويستغفر الله بعد ذلك من قصوره او تقصيره بعد ان يعرف كمال ما بعث الله تعالى به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين فهذا في قول الله سبحانه وتعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } والله اعلم
____________________
(28/296)
فصل
وأما قوله تعالى ( واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ( فان الحكم بين الناس يكون فى الحدود والحقوق وهما قسمان فالقسم الأول الحدود والحقوق التى ليست لقوم معينين بل منفعتها لمطلق المسلمين او نوع منهم وكلهم محتاج اليها وتسمى حدود الله وحقوق الله مثل حد قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم ومثل الحكم فى الاموال السلطانية والوقوف والوصايا التى ليست لمعين فهذه من اهم امور الولايات ولهذا قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه لابد للناس من إمارة برة كانت او فاجرة فقيل ياامير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة فقال يقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء
وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه واقامته من غير دعوى احد به وكذلك تقام الشهادة فيه من غير دعوى احد به وان كان الفقهاء قد اختلفوا فى قطع يد السارق هل يفتقر إلى مطالبة المسروق بماله على قولين فى مذهب احمد وغيره لكنهم متفقون على انه لا
____________________
(28/297)
يحتاج إلى مطالبة المسروق بالحد وقد اشترط بعضهم المطالبة بالمال لئلا يكون للسارق فيه شبهة
وهذا القسم يجب اقامته على الشريف والوضيع والضعيف ولا يحل تعطيله لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرهما ولا تحل الشفاعة فيه ومن عطله لذلك وهو قادر على اقامته فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولاعدلا وهو ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا وروى ابو داود فى سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في امره ومن خاصم فى باطل وهو يعلم لم يزل فى سخط الله حتى ينزع ومن قال فى مسلم دين ما ليس فيه حبس فى ردغة الخبال حتى يخرج مما قال قيل يا رسول الله وما ردغة الخبال قال عصارة اهل النار ( فذكر النبى الحكماء والشهداء والخصماء وهؤلاء اركان الحكم
وفى الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ( ان قريشا اهمهم شأن المخزومية التى سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله فقالوا ومن يجترئ عليه الا اسامة بن زيد فقال يا أسامة اتشفع فى حد من حدود الله انما هلك بنو اسرائيل انهم
____________________
(28/298)
كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه واذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد والذى نفس محمد بيده لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ( ففى هذه القصة عبرة فان اشرف بيت كان فى قريش بطنان بنو مخزوم وبنو عبد مناف فلما وجب على هذه القطع بسرقتها التى هي جحود العارية على قول بعض العلماء او سرقة اخرى غيرها على قول آخرين وكانت من اكبر القبائل واشرف البيوت وشفع فيها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم اسامة غضب رسول الله فأنكر عليه دخوله فيما حرمه الله وهو الشفاعة فى الحدود ثم ضرب المثل بسيدة نساء العالمين وقد برأها الله من ذلك فقال ( لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (
وقد روى ان هذه المرأة التى قطعت يدها تابت وكانت تدخل بعد ذلك على النبى فيقضى حاجتها فقد روى ( ان السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة وان لم يتب سبقته يده إلى النار ( وروى مالك فى المؤطا أن جماعة أمسكوا لصا ليرفعوه إلى عثمان رضى الله عنه فتلقاهم الزبير فشفع فيه فقالوا اذا رفع إلى عثمان فاشفع فيه عنده فقال ( إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع ( يعنى الذى يقبل الشفاعة وكان صفوان بن
____________________
(28/299)
أمية نائما على رداء له فى مسجد رسول الله فجاء لص فسرقه فأخذه فأتى به النبى فأمر بقطع يده فقال يارسول الله أعلى ردائى تقطع يده أنا أهبه له فقال ( فهلا قبل أن تأتينى به ) ثم قطع يده رواه أهل السنن يعنى أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتينى به لكان فأما بعد أن رفع إلى فلا فلا يجوز تعطيل الحد لا بعفو ولا بشفاعة ولا بهبة ولا غير ذلك
ولهذا اتفق العلماء فيما أعلم على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولى الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم بل تجب إقامته وإن تابوا فان كانوا صادقين فى التوبة كان الحد كفارة لهم وكان تمكينهم من ذلك من تمام التوبة بمنزلة رد الحقوق إلى أهلها والتمكين من استيفاء القصاص فى حقوق الآدميين وأصل هذا فى قوله تعالى { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا } فان الشفاعة إعانة الطالب حتى يصير معه شفعا بعد أن كان وترا فان أعانه على بر وتقوى كانت شفاعة حسنة وإن أعانة على إثم وعدوان كانت شفاعة سيئة والبر ما أمرت به والأثم ما نهيت عنه وإن كانوا كاذبين فان الله لايهدى كيد الخائنين
____________________
(28/300)
وقد قال تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } فاستثنى التائبين قبل القدرة عليهم فقط فالتائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد للعموم والمفهوم والتعليل هذا إذا كان قد ثبت بالبينة فأما إذا كان باقرار وجاء مقرى بالذنب تائبا فهذا فيه نزاع مذكور فى غير هذا الموضع وظاهر مذهب احمد انه لاتجب إقامة الحد فى مثل هذه الصورة بل إن طلب إقامة الحد عليه أقيم وإن ذهب لم يقم عليه حد
وعلى هذا حمل حديث ماعز بن مالك لما قال فهلا تركتموه وحديث الذى قال ( أصبت حدا فأقمه ( مع آثار أخر وفى سنن أبى داود والنسائى عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال ( تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغنى من حد فقد وجب ( وفى سنن النسائى وبن ماجه عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى قال ( حد يعمل به فى الأرض خير لأهل الأرض من ان يمطروا أربعين صباحا ( وهذا لأن المعاصى سبب لنقص الرزق والخوف من العدو كما يدل عليه الكتاب والسنة فأذا
____________________
(28/301)
أقيمت الحدود ظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله تعالى فحصل الرزق والنصر
ولايجوز أن يؤخذ من الزانى أو السارق او الشارب او قاطع الطريق ونحوهم مال تعطل به الحدود لالبيت المال ولا لغيره وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث وإذا فعل ولى الأمر ذلك فقد جمع فسادين عظيمين ( احدهما ) تعطيل الحد و ( الثانى ) أكل السحت فترك الواجب وفعل المحرم قال الله تعالى ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ماكانوا يصنعون ) وقال الله تعالى عن اليهود ( سماعون للكذب أكالون للسحت ) لأنهم كانوا يأكلون السحت من الرشوة التى تسمى البرطيل وتسمى أحيانا الهدية وغيرها ومتى أكل السحت ولى الأمر احتاج ان يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها وقد ( لعن رسول الله الراشى والمرتشى والرائش الواسطة الذى بينهما ( رواه أهل السنن
وفى الصحيحين ( أن رجلين اختصما إلى النبى فقال أحدهما يارسول الله اقض بيننا بكتاب الله فقال صاحبه وكان أفقه منه نعم يارسول الله اقض بيننا بكتاب الله وائذن لى فقال قل فقال إن ابنى كان عسيفا فى أهل
____________________
(28/302)
هذا يعنى اجيرا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم وانى سألت رجالا من أهل العلم فأخبرونى أن على ابنى جلد مائة وتغريب عام وان على امرأة هذا الرجم فقال والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله المائة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فاسألها فان اعترفت فارجمها فسألها فاعترفت فرجمها (
ففى هذا الحديث انه لما بذل عن المذنب هذا المال لدفع الحد عنه أمر النبى بدفع المال إلى صاحبه وامر باقامة الحد ولم ياخذ المال للمسلمين من المجاهدين والفقراء وغيرهم وقد اجمع المسلمون على ان تعطيل الحد بمال يؤخذ او غيره لايجوز واجمعوا على ان المال المأخوذ من الزانى والسارق والشارب والمحارب وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد مال سحت خبيث
كثير مما يوجد من فساد امور الناس إنما هو لتعطيل الحد بمال او جاه وهذا من اكبر الأسباب التى هي فساد أهل البوادى والقرى والأمصار من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وأهل الأهواء كقيس ويمن وأهل الحاضرة من رؤساء الناس وأغنيائهم وفقرائهم وامراء الناس ومقدميهم وجندهم وهو سبب سقوط حرمة المتولى وسقوط قدره من القلوب وانحلال أمره فاذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حد ضعفت نفسه ان يقيم حدا آخر
____________________
(28/303)
وصار من جنس اليهود الملعونين وأصل البرطيل هو الحجر المستطيل سميت به الرشوة لأنها تلقم المرتشى عن التكلم بالحق كما يلقمه الحجر الطويل كما قد جاء فى الأثر ( إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة ( وكذلك إذا أخذ مال للدولة على ذلك مثل هذا السحت الذى يسمى التأديبات ألا ترى ان الأعراب المفسدين أخذوا لبعض الناس ثم جاؤوا إلى ولى الأمر فقادوا إليه خيلا يقدمونها له او غير ذلك كيف يقوى طمعهم فى الفساد وتنكسر حرمة الولاية والسلطنة وتفسد الرعية
وكذلك الفلاحون وغيرهم وكذلك شارب الخمر اذا اخذ فدفع بعض ماله كيف يطمع الخمارون فيرجون اذا امسكوا ان يفتدوا ببعض اموالهم فيأخذها ذلك الوالى سحتا لايبارك فيها والفساد قائم
وكذلك ذوو الجاه اذا حموا احدا ان يقام عليه الحد مثل ان يرتكب بعض الفلاحين جريمة ثم يأوى إلى قرية نائب السلطان او اميره فيحمى على الله ورسوله فيكون ذلك الذى حماه ممن لعنه الله ورسوله فقد روى مسلم فى صحيحه عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال قال رسول الله ( لعن الله من احدث حدثا او آوى محدثا ( فكل من آوى محدثا من هؤلاء المحدثين
____________________
(28/304)
فقد لعنه الله ورسوله واذا كان النبى قد قال ( إن من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله فى امره ( فكيف بمن منع الحدود بقدرته ويده واعتاض عن المجرمين بسحت من المال يأخذه لاسيما الحدود على سكان البر فان من اعظم فسادهم حماية المعتدين منهم بجاه او مال سواء كان المال المأخوذ لبيت المال او للوالى سرا او علانية فذلك جميعه محرم باجماع المسلمين وهو مثل تضمين الحانات والخمر فان من مكن من ذلك او أعان أحدا عليه بمال يأخذه منه فهو من جنس واحد
والمال المأخوذ على هذا يشبه مايؤخذ من مهر البغى وحلوان الكاهن وثمن الكلب وأجرة المتوسط فى الحرام الذى يسمى القواد قال النبى ( ثمن الكلب خبيث ومهر البغى خبيث وحلوان الكاهن خبيث ( رواه البخارى فمهر البغى الذى يسمى حدور القحاب وفى معناه مايعطاه المخنثون الصبيان من المماليك او الأحرار على الفجور بهم وحلوان الكاهن مثل حلاوة المنجم ونحوه على ما يخبر به من الأخبار المبشرة بزعمه ونحو ذلك
وولى الأمر اذا ترك انكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه كان بمنزلة مقدم الحرامية الذى يقاسم المحاربين على الأخيذة وبمنزلة القواد الذى يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة
____________________
(28/305)
وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط التى كانت تدل الفجار على ضيفه التى قال الله تعالى فيها ( فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) وقال تعالى ( فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم احد الا امرأتك انه مصيبها ما أصابهم ) فعذب الله عجوز السوء القوادة بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث وهذا لأن هذا جميعه اخذ مال للأعانة على الاثم والعدوان وولى الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية فاذا كان الوالى يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد به فى سبيل الله فقاتل به المسلمين
يوضح ذلك ان صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فأن صلاح المعاش والعباد فى طاعة الله ورسوله ولا يتم ذلك الا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس قال الله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } وقال تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقال تعالى عن بنى اسرائيل { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون }
____________________
(28/306)
) وقال تعالى { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون } فأخبر الله تعالى ان العذاب لما نزل نجى الذين ينهون عن السوء وأخذ الظالمين بالعذاب الشديد
وفى الحديث الثابت ان ابا بكر الصديق رضى الله عنه خطب الناس على منبر رسول الله فقال ( ايها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها فى غير موضعها { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وانى سمعت رسول الله يقول ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك ان يعمهم الله بعقاب من عنده ( وفى حديث آخر ( ان المعصية اذا خفيت لم تضر الا صاحبها ولكن اذا ظهرت فلم تنكر ضرت العامة (
وهذا القسم الذى ذكرناه من الحكم فى حدود الله وحقوقه مقصوده الأكبر هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فالأمر بالمعروف مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والصدق والأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن العشرة مع الأهل والجيران ونحو ذلك فالواجب على ولى الأمر أن يأمر بالصلوات المكتوبات جميع من يقدر على أمره ويعاقب التارك باجماع المسلمين
____________________
(28/307)
فان كان التاركون طائفة ممتنعة قوتلوا على تركها باجماع المسلمين وكذلك يقاتلون على ترك الزكاة والصيام وغيرهما وعلى استحلال المحرمات الظاهرة المجمع عليها كنكاح ذوات المحارم والفساد فى الأرض ونحو ذلك فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الاسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها حتى يكون الدين كله لله باتفاق العلماء
وإن كان التارك للصلاة واحدا فقد قيل إنه يعاقب بالضرب والحبس حتى يصلى وجمهور العلماء على انه يجب قتله إذا امتنع من الصلاة بعد أن يستتاب فان تاب وصلى والا قتل وهل يقتل كافرا او مسلما فاسقا فيه قولان واكثر السلف على انه يقتل كافرا وهذا كله مع الاقرار بوجوبها اما اذا جحد وجوبها فهو كافر باجماع المسلمين وكذلك من جحد سائر الواجبات المذكورات والمحرمات التى يجب القتال عليها فالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات هي مقصود الجهاد فى سبيل الله وهو واجب على الأمة بالاتفاق كما دل عليه الكتاب والسنة
وهو من افضل الأعمال قال رجل يارسول الله دلنى على عمل يعدل الجهاد فى سبيل الله قال لاتستطيعه او لا تطيقه قال أخبرنى به قال هل تستطيع اذا خرج المجاهد ان تصوم ولا تفطر
____________________
(28/308)
وتقوم ولا تفتر قال ومن يستطيع ذلك قال فذلك الذى يعدل الجهاد فى سبيل الله ( وقال ( إن فى الجنة لمئة درجة بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين فى سبيله ) كلاهما فى الصحيحين وقال النبى ( رأس الأمر الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله ( وقال الله تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقال تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم }
فصل
ومن ذلك عقوبة المحاربين وقطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح فى الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة من الاعراب والتركمان والاكراد والفلاحين وفسقة الجند او مردة الحاضرة
____________________
(28/309)
او غيرهم قال الله تعالى فيهم { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وقد روى الشافعى رحمه الله فى مسنده عن بن عباس رضى الله عنهما فى قطاع الطريق ( اذا قتلوا واخذوا المال قتلوا وصلبوا واذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا واذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وارجلهم من خلاف واذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض )
وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعى وأحمد وهو قريب من قول ابى حنيفة رحمه الله ومنهم من قال للأمام ان يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وان كان لم يقتل مثل ان يكون رئيسا مطاعا فيها ويقطع من رأى قطعه مصلحة وان كان لم يأخذ المال مثل ان يكون ذا جلد وقوة فى اخذ المال كما ان منهم من يرى انهم إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا والأول قول الأكثر فمن كان من المحاربين قد قتل فانه يقتله الامام حدا لايجوز العفو عنه بحال باجماع العلماء ذكره بن المنذر ولايكون أمره إلى ورثة المقتول بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما او خصومة او نحو
____________________
(28/310)
ذلك من الأسباب الخاصة فان هذا دمه لأولياء المقتول إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص
وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حدا لله وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل ان يكون القاتل حرا والمقتول عبدا أو القاتل مسلما والمقتول ذميا او مستأمنا فقد اختلف الفقهاء هل يقتل فى المحاربة والأقوى انه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا كما يقطع اذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم
واذا كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له فقد قيل إنه يقتل المباشر فقط والجمهور على ان الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وان الردء والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين فان عمر بن الخطاب رضى الله عنه قتل ربيئة المحاربين والربيئة هو الناظر الذى يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء ولأن المباشر إنما تمكن من قتله بقوة الردء ومعونته
والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون فى الثواب والعقاب كالمجاهدين فان النبى
____________________
(28/311)
قال ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ويرد متسريهم على قاعدهم (
يعنى ان جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا فان الجيش يشاركها فيما غنمت لأنها بظهره وقوته تمكنت لكن تنفل عنه نفلا فان النبى صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية اذا كانوا فى بدايتهم الربع بعد الخمس فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية نفلهم الثلث بعد الخمس وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية لأنها فى مصلحة الجيش كما قسم النبى لطلحة والزبير يوم بدر لأنه كان قد بعثهما فى مصلحة الجيش فأعوان الطائفة الممتنعة وانصارها منها فيما لهم وعليهم
وهكذا المقتتلون على باطل لاتأويل فيه مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن ونحوهما هما ظالمتان كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار قيل يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه اراد قتل صاحبه ) أخرجاه فى الصحيحين وتضمن كل طائفة ما أتلفته للأخرى من نفس ومال وان لم يعرف عين القاتل لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد وفى ذلك قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى }
____________________
(28/312)
وأما إذا اخذوا المال فقط ولم يقتلوا كما قد يفعله الأعراب كثيرا فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند اكثر العلماء كأبى حنيفة واحمد وغيرهم وهذا معنى قول الله تعالى { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } تقطع اليد التى يبطش بها والرجل التى يمشى عليها وتحسم يده ورجله بالزيت المغلى ونحوه لينحسم الدم فلا يخرج فيفضى إلى تلفه وكذلك تحسم يد السارق بالزيت
وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل فإن الاعراب وفسقة الجند وغيرهم اذا راوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل فإنه قد ينسى وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله وأما اذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ثم اغمدوه او هربوا وتركوا الحراب فانهم ينفون فقيل نفيهم تشريدهم فلا يتركون يأوون فى بلد وقيل هو حبسهم وقيل هو ما يراه الامام أصلح من نفى أو حبس او نحو ذلك
والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أروح أنواع القتل وكذلك شرع الله قتل مايباح قتله من الآدميين والبهائم
____________________
(28/313)
اذا قدر عليه على هذا الوجه قال النبى ( ان الله كتب الاحسان على كل شيء فاذا قتلتم فاحسنوا القتله وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة وليحد احدكم شفرته وليرح ذبيحته ( رواه مسلم وقال ( ان أعف الناس قتلة أهل الايمان (
وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم وهو بعد القتل عند جمهور العلماء ومنهم من قال يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف حتى قال يتركون على المكان العالى حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل فأما التمثيل فى القتل فلا يجوز إلاعلى وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضى الله عنهما ما خطبنا رسول الله خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فانا لانمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وانوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا والترك أفضل كما قال الله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله } قيل إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضى الله عنهم فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( لئن أظفرنى الله بهم لأمثلن بضعفى ما مثلوا بنا ( فأنزل الله هذه الآية وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة
____________________
(28/314)
مثل قوله { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } وقوله { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } وغير ذلك من الآيات التى نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضى الخطاب فأنزلت مرة ثانية فقال النبى ( بل نصبر ( وفى صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب رضى الله عنه قال ( كان النبى إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو فى حاجة نفسه أوصاه فى خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول أغزوا بسم الله فى سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا (
ولو شهروا السلاح فى البنيان لا فى الصحراء لأخذ المال فقد قيل إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس وقال أكثرهم إن حكمهم فى البنيان والصحراء واحد وهذا قول مالك فى المشهور عنه والشافعى وأكثر أصحاب أحمد وبعض أصحاب أبى حنيفة بل هم فى البنيان أحق بالعقوبة منهم فى الصحراء لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم فاقدامهم عليه يقتضى شدة المحاربة والمغالبة ولأنهم يسلبون الرجل فى داره جميع ماله والمسافر
____________________
(28/315)
لايكون معه غالبا إلا بعض ماله وهذا هو الصواب لاسيما هؤلاء المتحزبون الذين تسميهم العامة فى الشام ومصر المنسر وكانوا يسمون ببغداد العيارين ولو حاربوا بالعصى والحجارة المقذوفة بالأيدى أو المقاليع ونحوها فهم محاربون ايضا وقد حكى عن بعض الفقهاء لا محاربة إلا بالمحدد وحكى بعضهم الاجماع على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن
فالصواب الذى عليه جماهير المسلمين أن من قاتل على أخذ المال بأى نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأى نوع كان من انواع القتال فهو حربى ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصى فهو مجاهد فى سبيل الله
وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذى يجلس فى خان يكريه لأبناء السبيل فاذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة او طب او نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله وهذا يسمى القتل غيلة ويسميهم بعض العامة المعرجين فاذا كان لأخذ المال فهل هم كالمحاربين أو يجرى عليهم حكم القود فيه قولان للفقهاء
أحدهما أنهم كالمحاربين لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لايمكن الاحتراز منه بل قد يكون ضرر هذا أشد لأنه لا
____________________
(28/316)
يدرى به
والثانى أن المحارب هو المجاهر بالقتال وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولى الدم والأول أشبه بأصول الشريعة بل قد يكون ضرر هذا أشد لأنه لا يدرى به
واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان وقاتل على رضى الله عنهما هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا او يكون أمرهم إلى أولياء الدم على قولين فى مذهب أحمد وغيره لأن فى قتله فسادا عاما
فصل
وهذا كله اذا قدر عليهم فأما اذا طلبهم السلطان أو نوابه لاقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فانه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم ومتى لم ينقادوا الا بقتال يفضى إلى قتلهم كلهم قوتلوا وإن أفضى الى ذلك سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا ويقتلون فى القتال كيفما أمكن فى العنق وغيره ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال وذاك إقامة حد وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الاسلام
____________________
(28/317)
فان هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والاموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم اقامة دين ولا ملك
وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى حصن أو مغارة أو رأس جبل أو بطن واد ونحو ذلك يقطعون الطريق على من مر بهم واذا جاءهم جند ولى الأمر يطلبهم للدخول فى طاعة المسلمين والجماعة لا قامة الحدود قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات او الجبلية الذين يعتصمون برءوس الجبال اوالمغارات لقطع الطريق وكالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق ويسمون ذلك ( النهيضة ) فانهم يقاتلون كما ذكرنا لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار اذا لم يكونوا كفارا ولا تؤخذ أموالهم ألا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق فان عليهم ضمانها فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا وإن لم نعلم عين الآخذ وكذلك لو علم عينه فان الردء والمباشر سواء كما قلناه لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه ويرد ما يؤخذ منهم على أرباب الأموال فان تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك
بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لاقامة الحدود ومنعهم من الفساد فاذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا لم يجهز عليه حتى يموت
____________________
(28/318)
الا أن يكون قد وجب عليه القتل واذا هرب وكفانا شره لم نتبعه الا ان يكون عليه حد أو نخاف عاقبته ومن أسر منهم أقيم عليه الحد الذى يقام على غيره ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها وأكثرهم يأبون ذلك فامااذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارجة عن شريعة الاسلام وأعانوهم على المسلمين قوتلوا كقتالهم
وأما من كان لا يقطع الطريق ولكنه يأخذ خفارة أو ضريبة من أبناء السبيل على الرءوس والدواب والاحمال ونحو ذلك فهذا مكاس عليه عقوبة المكاسين وقد اختلف الفقهاء فى جواز قتله وليس هو من قطاع الطريق فان الطريق لا ينقطع به مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة حتى قال النبى فى الغامدية ( لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ) ويجوز للمظلومين الذين تراد أموالهم قتال المحاربين باجماع المسلمين ولا يجب ان يبذل لهم من المال لا قليل ولا كثير اذا أمكن قتالهم قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد )
وهذا الذى تسميه الفقهاء ( الصائل ) وهو الظالم بلا تأويل
____________________
(28/319)
ولا ولاية فاذا كان مطلوبة المال جاز دفعه بما يمكن فاذا لم يندفع الا بالقتال قوتل وان ترك القتال واعطاهم شيئا من المال جاز وأما اذا كان مطلوبة الحرمة مثل أن يطلب الزنى بمحارم الانسان أو يطلب من المراة او الصبى المملوك او غيره الفجور به فانه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن ولو بالقتال ولا يجوز التمكين منه بحال بخلاف المال فانه يجوز التمكين منه لأن بذل المال جائز وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز وأما إذا كان مقصوده قتل الانسان جاز له الدفع عن نفسه وهل يجب عليه على قولين للعلماء فى مذهب أحمد وغيره وهذا اذا كان للناس سلطان فأما إذا كان والعياذ بالله فتنه مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين ويقتتلان على الملك فهل يجوز للانسان اذا دخل أحدهما بلد الآخر وجرى السيف أن يدفع عن نفسه فى الفتنة او يستسلم فلا يقاتل فيها على قولين لأهل العلم فى مذهب أحمد وغيره
فأذا ظفر السلطان بالمحاربين الحرامية وقد أخذوا الاموال التى للناس فعليه ان يستخرج منهم الأموال التى للناس ويردها عليهم مع أقامة الحد على ابدانهم وكذلك السارق فأن امتنعوا من احضار المال بعد ثبوته عليهم عاقبهم بالحبس والضرب حتى يمكنوا من أخذه باحضاره او توكيل من يحضره او الاخبار بمكانه كما يعاقب كل ممتنع
____________________
(28/320)
عن حق وجب عليه أداؤه فأن الله قد أباح للرجل فى كتابه أن يضرب امرأته اذا نشزت فامتنعت من الحق الواجب عليها حتى تؤديه فهؤلاء أولى وأحرى وهذه المطالبة والعقوبة حق لرب المال فان أراد هبتهم المال أو المصالحة عليه أو العفو عن عقوبتهم فله ذلك بخلاف اقامة الحد عليهم فإنه لا سبيل إلى العفو عنه بحال وليس للامام أن يلزم رب المال بترك شيء من حقه وإن كانت الأموال قد تلفت بالأكل وغيره عندهم أو عند السارق فقيل يضمنونها لأربابها كما يضمن سائر الغارمين وهو قول الشافعى وأحمد رضى الله عنهما وتبقى مع الأعسار فى ذمتهم إلى ميسرة وقيل لا يجتمع الغرم والقطع وهو قول أبى حنيفة رحمه الله وقيل يضمنونها مع اليسار فقط دون الاعسار وهو قول مالك رحمه الله
ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلا على طلب المحاربين واقامة الحد وارتجاع اموال الناس منهم ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم فى طلبهم بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد فى سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج فى غيره من الغزوات التى تسمى البيكار وينفق على المجاهدين فى هذا من المال الذى ينفق منه على سائر الغزاة فان كان لهم اقطاع او عطاء يكفيهم والا اعطاهم تمام كفاية غزوهم من مال المصالح من الصدقات
____________________
(28/321)
فإن هذا من سبيل الله فان كان على أبناء السبيل المأخوذين زكاة مثل التجار الذين قد يؤخذون فأخذ الامام زكاة أموالهم وانفقها فى سبيل الله كنفقة الذين يطلبون المحاربين جاز ولو كانت لهم شوكة قوية تحتاج إلى تأليف فأعطى الامام من الفيء والمصالح والزكاة لبعض رؤسائهم يعينهم على إحضار الباقين أو لترك شره فيضعف الباقون ونحو ذلك جاز وكان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم وقد ذكر مثل ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره وهو ظاهر الكتاب والسنة وأصول الشريعة
ولايجوز ان يرسل الامام من يضعف عن مقاومة الحرامية ولا من يأخذ مالا من المأخوذين التجار ونحوهم من أبناء السبيل بل يرسل من الجند الأقوياء الأمناء إلا أن يتعذر ذلك فيرسل الأمثل فالامثل
فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القرى ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ فى الباطن او الظاهر حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم وأرضى المأخوذين ببعض أموالهم او لم يرضهم فهذا أعظم جرما من مقدم الحراميه لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا والواجب أن يقال فيه ما يقال فى الردء والعون لهم فإن قتلوا قتل هو على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأكثر أهل
____________________
(28/322)
العلم وإن أخذوا المال قطعت يده ورجله وإن قتلوا واخذوا المال قتل وصلب وعلى قول طائفة من اهل العلم يقطع ويقتل ويصلب وقيل يخير بين هذين وإن كان لم يأذن لهم لكن لما قدر عليهم قاسمهم الأموال وعطل بعض الحقوق والحدود
ومن آوى محاربا او سارقا او قاتلا ونحوهم ممن وجب عليه حد او حق لله تعالى او لآدمي ومنعه ان يستوفى منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه فى الجرم وقد لعنه الله ورسوله روى مسلم فى صحيحه عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال قال رسول الله ( لعن الله من أحدث حدثا او آوى محدثا ( وإذا ظفر بهذا الذى آوى المحدث فانه طلب منه إحضاره او الاعلام به فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب فمن وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها
ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق او الرجل المطلوب بحق وهو الذى يمنعه فانه يجب عليه الاعلام به والدلالة عليه ولا يجوز كتمانه فان هذا من باب التعاون على البر والتقوى وذلك واجب بخلاف ما لو كان النفس او المال مطلوبا بباطل فانه لايحل الاعلام به لأنه من التعاون على الاثم والعدوا ن بل يجب الدفع عنه لأن
____________________
(28/323)
نصر المظلوم واجب ففى الصحيحين عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله ( انصر أخاك ظالما او مظلوما قلت يارسول الله انصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه (
وروى مسلم نحوه عن جابر وفى الصحيحين عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال ( امرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع امرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار المقسم وإجابة الدعوة ونصر المظلوم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب بالفضة وعن المياثر وعن لبس الحرير والقسى والديباج والإستبرق ( فإن امتنع هذا العالم به من الاعلام بمكانه جازت عقوبته بالحبس وغيره حتى يخبر به لأنه امتنع من حق واجب عليه لا تدخله النيابة فعوقب كما تقدم ولا تجوز عقوبته على ذلك إلا إذا عرف انه عالم به وهذا مطرد فى ما تتولاه الولاة والقضاة وغيرهم فى كل من امتنع من واجب من قول او فعل وليس هذا بمطالبة للرجل بحق وجب على غيره ولا عقوبة على جناية غيره حتى يدخل فى قوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وفى قول النبى صلى الله عليه وسلم ( ألا لا يجنى جان إلا على نفسه ( وإنما ذلك مثل أن يطلب بمال قد
____________________
(28/324)
وجب على غيره وهو ليس وكيلا ولا ضامنا ولا له عنده مال او يعاقب الرجل بجريرة قريبه او جاره من غير ان يكون هو قد أذنب لابترك واجب ولا بفعل محرم فهذا الذى لايحل فأما هذا فانما يعاقب على ذنب نفسه وهو ان يكون قد علم مكان الظالم الذى يطلب حضوره لاستيفاء الحق او يعلم مكان المال الذى قد تعلق به حقوق المستحقين فيمتنع من الاعانة والنصرة الواجبة عليه فى الكتاب والسنة والاجماع إما محاباة او حمية لذلك الظالم كما قد يفعل أهل العصبية بعضهم ببعض وإما معاداة او بغضا للمظلوم وقد قال الله تعالى { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى }
وإما اعراضا عن القيام لله والقيام بالقسط الذى أوجبه الله وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه كما يفعل التاركون لنصر الله ورسوله ودينه وكتابه الذين إذا قيل لهم انفروا فى سبيل الله اثاقلوا إلى الأرض
وعلى كل تقدير فهذا الضرب يستحق العقوبة باتفاق العلماء
ومن لم يسلك هذه السبل عطل الحدود وضيع الحقوق وأكل القوى الضعيف
وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أودين وقد
____________________
(28/325)
امتنع من تسليمه لحاكم عادل يوفى به دينه او يؤدى منه النفقة الواجبة عليه لأهله او أقاربه او مماليكه او بهائمه وكثيرا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبه وكما تجب الدية على عاقلة القاتل وهذا الضرب من التعزير عقوبة لمن علم أن عنده مالا او نفسا يجب إحضاره وهو لايحضره كالقطاع والسراق وحماتهم او علم أنه خبير به وهو لا يخبر بمكانه فأما إن امتنع من الأخبار والاحضار لئلا يتعدى عليه الطالب او يظلمه فهذا محسن وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر ويجتمع شبهة وشهوة والواجب تمييز الحق من الباطل
وهذا يقع كثيرا فى الرؤساء من أهل البادية والحاضرة إذا استجار بهم مستجير او كان بينهما قرابة او صداقة فانهم يرون الحمية الجاهلية والعزة بالاثم والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه وإن كان ظالما مبطلا على المحق المظلوم لاسيما ان كان المظلوم رئيسا يناديهم ويناويهم فيرون فى تسليم المستجير بهم إلى من يناويهم ذلا او عجزا وهذا على الاطلاق جاهلية محضة وهى من اكبر اسباب فساد الدين والدنيا وقد ذكر أنه إنما كان سبب كثير من حروب الأعراب كحرب البسوس التى كانت بين بنى بكر وتغلب إلى نحو هذا وكذلك سبب دخول الترك والمغول دار الاسلام
____________________
(28/326)
واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو هذا
ومن أذل نفسه لله فقد أعزها ومن بذل الحق من نفسه فقد اكرم نفسه فان اكرم الخلق عند الله اتقاهم ومن اعتز بالظلم من منع الحق وفعل الاثم فقد أذل نفسه وأهانها قال الله تعالى { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } وقال تعالى عن المنافقين { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } وقال الله تعالى فى صفة هذا الضرب { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد }
وانما الواجب على من استجار به مستجير إن كان مظلوما ينصره ولا يثبت أنه مظلوم بمجرد دعواه فطالما اشتكى الرجل وهو ظالم بل يكشف خبره من خصمه وغيره فان كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن إما من صلح او حكم بالقسط وإلا فبالقوة
وإن كان كل منهم ظالما مظلوما كأهل الأهواء من قيس ويمن
____________________
(28/327)
ونحوهم واكثر المتداعين من اهل الأمصار والبوادى أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة او تأويل او غلط وقع فيما بينهما سعى بينهما بالاصلاح او الحكم كما قال الله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } وقال تعالى { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } ( وقد روى ابو داود فى السنن عن النبى أنه قيل له ( أمن العصبية ان ينصر الرجل قومه فى الحق قال لا قال ولكن من العصبية ان ينصر الرجل قومه فى الباطل ( وقال ( خيركم الدافع عن قومه مالم يأثم ( وقال ( مثل الذى ينصر قومه بالباطل كبعير تردى فى بئر فهو يجر بذنبه ( وقال ( من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا (
وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد او جنس او مذهب او طريقة فهو من عزاء الجاهلية بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار فقال المهاجرى ياللمهاجرين
____________________
(28/328)
وقال الانصارى ياللأنصار قال النبى ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ) وغضب لذلك غضبا شديدا
فصل
وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والاجماع قال الله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة عليه او بالاقرار تأخيره لابحبس ولا مال يفتدى به ولا غيره بل تقطع يده فى الأوقات المعظمة وغيرها فان إقامة الحد من العبادات كالجهاد فى سبيل الله فينبغى أن يعرف ان إقامة الحدود رحمة من الله بعباده فيكون الوالي شديدا فى إقامة الحد لا تأخذه رأفة فى دين الله فيعطله ويكون قصده رحمه الخلق بكف الناس عن المنكرات لاشفاء غيظه وإراده العلو على الخلق بمنزلة الوالد إذا أدب ولده فانه لو كف عن تأديب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله مع أنه يود ويؤثر أن لايحوجه إلى تأديب وبمنزلة الطبيب الذى يسقى المريض الدواء الكريه وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع
____________________
(28/329)
العروق بالفصاد ونحو ذلك بل بمنزلة شرب الانسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة
فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغى ان تكون نية الوالي فى إقامتها فانه متى كان قصده صلاح الرعية والنهى عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم وابتغى بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره ألان الله له القلوب وتيسرت له اسباب الخير وكفاه العقوبة البشرية وقد يرضى المحدود اذا أقام عليه الحد
واما اذا كان غرضه العلو عليهم وإقامة رياسته ليعظموه او ليبذلوا له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده ويروى ان عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه قبل ان يلى الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبى وكان قد ساسهم سياسة صالحة فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب فسأل أهل المدينة عن عمر كيف هيبته فيكم قالوا ما نستطيع أن ننظر إليه قال كيف محبتكم له قالوا هو أحب الينا من أهلنا قال فكيف أدبه فيكم قالوا ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة قال هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه هذا أمر من السماء
واذا قطعت يده حسمت ويستحب ان تعلق فى عنقه فان
____________________
(28/330)
سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فان سرق ثالثا ورابعا ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء أحدهما تقطع اربعته فى الثالثة والرابعة وهو قول ابى بكر رضى الله عنه ومذهب الشافعى وأحمد فى احدى الروايتين والثانى انه يحبس وهو قول على رضى الله عنه والكوفيين واحمد فى روايته الأخرى
وانما تقطع يده إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم كمالك والشافعى واحمد ومنهم من يقول دينار او عشرة دراهم فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق وفى الصحيحين عن بن عمر رضى الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع فى مجن ثمنه ثلاثة دراهم ( وفى لفظ لمسلم ( قطع سارقا فى مجن قيمته ثلاثة دراهم ( والمجن الترس وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله ( تقطع اليد فى ربع دينار فصاعدا ( وفى رواية لمسلم ( لاتقطع يد السارق إلا فى ربع دينار فصاعدا ( وفى رواية للبخارى قال ( اقطعوا فى ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ( وكان ربع الدينار يؤمئذ ثلاثة دراهم والدينار اثنى عشر درهما
ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز فأما المال
____________________
(28/331)
الضائع من صاحبه والثمر الذى يكون فى الشجر فى الصحراء بلا حائط والماشية التى لاراعى عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزر الآخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث
وقد اختلف أهل العلم فى التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج سمعت رسول الله يقول ( لاقطع فى ثمر ولا كثر ( والكثر جمار النخل رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده رضى الله عنه قال ( سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله قال يارسول الله جئت أسألك عن الضالة من الابل قال معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها قال فالضالة من الغنم قال لك او لأخيك او للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها قال فالحريسة التى تؤخذ من مراتعها قال فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قال يارسول الله فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من اجرانه ففيه القطع إذا بلغ مايؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال ( رواه أهل
____________________
(28/332)
السنن لكن هذا سياق النسائى
ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم ( ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع ( فالمنتهب الذى ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذى يجتذب الشيء فيعلم به قبل اخذه وأما الطرار وهو البطاط الذى يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فانه يقطع على الصحيح
فصل
واما الزانى فان كان محصنا فانه يرجم بالحجارة حتى يموت كما رجم النبى ماعز بن مالك الأسلمى ورجم الغامدية ورجم اليهوديين ورجم غير هؤلاء ورجم المسلمون بعده وقد اختلف العلماء هل يجلد قبل الرجم مائة على قولين فى مذهب احمد وغيره وان كان غير محصن فانه يجلد مائة جلدة بكتاب الله ويغرب عاما بسنه رسول الله وان كان بعض العلماءلايرى وجوب التغريب
ولايقام عليه الحد حتى يشهد عليه أربعة شهداء او يشهد على نفسه أربع شهادات عند كثير من العلماء او اكثرهم ومنهم من يكتفى بشهادته على نفسه مرة واحدة ولو أقر على نفسه ثم رجع
____________________
(28/333)
فمنهم من يقول يسقط عنه الحد ومنهم من يقول لايسقط
والمحصن من وطىء وهو حر مكلف لمن تزوجها نكاحا صحيحا فى قبلها ولو مرة واحدة وهل يشترط ان تكون الموطوءة مساوية للواطئ فى هذه الصفات على قولين للعلماء وهل تحصن المراهقة للبالغ وبالعكس فأما أهل الذمة فانهم محصنون ايضا عند اكثر العلماء كالشافعى وأحمد لأن النبى رجم يهوديين عند باب مسجده وذلك أول رجم كان فى الاسلام
واختلفوا فى المرأة اذا وجدت حبلى ولم يكن لها زوج ولاسيد ولم تدع شبهة فى الحبل ففيها قولان فى مذهب احمد وغيره قيل لاحد عليها لأنه يجوز ان تكون حبلت مكرهة او بتحمل او بوطء شبهة وقيل بل تحد وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وهو الأشبه بأصول الشريعة وهو مذهب أهل المدينة فان الاحتمالات النادرة لايلتفت اليها كإحتمال كذبها وكذب الشهود
واما اللواط فمن العلماء من يقول حده كحد الزنى وقد قيل دون ذلك والصحيح الذى اتفقت عليه الصحابة ان يقتل الاثنان الأعلى والأسفل سواء كانا محصنين أو غير محصنين فان أهل السنن رووا عن بن
____________________
(28/334)
عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ( وروى ابو داود عن بن عباس رضى الله عنهما فى البكر يوجد على اللوطية قال يرجم ويروى عن على بن ابى طالب رضى الله عنه نحو ذلك
ولم تختلف الصحابة فى قتله ولكن تنوعوا فيه فروى عن الصديق رضى الله عنه انه أمر بتحريقة وعن غيره قتله وعن بعضهم أنه يلقى عليه جدار حتى يموت تحت الهدم وقيل يحبسان فى أنتن موضع حتى يموتا وعن بعضهم أنه يرفع على أعلى جدار فى القرية ويرمى منه ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط وهذه رواية عن بن عباس والرواية الأخرى قال يرجم وعلى هذا اكثر السلف قالوا لأن الله رجم قوم لوط وشرع رجم الزانى تشبيها برجم قوم لوط فيرجم الاثنان سواء كانا حرين او مملوكين او كان احدهما مملوكا والآخر حرا اذا كانا بالغين فان كان احدهما غير بالغ عوقب بما دون القتل ولا يرجم إلا البالغ
____________________
(28/335)
فصل
وأما حد الشرب فانه ثابت بسنة رسول الله وإجماع المسلمين فقد روى اهل السنن عن النبى من وجوه انه قال ( من شرب الخمر فاجلدوه ثم ان شرب فاجلدوه ثم ان شرب فاجلدوه ثم ان شرب الرابعة فاقتلوه ( وثبت عنه انه جلد الشارب غير مرة هو وخلفاؤه والمسلمون بعده
والقتل عند اكثر العلماء منسوخ وقيل هو محكم يقال هو تعزير يفعله الامام عند الحاجة
وقد ثبت عن النبى انه ضرب فى الخمر بالجريد والنعال أربعين وضرب أبو بكر رضى الله عنه اربعين وضرب عمر فى خلافته ثمانين وكان على رضى الله عنه يضرب مرة أربعين ومرة ثمانين فمن العلماء من يقول يجب ضرب الثمانين ومنهم من يقول الواجب اربعون والزيادة يفعلها الامام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر او كان الشارب ممن لايرتدع بدونها ونحوذلك
____________________
(28/336)
فاما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفى الأربعون وهذا اوجه القولين وهو قول الشافعى واحمد رحمهما الله فى إحدى الروايتين عن أحمد
وقد كان عمر رضى الله عنه لما كثر الشرب زاد فيه النفى وحلق الرأس مبالغة فى الزجر عنه فلو غرب الشارب مع الأربعين لينقطع خبره او عزله عن ولايته كان حسنا فان عمر بن الخطاب رضى الله عنه بلغه عن بعض نوابه أنه تمثل بأبيات فى الخمر فعزله
والخمر التى حرمها الله ورسوله وأمر النبى بجلد شاربها كل شراب مسكر من أى اصل كان سواء كان من الثمار كالعنب والرطب والتين او الحبوب كالحنطه والشعير او الطلول كالعسل او الحيوان كلبن الخيل بل لما انزل الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد تحريم الخمر لم يكن عندهم بالمدينة من خمر العنب شيء لأنه لم يكن بالمدينة شجر عنب وإنما كانت تجلب من الشام وكان عامة شرابهم من نبيذ التمر وقد تواترت السنة عن النبى وخلفائه الراشدين وأصحابه رضى الله عنهم أنه حرم كل مسكر وبين أنه خمر
وكانوا يشربون النبيذ الحلو وهو ان ينبذ فى الماء تمر وزبيب
____________________
(28/337)
أى يطرح فيه والنبذ الطرح ليحلو الماء لاسيما كثير من مياه الحجاز فان فيه ملوحة فهذا النبيذ حلال باجماع المسلمين لأنه لا يسكر كما يحل شرب عصير العنب قبل ان يصير مسكرا وكان النبى قد نهاهم ان ينبذوا هذا النبيذ فى أوعيه الخشب او الجرى وهو ما يصنع من التراب او القرع او الظروف المزفتة وأمرهم ان ينبذوا فى الظروف التى تربط أفواهها بالأوكية لأن الشدة تدب فى النبيذ دبيبا خفيفا ولا يشعر الانسان فربما شرب الانسان ما قد دبت فيه الشدة المطربة وهو لايشعر فاذا كان السقاء موكى انشق الظرف إذا غلا فيه النبيذ فلا يقع الانسان فى محذور وتلك الأوعية لاتنشق
وروى عنه أنه رخص بعد هذا فى الانتباذ فى الأوعية وقال ( كنت نهيتكم عن الانتباذ فى الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا المسكر ( فاختلف الصحابة ومن بعدهم من العلماء منهم من لم يبلغه النسخ او لم يثبته فنهى عن الانتباذ فى الأوعية ومنهم من اعتقد ثبوته وأنه ناسخ فرخص فى الانتباذ فى الأوعية فسمع طائفة من الفقهاء ان بعض الصحابة كانوا يشربون النبيذ فاعتقدوا أنه المسكر فترخصوا فى شرب أنواع من الأشربة التى ليست من العنب والتمر وترخصوا فى المطبوخ من نبيذ التمر والزبيب إذا لم يسكر الشارب
____________________
(28/338)
والصواب ما عليه جماهير المسلمين ان كل مسكر خمر يجلد شاربه ولو شرب منه قطرة واحدة لتداو او غير تداو فان النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يتداوى بها فقال ( إنها داء وليست بدواء وإن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها (
والحد واجب إذا قامت البينة او اعترف الشارب فان وجدت منه رائحة الخمر او رؤى وهو يتقيؤها ونحو ذلك فقد قيل لا يقام عليه الحد لاحتمال انه شرب ما ليس بخمر او شربها جاهلا بها او مكرها ونحو ذلك وقيل بل يجلد إذا عرف ان ذلك مسكر وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة كعثمان وعلى وبن مسعود وعليه تدل سنة رسول الله وهو الذى يصلح عليه الناس وهو مذهب مالك وأحمد فى غالب نصوصه وغيرهما
والحشيشة المصنوعة من ورق العنب حرام أيضا يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر وهى أخبث من الخمر من جهة انها تفسد العقل والمزاج حتى يصير فى الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد والخمر أخبث من جهة انها تفضى إلى المخاصمة والمقاتلة وكلاهما يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وقد توقف بعض الفقهاء المتأخرين فى حدها ورأى ان آكلها
____________________
(28/339)
يعزر بما دون الحد حيث ظنها تغير العقل من غير طرب بمنزلة البنج ولم نجد للعلماء المتقدمين فيها كلاما وليس كذلك بل آكلوها ينشون عنها ويشتهونها كشراب الخمر وأكثر وتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة إذا أكثروا منها مع ما فيها من المفاسد الأخرى من الدياثة والتخنث وفساد المزاج والعقل وغير ذلك
ولكن لما كانت جامدة مطعومة ليست شرابا تنازع الفقهاء فى نجاستها على ثلاثة اقوال فى مذهب احمد وغيره فقيل هي نجسه كالخمر المشروبة وهذا هو الاعتبار الصحيح وقيل لا لجمودها وقيل يفرق بين جامدها ومائعها وبكل حال فهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظا ومعنى قال أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه يارسول الله أفتنا فى شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد قال وكان رسول الله قد أعطى جوامع الكلم وخواتيمه فقال ( كل مسكر حرام ( متفق عليه فى الصحيحين
وعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن من الحنطة خمرا ومن الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا ومن التمر خمرا ومن العسل خمرا وأنا أنهى عن كل مسكر ( رواه
____________________
(28/340)
أبو داود وغيره ولكن هذا فى الصحيحين عن عمر موقوفا عليه أنه خطب به على منبر رسول الله فقال ( الخمر ما خامر العقل ( وعن بن عمر رضى الله عنهما ان النبى قال ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ( وفى رواية ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ( رواهما مسلم فى صحيحه وعن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله ( كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ( قال الترمذى حديث حسن وروى أهل السنن عن النبى من وجوه أنه قال ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ( وصححه الحفاظ وعن جابر رضى الله عنه ان رجلا سأل النبى عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال ( أمسكر هو قال نعم فقال كل مسكر حرام إن على الله عهدا لمن شرب المسكر ان يسقيه من طينة الخبال قالوا يارسول الله وما طينة الخبال قال عرق أهل النار او عصارة أهل النار ( رواه مسلم فى صحيحه وعن بن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( كل مخمر خمر وكل مسكر حرام ( رواه أبو داود
والأحاديث فى هذا الباب كثيرة مستفيضة جمع رسول الله صلى
____________________
(28/341)
الله عليه وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع ونوع ولا تأثير لكونه مأكولا او مشروبا على ان الخمر قد يصطبغ بها والحشيشة قد تذاب فى الماء وتشرب فكل خمر يشرب ويؤكل والحشيشة تؤكل وتشرب وكل ذلك حرام وإنما لم يتكلم المتقدمون فى خصوصها لأنه إنما حدث أكلها من قريب فى أواخر المائة السادسة او قريبا من ذلك كما أنه قد أحدثت أشربة مسكرة بعد النبى وكلها داخلة فى الكلم الجوامع من الكتاب والسنة
فصل
ومن الحدود التى جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون حد القذف فاذا قذف الرجل محصنا بالزنى او اللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة والمحصن هنا هو الحر العفيف وفى باب حد الزنى هو الذى وطىء وطئا كاملا فى نكاح تام
____________________
(28/342)
فصل
وأما المعاصى التى ليس فيها حد مقدر ولا كفارة كالذى يقبل الصبى والمرأة الأجنبية او يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة او يقذف الناس بغير الزنى او يسرق من غير حرز ولو شيئا يسيرا او يخون أمانته كولاة أموال بيت المال او الوقوف ومال اليتيم ونحو ذلك اذا خانوا فيها وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا او يغش فى معاملته كالذين يغشون فى الأطعمة والثياب ونحو ذلك او يطفف المكيال والميزان او يشهد بالزور او يلقن شهادة الزور او يرتشى فى حكمه او يحكم بغير ما أنزل الله او يعتدى على رعيته او يتعزى بعزاء الجاهلية او يلبى داعى الجاهلية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات
فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالى على حسب كثرة ذلك الذنب فى الناس وقلته فاذا كان كثيرا زاد فى العقوبة بخلاف ما إذا كان قليلا وعلى حسب حال المذنب فاذا كان من المدمنين على الفجور زيد فى عقوبته بخلاف المقل من ذلك وعلى حسب كبر الذنب وصغره فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لايعاقب من لم يتعرض إلا لمرأة
____________________
(28/343)
واحدة او صبى واحد
وليس لأقل التعزير حد بل هو بكل ما فيه إيلام الانسان من قول وفعل وترك قول وترك فعل فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والاغلاظ له وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة كما هجر النبى وأصحابه ( الثلاثة الذين خلفوا ( وقد يعزر بعزله عن ولايته كما كان النبى وأصحابه يعزرون بذلك وقد يعزر بترك استخدامه فى جند المسلمين كالجندى المقاتل إذا فر من الزحف فان الفرار من الزحف من الكبائر وقطع أجره نوع تعزير له وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم فعزله عن إمارته تعزيرا له وكذلك قد يعزر بالحبس وقد يعزر بالضرب وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا كما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه أمر بمثل ذلك فى شاهد الزور فان الكاذب سود الوجه فسود وجهه وقلب الحديث فقلب ركوبه
واما أعلاه فقد قيل ( لايزاد على عشرة أسواط ( وقال كثير من العلماء لايبلغ به الحد ثم هم على قولين منهم من يقول ( لايبلغ به أدنى الحدود ( لايبلغ بالحر أدنى حدود الحر وهى الأربعون او الثمانون ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد وهى
____________________
(28/344)
العشرون او الأربعون وقيل بل لايبلغ بكل منهما حد العبد ومنهم من يقول لايبلغ بكل ذنب حد جنسه وإن زاد على حد جنس آخر فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليد وإن ضرب اكثر من حد القاذف ولايبلغ بمن فعل ما دون الزنى حد الزانى وإن زاد على حد القاذف كما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ان رجلا نقش على خاتمه وأخذ بذلك من بيت المال فأمر به فضرب مائة ضربة ثم ضربه فى اليوم الثانى مائة ضربة ثم ضربه فى اليوم الثالث مائة ضربه
وروى عن الخلفاء الراشدين فى رجل وامرأة وجدا فى لحاف ( يضربان مائة ( وروى عن النبى فى الذى يأتى جارية امراته ( ان كانت أحلتها له جلد مائة وان لم تكن أحلتها له رجم ( وهذه الأقوال فى مذهب احمد وغيره والقولان الأولان فى مذهب الشافعى وغيره
وأما مالك وغيره فحكى عنه ان من الجرائم ما يبلغ به القتل ووافقه بعض اصحاب احمد فى مثل الجاسوس المسلم اذا تجسس للعدو على المسلمين فان احمد توقف فى قتله وجوز مالك وبعض الحنابلة كابن عقيل قتله ومنعه ابو حنيفة والشافعى وبعض الحنابلة كالقاضى ابى يعلى
____________________
(28/345)
وجوز طائفة من اصحاب الشافعى واحمد وغيرهما قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وكذلك كثير من أصحاب مالك وقالوا إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد فى الأرض لا لأجل الردة وكذلك قد قيل فى قتل الساحر فان اكثر العلماء على انه يقتل وقد روى عن جندب رضى الله عنه موقوفا ومرفوعا ( ان حد الساحر ضربه بالسيف ( رواه الترمذى وعن عمر وعثمان وحفصة وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة رضى الله عنهم قتله فقال بعض العلماء لأجل الكفر وقال بعضهم لأجل الفساد فى الأرض لكن جمهور هؤلاء يرون قتله حدا وكذلك ابو حنيفة يعزر بالقتل فيما تكرر من الجرائم إذا كان جنسه يوجب القتل كما يقتل من تكرر منه اللواط او اغتيال النفوس لأخذ المال ونحو ذلك
وقد يستدل على ان المفسد متى لم ينقطع شره إلا بقتله فانه يقتل بما رواه مسلم فى صحيحه عن عرفجة الاشجعى رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد ان يشق عصاكم او يفرق جماعتكم فاقتلوه ( وفى رواية ( ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق امر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان
____________________
(28/346)
وكذلك قد يقال فى أمره بقتل شارب الخمر فى الرابعة بدليل مارواه أحمد فى المسند عن ديلم الحميرى رضى الله عنه قال ( سألت رسول الله فقلت يارسول الله انا بأرض نعالج بها عملا شديدا وانا نتخذ شرابا من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا فقال هل يسكر قلت نعم قال فاجتنبوه قلت ان الناس غير تاركيه قال فان لم يتركوه فاقتلوهم ( وهذا لأن المفسد كالصائل فاذا لم يندفع الصائل الا بالقتل قتل
وجماع ذلك أن العقوبة نوعان ( احدهما ) على ذنب ماض جزاء بما كسب نكالا من الله كجلد الشارب والقاذف وقطع المحارب والسارق
و ( الثانى ) العقوبة لتأدية حق واجب وترك محرم فى المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم فان تاب والا قتل وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الادميين حتى يؤدوها فالتعزير فى هذا الضرب أشد منه فى الضرب الأول ولهذا يجوز ان يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدى الصلاة الواجبة او يؤدى الواجب عليه والحديث الذى فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( لا يجلد فوق عشرة
____________________
(28/347)
أسواط الا فى حد من حدود الله ) قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حرم لحق الله فان الحدود فى لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام مثل آخر الحلال وأول الحرام فيقال فى الأول { تلك حدود الله فلا تعتدوها } ويقال فى الثانى { تلك حدود الله فلا تقربوها }
وأما تسمية العقوبة المقدرة حدا فهو عرف حادث ومراد الحديث ان من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته فى النشوز لا يزيد على عشر جلدات
والجلد الذى جاءت به الشريعة هو الجلد المعتدل بالسوط فان خيار الامور او ساطها قال على رضى الله عنه ( ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين ) ولا يكون الجلد بالعصى ولا بالمقارع ولا يكتفى فيه بالدرة بل الدرة تستعمل فى التعزير
أما الحدود فلا بد فيها من الجلد بالسوط وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يؤدب بالدرة فاذا جاءت الحدود دعا بالسوط ولا تجرد ثيابه كلها بل ينزع عنه ما يمنع ألم الضرب من الحشايا والفراء ونحو ذلك ولا يربط اذا لم يحتج إلى ذلك ولا يضرب وجهه فان النبى قال ( اذا قاتل احدكم
____________________
(28/348)
فليتق الوجه ولا يضرب مقاتل ) هـ ) فان المقصود تأديبه لا قتله ويعطى كل عضو حظه من الضرب كالظهر والاكتاف والفخذين ونحو ذلك
فصل
العقوبات التى جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان أحدهما عقوبة المقدور عليه من الواحد والعدد كما تقدم والثانى عقاب الطائفة الممتنعة كالتى لا يقدر عليها الا بقتال
فأصل هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله فكل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذى بعثه به فلم يستجب له فانه يجب قتاله { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله }
ولأن الله لما بعث نبيه وأمره بدعوة الخلق إلى دينه لم يأذن له فى قتل أحد على ذلك ولا قتاله حتى هاجر إلى المدينة فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور }
____________________
(28/349)
) ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون }
واكد الايجاب وعظم أمر الجهاد فى عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } وقال تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقال تعالى { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } فهذا كثير
____________________
(28/350)
فى القرآن
وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله فى سورة الصف التى يقول فيها { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } وقولة تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } وقوله تعالى { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } وقال تعالى { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون }
____________________
(28/351)
) فذكر ما يتولد من أعمالهم وما يباشرونه من الأعمال
والأمر بالجهاد وذكر فضائله فى الكتاب والسنة اكثر من أن يحصر
ولهذا كان أفضل ما تطوع به الانسان وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع كما دل عليه الكتاب والسنة حتى قال النبى صلى الله عليه وسلم ( رأس الأمر الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ) وقال ( ان فى الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والارض أعدها الله للمجاهدين فى سبيله ) متفق عليه وقال ( من اغبرت قدماه فى سبيل الله حرمه الله على النار ) رواه البخارى وقال صلى الله عليه وسلم ( رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه وإن مات أجرى عليه عمله الذى كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ( رواه مسلم وفى السنن ( رباط يوم فى سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل ( وقال ( عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس فى سبيل الله ( قال الترمذى حديث حسن وفى مسند الامام
____________________
(28/352)
احمد ( حرس ليلة فى سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها ( وفى الصحيحين ( ان رجلا قال يارسول الله أخبرنى بشيء يعدل الجهاد فى سبيل الله قال لاتستطيع قال أخبرنى به قال هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر وتقوم لاتفتر قال لا قال فذلك الذى يعدل الجهاد ( وفى السنن انه قال ( إن لكل أمة سياحة وسياحة أمتى الجهاد فى سبيل الله (
وهذا باب واسع لم يرد فى ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه
وهو ظاهر عند الاعتبار فان نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره فى الدين والدنيا ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة فانه مشتمل من محبة الله تعالى والاخلاص له والتوكل عليه وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال على مالا يشتمل عليه عمل آخر
والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائما إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة فان الخلق لابد لهم من محيا وممات ففيه استعمال محياهم ومماتهم
____________________
(28/353)
فى غاية سعادتهم فى الدنيا والآخرة وفى تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما فان من الناس من يرغب فى الأعمال الشديدة فى الدين او الدنيا مع قله منفعتها فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد وقد يرغب فى ترفيه نفسه حتى يصادفه الموت فموت الشهيد أيسر من كل ميتة وهى أفضل الميتات
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو ان يكون الدين كله لله وان تكون كلمة الله هي العليا فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين واما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا ان يقاتل بقوله او فعله وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين والأول هو الصواب لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال الله تعالى { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وفى السنن عنه ( أنه مر على امرأة مقتولة فى بعض مغازيه قد وقف عليها الناس فقال ماكانت هذه لتقاتل ( وقال لأحدهم ( إلحق خالدا فقل له لاتقتلوا ذرية ولا عسيفا ( وفيهما أيضا عنه أنه كان يقول ( لاتقتلوا شيخا فانيا ولا
____________________
(28/354)
طفلا صغيرا ولا امرأة (
وذلك ان الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه فى صلاح الخلق كما قال تعالى { والفتنة أكبر من القتل } أى ان القتل وإن كان فيه شر وفساد ففى فتنة الكفار من الشر والفساد ماهو أكبر منه فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه ولهذا قال الفقهاء إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة يعاقب بما لايعاقب به الساكت
وجاء فى الحديث ( أن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضرت العامة (
ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم بل إذا أسر الرجل منهم فى القتال او غير القتال مثل ان تلقيه السفينة إلينا او يضل الطريق او يؤخذ بحيلة فانه يفعل فيه الامام الأصلح من قتله او استعباده او المن عليه او مفاداته بمال او نفس عند أكثر الفقهاء كما دل عليه الكتاب والسنة وإن كان من الفقهاء من يرى المن عليه ومفاداته منسوخا
فأما أهل الكتاب والمجوس فيقاتلون حتى يسلموا او يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
____________________
(28/355)
ومن سواهم فقد اختلف الفقهاء فى أخذ الجزية منهم 8 الا إن عامتهم لا يأخذونها من العرب وأيما طائفة انتسبت إلى الاسلام وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فانه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله كما قاتل أبو بكر الصديق رضى الله عنه وسائر الصحابة رضى الله عنهم مانعى الزكاة وكان قد توقف فى قتالهم بعض الصحابة ثم اتفقوا حتى قال عمر بن الخطاب لأبى بكر رضى الله عنهما كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ( أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فاذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ( فقال له أبو بكر فان الزكاة من حقها والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها قال عمر فما هو إلا ان رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعلمت أنه الحق
وقد ثبت عنه من وجوه كثيرة أنه أمر بقتال الخوارج ففى الصحيحين عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول ( سيخرج قوم فى آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية لايجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم
____________________
(28/356)
من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فان فى قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ( وفى رواية لمسلم عن على رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول ( يخرج قوم من أمتى يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لاتجاوز قراءتهم تراقيهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل ( وعن أبى سعيد عن رسول الله فى هذا الحديث ( يقتلون أهل الاسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ( متفق عليه وفى رواية لمسلم ( تكون أمتى فرقتين فتخرج من بينهما مارقة يلي فتلهم أولى الطائفتين بالحق (
فهؤلاء الذين قتلهم أمير المؤمنين على رضى الله عنه لما حصلت الفرقة بين أهل العراق والشام وكانوا يسمون الحرورية بين النبى صلى الله عليه وسلم ان كلا الطائفتين المفترقتين من أمته وان أصحاب على أولى الطائفتين بالحق ولم يحرض إلا على قتال أولئك المارقين الذين خرجوا من الاسلام وفارقوا الجماعة واستحلوا دماء من سواهم من المسلمين وأموالهم
فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن
____________________
(28/357)
شريعة الاسلام وان تكلم بالشهادتين
وقد اختلف الفقهاء فى الطائفة الممتنعة لو تركت السنة الراتبة كركعتى الفجر هل يجوز قتالها على قولين فأما الواجبات والمحرمات الظاهرة والمستفيضة فيقاتل عليها بالاتفاق حتى يلتزموا ان يقيموا الصلوات المكتوبات ويؤدوا الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويحجوا البيت ويلتزموا ترك المحرمات من نكاح الأخوات وأكل الخبائث والاعتداء على المسلمين فى النفوس والأموال ونحو ذلك
وقتال هؤلاء واجب ابتداء بعد بلوغ دعوة النبى إليهم بما يقاتلون عليه فأما إذا بدأوا المسلمين فيتأكد قتالهم كما ذكرناه فى قتال الممتنعين من المعتدين قطاع الطرق وأبلغ الجهاد الواجب للكفار والممتنعين عن بعض الشرائع كما نعى الزكاة والخوارج ونحوهم يجب ابتداء ودفعا فاذا كان ابتداء فهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين وكان الفضل لمن قام به كما قال الله تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } الآية
فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فانه يصير دفعه واجبا على المقصودين كلهم وعلى غير المقصودين لاعانتهم كما قال الله تعالى
____________________
(28/358)
{ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } وكما امر النبى بنصر المسلم وسواء كان الرجل من المرتزقه للقتال او لم يكن وهذا يجب بحسب الامكان على كل احد بنفسه وماله مع القله والكثره والمشى والركوب كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله فى تركه لأحد كما أذن فى ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو الذى قسمهم فيه إلى قاعد وخارج بل ذم الذين يستأذنون النبى { يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }
فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس وهو قتال اضطرار وذلك قتال اختيار للزيادة فى الدين وإعلائه ولارهاب العدو كغزاة تبوك ونحوها فهذا النوع من العقوبة هو للطوائف الممتنعة
فأما غير الممتنعين من أهل ديار الاسلام ونحوهم فيجب إلزامهم بالواجبات التى هي مبانى الاسلام الخمس وغيرها من أداء الأمانات والوفاء بالعهود فى المعاملا ت وغير ذلك
فمن كان لايصلى من جميع الناس من رجالهم ونسائهم فإنه يؤمر بالصلاة فان امتنع عوقب حتى يصلى باجماع العلماء ثم ان أكثرهم يوجبون قتله إذا لم يصل فيستتاب فان تاب وإلا قتل وهل يقتل كافرا أو
____________________
(28/359)
مرتدا او فاسقا على قولين مشهورين فى مذهب أحمد وغيره والمنقول عن أكثر السلف يقتضى كفره وهذا مع الاقرار بالوجوب
فأما من جحد الوجوب فهو كافر بالاتفاق بل يجب على الأولياء ان يأمروا الصبى بالصلاة إذا بلغ سبعا ويضربوه عليها لعشر كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم حيث قال ( مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم فى المضاجع ( وكذلك ماتحتاج إليه الصلاة من الطهارة الواجبة ونحوها
ومن تمام ذلك تعاهد مساجد المسلمين وأئمتهم وأمرهم بأن يصلوا بهم صلاة النبى حيث قال ( صلوا كما رأيتمونى أصلى ( رواه البخارى وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر فقال ( إنما فعلت هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى )
وعلى إمام الناس فى الصلاة وغيرها ان ينظر لهم فلا يفوتهم ما يتعلق بفعله من كمال دينهم بل على كل إمام للصلاة ان يصلى بهم صلاة كاملة ولا يقتصر على ما يجوز للمنفرد الاقتصار عليه من قدر الاجزاء إلا لعذر وكذلك على امامهم فى الحج وأميرهم فى الحرب ألا ترى ان الوكيل والولى فى البيع والشراء عليه ان يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له فى ماله وهو فى مال نفسه يفوت نفسه ما شاء فأمر
____________________
(28/360)
الدين أهم وقد ذكر الفقهاء هذا المعنى
ومتى اهتمت الولاة باصلاح دين الناس صلح للطائفتين دينهم ودنياهم وإلا اضطربت الأمور عليهم وملاك ذلك كله صلاح النية للرعية وإخلاص الدين كله لله والتوكل عليه فان الاخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة كما أمرنا ان نقول فى صلاتنا { إياك نعبد وإياك نستعين } فان هاتين الكلمتين قد قيل انهما يجمعان معانى الكتب المنزلة من السماء وقد روى أن النبى كان مرة فى بعض مغازيه فقال { مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين } فجعلت الرءوس تندر عن كواهلها وقد ذكر ذلك فى غير موضع من كتابه كقوله ( { فاعبده وتوكل عليه } وقوله تعالى { عليه توكلت وإليه أنيب } وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذبح أضحيته يقول اللهم منك ول ك (
وأعظم عون لولى الأمر خاصة ولغيره عامة ثلاثة امور أحدها الاخلاص لله والتوكل عليه بالدعاء وغيره وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن الثانى الاحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذى هو الزكاة الثالث الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيرا كقوله تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة } وكقوله تعالى { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }
____________________
(28/361)
) وقوله تعالى { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } وكذلك فى سورة ق { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } وقال تعالى { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } وأما قرنه بين الصلاة والزكاة فى القرآن فكثير جدا
فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعى والرعية إذا عرف الانسان ما يدخل فى هذه الاسماء الجامعة يدخل فى الصلاة ذكر الله تعالى ودعاؤه وتلاوه كتابه واخلاص الدين له والتوكل عليه وفى الزكاة الاحسان إلى الخلق بالمال والنفع من نصر المظلوم وإغاثة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج ففى الصحيحين عن النبى انه قال ( كل معروف صدقة ( فيدخل فيه كل إحسان ولو ببسط الوجه والكلمة الطيبة ففى الصحيحين عن عدى بن حاتم رضى الله عنه قال قال النبى صلى الله عليه وسلم ( مامنكم من احد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى
____________________
(28/362)
إلا شيئا قدمه فينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم ان يتقى النار ولو بشق تمرة فليفعل فان لم يجد فبكلمة طيبة (
وفى السنن عن النبى قال ( لاتحقرن من المعروف شيئا ولو ان تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ولو ان تفرغ من دلوك فى إناء المستقى ( وفى السنن عن النبى ( ان أثقل ما يوضع فى الميزان الخلق الحسن ( وروى عنه انه قال لأم سلمة ( يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة (
وفى الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الأشر والبطر كما قال تعالى { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير } وقال لنبيه { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وقال تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } وقال تعالى { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم }
____________________
(28/363)
) وقال تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين } قال الحسن البصرى رحمة الله عليه إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش ألا ليقم من وجب أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا وأصلح
فليس حسن النية بالرعية والاحسان اليهم ان يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه فقد قال الله تعالى { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن } وقال تعالى للصحابة { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } وإنما الاحسان اليهم فعل ما ينفعهم فى الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه لكن ينبغى له ان يرفق بهم فيما يكرهونه ففى الصحيحين عن النبى انه قال ( ما كان الرفق فى شيء إلا زانه ولا كان العنف فى شيء إلا شانه ( وقال ( إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق مالا يعطى على العنف (
وكان عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه يقول والله انى لأريد
____________________
(28/364)
أن أخرج لهم المرة من الحق فأخاف ان ينفروا عنها فأصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا فأخرجها معها فاذا نفروا لهذه سكنوا لهذه
وهكذا كان النبى إذا أتاه طالب حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول وسأله مرة بعض أقاربه أن يوليه على الصدقات ويرزقه منها فقال ( ان الصدقة لا تحل لمحمد ولالآل محمد ( فمنعهم إياها وعوضهم من الفيء وتحاكم إليه على وزيد وجعفر فى ابنه حمزة فلم يقض بها لواحد منهم ولكن قضى بها لخالتها ثم إنه طيب قلب كل واحد منهم بكلمة حسنة فقال لعلى ( أنت منى وأنا منك ( وقال لجعفر ( أشبهت خلقى وخلقى ( وقال لزيد ( انت أخونا ومولانا (
فهكذا ينبغى لولى الأمر فى قسمه وحكمه فان الناس دائما يسألون ولى الأمر مالا يصلح بذله من الولايات والأموال والمنافع والأجور والشفاعة فى الحدود وغير ذلك فيعوضهم من جهة أخرى إن أمكن أو يردهم بميسور من القول مالم يحتج إلى الاغلاظ فان رد السائل يؤلمه خصوصا من يحتاج إلى تأليفه وقد قال الله تعالى { وأما السائل فلا تنهر } وقال الله تعالى { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا } إلى قوله { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا }
____________________
(28/365)
)
وإذا حكم على شخص فانه قد يتأذى فاذا طيب نفسه بما يصلح من القول والعمل كان ذلك تمام السياسة وهو نظير ما يعطيه الطبيب للمريض من الطب الذى يسوغ الدواء الكريه وقد قال الله لموسى عليه السلام لما أرسله إلى فرعون ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى )
وقال النبى لمعاذ بن جبل وأبى موسى الأشعرى رضى الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن ( يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا ( وبال مرة أعرابى فى المسجد فقام أصحابه إليه فقال ( لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله ثم أمر بدلو من ماء فصب عليه وقال النبى ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ( والحديثان فى الصحيحين
وهذا يحتاج إليه الرجل فى سياسة نفسه وأهل بيته ورعيته فان النفوس لاتقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التى هي محتاجة اليها فتكون تلك الحظوظ عباده لله وطاعة له مع النية الصالحة ألا ترى ان الأكل والشرب واللباس واجب على الانسان حتى لو
____________________
(28/366)
اضطر إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء فان لم يأكل حتى مات دخل النار لأن العبادات لا تؤدى إلا بهذا ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب
ولهذا كانت نفقة الإ نسان على نفسه وأهله مقدمه على غيرها ففى السنن عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ( تصدقوا فقال رجل يارسول الله عندى دينار فقال تصدق به على نفسك قال عندى آخر قال تصدق به على زوجتك قال عندى آخر قال تصدق به على ولدك قال عندى آخر قال تصدق به على خادمك قال عندى آخر قال انت أبصر به ( وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم ( دينار أنفقته فى سبيل الله ودينار أنفقته فى رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذى أنفقتة على أهلك ( وفى صحيح مسلم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا بن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى ( وهذا تأويل قوله تعالى ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) أى الفضل وذلك لأن نفقة الرجل على نفسه وأهله فرض عين بخلاف
____________________
(28/367)
النفقة فى الغزو والمساكين فانه فى الأصل إما فرض على الكفاية وإما مستحب وإن كان قد يصير متعينا إذا لم يقم غيره به فان إطعام الجائع واجب ولهذا جاء فى الحديث ( لو صدق السائل لما أفلح من رده ( ذكره الامام احمد وذكر انه إذا علم صدقه وجب إطعامه
وقد روى أبو حاتم البستى فى صحيحه حديث أبى ذر رضى الله عنه الطويل عن النبى الذى فيه من أنواع العلم والحكمة وفيه أنه كان فى حكمة آل داود عليه السلام ( حق على العاقل ان تكون له أربع ساعات ساعة يناجى فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بأصحابة الذين يخبرونه بعيوبه ويحدثونه عن ذات نفسه وساعة يخلو فيها بلذته فيما يحل ويجمل فان فى هذه الساعة عونا على تلك الساعات ( فبين أنه لابد من اللذات المباحة الجميلة فانها تعين على تلك الأمور
ولهذا ذكر الفقهاء ان العدالة هي الصلاح فى الدين والمروءة باستعمال ما يجمله ويزينه وتجنب ما يدنسه ويشينه وكان ابو الدرداء رضى الله عنه يقول إنى لأستجم نفسي بالشيء من الباطل لأستعين به على الحق والله سبحانه إنما خلق اللذات والشهوات فى الأصل لتمام مصلحة الخلق فانه بذلك يجتلبون ما ينفعهم كما خلق الغضب ليدفعوا به
____________________
(28/368)
ما يضرهم وحرم من الشهوات ما يضر تناوله وذم من اقتصر عليها فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال
الصالحة ولهذا جاء فى الحديث الصحيح ان النبى قال ( فى بضع أحدكم صدقة قالوا يارسول الله أياتى أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها فى حرام أما يكون عليه وزر قالوا بلى قال فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال ( وفى الصحيحين عن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه ان النبى صلى الله عليه وسلم قال له ( إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة تضعها فى في امرأتك ( والآثار فى هذا كثيرة فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله وكانت المباحات من صالح أعماله لصلاح قلبه ونيته والمنافق لفساد قلبه ونيته يعاقب على ما يظهره من العبادات رياء فان فى الصحيح ان النبى صلى الله عليه وسلم قال ( ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهى القلب (
وكما ان العقوبات شرعت داعية إلى فعل الواجبات وترك المحرمات فقد شرع أيضا كل ما يعين على ذلك فينبغى تيسير طريق الخير والطاعة والاعانة عليه والترغيب فيه بكل ممكن مثل أن يبذل
____________________
(28/369)
لولده وأهله أو رعيته ما يرغبهم فى العمل الصالح من مال او ثناء او غيره ولهذا شرعت المسابقة بالخيل والابل والمناضلة بالسهام وأخذ الجعل عليها لما فيه من الترغيب فى إعداد القوة ورباط الخيل للجهاد فى سبيل الله حتى كان النبى صلى الله عليه وسلم يسابق بين الخيل هو وخلفاؤه الراشدون ويخرجون الأسباق من بيت المال وكذلك عطاء المؤلفة قلوبهم فقد روى ( أن الرجل كان يسلم أول النهار رغبة فى الدنيا فلا يجيء آخر النهار إلا والاسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس (
وكذلك الشر والمعصية ينبغى حسم مادته وسد ذريعته ودفع ما يفضى إليه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة مثال ذلك مانهى عنه النبى فقال ( لايخلون رجل بامرأة فان ثالثهما الشيطان ( وقال ( لايحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تسافر مسيرة يومين الا ومعها زوج او ذو محرم ( فنهى صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية والسفر بها لأنه ذريعة إلى الشر وروى عن الشعبى أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم كان فيهم غلام ظاهر الوضاءة فأجلسه خلف ظهره وقال ( إنما كانت خطيئة داود النظر ( وعمر بن الخطاب رضى الله عنه لما كان يعس بالمدينة فسمع امرأة تتغنى بأبيات تقول فيها
____________________
(28/370)
** هل من سبيل إلى خمر فأشربها ** ** هل من سبيل إلى نصر بن حجاج
فدعى به فوجده شابا حسنا فحلق رأسه فازداد جمالا فنفاه إلى البصرة لئلا تفتتن به النساء وروى عنه أنه بلغه أن رجلا يجلس إليه الصبيان فنهى عن مجالسته
فإذا كان من الصبيان من تخاف فتنته على الرجال أو على النساء منع وليه من إظهاره لغير حاجة أو تحسينه لاسيما بتربيحه فى الحمامات وإحضاره مجالس اللهو والأغانى فان هذا مما ينبغى التعزير عليه
وكذلك من ظهر منه الفجور يمنع من تملك الغلمان المردان الصباح ويفرق بينهما فان الفقهاء متفقون على أنه لو شهد شاهد عند الحاكم وكان قد استفاض عنه نوع من أنواع الفسوق القادحة فى الشهادة فانه لايجوز قبول شهادته ويجوز للرجل أن يجرحه بذلك وان لم يره فقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال ( وجبت وجبت ( ثم مر علية بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال ( وجبت وجبت ( فسألوه عن ذلك فقال ( هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم
____________________
(28/371)
شهداء الله فى الأرض ( مع أنه كان فى زمانه امرأة تعلن الفجور فقال ( لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت هذه (
فالحدود لاتقام إلا بالبينة وأما الحذر من الرجل فى شهادته وأمانته ونحو ذلك فلا يحتاج إلى المعاينة بل الاستفاضة كافية فى ذلك وما هو دون الاستفاضة حتى أنه يستدل عليه بأقرانه كما قال بن مسعود ( اعتبروا الناس بأخدانهم ( فهذا لدفع شره مثل الاحتراز من العدو وقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ( احترسوا من الناس بسوء الظن ( فهذا أمر عمر مع أنه لاتجوز عقوبة المسلم بسوء الظن فصل
وأما الحدود والحقوق التى لآدمى معين فمنها النفوس قال الله تعالى { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا }
____________________
(28/372)
) وقال تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } إلى قوله { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } وقال تعالى { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء (
فالقتل ثلاثة أنواع أحدها العمد المحض وهو ان يقصد من يعلمه معصوما بما يقتل غالبا سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه او بثقله كالسندان وكوذين القصار او بغير ذلك كالتحريق والتغريق والالقاء من مكان شاهق والخنق وإمساك الخصيتين حتى تخرج الروح وغم الوجه حتى يموت وسقى السموم ونحو ذلك من الأفعال فهذا إذا فعله وجب فيه القود وهو ان يمكن أولياء المقتول من القاتل فإن أحبوا قتلوا
____________________
(28/373)
وإن أحبوا عفوا وان أحبوا أخذوا الدية وليس لهم ان يقتلوا غير قاتله قال الله تعالى { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } قيل فى التفسير لايقتل غير قاتله
وروى عن أبى شريح الخزاعى رضى الله عنه قال قال رسول الله ( من أصيب بدم او خبل الخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فان أراد الرابعة فخذوا على يديه ان يقتل او يعفو أو يأخذ الدية فمن فعل شيئا من ذلك فعاد فان له جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ( رواه أهل السنن قال الترمذى حديث حسن صحيح فمن قتل بعد العفو او أخذ الدية فهو أعظم جرما ممن قتل ابتداء حتى قال بعض العلماء انه يجب قتله حدا ولا يكون أمره لأولياء المقتول قال الله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون }
قال العلماء إن أولياء المقتول تغلى قلوبهم بالغيظ حتى يؤثروا ان يقتلوا القاتل وأولياءه وربما لم يرضوا بقتل القاتل بل يقتلون
____________________
(28/374)
كثيرا من أصحاب القاتل كسيد القبيلة ومقدم الطائفة فيكون القاتل قد اعتدى فى الابتداء وتعدى هؤلاء فى الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة فى هذه الأوقات من الأعراب والحاضرة وغيرهم وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما أشرف من المقتول فيفضى ذلك إلى أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل وربما خالف هؤلاء قوما واستعانوا بهم وهؤلاء قوما فيفضى إلى الفتن والعداوات العظيمة وسبب ذلك خروجهم عن سنن العدل الذى هو القصاص فى القتلى فكتب الله علينا القصاص وهو المساواة والمعادلة فى القتلى وأخبر ان فيه حياة فانه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين
وأيضا فاذا علم من يريد القتل أنه يقتل كف عن القتل وقد روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد فى عهده ( رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان المسلمين تتكافأ دماؤهم أى تتساوى وتتعادل فلا يفضل عربى على عجمى ولا قرشى او هاشمى على غيره من
____________________
(28/375)
المسلمين ولا حر اصلى على مولى عتيق ولا عالم او أمير على أمى او مأمور
وهذا متفق عليه بين المسلمين بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود فانه كان بقرب مدينة النبى صلى الله عليه وسلم صنفان من اليهود قريظة والنضير وكانت النضير تفضل على قريظة فى الدماء فتحاكموا إلى النبى فى ذلك وفى حد الزنى فانهم كانوا قد غيروه من الرجم إلى التحميم وقالوا إن حكم بينكم بذلك كان لكم حجة والا فأنتم قد تركتم حكم التوراة فأنزل الله تعالى { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } إلى قوله { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } إلى قوله { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص }
فبين سبحانه وتعالى أنه سوى بين نفوسهم ولم يفضل منهم نفسا على أخرى كما كانوا يفعلونه إلى قوله { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }
____________________
(28/376)
) إلى قوله { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } فحكم الله سبحانه فى دماء المسلمين أنها كلها سواء خلاف ما عليه أهل الجاهلية
وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس فى البوادى والحواضر إنما هو البغى وترك العدل فان إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها بعضا من الأخرى دما او مالا او تعلو عليهم بالباطل ولا تنصفها ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق فالواجب فى كتاب الله الحكم بين الناس فى الدماء والأموال وغيرها بالقسط الذى أمر الله به ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية وإذا أصلح مصلح بينهما فليصلح بالعدل كما قال الله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم }
وينبغى أن يطلب العفو من أولياء المقتول فانه أفضل لهم كما قال تعالى { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } قال أنس رضى الله عنه ( ما رفع إلى رسول الله
____________________
(28/377)
أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو ( رواه أبو داود وغيره وروى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )
وهذا الذى ذكرناه من التكافؤ هو فى المسلم الحر مع المسلم الحر فأما الذمى فجمهور العلماء على أنه ليس بكفء للمسلم كما أن المستأمن الذى يقدم من بلاد الكفار رسولا او تاجرا ونحو ذلك ليس بكفء له وفاقا ومنهم من يقول بل هو كفء له وكذلك النزاع فى قتل الحر بالعبد
والنوع الثانى الخطأ الذى يشبه العمد قال النبى ( ألا إن فى قتل الخطأ شبه العمد ما كان فى السوط والعصا مائة من الابل منها أربعون خلفة فى بطونها أولادها ( سماه شبه العمد لأنه قصد العدوان عليه بالضرب لكنه لايقتل غالبا فقد تعمد العدوان ولم يتعمد ما يقتل
والثالث الخطأ المحض وما يجرى مجراه مثل أن يرمى صيدا أو هدفا فيصيب إنسانا بغير علمه ولا قصده فهذا ليس فيه قود وإنما فيه الدية والكفارة وهنا مسائل كثيرة معروفة فى كتب أهل العلم وبينهم
____________________
(28/378)
فصل
والقصاص فى الجراح ايضا ثابت بالكتاب والسنة والاجماع بشرط المساواة فاذا قطع يده اليمنى من مفصل فله ان يقطع يده كذلك وإذا قلع سنه فله أن يقلع سنه وإذا شجه فى رأسه أو وجهه فأوضح العظم فله أن يشجه كذلك وإذا لم تمكن المساواة مثل أن يكسر له عظما باطنا او يشجه دون الموضحة فلا يشرع القصاص بل تجب الدية المحدودة أو الأرش واما القصاص فى الضرب بيده او بعصاه او سوطه مثل ان يلطمه او يلكمه او يضربه بعصا ونحو ذلك فقد قالت طائفة من العلماء إنه لاقصاص فيه بل فيه التعزير لأنه لا تمكن المساواة فيه
والمأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين ان القصاص مشروع فى ذلك وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء وبذلك جاءت سنة رسول الله وهو الصواب قال أبو فراس خطب عمر بن الخطاب رضى الله عنه فذكر حديثا قال فيه ألا إنى والله ما أرسل عمالى اليكم ليضربوا أبشاركم ولا
____________________
(28/379)
ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم اليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلى فوالذى نفسى بيده إذا لأقصنه منه فوثب عمرو بن العاص فقال يا أمير المؤمنين ان كان رجل من المسلمين أمر على رعية فأدب رعيته أئنك لتقصه منه قال إى والذى نفس محمد بيده إذا لأقصنه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه ألا لاتضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم رواه الامام احمد وغيره
ومعنى هذا إذا ضرب الوالى رعيته ضربا غير جائز فأما الضرب المشروع فلا قصاص فيه بالاجماع إذ هو واجب أو مستحب أو جائز
فصل
والقصاص فى الاعراض مشروع ايضا وهو ان الرجل إذا لعن رجلا او دعا عليه فله أن يفعل به كذلك وكذلك إذا شتمه بشتمة لا كذب فيها والعفو أفضل قال الله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } وقال النبى صلى الله عليه
____________________
(28/380)
وسلم ( المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما مالم يعتد المظلوم ( ويسمى هذا الانتصار والشتيمة التى لا كذب فيها مثل الاخبار عنه بما فيه من القبائح او تسميته بالكلب او الحمار ونحو ذلك فأما إن افترى عليه لم يحل له ان يفترى عليه ولو كفره او فسقه بغير حق لم يحل له ان يكفره او يفسقه بغير حق ولو لعن أباه او قبيلته او أهل بلده ونحو ذلك لم يحل له ان يتعدى على أولئك فانهم لم يظلموه قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } فأمر الله المسلمين ألا يحملهم بغضهم للكفار على ألا يعدلوا وقال { اعدلوا هو أقرب للتقوى }
فان كان العدوان عليه فى العرض محرما لحقه لما يلحقه من الأذى جاز الاقتصاص منه بمثله كالدعاء عليه بمثل مادعاه وأما إذا كان محرما لحق الله تعالى كالكذب لم يجز بحال وهكذا قال كثير من الفقهاء إذا قتله بتحريق أو تغريق او خنق او نحو ذلك فانه يفعل به كما فعل مالم يكن الفعل محرما فى نفسه كتجريع الخمر واللواط به ومنهم من قال لاقود عليه إلا بالسيف والآول أشبه بالكتاب والسنة والعدل
____________________
(28/381)
فصل
وإذا كانت الفرية ونحوها لاقصاص فيها ففيها العقوبة بغير ذلك فمنه حد القذف الثابت فى الكتاب والسنة والاجماع قال الله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم }
فاذا رمى الحر محصنا بالزنى واللواط فعليه حد القذف وهو ثمانون جلده وإن رماه بغير ذلك عوقب تعزيرا
وهذا الحد يستحقه المقذوف فلا يستوفى إلا بطلبه باتفاق الفقهاء فان عفا عنه سقط عند جمهور العلماء لأن المغلب فيه حق الآدمى كالقصاص والأموال وقيل لايسقط تغليبا لحق الله لعدم المماثلة كسائر الحدود وإنما يجب حد القذف إذا كان المقذوف محصنا وهو المسلم الحر العفيف فأما المشهور بالفجور فلا يحد قاذفه وكذلك الكافر والرقيق
____________________
(28/382)
لكن يعزر القاذف )
إلا الزوج فانه يجوز له أن يقذف امرأته إذا زنت ولم تحبل من الزنى فان حبلت منه وولدت فعليه أن يقذفها وينفى ولدها لئلا يلحق به من ليس منه وإذا قذفها فاما أن تقر بالزنى وإما ان تلاعنه كما ذكره الله فى الكتاب والسنة ولو كان القاذف عبدا فعليه نصف حد الحر وكذلك فى جلد الزنى وشرب الخمر لأن الله تعالى قال فى الاماء { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } واما إذا كان الواجب القتل او قطع اليد فانه لايتنصف
فصل
ومن الحقوق الأبضاع فالواجب الحكم بين الزوجين بما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف او تسريح باحسان فيجب على كل من الزوجين ان يؤدى إلى الآخر حقوقه بطيب نفس وانشراح صدر فان للمرأة على الرجل حقا فى ماله وهو الصداق والنفقة بالمعروف وحقا فى بدنه وهو العشرة والمتعة بحيث لو آلى منها استحقت الفرقة باجماع المسلمين وكذلك لو كان مجبوبا او عنينا لا يمكنه جماعها فلها الفرقة ووطؤها واجب عليه عند اكثر العلماء
____________________
(28/383)
وقد قيل إنه لايجب اكتفاء بالباعث الطبيعى والصواب أنه واجب كما دل عليه الكتاب والسنة والأصول وقد قال النبى لعبد الله بن عمرو رضى الله عنه لما رآه يكثر الصوم والصلاة ( إن لزوجك عليك حقا (
ثم قيل يجب عليه وطؤها كل أ ربعة اشهر مرة وقيل يجب وطؤها بالمعروف على قدر قوته وحاجتها كما تجب النفقة بالمعروف كذلك وهذا أشبه
وللرجل عليها ان يستمتع منها متى شاء مالم يضر بها او يشغلها عن واجب فيجب عليها ان تمكنه كذلك
ولا تخرج من منزله إلا باذنه او باذن الشارع واختلف الفقهاء هل عليها خدمه المنزل كالفرش والكنس والطبخ ونحو ذلك فقيل يجب عليها وقيل لايجب وقيل يجب الخفيف منه
فصل
وأما الأموال فيجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله مثل قسم المواريث بين الورثة على ماجاء به
____________________
(28/384)
الكتاب والسنة
وقد تنازع المسلمون فى مسائل من ذلك وكذلك فى المعاملات من المبايعات والاجارات والوكالات والمشاركات والهبات والوقوف والوصايا ونحو ذلك من المعاملات المتعلقة بالعقود والقبوض فان العدل فيها هو قوام العالمين لاتصلح الدنيا والآخرة إلا به
فمن العدل فيها ما هو ظاهر يعرفه كل احد بعقله كوجوب تسليم الثمن على المشترى وتسليم المبيع على البائع للمشترى وتحريم تطفيف المكيال والميزان ووجوب الصدق والبيان وتحريم الكذب والخيانة والغش وان جزاء القرض الوفاء والحمد
ومنه ماهو خفى جاءت به الشرائع او شريعتنا أهل الاسلام فان عامة مانهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل والنهى عن الظلم دقه وجله مثل أكل المال بالباطل وجنسه من الربا والميسر وأنواع الربا والميسر التى نهى عنها النبى مثل بيع الغرر وبيع حبل الحبلة وبيع الطير فى الهواء والسمك فى الماء والبيع إلى اجل غير مسمى وبيع المصراة وبيع المدلس والملامسة والمنابذة والمزابنة والمحاقلة والنجش وبيع الثمر قبل بدو صلاحه ومانهى عنه من أنواع المشاركات
____________________
(28/385)
الفاسدة كالمخابرة بزرع بقعة بعينها من الأرض
ومن ذلك ما قد تنازع فيه المسلمون لخفائه واشتباهه فقد يرى هذا العقد والقبض صحيحا عدلا وان كان غيره يرى فيه جورا يوجب فساده وقد قال الله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } والأصل فى هذا انه لايحرم على الناس من المعاملات التى يحتاجون اليها إلا مادل الكتاب والسنة على تحريمه كما لايشرع لهم من العبادات التى يتقربون بها إلى الله الا مادل الكتاب والسنة على شرعه إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله مالم يحرمه الله وأشركوا به مالم ينزل به سلطانا وشرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ماحللته والحرام ما حرمته والدين ما شرعته فصل
لاغنى لولى الأمر عن المشاورة فان الله تعالى امر بها نبيه فقال تعالى { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين }
____________________
(28/386)
) وقد روى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال ( لم يكن احد اكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وقد قيل ان الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه وليقتدى به من بعده وليستخرج بها منهم الرأى فيما لم ينزل فيه وحى من امر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلك فغيره اولى بالمشورة
وقد اثنى الله على المؤمنين بذلك فى قوله { وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون } واذا استشارهم فان بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله او سنة رسوله او إجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد فى خلاف ذلك وإن كان عظيما فى الدين والدنيا قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }
وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون فينبغى ان يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه فأى الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به كما قال تعالى ( فان تنازعتم فى شيء فردوه
____________________
(28/387)
إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تاويلا )
وأولو الأمر صنفان الأمراء والعلماء وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس فعلى كل منهما أن يتحرى بما يقوله ويفعله طاعه لله ورسوله واتباع كتاب الله ومتى امكن فى الحوادث المشكله معرفه ما دل عليه الكتاب والسنه كان هو الواجب وان لم يمكن ذلك لضيق الوقت او عجز الطالب او تكافؤ الأدلة عنده او غير ذلك فله أن يقلد من يرتضى علمه ودينه هذا أقوى الأقوال وقد قيل ليس له التقليد بكل حال وقيل له التقليد بكل حال والأقوال الثلاثه فى مذهب احمد وغيره
وكذلك ما يشترط فى القضاة والولاة من الشروط يجب فعله بحسب الامكان
بل وسائر العبادات من الصلاه والجهاد وغير ذلك كل ذلك واجب مع القدرة فاما مع العجز فان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ولهذا أمر الله المصلى ان يتطهر بالماء فان عدمه او خاف الضرر باستعماله لشدة البرد او جراحة او غير ذلك تيمم صعيدا طيبا فمسح بوجهه ويديه منه وقال النبى لعمران بن حصين ( صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطع فعلى جنب ( فقد أوجب الله فعل الصلاة فى الوقت على أى حال أمكن كما قال تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون }
____________________
(28/388)
) فأوجب الله الصلاة على الآمن والخائف والصحيح والمريض والغنى والفقير والمقيم والمسافر وحففها على المسافر والخائف والمريض كما جاء به الكتاب والسنة
وكذلك أوجب فيها واجبات من الطهارة والستارة واستقبال القبلة وأسقط ما يعجز عنه العبد من ذلك فلوا انكسرت سفينة قوم او سلبهم المحاربون ثيابهم صلوا عراة بحسب أحوالهم وقام إمامهم وسطهم لئلا يرى الباقون عورته
ولو اشتبهت عليهم القبلة اجتهدوا فى الاستدلال عليها فلو عميت الدلائل صلوا كيفما أمكنهم كما قد روى أنهم فعلوا ذلك على عهد رسول الله فهكذا الجهاد والولايات وسائر أمور الدين وذلك كله فى قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وفى قول النبى ( إذا امرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ( كما ان الله تعالى لما حرم المطاعم الخبيثة قال ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ( وقال تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقال تعالى { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج }
____________________
(28/389)
فلم يوجب مالا يستطاع ولم يحرم ما يضطر إليه إذا كانت الضرورة بغير معصية من العبد فصل
يجب ان يعرف ان ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لاقيام للدين ولا للدنيا إلا بها فان بنى آدم لاتتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولابد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبى ( إذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا أحدهم ( رواه أبو داود من حديث أبى سعيد وابى هريرة
وروى الامام أحمد فى المسند عن عبد الله بن عمرو ان النبى قال ( لايحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم ( فأوجب تأمير الواحد فى الاجتماع القليل العارض فى السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع ولأن الله تعالى اوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لاتتم إلا بالقوة والامارة ولهذا روى ( ان السلطان ظل الله فى الأرض
____________________
(28/390)
ويقال ( ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان ( والتجربة تبين ذلك ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان وقال النبى ( إن الله يرضى لكم ثلاثا ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وان تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وان تناصحوا من ولا هـ الله أمركم ( رواه مسلم وقال ( ثلاث لايغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولا ة الأمور ولزوم جماعة المسلمين فان دعوتهم تحيط من ورائهم ( رواه أهل السنن وفى الصحيح عنه أنه قال ( الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا لمن يارسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (
فالواجب اتخاذ الامارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله فان التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة او المال بها وقد روى كعب بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما ذئبان جائعان أرسلا فى زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ( قال الترمذى حديث حسن صحيح فأخبر ان حرص المرء على المال والرياسة
____________________
(28/391)
يفسد دينه مثل او أكثر من فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم
وقد أخبر الله تعالى عن الذى يؤتى كتابه بشماله أنه يقول { ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه }
وغاية مريد الرياسة ان يكون كفرعون وجامع المال ان يكون كقارون وقد بين الله تعالى فى كتابه حال فرعون وقارون فقال تعالى { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق } وقال تعالى { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين }
فان الناس أربعة أقسام
القسم الأول يريدون العلو على الناس والفساد فى الأرض وهو معصية الله وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون كفرعون وحزبه وهؤلاء هم شرار الخلق قال الله تعالى { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين } وروى مسلم فى صحيحه عن بن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لايدخل الجنة من فى قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من
____________________
(28/392)
فى قلبه مثقال ذرة من إيمان ( فقال رجل يارسول الله إنى أحب ان يكون ثوبى حسنا ونعلى حسنا أفمن الكبر ذاك قال ( لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ( فبطر الحق دفعه وجحده وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم وهذا حال من يريد العلو والفساد
والقسم الثانى الذين يريدون الفساد بلا علو كالسراق والمجرمين من سفلة الناس
والقسم الثالث يريدون العلو بلا فساد كالذين عندهم دين يريدون ان يعلوا به على غيرهم من الناس
وأما القسم الرابع فهم أهل الجنة الذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا مع أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم كما قال الله تعالى { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } إن كنتم مؤمنين وقال تعالى { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم } وقال { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين }
فكم ممن يريد العلو ولا يزيده ذلك إلا سفولا وكم ممن جعل من الأعلين وهو لايريد العلو ولا الفساد وذلك لأن إرادة العلو
____________________
(28/393)
على الخلق ظلم لأن الناس من جنس واحد فإرادة الانسان ان يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم ومع أنه ظلم فالناس يبغضون من يكون كذلك ويعادونه لأن العادل منهم لايحب ان يكون مقهورا لنظيره وغير العادل منهم يؤثر ان يكون هو القاهر ثم إنه مع هذا لابد له فى العقل والدين من ان يكون بعضهم فوق بعض كما قدمناه كما ان الجسد لايصلح إلا برأس قال تعالى { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم } وقال تعالى { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } فجاءت الشريعة بصرف السلطان والمال فى سبيل الله
فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك فى سبيله كان ذلك صلاح الدين والدنيا وإن انفرد السلطان عن الدين او الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم ( إن الله لاينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (
ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف صاروا بمعزل عن حقيقة الايمان فى ولا يتهم رأى كثير من الناس ان الامارة
____________________
(28/394)
تنافى الايمان وكمال الدين ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك فأخذه معرضا عن الدين لاعتقاده أنه مناف لذلك وصار الدين عنده فى محل الرحمة والذل لا فى محل العلو والعز وكذلك لما غلب على كثير من أهل الدين العجز عن تكميل الدين والجزع لما قد يصيبهم فى إقامته من البلاء استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها
وهاتان السبيلان الفاسدتان سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب ولم يقصد بذلك إقامة الدين هما سبيل المغضوب عليهم والضالين الأولى للضالين النصارى والثانية للمغضوب عليهم اليهود
وإنما الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين هي سبيل نبينا محمد وسبيل خلفائه وأصحابه ومن سلك سبيلهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك
____________________
(28/395)
الفوز العظيم فالواجب على المسلم أن يجتهد فى ذلك بحسب وسعه فمن ولى ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات واجتناب ما يمكنه من المحرمات لم يؤاخذ بما يعجز عنه فان تولية الأبرار خير للامة من تولية الفجار ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للامة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير لم يكلف ما يعجز عنه فان قوام الدين بالكتاب الهادى والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى
فعلى كل أحد الاجتهاد فى اتفاق القرآن والحديد لله تعالى ولطلب ماعنده مستعينا بالله فى ذلك ثم الدنيا تخدم الدين كما قال معاذ بن جبل رضى الله عنه يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج فان بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظاما وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة وأنت من الدنيا على خطر ودليل ذلك ما رواه الترمذى عن النبى أنه قال ( من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرق الله عليه ضيعته
____________________
(28/396)
وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ( وأصل ذلك فى قوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } فنسأل الله العظيم ان يوفقنا وسائر إخواننا وجميع المسلمين لما يحبه لنا ويرضاه من القول والعمل فانه لاحول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين
____________________
(28/397)
وكتب شيخ الاسلام إلى الملك الناصر بعد وقعة جبل كسروان بسبب فتوح الجبل بسم الله الرحمن الرحيم من الداعى احمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين ومن أيد الله فى دولته الدين وأعز بها عبادة المؤمنين وقمع فيها الكفار والمنافقين والخوارج 2 المارقين نصره الله ونصر به الاسلام وأصلح له وبه أمور الخاص والعام وأحيى به معالم الايمان وأقام به شرائع القرآن وأذل به أهل الكفر والفسوق والعصيان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فانا نحمد اليكم الله الذى لا إله إلا هو وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير ونسأله أن يصلى على خاتم النبيين وإمام المتقين محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
أما بعد فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الاحزاب وحده وأنعم الله على السلطان وعلى المؤمنين فى دولته نعما لم تعهد فى القرون الخالية وجدد الاسلام فى أيامه تجديدا
____________________
(28/398)
بانت فضيلته على الدول الماضية وتحقق فى ولايته خبر الصادق المصدوق أفضل الأولين والآخرين الذى أخبر فيه عن تجديد الدين فى رؤوس المئين والله تعالى يوزعه والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة فى الدنيا والدين ويتمها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين
وذلك ان السلطان أتم الله نعمته حصل للامه بيمن ولايته وحسن نيته وصحة إسلامه وعقيدته وبركة ايمانه ومعرفته وفضل همته وشجاعته وثمرة تعظيمه للدين وشرعته ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته ماهو شبيه بما كان يجرى فى أيام الخلفاء الراشدين وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين من جهاد أعداء الله المارقين من الدين وهم صنفان
أهل الفجور والطغيان وذوو الغى والعدوان الخارجون عن شرائع الايمان طلبا للعلو فى الأرض والفساد وتركا لسبيل الهدى والرشاد وهؤلاء هم التتار ونحوهم من كل خارج عن شرائع الاسلام وإن تمسك بالشهادتين أو ببعض سياسة الاسلام
والصنف الثانى أهل البدع المارقون وذوو الضلال المنافقون الخارجون عن السنة والجماعة المفارقون للشرعة والطاعة مثل هؤلاء
____________________
(28/399)
الذين غزوا بأمر السلطان من أهل الجبل والجرد والكسروان فان ما من الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام هو من عزائم الأمور التى أنعم الله بها على السلطان وأهل الاسلام
وذلك أن هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين فى أمر الدنيا والدين فان اعتقادهم أن أبا بكر وعمر وعثمان وأهل بدر وبيعة الرضوان وجمهور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم باحسان وأئمة الاسلام وعلماءهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ومشايخ الاسلام وعبادهم وملوك المسلمين وأجنادهم وعوام المسلمين وأفرادهم كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون اكفر من اليهود والنصارى لأنهم مرتدون عندهم والمرتد شر من الكافر الأصلى ولهذاالسبب يقدمون الفرنج والتتارعلى أهل القرآن والايمان
ولهذا لما قدم التتار إلى البلاد وفعلوا بعسكر المسلمين مالا يحصى من الفساد وأرسلوا إلى أهل قبرص فملكوا بعض الساحل وحملوا راية الصليب وحملوا إلى قبرص من خيل المسلمين وسلاحهم وأسراهم مالا يحصى عدده إلا الله وأقام سوقهم بالساحل عشرين يوما يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرص وفرحوا بمجيء التتار هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون مثل أهل جزين وما حواليها وجبل عامل ونواحيه
____________________
(28/400)
ولما خرجت العساكر الاسلامية من الديار المصرية ظهر فيهم من الخزى والنكال ماعرفه الناس منهم ولما نصر الله الاسلام النصرة العظمى عند قدوم السلطان كان بينهم شبيه بالعزاء
كل هذا وأعظم منه عند هذه الطائفة التى كانت من أعظم الأسباب فى خروج جنكسخان إلى بلاد الاسلام وفى استيلاء هولاكو على بغداد وفى قدومه إلى حلب وفى نهب الصالحية وفى غير ذلك من انواع العداوة للاسلام وأهله
لأن عندهم أن كل من لم يوافقهم على ضلالهم فهو كافر مرتد ومن استحل الفقاع فهو كافر ومن مسح على الخفين فهو عندهم كافر ومن حرم المتعة فهو عندهم كافر ومن أحب أبا بكر أوعمر او عثمان او ترضى عنهم او عن جماهير الصحابة فهو عندهم كافر ومن لم يؤمن بمنتظرهم فهو عندهم كافر
وهذا المنتظر صبى عمره سنتان أو ثلاث او خمس يزعمون انه دخل السرداب بسامرا من اكثر من أربعمائة سنة وهو يعلم كل شيء وهو حجة الله على أهل الأرض فمن لم يؤمن به فهو
عندهم كافر وهو شيء لاحقيقة له ولم يكن هذا فى الوجود قط وعندهم من قال ان الله يرى فى الآخرة فهو كافر ومن قال
____________________
(28/401)
إن الله تكلم بالقرآن حقيقة فهو كافر
ومن قال إن الله فوق السماوات فهو كافر ومن آمن بالقضاء والقدر وقال ان الله يهدى من يشاء ويضل من يشاء وان الله يقلب قلوب عباده وان الله خالق كل شيء فهو عندهم كافر وعندهم أن من آمن بحقيقة أسماء الله وصفاته التى أخبر بها فى كتابه وعلى لسان رسوله فهو عندهم كافر هذا هو المذهب الذى تلقنه لهم أئمتهم مثل بنى العود فانهم شيوخ أهل هذا الجبل وهم الذين كانوا يأمرونهم بقتال المسلمين ويفتونهم بهذه الأمور
وقد حصل بأيدى المسلمين طائفة من كتبهم تصنيف بن العود وغيره وفيها هذا وأعظم منه وهم اعترفوا لنا بأنهم الذين علموهم وأمروهم لكنهم مع هذا يظهرون التقية والنفاق ويتقربون ببذل الأموال إلى من يقبلها منهم وهكذا كان عادة هؤلاء الجبلية فانما أقاموا بجبلهم لما كانوا يظهرونه من النفاق ويبذلونه من البرطيل لمن يقصدهم
والمكان الذى لهم فى غاية الصعوبة ذكر أهل الخبرة أنهم لم يروا مثله ولهذا كثر فسادهم فقتلوا من النفوس وأخذوا من الأموال مالا يعلمه الا الله
____________________
(28/402)
ولقد كان جيرانهم من أهل البقاع وغيرها معهم فى أمرلا يضبط شره كل ليلة تنزل عليهم منهم طائفة ويفعلون من الفساد مالا يحصيه إلا رب العباد كانوا فى قطع الطرقات وإخافة سكان البيوتات على أقبح سيرة عرفت من أهل الجنايات يرد اليهم النصارى من أهل قبرص فيضيفونهم ويعطونهم سلاح المسلمين ويقعون بالرجل الصالح من المسلمين فاما ان يقتلوه او يسلبوه وقليل منهم من يفلت منهم بالحيلة
فأعان الله ويسر بحسن نية السلطان وهمته فى إقامة شرائع الاسلام وعنايته بجهاد المارقين ان غزوا غزوة شرعية كما أمر الله ورسوله بعد ان كشفت أحوالهم وأزيحت عللهم وأزيلت شبههم وبذل لهم من العدل والانصاف مالم يكونوا يطمعون به وبين لهم أن غزوهم اقتداء بسيرة أمير المؤمنين على بن ابى طالب رضى الله عنه فى قتال الحرورية المارقين الذين تواتر عن النبى الأمر بقتالهم ونعت حالهم من وجوه متعددة أخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه من حديث على بن أبى طالب وأبى سعيد الخدرى وسهل بن حنيف وأبى ذر الغفارى ورافع بن عمرو وغيرهم من أصحاب النبى
قال فيهم ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم
____________________
(28/403)
وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لايجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل يقتلون أهل الاسلام ويدعون أهل الأوثان يقرؤون القرآن يحسبون انه لهم وهو عليهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه (
وأول ما خرج هؤلاء زمن أمير المؤمنين على رضى الله عنه وكان لهم من الصلاة والصيام والقراءة والعبادة والزهادة مالم يكن لعموم الصحابة لكن كانوا خارجين عن سنة رسول الله وعن جماعة المسلمين وقتلوا من المسلمين رجلا اسمه عبد الله بن خباب وأغاروا على دواب المسلمين
وهؤلاء القوم كانوا أقل صلاة وصياما ولم نجد فى جبلهم مصحفا ولا فيهم قارئا للقرآن وإنما عندهم عقائدهم التى خالفوا فيها الكتاب والسنة وأباحوا بها دماء المسلمين وهم مع هذا فقد سفكوا من الدماء وأخذوا من الأموال مالا يحصى عدده إلا الله تعالى
فإذا كان على بن أبى طالب قد أباح لعسكره ان ينهبوا مافى عسكر الخوارج مع أنه قتلهم جميعهم كان هؤلاء أحق بأخذ أموالهم وليس هؤلاء
____________________
(28/404)
بمنزلة المتأولين الذين نادى فيهم على بن أبى طالب يوم الجمل انه لا يقتل مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يغنم لهم مالا ولايسبى لهم ذرية لأن مثل أولئك لهم تأويل سائغ وهؤلاء ليس لهم تأويل سائغ ومثل أولئك إنما يكونون خارجين عن طاعة الامام وهؤلاء خرجوا عن شريعة رسول الله وسنته وهم شر من التتار من وجوه متعددة لكن التتر اكثر وأقوى فلذلك يظهر كثرة شرهم
وكثير من فساد التتر هو لمخالطة هؤلاء لهم كما كان فى زمن قازان وهولاكو وغيرهما فانهم أخذوا من أموال المسلمين أضعاف ما أخذوا من أموالهم وأرضهم فيئا لبيت المال
وقد قال كثير من السلف ان الرافضة لا حق لهم من الفيء لأن الله إنما جعل الفيء للمهاجرين والأنصار { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } فمن لم يكن قلبه سليما لهم ولسانه مستغفرا لهم لم يكن من هؤلاء
وقطعت أشجارهم لأن النبى لما حاصر بنى النضير قطع أصحابه نخلهم وحرقوه فقال اليهود هذا فساد وأنت
____________________
(28/405)
يامحمد تنهى عن الفساد فأنزل الله { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } وقد اتفق العلماء على جواز قطع الشجر وتخريب العامر عند الحاجة إليه فليس ذلك بأولى من قتل النفوس وما أمكن غير ذلك
فان القوم لم يحضروا كلهم من الاماكن التى اختفوا فيها وايسوا من المقام فى الجبل الا حين قطعت الاشجار والا كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم وما أمكن ان يسكن الجبل غيرهم لأن التركمان انما قصدهم الرعي وقد صار لهم مرعى وسائر الفلاحين لايتركون عمارة ارضهم ويجيئون إليه
فالحمد لله الذى يسر هذا الفتح فى دولة السلطان بهمته وعزمه وامره واخلاء الجبل منهم واخراجهم من ديارهم
وهم يشبهون ما ذكره الله فى قوله { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين }
____________________
(28/406)
وأيضا فانه بهذا قد انكسر من اهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز واليمن والعراق ما يرفع الله به درجات السلطان ويعز به اهل الايمان فصل
تمام هذا الفتح وبركته تقدم مراسم السلطان بحسم مادة اهل الفساد واقامة الشريعة فى البلاد فان هؤلاء القوم لهم من المشايخ والأخوان فى قرى كثيرة من يقتدون بهم وينتصرون لهم وفي قلوبهم غل عظيم وابطان معاداة شديدة لا يؤمنون معها على مايمكنهم ولو انه مباطنة العدو فاذا امسك رؤوسهم الذين يضلونهم مثل بنى العود زال بذلك من الشر مالا يعلمه الا الله
ويتقدم إلى قراهم وهى قرى متعددة بأعمال دمشق وصفد وطرابلس وحماة وحمص وحلب بأن يقام فيهم شرائع الاسلام والجمعة والجماعة وقراءة القرآن ويكون لهم خطباء ومؤذنون
____________________
(28/407)
كسائر قرى المسلمين وتقرأ فيهم الأحاديث النبوية وتنشر فيهم المعالم الاسلامية ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الاسلام فان هؤلاء المحاربين وامثالهم قالوا نحن قوم جهال وهؤلاء كانوا يعلموننا ويقولون لنا انتم اذا قاتلتم هؤلاء تكونون مجاهدين ومن قتل منكم فهو شهيد
وفى هؤلاء خلق كثير لا يقرون بصلاة ولا صيام ولا حج ولا عمرة ولا يحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ولا يؤمنون بالجنة والنار من جنس الأسماعيلية والنصيرية والحاكمية والباطنية وهم كفار اكفر من اليهود والنصارى باجماع المسلمين ف
تقدم المراسيم السلطانية باقامة شعائر الاسلام من الجمعة والجماعة وقراءة القرآن وتبليغ احاديث النبى في قرى هؤلاء من اعظم المصالح الاسلامية وابلغ الجهاد فى سبيل الله وذلك سبب لانقماع من يباطن العدو من هؤلاء ودخولهم فى طاعة الله ورسوله وطاعة اولى الأمر من المسلمين وهو من الأسباب التى يعين الله بها على قمع الاعداء فان مافعلوه بالمسلمين فى ارض ( سيس ( نوع من غدرهم الذي به ينصر الله المسلمين عليهم وفى ذلك لله حكمة
____________________
(28/408)
عظيمة ونصرة للاسلام جسيمة
قال بن عباس ما نقض قوم العهد الا اديل عليهم العدو
ولولا هذا وأمثاله ما حصل للمسلمين من العزم بقوة الايمان وللعدو من الخذلان ماينصر الله به المؤمنين ويذل به الكفار والمنافقين
والله هو المسئول ان يتم نعمته على سلطان الاسلام خاصة وعلى عباده المؤمنين عامة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
____________________
(28/409)
وكتب شيخ الاسلام احمد بن تيمية قدس الله روحه لما قدم العدو من التتار سنة تسع وتسعين وستمائة إلى حلب وانصرف عسكر مصر وبقي عسكر الشام
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين احسن الله اليهم فى الدنيا والآخرة واسبغ عليهم نعمة باطنة وظاهرة ونصرهم نصرا عزيزا وفتح عليهم فتحا كبيرا وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا وجعلهم معتصمين بحبله المتين مهتدين إلى صراطه المستقيم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فانا نحمد اليكم الله الذي لا اله الا هو وهو للحمد اهل وهو على كل شيء قدير ونسأله ان يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
اما بعد فان الله عز وجل بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وجعله خاتم النبيين وسيد ولد آدم من الناس اجمعين وجعل كتابه الذي انزله
____________________
(28/410)
عليه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب ومصدقا لها وجعل امته خير امة اخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فهم يوفون سبعين فرقة هم خيرها وأكرمها على الله وقد اكمل لهم دينهم واتم عليهم نعمته ورضي لهم الاسلام دينا فليس دين افضل من دينهم الذي جاء به رسولهم ولا كتاب افضل من كتابهم ولا امة خيرا من امتهم بل كتابنا ونبينا وديننا وامتنا افضل من كل كتاب ودين ونبى وامة
فاشكروا الله على ما انعم به عليكم فمن شكر فانما يشكر لنفسه ومن كفر فان ربى غنى كريم واحفظوا هذه التى بها تنالون نعيم الدنيا والآخرة واحذروا ان تكونوا ممن بدل نعمة الله كفرا فتعرضون عن حفظ هذه النعمة ورعايتها فيحيق بكم ما حاق بمن انقلب على عقبيه واشتغل بما لا ينفعه من أمر الدنيا عما لا بد له منه من مصلحة دينه ودنياه فخسر الدنيا والآخرة
فقد سمعتم ما نعت الله به الشاكرين والمنقلبين حيث يقول { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } انزل الله سبحانه هذه الآية وما قبلها وما بعدها فى غزوة احد لما انكسر المسلمون مع النبى
____________________
(28/411)
وقتل جماعة من خيار الأمة وثبت رسول الله مع طائفة يسيرة حتى خلص إليه العدو فكسروا رباعيته وشجوا وجهه وهشموا البيضة على رأسه وقتل وجرح دونه طائفة من خيار اصحابه لذ بهم عنه ونعق الشيطان فيهم ان محمدا قد قتل فزلزل ذلك قلوب بعضهم حتى انهزم طائفة وثبت الله آخرين حتى ثبتوا
وكذلك لما قبض النبى فتزلزلت القلوب واضطرب حبل الدين وغشيت الذلة من شاء الله من الناس حتى خرج عليهم الصديق رضي الله تعالى عنه فقال من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حى لا يموت وقرأ قوله { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } فكأن الناس لم يسمعوها حتى تلاها الصديق رضي الله عنه فلا يوجد من الناس الا من يتلوها
وارتد بسبب موت الرسول صلى الله عليه وسلم ولما حصل لهم من الضعف جماعات من الناس قوم ارتدوا عن الدين بالكلية وقوم ارتدوا عن بعضه فقالوا نصلى ولا نزكى وقوم ارتدوا عن اخلاص الدين الذي جاء به محمد فآمنوا مع محمد
____________________
(28/412)
بقوم من النبيين الكذابين كمسيلمة الكذاب وطليحة الأسدى وغيرهما فقام إلى جهادهم الشاكرون الذين ثبتوا على الدين اصحاب رسول الله من المهاجرين والانصار والطلقاء والأعراب ومن اتبعهم باحسان الذين قال الله عز وجل فيهم { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } هم اولئك الذين جاهدوا المنقلبين على اعقابهم الذين لم يضروا الله شيئا
وما انزل الله فى القرآن من آية الا وقد عمل بها قوم وسيعمل بها آخرون فمن كان من الشاكرين الثابتين على الدين الذين يحبهم الله عز وجل ورسوله فإنه يجاهد المنقلبين على أعقابهم الذين يخرجون عن الدين ويأخذون بعضه ويدعون بعضه كحال هؤلاء القوم المجرمين المفسدين الذين خرجوا على اهل الأسلام وتكلم بعضهم بالشهادتين وتسمى بالاسلام من غير التزام شريعته فان عسكرهم مشتمل على اربع طوائف
كافرة باقية على كفرها من الكرج والارمن والمغل
وطائفة كانت مسلمة فارتدت عن الاسلام وانقلبت على عقبيها من العرب والفرس والروم وغيرهم وهؤلاء اعظم جرما عند الله
____________________
(28/413)
وعند رسوله والمؤمنين من الكافر الأصلى من وجوه كثيرة فان هؤلاء يجب قتلهم حتما مالم يرجعوا إلى ما خرجوا عنه لا يجوز ان يعقد لهم ذمة ولا هدنة ولا امان ولا يطلق اسيرهم ولا يفادى بمال ولا رجال ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ولا يسترقون مع بقائهم على الردة بالاتفاق ويقتل من قاتل منهم ومن لم يقاتل كالشيخ الهرم والأعمى والزمن باتفاق العلماء وكذا نساؤهم عند الجمهور
والكافر الأصلى يجوز ان يعقد له امان وهدنة ويجوز المن عليه والمفاداة به اذا كان اسيرا عند الجمهور ويجوز اذا كان كتابيا ان يعقد له ذمة ويؤكل طعامهم وتنكح نساؤهم ولا تقتل نساؤهم الا ان يقاتلن بقول او عمل باتفاق العلماء وكذلك لا يقتل منهم الا من كان من اهل القتال عند جمهور العلماء كما دلت عليه السنة
فالكافر المرتد اسوأ حالا فى الدين والدنيا من الكافر المستمر على كفره وهؤلاء القوم فيهم من المرتدة مالا يحصى عددهم الا الله فهذان صنفان
وفيهم ايضا من كان كافرا فانتسب إلى الاسلام ولم يلتزم شرائعه من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة وحج البيت والكف عن دماء
____________________
(28/414)
المسلمين واموالهم والتزام الجهاد فى سبيل الله وضرب الجزية على اليهود والنصارى وغيرذلك
وهؤلاء يجب قتالهم باجماع المسلمين كما قاتل الصديق ما نعى الزكاة بل هؤلاء شر منهم من وجوه وكما قاتل الصحابة ايضا مع امير المؤمنين علي رضي الله عنه الخوارج بأمر رسول الله حيث قال صلى الله عليه وسلم فى وصفهم ( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية اينما لقيتموهم فاقتلوهم فان فى قتلهم اجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ( وقال ( لو يعلم الذين يقاتلون ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل ( وقال ( هم شر الخلق والخليقة شر قتلى تحت اديم السماء خير قتلى من قتلوه ( فهؤلاء مع كثرة صيامهم وصلاتهم وقرائتهم امر النبى بقتالهم وقاتلهم امير المؤمنين علي وسائر الصحابة الذين معه ولم يختلف احد فى قتالهم كما اختلفوا فى قتال اهل البصرة والشام لأنهم كانوا يقاتلون المسلمين فان هؤلاء شر من اولئك من غير وجه وان لم يكونوا مثلهم فى الاعتقاد فان معهم من يوافق رأية فى المسلمين رأى الخوارج فهذه ثلاثة اصناف
وفيهم صنف رابع شر من هؤلاء وهم قوم ارتدوا عن شرائع
____________________
(28/415)
الاسلام وبقوا مستمسكين بالانتساب إليه فهؤلاء الكفار المرتدون والداخلون فيه من غير التزام لشرائعه والمرتدون عن شرائعه لا عن سمته كلهم يجب قتالهم باجماع المسلمين حتى يلتزموا شرائع الاسلام وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله وحتى تكون كلمة الله التى هي كتابه وما فيه من امره ونهيه وخبره هي العليا هذا اذا كانوا قاطنين فى ارضهم فكيف اذا استولوا على اراضى الاسلام من العراق وخراسان والجزيرة والروم فكيف اذا قصدوكم وصالوا عليكم بغيا وعدوانا { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم }
واعلموا اصلحكم الله ان النبى قد ثبت عنه من وجوه كثيرة انه قال ( لا تزال طائفة من امتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة ( وثبت انهم بالشام
فهذه الفتنة قد تفرق الناس فيها ثلاث فرق الطائفة المنصورة وهم المجاهدون لهؤلاء القوم المفسدين والطائفة المخالفة وهم هؤلاء
____________________
(28/416)
القوم ومن تحيز اليهم من خبالة المنتسبين إلى الاسلام والطائفة المخذلة وهم القاعدون عن جهادهم وان كانوا صحيحى الأسلام فلينظر الرجل ايكون من الطائفة المنصورة ام من الخاذلة ام من المخالفة فما بقى قسم رابع
واعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة وفى تركه خسارة الدنيا والآخرة قال الله تعالى فى كتابه { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } يعنى اما النصر والظفر واما الشهادة والجنة فمن عاش من المجاهدين كان كريما له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ومن مات منهم او قتل فالى الجنة قال النبى ( يعطى الشهيد ست خصال يغفر له بأول قطرة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويكسى حلة من الايمان ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين ويوقى فتنة القبر ويؤمن من الفزع الأكبر ( رواه اهل السنن وقال ( ان فى الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والارض اعدها الله سبحانه وتعالى للمجاهدين فى سبيله ( فهذا ارتفاع خمسين الف سنة فى الجنة لأهل الجهاد وقال ( مثل المجاهد فى سبيل الله مثل الصائم القائم القانت الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام ( وقال رجل اخبرنى بعمل يعدل الجهاد فى سبيل الله قال لا تستطيعه قال
____________________
(28/417)
اخبرنى به قال هل تستطيع اذا خرج المجاهد ان تصوم لا تفطر وتقوم لا تفتر قال لا قال فذلك الذى يعدل الجهاد في سبيل الله ( وهذه الأحاديث فى الصحيحين وغيرهما
وكذلك اتفق العلماء فيما اعلم على انه ليس فى التطوعات افضل من الجهاد فهو افضل من الحج وافضل من الصوم التطوع وافضل من الصلاة التطوع
والمرابطة فى سبيل الله افضل من المجاورة بمكة والمدينة وبيت المقدس حتى قال ابو هريرة رضي الله عنه لأن ارابط ليلة فى سبيل الله احب الي من ان اوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود فقد اختار الرباط ليلة على العبادة فى افضل الليالى عند افضل البقاع ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم واصحابه يقيمون بالمدينة دون مكة لمعان منها انهم كانوا مرابطين بالمدينة فان الرباط هو المقام بمكان يخيفه العدو ويخيف العدو فمن اقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط والأعمال بالنيات قال رسول الله ( رباط يوم فى سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل ( رواه اهل السنن وصححوه وفي صحيح مسلم ( عن سلمان ان النبى قال رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا اجرى عليه عمله واجرى عليه رزقه من الجنة وامن الفتان ( يعنى منكرا ونكيرا فهذا فى الرباط فكيف الجهاد
____________________
(28/418)
وقال ( لا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان جهنم فى وجه عبد ابدا ( وقال ( من اغبرت قدماه فى سبيل الله حرمهما الله على النار ( فهذا فى الغبار الذي يصيب الوجه والرجل فكيف بما هواشق منه كالثلج والبرد والوحل
ولهذا عاب الله عز وجل المنافقين الذين يتعللون بالعوائق كالحر والبرد فقال سبحانه وتعالى { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } وهكذا الذين يقولون لا تنفروا فى البرد فيقال نار جهنم اشد بردا كما اخرجاه فى الصحيحين عن النبى انه قال ( اشتكت النار إلى ربها فقالت ربى اكل بعضى بعضا فأذن لها بنفسين نفس فى الشتاء ونفس فى الصيف فأشد ما تجدون من الحر والبرد فهو من زمهرير جهنم فالمؤمن يدفع بصبره على الحر والبرد فى سبيل الله حر جهنم وبردها والمنافق يفر من حر الدنيا وبردها حتى يقع فى حر جهنم وزمهريرها
واعلموا اصلحكم الله ان النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين وان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم فابشروا بنصر الله تعالى وبحسن
____________________
(28/419)
عاقبته { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } وهذا امر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين }
واعلموا اصلحكم الله ان من اعظم النعم على من اراد الله به خيرا ان احياه إلى هذا الوقت الذي يجدد الله فيه الدين ويحيى فيه شعار المسلمين واحوال المؤمنين والمجاهدين حتى يكون شبيها بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فمن قام في هذا الوقت بذلك كان من التابعين لهم بإحسان الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ابدا ذلك الفوز العظيم فينبغى للمؤمنين ان يشكروا الله تعالى على هذه المحنة التى
____________________
(28/420)
حقيقتها منحة كريمة من الله وهذه الفتنة التى فى باطنها نعمة جسيمة حتى والله لو كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار كأبى بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم حاضرين في هذا الزمان لكان من افضل اعمالهم جهاد هؤلاء القوم المجرمين
ولا يفوت مثل هذه الغزاة الا من خسرت تجارته وسفه نفسه وحرم حظا عظيما من الدنيا والآخرة الا ان يكون ممن عذر الله تعالى كالمريض والفقير والأعمى وغيرهم والا فمن كان له مال وهو عاجز ببدنه فليغز بماله ففى الصحيحين عن النبى انه قال ( من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه فى اهله بخير فقد غزا ومن كان قادرا ببدنه وهو فقير فليأخذ من اموال المسلمين ما يتجهز به سواء كان المأخوذ زكاة او صلة او من بيت المال او غير ذلك حتى لو كان الرجل قد حصل بيده مال حرام وقد تعذر رده إلى اصحابه لجهله بهم ونحو ذلك او كان بيده ودائع او رهون او عوار قد تعذر معرفة اصحابها فلينفقها فى سبيل الله فان ذلك مصرفها
ومن كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد فان الله عز وجل يغفر ذنوبه ( كما أخبر الله في كتابه بقوله سبحانه وتعالى { يغفر لكم ذنوبكم } ومن اراد التخلص من الحرام والتوبة ولا يمكن رده إلى اصحابه فلينفقه فى سبيل الله عن اصحابه فان ذلك طريق حسنة إلى
____________________
(28/421)
خلاصه مع مايحصل له من اجر الجهاد
وكذلك من اراد ان يكفر الله عنه سيئاته فى دعوى الجاهلية وحميتها فعليه بالجهاد فان الذين يتعصبون للقبائل وغيرالقبائل مثل قيس ويمن وهلال واسد ونحو ذلك كل هؤلاء اذا قتلوا فان القاتل والمقتول فى النار كذلك صح عن النبى انه قال ( اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال انه كان حريصا على قتل اخيه ( اخرجاه فى الصحيحين وقال ( من قتل تحت راية عمية يغضب لعصبيه ويدعو لعصبيه فهو فى النار ( رواه مسلم وقال ( من تعزى بعزاء اهل الجاهلية فاعضوه بهن ابيه ولا تكنوا ( فسمع ابى بن كعب رجلا يقول يا لفلان فقال اعضض اير ابيك فقال يا أبا المنذر ما كنت فاحشا فقال بهذا امرنا رسول الله رواه احمد فى مسنده
ومعنى قوله ( من تعزى بعزاء الجاهلية ( يعنى يعتزى بعزواتهم وهي الانتساب اليهم فى الدعوة مثل قوله يا لقيس يا ليمن ويا لهلال ويا لأسد فمن تعصب لأهل بلدته او مذهبه او طريقتة او قرابته او لأصدقائه دون غيرهم كانت فيه شعبة من الجاهلية حتى يكون المؤمنون كما امرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله فان
____________________
(28/422)
كتابهم واحد ودينهم واحد ونبيهم واحد وربهم اله واحد لا اله الا هو له الحمد فى الاولى والآخرة وله الحكم واليه ترجعون قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال بن عباس رضي الله عنهما تبيض وجوه اهل السنة والجماعة وتسود وجوه اهل الفرقة والبدعة
فالله الله عليكم بالجماعة والائتلاف على طاعة الله ورسوله والجهاد فى سبيله يجمع الله قلوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم ويحصل لكم خير الدنيا والآخرة اعاننا الله واياكم على طاعته وعبادته وصرف عنا وعنكم سبيل معصيته واتانا واياكم فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ووقانا عذاب النار وجعلنا واياكم ممن رضى الله عنه واعد له جنات النعيم انه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(28/423)
وقال قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فانا نحمد اليكم الله الذى لا اله الا هو وهو للحمد اهل وهو على كل شيء قدير ونسأله ان يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
اما بعد فقد صدق الله وعده ونصر عبده واعز جنده وهزم الأحزاب وحده { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا } والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا }
____________________
(28/424)
فان هذه الفتنة التى ابتلى بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الاسلام قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله فى المغازى التى انزل الله فيها كتابه وابتلى بها نبيه والمؤمنين مما هو اسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا إلى يوم القيامة فان نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظى والمعنوى او بالعموم المعنوى وعهود الله فى كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كما نالت اولها وانما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا فنشبه حالنا بحالهم ونقيس اواخر الامم بأوائلها فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين كماقال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة واجمل قصص الانبياء ثم قال { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى } أي هذه القصص المذكورة فى الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة كنحو مايذكر فى الحروب من السير المكذوبة
وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون ( فأخذه الله نكال الآخرة
____________________
(28/425)
{ والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } وقال فى سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع اعدائه ببدر وغيرها { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } وقال تعالى فى محاصرته لبنى النضير { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } فأمرنا ان نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة وممن قبلها من الامم
وذكر فى غير موضع ان سنته فى ذلك سنة مطردة وعادته مستمرة فقال تعالى { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } وقال تعالى { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } ا ( واخبر سبحانه ان دأب الكافرين من المستأخرين كدأب الكافرين من المستقدمين
____________________
(28/426)
فينبغى للعقلاء ان يعتبروا بسنة الله وأيامه فى عبادة ودأب الامم وعاداتهم لا سيما فى مثل هذه الحادثة العظيمة التى طبق الخافقين خبرها واستطار فى جميع ديار الاسلام شررها واطلع فيها النفاق ناصية رأسه وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه وكاد فيه عمود الكتاب ان يجتث ويخترم وحبل الايمان ان ينقطع ويصطلم وعقر دار المؤمنين ان يحل بها البوار وان يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار وظن المنافقون والذين فى قلوبهم مرض ان ما وعدهم الله ورسوله الا غرورا وان لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى اهليهم ابدا وزين ذلك فى قلوبهم وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران وانزلت الرجل الصاحي منزلة السكران وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان وتناكرت فيها قلوب المعارف والاخوان حتى بقى للرجل بنفسه شغل عن ان يغيث اللهفان وميز الله فيها اهل البصائر والايقان من الذين فى قلوبهم مرض او نفاق وضعف ايمان ورفع بها اقواما إلى الدرجات العالية كما خفض بها اقواما إلى المنازل الهاوية وكفر بها عن آخرين اعمالهم الخاطئة وحدث من انواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى
فان الناس تفرقوا فيها ما بين شقى وسعيد كما يتفرقون كذلك
____________________
(28/427)
فى اليوم الموعود وفر الرجل فيها من اخيه وامه وابيه اذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه وكان من الناس من اقصى همته النجاة بنفسه لا يلوى على ماله ولا ولده ولا عرسه كما ان منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال وآخر منزلتة منزلة الشفيع المطاع وهم درجات عند الله فى المنفعة والدفاع ولم تنفع المنفعه الخالصة من الشكوى الا الايمان والعمل الصالح والبر والتقوى وبليت فيها السرائر وظهرت الخبايا التى كانت تكنها الضمائر وتبين ان البهرج من الاقوال والأعمال يخون صاحبه احوج ما كان إليه فى المآل وذم سادته وكبراءه من اطاعهم فأضلوه السبيلا كما حمد ربه من صدق فى ايمانه فاتخذ مع الرسول سبيلا وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون وواطأتها قلوب الذين هم فى هذه الأمة محدثون كما تواطأت عليه المبشرات التى اريها المؤمنون وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب حزب مجتهد فى نصر الدين وآخر خاذل له وآخر خارج عن شريعة الإسلام
وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور وآخر قد غره بالله الغرور وكان هذا الامتحان تمييزا من الله وتقسيما { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما }
____________________
(28/428)
ووجه الاعتبار فى هذه الحادثة العظيمة ان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرع له الجهاد إباحة له اولا ثم ايجابا له ثانيا لما هاجر إلى المدينة وصار له فيها انصار ينصرون الله ورسوله فغزا بنفسه مدة مقامة بدار الهجرة وهو نحو عشر سنين بضعا وعشرين غزوة اولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك انزل الله فى اول مغازيه سورة الانفال وفى آخرها سورة براءة وجمع بينهما فى المصحف لتشابه اول الأمر وآخره كما قال امير المؤمنين عثمان لما سئل عن القرآن بين السورتين من غير فصل بالبسملة
وكان القتال منها فى تسع غزوات
فأول غزوات القتال بدر وآخرها حنين والطائف وانزل الله فيها ملائكته كما اخبر به القرآن ولهذا صار الناس يجمعون بينهما فى القول وان تباعد ما بين الغزوتين مكانا وزمانا فان بدرا كانت فى رمضان فى السنة الثانية من الهجرة ما بين المدينة ومكة شامى مكة وغزوة حنين فى آخر شوال من السنة الثامنة وحنين واد قريب من الطائف شرقى مكة ثم قسم النبي
____________________
(28/429)
غنائمها بالجعرانة واعتمر من الجعرانة ثم حاصر الطائف فلم يقاتله اهل الطائف زحفا وصفوفا وانما قاتلوه من وراء جدار فآخر غزوة كان فيها القتال زحفا واصطفافا هي غزوة حنين وكانت غزوة بدر اول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار وقتل الله اشرافهم واسر رؤوسهم مع قلة المسلمين وضعفهم فانهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ليس معهم الافرسان وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد وكان عدوهم بقدرهم اكثر من ثلاث مرات فى قوة وعدة وهيئة وخيلاء
فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة وفيها النبى واصحابه فخرج اليهم النبى صلى الله عليه وسلم واصحابه فى نحو من ربع الكفار وتركوا عيالهم بالمدينة لم ينقلوهم إلى موضع آخر وكانت اولا الكرة للمسلمين عليهم ثم صارت للكفار فانهزم عامة عسكر المسلمين الا نفرا قليلا حول النبى صلى الله عليه وسلم منهم من قتل ومنهم من جرح وحرصوا على قتل النبى حتى كسروا رباعيته وشجوا جبينه وهشموا البيضة على رأسه وانزل الله فيها شطرا من سورة آل عمران من قوله { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } وقال فيها { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم }
____________________
(28/430)
وقال فيها { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } وقال فيها { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير }
وكان الشيطان قد نعق في الناس ان محمدا قد قتل فمنهم من تزلزل لذلك فهرب ومنهم من ثبت فقاتل فقال الله تعالى { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين }
وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا فى العام الماضى وكانت هزيمة المسلمين فى العام الماضى بذنوب ظاهرة وخطايا واضحة من فساد النيات والفخر والخيلاء والظلم والفواحش والاعراض عن حكم الكتاب والسنة وعن المحافظة على فرائض الله والبغى على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم وكان عدوهم فى اول الامر راضيا منهم بالموادعة والمسالمة شارعا فى الدخول في الاسلام
____________________
(28/431)
وكان مبتدئا فى الايمان والأمان وكانوا هم قد اعرضوا عن كثير من احكام الايمان
فكان من حكمه الله ورحمته بالمؤمنين ان ابتلاهم بما ابتلاهم به ليمحص الله الذين آمنوا وينيبوا إلى ربهم وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الاسلام فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام
فقد كان فى نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم الذي هوعلى الحال المذكورة لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف كما ان نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة وهزيمتهم يوم احد كان نعمة ورحمة على المؤمنين فان النبى قال ( لا يقضى الله للمؤمن قضاء الا كان خيرا له وليس ذلك لأحد الا للمؤمن ان اصابته سراء فشكر الله كان خيرا له وان اصابته ضراء فصبر كان خيرا له (
فلما كانت حادثة المسلمين عام اول شبيهة بأحد وكان بعد احد بأكثر من سنة وقيل بسنتين قد ابتلى المسلمون عام الخندق كذلك فى هذا العام ابتلى المؤمنون بعدوهم كنحو ماابتلى المسلمون
____________________
(28/432)
مع النبى صلى الله عليه وسلم عام الخندق وهي غزوة الأحزاب التى انزل الله فيها سورة الأحزاب وهى سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة التى نصر الله فيها عبده واعز فيها جنده المؤمنين وهزم الأحزاب الذين تحزبوا عليه وحده بغير قتال بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم ذكر فيها خصائص رسول الله وحقوقه وحرمته وحرمة اهل بيته لما كان هو القلب الذي نصره الله فيها بغير قتال كما كان ذلك فى غزوتنا هذه سواء وظهر فيها سر تأييد الدين كما ظهر فى غزوة الخندق وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق
وذلك ان الله تعالى منذ بعث محمدا وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة اقسام قسما مؤمنين وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا وقسما كفارا وهم الذين اظهروا الكفر به وقسما منافقين وهم الذين آمنوا ظاهرا لا باطنا
ولهذا افتتح سورة البقرة بأربع آيات فى صفة المؤمنين وآيتين فى صفة الكافرين وثلاث عشرة آية فى صفة المنافقين
وكل واحد من الايمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب كما
____________________
(28/433)
دلت عليه دلائل الكتاب والسنة وكما فسره امير المؤمنين علي بن ابى طالب رضي الله عنه فى الحديث المأثور عنه فى الإيمان ودعائمه وشعبه
فمن النفاق ما هو اكبر يكون صاحبه فى الدرك الأسفل من النار كنفاق عبد الله بن ابي وغيره بأن يظهر تكذيب الرسول او جحود بعض ما جاء به او بغضه او عدم اعتقاد وجوب اتباعه او المسرة بانخفاض دينه او المساءة بظهور دينه ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه الا عدوا لله ورسوله وهذا القدر كان موجودا في زمن رسول الله وما زال بعده بل هو بعده اكثر منه على عهده لكون موجبات الايمان على عهده أقوى فاذا كانت مع قوتها وكان النفاق معها موجودا فوجوده فيما دون ذلك اولى
وكما انه صلى الله عليه وسلم كان يعلم بعض المنافقين ولا يعلم بعضهم كما بينه قوله { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } كذلك خلفاؤه بعده وورثته قد يعلمون بعض المنافقين ولايعلمون بعضهم وفى المنتسبين إلى الاسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون فى الخاصة والعامة ويسمون ( الزنادقة (
وقد اختلف العلماء فى قبول توبتهم فى الظاهر لكون ذلك لا
____________________
(28/434)
يعلم اذهم دائما يظهرون الأسلام وهؤلاء يكثرون فى المتفلسفة من المنجمين ونحوهم ثم فى الأطباء ثم فى الكتاب اقل من ذلك ويوجدون فى المتصوفة والمتفقهة وفى المقاتلة والأمراء وفى العامة ايضا ولكن يوجدون كثيرا فى نحل أهل البدع لا سيما الرافضة ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس فى احد من اهل النحل ولهذا كانت الخرمية والباطنية والقرامطة والاسماعيلية والنصيرية ونحوهم من المنافقين الزنادقة منتسبة إلى الرافضة
وهؤلاء المنافقون فى هذه الاوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار لكونهم لا يلزمونهم شريعة الأسلام بل يتركونهم وما هم عليه وبعضهم انما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم فى الدنيا واستيلائهم على الاموال واجترائهم على الدماء والسبى لا لأجل الدين
فهذا ضرب النفاق الأكبر
واما النفاق الاصغر فهو النفاق في الأعمال ونحوها مثل ان يكذب اذا حدث ويخلف اذا وعد ويخون اذا اؤتمن او يفجر اذا خاصم ففى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( آية المنافق ثلاث اذا حدث كذب واذا وعد اخلف واذا اؤتمن خان ( وفى رواية صحيحه ( وان صلى وصام وزعم انه مسلم ( وفى الصحيحين
____________________
(28/435)
عن عبد الله بن عمرو عن النبى قال ( اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها اذا حدث كذب واذا وعد اخلف واذا عاهد غدر واذا خاصم فجر (
ومن هذا الباب الاعراض عن الجهاد فانه من خصال المنافقين قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق ( رواه مسلم وقد أنزل الله سورة براءة التى تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين اخرجاه فى الصحيحين عن بن عباس قال هي الفاضحة ما زالت تنزل ( ومنهم ( ومنهم ( حتى ظنوا ان لا يبقى احد الا ذكر فيها وعن المقداد بن الأسود قال هي سورة البحوث لأنها بحثت عن سرائر المنافقين وعن قتادة قال هي المثيرة لانها اثارت مخازى المنافقين
وعن بن عباس قال هي المبعثرة والبعثرة والاثارة متقاربان
وعن بن عمر انها المقشقشة لانها تبرىء من مرض النفاق يقال تقشقش المريض اذا برأ وقال الأصمعى وكان يقال لسورتى الاخلاص المقشقشتان لانهما يبرئان من النفاق
____________________
(28/436)
وهذه السورة نزلت فى آخر مغازى النبى صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك عام تسع من الهجرة وقد عز الاسلام وظهر فكشف الله فيها احوال المنافقين ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد ووصفهم بالبخل عن النفقة فى سبيل الله والشح على المال وهذان داءان عظيمان الجبن والبخل قال النبى ( شر ما فى المرء شح هالع وجبن خالع ( حديث صحيح ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار كما دل عليه قوله { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وقال تعالى { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } واما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى { بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون } فأخبر سبحانه انهم وان حلفوا انهم من المؤمنين فما هم منهم ولكن يفزعون من العدو ف ( لو يجدون ملجأ ( يلجأون إليه من المعاقل والحصون التى يفر اليها من يترك الجهاد او ( مغارات ( وهي جمع مغارة ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر كما يغور الماء ( او مدخلا
____________________
(28/437)
وهو الذى يتكلف الدخول إليه اما لضيق بابه او لغيرذلك أى مكانا يدخلون إليه ولو كان الدخول بكلفة 2 ومشقة ( لولوا ( عن الجهاد { إليه وهم يجمحون } أي يسرعون اسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح الذى اذا حمل لا يرده اللجام وهذا وصف منطبق على اقوام كثيرين فى حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها
وكذلك قال فى ( سورة محمد ( ( فاذا انزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون اليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم ( أي فبعدا لهم ( طاعة وقول معروف فاذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ( وقال تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد
وقال تعالى { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } فهذا اخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول فى ترك الجهاد وانما يستأذنه الذى لا يؤمن فكيف بالتارك من غير استئذان
ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متظافرة على هذا المعنى
____________________
(28/438)
وقال فى وصفهم بالشح { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } فهذه حال من انفق كارها فكيف بمن ترك النفقة رأسا وقال { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } وقال { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون }
وقال فى السورة { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } فانتظمت هذه الآية حال من اخذ المال بغير حقه او منعه من مستحقه من جميع الناس فان الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد وقد اخبر ان كثيرا منهم يأكلون اموال الناس بالباطل ويصدون أي يعرضون ويمنعون يقال صد عن الحق صدودا وصد غيره صدا
وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل من وقف او عطية على
____________________
(28/439)
الدين كالصلاة والنذور التى تنذر لأهل الدين ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين
ثم قال { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة فى سبيل الله والجهاد احق الاعمال باسم سبيل الله سواء كان ملكا اومقدما او غنيا او غير ذلك واذا دخل فى هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب فما كنز من الأموال المشتركة التى يستحقها عموم الأمة ومستحقها مصالحهم اولى واحرى
فصل
فإذا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق فإذا قرأ الإنسان سورة الأحزاب وعرف من المنقولات فى الحديث والتفسير والفقه والمغازى كيف كانت صفة الواقعة التى نزل بها القرآن ثم إعتبر هذه الحادثة بتلك وجد مصداق ما ذكرنا وأن الناس إنقسموا فى هذه هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة كما إنقسموا فى تلك وتبين له كثير من المتشابهات
____________________
(28/440)
إفتتح الله السورة بقوله { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين } وذكر فى أثنائها قوله { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين } ثم قال { واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا } ) فأمره بإتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة التى هي سنته وبأن يتوكل على الله فبالأولى يحقق قوله { إياك نعبد } وبالثانية يحقق قوله { وإياك نستعين } ومثل ذلك قوله { فاعبده وتوكل عليه } وقوله { عليه توكلت وإليه أنيب }
وهذا وإن كان مأمورا به فى جميع الدين فإن ذلك فى الجهاد أوكد لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين وذلك لا يتم إلا بتأييد قوى من الله ولهذا كان الجهاد سنام العمل وإنتظم سنام جميع الأحوال الشريفة ففيه سنام المحبة كما فى قوله { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } وفيه سنام التوكل وسنام الصبر فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل ولهذا قال تعالى { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون }
____________________
(28/441)
وقال موسى لقومه { استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين }
ولهذا كان الصبر واليقين اللذين هما أصل التوكل يوجبان الإمامة فى الدين كما دل عليه قوله تعالى { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }
ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التى هي محيطة بأبواب العلم كما دل عليه قوله تعالى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما إذا إختلف الناس فى شيء فإنظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }
وفى الجهاد أيضا حقيقة الزهد فى الحياة الدنيا وفى الدار الدنيا
وفيه أيضا حقيقة الإخلاص فإن الكلام فيمن جاهد فى سبيل الله لا فى سبيل الرياسة ولا فى سبيل المال ولا فى سبيل الحمية وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا
وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود كما قال
____________________
(28/442)
تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } و ( الجنة ) إسم للدار التى حوت كل نعيم أعلاه النظر إلى الله إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما قد نعرفه وقد لا نعرفه كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله ( أعددت لعبادى الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
فقد تبين بعض أسباب إفتتاح هذه السورة بهذا ثم أنه تعالى قال { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا }
وكان مختصر القصة أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم وجاءوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين فإجتمعت قريش وحلفاؤها من بنى أسد وأشجع وفزارة وغيرهم من قبائل نجد وإجتمعت أيضا اليهود من قريظة والنضير فإن بنى النضير كان النبى قد أجلاهم قبل ذلك كما ذكره الله تعالى فى ( سورة الحشر ( فجاؤوا فى الأحزاب إلى قريظة وهم معاهدون للنبى ومجاورون له قريبا من
____________________
(28/443)
المدينة فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد ودخلوا فى الأحزاب فإجتمعت هذه الأحزاب العظيمة وهم بقدر المسلمين مرات متعددة فرفع النبى صلى الله عليه وسلم الذرية من النساء والصبيان فى آطام المدينة وهى مثل الجواسق ولم ينقلهم إلى مواضع أخر وجعل ظهرهم إلى سلع وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشأم وجعل بينه وبين العدو خندقا والعدو قد أحاطبهم من العالية والسافلة وكان عدوا شديد العداوة لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات
وفى هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغل وغيرهم من أنواع الترك ومن فرس ومستعربة ونحوهم من أجناس المرتدة ومن نصارى الأرمن وغيرهم ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين وهو بين الأقدام والأحجام مع قلة من بإزائهم من المسلمين ومقصودهم الإستيلاء على الدار وإصطلام أهلها كما نزل أولئك بنواحى المدينة بإزاء المسلمين
ودام الحصار على المسلمين عام الخندق على ما قيل بضعا وعشرين ليلة وقيل عشرين ليلة
وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر وكان أول
____________________
(28/444)
إنصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه يوم الأثنين حادى أو ثانى عشر جمادى الأولى يوم دخل العسكر عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة وإجتمع بهم الداعى وخاطبهم فى هذه القضية وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى فى قلوب المؤمنين ما ألقى من الإهتمام والعزم ألقى الله فى قلوب عدوهم الروع والإنصراف
وكان عام الخندق برد شديد وريح شديدة منكرة بها صرف الله الأحزاب عن المدينة كما قال تعالى { فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف أكثر العادات حتى كره أكثر الناس ذلك وكنا نقول لهم لا تكرهوا ذلك فإن لله فيه حكمة ورحمة وكان ذلك من أعظم الأسباب التى صرف الله به العدو فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد حتى هلك من خيلهم ما شاء الله وهلك أيضا منهم من شاء الله وظهر فيهم وفى بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال حتى بلغنى عن بعض كبار المقدمين فى أرض الشام أنه قال لا بيض الله وجوهنا أعدونا فى الثلج إلى شعره ونحن قعود لا نأخذهم وحتى علموا أنهم كانوا صيدا للمسلمين لو يصطادونهم لكن فى تأخيرالله إصطيادهم حكمة عظيمة
____________________
(28/445)
وقال الله فى شأن الأحزاب { إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا }
وهكذا هذا العام جاء العدو من ناحيتى علو الشام وهو شمال الفرات وهو قبلى الفرات فزاغت الأبصار زيغا عظيما وبلغت القلوب الحناجر لعظم البلاء لا سيما لما إستفاض الخبر بإنصراف العسكر إلى مصر وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق وظن الناس بالله الظنونا هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام حتى يصطلموا أهل الشام وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم احاطة الهالة بالقمر وهذا يظن ان أرض الشام ما بقيت تسكن ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام وهذا يظن أنهم يأخذونها ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها وهذا إذا أحسن ظنه قال إنهم يملكونها العام كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم كما خرج ذلك العام وهذا ظن خيارهم وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية وأهل التحديث والمبشرات أمانى كاذبة وخرافات لاغية وهذا قد إستولى عليه الرعب والفزع حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل
____________________
(28/446)
يتفهم ولا لسان يتكلم
وهذا قد تعارضت عنده الأمارات وتقابلت عنده الإرادات لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب ولا يميز فى التحديث بين المخطئ والصائب ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية ولا يهتدى لدفع ما يتخيل أنه معارض لها فى بادىء الروية
فلذلك إستولت الحيرة على من كان متسما بالإهتداء وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } إبتلاهم الله بهذا الإبتلاء الذى يكفر به خطيئاتهم ويرفع به درجاتهم وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات ما إستوجبوا به أعلى الدرجات قال الله تعالى { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } وهكذا قالوا فى هذه الفتنة فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية والخلافة الرسالية وحزب الله المحدثون عنه حتى حصل لهؤلاء التأسي برسول الله كما قال الله تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }
فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم
____________________
(28/447)
وأما الذين فى قلوبهم مرض فقد تكرر ذكرهم فى هذه السورة فذكروا هنا وفى قوله { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة } وفى قوله { فيطمع الذي في قلبه مرض }
وذكر الله مرض القلب فى مواضع فقال تعالى { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم }
والمرض فى القلب كالمرض فى الجسد فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والإعتدال من غير موت فكذلك قد يكون فى القلب مرض يحيله عن الصحة والإعتدال من غير أن يموت القلب سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه أو أفسد عمله وحركته
وذلك كما فسروه هو من ضعف الإيمان إما بضعف علم القلب وإعتقاده وإما بضعف عمله وحركته فيدخل فيه من ضعف تصديقه ومن غلب عليه الجبن والفزع فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير
ذلك كلها أمراض وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التى فيه
وعلى هذا فقوله { فيطمع الذي في قلبه مرض } هو إرادة الفجور وشهوة الزنى كما فسروه به ومنه قول النبى
____________________
(28/448)
( وأى داء أدوأ من البخل ( وقد جعل الله تعالى كتابه شفاء لما فى الصدور وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إنما شفاء العى السؤال وكان يقول فى دعائه ( اللهم إنى اعوذ بك من منكرات الاخلاق والأهواء والأدواء (
ولن يخاف الرجل غير الله الا لمرض فى قلبه كما ذكروا ان رجلا شكا إلى احمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال لو صححت لم تخف احدا أي خوفك من اجل زوال الصحة من قلبك ولهذا اوجب الله على عباده ان لا يخافوا حزب الشيطان بل لا يخافون غيره تعالى فقال { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي يخوفكم اولياءه وقال لعموم بنى اسرائيل تنبيها لنا { وإياي فارهبون }
وقال { فلا تخشوا الناس واخشون } وقال { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني } وقال تعالى { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون } وقال { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله } وقال { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله }
____________________
(28/449)
ه ( وقال { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه } فدلت هذه الآية وهى قوله تعالى { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } على ان المرض والنفاق فى القلب يوجب الريب فى الأنباء الصادقة التى توجب امن الانسان من الخوف حتى يظنوا انها كانت غرورا لهم كما وقع فى حادثتنا هذه سواء ثم قال تعالى { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا } وكان النبى قد عسكر بالمسلمين عند سلع وجعل الخندق بينه وبين العدو فقالت طائفة منهم لا مقام لكم هنا لكثرة العدو فارجعوا الى المدينة وقيل لا مقام لكم على دين محمد فأرجعوا إلى دين الشرك وقيل لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم
وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال ما بقيت الدولة الاسلامية تقوم فينبغى الدخول فى دولة التتار وقال بعض الخاصة ما بقيت ارض الشام تسكن بل ننتقل عنها اما إلى الحجاز واليمن واماالى مصر وقال بعضهم بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء كما قد
____________________
(28/450)
استسلم لهم اهل العراق والدخول تحت حكمهم
فهذه المقالات الثلاث قد قيلت فى هذه النازلة كما قيلت فى تلك وهكذا قال طائفة من المنافقين والذين فى قلوبهم مرض لأهل دمشق خاصة والشام عامة لا مقام لكم بهذه الارض
ونفى المقام بها ابلغ من نفى المقام وان كانت قد قرئت بالضم ايضا فان من لم يقدر ان يقوم بالمكان فكيف يقيم به قال
الله تعالى { ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }
وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون والناس مع النبى عند سلع داخل الخندق والنساء والصبيان فى آطام المدينة يا رسول الله ان بيوتنا عورة أي مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل
واصل العورة الخالى الذى يحتاج إلى حفظ وستر يقال اعور مجلسك اذا ذهب سترة او سقط جدارة ومنه عورة العدو
وقال مجاهد والحسن اي ضائعة تخشى عليها السراق وقال قتادة قالوا بيوتنا مما يلى العدو فلا نأمن على اهلنا فائذن لنا ان
____________________
(28/451)
نذهب اليها لحفظ النساء والصبيان قال الله تعالى { وما هي بعورة } لأن الله يحفظها ( { إن يريدون إلا فرارا } فهم يقصدون الفرار من الجهاد ويحتجون بحجة العائلة
وهكذا اصاب كثيرا من الناس فى هذه الغزاة صاروا يفرون من الثغر الى المعاقل والحصون والى الأماكن البعيدة كمصر ويقولون ما مقصودنا الا حفظ العيال ومايمكن ارسالهم مع غيرنا وهم يكذبون فى ذلك فقد كان يمكنهم جعلهم فى حصن دمشق لودنا العدو كمافعل المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان يمكنهم ارسالهم والمقام للجهاد فكيف بمن فر بعد ارسال عياله قال الله تعالى { ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا } فأخبر انه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها ثم طلبت منهم الفتنة وهي الافتتان عن الدين بالكفر أوالنفاق لأعطوا الفتنة ولجاءوها من غير توقف
وهذه حال اقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الأسلام وتلك فتنة عظيمة لكانوا معه على ذلك كما ساعدهم فى العام الماضى اقوام بأنواع من الفتنة فى الدين والدنيا ما بين ترك واجبات وفعل محرمات إما في حق الله واما في حق العباد كترك الصلاة وشرب
____________________
(28/452)
الخمور وسب السلف وسب جنود المسلمين والتجسس لهم على المسلمين ودلالتهم على اموال المسلمين وحريمهم واخذ اموال الناس وتعذيبهم وتقوية دولتهم الملعونة وإرجاف قلوب المسلمين منهم إلى غير ذلك من انواع الفتنة ثم قال تعالى { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا } وهذه حال اقوام عاهدوا ثم نكثوا قديما وحديثا فى هذه الغزوة فان فى العام الماضى وفى هذا العام فى اول الامر كان من اصناف الناس من عاهد على ان يقاتل ولايفر ثم فر منهزما لما اشتد الامر
ثم قال الله تعالى { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا } فأخبر الله ان الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون ولذلك قال النبى ( اذا وقع بارض وانتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ( والفرار من القتل كالفرار من الجهاد وحرف ( لن ( ينفى الفعل فى الزمن المستقبل والفعل نكرة والنكرة فى سياق النفى تعم جميع افرادها فاقتضى ذلك ان الفرار من الموت اوالقتل ليس فيه منفعة ابدا وهذا خبر الله الصادق فمن اعتقد ان ذلك ينفعه فقد كذب الله فى خبره
____________________
(28/453)
والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن فان هؤلاء الذين فروا فى هذا العام لم ينفعهم فرارهم بل خسروا الدين والدنيا وتفاوتوا فى المصائب والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك فى الدين والدنيا حتى الموت الذى فروا منه كثر فيهم وقل في المقيمين فما منع الهرب من شاء الله والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم احد ولا قتل بل الموت قل فى البلد من حين خرج الفارون وهكذا سنة الله قديما وحديثا
ثم قال تعالى { وإذا لا تمتعون إلا قليلا } يقول لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة ثم تموتون فإن الموت لابد منه وقد حكى عن بعض الحمقى أنه قال فنحن نريد ذلك القليل وهذا جهل منه بمعنى الآية فإن الله لم يقل إنهم يمتعون بالفرار قليلا لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه ابدا ثم ذكر جوابا ثانيا أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل ثم ذكر جوابا ثالثا وهو أن الفار يأتيه ما قضى له من المضرة ويأتى الثابت ما قضى له من المسرة فقال { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا }
ونظيره قوله فى سياق آيات الجهاد { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } الآية وقوله { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير }
____________________
(28/454)
) فمضمون الأمر أن المنايا محتومة فكم ممن حضر الصفوف فسلم وكم ممن فر من المنية فصادفته كما قال خالد بن الوليد لما إحتضر لقد حضرت كذا وكذا صفا وإن ببدنى بضعا وثمانين ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم وهأنذا أموت على فراشى كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء
ثم قال تعالى { قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا } قال العلماء كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة فإذا جاءهم أحد قالوا له ويحك أجلس فلا تخرج ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر أن أئتونا بالمدينة فإنا ننتظركم يثبطونهم عن القتال وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدا فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة فإنصرف بعضهم من عند النبى فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ فقال أنت ها هنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف فقال هلم إلي فقد أحيط بك وبصاحبك
____________________
(28/455)
فوصف المثبطين عن الجهاد وهم صنفان بأنهم إما أن يكونوا فى بلد الغزاة أوفى غيره فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول او بالعمل او بهما وإن كانوا فى غيره راسلوهم او كاتبوهم بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة ليكونوا معهم بالحصون أو بالبعد كما جرى فى هذه الغزاة
فإن أقواما فى العسكر والمدينة وغيرهما صاروا يعوقون من أراد الغزو وأقواما بعثوا من المعاقل والحصون وغيرهاإلى إخوانهم هلم إلينا قال الله تعالى فيهم { ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم } أى بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة فى سبيل الله وقال مجاهد بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله أو شح عليهم بفضل الله من نصره ورزقه الذي يجريه بفعل غيره فإن أقواما يشحون بمعروفهم وأقواما يشحون بمعروف الله وفضله وهم الحساد
ثم قال تعالى { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت } من شدة الرعب الذى فى قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره ولا يطرف فكذلك هؤلاء لأنهم يخافون القتل
{ فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } ويقال فى اللغة
____________________
(28/456)
( صلقوكم ( وهو رفع الصوت بالكلام المؤذى ومنه ( الصالقة ( وهى التى ترفع صوتها بالمصيبة يقال صلقه وسلقه وقد قرأ طائفة من السلف بها لكنها خارجة عن المصحف إذا خاطبه خطابا شديدا قويا ويقال خطيب مسلاق إذا كان بليغا فى خطبته لكن الشدة هنا فى الشر لا فى الخير كما قال ( بألسنة حداد أشحة على الخير ) وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه
تارة يقول المنافقون للمؤمنين هذا الذى جرى علينا بشؤمكم فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين وقاتلتم عليه وخالفتموهم فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة
وتارة يقولون أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا وتارة يقولون أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو وقد غركم دينكم كما قال تعالى { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم }
وتارة يقولون أنتم مجانين لاعقل لكم تريدون أن تهلكوا
____________________
(28/457)
أنفسكم والناس معكم
وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذى الشديد وهم مع ذلك أشحة على الخير أى حراص على الغنيمة والمال الذى قد حصل لكم قال قتادة أن كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم يقولون أعطونا فلستم بأحق بها منا فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق وأما عند الغنيمة فأشح قوم وقيل أشحة على الخير أى بخلاء به لا ينفعون لا بنفوسهم ولا بأموالهم
وأصل الشح شدة الحرص الذى يتولد عنه البخل والظلم من منع الحق وأخذ الباطل كما قال النبى ( إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ( فهؤلاء أشحاء على إخوانهم أى بخلاء عليهم وأشحاء على الخير أى حراص عليه فلا ينفقونه كما قال { وإنه لحب الخير لشديد } ثم قال تعالى { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا } فوصفهم بثلاثة أوصاف
____________________
(28/458)
أحدها أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد وهذه حال الجبان الذى فى قلبه مرض فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف وتكذيب خبر الأمن
الوصف الثانى أن الأحزاب إذا جاؤوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم بل يكونون في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم إيش خبر المدينة وإيش جرى للناس والوصف الثالث أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس فى هذه الغزوة كما يعرفونه من أنفسهم ويعرفه منهم من خبرهم
ثم قال تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } فأخبر سبحانه أن الذين يبتلون بالعدو كما إبتلى رسول الله فلهم فيه أسوة حسنة حيث أصابهم مثل ما أصابه فليتأسوا به فى التوكل والصبر ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها وإهانة له فإنه لو كان كذلك ما إبتلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الخلائق بل بها ينال الدرجات العالية وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك
____________________
(28/459)
فيكون فى حقه عذابا كالكفار والمنافقين
ثم قال تعالى { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما } قال العلماء كان الله قد أنزل فى سورة البقرة ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) فبين الله سبحانه منكرا على من حسب خلاف ذلك أنهم لا يدخلون الجنة إلابعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم ب ( البأساء ( وهى الحاجة والفاقة و ( الضراء ( وهى الوجع والمرض و ( الزلزال ( وهى زلزلة العدو
فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم قالوا ( هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ) وعلموا أن الله قد إبتلاهم بالزلزال وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم وما زادهم إلا إيماناوتسليما لحكم الله وأمره وهذه حال أقوام فى هذه الغزوة قالوا ذلك
وكذلك قوله ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ) أى عهده الذى عاهد الله عليه فقاتل حتى قتل أو عاش و ( النحب ( النذر والعهد وأصله من النحيب وهو
____________________
(28/460)
الصوت ومنه الإنتحاب فى البكاء وهو الصوت الذى تكلم به فى العهد ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق فى اللقاء ومن صدق فى اللقاء فقد يقتل صار يفهم من قوله ( قضى نحبه ) أنه إستشهد لا سيما إذا كان النحب نذر الصدق فى جميع المواطن فإنه لا يقضيه إلا بالموت وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد كما قال تعالى { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه } أى أكمل الوفاء وذلك لمن كان عهده مطلقا بالموت أو القتل
{ ومنهم من ينتظر } قضاءه إذا كان قد وفى البعض فهو ينتظر تمام العهد وأصل القضاء الأتمام والأكمال
{ ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما } بين الله سبحانه أنه أتى بالأحزاب ليجزى الصادقين بصدقهم حيث صدقوا فى إيمانهم كما قال تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فحصر الإيمان فى المؤمنين المجاهدين وأخبر أنهم هم الصادقون فى قولهم آمنا لامن قال كما قالت الاعراب ( آمنا ) والإيمان لم يدخل فى قلوبهم بل انقادوا وإستسلموا وأما المنافقون فهم بين أمرين إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم فهذا حال الناس فى الخندق وفى هذه الغزاة
____________________
(28/461)
وأيضا فإن الله تعالى إبتلى الناس بهذه الفتنة ليجزى الصادقين بصدقهم وهم الثابتون الصابرون لينصروا الله ورسوله ويعذب المنافقين إن شاء او يتوب عليهم ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين فإن منهم من ندم والله سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها
وقد ذكر أهل المغازى منهم بن إسحاق أن النبى قال فى الخندق ( الآن نغزوهم ولا يغزونا ( فما غزت قريش ولا غطفان ولا اليهود المسلمين بعدها بل غزاهم المسلمون ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة كذلك إن شاء الله هؤلاء الأحزاب من المغل وأصناف الترك ومن الفرس والمستعربة والنصارى ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام الآن نغزوهم ولا يغزونا ويتوب الله على من يشاء من المسلمين الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق بأن ينيبوا إلى ربهم ويحسن ظنهم بالإسلام وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولى الأبصار كما قال { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا }
____________________
(28/462)
فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا ريح شديدة باردة وبما فرق به بين قلوبهم حتى شتت شملهم ولم ينالوا خيرا إذ كان همهم فتح المدينة والإستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة كما كان هم هذا العدو فتح الشام والإستيلاء على من بها من المسلمين فردهم الله بغيظهم حيث أصابهم من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم
وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التى وقعت فى هذا العام حتى طلبوا الإستصحاء غير مرة وكنا نقول لهم هذا فيه خيرة عظيمة وفيه لله حكمه وسر فلا تكرهوه فكان من حكمته أنه فيما قيل أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم وهو كان فيما قيل سبب رحيلهم وإبتلى به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضى حلب يوم الأثنين حادى عشر جمادى الأولى يوم دخلت مصر عقيب العسكر وإجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين وألقى الله فى قلوبهم من الإهتمام بالجهاد ما ألقاه فلما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو جزاء منه وبيانا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها وإن لم يقع الفعل وإن تباعدت الديار
____________________
(28/463)
وذكر إن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغل والكرج وألقى بينهم تباغضا وتعاديا كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود كما ذكر ذلك أهل المغازى فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق بل من طالعها علم صحة ذلك كما ذكره أهل المغازى مثل عروة بن الزبير والزهرى وموسى بن عقبة وسعيد بن يحيى الأموى ومحمد بن عائذ ومحمد بن إسحاق والواقدى وغيرهم
ثم تبقى بالشام منهم بقايا سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم مضافا إلى عسكر حماة وحلب وما هنالك وثبت المسلمون بإزائهم وكانوا أكثر من المسلمين بكثير لكن فى ضعف شديد وتقربوا إلى حماة وأذلهم الله تعالى فلم يقدموا على المسلمين قط وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم فلم يوافقه غيره فجرت مناوشات صغار كما جرى فى غزوة الخندق حيث قتل على بن أبى طالب رضى الله عنه فيها عمرو بن عبد ود العامرى لما إقتحم الخندق هو ونفر قليل من المشركين
كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم وساق المسلمون خلفهم فى آخر
____________________
(28/464)
النوبات فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات وبعضهم فى جزيرة فيها فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم وخالطوهم وأصاب المسلمون بعضهم وقيل إنه غرق بعضهم
وكان عبورهم وخلو الشام منهم فى أوائل رجب بعد أن جرى ما بين عبور قازان أولا وهذا العبور رجفات ووقعات صغار وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة لاجل الغزاة لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا وثبت بإزائهم المقدم الذى بحماة ومن معهم من العسكر ومن أتاه من دمشق وعزموا على لقائهم ونالوا أجرا عظيما وقد قيل إنهم كانوا عدة كمانات إما ثلاثة أو أربعة فكان من المقدر أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقى فى قلوب عدوهم الرعب فيهربون لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل ( تيزين ( والفوعة ومعرة مصرين ( وغيرها مالم يكونوا وطئوه فى العام الماضى
وقيل إن كثيرا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم بسبب الرفض وأن عند بعضهم فرامين منهم لكن هؤلاء ظلمة ومن أعان ظالما بلى به والله تعالى يقول { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون }
وقد ظاهروهم على المسلمين الذين كفروا من أهل الكتاب من
____________________
(28/465)
أهل ( سيس ( والأفرنج فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهى الحصون ويقال للقرون الصياصى ويقذف فى قلوبهم الرعب وقد فتح الله تلك البلاد ونغزوهم إن شاء الله تعالى فنفتح أرض العراق وغيرها وتعلو كلمة الله ويظهر دينه فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس وخرجت عن سنن العادة وظهر لكل ذى عقل من تأييد الله لهذا الدين وعنايته بهذه الأمة وحفظه للأرض التى بارك فيها للعالمين بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم وكر العدو كرة فلم يلو عن وخذل الناصرون فلم يلووا على وتحير السائرون فلم يدروا من ولا إلى وإنقطعت الأسباب الظاهرة وأهطعت الأحزاب القاهرة وإنصرفت الفئة الناصرة وتخاذلت القلوب المتناصرة وثبتت الفئة الناصرة وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة وإستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة وأظهر على الحق آياته الباهرة وأقام عمود الكتاب بعد ميله وثبت لواء الدين بقوته وحوله وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق
فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة وأساسا
____________________
(28/466)
لإقامة الدعوة النبوية القويمة ويشفى صدور المؤمنين من أعاديهم ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
قال الشيخ رحمه الله كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده لما رجعت من مصر فى جمادى الآخرة وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد ثم لما بقيت تلك الطائفة إشتغلنا بالإهتمام بجهادهم وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة وتحريض الأمراء على ذلك حتى جاءنا الخبر بإنصراف المتبقين منهم فكتبته فى رجب والله أعلم والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
____________________
(28/467)
وسئل شيخ الإسلام تقى الدين
عمن يزعمون إنهم يؤمنون بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعتقدون أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هوعلى بن أبى طالب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على إمامته وإن الصحابة ظلموه ومنعوه حقه وإنهم كفروا بذلك فهل يجب قتالهم ويكفرون بهذا الإعتقاد أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعه من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله
فلو قالوا نصلى ولا نزكى أو نصلى الخمس ولا نصلى الجمعة ولا الجماعة أو نقوم بمبانى الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم أو لا نترك الربا ولاالخمر ولا الميسر أو نتبع القرأن ولا نتبع رسول الله ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه أو نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة
____________________
(28/468)
أو قالوا إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله وسنته وما عليه جماعة المسلمين فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها كما جاهد المسلمون ما نعى الزكاة وجاهدوا الخوارج وأصنافهم وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام
وذلك لأن الله تعالى يقول فى كتابه { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } فاذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله وقال تعالى { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } فلم يأمر بتخلية سبيلهم الا بعد التوبة من جميع انواع الكفر وبعد اقام الصلاة وايتاء الزكاة وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فقد اخبر تعالى ان الطائفة الممتنعة اذا لم تنته عن الربا فقد حاربت الله ورسوله والربا آخر ما حرم الله فى القرآن فما حرمه قبله اوكد وقال تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض }
____________________
(28/469)
فكل من امتنع من اهل الشوكة عن الدخول فى طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ومن عمل فى الارض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى فى الأرض فسادا ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى اهل القبلة حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد اخذ الاموال وجعلوهم بأخذ اموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين فى الارض فسادا وان كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه ويقرون بالايمان بالله ورسوله
فالذى يعتقد حل دماء المسلمين واموالهم ويستحل قتالهم اولى بأن يكون محاربا لله ورسوله ساعيا فى الارض فسادا من هؤلاء كما ان الكافر الحربي الذى يستحل دماء المسلمين واموالهم ويرى جواز قتالهم اولى بالمحاربة من الفاسق الذي يعتقد تحريم ذلك وكذلك المبتدع الذى خرج عن بعض شريعة رسول الله وسنته واستحل دماء المسلمين المتمسكين بسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته واموالهم هو اولى بالمحاربة من الفاسق وان اتخذ ذلك دينا يتقرب به إلى الله كما ان اليهود والنصارى تتخذ محاربة المسلمين دينا تتقرب به إلى الله
ولهذا إتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التى يعتقد أصحابها أنها ذنوب وبذلك مضت سنة رسول الله صلى الله
____________________
(28/470)
عليه وسلم حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم والصلاة خلفهم مع ذنوبهم وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته وأخبر عن ذى الخويصرة وأصحابه مع عبادتهم وورعهم أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وقد قال تعالى فى كتابه { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لايؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله فى جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا وحتى لا يبقى فى قلوبهم حرج من حكمه ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة
وبذلك جاءت سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال ( لما توفى رسول الله وإرتد من إرتد من العرب قال عمر بن الخطاب لأبى بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم
____________________
(28/471)
وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها فإن الزكاة من حقها والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها فقال عمر فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعلمت أنه الحق ( فإتفق أصحاب رسول الله على قتال أقوام يصلون ويصومون إذا إمتنعوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم من زكاة أموالهم
وهذا الإستنباط من صديق الأمة قد جاء مصرحا به ففى الصحيحين ( عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ( فأخبر أنه أمر بقتالهم حتى يؤدوا هذه الواجبات
وهذا مطابق لكتاب الله وقد تواتر عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيره وأخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه ذكرها مسلم فى صحيحه وأخرج منها البخارى غير وجه وقال الإمام أحمد رحمه الله صح الحديث فى الخوارج من عشرة أوجه قال ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه
____________________
(28/472)
مع صيامهم وقرائته مع قرائتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل ( وفى رواية ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ( وفى رواية ( شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه (
وهؤلاء أول من قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب ومن معه من أصحاب رسول الله قاتلهم بحرورى لما خرجوا عن السنة والجماعة وإستحلوا دماء المسلمين وأموالهم فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب وأغاروا على ماشية المسلمين فقام أمير المؤمنين على بن أبى طالب وخطب الناس وذكر الحديث وذكر أنهم قتلوا وأخذوا الأموال فإستحل قتالهم وفرح بقتلهم فرحا عظيما ولم يفعل فى خلافته أمرا عاما كان أعظم عنده من قتال الخوارج وهم كانوا يكفرون جمهور المسلمين حتى كفروا عثمان وعليا وكانوا يعملون بالقرآن فى زعمهم ولا يتبعون سنة رسول صلى الله عليه وسلم التى يظنون أنها تخالف القرآن كما يفعله سائر أهل البدع مع كثرة عبادتهم وورعهم
وقد ثبت عن على فى صحيح البخارى وغيره من نحو ثمانين وجها أنه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وثبت عنه
____________________
(28/473)
أنه حرق غالية الرافضة الذين إعتقدوا فيه الإلهية وروى عنه بأسانيد جيدة أنه قال لا أوتى بأحد يفضلنى على ابى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى وعنه أنه طلب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه
وعمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر برجل فضله على أبى بكر أن يجلد لذلك وقال عمر رضى الله عنه لصبيغ بن عسل لما ظن أنه من الخوارج لو وجدتك محلوقا لضربت الذى فيه عيناك
فهذه سنة أمير المؤمنين على وغيره قد أمر بعقوبة الشيعة الأصناف الثلاثة وأخفهم المفضلة فأمر هو وعمر بجلدهم والغالية يقتلون بإتفاق المسلمين وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة فى على وغيره مثل النصيرية والإسماعيلية الذين يقال لهم بيت صاد وبيت سين ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع أو ينكرون القيامة أو ينكرون ظواهر الشريعة مثل الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم وكتمان أسرارهم وزيارة شيوخهم ويرون أن الخمر حلال لهم ونكاح ذوات المحارم حلال لهم
فإن جميع هؤلاء الكفار اكفر من اليهود والنصارى فإن لم يظهر عن أحدهم
____________________
(28/474)
ذلك كان من المنافقين الذين هم فى الدرك الأسفل من النار ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرا فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة ولا يحل نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم لأنهم مرتدون من شر المرتدين فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب وإذا كانوا فى قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة والزموا بشرائع الإسلام التى تجب على المسلمين
وليس هذا مختصا بغالية الرافضة بل من غلا فى أحد من المشايخ وقال أنه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة أو أن شيخة أفضل من النبى أو أنه مستغن عن شريعة النبى وأن له إلى الله طريقا غير شريعة النبى أو أن أحدا من المشايخ يكون مع النبى كما كان الخضر مع موسى
وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين وقتل الواحد المقدور عليه منهم
وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة فقد روى عنهما اعنى عمر وعلى قتلهما ايضا والفقهاء وان تنازعوا فى قتل الواحد
____________________
(28/475)
المقدور عليه من هؤلاء فلم يتنازعوا فى وجوب قتالهم اذا كانوا ممتنعين فان القتال اوسع من القتل كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة وان كان احدهم اذا قدر عليه لم يعاقب الا بما امر الله ورسوله به
وهذه النصوص المتواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الخوارج قد ادخل فيها العلماء لفظا او معنى من كان في معناهم من اهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية مثل الخرمية والقرامطة والنصيرية وكل من اعتقد فى بشر انه اله أو فى غير الانبياء انه نبى وقاتل على ذلك المسلمين فهو شر من الخوارج الحرورية
والنبى انما ذكر الخوارج الحرورية لانهم اول صنف من اهل البدع خرجوا بعده بل اولهم خرج في حياته فذكرهم لقربهم من زمانه كما خص الله ورسوله اشياء بالذكر لوقوعها فى ذلك الزمان مثل قوله { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } وقوله { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ونحو ذلك ومثل تعيين النبى قبائل من الانصار وتخصيصه اسلم وغفار وجهينة وتميما وأسدا وغطفان وغيرهم باحكام لمعان قامت بهم وكل من وجدت فيه تلك المعانى الحق بهم لان
____________________
(28/476)
التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم بل لحاجة المخاطبين اذ ذاك إلى تعيينهم هذا اذا لم تكن الفاظه شاملة لهم
وهؤلاء الرافضة ان لم يكونوا شرا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم فان اولئك انما كفروا عثمان وعليا واتباع عثمان وعلي فقط دون من قعد عن القتال او مات قبل ذلك
والرافضة كفرت ابا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه وكفروا جماهير امة محمد من المتقدمين والمتاخرين
فيكفرون كل من اعتقد فى ابى بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة او ترضى عنهم كما رضى الله عنهم او يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم ولهذا يكفرون اعلام الملة مثل سعيد بن المسيب وابى مسلم الخولانى وأويس القرنى وعطاء بن ابى رباح وابراهيم النخعى ومثل مالك والأوزاعى وابى حنيفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والثورى والشافعى واحمد بن حنبل وفضيل بن عياض وأبى سليمان الدارانى ومعروف الكرخى والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التسترى وغير هؤلاء ويستحلون دماء من خرج عنهم ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك
____________________
(28/477)
وكما تسميه المعتزلة مذهب الحشو والعامة واهل الحديث ويرون فى اهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الأسلام انه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم وأن المائعات التى عندهم من المياة والأدهان وغيرها نجسة ويرون ان كفرهم اغلظ من كفر اليهود والنصارى لأن أولئك عندهم كفار أصليون وهؤلاء مرتدون وكفرالردة أغلظ بالاجماع من الكفر الأصلى
ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين فيعاونون التتار على الجمهور وهم كانوا من أعظم الأسباب فى خروج جنكزخان ملك الكفار إلى بلاد الإسلام وفى قدوم هولاكو إلى بلاد العراق وفى اخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم
وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر فى النوبة الأولى وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والافرنج على المسلمين والكآبة الشديدة بانتصار الاسلام ما ظهر وكذلك لما فتح المسلمون الساحل عكة وغيرها ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم وكل هذا الذى وصفت بعض امورهم وإلا فالأمر أعظم من ذلك
____________________
(28/478)
وقد اتفق أهل العلم بالأحوال ان اعظم السيوف التى سلت على أهل القبلة ممن ينتسب اليها وأعظم الفساد الذى جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة انما هو من الطوائف المنتسبة اليهم
فهم أشد ضررا على الدين وأهله وأبعد عن شرائع الاسلام من الخوارج الحرورية ولهذا كانوا اكذب فرق الامة فليس فى الطوائف المنتسبة إلى القبلة اكثر كذبا ولا اكثر تصديقا للكذب وتكذيبا للصدق منهم وسيما النفاق فيهم اظهر منه فى سائر الناس وهى التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم ( آية المنافق ثلاث اذا حدث كذب واذا وعد اخلف واذا اؤتمن خان ) وفى رواية ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها اذا حدث كذب واذا وعد اخلف واذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ) وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال ولهذا يستعملون التقية التى هي سيما المنافقين واليهود ويستعملونها مع المسلمين { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } ويحلفون ما قالوا وقد قالوا { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه }
وقد أشبهوا اليهود فى أمور كثيرة لا سيما السامرة من اليهود فإنهم أشبه بهم من سائر الأصناف يشبهونهم فى دعوى الإمامة فى
____________________
(28/479)
شخص أو بطن بعينه والتكذيب لكل من جاء بحق غيره يدعونه وفى إتباع الأهواء أو تحريف الكلم عن مواضعه وتأخيرالفطر وصلاة المغرب وغير ذلك وتحريم ذبائح غيرهم
ويشبهون النصارى فى الغلو فى البشر والعبادات المبتدعة وفى الشرك وغير ذلك
وهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين وهذه شيم المنافقين قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وقال تعالى { ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون } وليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة وهم لا يصلون جمعة ولا جماعة والخوارج كانوا يصلون جمعة وجماعة وهم لا يرون جهاد الكفار مع أئمة المسلمين ولا الصلاة خلفهم ولا طاعتهم فى طاعة الله ولا تنفيذ شيء من أحكامهم لإعتقادهم [ أن ذلك ] لا يسوغ إلا خلف إمام معصوم ويرون أن المعصوم قد دخل فى السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة وهو إلى الآن لم يخرج ولا رآه أحد ولا علم أحدا دينا ولا
____________________
(28/480)
حصل به فائدة بل مضرة ومع هذا فالإيمان عندهم لا يصح إلا به ولا يكون مؤمنا إلا من آمن به ولا يدخل الجنة إلا أتباعه مثل هؤلاء الجهال الضلال من سكان الجبال والبوادى أو من إستحوذ عليهم بالباطل مثل إبن العود ونحوه ممن قد كتب خطه مما ذكرناه من المخازى عنهم وصرح بما ذكرناه عنهم وبأكثر منه
وهم مع هذا الأمر يكفرون كل من آمن بأسماء الله وصفاته التى فى الكتاب والسنة وكل من آمن بقدر الله وقضائه فآمن بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وأنه خالق كل شيء
وأكثر محققيهم عندهم يرون أن أبا بكر وعمر وأكثر المهاجرين والأنصار وأزواج النبى مثل عائشة وحفصة وسائر أئمة المسلمين وعامتهم ما آمنوا بالله طرفة عين قط لأن الإيمان الذى يتعقبه الكفر عندهم يكون باطلا من أصله كما يقوله بعض علماء السنة ومنهم من يرى أن فرج النبى الذى جامع به عائشة وحفصة لابد أن تمسه النار ليطهر بذلك من وطىء الكوافر على زعمهم لأن وطء الكوافر حرام عندهم
ومع هذا يردون أحاديث رسول الله الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم مثل أحاديث البخارى ومسلم ويرون أن شعر شعراء الرافضة مثل الحميرى وكوشيار الديلمى وعمارة اليمنى خيرا
____________________
(28/481)
من أحاديث البخارى ومسلم وقد رأينا فى كتبهم من الكذب والإفتراء على النبى وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب فى كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل
وهم مع هذا يعطلون المساجد التى أمر الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه فلا يقيمون فيها جمعة ولا جماعة ويبنون على القبور المكذوبة وغير المكذوبة مساجد يتخذونها مشاهد وقد لعن رسول الله من إتخذ المساجد على القبور ونهى أمته عن ذلك وقال قبل أن يموت بخمس ( ان من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فأنى أنهاكم عن ذلك ( ويرون أن حج هذه المشاهد المكذوبة وغير المكذوبة من أعظم العبادات حتى أن من مشائخهم من يفضلها على حج البيت الذى أمر الله به ورسوله ووصف حالهم يطول
فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء وأحق بالقتال من الخوارج وهذا هو السبب فيما شاع فى العرف العام أن أهل البدع هم الرافضة فالعامة شاع عندها أن ضد السنى هو الرافضى فقط لأنهم أظهر معاندة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء
____________________
(28/482)
وأيضا فالخوارج كانوا يتبعون القرآن بمقتضى فهمهم وهؤلاء إنما يتبعون الإمام المعصوم عندهم الذى لا وجود له فمستند الخوارج خير من مستندهم
وأيضا فالخوارج لم يكن منهم زنديق ولا غال وهؤلاء فيهم من الزنادقة والغالية من لا يحصية إلا الله وقد ذكر اهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصرانى الذى كان يهوديا فى إفساد دين النصارى
وأيضا فغالب أئمتهم زنادقة إنما يظهرون الرفض لأنه طريق إلى هدم الإسلام كما فعلته أئمة الملاحدة الذين خرجوا بأرض أذربيجان فى زمن المعتصم مع بابك الخرمى وكانوا يسمون ( الخرمية ( و ( المحمرة ) ( والقرامطة الباطنية ( الذين خرجوا بأرض العراق وغيرها بعد ذلك وأخذوا الحجر الأسود وبقى معهم مدة كأبى سعيد الجنابى وأتباعه والذين خرجوا بأرض المغرب ثم جاوزوا إلى مصر وبنوا القاهرة وادعوا أنهم فاطميون مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريئون من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نسبهم متصل بالمجوس واليهود واتفاق أهل العلم بدين رسول الله أنهم أبعد عن دينه من اليهود والنصارى بل الغالية الذين يعتقدون
____________________
(28/483)
إلهية علي والأئمة ومن اتباع هؤلاء الملاحدة أهل دور الدعوة الذين كانوا بخراسان والشام واليمن وغير ذلك
وهؤلاء من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان بالمؤازرة والولاية وغير ذلك لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى ولهذا كان ملك الكفار ( هولاكو ( يقرر أصنامهم
وأيضا فالخوارج كانوا من أصدق الناس وأوفاهم بالعهد وهؤلاء من أكذب الناس وأنقضهم للعهد
وأما ذكر المستفتى أنهم يؤمنون بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهذا عين الكذب بل كفروا مما جاء به بما لا يحصيه الا الله فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه وتارة يكذبون بمعانى التنزيل وما ذكرناه وما لم نذكره من مخازيهم يعلم كل احد أنه مخالف لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم
فان الله قد ذكر فى كتابه من الثناء على الصحابة والرضوان عليهم والاستغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته وذكر فى كتابه من الامر بالجمعة والامر بالجهاد وبطاعة أولى الامر ما هم خارجون عنه وذكر فى كتابه من موالاة المؤمنين وموادتهم ومؤاخاتهم والاصلاح بينهم ما هم عنه خارجون وذكر فى كتابه من النهى عن موالاة الكفار وموادتهم ما هم خارجون
____________________
(28/484)
عنه وذكر فى كتابه من تحريم دماء المسلمين واموالهم وأعراضهم وتحريم الغيبة والهمز واللمز ما هم أعظم الناس استحلالا له وذكر فى كتابه من الامر بالجماعة والائتلاف والنهى عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه وذكر فى كتابه من طاعة رسول الله ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه وذكر في كتابه من حقوق أزواجه ما هم برآء منه وذكر فى كتابه من توحيده واخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه فانهم مشركون كما جاء فيهم الحديث لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التى اتخذت أوثانا من دون الله وهذا باب يطول وصفه
وقد ذكر فى كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به وذكر فى كتابه من قصص الأنبياء والنهى عن الاستغفار للمشركين ما هم كافرون به وذكر فى كتابه من أنه على كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء وأنه ما شاء الله لا قوة الا بالله ما هم كافرون به ولا تحتمل الفتوى الا الاشاره المختصرة
ومعلوم قطعا ان ايمان الخوارج بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ايمانهم فاذا كان أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه قد قتلهم ونهب عسكره ما فى عسكرهم من الكراع والسلاح والأموال فهؤلاء أولى أن يقاتلوا وتؤخذ أموالهم كما أخذ أمير المؤمنين علي بن
____________________
(28/485)
أبى طالب أموال الخوارج
ومن إعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويل سائغ كقتال أمير المؤمنين على بن أبى طالب لأهل الجمل وصفين فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام وتخصيصه هؤلاء الخارجين عنها
فإن هؤلاء لو ساسوا البلاد التى يغلبون عليها بشريعة الإسلام كانوا ملوكا كسائر الملوك وإنما هم خارجون عن نفس شريعة رسول الله وسنته شرا من خروج الخوارج الحرورية وليس لهم تأويل سائغ فإن التأويل السائغ هوالجائز الذى يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب كتأويل العلماء المتنازعين فى موارد الإجتهاد وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع ولكن لهم تأويل من جنس تأويل مانعى الزكاة والخوارج واليهود والنصارى وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء
ولكن هؤلاء المتفقهة لم يجدوا تحقيق هذه المسائل فى مختصراتهم
وكثير من الأئمة المصنفين فى الشريعة لم يذكروا فى مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول الشريعة الإعتقادية والعملية كما نعى الزكاة والخوارج ونحوهم إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام كأهل
____________________
(28/486)
الجمل وصفين وهذا غلط بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فرق بين الصنفين كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه والسنة والحديث والتصوف والكلام وغيرهم
وأيضا فقد جاءت النصوص عن النبى بما يشملهم وغيرهم مثل ما رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال قال رسول صلى الله عليه وسلم الله ( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية فليس منى ومن خرج على أمتى يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذى عهدها فليس منى ( فقد ذكر صلى الله عليه وسلم البغاة الخارجين عن طاعة السلطان وعن جماعة المسلمين وذكر أن أحدهم إذا مات مات ميتة جاهلية فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة بل كل طائفة تغالب الأخرى ثم ذكر قتال أهل العصبية كالذين يقاتلون على الأنساب مثل قيس ويمن وذكر أن من قتل تحت هذه الرايات فليس من أمته ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم وذكر أن من فعل هذا فليس منه
وهؤلاء جمعوا هذه الثلاثة الأوصاف وزادوا عليها فإنهم خارجون عن الطاعة والجماعة يقتلون المؤمن والمعاهد لايرون لأحد من ولاة
____________________
(28/487)
المسلمين طاعة سواء كان عدلا أو فاسقا إلا لمن لا وجود له وهم يقاتلون لعصبية شر من عصبية ذوى الأنساب وهى العصبية للدين الفاسد فإن فى قلوبهم من الغل والغيظ على كبار المسلمين وصغارهم وصالحيهم وغير صالحيهم ما ليس فى قلب أحد وأعظم عبادتهم عندهم لعن المسلمين من أولياء الله مستقدمهم ومستأخرهم وأمثلهم عندهم الذى لايلعن ولا يستغفر
وأما خروجهم يقتلون المؤمن والمعاهد فهذا أيضا حالهم مع دعواهم أنهم هم المؤمنون وسائرالأمة كفار وروى مسلم فى صحيحه عن محمد بن شريح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ستكون هنأة وهنأة فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فأضربوه بالسيف كائنا من كان ( وفى لفظ فأقتلوه وفى لفظ ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فأقتلوه )
وهؤلاء أشد الناس حرصا على تفريق جماعة المسلمين فإنهم لا يقرون لولى أمر بطاعة سواء كان عدلا أو فاسقا ولا يطيعونه لا فى طاعة ولا فى غيرها بل أعظم أصولهم عندهم التكفير واللعن والسب لخيار ولاة الأمور كالخلفاء الراشدين والعلماء المسلمين ومشائخهم لإعتقادهم أن كل من لم يؤمن بالإمام المعصوم الذى لا وجود له فما آمن
____________________
(28/488)
بالله ورسوله
وإنما كان هؤلاء شرا من الخوارج الحرورية وغيرهم من أهل الأهواء لإشتمال مذاهبهم على شر مما إشتملت عليه مذاهب الخوارج وذلك لأن الخوارج الحرورية كانوا أول أهل الأهواء خروجا عن السنة والجماعة مع وجود بقية الخلفاء الراشدين وبقايا المهاجرين والأنصار وظهور العلم والإيمان والعدل فى الأمة وإشراق نور النبوة وسلطان الحجة وسلطان القدرة حيث أظهر الله دينه على الدين كله بالحجة والقدرة
وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلى ومن معهما من الأنواع التى فيها تأويل فلم يحتملوا ذلك وجعلوا موارد الإجتهاد بل الحسنات ذنوبا وجعلوا الذنوب كفرا ولهذا لم يخرجوا فى زمن أبى بكر وعمر لإنتفاء تلك التأويلات وضعفهم
ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية والمستأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبى كانت أفضل فالسنن ضد البدع فكل ما قرب منه مثل سيرة أبى بكر وعمر كان أفضل مما
____________________
(28/489)
تأخر كسيرة عثمان وعلى والبدع بالضد كل ما بعد عنه كان شرا مما قرب منه وأقربها من زمنه الخوارج فإن التكلم ببدعتهم ظهر فى زمانه ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا فى خلافة أمير المؤمنين على رضى الله عنه
ثم ظهر فى زمن على التكلم بالرفض لكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين رضى الله عنه بل لم يظهر إسم الرفض إلا حين خروج زيد بن على بن الحسين بعد المائة الأولى لما أظهر الترحم على أبى بكر وعمر رضى الله عنهما رفضته الرافضة فسموا ( رافضة ( وإعتقدوا أن أبا جعفر هوالإمام المعصوم واتبعه آخرون فسموا ( زيدية ( نسبة إليه
ثم فى أواخر عصر الصحابة نبغ التكلم ببدعة القدرية والمرجئة فردها بقايا الصحابة كإبن عمر وإبن عباس وجابر بن عبد الله وأبى سعيد وواثلة بن الأسقع وغيرهم ولم يصر لهم سلطان وإجتماع حتى كثرت المعتزلة والمرجئة بعد ذلك
ثم فى أواخر عصر التابعين ظهر التكلم ببدعة الجهمية نفاة الصفات ولم يكن لهم إجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية فى إمارة أبى العباس الملقب بالمأمون فإنه أظهر التجهم وإمتحن الناس عليه وعرب كتب
____________________
(28/490)
الأعاجم من الروم واليونانيين وغيرهم وفى زمنه ظهرت ( الخرمية ( وهم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام وتفرعوا بعد ذلك إلى القرامطة والباطنية والإسماعيلية وأكثر هؤلاء ينتحلون الرفض فى الظاهر وصارت الرافضة الإمامية فى زمن بنى بويه بعد المائة الثالثة فيهم عامة هذه الأهواء المضلة فيهم الخروج والرفض والقدر والتجهم
وإذا تأمل العالم ما ناقضوه من نصوص الكتاب والسنة لم يجد أحدا يحصيه إلا الله فهذا كله يبين أن فيهم ما فى الخوارج الحرورية وزيادات
وأيضا فإن الخوارج الحرورية كانوا ينتحلون إتباع القرآن بآرائهم ويدعون إتباع السنن التى يزعمون أنها تخالف القرآن والرافضة تنتحل إتباع أهل البيت وتزعم أن فيهم المعصوم الذى لا يخفى عليه شيء من العلم ولا يخطئ لا عمدا ولا سهوا ولا رشدا وإتباع القرآن واجب على الأمة بل هو أصل الإيمان وهدى الله الذى بعث به رسوله
وكذلك أهل بيت رسول الله تجب محبتهم وموالاتهم ورعاية حقهم وهذان الثقلان اللذان وصى بهما رسول الله فروى مسلم فى صحيحه عن زيد بن أرقم قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال ( يا أيها الناس انى تارك فيكم الثقلين ( وفى رواية أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله فيه الهدى
____________________
(28/491)
والنور ( فرغب فى كتاب الله وفى رواية ( هو حبل الله من أتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة وعترتى أهل بيتى أذكركم الله فى أهل بيتى أذكركم الله فى أهل بيتى أذكركم الله فى أهل بيتى ( فقيل لزيد بن أرقم من أهل بيته قال أهل بيته من حرم الصدقة آل العباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل
والنصوص الدالة على إتباع القرآن أعظم من أن تذكر هنا وقد روى عن النبى من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته ( والذى نفسى بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلى ( وقد أمرنا الله بالصلاة على آل محمد وطهرهم من الصدقة التى هي أوساخ الناس وجعل لهم حقا فى الخمس والفيء وقال فيما ثبت فى الصحيح ( أن الله إصطفى بنى إسماعيل وإصطفى كنانة من بنى إسماعيل وإصطفى قريشا من كنانة واصطفى بنى هاشم من قريش وإصطفانى من بنى هاشم فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا ( ولو ذكرنا ما روى فى حقوق القرابة وحقوق الصحابة لطال الخطاب فإن دلائل هذا كثيرة من الكتاب والسنة
ولهذا إتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة وتبرؤا من الناصبة الذين يكفرون على بن أبى طالب ويفسقونه
____________________
(28/492)
ويتنقصون بحرمة أهل البيت مثل من كان يعاديهم على الملك أو يعرض عن حقوقهم الواجبة أو يغلو فى تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق وتبرؤا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين ويكفرون عامة صالحى أهل القبلة وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنبا وضلالا من أولئك كما ذكرنا من أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج وكل من الطائفتين إنتحلت إحدى الثقلين لكن القرآن أعظم
فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالا من الروافض مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ومخالفة لصحابته وقرابته ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين ولعترته أهل بيته
وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم فى إجماع الخلفاء وفى إجماع العترة هل هو حجة يجب إتباعها والصحيح أن كلاهما حجة فإن النبى قال ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ( وهذا حديث صحيح فى السنن وقال صلى الله عليه وسلم ( أنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتى وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ( رواه الترمذى وحسنه وفيه نظر وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية فى زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة
____________________
(28/493)
والمقصود هنا أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم هم شر من الخوارج الذين نص النبى صلى الله عليه وسلم على قتالهم ورغب فيه وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم شمل الجميع ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى أو من باب كونهم فى معناهم فإن الحديث روى بألفاظ متنوعة ففى الصحيحين واللفظ للبخارى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال إذا حدثتكم عن رسول الله حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بينى وبينكم فإن الحرب خدعة وانى سمعت رسول الله يقول ( سيخرج قوم فى آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ( وفى صحيح مسلم ( عن زيد بن وهب أنه كان فى الجيش الذين كانوا مع على رضى الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج فقال على يا أيها الناس إنى سمعت رسول الله يقول ( يخرج قوم من أمتى يقرؤون القرآن ليس قرائتكم إلى قرائتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم
____________________
(28/494)
لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدى عليه شعرات بيض ( والله أنى لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا فى سرح الناس فسيروا على إسم الله وذكر الحديث إلى آخره
وفى مسلم أيضا ( عن عبد الله بن رافع كاتب على رضى الله عنه أن الحرورية لما خرجت وهو مع على قالوا لا حكم إلا لله فقال على كلمة حق أريد بها باطل أن رسول الله وصف ناسا أنى لأعرف صفتهم فى هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم وأشار إلى حلقه من ابغض خلق الله إليه منهم رجل أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي فلما قتلهم على بن طالب قال أنظروا فنظروا فلم يجدوا شيئا فقال أرجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا ثم وجدوه فى خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه (
وهذه العلامة التى ذكرها النبى هي علامة أول من يخرج منهم ليسوا مخصوصين بأولئك القوم فإنه قد أخبر
____________________
(28/495)
فى غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال وقد إتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر
وأيضا فالصفات التي وصفها تعم غير ذلك العسكر ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا مثل ما فى الصحيحين عن أبى سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية هل سمعت رسول الله يذكرها قال لا أدري ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( يخرج فى هذه الأمة ولم يقل منها قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو حلوقهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى فى الفوقة هل علق بها شيء من الدم اللفظ لمسلم وفى الصحيحين أيضا عن أبى سعيد قال بينما النبى يقسم جاء عبد الله ذو الخويصرة التميمي وفى رواية أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم فقال أعدل يارسول الله فقال ( ويلك من يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت أن لم أكن أعدل ( قال عمر بن الخطاب إئذن لى فأضرب عنقه قال ( دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء
____________________
(28/496)
ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذة فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم ( وذكر ما فى الحديث
فهؤلاء أصل ضلالهم إعتقادهم فى أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا ثم يرتبون على الكفر أحكاما إبتدعوها
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم فى كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية وفى الصحيحين فى حديث أبى سعيد ( يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ( وهذا 1 نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لإعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين لأن المرتد شر من غيره وفى حديث أبى سعيد أن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون فى أمته ( يخرجون فى فرقة من الناس سيماهم التحليق قال هم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ( وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية لأن هذا وصف لازم لهم
____________________
(28/497)
وأخرجا فى الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى ورواه البخارى من حديث عبد الله بن عمر ورواه مسلم من حديث أبى ذر ورافع بن عمرو وجابر بن عبد الله وغيرهم وروى النسائى عن أبى برزة أنه قيل له هل سمعت رسول الله يذكر الخوارج قال نعم سمعت رسول الله بأذنى ورأيته بعينى أن رسول الله أتى بمال فقسمه فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله ولم يعط من وراءه شيئا فقام رجل من ورائه فقال يا محمد ما عدلت فى القسمة رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان فغضب رسول الله غضبا شديدا وقال له ( والله لا تجدون بعدى رجلا هو أعدل منى ( ثم قال ( يخرج فى آخر الزمان قوم كأن هذا منهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لايزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال فإذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق والخليقة ( وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت عن أبى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن بعدى من أمتى أو سيكون بعدى من أمتى قوم يقرؤون القرآن لايجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة ( قال إبن الصامت فلقيت
____________________
(28/498)
رافع بن عمرو الغفارى أخا الحكم بن عمرو الغفارى قلت ما حديث سمعته من أبى ذر كذا وكذا فذكرت له الحديث فقال وأنا سمعته من رسول الله (
فهذه المعانى موجودة فى أولئك القوم الذين قتلهم علي رضى الله عنه وفى غيرهم وإنما قولنا أن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله مثل ما يقال أن النبى قاتل الكفار أى قاتل جنس الكفار وإن كان الكفر أنواعا مختلفة وكذلك الشرك أنواع مختلفة وإن لم يكن الآلهة التى كانت العرب تعبدها هي التى تعبدها الهند والصين والترك لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه
وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان فى معنى أولئك ويجب قتالهم بأمر النبى صلى الله عليه وسلم كما وجب قتال أولئك وإن كان الخروج عن الدين والإسلام أنواعا مختلفة وقد بينا أن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير
فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية والرافضة ونحوهم فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن الإمام أحمد والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه
____________________
(28/499)
فساد فإن النبى قال ( أينما لقيتموهم فاقتلوهم ( وقال ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ( وقال عمر لصبيغ بن عسل لو وجدتك محلوقا لضربت الذى فيه عيناك ولأن على بن أبى طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين فى الأرض فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان فى قتله مفسدة راجحة ولهذا ترك النبى قتل ذلك الخارجى إبتداء لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام ولهذا ترك على قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا وكانوا داخلين فى الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة ولم يكن يتبين له أنهم هم
وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد والقولان فى الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم والصحيح أن هذه الأقوال التى يقولونها التى يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر وكذلك أفعالهم التى هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا وقد ذكرت دلائل ذلك فى غير هذا الموضع لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده فى النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وإنتفاء موانعه فإنا نطلق
____________________
(28/500)
القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذى لا معارض له وقد بسطت هذه القاعدة فى ( قاعدة التكفير (
ولهذا لم يحكم النبى صلى الله عليه وسلم بكفر الذى قال إذا أنا مت فأحرقونى ثم ذرونى فى اليم فوالله لأن قدر الله على ليعذبنى عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين مع شكة فى قدرة الله وإعادته ولهذا لا يكفر العلماء من إستحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك فيطلق أن هذا القول كفر ويكفر من قامت عليه الحجة التى يكفر تاركها دون غيره والله أعلم
ما تقول الفقهاء أئمة الدين
فى هؤلاء التتار الذين قدموا سنة تسع وتسعين وستمائة وفعلوا ما إشتهر من قتل المسلمين وسبى بعض الذرارى والنهب لمن وجدوه من المسلمين وهتكوا حرمات الدين من إذلال المسلمين وإهانة المساجد لا سيما ( بيت المقدس ( وأفسدوا فيه
____________________
(28/501)
وأخذوا من أموال المسلمين وأموال بيت المال الحمل العظيم وأسروا من رجال المسلمين الجم الغفير وأخرجوهم من أوطانهم وإدعوا مع ذلك التمسك بالشهادتين وإدعوا تحريم قتال مقاتلهم لما زعموا من إتباع أصل الإسلام ولكونهم عفوا عن إستئصال المسلمين فهل يجوز قتالهم أو يجب وأيما كان فمن أى الوجوه جوازه أو وجوبه أفتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله كل طائفة ممتنعة عن إلتزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضى الله عنهم ما نعى الزكاة وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبى بكررضى الله عنهما فإتفق الصحابة رضى الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة
وكذلك ثبت عن النبى من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله ( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم فعلم أن مجرد الإعتصام بالإسلام مع عدم إلتزام شرائعه ليس بمسقط للقتال فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة فمتى كان الدين لغير الله
____________________
(28/502)
فالقتال واجب فأيما طائفة إمتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن إلتزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم أو عن إلتزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التى لا عذر لأحد فى جحودها وتركها التى يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء
وإنما إختلف الفقهاء فى الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتى الفجر والأذان والإقامة عند من لا يقول بوجوبها ونحو ذلك من الشعائر هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف فى القتال عليها
وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته كأهل الشام مع أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته وأما المذكورون فهم خارجون عن
____________________
(28/503)
الإسلام بمنزلة مانعى الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم على بن أبى طالب رضى الله عنه ولهذا إفترقت سيرة على رضى الله عنه فى قتاله لأهل البصرة والشام وفى قتاله لأهل النهروان فكانت سيرته مع أهل البصرة والشاميين سيرة الأخ مع أخيه ومع الخوارج بخلاف ذلك وثبتت النصوص عن النبى بما إستقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق وقتال الخوارج بخلاف الفتنة الواقعة مع أهل الشام والبصرة فإن النصوص دلت فيها بما دلت والصحابة والتابعون إختلفوافيها
على أن من الفقهاء الأئمة من يرى أن أهل البغى الذين يجب قتالهم هم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ لا الخارجون عن طاعته وآخرون يجعلون القسمين بغاة وبين البغاة والتتار فرق بين فأما الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فلا أعلم فى وجوب قتالهم خلافا
فإذا تقررت هذه القاعدة فهؤلاء القوم المسئول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام وهم جمهور العسكر ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم ويعظمون الرسول وليس فيهم من يصلى إلا قليل جدا وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة والمسلم عندهم أعظم من غيره
____________________
(28/504)
وللصالحين من المسلمين عندهم قدر وعندهم من الإسلام بعضه وهم متفاوتون فيه لكن الذى عليه عامتهم والذى يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه وإن كان كافرا عدوا لله ورسوله وكل من خرج عن دوله المغول أو عليها إستحلوا قتاله وإن كان من خيار المسلمين فلا يجاهدون الكفار ولا يلزمون أهل الكتاب بالجزية والصغار ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك بل الظاهر من سيرتهم أن المسلم عندهم بمنزلة العدل أو الرجل الصالح أو المتطوع فى المسلمين والكافر عندهم بمنزلة الفاسق فى المسلمين أو بمنزلة تارك التطوع
وكذلك أيضا عامتهم لا يحرمون دماء المسلمين وأموالهم إلا أن ينهاهم عنها سلطانهم أى لا يلتزمون تركها وإذا نهاهم عنها أو عن غيرها أطاعوه لكونه سلطانا لا بمجرد الدين وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولاغير ذلك ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الاسلام تارة وتخالفه اخرى وانما كان الملتزم لشرائع الاسلام الشيزبرون وهوالذى اظهر من شرائع الاسلام ما استفاض عند الناس واما هؤلاء فدخلوا فيه وما التزموا شرائعه
____________________
(28/505)
وقتال هذا الضرب واجب باجماع المسلمين وما يشك فى ذلك من عرف دين الاسلام وعرف حقيقة امرهم فان هذا السلم الذى هم عليه ودين الاسلام لايجتمعان ابدا واذا كان الأكراد والأعراب وغيرهم من اهل البوادى الذين لا يلتزمون شريعة الاسلام يجب قتالهم وان لم يتعد ضررهم إلى اهل الأمصار فكيف بهؤلاء نعم يجب ان يسلك فى قتاله المسلك الشرعى من دعائهم إلى التزام شرائع الاسلام ان لم تكن الدعوة إلى الشرائع قد بلغتهم كما كان الكافر الحربى يدعى اولا إلى الشهادتين ان لم تكن الدعوة قد بلغته
فان اتفق من يقاتلهم على الوجه الكامل فهو الغاية فى رضوان الله واعزاز كلمته واقامة دينه وطاعة رسوله وان كان فيهم من فيه فجور وفساد نية بأن يكون يقاتل على الرياسة او يتعدى عليهم فى بعض الأمور وكانت مفسدة ترك قتالهم اعظم على الدين من مفسدة قتالهم على هذا الوجه كان الواجب ايضا قتالهم دفعا لأعظم المفسدتين بالتزام ادناهما فان هذا من اصول الاسلام التى ينبغى مراعاتها
ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لإخلاق لهم كما أخبر بذلك النبى لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار أو مع عسكر كثير الفجور فإنه لابد من أحد
____________________
(28/506)
أمرين إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك إستيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا فى الدين والدنيا وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين وإقامة أكثر شرائع الإسلام وإن لم يمكن إقامة جميعها فهذا هو الواجب فى هذه الصورة وكل ما أشبهها بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه
وثبت عن النبى ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ( فهذا الحديث الصحيح يدل على معنى ما رواه أبو داود فى سننه من قوله ( الغزو ماض منذ بعثنى الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل وما إستفاض عنه أنه قال ( لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة ( إلى غير ذلك من النصوص التى إتفق أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف على العمل بها فى جهاد من يستحق الجهاد مع الأمراء أبرارهم وفجارهم بخلاف الرافضة والخوارج الخارجين عن السنة والجماعة هذا مع اخباره بأنه ( سيلى أمراء ظلمة خونة فجرة فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم فليس منى ولست منه
____________________
(28/507)
ولا يرد على الحوض ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منى وأنا منه وسيرد على الحوض
فإذا أحاط المرء علما بما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم من الجهاد الذى يقوم به الأمراء إلى يوم القيامة وبما نهى عنه من إعانة الظلمة على ظلمهم علم أن الطريقة الوسطى التى هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق الجهاد كهؤلاء القوم المسئول عنهم مع كل أمير وطائفة هي أولى بالإسلام منهم إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك وإجتناب إعانة الطائفة التى يغزو معها على شيء من معاصى الله بل يطيعهم فى طاعة الله ولا يطيعهم فى معصية الله إذ لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق
وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما وحديثا وهى واجبة على كل مكلف وهى متوسطة بين طريق الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقا وأن لم يكونوا أبرارا ونسأل الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(28/508)
فأجاب الحمد لله كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة وتكلموا بالشهادتين وإنتسبوا إلى الإسلام ولم يبقوا على الكفر الذى كانوا عليه فى أول الأمر فهل يجب قتالهم أم لا وما الحجة على قتالهم وما مذاهب العلماء فى ذلك وما حكم من كان معهم ممن يفر إليهم من عسكر المسلمين الأمراء وغيرهم وما حكم من قد أخرجوه معهم مكرها وما حكم من يكون مع عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والتصوف ونحو ذلك وما يقال فيمن زعم أنهم مسلمون والمقاتلون لهم مسلمون وكلاهما ظالم فلا يقاتل مع أحدهما وفى قول من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون وما الواجب على جماعة المسلمين من أهل العلم والدين وأهل القتال وأهل الأموال فى أمرهم أفتونا فى ذلك بأجوبة مبسوطة شافية فإن أمرهم قد أشكل على كثير من المسلمين بل على أكثرهم تارة لعدم العلم بأحوالهم وتارة لعدم العلم بحكم الله
____________________
(28/509)
تعالى ورسوله فى مثلهم والله الميسر لكل خير بقدرته ورحمته انه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل
فأجاب الحمد لله رب العالمين نعم يجب قتال هؤلاء بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين وهذا 1 مبنى على أصلين أحدهما المعرفة بحالهم والثانى معرفة حكم الله فى مثلهم
فأما الأول فكل من باشر القوم يعلم حالهم ومن لم يباشرهم يعلم ذلك بما بلغه من الأخبار المتواترة وأخبار الصادقين ونحن نذكر جل أمورهم بعد أن نبين الأصل الآخر الذى يختص بمعرفته أهل العلم بالشريعة الإسلامية فنقول
كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها بإتفاق أئمة المسلمين
____________________
(28/510)
وإن تكلمت بالشهادتين فإذا أقروا بالشهادتين وإمتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا وإن إمتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة وكذلك إن إمتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق وكذلك أن إمتنعوا عن تحريم الفواحش أو الزنى أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة وكذلك إن إمتنعوا عن الحكم فى الدماء والأموال والأعراض والإبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة وكذلك إن إمتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة وإتباع سلف الأمة وأئمتها مثل أن يظهروا الألحاد فى أسماء الله وآياته أو التكذيب بأسماء الله وصفاته أو التكذيب بقدره وقضائه أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين أو الطعن فى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين إتبعوهم بإحسان أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا فى طاعتهم التى توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور
قال الله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله
وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وهذه الآية نزلت فى أهل الطائف وكانوا قد أسلموا وصلوا وصاموا لكن كانوا يتعاملون بالربا فأنزل الله هذه الآية وأمر المؤمنين فيها بترك ما بقى من الربا وقال ( { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وقد قرئ { فأذنوا } / < وآذنوا > / وكلا المعنيين صحيح والربا
____________________
(28/511)
آخر المحرمات فى القرآن وهو مال يؤخذ بتراضى المتعاملين فإذا كان من لم ينته عنه محاربا لله ورسوله فكيف بمن لم ينته عن غيره من المحرمات التى هي أسبق تحريما وأعظم تحريما
وقد إستفاض عن النبى الأحاديث بقتال الخوارج وهى متواترة عند أهل العلم بالحديث قال الإمام أحمد صح الحديث فى الخوارج من عشرة أوجه وقد رواها مسلم فى صحيحه وروى البخارى منها ثلاثة أوجه حديث على وأبى سعيد الخدرى وسهل بن حنيف وفى السنن والمسانيد طرق أخر متعددة وقد قال فى صفتهم ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فأقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد (
وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب بمن معه من الصحابة وإتفق على قتالهم سلف الأمة وأئمتها لم يتنازعوا فى قتالهم كما تنازعوا فى القتال يوم الجمل وصفين فإن الصحابة كانوا فى قتال الفتنة ثلاثة أصناف قوم قاتلوا مع على رضى الله عنه وقوم قاتلوا مع من قاتله وقوم قعدوا عن القتال لم يقاتلوا الواحدة من الطائفتين وأما الخوارج
____________________
(28/512)
فلم يكن فيهم أحد من الصحابة ولا نهى عن قتالهم أحد من الصحابة وفى الصحيح عن أبى سعيد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( تمرق مارقة على حين فرقه من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ( وفى لفظ ( أدنى الطانفتين إلى الحق فبهذا الحديث الصحيح ثبت أن عليا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه وإن تلك المارقة التى مرقت من الإسلام ليس حكمها حكم إحدى الطائفتين بل أمر النبى بقتال هذه المارقة وأكد الأمر بقتالها ولم يأمر بقتال أحدى الطائفتين كما أمر بقتال هذه بل قد ثبت عنه فى الصحيح من حديث أبى بكرة أنه قال للحسن ( أن إبنى هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين فمدح الحسن وأثنى عليه بما أصلح الله به بين الطائفتين حين ترك القتال وقد بويع له وإختار الأصلح وحقن الدماء مع نزوله عن الأمر فلو كان القتال مأمورا به لم يمدح الحسن ويثنى عليه بترك ما أمر الله به وفعل ما نهى الله عنه
والعلماء لهم فى قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان منهم من يرى قتال على يوم حروراء ويوم الجمل وصفين كله من باب قتال أهل البغى وكذلك يجعل قتال أبى بكر لمانعى الزكاة وكذلك قتال سائر من قوتل من المنتسبين إلى القبلة كما ذكر ذلك من ذكره
____________________
(28/513)
من أصحاب أبى حنيفة والشافعى ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم وهم متفقون على أن الصحابة ليسوا فساقا بل هم عدول فقالوا إن أهل البغى عدول مع قتالهم وهم مخطئون خطأ المجتهدين فى الفروع
وخالفت فى ذلك طائفة كإبن عقيل وغيره فذهبوا إلى تفسيق أهل البغى وهؤلاء نظروا إلى من عدوه من أهل البغى فى زمنهم فرأوهم فساقا ولا ريب أنهم لا يدخلون الصحابة فى ذلك وإنما يفسق الصحابة بعض أهل الأهواء من المعتزلة ونحوهم كما يكفرهم بعض أهل الأهواء من الخوارج والروافض وليس ذلك من مذهب الأئمة والفقهاء أهل السنة والجماعة ولا يقولون إن أموالهم معصومة كما كانت وما كان ثابتا بعينه رد إلى صاحبه وما أتلف فى حال القتال لم يضمن حتى أن جمهور العلماء يقولون لا يضمن لا هؤلاء ولا هؤلاء كما قال الزهري وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله متوافرون فأجمعوا أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر
وهل يجوز أن يستعان بسلاحهم فى حربهم إذا لم يكن إلى ذلك ضرورة على وجهين فى مذهب أحمد يجوز والمنع قول الشافعى والرخصة قول أبى حنيفة
وإختلفوا فى قتل أسيرهم وإتباع مدبرهم والتذفيف على جريحهم
____________________
(28/514)
إذا كان لهم فئة يلجئون إليها فجوز ذلك أبو حنيفة ومنعه الشافعى وهو المشهور فى مذهب أحمد وفي مذهبه وجه أنه يتبع مدبرهم فى أول القتال وأما إذا لم يكن لهم فئة فلا يقتل أسير ولا يذفف على جريح كما رواه سعيد وغيره عن مروان بن الحكم قال خرج صارخ لعلى يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن
فمن سلك هذه الطريقة فقد يتوهم أن هؤلاء التتار من أهل البغى المتأولين ويحكم فيهم بمثل هذه الأحكام كما أدخل من أدخل فى هذا الحكم مانعى الزكاة والخوارج وسنبين فساد هذا التوهم إن شاء الله تعالى
والطريقة الثانية أن قتال مانعى الزكاة والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة المتقدمين وهو الذى يذكرونه فى إعتقاد أهل السنة والجماعة وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره
وقد نصوا على الفرق بين هذا وهذا فى غير موضع حتى فى الأموال فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج وقد نص أحمد فى رواية أبى طالب فى حرورية كان لهم سهم فى قرية فخرجوا
____________________
(28/515)
يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون فأرضهم فيء للمسلمين فيقسم خمسة على خمسة وأربعة أخماسه للذين قاتلوا يقسم بينهم أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم مثل ما أخذ عمر السواد عنوة ووقفه على المسلمين فجعل أحمد الأرض التى للخوارج إذا غنمت بمنزلة ما غنم من أموال الكفار وبالجملة فهذه الطريقة هى الصواب المقطوع به
فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا وسيرة على رضى الله عنه تفرق بين هذا وهذا فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله وفرح بذلك ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والذم عليه ما ظهر وقال فى أهل الجمل وغيرهم إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف وصلى على قتلى الطائفتين
وأما الخوارج ففى الصحيحين عن على بن أبى طالب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( سيخرج قوم فى آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فإينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ( وفى صحيح مسلم عن زيد بن وهب أنه كان فى الجيش الذى
____________________
(28/516)
كانوا مع على الذين ساروا إلى الخوارج فقال على أيها الناس أنى سمعت رسول الله يقول ( يخرج قوم من أمتى يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان محمد نبيهم لنكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على عضده مثل حلمة الثدى عليه شعرات بيض قال فيذهبون إلى معاوية وأهل الشام ويتركون هؤلاء يخلفونكم فى ذراريكم وأموالكم والله انى لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا فى سرح الناس فسيروا على إسم الله قال فلما إلتقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب رئيسا فقال لهم ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من حقوتها فإنى أناشدكم كما ناشدوكم يوم حروراء فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وسحرهم الناس برماحهم قال وأقبل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان فقال على إلتمسوا فيهم المخدج فإلتمسوه فلم يجدوه فقام على سيفه حتى أتى ناسا قد أقبل بعضهم على بعض قال أخروهم فوجدوه مما يلى الأرض فكبر ثم قال صدق الله وبلغ رسوله قال فقام إليه عبيدة السلمانى فقال يا أمير المؤمنين الله الذى لا إله إلا
____________________
(28/517)
هو أسمعت هذا الحديث من رسول الله قال أى والله الذى لا إله إلا هو حتى إستحلفه ثلاثا وهو يحلف له أيضا
فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم وإنما تنازعوا فى تكفيرهم على قولين مشهورين فى مذهب مالك وأحمد وفى مذهب الشافعي أيضا نزاع فى كفرهم
ولهذا كان فيهم وجهان فى مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولى أحدهما أنهم بغاة والثانى أنهم كفار كالمرتدين يجوز قتلهم إبتداء وقتل أسيرهم وإتباع مدبرهم ومن قدر عليه منهم إستتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل كما أن مذهبه فى مانعى الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها على روايتين
وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعى الزكاة وقتال على للخوارج ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين فكلام على وغيره فى الخوارج يقتضى أنهم ليسوا كفارا كالمرتدين عن أصل الإسلام وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين بل هم نوع ثالث وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم
____________________
(28/518)
وممن قاتلهم الصحابة مع إقرارهم بالشهادتين والصلاة وغير ذلك مانعى الزكاة كما فى الصحيحين ( عن أبى هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبى بكر يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلابحقها ( فقال له أبو بكر ألم يقل لك إلا بحقها فإن الزكاة من حقها والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها قال عمر فما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعلمت أنه الحق
وقد إتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعى الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة فلهذا كانوا مرتدين وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله وقد حكى عنهم أنهم قالوا إن الله أمر نبيه بأخذ الزكاة بقوله { خذ من أموالهم صدقة } وقد سقطت بموته
وكذلك أمر النبى بقتال الذين لا ينتهون عن شرب الخمر
وأما الأصل الآخر وهو معرفة أحوالهم فقد علم أن هؤلاء
____________________
(28/519)
القوم جازوا على الشام فى المرة الأولى عام تسعة وتسعين وأعطوا الناس الأمان وقرؤوه على المنبر بدمشق ومع هذا فقد سبوا من ذرارى المسلمين مايقال أنه مائة ألف أو يزيد عليه وفعلوا ببيت المقدس وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا وغير ذلك من القتل والسبى مالا يعلمه إلا الله حتى يقال أنهم سبوا من المسلمين قريبا من مائة ألف وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين فى المساجد وغيرها كالمسجد الأقصى والأموى وغيره وجعلوا الجامع الذى بالعقيبة دكا
وقد شاهدنا عسكر القوم فرأينا جمهورهم لا يصلون ولم نر فى عسكرهم مؤذنا ولا إماما وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم مالا يعلمه إلا الله
ولم يكن معهم فى دولتهم إلا من كان من شر الخلق إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسلام فى الباطن وإما من هو من شر أهل البدع كالرافضة والجهمية والإتحادية ونحوهم وأما من هو من أفجر الناس وأفسقهم وهم فى بلادهم مع تمكنهم لا يحجون البيت العتيق وإن كان فيهم من يصلى ويصوم فليس الغالب عليهم إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة
وهم يقاتلون على ملك جنكسخان فمن دخل فى طاعتهم جعلوه
____________________
(28/520)
وليا لهم وإن كان كافرا ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوا لهم وإن كان من خيار المسلمين ولا يقاتلون على الإسلام ولا يضعون الجزية والصغار
بل غاية كثير من المسلمين منهم من أكابر أمرائهم ووزرائهم أن يكون المسلم عندهم كمن يعظمونه من المشركين من اليهود والنصارى كما قال أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام وهو يخاطب رسل المسلمين ويتقرب إليهم بانا مسلمون فقال هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله محمد وجنكسخان فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين أن يسوى بين رسول الله وأكرم الخلق عليه وسيد ولد آدم وخاتم المرسلين وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفرا وفسادا وعدوانا من جنس بختنصر وأمثاله
وذلك إن إعتقاد هؤلاء التتار كان فى جنكسخان عظيما فإنهم يعتقدون أنه إبن الله من جنس ما يعتقده النصارى فى المسيح ويقولون أن الشمس حبلت أمه وأنها كانت فى خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حبلت ومعلوم عند كل ذى دين أن هذا كذب وهذا دليل على أنه ولد زنا وأن أمة زنت فكتمت زناها وإدعت هذا حتى تدفع عنها معرة الزنى وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله فى تعظيم ما سنة لهم وشرعه بظنه وهواه حتى
____________________
(28/521)
يقولوا لما عندهم من المال هذا رزق جنكسخان ويشكرونه على أكلهم وشربهم وهم يستحلون قتل من عادى ما سنه لهم هذا الكافر الملعون المعادى لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين
فهذا وأمثاله من مقدميهم كان غايته بعد الإسلام أن يجعل محمدا بمنزلة هذا الملعون ومعلوم أن مسيلمة الكذاب كان أقل ضررا على المسلمين من هذا وإدعى أنه شريك محمد فى الرسالة وبهذا إستحل الصحابة قتاله وقتال أصحابه المرتدين فكيف بمن كان فيما يظهره من الإسلام يجعل محمدا كجنكسخان وإلا فهم مع إظهارهم للإسلام يعظمون أمر جنكسخان على المسلمين المتبعين لشريعة القرآن ولا يقاتلون أو لئك المتبعين لما سنه جنكسخان كما يقاتلون المسلمين بل أعظم أولئك الكفار يبذلون له الطاعة والإنقياد ويحملون إليه الأموال ويقرون له بالنيابة ولا يخالفون ما يأمرهم به إلا كما يخالف الخارج عن طاعة الإمام للإمام وهم يحاربون المسلمين ويعادونهم أعظم معاداة ويطلبون من المسلمين الطاعة لهم وبذل الأموال والدخول فيما وضعه لهم ذلك الملك الكافر المشرك المشابه لفرعون أو النمروذ ونحوهما بل هو أعظم فسادا فى الأرض منهما قال الله تعالى { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين }
____________________
(28/522)
وهذا الكافر علا فى الأرض يستضعف أهل الملل كلهم من المسلمين واليهود والنصارى ومن خالفه من المشركين بقتل الرجال وسبى الحريم وبأخذ الأموال وبهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ويرد الناس عما كانوا عليه من سنن الأنبياء والمرسلين إلى أن يدخلوا فيما إبتدعه من سنته الجاهلية وشريعته الكفرية
فهم يدعون دين الإسلام ويعظمون دين أولئك الكفار على دين المسلمين ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين والحكم فيما شجر بين أكابرهم بحكم الجاهلية لا بحكم الله ورسوله
وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى وإن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين
ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى ومنهم من يرجح دين المسلمين وهذا القول فاش غالب فيهم حتى فى فقهائهم وعبادهم لاسيما الجهمية من الإتحادية الفرعونية ونحوهم فإنه غلبت عليهم الفلسفة وهذا مذهب كثير من المتفلسفة أو أكثرهم وعلى
____________________
(28/523)
هذا كثير من النصارى أو أكثرهم وكثير من اليهود أيضا بل لو قال القائل أن غالب خواص العلماء منهم والعباد على هذا المذهب لما أبعد وقد رأيت من ذلك وسمعت مالا يتسع له هذا الموضع
ومعلوم بالإضطرار من دين المسلمين وبإتفاق جميع المسلمين أن من سوغ إتباع غير دين الإسلام أو إتباع شريعة غير شريعة محمد فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب كما قال تعالى { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } واليهود والنصارى داخلون فى ذلك وكذلك المتفلسفة يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ومن تفلسف من اليهود والنصارى يبقى كفره من وجهين
وهؤلاء أكثر وزرائهم الذين يصدرون عن رأيه غايته أن يكون من هذا الضرب فإنه كان يهوديا متفلسفا ثم إنتسب إلى الإسلام مع ما فيه من اليهودية والتفلسف وضم إلى ذلك الرفض فهذاهو أعظم من عندهم من ذوى الأفلام وذاك أعظم من كان عندهم من ذوى السيف فليعتبر المؤمن بهذا
وبالجملة فما من نفاق وزندقة والحاد إلا وهى داخلة فى إتباع التتار
____________________
(28/524)
لأنهم من أجهل الخلق وأقلهم معرفة بالدين وأبعدهم عن إتباعه وأعظم الخلق إتباعا للظن وما تهوى الأنفس
وقد قسموا الناس أربعة أقسام يال وباع وداشمند وطاط أى صديقهم وعدوهم والعالم والعامى فمن دخل فى طاعتهم الجاهلية وسنتهم الكفرية كان صديقهم ومن خالفهم كان عدوهم ولو كان من أنبياء الله ورسله وأوليائه وكل من إنتسب إلى علم أو دين سموه ( داشمند ( كالفقيه والزاهد والقسيس والراهب ودنان اليهود والمنجم والساحر والطبيب والكاتب والحاسب فيدرجون سادن الأصنام فيدرجون فى هذا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع مالا يعلمه إلا الله ويجعلون أهل العلم والإيمان نوعا واحدا
بل يجعلون القرامطة الملاحدة الباطنية الزنادقة المنافقين كالطوسى وأمثاله هم الحكام على جميع من إنتسب إلى علم أو دين من المسلمين واليهود والنصارى وكذلك وزيرهم السفيه الملقب بالرشيد يحكم على هذه الأصناف ويقدم شرار المسلمين كالرافضة والملاحدة على خيار المسلمين أهل العلم والإيمان حتى تولى قضاء القضاة من كان أقرب إلى الزندقة والألحاد والكفر بالله ورسوله بحيث تكون موافقته للكفار والمنافقين من اليهود والقرامطة والملاحدة والرافضة على ما يريدونه أعظم من غيره
____________________
(28/525)
ويتظاهر من شريعة الإسلام بما لابد له منه لأجل من هناك من المسلمين حتى أن وزيرهم هذا الخبيث الملحد المنافق صنف مصنفا مضمونه أن النبى رضي بدين اليهود والنصارى وانه لا ينكر عليهم ولا يذمون ولا ينهون عن دينهم ولا يؤمرون بالانتقال إلى الاسلام واستدل الخبيث الجاهل بقوله { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين } وزعم ان هذه الآية تقتضى انه يرضى دينهم قال وهذه الآية محكمة ليست منسوخة وجرت بسبب ذلك أمور
ومن المعلوم أن هذا جهل منه فإن قوله { لكم دينكم ولي دين } ليس فيه ما يقتضى أن يكون دين الكفار حقا ولا مرضيا له وإنما يدل على تبرئه من دينهم ولهذا قال فى هذه السورة انها براءة من الشرك كما قال فى الاية الاخرى { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } فقوله { لكم دينكم ولي دين } كقوله { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } وقد اتبع ذلك بموجبه ومقتضاه حيث قال { أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } ولو قدر ان فى هذه السورة ما يقتضى انهم لم يؤمروا بترك دينهم فقد علم بالاضطرار من دين
____________________
(28/526)
الاسلام بالنصوص المتواترة وباجماع الأمة انه امر المشركين واهل الكتاب بالايمان به وانه جاءهم على ذلك واخبر انهم كافرون يخلدون فى النار
وقد اظهروا الرفض ومنعوا أن نذكر على المنابر الخلفاء الراشدين وذكروا عليا وأظهروا الدعوة للاثنى عشر الذين تزعم الرافضة أنهم أئمة معصومون وإن أبا بكر وعمر وعثمان كفار وفجار ظالمون لا خلافة لهم ولا لمن بعدهم ومذهب الرافضة شر من مذهب الخوارج المارقين فان الخوارج غايتهم تكفير عثمان وعلي وشيعتهما والرافضة تكفير ابى بكر وعمر وعثمان وجمهور السابقين الأولين وتجحد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مما جحد به الخوارج وفيهم من الكذب والافتراء والغلو والالحاد ما ليس فى الخوارج وفيهم من معاونة الكفار على المسلمين ما ليس فى الخوارج
والرافضة تحب التتار ودولتهم لأنه يحصل لهم بها من العز مالا يحصل بدولة المسلمين والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين وهم كانوا من اعظم الاسباب فى دخول التتار قبل اسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام وكانوا من اعظم الناس معاونة لهم على اخذهم لبلاد الاسلام وقتل المسلمين
____________________
(28/527)
وسبى حريمهم وقضية إبن العلقمى وأمثاله مع الخليفة وقضيتهم فى حلب مع صاحب حلب مشهورة يعرفها عموم الناس وكذلك فى الحروب التى بين المسلمين وبين النصارى بسواحل الشام قد عرف أهل الخبرة أن الرافضة تكون مع النصارى على المسلمين وأنهم عاونوهم على أخذ البلاد لما جاء التتار وعز على الرافضة فتح عكة وغيرها من السواحل وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركين كان ذلك غصة عند الرافضة وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين كان ذلك عيدا ومسرة عند الرافضة
ودخل فى الرافضة اهل الزندقة والألحاد من ( النصيرية والإسماعيلية ( وأمثالهم من الملاحدة ( القرامطة ( وغيرهم ممن كان بخراسان والعراق والشام وغير ذلك والرافضة جهمية قدرية وفيهم من الكذب والبدع والإفتراء على الله ورسوله أعظم مما فى الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين على وسائر الصحابة بأمر رسول الله بل فيهم من الردة عن شرائع الدين أعظم مما فى مانعى الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة
ومن أعظم ما ذم به النبى الخوارج قوله فيهم ( يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ( كما أخرجا فى الصحيحين عن أبى سعيد قال بعث على إلى النبى صلى الله عليه
____________________
(28/528)
وسلم بذهيبة فقسمها بين أربعة يعنى من أمراء نجد فغضبت قريش والأنصار قالوا يعطى صناديد أهل نجد ويدعنا قال إنما أتالفهم فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتىء الجبين كث اللحية محلوق فقال يا محمد إتق الله فقال ( من يطع الله إذا عصيته أيامننى الله على أهل الأرض ولا تأمنونى ( فسأله رجل قتله فمنعه فلما ولى قال ( ان من ضئضئ هذا او فى عقب هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلون اهل الاسلام ويدعون اهل الاوثان لئن ادركتهم لاقتلنهم قتل عاد ) وفى لفظ في الصحيحين عن ابى سعيد قال ( بينما نحن عند رسول الله وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بنى تميم فقال يارسول الله أعدل ( فقال ( ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت أن لم أكن أعدل فقال عمر يا رسول الله أتأذن لى فيه فأضرب عنقه فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذة فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى
____________________
(28/529)
عضديه مثل ثدى المرأة أو مثل البضعة يخرجون على حين فرقة من الناس ( قال أبو سعيد فأشهد أنى سمعت هذا الحديث من رسول الله وأشهد أن على بن أبى طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله الذى نعته
فهؤلاء الخوارج المارقون من أعظم ما ذمهم به النبى أنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وذكر أنهم يخرجون على حين فرقة من الناس والخوارج مع هذا لم يكونوا يعاونون الكفار على قتال المسلمين والرافضة يعاونون الكفار على قتال المسلمين فلم يكفهم أنهم لا يقاتلون الكفار مع المسلمين حتى قاتلوا المسلمين مع الكفار فكانوا أعظم مروقا عن الدين من أولئك المارقين بكثير كثير
وقد أجمع المسلمون على وجوب قتال الخوارج والروافض ونحوهم إذا فارقوا جماعة المسلمين كما قاتلهم على رضى الله عنه فكيف إذا ضموا إلى ذلك من أحكام المشركين كنائسا وجنكسخان ملك المشركين ما هو من أعظم المضادة لدين الإسلام
وكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما إرتد عنه من شرائع الإسلام وإذا كان السلف
____________________
(28/530)
قد سموا مانعى الزكاة مرتدين مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلا للمسلمين مع أنه والعياذ بالله لوإستولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله المحادون لله ورسوله المعادون لله ورسوله على أرض الشام ومصر فى مثل هذا الوقت لأفضى ذلك إلى زوال دين الإسلام ودروس شرائعه
أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما فهم فى هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام وهم من أحق الناس دخولا فى الطائفة المنصورة التى ذكرها النبى بقوله فى الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه ( لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ( وفى رواية لمسلم ( لا يزال أهل الغرب (
والنبى تكلم بهذا الكلام بمدينته النبوية فغربه ما يغرب عنها وشرقه ما يشرق عنها فإن التشريق والتغريب من الأمور النسبية إذ كل بلد له شرق وغرب ولهذا إذا قدم الرجل إلى الإسكندرية من الغرب يقولون سافر إلى الشرق وكان أهل المدينة يسمون أهل الشام أهل الغرب ويسمون أهل نجد والعراق أهل الشرق كما فى حديث إبن عمر قال قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا وفى
____________________
(28/531)
رواية من أهل نجد ولهذا قال أحمد بن حنبل ( أهل الغرب ( هم أهل الشام يعنى هم أهل الغرب كما أن نجدا والعراق أول الشرق وكل ما يشرق عنها فهو من الشرق وكل ما يغرب عن الشام من مصر وغيرها فهو داخل فى الغرب وفى الصحيحين إن معاذ بن جبل قال فى الطائفة المنصورة وهم بالشام فإنها أصل المغرب وهم فتحوا سائر المغرب كمصر والقيروان والأندلس وغير ذلك
وإذا كان غرب المدينة النبوية ما يغرب عنها فالبيرة ونحوها على مسامته المدينة النبوية كما أن حران والرقة وسميساط ونحوها على مسامته مكة فما يغرب عن البيرة فهو من الغرب الذين وعدهم النبى لما تقدم وقد جاء فى حديث آخر فى صفة الطائفة المنصورة ( أنهم بأكناف البيت المقدس ( وهذه الطائفة هي التى بأكناف البيت المقدس اليوم
ومن يتدبر أحوال العالم فى هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام علما وعملا وجهادا عن شرق الأرض وغربها فإنهم هم الذين يقاتلون أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب ومغازيهم مع النصارى ومع المشركين من الترك ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين فى الرافضة وغيرهم كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة معروفة معلومة قديما وحديثا والعز الذى للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم ولهذا لما هزموا
____________________
(28/532)
سنة تسع وتسعين وستمائة دخل على أهل الإسلام من الذل والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها مالا يعلمه إلا الله والحكايات فى ذلك كثيرة ليس هذا موضعها
وذلك أن سكان اليمن فى هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيعون له وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء وملك المشركين لما جاء إلى حلب جرى بها من القتل ما جرى وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة وفيهم من البدع والضلال والفجور مالا يعلمه إلا الله وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون وإنما تكون القوة والعزة فى هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد فلو ذلت هذه الطائفة والعياذ بالله تعالى لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس لاسيما وقد غلب فيهم الرفض وملك هؤلاء التتار المحاربين لله ورسوله الآن مرفوض فلو غلبوا لفسد الحجاز بالكلية وأما بلاد أفريقية فأعرابها غالبون عليها وهم من شر الخلق بل هم مستحقون للجهاد والغزو وأما المغرب الأقصى فمع إستيلاء الأفرنج على أكثر بلادهم لايقومون بجهاد النصارى هناك بل فى عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم لو إستولى التتار على هذه البلاد لكان أهل المغرب معهم من أذل الناس لا سيما والنصارى
____________________
(28/533)
تدخل مع التتار فيصيرون حزبا على أهل المغرب
فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التى بالشام ومصر فى هذا الوقت هم كتيبة الإسلام وعزهم عز الإسلام وذلهم ذل الإسلام فلو إستولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه
فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار فإن التتار فيهم المكره وغير المكره وقد إستقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلى من وجوه متعددة منها أن المرتد يقتل بكل حال ولا يضرب عليه جزية ولا تعقد له ذمة بخلاف الكافر الأصلى ومنها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزا عن القتال بخلاف الكافر الأصلى الذى ليس هو من أهل القتال فإنه لايقتل عند أكثر العلماء كأبى حنيفة ومالك وأحمد ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعى وأحمد ومنها أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته بخلاف الكافر الأصلى إلى غير ذلك من الأحكام
وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلى عن شرائعه ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار ويعلم أن المرتدين الذين فيهم
____________________
(28/534)
من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين من الترك ونحوهم وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك الذين كانوا كفارا فإن المسلم الأصلى إذا إرتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالا ممن لم يدخل بعد فى تلك الشرائع مثل مانعى الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقها أومتصوفا او تاجرا أو كاتبا أو غير ذلك فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا فى تلك الشرائع وأصروا على الإسلام ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء على الدين مالا يجدونه من ضرر أولئك وينقادون للإسلام وشرائعه وطاعة الله ورسوله أعظم من إنقياد هؤلاء الذين إرتدوا عن بعض الدين ونافقوا فى بعضه وأن تظاهروا بالإنتساب إلى العلم والدين
وغاية ما يوجد من هؤلاء يكون ملحدا نصيريا أو إسماعيليا أو رافضيا وخيارهم يكون جهميا إتحاديا أو نحوه فإنه لا ينضم إليهم طوعا من المظهرين للاسلام إلا منافق او زنديق او فاسق فاجر ومن أخرجوه معهم مكرها فانه يبعث على نيته ونحن علينا ان نقاتل العسكر جميعه اذ لا يتميز المكره من غيره
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال
____________________
(28/535)
( يغزو هذا البيت جيش من الناس فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل يا رسول الله إن فيهم المكره فقال يبعثون على نياتهم ( والحديث مستفيض عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة أخرجه أرباب الصحيح عن عائشة وحفصة وأم سلمة ففى صحيح مسلم عن أم سلمة قالت قال رسول الله ( يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث فإذ كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارها قال يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته ( وفى الصحيحين عن عائشة قالت ( عبث رسول الله فى منامه فقلنا يا رسول الله صنعت شيئا فى منامك لم تكن تفعله فقال العجب أن ناسا من أمتى يؤمون هذا البيت برجل من قريش وقد لجأ إلى البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسفت بهم فقلنا يا رسول الله أن الطريق قد يجمع الناس قال نعم فيهم المستنصر والمجنون وإبن السبيل فيهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله عز وجل على نياتهم ( وفى لفظ للبخارى عن عائشة قالت قال رسول الله ( يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم قالت قلت يا رسول كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم قال يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم
____________________
(28/536)
وفى صحيح مسلم عن حفصة أن رسول الله قال سيعوذ بهذا البيت يعنى الكعبة قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة يبعث إليهم جيش يومئذ حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم قال يوسف بن ماهك وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة فقال عبد الله بن صفوان أما والله ما هو بهذا الجيش
فالله تعالى أهلك الجيش الذى أراد أن ينتهك حرماته المكره فيهم وغير المكره مع قدرته على التمييز بينهم مع أنه يبعثهم على نياتهم فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين المكره وغيره وهم لا يعلمون ذلك بل لو إدعى مدع أنه خرج مكرها لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه كما روى أن العباس بن عبد المطلب قال للنبى لما أسره المسلمون يوم بدر يا رسول الله أنى كنت مكرها فقال ( أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فالى الل ( هـ بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضا
فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار ولو لم نخف على المسلمين جاز رمى أولئك المسلمين أيضا فى أحد قولى العلماء ومن قتل لأجل الجهاد الذى
____________________
(28/537)
أمر الله به ورسوله هو فى الباطن مظلوم كان شهيدا وبعث على نيته ولم يكن قتله أعظم فسادا من قتل من يقتل من المؤمنين المجاهدين
وإذا كان الجهاد واجبا وإن قتل من المسلمين ما شاء الله فقتل من يقتل فى صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا بل قد أمر النبى المكره فى قتال الفتنة بكسر سيفه وليس له أن يقاتل وإن قتل كما فى صحيح مسلم عن أبى بكرة قال قال رسول الله ( أنها ستكون فتن ألاثم تكون فتن ألاثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشى والماشى فيها خير من الساعى ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بابله 2 ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج أن إستطاع النجاة اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فقال رجل يا رسول الله أرأيت أن أكرهت حتى ينطلق بى إلى إحدى الصفين أو إحدى الفئتين فيضربنى رجل بسيفه أو بسهمه فيقتلنى قال يبوء باثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار
____________________
(28/538)
ففى هذا الحديث أنه نهى عن القتال فى الفتنة بل أمر بما يتعذر معه القتال من الإعتزال أو إفساد السلاح الذى يقاتل به وقد دخل فى ذلك المكره وغيره ثم بين أن المكره إذا قتل ظلما كان القاتل قد باء باثمه وإثم المقتول كما قال تعالى فى قصة إبنى آدم عن المظلوم { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين } ومعلوم أن الإنسان إذا صال صائل على نفسه جاز له الدفع بالسنة والإجماع وإنما تنازعوا هل يجب عليه الدفع بالقتال على قولين هما روايتان عن أحمد ( أحداهما ) يجب الدفع عن نفسه ولو لم يحضر الصف والثانية يجوز له الدفع عن نفسه وأما الإبتداء بالقتال فى الفتنة فلا يجوز بلا ريب
والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال فى الفتنة ليس له أن يقاتل بل عليه إفساد سلاحه وأن يصبر حتى يقتل مظلوما فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام كما نعى الزكاة والمرتدين ونحوهم فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون
كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين وكما لو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم فإنه لا يجوز له قتله بإتفاق المسلمين وإن اكرهه بالقتل فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس
____________________
(28/539)
فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يقتل هو بل إذا فعل ذلك كان القود على المكره والمكره جميعا عند أكثر العلماء كأحمد ومالك والشافعى فى أحد قوليه وفى الآخر يجب القود على المكره فقط كقول أبى حنيفة ومحمد وقيل القود على المكره المباشر كما روى ذلك عن زفر وأبو يوسف يوجب الضمان بالدية بدل القود ولم يوجبه وقد روى مسلم فى صحيحه عن النبى صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود وفيها ( أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين
ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم فى صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان فى ذلك مصلحة للمسلمين وقد بسطنا القول فى هذه المسألة فى موضع آخر
فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره كان ما يفضى إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التى لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذى لا يندفع إلا بذلك أولى وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قتل وإن كان المال الذى يأخذه قيراطا من دينار كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ( من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون حرمه فهو شهيد فكيف
____________________
(28/540)
بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام المحاربين لله ورسوله الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين فى أنفسهم وأموالهم وحرمهم ودينهم وكل من هذه يبيح قتال الصائل عليها ومن قتل دونها فهو شهيد فكيف بمن قاتل عليها كلها وهم من شر البغاة المتأولين الظالمين
لكن من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون فقد أخطأ خطأ قبيحا وضل ضلالا بعيدا فإن أقل ما فى البغاة المتأولين أن يكون لهم تأويل سائغ خرجوا به ولهذا قالوا إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها فأى شبهة لهؤلاء المحاربين لله ورسوله الساعين فى الأرض فسادا الخارجين عن شرائع الدين ولا ريب أنهم لا يقولون أنهم أقوم بدين الإسلام علما وعملا من هذه الطائفة بل هم مع دعواهم الإسلام يعلمون أن هذه الطائفة أعلم بالإسلام منهم وأتبع له منهم وكل من تحت أديم السماء من مسلم وكافر يعلم ذلك وهم مع ذلك ينذرون المسلمين بالقتال فإمتنع أن تكون لهم شبهة بينه يستحلون بها قتال المسلمين كيف وهم قد سبوا غالب حريم الرعية الذين لم يقاتلوهم حتى أن الناس قد رأوهم يعظمون البقعة ويأخذون ما فيها من الأموال ويعظمون الرجل
____________________
(28/541)
ويتبركون به ويسلبونه ماعليه من الثياب ويسبون حريمه ويعاقبونه بأنواع العقوبات التى لا يعاقب بها إلا أظلم الناس وأفجرهم والمتأول تأويلا دينيا لا يعاقب إلا من يراه عاصيا للدين وهم يعظمون من يعاقبونه فى الدين ويقولون أنه أطوع لله منهم فأى تأويل بقى لهم ثم لو قدر أنهم متأولون لم يكن تأويلهم سائغا بل تأويل الخوارج ومانعى الزكاة أوجه من تأويلهم
أما الخوارج فإنهم إدعوا إتباع القرآن وإن ما خالفه من السنة لا يجوز العمل به وأما مانعوا الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا أن الله قال لنبيه ( خذ من أموالهم صدقة ) وهذا خطاب لنبيه فقط فليس علينا أن ندفعها لغيره فلم يكونوا يدفعونها لأبى بكر ولا يخرجونها له والخوارج لهم علم وعبادة وللعلماء معهم مناظرات كمناظرتهم مع الرافضة والجهمية وأما هؤلاء فلا يناظرون على قتال المسلمين فلو كانوا متأولين لم يكن لهم تأويل يقوله ذو عقل
وقد خاطبنى بعضهم بأن قال ملكنا ملك إبن ملك إبن ملك إلى سبعة أجداد وملككم إبن مولى فقلت له آباء ذلك الملك كلهم كفار ولا فخر بالكافر بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر قال الله تعالى { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } فهذه وأمثالها حججهم ومعلوم أن من كان مسلما وجب
____________________
(28/542)
عليه أن يطيع المسلم ولو كان عبدا ولا يطيع الكافر وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( إسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشى كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ودين الإسلام ( إنما يفضل الأنسان بإيمانه وتقواه لا بآبائه ولو كانوا من بنى هاشم أهل بيت النبى فإن الله خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبدا حبشيا وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفا قرشيا وقد قال الله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وفى السنن عنه أنه قال لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب (
وفى الصحيحين عنه أنه قال لقبيلة قريبة منه ( أن آل أبى فلان ليسوا بأوليائى إنما وليى الله وصالح المؤمنين ( فأخبر النبى أن موالاته ليست بالقرابة والنسب بل بالإيمان والتقوى فإذا كان هذا فى قرابة الرسول فكيف بقرابة جنكسخان الكافر المشرك وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه فى الإيمان والتقوى وإن كان الأول أسود حبشيا والثانى علويا أو عباسيا
____________________
(28/543)
وسئل رحمه الله ورضى
عنه عن أجناد يمتنعون عن قتال التتار ويقولون أن فيهم من يخرج مكرها معهم واذا هرب أحدهم هل يتبع أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالم قتال التتار الذين قدموا إلى بلاد الشام واجب بالكتاب والسنة فان الله يقول فى القرآن { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } والدين هو الطاعة فاذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله ولهذا قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وهذه الآية نزلت فى اهل الطائف لما دخلوا في الاسلام والتزموا الصلاة والصيام لكن امتنعوا من ترك الربا فبين الله انهم محاربون له ولرسوله اذا لم ينتهوا عن الربا والربا هو آخر ما حرمه الله وهومال يؤخذ برضا صاحبه فاذا كان هؤلاء محاربين لله ورسوله يجب جهادهم فكيف بمن يترك كثيرا من شرائع الاسلام او اكثرها كالتتار
____________________
(28/544)
وقد اتفق علماء المسلمين على ان الطائفة الممتنعة اذا امتنعت عن بعض واجبات الاسلام الظاهرة المتواترة فانه يجب قتالها اذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة والزكاة او صيام شهر رمضان او حج البيت العتيق او عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة أو عن تحريم الفواحش أو الخمر او نكاح ذوات المحارم أو عن استحلال النفوس والأموال بغير حق او الربا اوالميسر أو الجهاد للكفار او عن ضربهم الجزية على أهل الكتاب ونحو ذلك من شرائع الاسلام فانهم يقاتلون عليها حتى يكون الدين كله لله
وقد ثبت فى الصحيحين ان عمر لما ناظر أبا بكر فى مانعى الزكاة قال له ابو بكر كيف لا أقاتل من ترك الحقوق التى اوجبها الله ورسوله وان كان قد اسلم كالزكاة 1 وقال له فان الزكاة من حقها والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها قال عمر فما هو الا ان رأيت الله قد شرح صدر ابى بكر للقتال فعلمت انه الحق وقد ثبت فى الصحيح من غير وجه ان النبي ذكر الخوارج وقال فيهم ( يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية اينما لقيتموهم
____________________
(28/545)
فاقتلوهم فان فى قتلهم اجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة لئن ادركتهم لاقتلنهم قتل عاد وقد اتفق السلف والأئمة على قتال هؤلاء وأول من قاتلهم امير المؤمنين علي بن ابى طالب رضي الله عنه وما زال المسلمون يقاتلون فى صدر خلافة بنى امية وبنى العباس مع الأمراء وان كانوا ظلمة وكان الحجاج ونوابه ممن يقاتلونهم فكل أئمة المسلمين يأمرون بقتالهم
والتتار واشباههم أعظم خروجا عن شريعة الإسلام من مانعى الزكاة والخوارج من اهل الطائف الذين امتنعوا عن ترك الربا فمن شك فى قتالهم فهو أجهل الناس بدين الاسلام وحيث وجب قتالهم قوتلوا وان كان فيهم المكره باتفاق المسلمين كما قال العباس لما أسر يوم بدر يا رسول الله إنى خرجت مكرها فقال النبى ( اما ظاهرك فكان علينا واما سريرتك فالى الله (
وقد اتفق العلماء على ان جيش الكفار اذا تترسوا بمن عندهم من اسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر اذا لم يقاتلوا فانهم يقاتلون وان افضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم وان
____________________
(28/546)
لم يخف على المسلمين ففى جواز القتال المفضى إلى قتل هؤلاء المسلمين قولان مشهوران للعلماء وهؤلاء المسلمون اذا قتلوا كانوا شهداء ولا يترك الجهاد الواجب لاجل من يقتل شهيدا فان المسلمين اذا قاتلوا الكفار فمن قتل من المسلمين يكون شهيدا ومن قتل وهو فى الباطن لا يستحق القتل لأجل مصلحة الاسلام كان شهيدا وقد ثبت فى الصحيحين عن النبي انه قال ( يغزو هذا البيت جيش من الناس فبينما هم ببيداء من الارض اذ خسف بهم فقيل يا رسول الله وفيهم المكره فقال يبعثون على نياتهم ( فاذا كان العذاب الذى ينزله الله بالجيش الذي يغزو المسلمين ينزله بالمكره وغير المكره فكيف بالعذاب الذي يعذبهم الله به او بأيدى المؤمنين كما قال تعالى { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا }
ونحن لا نعلم المكره ولا نقدر على التمييز فاذا قتلناهم بأمر الله كنا فى دلك مأجورين ومعذورين وكانوا هم على نياتهم فمن كان مكرها لا يستطيع الامتناع فانه يحشر على نيته يوم القيامة فاذا قتل لأجل قيام الدين لم يكن ذلك بأعظم من قتل من يقتل من عسكر المسلمين واما اذا هرب احدهم فان من الناس من يجعل قتالهم بمنزلة قتال البغاة المتأولين
____________________
(28/547)
وهؤلاء اذا كان لهم طائفة ممتنعة فهل يجوز اتباع مدبرهم وقتل اسيرهم والاجهاز على جريحهم على قولين للعلماء مشهورين فقيل لا يفعل ذلك لان منادى علي بن ابى طالب نادى يوم الجمل لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يقتل اسير وقيل بل يفعل ذلك لأنه يوم الجمل لم يكن لهم طائفة ممتنعة وكان المقصود من القتال دفعهم فلما اندفعوا لم يكن إلى ذلك حاجة بمنزلة دفع الصائل وقد روى انه يوم الجمل وصفين كان امرهم بخلاف ذلك فمن جعلهم بمنزلة البغاة المتأولين جعل فيهم هذين القولين والصواب ان هؤلاء ليسوا من البغاة المتأولين فان هؤلاء ليس لهم تأويل سائغ اصلا وانما هم من جنس الخوارج المارقين ومانعى الزكاة واهل الطائف والخرمية ونحوهم ممن قوتلوا على ما خرجوا عنه من شرائع الاسلام
وهذا موضع اشتبه على كثير من الناس من الفقهاء فان المصنفين فى ( قتال أهل البغى ( جعلوا قتال مانعى الزكاة وقتال الخوارج وقتال علي لاهل البصرة وقتاله لمعاوية واتباعه من قتال اهل البغى وذلك كله مأمور به وفرعوا مسائل ذلك تفريع من يرى ذلك بين الناس وقد غلطوا بل الصواب ما عليه أئمة الحديث والسنة واهل المدينة النبوية كالاوزاعى والثورى ومالك واحمد بن حنبل
____________________
(28/548)
وغيرهم انه يفرق بين هذا وهذا فقتال علي للخوارج ثابت بالنصوص الصريحة عن النبى باتفاق المسلمين واما القتال ( يوم صفين ( ونحوه فلم يتفق عليه الصحابة بل صد عنه اكابر الصحابة مثل سعد بن ابى وقاص ومحمد بن مسلمة واسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وغيرهم ولم يكن بعد علي بن ابي طالب فى العسكرين مثل سعد بن ابى وقاص
والأحاديث الصحيحة عن النبى تقتتضى انه كان يجب الاصلاح بين تينك الطائفتين لا الاقتتال بينهما كما ثبت عنه فى صحيح البخاري انه خطب الناس والجيش معه فقال ( ان ابنى هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين ( فأصلح الله بالحسن بين اهل العراق واهل الشام فجعل النبى صلى الله عليه وسلم الاصلاح به من فضائل الحسن مع ان الحسن نزل عن الامر وسلم الأمر إلى معاوية فلو كان القتال هو المأمور به دون ترك الخلافة ومصالحة معاوية لم يمدحه النبى على ترك ما امر به وفعل ما لم يؤمر به ولا مدحه على ترك الأولى وفعل الأدنى فعلم ان الذى فعله الحسن هو الذى كان يحبه الله ورسوله لا القتال وقد ثبت فى الصحيح ان النبى كان يضعه وأسامة على فخذيه ويقول ( اللهم انى احبهما فأحبهما واحب
____________________
(28/549)
من يحبهما ( وقد ظهر اثر محبة رسول الله لهما بكراهتهما القتال فى الفتنة فان اسامة امتنع عن القتال مع واحدة من الطائفتين وكذلك الحسن كان دائما يشير على علي بأنه لا يقاتل ولما صار الأمر إليه فعل ما كان يشير به على ابيه رضى الله عنهم اجمعين
وقد ثبت عنه فى الصحيح انه قال ( تمرق مارقة علي حين فرقة من المسلمين تقتلهم اولى الطائفتين بالحق ( فهذه المارقة هم الخوارج وقاتلهم علي بن ابى طالب وهذا يصدقه بقية الأحاديث التى فيها الأمر بقتال الخوارج وتبين ان قتلهم مما يحبه الله ورسوله وان الذين قاتلوهم مع علي اولى بالحق من معاوية واصحابه مع كونهم اولى بالحق فلم يأمر النبى بالقتال لواحدة من الطائفتين كما امر بقتال الخوارج بل مدح الاصلاح بينهما وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم من كراهة القتال فى الفتن والتحذير منها من الاحاديث الصحيحة ما ليس هذا موضعه كقوله ( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشى والماشى خير من الساعى ) وقال ( يوشك ان يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن (
____________________
(28/550)
فالفتن مثل الحروب التى تكون بين ملوك المسلمين وطوائف المسلمين مع أن كل واحدة من الطائفتين ملتزمة لشرائع الإسلام مثل ما كان أهل الجمل وصفين وإنما إقتتلوا لشبه وأمور عرضت وأما قتال الخوارج ومانعى الزكاة وأهل الطائف الذين لم يكونوا يحرمون الربا فهؤلاء يقاتلون حتى يدخلوا فى الشرائع الثابتة عن النبى صلى الله عليه وسلم
وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة فلا ريب أنه يجوز قتل أسيرهم وأتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم فإن هؤلاء إذا كانوا مقيمين ببلادهم على ما هم عليه فإنه يجب على المسلمين أن يقصدوهم فى بلادهم لقتالهم حتى يكون الدين كله لله فإن هؤلاء التتار لا يقاتلون على دين الإسلام بل يقاتلون الناس حتى يدخلوا فى طاعتهم فمن دخل فى طاعتهم كفوا عنه وإن كان مشركا أو نصرانيا أو يهوديا ومن لم يدخل كان عدوا لهم وإن كان من الأنبياء والصالحين وقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا أعداءه الكفار ويوالوا عباده المؤمنين فيجب على المسلمين من جند الشام ومصر واليمن والمغرب جميعهم أن يكونوا متعاونين على قتال الكفار وليس لبعضهم أن يقاتل بعضا بمجرد الرياسة والأهواء فهؤلاء التتار أقل ما يجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الكفار وإن يكفوا من قتال من يليهم من المسلمين ويتعاونون هم وهم على
____________________
(28/551)
قتال الكفار وأيضا لا يقاتل معهم غير مكره إلا فاسق أو مبتدع أو زنديق كالملاحدة القرامطة الباطنية وكالرافضة السبابة وكالجهمية المعطلة من النفاة الحلولية ومعهم ممن يقلدونه من المنتسبين إلى العلم والدين من هو شر منهم فإن التتار جهال يقلدون الذين يحسنون به الظن وهم لضلالهم وغيهم يتبعونه فى الضلال الذى يكذبون به على الله ورسوله ويبدلون دين الله ولا يحرمون ماحرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ولو وصفت ما أعلمه من أمورهم لطال الخطاب
وبالجملة فمذهبهم ودين الإسلام لا يجتمعان ولو أظهروا دين الإسلام الحنيفى الذى بعث رسوله به لإهتدوا وأطاعوا مثل الطائفة المنصورة فإن النبى قد ثبت عنه أنه قال ( لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولامن خذلهم حتى تقوم الساعة ( وثبت عنه فى الصحيح أنه قال لايزال أهل الغرب ظاهرين ( وأول الغرب ما يسامت البيرة ونحوها فإن النبى تكلم بهذا الكلام وهو بالمدينة النبوية فما يغرب عنها فهو غرب كالشام ومصر وما شرق عنها فهو شرق كالجزيرة والعراق وكان السلف يسمون أهل الشام ( أهل المغرب ( ويسمون ( أهل العراق أهل المشرق ( وهذه الجملة التى ذكرتها فيها
____________________
(28/552)
وسئل رحمه الله
عن طائفة من رعية البلاد كانوا يرون مذهب النصيرية ثم أجمعوا على رجل وإختلفت أقوالهم فيه فمنهم من يزعم أنه إله ومنهم من يزعم أنه نبى مرسل ومنهم من إدعى أنه محمد بن الحسن يعنون المهدى وأمروا من وجده بالسجود له وأعلنوا بالكفر بذلك وسب الصحابة وأظهروا الخروج عن الطاعة وعزموا على المحاربة فهل يجب قتالهم وقتل مقاتلتهم وهل تباح ذراريهم وأموالهم أم لا
فأجاب الحمد لله هؤلاء يجب قتالهم ما داموا ممتنعين حتى يلتزموا شرائع الإسلام فإن النصيرية من أعظم الناس كفرا بدون أتباعهم لمثل هذا الدجال فكيف إذا إتبعوا مثل هذاالدجال وهم مرتدون من أسوأ الناس ردة تقتل مقاتلتهم وتغنم أموالهم وسبى الذرية فية نزاع لكن أكثر العلماء على أنة تسبى الصغار من أولاد المرتدين وهذا هو الذى دلت علية سيرة الصديق فى قتال المرتدين وكذلك قد تنازع العلماء فى استرقاق المرتد فطائفة تقول انها تسترق
____________________
(28/553)
كقول أبي حنيفة وطائفة تقول لا تسترق كقول الشافعى واحمد والمعروف عن الصحابة هو الأول وانه تسترق منه المرتدات نساء المرتدين فإن الحنفية التى تسرى بها علي بن ابى طالب رضي الله عنه ام ابنه محمد بن الحنفية من سبى بني حنيفة المرتدين الذين قاتلهم ابو بكر الصديق رضي الله عنه والصحابة لما بعث خالد بن الوليد فى قتالهم
و ( النصيرية ( لا يكتمون امرهم بل هم معروفون عند جميع المسلمين لا يصلون الصلوات الخمس ولا يصومون شهر رمضان ولا يحجون البيت ولا يؤدون الزكاة ولا يقرون بوجوب ذلك ويستحلون الخمر وغيرها من المحرمات ويعتقدون ان الاله علي بن ابى طالب ويقولون ** نشهد ان لا إله إلا ** حيدرة الانزع البطين ** ** ولا حجاب عليه الا ** 5 محمد الصادق الامين ** 5 ولا طريق إليه الا ** ** سلمان ذو القوة المتين **
واما اذا لم يظهروا الرفض وان هذا الكذاب هو المهدى المنتظر وامتنعوا فانهم يقاتلون ايضا لكن يقاتلون كما يقاتل الخوارج المارقون الذين قاتلهم على بن ابى طالب رضى الله عنه بأمر رسول الله صلى الله
____________________
(28/554)
عليه وسلم وكما يقاتل المرتدون الذين قاتلهم ابو بكر الصديق رضى الله عنه فهؤلاء يقاتلون ما داموا ممتنعين ولا تسبى ذراريهم ولا تغنم اموالهم التى لم يستعينوا بها على القتال واما ما استعانوا به على قتال المسلمين من خيل وسلاح وغيرذلك ففي اخذه نزاع بين العلماء وقد روى عن على بن ابى طالب انه نهب عسكره ما فى عسكر الخوارج فان رأى ولي الامر أن يستبيح ما فى عسكرهم من المال كان هذا سائغا هذا ما داموا ممتنعين
فان قدر عليهم فانه يجب ان يفرق شملهم وتحسم مادة شرهم والزامهم شرائع الاسلام وقتل من اصر على الردة منهم
واما قتل من اظهر الاسلام وابطن كفرا منه وهوالمنافق الذي تسميه الفقهاء ( الزنديق ( فأكثر الفقهاء على انه يقتل وان تاب كما هو مذهب مالك واحمد فى اظهر الروايتين عنه واحد القولين فى مذهب ابى حنيفة والشافعى
ومن كان داعيا منهم إلى الضلال لا ينكف شره الا بقتله قتل ايضا وان اظهر التوبة وان لم يحكم بكفره كأئمة الرفض الذين يضلون الناس كما قتل المسلمون غيلان القدري والجعد بن درهم وامثالهما من الدعاة فهذا الدجال يقتل مطلقا والله اعلم
____________________
(28/555)
وسئل الشيخ
عن قوم ذوي شوكة مقيمين بأرض وهم لا يصلون الصلوات المكتوبات وليس عندهم مسجد ولا اذان ولا اقامة وان صلى احدهم صلى الصلاة غير المشروعة ولا يؤدون الزكاة مع كثرة اموالهم من المواشى والزروع وهم يقتتلون فيقتل بعضهم بعضا وينهبون مال بعضهم بعضا ويقتلون الاطفال وقد لا يمتنعون عن سفك الدماء واخذ الأموال لافى شهر رمضان ولا فى الاشهر الحرم ولا غيرها واذا اسر بعضهم بعضا باعوا اسراهم للافرنج ويبيعون رقيقهم من الذكور والاناث للافرنج علانية ويسوقونهم كسوق الدواب ويتزوجون المرأة فى عدتها ولا يورثون النساء ولا ينقادون لحاكم المسلمين واذا دعى احدهم الى الشرع قال انا الشرع إلى غير ذلك فهل يجوز قتالهم والحالة هذه وكيف الطريق إلى دخولهم فى الاسلام مع ما ذكر
فأجاب نعم يجوز بل يجب باجماع المسلمين قتال هؤلاء وامثالهم من كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الاسلام الظاهرة
____________________
(28/556)
المتواترة مثل الطائفة الممتنعة عن الصلوات الخمس او عن اداء الزكاة المفروضة إلى الاصناف الثمانية التى سماها الله تعالى فى كتابه اوعن صيام شهر رمضان او الذين لا يمتنعون عن سفك دماء المسلمين واخذ اموالهم او لا يتحاكمون بينهم بالشرع الذي بعث الله به رسوله كما قال ابو بكر الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم فى مانعى الزكاة وكما قاتل علي بن ابى طالب واصحاب النبى الخوارج الذين قال فيهم النبى ( يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لايجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كمايمرق السهم من الرمية اينما لقيتموهم فاقتلوهم فان فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ( وذلك بقوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وبقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } والربا آخر ما حرمه الله ورسوله فكيف بما هو اعظم تحريما
ويدعون قبل القتال إلى التزام شرائع الاسلام فان التزموها استوثق منهم ولم يكتف منهم بمجرد الكلام كما فعل ابو بكر بمن قاتلهم بعد ان اذلهم وقال اختاروا إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية وقال انا خليفة رسول الله فقالوا هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم
____________________
(28/557)
المخزية قال تشهدون ان قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار وننزع منكم الكراع يعنى الخيل والسلاح حتى يرى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون امرا بعد
فهكذا الواجب فى مثل هؤلاء اذا اظهروا الطاعة يرسل اليهم من يعلمهم شرائع الاسلام ويقيم بهم الصلوات وما ينتفعون به من شرائع الاسلام واما ان يستخدم بعض المطيعين منهم فى جند المسلمين ويجعلهم فى جماعة المسلمين واما بأن ينزع منهم السلاح الذى يقاتلون به ويمنعون من ركوب الخيل واما انهم يضعوه حتى يستقيموا واما ان يقتل الممتنع منهم من التزام الشريعة وان لم يستجيبوا لله ولرسوله وجب قتالهم حتى يلتزموا شرائع الاسلام الظاهرة المتواترة وهذا متفق عليه بين علماء المسلمين والله أعلم
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
فيم استقر اطلاقه من الملوك المتقدمين والى الآن من وجوه البر والقربات على سبيل المرتب للمرتزقين من الفقراء والمساكين على اختلاف احوالهم فمنهم الفقير الذى لا مال له ومنهم من له عائلة كثيرة يلزمه نفقتهم وكسبه لايقوم بكلفتهم ومنهم المنقطع إلى الله تعالى الذى ليس له سبب يتسبب به لا يحسن صنعه يصنعها ومنهم العاجز عن
____________________
(28/558)
الحركة لكبر او ضعف ومنهم الصغير دون البالغ والنساء الأرامل وذو العاهات ومنهم المشتغلون بالعلم الشريف وقراءة القرآن ومن للمسلمين بهم نفع عام وله فى بيت المال نصيب ومنهم ارباب الزوايا والربط المتجردون للعبادة وتلقى الورادين من الفقهاء واهل العلم وغيرهم من ابناء السبيل ومنهم ايتام المستشهدين فى سبيل الله تعالى من اولاد الجند وغيرهم من لم يخلف له مايكفيه وممن يسأل احياء الموات فأحياها او استصلح احراسا عاليه لتكون له مستمرة بعد اصلاحها فأستخرجها فى مدة سنين عديدة واستقرت عليه على جارى العوائد فى مثل ذلك
فهل تكون هذه الانساب التى اتصفوا بها مسوغة لهم تناول ما نالوه من ذلك واطلقه لهم ملوك الاسلام ونوابهم على وجه المصلحة واستقر بأيديهم إلى الآن ام لا
وما حكم من ينزلهم بعدم الاستحقاق مع وجود هذه الصفات وتقرب إلى السلطان بالسعى بقطع ارزاقهم المؤدى إلى تعطيل الزوايا ومعظم الزوايا والربط التى يرتفق بها ابناء السبيل وغيرهم من المجردين ويقوم بها شعار الاسلام هل يكون بذلك آثما عاصيا أم لا وهل يجب ان يكلف هؤلاء اثبات استحقاقهم مع كون ذلك مستقرا بأيديهم من قبل اولى الامر ولو كلفوا ذلك فهل يتعين عليهم اثباته عند حاكم بعينه
____________________
(28/559)
غريب من بلادهم متظاهر بمنافرتهم مع وجود عدة من الحكام غيره فى بلادهم اولا وما حكم من عجز منهم عن الاثبات لضعفه عن اقامة البينة الشرعية لما غلب عليه الحال من ان شهود هذا الزمان لا يؤدون شهادة الا بأجرة ترضيهم وقد يعجز الفقير عن مثلها وكذلك النسوة اللاتى لا يعلم الشهود احوالهن غالبا
واذا سأل الامام حاكما عن استحقاق من ذكر فأجاب بأنه لا يستحق من هؤلاء المذكورين ومن يجرى مجراهم الا الأعمى والمكسح والزمن لا غير واضرب عما سواهم من غير اطلاع على حقيقة احوالهم هل يكون بذلك آثما عاصيا ام لا وما الذى يجب عليه فى ذلك واذا سأله الامام عن الزوايا والربط هل يستحق من هو بها ما هو مرتب لهم فأجاب بأن هذه الزوايا والربط دكاكين ولا شك ان فيهم الصلحاء والعلماء وحملة الكتاب العزيز والمنقطعين إلى الله تعالى هل يكون مؤذيا لهم بذلك ام لا
وما حكم هذا القول المطلق فيهم مع عدم المعرفة بجميعهم والاطلاع على حقيقة احوالهم بالكلية اذا تبين سقوطه وبطلانه هل تسقط بذلك روايته وما عداها من اخباره ام لا وهل للمقذوفين الدعوى عليه بهذا الطعن عليهم المؤدى عند الملوك إلى قطع ارزاقهم وان يكلفوه اثبات ذلك واذا عجز عن اثباته فهل لهم مطالبته
____________________
(28/560)
بمقتضاه ام لا واذا عجز عن ثبوت ذلك هل يكون قادحا فى عدالته وجرحه ينعزل بها عن المناصب الدينية ام لا
ومن كانت هذه صفته لهذه الطائفة وهم له فى غاية الكراهة هل يجوز ان يؤم بهم وقد جاء ( لا يؤم الرجل قوما اكثرهم له كارهون (
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذه المسائل تحتاج إلى تقرير اصل جامع فى اموال بيت المال مبني على الكتاب والسنة التى سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون كما قال عمر بن عبد العزيز سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده اشياء الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله وقوة على طاعة الله ليس لأحد تغييرها ولا النظر فى رأى من خالفها من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا وقد قال ( اوصيكم بالسمع والطاعة فانه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة (
والواجب على ولاة الأمور وغيرهم من المسلمين العمل من ذلك
____________________
(28/561)
بما عليهم كما قال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبى ( اذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم واذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه (
ونحن نذكر ذلك مختصرا فنقول الأموال التى لها اصل في كتاب الله التى يتولى قسمها ولاة الأمر ثلاثة
( مال المغانم ( وهذا لمن شهد الوقعة الا الخمس فان مصرفه ما ذكره الله فى قوله { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله } و ( المغانم ( ما أخذ من الكفار بالقتال فهذه المغانم وخمسها و ( الثانى الفيء ( وهو الذى ذكره الله تعالى فى سورة الحشر ( حيث قال { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } ومعنى قوله { فما أوجفتم } أي ما حركتم ولا اعملتم ولا سقتم يقال وجف البعير يجف وجوفا واوجفته اذا سار نوعا من السير فهذا هو الفيء الذي افاءه الله على رسوله وهو ما صار للمسلمين بغير ايجاف خيل ولا ركاب وذلك عبارة عن
____________________
(28/562)
القتال أي ما قاتلتم عليه فما قاتلوا عليه كان للمقاتلة وما لم يقاتلوا عليه فهو فيء لأن الله أفاءه على المسلمين فانه خلق الخلق لعبادته واحل لهم الطيبات ليأكلوا طيبا ويعملوا صالحا والكفار عبدوا غيره فصاروا غير مستحقين للمال فأباح للمؤمنين ان يعبدوه وان يسترقوا انفسهم وان يسترجعوا الاموال منهم فاذا اعادها الله إلى المؤمنين منهم فقد فاءت أي رجعت إلى مستحقيها
وهذا الفيء يدخل فيه جزية الرؤوس التى تؤخذ من اهل الذمة ويدخل فيه ما يؤخذ منهم من العشور وانصاف العشور وما يصالح عليه الكفار من المال كالذى يحملونه وغير ذلك ويدخل فيه ما جلوا عنه وتركوه خوفا من المسلمين كأموال بنى النضير التى انزل الله فيها ( سورة الحشر ( وقال { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار } وهؤلاء اجلاهم النبى وكانوا يسكنون شرقى المدينة النبوية فأجلاهم بعد ان حاصرهم وكانت اموالهم مما افاء الله على رسوله
____________________
(28/563)
وذكر مصارف الفيء بقوله { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } فهؤلاء المهاجرون والأنصار ومن جاء بعدهم إلى يوم القيامة ولهذا قال مالك وابو عبيد وابو حكيم النهروانى من اصحاب احمد وغيرهم ان من سب الصحابة لم يكن له فى الفيء نصيب
ومن الفيء ما ضربه عمر رضى الله عنه على الأرض التى فتحها عنوة ولم يقسمها كأرض مصر وأرض العراق الا شيئا يسيرا منها وبر الشام وغير ذلك فهذا الفيء لا خمس فيه عند جماهير الأئمة كابي حنيفة ومالك وأحمد وانما يرى تخميسة الشافعى وبعض
____________________
(28/564)
اصحاب احمد وذكر ذلك رواية عنه قال بن المنذر لا يحفظ عن احد قبل الشافعى ان فى الفيء خمسا كخمس الغنيمة
وهذا الفيء لم يكن ملكا للنبى فى حياته عند اكثر العلماء وقال الشافعى وبعض اصحاب احمد كان ملكا له
واما مصرفه بعد موته فقد اتفق العلماء على ان يصرف منه ارزاق الجند المقاتلين الذين يقاتلون الكفار فان تقويتهم تذل الكفار فيؤخذ منهم الفيء وتنازعوا هل يصرف فى سائر مصالح المسلمين ام تختص به المقاتلة على قولين للشافعى ووجهين فى مذهب الامام احمد لكن المشهور فى مذهبه وهو مذهب ابى حنيفة ومالك انه لا يختص به المقاتلة بل يصرف فى المصالح كلها
وعلى القولين يعطى من فيه منفعة عامة لأهل الفيء فان الشافعى قال ينبغى للامام ان يخص من فى البلدان من المقاتلة وهو من بلغ ويحصى الذرية وهي من دون ذلك والنساء إلى ان قال ثم يعطى المقاتلة في كل عام عطاءهم ويعطى الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم قال والعطاء من الفيء لا يكون الا لبالغ يطيق القتال قال ولم يختلف احد ممن لقيه فى انه ليس للمماليك فى العطاء حق ولا للاعراب الذين هم اهل الصدقة قال فان فضل من الفيء شيء وضعه الامام فى اهل الحصون والازدياد في الكراع والسلاح وكل ما
____________________
(28/565)
يقوى به المسلمون فإن إستغنوا عنه وحصلت كل مصلحة لهم فرق ما يبقى عنهم بينهم على قدر ما يستحقون من ذلك المال قال ويعطى من الفيء رزق العمال والولاة وكل من قام بأمر الفيء من وال وحاكم وكاتب وجندى ممن لا غنى لأهل الفيء عنه
وهذا مشكل مع قوله أنه لا يعطى من الفيء صبى ولا مجنون ولا عبد ولا إمرأة ولا ضعيف لا يقدر على القتال لأنه للمجاهدين
وهذا اذا كان للمصالح فيصرف منه إلى كل من للمسلمين به منفعة عامة كالمجاهدين وكولاة أمورهم من ولاة الحرب وولاة الديوان وولاة الحكم ومن يقرئهم القرآن ويفتيهم ويحدثهم ويؤمهم فى صلاتهم ويؤذن لهم ويصرف منه فى سداد ثغورهم وعمارة طرقاتهم وحصونهم ويصرف منه إلى ذوى الحاجات منهم أيضا ويبدأ فيه بالأهم فالأهم فيقدم ذوو المنافع الذين يحتاج المسلمون إليهم على ذوى الحاجات الذين لا منفعة فيهم هكذا نص عليه عامة الفقهاء من أصحاب أحمد والشافعى وأبى حنيفة وغيرهم
قال أصحاب أبى حنيفة يصرف فى المصالح ما يسد به الثغور من القناطر والجسور ويعطى قضاة المسلمين ما يكفيهم ويدفع منه أرزاق المقاتلة وذووا الحاجات يعطون من الزكوات ونحوها وما فضل عن
____________________
(28/566)
منافع المسلمين قسم بينهم لكن مذهب الشافعى وبعض اصحاب احمد انه ليس للاغنياء الذين لا منفعة للمسلمين بهم فيه حق اذا فضل المال واتسع عن حاجات المسلمين كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كثر المال اعطا منهم عامة المسلمين فكان لجميع اصناف المسلمين فرض فى ديوان عمر بن الخطاب غنيهم وفقيرهم لكن كان اهل الديوان نوعين مقاتلة وهم البالغون وذرية وهم الصغار والنساء الذين ليسوا من اهل القتال ومع هذا فالواجب تقديم الفقراء على الأغنياء الذين لا منفعة فيهم فلايعطى غنى شيئا حتى يفضل عن الفقراء هذا مذهب الجمهور كمالك واحمد فى الصحيح من الروايتين عنه ومذهب الشافعى كما تقدم تخصيص الفقراء بالفاضل
واما ( المال الثالث ( فهو الصدقات التى هي زكاة اموال المسلمين زكاة الحرث وهى العشور وانصاف العشور المأخوذة من الحبوب والثمار وزكاة الماشية وهى الابل والبقر والغنم وزكاة التجارة وزكاة النقدين فهذا المال مصرفه ما ذكره الله تعالى فى قوله { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم } وفى السنن ( ان النبى سأله رجل ان يعطيه شيئا من الصدقات
____________________
(28/567)
فقال إن الله لم يرض فى الصدقات بقسمة نبى ولا غيره ولكن جزأها ثمانية إجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك وقد إتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يخرج بالصدقات عن الأصناف الثمانية المذكورين في هذه الآية كما دل على ذلك القرآن
إذا تبين هذا الأصل فنذكر أصلا آخر ونقول أموال بيت المال فى مثل هذه الأزمنة هي أصناف صنف منها هو من الفيء أو الصدقات أو الخمس فهذا قد عرف حكمه وصنف صار إلى بيت المال بحق من غير هذه مثل من مات من المسلمين ولا وارث له ومن ذلك ما فيه نزاع ومنه ما هو متفق عليه وصنف قبض بغير حق أو بتأويل يجب رده إلى مستحقه إذا أمكن وقد تعذر ذلك مثل ما يؤخذ من مصادرات العمال وغيرهم الذين أخذوا من الهدايا وأموال المسلمين مالا يستحقونه فإسترجعه ولى الأمر منهم أو من تركاتهم ولم يعرف مستحقه ومثل ما قبض من الوظائف المحدثة وتعذر رده إلى أصحابه وأمثال ذلك
فهذه الأموال التى تعذر ردها إلى أهلها لعدم العلم بهم مثلا هي مما يصرف فى مصالح المسلمين عند أكثر العلماء وكذلك من كان عنده مال لا يعرف صاحبه كالغاصب التائب والخائن التائب والمرابى التائب ونحوهم ممن صار بيده مال لا يملكه ولايعرف صاحبه فإنه
____________________
(28/568)
يصرفه إلى ذوى الحاجات ومصالح المسلمين
إذا تبين هذان الأصلان فنقول من كان من ذوى الحاجات كالفقراء والمساكين والغارمين وإبن السبيل فهؤلاء يجوز بل يجب أن يعطوا من الزكوات ومن الأموال المجهولة بإتفاق المسلمين وكذلك يعطوا من الفيء مما فضل عن المصالح العامة التى لابد منها عند أكثر العلماء كما تقدم سواء كانوا مشتغلين بالعلم الواجب على الكفاية أو لم يكونوا وسواء كانوا فى زوايا أو ربط أو لم يكونوا لكن من كان مميزا بعلم أو دين كان مقدما على غيره وأحق هذا الصنف من ذكرهم الله بقوله { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } فمن كان ما هو مشغول به من العلم والدين الذى أحصر به فى سبيل الله قد منعه الكسب فهو أولى من غيره ويعطى قضاة المسلمين وعلماؤهم منه ما يكفيهم ويدفع منه أرزاق المقاتلة وذراريهم لا سيما من بنى هاشم الطالبيين والعباسيين وغيرهم فإن هؤلاء يتعين أعطاؤهم من الخمس والفيء والمصالح لكون الزكاة محرمة عليهم
والفقير الشرعى المذكور فى الكتاب والسنة الذى يستحق من الزكاة والمصالح ونحوهما ليس هو الفقير الإصطلاحى الذى يتقيد بلبسه
____________________
(28/569)
معينة وطريقة معينة بل كل من ليس له كفاية تكفيه وتكفى عياله فهو من الفقراء والمساكين
وقد تنازع العلماء هل الفقير اشد حاجة اوالمسكين او الفقير من يتعفف والمسكين من يسأل على ثلاثة اقوال لهم واتفقوا على ان من لا مال له وهو عاجز عن الكسب فانه يعطى ما يكفيه سواء كان لبسه لبس الفقير الاصطلاحى او لباس الجند والمقاتلة او لبس الشهود او لبس التجار او الصناع او الفلاحين فالصدقة لا يختص بها صنف من هذه الأصناف بل كل من ليس له كفاية تامة من هؤلاء مثل الصانع الذى لا تقوم صنعته بكفايته والتاجر الذى لا تقوم تجارته بكفايته والجندى الذى لا يقوم اقطاعه بكفايته والفقير والصوفى الذى لا يقوم معلومة من الوقف بكفايته والشاهد والفقيه الذى لا يقوم ما يحصل له بكفايته وكذلك من كان فى رباط او زاوية وهوعاجز عن كفايته فكل هؤلاء مستحقون
ومن كان من هؤلاء كلهم مؤمنا تقيا كان لله وليا فان اولياء الله الذين { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } من اي صنف كانوا من اصناف القبلة ومن كان من هؤلاء منافقا او مظهرا لبدعة تخالف الكتاب والسنة من بدع الاعتقادات والعبادات فانه مستحق للعقوبة ومن عقوبته ان يحرم حتى يتوب
____________________
(28/570)
واما من كان زنديقا كالحلولية والمباحية ومن يفضل متبوعه على النبى صلى الله عليه وسلم ومن يعتقد انه لا يجب عليه فى الباطن اتباع شريعة رسول الله او انه اذا حصلت له المعرفة والتحقيق سقط عنه الأمر والنهي او ان العارف المحقق يجوز له التدين بدين اليهود والنصارى ولا يجب عليه الاعتصام بالكتاب والسنة وامثال هؤلاء فان هؤلاء منافقون زنادقة واذا ظهر على احدهم فانه يجب قتله باتفاق المسلمين وهم كثيرون فى هذه الأزمنة
وعلى ولاة الأمور مع اعطاء الفقراء بل والأغنياء بأن يلزموا هؤلاء باتباع الكتاب والسنة وطاعة الله ورسوله ولا يمكنوا احدا من الخروج من ذلك ولو ادعى من الدعاوى ما ادعاه ولو زعم انه يطير فى الهواء او يمشى على الماء
ومن كان من الفقراء الذين لم تشغلهم منفعة عامة للمسلمين عن الكسب قادرا عليه لم يجز ان يعطى من الزكاة عند الشافعى واحمد وجوز ذلك ابو حنيفة وقد قال النبى ( لا تحل الصدقة لغنى ولا لقوى مكتسب ( ولا يجوز ان يعطى من الزكاة من يصنع بها دعوة وضيافة للفقراء ولا يقيم بها سماطا لا لوارد ولا غير وارد بل يجب ان يعطى ملكا للفقير المحتاج بحيث ينفقها على نفسه وعياله فى بيته ان شاء ويقضى منها ديونه ويصرفها
____________________
(28/571)
فى حاجاته
وليس فى المسلمين من ينكر صرف الصدقات وفاضل اموال المصالح إلى الفقراء والمساكين ومن نقل عنه ذلك فاما ان يكون من اجهل الناس بالعلم واما ان يكون من اعظم الناس كفرا بالدين بل بسائر الملل والشرائع او يكون النقل عنه كذبا اومحرفا فاما من هو متوسط فى علم ودين فلا يخفى عليه ذلك ولا ينهى عن ذلك
ولكن قداختلط فى هذه الأموال المرتبة السلطانية الحق والباطل فاقوام كثيرون من ذوى الحاجات والدين والعلم لا يعطى احدهم كفايته ويتمزق جوعا وهولا يسأل ومن يعرفه فليس عنده ما يعطيه واقوام كثيرون يأكلون اموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله وقوم لهم رواتب اضعاف حاجاتهم وقوم لهم رواتب مع غناهم وعدم حاجاتهم وقوم ينالون جهات كمساجد وغيرها فيأخذون معلومها ويستثنون من يعطون شيئا يسيرا واقوام فى الربط والزوايا يأخذون ما لا يستحقون ويأخذون فوق حقهم ويمنعون من هواحق منهم حقه او تمام حقه وهذا موجود فى مواضع كثيرة
ولا يستريب مسلم ان السعى فى تمييز المستحق من غيره واعطاء الولايات والأرزاق من هواحق بها والعدل بين الناس فى ذلك
____________________
(28/572)
وفعله بحسب الامكان هو من افضل اعمال ولاة الامور بل ومن اوجبها عليهم فان الله يأمر بالعدل والاحسان والعدل واجب على كل احد فى كل شيء وكما ان النظر فى الجند المقاتلة والتعديل بينهم وزيادة من يستحق الزيادة ونقصان من يستحق النقصان واعطاء العاجز عن الجهاد من جهة اخرى هو من احسن افعال ولاة الأمور وأوجبها فكذلك النظر فى حال سائر المرتزقين من اموال الفيء والصدقات والمصالح والوقوف والعدل بينهم فى ذلك واعطاء المستحق تمام كفايته ومنع من دخل فى المستحقين وليس منهم من ان يزاحمهم فى ارزاقهم
واذا ادعى الفقر من لم يعرف بالغنى وطلب الأخذ من الصدقات فانه يجوز للامام ان يعطيه بلا بينة بعد ان يعلمه انه لا حظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب فان النبى سأله رجلان من الصدقة فلما رآهما جلدين صعد فيهما النظر وصوبه فقال ( ان شئتما اعطيتكما ولاحظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب (
واما ان ذكر ان له عيالا فهل يفتقر إلى بينة فيه قولان للعلماء مشهوران هما قولان فى مذهب الشافعي واحمد واذا رأى الامام قول من يقول فيه يفتقر إلى بينة فلا نزاع بين العلماء انه لا يجب ان تكون البينة من الشهود المعدلين بل يجب انهم لم يرتزقوا
____________________
(28/573)
على أداء الشهادة فترد شهادتهم اذا أخذوا عليها رزقا لا سيما مع العلم بكثرة من يشهد بالزور ولهذا كانت العادة ان الشهود فى الشام المرتزقة بالشهادة لا يشهدون فى الاجتهاديات كالأعشار والرشد والعدالة والأهلية والاستحقاق ونحو ذلك بل يشهدون بالحسيات كالذى سمعوه ورأوه فان الشهادة بالاجتهاديات يدخلها التأويل والتهم فالجعل يسهل الشهادة فيها بغير تحر بخلاف الحسيات فان الزيادة فيها كذب صريح لا يقدم عليه الا من يقدم على صريح الزور وهؤلاء اقل من غيرهم بل اذا اتى الواحد من هؤلاء بمن يعرف صدقه من جيرانه ومعارفه واهل الخبرة الباطنة به قبل ذلك منهم
واطلاق القول بأن جميع من بالربط والزوايا غير مستحقين باطل ظاهر البطلان كما ان اطلاق القول بان كل من فيهم مستحق لما يأخذه هو باطل ايضا فلا هذا ولا هذا بل فيهم المستحق الذي يأخذ حقه وفيهم من يأخذ فوق حقه وفيهم من لا يعطى الا دون حقه وفيهم غير المستحق حتى انهم فى الطعام الذى يشتركون فيه يعطى احدهم افضل مما يعطى الآخر وان كان اغنى منه خلاف ما جرت عادة اهل العدل الذين يسوون فى الطعام بالعدل كما يعمل فى رباطات اهل العدل وامر ولي الأمر هؤلاء بجميع ( ما ذكر ) هو من افضل العبادات واعظم الواجبات
____________________
(28/574)
وما ذكر عن بعض الحكام من انه لا يستحق من هؤلاء الا الأعمى والمكسح والزمن قول لم يقله احد من المسلمين ولا يتصور ان يقول هذا حاكم ممن جرت العادة بأن يتولى الحكم اللهم الا ان يكون من اجهل الناس اوافجرهم فمعلوم ان ذلك يقدح فى عدالته وانه يجب ان يستدل به على جرحه كما انه ان كان الناقل لهذا عن حاكم قد كذب عليه فينبغى ان يعاقب على ذلك عقوبة تردعه وامثاله من المفترين على الناس وعقوبة الامام للكذاب المفترى على الناس والمتكلم فيهم وفى استحقاقهم لما يخالف دين الاسلام لا يحتاج إلى دعواهم بل العقوبة فى ذلك جائزة بدون دعوى أحد كعقوبته لمن يتكلم فى الدين بلا علم فيحدث بلا علم ويفتى بلا علم وامثال هؤلاء يعاقبون فعقوبة كل هؤلاء جائزة بدون دعوى فان الكذب على الناس والتكلم فى الدين وفى الناس بغير حق كثير فى كثير من الناس
فمن قال انه لا يستحق الا الأعمى والزمن والمكسح فقد اخطأ باتفاق المسلمين وكذلك من قال ان اموال بيت المال على اختلاف اصنافها مستحقة لاصناف منهم الفقراء وانه يجب على الامام اطلاق كفايتهم من بيت المال فقد اخطأ بل يستحقون من الزكوات بلا ريب واما من الفيء والمصالح فلا يستحقون الا ما فضل عن
____________________
(28/575)
المصالح العامة ولو قدر انه لم يحصل لهم من الزكوات ما يكفيهم واموال بيت المال مستغرقة بالمصالح العامة كان اعطاء العاجز منهم عن الكسب فرضا على الكفاية فعلى المسلمين جميعا ان يطعموا الجائع ويكسوا العاري ولا يدعوا بينهم محتاجا وعلى الامام ان يصرف ذلك من المال المشترك الفاضل عن المصالح العامة التى لا بد منها
واما من يأخذ بمصلحة عامة فانه يأخذ مع حاجته باتفاق المسلمين وهل له ان يأخذ مع الغنى كالقاضى والشاهد والمفتى والحاسب والمقرى والمحدث اذا كان غنيا فهل له ان يرتزق على ذلك من بيت المال مع غناه قولان مشهوران للعلماء
وكذلك قول القائل ان عناية الامام بأهل الحاجات تجب ان تكون فوق عنايته بأهل المصالح العامة التى لابد للناس منها فى دينهم ودنياهم كالجهاد والولاية والعلم ليس بمستقيم لوجوه
احدها ان العلماء قد نصوا على انه يجب في مال الفيء والمصالح ان يقدم اهل المنفعة العامة واما مال الصدقات فيأخذه نوعان نوع يأخذ بحاجته كالفقراء والمساكين والغارمين لمصلحة انفسهم وبن السبيل وقوم يأخذون لمنفعتهم كالعاملين والغارمين في اصلاح ذات البين كمن فيه نفع عام كالمقاتلة وولاة امورهم وفى سبيل
____________________
(28/576)
الله وليس احد الصنفين احق من الآخر بل لابد من هذا وهذا
الثانى ان ما يذكره كثير من القائمين بالمصالح من الجهاد والولايات والعلم من فساد النية معارض بما يوجد فى كثير من ذوى الحاجات من الفسق والزندقة وكما ان من ذوى الحاجات صالحين اولياء لله ففى المجاهدين والعلماء اولياء لله واولياء الله هم المؤمنون المتقون من اي صنف كانوا ومن كان من اولياء الله من اهل الجهاد والعلم كان افضل ممن لم يكن من هؤلاء فان سادات اولياء الله من المهاجرين والانصار كانوا كذلك
وقول القائل اليوم فى زماننا كثير من المجاهدين والعلماء انما يتخذون الجهاد والقتال والاشتغال بالعلم معيشة دنيوية يحامون بها عن الجاه والمال وانهم عصاة بقتالهم واشتغالهم مع انضمام معاص ومصائب اخرى لا يتسع الحال لها والمجاهد لتكون كلمة الله هي العليا والمعلم ليكون التعلم محض التقرب قليل الوجود اومفقود فلا ريب ان الاخلاص واتباع السنة فيمن لا يأكل اموال الناس اكثر ممن يأكل الأموال بذلك بل والزندقة نعارضه بما هواصدق منه وهو ان يقال كثير من اهل الربط والزوايا والمتظاهرين للناس بالفقر انما يتخذون ذلك معيشة دنيوية هذا مع انضمام كفر وفسوق ومصائب لا يتسع الحال لقولها بمثل دعوى الحلول والاتحاد في
____________________
(28/577)
العباد اكثر منها فى اهل العلم والجهاد وكذلك التقرب إلى الله بالعبادات البدعية ومعلوم انه فى كل طائفة بار وفاجر وصديق وزنديق والواجب موالاة اولياء الله المتقين من جميع الأصناف وبغض الكفار والمنافقين من جميع الاصناف والفاسق الملي يعطى من الموالاة بقدر ايمانه ويعطى من المعاداة بقدر فسقه فان مذهب اهل السنة والجماعة ان الفاسق الملي له الثواب والعقاب اذا لم يعف الله عنه وانه لابد ان يدخل النار من الفساق من شاء الله وان كان لا يخلد فى النار احد من اهل الايمان بل يخلد فيها المنافقون كما يخلد فيها المتظاهرون بالكفر
الوجه الثالث ان يقال غالب الذين يأخذون لمنفعة المسلمين من الجند واهل العلم ونحوهم محاويج ايضا بل غالبهم ليس له رزق الا العطاء ومن يأخذ للمنفعة والحاجة اولى ممن يأخذ بمجرد الحاجة
الوجه الرابع ان يقال العطاء اذا كان لمنفعة المسلمين لم ينظر إلى الآخذ هل هو صالح النية او فاسدها ولو ان الامام اعطى ذوى الحاجات العاجزين عن القتال وترك اعطاء المقاتلة حتى يصلحوا نياتهم لأهل الاسلام لاستولى الكفار على بلاد الاسلام فان تعليق العطايا
____________________
(28/578)
فى القلوب متعذر وقد قال النبى ( ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لاخلاق لهم ( وقال ( انى لأعطى رجالا وادع رجالا والذين ادع احب الي من الذين اعطى رجالا لما فى قلوبهم من الهلع والجزع واكل رجالا لما فى قلوبهم من الغنى والخير ( وقال ( اني لأعطى احدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون الا ان يسألونى ويأبى الله لي البخل (
ولما كان عام حنين قسم غنائم حنين بين المؤلفة قلوبهم من اهل نجد والطلقاء من قريش كعيينة بن حصن والعباس بن مرداس والاقرع بن حابس وامثالهم وبين سهيل بن عمرو وصفوان بن امية وعكرمة بن ابي جهل وابى سفيان بن حرب وابنه معاوية وامثالهم من الطلقاء الذين اطلقهم عام الفتح ولم يعط المهاجرين والأنصار شيئا اعطاهم ليتألف بذلك قلوبهم على الاسلام وتأليفهم عليه مصلحة عامة للمسلمين والذين لم يعطهم هم افضل عنده وهم سادات اولياء الله المتقين وافضل عباد الله الصالحين بعد النبيين والمرسلين والذين اعطاهم منهم من ارتد عن الاسلام قبل موته وعامتهم اغنياء لا فقراء فلو كان العطاء للحاجة مقدما على العطاء للمصلحة العامة لم يعط النبى هؤلاء الاغنياء السادة المطاعين فى عشائرهم ويدع عطاء من عنده من
____________________
(28/579)
المهاجرين والانصار الذين هم احوج منهم وافضل
وبمثل هذا طعن الخوارج على النبى صلى الله عليه وسلم وقال له اولهم يا محمد اعدل فانك لم تعدل وقال ان هذه لقسمة ما اريد بها وجه الله تعالى حتى قال النبى ( ويحك ومن يعدل اذا لم اعدل لقد خبت وخسرت ان لم اعدل ( فقال له بعض الصحابة دعنى اضرب عنق هذا فقال ( انه يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فان فى قتلهم اجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ( وفى رواية ( لئن ادركتهم لأقتلنهم قتل عاد (
وهؤلاء خرجوا على عهد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب رضى الله عنه فقتل الذين قاتلوه جميعهم مع كثرة صومهم وصلاتهم وقراءتهم فاخرجوا عن السنة والجماعة وهم قوم لهم عبادة وورع وزهد لكن بغير علم فاقتضى ذلك عندهم ان العطاء لا يكون الا لذوى الحاجات وان اعطاء السادة المطاعين الأغنياء لا يصلح لغير الله بزعمهم وهذا من جهلهم فان العطاء إنما هو بحسب مصلحة دين الله فكلما كان لله اطوع ولدين الله أنفع كان العطاء فيه أولى وعطاء
____________________
(28/580)
محتاج إليه فى اقامة الدين وقمع أعدائه واظهاره واعلائه اعظم من اعطاء من لا يكون كذلك وان كان الثانى أحوج
وقول القائل ان هذه القيود على مذهب الشافعى دون مذهب مالك وما نقله من مذهب عمر فهذا يحتاج إلى معرفة بمذاهب الأئمة فى ذلك وسيرة الخلفاء فى العطاء واصل ذلك ان الأرض اذا فتحت عنوة ففيها للعلماء ثلاثة اقوال
احدها وهو مذهب الشافعى انه يجب قسمها بين الغانمين الا ان يستطيب انفسهم فيقفها وذكر فى ( الأم ( انه لو حكم حاكم بوقفها من غير طيب انفسهم نقض حكمه لأن النبى قسم خيبر بين الغانمين لكن جمهور الأئمة خالفوا الشافعى فى ذلك ورأوا ان ما فعله عمر بن الخطاب من جعل الارض المفتوحة عنوة فيئا حسن جائز وان عمر حبسها بدون استطابة انفس الغانمين ولا نزاع ان كل ارض فتحها عمر بالشام عنوة والعراق ومصر وغيرها لم يقسمها عمر بين الغانمين وانما قسم المنقولات لكن قال مالك وطائفة وهو القول الثانى انها مختصة باهل الحديبية وقد صنف إسماعيل بن إسحاق امام المالكية فى ذلك بما نازع به الشافعى فى هذه المسألة وتكلم على حججه
وعن الامام احمد كالقولين لكن المشهور فى مذهبه هو القول
____________________
(28/581)
الثالث وهو مذهب الأكثرين ابى حنيفة واصحابه والثوري وابى عبيد وهو ان الامام يفعل فيها ما هو اصلح للمسلمين من قسمها او حبسها فان رأى قسمها كما قسم النبى خيبر فعل وان رأى ان يدعها فيئا للمسلمين فعل كما فعل عمر وكما روى ان النبى فعل بنصف خيبر وانه قسم نصفها وحبس نصفها لنوائبه وانه فتح مكة عنوة ولم يقسمها بين الغانمين
فعلم ان أرض العنوة يجوز قسمها ويجوز ترك قسمها وقد صنف فى ذلك مصنفا كبيرا اذا عرف ذلك فمصر هي مما فتح عنوة ولم يقسمها عمر بين الغانمين كما صرح بذلك ائمة المذاهب من الحنفية والمالكية والحنبلية والشافعية لكن تنقلت احوالها بعد ذلك كما تنقلت احوال العراق فان خلفاء بنى العباس نقلوه إلى المقاسمة بعد المخارجة وهذا جائز فى احد قولى العلماء وكذلك مصر رفع عنها الخراج من مدة لا اعلم ابتداءها وصارت الرقبة للمسلمين وهذا جائز فى احد قولى العلماء
واما مذهب عمر فى الفيء فانه يجعل لكل مسلم فيه حقا لكنه يقدم الفقراء واهل المنفعة كما قال عمر رضى الله عنه ليس احد احق بهذا المال من احد انما هو الرجل وبلاؤه والرجل وغناؤه
____________________
(28/582)
والرجل وسابقته والرجل وحاجته فكان يقدم فى العطاء بهذه الأسباب وكانت سيرته التفضيل فى العطاء بالفضائل الدينية واما ابو بكر الصديق رضي الله عنه فسوى بينهم فى العطاء اذا استووا فى الحاجة وان كان بعضهم افضل فى دينه وقال انما اسلموا لله واجورهم على الله وانما هذه الدنيا بلاغ وروى عنه انه قال استوى فيهم ايمانهم يعنى ان حاجتهم إلى الدنيا واحدة فاعطيهم لذلك لا للسابقة والفضيلة فى الدين فان اجرهم يبقى على الله فاذا استووا فى الحاجة الدنيوية سوى بينهم فى العطاء
ويروى ان عمر فى آخر عمره قال لئن عشت إلى قابل لأجعلن الناس ببانا واحدا اي ماية واحدة أي صنفا واحدا
وتفضيله كان بالاسباب الاربعة التى ذكرها الرجل وبلاؤه وهو الذى يجتهد فى قتال الاعداء والرجل وغناؤه وهو الذى يغنى عن المسلمين فى مصالحهم لولاة أمورهم ومعلميهم وأمثال هؤلاء والرجل وسابقته وهو من كان من السابقين الاولين فانه كان يفضلهم في العطاء على غيرهم والرجل وفاقته فانه كان يقدم الفقراء على الاغنياء وهذا ظاهر فانه مع وجود المحتاجين كيف يحرم بعضهم ويعطى لغنى لا حاجة له ولا منفعة به لا سيما اذاضاقت اموال بيت المال عن اعطاء كل المسلمين غنيهم وفقيرهم فكيف يجوز ان يعطى الغنى الذى
____________________
(28/583)
ليس فيه نفع عام ويحرم الفقير المحتاج بل الفقير النافع
وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم ( انه اعطى من اموال بنى النضير وكانت للمهاجرين لفقيرهم ولم يعط الأنصار منها شيئا لغناهم الا انه اعطى بعض الانصار لفقره ( وفى السنن ( ان النبى كان اذا اتاه مال اعطى الآهل قسمين والعزب قسما ( فيفضل المتأهل على المتعزب لانه محتاج إلى نفقة نفسه ونفقة امرأته والحديث رواه ابو داود وابو حاتم فى صحيحه والامام احمد فى رواية ابى طالب وقال حديث حسن ولفظه عن عوف بن مالك ان رسول الله كان اذا اتاه الفيء قسمه من يومه فاعطى الآهل حظين واعطى العزب حظا (
وحديث عمر رواه احمد وابو داود ولفظ ابى داود عن مالك بن اوس بن الحدثان قال ذكر عمر يوما الفيء فقال ما انا بأحق بهذا الفيء منكم وما احد منا باحق به من احد الا انا على منازلنا من كتاب الله الرجل وقدمه والرجل وبلاؤه والرجل وغناؤه والرجل وحاجته ولفظ احمد قال كان عمر يحلف على ايمان ثلاث والله ما احد احق بهذا المال من احد وما انا احق به من احد ووالله ما من المسلمين احد الا وله في هذا المال نصيب الا عبدا مملوكا ولكنا على منازلنا من كتاب الله فالرجل وبلاؤه فى الاسلام والرجل
____________________
(28/584)
وقدمه والرجل وغناؤه فى الاسلام والرجل وحاجته والله لئن بقيت لهم لأوتين الراعى بجبل صنعاء حظه فى هذا المال وهو يرعى مكانه (
فهذا كلام عمر الذي يذكر فيه بان لكل مسلم حقا يذكر فيه تقديم اهل الحاجات ولا يختلف اثنان من المسلمين انه لا يجوز ان يعطى الأغنياء الذين لا منفعة لهم ويحرم الفقراء فان هذا مضاد لقوله تعالى { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } فاذا جعل الفيء متداولا بين الأغنياء فهذا الذي حرمه الله ورسوله وهذه الآية في نفس الامر
واما نقل الناقل مذهب مالك بأن في ( المدونة ( وجزية جماجم اهل الذمة وخراج الأرضين ما كان منها عنوة او صلحا فهو عند مالك جزية والجزية عنده فيء قال ويعطى هذا الفيء اهل كل بلد افتتحوها عنوة او صالحوا عليها فيقسم عليهم ويفضل بعض الناس على بعض من الفيء ويبدأ بأهل الحاجة حتى يغنوا منه ولا يخرج إلى غيرهم الا ان ينزل بقوم حاجة فينقل اليهم بعد ان يعطى اهله منه ما يغنيهم عن الاحتياج وقال ايضا قال مالك واما جزية الأرض فماادرى كيف كان يصنع فيها الا ان عمر قد أقر الأرض فلم يقسمها بين الذين افتتحوها وأرى لمن ينزل ذلك ان يكشف عنه
____________________
(28/585)
من يرضاه فان وجد عالما يستفتيه والا اجتهد هو ومن بحضرته رأسا
واما احياء الموات فجائز بدون اذن الامام فى مذهب الشافعى واحمد وابى يوسف ومحمد واشترط ابو حنيفة ان يكون باذن الامام وقال مالك ان كان بعيدا عن العمران بحيث لا تباح الناس فيه لم يحتج إلى اذنه وان كان مما قرب من العمران ويباح الناس فيه افتقر إلى اذنه
لكن ان كان الاحياء فى ارض الخراج فهل يملك بالاحياء ولا خراج عليه او يكون بيده وعليه الخراج على قولين للعلماء هما روايتان عن احمد
واما من قتل او مات من المقاتلة فانه ترزق امرأته واولاده الصغار وفى مذهب احمد والشافعى فى احد قوليه وغيرهما فينفق على امرأته حتى تتزوج وعلى ابنته الصغيرة حتى تتزوج وعلى ابنه الصغير حتى يبلغ ثم يجعل من المقاتلة ان كان يصلح للقتال والا ان كان من اهل الحاجة والذين يعطون من الصدقة وفاضل الفيء والمصالح اعطى له من ذلك والا فلا
____________________
(28/586)
وقال رحمه الله
اذا كان بيت المال مستقيما امره بحيث لا يوضع ماله الا فى حقه ولا يمنع من مستحقه فمن صرف بعض اعيانه أو منافعه فى جهة من الجهات التى هي مصارف بيت المال كعمارة طريق ونحو ذلك بغير اذن الامام فقد تعدى بذلك اذ ولايته إلى الامام ثم الامام يفعل الأصلح فان كان نقض ذلك اصلح للمسلمين نقض التصرف وان كان الأصلح اقراره اقره وكذلك ان تصرف فى ملك الوقف واليتيم بغير اذن الناظر تصرفا من جنس التصرف المشروع كأن يعمر بأعيان ماله حانوتا او دارا فى عرصة الوقف او اليتيم
واما اذا كان امر بيت المال مضطربا فقال الفقهاء من صرف بعض اعيانه او منافعه فى جهة بعض المصالح من غير ان يكون متهما فى ذلك التصرف بل كان التصرف واقعا على جهة المصلحة فانه لا ينبغى للامام نقض التصرف ولا تضمين المتصرف مع انه لا تجوز معصية الامام برا كان او فاجرا الا ان يأمره بمعصية الله وحكمه او قسمه اذا وافق الحق نافذ برا كان اوفاجرا واما اذا تصرف
____________________
(28/587)
الرجل تصرفايتهم فيه مثل أن يقبض المال لنفسه متأولا إن لى حقا فى بيت المال وإنى لا أعطى حقى فهذا
وسئل رحمه الله
عن أقوام لهم أملاك إرث من آبائهم وأجدادهم وهى للسلطان مقاسمة الثلث ثلث المغل وإن شخصا ضامنا إشترى ما يخص السلطان من الثلث وأخذ الملك الذى لهم جميعه باليد القوية فهل له ذلك أم لا
فأجاب ليس له أن ينزع أملاك الناس التى بأيديهم بما ذكر ولا يجوز رفع أيدى المسلمين الثابتة على حقوقهم بما ذكر إذ الأرض الخراجية كالسواد وغيره نقلت من المخارجة إلى المقاسمة كما فعل أبو جعفر المنصور بسواد العراق وأقرت بيد أهلها وهى تنتقل عن أهلها إلى ذريتهم وغير ذريتهم بالأرث والوصية والهبة وكذلك البيع فى أصح قولى العلماء إذ حكمها بيد المشترى كحكمها بيد البائع وليس هذا تبعا للوقف الذي لا يباع ولا يوهب ولايورث كما غلط فى ذلك من منع بيع أرض السواد معتقدا أنها كالوقف الذى لا يجوز
____________________
(28/588)
بيعه مع أنه يجوز أن يورث ويوهب إذلا خلاف فى هذا بل ينبغى أن يبيع ما لبيت المال من هذه الأرضين وما لبيت المال من المقاسمة الذى هو بمنزلة الخراج وقيل لأتباع لما فيه من إضاعة حقوق المسلمين
وسئل
إذا دخل التتار الشام ونهبوا أموال النصارى والمسلمين ثم نهب المسلمون التتار وسلبوا القتلى منهم فهل المأخوذ من أموالهم وسلبهم حلال أم لا
فأجاب كل ما أخذ من التتار يخمس ويباح الإنتفاع به
وسئل رحمه الله 3 عن رجل فقير ملازم الصلوات الخمس غريب فهل إذا حصل له من السلطان راتب يتقوت به ويستغنى عن السؤال يكون مأثوما وهل يحصل له المسامحة
فأجاب نعم إذا أعطى ولى الأمر لمثل هذا ما يكفيه من أموال
____________________
(28/589)
بيت المال كان ذلك جائزا ومال الديوان الإسلامى ليس كله ولا أكثره حراما حتى يقال فيه ذلك بل فيه من أموال الصدقات والفيء وأموال المصالح مالا يحصية إلا الله وفيه ماهو حرام أوشبهة فإن علم أن الذى أعطاه من الحرام لم يكن له أخذ ذلك وإن جهل الحال لم يحرم عليه ذلك والله أعلم
وسئل رحمه الله عن رجل أعطاه ولى الأمر إقطاعا وفيه شيء من المكوس فهل يجوز له الأكل منها أو يقطعها لأجناده أو يصرفها فى علف خيوله وجامكية الغلمان
فأجاب الحمد لله أما المال المأخوذ من الجهات فلا يخلو عن شبهة وليس كله حراما محضا بل فيه ما هو حرام وفيه ما يؤخذ بحق وبعضه أخف من بعض
فما على الساحل واقطاعه أخف مما على بيع العقار ونحو ذلك من السلع ومما على سوق الغزل ونحوه فإن هذا لا شبهة فيه فإنه ظلم بين وكذلك ضمان الإفراج فإنه قد يؤخذ إما من الفواحش المحرمة وإما من المناكح المباحة فهذا ظلم وذلك إعانة على الفواحش التى
____________________
(28/590)
تسمى ( مغانى العرب ونحو ذلك فإن هذا فيه ضمان الحانة فى بعض الوجوه فهذا أقبح ما يكون بخلاف ساحل القبلة فإنه قد يظلم فيه كثير من الناس
لكن أهل الإقطاعات الكثيرة الذين أقطعوا أكثر مما يستحقونه إذا أمر السلطان أن يؤخذ منها بعض الزيادة لم يكن هذا ظلما وإقطاعه أصلها زكاة لكن زيد فيها ظلم
وإذا كان كذلك فمن كان فى إقطاعه شيء من ذلك فليجعل الحلال الطيب لأكله وشربه ثم الذى للناس ثم الذى يليه يجعل لعلف الجمال ويكون علف الخيل أطيب منها فإنها أشرف ويعطى الذى يليه للدبادب والبوقات والبازيات ونحوهم فإن الله يقول { فاتقوا الله ما استطعتم } فعلى كل إنسان أن يتقى الله ما إستطاع وما لم يمكن إزالته من الشر يخفف بحسب الإمكان فإن الله بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها
____________________
(28/591)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله
عن الأموال التى يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما فإن هذه عامة النفع لأن الناس قد يحصل فى أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير إما لكونها قبضت ظلما كالغصب وأنواعه من الجنايات والسرقة والغلول وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا أو ميسر ولايعلم عين المستحق لها وقد يعلم أن المستحق أحد رجلين ولا يعلم عينه كالميراث الذى يعلم أنه لا حدى الزوجين الباقية دون المطلقة والعين التى يتداعاها اثنان فيقربها ذو اليد لأحدهما
فمذهب الامام أحمد وابى حنيفة ومالك وعامة السلف إعطاء هذه الاموال لاولى الناس بها ومذهب الشافعى أنها تحفظ مطلقا ولا تنفق بحال فيقول فيما جهل مالكه من الغصوب والعوارى والودائع انها تحفظ حتى يظهر اصحابها كسائر الاموال الضائعة ويقول فى العين التى عرفت لأحد رجلين يوقف الأمر حتى يصطلحا ومذهب أحمد وابى حنيفة فيما جهل مالكه أنه يصرف عن أصحابه فى المصالح
____________________
(28/592)
كالصدقة على الفقراء وفيما استبهم مالكة القرعة عند احمد والقسمة عند ابى حنيفة ويتفرع على هذه القاعدة ألف من المسائل النافعة الواقعة
وبهذا يحصل الجواب عما فرضه ابو المعالى فى كتابه ( الغياثى ) وتبعة من تبعه اذا طبق الحرام الأرض ولم يبق سبيل إلى الحلال فانه يباح للناس قدر الحاجة من المطاعم والملابس والمساكن والحاجة اوسع من الضرورة وذكر ان ذلك يتصور اذا استولت الظلمة من الملوك على الاموال بغير حق وبثتها فى الناس وان زمانه قريب من هذا التقدير فكيف بما بعده من الازمان
وهذا الذى قاله فرض محال لا يتصور لما ذكرته من هذه ( القاعدة الشرعية ) فان المحرمات قسمان محرم لعينه كالنجاسات من الدم والميتة ومحرم لحق الغير وهو ما جنسه مباح من المطاعم والمساكن والملابس والمراكب والنقود وغير ذلك
وتحريم هذه جميعها يعود إلى الظلم فانها انما تحرم لسببين ( أحدهما ) قبضها بغير طيب نفس صاحبها ولا اذن الشارع وهذا هو الظلم المحض كالسرقة والخيانة والغصب الظاهر وهذا أشهر الانواع بالتحريم
____________________
(28/593)
( والثانى ) قبضها بغير اذن الشارع وإن أذن صاحبها وهى العقود والقبوض المحرمة كالربا والميسر ونحو ذلك والواجب على من حصلت بيده ردها إلى مستحقها فاذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم وقد دل على ذلك قول النبى فى اللقطة ( فان وجدت صاحبها فارددها إليه والا فهي مال الله يؤتيه من يشاء ) فبين النبى أن اللقطة التى عرف انها ملك لمعصوم وقد خرجت عنه بلا رضاه اذا لم يوجد فقد آتاها الله لمن سلطه عليها بالالتقاط الشرعي
وكذلك اتفق المسلمون على انه من مات ولا وارث له معلوم فما له يصرف فى مصالح المسلمين مع انه لا بد في غالب الخلق ان يكون له عصبة بعيد لكن جهلت عينه ولم ترج معرفته فجعل كالمعدوم وهذا ظاهر وله دليلان قياسيان قطعيان كما ذكرنا من السنة والاجماع فان مالا يعلم بحال أولا يقدر عليه بحال هو فى حقنا بمنزلة المعدوم فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه
وكما انه لا فرق فى حقنا بين فعل لم نؤمر به وبين فعل أمرنا به جملة عند فوت العلم او القدرة كما فى حق المجنون والعاجز كذلك لا فرق فى حقنا بين مال لا مالك له امرنا بايصاله إليه وبين ما امرنا بايصاله إلى مالكه جملة اذا فات العلم به أوالقدرة
____________________
(28/594)
عليه والاموال كالأعمال سواء
وهذا النوع انما حرم لتعلق حق الغير به فاذا كان الغير معدوما أومجهولا بالكلية أو معجوزا عنه بالكلية سقط حق تعلقة به مطلقا كما يسقط تعلق حقه به اذا رجى العلم به اوالقدرة عليه إلى حين العلم والقدرة كما فى اللقطة سواء كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم بقوله ( فان جاء صاحبها والا فهي مال الله يؤتيه من يشاء ) فانه لو عدم المالك انتقل الملك عنه بالاتفاق فكذلك اذا عدم العلم به إعداما مستقرا واذا عجز عن الايصال إليه اعجازا مستقرا فالإعدام ظاهر والاعجاز مثل الاموال التى قبضها الملوك كالمكوس وغيرها من اصحابها وقد تيقن انه لا يمكننا اعادتها الى اصحابها فانفاقها فى مصالح اصحابها من الجهاد عنهم أولى من إبقائها بأيدى الظلمة يأكلونها واذا انفقت كانت لمن يأخذها بالحق مباحة كما انها على من يأكلها بالباطل محرمة
والدليل الثانى ( القياس ) مع ما ذكرناه من السنة والاجماع ان هذه الاموال لا تخلو إما أن تحبس وإما ان تتلف وإما أن تنفق فأما إتلافها فافساد لها { والله لا يحب الفساد } وهو إضاعة لها
____________________
(28/595)
والنبى صلى الله عليه وسلم قد نهى عن اضاعة المال وان كان فى مذهب أحمد ومالك تجويز العقوبات المالية تارة بالأخذ وتارة بالاتلاف كما يقوله أحمد فى متاع الغال وكما يقوله أحمد ومن يقوله من المالكية فى أوعية الخمر ومحل الخمار وغير ذلك
فان العقوبة باتلاف بعض الاموال أحيانا كالعقوبة باتلاف بعض النفوس احيانا وهذا يجوز إذا كان فيه من التنكيل على الجريمه من المصلحة ما شرع له ذلك كما فى اتلاف النفس والطرف وكما ان قتل النفس يحرم إلا بنفس أو فساد كما قال تعالى { من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض } وقالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فكذلك اتلاف المال انما يباح قصاصا أو لافساد مالكه كما أبحنا من اتلاف البناء والغراس الذى لأهل الحرب مثل ما يفعلون بنا بغير خلاف وجوزنا لافساد مالكه ما جوزنا
ولهذا لم أعلم أحدا من الناس قال إن الأموال المحترمة المجهولة المالك تتلف وانما يحكى ذلك عن بعض الغالطين من المتورعة أنه ألقى شيئا من ماله فى البحر أو أنه تركه فى البر ونحو ذلك فهؤلاء تجد منهم حسن القصد وصدق الورع لا صواب العمل
وأما حبسها دائما ابدا إلى غير غاية منتظرة بل مع العلم انه لا
____________________
(28/596)
يرجى معرفة صاحبها ولا القدرة على ايصالها إليه فهذا مثل اتلافها فان الاتلاف انما حرم لتعطيلها عن انتفاع الآدميين بها وهذا تعطيل ايضا بل هو أشد منه من وجهين (
احدهما ) انه تعذيب للنفوس بابقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به
( الثانى ) أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لابد ان يستولى عليها أحد من الظلمة بعد هذا اذا لم ينفقها أهل العدل والحق فيكون حبسها اعانة للظلمة وتسليما فى الحقيقة إلى الظلمة فيكون قد منعها أهل الحق وأعطاها أهل الباطل ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا فان من وضع انسانا بمسبعة فقد قتله ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولى عليها من الظلمة فقد أعطاهموها فاذا كان اتلافها حراما وحبسها اشد من اتلافها تعين انفاقها وليس لها مصرف معين فتصرف فى جميع جهات البر والقرب التى يتقرب بها إلى الله لأن الله خلق الخلق لعبادته وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته فتصرف فى سبيل الله والله أعلم
____________________
(28/597)
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
عن رجل له حق فى بيت المال اما لمنفعة فى الجهاد أو لولايته فأحيل ببعض حقه على بعض المظالم
فأجاب لا تستخرج أنت هذا ولا تعن على استخراجه فان ذلك ظلم لكن اطلب حقك من المال المحصل عندهم وان كان مجموعا من هذه الجهة وغيرها لأن ما اجتمع فى بيت المال ولم يرد إلى أصحابه فصرفه فى مصالح اصحابه والمسلمين أولى من صرفه فيما لا ينفع اصحابه أو فيما يضره وقد كتبت نظير هذه المسألة فى غير هذا الموضع وايضا فانه يصير مختلطا فلا يبقى محكوما بتحريمه بعينه مع كون الصرف إلى مثل هذا واجبا على المسلمين
فان الولاة يظلمون تارة فى استخراج الاموال وتارة فى صرفها فلا تحل إعانتهم على الظلم فى الاستخراج ولا أخذ الانسان مالا يستحقه
وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد من الاستخراج والصرف فلمسائل الاجتهاد وأما مالا يسوغ فيه اجتهاد من الاخذ والاعطاء فلا يعاونون
____________________
(28/598)
لكن اذا كان المصروف إليه مستحقا بمقدار المأخوذ جاز أخذه من كل مال يجوز صرفه كالمال المجهول مالكه اذا وجب صرفه فان امتنعوا من اعادته إلى مستحقه فهل الأولى إقراره بأيدى الظلمة أو السعى فى صرفه فى مصالح اصحابه والمسلمين اذا كان الساعى فى ذلك ممن يكره اصل أخذه ولم يعن على أخذه بل سعى فى منع أخذه فهذه مساله حسنة ينبغى التفطن لها والا دخل الانسان في فعل المحرمات أو فى ترك الواجبات فان الاعانه على الظلم من فعل المحرمات واذا لم تمكن الواجبات الا بالصرف المذكور كان تركه من ترك الواجبات واذا لم يمكن الا اقراره بيد الظالم أو صرفه فى المصالح كان النهى عن صرفه فى المصالح اعانه على زيادة الظلم التى هي إقراره بيد الظالم فكما يجب إزالة الظلم يجب تقليله عند العجز عن إزالته بالكلية فهذا اصل عظيم والله أعلم واصل آخر وهو ان الشبهات ينبغى صرفها فى الأبعد عن المنفعة فالأبعد كما أمر النبى فى كسب الحجام بأن يطعمه الرقيق والناضح فالأقرب ما دخل فى الطعام والشراب ونحوه ثم ما ولى الظاهر من اللباس ثم ما ستر مع الانفصال من البناء ثم ما عرض من الركوب ونحوه فهكذا ترتيب الانتفاع بالرزق وكذلك اصحابنا يفعلون
____________________
(28/599)
وسئل رحمه الله عن رجل اهدى إلى ملك عبدا ثم ان المهدى إليه مات وولى مكانه ملك آخر فهل يجوز له عتق ذلك
فأجاب الأرقاء الذين يشترون بمال المسلمين كالخيل والسلاح الذى يشترى بمال المسلمين او يهدى لملوك المسلمين من اموال بيت المال فاذا تصرف فيهم الملك الثانى بعتق او اعطاء فهو بمنزلة تصرف الأول له وهل بالاعتاق والاعطاء ينفذ تصرف الثانى كما ينفذ تصرف الأول نعم وهذا مذهب الأئمة كلهم والله اعلم
وسئل
عمن سبى من دار الحرب دون البلوغ واشتراه النصارى وكبر الصبى وتزوج وجاءه اولاد نصارى ومات هو وقامت البينة انه اسر دون البلوغ لكنهم ماعلموا من سباه هل السابى له كتابى ام مسلم فهل يلحق اولاده بالمسلمين ام لا
____________________
(28/600)
فأجاب اما ان كان السابى له مسلما حكم باسلام الطفل واذا كان السابى له كافرا او لم تقم حجة بأحدهما لم يحكم باسلامه واولاده تبع له فى كلا الوجهين والله اعلم
وقال قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم من احمد بن تيمية إلى سرجوان عظيم اهل ملته ومن تحوط به عنايته من رؤساء الدين وعظماء القسيسين والرهبان والأمراء والكتاب واتباعهم سلام على من اتبع الهدى
اما ان
____________________
(28/601)
{ الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } وقال تعالى { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما }
ونسأله ان يخص بشرائف صلاته وسلامه خاتم المرسلين وخطيبهم اذا وفدوا على ربهم وامامهم اذا اجتمعوا شفيع الخلائق يوم القيامة نبى الرحمة ونبى الملحمة الجامع محاسن الأنبياء الذى بشر به عبد الله وروحه وكلمته التى القاها إلى الصديقة الطاهرة البتول التى لم يمسها بشر قط ( مريم ابنة عمران ( ذلك مسيح الهدى عيسى بن مريم الوجيه فى الدنيا والآخرة المقرب عند الله المنعوت بعوت الجمال والرحمة لما انجر بنو اسرائيل فيما بعث به موسى من نعت الجلال والشدة وبعث الخاتم الجامع بنعت الكمال المشتمل على الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين والمحتوى على محاسن الشرائع والمناهج التى كانت قبله صلى الله عليهم وسلم اجمعين وعلى من تبعهم إلى يوم القيامة
اما بعد فان الله خلق الخلائق بقدرته واظهر فيهم آثار مشيئته
____________________
(28/602)
وحكمته ورحمته وجعل المقصود الذى خلقوا له فيما امرهم به هو عبادته واصل ذلك هو معرفته ومحبته فمن هداه الله صراطه المستقيم آتاه رحمة وعلما ومعرفة باسمائه الحسنى وصفاته العليا ورزقه الانابة إليه والوجل لذكره والخشوع له والتأله له فحن إليه حنين النسور إلى اوكارها وكلف بحبه كلف الصبى بامه لا يعبد الااياه رغبة ورهبة ومحبة واخلص دينه لمن الدنيا والآخرة له رب الأولين وألآخرين مالك يوم الدين خالق ما تبصرون وما لا تبصرون عالم الغيب والشهادة الذى امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون لم يتخذ من دونه اندادا كالذين اتخذوا من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولم يشرك بربه أحدا ولم يتخذ من دونه وليا ولاشفيعا لا ملكا ولا نبيا ولاصديقا فان كل من فى السماوات والارض الا آتى الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا فهنالك اجتباه مولاه واصطفاه وآتاه رشده وهداه لما اختلف فيه الحق باذنه فانه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم
وذلك ان الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والاخلاص كما كان عليه ابوهم آدم ابو البشر عليه السلام حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء
____________________
(28/603)
انفسهم لم ينزل الله بها كتابا ولا ارسل بها رسولا بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة قوم منهم زعموا ان التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الانبياء والصالحين وقوم جعلوها لأجل الارواح السفلية من الجن والشياطين وقوم على مذاهب أخر
واكثرهم لرؤسائهم مقلدون وعن سبيل الهدى ناكبون فابتعث الله نبيه نوحا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه وان زعموا انهم يعبدونهم ليتقربوا بهم إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء فمكث فيهم الف سنة الا خمسين عاما فلما اعلمه الله انه لن يؤمن من قومك الا من قد آمن دعا عليهم فاغرق الله تعالى اهل الارض بدعوته وجاءت الرسل بعده تترى إلى ان عم الارض دين الصائبة والمشركين لما كانت النماردة والفراعنة ملوك الارض شرقا وغربا فبعث الله تعالى امام الحنفاء واساس الملة الخالصة والكلمة الباقية ابراهيم خليل الرحمن فدعا الخلق من الشرك إلى الاخلاص ونهاهم عن عبادة الكواكب والاصنام وقال { وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } وقال لقومه
____________________
(28/604)
{ أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } وقال ابراهيم عليه السلام ومن معه لقومهم { إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }
فجعل الله الانبياء والمرسلين من اهل بيته وجعل لكم منهم خصائص ورفع بعضهم فوق بعض درجات وآتى كلا منهم من الآيات ما آمن على مثله البشر فجعل لموسى العصا حية حتى ابتلعت ما صنعت السحرة الفلاسفة من الحبال والعصى وكانت شيئا كثيرا وفلق له البحر حتى صار يابسا والماء واقفا حاجزا بين اثنى عشر طريقا على عدد الاسباط وارسل معه القمل والضفادع والدم وظلل عليه وعلى قومه الغمام الأبيض يسير معهم وانزل عليهم صبيحة كل يوم المن والسلوى واذا عطشوا ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل اناس مشربهم
وبعث بعده انبياء من بنى اسرائيل منهم من أحي الله على يده الموتى ومنهم من شفى الله على يده المرضى ومنهم من اطلعه على ما شاء من غيبه ومنهم من سخر له المخلوقات ومنهم من بعثه
____________________
(28/605)
بأنواع المعجزات
وهذا مما إتفق عليه جميع أهل الملل وفى الكتب التى بأيدى اليهود والنصارى والنبوات التى عندهم وأخبار الأنبياء عليهم السلام مثل شعياء وأرمياء ودانيال وحبقوق وداود وسليمان وغيرهم وكتاب ( سفر الملوك ( وغيره من الكتب ما فيه معتبر
وكانت بنو إسرائيل أمة قاسية عاصية تارة يعبدون الأصنام والأوثان وتارة يعبدون الله وتارة يقتلون النبيين بغير الحق وتارة يستحلون محارم الله بأدنى الحيل فلعنوا أولا على لسان داود وكان من خراب بيت المقدس ما هو معروف عند أهل الملل كلهم
ثم بعث الله المسيح بن مريم رسولا قد خلت من قبله الرسل وجعله وأمه آية للناس حيث خلقه من غير أب إظهارا لكمال قدرته وشمول كلمته حيث قسم النوع الإنسانى الأقسام الأربعة فجعل آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق زوجه حواء من ذكر بلا أنثى وخلق المسيح بن مريم من أنثى بلا ذكر وخلق سائرهم من الزوجين الذكر والأنثى وآتى عبده المسيح من الآيات البينات ما جرت به سنته فأحى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص وأنبأ الناس بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم ودعا إلى الله وإلى عبادته متبعا سنة
____________________
(28/606)
أخوانه المرسلين مصدقا لمن قبله ومبشرا بمن يأتى بعده
وكان بنوا إسرائيل قد عتوا وتمردوا وكان غالب أمره اللين والرحمه والعفو والصفح وجعل فى قلوب الذين أتبعوه رأفة ورحمة وجعل منهم قسيسين ورهبانا فتفرق الناس فى المسيح عليه السلام ومن إتبعه من الحواريين ثلاثة أحزاب
قوم كذبوه وكفروا به وزعموا أنه إبن بغى ورموا أمة بالقرية ونسبوه إلى يوسف النجار وزعموا أن شريعة التوراة لم ينسخ منها شيء وإن الله لم ينسخ ما شرعه بعد ما فعلوه بالأنبياء وماكان عليهم من الآصار فى النجاسات والمطاعم
وقوم غلوا فيه وزعموا أنه الله أو أبن الله وأن اللاهوت تدرع الناسوت وأن رب العالمين نزل وأنزل إبنه ليصلب ويقتل فداء لخطيئة آدم عليه السلام وجعلوا الاله الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد قد ولد وإتخذ ولدا وأنه إله حي عليم قدير جوهر واحد ثلاثة أقانيم وأن الواحد منها أقنوم الكلمة وهى العلم هي تدرعت الناسوت البشرى مع العلم بأن أحدهما لا يمكن إنفصاله عن الآخرين إلا إذا جعلوه ثلاثة 1 إلهات متباينة وذلك ما لايقولونه
____________________
(28/607)
وتفرقوا فى التثليث والاتحاد تفرقا وتشتتوا تشتتا لا يقر به عاقل ولم يجى نقل إلا كلمات متشابهات فى الإنجيل وماقبله من الكتب قد بينتها كلمات محكمات فى الإنجيل وما قبله كلها تنطق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده ودعائه وتضرعه
ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسوله كما قال خاتم النبين والمرسلين أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ( وقال ( لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ( كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله ولهذا كان الصابئون والمشركون كالبراهمة ونحوهم من منكرى النبوات مشركين بالله فى إقرارهم وعبادتهم وفاسدى الإعتقاد فى رسله
فأرباب التثلث فى الوحدانية والإتحاد فى الرسالة قد دخل فى أصل دينهم من الفساد ماهو بين بفطرة الله التى فطر الناس عليها وبكتب الله التى أنزلها
ولهذا كان عامة رؤسائهم من القسيسين والرهبان وما يدخل فيهم من البطارقة والمطارنة والأساقفة إذا صار الرجل منهم فاضلا مميزا فإنه ينحل عن دينه ويصير منافقا لملوك أهل دينه وعامتهم
____________________
(28/608)
رضى بالرياسة عليهم وبما يناله من الحظوظ كالذى كان لبيت المقدس الذى يقال له ( إبن البورى ( والذى كان بدمشق الذى يقال له ( أين القف ( والذى بقسطنطينية وهو ( البابا ( عندهم وخلق كثير من كبار الباباوات والمطارنة والأساقفة لما خاطبهم قوم من الفضلاء أقروا لهم بأنهم ليسواعلى عقيدة النصارى وإنما بقاؤهم على ماهم عليه لأجل العادة والرياسة كبقاء الملوك والاغنياء على ملكهم وغناهم ولهذا تجد غالب فضلائهم إنما همة أحدهم نوع من العلم الرياضى كالمنطق والهيئة والحساب والنجوم أو الطبيعى كالطب ومعرفة الأركان أو التكلم فى الإلهى على طريقة الصابئة الفلاسفة الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل عليه السلام قد نبذوا دين المسيح والرسل الذين قبله وبعده وراء ظهورهم وحفظوا رسوم الدين لأجل الملوك والعامة
وأماالرهبان فأحدثوا من أنواع المكر والحيل بالعامة ما يظهر لكل عاقل حتى صنف الفضلاء فى حيل الرهبان كتبا مثل النار التى كانت تصنع بقمامة يدهنون خيطا دقيقا بسندروس ويلقون النار عليه بسرعة فتنزل فيعتقد الجهال أنها نزلت من السماء ويأخذونها إلى البحر وهى صنعة ذلك الراهب يراه الناس عيانا وقد إعترف هو وغيره أنهم يصنعونها
وقد إتفق أهل الحق من جميع الطوائف على أنه لا تجوز عبادة الله
____________________
(28/609)
تعالى بشيء ليس له حقيقة وقد يظن المنافقون أن ما ينقل عن المسيح وغيره من المعجزات من جنس النار المصنوعة وكذلك حيلهم فى تعليق الصليب وفى بكاء التماثيل التى يصورنها على صورة المسيح وأمه وغيرهما ونحو ذلك كل ذلك يعلم كل عاقل أنه إفك مفترى وأن جميع أنبياء الله وصالحى عباده برآء من كل زور وباطل لوإفك كبرائتهم من سحر سحرة فرعون
ثم أن هؤلاء عمدوا إلى الشريعة التى يعبدون لله به فناقضو الأولين من اليهود فيها مع أنهم يأمرون بالتمسك بالتوراة إلا ما نسخه المسيح قصر هؤلاء فى الأنبياء حتى قتلوهم وغلا هؤلاء فيهم حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم وقال أولئك إن الله لايصلح له أن يغير ما أمر به فينسخه لا فى وقت آخر ولا على لسان نبى آخر وقال هؤلاء بل الأحبار والقسيسون يغيرون ما شاؤوا ويحرمون ما رأوا ومن أذنب ذنبا وضعوا عليه ما رأوا من العبادات وغفروا له ومنهم من يزعم أنه ينفخ فى المرأة من روح القدس فيجعل البخور قربانا وقال أولئك حرم علينا أشياء كثيرة وقال هؤلاء ما بين البقة والفيل حلال كل ما شئت ودع ما شئت وقال أولئك النجاسات مغلظة حتى أن الحائض لا يقعد معها ولا يؤكل معها وهؤلاء يقولون ما عليك شيء نجس ولا يأمرون بختان ولا غسل من
____________________
(28/610)
جنابة ولا إزالة نجاسة مع أن المسيح والحواريين كانوا على شريعة التوراة ثم أن الصلاة إلى المشرق لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون وإنما إبتدعها قسطنطين أو غيره
وكذلك الصليب إنما إبتدعه قسطنطين برأيه وبمنام زعم رآه وأما المسيح والحواريون فلم يأمروا بشيء من ذلك
والدين الذى يتقرب العباد به إلى الله لابد أن يكون الله أمر به وشرعه على ألسنة رسله وأنبيائه وإلا فالبدع كلها ضلالة وما عبدت الأوثان إلا بالبدع
وكذلك إدخال الألحان فى الصلوات لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون
وبالجملة فعامة أنواع العبادات والأعياد التى هم عليها لم ينزل بها الله كتابا ولا بعث بها رسولا لكن فيهم رأفة ورحمة وهذا من دين الله بخلاف الأولين فإن فيهم قسوة ومقتا وهذا مما حرمه الله تعالى لكن الأولون لهم تمييز وعقل مع العناد والكبر والآخرون فيهم ضلال عن الحق وجهل بطريق الله
____________________
(28/611)
ثم ان هاتين الامتين تفرقتا احزابا كثيرة فى أصل دينهم واعتقادهم فى معبودهم ورسولهم هذا يقول ان جوهر اللاهوت والناسوت صارا جوهرا واحدا وطبيعة واحدة وأقنوما واحدا وهم اليعقوبية وهذا يقول بل هما جوهران وطبيعتان وأقنومان وهم النسطورية وهذا يقول بالاتحاد من وجه دون وجه وهم الملكانية
وقد آمن جماعات من علماء أهل الكتاب قديما وحديثا وهاجروا إلى الله ورسوله وصنفوا فى كتب الله من دلالات نبوة النبى خاتم المرسلين وما فى التوراة والزبور والانجيل من مواضع لم يدبروها وكذلك الحواريون فلما اختلف الاحزاب من بينهم هدى الله الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنة فبعث النبى الذى بشر به المسيح ومن قبله من الأنبياء داعيا إلى ملة ابراهيم ودين المرسلين قبله وبعده وهو عبادة الله وحده لا شريك له واخلاص الدين كله لله وطهر الأرض من عبادة الأوثان ونزه الدين عن الشرك دقه وجله بعد ما كانت الاصنام تعبد فى ارض الشام وغيرها فى دولة بنى إسرائيل ودولة الذين قالوا انا نصارى وأمر بالايمان بجميع كتب الله المنزلة كالتوراة والانجيل والزبور والفرقان وبجميع أنبياء الله من آدم إلى محمد
قال الله تعالى { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون }
____________________
(28/612)
) وأمر الله ذلك الرسول بدعوة الخلق إلى توحيده بالعدل فقال تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } وقال تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } وقال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }
وأمره أن تكون صلاته وحجة إلى بيت الله الحرام الذى بناه خليله إبراهيم أبو الأنبياء وأمام الحنفاء وجعل أمته وسطا فلم يغلوا فى
____________________
(28/613)
الأنبياء كغلو من عدلهم بالله وجعل فيهم شيئا من الألهية وعبدهم وجعلهم شفعاء ولم يجفوا جفاء من آذاهم وإستخف بحرماتهم وأعرض عن طاعتهم بل عزروا الأنبياء أى عظموهم ونصروهم وآمنوا بما جاؤوا به وأطاعوهم وإتبعوهم وإئتموا بهم وأحبوهم وأجلوهم ولم يعبدوا إلاالله فلم يتكلوا إلا عليه ولم يستعينوا إلا به مخلصين له الدين حنفاء
وكذلك فى الشرائع قالوا ما أمرناالله به أطعناه وما نهانا عنه إنتهينا وإذا نهانا عما كان أحله كما نهى بنى إسرائيل عما كان أباحه ليعقوب أو أباح لنا ما كان حراما كما أباح المسيح بعض الذى حرم الله على بنى إسرائيل سمعنا وأطعنا
وأما غير رسل الله وأنبيائه فليس لهم أن يبدلوا دين الله ولا يبتدعوا فى الدين مالم يأذن به الله والرسل إنما قالوا تبليغا عن الله فإنه سبحانه له الخلق والأمر فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وتوسطت هذه الأمة فى الطهارة والنجاسة وفى الحلال والحرام وفى الأخلاق ولم يجردوا الشدة كما فعله الأولون ولم يجردوا الرأفة
____________________
(28/614)
كما فعله الآخرون بل عاملوا أعداء الله بالشدة وعاملوا أولياء الله بالرأفة والرحمة وقالوا فى المسيح ما قاله سبحانه وتعالى وما وقاله المسيح والحواريون لا ما إبتدعه الغالون والجافون
وقد أخبر الحواريون عن خاتم المرسلين أنه يبعث من أرض اليمن وأنه يبعث بقضب الأدب وهو السيف وأخبر المسيح أنه يجيء بالبينات والتأويل وأن المسيح جاء بالأمثال وهذا باب يطول شرحه
وإنما نبه الداعى لعظيم ملته وأهله لما بلغنى ما عنده من الديانة والفضل ومحبة العلم وطلب المذاكرة ورأيت الشيخ أبا العباس المقدسى شاكرا من الملك من رفقه ولطفه وإقباله عليه وشاكرا من القسيسين ونحوهم
ونحن قوم نحب الخير لكل أحد ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة فإن أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه وبذلك بعث الله الأنبياء والمرسلين ولا نصيحة أعظم من النصيحة فيما بين العبد وبين ربه فإنه لابد للعبد من لقاء الله ولابد أن الله يحاسب عبده كما قال تعالى { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين }
وأما الدنيا فأمرها حقير وكبيرها صغير وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال وغاية ذى الرياسة أن يكون كفرعون الذى أغرقه
____________________
(28/615)
الله فى اليم إنتقاما منه وغاية ذى المال أن يكون كقارون الذى خسف الله به الأرض فهو بتجلجل فيها إلى يوم القيامة لما أذى نبى الله موسى
وهذه وصايا المسيح ومن قبله ومن بعده من المرسلين كلها تأمر بعبادة الله والتجرد للدار الآخرة والأعراض عن زهرة الحياة الدنيا
ولما كان أمرالدنيا خسيسا رايت ان اعظم ما يهدى لعظيم قومه المفاتحة فى العلم والدين بالمذاكرة فيما يقرب إلى الله والكلام فى الفروع مبنى على الأصول وأنتم تعلمون أن دين الله لا يكون بهوى النفس ولا بعادات الآباء وأهل المدئية وإنما ينظر العاقل فيما جاءت به الرسل وفى ما إتفق الناس عليه وما إختلفوا فيه ويعامل الله تعالى بينه وبين الله تعالى بالإعتقاد الصحيح والعمل الصالح وإن كان لايمكن الإنسان أن يظهر كل ما فى نفسه لكل أحد فينتفع هو بذلك القدر
وإن رأيت من الملك رغبة فى العلم والخير كاتبته وجاوبته عن مسائل يسألها وقد كان خطر لى أن أجىء إلى قبرص لمصالح فى الدين والدنيا لكن إذا رأيت من الملك ما فيه رضى الله ورسوله عاملته بما يقتضيه عمله فإن الملك وقومه يعلمون أن الله قد أظهر من معجزات
____________________
(28/616)
رسله عامة ومحمد خاصة ما أيد به دينه وأذل الكفار والمنافقين
ولما قدم مقدم المغول غازان وإتباعه إلى دمشق وكان قد إنتسب إلى الإسلام لكن لم يرض الله ورسوله والمؤمنون بما فعلوه حيث لم يلتزموا دين الله وقد إجتمعت به وبأمرأته وجرى لى معهم فصول يطول شرحها لابد أن تكون قد بلغت الملك فأذلة الله وجنوده لنا حتى يقينا نضربهم بأيدينا ونصرخ فيهم بأصواتنا وكان معهم صاحب سيس مثل أصغر غلام يكون حتى كان بعض المؤذنين الذين معنا يصرخ عليه ويشتمه وهو لا يجترئ أن يجاوبه حتى أن وزراء غازان ذكروا ما ينم عليه من فساد النية له وكنت حاضرا لما جاءت رسلكم إلى ناحية الساحل وأخبرنى التتار بالأمر الذى أراد صاحب سيس أن يدخل بينكم وبينه فيه حيث مناكم بالغرور وكان التتارمن أعظم الناس شتيمة لصاحب سيس وإهانة له ومع هذا فإنا كنا نعامل أهل ملتكم بالإحسان إليهم والذب عنهم
وقد عرف النصارى كلهم أنى لما خاطبت التتار فى إطلاق الأسرى وأطلقهم غازان وقطلوشاه وخاطبت مولاى فيهم فسمح بإطلاق المسلمين قال لى لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون فقلت له بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا فإنا نفتكهم ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة
____________________
(28/617)
ولا من أهل الذمة وأطلقنا من النصارى من شاء الله فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله
وكذلك السبى الذى بأيدينا من النصارى يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم كما أوصانا خاتم المرسلين حيث قال فى آخر حياته ( الصلاة وما ملكت إيمانكم قال الله تعالى فى كتابة { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } ومع خضوع التتار لهذه الملة وإنتسابهم إلى هذه الملة فلم نخادعهم ولم نافقهم بل بينا لهم ما هم عليه من الفساد والخروج عن الإسلام الموجب لجهادهم وإن جنود الله المؤيدة وعساكره المنصورة المستقرة بالديار الشامية والمصرية ما زالت منصورة على من ناواها مظفرة على من عاداها وفى هذه المدة لما شاع عند العامة أن التتار مسلمون إمسك العسكر عن قتالهم فقتل منهم بضعة عشر ألفا ولم يقتل من المسلمين مائان فلما إنصرف العسكر إلى مصر وبلغه ما عليه هذه الطائفة الملعونة من الفساد وعدم الدين خرجت جنود الله وللأرض منها وئيد قد ملأ السهل والجبل فى كثرة وقوة وعدة وإيمان وصدق قد بهرت العقول والألباب محفوفة بملائكة الله التى ما زال يمد بها الأمة الحنيفية المخلصة لبارئها فإنهزم العدو بين أيديها ولم يقف لمقابلتها ثم أقبل العدو ثانيا فأرسل عليه من
____________________
(28/618)
العذاب ما أهلك النفوس والخيل وإنصرف خاسئا وهو حسير وصدق الله وعده ونصر عبده وهو الآن فى البلاء الشديد والتعكيس العظيم والبلاء الذى أحاط به والإسلام فى عز متزايد وخير مترافد فإن النبى قد قال ( إن الله يبعث لهذه الأمة فى رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينه ( ا وهذا الدين فى إقبال وتجديد وأنا ناصح للملك وأصحابه والله الذى لا إله إلا هو الذى أنزل التوراة والأنجيل والفرقان ) 9
ويعلم الملك أن وفد بحران وكانوا نصارى كلهم فيهم الأسقف وغيره لما قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله ورسوله وإلى الإسلام خاطبوه فى أمر المسيح وناظروه فلما قامت عليهم الحجة جعلوا يراوغون فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى المباهلة كما قال { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } فلما ذكر النبى ذلك إستشدروا بينهم فقالوا تعلمون أنه نبى وأنه ما باهل أحد نبيا فأفلح فأدوا إليه الجزية ودخلوا فى الذمة وإستعفوا من المباهلة
وكذلك بعث النبى صلى الله عليه وسلم كتابه إلى قيصر الذى كان ملك النصارى بالشام والبحر إلى قسطنطينية وغيرهاوكان ملكا
____________________
(28/619)
فاضلا فلما قرأ كتابة وسأل عن علامته عرف أنه النبى الذى بشر به المسيح وهو الذى كان وعد الله به إبراهيم فى إبنه إسماعيل وجعل يدعوه قومه النصارى إلى متابعته وأكرم كتابة وقبله ووضعه على عينيه وقال وددت أنى أخلص إليه حتى أغسل عن قدميه ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه
وأما النجاشى ملك الحبشة النصرانى فإنه لما بلغه خبر النبى من أصحابه الذين هاجروا إليه آمن به وصدقه وبعث إليه إبنه وأصحابه مهاجرين وصلى الله النبى صلى الله عليه وسلم عليه لما مات ولما سمع سورة ( كهيعص ( بكى ولما أخبره عما يقولون فى المسيح قال والله ما يزيد عيسى على هذا مثل هذا العود وقال أن هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة
وكانت سيرة النبى أن من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من النصارى صار من أمته له مالهم وعليه ما عليهم وكان له أجران أجر على إيمانه بالمسيح وأجر على إيمانه بمحمد ومن لم يؤمن به من الأمم فإن الله أمر بقتاله كما قال فى كتابته { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }
____________________
(28/620)
فمن كان لا يؤمن بالله بل يسب الله ويقول أنه ثالث ثلا وأنه صلب ولا يؤمن برسله بل يزعم أن الذى حمل وولد وكان يأكل ويشرب ويغوط وينام هو الله وإبن الله وإن الله أو إبنه حل فيه وتدرعه ويجحد ما جاء به محمد خاتم المرسلين ويحرف نصوص التوراة والأنجيل فإن فى الأناجيل الأربعة من التناقض والإختلاف بين ما أمر الله به أوجبه ما فيها ولايدين الحق ودين الحق هو الإقرار بما أمر الله به وأوجبه من عبادته وطاعته ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الدم والميتة ولحم الخنزير الذى ما زال حراما من لون آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أباحه نبى قط بل علماء النصارى يعلمون أنه محرم وما يمنع بعضهم من إظهار ذلك إلا الرغبة والرهبة وبعضهم يمنعه العناد والعادة ونحو ذلك ولا يؤمنون باليوم الآخر لأن عامتهم وان كانوا يقرون بقيامة الابدان لكنهم لا يقرون بما أخبر الله به من الاكل والشرب واللباس والنكاح والنعيم والعذاب فى الجنة والنار بل غاية ما يقرون به من النعيم السماع والشم ومنهم متفلسفة ينكرون معاد الاجساد واكثر علمائهم زنادقة وهم يضمرون ذلك ويسخرون بعوامهم لاسيما بالنساء والمترهبين منهم بضعف العقول فمن هذا حاله فقد امر الله رسوله بجهاده حتى يدخل فى دين الله او يؤدى الجزية وهذا دين محمد
ثم المسيح صلوات الله عليه لم يأمر بجهاد لاسيما بجهاد الأمة
____________________
(28/621)
الحنيفية ولا الحواريون بعد
فيا أيها الملك كيف تستحل سفك الدماء وسبى الحريم وأخذ الأموال بغير حجة بأحدهما
____________________
(28/622)
فرشها وعلى افراسها من قد بلغ الملك خبرهم قديما وحديثا وفيهم الصالحون الذين لا يرد الله دعواتهم ولا يخيب طلباتهم الذين يغضب الرب لغضبهم ويرضى لرضاهم وهؤلاء التتار مع كثرتهم وانتسابهم إلى المسلمين لما غضب المسلمون عليهم أحاط بهم من البلاء ما يعظم عن الوصف فكيف يحسن أيها الملك بقوم يجاورون المسلمين من اكثر الجهات أن يعاملوهم هذة المعاملة التى لايرضاها عاقل لامسلم ولا معاهد
هذا وأنت تعلم ان المسلمين لا ذنب لهم أصلا بل هم المحمودون على مافعلوه فان الذى أطبقت العقلاء على الاقرار بفضله هو دينهم حتى الفلاسفة أجمعوا على أنه لم يطرق العالم دين أفضل من هذا الدين فقد قامت البراهين على وجوب متابعته
ثم هذة البلاد ما زالت بأيديهم الساحل بل وقبرص أيضا ما أخذت منهم الا من أقل من ثلاثمائة سنة وقد وعدهم النبى أنهم لايزالون ظاهرين إلى يوم القيامة فما يؤمن الملك ان هؤلاء الاسرى المظلومين ببلدتة ينتقم لهم رب العباد والبلاد كما ينتقم لغيرهم وما يؤمنة أن تأخذ المسلمين حمية اسلامهم فينالوا منها ما نالوا من غيرها ونحن اذا رأينا من الملك وأصحابه ما يصلح عاملناهم بالحسنى والا فمن بغى علية لينصرنه الله
____________________
(28/623)
وأنت تعلم ان ذلك من أيسر الامور على المسلمين وأنا ما غرضى الساعة الا مخاطبتكم بالتى هي احسن والمعاونة على النظر فى العلم وإتباع الحق وفعل ما يجب فان كان عند الملك من يثق بعقله ودينه فليبحث معه عن أصول العلم وحقائق الأديان ولا يرضى أن يكون من هؤلاء النصارى المقلدين الذين لا يسمعون ولايعقلون أن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا
وأصل ذلك أن تستعين بالله وتسأله الهداية وتقول اللهم أرنى الحق حقا وأعنى على أتباعه وأرنى الباطل باطلا وأعنى على إجتنابه ولا تجعله مشتبها على فإتبع الهوى فأضل وقل اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون أهدنى لما إختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم
والكتاب لايحتمل البسط أكثر من هذا لكن أنا ما أريد للملك إلا ما ينفعه فى الدنيا والآخرة وهما شيئان ( أحدهما ) له خاصة وهو معرفته بالعلم والدين وإنكشاف الحق وزوال الشبهة وعبادة الله كما أمر فهذا خير له من ملك الدنيا بحذافيرها وهو الذى بعث به المسيح وعلمه الحواريين ( الثانى ) له وللمسلمين وهو مساعدته للأسرى الذين فى بلاده وإحسانه إليهم وأمر رعيته بالإحسان إليهم
____________________
(28/624)
والمعاونة لنا على خلاصهم فإن فى الإساءة إليهم دركا على الملك فى دينه ودين الله تعالى ودركا من جهة المسلمين وفى المعاونة على خلاصهم حسن له فى دينه ودين الله تعالى وعند المسلمين وكان المسيح أعظم الناس توصية بذلك
ومن العجب كل العجب أن يأسر النصارى قوما غدرا أو غير غدر ولم يقاتلوهم والمسيح يقول ( من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ومن أخذ رداءك فأعطه قميصك ( وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين فى قبرص سيما وعامة هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء ليس لهم من يسعى فيهم وهذا أبو العباس مع أنه من عباد المسلمين وله عبادة وفقر وفيه مشيخة ومع هذا فما كاد يحصل له فداؤه إلا بالشدة ودين الإسلام يأمرنا أن نعين الفقير والضعيف فالملك أحق أن يساعد على ذلك من وجوه كثيرة لا سيما والمسيح يوصى بذلك فى الإنجيل ويأمر بالرحمة العامة والخير الشامل كالشمس والمطر
والملك وأصحابه إذا عاونونا على تخليص الأسرى والإحسان إليهم كان الحظ الأوفر لهم فى ذلك فى الدنيا والآخرة أما فى الآخرة فإن الله يثيب على ذلك ويأجر عليه وهذا مما لا ريب فيه عند العلماء المسيحيين
____________________
(28/625)
الذين لا يتبعون الهوى بل كل من إتقى الله وأنصف علم أنهم أسروا بغير الحق لاسيما من أخذ غدرا والله تعالى لم يأمر المسيح ولا أحدا من الحواريين ولا من إتبع المسيح على دينه لا بأسر أهل ملة إبراهيم ولا بقتلهم وكيف وعامة النصارى يقرون بأن محمدا رسول الأميين فكيف يجوز أن يقاتل أهل دين إتبعوا رسولهم
فإن قال قائل هم قاتلونا أول مرة قيل هذا باطل فيمن غدرتم به ومن بدأتموه بالقتال وأما من بدأكم منهم فهو معذور لأن الله تعالى أمره بذلك ورسوله بل المسيح والحواريون أخذ عليهم المواثيق بذلك ولا يستوى من عمل بطاعة الله ورسله ودعا إلى عباده ودينه وأقر بجميع الكتب والرسل وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله ومن قاتل فى هوى نفسه وطاعة شيطانه على خلاف أمر الله
ورسله وما زال فى النصارى من الملوك والقسيسين والرهبان والعامة من له مزية على غيره فى المعرفة والدين فيعرف بعض الحق وينقاد لكثير منه ويعرف من قدر الإسلام وأهله ما يجهله غيره فيعاملهم معاملة تكون نافعة له فى الدنيا والآخرة ثم فى فكاك الأسير وثواب العتق من كلام الأنبياء والصديقين ما هو معروف لمن طلبه فمهما عمل الملك معهم وجد ثمرته
____________________
(28/626)
وأما فى الدنيا فإن المسلمين أقدر على المكأفاة فى الخير والشر من كل أحد ومن حاربوه فالويل كل الويل له والملك لابد أن يكون سمع السير وبلغه أنه ما زال فى المسلمين النفر القليل منهم من يغلب أضعافا مضاعفة من النصارى وغيرهم فكيف إذا كانوا أضعافهم وقد بلغه الملاحم المشهورة فى قديم الدهر وحديثه مثل أربعين ألفا يغلبون من النصارى أكثر من أربعمائة ألف أكثرهم فارس وما زال المرابطون بالثغور مع قلتهم وإشتغال ملوك الاسلام عنهم يدخلون بلاد النصارى فكيف وقد من الله تعالى على المسلمين باجتماع كلمتهم وكثرة جيوشهم وبأس مقدميهم وعلو هممهم ورغبتهم فيما يقرب إلى الله تعالى واعتقادهم ان الجهاد أفضل الاعمال المطوعة وتصديقهم بما وعدهم نبيهم حيث قال ( يعطى الشهيد ست حصال يغفر لة باول قطرة من دمة ويرى مقعدة فى الجنة ويكسى حلة الايمان ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين ويوقى فتنة القبر ويؤمن من الفزع الاكبر يوم القيامة (
ثم إن فى بلادهم من النصارى أضعاف ما عندكم من المسلمين فان فيهم من رؤوس النصارى من ليس فى البحر مثلهم الا قليل وأما أسراء المسلمين فليس فيهم من يحتاج الية المسلمون ولا من ينتفعون بة وانما نسعى فى تخليصهم لاجل الله تعالى رحمة لهم وتقربا الية يوم يجزى
____________________
(28/627)
الله المصدقين ولا يضيع أجر المحسنين
وأبو العباس حامل هذا الكتاب قد بث محاسن الملك وإخوتة عندنا واستعطف قلوبنا الية فلذلك كاتبت الملك لما بلغتنى رغبتة فى الخير وميلة إلى العلم والدين وأن من نواب المسيح وسائر الأنبياء فى مناصحة الملك واصحابة وطلب الخير لهم فان أمة محمد خير أمة أخرجت للناس يريدون للخلق خير الدنيا والآخرة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعونهم إلى الله ويعينونهم على مصالح دينهم ودنياهم وان كان الملك قد بلغة بعض الاخبار التى فيها طعن على بعضهم او طعن على دينهم فاما ان يكون المخبر كاذبا او ما فهم التأويل وكيف صورة الحال وان كان صادقا عن بعضهم بنوع من المعاصى والفواحش والظلم فهذا لابد منة فى كل أمة بل الذى يوجد فى المسلمين من الشر أقل مما فى غيرهم بكثير والذى فيهم من الخير لايوجد مثلة فى غيرهم
والملك وكل عاقل يعرف ان اكثر النصارى خارجون عن وصايا المسيح والحواريين ورسائل بولص وغيره من القديسين وان كان اكثر ما معهم من النصرانية شرب الخمر وأكل الخنزير وتعظيم الصليب ونواميس مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان وأن بعضهم يستحل بعض ما حرمته الشريعة النصرانية هذا فيما يقرون به وأما
____________________
(28/628)
مخالفتهم لما لا يقرون به فكلهم داخل فى ذلك بل قد ثبت عندنا عن الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسيح عيسى بن مريم ينزل عندنا بالمنارة البيضاء فى دمشق واضعا كفيه على منكبى ملكين فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل من احد إلا الاسلام ويقتل مسيح الضلالة الأعور الدجال الذى يتبعه اليهود ويسلط المسلمون على اليهود حتى يقول الشجر والحجر يامسلم هذا يهودى ورائى فاقتله وينتقم الله للمسيح بن مريم مسيح الهدى من اليهود ما آذوه وكذبوه لما بعث اليهم
وأما ما عندنا فى أمر النصارى وما يفعل الله بهم من ادالة المسلمين عليهم وتسليطه عليهم فهذا مما لا أخبر به الملك لئلا يضيق صدره ولكن الذى أنصحه به ان كل من أسلف إلى المسلمين خيرا ومال اليهم كانت عاقبته معهم حسنة بحسب ما فعله من الخير فان الله يقول { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }
والذى اختم به الكتاب الوصية بالشيخ ابى العباس وبغيره من الاسرى والمساعدة لهم والرفق بمن عندهم من أهل القرآن والامتناع من تغيير دين واحد منهم وسوف يرى الملك عاقبة ذلك كله ونحن نجزى الملك على ذلك باضعاف ما فى نفسه والله يعلم انى قاصد للملك الخير لان الله تعالى أمرنا بذلك وشرع لنا ان نريد الخير لكل
____________________
(28/629)
أحد ونعطف على خلق الله وندعوهم إلى الله والى دينه وندفع عنهم شياطين الانس والجن
والله المسئول ان يعين الملك على مصلحته التى هي عند الله المصلحة وأن يخير له من الأقوال ما هو خير له عند الله ويختم له بخاتمة خير والحمد لله رب العالمين وصلواته على انبيائه المرسلين ولا سيما محمد خاتم النبيين والمرسلين والسلام عليهم أجمعين
وسئل هل المدينة من الشام
فأجاب مدينة النبى من الحجاز باتفاق أهل العلم ولم يقل أحد من المسلمين ولا غيرهم ان المدينة النبوية من الشام وانما يقول هذا جاهل بحد الشام والحجاز جاهل بما قاله الفقهاء وأهل اللغة وغيرهم ولكن يقال المدينة شامية ومكة يمانية أى المدينة اقرب إلى الشام ومكة اقرب إلى اليمن وليست مكة من اليمن ولا المدينة من الشام
وقد أمر النبى فى مرض موته أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وهى الحجاز فاخرجهم عمر
____________________
(28/630)
بن الخطاب رضى الله عنه من المدينة وخيبر وينبع واليمامة ومخاليف هذه البلاد ولم يخرجهم من الشام بل لما فتح الشام أقر اليهود والنصارى بالاردن وفلسطين وغيرهما كما أقرهم بدمشق وغيرها
وتربة الشام تخالف تربة الحجاز كما يوجد الفرق بينهما عند المنحنى الذى يسمى عقبة الصوان فان الانسان يجد تلك التربة مخالفة لهذه التربة كما تختلف تربة الشام ومصر فما كان دون وادى المنحنى فهو من الشام مثل معان وأما العلى وتبوك ونحوهما فهو من أرض الحجاز والله أعلم
____________________
(28/631)
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين
فى الكنائس التى بالقاهرة وغيرها التى اغلقت بأمر ولاة الأمور اذا ادعى اهل الذمة انها اغلقت ظلما وانهم يستحقون فتحها وطلبوا ذلك من ولي الأمر أيده الله تعالى ونصره فهل تقبل دعواهم وهل تجب اجابتهم ام لا
واذا قالوا ان هذه الكنائس كانت قديمة من زمن امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه وغيره من خلفاء المسلمين وانهم يطلبون انهم يقرون على ما كانوا عليه فى زمن عمر وغيره وان اغلاقها مخالف لحكم الخلفاء الراشدين فهل هذا القول مقبول منهم او مردود
واذا ذهب اهل الذمة إلى من يقدم من بلاد الحرب من رسول او غيره فسألوه ان يسأل ولي الأمر فى فتحها او كاتبوا ملوك الحرب ليطلبوا ذلك من ولي امر المسلمين فهل لأهل الذمة ذلك وهل ينتقض عهدهم بذلك ام لا واذا قال قائل انهم ان لم يجابوا إلى ذلك حصل للمسلمين ضرر
____________________
(28/632)
اما بالعدوان على من عندهم من الأسرى والمساجد واما بقطع متاجرهم عن ديار الاسلام واما بترك معاونتهم لولي امر المسلمين على ما يعتمده من مصالح المسلمين ونحو ذلك فهل هذا القول صواب او خطأ بينوا ذلك مبسوطا مشروحا
واذا كان فى فتحها تغير قلوب المسلمين فى مشارق الارض ومغاربها وحصول الفتنة والفرقة بينهم وتغير قلوب اهل الصلاح والدين وعموم الجند والمسلمين على ولاة الأمور لأجل إظهار شعائر الكفر وظهور عزهم وفرحهم وسرورهم بما يظهرونه وقت فتح الكنائس من الشموع والجموع والافراح وغير ذلك وهذا فيه تغير قلوب المسلمين من الصالحين وغيرهم حتى انهم يدعون الله تعالى على من تسبب فى ذلك وأعان عليه فهل لأحد ان يشير على ولي الامر بذلك
ومن اشار عليه بذلك هل يكون ناصحا لولي امر المسلمين ام غاشا
وأي الطرق هو الأفضل لولي الأمر ايده الله تعالى اذا سلكه نصره الله تعالى على اعدائه
بينوا لنا ذلك وابسطوه بسطا شافيا مثابين مأجورين ان شاء الله تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ورضى الله عن الصحابة المكرمين
____________________
(28/633)
وعن التابعين لهم باحسان إلى يوم الدين
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما دعواهم ان المسلمين ظلموهم فى إغلاقها فهذا كذب مخالف لأجماع المسلمين فان علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعه مذهب ابى حنيفة ومالك والشافعى واحمد وغيرهم من الأئمة كسفيان الثورى والاوزاعى والليث بن سعد وغيرهم ومن قبلهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم اجمعين متفقون على ان الامام لو هدم كل كنيسة بأرض العنوة كأرض مصر والسواد بالعراق وبر الشام ونحو ذلك مجتهدا فى ذلك ومتبعا فى ذلك لمن يرى ذلك لم يكن ذلك ظلما منه بل تجب طاعته فى ذلك ومساعدته فى ذلك ممن يرى ذلك وان امتنعوا عن حكم المسلمين لهم كانوا ناقضين العهد وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم
وأما قولهم ان هذه الكنائس قائمة من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وان الخلفاء الراشدين اقروهم عليها فهذا أيضا من الكذب فان من العلم المتواتر ان القاهرة بنيت بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه باكثر من ثلاثمائة سنة بنيت بعد بغداد وبعد البصرة والكوفة وواسط
وقد أتفق المسلمون على ان ما بناة المسلمون من المدائن لم يكن
____________________
(28/634)
لأهل الذمة ان يحدثوا فيها كنيسة مثل ما فتحة المسلمون صلحا وأبقوا لهم كنائسهم القديمة بعد ان شرط عليهم فيها عمر بن الخطاب رضى الله عنة ان لايحدثوا كنيسة فى ارض الصلح فكيف فى مدائن المسلمين بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة كالعراق ومصر ونحو ذلك فبنى المسلمون مدينة عليها فان لهم أخذ تلك الكنيسة لئلا تترك فى مدائن المسلمين كنيسة بغير عهد فان فى سنن أبى داود باسناد جيد عن بن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله علية وسلم انة قال ( لا تصلح قبلتان بأرض ولا جزية على مسلم ( والمدينة التى يسكنها المسلمون والقرية التى يسكنها المسلمون وفيها مساجد المسلمين لا يجوز ان يظهر فيها شيء من شعائر الكفر لا كنائس ولا غيرها الا ان يكون لهم عهد فيوفى لهم بعهدهم فلو كان بارض القاهرة ونحوها كنيسة قبل بنائها لكان للمسلمين اخذها لان الارض عنوة فكيف وهذه الكنائس محدثة أحدثها النصارى
فان القاهرة بقى ولاة أمورها نحو مائتى سنة على غير شريعة الاسلام وكانوا يظهرون انهم رافضة وهم فى الباطن اسماعيلية ونصيرية وقرامطة باطنية كما قال فيهم الغزالى رحمة الله تعالى فى كتابة الذى صنفة فى الرد عليهم ظاهر مذهبهم الرفض وباطنة الكفر المحض واتفق طوائف المسلمين علماؤهم وملوكهم وعامتهم من
____________________
(28/635)
الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم على انهم كانوا خارجين عن شريعة الاسلام وان قتالهم كان جائزا بل نصوا على ان نسبهم كان باطلا وان جدهم كان عبيد الله بن ميمون القداح لم يكن من آل بيت رسول الله صلى الله علية وسلم وصنف العلماء فى ذلك مصنفات وشهد بذلك مثل الشيخ ابى الحسن القدورى امام الحنفية والشيخ ابى حامد الاسفرائينى امام الشافعية ومثل القاضي ابى يعلى إمام الحنبلية ومثل أبى محمد بن ابى زيد امام المالكية وصنف القاضي ابو بكر بن الطيب فيهم كتابا فى كشف اسرارهم وسماه ( كشف الأسرار وهتك الأستار ( فى مذهب القرامطة الباطنية
والذين يوجدون فى بلاد الاسلام من الأسماعيلية والنصيرية والدرزية وأمثالهم من أتباعهم وهم الذين أعانوا التتر على قتال المسلمين وكان وزير ( هولاكو ( النصير الطوسى من أئمتهم
وهؤلاء أعظم الناس عداوة للمسلمين وملوكهم ثم الرافضة بعدهم فالرافضة يوالون من حارب اهل السنة والجماعة ويوالون التتار ويوالون النصارى وقد كان بالساحل بين الرافضة وبين الفرنج مهادنة حتى صارت الرافضة تحمل إلى قبرص خيل المسلمين وسلاحهم وغلمان السلطان وغيرهم من الجند والصبيان واذا انتصر المسلمون على التتار أقاموا المآتم والحزن واذا انتصر التتار على المسلمين أقاموا
____________________
(28/636)
الفرح والسرور وهم الذين أشاروا على التتار بقتل الخليفة وقتل أهل بغداد ووزير بغداد بن العلقمى الرافضى هو الذى خامر على المسلمين وكاتب التتار حتى أدخلهم أرض العراق بالمكر والخديعة ونهى الناس عن قتالهم
وقد عرف العارفون بالاسلام ان الرافضة تميل مع اعداء الدين ولما كانوا ملوك القاهرة كان وزيرهم مرة يهوديا ومرة نصرانيا أرمينيا وقويت النصارى بسبب ذلك النصرانى الارمينى وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر فى دولة أولئك الرافضة المنافقين وكانوا ينادون بين القصرين من لعن وسب فله دينار وإردب وفى أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين حتى فتحه نور الدين وصلاح الدين وفى أيامهم جاءت الفرنج إلى بلبيس وغلبوا من الفرنج فانهم منافقون وأعانهم النصارى والله لاينصر المنافقين الذين هم يوالون النصارى فبعثوا إلى نور الدين يطلبون النجدة فأمدهم بأسد الدين وبن أخيه صلاح الدين فلما جاءت الغزاة المجاهدون إلى ديار مصر قامت الرافضة مع النصارى فطلبوا قتال الغزاة المجاهدين المسلمين وجرت فصول يعرفها الناس حتى قتل صلاح الدين مقدمهم شاور
ومن حينئذ ظهرت بهذه البلاد كلمة الاسلام والسنة والجماعة وصار يقرأ فيها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كالبخاري
____________________
(28/637)
ومسلم ونحوذلك ويذكر فيها مذاهب الائمة ويترضى فيها عن الخلفاء الراشدين والا كانوا قبل ذلك من شر الخلق فيهم قوم يعبدون الكواكب ويرصدونها وفيهم قوم زنادقة دهرية لا يؤمنون بالاخرة ولاجنة ولا نار ولا يعتقدون وجوب الصلاة والزكا ة والصيام والحج وخيرمن كان فيهم الرافضة والرافضة شر الطوائف المنتسبين إلى القبلة
فبهذا السبب وامثاله كان احداث الكنائس فى القاهرة وغيرها وقد كان فى بر مصر كنائس قديمة لكن تلك الكنائس اقرهم المسلمون عليها حين فتحوا البلاد لان الفلاحين كانوا كلهم نصارى ولم يكونوا مسلمين وانما كان المسلمون الجند خاصة واقروهم كما أقر النبى اليهود على خيبر لما فتحها لان اليهود كانوا فلاحين وكان المسلمون مشتغلين بالجهاد ثم انه بعد ذلك فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما كثر المسلمون واستغنوا عن اليهود أجلاهم أمير المؤمنين عن خيبر كما أمر بذلك النبى حيث قال ( اخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب ( حتى لم يبق فى خيبر يهودي وهكذا القرية التى يكون أهلها نصارى وليس عندهم مسلمون ولامسجد للمسلمين فاذا أقرهم المسلمون على كنائسهم التى فيها جاز ذلك كما فعله المسلمون وأما اذا سكنها المسلمون
____________________
(28/638)
وبنوا بها مساجدهم فقد قال النبى ( لا تصلح قبلتان بأرض ) وفى أثر آخر ( لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب (
والمسلمون قد كثروا بالديار المصرية وعمرت فى هذه الاوقات حتى صار أهلها بقدر ما كانوا فى زمن صلاح الدين مرات متعددة وصلاح الدين وأهل بيته ما كانوا يوالون النصارى ولم يكونوا يستعملون منهم أحدا فى شيء من أمور المسلمين اصلا ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الاعداء مع قلة المال والعدد وانما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل أخي صلاح الدين حتى ان بعض الملوك اعطاهم بعض مدائن المسلمين وحدث حوادث بسبب التفريط فيما امر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فان الله تعالى يقول { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } وقال الله تعالى { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } فكان ولاة الامور الذين يهدمون كنائسهم ويقيمون أمر الله فيهم كعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد ونحوهما مؤيدين منصورين وكان الذين هم بخلاف ذلك مغلوبين مقهورين 0
وإنما كثرت الفتن بين المسلمين وتفرقوا على ملوكهم من حين دخل
____________________
(28/639)
النصارى مع ولاة الأمور بالديار المصرية فى دولة المعز ووزارة الفائز وتفرق البحرية وغير ذلك والله تعالى يقول فى كتابه { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } وقال تعالى فى كتابه { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } وقد صح عن النبى أنه قال ( لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة
وكل من عرف سير الناس وملوكهم رأى كل من كان أنصر لدين الإسلام وأعظم جهادا لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله أعظم نصره وطاعة وحرمة من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه وإلى الآن
وقد أخذ المسلمون منهم كنائس كثيرة من أرض العنوة بعد أن أقروا عليها فى خلافة عمر بن عبد العزيز وغيره من الخلفاء وليس فى المسلمين من أنكر ذلك فعلم أن هدم كنائس العنوة جائز إذا لم يكن فيه ضرر على المسلمين فاعراض من أعرض عنهم كان لقلة المسلمين ونحو ذلك من الأسباب كما أعرض النبى صلى الله عليه وسلم عن إجلاء اليهود حتى أجلاهم عمر بن الخطاب
____________________
(28/640)
رضى الله عنه
وليس لأحد من أهل الذمة أن يكاتبوا أهل دينهم من أهل الحرب ولا يخبروهم بشيء من أخبار المسلمين ولا يطلب من رسولهم أن يكلف ولى أمر المسلمين ما فيه ضرر على المسلمين ومن فعل ذلك منهم وجبت عقوبته بإتفاق المسلمين وفى أحد القولين يكون قد نقض عهده وحل دمه وماله
ومن قال إن المسلمين يحصل لهم ضرر أن لم يجابوا إلى ذلك لم يكن عارفا بحقيقة الحال فإن المسلمين قد فتحوا ساحل الشام وكان ذلك أعظم المصائب عليهم وقد ألزموهم بلبس الغيار وكان ذلك من أعظم المصائب عليهم بل التتار فى بلادهم خربوا جميع كنائسهم وكان نوروز رحمه الله تعالى قد ألزموهم بلبس الغيار وضرب الجزية والصغار فكان ذلك من أعظم المصائب عليهم ومع هذا لم يدخل على المسلمين بذلك إلا كل خير فإن المسلمين مستغنون عنهم وهم إلى ما فى بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى مافي بلادهم بل مصلحة دينهم ودنياهم لا تقوم إلا بما فى بلاد المسلمين والمسلمون ولله الحمد والمنة أغنياء عنهم فى دينهم ودنياهم فأما نصارى الأندلس فهم لايتركون المسلمين فى بلادهم لحاجتهم إليهم وإنما يتركونهم خوفا من التتار فإن المسلمين عند التتار أعز من النصارى وأكرم ولو قدر أنهم
____________________
(28/641)
قادرون على من عندهم من المسلمين فالمسلمون أقدر على من عندهم من النصارى
والنصارى الذين فى ذمة المسلمين فيهم من البتاركة وغيرهم من علماء النصارى ورهبانهم ممن يحتاج إليهم أولئك النصارى وليس عند النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون ولله الحمد مع أن فكاك الأسارى من أعظم الواجبات وبذل المال الموقوف وغيره فى ذلك من أعظم القربات وكل مسلم يعلم أنهم لا يتجرون إلى بلاد المسلمين إلا لأغراضهم لا لنفع المسلمين ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة فإنهم أرغب الناس فى المال ولهذا يتقامرون فى الكنائس وهم طوائف مختلفون وكل طائفة تضاد الأخرى
ولا يشير على ولى أمر المسلمين بما فيه إظهار شعائرهم فى بلاد الإسلام أو تقوية أمرهم بوجه من الوجوه إلا رجل منافق يظهر الإسلام وهو منهم فى الباطن أو رجل له غرض فاسد مثل أن يكونوا برطلوه ودخلوا عليه برغبة أو رهبة أو رجل جاهل فى غاية الجهل لايعرف السياسة الشرعية الألهية التى تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين وإلا فمن كان عارفا ناصحا له أشار عليه بما يوجب نصره وثباته وتأييده وإجتماع قلوب المسلمين عليه ومحبتهم له ودعاء الناس له فى مشارق الأرض ومغاربها وهذا كله
____________________
(28/642)
إنما يكون بإعزاز دين الله وإظهار كلمة الله وإذلال أعداء الله تعالى
وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا به وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته
وليس المسلمون محتاجين إليهم ولله الحمد فقد كتب خالد بن الوليد رضى الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول ( إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به ( فكتب إليه ( لا تستعمله ( فكتب ( أنه لاغنى بنا عنه ( فكتب إليه عمر ( لا تستعمله ( فكتب إليه إذا لم نوله ضاع المال ( فكتب إليه عمر رضى الله عنه ( مات النصرانى والسلام ( وثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أن مشركا لحقه ليقاتل معه فقال له ( إنى لا أستعين بمشرك وكما إن إستخدام الجند المجاهدين أنما يصلح إذا كانوا مسلمين مؤمنين فكذلك الذين يعاونون الجند فى أموالهم وأعمالهم إنما تصلح بهم أحوالهم إذا كانوا مسلمين مؤمنين وفى المسلمين كفاية فى جميع مصالحهم ولله الحمد
ودخل أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه على عمر بن الخطاب
____________________
(28/643)
رضى الله عنه فعرض عليه حساب العراق فأعجبه ذلك وقال ( أدع كاتبك يقرؤه علي ( فقال ( انه لا يدخل المسجد ( قال ( ولم ( قال ( لأنه نصرانى ( فضربه عمر رضى الله عنه بالدرة فلو أصابته لأوجعته ثم قال لا تعزوهم بعد أن أذلهم الله ولا تأمنوهم بعد ان خونهم الله ولاتصدقوهم بعد ان أكذبهم الله
والمسلمون فى مشارق الارض ومغاربها قلوبهم واحدة موالية لله ولرسوله ولعباده المؤمنين معادية لأعداء الله ورسوله وأعداء عباده المؤمنين وقلوبهم الصادقة وأدعيتهم الصالحة هي العسكرالذي لا يغلب والجند الذي لا يخذل فانهم هم الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة كما أخبر رسول الله
وقال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }
____________________
(28/644)
(
وهذه الآيات العزيزة فيها عبرة لأولى الألباب فان الله تعالى انزلها بسبب انه كان بالمدينة النبوية من أهل الذمة من كان له عز ومنعة على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وكان أقوام من المسلمين عندهم ضعف يقين وايمان وفيهم منافقون يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر مثل عبد الله بن أبي رأس المنافقين وأمثاله وكانوا يخافون ان تكون للكفار دولة فكانوا يوالونهم ويباطنونهم قال الله تعالى { فترى الذين في قلوبهم مرض } أى نفاق وضعف إيمان { يسارعون فيهم }
____________________
(28/645)
أي فى معاونتهم { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } فقال الله تعالى { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا } اي هؤلاء المنافقون الذين يوالون أهل الذمة ( على ما اسروا فى انفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا اهؤلاء الذين اقسموا بالله جهد ايمانهم انهم لمعكم حبطت اعمالهم فأصبحوا خاسرين (
فقد عرف أهل الخبرة ان أهل الذمة من اليهود والنصارى والمنافقين يكاتبون أهل دينهم بأخبار المسلمين وبما يطلعون على ذلك من اسرارهم حتى اخذ جماعة من المسلمين فى بلاد التتر وسبي وغير ذلك بمطالعة اهل الذمة لأهل دينهم ومن الأبيات المشهورة قول بعضهم كل ** العداوات قد ترجى مودتها ** ** الا عداوة من عاداك فى ** الدين
ولهذا وغيره منعوا ان يكونوا على ولاية المسلمين او على مصلحة من يقويهم او يفضل عليهم فى الخبرة والأمانة من المسلمين بل استعمال من هو دونهم فى الكفاية انفع للمسلمين فى دينهم ودنياهم والقليل من الحلال يبارك فيه والحرام الكثير يذهب ويمحقه الله تعالى والله اعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(28/646)
وسئل
عن نصرانى قسيس بجانب داره ساحة بها كنيسة خراب لا سقف لها ولم يعلم احد من المسلمين وقت خرابها فاشترى القسيس الساحة وعمرها وادخل الكنيسة فى العمارة وأصلح حيطانها وعمرها وبقي يجمع النصارى فيها وأظهروا شعارهم وطلبه بعض الحكام فتقوى واعتضد ببعض الأعراب وأظهر الشر
فأجاب ليس له ان يحدث ما ذكره من الكنيسة وان كان هناك آثار كنيسة قديمة ببر الشام فان بر الشام فتحه المسلمون عنوة وملكوا تلك الكنائس وجاز لهم تخريبها باتفاق العلماء وانما تنازعوا فى وجوب تخريبها وليس لأحد أن يعاونه على احداث ذلك ويجب عقوبة من أعانه على ذلك وأما المحدث لذلك من اهل الذمة فانه فى احد قولي العلماء ينتقض عهده ويباح دمه وماله لأنه خالف الشروط التى شرطها عليهم المسلمون وشرطوا عليهم ان من نقضها فقد حل لهم منها مايباح من اهل الحرب والله اعلم
____________________
(28/647)
وقال رحمة الله
فى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } قد قيل إنها ما أمر الله بة ورسوله فان هذة الآية كتبها النبى فى أول الكتاب الذى كتبه لعمرو بن حزم لما بعثه عاملا على نجران وكتاب عمرو فية الفرائض والديات والسنن الواجبة بالشرع
وقوله للمؤمنين { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا } وقد ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها مبايعته للانصار ليلة العقبة فكان النبى صلى الله علية وسلم واثقهم على ما هو واجب بأمر الله من السمع له والطاعة وذكرهم الله ذلك الميثاق ليوفوا به مع انه لم يوجب إلا ما كان واجبا بأمر الله وهذه الآية أمرهم فيها بذكر نعمته عليهم وذكر ميثاقه فذكر سببى الوجوب لأن الوجوب الثابت بالشرع ثابت بايجاب الربوبية وهي انعامه عليهم ولهذا جاء فى الحديث ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ( ولهذا كان عادة المصنفين فى ( أصول الدين ( اول ما يذكرون أول نعمة أنعمها الله على عباده وأول ما وجب على عباده ويذكرون
____________________
(28/648)
( مسأله وجوب شكر المنعم ( هل وجب مع الشرع بالعقل ام لا ولهذا كانت طريقة القرآن تذكير العباد بآلاء الله عليهم فان ذلك يقتضى شكرهم له وهو أداء الواجبات الشرعية
وقوله { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا } الآية إلى قوله { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية } والميثاق على ما هو واجب عليهم من اقام الصلاة وايتاء الزكاة والايمان بالرسل وتعزيرهم وقد أخبر انه بنقضهم ميثاقهم لعناهم واقسى قلوبهم لابمجرد المعصية للأمر فكان في هذا ان عقوبة هذه الواجبات الموثقة بالعهود من جهة النقض اوكد
وقوله { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به } والامر فيهم كذلك
وقوله تعالى { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } ( فان كونه فى الصالحين
____________________
(28/649)
واجب والصدقة المفروضة واجبة وقد روى انها هي المنذورة وهذا نص فى انه يجب ب بالنذر ما كان واجبا بالشرع فإذا تركه عوقب لاخلاف الوعد الذى هو النذر فان النذر وعد مؤكد هكذا نقل عن العرب وهذه الآية تسمى النذر وعدا وقوله { لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل } ورده إلى ابيه كان واجبا عليهم بلا موثق
ومن الحرب المباحة دفع الظالم عن النفوس والأموال والأبضاع المعصومة وإنما جاءت الرخصة فى السلم والحرب خاصة لأن هذين الموطنين مبناهما على تأليف القلوب وتنفيرها فإذا تألفت فهي المسالمة وإذاتنافرت فهي المحاربة والتأليف والتنفير يحصل بالتوهمات كما يحصل بالحقائق ولهذا يؤثر قول الشعر فى التأليف والتنفير بحيث يحرك النفوس شهوة ونفرة تحريكا عظيما وإن لم يكن الكلام منطبقا على الحق لكن لأجل تخييل أو تمثيل
فلما كانت المسألمة والمحاربة الشرعية يقوم فيها التوهم لما لا حقيقة له مقام توهم ماله حقيقة ولم يكن فى المعارض إلا الإيهام بما لا حقيقة له والناطق لم يعن إلا الحق صارذلك حقا وصدقا عند المتكلم وموهما للمستمع توهما يؤلفه تأليفا يحبه الله ورسوله أو ينفره تنفيرا يحبه الله ورسوله بمنزلة تأليفه وتنفيره بالأشعار التى فيها تخييل وتمثيل وبمنزلة
____________________
(28/650)
الحكايات التى فيها الأمثال المضروبة فإن الأمثال المنظومة والمنثورة إذا كانت حقا مطابقا فهي من الشعر الذى هو حكمة وإن كان فيها تشبيهات شديدة وتخييلات عظيمة أفادت تأليفا وتنفيرا
وقال قدس الله روحه فصل
فى شروط عمر بن الخطاب رضى الله عنه التى شرطها على أهل الذمة لما قدم الشام وشارطهم بمحضر من المهاجرين والأنصار رضى الله عنهم وعليه العمل عند أئمة المسلمين لقول رسول الله ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ( وقوله ( إقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر لأن هذا صار إجماعا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا يجتمعون على ضلاله على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله وسنة نبيه
وهذه الشروط مروية من وجوه مختصرة ومبسوطة منها ما رواه
____________________
(28/651)
سفيان الثورى عن مسروق بن عبد الرحمن بن عتبة قال كتب عمر رضى الله عنه حين صالح نصارى الشام كتابا وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا فى مدنهم ولا ما حولها ديرا ولا صومعه ولا كنيسة ولا قلاية لراهب ولا يجددوا ما خرب ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم ولا يؤوا جاسوسا ولا يكتموا غش المسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركا ولا يمنعوا ذوى قرابتهم من الإسلام إن أرادوه وإن يوقروا المسلمين وإن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس ولا يتشبهوا بالمسلمين فى شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا يتكنوا بكناهم ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا ولا يتخذوا شيئا من سلاحهم ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ولا يبيعوا الخمور وأن يجزوا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ولا يظهروا صليبا ولا شيئا من كتبهم فى شيء من طريق المسلمين ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيا ولا يرفعوا أصواتهم بقراءتهم فى كنائسهم فى شيء فى حضرة المسلمين ولا يخرجوا شعانين ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ولا يظهروا النيران معهم ولايشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين فان خالفوا شيئا مما اشترط عليهم فلاذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم
____________________
(28/652)
ما يحل من اهل المعاندة والشقاق
واما ما يرويه بعض العامة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( من آذى ذميا فقد آذاني ( فهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه احد من اهل العلم وكيف ذلك واذاهم قد يكون بحق وقد يكون بغير حق بل قد قال الله تعالى { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } فكيف يحرم أذى الكفار مطلقا واى ذنب أعظم من الكفر
ولكن فى سنن ابى داود عن العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( أن الله لم يأذن لكم ان تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب ابشارهم ولا أكل ثمارهم اذا اعطوكم الذي عليهم ( وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول اذلوهم ولا تظلموهم وعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب النبى عن آبائهم عن رسول الله قال ( الا من ظلم معاهدا أوانتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجة يوم القيامة ( وفى سنن ابى داود عن قابوس بن ابي ضبيان عن ابية عن بن عباس رضى الله عنهما قال قال
____________________
(28/653)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس على مسلم جزية ولا تصلح قبلتان بأرض (
وهذه الشروط قد ذكرها أئمة العلماء من أهل المذاهب المتبوعة وغيرها فى كتبهم واعتمدوها فقد ذكروا ان على الامام أن يلزم أهل الذمة بالتميز عن المسلمين فى لباسهم وشعورهم وكناهم وركوبهم بأن يلبسوا أثوابا تخالف ثياب المسلمين كالعسلى والأزرق والأصفر والأدكن ويشدوا الخرق فى قلانسهم وعمائمهم والزنانير فوق ثيابهم
وقد أطلق طائفة من العلماء أنهم يؤخذون باللبس وشد الزنانير جميعا ومنهم من قال هذا يجب إذا شرط عليهم وقد تقدم اشتراط عمر بن الخطاب رضى الله عنه ذلك عليهم جميعا حيث قال ولا يتشبهوا بالمسلمين فى شيء من لباسهم فى قلنسوة ولا غيرها من عمامة ولا نعلين إلى ان قال ويلزمهم بذلك حيث ما كانوا ويشدوا الزنانير على أوساطهم
وهذه الشروط مازال يجددها عليهم من وفقه الله تعالى من ولاة أمور المسلمين كما جدد عمر بن عبد العزيز رحمه الله فى خلافته وبالغ فى اتباع سنة عمر بن الخطاب رضى الله عنه
____________________
(28/654)
حيث كان من العلم والعدل والقيام بالكتاب والسنة بمنزلة ميزه الله تعالى بها على غيره من الأئمة وجددها هارون الرشيد وجعفر المتوكل وغيرهما وأمروا بهدم الكنائس التى ينبغى هدمها كالكنائس التى بالديار المصرية كلها ففى وجوب هدمها قولان
ولا نزاع فى جواز هدم ما كان بأرض العنوة إذا فتحت ولو أقرت بأيديهم لكونهم أهل الوطن كما أقرهم المسلمون على كنائس بالشام ومصر ثم ظهرت شعائر المسلمين فيما بعد بتلك البقاع بحيث بنيت فيها المساجد فلا يجتمع شعائر الكفر مع شعائر الإسلام كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( لا يجتمع قبلتان بأرض ( ولهذا شرط عليهم عمر والمسلمون رضى الله عنهم أن لا يظهروا شعائر دينهم
وأيضا فلا نزاع بين المسلمين أن أرض المسلمين لا يجوز أن تحبس على الديارات والصوامع ولا يصح الوقف عليها بل لو وقفها ذمى وتحاكم إلينا لم نحكم بصحة الوقف فكيف بحبس أموال المسلمين على معابد الكفار التى يشرك فيها بالرحمن ويسب الله ورسوله فيها أقبح سب
وكان من سبب إحداث هذه الكنائس وهذه الأحباس عليها
____________________
(28/655)
شيئان ( أحدهما ( أن بنى عبيد القداح الذين كان ظاهرهم الرفض وباطنهم النفاق يستوزرون تارة يهوديا وتارة نصرانيا وإجتلب ذلك النصرانى خلقا كثيرا وبنى كنائس كثيرة ( والثانى ( إستيلاء الكتاب من النصارى على أموال المسلمين فيدلسون فيها على المسلمين ما يشاؤون والله أعلم وصلى الله على محمد
وقال الشيخ رحمه الله
تعلمون أنا بحمد الله فى نعم عظيمة ومنن جسيمة وآلاء متكاثرة وأياد متظاهرة لم تكن تخطر لأكثر الخلق ببال ولا تدور لهم فى خيال والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى إلى أن قال
والحق دائما فى إنتصار وعلو وإزدياد والباطل فى إنخفاض وسفال ونفاد وقد أخضع الله رقاب الخصوم وأذلهم غاية الذل وطلب أكابرهم من السلم والإنقياد ما يطول وصفه
ونحن ولله الحمد قد إشترطنا عليهم فى ذلك من الشروط ما فيه عزالإسلام والسنة وإنقماع الباطل والبدعة وقد دخلوا فى ذلك كله وامتنعنا حتى يظهروا ذلك إلى الفعل فلم نثق لهم بقول
____________________
(28/656)
ولا عهد ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولا والمذكور مفعولا ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التى تمحو سيئاتهم وقد أمد الله من الأسباب التى فيها عز الإسلام والسنة وقمع الكفر والبدعة بأمور يطول وصفها فى كتاب وكذلك جرى من الأسباب التى هي عزالإسلام وقمع اليهود والنصارى بعد أن كانوا قد إستطالوا وحصلت لهم شوكة وأعانهم من أعانهم على أمر فيه ذل كبير من الناس فلطف الله بإستعمالنا فى بعض ما أمر الله به ورسوله وجرى فى ذلك مما فيه عز المسلمين وتأليف قلوبهم وقيامهم على اليهود والنصارى وذل المشركين وأهل الكتاب مما هو من أعظم نعم الله على عباده المؤمنين ووصف هذا يطول وقد أرسلت إليكم كتابا أطلب ما صنفته فى أمر الكنائس وهى كراريس بخطى قطع النصف البلدى فترسلون ذلك إن شاء الله تعالى وتستعينون على ذلك بالشيخ جمال الدين المزى فإنه يقلب الكتب ويخرج المطلوب وترسلون أيضا من تعليق القاضي أبى يعلى الذى بخط القاضي أبى الحسين إن أمكن الجميع وهو أحد عشر مجلدا وإلا فمن أوله مجلدا أو مجلدين أو ثلاثة وذكر كتبا يطلبها منهم
____________________
(28/657)
ما تقول السادة العلماء
فى قوم من أهل الذمة ألزموا بلباس غير لباسهم المعتاد وزى غير زيهم المألوف وذلك أن السلطان ألزمهم بتغيير عمائمهم وأن تكون خلاف عمائم المسلمين فحصل بذلك ضرر عظيم فى الطرقات والفلوات وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع وآذوهم غاية الأذى وطمع بذلك فى إهانتهم والتعدى عليهم فهل يسوغ للإمام ردهم إلى زيهم الأول وإعادتهم إلى ماكانوا عليه مع حصول التمييز بعلامة يعرفون بها وهل ذلك مخالف للشرع أم لا
قال إبن القيم فأجابهم من منع التوفيق وصد عن الطريق بجواز ذلك وأن للإمام إعادتهم إلى ما كانوا عليه قال شيخنا فجاءتنى الفتوى فقلت لاتجوز إعادتهم ويجب إبقاؤهم على الزى الذى يتميزون به عن المسلمين فذهبوا ثم غيروا الفتيا ثم جاؤوا بها فى قالب آخر فقلت لا تجوز إعادتهم فذهبوا ثم أتوا بها فى قالب آخر فقلت هي المسألة المعينة وإن خرجت فى عدة قوالب قال إبن القيم ثم ذهب شيخ الإسلام إلى السلطان وتكلم عنده بكلام عجب منه الحاضرون فأطبق القوم على إبقائهم ولله الحمد والمنة
____________________
(28/658)
وسئل عن الرهبان الذين يشاركون الناس فى غالب الدنيا فيتجرون ويتخذون المزارع وأبراج الحمام وغير ذلك من الأمور التى يتخذها سائر الناس فيما هم فيه الآن وإنما ترهب أحدهم فى اللباس وترك النكاح وأكل اللحم والتعبد بالنجاسة ونحو ذلك وقد صار من يريد إسقاط الجزية من النصارى يترهب هذا الترهب لسقوط الجزية عنه ويأخذون من الأموال المحبوسة والمنذورة ما يأخذون فهل يجوز أخذ الجزية من هؤلاء أم لا وهل يجوز إسكانهم بلاد المسلمين مع رفع الجزية عنهم أم لا أفتونا مأجورين
فأجاب رضى الله عنه الحمد لله الرهبان الذين تنازع العلماء فى قتلهم وأخذ الجزية منهم هم المذكورون فى الحديث المأثور عن خليفة رسول الله أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قال فى وصيتة ليزيد بن أبى سفيان لما بعثه أميرا على فتح الشام فقال له فى وصيته وستجدون أقواما قد
____________________
(28/659)
حبسوا أنفسهم فى الصوامع فذروهم وما حبسوا أنفسهم له وستجدون أقواما قد فحصوا عن أوساط رؤوسهم فأضربوا مافحصوا عنه بالسيف وذلك بأن الله يقول فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون )
وإنما نهى عن قتل هؤلاء لأنهم قوم منقطعون عن الناس محبوسون فى الصوامع يسمى أحدهم حبيسا لا يعاونون أهل دينهم على أمر فيه ضرر على المسلمين أصلا ولايخ الطونهم فى دنياهم ولكن يكتفى أحدهم بقدر ما يتبلغ به فتنازع العلماء فى قتلهم كتنازعهم فى قتل من لا يضر المسلمين لابيده ولا لسانه كالأعمى والزمن والشيخ الكبير ونحوه كالنساء والصبيان
فالجمهور يقولون لا يقتل إلا من كان من المعاونين لهم على القتال فى الجملة وإلا كان كالنساء والصبيان ومنهم من يقول بل مجرد الكفر هو المبيح للقتل وإنما إستثنى النساء والصبيان لأنهم أموال وعلى هذا الأصل ينبنى أخذ الجزية
وأما الراهب الذى يعاون أهل دينه بيده ولسانه مثل أن يكون له رأى يرجعون إليه فى القتال أو نوع من التحضيض فهذا يقتل بإتفاق العلماء إذا قدر عليه وتؤخذ منه الجزية وإن كان حبيسا منفردا فى متعبده فكيف بمن هم كسائر النصارى فى معائشهم ومخالطتهم الناس وإكتساب الأموال بالتجارات والزراعات والصناعات
____________________
(28/660)
وإتخاذ الديارات الجامعات لغيرهم وإنما تميزوا على غيرهم بما يغلظ كفرهم ويجعلهم أئمة فى الكفر مثل التعبد بالنجاسات وترك النكاح واللحم واللباس الذى هو شعار الكفر لا سيما وهم الذين يقيمون دين النصارى بما يظهرونه من الحيل الباطلة التى صنف الفضلاء فيها مصنفات ومن العبادات الفاسدة وقبول نذورهم وأوقافهم
والراهب عندهم شرطه ترك النكاح فقط وهم مع هذا يجوزون أن يكون بتركا وبطرقا وقسيسا وغيرهم من أئمة الكفر الذين يصدرون عن أمرهم ونهيهم ولهم أن يكتسبوا الأموال كما لغيرهم مثل ذلك فهؤلاء لايتنازع العلماء فى أنهم من أحق النصارى بالقتل عند المحاربة وبأخذ الجزية عند المسالمة وأنهم من جنس أئمة الكفر الذين قال فيهم الصديق رضى الله عنه ما قال وتلا قوله تعالى { فقاتلوا أئمة الكفر }
ويبين ذلك أنه سبحانه وتعالى قد قال ( إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ) وقد قال تعالى ( إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )
فهل يقول عالم إن أئمة الكفر الذين يصدون عوامهم عن سبيل
____________________
(28/661)
الله ويأكلون أموال الناس بالباطل ويرضون بأن يتخذوا أربابا من دون الله لا يقاتلون ولا تؤخذ منهم الجزية مع كونها تؤخذ من العامة الذين هم أقل منهم ضررا فى الدين وأقل أموالا لايقوله من يدرى ما يقول وإنما وقعت الشبهة لما فى لفظ الراهب من الإجمال والإشتراك وقد بينا أن الأثر الوارد مقيد مخصوص وهو يبين المرفوع فى ذلك وقد إتفق العلماء على أن علة المنع هو ما بيناه
فهؤلاء الموصوفون تؤخذ منهم الجزية بلاريب ولا نزاع بين أئمة العلم فإنه ينتزع منهم ولا يحل أن يترك شيء من أرض المسلمين التى فتحوها عنوة وضرب الجزية عليها ولهذا لم يتنازع فيه أهل العلم من أهل المذاهب المتبوعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أن أرض مصر كانت خراجية وقد ثبت ذلك فى الحديث الصحيح الذى فى صحيح مسلم حيث قال ( منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مدها ودينارها ومنعت مصر إردبها ودرهمها وعدتم من حيث بدأتم لكن المسلمون لما كثروا نقلوا أرض السواد فى أوائل الدولة العباسية من المخارجة إلى المقاسمة ولذلك نقلوا مصر إلى أن إستغلوها هم كما هو الواقع اليوم ولذلك رفع عنها الخراج
ومثل هذه الأرض لا يجوز بإتفاق المسلمين أن تجعل حبسا على
____________________
(28/662)
مثل هؤلاء يستغلونها بغير عوض فعلم أن إنتزاع هذه الأرضين منهم واجب بإتفاق علماء المسلمين وإنما إستولوا عليها بكثرة المنافقين من المنتسبين إلى الإسلام فى الدولة الرافضية وإستمر الأمر على ذلك وبسبب كثرة الكتاب والدواوين منهم ومن المنافقين يتصرفون فى أموال المسلمين بمثل هذا كما هو معروف من عمل الدواوين الكافرين والمنافقين
ولهذا يوجد لمعابد هؤلاء الكفار من الأحباس مالا يوجد لمساجد المسلمين ومساكنهم للعلم والعبادة مع أن الأرض كانت خراجية بإتفاق علماء المسلمين ومثل هذا لا يفعله من يؤمن بالله ورسوله وإنما يفعله الكفار والمنافقون ومن لبسوا عليه ذلك من ولاة أمور المسلمين فإذا عرف ولاة أمور المسلمين الحال عملوا فى ذلك ما أمر الله به ورسوله والله سبحانه وتعالى اعلم وصلى الله على محمد
____________________
(28/663)
وسئل رحمه الله
عن رجل يهودى معه كتاب يدعى أنه خط على بن أبى طالب يمتنع به عن الجزية وله مدة لم يعطها
فأجاب كل كتاب تدعيه اليهود بإسقاط الجزية من على أو غيره فهو كذب يستحقون العقوبة عليه مع أخذ الجزية منهم وتؤخذ منه الجزية الماضية والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن اليهود والنصارى إذا إتخذوا خمورا هل يحل للمسلم إراقتها عليهم وكسر أوانيهم وهجم بيوتهم لذلك أم لا وهل يجوز هجم بيوت المسلمين إذا علم أو ظن أن بها خمرا من غير أن يظهر شيء من ذلك لتراق وتكسر الأوانى ويتجسس على مواضعه أم لا وهل يحرم على الفاعل ذلك أم لا إذا كان مأمورا من جهة الإمام بذلك أم يكون معذورا بمجرد الأمر دون الإكراه وإذا
____________________
(28/664)
خشى من مخالفة الأمر وقوع محذور به فهل يكون عذرا له أم لا فأجاب الحمد لله أما أهل الذمة فإنهم وإن أقروا على ما يستحقون به فى دينهم فليس لهم أن يبيعوا المسلم خمرا ولا يهدونها إليه ولا يعاونوه عليها بوجه من الوجوه فليس لهم أن يعصروها لمسلم ولا يحملوها له ولا يبيعوها من مسلم ولا ذمى وهذا كله مما هو مشروط عليهم فى عقد الذمة ومتى فعلوا ذلك إستحقوا العقوبة التى تردعهم وأمثالهم عن ذلك وهل ينتقض عهدهم بذلك وتباح دماؤهم وأموالهم على قولين فى مذهب الإمام أحمد وغيره
وكذلك ليس لهم أن يستعينوا بجاه أحد ممن يخدمونه أو ممن أظهر الإسلام منهم أو غيرهما على إظهار شيء من المنكرات بل كما تجب عقوبتهم تجب عقوبة من يعينهم بجاهه أو غير جاهه على شيء من هذه الأمور
وإذا شرب الذمى الخمر فهل يحد على ثلاثة أقوال للفقهاء قيل يحد وقيل لا يحد وقيل يحد إن سكر وهذا إذا أظهر ذلك بين المسلمين وأما ما يختفون به فى بيوتهم من غير ضرر بالمسلمين بوجه من الوجوه فلا يتعرض لهم وعلى هذا فإذا كانوا لا ينتهون عن إظهار الخمر أو معاونة المسلمين عليها أو بيعها وهديها للمسلمين إلا بإراقتها
____________________
(28/665)
عليهم فإنها تراق عليهم مع ما يعاقبون به إما بما يعاقب به ناقض العهد وإما بغير ذلك
وسئل
عن اليهود بمصر من أمصار المسلمين وقد كثر منهم بيع الخمر لآحاد المسلمين وقد كثرت أموالهم من ذلك وقد شرط عليهم سلطان المسلمين أن لا يبيعوها للمسلمين ومتى فعلوا ذلك حل منهم ما يحل من أهل الحرب فماذا يستحقون من العقوبة وهل للسلطان أن يأخذ منهم الأموال التى إكتسبوها من بيع الخمر أم لا
فأجاب الحمد لله يستحقون على ذلك العقوبة التى تردعهم وأمثالهم عن ذلك وينتقض بذلك عهدهم فى أحد قولى العلماء فى مذهب أحمد وغيره وإذا إنتقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم وحل منهم مايحل من المحاربين الكفار وللسلطان أن يأخذ منهم هذه الأموال التى قبضوها من أموال المسلمين بغير حق ولا يردها إلى من إشترى منهم الخمر فإنهم إذا علموا أنهم ممنوعين من شرب الخمر وشرائها وبيعها فإشتروها كانوا بمنزلة من يبيع الخمر من المسلمين ومن باع خمرا لم يملك ثمنه فأذا كان المشترى قد أخذ الخمر فشربها لم
____________________
(28/666)
يجمع له بين العوض والمعوض بل يؤخذ هذا المال فيصرف فى مصالح المسلمين كما قيل فى مهر البغى وحلوان الكاهن وأمثال ذلك مما هو عوض عن عين أو منفعة محرمة إذا كان العاصى قد إستوفى العوض
وهذا بخلاف مالو باع ذمى لذمى خمرا سرا فإنه لا يمنع من ذلك وإذا تقابضا جاز أن يعامله المسلم بذلك الثمن الذى قبضه من ثمن الخمر كما قال عمر رضى الله عنه ولو هم بيعها وخذوا منهم أثمانها بل أبلغ من ذلك أنه يجوز للإمام أن يخرب المكان الذى يباع فيه الخمر كالحانوت والدار كما فعل ذلك عمر بن الخطاب حيث أخرب حانوت رويشد الثقفى وقال إنما أنت فويسق لست برويشد وكما أحرق على بن أبى طالب قرية كان يباع فيها الخمر وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء
____________________
(28/667)
وسئل
عن يهودى قال هؤلاء المسلمون الكلاب أبناء الكلاب يتعصبون علينا وكان قد خاصمه بعض المسلمين ف
أجاب رحمه الله إذا كان أراد بشتمه طائفة معينة من المسلمين فإنه يعاقب على ذلك عقوبة تزجره وأمثاله عن مثل ذلك وأما ان ظهر منه قصد العموم فإنه ينتقض عهده بذلك ويجب قتله
____________________
(28/668)
قال شيخ الاسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وأما العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرها فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة فإن القول فيها كالقول فى العبادات
فمن ذلك ( صفة العقود ( فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال
( أحدها ) أن الأصل فى العقود أنها لا تصح إلا بالصيغة وهي العبارات التى قد يخصها بعض الفقهاء بإسم الإيجاب والقبول سواء في ذلك البيع والإجارة والهبة والنكاح والعتق والوقف وغير ذلك وهذا ظاهر قول الشافعي وهو قول فى مذهب أحمد يكون تارة رواية منصوصة فى بعض المسائل كالبيع والوقف ويكون تارة رواية مخرجة كالهبة والإجارة ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها كما في إشارة الأخرس ويقيمون أيضا الكتابة فى مقام العبارة عند الحاجة
____________________
(29/5)
وقد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها كما في الهدي إذا عطب دون محله فإنه ينحر ثم يضمخ نعله المعلق فى عنقه بدمه علامة للناس ومن أخذه ملكه وكذلك الهدية ونحو ذلك
لكن الأصل عندهم هو اللفظ لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور فى قوله { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } والمعاني التى في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التى قد جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها تحتمل وجوها كثيرة ولأن العقود من جنس الأقوال فهي فى المعاملات كالذكر والدعاء فى العبادات ( القول الثانى أنها تصح بالأفعال فيما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات بالمعاطاة وكالوقف فى مثل من بنى مسجدا وأذن للناس فى الصلاة فيه أو سبل أرضا للدفن فيها أو بنى مطهرة وسبلها للناس وكبعض أنواع الإجارة كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة أو ركب سفينة ملاح وكالهدية ونحو ذلك فإن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أمور الناس ولأن الناس من لدن النبى صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا ما زالوا يتعاقدون فى مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود وهذا هو الغالب على أصول
____________________
(29/6)
أبي حنيفة وهو قول فى مذهب أحمد ووجه فى مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة فى الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف
القول الثالث أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل فكل ما عده الناس بيعا وإجارة فهو بيع وإجارة وإن إختلف إصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال إنعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال وليس لذلك حد مستمر لا فى شرع ولا فى لغة بل يتنوع بتنوع إصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم
فإن لفظ البيع والإجارة في لغة العرب ليس هو اللفظ الذي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة بل قد تختلف أنواع اللغة الواحدة ولا يجب على الناس إلتزام نوع معين من الإصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم وإن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد
ولهذا يصح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقا وإن كان قد
____________________
(29/7)
وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر بأن يقول خذ هذا لله فيأخذه أو يقول أعطني خبزا بدرهم فيعطيه أو لم يوجد لفظ من أحدهما بأن يضع الثمن ويقبض جرزة البقل أو الحلواء أو غير ذلك كما يتعامل به غالب الناس أو يضع المتاع ليوضع له بدله فإذا وضع البدل الذي يرضي به أخذه كما يجلبه التجار على عادة بعض أهل المشرق
فكل ما عده الناس بيعا فهو بيع وكذلك فى الهبة مثل الهدية ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية وكذلك الإجارات مثل ركوب سفينة الملاح المكاري وركوب دابة الجمال أو الحمار أو البغال المكاري على الوجه المعتاد أنه إجارة ومثل الدخول إلى حمام الحمامي يدخلها الناس بالأجرة ومثل دفع الثوب إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر أو دفع الطعام إلى طباخ أو شواي يطبخ أو يشوي للآخر سواء شوي اللحم مشروحا أو غير مشروح
حتى إختلف أصحابه هل يقع الخلع بالمعاطاة مثل أن تقول إخلعني بهذه الألف أو بهذا الثوب فيقبض العوض على الوجه المعتاد أنه رضي منه بالمعاوضة فذهب العكبريون كأبي حفص وأبي علي بن شهاب إلى أن ذلك خلع صحيح وذكروا من كلام أحمد ومن كلام غيره
____________________
(29/8)
من السلف من الصحابة والتابعين ما يوافق قولهم ولعله هو الغالب على نصوصه بل قد نص على أن الطلاق يقع بالفعل والقول وإحتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبى ( إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به ( قال وإذا كتب فقد عمل وذهب البغداديون الذين كانوا فى ذلك الوقت كأبي عبد الله بن حامد ومن اتبعهم كالقاضي أبي يعلى ومن سلك سبيله أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام وذكروا من كلام أحمد ما إعتمدوه في ذلك بناء على أن الفرقة فسخ النكاح والنكاح يفتقر إلى لفظ فكذلك فسخه
وأما النكاح فقال هؤلاء كابن حامد والقاضي وأصحابه مثل أبى الخطاب وعامة المتأخرين أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكناية لأن الكناية تفتقر إلى نية والشهادة شرط في صحة النكاح والشهادة على النية غير ممكنة ومنعوا من إنعقاد النكاح بلفظ الهبة أو العطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك
وقال أكثر هؤلاء كابن حامد والقاضي والمتأخرين أنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها فإن لم يقدر على تعلمها إنعقد بمعناها الخاص بكل لسان وإن قدر على تعلمها ففيه وجهان
____________________
(29/9)
بناء على أنه مختص بهذين اللفظين وأن فيه شوب التعبد وهذا مع أنه ليس منصوصا عن أحمد فهو مخالف لأصوله ولم ينص أحمد على ذلك ولا نقلوا عنه نصا فى ذلك وإنما نقلوا قوله في رواية أبي الحارث إذا وهبت نفسها لرجل فليس بنكاح فإن الله تعالى قال { خالصة لك من دون المؤمنين } وهذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبى صلى الله عليه وسلم وهو النكاح بغير مهر بل قد نص أحمد فى المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته أعتقتك وجعلت عتقك صداقك وبقوله جعلت عتقك صداقك أو صداقك عتقك ذكر ذلك في غير موضع من جواباته
فاختلف أصحابه فأما أبو عبد الله بن حامد فطرد قياسه وقال لابد مع ذلك من أن يقول تزوجتها أو نكحتها لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين الصيغتين وأما القاضي أبو يعلى وغيره فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه إبن حامد وأن ذلك من صور الاستحسان وذكر بن عقيل قولا فى المذهب أنه ينعقد بغير لفظ الانكاح والتزويج لنص أحمد بهذا وهذا أشبه بنصوص أحمد وأصوله ومذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه فإن أصحاب مالك إختلفوا هل ينعقد بغير لفظ الانكاح والتزويج على
____________________
(29/10)
قولين والمنصوص عنه إنما هو منع ما إختص به النبى من هبة البضع بغير مهر قال بن القاسم وإن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك فهو عندى جائز
وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما فإن الحكم مبنى على مقدمتين إحداهما أن ما سوى ذلك كناية وأن الكناية تفتقر إلى النية ومذهبهما المشهور أن دلالة الحال فى الكنايات تجعلها صريحة وتقوم مقام إظهار النية ولهذا جعلا الكنايات فى الطلاق والقذف ونحوهما مع دلالة الحال كالصريح
ومعلوم أن دلالات الأحوال فى النكاح معروفة من إجتماع الناس لذلك والتحدث بما إجتمعوا له فإذا قال بعد ذلك ملكتكهالك بألف درهم علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الانكاح وقد شاع هذا اللفظ فى عرف الناس حتى سموا عقده إملاكا وملاكا ولهذا روى الناس قول النبي لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتما من حديد رووه تارة ( أنكحتكها بما معك من القرآن ( وتارة ( ملكتكها ( وإن كان النبى لم يثبت عنه أنه إقتصر على ( ملكتكها ( بل إما أنه قالهما جميعا أو قال أحدهما لكن لما كان اللفظان عندهم فى مثل هذا الموضع سواء
____________________
(29/11)
رووا الحديث تارة هكذا وتارة هكذا
ثم تعيين اللفظ العربى فى مثل هذا فى غاية البعد عن أصول أحمد ونصوصه وعن أصول الأدلة الشرعية إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم وهو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة ومعلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربي ولا عجمي وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعين لها لفظ عربي بالإجماع ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهمه من اللغة التى إعتادها
نعم لو قيل تكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة لكان متوجها كما قد روى عن مالك وأحمد والشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة وقد ذكرنا هذه المسألة فى غير هذا الموضع
وقد ذكر أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وبن عقيل والمتأخرين أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم فما اعتقدوه نكاحا بينهم جاز إقرارهم عليه إذا أسلموا وتحاكموا إلينا إذا لم يكن حينئذ مشتملا على مانع وإن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يجز الاقرار عليه حتى قالوا لو قهر حربى حربية فوطئها
____________________
(29/12)
أو طاوعته واعتقداه نكاحا أقرا عليه وإلا فلا
ومعلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر وإنما اختص المسلم بأن الله أمر فى النكاح بأن يميز عن السفاح كما قال تعالى { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } وقال { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } فأمر بالولي والشهود ونحو ذلك مبالغة فى تمييزه عن السفاح وصيانة للنساء عن التشبه بالبغايا حتى شرع فيه الضرب بالدف والوليمة الموجبة لشهرته ولهذا جاء فى الأثر ( المرأة لا تزوج نفسها ( فإن البغي هي التى تزوج نفسها وأمر فيه بالاشهاد أو بالإعلان أو بهما جميعا ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات في مذهب أحمد ومن إقتصر على الاشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن السفاح وبأنه يحفظ النسب عند التجاحد
فهذه الأمور التى اعتبرها الشارع في الكتاب والسنة والآثار حكمتها بينة فأما إلتزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر
وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التى تدل عليها أصول الشريعة وهي التى تعرفها القلوب وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال
____________________
(29/13)
{ فانكحوا ما طاب لكم من النساء } وقال { وأنكحوا الأيامى منكم } وقال { وأحل الله البيع } وقال { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } وقال { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقال { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إلى قوله { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } وقال { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } وقال { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } وقال { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وقال { إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم } وقال { فتحرير رقبة } وقال { فطلقوهن لعدتهن } وقال { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } إلى غير ذلك من الآيات المشروع فيها هذه العقود إما أمرا وإما إباحة والمنهى فيها عن بعضها كالربا فإن الدلالة فيها من وجوه
أحدها أنه إكتفي بالتراضي في البيع فى قوله { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وبطيب النفس فى التبرع فى قوله { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا }
____________________
(29/14)
فتلك الآية في جنس المعاوضات وهذه الآية فى جنس التبرعات ولم يشترط لفظا معينا ولا فعلا معينا يدل على التراضي وعلى طيب النفس ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس فى أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة
والعلم به ضروري فى غالب ما يعتاد من العقود وهو ظاهر فى بعضها وإذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن وبعض الناس قد يحمله اللدد فى نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن مواطأة وتلقين فى الأخبار والمذاهب فالعبرة بالفطرة السليمة التى لم يعارضها ما يغيرها ولهذا قلنا إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب لأن الفطر السليمة لا تتفق على الكذب فأما مع التواطؤ والإتفاق فقد يتفق جماعات على الكذب
الوجه الثانى أن هذه الأسماء جاءت فى كتاب الله وسنة رسوله معلقا بها أحكام شرعية وكل اسم فلابد له من حد فمنه ما يعلم حده باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والسماء والأرض ومنه ما يعلم بالشرع كالمؤمن والكافر والمنافق وكالصلاة والزكاة
____________________
(29/15)
و الصيام والحج وما لم يكن له حد فى اللغة ولا فى الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم ( من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (
ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة بل قد قيل إن هذا القول مما يخالف الاجماع القديم وأنه من البدع وليس لذلك حد فى لغة العرب بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا ولا يسمون هذا بيعا حتى يدخل أحدهما في خطاب الله ولا يدخل الآخر بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا دليل على أنها فى لغتهم تسمى بيعا والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها فإذا لم يكن له حد فى الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم فما سموه بيعا فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة
الوجه الثالث أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها فى دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التى أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع وأما العادات فهي ما اعتاده الناس فى دنياهم مما
____________________
(29/16)
يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لابد أن تكون مأمورا بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه عبادة وما لم يثبت من العبادات أنه منهي عنه كيف يحكم على أنه محظور ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل فى العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }
والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه فى سورة الأنعام من قوله تعالى { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون }
____________________
(29/17)
فذكر ما ابتدعوه من العبادات ومن التحريمات وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( قال الله تعالى إنى خلقت عبادى حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا (
وهذه ( قاعدة عظيمة نافعة ( وإذا كان كذلك فنقول
البيع والهبة والاجارة وغيرها هي من العادات التى يحتاج الناس إليها فى معاشهم كالأكل والشرب واللباس فإن الشريعة قد جاءت فى هذه العادات بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت ما لابد منه وكرهت ما لا ينبغى واستحبت ما فيه مصلحة راجحة فى أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها
وإذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة كما يأكلون ويشربون كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها وما لم تحد الشريعة فى ذلك حدا فيبقون فيه على الاطلاق الأصلى
وأما السنة والإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين من أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات
____________________
(29/18)
علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين والآثار فى ذلك كثيرة ليس هذا موضعها إذ الغرض التنبيه على القواعد وإلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا
فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى مسجده والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته ولم يأمر أحدا أن يقول وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ بل قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا فى الجنة ( فعلق الحكم بنفس بنائه وفى الصحيحين أنه لما اشترى الجمل من عبد الله بن عمر بن الخطاب قال ( هو لك يا عبد الله بن عمر ( ولم يصدر من إبن عمر لفظ قبول وكان يهدي ويهدى له فيكون قبض الهدية قبولها ولما نحر البدنات قال ( من شاء اقتطع ( مع إمكان قسمتها فكان هذا إيجابا وكان الاقتطاع هو القبول وكان يسأل فيعطي أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطي ويكون الاعطاء هو الإيجاب والأخذ هو القبول في قضايا كثيرة جدا ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ ولا يلتزم أن يتلفظ لهم بصيغة كما في إعطائه للمؤلفة قلوبهم وللعباس وغيرهم
وجعل إظهار الصفات فى المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ فى مثل المصراة ونحوها من المدلسات
____________________
(29/19)
وأيضا فإن التصرفات جنسان عقود وقبوض كما جمعهما النبى صلى الله عليه وسلم في قوله ( رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى ( ويقول الناس البيع والشراء والأخذ والعطاء
والمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض أو جوازه بمنزلة إيجاب الشارع ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود بمنزلة فعل المأمور به فى الشرعيات
والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد وتتعلق به أحكام شرعية كما تتعلق بالقبض فإذا كان المرجع فى القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوى فيه جميع الناس فى جميع الأحوال والأوقات فكذلك العقود وإن حررت عبارته قلت أحد نوعى التصرفات فكان المرجع فيه إلى عادة الناس كالنوع الآخر
ومما يلتحق بهذا أن الاذن العرفى في الاباحة أو التمليك أو التصرف بطريق الوكالة كالإذن اللفظى فكل واحد من الوكالة والاباحة ينعقد بما يدل عليها من قول وفعل والعلم برضى المستحق يقوم مقام إظهاره للرضى وعلى هذا يخرج مبايعة النبى صلى الله
____________________
(29/20)
عليه وسلم عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان وكان غائبا وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة ومنزل جابر بدون استئذانهما لعلمه أنهما راضيان بذلك ولما دعاه صلى الله عليه وسلم اللحام سادس ستة اتبعهم رجل فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصرى أن أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه قال ذكرتمونى أخلاق قوم قد مضوا وكذلك معنى قول أبي جعفر إن الاخوان من يدخل أحدهم يده في جيب صاحبه فيأخذ منه ما شاء
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن استوهبه كبة شعر ( أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فقد وهبته لك ( وكذلك إعطاؤه المؤلفة قلوبهم عند من يقول إنه أعطاهم من أربعة الأخماس وعلى هذا خرج الإمام أحمد بيع حكيم بن حزام وعروة بن الجعد لما وكله النبى صلى الله عليه وسلم في شراء شاة بدينار فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار فإن التصرف بغير إستئذان خاص تارة بالمعاوضة وتارة بالتبرع وتارة بالانتفاع مأخذه إما إذن عرفى عام أو خاص
____________________
(29/21)
فصل
القاعدة الثانية فى العقود حلالها وحرامها
والأصل فى ذلك أن الله حرم فى كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل فى المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق وأكل المال بالباطل فى المعاوضة نوعان ذكرهما الله في كتابه هما الربا والميسر فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر ( سورة البقرة ( وسورة آل عمران ( والروم ( والمدثر ( وذم اليهود عليه في ( سورة النساء ( وذكر تحريم الميسر فى ( سورة المائدة (
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما جمعه الله في كتابه فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه والغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار وذلك أن العبد اذا أبق
____________________
(29/22)
أو الفرس أو البعير اذا شرد فإن صاحبه اذا باعه فانما يبيعه مخاطرة فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير فإن حصل له قال البائع قمرتنى وأخذت مالي بثمن قليل وإن لم يحصل قال المشتري قمرتنى وأخذت الثمن مني بلا عوض فيفضى إلى مفسدة الميسر التى هي إيقاع العداوة والبغضاء مع ما فيه من أكل المال بالباطل الذي هو نوع من الظلم ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء
ومن نوع الغرر ما نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين ومن بيع السنين وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك كله من نوع الغرر
وأما الربا فتحريمه فى القرآن أشد ولهذا قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وذكره النبى صلى الله عليه وسلم فى الكبائر كما خرجاه فى الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا واكلهم أموال الناس بالباطل وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربى الصدقات وكلاهما أمر مجرب عند الناس
____________________
(29/23)
وذلك أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج وإلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالة بألف ومائتين مؤجلة اذا لم يكن له حاجة لتلك الألف وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج بخلاف الميسر فإن المظلوم فيه غير مفتقر ولا هو محتاج إلى العقد وقد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد فى المستقبل المبيع على الصفة التى ظناها والربا فيه ظلم محقق للمحتاج ولهذا كان ضد الصدقة فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء فإن مصلحة الغنى والفقير فى الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك فاذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى والغريم محتاج إلى دينه فهذا من أشد أنواع الظلم ولعظمته لعن النبى صلى الله عليه وسلم آكله وهو الآخذ وموكله وهو المحتاج المعطى للزيادة وشاهديه وكاتبه لاعانتهم عليه
ثم إن النبى صلى الله عليه وسلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لافضائها إلى الفساد المحقق كما حرم قليل الخمر لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى اذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات مثل كون الدرهم صحيحا والدرهمين مكسورين أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق ونحو ذلك ولذلك خفيت حكمة تحريمه على بن عباس ومعاوية
____________________
(29/24)
و غيرهما فلم يروا به بأسا حتى أخبرهم الصحابة الأكابر كعبادة بن الصامت وأبي سعيد وغيرهما بتحريم النبى صلى الله عليه وسلم لربا الفضل
وأما الغرر فإنه ثلاثة أنواع إما المعدوم كحبل الحبلة وبيع السنين وأما المعجوز عن تسليمه كالعبد الآبق وأما المجهول المطلق أو المعين المجهول جنسه أو قدره كقوله بعتك عبدا أو بعتك ما في بيتى أو بعتك عبيدي
فأما المعين المعلوم جنسه وقدره المجهول نوعه أو صفته كقوله بعتك الثوب الذي فى كمي أو العبد الذي أملكه ونحو ذلك ففيه خلاف مشهور وتغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة وعن أحمد فيه ثلاث روايات إحداهن لا يصح بيعه بحال كقول الشافعي فى الجديد والثانية يصح وإن لم يوصف وللمشتري الخيار إذا رآه كقول أبى حنيفة وقد روي عن أحمد لا خيار له والثالثة وهي المشهورة أنه يصح بالصفة ولا يصح بدون الصفة كالمطلق الذي فى الذمة وهو قول مالك
ومفسدة الغرر اقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه
____________________
(29/25)
الحاجة منه فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن وإن كان قد نهى عن بيع الحمل مفردا وكذلك اللبن عند الأكثرين وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه يصح مستحق الابقاء كما دلت عليه السنة وذهب إليه الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وإن كانت الأجزاء التى يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد
وجوز النبى صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها لكن على وجه البيع للأصل
فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره
ولما احتاج الناس إلى العرايا أرخص فى بيعها بالخرص ولم يجوز المفاضلة المتيقنة بل سوغ المساواة بالخرص فى القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب خمسة أوسق ( أو ) ما دون النصاب على اختلاف القولين للشافعي واحمد ( و ) إن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب
إذا تبين ذلك فأصول مالك فى البيوع أجود من أصول غيره
____________________
(29/26)
فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال هو أفقه الناس فى البيوع كما كان يقال عطاء أفقه الناس فى المناسك وابراهيم أفقههم فى الصلاة والحسن أجمعهم لذلك كله ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين فى أغلب ما فضل فيه لمن إستقرأ ذلك من أجوبته
والامام أحمد موافق لمالك في ذلك فى الأغلب فإنهما يحرمان الربا ويشددان فيه حق التشديد لما تقدم من شدة تحريمه وعظم مفسدته ويمنعان الاحتيال عليه بكل طريق حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه وإن لم تكن حيلة وإن كان مالك يبالغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها
وجماع الحيل نوعان إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود
فالأول مسألة ( مد عجوة ( وضابطها أن يبيع ربويا بجنسه ومعهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا ونحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر حتى يبيع ألف دينار فى منديل بألفي دينار فمتى كان المقصود بيع الربوى بجنسه متفاضلا حرمت مسألة ( مد عجوة ( بلا خلاف عند مالك وأحمد وغيرهما وإنما يسوغ مثل هذا من جوز الحيل من الكوفيين وإن
____________________
(29/27)
كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا
وأما إن كان كلاهما مقصودا كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد والمنع قول مالك والشافعي والجواز قول أبي حنيفة وهي مسألة اجتهاد
وأما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي كبيع شاة ذات صوف أو لبن بصوف أو لبن فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز
والنوع الثانى من الحيل أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير مقصود مثل أن يتواطآ على أن يبيعه الذهب بخرزه ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب أو يواطئا ثالثا على أن يبيع احدهما عرضا ثم يبيعه المبتاع لمعامله المرابى ثم يبيعه المرابي لصاحبه وهي الحيلة المثلثة أو يقرن بالقرض محاباة فى بيع أو إجارة أو مساقاة ونحو ذلك مثل أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين أو يكريه دارا تساوي ثلاثين بخمسة ونحو ذلك
فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التى حرم الله من أجلها الربا وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا
____________________
(29/28)
ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ( قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو من جنس حيل اليهود فانهم إنما استحلوا الربا بالحيل ويسمونه المشكند وقد لعنهم الله على ذلك
وقد روي بن بطة باسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ( وفى الصحيحين عنه أنه قال ( لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها ( وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس قمارا ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن ان يسبق فهو قمار ( وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله (
ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والاجماع والاعتبار كثيرة ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك وذكرنا ما يحتج به من يجوزها كيمين أيوب وحديث تمر خيبر ومعاريض
____________________
(29/29)
السلف وذكرنا جواب ذلك
ومن ذرائع ذلك ( مسألة العينة ( وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين لأنها حيلة وقد روي أحمد وابو داود باسنادين جيدين عن إبن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد فى سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم ( وإن لم يتواطآ فانهما يبطلان البيع الثانى سدا للذريعة ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ ففيه روايتان عن أحمد وهو أن يبيعه حالا ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه
ولو كان مقصود المشترى الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى ( التورق ( ففي كراهته عن احمد روايتان والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك فيما أظن بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضه الانتفاع أو القنية فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق
ففي الجملة أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة وأصولها وقولهم في ذلك هو
____________________
(29/30)
الذي يؤثر مثله عن الصحابة وتدل عليه معاني الكتاب والسنة
وأما الغرر فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة والشافعي رضى الله عنهما أما الشافعي فانه يدخل فى هذا الاسم من الأنواع ما لا يدخله غيره من الفقهاء مثل الحب والثمر فى قشره الذي ليس بصوان كالباقلاء والجوز واللوز فى قشره الأخضر وكالحب فى سنبله فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر فخرج ذلك له قولا واختاره طائفة من أصحابه كأبى سعيد الاصطخري وروى عنه أنه ذكر له أن النبى صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع الحب حتى يشتد ( فدل على جواز بيعه بعد اشتداده وإن كان فى سنبله فقال إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا وكذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع
قال بن المنذر جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة وعبيد الله بن الحسن وأهل البصرة وأصحاب الحديث واصحاب الرأي وقال الشافعي مرة لا يجوز ثم بلغه حديث بن عمر فرجع عنه وقال به قال بن المنذر ولا اعلم أحدا يعدل عن القول به
وذكر بعض اصحابه له قولين وأن الجواز هو القديم حتى منع
____________________
(29/31)
من بيع الأعيان الغائبة بصفة وغير صفة متأولا أن بيع الغائب غرر وإن وصف حتى اشترط فيما في الذمة كدين السلم من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول وقاس على بيع الغرر جميع العقود من التبرعات والمعاوضات فاشترط فى أجرة الأجير وفدية الخلع والكتابة وصلح أهل الهدنة وجزية أهل الذمة ما اشترطه فى البيع عينا ودينا ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله فى البيع وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد اعواضها أو يشترط لها شروط أخر
وأما أبو حنيفة فانه يجوز بيع الباقلاء ونحوه فى القشرين ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته ويجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة مهر المثل ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة مع الخيار لأنه يرى وقف العقود لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقا والشافعي يجوز بيع بعض ذلك ويحرم أيضا كثيرا من الشروط فى البيع والاجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد
وابو حنيفة يجوز بعض ذلك ويجوز من الوكالات والشركات ما لا يجوزه الشافعي حتى جوز شركة المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق
____________________
(29/32)
و قال الشافعي إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا
فبينهما فى هذا الباب عموم وخصوص لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبى حنيفة فى ذلك
وأما مالك فمذهبه أحسن المذاهب فى هذا فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل غرره بحيث يحتمل في العقود حتى يجوز بيع المقاثى جملة وبيع المغيبات فى الأرض كالجزر والفجل ونحو ذلك
واحمد قريب منه في ذلك فانه يجوز هذه الأشياء ويجوز على المنصوص عنه أن يكون المهر عبدا مطلقا أو عبدا من عبيده ونحو ذلك مما لا تزيد جهالته على مهر المثل وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق كأبى الخطاب ومنهم من يوافق الشافعي فلا يجوز فى المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز فى المبيع كأبي بكر عبد العزيز ويجوز على المنصوص عنه في فدية الخلع أكثر من ذلك حتى ما يجوز فى الوصية وإن لم يجز فى المهر كقول مالك مع اختلاف في مذهبه ليس هذا موضعه لكن المنصوص عنه أنه لا يجوز بيع المغيب فى الأرض كالجزر ونحوه إلا اذا قلع وقال
____________________
(29/33)
هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه والمنصوص عنه أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه الا لقطة لقطة ولا يباع من المقاثى والمباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة كقول أبى حنيفة والشافعي لأن ذلك غرر وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك فى كل مغيب كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك كقول الشافعي وأبى حنيفة
وقال الشيخ أبو محمد إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله كالبصل المبيع أخضر والكراث والفجل أو كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر والحيطان ويدخل ما لم يظهر فى المبيع تبعا وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه فى الأرض لأن الحكم للأغلب وإن تساويا لم يجز أيضا لأن الأصل اعتبار الشرط وإنما سقط فى الأقل التابع
وكلام أحمد يحتمل وجهين فإن أبا داود قال قلت لأحمد بيع الجزر فى الارض قال لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه فعلل بعدم الرؤية فقد يقال إن لم ير كله لم يبع وقد يقال رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي
____________________
(29/34)
كرؤية وجه العبد
وكذلك اختلفوا فى المقاثى إذا بيعت بأصولها كما هو العادة غالبا فقال قوم من المتأخرين يجوز ذلك لأن بيع أصول الخضروات كبيع الشجر وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز فكذلك هذا وذكر أن هذا مذهب أبى حنيفة والشافعي
وقال المتقدمون لا يجوز بحال وهو معني كلامه ومنصوصه وهو إنما نهى عما يعتاده الناس وليست العادة جارية فى البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم وابراهيم بن الحارث فى الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة لم يجز وكذلك إذا اشتري أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه فإن كانت الأرض هي المقصود جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا وإن كان المقصود هو الثمر والزرع فاشترى الأرض لذلك لم يجز وإذا كان هذا قوله فى ثمرة الشجر فمعلوم أن المقصود من المقاثى والمباطخ إنما هو الخضروات دون الأصول التى ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر
وقد خرج بن عقيل وغيره فيها وجهين
____________________
(29/35)
أحدهما كما في جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه فى بيع ما لم يره ولا شك أنه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا لا يصح بيع ما لم يره فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب
والثانى أنه يجوز بيعها مطلقا كمذهب مالك إلحاقا لها بلب الجوز وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين
أحدهما أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه والمرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأولى
الثانى أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على أصحابه ضرر عظيم فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه وإن قلعوه جملة فسد بالقلع فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما فى قشره الأخضر
وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشترى إلى أكل الرطب أو البائع إلى أكل التمر فحاجة البائع هنا أوكد بكثير وسنقرر ذلك إن شاء الله تعالى
____________________
(29/36)
وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث جواز بيع المقاثى باطنها وظاهرها وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخلة أو شجرة أن يباع جميع ثمرها وإن كان فيها ما لم يصلح بعد
وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس ان قالوا إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها فى يوم واحد لأن البسرة تصفر فى يومها وهذا بعينه موجود فى المقثاة
وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة فى الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود وإنما يكون ذلك للمشتري لأنه موجود فى ملكه
والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر لأنه يجب على البائع سقي الثمرة ويستحق إبقاءها على الشجر بمطلق العقد ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به يوجد فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد لا ما كان من موجبات الملك
وأيضا فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح فى
____________________
(29/37)
حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها على روايتين
أشهرهما عنه أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه وهي اختيار قدماء أصحابه كأبى بكر وبن شاقلاء
والرواية الثانية يكون بدو الصلاح فى البعض صلاحا للجميع وهي اختيار أكثر أصحابه كابن حامد والقاضي ومن تبعهما
ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال إذا كان فى بستان بعضه بالغ وبعضه غير بالغ بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير كالقاضى أخيرا وابى حكيم النهرواني وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير كأبى الخطاب وجماعات وهو قول مالك والشافعي والليث وزاد مالك فقال يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة وحكوا ذلك رواية عن أحمد
واختلف هؤلاء هل يكون صلاح النوع كالبرنى من الرطب صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين فى مذهب الشافعي وأحمد أحدهما المنع وهو قول القاضي وبن عقيل وأبى محمد والثانى الجواز وهو قول أبى الخطاب وزاد الليث على هؤلاء فقال
____________________
(29/38)
صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار
ومأخذ من جوز شيئا من ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدى وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين ومن سوى بينهما قال المقصود الأمن من العاهة وذلك يحصل بشروع الثمر فى الصلاح
ومأخذ من منع ذلك أن قول النبى صلى الله عليه وسلم ( حتى يبدو صلاحها ( يقتضي بدو صلاح الجميع
والغرض من هذه المذاهب أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح فى بعضه فقياس قوله جواز بيع المقثاة إذا بدا صلاح بعضها والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر إذ تفريق الأشجار فى البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق فانه امر لا ينضبط فإن إجتهاد الناس فى ذلك متفاوت
والغرض من هذا أن أصول أحمد تقتضى موافقة مالك فى هذه المسائل كما قد روي عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه اصحابه على أصوله
____________________
(29/39)
وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان فى وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت ويجيب فى بعض الأفراد بجواب آخر فى وقت آخر وإذا كانت الأفراد مستوية وكان له فيها قولان فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد فقوله فيها واحد بلا خلاف وإن كان مما قد يذهب إليه مجتهد فقالت طائفة منهم أبو الخطاب لا يخرج وقال الجمهور كالقاضي أبى يعلى يخرج الجواب اذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله ومن هؤلاء من يخرج الجواب اذا رآهما مستويين وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما
فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قولا له وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك فهذا فى الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم فإن العلماء ورثة الأنبياء وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( أنتم أعلم بأمر دنياكم فأما ما كان من أمر دينكم فالي (
وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا
____________________
(29/40)
أيضا لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والاثبات فإذا كان في وقت قد قال إن هذا حرام وقال في وقت آخر فيه أو في مثله إنه ليس بحرام أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام فقد تناقض قولاه وهو مصيب فى كليهما عند من يقول إن كل مجتهد مصيب وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده
وأما الجمهور الذين يقولون إن لله حكما فى الباطن علمه العالم فى إحدى المقالتين ولم يعلمه فى المقالة التى تناقضها وعدم علمه به مع اجتهاده مغفور له مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاده في طلبه ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ فى شرائع الأنبياء مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوخ ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين
هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد
وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مذمومون فى مناقضاتهم لانهم يتكلمون بغير علم ولا حسن قصد لما يجب قصده
وعلى هذا فلازم قول الانسان نوعان
____________________
(29/41)
أحدهما لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فان لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب
والثانى لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ثم ان عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه
وهذا التفصيل فى اختلاف الناس فى لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب هو أجود من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله وما لا يرضاه فليس قوله وإن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع ملزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه فاذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها وهذا متوجه في اللوازم التى لم يصرح هو بعدم لزومها
فأما إذا نفي هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال وإلا
____________________
(29/42)
لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبى صلى الله عليه وسلم قاله لكونه ملتزما لرسالته فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول وإن كان لازما له ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه لأنه قد يكون عن اجتهادين فى وقتين
وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد وهو مأمور فى الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله وإن لم يكن مطابقا لكن اعتقادا ليس بيقينى كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل وإن كانا فى الباطن قد أخطآ أو كذبا وكما يؤمر المفتى بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر فيعتقد ما دل عليه ذلك وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد وإن كان قد يكون غير مطابق وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط
فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين فى قضية أو قضيتين مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا بخلاف أصحاب الأهواء فانهم ( إن يتبعون الا الظن وما تهوى الأنفس ( ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى
____________________
(29/43)
جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيها بالضالين
فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق وقد سلك طريقه وأما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه
وثم قسم آخر وهو غالب الناس وهو أن يكون له هوى فيه شبهة فتجتمع الشهوة والشبهة ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ان الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات (
فالمجتهد المحض مغفور له ومأجور وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب وأما المجتهد الاجتهاد المركب من شبهة وهوى فهو مسيء وهم في ذلك على درجات بحسب ما يغلب وبحسب الحسنات الماحية
____________________
(29/44)
وأكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك
وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد وبعض أصول غيرهما هو أصح الأقوال وعليه يدل غالب معاملات السلف ولا يستقيم أمر الناس فى معاشهم إلا به وكل من توسع فى تحريم ما يعتقده غررا فانه لابد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه الله فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده فى هذه المسألة وإما أن يحتال وقد رأينا الناس وبلغتنا أخبارهم فما رأينا أحدا التزم مذهبه فى تحريم هذه المسائل ولا يمكنه ذلك ونحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التى يذكرونها فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها وإنما هي من جنس اللعب
ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق فى أمورهم فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل فلم تزدهم الحيل إلا بلاء كما جرى لأصحاب السبت من اليهود كما قال تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وهذا الذنب ذنب عملي وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد وإلا فمن اتقي الله وأخذ ما أحل
____________________
(29/45)
له وأدى ما وجب عليه فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا فإنه سبحانه لم يجعل علينا فى الدين من حرج وإنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة فالسبب الأول هو الظلم والسبب الثانى هو عدم العلم والظلم والجهل هما وصف للانسان المذكور في قوله { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا }
وأصل هذا أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان كالدم والميتة ولحم الخنزير أو من التصرفات كالميسر والربا وما يدخل فيهما من بيوع الغرر وغيره لما في ذلك من المفاسد التى نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع فى النفوس ذلك
وكذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال ( كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر دمان أصابه مراض أصابه قشام عاهات يحتجون بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة فى ذلك فأما لا فلا تبايعوا حتى يبدو
____________________
(29/46)
صلاح الثمر كالمشورة لهم يشير بها لكثرة خصومتهم واختلافهم ( وذكر خارجة بن زيد ( ان زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر ( رواه البخاري تعليقا وابو داود إلى قوله ( خصومتهم ( وروي أحمد فى المسند عنه قال ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة فقال ما هذا فقيل له إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون أصابها الدمان والقشام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها (
فقد أخبر أن سبب نهي النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك ما أفضت إليه من الخصام وهكذا بيوع الغرر وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها فى الصحيحين من حديث بن عمر وبن عباس وجابر وأنس وفي مسلم من حديث أبى هريرة وفى حديث أنس تعليله ففي الصحيحين عن أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل وما تزهى قال حتى تحمر أو تصفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ( وفي رواية ( أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يزهو فقلنا لأنس ما زهوها قال تحمر
____________________
(29/47)
أو تصفر أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك ( قال أبو مسعود الدمشقي جعل مالك والدراوردي قول أنس ( أرأيت إن منع الله الثمرة ( من حديث النبى صلى الله عليه وسلم أدرجاه فيه ويرون أنه غلط
فهذا التعليل سواء كان من كلام النبى صلى الله عليه وسلم أو كلام أنس فيه بيان أن في ذلك أكلا للمال بالباطل حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون
وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها كما أن السباق بالخيل والسهام والابل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض وإن لم يجز غيره بعوض وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل اذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل وإن كان فيه منفعة وهو ما ذكره النبى صلى الله عليه وسلم بقوله ( كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق ( صار هذا اللهو حقا
ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض وأكل مال بالباطل لأن الغرر فيها
____________________
(29/48)
يسير كما تقدم والحاجة إليها ماسة والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم اذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح أباح الشرع ذلك وقاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى
ولهذا كان مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث انها إذا تلفت بعد البيع بجائحة كانت من ضمان البائع كما رواه مسلم فى صحيحه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال اخيك بغير حق ( وفى رواية لمسلم عنه ( أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم بوضع الجوائح (
والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة فيه اضطراب أخذ فى ذلك بقول الكوفيين إنها تكون من ضمان المشتري لأنه مبيع قد تلف بعد القبض لأن التخلية بين المشتري وبينه قبض وهذا على أصل الكوفيين أمشى لأن المشتري لا يملك إبقاءه على الشجر وإنما موجب العقد عندهم القبض الناجز بكل حال وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه مع
____________________
(29/49)
أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك مع انى لا أعلم عن النبى صلى الله عليه وسلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع وينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصحيح يوافقه وهو ما نبه عليه النبى صلى الله عليه وسلم بقوله ( بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ( فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جذاذها عند كمالها ونضجها لاعند العقد كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا فتلف الثمرة قبل التمكن من الجذاذ كتلف العين المؤجرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة وفى الاجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق فكذلك فى البيع
وابو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة وأن المشتري لم يملك الابقاء وهذا الفرق لا يقول به الشافعي وسنذكر أصله
فلما كان النبى صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وفي لفظ لمسلم عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة ( وفى لفظ لمسلم عنه ( نهي عن بيع النخل حتى تزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري ( وفي سنن أبى داود عن أبى هريرة رضي الله عنه قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض
____________________
(29/50)
فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما فانه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة فإن هذا لا سبيل إليه اذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين ( أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون ( وما ذكره فى ( سورة يونس ( فى قوله ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ( وإنما المقصود ذهاب العاهة التى يتكرر وجودها وهذه انما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب وقبل ظهور النضج فى الثمر إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله ولأنه لو منع بيعه بعد هذه الغاية لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر لأنه لا يكمل جملة واحدة وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر
فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير كما تقتضيه أصول الحكمة التى بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته
ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه
____________________
(29/51)
وأيضا ففي صحيح مسلم عن أبى رافع ( أن رسول الله صلي الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها الا خيارا رباعيا فقال النبى صلى الله عليه وسلم أعطه إياه فان خيار الناس أحسنهم قضاء ( ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوى المكيل والموزون من الحيوان ونحوه كما عليه فقهاء الحجاز والحديث خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك لأن القرض موجبه رد المثل والحيوان ليس بمثلي وبناء على أن ما سوى المكيل والموزون لا يثبت فى الذمة عوضا عن مال وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبا فى الذمة كما هو المشهور من مذاهبهم خلافا للكوفيين ووجه فى مذهب أحمد أنه يثبت بالقيمة
وهذا دليل على أن المعتبر فى معرفة المعقود عليه هو التقريب وإلا فيعز وجود حيوان مثل ذلك الحيوان لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي وأنه مضمون في الغصب والاتلاف بالقيمة
وأيضا فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجذاذ وفيه روايتان عن أحمد إحداهما يجوز كقول مالك وحديث جابر الذي فى الصحيح يدل عليه
____________________
(29/52)
وأيضا فقد دل الكتاب فى قوله تعالى ( لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ( والسنة فى حديث بروع بنت واشق وإجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق وتستحق مهر المثل إذا دخل بها باجماعهم واذا مات عند فقهاء الحديث وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق وهو أحد قولي الشافعي ومعلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود فلو كان التحديد معتبرا فى المهر ما جاز النكاح بدونه وكما رواه أحمد فى المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ( أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره وعن بيع اللمس والنجش والقاء الحجر ( فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر وأن الاجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر فدل على الفرق بينهما
وسببه أن المعقود عليه فى النكاح وهو منافع البضع غير محدودة بل المرجع فيها إلى العرف فكذلك عوضه الآخر لأن المهر ليس هو المقصود وانما هو نحلة تابعة فاشبه الثمر التابع للشجر فى البيع قبل بدو صلاحه وكذلك لما قدم وفد هوازن على النبى صلى الله عليه وسلم وخيرهم بين السبي وبين المال فاختاروا السبي وقال لهم ( إنى قائم فخاطب الناس فقولوا انا نستشفع برسول الله صلى
____________________
(29/53)
الله عليه وسلم على المسلمين ونستشفع بالمسلمين على رسول الله وقام فخطب الناس فقال إنى قد رددت على هؤلاء سبيهم فمن شاء طيب ذلك ومن شاء فانا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا ( فهذا معاوضة عن الاعتاق كعوض الكتابة بابل مطلقة فى الذمة إلى أجل متفاوت غير محدود
وقد روى البخاري عن بن عمر فى حديث خيبر ( أن النبى صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم وغلبهم على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح ويخرجون منها واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا فان فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ( فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم
وعن بن عباس قال ( صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف فى صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غارة ( رواه أبو داود فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة
____________________
(29/54)
الجنس غير موصوفة بصفات السلم وكذلك كل عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط قد يكون وقد لا يكون
فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال كالصداق والكتابة والفدية فى الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب ليس بواجب أن يعلم الثمن والأجرة ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر لأن الأموال إما أنها لا تجب فى هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم منها وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة فى البيع بل يكون إيجاب التحديد فى ذلك فيه من العسر والحرج المنفى شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده
فصل
ومما تمس الحاجة إليه من فروع هذه القاعدة ومن مسائل بيع الثمر قبل بدو صلاحه ما قد عمت به البلوى فى كثير من بلاد الاسلام أو أكثرها لا سيما دمشق وذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع وربما اشتملت مع ذلك على مساكن
____________________
(29/55)
فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزرعها أو يسكنها مع ذلك فهذا إذا كان فيها أرض وغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال
أحدها أن ذلك لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين والشافعي وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه
والقول الثانى يجوز اذا كان الشجر قليلا وكان البياض الثلثين أو أكثر وكذلك إذا استكرى دارا فيها نخلات قليلة أو شجرات عنب ونحو ذلك وهذا قول مالك وعن أحمد كالقولين قال الكرمانى قيل لأحمد الرجل يستأجر الأرض فيها نخلات قال أخاف أن يكون استأجر شجرا لم يثمر وكأنه لم يعجبه أظنه إذا أراد الشجر فلم أفهم عن أحمد أكثر من هذا
وقد تقدم عنه فيما إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكبر هو غير الجنس كشاة ذات صوف أو لبن بصوف أو لبن روايتان وأكثر أصوله على الجواز كقول مالك فإنه يقول إذا ابتاع عبدا وله مال وكان مقصوده العبد جاز وإن كان المال مجهولا أو من جنس الثمن
ولأنه يقول اذا إبتاع أرضا أو شجرا فيها ثمر أو زرع لم يدرك يجوز اذا كان مقصوده
____________________
(29/56)
الأرض والشجر
وهذا فى البيع نظير مسألتنا فى الاجارة فإن ابتياع الأرض بمنزلة اشترائها واشتراء النخل ودخول الثمرة التى لم تأمن العاهة فى البيع تبعا للأصل بمنزلة دخول ثمر النخلات والعنب فى الاجارة تبعا
وحجه الفريقين فى المنع ما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم من نهيه عن بيع السنين وبيع الثمر حتى يبدو صلاحه كما أخرجاه فى الصحيحين عن بن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهي البائع والمبتاع ( وفيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال ( نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع الثمرة حتى تشقح قيل وما تشقح قال تحمار أو تصفار ويؤكل منها ( وفى رواية لمسلم أن هذا التفسير من كلام سعيد بن المثنى المحدث عن جابر
وفى الصحيحين عن جابر قال ( نهي النبى صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة ( وفى رواية لهما ( وعن بيع السنين ( بدل ( المعاومة ( وفيهما أيضا عن زيد بن أبى أنيسة عن عطاء عن جابر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشتري النخل حتى يشقه والاشقاه
____________________
(29/57)
أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث أو الربع وأشباه ذلك قال زيد قلت لعطاء اسمعت جابرا يذكر هذا عن النبى صلى الله عليه وسلم قال نعم ( وفيهما عن ابي البختري قال سألت بن عباس عن بيع النخل فقال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل وحتى يوزن فقلت ما يوزن فقال رجل عنده حتى يحرز ( وفى صحيح مسلم عن ابى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ولا تتبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تتابعوا التمر بالتمر (
وقال بن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع ثمر النخل سنين لا يجوز قالوا فإذا أكراه الأرض والشجر فقد باعه الثمر قبل أن يخلق وباعه سنة أو سنتين وهذا هو الذي نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم ثم من منع منه مطلقا طرد العموم والقياس ومن جوزه إذا كان قليلا قال الغرر اليسير يحتمل فى العقود كما لو ابتاع النخل وعليها ثمر لم يؤبر أو أبر ولم يبد صلاحه فإنه يجوز وإن لم يجز إفراده بالعقد
وهذا متوجه جدا على أصل الشافعي واحمد وغيرهما من فقهاء
____________________
(29/58)
الحديث ولكن لا يتوجه على أصل أبى حنيفة لأنه لا يجوز ابتياع الثمر بشرط البقاء ويجوز ابتياعه قبل بدو صلاحه وموجب العقد القطع فى الحال فاذا ابتاعه مع الأصل فانما استحق إبقاءه لأن الأصل ملكه وسنتكلم إن شاء الله على هذا الأصل
وذكر أبو عبيد أن المنع من إجارة الأرض التى فيها شجر كثير إجماع
والقول الثالث أنه يجوز استئجار الأرض التى فيها شجر ودخول الشجر فى الاجارة مطلقا وهذا قول بن عقيل وإليه مال حرب الكرمانى وهذا القول كالاجماع من السلف وإن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه فقد روي سعيد بن منصور ورواه عنه حرب الكرمانى فى مسائله قال حدثنا عباد بن عباد عن هشام بن عروة عن أبيه ( أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة الاف درهم فدعا عمر غرماءه فقبلهم ارضه سنين وفيها النخل والشجر (
وأيضا فإن عمر بن الخطاب ضرب الخراج على أرض السواد وغيرها فأقر الأرض التى فيها النخل والعنب فى أيدي أهل الأرض وجعل على كل جريب من أجربة الأرض السوداء والبيضاء خراجا
____________________
(29/59)
مقدرا والمشهور أنه جعل على جريب العنب عشرة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الرطبة ستة دراهم وعلى جريب الزرع درهما وقفيزا من طعام
والمشهور عند مالك والشافعي وأحمد أن هذه المخارجة تجرى مجرى المؤاجرة وإنما لم يؤقته لعموم المصلحة وأن الخراج أجرة الأرض فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التى فيها شجر وهو مما أجمع عليه عمر والمسلمون فى زمانه وبعده ولهذا تعجب أبو عبيد فى ( كتاب الأموال ( من هذا فرأى أن هذه المعاملة تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء
وحجة بن عقيل أن إجارة الأرض جائزة والحاجة إليها داعية ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا
بإجارة الشجر وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز لأن المستأجر لا يتبرع بسقى الشجر وقد لا يساقى عليها
وهذا كما أن مالكا والشافعي كان القياس عندهما أنه لا تجوز المزارعة فإذا ساقى العامل على شجر فيها بياض جوزا المزارعة فى ذلك البياض تبعا للمساقاة فيجوزه مالك إذا كان دون الثلث كما قال فى بيع الشجر تبعا للأرض وكذلك الشافعي يجوزه إذا كان البياض قليلا
____________________
(29/60)
لا يمكن سقي النخل إلا بسقيه وإن كان كثيرا والنخل قليلا ففيه لأصحابه وجهان
هذا إذا جمع بينهما فى عقد واحد وسوى بينهما فى الجزء المشروط كالثلث أو الربع فأما إن فاضل بين الجزأين ففيه وجهان لأصحابه وكذلك إن فرق بينهما فى عقدين وقدم المساقاة ففيه وجهان فأما إن قدم المزارعة لم تصح المزارعة وجها واحدا
فقد جوز المزارعة التى لا تجوز عندهما تبعا للمساقاة فكذلك يجوز إجارة الشجر تبعا لاجارة الأرض
وقول بن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك ولأن المانعين من هذا هم بين محتال على جوازه أو مرتكب لما يظن أنه حرام أو ضار ومتضرر فإن الكوفيين احتالوا على الجواز تارة بأن يؤجر الأرض فقط ويبيحه ثمر الشجر كما يقولون فى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها يبيعه إياها مطلقا أو بشرط القطع بجميع الأجرة ويبيحه إبقاءها وهذه الحيلة منقولة عن أبى حنيفة والثوري وغيرهما وتارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة ويساقيه على الشجر بالمحاباة مثل أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك
وهذه الحيلة إنما يجوزها من يجوز المساقاة كأبى يوسف ومحمد
____________________
(29/61)
و الشافعي فى القديم فأما أبو حنيفة فلا يجوزها بحال وكذلك الشافعي إنما يجوزها فى الجديد فى النخل والعنب فقد اضطروا فى هذه المعاملة إلى أن تسمي الأجرة فى مقابلة منفعة الأرض ويتبرع له إما باعراء الشجر وإما بالمحاباة فى مساقاتها
ولفرط الحاجة إلى هذه المعاملة ذكر بعض من صنف فى إبطال الحيل من أصحاب الامام أحمد هذه الحيلة فيما يجوز من الحيل أعنى حيلة المحاباة فى المساقاة والمنصوص عن أحمد وأكثر أصحابه إبطال هذه الحيلة بعينها كمذهب مالك وغيره
والمنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعا لما روى عبد الله بن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان فى بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ( رواه الأئمة الخمسة أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وبن ماجه وقال الترمذي حديث حسن صحيح فنهى صلى الله عليه وسلم عن أن يجمع بين سلف وبيع فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع أو مثله وكل تبرع يجمعه إلى البيع والاجارة مثل الهبة والعارية والعرية والمحاباة فى المساقاة والمزارعة وغير ذلك هي مثل القرض
فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع لأن ذلك
____________________
(29/62)
التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعا مطلقا فيصير جزءا من العوض فاذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين فإن من أقرض رجلا ألف درهم وباعه سلعة تساوى خمسمائة بألف لم يرض بالاقراض إلا بالثمن الزائد للسلعة والمشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التى اقترضها فلا هذا باع بيعا بألف ولا هذا أقرض قرضا محضا بل الحقيقة أنه أعطاه الألف والسلعة بألفين فهي مسألة ( مد عجوة ( فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف حرم بلا تردد وإلا خرج على الخلاف المعروف وهكذا من اكترى الأرض التى تساوى مائة بألف وأعراه الشجر أو رضى من ثمرها بجزء من ألف جزء فمعلوم بالاضطرار أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف التى أخذها وأن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة فالثمرة هي جل المقصود المعقود عليه أو بعضه فليست الحيلة إلا ضربا من اللعب والافساد وإلا فالمقصود المعقود عليه ظاهر
والذين لا يحتالون أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة هم بين أمرين إما أن يفعلوا ذلك للحاجة ويعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم كما رأينا عليه أكثر الناس وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة فى هذه المعاملة فيدخل عليهم من الضرر
____________________
(29/63)
و الاضطرار ما لا يعلمه إلا الله وإن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال التى لا تأتى به شريعة قط فضلا عن شريعة قال الله فيها { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال تعالى { يريد الله أن يخفف عنكم } وفى الصحيحين ( إنما بعثتم ميسرين ( يسروا ولا تعسروا ( ( ليعلم اليهود أن فى ديننا سعة ( فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا
والغرض من هذا أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط لما فيه من الفساد الذي لا يطاق فعلم أنه ليس بحرام بل هو أشد من الأغلال والآصار التى كانت على بنى إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وقوله { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } فكل ما احتاج الناس إليه فى معاشهم ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم لم يحرم عليهم لأنهم فى معنى المضطر الذى ليس بباغ ولا عاد وإن كان سببه معصية كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة والمنفق للمال
____________________
(29/64)
فى المعاصي حتى لزمته الديون فانه يؤمر بالتوبة ويباح له ما يزيل ضرورته فتباح له الميتة ويقضى عنه دينه من الزكاة وإن لم يتب فهو الظالم لنفسه المحتال وحاله كحال الذين قال الله فيهم { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } وقوله { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم } الآية وهذه قاعدة عظيمة ربما ننبه إن شاء الله عليها وهذا القول المأثور عن السلف الذي اختاره بن عقيل هو قياس أصول أحمد وبعض أصول الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لوجوه متعددة بعد الأدلة الدالة على نفي التحريم شرعا وعقلا فإن دلالة هذه إنما تتم بعد الجواب عما استدل به أصحاب القول الأول
الوجه الأول ما ذكرناه من فعل عمر فى قصة أسيد بن الحضير فانه قبل الأرض والشجر الذي فيها بالمال الذي كان للغرماء وهذا عين مسألتنا ولا يحمل ذلك على أن النخل والشجر كان قليلا فانه من المعلوم أن حيطان أهل المدينة كان الغالب عليها الشجر وأسيد بن الحضير كان من سادات الأنصار ومياسيرهم فبعيد أن يكون الغالب على حائطه الأرض البيضاء ثم هذه القصة لابد أن تشتهر ولم يبلغنا أن أحدا أنكرها فيكون إجماعا وكذلك ما ضر به من الخراج على
____________________
(29/65)
السواد فإن تسميته خراجا يدل على أنه عوض عما ينتفعون به من منفعة الأرض والشجر كما يسمى الناس اليوم كراء الأرض لمن يغرسها خراجا اذا كان على كل شجرة شيء معلوم ومنه قوله { أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير } ومنه خراج العبد فانه عبارة عن ضريبة يخرجها لسيده من ماله فمن اعتقد أنه أجرة وجب عليه أن يعتقد جواز مثل هذا لأنه ثابت باجماع الصحابة ومن اعتقد أنه ثمن أو عوض مستقل بنفسه فمعلوم أنه لا يشبه غيره وإنما جوزه الصحابة ولا نظير له لأجل الحاجة الداعية إليه والحاجة إلى ذلك موجودة فى كل أرض فيها شجر كالأرض المفتتحة سواء
فإنه إن قيل يمكن المساقاة أو المزارعة قيل وقد كان يمكن عمر المساقاة أو المزارعة كما فعل في أثناء الدولة العباسية إما في خلافة المنصور وإما بعده فانهم نقلوا أرض السواد من الخراج إلى المقاسمة التى هي المساقاة والمزارعة
وإن قيل إنه يمكن جعل الكراء بازاء الأرض والتبرع بمنفعة الشجر أو المحاباة فيها قيل وقد كان يمكن عمر ذلك فالقدر المشترك بينهما ظاهر
وأيضا فانا نعلم قطعا أن المسلمين ما زالت لهم أرضون فيها شجر
____________________
(29/66)
تكرى بل هذا غالب على أموال أهل الأمصار ونعلم أن السلف لم يكونوا كلهم يعمرون أرضهم بأنفسهم ولا غالبهم ونعلم أن المساقاة والمزارعة قد لا تتيسر فى كل وقت لأنها تفتقر إلى عامل أمين وما كل أحد يرضى بالمساقاة ولا كل من أخذ الأرض يرضى بالمشاركة فلابد أن يكونوا قد كانوا يكرون الأرض السوداء ذات الشجر ومعلوم أن الاحتيال بالتبرع أمر نادر لم يكن السلف من الصحابة والتابعين يفعلونه فلم يبق إلا أنهم كانوا يفعلون كما فعل عمر رضي الله عنه بمال أسيد بن الحضير وكما يفعله غالب المسلمين من تلك الأزمنة وإلى اليوم
فإذا لم ينقل عن السلف أنهم حرموا هذه الاجارة ولا أنهم أمروا بحيلة التبرع مع قيام المقتضى لفعل هذه المعاملة علم قطعا أن المسلمين كانوا يفعلونها من غير نكير من الصحابة والتابعين فيكون فعلها كان إجماعا منهم
ولعل الذين اختلفوا فى كراء الأرض البيضاء والمزارعة عليها لم يختلفوا فى كراء الأرض السوداء ولا في المساقاة لأن منفعة الأرض ليس فيها طائل بالنسبة إلى منفعة الشجر
فإن قيل فقد قال حرب الكرمانى سئل أحمد عن تفسير
____________________
(29/67)
حديث بن عمر ( القبالات ربا ( قال هو أن يتقبل القرية فيها النخل والعلوج قيل له فإن لم يكن فيها نخل وهي أرض بيضاء قال لا بأس إنما هو الآن مستأجر قيل فإن فيها علوجا قال فهذا هو القبالة المكروهة قال حرب حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبى حدثنا سعيد عن جبلة سمع بن عمر يقول ( القبالات ربا (
قيل الربا فيما يجوز تأجيله إنما يكون في الجنس الواحد لأجل الفضل فإذا قيل في الاجرة أو الثمن أو نحوهما أنه ربا مع جواز تأجيله فلانه معاوضة بجنسه متفاضلا لأن الربا إما ربا النسأ وذلك لا يكون إلا فيما يجوز تأجيله وإما ربا الفضل وذلك لايكون إلا فى الجنس الواحد فإذا انتفى ربا النسأ الذى هو التأخير لم يبق إلا ربا الفضل الذي هو الزيادة في الجنس الواحد وهذا يكون اذا كان التقبل بجنس مغل الأرض مثل أن يقبل الأرض التي فيها نخل يتمر فيكون مثل المزابنة وهذا مثل اكتراء الأرض بجنس الخارج منها اذا كان مضمونا فى الذمة مثل أن يكتريها ليزرع فيها حنطة بحنطة معلومة ففيه روايتان عن أحمد إحداهما أنه ربا كقول مالك وهذا مثل القبالة التى كرهها بن عمر لأنه ضمن الأرض للحنطة بحنطة معلومة فكأنه ابتاع حنطة بحنطة تكون أكثر أو أقل فيظهر الربا
____________________
(29/68)
فالقبالات التى ذكر بن عمر أنها ربا أن يضمن الأرض التى فيها النخل والفلاحون بقدر معين من جنس مغلها مثل أن يكون لرجل قرية فيها شجر وأرض وفيها فلاحون يعملون له تغل له ما تغل من الحنطة والتمر بعد أجرة الفلاحين أو نصيبهم فيضمنها رجل منه بمقدار معلوم من الحنطة والتمر ونحو ذلك فهذا مظهر تسميته بالربا فأما ضمان الأرض بالدراهم والدنانير فليس من باب الربا بسبيل ومن حرمه فهو عنده من باب الغرر
ثم ان احمد لم يكره ذلك إذا كانت أرضا بيضاء لأن الاجارة عنده جائزة وان كانت الاجرة من جنس الخارج على إحدي الروايتين لأن المستأجر يعمل فى الأرض بمنفعته وماله فيكون المغل بكسبه بخلاف ما إذا كان فيها العلوج وهم الذين يعالجون العمل فانه لا يعمل فيها شيئا لا بمنفعته ولا بماله بل العلوج يعملونها وهو يؤدي القبالة ويأخذ بدلها فهو طلب الربح فى مبادلة المال من غير صناعة ولا تجارة وهذا هو الربا ونظير هذا ما جاء عن إبن عمر أنه ربا وهو اكتراء الحمام والطاحون والفنادق ونحو ذلك مما لا ينتفع المستأجر به فلا يتجر فيه ولا يصطنع فيه وانما يكتريه ليكريه فقط فقد قيل هو ربا
والحاصل أنها لم تكن ربا لأجل النخل ولا لأجل الأرض إذا
____________________
(29/69)
كانت بغير جنس المغل وانما كانت ربا لأجل العلوج وهذه الصورة لا حاجة إليها فان العلوج يقومون بها فتقبيلها لآخر مراباة له ولهذا كرهها أحمد وإن كانت بيضاء إذا كان فيها العلوج
وقد استدل حرب الكرماني على المسألة بمعاملة النبى صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع على أن يعمروها من أموالهم وذلك أن هذا فى المعنى إكراء للأرض منهم ببعض ما يخرج منها مع اكراء الشجر بنصف ثمره فيقاس عليه اكراء الأرض والشجر بشيء مضمون لأن إعطاء الثمر لو كان بمنزلة بيعه لكان إعطاء بعضه بمنزلة بيعه وذلك لا يجوز وهذه المسألة لها أصلان
الأصل الأول أنه متى كان بين الشجر أرض أو مساكن دعت الحاجة إلى كرائهما جميعا فيجوز لأجل الحاجة وإن كان فى ذلك غرر يسير لا سيما إن كان البستان وقفا أو مال يتيم فان تعطيل منفعته لا يجوز وإكراء الأرض أو المسكن وحده لا يقع فى العادة ولا يدخل أحد فى اجارته على ذلك وإن اكتراه اكتراه بنقص كثير عن قيمته وما لا يتم المباح إلا به فهو مباح فكل ما ثبت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه اذا لم يكن فى تحريمها نص ولا إجماع وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه وما لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام فهنا يتعارض الدليلان وفي مسألتنا قد ثبت إباحة
____________________
(29/70)
كراء الأرض بالسنة واتفاق الفقهاء المتبوعين بخلاف دخول كراء الشجر فان تحريمه مختلف فيه ولا نص عليه
وأيضا فمتى أكريت الأرض وحدها وبقي الشجر لم يكن المكتري مأمونا على الثمر فيفضى إلى اختلاف الأيدي وسوء المشاركة كما إذا بدا الصلاح فى نوع واحد ويخرج على هذا القول مثل قول الليث بن سعد إذا بدا الصلاح فى جنس وكان فى بيعه متفرقا ضرر جاز بيع جميع الأجناس لتعسر تفريق الصفقة ولأنه اذا أراد أن يبيع الثمر بعد ذلك لم يجد من يشتري الثمرة اذا كانت الأرض والمساكن لغيره إلا بنقص كثير ولأنه اذا أكرى الأرض فان شرط عليه سقي الشجر والسقي من جملة المعقود عليه صار المعوض عوضا وإن لم يشرط عليه السقي فإذا سقاها ان ساقاه عليها صارت الاجارة لا تصح إلا بمساقاة وإن لم يساقه لزم تعطيل منفعة المستأجر فيدور الأمر بين أن تكون الأجرة بعض المنفعة أو لا تصح الاجارة إلا بمساقاة أو بتفويت منفعة المستأجر ثم إن حصل للمكري جميع الثمرة أو بعضها ففي بيعها مع أن الأرض والمساكن لغيره نقص للقيمة فى مواضع كثيرة
فيرجع الأمر إلى أن الصفقة إذا كان فى تفريقها ضرر جاز الجمع بينهما فى المعاوضة وإن لم يجز إفراد كل منهما لأن حكم الجمع يخالف
____________________
(29/71)
حكم التفريق
ولهذا وجب عند احمد واكثر الفقهاء على أحد الشريكين اذا تعذرت القسمة أن يبيع مع شريكه أو يؤاجر معه إن كان المشترك منفعة لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( من اعتق شركا له فى عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد والا فقد عتق عليه ما عتق ( أخرجاه فى الصحيحين فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بتقويم العبد كله وباعطاء الشريك حصته من القيمة ومعلوم أن قيمة حصته منفردة دون حصته من قيمة الجميع فعلم أن حقه في نصف النصف واذا استحق ذلك بالاعتاق فبسائر أنواع الاتلاف أولى وإنما يستحق بالاتلاف ما يستحق بالمعاوضة فعلم أنه يستحق بالمعاوضة نصف القيمة وانما يمكن ذلك عند بيع الجميع فتجب قسمة العين حيث لا ضرر فيها فان كان فيها ضرر قسمت القيمة
فإذا كنا قد أوجبنا على الشريك بيع نصيبه لما فى التفريق من نقص قيمة شريكه فلأن يجوز بيع الأمرين جميعا اذا كان فى تفريقهما ضرر أولى ولذلك جاز بيع الشاة مع اللبن الذي في ضرعها وإن أمكن تفريقهما بالحلب وإن كان بيع اللبن وحده لا يجوز
وعلى هذا الأصل فيجوز متى كان مع الشجر منفعة مقصودة
____________________
(29/72)
كمنفعة أرض للزرع أو بناء للسكن وأما إن كان المقصود هو الثمر فقط ومنفعة الأرض أو المسكن ليست جزءا من المقصود وإنما أدخلت لمجرد الحيلة كما قد يفعل فى مسائل ( مد عجوة ( لم يجيء هذا الأصل
الأصل الثانى أن يقال إكراء الشجر للاستثمار يجري مجري إكراء الأرض للازدراع واستئجار الظئر للرضاع وذلك أن الفوائد التى تستخلف مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع وإن كانت أعيانا وهي ثمر الشجر ولبن الآدميات والبهائم والصوف والماء العذب فانه كلما خلق من هذه شيء فأخذ خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء ولهذا جرت فى الوقف والعارية والمعاملة بجزء من النماء مجرى المنفعة فإن الوقف لا يكون إلا فيما ينتفع به مع بقاء أصله فإذا جاز وقف الأرض البيضاء أو الرباع لمنفعتها فكذلك وقف الحيطان لثمرتها ووقف الماشية لدرها وصوفها ووقف الآبار والعيون لمائها بخلاف ما يذهب بالانتفاع كالطعام ونحوه فلا يوقف
وأما ( باب العارية ( فيسمون إباحة الظهر إفقارا يقال أفقره الظهر وما أبيح ما لبنه منيحة وما أبيح ثمره عرية وغير ذلك عارية وشبهوا ذلك بالقرض الذي ينتفع به المقترض ثم يرد مثله ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم ( منيحة لبن أو منيحة ورق
____________________
(29/73)
فاكتراء الشجر لأن يعمل عليها ويأخذ ثمرها بمنزلة استئجار الظئر لأجل لبنها وليس فى القرآن إجارة منصوصة إلا إجارة الظئر فى قوله سبحانه { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }
ولما اعتقد بعض الفقهاء أن الاجارة لا تكون إلا على منفعة ليست عينا ورأي جواز إجارة الظئر قال المعقود عليه هو وضع الطفل فى حجرها واللبن دخل ضمنا وتبعا كنقع البئر وهذا مكابرة للعقل والحس فانا نعلم بالاضطرار أن المقصود بالعقد هو اللبن كما ذكره الله بقوله { فإن أرضعن لكم } وضم الطفل إلى حجرها إن فعل فانما هو وسيلة إلى ذلك وانما العلة ما ذكرته من أن الفائدة التى تستخلف مع بقاء أصلها تجري مجرى المنفعة وليس من البيع الخاص فان الله لم يسم العوض الا أجرا لم يسمه ثمنا وهذا بخلاف ما لو حلب اللبن فانه لا يسمي المعاوضة عليه حينئذ إلا بيعا لأنه لم يستوف الفائدة من أصلها كما يستوفي المنفعة من أصلها
فلما كان للفوائد العينية التي يمكن فصلها عن أصلها حالان حال تشبه فيه المنافع المحضة وهي حال اتصالها واستيفائها واستيفاؤه كاستيفاء المنفعة وحال تشبه فيه الأعيان المحضة وهي حال انفصالها وقبضها كقبض الأعيان فاذا كان صاحب الشجر هو الذي يسقيها ويعمل عليها حتى تصلح الثمرة فانما يبيع ثمرة محضة كما لو كان هو الذي يشق الأرض
____________________
(29/74)
و يبذرها ويسقيها حتى يصلح الزرع فانما يبيع زرعا محضا وإن كان المشتري هو الذي يجد ويحصد كما لو باعها على الأرض وكان المشتري هو الذي ينقل ويحول ولهذا جمع النبى صلى الله عليه وسلم بينهما فى النهي عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه فان هذا بيع محض للثمرة والزرع
وأما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلى المكتري حتى يسقيها ويلقحها ويدفع عنها الأذى فهو بمنزلة دفعه الأرض إلى من يشقها ويبذرها ويسقيها ولهذا سوي بينهما فى المساقاة والمزارعة فكما أن كراء الأرض ليس ببيع لزرعها فكذلك كراء الشجرة ليس ببيع لثمرها بل نسبة كراء الشجر إلى كراء الأرض كنسبة المساقاة إلى المزارعة هذا معاملة بجزء من النماء وهذا كراء بعوض معلوم فاذا كانت هذه الفوائد قد ساوت المنافع فى الوقف لأصلها وفى التبرعات بها وفى المشاركة بجزء من نمائها وفى المعاوضة عليها بعد صلاحها فكذلك تساويها فى المعاوضة على استفادتها وتحصيلها ولو فرق بينهما بأن الزرع إنما يخرج بالعمل بخلاف الثمر فانه يخرج بلا عمل كان هذا الفرق عديم التأثير بدليل المساقاة والمزارعة وليس بصحيح فان للعمل تأثيرا فى الاثمار كما له تأثير فى الانبات ومع عدم العمل عليها قد تعدم الثمرة وقد تنقص فان
____________________
(29/75)
من الشجر ما لو لم يسق لم يثمر ولو لم يكن للعمل عليه تأثير أصلا لم يجز دفعه إلى عامل بجزء من ثمره ولم يجز فى مثل هذه الصورة إجارته قبل بدو صلاحه فانه بيع محض للثمرة لا إجارة للشجر ويكون كمن أكرى أرضه لمن يأخذ منها ما ينبته الله بلا عمل أحد أصلا قبل وجوده
فإن قيل المقصود بالعقد هنا غرر لأنه قد يثمر قليلا وقد يثمر كثيرا
يقال ومثله في إكراء الأرض فان المقصود بالعقد غرر أيضا على هذا التقدير فانها قد تنبت قليلا وقد تنبت كثيرا
وإن قيل المعقود عليه هناك التمكن من الازدراع لا نفس الزرع النابت
قيل والمعقود عليه هنا التمكن من الاستثمار لا نفس الثمر الخارج ومعلوم أن المقصود فيهما إنما هو الزرع والثمر وإنما يجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك كما أن المقصود باكتراء الدار إنما هو السكنى وإن وجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك
فالمقصود فى اكتراء الأرض للزرع إنما هو نفس الأعيان التى
____________________
(29/76)
تحصد ليس كاكترائها للسكنى أو البناء فإن المقصود هناك نفس الانتفاع بجعل الأعيان فيها وهذا بين عند التأمل لا يزيده البحث عنه إلا وضوحا
فظهر به أن الذي نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم من بيع الثمرة قبل زهوها وبيع الحب قبل اشتداده ليس هو إن شاء الله إكراؤها لمن يحصل ثمرتها وزرعها بعمله وسقيه ولا هذا داخل فى نهيه لفظا ولا معنى
يوضح ذلك أن البائع لثمرتها عليه تمام سقيها والعمل عليها حتى يتمكن المشتري من الجذاذ كما على بائع الزرع تمام سقيه حتى يتمكن المشتري من الحصاد فإن هذا من تمام التوفية ومئونة التوفية على البائع كالكيل والوزن وأما المكري لها لمن يخدمها حتى تثمر فهو كمكري الأرض لمن يخدمها حتى تنبت ليس على المكري عمل أصلا وانما عليه التمكين من العمل الذي يحصل به الثمر والزرع
لكن يقال طرد هذا أن يجوز إكراء البهائم لمن يعلفها ويسقيها ويحتلب لبنها
قيل إذا جوزنا على إحدى الروايتين أن تدفع الماشية إلى من
____________________
(29/77)
يعلفها ويسقيها بجزء من درها ونسلها جاز دفعها إلى من يعمل عليها لدرها ونسلها بشيء مضمون
وإن قيل فهلا جاز إجارتها لاحتلاب لبنها كما جاز اجارة الظئر
قيل إجارة الظئر أن ترضع بعمل صاحبها للغنم لأن الظئر هي التى ترضع الطفل فإذا كانت هي التى توفى المنفعة فنظيره أن يكون المؤجر هو الذي يوفي منفعة الارضاع وحينئذ فالقياس جوازه ولو كان لرجل غنم فاستأجر غنم رجل ليرضعها لم يكن هذا ممتنعا وأما إن كان المستأجر هو الذي يحلب اللبن أو هو الذي يستوفيه فهذا مشتر للبن ليس مستوفيا لمنفعة ولا مستوفيا للعين بعمل وهو شبيه باشتراء الثمرة واحتلابه كاقتطافها وهو الذي نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم بقوله ( لا يباع لبن فى ضرع ( بخلاف ما لو استأجرها لأن يقوم عليها ويحتلب لبنها فهذا نظير اكتراء الأرض والشجر
____________________
(29/78)
فصل
هذا اذا أكراه الأرض والشجر أو الشجرة وحدها لأن يخدمها ويأخذ الثمرة بعوض معلوم فإن باعه الثمرة فقط وأكراه الأرض للسكنى فهنا لا يجيء إلا الأصل الأول المذكور عن بن عقيل وبعضه عن مالك وأحمد فى إحدى الروايتين اذا كان الأغلب هو السكنى وهو أن الحاجة داعية إلى الجمع بينهما فيجوز فى الجمع ما لا يجوز فى التفريق كما تقدم من النظائر وهذا اذا كان كل واحد من السكنى والثمرة مقصودا له كما يجري فى حوائط دمشق فان البستان يكترى فى المدة الصيفية للسكنى فيه وأخذ ثمره من غير عمل على الثمرة أصلا بل العمل على المكري المضمن
وعلى ذلك الأصل فيجوز وإن كان الثمر لم يطلع بحال سواء كان جنسا واحدا أو أجناسا متفرقة كما يجوز مثل ذلك فى القسم الأول فانه إنما جاز لأجل الجمع بينه وبين المنفعة وهو في الحقيقة جمع بين بيع وإجارة بخلاف القسم الأول فإنه قد يقال هو إجارة لأن مئونة توفية الثمر هنا على المضمن وبعمله يصير ثمرا
____________________
(29/79)
بخلاف القسم الأول فإنه إنما يصير مثمرا بعمل المستأجر ولهذا يسميه الناس ضمانا اذ ليس هو بيعا محضا ولا إجارة محضة فسمى باسم الالتزام العام فى المعاوضات وغيرها وهو الضمان كما يسمى الفقهاء مثل ذلك فى قوله ألق متاعك فى البحر وعلى ضمانه وكذلك يسمى القسم الأول ضمانا أيضا لكن ذاك يسمى إجارة وهذا اذا سمى إجارة أو إكتراء فلأن بعضه إجارة أو إكتراء وفيه بيع أيضا
فأما إن كانت المنفعة ليست مقصودة أصلا وانما جاءت لأجل جذاذ الثمرة مثل أن يشتري عنبا أو بلحا ويريد أن يقيم فى الحديقة لقطافه فهذا لا يجوز قبل بدو صلاحه لأن المنفعة إنما قصدت هنا لأجل الثمر فلا يكون الثمر تابعا لها ولا يحتاج إلى اجارتها إلا إذا جاز بيع الثمر بخلاف القسم الذي قبله فان المنفعة اذا كانت مقصودة احتاج إلى استئجارها واحتاج مع ذلك إلى اشتراء الثمرة فاحتاج إلى الجمع لأن المستأجر لا يمكنه اذا استأجر المكان للسكنى أن يدع غيره يشتري الثمرة ولا يتم غرضه من الانتفاع إلا أن يكون له ثمرة يأكلها فإن مقصوده الانتفاع بالسكنى فى ذلك المكان والأكل من الثمر الذي فيه ولهذا اذا كان المقصود الأعظم هو السكنى وانما الشجر قليل مثل أن يكون فى الدار نخلات أو عريش عنب ونحو ذلك فالجواز هنا مذهب مالك وقياس أكثر نصوص أحمد وغيره
____________________
(29/80)
وإن كان المقصود مع السكنى التجارة فى الثمر وهو أكثر من منفعة السكنى فالمنع هنا أوجه منه فى التي قبلها كما فرق بينهما مالك وأحمد وإن كان المقصود السكنى والأكل فهو شبيه بما لو قصد السكنى والشرب من البئر وإن كان ثمن المأكول أكثر فهنا الجواز فيه أظهر من التى قبلها ودون الأولى على قول من يفرق وأما على قول بن عقيل المأثور عن السلف فالجميع جائز كما قررناه لأجل الجمع فان اشترط مع ذلك أن يحرث له المضمن مقثاة فهو كما لو استأجر أرضا من رجل للزرع على أن يحرثها المؤجر فقد استأجر أرضه واستأجر منه عملا فى الذمة وهذا جائز كما لو استكرى منه جملا أو حمارا على أن يحمل المؤجر للمستأجر عليه متاعه وهذه إجارة عين وإجارة على عمل فى الذمة إلا أن يشترط عليه أن يكون هو الذي يعمل العمل فيكون قد استأجر عينين
ولو لم تكن السكنى مقصودة وانما المقصود ابتياع ثمرة فى بستان ذي أجناس والسقي على البائع فهذا عند الليث يجوز وهو قياس القول الثالث الذي ذكرناه عن أصحابنا وغيرهم وقررناه لأن الحاجة إلى الجمع بين الجنسين كالحاجة إلى الجمع بين بيع الثمرة والمنفعة وربما كان أشد فانه قد لا يمكن بيع كل جنس عند بدو صلاحه فانه فى كثير من الأوقات لا يحصل ذلك وفى بعضها إنما يحصل بضرر كثير
____________________
(29/81)
وقد رايت من يواطئ المشتري على ذلك ثم كلما صلحت ثمرة يقسط عليها بعض الثمن وهذا من الحيل الباردة التى لا تخفى حالها كما تقدم وما يزال العلماء والمؤمنون ذوو الفطر السليمة ينكرون تحريم مثل هذا مع أن أصول الشريعة تنافى تحريمه لكن ما سمعوه من العمومات اللفظية والقياسية التى اعتقدوا شمولها لمثل هذا مع ما سمعوه من قول العلماء الذين يدرجون هذا فى العموم هو الذي أوجب ما أوجب وهو قياس ما قررناه من جواز بيع المقثاة جميعها بعد بدو صلاحها لأن تفريق بعضها متعسر أو متعذر كتعسر تفريق الأجناس فى البستان الواحد وإن كانت المشقة فى المقثاة أوكد ولهذا جوزها من منع الأجناس كمالك
فإن قيل هذه الصورة داخلة فى عموم نهي النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه بخلاف ما إذا أكراه الأرض والشجر ليعمل عليه فانه كما قررتم ليس بداخل في العموم لأنه إجارة لمن يعمل لا بيع لعين وأما هذا فبيع للثمرة فيدخل فى النهي فكيف تخالفون النهي
قلنا الجواب عن هذا كالجواب عما يجوز بالسنة والاجماع من ابتياع الشجر مع ثمره الذي لم يبد صلاحه وابتياع الأرض مع زرعها الذي لم يشتد حبه وما نصرناه من ابتياع المقاثى مع أن بعض
____________________
(29/82)
خضرها لم يخلق وجواب ذلك كله بطريقين
أحدهما أن يقال اإن النهي لم يشمل بلفظه هذه الصورة لأن نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر انصرف إلى البيع المعهود عند المخاطبين وما كان مثله لأن لام التعريف تنصرف إلى ما يعرفه المخاطبون فإن كان هناك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه كما انصرف اللفظ إلى الرسول المعين فى قوله تعالى { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } وفي قوله { فعصى فرعون الرسول } أو إلى النوع المخصوص نهيه عن بيع الثمر فانه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب دون العنب وغيره وإن لم يكن معهود شخصي ولا نوعي انصرف إلى العموم
فالبيع المذكور للثمر هو بيع الثمر الذي يعهدونه دخل كدخول القرن الثانى والقرن الثالث فيما خاطب به الرسول أصحابه
ونظير هذا ما ذكره أحمد فى نهي النبى صلى الله عليه وسلم عن بول الرجل فى الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ( فحمله على ما كان معهودا على عهده من المياه الدائمة كالآبار والحياض التى بين مكة والمدينة فأما المصانع الكبار التى لا يمكن نزحها التى أحدثت بعده فلم يدخله فى العموم لوجود الفارق المعنوي وعدم
____________________
(29/83)
العموم اللفظي
ويدل على عدم العموم فى مسألتنا أن فى الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو قيل وما تزهو قال تحمر وتصفر ( وفى لفظ مسلم ( نهي عن بيع الثمر حتى يزهو ( ولفظ مسلم ( نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو (
ومعلوم أن ذلك هو ثمر النخل كما جاء مقيدا لأنه هو الذي يزهو فيحمر أو يصفر وإلا فمن الثمار ما يكون نضجها بالبياض كالتوت والتفاح والعنب الأبيض والاجاص الأبيض الذي يسميه أهل دمشق الخوخ والخوخ الأبيض الذي يسمى الفرسك ويسميه الدمشقيون الدراق او باللين بلا تغير لون كالتين ونحوه ولذلك جاء فى الصحيحين عن جابر قال ( نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تشقح قيل وما تشقح قال تحمار أو تصفار ويؤكل منها ( وهذه الثمرة هي الرطب وكذلك فى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تبتاعوا التمر بالتمر ( والتمر الثانى هو الرطب بلا ريب فكذلك الأول لأن اللفظ واحد وفى صحيح مسلم أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تبتاعوا
____________________
(29/84)
الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة ( وقال ( بدو صلاحه حمرته أو صفرته ( فهذه الأحاديث التى فيها لفظ ( الثمر (
وأما غيرها فصريح فى النخل كحديث بن عباس المتفق عليه ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل منه ( وفى رواية لمسلم عن بن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهي البائع والمشتري ( والمراد بالنخل ثمره بالاتفاق لأنه صلى الله عليه وسلم قد جوز اشتراء النخل المؤبر مع اشتراط المشترى لثمرته
فهذه النصوص ليست عامة عموما لفظيا فى كل ثمرة فى الأرض وانما هي عامة لفظا لكل ما عهده المخاطبون وعامة معنى لكل ما كان فى معناه وما ذكرنا عدم تحريمه ليس بمنصوص على تحريمه ولا فى معناه فلم يتناوله دليل الحرمة فيبقى على الحل وهذا وحده دليل على عدم التحريم وبه يتم ما نبهنا عليه أولا من أن الأدلة النافية للتحريم من الأدلة الشرعية والاستصحابية تدل على ذلك لكن بشرط نفي الناقل المغير وقد بينا انتفاءه
الطريق الثانى أن نقول وإن سلمنا العموم اللفظي لكن ليست
____________________
(29/85)
هي مرادة بل هي مخصوصة بما ذكرناه من الأدلة التى تخص مثل هذا العموم فإن هذا العموم مخصوص بالسنة والاجماع فى الثمر التابع لشجره حيث قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من ابتاع نخلا لم يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ( أخرجاه من حديث بن عمر فجعلها للمبتاع اذا اشترطها بعد التأبير ومعلوم أنها حينئذ لم يبد صلاحها ولا يجوز بيعها مفردة والعموم المخصوص بالنص أو الاجماع يجوز أن يخص منه صور فى معناه عند جمهور الفقهاء من سائر الطوائف ويجوز أيضا تخصيصه بالاجماع وبالقياس القوى وقد ذكرنا من آثار السلف ومن المعانى ما يخص مثل هذا لو كان عاما أو بالاشتداد بلا تغير لون كالجوز واللوز فبدو الصلاح فى الثمار متنوع تارة يكون بالرطوبة بعد اليبس وتارة باليبس بعد الرطوبة وتارة بلينه وتارة بتغير لونه بحمرة أو صفرة أو بياض وتارة لا يتغير واذا كان قد نهي عن بيع الثمر حتى يحمر أو يصفر علم أن هذا اللفظ لم يشمل جميع أصناف الثمار وانما يشمل ما تأتي فيه الحمرة والصفرة وقد جاء مقيدا أنه النخل
فتدبر ما ذكرناه فى هذه المسألة فانه عظيم المنفعة فى هذه القضية التى عمت بها البلوى وفى نظائرها وانظر فى عموم كلام الله عز وجل ورسوله لفظا ومعنى حتى تعطيه حقه وأحسن ما تستدل به
____________________
(29/86)
على معناه آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده فان ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة وجريها على الأصول الثابتة المذكورة فى قوله تعالى { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم }
وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن المعاومة الذي جاء مفسرا فى رواية أخرى بأنه بيع السنين فهو والله أعلم مثل نهيه عن بيع حبل الحبلة إنما نهى أن يبتاع المشتري الثمرة التى يستثمرها رب الشجرة وأما اكتراء الأرض والشجرة حتى يستثمرها فلا يدخل هذا فى البيع المطلق وانما هو نوع من الاجارة
ونظير هذا ما تقدم من حديث جابر فى الصحيح من أنه ( نهي عن كراء الأرض ( وأنه ( نهى عن المخابرة ( وأنه ( نهى عن المزارعة ( وأنه قال ( لا تكروا الأرض ( فإن المراد بذلك الكراء الذي كانوا يعتادونه كما جاء مفسرا وهي المخابرة والمزارعة التى كانوا يعتادونها فنهاهم عما كانوا يعتادونه من الكراء والمعاومة الذي يرجع حاصله إلى بيع الثمرة قبل أن تصلح وإلى المزارعة المشروط فيها جزء معين
وهذا نهي عما فيه مفسدة راجحة هذا نهي عن الغرر فى جنس
____________________
(29/87)
البيع وذاك نهي عن الغرر فى جنس الكراء العام الذي يدخل فيه المساقاة والمزارعة وقد بين فى كل منهما أن هذه المبايعة وهذه المكاراة كانت تفضي إلى الخصومة والشنآن وهو ما ذكره الله فى حكمة تحريم الميسر بقوله تعالى { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر }
فصل
ومن القواعد التى أدخلها قوم من العلماء فى الغرر المنهى عنه أنواع من الاجارات والمشاركات كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك
فذهب قوم من الفقهاء إلى أن المساقاة والمزارعة حرام باطل بناء على أنها نوع من الاجارة لأنها عمل بعوض والاجارة لابد أن يكون الأجر فيها معلوما لأنها كالثمن ولما روي أحمد عن أبي سعيد أن النبى صلى الله عليه وسلم ( نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره وعن النجش واللمس وإلقاء الحجر ) والعوض فى المساقاة والمزارعة مجهول لأنه قد يخرج الزرع والثمر قليلا وقد يخرج كثيرا وقد يخرج على صفات ناقصة وقد لا يخرج فان منع الله الثمرة كان استيفاء عمل العامل باطلا وهذا قول ابى
____________________
(29/88)
حنيفة وهو أشد الناس قولا بتحريم هذا
وأما مالك والشافعي فالقياس عندهما ما قاله أبو حنيفة ادخالا لذلك فى الغرر لكن جوزا منه ما تدعو إليه الحاجة
فجوز مالك والشافعي فى القديم المساقاة مطلقا لأن كراء الشجر لا يجوز لأنه بيع للثمر قبل بدو صلاحه والمالك قد يتعذر عليه سقي شجرة وخدمته فيضطر إلى المساقاة بخلاف المزارعة فانه يمكنه كراء الأرض بالأجر المسمى فيغنيه ذلك عن المزارعة عليه تبعا لكن جوزا من المزارعة ما يدخل فى المساقاة تبعا فإذا كان بين الشجر بياض قليل جازت المزارعة عليه تبعا للمساقاة
ومذهب مالك أن زرع ذلك البياض للعامل بمطلق العقد فان شرطاه بينهما جاز وهذا اذا لم يتجاوز الثلث
والشافعي لا يجعله للعامل لكن يقول اذا لم يمكن سقي الشجر إلا بسقيه جازت المزارعة عليه ولأصحابه فى البياض اذا كان كثيرا أكثر من الشجر وجهان
وهذا اذا جمعهما فى صفقة واحدة فان فرق بينهما فى صفقتين فوجهان
____________________
(29/89)
أحدهما لا يجوز بحال لأنه إنما جاز تبعا فلا يفرد بعقد والثانى يجوز اذا ساقي ثم زارع لأنه يحتاج إليه حينئذ وأما اذا قدم المزارعة لم يجز وجها واحدا وهذا اذا كان الجزء المشروط فيهما واحدا كالثلث أو الربع فان فاضل بينهما ففيه وجهان
وروي عن قوم من السلف منهم طاوس والحسن وبعض الخلف المنع من اجارتها بالأجرة المسماة وإن كانت دراهم أو دنانير
روي حرب عن الأوزاعي أنه سئل هل يصلح اكتراء الأرض فقال اختلف فيه فجماعة من أهل العلم لا يرون باكترائها بالدينار والدرهم بأسا وكره ذلك آخرون منهم وذلك لأنه فى معنى بيع الغرر لأن المستأجر يلتزم الأجرة بناء على ما يحصل له من الزرع وقد لا ينبت الزرع فيكون بمنزلة اكتراء الشجر للاستثمار وقد كان طاوس يزارع ولأن المزارعة أبعد عن الغرر من المؤاجرة لأن المتعاملين فى المزارعة إما أن يغنما جميعا أو يغرما جميعا فتذهب منفعة بدن هذا وبقره ومنفعة أرض هذا وذلك أقرب إلى العدل من أن يحصل أحدهما على شيء مضمون ويبقي الآخر تحت الخطر اذ المقصود بالعقد هو الزرع لا القدرة على حرث الأرض وبذرها وسقيها
____________________
(29/90)
وعذر الفريقين مع هذا القياس ما بلغهم من الآثار عن النبى صلى الله عليه وسلم من نهيه عن المخابرة وعن كراء الأرض كحديث رافع بن خديج وحديث جابر فعن نافع ( أن بن عمر كان يكري مزارعة على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع فذهب بن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع فقال بن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وشيء من التبن ( أخرجاه فى الصحيحين وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم ( حتى بلغه فى آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبى صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن كراء المزارع فتركها بن عمر بعد فكان اذا سئل عنها بعد قال زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ( وعن سالم بن عبد الله بن عمر ( أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهي عن كراء الأرض فلقيه عبد الله فقال يا بن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كراء الأرض قال رافع بن خديج لعبدالله سمعت عمي
____________________
(29/91)
و كانا قد شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن كراء الأرض قال عبد الله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث فى ذلك شيئا لم يعلمه فترك كراء الأرض ( رواه مسلم وروى البخاري قول عبد الله الذى فى آخره عن رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير ( لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا فقلت وما ذاك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعون بمحاقلكم فقلت نؤاجرها يا رسول الله على الربع أو على الأوسق من التمر والشعير قال فلا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو امسكوها قال رافع قلت سمعا وطاعة ( أخرجاه فى الصحيحين وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فان أبى فليمسك أرضه ( أخرجاه وعن جابر بن عبد الله قال ( كانوا يزرعونها بالثلث والربع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فان لم يفعل فليمسك أرضه ( أخرجاه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم ( كنا فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك فقال
____________________
(29/92)
من كانت له أرض فليزرعها فان لم يزرعها فليمنحها أخاه فان لم يمنحها فليمسكها ( وفى رواية فى الصحيح ( ولا يكريها ( وفى رواية فى الصحيح ( نهى عن كراء الأرض (
وقد ثبت أيضا فى الصحيحين عن جابر قال ( نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة ( وفى رواية فى الصحيحين عن زيد بن أبى أنيسة عن عطاء عن جابر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والاشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك قال زيد قلت لعطاء بن أبى رباح أسمعت جابرا يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم (
فهذه الأحاديث قد يستدل بها من ينهى عن المؤاجرة والمزارعة لأنه نهى عن كرائها والكراء يعمها لأنه قال ( فليزرعها أو ليمنحها أخاه فان لم يفعل فليمسكها ( فلم يرخص إلا فى أن يزرعها أو يمنحها لغيره ولم يرخص فى المعاوضة عنها لا بمؤاجرة ولا بمزارعة
ومن يرخص فى المزارعة دون المؤاجرة يقول الكراء هو
____________________
(29/93)
الاجارة أو المزارعة الفاسدة التى كانوا يفعلونها بخلاف المزارعة الصحيحة التى ستأتى أدلتها التى كان النبى صلى الله عليه وسلم يعامل بها أهل خيبر وعمل بها الخلفاء الراشدون بعده وسائر الصحابة
يؤيد ذلك أن بن عمر الذي ترك كراء الأرض لما حدثه رافع كان يروي حديث أهل خيبر رواية من يفتى به ولأن النبى صلى الله عليه وسلم نهي عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة وجميع ذلك من أنواع الغرر والمؤاجر أظهر فى الغرر من المزارعة كما تقدم
ومن يجوز المؤاجرة دون المزارعة يستدل بما رواه مسلم فى صحيحه عن ثابت بن الضحاك ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها ( فهذا صريح فى النهي عن المزارعة والأمر بالمؤاجرة ولأنه سيأتى عن رافع بن خديج الذي روى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه لم ينههم النبى صلى الله عليه وسلم عن كرائها بشيء معلوم مضمون وانما نهاهم عما كانوا يفعلونه من المزارعة (
وذهب جميع فقهاء الحديث الجامعون لطرقه كلهم كأحمد بن
____________________
(29/94)
حنبل وأصحابه كلهم من المتقدمين والمتأخرين وإسحاق بن راهويه وأبى بكر بن أبى شيبة وسليمان بن داود الهاشمي وأبى خيثمة زهير بن حرب وأكثر فقهاء الكوفيين كسفيان الثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد صاحبى أبى حنيفة والبخاري صاحب الصحيح وأبى داود وجماهير فقهاء الحديث من المتأخرين كابن المنذر وبن خزيمة والخطابى وغيرهم وأهل الظاهر وأكثر أصحاب أبى حنيفة إلى جواز المزارعة والمؤاجرة ونحو ذلك اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه وأصحابه وما عليه السلف وعمل جمهور المسلمين وبينوا معانى الأحاديث التى يظن اختلافها فى هذا الباب
فمن ذلك معاملة النبى صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر هو وخلفاؤه من بعده إلى أن أجلاهم عمر فعن بن عمر قال ( عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر او زرع ( أخرجاه وأخرجا أيضا أيضا عن بن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أهل خيبر على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها ( هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم ( لما افتتحت خيبر سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوها على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع فقال رسول الله
____________________
(29/95)
صلى الله عليه وسلم أقركم فيها على ذلك ما شئنا وكان الثمر على السهمان من نصف خيبر فيأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ( وفى رواية مسلم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم وللرسول صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها ( وعن بن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر أهلها على النصف نخلها وأرضها ( رواه الامام أحمد وبن ماجه وعن طاوس ( ان معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلى على الثلث والربع فهو يعمل به إلى يومك هذا ( رواه بن ماجه وطاوس كان باليمن وأخذ عن أصحاب معاذ الذين باليمن من أعيان المخضرمين وقوله ( وعمر وعثمان ( أي كنا نفعل كذلك على عهد عمر وعثمان فحذف الفعل لدلالة الحال عليه لأن المخاطبين كانوا يعلمون أن معاذا خرج من اليمن فى خلافة الصديق وقدم الشام فى خلافة عمر ومات بها في خلافته قال البخاري فى صحيحه وقال قيس بن مسلم عن أبى جعفر يعني الباقر ( ما بالمدينة دار هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع ( قال ( وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبى بكر وآل عمر وآل على وبن سيرين وعامل عمر الناس على أنه ان جاء عمر بالبذر من
____________________
(29/96)
عنده فله الشطر وان جاؤوا بالبذر فلهم كذا ( وهذه الآثار التى ذكرها البخاري قد رواها غير واحد من المصنفين فى الآثار
فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزارعون والخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع أعظم من هذا بل ان كان فى الدنيا إجماع فهو هذا لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم زارعوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى ان أجلا عمر اليهود إلى تيماء
وقد تأول من أبطل المزارعة والمساقاة ذلك بتأويلات مردودة مثل ان قال كان اليهود عبيدا للنبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين فجعلوا ذلك مثل المخارجة بين العبد وسيده
ومعلوم بالنقل المتواتر أن النبى صلى الله عليه وسلم صالحهم ولم يسترقهم حتى أجلاهم عمر ولم يبعهم ولا مكن أحدا من المسلمين من استرقاق أحد منهم
ومثل أن قال هذه معاملة مع الكفار فلا يلزم أن تجوز مع المسلمين وهذا مردود فان خيبر قد صارت دار اسلام وقد أجمع المسلمون على أنه يحرم فى دار الاسلام بين المسلمين وأهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة ثم إنا قد ذكرنا أن
____________________
(29/97)
النبى صلى الله عليه وسلم عامل بين المهاجرين والأنصار وأن معاذ بن جبل عامل على عهده أهل اليمن بعد اسلامهم على ذلك وأن الصحابة كانوا يعاملون بذلك
والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك مع عمومات الكتاب والسنة المبيحة أو النافية للحرج ومع الاستصحاب وذلك من وجوه
أحدها أن هذه المعاملة مشاركة ليست مثل المؤاجرة المطلقة فان النماء الحادث يحصل من منفعة أصلين منفعة العين التى لهذا كبدنه وبقره ومنفعة العين التى لهذا كأرضه وشجره كما تحصل المغانم بمنفعة أبدان الغانمين وخيلهم وكما يحصل مال الفيء بمنفعة أبدان المسلمين من قوتهم ونصرهم بخلاف الاجارة فإن المقصود فيها هو العمل أو المنفعة فمن استؤجر لبناء أو خياطة أو شق الأرض أو بذرها أو حصاد فاذا وفاه ذلك العمل فقد استوفى المستأجر مقصوده بالعقد واستحق الأجير أجره ولذلك يشترط فى الاجارة اللازمة أن يكون العمل مضبوطا كما يشترط مثل ذلك فى المبيع وهنا منفعة بدن العامل وبدن بقره وحديده هو مثل منفعة أرض المالك وشجره ليس مقصود واحد منهما استيفاء منفعة الآخر وإنما مقصودهما جميعا ما يتولد من اجتماع المنفعتين فإن حصل نماء اشتركا فيه وإن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته فيشتركان فى المغنم وفى المغرم كسائر
____________________
(29/98)
المشتركين فيما يحدث من نماء الأصول التى لهم وهذا جنس من التصرفات يخالف فى حقيقته ومقصوده وحكمه الاجارة المحضة وما فيه من شوب المعاوضة من جنس ما في الشركة من شوب المعاوضة
فان التصرفات العدلية فى الأرض جنسان معاوضات ومشاركات فالمعاوضات كالبيع والاجارة والمشاركات شركة الأملاك وشركة العقد ويدخل فى ذلك اشتراك المسلمين فى مال بيت المال واشتراك الناس فى المباحات كمنافع المساجد والأسواق المباحة والطرقات وما يحيى من الموات أو يوجد من المباحات واشتراك الورثة فى الميراث واشتراك الموصى لهم والموقوف عليهم فى الوصية والوقف واشتراك التجار والصناع شركة عنان أو أبدان ونحو ذلك وهذان الجنسان هما منشأ الظلم كما قال تعالى عن داودعليه السلام ( وان كثيرا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم (
والتصرفات الأخرى هي الفضيلة كالقرض والعارية والهبة والوصية واذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة أو مشاركة فمعلوم قطعا أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس المشاركة ليسا من جنس المعاوضة المحضة والغرر إنما حرم بيعه فى المعاوضة لأنه أكل مال بالباطل وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر لأنه إن لم
____________________
(29/99)
ينبت الزرع فان رب الأرض لم يأخذ منفعة الآخر إذ هو لم يستوفها ولا ملكها بالعقد ولا هي مقصودة بل ذهبت منفعة بدنه كما ذهبت منفعة أرض هذا ورب الأرض لم يحصل له شيء حتى يكون قد أخذه والآخر لم يأخذ شيئا بخلاف بيوع الغرر وإجارة الغرر فان أحد المتعاوضين يأخذ شيئا والآخر يبقى تحت الخطر فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما وهذا المعنى منتف فى هذه المشاركات التى مبناها على المعادلة المحضة التى ليس فيها ظلم ألبتة لا في غرر ولا فى غير غرر
ومن تأمل هذا تبين له مأخذه هذه الأصول وعلم أن جواز هذه أشبه بأصول الشريعة وأعرف فى العقول وأبعد عن كل محذور من جواز إجارة الأرض بل ومن جواز كثير من البيوع والاجارات المجمع عليها حيث هي مصلحة محضة للخلق بلا فساد وانما وقع اللبس فيها على من حرمها من إخواننا الفقهاء بعد ما فهموه من الآثار من جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول لما فيها من عمل بعوض وليس كل من عمل لينتفع بعمله يكون أجيرا كعمل الشريكين فى المال المشترك وعمل الشريكين فى شركة الأبدان وكاشتراك الغانمين فى المغانم ونحو ذلك مما لايعد ولا يحصى نعم لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله كان هذا اجارة
____________________
(29/100)
الوجه الثانى أن هذه من جنس المضاربة فانها عين تنمو بالعمل عليها فجاز العمل عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير والمضاربة جوزها الفقهاء كلهم اتباعا لما جاء فيها عن الصحابة رضي الله عنهم مع أنه لا يحفظ فيها بعينها سنة عن النبى صلى الله عليه وسلم ولقد كان أحمد يرى أن يقيس المضاربة على المساقاة والمزارعة لثبوتها بالنص فتجعل أصلا يقاس عليه وان خالف فيهما من خالف وقياس كل منهما على الآخر صحيح فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويهما
فان قيل الربح في المضاربة ليس من عين الأصل بل الأصل يذهب ويجيء بدله فالمال المقسم حصل بنفس العمل بخلاف الثمر والزرع فانه من نفس الأصل
قيل هذا الفرق فرق فى الصورة وليس له تأثير شرعي فانا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد انما حصل بمجموع منفعة بدن العامل ومنفعة رأس المال ولهذا يرد إلى رب المال مثل رأس ماله ويقتسمان الربح كما أن العامل يبقى بنفسه التى هي نظير الدراهم وليست اضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولى من اضافته إلى منفعة مال هذا
ولهذا فالمضاربة التى تروونها عن عمر إنما حصلت بغير عقد لما
____________________
(29/101)
أقرض أبو موسى الأشعري لابني عمر من مال بيت المال فحملاه إلى أبيهما فطلب عمر جميع الربح لأنه رأى ذلك كالغصب حيث أقرضهما ولم يقرض غيرهما من المسلمين والمال مشترك وأحد الشركاء اذا اتجر فى المال المشترك بدون اذن الأخر فهو كالغاصب فى نصيب الشريك وقال له ابنه عبد الله ( الضمان كان علينا فيكون الربح لنا ( فأشار عليه بعض الصحابة بأن يجعله مضاربة
وهذه الأقوال الثلاثة فى مثل هذه المسألة موجودة بين الفقهاء وهي ثلاثة أقوال فى مذهب أحمد وغيره هل يكون ربح من اتجر بمال غيره بغير اذنه لرب المال أو للعامل أو لهما على ثلاثة أقوال وأحسنها وأقيسها أن يكون مشتركا بينهما كما قضى به عمر لأن النماء متولد عن الأصلين
وإذا كان أصل المضاربة الذي قد اعتمدوا عليه راعوا فيه ما ذكرناه من الشركة فأخذ مثل الدراهم يجري مجري عينها ولهذا سمى النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده القرض منيحة يقال منيحة ورق ويقول الناس أعرنى دراهمك يجعلون رد مثل الدراهم مثل رد عين العارية والمقترض انتفع بها وردها وسموا المضاربة قراضا لأنها فى المقابلات نظير القرض فى التبرعات
ويقال أيضا لو كان ما ذكروه من الفرق مؤثرا لكان اقتضاؤه
____________________
(29/102)
لتجويز المزارعة دون المضاربة أولي من العكس لأن النماء إذا حصل مع بقاء الأصلين كان أولى بالصحة من حصوله مع ذهاب أحدهما وإن قيل الزرع نماء الأرض دون البدن فقد يقال والربح نماء العامل دون الدراهم أو بالعكس وكل هذا باطل بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب والماء والهواء ومنفعة بدن العامل والبقر والحديد
ثم لو سلم أن بينها وبين المضاربة فرقا فلا ريب أنها بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة لأن المؤاجرة المقصود فيها هو العمل ويشترط أن يكون معلوما والأجرة مضمونة فى الذمة أو عين معينة وهنا ليس المقصود إلا النماء ولا يشترط معرفة العمل والأجرة ليست عينا ولا شيئا فى الذمة وإنما هي بعض ما يحصل من النماء ولهذا متى عين فيها شيء معين فسد العقد كما تفسد المضاربة اذا شرطا لأحدهما ربحا معينا أو اجرة معلومة فى الذمة وهذا بين فى الغاية فاذا كانت بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة جدا والفرق الذي بينهما وبين المضاربة ضعيف والذي بينهما وبين المؤاجرة فروق غير مؤثرة فى الشرع والعقل وكان لابد من الحاقها بأحد الأصلين فالحاقها بما هي به أشبه أولى وهذا أجلى من أن يحتاج فيه إلى إطناب
الوجه الثالث أن نقول لفظ الاجارة فيه عموم وخصوص
____________________
(29/103)
فانها على ثلاث مراتب
أحدها أن يقال لكل من بذل نفعا بعوض فيدخل فى ذلك المهر كما فى قوله تعالى ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ( وسواء كان العمل هنا معلوما أو مجهولا وكان الآخر معلوما أو مجهولا لازما أو غير لازم
المرتبة الثانية الاجارة التى هي جعالة وهو أن يكون النفع غير معلوم لكن العوض مضمونا فيكون عقدا جائزا غير لازم مثل أن يقول من رد علي عبدي فله كذا فقد يرده من بعيد أو قريب
الثالثة الاجارة الخاصة وهي أن يستأجر عينا أو يستأجره على عمل فى الذمة بحيث تكون المنفعة معلومة فيكون الأجر معلوما والاجارة لازمة وهذه الاجارة التى تشبه البيع فى عامة أحكامه والفقهاء المتأخرون إذا أطلقوا الاجارة أو قالوا ( باب الاجارة ( أرادوا هذا المعنى
فيقال المساقاة والمزارعة والمضاربة ونحوهن من المشاركات على نماء يحصل من قال هي اجارة بالمعنى الأعم أو العام فقد صدق ومن قال هي اجارة بالمعني الخاص فقد أخطا وان كانت اجارة
____________________
(29/104)
بالمعنى العام التى هي الجعالة فهنالك إن كان العوض شيئا مضمونا من عين أو دين فلابد أن يكون معلوما وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزءا شائعا فيه كما لو قال الأمير فى الغزو من دلنا على حصن كذا فله منه كذا فحصول الجعل هناك مشروط بحصول المال مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه فالشركة أولى وأحرى
ويسلك فى هذا طريقة أخرى فيقال الذي دل عليه قياس الأصول أن الاجارة الخاصة يشترط فيها أن لا يكون العوض غررا قياسا على الثمن فأما الاجارة العامة التى لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الاجارة لما تقدم فلا يجوز إلحاقها بها فتبقي على الأصل المبيح
فتحرير المسألة أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالاجارة فان أراد الخاصة لم يصح وإن أراد العامة فأين الدليل على تحريمها الا بعوض معلوم فان ذكر قياسا بين له الفرق الذي لا يخفى على غير فقيه فضلا عن الفقيه ولن يجد إلى أمر يشمل مثل هذه الاجارة سبيلا فاذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحل
ويسلك فى هذا طريقة أخرى وهو قياس العكس وهو أن
____________________
(29/105)
يثبت فى الفرع نقيض حكم الأصل لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل فيقال المعنى الموجب لكون الاجرة يجب أن تكون معلومة منتف في باب المزارعة ونحوها لأن المقتضى لذلك أن المجهول غرر فيكون فى معنى بيع الغرر المقتضى أكل المال بالباطل أو ما يذكر من هذا الجنس وهذه المعاني منتفية فى الفرع فاذا لم يكن للتحريم موجب إلا كذا وهو منتف فلا تحريم
وأما الأحاديث حديث رافع بن خديج وغيره فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبى صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن نهيا عما فعل هو والصحابة فى عهده وبعده بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه فعن رافع بن خديج قال ( كنا اكثر أهل المدينة مزدرعا كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمي لسيد الأرض قال مما يصاب ذلك وتسلم الأرض ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ ( رواه البخاري وفي رواية له قال ( كنا اكثر أهل المدينة حقلا وكان أحدنا يكري أرضه فيقول هذه القطعة لي وهذه لك فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه فنهاهم النبى صلى الله عليه وسلم ( وفى رواية له ( فربما أخرجت هذه كذا ولم تخرج ذه فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الورق ( وفى صحيح مسلم عن رافع قال ( كنا اكثر أهل
____________________
(29/106)
الأنصار حقلا وكنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا ( وفى مسلم أيضا عن حنظلة بن قيس قال ( سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس به انما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويهلك هذا ويسلم هذا فلم يكن للناس كراء الا هذا فلذلك زجر الناس عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به (
فهذا رافع بن خديج الذي عليه مدار الحديث يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء الا بزرع مكان معين من الحقل وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة وحرموا نظيره فى المضاربة فلو اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز وهذا الغرر فى المشاركات نظير الغرر فى المعاوضات
وذلك أن الأصل فى هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين فان اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخله الظلم فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله محرما على عباده فاذا كان أحد المتبايعين اذا ملك الثمن وبقي الآخر تحت الخطر لم يجز ولذلك حرم النبى صلى الله عليه وسلم بيع الثمر قبل بدو صلاحه
____________________
(29/107)
فكذلك هذا اذا اشترطا لأحد الشريكين مكانا معينا خرجا عن موجب الشركة فان الشركة تقتضى الاشتراك فى النماء فاذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب ودخله الخطر ومعنى القمار كما ذكره رافع فى قوله ( فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ( فيفوز أحدهما ويخيب الآخر وهذا معني القمار وأخبر رافع ( أنه لم يكن لهم كراء على عهد النبى صلى الله عليه وسلم الا هذا ( وأنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من المخاطرة ومعنى القمار وأن النهي إنما انصرف إلى ذلك الكراء المعهود لا إلى ما تكون فيه الأجرة مضمونة فى الذمة وسأشير إن شاء الله إلى مثل ذلك فى نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ورافع أعلم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أى شيء وقع وهذا والله أعلم هو الذي انتهى عنه عبد الله بن عمر فانه قال لما حدثه رافع ( قد علمت انا كنا نكرى مزارعنا بما علي الأربعاء وبشيء من التبن ( فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين وكان بن عمر يفعله لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبى صلى الله عليه وسلم حتى بلغه النهي
يدل على ذلك أن بن عمر كان يروى حديث معاملة خيبر دائما ويفتى به ويفتى بالمزارعة على الأرض البيضاء وأهل بيته أيضا بعد حديث رافع فروي حرب الكرمانى قال حدثنا إسحاق بن ابراهيم
____________________
(29/108)
بن راهويه حدثنا معتمر بن سليمان سمعت كليب بن وائل قال أتيت بن عمر فقلت أتانى رجل له أرض وماء وليس له بذر ولا بقر فأخذتها بالنصف فبذرت فيها بذرى وعملت فيها ببقرى فناصفته قال حسن وقال حدثنا بن أخي حزم حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا سعيد بن عبيد سمعت سالم بن عبد الله وأتاه رجل فقال الرجل منا ينطلق إلى الرجل فيقول أجيء ببذرى وبقرى وأعمل أرضك فما أخرج منه فلك منه كذا ولي منه كذا قال لا بأس به ونحن نصنعه
وهكذا أخبر أقارب رافع ففي البخاري عن رافع قال حدثنى عمومتى أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهانا النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقيل لرافع فكيف بالدينار والدرهم فقال ليس به بأس بالدينار والدرهم وكان الذى نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزه لما فيه من المخاطرة وعن أسيد بن ظهير قال ( كان أحدنا اذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما سقى الربيع وكان العيش اذ ذاك شديدا وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء الله ويصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(29/109)
ينهاكم عن الحقل ويقول من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع ( رواه أحمد وبن ماجه وروى ابو داود قول النبى صلى الله عليه وسلم زاد أحمد ( وينهاكم عن المزابنة والمزابنة أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل فيأتيه الرجل فيقول أخذته بكذا وكذا وسقا من تمر والقصارة ما سقط من السنبل (
وهكذا أخبر سعد بن أبى وقاص وجابر فأخبر سعد ( أن أصحاب المزارع فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع وما سعد بالماء مما حول البئر فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصموا فى ذلك فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك وقال اكروا بالذهب والفضة ( رواه احمد وابو داود والنسائي فهذا صريح فى الاذن بالكراء بالذهب والفضة وأن النهي انما كان عن اشتراط زرع مكان معين وعن جابر رضي الله عنه قال ( كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصيب من القصرى ومن كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو فليدعها ( رواه مسلم
فهؤلاء أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التى نهى عنها والعلة التى نهي من أجلها واذا
____________________
(29/110)
كان قد جاء فى بعض طرق الحديث ( أنه نهى عن كراء المزارع ( مطلقا فالتعريف للكراء المعهود بينهم وإذا قال لهم النبى صلى الله عليه وسلم ( لا تكروا المزارع ( فانما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه وهم أعلم بمقصوده وكما جاء مفسرا عنه ( أنه رخص فى غير ذلك الكراء ( ومما يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة ونحوها واللفظ وان كان فى نفسه مطلقا فانه اذا كان خطابا لمعين فى مثل الجواب عن سؤال أو عقب حكاية حال ونحو ذلك فانه كثيرا ما يكون مقيدا بمثل حال المخاطب كما لو قال المريض للطبيب أن به حرارة فقال له لا تأكل الدسم فانه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال
وذلك أن اللفظ المطلق اذا كان له مسمى معهود أو حال يقتضيه انصرف إليه وإن كان نكرة كالمتبايعين اذا قال أحدهما بعتك بعشرة دراهم فانها مطلقة فى اللفظ ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم فاذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ ( الكراء ( إلا لذلك الذي كانوا يفعلونه ثم خوطبوا به لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه وكان ذلك من باب التخصيص العرفي كلفظ ( الدابة ( اذا كان معروفا بينهم أنه الفرس أو ذوات الحافر فقال لا تأتنى بدابة لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك ونهى النبى صلى الله عليه وسلم لهم كان مقيدا
____________________
(29/111)
بالعرف والسؤال وقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج وعن ظهير بن رافع قال ( دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعون بمحاقلكم قلت نؤاجرها بما على الربيع وعلى الأوسق من التمر والشعير قال لا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها (
فقد صرح بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه وأما المزارعة المحضة فلم يتناولها النهي ولا ذكرها رافع وغيره فيما يجوز من الكراء لأنها والله أعلم عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد فان الكراء اسم لما وجب فيه اجرة معلومة إما عين وإما دين فان كان دينا فى الذمة مضمونا فهو جائز وكذلك ان كان عينا من غير الزرع وأما إن كان عينا من الزرع لم يجز
فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق بل هو شركة محضة إذ ليس جعل العامل مكتريا للأرض بجزء من الزرع بأولى من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر وان كان من الناس من يسمى هذا كراء ايضا فانما هو كراء بالمعني العام الذي تقدم بيانه فأما الكراء الخاص الذى تكلم به رافع وغيره فلا ولهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز وبين النوع الآخر الذي نهوا عنه ولم يتعرض للشركة لأنها جنس آخر
____________________
(29/112)
بقي أن يقال فقول النبى صلى الله عليه وسلم ( من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليمسكها ( أمر اذا لم يفعل واحدا من الزرع والمنيحة أن يمسكها وذلك يقتضى المنع من المؤاجرة ومن المزارعة كما تقدم
فيقال الأمر بهذا أمر ندب واستحباب لا أمر ايجاب أو كان أمر ايجاب فى الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية قال فى الآنية التى كانوا يطبخونها فيها ( أهريقوا ما فيها واكسروها ( وقال صلى الله عليه وسلم فى آنية أهل الكتاب حين سأله عنها ابو ثعلبة الخشني ( ان وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وان لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء ( وذلك لأن النفوس اذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدا إلا بترك ما يقاربها من المباح كما قيل ( لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال ( كما أنها أحيانا لا تترك المعصية إلا بتدريج لا تتركها جملة
فهذا يقع تارة وهذا يقع تارة
ولهذا يوجد فى سنة النبى صلى الله عليه وسلم لمن خشي منه النفرة عن الطاعة الرخصة له فى أشياء يستغنى بها عن المحرم ولمن وثق بايمانه وصبره النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة فى فعل الأفضل ولهذا يستحب لمن وثق بايمانه
____________________
(29/113)
و صبره من فعل المستحبات البدنية والمالية كالخروج عن جميع ماله مثل ابى بكر الصديق ما لا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته ثم قال ( يذهب أحدكم فيخرج ماله ثم يجلس كلا على الناس (
يدل على ذلك ما قدمناه من رواية مسلم الصحيحة عن ثابت بن الضحاك ( أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها ( وما ذكرناه من رواية سعد بن ابى وقاص ( أنه نهاهم أن يكروا بزرع موضع معين وقال اكروا بالذهب والفضة ( وكذلك فهمته الصحابة فان رافع بن خديج قد روى ذلك وأخبر أنه لا بأس بكرائها بالذهب والفضة
وكذلك فقهاء الصحابة كزيد بن ثابت وبن عباس ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس ( لو تركت المخابرة فانهم يزعمون أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عنها قال أي عمرو إني أعطيهم وأعينهم وإن أعلمهم أخبرنى يعنى بن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ولكن قال إن يمنح احدكم أخاه خير له من ان يأخذ عليه خرجا معلوما ( وعن بن عباس أيضا ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة
____________________
(29/114)
و لكن أمر ان يرفق بعضهم ببعض ( رواه مسلم مجملا والترمذي وقال حديث حسن صحيح وقد أخبر طاوس عن بن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم إنما دعاهم إلى الأفضل وهو التبرع قال ( وأنا اعينهم وأعطيهم ( وأمر النبى صلى الله عليه وسلم بالرفق الذي منه واجب وهو ترك الربا والغرر ومنه مستحب كالعارية والقرض
ولهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الاحسان كان المسلم أحق به فقال ( لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما ( وقال ( من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو ليمسكها ( فكان الأخ هو الممنوح ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الاخوان عاملهم النبى صلى الله عليه وسلم ولم يمنحهم لا سيما والتبرع انما يكون عن فضل غنى فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر وكما كان الأنصار محتاجين في أول الاسلام إلى أرضهم حيث عاملوا عليها المهاجرين وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة كما نهاهم النبى صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحى لأجل الدافة التى دفت ليطعموا الجياع لأن إطعامهم واجب فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض وأصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة
____________________
(29/115)
ليجودوا بالتبرع ولم يأمرهم بالتبرع عينا كما نهاهم عن الادخار فان من نهى عن الانتفاع بماله جاد ببذله اذ لا يترك بطالا وقد ينهى النبى صلى الله عليه وسلم بل الأئمة عن بعض أنواع المباح فى بعض الأحوال لما في ذلك من منفعة المنهي كما نهاهم فى بعض المغازي وأما ما رواه جابر من نهيه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة فهذه هي المخابرة التى نهى عنها واللام لتعريف العهد ولم تكن المخابرة عندهم الا ذلك
يبين ذلك ما في الصحيح عن بن عمر قال ( كنا لا نري بالخبر بأسا حتى كان عام أول فزعم رافع أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عنه فتركناه من أجله ( فأخبر بن عمر أن رافعا روى النهي عن الخبر وقد تقدم معنى حديث رافع قال أبو عبيد الخبر بكسر الخاء بمعني المخابرة والمخابرة المزارعة بالنصف والثلث والربع وأقل وأكثر وكان أبو عبيد يقول لهذا سمي الأكار خبيرا لأنه يخابر على الأرض والمخابرة هي المؤاكرة
وقد قال بعضهم أصل هذا من خيبر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرها فى أيديهم على النصف فقيل خابرهم أي عاملهم فى خيبر وليس هذا بشيء فان معاملته بخيبر لم ينه عنها قط
____________________
(29/116)
بل فعلها الصحابة فى حياته وبعد موته وإنما روى حديث المخابرة رافع بن خديج وجابر وقد فسرا ما كانوا يفعلونه والخبير هو الفلاح سمي بذلك لأنه يخبر الأرض
وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة فقالوا ( المخابرة ( هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل و ( المزارعة ( على أن يكون البذر من المالك قالوا والنبى صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة لا المزارعة
وهذا ايضا ضعيف فانا قد ذكرنا عن النبى صلى الله عليه وسلم ما في الصحيح من أنه ( نهى عن المزارعة ( كما ( نهى عن المخابرة ( وكما ( نهى عن كراء الأرض ( وهذه الالفاظ فى أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه وانما اختصت بما يفعلونه لأجل التخصيص العرفى لفظا وفعلا ولأجل القرينة اللفظية وهي لام العهد وسؤال السائل وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة هي المزارعة والاشتقاق يدل على ذلك
فصل
والذين جوزوا المزارعة منهم من اشترط أن يكون البذر من المالك وقالوا هذه هي المزارعة فأما ان كان البذر من العامل لم
____________________
(29/117)
يجز وهذا إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وأصحاب مالك والشافعي حيث يجوزون المزارعة
وحجة هؤلاء قياسها على المضاربة وبذلك احتج احمد ايضا قال الكرماني قيل لابى عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل دفع أرضه إلى الأكار على الثلث أو الربع قال لا بأس بذلك إذا كان البذر من رب الأرض والبقر والحديد والعمل من الأكار يذهب فيه مذهب المضاربة
ووجه ذلك ان البذر هو أصل الزرع كما ان المال هو أصل الربح فلابد ان يكون البذر ممن له الأصل ليكون من أحدهما العمل ومن الآخر الأصل
والرواية الثانية عنه لا يشترط ذلك بل يجوز أن يكون البذر من العامل وقد نقل عنه جماهير أصحابه اكثر من عشرين نفسا أنه يجوز أن يكري أرضه بالثلث أو الربع كما عامل النبى صلى الله عليه وسلم أهل خيبر
فقالت طائفة من أصحابه كالقاضي أبى يعلى إذا دفع أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك فان كان على وجه الاجارة جاز وإن كان على وجه المزارعة لم يجز وجعلوا هذا التفريق تقريرا
____________________
(29/118)
لنصوصه لأنهم رأوا فى عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا فى جواز كراء الأرض بجزء من الخارج منها ورأوا أن هذا هو ظاهر مذهبه عندهم من أنه لا يجوز فى المزارعة أن يكون البذر من المالك كالمضاربة ففرقوا بين باب المزارعة والمضاربة وباب الاجارة
وقال آخرون منهم أبو الخطاب معنى قوله فى رواية الجماعة يجوز كراء الأرض ببعض الخارج منها أراد به المزارعة والعمل من الأكار قال أبو الخطاب ومتبعوه فعلى هذه الرواية إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج منها وان كان من صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل بما شرط له قال فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره وما يأخذه من الأجرة يأخذه بالشرط
وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكارى ببعض الخارج هو المزارعة على أن يبذر الأكار هو الصحيح ولا يحتمل الفقه إلا هذا أو ان يكون نصه على جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولى وجواز هذه المعاملة مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرا ونظرا وهو ظاهر نصوص أحمد المتواترة عنه واختيار طائفة من أصحابه
والقول الأول قول من اشترط أن يبذر رب الأرض وقول
____________________
(29/119)
من فرق بين أن يكون اجارة أو مزارعة هو في الضعف نظير من سوى بين الاجارة الخاصة والمزارعة أو أضعف
أما بيان نص احمد فهو أنه إنما جوز المؤاجرة ببعض الزرع استدلالا بقصة معاملة النبى صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر ومعاملته لهم انما كانت مزارعة لم تكن بلفظ الاجارة فمن الممتنع أن أحمد لا يجوز ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ اجارة ويمنع فعله باللفظ المشهور
وايضا فقد ثبت فى الصحيح ( أن النبى صلى الله عليه وسلم شارط أهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم ( كما تقدم ولم يدفع إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذرا فاذا كانت المعاملة التى فعلها النبى صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يبذرون فيها من أموالهم فكيف يحتج بها احمد على المزارعة ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الاجارة ثم يمنع الأصل الذي احتج به من المزارعة التى بذر فيها العامل والنبى صلى الله عليه وسلم قد قال لليهود ( نقركم فيها ما أقركم الله ( لم يشترط مدة معلومة حتى يقال كانت إجارة لازمة لكن احمد حيث قال فى إحدى الروايتين إنه يشترط كون البذر من المالك فانما قاله متابعة لمن أوجبه قياسا على المضاربة وإذا إفتى العالم بقول لحجة ولها معارض راجح لم يستحضر حينئذ ذلك المعارض
____________________
(29/120)
الراجح ثم لما أفتى بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلالا بمزارعة خيبر فلا بد أن يكون فى خيبر كان البذر عنده من العامل والا لم يصح الاستدلال فان فرضنا أن احمد فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج وبين المزارعة ببذر العامل كما فرق بينهما طائفة من أصحابه فمستند هذا الفرق ليس مأخذا شرعيا فان احمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات كما يراه طائفة من أصحابه الذين يجوزون هذه المعاملة بلفظ الاجارة ويمنعونها بلفظ المزارعة وكذلك يجوزون بيع ما في الذمة بيعا حالا بلفظ البيع ويمنعونه بلفظ السلم لأنه يصير سلما حالا ونصوص احمد وأصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه فى مسألة صيغ العقود فان الاعتبار فى جميع التصرفات القولية بالمعانى لا بما يحمل على الألفاظ كما تشهد به أجوبته فى الأيمان والنذور والوصايا وغير ذلك من التصرفات وان كان هو قد فرق بينهما كما فرق طائفة من اصحابه فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة كالرواية المانعة من الأمرين
وأما الدليل على جواز ذلك فالسنة والاجماع والقياس
أما السنة فما تقدم من معاملة النبى صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر على أن يعتملوها من أموالهم ولم يدفع اليهم بذرا وكما عامل الأنصار المهاجرين على أن البذر من عندهم قال حرب الكرمانى
____________________
(29/121)
حدثنا محمد بن نصر حدثنا حسان بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن يحيى بن إسماعيل بن حكيم أن عمر بن الخطاب أجلى أهل نجران وأهل فدك وأهل خيبر واستعمل يعلي بن منية فأعطي العنب والنخل على أن لعمر الثلثين ولهم الثلث وأعطى البياض يعني بياض الأرض على ان كان البذر والبقر والحديد من عند عمر فلعمر الثلثان ولهم الثلث وان كان منهم فلعمر الشطر ولهم الشطر فهذا عمر رضي الله عنه ويعلى بن منية عامله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عمل فى خلافته بتجويز كلا الأمرين ان يكون البذر من رب الارض وأن يكون من العامل وقال حرب حدثنا ابو معن حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن الحارث بن حصيرة الأزدى عن صخر بن الوليد عن عمرو بن صليع بن محارب قال جاء رجل إلى علي بن أبى طالب فقال ان فلانا أخذ ارضا فعمل فيها وفعل فدعاه فقال ما هذه الأرض التى أخذت فقال أرض أخذتها أكرى أنهارها وأعمرها وازرعها فما أخرج الله من شيء فلي النصف وله النصف فقال لا بأس بهذا فظاهره أن البذر من عنده ولم ينهه علي عن ذلك ويكفى إطلاق سؤاله وإطلاق علي الجواب
وأما القياس فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة ليست
____________________
(29/122)
من الاجارة الخاصة وان جعلت إجارة فهي من الاجارة العامة التى تدخل فيها الجعالة والسبق والرمي وعلى التقديرين فيجوز أن يكون البذر منهما وذلك أن البذر فى المزارعة ليس من الأصول التى ترجع إلى ربها كالثمن فى المضاربة بل البذر يتلف كما تتلف المنافع وإنما ترجع الأرض أو بدن البقرة والعامل فلو كان البذر مثل رأس المال لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه ثم يقتسمان الفضل وليس الأمر كذلك بل يشتركان فى جميع الزرع
فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها وهوائها وبدن العامل والبقر واكثر الحرث والبذر يذهب كما تذهب المنافع وكما تذهب أجزاء من الماء والهواء والتراب فيستحيل زرعا والله سبحانه يخلق الزرع من نفس الحب والتراب والماء والهواء كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب والحب يستحيل فلا يبقي بل يفلقه الله ويحيله كما يحيل أجزاء الماء والهواء وكما يحيل المني وسائر مخلوقاته من الحيوان والمعدن والنبات
ولما وقع ما وقع من رأى كثير من الفقهاء اعتقدوا أن الحب والنوى فى الزرع والشجر هو الأصل والباقى تبع حتى قضوا فى مواضع بأن يكون الزرع والشجر لرب النوي والحب مع قلة قيمته ولرب
____________________
(29/123)
الأرض أجرة أرضه والنبى صلى الله عليه وسلم إنما قضى بضد هذا حيث قال ( من زرع فى أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته ( فأخذ أحمد وغيره من فقهاء الحديث بهذا الحديث وبعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس وأنه من صور الاستحسان وهذا لما انعقد فى نفسه من القياس المتقدم وهو أن الزرع تبع للبذر والشجر تبع للنوي وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة فان إلقاء الحب فى الأرض بمنزلة إلقاء المنى فى الرحم سواء ولهذا سمى الله النساء حرثا فى قوله تعالى { نساؤكم حرث لكم } كما سمى الأرض المزروعة حرثا والمغلب فى ملك الحيوان إنما هو جانب الأم ولهذا تبع الولد الآدمى أمه فى الحرية والرق دون أبيه ويكون جنين البهيمة لمالك الأم دون مالك الفحل الذي نهي عن عسبه وذلك لأن الأجزاء التى استمدها من الأم أضعاف الأجزاء التى استمدها من الأب وإنما للأب حق الابتداء فقط ولا ريب أنه مخلوق منهما جميعا وكذلك الحب والنوى فان الأجزاء التى خلق منها الشجر والزرع أكثرها من التراب والماء والهواء وقد يؤثر ذلك فى الأرض فتضعف بالزرع فيها لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما فان الله سبحانه لا يزال يمد الأرض بالماء والهواء وبالتراب إما مستحيلا من غيره وإما بالموجود ولا يؤثر فى الأرض نقص الأجزاء الترابية شيئا إما للخلف بالاستحالة وإما للكثرة
____________________
(29/124)
و لهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض فى معنى المنافع بخلاف الحب والنوي الملقي فيها فانه عين ذاهبة غير مستخلفة ولا يعوض عنها لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الاصل فقط فان العامل هو وبقره لابد له مدة العمل من قوت وعلف يذهب أيضا ورب الارض لا يحتاج إلى مثل ذلك ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع فى القراض ولو جرى عندهم مجرى الأصول لرجع
فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء أصول باقية وهي الأرض وبدن العامل والبقر والحديد ومنافع فانية وأجزاء فانية أيضا وهي البذر وبعض أجزاء الأرض وبعض أجزاء العامل وبقره فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء فتكون الخيرة اليهما فيمن يبذل هذه الأجزاء ويشتركان على أي وجه شاءا ما لم يفض إلى بعض ما نهي عنه النبى صلى الله عليه وسلم من أنواع الغرر او الربا وأكل المال بالباطل ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما
فصل
وهذا الذي ذكرناه من الاشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه
____________________
(29/125)
ذلك يجمع اليسر فى هذه الأبواب فانك تجد كثيرا ممن تكلم فى هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة أو بضرب من القياس المعنوي أو الشبهى فرضي الله عن أحمد حيث يقول ينبغي للمكتلم فى الفقه أن يجتنب هذين الأصلين المجمل والقياس وقال أيضا أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس ثم هذا التمسك يفضي إلى ما لا يمكن اتباعه ألبتة
ومن هذا الباب بيع الديون دين السلم وغيره وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك ولولا أن الغرض ذكر قواعد كلية تجمع أبوابا لذكرنا أنواعا من هذا
فصل
القاعدة الثالثة فى العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا
والذي يمكن ضبطه فيها قولان
أحدهما أن يقال الأصل فى العقود والشروط فيها ونحو ذلك الحظر إلا ما ورد الشرع باجازته فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبى حنيفة تنبنى على هذا وكثير من أصول الشافعي وأصول
____________________
(29/126)
طائفة من أصحاب مالك وأحمد فان أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس كما قاله فى إحدى الروايتين فى وقف الانسان على نفسه وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهو باطل أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقدا ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله وطردوا ذلك طردا جاريا لكن خرجوا فى كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم
وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه لا يصحح فى العقود شروطا يخالف مقتضاها فى المطلق وإنما يصحح الشرط فى المعقود عليه اذا كان العقد مما يمكن فسخه ولهذا أبطل ان يشترط فى البيع خيار ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال ولهذا منع بيع العين المؤجرة وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته وانما جوز الاجارة المؤخرة لأن الاجارة عنده لا توجب الملك الا عند وجود المنفعة أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به أو أن يشترط المشتري بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التى يبطلها غيره ولم يصحح فى النكاح شرطا أصلا لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو اعسار أو نحوهما ولا يبطل بالشروط
____________________
(29/127)
الفاسدة مطلقا وانما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر وهو عنده موضع استحسان
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل لكنه يستثنى مواضع للدليل الخاص فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع حتى منع الاجارة المؤخرة لأن موجبها وهو القبض لا يلي العقد ولا يجوز ايضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق الا العتق لما فيه من السنة والمعنى لكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع كبيع العين المؤجرة على الصحيح فى مذهبه وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك ويجوز فى النكاح بعض الشروط دون بعض ولا يجوز اشتراطها دارها او بلدها ولا أن يتزوج عليها ولا يتسرى ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والاعسار وانفساخه بالشروط التى تنافيه كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار بخلاف فساد المهر ونحوه
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي كالخيار أكثر من ثلاث وكاستثناء البائع منفعة المبيع واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها
____________________
(29/128)
و لا يزاحمها بغيرها ونحو ذلك من المصالح فيقولون كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل الا اذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين
وذلك أن نصوص أحمد تقتضى أنه جوز من الشروط فى العقود أكثر مما جوزه الشافعي فقد يوافقونه فى الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة فى الأصل ويستثنى أكثر مما يستثنى للمعارض
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر ويتوسعون فى الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس والمعانى وآثار الصحابة ولما يفهمونه من معانى النصوص التى ينفردون بها عن أهل الظاهر
وعمدة هؤلاء قصة بريرة المشهورة وهو ما خرجاه فى الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت ( جاءتنى بريرة فقالت كاتبت أهلى على تسع أواق فى كل عام أوقية فأعينيني فقلت أن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت إنى قد عرضت ذلك عليهم فأبوا الا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبى صلى الله عليه وسلم فقال خذيها واشترطي لهم الولاء فانما الولاء لمن أعتق
____________________
(29/129)
ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله ما كان من شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق (
وفى رواية للبخاري ( اشتريها فأعتقيها وليشترطوا ما شاؤوا فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها فقال النبى صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق وان اشترطوا مائة شرط ( وفى لفظ ( شرط الله أحق وأوثق ( وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر ( أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها نبيعكها على أن ولاءها لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا يمنعك ذلك فانما الولاء لمن أعتق ( وفي مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال ( أرادت عائشة أن تشترى جارية فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا يمنعك ذلك فانما الولاء لمن اعتق (
ولهم من هذا الحديث حجتان
إحداهما قوله ( ما كان من شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل ( فكل شرط ليس فى القرآن ولا في الحديث ولا فى
____________________
(29/130)
الاجماع فليس فى كتاب الله بخلاف ما كان فى السنة أو فى الاجماع فانه فى كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والاجماع
ومن قال بالقياس وهو الجمهور قالوا إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة أو بالاجماع المدلول عليه بكتاب الله فهو في كتاب الله
والحجة الثانية أنهم يقيسون جميع الشروط التى تنافى موجب العقد على اشتراط الولاء لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادات وهذا نكتة القاعدة وهي أن العقود مشروعة على وجه فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي فى أحد القولين لا يجوزون أن يشترط فى العبادات شرطا يخالف مقتضاها فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الاحلال بالعذر متابعة لعبدالله بن عمر حيث كان ينكر الاشتراط فى الحج ويقول أليس حسبكم سنة نبيكم وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } وقوله { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون }
قالوا فالشروط والعقود التى لم تشرع تعد لحدود الله وزيادة
____________________
(29/131)
فى الدين
وما أبطله هؤلاء من الشروط التى دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا ذلك منسوخ كما قاله بعضهم فى شروط النبى صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية أو قالوا هذا عام أو مطلق فيخص بالشرط الذي فى كتاب الله
واحتجوا أيضا بحديث يروى فى حكاية عن أبى حنيفة وبن ابي ليلي وشريك ( أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط ( وقد ذكره جماعة من المصنفين فى الفقه ولا يوجد فى شيء من دواوين الحديث وقد انكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنه لا يعرف وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه وأجمع الفقهاء المعروفون من غير خلاف أعلمه من غيرهم أن اشتراط صفة فى المبيع ونحوه كاشتراط كون العبد كاتبا او صانعا أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح
القول الثانى أن الأصل فى العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وابطاله نصا أو قياسا عند من يقول به وأصول أحمد المنصوصة عنه اكثرها يجرى على هذا القول ومالك قريب منه لكن احمد أكثر تصحيحا
____________________
(29/132)
للشروط فليس فى الفقهاء الأربعة اكثر تصحيحا للشروط منه
وعامة ما يصححه احمد من العقود والشروط فيها يثبته بدليل خاص من أثر او قياس لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص وكان قد بلغه فى العقود والشروط من الآثار عن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لا تجده عند غيره من الأئمة فقال بذلك وبما فى معناه قياسا عليه وما اعتمده غيره فى ابطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التى سنذكرها فى تصحيح الشروط كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقا فمالك يجوزه بقدر الحاجة واحمد فى احدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار فى النكاح أيضا ويجوزه بن حامد وغيره فى الضمان ونحوه ويجوز احمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه فى جميع العقود واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الاطلاق فاذا كان لها مقتضى عند الاطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والنقص منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع كما سأذكره ان شاء الله
فيجوز للبائع أن يستثنى بعض منفعة المبيع كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك
____________________
(29/133)
الغير اتباعا لحديث جابر لما باع النبى صلى الله عليه وسلم جمله واستثنى ظهره إلى المدينة ويجوز ايضا للمعتق أن يستثنى خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة واشترطت عليه خدمة النبى صلى الله عليه وسلم ما عاش
ويجوز على عامة أقواله أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها كما في حديث صفية وكما فعله أنس بن مالك وغيره وان لم ترض المرأة كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع لكنه استثناها بالنكاح إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز بخلاف منفعة الخدمة
ويجوز أيضا للواقف إذا وقف شيئا ان يستثنى منفعته وغلته جميعها لنفسه لمدة حياته كما روى عن الصحابة انهم فعلوا ذلك وروى فيه حديث مرسل عن النبى صلى الله عليه وسلم وهل يجوز وقف الانسان على نفسه فيه عنه روايتان
ويجوز أيضا على قياس قوله استثناء بعض المنفعة فى العين الموهوبة والصداق وفدية الخلع والصلح على القصاص ونحو ذلك من أنواع اخراج الملك سواء كان باسقاط كالعتق أو بتمليك بعوض كالبيع أو بغير عوض كالهبة
____________________
(29/134)
ويجوز احمد ايضا فى النكاح عامة الشروط التى للمشترط فيها غرض صحيح لما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ان أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ( ومن قال بهذا الحديث قال إنه يقتضي أن الشروط فى النكاح أوكد منها فى البيع والاجارة وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط فى البيع دون النكاح فيجوز احمد أن تستثنى المرأة ما يملكه الزوج بالاطلاق فتشترط أن لا تسافر معه ولا تنتقل من دارها وتزيد على ما يملكه بالاطلاق فتشترط أن تكون مخلية به فلا يتزوج عليها ولا يتسرى
ويجوز على الرواية المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه أن يشترط كل واحد من الزوجين فى الآخر صفة مقصودة كاليسار والجمال ونحو ذلك ويملك الفسخ بفواته وهو من اشد الناس قولا بفسخ النكاح وانفساخه فيجوز فسخه بالعيب كما لو تزوج عليها وقد شرطت عليه أن لا يتزوج عليها وبالتدليس كما لو ظنها حرة فظهرت أمة وبالخلف فى الصفة على الصحيح كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت واشتراط الطلاق وهل يبطل بفساد المهر كالخمر والميتة ونحو ذلك فيه عنه روايتان إحداهما نعم كنكاح الشغار
____________________
(29/135)
وهو رواية عن مالك والثانية لاينفسخ لأنه تابع وهو عقد مفرد كقول أبي حنيفة والشافعي
وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلا او تركا فى المبيع مما هو مقصود للبائع او للمبيع نفسه وان كان اكثر متأخرى أصحابه لايجوزون من ذلك إلا العتق وقد يروى ذلك عنه لكن الأول اكثر فى كلامه ففي جامع الخلال عن أبى طالب سألت احمد عن رجل اشترى جارية فشرط ان يتسرى بها تكون جارية نفيسة يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال لا بأس به وقال مهنا سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى من رجل جارية فقال له إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذى تأخذها به مني قال لا بأس به ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط لأن بن مسعود قال لرجل لاتقربنها ولأحد فيها شرط وقال حنبل حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن بن مسعود اشترى جارية من امرأته وشرط لها ان باعها فهي لها بالثمن الذى اشتراها به فسأل بن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب فقال لاتنكحها وفيها شرط وقال حنبل قال عمي كل شرط فى فرج فهو على هذا والشرط الواحد فى البيع جائز إلا ان عمر كره لابن مسعود
____________________
(29/136)
أن يطأها لأنه شرط لامرأته الذي شرط فكره عمر ان يطأها وفيها شرط وقال الكرمانى سألت أحمد عن رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لايبيعها ولا يهبها فكأنه رخص فيه ولكنهم ان اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن فلا يقربها يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب حين قال لعبد الله بن مسعود
فقد نص فى غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول كالمقايلة واكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا الشرط وربما تأولوا قوله ( جائز ( أي العقد جائز وبقية نصوصه تصرح بأن مراده ( الشرط ( أيضا واتبع فى ذلك القصة المأثورة عن عمر وبن مسعود وزينب امرأة عبد الله ثلاثة من الصحابة وكذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه ولايهبه أو يتسراها ونحو ذلك مما فيه تعيين لمصرف واحد كما روى عمر بن شبة فى أخبار عثمان انه اشترى من صهيب دارا وشرط ان يقفها على صهيب وذريته من بعده
وجماع ذلك أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة فكما جاز بالاجماع استثناء بعض المبيع وجوز احمد وغيره استثناء بعض منافعه جوز ايضا استثناء بعض التصرفات
وعلى هذا فمن قال هذاالشرط ينافى مقتضى العقد قيل له
____________________
(29/137)
أينافى مقتضى العقد المطلق او مقتضى العقد مطلقا فان أراد الأول فكل شرط كذلك وان أراد الثانى لم يسلم له وإنما المحذور ان ينافي مقصود العقد كاشتراط الطلاق فى النكاح او اشتراط الفسخ فى العقد فأما اذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والاجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي أما الكتاب فقال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } والعقود هي العهود وقال تعالى { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } وقال تعالى { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } وقال تعالى { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا } فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود وهذا عام وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد وقد دخل فى ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } فدل على ان عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وان لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع إنما أمر بالوفاء به ولهذا قرنه بالصدق فى قوله { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } لأن العدل فى القول خبر يتعلق بالماضى والحاضر والوفاء بالعهد يكون فى القول المتعلق بالمستقبل كما
____________________
(29/138)
قال تعالى { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } وقال سبحانه { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } قال المفسرون كالضحاك وغيره تساءلون به تتعاهدون وتتعاقدون وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل او ترك او مال او نفع ونحو ذلك وجمع سبحانه فى هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التى بين بنى آدم المخلوقة كالرحم والمكسوبة كالعقود التى يدخل فيها الصهر وولاية مال اليتيم ونحو ذلك
وقال سبحانه { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم } والأيمان جمع يمين وكل عقد فانه يمين قيل سمى بذلك لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين يدل على ذلك قوله { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة }
____________________
(29/139)
والال هو القرابة والذمة العهد وهما المذكوران فى قوله { تساءلون به والأرحام } إلى قوله { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } فذمهم الله على قطيعة الرحم ونقض الذمة إلى قوله { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم } وهذه نزلت فى كفار مكة لما صالحهم النبى صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ثم نقضوا العهد باعانة بني بكر على خزاعة
وأما قوله سبحانه { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } فتلك عهود جائزة لا لازمة فانها كانت مطلقة وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها كالوكالة ونحوها
ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم أن الهدنة لا تصح الا مؤقتة فقوله مع أنه مخالف لأصول أحمد يرده القرآن وترده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أكثر المعاهدين فانه لم
____________________
(29/140)
يوقت معهم وقتا
فأما من كان عهده موقتا فلم يبح له نقضه بدليل قوله { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } وقال { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } وقال { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } فانما أباح النبذ عند ظهور أمارات الخيانة لأن المحذور من جهتهم وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } الآية وجاء أيضا فى صحيح مسلم عن أبى موسى الأشعرى ان فى القرآن الذي نسخت تلاوته سورة كانت كبراءة يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة فى أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة وقال تعالى { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } فى سورتى المؤمنون والمعارج وهذا من صفة المستثنين من الهلع المذموم بقوله { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون }
____________________
(29/141)
وهذا يقتضى وجوب ذلك لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك ولهذا لم يذكر فيها إلا ما هو واجب وكذلك فى سورة المؤمنين قال فى أولها { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوارثين لأن ظاهر الآية الحصر فان إدخال الفصل بين المبتدأ والخبر يشعر بالحصر ومن لم يكن من وارثى الجنة كان معرضا للعقوبة الا ان يعفو الله عنه وإذا كانت رعاية العهد واجبة فرعايته هي الوفاء به
ولما جمع الله بين العهد والأمانة جعل النبى صلى الله عليه وسلم ضد ذلك صفة المنافق فى قوله ( إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ( وعنه ( على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب ( وما زالوا يوصون بصدق الحديث وأداء الامانة وهذا عام وقال تعالى { وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } فذمهم على نقض عهد الله وقطع ما أمر الله بصلته لأن الواجب إما بالشرع وإما بالشرط الذي عقده المرء باختياره وقال أيضا { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار }
____________________
(29/142)
وقال { أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون } وقال { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا أولئك هم المتقون } وقال تعالى { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } وقال { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } وقال
____________________
(29/143)
تعالى { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون }
والأحاديث فى هذا كثيرة مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ( وفى الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ( وفى صحيح مسلم عن أبى سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( لكل غادر لواء عند أسته يوم القيامة ( وفى رواية ( لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة ( وفى صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش او سرية اوصاه في خاصته بتقوى الله وفيمن معه من المسلمين خيرا ( ثم قال ( اغزوا باسم الله فى سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم الحديث
____________________
(29/144)
فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول
وفي الصحيحين عن بن عباس عن أبى سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبى صلى الله عليه وسلم ( هل يغدر فقال لا يغدر ونحن معه فى مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة وقال هرقل فى جوابه سألتك هل يغدر فذكرت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر ( فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين
وفى الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ( فدل على استحقاق الشروط بالوفاء وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها
وروى البخارى عن ابى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بى ثم غدر ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره ( فذم الغادر وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق
____________________
(29/145)
و العقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك
ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد الا ما أباحه الشرع لم يجز ان يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا كما ان قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز ان يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح بخلاف ما كان جنسه واجبا كالصلاة والزكاة فانه يؤمر به مطلقا وان كان لذلك شروط وموانع فينهى عن الصلاة بغير طهارة وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك وكذلك الصدق فى الحديث مأمور به وان كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويجب السكوت أو التعريض
واذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم ان الأصل صحة العقود والشروط اذ لا معني للتصحيح الا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده ومقصود العقد هو الوفاء به فاذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة والاباحة
وقد روي ابو داود والدارقطنى من حديث سليمان بن بلال حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة قال
____________________
(29/146)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا والمسلمون على شروطهم ( وكثير بن زيد قال يحيى بن معين فى رواية هو ثقة وضعفه فى رواية أخرى
وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما والمسلمون على شروطهم الا شرطا حرم حلالا او أحل حراما ( قال الترمذى حديث حسن صحيح وروى بن ماجه منه اللفظ الأول لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة وضرب أحمد على حديثه فى المسند فلم يحدث به فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه وقد روى ابو بكر البزار ايضا عن محمد بن عبد الرحمن بن السلمانى عن أبيه عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الناس على شروطهم ما وافقت الحق ( وهذه الأسانيد وان كان الواحد منها ضعيفا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة وهو حقيقة المذهب فان المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما
____________________
(29/147)
أباحه الله فان شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله وكذلك ليس له ان يسقط ما أوجبه الله وانما المشترط له ان يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما وعدم الايجاب ليس نفيا للايجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا فان المتبايعين يجب لكل منهما على الأخر من الاقباض ما لم يكن واجبا ويباح ايضا لكل منهما ما لم يكن مباحا ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين وكذلك اذا اشترط صفة فى المبيع أو رهنا أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها فانه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك
وهذا المعني هو الذي أوهم من اعتقد ان الأصل فساد الشروط قال لأنها إما ان تبيح حراما او تحرم حلالا او توجب ساقطا أو تسقط واجبا وذلك لا يجوز إلا باذن الشارع وقد وردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض وليس كذلك بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه كالربا وكالوطء فى ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق فان الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين فلو اراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك بخلاف إعارتها للخدمة فانه جائز وكذلك الولاء
____________________
(29/148)
فقد ( نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته ( وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد وقال صلى الله عليه وسلم من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ( وأبطل الله ما كانوا عليه فى الجاهلية من تبنى الرجل بن غيره أو انتساب المعتق إلى غير مولاه فهذا امر لا يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما
وأما ما كان مباحا بدون الشرط فالشرط يوجبه كالزيادة فى المهر والثمن والمثمن والرهن وتأخير الاستيفاء فان الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن وبالانظار ونحو ذلك فاذا شرطه صار واجبا واذا وجب فقد حرمت المطالبة التى كانت حلالا بدونه لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط فان الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره
وأما ما أباحه الله فى حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا فاذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله وكذلك ما حرمه الله فى حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله وان كان بدون الشرط يستصحب حكم الاباحة
____________________
(29/149)
و التحريم لكن فرق بين ثبوت الاباحة والتحريم بالخطاب وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك كما قال عمر رضي الله عنه مقاطع الحقوق عند الشروط
وأما الاعتبار فمن وجوه
أحدها ان العقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم كما ان الأعيان الأصل فيها عدم التحريم وقوله تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } عام فى الأعيان والأفعال وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة
وايضا فليس فى الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة وان انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلى وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا كالاعيان التى لم تحرم
____________________
(29/150)
و غالب ما يستدل به على ان الأصل فى الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله فانه يستدل ايضا به على عدم تحريم العقود والشروط فيها سواء سمي ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم فان ما ذكره الله تعالى فى القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع منه ما سببه تحريم الأعيان ومنه ما سببه تحريم الأفعال كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسيا ويأمرونه بالتعري إلا أن يعيره أحمسي ثوبه ويحرمون عليه الدخول تحت سقف كما كان الانصار يحرمون إتيان الرجل امرأته فى فرجها إذا كانت مجبية ويحرمون الطواف بالصفا والمروة وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التى عقدوها بلا شرع فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم
فعلم ان العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة وإن لم يثبت حلها بشرع خاص كالعهود التى عقدوها فى الجاهلية وأمروا بالوفاء بها وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه الله فاذا حرمنا العقود والشروط التى تجري بين الناس فى معاملاتهم العادية بغير دليل
____________________
(29/151)
شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله بخلاف العقود التى تتضمن شرع دين لم يأذن به الله فان الله قد حرم ان يشرع من الدين ما لم يأذن به فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله والعقود فى المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التى يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة
فان قيل العقود تغير ما كان مشروعا لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال فقد غير ما كان مشروعا بخلاف الأعيان التى لم تحرم فانه لا تغير فى إباحتها
فيقال لا فرق بينهما وذلك ان الأعيان إما ان تكون ملكا لشخص أو لا تكون فان كانت ملكا فانتقالها بالبيع أو غيره لا يغيرها وهو من باب العقود وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه هو فعل من الأفعال مغير لحكمها بمنزلة العقود
وايضا فانها قبل الذكاة محرمة فالذكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال فكما أن أفعالنا فى الأعيان من الأخذ والذكاة الأصل فيها الحل وان غير حكم العين فكذلك أفعالنا فى الأملاك بالعقود
____________________
(29/152)
و نحوها الأصل فيها الحل وان غيرت حكم الملك له
وسبب ذلك ان الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح نحن احدثنا أسباب تلك الأحكام والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا لم يثبته ابتداء كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة فاذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا رفعه فمن اشتري عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره لاثباته سبب ذلك وهو الملك الثابت بالبيع وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب ما لم يحرمه الشارع عليه كمن أعطى رجلا مالا فالأصل ان لا يحرم عليه التصرف فيه وان كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطي ما لم يمنع منه مانع
وهذه نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها وهو أن الأحكام الجزئية من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا وإنما شرعها شرعا كليا مثل قوله { وأحل الله البيع وحرم الربا } وقوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } وقوله { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } وهذا الحكم الكلي ثابت سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد فاذا وجد بيع معين أثبت ملكا معينا فهذا المعين سببه
____________________
(29/153)
فعل العبد فاذا رفعه العبد فانما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله من الحكم الكلي إذ ما أثبته الله من الحكم الجزئى إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط لا أن الشارع أثبته ابتداء
وانما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام وليس كذلك فان الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته وهو الشارع وأما هذا المعين فانما ثبت لأن العبد أدخله فى المطلق فادخاله فى المطلق إليه فكذلك إخراجه إذ الشارع لم يحكم عليه فى المعين بحكم أبدا مثل أن يقول هذا الثوب بعه أو لا تبعه أو هبه او لا تهبه وإنما حكم على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين
فتدبر هذا وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بادخاله فى المطلق وبين تغيير الحكم العام الذى أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد وإذا ظهر ان العقود لا يحرم منها الا ما حرمه الشارع فانما وجب الوفاء بها لايجاب الشارع الوفاء بها مطلقا إلا ما خصه الدليل على أن الوفاء بها من الواجبات التى اتفقت عليها الملل بل والعقلاء جميعهم وقد أدخلها فى الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع والوفاء بها وجب لايجاب الشارع إذا ولايجاب العقل ايضا
____________________
(29/154)
وايضا فان الأصل فى العقود رضى المتعاقدين وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد لأن الله قال فى كتابه العزيز { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه فدل على أنه سبب له وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على ان ذلك الوصف سبب لذلك الحكم وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات قياسا عليه بالعلة المنصوصة التى دل عليها القرآن وكذلك قوله { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } لم يشترط فى التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة واذا كان كذلك فاذا تراضى المتعاقدان بتجارة او طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن إلا ان يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة فى الخمر ونحو ذلك
وايضا فان العقد له حالان حال اطلاق وحال تقييد ففرق بين العقد المطلق وبين المعني المطلق من العقود فاذا قيل هذا شرط ينافى مقتضى العقد فان أريد به ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضره وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك وانما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد
____________________
(29/155)
فان العقد إذا كان له مقصود يراد فى جميع صوره وشرط فيه ما ينافى ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه فلا يحصل شيء ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق بل هو مبطل للعقد عندنا
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق فان هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده فان مقصوده الملك والعتق قد يكون مقصودا للعقد فان اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا فثبوت الولاء لا ينافى مقصود العقد وانما ينافى كتاب الله وشرطه كما بينه النبى صلى الله عليه وسلم بقوله ( كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ( فاذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما فلم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه بل الواجب حله لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه فان الاقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ولم يثبت تحريمه فيباح لما فى الكتاب والسنة مما يرفع الحرج
وايضا فان العقود والشروط لا تخلو إما ان يقال لا تحل ولا تصح إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص من نص او اجماع او
____________________
(29/156)
قياس عند الجمهور كما ذكرناه من القول الأول أو يقال لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعي وإن كان عاما أو يقال تصح ولا تحرم إلا ان يحرمها الشارع بدليل خاص او عام
والقول الأول باطل لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التى وقعت فى حال الكفر وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الاسلام شيء محرم فقال سبحانه فى آية الربا { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } فأمرهم بترك ما بقى لهم من الربا فى الذمم ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا بل مفهوم الآية الذي اتفق العمل عليه يوجب أنه غير منهي عنه وكذلك النبى صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي فى الذمم ولم يأمرهم برد المقبوض وقال صلى الله عليه وسلم أيما قسم قسم فى الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الاسلام فهو على قسم الاسلام ( وأقر الناس على أنكحتهم التى عقدوها فى الجاهلية ولم يستفصل أحدا هل عقد به فى عدة أو غير عدة بولي أو بغير ولي بشهود أو بغير شهود ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته إلا ان يكون السبب المحرم موجودا حين الاسلام كما أمر غيلان بن سلمة الثقفى الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن وكما أمر فيروز الديلمى
____________________
(29/157)
الذي أسلم وتحته أختان ( ان يختار إحداهما ويفارق الأخرى ( وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس ( ان يفارقوا ذوات المحارم ( ولهذا اتفق المسلمون على ان العقود التى عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الاسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين وإن كان الكفار لم يعقدوها باذن الشارع ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها او بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع
فإن قيل فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم فى الاسلام ثم أسلموا بعد زواله مضت ولم يؤمروا باستئنافها لأن الاسلام يجب ما قبله فليس ما عقدوه بغير شرع بدون ما عقدوه مع تحريم الشرع وكلاهما عندكم سواء
قلنا ليس كذلك بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به القبض وأما إذا أسلموا قبل التقابض فانه يفسخ بخلاف ما عقدوه بغير شرع فانه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا فى النكاح القبض بل سووا بين الاسلام قبل الدخول وبعده لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها كما ان نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا فى نفسه وان لم يقترن بالآخر أقرهم
____________________
(29/158)
الشارع على ذلك بخلاف الأموال فان المقصود بعقودها هو التقابض فاذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم لأنه لا يصححه إلا بتحليل
وأيضا فان المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها فان الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصححونها اذا لم يعتقدوا تحريمها وان كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد ولا يقول أحد لا يصح العقد الا الذي يعتقد ان الشارع أحله فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا فى صحة العقود لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد فانه آثم وان كان قد صادف الحق
وأما إن قيل لابد من دليل شرعي يدل على حلها سواء كان عاما أو خاصا فعنه جوابان
أحدهما المنع كما تقدم والثانى ان نقول قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة إلا ما استثناه الشارع وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله فلم يبق إلا
____________________
(29/159)
القول الثالث وهو المقصود
وأما قوله صلى الله عليه وسلم ( من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ( فالشرط يراد به المصدر تارة والمفعول أخرى وكذلك الوعد والخلف ومنه قولهم درهم ضرب الأمير والمراد به هنا والله أعلم المشروط لا نفس المتكلم ولهذا قال ( وإن كان مائة شرط ( أي وإن كان مائة مشروط وليس المراد تعديد التكلم بالشرط وانما المراد تعديد المشروط والدليل على ذلك قوله ( كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ( أي كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى
وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله فلم يخالف كتاب الله وشرطه حتى يقال ( كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ( فيكون المعني من اشترط أمرا ليس فى حكم الله أو فى كتابه بواسطة أو بغير واسطة فهو باطل لأنه لابد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط ولما لم يكن فى كتاب الله ان الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط وهو ثبوت الولاء لغير المعتق شرطا ليس فى كتاب الله
____________________
(29/160)
فانظر إلى المشروط ان كان فعلا او حكما فان كان الله قد أباحه جاز اشتراطه ووجب وان كان الله تعالى لم يبحه لم يجز اشتراطه فاذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط فى كتاب الله لأن كتاب الله يبيح ان لا يسافر بها فاذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا فى كتاب الله
فمضمون الحديث ان المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة او يقال ليس فى كتاب الله أي ليس فى كتاب الله نفيه كما قال ( سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم ( أي بما تعرفون خلافه وإلا فما لا يعرف كثير
ثم نقول لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم العقود والشروط التى لم يبحها الشارع تكون باطلة بمعنى أنه لا يلزم بها شيء لا إيجاب ولا تحريم فان هذا خلاف الكتاب والسنة بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها احكام فان الله قد حرم عقد الظهار فى نفس كتابه وسماه ( منكرا من القول وزورا ( ثم أنه أوجب به على من عاد الكفارة ومن لم يعد جعل فى حقه مقصود التحريم من ترك الوطء وترك العقد وكذا النذر فان النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر كما ثبت ذلك عنه من حديث ابى هريرة وبن عمر وقال ( انه لا يأتى بخير ( ثم أوجب الوفاء به إذا كان طاعة فى
____________________
(29/161)
قوله صلى الله عليه وسلم ( من نذر ان يطيع الله فليطعه ومن نذر ان يعصي الله فلا يعصه (
فالعقد المحرم قد يكون سببا لايجاب أو تحريم نعم لا يكون سببا لاباحة كما أنه لما نهى عن بيع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم ونحو ذلك لم يستفد المنهي بفعله لما نهى عنه الاستباحة لأن المنهى عنه معصية والأصل فى المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته والاباحة من نعمة الله ورحمته وان كانت قد تكون سببا للاملاء ولفتح أبواب الدنيا لكن ذلك قدر ليس بشرع بل قد يكون سببا لعقوبة الله تعالى والايجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قال تعالى ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ( وإن كان قد يكون رحمة ايضا كما جاءت شريعتنا الحنيفية
والمخالفون فى هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام وكل عقد حرام فوجوده كعدمه وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم
وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية إن كان النبى صلى الله عليه وسلم أراد أن الشروط التى لم يبحها الله وإن كان لا يحرمها
____________________
(29/162)
باطلة فنقول
قد ذكرنا ما فى الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما وان المقصود هو وجوب الوفاء بها وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضى ان تكون مباحة فانه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة وذلك لأن قوله ( ليس فى كتاب الله ( إنما يشمل ما ليس فى كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه فان ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فانه فى كتاب الله لأن قولنا هذا فى كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص وبالعموم وعلى هذا معنى قوله تعالى ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ( وقوله ( ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ( وقوله ( ما فرطنا فى الكتاب من شيء ( على قول من جعل الكتاب هو القرآن وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ فلا يجيء ها هنا يدل على ذلك أن الشرط الذي ثبت جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق فيجب ان يكون فى كتاب الله وقد لا يكون فى كتاب الله بخصوصه لكن فى كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين فيكون فى كتاب الله بهذا الاعتبار لأن جامع الجامع جامع ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار
____________________
(29/163)
يبقى أن يقال على هذا الجواب فاذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما فشرط الولاء داخل فى العموم
فيقال العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص فان الخاص يفسر العام وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته وقوله ( من ادعى إلى غير أبيه او تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (
ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده دون من تبناه وحرم التبنى ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخا في الدين ومولى كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة ( أنت أخونا ومولانا ( وقال صلى الله عليه وسلم ( إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس (
فجعل سبحانه الولاء نظير النسب وبين سبب الولاء فى قوله
____________________
(29/164)
( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ( فبين أن سبب الولاء هو الانعام بالاعتاق كما ان سبب النسب هو الانعام بالايلاد فاذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالايلاد فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالاعتاق لأنه فى معناه فمن اشترط على المشترى أن يعتق ويكون الولاء لغيره فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره
والى هذا المعنى أشار النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله ( إنما الولاء لمن أعتق (
وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه لم يدخل فى العهود التى أمر الله بالوفاء بها لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه فهذا هذا مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلا المعنى الأول وهو إبطال الشروط التى تنافي كتاب الله والتحذير من اشتراط شيء لم يبحه الله فيكون المشروط قد حرمه لأن كتاب الله قد أباح عموما لم يحرمه او من اشتراط ما ينافي كتاب الله بدليل قوله ( كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (
____________________
(29/165)
المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد فى خصوص ذلك النوع او المسألة هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضى التحريم أم لا
أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الاسلام أنه لا يجوز لأحد ان يعتقد ويفتى بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك فان جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مغير لهذا الاستصحاب فلا يوثق به إلا بعد النظر فى أدلة الشرع لمن هو من أهل لذلك وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو من المستبقى وهذا ايضا لا خلاف فيه
وانما اختلف العلماء فى العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة منه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف فى ذلك أصحاب الشافعي واحمد وغيرهما وذكروا عن احمد فيه روايتين وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وهذا هو الصحيح الذى اختاره أبو الخطاب وغيره فان الظاهر الذي لا يغلب على الظن
____________________
(29/166)
انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فاذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين فى اكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم أو جعل المعارض المانع من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر لكن القرينة مانعة لدلالته كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم وان كان الخلاف فى ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي او اطلاق لفظي او اصطلاح جدلي لا يرجع إلى أمر علمي أو فقهي
فاذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط فلا ينتفع بهذه القاعدة فى أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة فى ذلك النوع فهي بأصول الفقه التى هي الأدلة العامة أشبه منها بقواعد الفقه التى هي الأحكام العامة
نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض فى مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة
____________________
(29/167)
فمن ذلك ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع أو تبرع كالوقف والعتق أن يستثنى بعض منافعها فان كان مما لا يصلح فيه الغرر كالبيع فلابد ان يكون المستثنى معلوما لما روى البخارى وابو داود والترمذي والنسائي عن جابر قال ( بعته يعني بعيره من النبى صلى الله عليه وسلم واشترطت حملانه إلى أهلي ( فان لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثنى خدمة العبد ما عاش سيده أو عاش فلان ويستثنى غلة الوقف ما عاش الواقف
ومن ذلك ان البائع إذا شرط على المشتري ان يعتق العبد صح ذلك فى ظاهر مذهب الشافعي واحمد وغيرهما لحديث بريرة وان كان عنهما قول بخلافه
ثم هل يصير العتق واجبا على المشتري كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة فى المبيع على وجهين فى مذهبهما ثم الشافعي وطائفة من اصحاب احمد يرون هذا خارجا عن القياس لما فيه من منع المشترى من التصرف فى ملكه بغير العتق وذلك مخالف لمقتضى العقد فان مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا
____________________
(29/168)
قالوا وانما جوزته السنة لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد فى غيره ولذلك أوجب فيه السراية مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ فى ملك الغير لم يلحق به غيره فلا يجوز اشتراط غيره
وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح وان كان فيه منع من غيره قال بن القاسم قيل لأحمد الرجل يبيع الجارية على ان يعتقها فأجازه فقيل له فان هؤلاء يعنى أصحاب أبى حنيفة يقولون لا يجوز البيع على هذا الشرط قال لم لا يجوز قد اشترى النبى صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها فلم لا يجوز هذا قال وإنما هذا شرط واحد والنهي انما هو عن شرطين قيل له فان شرط شرطين أيجوز قال لا يجوز
فقد نازع من منع منه واستدل على جوازه باشتراط النبى صلى الله عليه وسلم ظهر البعير لجابر وبحديث بريرة وبأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين فى بيع مع ان حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع وهو نقص لموجب العقد المطلق واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق
فعلم أنه لا يفرق بين ان يكون النقص فى التصرف او فى المملوك
____________________
(29/169)
و استدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره ولا استدل عليه بماء يشمله وغيره
وكذلك قال احمد بن الحسين بن حسان سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط هو حر بعد موتى قال هذا مدبر فجوز اشتراط التدبير بالعتق ولأصحاب الشافعي فى شرط التدبير خلاف صحح الرافعي أنه لا يصح
وكذلك جوز اشتراط التسرى فقال ابو طالب سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط ان يتسرى بها تكون نفيسة يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال لا بأس به فلما كان التسري لبائع الجارية فيه مقصود صحيح جوزه
وكذلك جوز أن يشترط بائع الجارية ونحوها على المشترى أنه لا يبيعها لغير البائع وان البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول كما رووه عن عمر وبن مسعود وامرأته زينب
وجماع ذلك أن المبيع الذي يدخل فى مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (
____________________
(29/170)
فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق وهو جائز بالاجماع ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما نهي النبي صلى الله عليه وسلم ( عن الثنيا إلا ان تعلم ( فدل على جوازها إذا علمت وكما استثني جابر ظهر بعيره إلى المدينة
وقد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع مثل ان يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها أو الثياب أو العبيد أو الماشية التى قد رأياها الا شيئا منها قد عيناه
واختلفوا فى استثناء بعض المنفعة كسكنى الدار شهرا او استخدام العبد شهرا أو ركوب الدابة مدة معينة او إلى بلد بعينه مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك قد ينفع كما إذا اشترى أمة مزوجة فان منفعة بضعها التى يملكها الزوج لم تدخل فى العقد كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة لكن هي اشترتها بشرط العتق فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق والعتق لا ينافى نكاحها فلذلك كان بن عباس رضي الله عنهما وهو ممن روى حديث بريرة يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } قالوا
____________________
(29/171)
فاذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فتباح له ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج واحتج بعض الفقهاء على ذلك بحديث بريرة فلم يرض أحمد هذه الحجة لأن بن عباس رواه وخالفه وذلك والله أعلم لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا
ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الامة المزوجة إذا انتقل الملك فيها ببيع او هبة أو إرث أو نحو ذلك وكان مالكها معصوم الملك لم يزل عنها ملك الزوج وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع
ومن حجتهم ان البائع نفسه لو اراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من ملك البائع والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه بخلاف المسبية فان فيها خلافا ليس هذا موضعه لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم وكذلك ما ملكوه من الأبضاع
وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره كالنخل المؤبر فثمره للبائع مستحق الابقاء إلى كمال صلاحه فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح
____________________
(29/172)
وكذلك بيع العين المؤجرة كالدار والعبد عامتهم يجوزه ويملكه المشتري دون المنفعة التى للمستأجر
وكذلك فقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد كما فى صور الوفاق كاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا وكذلك يجوز استثناء بعض أجزائه معينا إذا كانت العادة جارية بفصله كبيع الشاة واستثناء بعضها سواقطها من الرأس والجلد والأكارع وكذلك الاجارة فان العقد المطلق يقتضى نوعا من الانتفاع فى الاجارات المقدرة بالزمان كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا للتجارة فيه أو صناعة أو أجير لخياطة أو بناء ونحو ذلك فانه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص منه فانه يجوز بغير خلاف
أعلمه فى النكاح فان العقد المطلق يقتضى ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر الا ما استثني من الاستمتاع المحرم أو كان فيه ضرر فان العرف لا يقتضيه ويقتضى ملكا للمهر الذي هو مهر المثل وملكها للاستمتاع فى الجملة فانه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء المشاهير ولو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفىء بالكتاب والاجماع وان كان من الفقهاء من لا يوجب عليه الوطء وقسم الابتداء بل يكتفي بالباعث الطبيعي كمذهب أبي حنيفة
____________________
(29/173)
و الشافعي ورواية أحمد فان الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار وقيل يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر اعتبارا بالايلاء
ويجب أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها بالمعروف فيه خلاف فى مذهب أحمد وغيره والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف ان ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر بل المرجع فى ذلك إلى العرف كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } والسنة فى مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ( وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم ذلك باجتهاده كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق فهو كتقدير الشافعي النفقة إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء بعيد عن معانى الكتاب والسنة والاعتبار والشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التى ذكرناها عنه من نفيه للجهالة فى جميع العقود قياسا على المنع من بيع الغرر فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا لذلك
____________________
(29/174)
و قد تقدم التنبيه على هذا الأصل
وكذلك يوجب العقد المطلق سلامة الزوج من الجب والعنة عند عامة الفقهاء وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق وسلامتها من الجنون والجذام والبرص وكذلك سلامتهما من العيوب التى تمنع كماله كخروج النجاسات منه أو منها ونحو ذلك فى أحد الوجهين فى مذهب أحمد وغيره دون الجمال ونحو ذلك وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك
ثم لو شرط أحد الزوجين فى الآخر صفة مقصودة كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك وملك المشترط الفسخ عند فواته فى أصح الروايتين عن أحمد وأصح وجهى الشافعي وظاهر مذهب مالك والرواية الأخرى لا يملك الفسخ الا فى شرط الحرية والدين وفى شرط النسب على هذه الرواية وجهان سواء كان المشترط هو المرأة فى الرجل او الرجل فى المرأة بل اشتراط المرأة فى الرجل اوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك لا أصل له
وكذلك لو اشترط نقص الصفة المستحقة بمطلق العقد مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة
____________________
(29/175)
صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا فى شرط الزيادة عليه فى هذا الموضع كما ذكرته لك فان مذهب أبى حنيفة أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط فى النكاح وأما المهر فانه لو زاد على مهر المثل أو نقص عنه جاز بالاتفاق
وكذلك يجوز أكثر السلف او كثير منهم وفقهاء الحديث ومالك فى إحدى الروايتين أن ينقص ملك الزوج فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها وان يزيدها على ما تملكه بالمطلق فيؤخذ عليه نفسه أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى وعند طائفة من السلف وأبى حنيفة والشافعي ومالك فى الرواية الأخري لا يصح هذا الشرط لكنه له عند أبى حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر
والقياس المستقيم فى هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث ان اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع فاذا كانت الزيادة فى العين أو المنفعة المعقود عليها والنقص من ذلك على ما ذكرت فالزيادة فى الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك فاذا شرط على المشتري أن يعتق العبد أو يقف العين على البائع أو غيره أو ان يقضي بالعين دينا عليه
____________________
(29/176)
لمعين أو غير معين او ان يصل به رحمه أو نحو ذلك فهو اشتراط تصرف مقصود ومثله التبرع المفروض والتطوع
وأما التفريق بين العتق وغيره بما فى العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع فضعيف فان بعض أنواع التبرعات أفضل منه فان صلة ذي الرحم المحتاج أفضل من العتق كما نص عليه أحمد فان ميمونة زوج النبى صلى الله عليه وسلم أعتقت جارية لها فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك ( ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق وما أعلم فى هذا خلافا وإنما أعلم الاختلاف فى وجوب الوصية لهم فان فيه عن أحمد روايتين إحداهما تجب كقول طائفة من السلف والخلف والثانية لا تجب كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم ولو وصى لغيرهم دونهم فهل ترد تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له او يعطى ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه كما تقسم التركة بين الورثة والموصى له على روايتين عن أحمد وان كان المشهور عند أكثر أصحابه هو القول بنفوذ الوصية فاذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة
وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل كما لو كان عليه دين لله من زكاة أو كفارة أو نذر او دين لآدمي فاشترط عليه
____________________
(29/177)
و فاء دينه من ذلك المبيع أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك فهذا أوكد من اشتراط العتق
وأما السراية فانما كانت لتكميل الحرية وقد شرع مثل ذلك فى الأموال وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للشفيع لما فى الشركة من الضرر ونحن نقول شرع ذلك فى جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة فان أمكن قسمة العين وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك فتكميل العتق نوع من ذلك إذ الشركة تزول بالقسمة تارة وبالتكميل أخرى
وأصل ذلك ان الملك هو القدرة الشرعية على التصرف فى الرقبة بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا كما يثبت ذلك حسا ولهذا جاء الملك فى الشرع أنواعا كما أن القدرة تتنوع أنواعا فالملك التام يملك فيه التصرف فى الرقبة بالبيع والهبة ويورث عنه ويملك التصرف في منافعه بالاعارة والاجارة والانتفاع وغير ذلك ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمات عليه بالرضاع فلا يملك منهن الاستمتاع ويملك المعاوضة عليه بالتزويج بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم وكذلك يملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والاجارة
____________________
(29/178)
عند اكثرهم كأبى حنيفة والشافعي واحمد
ويملك المرهون ويجب عليه مئونته ولا يملك فيه من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع ولا هبة وفى العتق خلاف مشهور
والعبد المنذور عتقه والهدى والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من اصحابنا وغيرهم هل يزول ملكه عنه بذلك أم لا وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق فمن قال لم يزل ملكه عنه كما قد يقوله اكثر اصحابنا فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالاعتاق او النسك او الصدقة وهو نظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة أو الفدية المشتراة بشرط الاهداء إلى الحرم ومن قال زال ملكه عنه فانه يقول هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به وهو ايضا خلاف قياس زوال الملك فى غير هذا الموضع
وكذلك اختلاف الفقهاء فى الوقف على معين هل يصير الموقوف ملكا لله او ينتقل إلى الموقوف عليه او يكون باقيا على ملك الواقف على ثلاثة أقوال فى مذهب احمد وغيره
وعلى كل تقدير فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك فى البيع والهبة وكذلك ملك الموهوب له حيث يجوز للواهب الرجوع
____________________
(29/179)
كالاب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد نوع مخالف لغيره حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده
ونظيره سائر الأملاك فى عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه كالمبيع بشرط عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي واحمد فى أحد قوليهما وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين فها هنا فى المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه وملك الأب لا يملك انتزاعه وجنس الملك يجمعهما وكذلك ملك الابن فى مذهب احمد وغيره من فقهاء الحديث الذين اتبعوا فيه معني الكتاب وصريح السنة
وطوائف من السلف يقولون هو مباح للأب مملوك للابن بحيث يكون للأب كالمباحات التى تملك بالاستيلاء وملك الابن ثابت عليه بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا
فاذا كان الملك يتنوع أنواعا وفيه من الاطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الانسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه والشارع لا يحظر على الانسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض فاذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا
____________________
(29/180)
وقال شيخ الاسلام رحمه الله فصل
العقود التى فيها نوع معاوضة وهي غالب معاملات بنى آدم التى لا يقومون إلا بها سواء كانت مالا بمال كالبيع أو كانت منفعة بمال كالاجارة والجعالة وقد يدخل فى المسألة الامارة والتجنيد ونحو ذلك من الولايات أو كانت منفعة بمنفعة كالتعاون والتناصر ونحو ذلك تنقسم أربعة أقسام
فانها إما أن تكون مباحة من الجانبين كالبيع والاجارة والتعاون على البر والتقوى وإما أن تكون حراما من الجهتين كبيع الخمر بالخنزير والاستئجار على الزنى بالخمر وعلى شهادة الزور بشهادة الزور كما كان بعض الحكام يقول عن طائفة من الرؤساء يتقارضون شهادة الزور وشبهه بمبادلة القروض وإما أن يكون مباحا من إحدى الجهتين حراما من الأخرى وهذا القسم ينبغي لأهل الاسلام ان يعلموه فان الدين والدنيا لا تقوم إلا به
____________________
(29/181)
و أما القسم الأول وحده فلا يقوم به إلا دين ضعيف
وأما الثالث فتقوم به الدنيا الفاجرة والدين المبتدع وأما الدين المشروع والدنيا السالمة فلا تقوم إلا بالثالث مثل اعطاء المؤلفة قلوبهم لجلب منفعتهم او دفع مضرتهم ورشوة الولاة لدفع الظلم أو تخليص الحق لا لمنع الحق وإعطاء من يتقى شر لسانه أو يده من شاعر أو ظالم أو قاطع طريق أو غير ذلك وإعطاء من يستعان به على البر والتقوى من أعوان وأنصار وولاة وغير ذلك
وأصله فى الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين أن الله جعل للمؤلفة قلوبهم حقا فى الصدقات التى حصر مصارفها فى كتابه وتولى قسمها بنفسه وكان هذا تنبيها على أنهم يعطون من المصالح ومن الفيء على القول الصحيح التى هي أوسع مصرفا من الزكاة فان كل من جاز أن يعطى من الصدقة أعطي من المصالح ولا ينعكس لأن آخذ الصدقة إما أن يأخذ لحاجته أو لمنفعته وكلا الأمرين يؤخذ منهما للمصالح بل ليست المصالح إلا ذلك والمؤلفة قلوبهم هم من أهل المنفعة الذين هم أحق بمال المصالح والفيء
ولهذا أعطاهم النبى صلى الله عليه وسلم من الفيء والمغانم كما
____________________
(29/182)
فعله بالذهيبة التى بعث بها على من اليمن وكما فعل فى مغانم حنين حيث قسمها بين رؤساء قريش وأهل نجد وقال ( إنى لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إلى منهم أعطي رجالا لما في قلوبهم من الهلع والجزع وأكل رجالا إلى ما جعل الله فى قلوبهم من الغني والخير ( وقال ( انى لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألونى ويأبى الله لي البخل ( وقال ( والذي نفسي بيده ما من رجل يسألنى المسألة فتخرج له المسألة ما لم نكن نريد أن نعطيه إياه فيبارك له فيه ( أو كلاما هذا معناه
وهذا القسم يشتمل على الأقسام الثلاثة أما المال بالأعيان فمنه افتكاك الأسرى والاحرار من أيدي الكفار والغاصبين فان المسلم الحر قد يستولي عليه الكفار وقد يستولي عليه الفجار إما باستعباده ظلما أو بعتقه وجحود عتقه وإما باستعماله بغير اختياره ولا إذن الشارع مثل من يسخر الصناع كالخياطين والفلاحين بغير حق وإما بحبسه ظلما وعدوانا فكل آدمي قهر آدميا بغير حق ومنعه عن التصرف فالقاهر يشبه الآسر والمقهور يشبه الأسير وكذلك القهر بحق أسير قال النبى صلى الله عليه وسلم للغريم الذي لزم غريمه ( ما فعل أسيرك
____________________
(29/183)
و إذا كان الاستيلاء على الأموال إذا لم يكن بحق فهو غصب وان دخل فى ذلك الخيانة والسرقة فكذلك الاستيلاء على النفوس بغير حق أسر وإن دخل فيه استيلاء الظلمة من أهل القبلة
وكذلك افتكاك الأنفس الرقيقة من يد من يتعدي عليها ويظلمها فان الرق المشروع له حد فالزيادة عليه عدوان
ويدخل فى ذلك افتكاك الزوجة من يد الزوج الظالم فان النكاح رق كما دل عليه الكتاب والسنة قال الله تعالى { وألفيا سيدها لدى الباب } وقال النبى صلى الله عليه وسلم فى النساء ( إنهن عندكم عوان ( وقال عمر النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته وكذلك افتكاك الغلام والجارية من يد الظالم كالذي يمنعه الواجب ويفعل معه المحرم
ومنه افتكاك الأموال من أيدي الغاصبين لها ظلما أو تأويلا كالمال المغصوب والمسروق وغيرهما إذا دفع للظالم شيء حتى يرده على صاحبه وسواء كان الدفع فى كلا القسمين دفعا للقاهر حتى لا يقهر ولا يستولي كما يهادن أهل الحرب عند الضرورة بمال يدفع اليهم أو استنقاذا من القاهر بعد القهر والاستيلاء
____________________
(29/184)
وقال رحمه الله ( قاعدة فيما يجب من المعاوضات ونحو ذلك ( فصل
بذل المنافع والأموال سواء كان بطريق التعوض أو بطريق التبرع ينقسم إلى واجب ومستحب
وواجبها ينقسم إلى فرض على العين وفرض على الكفاية فأما ما يجب من التبرعات مالا ومنفعة فله موضع غير هذا وجماع الواجبات المالية بلا عوض أربعة أقسام مذكورة فى الحديث المأثور ( أربع من فعلهن فقد بريء من البخل من آتى الزكاة وقرى الضيف ووصل الحرم وأعطى فى النائبة (
ولهذا كان حد البخيل من ترك أحد هذه الأربعة فى أصح القولين لأصحابنا اختاره أبو بكر وغيره
فالزكاة هي الواجب الراتب التى تجب بسبب المال بمنزلة
____________________
(29/185)
الصلاة المفروضة وأما الثلاثة فوجوبها عارض فقرى الضيف واجب عندنا ونص عليه الشافعي وصلة الأرحام واجبة بالاجماع كنفقة الأقارب وحمل العاقلة وعتق ذي الرحم المحرم وانما الاختلاف فيمن تجب صلته وما مقدار الصلة الواجبة وكذلك الاعطاء فى النائبة مثل الجهاد فى سبيل الله واشباع الجائع وكسوة العاري وقد نص احمد على أنه لو صدق السائل لما أفلح من رده
وأما الواجبات المنفعية بلا عوض فمثل تعليم العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المظلوم وهي كثيرة جدا وعامة الواجب فى منافع البدن ويدخل فيها الأحاديث الصحيحة من حديث ابى ذر وأبى موسى وغيرهما ( على كل سلامى من بن آدم صدقة ( وتدخل ايضا فى مطلق الزكاة والنفقة فى مثل قوله { ومما رزقناهم ينفقون } كما نقل مثل ذلك عن السلف الحسن البصري وغيره وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( كل معروف صدقة ( ويروى ما تصدق عبد بصدقة أعظم من موعظة يعظ بها أصحابا له فيتفرقون وقد نفعهم الله بها ودلائل هذا كثيرة ليس هذا موضعه
وأما المنافع المالية وهو كمن اضطر إلى منفعة مال الغير كحبل ودلو يستقي به ماء يحتاج إليه وثوب يستدفئ به من البرد ونحو ذلك فيجب بذله لكن هل يجب بذله مجانا او بطريق التعوض
____________________
(29/186)
كالأعيان فيه وجهان
وحجة التبرع متعددة كقوله تعالى { ويمنعون الماعون } ففي سنن ابي داود عن بن مسعود قال كنا نعده عارية القدر والدلو والفأس وكذلك إيجاب بذل منفعة الحائط للجار إذا احتاج إليه على أصلنا المتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من المواضع
ففى الجملة ما يجب إيتاؤه من المال أو منفعته أو منفعة البدن بلا عوض له تفصيل فى موضع آخر ولو كان كثير من المتفقهة مقصرين فى علمه بحيث قد ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه ويعتقد الغالط منهم ( أن لا حق فى المال سوى الزكاة ( أن هذا عام ولم يعلم أن الحديث المروي فى الترمذي عن فاطمة ( إن فى المال حقا سوى الزكاة (
ومن قال بالأول أراد الحق المالي الذي يجب بسبب المال فيكون راتبا وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الاسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال فى غير الزكاة المفروضة فى مواضع مثل الجهاد بالمال عند الحاجة والحج بالمال ونفقة الزوجة والأقارب والمماليك من الآدميين والبهائم ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة
____________________
(29/187)
و هدي كفارات الحج وكفارات الايمان والقتل وغيرها وما يجب من وفاء النذور المالية إلى أمثال ذلك بل المال مستوعب بالحقوق الشرعية الراتبة أو العارضة بسبب من العبد او بغير سبب منه وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة
وإنما الغرض هنا ما يجب من المعاوضات مثل المبايعة والمؤاجرة وما يشبه ذلك ومثل المشاركات كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك فان هذا كثيرا ما يغلط فيه الغالطون لما استقر فى الشريعة ان الظلم حرام وأن الأصل ان هذه العقود لا تجوز إلا بالتراضي إلا فى مواضع استثناها الشارع وهو الاكراه عليها بحق صار يغلط فريقان
قوم يجعلون الاكراه على بعضها إكراها بحق وهو إكراه بباطل وقوم يجعلونه إكراها بباطل وهو بحق وفيها ما يكون إكراها بتأويل حق فيدخل فى قسم المجتهدات إما الاجتهادات المحضة أو المشوبة بهوي وكذلك المعاوضات
ونحن نعلم قطعا أنه إذا كان إيتاء المال أو المنفعة بلا عوض واجبا بالشريعة فى مواضع كثيرة جدا لأسباب اقتضت الايجاب الشرعي وليس ذلك من الظلم الذي هو أخذ حق الغير بغير حق
____________________
(29/188)
فلان يكون إيتاء المال والمنفعة بعوض واجبا فى مواضع أولى وأحرى بل إيجاب المعاوضات أكثر من إيجاب التبرعات واكبر فهو أوسع منه قدرا وصفة
ولعل من استقرأ الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين وجبت فأما عند عدم الحاجة ومع حاجة رب المال المكافية لحاجة المعتاض فرب المال أولى فان الضرر لا يزال بالضرر والرجل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين ( وابدأ بنفسك ثم بمن تعول (
وهذه قاعدة حسنة مناسبة ولها شواهد كثيرة فى الشريعة وأنا أذكر منها بتيسير الله تعالى وجماع المعاوضات أربعة أنواع
معاوضة مال بمال كالبيع وبذل مال بنفع كالجعالة وبذل منفعة بمال كالاجارة وبذل نفع بنفع كالمشاركات من المضاربة ونحوها فان هذا بذل نفع بدنه وهذا بذل نفع ماله وكالتعاون والتناصر ونحو ذلك
وبالجملة فوجوب المعاوضات من ضرورة الدنيا والدين إذ الانسان لا ينفرد بمصلحة نفسه بل لابد له من الاستعانة ببنى جنسه فلو لم يجب على بنى آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه وهذا لهذا ما
____________________
(29/189)
يحتاج إليه لفسد الناس وفسد أمر دنياهم ودينهم فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة وصلاحها بالعدل الذي أنزل الله له الكتب وبعث به الرسل فقال تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط }
ولا ريب أن النفوس مجبولة على بذل المعاوضة لحاجتها إليها فالشارع إذا بذل ما يحتاج إليه بلا إكراه لم يشرع الاكراه ورد الأمر إلى التراضي فى أصل المعاوضة وفى مقدار العوض وأما إذا لم يبذل فقد يوجب المعاوضة تارة وقد يوجب عوضا مقدرا تارة وقد يوجبهما جميعا وقد يوجب التعويض لمعين أخرى
مثال الأول من عليه دين فطولب به وليس له إلا عرض فعليه ان يبيعه ليوفيه الدين فان وفاء الدين واجب ولا يتم إلا بالبيع وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وللحاكم أن يكرهه على بيع العرض فى وفاء دينه وله ان يبيع عليه إذا امتنع لأنه حق وجب عليه فقبل النيابة فقام ذو السلطان فيهم مقامه كما يقوم فى توفية الدين وتزويج الأيم من كفؤها إذا طلبته وغير ذلك وكما يقبض الزكاة من ماله وسواء كان الدين الذي عليه برضى الغريم كثمن مبيع وبدل قرض او بغير رضاه كقيم المتلفات وأروش الجنايات
____________________
(29/190)
ومن ذلك ضمان المغصوب إذا تعذر رد عينه ومن المغصوب الأمانات إذا خان فيها ومن الأمانات ما اؤتمن عليه من مال المسلمين كالعمال على الفيء والزكاة والصدقات الموقوفة ومال اليتيم ومال الموكل كالشريك والمضارب ونحوهما ومال الفيء إذا خانوا فيها وتعذر رد عين المال وكذلك بيع ماله لأداء ما يجب عليه من النفقات الواجبة لزوجته أو ولده أو نفسه
وبالجملة فكل من وجب عليه أداء مال إذا لم يمكن أداؤه إلا بالبيع صار البيع واجبا يجبر عليه ويفعل بغير اختياره
ومثال الثانى المضطر إلى طعام الغير إذا بذله له بما يزيد على القيمة فان له أن يأخذه بقيمة المثل فانه يجب عليه أن يبيعه وأن يكون بيعه بقيمة المثل فاذا امتنع منهما أجبر عليهما وان بذل أحدهما أجبر الآخر والمسألة مذكورة فى ( كتاب الأطعمة ( حتى إنه لو امتنع عن بذل الطعام فله أن يقاتله عليه لأنه بمنزلة المقاتل عن نفسه
ولهذا نضمنهم ديته لو مات كما روي أن رجلا استسقى قوما فلم يسقوه حتى مات فضمنهم عمر ديته وأخذ به أحمد فانه إذا وجب إطعام المضطر بلا عوض عند عجزه عنه فلأن يجب بالمعاوضة أولى وأحرى وهكذا إذا اضطر الناس ضرورة عامة وعند أقوام فضول أطعمة
____________________
(29/191)
مخزونة فانه يجب عليهم بيعها وعلى السلطان ان يجبرهم على ذلك أو يبيعها عليهم لأنه فعل واجب عليهم يقبل النيابة فيجب إلزامهم بما وجب عليهم شرعا وهو حق للمسلمين عندهم فيجب استنقاذه منهم وهكذا كل ما اضطر الناس إليه من لباس وسلاح وغير ذلك مما يستغني عنه صاحبه فانه يجب بذله بثمن المثل
وقد كتبت قبل هذا حديث سمرة بن جندب فى صاحب النخلة لما أمره النبى صلى الله عليه وسلم ببيعها فلم يفعل وذكرت ما فيه من وجوب المعاوضة التى يحتاج إليها المبتاع من غير ضرر البائع
ولهذا نهى الشارع عن الاحتكار الذي يضر الناس فى قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يحتكر إلا خاطئ ( رواه مسلم وغير ذلك والمحتكر مشتر متجر لكن لما كان يشتري ما يضر الناس ولا يحتاج إليه حرم عليه والبيع والشراء فى الأصل جائزان غير واجبين لكن لحاجة الناس يجب البيع تارة ويحرم الشراء أخرى هذا فى نفس العقد
وأما في مقدار الثمن فنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يبيع حاضر لباد لما فيه من إضرار المشتري إذا توكل الحاضر للقادم بسلعته فى البيع مع حاجة الناس إليها وقد يستدل بذلك على
____________________
(29/192)
و جوب بيعها بثمن المثل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (
وهكذا بيع أحد الشريكين من الآخر فى مالا ينقسم فان الشريك محتاج إلى البيع ليأخذ نصيبه ولا ضرر على الآخر فيه وكذلك تقويمه ملك الشريك إذا أعتق الشريك نصيبه فان العتق يحتاج إلى تكميل لما في تبعيض العتق من الضرر من غير ضرر على البائع فى بيع نصيبه أو فيه ضرر دون الحاجة إلى تكميل العتق
وهكذا فيمن تعلق حق الغير بماله كمن له فى ملك الغير عرق محترم من غراس أو بناء أو بئر كالمشتري إذا أخذ الشقص بالشفعة والبائع إذا رد عليه المبيع بعيب وكان الثمن عقارا وكالمستعير والمستأجر إذا انقضت المدة فان لرب الأرض أن يبتاع ذلك بقيمته إذا لم يقلعه صاحبه أو يبقيه بأجرة المثل وكلاهما معاوضة إما على العين أو على منفعة أرضه
وكذلك إجبارنا لأحد الشريكين على الكرى مع الآخر او العمارة معه هو إجبار على المعاوضة فان العمارة تتضمن ابتياع أعيان واستئجار عمال فهي إجبار على شراء وإجارة لأن الشريك محتاج إلى ذلك ولا ضرر على الباذل فى ذلك فتجب عليه المعاوضة معه تارة لأجل القسمة وتارة لبقاء الشركة وعلى هذا فاذا احتاج المسلمون إلى
____________________
(29/193)
الصناعات كالفلاحة والنساجة والبناية فعلي أهلها بذلها لهم بقيمتها كما عليهم بذل الأموال التى يحتاج إليها بقيمتها إذ لا فرق بين بذل الأموال وبذل المنافع بل بذل المنافع التى لا يضر بذلها أولى بالوجوب معاوضة ويكون بذل هذه فرضا على الكفاية
وقد ذكر طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم أن أصول الصناعات كالفلاحة والحياكة والبناية فرض على الكفاية والتحقيق انها فرض عند الحاجة إليها وأما مع إمكان الاستغناء عنها فلا تجب وهذه حكينا بيعها فان من يوجبها إنما يوجبها بالمعاوضة لا تبرعا فهو إيجاب صناعة بعوض لأجل الحاجة إليها وقولي عند الحاجة فان المسلمين قد يستغنون عن الصناعة بما يجلبونه أو يجلب إليهم من طعام ولباس
والأصل أن إعانة الناس بعضهم لبعض على الطعام واللباس والسكنى أمر واجب وللامام أن يلزم بذلك ويجبر عليه ولا يكون ذلك ظلما بل إيجاب الشارع للجهاد الذي فيه المخاطرة بالنفس والمال لأجل هداية الناس فى دينهم أبلغ من هذا كله فاذا كانت الشجاعة التى يحتاج المسلمون إليها والكرم الذي يحتاج المسلمون إليه واجبا فكيف بالمعاوضة التى يحتاج المسلمون إليها
ولكن أكثر الناس يفعلون هذا بحكم العادات والطباع وطاعة
____________________
(29/194)
السلطان غير مستشعرين ما فى ذلك من طاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر فيما أمر الله بطاعتهم فيه ولهذا يعدون ذلك ظلما وعناء ولو علموا أنه طاعة لله احتسبوا أجره وزالت الكراهة ولو علموا الوجوب الشرعي لم يعدوه ظلما
وكذلك إذا احتاجوا إلى القتال والجهاد بالنفس وبذلوا أموالا من بيت المال أو من غيره فان الجهاد وان كان فيه مخاطرة بالنفس ويخاف فيه الضرر لكنه واجب بالشرع إذا بذل للانسان المال فان مصلحة الدين لا تتم الا بوجوبه وعلى الانسان ان يجاهد بمال نفسه فاذا بذل له المال كان أولى بالوجوب فمن كان من أهل صناعات القتال رميا وضربا وطعنا وركوبا وجب عليه ذلك وأجبر عليه كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( وإذا استنفرتم فانفروا (
ولهذا قال الفقهاء إنه يجب عينا إذا أمر به الامام وكذلك إذا احتاج المجاهدون إلى أهل الصناعات والتجارات كصناع الطعام واللباس والسلاح ومصالح الخيل وغير ذلك وطلبت منهم تلك الصناعة بعوضها وجب بذلها وأجبروا عليها
وكذلك التجار فيما يحتاج إليه فى الجهاد عليهم بيع ذلك وإذا
____________________
(29/195)
احتاج العسكر إلى خروج قوم تجار فيه لبيع ما لا يمكن العسكر حمله من طعام ولباس وسلاح ونحو ذلك فالتجارة كالصناعة والعسكر بمنزلة قوم فى بلد فكما يجب على بعض إعانة بعض على حاجاتهم بالمعاوضة التى لا ضرر فيها فان ذلك واجب فى العسكر
وكما للامام ان يوجب الجهاد على طائفة ويأمرهم بالسفر إلى مكان لأجله فله أن يأمر بما يعين على ذلك ويأمر قوما بتعلم العلم ويأمر قوما بالولايات
والامام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة كالجهاد
وقال
قدس الله روحه فصل
أقوال المكره بغير حق لغو عندنا مثل كفره وطلاقه وبيعه وشرائه فاذا أكره البيعان على العقد فهو باطل وإذا اكرها على التقابض فهذا إكراه على الأفعال لا على الأقوال فيكون كل منهما
____________________
(29/196)
قد قبض وأقبض مكرها فعلى كل منهما أن يرد ما قبضه إلى الآخر إذا امكنه لأنه مقبوض بغير حق وان كان القابض مكرها
فان تلف المال المقبوض بالاكراه تحت يد القابض فان كان قد أتلفه بفعله أو بتفريطه او بعدوانه فهو ضامن لأن غايته ان تكون يده يد أمانة ويد الأمانة إذا أتلفت شيئا أو تلف بتفريطها أو عدوانها ضمنته كيد المستأجر والمودع والمضارب والوكيل
وان تلف بغير تفريط منه فهل تكون يده يد ضمان لأنه قبض مال الغير بغير إذنه لدفع الضرر عنه أو يد أمانة لأنه قبضه قبضا غير محرم فنقول تلفه تحت يد المكره بمنزلة إتلافه كرها وفيه خلاف وهو يشبه العارية من بعض الوجوه فان المستعير قبض المال لنفعه كما أن المكره قبضه لدفع الضرر عن نفسه وهذا قبضه باذن المالك وهذا قبضه باذن الشارع فان كان المكره القابض قد أخذ منه وفاء عن دين فهنا يكون ضامنا له لأنه مصروف فى منفعته كمن اضطر إلى طعام الغير فأخذه ليأكله
____________________
(29/197)
وسئل رحمه الله عن جماعة صودروا وأخذت أموالهم ثم اكرهوا وأجبروا على بيع أعيان من عقار ومواشي وبساتين فباعوها والأعيان المذكورة بعضها ملك أولاد البائعين وبعضها وقف وبعضها ملك الغير ووضع المشتري يده عليها وحازها وخاف البائعون على إتلاف صورة الأعيان وليس لهم قدرة على انتزاعها من يده فاشتروها صورة ليعرفوا بقاءها ويحرزوها بثمن معين إلى أجل معلوم فلما آن الأجل طالبهم بالثمن فهل يكون البيع منهم باطلا بحكم الاكراه وبيع مال الغير أم لا وهل مشتراهم منه واقرارهم بالملك مثبت له بصحة الملك
فأجاب إذا بذل البائع والحال هذه للمشتري فما أداه من الثمن وامتنع المشتري من الايفاء بذلك وطلب ما كتب على البائع من الثمن المؤجل فان المشتري ظالم عاص يستحق العقوبة فان هذه المعاملة لو كانت بطيب نفس البائع وقد اتفقا على أن لا تباع منه الأعيان بتقديم بيعه إياها إلى أجل بأكثر من ذلك
____________________
(29/198)
الثمن كانت معاملة باطلة ربوية عند سلف الأمة من الصحابة والتابعين واكثر أئمة المسلمين فكيف والبائع مكره وبيع المكره بغير حق بيع غير لازم باتفاق المسلمين فلو قدر مع ذلك أن المشترى اكره على الشراء منه وأداه الثمن عنه فأعطاه البائع الثمن الذي أداه عنه لوجب تسليم المبيع إليه باتفاق المسلمين
فكيف والمشتري لم يكره على الشراء والبائع قد بذل له الثمن الذي أداه عنه فليس للمشتري والحالة هذه مطالبته بزيادة على ذلك باتفاق الأئمة ولا مطالبته برد الأعيان التى كانت ملكه وهي الآن بيده على ما ذكر
وسئل
عن رجل ماتت أمه وورث منها دارا ولم يكن لها فيها شريك وان انسانا ظلم والده وأجبره حتى كاتبه على الدار أو باعها فهل يجوز ذلك أم ترجع الدار إلى مالكها
فأجاب الحمد لله إذا أكره بغير حق على بيع الدار لم يصح البيع وترد الدار إلى مالكها ويرد على المشتري الثمن الذي أخذ منه والله أعلم
____________________
(29/199)
وسئل عن حبس على جماعة وهو مثبوت بالعدول وفى الدار ساكن له يد قوية على الورثة وألزموه إلى ان باعوه غصبا باليد القوية فاذا شهدت الشهود بصحة الوقف ينزع من الغاصب أم لا
فأجاب الحمد لله بيع المكره بغير حق لا يصح وبيع الوقف الصحيح اللازم لا يصح ومن علم شيئا شهد به والله أعلم
وقال رحمه الله فصل
فإذا أكره السلطان أو اللصوص أو غيرهم رجلا على أداء مال بغير حق وأكره رجلا آخر على إقراضه أو الابتياع منه وأدى الثمن عنه او إليه ليأخذوهم من المقترض والبائع سواء كان الاكراه على إقباض المكره ثم الأخذ منه أو على الأداء عنه فقط
____________________
(29/200)
فهذه المسألة ونحوها تقع كثيرا وفيها وجهان
كما لو أخذ السلطان من أحد المختلطين فى الماشية زيادة على الواجب عنهما بلا تأويل
أحدهما أن تلك الزيادة تذهب من مالكها وليس على الآخر شيء منها وإن كان السلطان أخذها عنها لأن الظالم ظلم هذا بأخذ ماله ونواه عن الآخر وهو ليس وليا للآخر ولا وكيلا عنه حتى تصح نيته ومجرد النية المحرمة لا يوجب ثبوت المال فى ذمة المأخوذ عنه
ولازم هذا القول أن أحد الشريكين فى العقار والمنقول إذا أخذ السلطان ونوابه الوظائف الظلمية على المال أو أخذ قطاع الطريق من التجار عن المال الذي معهم شيئا من أحد الشريكين لأن المقبوض إذا كان من عين المال فان احد الشريكين لم يرجع على الآخر بنصيبه وعلى هذا فلو كان المعطى وكيلا أو وليا كناظر الوقف ووصى اليتيم فيلزم اذا لم يكن ما أخذ منه من عين المال أن يكون من ضمانه لكن هذا إنما يلزم اذا لم يكن الدفع لحفظ المال بل كان الدفع لأنه اكره على الأداء فأما إذا لم يمكن حفظ المال إلا بما دفعه عنه فهذا التصرف لحفظ المال وهو بمنزلة إعطاء الخفارة لحفظه وإعطاء النواطير لدفع اللصوص والسباع
وايضا فالولي والوكيل مأذون لهما عرفا فى مثل هذا الدفع فانه
____________________
(29/201)
لم يتوكل على أنه يضرب ويحبس على مال يؤدي عن المال فيتضرر ولا يؤديه بخلاف ما يوجد من الأجنبي لكن هذا الدليل بعينه وارد فى أحد الشريكين فان كلاهما وكيل الآخر فى شركة العقود
وايضا فيفرق بين الكلف النوابية السلطانية وبين المظالم العارضة
وسئل رحمه الله
عن رجل سير على يد رجل قماشا ليسلمه لولده بالقاهرة فلم يسلمه وباعه المسير على يده وتصرف فيه وباعه على غير بزاز بغير النقد وبغير إذن صاحب القماش له فى ذلك فهل يكون ذلك تفريطا وهل إذا فرط تلزمه قيمته وهل يكون القول فى تلفه قول صاحب القماش أو قول المسير على يده افتونا مأجورين
فأجاب اذا تصرف فيه بغير إذن صاحبه كان ظالما وكان ضامنا له فان فات فعليه قيمته وان قال المودع أمرتنى ببيعه وقال المودع لم آمرك ببيعه بل بتسليمه إلى ولدي فهذا فيه نزاع لكن ان باعه بيعا خارجا عن البيع المعروف مثل أن يبيعه إلى أجل أو بغير النقد نقد البلد أو يبيعه لمن هو جاهل أو مفلس ونحو ذلك فهو ضامن لما يتلف من الثمن بكل حال
____________________
(29/202)
وكذلك اذا باعه بدون قيمة المثل وسلم المبيع فهو ضامن للنقص والله أعلم
وسئل عن امرأة ملكت لولدها ملكا وباعه ثم بعد البيع ملكت الثانى وكتب على الأول حجة أن ماله فى الملك شيء بعد أن باعه فهل يلزم الأول رد الملك للثانى أو الأول صحيح
فأجاب اذا كان قد باعه بيعا صحيحا لازما فقد خرج عن ملكه ولم يصح بعد ذلك تمليكها والملك باق على ملك المشتري والله أعلم
وسئل عن رجل له زوجة لها ملك فسرق الزوج كتب الملك وباعه ثم توفيت
فأجاب بيع الملك بغير إذن مالكه ولا ولاية عليه بيع
____________________
(29/203)
باطل والواجب أن يرد إلى المشتري ما أعطاه من الثمن ويرد إلى المالك ملكه
وقال فصل الذي يكره من شراء الأرض الخراجية إنما كان لأن المشتري يشتريها فيرفع الخراج عنها وذلك إسقاط لحق المسلمين كما كانوا أحيانا يقطعون بعضها لبعض المحاربين إقطاع تمليك لا إقطاع استغلال كاقطاع الموات فهذا الانتفاع والاقطاع يسقط حق المسلمين من الرقبة والمنفعة والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعته دائمة للمسلمين فاذا قطعت منفعته عن المسلمين صار ظلما لهم بمنزلة من غصب طريق المسلمين أو بنى فى منى ونحوها من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد
فأما اذا اشتراها وعليه من الخراج ما على البائع فهو كما لو ولاه إياها بلا حق وكما لو ورثها فان الارث مجمع عليه أن الوارث أحق بها بالخراج وذلك لأن اعطاءها لمن أعطيته بالخراج قد قيل
____________________
(29/204)
أنه بيع بالثمن المقسط الدائم كما يقوله بعض الكوفيين وقد قيل أنه اجارة بالاجرة المقسطة المؤبدة المدة كما يقوله أصحابنا والمالكية والشافعية وكلا القائلين خرج فى قوله عن قياس البيوع والاجارات
والتحقيق أنها معاملة قائمة بنفسها ذات شبه من البيع ومن الاجارة تشبه فى خروجها عنهما المصالحة على منافع مكانه للاستطراق أو القاء الزبالة أو وضع الجذع ونحو ذلك بعوض ناجز فانه لم يملك العين مطلقا ولم يستأجرها وانما ملك هذه المنفعة مؤبدة
وكذلك وضع الخراج لو كان اجارة محضة وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض للمسلمين واكروها لكان ينبغي اكراء المساكن ايضا لأنها للمسلمين اذا فتحت عنوة ولكان قد ظلم المسلمين فان كراء الأرض يساوي أضعاف الخراج ولكان على المشهور عندهم لا يستحق الآخذ الا ما في الارض من الشجر القائمة من النخيل والأعناب وغير ذلك كمن استأجر ارضا فيها غراس ولكان دفعها مساقاة ومزارعة كما فعل المنصور والمهدي فى أرض السواد أنفع للمسلمين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فى أرض خيبر فانه لا فرق الا أن ملاك خيبر معينون وملاك أرض العنوة العمرى مطلقون والا فيجوز كذلك ان يؤاجر ويجوز له في الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة
____________________
(29/205)
وأما بيعها فلو كان كذلك لباع المساكن ايضا ولا بيع يكون الثمن مؤبدا إلى يوم القيامة فالمستخرج اصل دلت عليه السنة والاجماع فلا يقاس بغيره فان النبى صلى الله عليه وسلم قال ( منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مدها ودينارها ومنعت مصر اردبها ودينارها ( واتفق الصحابة مع عمر على فعله
يوضح ذلك أن اصل الخراج في قوله { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } فان هذا فرق بين العقار والمنقول ومع هذا فقد أضاف القري اليهم فعلم اختصاصهم بها
واذا كان كذلك فلو أخذه ذمي من الذمي الأول بالخراج وعاوضه على ذلك عوضا لم يكن فى ذلك ضرر أصلا فلا وجه لمنعه لأنه ان قيل أنه وقف فهذا لا يخرجه بهذه المعاوضة عن أن يكون وقفا بل مستحق أهل الوقف باق كما كان وبيع الوقف انما منع منه لازالة حق أهل الوقف وهذا لا يزول بل هو بمنزلة إجارة ارض الوقف بأكثر مما استأجرها فكأنه قال أكريتك هذه الأرض بما على من الخراج وبالزيادة التى تعجلها إلي ولهذا ينتقل إلى ورثة من هي في يده والوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث فاذا جاز انتقاله بالارث على صفة ما كان والهبة مثله فكذلك المعاوضة سواء سميت بيعا أو اجارة ولهذا جوز احمد إصداق الأرض الخراجية وما جاز
____________________
(29/206)
ان يكون صداقا جاز أن يكون ثمنا وأجرة وما كان ثمنا كان مثمنا فهذا باب ينبغي تأمله
يبقي اذا أخذه المسلم هل يكره لما فيه من الصغار أو لما فيه من الاشتغال عن الجهاد بالحراثة فهذه مواضع أخر غير كونه وقفا تختلف باختلاف المصالح والأوقات كما أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل اليهود على خيبر لقلة المسلمين فلما كثر المسلمون أجلاهم عمر بأمر النبى صلى الله عليه وسلم وصار المسلمون يعمرونها فكذلك الأرض الخراجية اذا كثر المسلمون كان استيلاؤهم عليها بالخراج أنفع لهم من أن يبقوا فقراء محاويج والكفار يستغلون الأرض بالخراج اليسير فانهم كانوا زمن عمر قليلا وأهل الذمة كثيرا وقد يعكس الأمر مع ان النبى صلى الله عليه وسلم عاملهم على خيبر ثم عمرها المسلمون لما كثر المسلمون وتضرروا ببقاء أهل الذمة فى أرض العرب فكان المعنى ضرر المسلمين بأهل الذمة واكتفاء المسلمين بالمسلمين
فكيف اذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية وتضرروا ببقائها فى أيدي أهل الذمة فرأى من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمي عنها ويقوم مقامه فيها فان كان المؤدى أجرة فهو أحق باستئجار أرض المسلمين وعمارتها وان كان ثمنا فهو أحق باشترائها
____________________
(29/207)
و ان كان عوضا ثالثا فهو به أحق أيضا ومتى كثر المسلمون لم يبق صغار ولا جزية وإنما كان فيه صغار وجزية فى الزمن المتقدم كما لو أسلم الذمي الذي هو مستول عليها فانها تبقي بيده مؤديا لخراجها وسقط عنه جزية جمجمته فكيف يقاس هذا بهذا
واذا جاز أن تبقى بيده بعد إسلامه فما المانع من ان يدفعها إلى مسلم غيره بعوض او غيره والمسلم لا صغار عليه بحال فلو كان المانع كونها صغارا لم يجامع الاسلام كجزية الرأس
ولا يقال هي كالرق تمنعه الاسلام ابتداء ولا تمنع دوامه لأن الرق قهرناهم عليه بغير اختيارهم لم نعاوضهم عليه فكذلك جزية الرأس لا نمكنهم من المقام بالأرض الاسلامية الا بها فهي نوع من الرق لثبوتها بغير اختيار المسترق وأما الخراج فانما يثبت برضي المخارج واختياره ولو لم يقبل الأرض منا لم ندفعها إليه بمنزلة المساقاة والمزارعة التى عامل النبى صلى الله عليه وسلم بها أهل خيبر سواء هناك كان العوض جزءا من الزرع وهنا العوض مسمى معلوم وهناك لا يستحق شيئا الا اذا زرعوا وهنا يستحق اذا أمكنهم الزرع فنظيره ان العامل فى المزارعة يعامل غيره بأقل من الجزء الذي استحقه اذ أن المضارب يدفع المال مضاربة لكن هذا يتوقف على اذن المالك لتعيين المستحق
____________________
(29/208)
وبالجملة فالموانع من كونها وقفا ينظر فيها أما جهة الوقف فلا يتوجه كونها مانعا على أصول الشريعة أبدا وأما التعليل بالاشتغال بالحراثة عن الجهاد فهذا عام فى جميع الأراضين عشريها وخراجيها وذاك شيء آخر
فصل
ونظير ذلك مكة فانه لا ريب أنها فتحت عنوة ومن قال إنها فتحت صلحا فاستقر ملك أصحابها عليها ليجوز لهم ما يجوز فى سائر أراضى الصلح من البيع وغيره كما يقوله الشافعي فقوله ضعيف لوجوه كثيرة من المنقولات
وأيضا فانه لا يجوز مثل ذلك فانه لو صالح الامام قوما من المشركين بغير جزية ولا خراج لم يجز الا للحاجة كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم عام الحديبية
أما اذا فتحنا الأرض فتح صلح وأهلها مشركون من غير أهل الجزية فانه لا يجوز إقرارهم بغير جزية باجماع المسلمين
وأيضا فان النبى صلى الله عليه وسلم جعل فى العام القابل
____________________
(29/209)
لما حج أبو بكر لمن لم يسلم منهم أجل أربعة أشهر والا جعله محاربا يستبيح دمه وماله ولو كان قد فتحها صلحا لم يجز نقض ذلك
وأيضا فانه استباح قتل جماعة سماهم ولكن فتحها عنوة وأمن من ترك القتال منهم [ فقد أمنه ] على نفسه وماله الا نفرا استثناهم وكان قد أرسل بهذا الأمان مع أبى سفيان فمنهم من قبله فانعقد له ومنهم من لم يقبل فحارب أو هرب والأمان لا يثبت الا بقبول المؤمن كالهدنة وأما من لم يترك القتال فلم يؤمنه بحال لكن خص وعم فى ألفاظ الأمان والمقصود واحد فان قوله ( من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن ومن القى السلاح فهو آمن ومن دخل دار ابى سفيان فهو آمن ( كلها ألفاظ معناها من استسلم فلم يقاتل فهو آمن ولهذا سماهم الطلقاء كأنه أسرهم ثم أطلقهم كلهم
وقالت الحنفية لما فتحها عنوة ولم يقسمها بل أقرها فى يد أهلها صار هذا أصلا فى أرض العنوة أنه يجوز إقرارها فى يد أهلها قالوا هم وأصحابنا وغيرهم فى أحد التعليلين ولهذا لم يجز بيعها وإجارتها لكونها فتحت عنوة ولم تقسم كسائر أرض العنوة وربما يقولون صار انزال أهل مكة للناس عندهم هو الخراج المضروب
____________________
(29/210)
عليهم
وأما من قال من أصحابنا أن الخراج يضرب على مزارعها فقد علم بالنقل المتواتر فساد قوله مع اجرائه لقياسه وهذا التعليل ضعيف لوجوه
أحدها أن أرض العنوة تجوز إجارتها بالاجماع وبيوت مكة أحسن ما فيها أنه لا تجوز اجارتها بل يجب بذلها للمحتاج بغير عوض فهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة والآثار والقياس
وأما المنع من بيعها ففيه نظر فلو كان المانع كون فتحها عنوة لما منع اجارتها
الثانى أن أرض العنوة انما يمنع من بيع مزارعها فأما المساكن فلا يمنع ذلك فيها بل هي لأصحابها ومكة انما منعوا من المعاوضة فى رباعها التى لا منع منها فى أرض العنوة وهذا برهان ظاهر على الفرق
الثالث أن مزارع مكة ما علمت أحدا من أصحابنا ولا غيرهم منع بيعها أو اجارتها وانما الكلام فى الرباع وهي المساكن لا المزارع فأين هذا من هذا
الرابع أن تلك الديار كانت للمهاجرين وقد طلبوا من النبى صلى الله عليه وسلم اعادتها اليهم فلم يفعل فلو كانت كسائر العنوة
____________________
(29/211)
لكان قد أعادها إلى اصحابها لأن الأرض اذا كانت للمسلمين واستولى عليها الكفار ثم استنقذناها وعرف صاحبها قبل القسمة أعيدت إليه
والخامس أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لشيء من أموالهم لا منقولها ولا عقارها ولا إلى أحد من ذراريهم ولو أجرى عليها أحكام غيرها من العنوة لغنم المنقولات والذرية بل الصواب أن المانع من اجارتها كونها أرض المشاعر التى يشترك فى استحقاق الانتفاع بها جميع المسلمين كما قال الله تعالى { سواء العاكف فيه والباد } فالساكنون بها أحق بما احتاجوا إليه لأنهم سبقوا إلى المباح كمن سبق إلى مباح من مسجد أو طريق أو سوق وأما الفاضل فعليهم بذله لأنه إنما لهم أن يبنوا بهذا الشرط لكن العرصة مشتركة فى الأصل
وصار هذا بمنزلة من بني بيتا من رباط أو مدرسة أو نحو ذلك له اختصاص بسكنه وليس له المعاوضة عليه أو من بنى بيتا فى جنابات السبيل أو فى دار الرباط التى تكون بالثغور ونحو ذلك مما تكون الأرض فيه مشتركة المنفعة للحج او للجهاد او للمرور فى الطرقات أو التعلم أو التعبد ونحو ذلك فاذا قال البناء لي قيل له والعرصة ليست لك وأعيان الحجر ليس لك بل لك
____________________
(29/212)
التأليف او التأليف والأنقاض فما ليس لك لا يجوز أن تعاوض عنه وما هو لك قد اعتضت عنه ببقائك فى الانتفاع بالعرصة
أو لأن المكى لما صار الناس يهدون اليهم الهدايا وتجب عليهم قسمتها فيهم صار يجب على المكيين إنزال الناس فى منازلهم مقابلة للاحسان بالاحسان فصاحب الهدي له أن يأكل منه مثلا حيث يجوز ويعطي من شاء ولا يعتاض عنه وكذلك صاحب المنزل يسكنه ويسكنه ولا يعتاض عنه
وهذا المعنى الذي ذكرناه قد يكون هو السبب الموجب لابقائها بيد أربابها من غير خراج مضروب عليهم أصلا لأن للمقيمين بمكة حقا وعليهم حق ليست كغيرها من الأمصار ومن هنا يصير التعليل بفتحها عنوة مناسبا لمنع اجارتها كما ذكرناه لا الحاقا لها بسائر أرض العنوة
فان قيل فالأرض إذا فتحت عنوة يجوز أمان أهلها على أنفسهم وأموالهم كذلك قيل نعم يجوز قبل الاستيلاء أن يؤمن من ترك القتال على نفسه وماله لما فيه من الانتفاع بترك قتاله وهو أمان بشرط بل إذا جوزنا السبي على الأسير بعد الأسر للمصلحة كيف لا نجوز ذلك قبل الأسر
____________________
(29/213)
وهنا زيادة الأمان على ماله لأن ذلك قبل الاستيلاء كما لو نزلوا على حكم حاكم فانه من أسلم منهم قبل الحكم عصم دمه وماله لأنه لم يتم القهر فان دخوله مكة كان قبل الظهر ودخلها قهرا وبهذا التحرير تظهر الشبهة التي أوجبت كلا من القولين
وأما بعد القهر فيجوز أن يمن على المقهورين وتدفع اليهم الأرض مخارجة فالذين حاربوا بمكة أو هربوا ثم أمنهم بعد قهرهم والقدرة عليهم هذا جائز فى أنفسهم كالمن ولهذا سماهم الطلقاء وأما في أموالهم فالأرض قد ذكرت سبب ذلك فيها
وأما المنقول والذرية
وسئل
عن مقطع له ماء داخل اقطاعه ويقصد بيعه لمقطع آخر واجراءه فى بلده فهل يجوز للمشتري أن يشتري الماء وهل يجوز للبائع أن يبيع الماء الداخل فى اقطاعه ويجريه فى بلد المشتري
فأجاب اذا كان الماء محبوسا عليه فى الاقطاع مثل أن تكون الأرض بمائها محبوسة عليه بألف درهم وبدون تحبيس عليه بخمسمائة
____________________
(29/214)
درهم وهو يريد تعطيل ما يستحقه من الزرع وبيعه لغيره [ يسقي ] به فى أرضه فان هذا يجوز بيعه بخلاف الماء الذي يجري فى ملكه بلا عوض مثل أن يحيي أرضا وفيها عين جارية فان فى جواز بيع مثل هذا الماء قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد
إحداهما يجوز بيعه وهو مذهب الشافعي ومالك
والثانية لا يجوز وهو مذهب أبى حنيفة وهو المشهور عن أحمد
وأما الماء الذي يكون بالأرض المباحة والكلأ الذي يكون بها فهذا لا يجوز بيعه باتفاق العلماء
وسئل رحمه الله
عن رجل له عين ماء جارية اذا باع منها اصبع ماء أو نحوه هل يجوز مع أنه غير مرئى بل ينبع شيئا فشيئا
فأجاب أما من يملك ماء نابعا مثل أن يملك بئرا محفورة فى ملكه ويدخل فى لفظ البئر ما ينصب عليه الدولاب وما لا ينصب أو يملك عين ماء فى أرض مملوكة له فهذا يجوز له أن يبيع البئر
____________________
(29/215)
و العين جميعا ويجوز أن يبيع بعضها مشاعا على اصبع وأصبعين من أربعة وعشرين كما يباع مع البستان والدار ما له من الماء مثل أصبع وأصابع من قناة كذا وان كان أصل تلك القناة فى الأرض المياه فكيف إذا كان أصل الماء فى ملكه فهذا مما لا أعلم فيه نزاعا
وان كانت العين تنبع شيئا فشيئا فانه ليس من شرط المبيع ان يرى جميع المبيع بل يرى ما جرت العادة برؤيته وأما ما يتجدد مثل المنافع ونقع البئر فهذا لا يشترط أحد رؤيته لا في بيع ولا إجاره
وإنما تنازع العلماء لو باع الماء بدون القرار هل يصح بيعه لكونه يملك أو لا يصح لكونه لا يملك على قولين مشهورين هما روايتان عن احمد واكثر العلماء على جواز بيعه وهو مذهب ابى حنيفة ومالك وهو منصوص للشافعي بل نص على أن الماء مملوك
وتنازعوا فيما إذا باع الأرض ولم يذكر الماء هل يدخل أم لا
وأما بيع البئر والعين بكمالها أو بيع جزء منها فما علمت فيه تنازعا اذا كانت الأرض مملوكة وقد ندب النبى صلى الله عليه وسلم إلى شراء بئر رومة من مالكها اليهودي فاشترى عثمان بن عفان
____________________
(29/216)
نصفها وحبسه على المسلمين وكان دلوه منها كدلو واحد من المسلمين ثم لما رأى اليهودي ذلك باعه النصف الآخر فاشتراه عثمان وجعل البئر كلها حبسا على المسلمين
وهذا الحديث مما احتج به الفقهاء على عدة مسائل مثل وقف المشاع وتكلم الفقهاء فى مثل ذلك هل فيه شفعة فأكثر الفقهاء على ان فيه الشفعة كأبى حنيفة واحمد فى احدى الروايتين عنه وهو أحد القولين فى مذهب مالك واختاره بن سريج من أصحاب الشافعي ولكن المشهور عن الشافعي أنه لا شفعة فيه وهو الرواية الأخرى عن أحمد إختارها كثير من أصحابه والأظهر وجوب الشفعة فى ذلك
والمقصود هنا أنهم اتفقوا على جواز بيع ذلك وجواز هبة ذلك أظهر من جواز بيعه
وسئل
عن رجلين لهما اقطاع فى بلد فاختصما فى بيع النبات الذي يطلع من عند الله فزعم احدهما أنه مثل النبات البري لا يجوز بيعه لأنه ما هو ملكه فقال له الآخر بل يجوز لأن السلطان أقطعه لي فهو ملكي ويجوز لي أن أبيع كل ما في حصتى وفى قرعتى هل
____________________
(29/217)
هما مصيبان أم مخطئان وما مذاهب الأئمة فى ذلك فأجاب الحمد لله أما النبات الذي ينبت بغير فعل الآدمي كالكلا الذي أنبته الله فى ملك الانسان أو فيما استأجره ونحو ذلك فهذا لا يجوز بيعه فى مذهب ابى حنيفة واحمد فى المشهور عنه وهو قول بعض أصحاب مالك والشافعي لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( الناس شركاء فى ثلاث فى الماء والكلأ والنار (
ومعلوم أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يرد ما ينبت فى الأرض المباحة فقط لأن الناس يشتركون فى كل ما ينبت فى الأرض المباحة من جميع الأنواع من المعادن الجارية كالقير والنفط والجامدة كالذهب والفضة والملح وغير ذلك فعلم أنه أراد ما ينبت فى ارض الانسان
وايضا فقد ثبت فى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء يمنعه بن السبيل فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمله يداك ورجل بايع إماما لا يبايعه الا للدنيا إن أعطاه رضي وان منعه سخط ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا لقد أعطى بها اكثر مما
____________________
(29/218)
أعطى ( فهذا توعده الله بالعذاب لكونه منع فضل ما لم تعمل يداه والكلأ الذي ينبت بغير فعله لم تعمله يداه
والمشهور من مذهب الشافعي جواز بيع ذلك وهو المشهور من مذهب مالك فى الأرض التى جرت عادة صاحبها بالانتفاع بها فأما الارض البور التى لا يحرثها فلأصحابه فيها نزاع جوز ذلك بن القاسم ومنعه غيره
وأما إذا كان صاحبها قصد ترك زرعها لينبت فيها الكلأ فبيع هذا أسهل من بيع غيره لأن هذا بمنزلة استنباته
وقال فى جواب له أيضا
واما قوله ( الناس شركاء فى ثلاث الماء والكلأ والنار ( فهو حديث معروف رواه أهل السنن وقد اتفق المسلمون على أن الكلأ النابت فى الأرض المباحة مشترك بين الناس فمن سبق إليه فهو أحق به وأما النابت فى الأرض المملوكة فانه ان كان صاحب الأرض محتاجا إليه فهو أحق به وان كان مستغنيا عنه ففيه قولان مشهوران لأهل العلم واكثرهم يجوزون أخذه بغير عوض لهذا الحديث ويجوزون رعيه بغير عوض
____________________
(29/219)
وكذلك الماء ان كان نابعا فى أرض مباحة فهو مشترك بين الناس وان كان نابعا فى ملك رجل فعليه بذل فضله لمن يحتاج إليه للشرب للآدميين والدواب بلا عوض لهذا الحديث ولقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء يمنعه بن السبيل يقول الله له اليوم امنعك فضلى كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ورجل بايع إماما لا يبايعه الا للدنيا فان أعطاه منها رضي وان منعه منها سخط ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال والله الذي لا إله إلا هو لقد أعطيت بها كذا وكذا ( الحديث والله أعلم
وسئل
عن قوم ينقلون النحل من بلد إلى بلد فهل يحل لأهل البلد أن يأخذوا منهم أجرة ما جنته النحل عندهم
فأجاب الحمد لله لا حق على أهل النحل لأهل الأرض التى يجني منها فان ذلك لا ينقص من ملكهم شيئا ولكن العسل من الطلول التى هي من المباحات وعلى صاحب النحل العشر يصرفه إلى
____________________
(29/220)
مستحقه عند كثير من العلماء كأبى حنيفة وغيرهم لما روي فى ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه
وهذه الطلول هي أحق بالبذل من الكلأ فان هذه الطلول لا يمكن أن يجمعها الا النحل لكن اذا كانت لصاحب الأرض فنحله أحق بالجناء فى أرضه فاذا كان جني تلك النحل تضربه فله المنع من ذلك والله أعلم
وسئل
عن امرأة لها ملك غائب عنها ولم تره وعلمته بالصفة ثم باعته لمن رآه فهل يصح هذا البيع
فأجاب الحمد لله اذا علمته بالصفة صح بيعها وكذلك لو رآه وكيلها فى البيع صح البيع ايضا وان لم تره ولا وصف لها
وسئل
عن رجل يحتاج لقرض وكان عند شخص فول فتبايعا عليه ولم يره المشترى وكتب الحجة ثم وجده مسوسا
____________________
(29/221)
فأجاب اذا لم ير المبيع ولم يوصف له فالبيع باطل وعليه رده بمثله أو قيمته
وسئل رحمه الله
عن رجل يريد أن يبيع روحه وله عائلة هل يجوز ذلك
فأجاب الحمد لله أما البيع الشرعي فالحر المسلم لا يمكن بيعه ولكن إذا انضم إلى بعض الملوك أو الأمراء متسميا باسم مملوكه وذلك الملك أو الأمير يجعله من مماليكه الذين يعتقهم لا يتملكه تملك الأرقاء فهذا شبه ملك السيد الأول
وهذا الذي يفعله هؤلاء انما هو بيع عادي واطلاق عادي إذ أكثر المماليك ملك لبيت المال وولاؤهم للمسلمين ولكن من غلب اضيفوا إليه كما تضاف إليه الأموال ونحو ذلك ولا بأس على الانسان أن ينضاف إلى من يعطيه حقه من بيت مال المسلمين كما أضيف إلى غيره وعليهم ان يطيعوا من ولاه الله أمرهم فى طاعة الله ولا يطيعوا احدا فى معصية الله فالملك يشبه الملك والله أعلم
____________________
(29/222)
وسئل رحمه الله
عن مملوك لشخص مسلم مقيم فى بلاد التتر ثم أن المملوك هرب من عند استاذه من تلك البلاد وجاء إلى بلاد الشام وهو في الرق والآن المملوك يختار البيع فهل يجوز لأحد أن يبيعه ليحفظ ثمنه لاستاذه ويوصل ذلك إليه أم لا
فأجاب نعم يجوز إذا كان فى رجوعه إلى تلك البلاد ضرر عليه في دينه أو دنياه فانه يباع فى هذه البلاد بدون اذن استاذه والله أعلم
وسئل
عن شخص من الكفار فى بلاد الكفار كان عليه دين باع نفسه لشخص مسلم وقبض الثمن وأوفى به دينه وباع ابنته ايضا ورضوا بالرق وخسر عليهم التاجر المسلم كلفة الطريق والنفقة والكسوة حتى وصلوا إلى بلاد الاسلام فهل يجوز بيعهم وشراؤهم
____________________
(29/223)
فأجاب إذا دخل المسلم إلى دار الحرب بغير أمان فاشترى منهم أولادهم وخرج بهم إلى دار الاسلام كانوا ملكا له باتفاق الأئمة وله ان يبيعهم للمسلمين ويجوزأن يشتروا منه ويستحق على المشترى جميع الثمن
وكذلك اذا باع الحربي نفسه للمسلم وخرج به فانه يكون ملكه بطريق الأولى والأحرى بل لو أعطوه أولادهم بغير ثمن وخرج بهم ملكهم فكيف اذا باعوه ذلك
وكذلك لو سرق أنفسهم أو أولادهم او قهرهم بوجه من الوجوه فان نفوس الكفار المحاربين وأموالهم مباحة للمسلمين فاذا استولوا عليها بطريق مشروع ملكوها
وانما تنازع العلماء فيما اذا كان مستأمنا فهل له ان يشترى منهم أولادهم على قولين فى مذهب ابى حنيفة ومالك وأحمد فى رواية أنه يجوز الشراء منهم حتى قال أبو حنيفة وأحمد فى رواية منصوصة عنه أنه اذا هادن المسلمون أهل بلد وسباهم من باعهم للمسلمين جاز الشراء منه وخالفه فى ذلك مالك والشافعي فى الرواية الأخرى
وكذلك لو قهر أهل الحرب بعضهم بعضا او وهب بعضهم بعضا
____________________
(29/224)
او اشترى بعضهم بعضا أو سرقهم وباعهم أو وهبهم للمسلمين تملكوهم كما يملكهم المسلمون إذا ملكوهم بالقهر
وسئل
عن رجل اشترى عبدا فأقام فى خدمته مدة سنين ثم قصد المولى بيعه فادعى أنه حر وكان حال البيع اعترف بالرق فهل يجب أخذ ثمنه من الذي باعه وهل يعتق على مولاه
فأجاب إذا ثبت أنه كان حرا فانه يجب تغريمه للذي باعه وتغريره لكونه أقر له بالرق وللمشتري أن يطالب بالثمن من الذي قبضه منه وله أن يطلبه من هذا الآخذ الذي غره
وسئل رحمه الله
عن بيع الجوز واللوز والبندق والفستق والفول والحمص ذوات القشور هل يصح بيعه على مذهب الشافعي وهل يصح على مذهبه البيع والشراء من غير تلفظ بالمعاقدة واللفت والجوز والقلقاس هل يصح بيعه وهو فى الأرض مغيب أم لا
____________________
(29/225)
فأجاب الحمد لله أما مذهب الشافعي المنصوص عنه فانه لا يجوز هذه البيوع لكن جمهور العلماء على خلاف ذلك وهو الصحيح
أما الأولى فمذهب الثلاثة انه يصح مذهب مالك وابى حنيفة واحمد وغيرهم وقد حكي ذلك قولا للشافعي فانه في مرض موته اشترى الباقلا الاخضر وهو الذي عليه العمل من عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين فى جميع الأعصار والأمصار وقد ( نهى النبى عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع العنب حتى يسود ( فدل ذلك على جواز بيع الحب بعد اشتداده وان كان في سنبله وعلى قول من يمنع بيع الباقلا فى قشره لا يجوز ذلك ولهذا عد الطرسوسى وغيره المنع من بيع الباقلا من البدع المحدثة فانه لا يعرف عن احد من السلف انه منع ذلك
وحجة المانع نهي النبى عن بيع الغرر فظنوا أن هذا مجهول وليس الأمر كذلك فان هذه الأعيان تعرف كما يعرف غيرها من المبيعات التى يستدل برؤية بعضها على جميعها
وكذلك المشهور من مذهب الشافعي أنه لابد فى العقود من الصيغ فلا يصح بيع المعاطاة لكن الجمهور يخالفون هذا فمذهب مالك ان كل ما عده الناس بيعا فهو بيع فيجوز بيع المعاطاة فى القليل
____________________
(29/226)
والكثير وكذلك ظاهر مذهب أحمد ومذهب أبى حنيفة تجويز ذلك فى المحقرات وهو قول آخر فى مذهب احمد وقول طائفة من اصحاب الشافعي
وايضا ان العقود يرجع فيها إلى عرف الناس فما عده الناس بيعا أو إجارة او هبة كان بيعا وإجارة وهبة فان هذه الأسماء ليس لها حد فى اللغة والشرع وكل اسم ليس له حد فى اللغة والشرع فانه يرجع فى حده إلى العرف
وأما بيع المغيبات فى الأرض كالجزر واللفت والقلقاس فمذهب مالك أنه يجوز وهو قول فى مذهب أحمد ومذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد فى المعروف عنه أنه لا يجوز والأول أصح وهو أنه يجوز بيعها فان اهل الخبرة اذا رأوا ما ظهر منها من الورق وغيره دلهم ذلك على سائرها
وايضا فان الناس محتاجون إلى هذه البيوع والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر بل يبيح ما يحتاج إليه في ذلك كما اباح بيع الثمار قبل بدو صلاحها مبقاة إلى الجذاذ وان كان بعض المبيع لم يخلق وكما اباح أن يشترط المشتري ثمرة النخل المؤبر وذلك اشتراء قبل بدو صلاحها لكنه تابع للشجرة وأباح بيع العرايا بخرصها فأقام التقدير بالخرص مقام التقدير بالكيل
____________________
(29/227)
عند الحاجة مع أن ذلك يدخل فى الربا الذي هو اعظم من بيع الغرر وهذه ( قاعدة الشريعة ( وهو تحصيل اعظم المصلحتين بتفويت ادناهما ودفع اعظم الفسادين بالتزام ادناهما وبيع ما يكون قشره صونا له كالعنب والرمان والموز والجوز واللوز فى قشره الواحد جائز باتفاق الأئمة
وسئل
عن رجل اشترى من رجل ستة وعشرين فدان قلقاس بتسعة آلاف درهم وأمضى له البيع فى ذلك فقلع المشتري من القلقاس المذكور ثم بعد ذلك جاء رجل آخر زاد عليه ألف درهم فقبل الزيادة وطرد المشتري الأول ثم زاد المشترى الأول على الثاني خمسمائة وتسلم القلقاس وقلع منه مركبا وباعها وأورد له ثمنها ثم بعد ذلك زاد عليه فطرده وكتب القلقاس على الذي زاد عليه فهل يصح شراء الأول او الثانى
فأجاب الحمد لله هذا الذي فعله البائع غير جائز باجماع المسلمين بل يستحق العقوبة البليغة فإن بيع القلقاس ونحوه من المغيبات فى الأرض كالجزر واللفت ونحو ذلك اما أن يكون جائزا على أحد
____________________
(29/228)
قولي العلماء كمالك وقول فى مذهب أحمد وغيرهما وإما أن لا يكون جائزا على قول ابي حنيفة والشافعي والمشهور عن أحمد فان كان جائزا كان البيع الثاني حراما مع الأول وهذا البائع لم يترك البيع الأول لكونه معتقدا تحريمه لكن لأجل بيعه للثانى ومثل هذا حرام باجماع المسلمين
والصحيح أن بيع القلقاس جائز ولا يحل قبول الزيادة فيكون للمشتري الاول ومن قال أنه باطل قال ليس للبائع الا ثمن المثل فيما أخذ منه أو الأقل من قيمة المثل
وسئل
عمن هاجر من بلد التتر ولم يجد مركوبا فاشترى من التتر ما يركب به فهل عليه الثمن بعد هجرته إلى دار الاسلام
فأجاب نعم اذا اشترى منهم فعليه أن يعطى الثمن لمن باعه وان كان تتريا والله أعلم
____________________
(29/229)
وسئل
عن تاجر رسم له بتوقيع سلطانى بالمسامحة بأن لا يؤخذ منه شيء على متجرة فتاجر سفرة فباع التوقيع الذي بيده لتاجر آخر لأجل الاطلاق الذي فيه فهل يصح بيع ما في التوقيع ثم ان المشتري للتوقيع بطل سفره ولم ينتفع فهل يلزمه أداء الثمن
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذا البيع ليس مقصوده بيع الورقة فان قيمتها يسيرة بل لا تقصد بالبيع أصلا وانما مقصوده أن الوظيفة التى كان يأخذها نواب السلطان تسقط عنه الحقوق ويأخذ هذا البائع بعضها أو عوضها منه لان البائع كانت تسقط عنه
وهذا يشبه ما يطلق من بيت المال بشرط أن يكون اطلاقا لمن وفد على السلطان أو خرج بريدا أو غير ذلك وهذا انما يعطاه اذا عمل ذلك العمل فاذا لم يخرج ولا عوضه لم يعطه واذا كان كذلك فاذا كان هذا للعارض لا هو ولا صاحب التوقيع لم يطلق له شيء وحينئذ فلا يستحق على المشتري شيئا وليس ما
____________________
(29/230)
ذكر لازما حتى يجب بمجرد العقد بل غايته ان قيل بالجواز كان جائزا والحالة هذه
وسئل رحمه الله
عن رجل باع سلعة مثل ما يبيع الناس ثم بعد طلب منه اكثر من ذلك والسلعة تالفة وهي من ذوات الامثال فهل له الرجوع بمثلها مع وجود المثل
فأجاب ليس له مطالبته بزيادة على السعر الواقع وقت القبض وهو ثمن المثل لكن يطلب سعر الوقت وهو قيمة المثل وذلك ان فى صحة هذا العقد روايتان
احداهما يصح كما يصح مثل ذلك فى الاجارة إذا دفع الطعام إلى من يطبخ بالاجرة واذا دخل الحمام أو ركب السفينة فعلى هذا العقد صحيح والواجب المسمى
والثانية أن العقد فاسد فيكون مقبوضا بعقد فاسد وقد يقال انه يضمن بالمثل ان كان مثليا والا بالقيمة كما يضمن المغصوب وهذا قول طائفة من اصحابنا وغيرهم كالشافعية لكن هنا قد تراضوا
____________________
(29/231)
بالبدل الذي هو القيمة كما تراضوا فى مهر المثل على أقل منه او اكثر ونظيره أن يصطلحا حيث يجب المثل أو القيمة على شيء مسمى فيجب ذلك المسمى لأن الحق لهما لا يعدوهما
ونظير هذا قول أصحاب أحمد فى المشاركة الفاسدة يظهر اثره فى الحل وعدمه لا في تعيين ما تراضيا عليه كما لا يظهر اثره فى الضمان بل ما ضمن بالصحيح ضمن بالفاسد وما لا يضمن بالصحيح لا يضمن بالفاسد فاذا استويا فى اصل الضمان فكذلك فى قدره وهذه نكتة حسنة لمن تدبرها والله اعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل أخذ سنة الغلاء غلة وقال له قاطعنى فيها قال له حتى يستقر السعر وصبر أشهرا وحضر فأخذ حظه بمائة وخمسين إردبا فهل له ثمن أو غلة
فأجاب الحمد لله الصحيح فى هذه المسألة ان له ما تراضيا وهو المائة والخمسون سواء قيل ان الواجب كان أولا هو السعر على أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد ان البيع بالسعر صحيح أو قيل إن البيع كان باطلا وان الواجب رد البدل فانهما اذا اصطلحا
____________________
(29/232)
عن البدل بقيمته وقت الاصطلاح جاز الصلح ولزم كما ان الزوجين اذا اصطلحا على قدر مهر المثل او أقل او اكثر جاز ذلك سواء كان هناك مسمى صحيح أو لم يكن ولا يقال القابض كان يظن أن الواجب عليه القيمة فالواجب إنما هو رد المثل لا يقال هذا فيه نزاع
واكثر العلماء يقولون اذا قبضت العين وتصرف فيها لم يكن الواجب رد الثمن اما بناء على صحة العقد واما بناء على أن المقبوض بالعقد الفاسد يملك بقول أبى حنيفة ويملك اذا مات بقول مالك واذا كان فيه نزاع فاذا اصطلحا على ذلك كان الصلح فى موارد نزاع العلماء وهو صلح لازم
وسئل رحمه الله
هل يجوز بيع المشاع
فأجاب يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين كما مضت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله الذي في صحيح مسلم ( ايما رجل كان له شرك في أرض او ربعة او حائط فلا يحل له ان يبيعه حتى يؤذن شريكه فان شاء اخذ وان شاء ترك فان باع
____________________
(29/233)
قبل أن يؤذنه فهو أحق به بالثمن (
وكذلك يضمن بالاتلاف وما هو فى معنى الاتلاف كالسراية فى العتق كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من اعتق شركا له فى عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لاوكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد (
واذا باع الشقص المشاع وقبضه أو لم يقبضه فقد اتفق المسلمون على أن حق الشريك باق فى النصف الآخر وان لم يتصرف بانواع التصرفات الجائزة فى المال المشترك فللمشتركين أن يتهايآ فيه بالمكان أو بالزمان فيسكن هذا بعضه وهذا بعضه وبالزمان يبدأ هذا شهرا ويبدا هذا شهرا ولهما ان يؤجراه ولأحدهما أن يؤجره من الآخر ومن امتنع منهما من المؤاجرة أجبر عليها عند جمهور العلماء الا الشافعي وفى الاجبار على المهايأة أقوال ثلاثة معروفة
____________________
(29/234)
وسئل
عن رجل له شريك فى خيل وباع الشريك الخيل لمن لا يقدر رفيقه على تخليصها بغير إذن الشريك فهل يلزمه القبض
فأجاب إذا باع نصيبه وسلم الجميع إلى المشتري وتعذر على الشريك الانتفاع بنصيبه كان ضامنا لنصيب الشريك فاما أن يمكنه من نصيبه وإما أن يضمنه له بقيمته
وسئل عن شركة فى ملك بشهادة شهود بينهم ثم ان بعض الشركة باع الملك جميعه بشهادة أحد الشهود بالشركة فهل يصح البيع فى ملكه ويبطل فى الباقي أو يبطل الجميع
فأجاب الحمد لله أما بيع نصيب الغير فلا يصح الا بولاية أو وكالة وإذا لم يجزه المستحق بطل باتفاق الأئمة لكن يصح البيع فى نصيبه خاصة فى أحد قولي العلماء بقسطه من الثمن وللمشتري
____________________
(29/235)
الخيار فى فسخ البيع أو إجازته وان كان المكان مما يقسم بلا ضرر فله إلزام الشريك بالقسمة وإن كان مما لا يقسم الا بضرر فله المطالبة ببيع الجميع ليقتسما الثمن
واذا كان الشاهد يعلم أن البائع ظالم وشهد على بيعه معونة على ذلك فقد أعان على الاثم والعدوان والمعاونة بالشهادة على العقود المحرمة لا تجوز بل قد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ( وقال ( انى لا أشهد على جور ( فمن فعل ذلك مصرا عليه قدح فى عدالته والله أعلم
وسئل رحمه الله
هل يجوز بيع الكرم لمن يعصره خمرا اذا اضطر صاحبه إلى ذلك
فأجاب لا يجوز بيع العنب لمن يعصره خمرا بل قد لعن رسول الله ( ( من يعصر العنب لمن يتخذه خمرا فكيف بالبائع له الذى هو أعظم معاونة ولا ضرورة إلى ذلك فانه اذا لم يمكن بيعه رطبا ولا تزبيبه فانه يتخذه خلا أو دبسا ونحو ذلك
____________________
(29/236)
وسئل رحمه الله
عن شراء الجفان لعصير الزيت أو للوقيد أو
لهما فأجاب بيع الزيت جائز وان لم يعلم مقدار زيته كما يجوز بيع حب القطن والزيتون ونحوهما من المنعصرات والمبيعات مجازفة وسواء اشتراه للعصير أو للوقيد لكن لا يجوز للعاصر أن يغش صاحبه واذا كان قد اشترط أن تكون الجفنة أجرة لرب المعصرة بحيث قد واطأ عليه العاصر على أن يبقى فيها زيتا له كان هذا غشا حراما وحرم شراؤه للزيت
وسئل
عن رجل له دكان مستأجرة بخمسة وعشرين كل شهر وله فيها عدة وقماش فجاء إنسان فقال أنا استأجر هذه الدكان بخمسة وأربعين وأقعد بالعدة والقماش أبيع فيه واشترى فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب هذا قد جمع بين بيع وإجارة معا وذلك جائز فى أظهر قولي العلماء والله أعلم
____________________
(29/237)
وسئل رحمه الله
عمن ضمن من ولاة الأمور أن لا يباع صنف من الأصناف الا من عنده وذلك الصنف لا يوجد الا عنده فى تلك البقعة ويوجد فى الأماكن القريبة من نواحي تلك البقعة بحيث تكون المسافة ما بين مصر والقاهرة فهل يجوز الابتياع من هذا المحتكر أم لا
فأجاب الحمد لله أما هو نفسه فلا يحل له أن يفعل من وجهين
من جهة أنه يمنع غيره من البيع الحلال ومن جهة أنه يضطر الناس إلى الشراء منه حتى يشتروا ما يريد فيظلمهم بزيادة الثمن
وأما ما يشترى منه فان كان قد اشتراه بمال له حلال لم يحرم شراؤه منه لأن المشتري هو المظلوم ومن اشترى لم يأثم ولا يحرم ما أخذه لظلم البائع له فان مثل هذا إنما يحرم على الظالم لا على المظلوم
وأما ان كان اشترى ما اشتراه بما ظلمه من الأموال كان ذلك مغصوبا محضا كالشراء من الغاصب فحكم هذا ظاهر
____________________
(29/238)
وأما ان كان أصل ماله حلالا ولكن ربح فيه بهذه المعيشة حتى زاد فهذا قد صار شبهة بقدر ما خالطه من أموال الناس فلا يقال هو حرام ولا يقال حلال محض لكن ان كان الغالب عليه الحلال جاز الشراء منه وتركه ورع
وأما ان كان الغالب الحرام فهل الشراء منه حلال أو حرام على وجهين ولا ريب أن الربح الذي يحصل له بعضه يستحقه وهو ما يستحقه مثله فان ماله الذي قبض منه لو قبض بعقد فاسد لوجب له مثله أو قيمة مثله والمشترون يأخذون سلعته فله عليهم مثلها أو قيمة مثلها
ثم ان أهل الضمان يأخذون منه بعض ما ظلمه فان الحانوت يكون شراؤه عشرين فيلزمونه بخمسين لأجل الضمان فتلك الثلاثون حرام عليهم وهي قد أخذت منه وأما ما يبقى له من الزيادة المحرمة فهاتيك التى ماله ومع الحاجة وتعدل غيره بكون الرخصة أقوى والله أعلم
____________________
(29/239)
وسئل
عن الأعيان المضمنة من الحوانيت كالشيرج وغيره من الأطعمة وغيرها وهي أن انسانا يضمن بيع شيء من الأشياء وحده بشرط أن لا يبيع غيره شيئا من ذلك فيقول عندي كذا وكذا كل شهر لمالك حانوت أو خان أو موضع آخر على أن اشترى وأبيع فيه شيئا لا يبيعه غيري أو أعمل كذا وكذا يعنى شيئا يذكره على أن غيري لا يعمل مثله فهل يجوز الشراء من هذا الانسان من هذه الأعيان التى يبيعها مع التمكن من مشترى غيرها من جنسها أم لا وهل يجوز استعمال شيء منها بالأعيان باعتبار مشقة عند تحصيل غير ذلك الشيء أم لا سواء كانت الضرورة داعية إلى ذلك الاستعمال أم لا
فأجاب الحمد لله أما مع الغني عن الاشتراء منه فينبغي أن لا يشترى منه فانه ظالم بمنع غيره ولو لم يكن فى ماله شبهة فمجانبته وهجره أولى بحسب الامكان
وأما الشراء منه لا سيما مع الحاجة فلا يحكم بتحريمه ولا
____________________
(29/240)
يحكم بتحريمه اذا اشترى مع امكان الشراء من غيره ولكن مع الحاجة لا يكره الشراء منه فان هذا له مال يشترى به ويبيع لكن إذا منع غيره واحتاج الناس إلى الشراء منه باعهم بأغلى من السعر فظلمهم وغايته أن يكون بمنزلة ما يضعه الظلمة على الناس من البضائع بأكثر من قيمته فيشترونه مكرهين فان هذا لا يحرم على المشترى ما اشتراه ولكن يحرم على البائع ما أخذه بغير حق لكن قد يقال أن هذا قد اختلط بماله من تلك الزيادات المحرمة فصار في ماله شبهة
فيقال أولا من غلب على ماله الحلال جازت معاملته كما ذكره اصحاب الشافعي وأحمد وان غلب الحرام فهل معاملته محرمة أو مكروهة على وجهين
ثم يقال تلك الزيادات ليس لها مستحق معين يعرف والواجب عند جمهور العلماء فيما لا يعرف مالكه أن يصرف فى مصالح المسلمين وهذا انما منعناه من الزيادة لئلا يظلم الناس فلو جعلنا ما يشتريه الناس منه حراما لكنا قد زدنا الضرر على الناس اذا احتاجوا أن يشتروا منه بأكثر من القيمة والذي اشتروه حرام وهم لا يطيقون الشراء من غيره وهذا لا يجوز أن يقال بل يجوز الشراء من مثل هذا والمشترى منه لم يظلم أحدا فان ما اشتراه قد أعطاه عوضه وزيادة والمستحق للعوض هو المستحق لما معه من المال فاذا كان المستحق
____________________
(29/241)
لذلك جماعة من المسلمين أو معين منهم فهو نفسه قد ظلم أولئك جميعهم بما أخذه منهم بغير حق وأما المشترى منه الذي أعطاه العوض وزيادة فلم يظلم أحدا
وهذا بين اذا كان ماله مختلطا بعضه ببعض لا يتميز منه ما أخذه حراما فان حق المظلومين ثبت فى ذمته وهذه الأعيان التى فى يده لا يستحقها بعينها المظلومون فمعاوضته عليها جائزة وعليه أن يعطى المظلوم ما اخذه بغير حق وبهذا أفتى في مثل هذا من شاء الله من العلماء وهذا كسائر من عليه دين للناس وهو ظالم بمطله للغرماء فان النبي صلي الله عليه وسلم قال ( مطل الغنى ظلم (
ثم مع هذا اذا عاوض على ما فى يده بمعاوضة المثل وزيادة جاز باتفاق العلماء ولم يكره الشراء منه ولكنه لو تبرع تبرعا يتعذر معه أداء الدين الواجب ففي نفوذ تبرعه قبل الحجر عليه قولان للعلماء لكن يقال هذا الظالم لما أخذ الزيادة واشترى بها فقد تعلق حق المظلوم بما اشتراه بماله بخلاف الدين الذي حصل برضا الغريم فان صاحبه لا حق له فى غير مال المدين فيقال هذا ينبني على أصول
أحدها أن الدراهم التى أخذها زيادة بغير حق هل يتعين حق صاحبها فيها أو للغاصب أن يعطيه من حيث شاء
____________________
(29/242)
وللعلماء قولان فى الدراهم هل تتعين بالتعيين فى العقود والقبوض حتى فى الغصب والوديعة فقيل تتعين مطلقا كقول الشافعي وأحمد فى إحدى الروايتين وقيل لا تتعين مطلقا كقول بن قاسم وقيل تتعين فى الغصب والوديعة دون العقد كقول أبي حنيفة وأحمد فى الرواية الأخرى فاذا خلط المغصوب بمثله على وجه لا يتميز كما تخلط الأدهان والألبان والحبوب وغيرها فهل يكون الخلط كالاتلاف حيث يبقى حق المظلوم فى الذمة فيعطيه الظالم من حيث شاء أو حقه باق فى العين فله أن يأخذ من عين الخلط بالقسمة فيه وجهان فى مذهب الشافعى واحمد ومعلوم ان تلك الدراهم الزائدة ليست متعينة سواء اشترى منه دراهم فى الذمة أو منفعة فان المظلوم أخذ منه القدر الزائد على عوض المثل وليس هو متعينا ولو كان متعينا ثم خلطه بما لا يتميز منه سقط حقه من التعيين فى أحد القولين فكيف اذا لم يكن متعينا فى الأصل فعلى قول كثير من العلماء ليس حقه إلا في ذمة الظالم
وهذا نظير قول من يقول إن المضارب والمودع إذا مات ولم يعين الوديعة والمضاربة صارت دينا فى ذمته ولم يجعلوا لصاحب المال حقا فى عين التركة فان تفريط المودع حين لم يميز الوديعة من غيرها موجب لضمانه لكن هؤلاء أسقطوا حق المالك من عين مال الميت فلم
____________________
(29/243)
يقدموه بعين ماله على الغرماء بل جعلوه غريما من الغرماء وان كان عين ماله مختلطا والظلم يكون بترك الواجب وفعل المحرم فترك المودع ما يجب عليه من التمييز ظلم منه
وهذا القول وهو سقوط حق المالك من العين وان كنا لا ننصره لكن المقصود بيان مأخذ هذه المسألة على أصول العلماء ولهذا لما فرع هذه المسألة من فرعها من المالكية بنوا الأمر على أن حق المظلوم تعلق بالذمة دون العين
والأصل الثانى أن الظالم فى العادة انما يشترى فى الذمة ثم ينفذ عين المال وفى صحة مثل هذا قولان معروفان للعلماء
الأصل الثالث أن نسلم أن حق المظلوم يتعلق بعين مال الظالم وان فاتت العين لكون هذا بدل ماله وهذا القول الذي نزعه وهو أن يخير المظلوم بين المطالبة بشطر حقه وبين أن يكون حقه متعلقا بعين المال ويكون ما يزيد من المال من نماء وربح وغيره له المطالبة به لكن يقال على هذا المظلوم ليس له إلا قدر حقه وأما الزيادة الثانية التى حصلت بتصرف الظالم فهي مبنية على وقف العقود فمن قال أن العقود لا توقف يقول ما قبضه البائع الظالم من المشترى لم يملكه لأنه قبضه بعقد فاسد والثمن الذي أداه وقد غصبه هو
____________________
(29/244)
فى ذمته فيكون عليه دون الناس الذين ظلمهم وما في يده لا يملكه بل هو لأناس مجهولين لا يعرفهم ولا يتصرف فى مالهم إلا باذنهم وعلى هذا ففيه قولان
قيل أن ولي الأمر كالحاكم وغيره ممن له ولاية التصرف على الغائبين يقضي الديون التى وجبت عليهم للبائع بالأموال التى فى يده لهم
وقيل أن البائع له أن يستوفى دينه الذي عليهم مما لهم فى يده من المال ولا يحتاج إلى استئذان حاكم وهذا أصح فان المعلوم لصاحبه أن يستوفيه من مال من هو عليه ولا يحتاج إلى إذن الحاكم كما أذن النبى صلى الله عليه وسلم للضيف المظلوم أن يأخذ حقه من زرع المضيف بغير اذنه وكما أمر المرأة أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف بلا اذن الزوج لكن اذا كان الحق مجحودا فقد قال ( أد الأمانة إلى من إئتمنك ولا تخن من خانك ( فكيف اذا كان الانسان قد باع غيره سلعة بيعا فاسدا وقبض منه الثمن فله أن يستوفى منه من هذه السلعة بطريق الأولى والأحرى
وأما على قول جمهور العلماء القائلين بوقف العقود حتى توفى التبرعات عند الحاجة فيقولون من بيده مال غصب أو وديعة أو عارية وهو لا يعلم عين مالكه يتصدق به عنه وهذا قول مالك وأبي
____________________
(29/245)
حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم ولكن لصاحبه اذا ظهر أن لا ينفذ ذلك
وأما المعاوضة على ذلك فليس لصاحبه اذا عرف أن يردها بل تثبت الولاية على المعاوضة شرعا للحاجة كما لو مات رجل فى موضع ليس فيه وصي ولا وارث ولا حاكم فان رفقته فى السفر تثبت لهم الولاية على ماله فيحفظونه ويبيعون ما يرون بيعه مصلحة وينفذ هذا البيع ولهم أن يقبضوا ما باعوه ولا يقف ذلك على إجازة الورثة وليس هذا من التصرف الفضولي بل هو يعرف بولاية شرعية للحاجة كما ثبت لهم ولاية غسله وتكفينه من ماله ودفنه وغير ذلك فان المؤمنين بعضهم أولياء بعض
واذا عرف هذا فالبائع الذي باع ما اشتراه بتلك الزيادة وقبض الثمن من المشتري اذا قيل البيع فاسد لا يقف على الإجازة ولا على المشتري رد ما قبض منه وعليه رد ما قبض من الثمن فاذا تعذر رد المشتري ما قبض كان له أن يأخذ نظير ذلك وقد يكون أكثر من الثمن وأقل والغالب أنه مثله
وكذلك ما اشتراه تلك الزيادة عليه ردها إلى صاحبه وعلى صاحبه رد الزيادة إلى صاحبها فقابض الزيادة الظلمية اذا لم يردها كان للمظلوم
____________________
(29/246)
الأول أن يأخذ من ماله الذي صار بيد البائع نظير ذلك وقابضها الذي باع بها ماله اذا لم يرد ماله كان له أن يأخذ بقدره من تلك الزيادة وهذا احتمال كل من تبايعا بيعا فاسدا وتقابضاه اذا قيل أن المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك فكل منهما له عند الآخر ما قبضه الآخر منه وللاخر عنده ما قبضه منه فاذا تعذر الرد كان له أن يأخذ قدر حقه سواء كان من جنس الحق أو من غير جنسه
وعلى هذا فما صار بيد هذا الضامن الظالم من الزيادات الظلمية من أموال المشترين المختلطة التى لا تتميز اذا اشترى بها شيئا وأقبض المشترين ملك الزيادة وقبض ما اشتراه كان ما حصل بيده من أموالهم بازاء ما قبضوه من الزيادة إلى مستحقها فلا يكون الشراء منه بثمن المثل حراما فكيف من اشترى منه بزيادة بخلاف ما يؤخذ منه تبرعا فهذا فيه كلام آخر ليس هذا موضعه فان بن مسعود سئل عن رجل يعامل بالربا اذا أضاف غيره فقال بن مسعود كل فان مهناه لك وحسابه عليه وهذا للعلماء فيه كلام وليس هذا موضعه وينبنى على هذا أصول متعددة
منها المقبوض بالعقد الفاسد هل يملك او لا يملك
ومنها اذا تصرف فى العين تصرفا يمنع ردها بعينها فهل ينتقل الحق إلى ذمته أو هو باق فى ماله الذي اختلط به العين والذي عاوض
____________________
(29/247)
به عن العين وغير ذلك من المسائل
وأما إذا قلنا بوقف العقود لا سيما مع تعذر الاستئذان كما هو مذهب الثلاثة فالأمر فى ذلك أظهر فان العادة الغالبة أن الناس يرضون ببيع مثل هذه الأموال التى أعدوها للبيع بالزيادة بخلاف ما أعدوه للقنية
وأيضا فالمظلوم وان كان له فى هذا المال حق قليل بسبب الزيادة التى ظلمها فبعضه لصاحب الحانوت الظالم ولا يتميز هذا عن هذا ومثل هذا اذا طلب أحد الشريكين بيعه أجبر الممتنع على البيع لأجل شريكه فمن كان بينهما مال لا يقبل القسمة كحيوان اذا طلب أحد الشريكين بيعها وقسمة الثمن أجبر الآخر على ذلك عند جمهور العلماء وهو مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد وذكر بعض المالكية أن هذا اجماع لأن حق الشريك فى نصف قيمة الجميع لا فى قيمة النصف بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ( من أعتق شركا له فى عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لاوكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد والا فقد عتق منه ما عتق ( فجعل حق الشريك في نصف قيمة الجميع وأمر بتقويم جميع العبد لا بتقويم حصة الشريك فقط
____________________
(29/248)
فاذا كان كذلك فمعلوم أن الزيادة الظلمية لا تتميز عن المزيد ولا يمكن القسمة بينهما إلا بقسمة العين أو قسمة بدلها والعين قد تعذر ردها فتعين قيمة بدلها فدل على أنه يجوز أن يعاوض صاحب الحانوت على ما في يده من الأموال وعليه أن يعطى الشركاء المظلومين حقوقهم وأنه إما أن يقال أن حق المظلومين فى ذمته فقط أو أنها متعلقة بالأعيان مع جواز المعاوضة لتوفية حقوقهم اذ لا سبيل إلى توفية حقوقهم بالعدل إلا مع ذلك وعلى هذا فالمشترون تسلموا ما اشتروه شراء حلالا جائزا
وعلى هذا أدلة أخرى تبين أن الناس المشترين لم يظلموا أحدا اذا اشتروا وان شراءهم جائز وأن منع الناس من الشراء من هؤلاء ظلم مضاعف لم يأمر الله به ولا رسوله وعلى هذا فمع الحاجة إلى الشراء منه لا يكره الشراء منه فضلا عن أن يحرم
وأما اذا قدر أن الذى باعه عين المعقود فهذا ينبنى على وقف العقود وعلى التصرف فى مال المالك المجهول بغير اذنه للمصلحة واكثر العلماء على القول بوقفها لا سيما عند الحاجة وهو مذهب مالك وأبى حنيفة وكذلك أحمد عند الحاجة مثل أن يتعذر استئذان المالك لعدم العلم به وفى ذلك بدون الحاجة روايتان واختار الخرقى القول وقفها كمذهب مالك وأبي حنيفة وهو قول الشافعي فيكون
____________________
(29/249)
تصرفه فى مال الغير موقوفا على إجازته اذا أمكن استئذانه وأما المجهول الذي لا يعرف فلا يفتقر ذلك إلى استئذانه بل ينفذ التصرف له بالمصلحة ولو عرف بعد ذلك لم يكن له رد المعاوضات وإنما له رد التبرعات كصاحب اللقطة
وقد عرف من حيث العادة ان أرباب مثل هذه الأموال المسئول عنها ليس لهم غرض فى شيء بعينه ولا يكره أحدهم أن تباع سلعته بزيادة فانهم يختارون بيع المشتري ولكن البائع هو الذي ظلمهم وهو هنا لما لم يعرف المالك جاز التصرف بالعقد والقبض بخلاف ما اذا عرف المالك فانه لابد من استئذانه فى القبض باتفاق العلماء
وهذا كاللقطة التى لا يعرف مالكها قال النبى صلى الله عليه وسلم ( فهو مال الله يؤتيه من يشاء ( فاذا تصدق بها الملتقط كان ذلك موقوفا على اجازة المالك اذا عرف عند جمهور العلماء وقبل أن يعرف يكون التصدق نافذا غير موقوف ولكن الملتقط البائع ليس بظالم وهنا البائع ظالم لكن المشتري ليس بظالم والمال لا يمكن اتلافه وهو بيد البائع الظالم فأخذ الشراء له بالزيادة حرام للمالك المجهول فالشارع ينفذ الملك لمصلحة المشتري والمالك المجهول المظلوم ان كان البائع ظالما
كما لو قدر أن ناظر الوقف ووصى اليتيم والمضارب والشريك
____________________
(29/250)
خانوا ثم تصرفوا مع ذلك فلابد من تصحيح تصرفهم فى حق المشتري منهم وحق رب المال والا فلو أبطل ذلك فسد عامة أموال الناس التى يتصرف فيها بحكم الولاية والوكالة لغلبة الخيانة على الأولياء والوكلاء لا سيما ويدخل فى ذلك من تصرفات ولاة الأمور ما لا يمكن إبطاله والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فلا يجوز لأحد رعاية حق مجهول فى عين حصل عنها بدل خير له
منها أن يحرم عليه وعلى المشترين أموالهم فان هذا بمنزلة من يهدم مصرا ويبنى قصرا وبسط هذه المسألة وتوابعها له مكان آخر قد ذكر فى ذلك من الشواهد وكلام العلماء والصحابة والتابعين ما لا يتسع له هذا الموضع
____________________
(29/251)
وسئل رحمه الله تعالى
هل هذه الأشياء المطعومات التى يؤخذ عليها المكس وهي مضمنة أو محتكرة هل يحرم على من يشتري منها شيئا ويأكل منها وان عامل رجل لانسان كل ماله حرام مثل ضامن المكس أو من ليس له مال سوى المكس فهل يفسق بذلك
فأجاب الحمد لله أما اذا كان الرجل يبيع سلعته من طعام أو غيره وعليهما وظيفة تؤخذ من البائع أو المشتري فهذا لا يحرم السلعة ولا الشراء لا على بائعها ولا على مشتريها ولا شبهة فى ذلك أصلا
وكذلك اذا كان المأخوذ بعض السلعة مثل أن يأخذوا من الشاة المذبوحة سواقطها أو من الحبوب والثمار بعضها ومن ظن فى ذلك شبهة فهو مخطئ فان هذا المال المأخوذ ظلما سواء أخذ من البائع أو من المشتري لا يوجب وقوع الشبهة فيما بقى من المال وكما لو ظلم الرجل وأخذ بعض ماله فان ذلك لا يوجب وقوع الشبهة فيما بقى من ماله
وهذه الوظائف الموضوعة بغير أصل شرعي منها ما يكون موضوعا
____________________
(29/252)
على البائع مثل سوق الدواب ونحوه فاذا باع سلعته بمال فأخذ منه بعض ذلك الثمن كان ذلك ظلما له وباقى ماله حلال له والمشتري اشترى بماله وربما يزاد عليه فى الثمن لأجل الوظيفة فيكون منه زيادة فبأي وجه يكون فيما اشتراه شبهة وان كانت الوظيفة تؤخذ من المشتري فيكون قد أدى الثمن للبائع والزيادة لأجل تلك الكلفة السلطانية ولا شبهة فى ذلك لا على البائع ولا على المشتري لأن المنافع لم تؤخذ الا بما يستحقه والمشتري قد أدى الواجب وزيادة
واذا قيل هذا فى الحقيقة ظلم للبائع لانه هو المستحق لجميع الثمن قيل هب أن الأمر كذلك ولكن المشتري لم يظلمه وانما ظلمه من أخذ ماله كما لو قبض البائع جميع الثمن ثم أخذت منه الكلفة السلطانية
وفى الحقيقة فالكلفة تقع عليهما لأن البائع اذا علم أن عليه كلفة زاد فى الثمن والمشتري اذا علم أنه عليه كلفة نقص من الثمن فكلاهما مظلوم بأخذ الكلفة وكل منهما لم يظلم أحدا فلا يكون فى مالهما شبهة من هذا الوجه فما يبيعه المسلمون اذا كان ملكا لهم لم يكن فى ذلك شبهة بما يؤخذ منهم فى الوظائف
وأما اذا ضمن الرجل نوعا من السلع على أن لا يبيعها الا هو
____________________
(29/253)
فهذا ظالم من وجهين من جهة أنه منع غيره من بيعها وهذا لا يجوز ومن جهة أنه يبيعها للناس بما يختار من الثمن فيغليها وهؤلاء نوعان
منهم من يستأجر حانوتا بأكثر من قيمتها إما لمقطع واما لغيره على أن لا يبيع فى المكان الا هو أو يجعل عليه مالا يعطيه لمقطع أو غيره بلا استئجار حانوت ولا غير ذلك وكلاهما ظالم فان الزيادة التى يزيدها فى الحانوت لاجل منع الثانى من البيع هو بمنزلة الضامن المنفرد
والنوع الثانى أن لا يكون عليهم ضمان لكن يلتزمون بالبيع للناس كالطحانين والخبازين ونحوهم ممن ليس لهم وظيفة لكن عليه أن يبيع كل يوم شيئا مقدرا ويمنعون من سواهم من البيع ولهذا جاز التسعير على هؤلاء وان لم يجز التسعير فى الاطلاق فان هؤلاء قد أوجبت عليهم المبايعة لهذا الصنف ومنع من ذلك غيرهم فلو مكنوا أن يبيعوا بما أرادوا كان ظلما للمساكين بخلاف ما إذا كان الناس كلهم متمكنين من ذلك فانه يكون كما فى السنن عن أنس قال ( غلا السعر على عهد النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله سعر لنا فقال إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وانى لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبنى بمظلمة فى مال
____________________
(29/254)
وأما في الصورة فاذا كانوا قد ألزموا بالمبايعة لم يجز أن يلزموا بان يبيعوا بدون ثمن المثل لأن ذلك ظلم لهم واذا كان غيرهم قد منع من المبايعة لم يجز أن يمكنوا أن يبيعوا بما اختاروا فان ذلك ظلم للناس
يبقى أن يقال فهل يجوز التزامهم بمثل ذلك على هذا الوجه على أن يكونوا هم البائعين لهذا الصنف دون غيرهم وان لا يبيعوه الا بقيمة المثل من غير مكس يوضع عليهم فهل يجوز للامام أن يفعل بهم ذلك أم يجب عليه أن لا يترك احدا يفعل ذلك
قيل اما إذا اختاروا أن يقوموا بما يحتاج الناس إليه من تلك المبيعات وان لا يبيعوها الا بقيمة المثل على أن يمنع غيرهم من البيع ومن اختار أن يدخل معهم فى ذلك مكن فهذا لا يتبين تحريمه بل قد يكون فى هذا مصلحة عامة للناس وهذا يشبه ما نقل عن عمر في التسعير وأنه قال ان كنت تبيع بسعر أهل الأسواق والا فلا تبع فان مصلحة الناس العامة فى ذلك أن يباعوا بما يحتاجون إليه وان لا يباعوا إلا بقيمة المثل وهذان مصلحتان جليلتان
والباعة اذا اختاروا ذلك لم يكونوا قد اكرهوا عليه فلا ظلم عليهم وغيرهم من الناس لم يمنع من البيع الا اذا دخل في هذه
____________________
(29/255)
المصلحة العامة بأن يشاركهم فيما يقومون به بقيمة المثل فيكون الغير قد منع أن يبيع سلعة بأكثر من ثمن المثل وان لا يبيعها الا اذا التزم أن يبيع لواحد منهم وقد يكون عاجزا عن ذلك وقد يقال هذان نوعان من الظلم الزام الشخص أن يبيع وأن يكون بيعه بثمن المثل وفى هذا فساد وحينئذ فان كان أمر الناس صالحا بدون هذا لم يجز احتمال هذا الفساد بلا مصلحة راجحة وأما ان كان بدون هذا لا يحصل للناس ما يكفيهم من الطعام ونحوه أو لا يلقون ذلك إلا بأثمان مرتفعة وبذلك يحصل ما يكفيهم بثمن المثل فهذه المصلحة العامة يغتفر فى جانبها ما ذكر من المنع
واما اذا الزم الناس بذلك فهذا فيه تفصيل فان الناس إذا اضطروا إلى ما عند الانسان من السلعة والمنفعة وجب عليه أن يبذل لهم بقيمة المثل ومنعه ان لا يبيع سلعة حتى يبيع مقدارا معينا وتفصيل هذه المسائل ليس هذا موضعه
اذا تبين ذلك فالذي يضمن كلفة من المكلف على أن لا يبيع السلعة الا هو ويبيعها بما يختار لا ريب أنه من جنس ظلم الكلف السلطانية من الوجهين اللذين تقدما ولهذا كره من كره معاملة هذا لأجل الشبهة التى فى ماله فانه اذا كان لا يبيع الا هو بما يختار صار كأنه يكره الناس على الشراء منه بما يختاره فيأخذ منهم اكثر مما يجب عليهم
____________________
(29/256)
و تلك الشبهة قد اختلطت بماله فيصير فى ماله شبهة من هذا الوجه فلهذا كره من كره معاملتهم
وهذا سبيل أهل الورع الذين لا يأكلون من الشواء المضمن ونحو ذلك فانهم إنما تورعوا عما كان بهذه المثابة وهو أن يكون بحيث لا يشوى الا هو ولا يبيع الشواء إلا هو بما يختاره ولا يبيع الملح الا هو بما يختاره والملح ليست كغيرها فان الملح فى الأصل هو من المباحات التى يشترك فيها المسلمون كالسمك وغيره من المباحات إذا لم يمكن من أخذها الا واحد بضمان عليه والذي يشتريها منه بماله لا يحرم لأن هذا المشتري لم يظلم فيه أحدا بل لو أخذها من الأصل كان له ذلك ولو استأجر هذا أو غيره ليأخذها له من موضعها المشترك كان ذلك جائزا ولو كانت مشتركة بين المسلمين لكانت تكون أرخص وكان المشتري يأخذها بدون ما أعطاه الضامن فهذا الضامن يظلم المشترى وغيره
وأما المشترون منه فهم لا يظلمون أحدا ولم يشتروا منه شيئا ملكه بماله فانما حرم عليه من الظلم من ترك ملكه لا يفوته ولم يظلم فيه أحدا لأنها فى الأصل مباحة والمسلمون الذين يشترونها هم المظلومون فانه لولا الظلم لتمكنوا من أخذها بدون الثمن فاذا ظلموا وأخذ منهم اكثر مما عليهم لم يكن ذلك محرما عليهم لما كان
____________________
(29/257)
مباحا لهم إذ الظلم إنما يوجب التحريم على الظالم لا على المظلوم
ألا ترى أن المدلس والغاش ونحوهما إذا باعوا غيرهم شيئا مدلسا لم يكن ما يشتريه المشتري حراما عليه لأنه أخذ منه أكثر مما يجب عليه وان كانت الزيادة التى أخذها الغاش حراما عليه وأمثال هذا كثير فى الشريعة فان التحريم فى حق الآدميين إذا كان من أحد الجانبين لم يثبت فى الجانب الآخر كما لو اشترى الرجل ملكه المغصوب من الغاصب فان البائع يحرم عليه أخذ الثمن والمشتري لا يحرم عليه أخذ ملكه ولا بذل ما بذله من الثمن ولهذا قال العلماء يجوز رشوة العامل لدفع الظلم لا لمنع الحق وارشاؤه حرام فيهما وكذلك الأسير والعبد المعتق إذا انكر سيده عتقه له أن يفتدي نفسه بمال يبذله يجوز له بذله وان لم يجز للمستولى عليه بغير حق أخذه
وكذلك المرأة المطلقة ثلاثا إذا جحد الزوج طلاقها فافتدت منه بطريق الخلع فى الظاهر كان حراما عليه ما بذلته ويخلصها من رق استيلائه ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ( اني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتلظاها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون الا ان يسألونى ويأبى الله لي البخل (
ومن ذلك قوله ( ما وقي به المرء عرضه فهو صدقة ( فلو
____________________
(29/258)
أعطى الرجل شاعرا أو غير شاعر لئلا يكذب عليه بهجو او غيره أو لئلا يقول فى عرضه ما يحرم عليه قوله كان بذله لذلك جائزا وكان ما أخذه ذلك لئلا يظلمه حراما عليه لأنه يجب عليه ترك ظلمه والكذب عليه بالهجو من جنس تسمية العامة ( قطع مصانعه ( وهو الذي يتعرض للناس وان لم يعطوه اعتدى عليهم بأن يكون عونا عليهم فى الاثم والعدوان أو بأن يكذب عليهم وأمثال ذلك فكل من أخذ المال لئلا يكذب على الناس أو لئلا يظلمهم كان ذلك خبيثا سحتا لأن الظلم والكذب حرام عليه فعليه أن يتركه بلا عوض يأخذه من المظلوم فاذا لم يتركه إلا بالعوض كان سحتا
فالمباحات التى يشترك فيها المسلمون فى الأصل كالصيود البرية والبحرية المباحات النابتة فى الأرض والمباحة من الجبال والبرارى ونحو ذلك كالمعادن وكالملح وكالاطرون وغيرها اذا حجرها السلطان وامر أن لا يأخذها الا نوابه وان تباع للناس لم يحرم عليهم شراؤها لأنهم لا يظلمون فيها أحدا ولأنهم هم المظلومون بحجرها عليهم فكيف يحرم عليهم أن يشتروا ما لهم أن يأخذوه بلا عوض فان نواب السلطان لا يستخرجونها الا باثمانها التى اخذوها ظلما أو نحو ذلك من الظلم
قيل تلك الأموال اخذت من المسلمين ظلما والمسلمون هم
____________________
(29/259)
المظلومون فقد منعوا حقوقهم من المباحات الا بما يؤخذ منهم يستخرج ببعضه تلك المباحات والباقى يؤخذ وذلك لا يحرم عليهم ما كان حلالا لهم وهذا ظاهر فيما كان الظلم فيه مناسبا مثل أن يباع كل مقدار بثمن معين ويؤخذ من تلك الاثمان ما يستخرج به تلك المباحات وهنا لا شبهة على المشتري أصلا فان ما استخرجت به المباحات هو حقهم أيضا فهو كما لو غصب رجل بيت رجل وأمر غلمان المالك أن يطبخوا مما في بيته طعاما فان ذلك لا يحرم على المغصوب لأنه يملك الاعيان والمنافع وليس فى ذلك الا أن يكون التصرف وقع بغير وكالة منه ولا ولاية عليه وهذا لا يحرم ماله بل ولا بذل ماله باتفاق المسلمين وان كان ما يستخرج به تلك المباحات بدون المعاملة بالأموال السلطانية المشتركة
وأما اذا استخرج نواب السلطان بغير حق من يستخرج تلك المباحات فهذا بمنزلة أن يغصب من يطبخ له طعاما أو ينسج له ثوبا وبمنزلة أن يطبخ الطعام بحطب مغصوب وأمثال ذلك مما تكون العين فيه مباحة لكن وقع الظلم فى تحويلها من حال إلى حال فهذا فيه شبهة وطريق التخلص منها أن ينظر النفع الحاصل فى تلك العين بعمل المظلوم فيعطى المظلوم أجره وان تعذر معرفة المظلوم تصدق به عنه فان هذا غايته أن يكون قد اختلط حلال وحرام ولو اختلطت الأعيان التى يملكها بالأثمان التى
____________________
(29/260)
غصبها واخذها حراما مثل أن تختلط دراهمه ودنانيره بما غصبه من الدراهم والدنانير واختلط حبه أو ثمره أو دقيقه أو خله أو ذهبه بما غصبه من هذه الأنواع فان هذا الاختلاط لا يوجب تحريم ماله عليه لأن المحرمات نوعان
محرم لوصفه وعينه كالدم والميتة ولحم الخنزير فهذا اذا اختلط بالمائع وظهر فيه طعم الخبث أو لونه أو ريحه حرم
ومحرم لكسبه كالنقدين والحبوب والثمار وامثال ذلك فهذه لا تحرم اعيانها تحريما مطلقا بحال ولكن تحرم على من أخذها ظلما أو بوجه محرم فاذا اخذ الرجل منها شيئا وخلطه بماله فالواجب أن يخرج من ذلك القدر المحرم وقدر ماله حلال له ولو اخرج مثله من غيره ففيه وجهان فى مذهب الشافعي وأحمد
أحدهما أن الاختلاط كالتلف فاذا اخرج مثله اجزأ
والثانى أن حق المظلوم يتعلق بالعين مع الخلط فلا بد أن يخرج قدر حق المظلوم من ذلك المال المختلط
إذا تبين هذا فاذا كان أثر عمل المظلوم قائما بالعين مثل طبخه أو نسجه ونحو ذلك فانما يستحق قيمة ذلك النفع فاذا اعطى المظلوم
____________________
(29/261)
قيمة ذلك النفع أخذ حقه فلا يبقى لصاحب العين شريك فلا يحرم عليه وأما اذا لم يعرف المظلوم فانه يتصدق به عنه عند جمهور العلماء كما لو حصل بيده اثمان من غصوب وعوار وودائع لا يعرف أصحابها فانه يتصدق بها عنهم لأن المجهول كالمعدوم فى الشريعة والمعجوز عنه كالمعدوم ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فى اللقطة ( فان جاء صاحبها فادها إليه والا فهي مال الله يؤتية من يشاء (
فاذا كان فى اللقطة التى تحرم بأنها سقطت من مالك لما تعذر معرفة صاحبها جعلها النبى صلى الله عليه وسلم للملتقط ولا نزاع بين المسلمين فى جواز صدقته بها وانما تنازعوا فى جواز تملكه لها مع الغنى والجمهور على جواز ذلك فكيف ما يجهل فيه ذلك
وفي هذه المسألة آثار معروفة مثل حديث عبد الله بن مسعود لما اشتري جارية ثم خرج ليوفي البائع الثمن فلم يجده فجعل يطوف على المساكين ويقول اللهم هذه عن صاحب الجارية فان رضي فقد برئت ذمتي وان لم يرض فهو عنى وله علي مثلها يوم القيامة وحديث الرجل الذي غل من الغنيمة فى غزوة قبرص وجاء إلى معاوية يرد إليه المغلول فلم يأخذه فاستفتى بعض التابعين فأفتاه بأن يتصدق بذلك عن الجيش ورجع إلى معاوية فأخبره فاستحسن ذلك وذلك لأن الله سبحانه وتعالى يقول { فاتقوا الله ما استطعتم } والمال
____________________
(29/262)
الذي لا نعرف مالكه يسقط عنا وجوب رده إليه فيصرف فى مصالح المسلمين والصدقة من أعظم مصالح المسلمين وهذا أصل عام في كل مال جهل مالكه بحيث يتعذر رده إليه كالمغصوب والعوارى والودائع تصرف فى مصالح المسلمين على مذهب مالك وأحمد وابى حنيفة وغيرهم
واذا صرفت على هذا الوجه جاز للفقير أخذها لأن المعطي هنا انما يعطيها نيابة عن صاحبها بخلاف من تصدق من غلول كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (
فهذا الذي يحوز المال ويتصدق به مع امكان رده إلى صاحبه أو يتصدق صدقة متقرب كما يتصدق بماله فالله لا يقبل ذلك منه وأما ذاك فانما يتصدق به صدقة متحرج متأثم فكانت صدقته بمنزلة أداء الدين الذي عليه وأداء الأمانات إلى أصحابها وبمنزلة اعطاء المال للوكيل المستحق ليس هو من الصدقة الداخلة فى قوله ( ولا صدقة من غلول
____________________
(29/263)
وسئل قدس الله روحه
عن مدينة لا يذبح فيها شاة الا ويأخذ المكاس سقطها ورأسها وكوارعها مكسا ثم يضع ذلك ويبيعه فى الأسواق وفى المدينة من لا يمتنع من شراء ذلك وأكله من أهل المدينة وغيرهم وليس يباع فى المدينة رؤوس وكوارع واسقاط الا على هذا الحكم ولا يمكن غير ذلك فهل يحرم شراء ذلك وأكله والحالة هذه أم لا
فأجاب هذه حكمها حكم ما يأخذه الملوك من الكلف التى يضربونها على الناس فان هذه فى الحقيقة تؤخذ من أموال أصحاب الغنم الذين يبيعونها للقصابين وغيرهم فان المشتري يحسب أنه يؤخذ من السواقط فيسقط من الثمن بحسب ذلك وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف فانها وان كانت تؤخذ من المشتري فهي فى الحقيقة من مال البائع وهذه الكلف دخلها التأويل والشبهة ومنها ما هو ظلم محض ولكن تعذر معرفة أصحابه ورده اليهم فوجب صرفه فى مصالح المسلمين وولاية بيعها وصرفها لهم
فالمشتري لذلك منهم اذا أعطاهم الثمن لم يكن بمنزلة اشتراء المغصوب
____________________
(29/264)
المحض الذي لا تأويل فيه ولا شبهة وليس لصاحبه ولاية بيعه حتى يقال أنه فعل محرما يفسق بالاصرار عليه وفى المنع من شرائها إضرار بالناس وإفساد للاموال من غير منفعة تعود على المظلوم
والمظلوم له أن يطالب ظالمه بالثمن الذي قبضه ان شاء وبنظير ماله والتورع عن هذا من التورع عن الشبهات ولا نحكم بأنها حرام محض ومن اشتراها وأكلها لم يجب الانكار عليه ولا يقال أنه فعل محرما لا تأويل فيه
فان طائفة من الفقهاء أفتوا طائفة من الملوك بجواز وضع أصل هذه الوظائف كما فعل ذلك أبو المعالى الجوينى فى كتابه ( غياث الأمم ( وكما ذكر ذلك بعض الحنفية وما قبض بتأويل فانه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضه وان كان المشتري يعتقد أن ذلك العقد محرم كالذمي اذا باع خمرا وأخذ ثمنه جاز للمسلم أن يعامله فى ذلك الثمن وان كان المسلم لا يجوز له بيع الخمر كما قال عمر بن الخطاب ولو هم بيعها وخذوا أثمانها وهذا كان سببه أن بعض عماله أخذ خمرا فى الجزية وباع الخمر لأهل الذمة فبلغ ذلك عمر فأنكر ذلك وقال ولوهم بيعها وخذوا أثمانها وهذا ثابت عن عمر وهو مذهب الأئمة
وهكذا من عامل معاملة يعتقد جوازها فى مذهبه وقبض المال
____________________
(29/265)
جاز لغيره أن يشتري ذلك المال منه وان كان لا يرى جواز تلك المعاملة فاذا قدر أن الوظائف قد فعلها من يعتقد جوازها لافتاء بعض الناس له بذلك أو اعتقد ان اعتقاد أخذ هذا المال وصرفه في الجهاد وغيره من المصالح جائز جاز لغيره أن يشتري ذلك المال منه وان كان لا يعتقد جواز أصل القبض
وعلى هذا فمن اعتقد أن لولاة الأمر فيما فعلوه تأويلا سائغا جاز أن يشتري ما قبضوه وان كان هو لا يجوز ما فعلوه مثل أن يقبض ولي الأمر من الزكاة قيمتها فيشتري منها ومثل أن يصادر بعض العمال مصادرة يعتقد جوازها أو مثل ان يري الجهاد وجب على الناس بأموالهم وان ما أخذوه من الوظائف هو من المال الذي يجوز أخذه وصرفه فى الجهاد وغير ذلك من التأويلات التى قد تكون خطأ ولكنها مما قد ساغ فيه الاجتهاد فاذا كان قبض ولي الأمر المال على هذا الوجه جاز شراؤه منه وجاز شراؤه من نائبه الذي أمره أن يقبضه وان كان المشتري لا يسوغ قبضه والمشتري لم يظلم صاحبه فانه اشتراه بماله ممن قبضه قبضا يعتقد جوازه
وان كان على هذا الوجه فشراؤه حلال في أصح القولين وليس من الشبهات فانه اذا جاز أن يشتري من الكفار ما قبضوا بعقود يعتقدون جوازها وان كانت محرمة فى دين المسلمين فلأن
____________________
(29/266)
يجوز أن يشتري من المسلم ما قبضه بعقد يعتقد جوازه وان كنا نراه محرما بطريق الأولى والأحرى فان الكافر تأويله المخالف لدين الاسلام باطل قطعا بخلاف تأويل المسلم
ولهذا إذا أسلموا وتحاكموا الينا وقد قبضوا أموالا بعقود يعتقدون جوازها كالربا وثمن الخمر والخنزير لم تحرم عليهم تلك الأموال كما لا تحرم معاملتهم فيها قبل الاسلام لقوله تعالى { اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } ولم يحرم ما قبضوه
وهكذا من كان قد عامل معاملات ربوية يعتقد جوازها ثم تبين له أنها لا تجوز وكانت من المعاملات التى تنازع فيها المسلمون فانه لا يحرم عليه ما قبضه بتلك المعاملة على الصحيح
الوجه الثانى أن ما قبضه الملوك ظلما محضا اذا اختلط بمال بيت المال وتعذر رده إلى صاحبه فانه يصرف فى مصالح المسلمين فان المجهول كالمعدوم فما عرف أنه قبض ظلما ولم يعرف صاحبه صرف فى المصالح وما قبض من بيت المال المختلط حلاله بحرامه لم يحكم بأنه حرام فان الاختلاط اذا لم يتميز المال يجري مجرى الاتلاف وصاحبه يستحق عوضه من بيت المال فمن قبض ثمن مبيع من مال بيت المال المختلط جاز له ذلك فى أصح الأقوال والله أعلم
____________________
(29/267)
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
عن هذه الأغنام التى تباع فيؤخذ مكسها من القصابين فيحتجر عليهم في الذبيحة فى موضع واحد ويؤخذ منهم أجرة الذبح ثم بعد ذلك يؤخذ سواقطها مكسا ثانيا مضمنا ثم تطبخ وتباع فهل هي حرام على من اشتراها للأكل أم لا وهل هذا التكسب فيها حرام أم لا
فأجاب الحمد لله هذه المسألة فيها نزاع
فمن الناس من يقول هذا مال أخذ من صاحبه بغير حق وبيع بلا ولاية ولا وكالة فلم يصح بيعه بل هو باق على ملك صاحبه وقد طبخ هذا وبيع بغير إذنه فلا يجوز شراؤه
ومنهم من يقول هذا مال ولاة الأمور إما متأولين أو متعمدين للظلم وإذا لم يردوه إلى أصحابه كانت المصلحة بيعه لأن حبسه حتى يفسد ضرر لا يأمر به الشارع ولو بيع المال بغير اذن صاحبه كان بيعه موقوفا على إجازة المالك عند اكثر العلماء وما باعه
____________________
(29/268)
و لاة الأمر فلهم من الولاية على الأموال المجهولة التى قبضها نوابهم ما ليس لغيرهم وقد تعذر بعد القبض معرفة مالك كل رأس والمصلحة بيعها وقسمة الأثمان بين المستحقين فان باعوها ولم يقسموا أثمانها لم يكن على المشتري اثم وانما الاثم على من يمنع أصحابها أثمانها كما لو باع ولي اليتيم وناظر الوقف وولي بيت المال ولم يصرف الثمن إلى المستحقين فالاثم عليه لا على الذي اشترى منه
ثم الذين اشتروها وان كان الشراء فاسدا أخذت منهم أثمانها فهم يستحقون أثمانها التى أدوها وقد نص غير واحد من العلماء كأحمد وغيره على أن من اشترى شيئا فظهر له أنه مغصوب ولم يعرف مالكه فان له أن يبيعه ويأخذ ثمنه ولكن يتصدق بالربح
والطباخون الذين اشتروا الرؤوس وقد تعذر ردها لهم أن يبيعوها ويأخذوا نظير أثمانها ان لم يكن البيع الأول صحيحا وحينئذ فيكون الشراء صحيحا وقد أجازوا البيع فيجوز على قول اكثر العلماء كمالك وأبى حنيفة وأحمد فى أظهر الروايتين عنه
فهذه عدة مآخذ يحتج بها من يجوز الشراء فمن اشتراها واتبع هؤلاء لم ينكر عليه ومن قامت عنده شبهة أو اعتقد التحريم فامتنع من شرائها لم ينكر عليه ولا يمكن القطع بتحريم مثل هذا
____________________
(29/269)
فإن كثيرا لابد للمسلمين منه هو من هذا الباب يحتجر عليه ولاة الأمور يبيعونه للناس ولا يمكن للناس أخذه الا من أولئك ومن هذا ما يكون من المباحات كالملح والأطرون وغير ذلك ومنه ما يكون من المملوكات كالصوف والجلود والشعر كما يبيعونه من أموال من يصادرونه والناس يحتاجون إليه ومن ذلك ما يقبض بحق ومنه ما يقبض بتأويل ومنه ما يقبض ظلما محضا لكن جميع ذلك لا يرد إلى أصحابه بل قد يتعذر رده إلى أصحابه إما لجهلهم وإما لعجزه عن رده اليهم والمجهول والمعجوز عنه سقط التكليف به وإما لاجبار المسلمين على الظلم وعلى كل التقديرين فبيعه خير لصاحبه وللمسلمين من أن يترك فيفسد ولا ينتفع به أحد
وحينئذ فاذا كان الأصلح على هذا التقدير بيعه كان للمشتري أن يشتريه ويكون حلالا له والمشترى لم يظلم أحدا فانه أدى الثمن والمظلوم فى نفس الأمر يستحق الثمن اذا كانت المصلحة له بيعه كما يباع مال الغائب حتى لو أن رجلا مات بمكان ليس فيه ولي أمر فقال جمهور العلماء لرفقته ولاية قبض ذلك وبيعه وكذلك من عنده أموال مغصوبة وعوار وودائع لا يعرف أصحابها فمذهب الجمهور مالك وأبى حنيفة وأحمد أنها يجوز بيعها إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك ويجوز شراؤها
____________________
(29/270)
وأصل هذا أن الله جل وعز بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها بحسب الامكان وتقديم خير الأمرين بتفويت أدناهما والله سبحانه حرم الظلم على عباده وأوجب العدل فاذا قدر ظلم وفساد ولم يمكن دفعه كان الواجب تخفيفه وتحرى العدل والمصلحة بحسب الامكان والله حرم الظلم فيما يشترك فيه الناس من المباحات وفى الأموال المملوكة لما فى ذلك من الضرر على المستحقين
فلو قيل أن هذه الأموال لا تشترى وأنه لا يحل لأحد أن ينتفع بملح ولا جلود ولا رؤوس ولا شعور ولا أصواف وغير ذلك مما يباع على هذا الوجه كان المنع من ذلك من أعظم ضرر على المسلمين وفساد فى الدين والدنيا من أن يقال بل حق المظلوم عند الظالم الذي قبض ثمنها والمشترى اشتراها بحق فتحل له فانه إذا قيل هذا كان فيه جبر حق المظلوم بإحالته على الظالم وجبر حق عموم الخلق بتمكينهم من الانتفاع بها بالاثمان لا سيما وقد عرف أن أصحاب تلك الرؤوس ونحوها فى نفس الأمر لا يكرهون بيعها إذ لا مصلحة لهم فى إفسادها فاذا بيعت فقد فعل ما يختارون فعله وما يرضونه لكنهم لا يرضون أن تؤخذ أثمانها منهم بل يرضون أن تدفع اليهم الأثمان وحينئذ فهم راضون بقبض المشتري لها وانتفاعهم بها ولكن لا يرضون عمن باعها إلا بأن يعطيهم الثمن فيكون هو وحده
____________________
(29/271)
ظلمهم لم يظلمهم المشتري فتكون له حلالا والكلام فى هذه المسألة مبسوط فى غير هذا الموضع
ونكتة المنع أن المحرم لها يقول بيعت بغير اذن ولا وكالة ولا ولاية وهذا ممنوع بل يقال هم يرضون بيعها وقد أذنوا فى ذلك ولكن لم يرضوا أن تؤخذ الأثمان كما لو قدر أن شخصا أذن لشخص فباع وأخذ الثمن لنفسه فالمالك راض بالبيع دون قبضه الثمن له ولو قدر أن المالك لم يأذن فى البيع فمصلحته فى الشرع تقتضي أن يباع فهذا خير له من أن يفسد ولا يمكن أن يباع الا على هذا الوجه وأن يباع ويقبض الثمن كائنا من كان خير من أن يفسد فانه حينئذ يمكن مطالبة البائع بالثمن مع انتفاع الناس بها وهو خير من مطالبة الغاصب بالقيمة مع فسادها والكلام في مثل هذا يطول والله أعلم بالصواب
وسئل رحمه الله
عن الذين غالب أموالهم حرام مثل المكاسين وأكلة الربا وأشباههم ومثل أصحاب الحرف المحرمة كمصوري الصور والمنجمين ومثل أعوان الولاة فهل يحل أخذ طعامهم بالمعاملة أم لا
____________________
(29/272)
فأجاب الحمد لله إذا كان في أموالهم حلال وحرام ففي معاملتهم شبهة لا يحكم بالتحريم إلا إذا عرف أنه يعطيه ما يحرم اعطاؤه ولا يحكم بالتحليل إلا إذا عرف أنه أعطاه من الحلال فان كان الحلال هو الأغلب لم يحكم بتحريم المعاملة وإن كان الحرام هو الأغلب قيل بحل المعاملة وقيل بل هي محرمة فأما المعامل بالربا فالغالب على ماله الحلال إلا أن يعرف الكره من وجه آخر وذلك أنه إذا باع ألفا بألف ومائتين فالزيادة هي المحرمة فقط وإذا كان فى ماله حلال وحرام واختلط لم يحرم الحلال بل له أن يأخذ قدر الحلال كما لو كان المال لشريكين فاختلط مال أحدهما بمال الآخر فانه يقسم بين الشريكين
وكذلك من اختلط بماله الحلال والحرام أخرج قدر الحرام والباقي حلال له والله أعلم
وسئل
عما يأكله رؤساء القرى وشيوخ الحارات هل هو حلال أم لا
فأجاب إذا كان الرئيس يظلم الناس فما يأخذه ظلما من الناس فهو حرام وما كان ملكا له او مكتسبا بطريق شرعي فهو مباح وشيخ الحارة إذا أخذ أجرته على الحراسة بالمعروف ولم يتعد على الناس فأجرته حلال
____________________
(29/273)
وسئل
عن رجل فامي يأخذ منه رؤساء القرى شيئا يضيفون به المنقطعين وغيرهم ويجبون من المساكين والأرامل فيعطوه هل يكون حلالا أم حراما
فأجاب إذا اشتروا منهم شيئا وأعطوهم ثمنه من مال يعلمون أنه مغصوب أخذ من أصحابه ظلما لم يكن لهم أن ينتفعوا به لكن هذا المال إذا اشترى لهم به ما يطلبونه منهم لم يكن عليهم شيء إذا كانوا المكرهين على ذلك فينبغي لمن يتقى أن يظلم وأن يظلم أن يشترى للظلمة بأموالهم ما يطلبونه منه لا ليظلم غيره ولا يكون هو مظلوما وهو مكره على هذا العمل
ومع هذا فالمال الذي جمعوه من الناس وقد تعذر رده على صاحبه إذا أعطوه الفامي عوضا عما أخذوه منه بغير اختياره فهو أحق به ممن يعطاه بغير معاوضة والظالم فى الحقيقة هو الذي أخذ الأموال بغير حق لا من أخذ عوض ماله من مال لا يعلم له مستحقا معينا والله تعالى أعلم
____________________
(29/274)
وسئل
عن معاملة التتار هل هي مباحة لمن يعاملونه
فأجاب أما معاملة التتار فيجوز فيها ما يجوز فى أمثالهم ويحرم فيها ما يحرم من معاملة أمثالهم فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم وخيلهم ونحو ذلك كما يبتاع من مواشي التركمان والأعراب والأكراد وخيلهم ويجوز أن يبيعهم من الطعام والثياب ونحو ذلك ما يبيعه لأمثالهم
فاما ان باعهم وباع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات كالخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالا محرما فهذا لا يجوز قال الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وفى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه لعن فى الخمر عشرة لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها ( فقد لعن العاصر وهو انما يعصر عنبا يصير عصيرا والعصير حلال يمكن أن يتخذ خلا ودبسا وغير ذلك
____________________
(29/275)
وان كان الذي معهم أو مع غيرهم أموال يعرف أنهم غصبوها من معصوم فتلك لا يجوز اشتراؤها لمن يتملكها لكن إذا اشتريت على طريق الاستنقاذ لتصرف فى مصارفها الشرعية فتعاد إلى أصحابها إن أمكن وإلا صرفت فى مصالح المسلمين جاز هذا
وإذا علم أن فى أموالهم شيئا محرما لا تعلم عينه فهذا لا يحرم معاملتهم كما إذا علم أن في السوق ما هو مغصوب أو مسروق ولم يعلم عينه والحرام إذا اختلط بالحلال فهذا نوعان
أحدهما أن يكون محرما لعينه كالميتة والأخت من الرضاعة فهذا إذا اشتبه بما لا يحصر لم يحرم مثل أن يعلم أن فى البلدة الفلانية أختا له من الرضاعة ولا يعلم عينها أو فيها من يبيع ميتة لا يعلم عينها فهذا لا يحرم عليه النساء ولا اللحم وأما إذا اشتبهت أخته بأجنبية أو المذكى بالميت حرما جميعا
والثانى ما حرم لكونه أخذ غصبا والمقبوض بعقود محرمة كالربا والميسر فهذا إذا اشتبه واختلط بغيره لم يحرم الجميع بل يميز قدر هذا من قدر هذا فيصرف هذا إلى مستحقه وهذا إلى مستحقه مثل اللص الذي أخذ أموال الناس فخلطها أو أخذ حنطة الناس أو دقيقهم فخلطه فانه يقسم بينهم على قدر الحقوق
____________________
(29/276)
واذا علم أن فى البلد شيئا من هذا لا يعلم عينه لم يحرم على الناس الشراء من ذلك البلد لكن إذا كان أكثر مال الرجل حراما هل تحرم معاملته أو تكره على وجهين وان كان الغالب على ماله الحلال لم تحرم معاملته لكن قد قيل إنه من المشتبه الذي يستحب تركه والله أعلم
وقال فصل
قد ذكرت فى غير موضع ان المحرمات فى الشريعة ترجع إلى الظلم إما فى حق الله تعالى وإما فى حق العبد وإما فى حقوق العباد وكلما كان ظلما فى حق العباد فهو ظلم العبد لنفسه ولا ينعكس فجميع الذنوب تدخل فى ظلم العبد نفسه
وأول من اعترف بهذا أبو البشر لما تلقى من ربه الكلمات فقال ( ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ( فكان فى هذه الكلمات إعترافه بذنبه وطلبه ربه على وجه الافتقار والمغفرة والرحمة فالمغفرة إزالة السيئات والرحمة إنزال
____________________
(29/277)
الخيرات فهذا ظلم لنفسه ليس فيه ظلم لغيره وقال موسى عليه السلام لما ذكر الذي هو من عدوه ( فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب انى ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له ( فاعترف بظلمه نفسه فيما كان من جناية على غيره لم يؤمر بها وقال يونس عليه السلام { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } وفي الصحيح الدعاء الذي علمه النبى صلى الله عليه وسلم أبا بكر ان يدعو به في صلاته ( اللهم إنى ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم ) فهذا الدعاء مطابق لدعاء آدم فى الاعتراف بظلم النفس ومسألة المغفرة والرحمة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على الدابة فحمد وسبح وكبر قال ( لا إله الا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي ثم يضحك ( وهو محفوظ من حديث على بن أبى طالب
وإذا كان كذلك فالظلم نوعان تفريط فى الحق وتعدي للحد كما قد قررت ذلك فى غير موضع فان ترك الواجب ظلم كما أن فعل المحرم ظلم قال النبى صلى الله عليه وسلم ( مطل الغني ظلم ( متفق عليه فأخبر أن المطل وهو تأخير الوفاء ظلم فكيف بتركه
____________________
(29/278)
وقد قررت فى غير هذا الموضع أن أداء الواجب أعظم من ترك المحرم وأن الطاعات الوجودية أعظم من الطاعات العدمية فيكون جنس الظلم بترك الحقوق الواجبة أعظم من جنس الظلم بتعدي الحدود
وقررت ايضا أن الورع المشروع هو أداء الواجب وترك المحرم ليس هو ترك المحرم فقط وكذلك التقوى إسم لأداء الواجبات وترك المحرمات كما بين الله حدها فى قوله { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } إلى قوله { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون }
ومن هنا يغلط كثير من الناس فينظرون ما فى الفعل أو المال من كراهة توجب تركه ولا ينظرون ما فيه من جهة أمر يوجب فعله مثال ذلك ما سئل عنه احمد عن رجل ترك مالا فيه شبهة وعليه دين فسأله الوارث هل يتورع عن ذلك المال المشتبه فقال له احمد أتترك ذمة أبيك مرتهنة ذكرها أبو طالب وبن حامد وهذا عين الفقه فان قضاء الدين واجب والغريم حقه متعلق بالتركة فان لم يوف الوارث الدين وإلا فله استيفاؤه من التركة فلا يجوز إضاعة التركة المشتبهة التى تعلق بها حق الغريم ولا يجوز ايضا إضرار الميت بترك ذمته مرتهنة ففي الاعراض عن التركة إضرار الميت وإضرار المستحق وهذان ظلمان محققان بترك واجبين وأخذ المال المشتبه
____________________
(29/279)
يجوز أن يكون فيه ضرر المظلوم فقال أحمد للوارث أبرئ ذمة أبيك فهذا المال المشتبه خير من تركها مرتهنة بالاعراض وهذا الفعل واجب على الوارث وجوب عين إن لم يقم غيره فيه مقامه أوجوب كفاية أو مستحب استحبابا مؤكدا أكثر من الاستحباب في ترك الشبهة لما في ذلك من المصلحة الراجحة
وهكذا جميع الخلق عليهم واجبات من نفقات أنفسهم وأقاربهم وقضاء ديونهم وغير ذلك فاذا تركوها كانوا ظالمين ظلما محققا وإذا فعلوها بشبهة لم يتحقق ظلمهم فكيف يتورع المسلم عن ظلم محتمل بارتكاب ظلم محقق ولهذا قال سعيد بن المسيب لا خير فيمن لا يحب المال يعبد به ربه ويؤدي به أمانته ويصون به نفسه ويستغنى به عن الخلق وفى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( ثلاثة حق على الله عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغارم يريد الوفاء ( فذكر فى هذا الحديث ما يحتاج إليه المؤمن عفة فرجه وتخليص رقبته وبراءة ذمته فأخبر أن هذه الواجبات من عبادة الله وقضاء الديون وصيانة النفس والاستغناء عن الناس لا تتمم إلا بالمال وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ومن لا يحب أداء مثل هذا الواجب العظيم الذي لا يقوم الدين إلا به فلا خير فيه فهذه جملة ولها تفاصيل كثيرة والله أعلم
____________________
(29/280)
وقال رحمه الله بعد كلام سبق
وأصل المسألة أن النهي يدل على أن المنهى عنه فساده راجح على صلاحه ولا يشرع التزام الفساد ممن يشرع [ له ] دفعه وأصل هذا ان كل ما نهي الله عنه وحرمه في بعض الأحوال وأباحه فى حال أخرى فان الحرام لا يكون صحيحا نافذا كالحلال يترتب عليه الحكم كما يترتب على الحلال ويحصل به المقصود كما يحصل به وهذا معني قولهم النهي يقتضى الفساد وهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم باحسان وأئمة المسلمين وجمهورهم
وكثير من المتكلمين من المعتزلة والأشعرية يخالف فى هذا لما ظن أن بعض ما نهى عنه ليس بفاسد كالطلاق المحرم والصلاة فى الدار المغصوبة ونحو ذلك قال لو كان النهي موجبا للفساد لزم انتقاض هذه العلة فدل على أن الفساد حصل بسبب آخر غير مطلق النهي وهؤلاء لم يكونوا من أئمة الفقه العارفين بتفصيل أدلة الشرع فقيل لهم بأي شيء يعرف أن العبادة فاسدة والعقد فاسد قالوا بأن يقول الشارع هذا صحيح وهذا فاسد وهؤلاء لم يعرفوا أدلة
____________________
(29/281)
الشرع الواقعة بل قدروا أشياء قد لا تقع وأشياء ظنوا أنها من جنس كلام الشارع وهذا ليس من هذا الباب فان الشارع لم يدل الناس قط بهذه الألفاظ التى ذكروها ولا يوجد فى كلامه شروط البيع والنكاح كذا وكذا ولا هذه العبادة والعقد صحيح أو ليس بصحيح ونحو ذلك مما جعلوه دليلا على الصحة والفساد بل هذه كلها عبارات أحدثها من أحدثها من أهل الرأي والكلام
وإنما الشارع دل الناس بالأمر والنهي والتحليل والتحريم وبقوله فى عقود ( هذا لا يصلح ( علم أنه فساد كما قال فى بيع مدين بمد تمرا ( لا يصلح ( والصحابة والتابعون وسائر أئمة المسلمين كانوا يحتجون على فساد العقود بمجرد النهي كما احتجوا على فساد نكاح ذوات المحارم بالنهي المذكور فى القرآن وكذلك فساد عقد الجمع بين الأختين
ومنهم من توهم أن التحريم فيها تعارض فيه نصان فتوقف وقيل ان بعضهم أباح الجمع
وكذلك نكاح المطلقة ثلاثا استدلوا على فساده بقوله تعالى ( فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره (
وكذلك الصحابة استدلوا على فساد نكاح الشغار بالنهي عنه فهو من الفساد ليس من الصلاح فان الله لا يحب الفساد ويحب الصلاح
____________________
(29/282)
و لا ينهى عما يحبه وانما ينهى عما لا يحبه فعلموا أن المنهي عنه فاسد ليس بصالح وان كانت فيه مصلحة فمصلحته مرجوحة بمفسدته وقد علموا أن مقصود الشرع رفع الفساد ومنعه لا إيقاعه والا لزام به فلو ألزموا موجب العقود المحرمة لكانوا مفسدين غير مصلحين والله لا يصلح عمل المفسدين
وقوله { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } أي لا تعملوا بمعصية الله تعالى فكل من عمل بمعصية الله فهو مفسد والمحرمات معصية لله فالشارع ينهى عنه ليمنع الفساد ويدفعه ولا يوجد قط في شيء من صور النهي صورة ثبتت فيها الصحة بنص ولا اجماع فالطلاق المحرم والصلاة فى الدار المغصوبة فيهما نزاع وليس على الصحة نص يجب اتباعه فلم يبق مع المحتج بهما حجة
لكن من البيوع ما نهي عنه لما فيها من ظلم أحدهما للآخر كبيع المصراة والمعيب وتلقى السلع والنجش ونحو ذلك ولكن هذه البيوع لم يجعلها الشارع لازمة كالبيوع الحلال بل جعلها غير لازمة والخيرة فيها إلى المظلوم ان شاء أبطلها وان شاء أجازها فان الحق فى ذلك له والشارع لم ينه عنها لحق مختص بالله كما نهى عن الفواحش بل هذه اذا علم المظلوم بالحال فى ابتداء العقد مثل أن يعلم بالعيب والتدليس والتصرية ويعلم السعر اذا كان قادما بالسلعة ويرضى بأن
____________________
(29/283)
يغبنه المتلقى جاز ذلك فكذلك اذا علم بعد العقد إن رضى جاز وان لم يرض كان له الفسخ
وهذا يدل على أن العقد يقع غير لازم بل موقوفا على الاجازة ان شاء أجازه صاحب الحق وان شاء رده وهذا متفق عليه فى مثل بيع المعيب مما فيه الرضا بشرط السلامة من العيب فاذا فقد الشرط بقى موقوفا على الاجازة فهو لازم ان كان على صفة وغير لازم ان كان على صفة
وأما اذا كان غير لازم مطلقا بل هو موقوف على رضى المجيز فهذا فيه نزاع وأكثر العلماء يقولون بوقف العقود وهو مذهب مالك وأبى حنيفة وغيرهما وعليه أكثر نصوص أحمد وهو اختيار القدماء من أصحابه كالخرقى وغيره كما هو مبسوط فى موضعه
اذا المقصود هنا أن هذا النوع يحسب طائفة من الناس أنه من جملة ما نهي عنه ثم تقول طائفة أخرى وليس بفاسد فالنهي يجب أن يقتضى الفساد ويقول طائفة أخرى بل هذا فساد فمنهم من أفسد بيع النجش اذا نجش البائع أو واطأ ومنهم من أفسد نكاح الخاطب اذا خطب على خطبة أخيه وبيعه على بيعه ومنهم من أفسد بيع المعيب المدلس فلما عورض بالمصراة توقف ومنهم من صحح
____________________
(29/284)
نكاح الخاطب على خطبة أخيه مطلقا وبيع النجش بلا خيار
والتحقيق ان هذا النوع لم يكن النهي فيه لحق الله كنكاح المحرمات والمطلقة ثلاثا وبيع الربا بل لحق الانسان بحيث لو علم المشتري ان صاحب السلعة ينجش ورضي بذلك جاز وكذلك اذا علم ان غيره ينجش وكذلك المخطوبة متى اذن الخاطب الأول فيها جاز ولما كان النهي هنا لحق الآدمى لم يجعله الشارع صحيحا لازما كالحلال بل أثبت حق المظلوم وسلطه على الخيار فان شاء أمضي وان شاء فسخ
فالمشتري مع النجش ان شاء رد المبيع فحصل بهذا مقصوده وان شاء رضى به اذا علم بالنجش فأما كونه فاسدا مردودا وان رضى به فهذا لا وجه له وكذلك فى الرد بالعيب والمدلس والمصراة وغير ذلك
وكذلك المخطوبة ان شاء هذا الخاطب ان يفسخ نكاح هذا المعتدى عليه ويتزوجها برضاه فله ذلك وان شاء أن يمضى نكاحها فله ذلك وهو اذا اختار فسخ نكاحها عاد الأمر إلى ما كان ان شاءت نكحته وان شاءت لم تنكحه اذ مقصوده حصل بفسخ نكاح الخاطب واذا قيل هو غير قلب المرأة علي قيل ان شئت عاقبناه على هذا بأن نمنعه من نكاح تلك المرأة فيكون هذا قصاصا لظلمه اياك وان شئت عفوت
____________________
(29/285)
عنه فأنفذنا نكاحه
وكذلك الصلاة فى الدار المغصوبة والذبح بآلة مغصوبة وطبخ الطعام بحطب مغصوب وتسخين الماء بوقود مغصوب كل هذا انما حرم لما فيه من ظلم الانسان وذلك يزول باعطاء المظلوم حقه فاذا أعطاه ما أخذه من منفعة ماله أو من أعيان ماله فأعطاه كرى الدار وثمن الحطب وتاب هو إلى الله تعالى من فعل ما نهاه عنه فقد بريء من حق الله وحق العبد وصارت صلاته كالصلاة فى مكان مباح والطعام كالطعام بوقود مباح والذبح بسكين مباحة وان لم يفعل ذلك كان لصاحب السكين أجرة ذبحه ولا تحرم الشاة كلها لأجل هذه الشبهة
وهذا اذا كان أكل الطعام ولم يوفه ثمنه كان بمنزلة من أخذ طعاما لغيره فيه شركة ليس فعله حراما ولا هو حلالا محضا فان نضج الطعام لصاحب الوقود فيه شركة
وكذلك الصلاة يبقى عليه اثم الظلم ينقص من صلاته بقدره ولا تبرأ ذمته كبراءة من صلى صلاة تامة ولا يعاقب كعقوبة من لم يصل بل يعاقب على قدر ذنبه وكذلك آكل الطعام يعاقب على قدر ذنبه والله تعالى يقول { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }
____________________
(29/286)
وإنما قيل فى الصلاة فى الثوب النجس وبالمكان يعيد بخلاف هذا لأنه هناك لا سبيل له إلى براءة ذمته الا بالاعادة وهنا يمكنه ذاك بأن يرد أرض المظلوم لكن الصلاة فى الثوب الحرير هي من ذلك القسم الحق فيها لله لكن نهي عن ذلك فى الصلاة وفى غير الصلاة لم ينه عنه فى الصلاة فقط وقد تنازع الفقهاء فى مثل هذا
فمنهم من يقول النهي هنا لمعنى فى غير المنهي عنه وكذلك يقولون فى الصلاة فى الدار المغصوبة والثوب المغصوب والطلاق فى الحيض والبيع وقت النداء ونحو ذلك وهذا الذي قالوه لا حقيقة له فانه ان عنى بذلك ان نفس البيع اشتمل على تعطيل الصلاة ونفس الصلاة اشتملت على الظلم والفخر والخيلاء ونحو ذلك مما نهى عنه كما اشتملت الصلاة فى الثوب النجس على ملابسة الرجس الخبيث فهذا غير صحيح وان أرادوا بذلك ان ذلك المعنى لا يختص بالصلاة بل هو مشترك بين الصلاة وغيرها فهذا صحيح فان البيع وقت النداء لم ينه عنه الا لكونه شاغلا عن الصلاة وهذا موجود فى غير البيع لا يختص بالبيع
لكن هذا الفرق لا يجيء فى طلاق الحائض فانه ليس هناك معنى مشترك وهم يقولون انما نهي عنه لاطالة العدة وذلك خارج عن الطلاق فيقال وغير ذلك من المحرمات كذلك انما نهى عنها لافضائها
____________________
(29/287)
إلى فساد خارج عنها فالجمع بين الاختين نهي عنه لافضائه إلى قطيعة الرحم والقطيعة أمر خارج عن النكاح والخمر والميسر حرما وجعلا رجسا من عمل الشيطان لأن ذلك يفضي إلى الصد عن الصلاة وإيقاع العداوة والبغضاء وهو أمر خارج عن الخمر والميسر والربا حرام لأن ذلك يفضي إلى أكل المال بالباطل وذلك أمر خارج عن عقد الميسر والربا فكل ما نهى الله عنه لابد أن يشتمل على معنى فيه يوجب النهي ولا يجوز أن ينهى عن شيء لا لمعنى فيه أصلا بل لمعنى أجنبى عنه فان هذا من جنس عقوبة الانسان بذنب غيره والشرع منزه عنه لكن فى الأشياء ما ينهى عنه لسد الذريعة فهو مجرد عن الذريعة لم يكن فيه مفسدة كالنهي عن الصلاة فى أوقات النهي قبل طلوع الشمس وغروبها ونحو ذلك وذلك لأن هذا الفعل اشتمل على مفسدة لافضائه إلى التشبه بالمشركين وهذا معنى فيه
ثم من هؤلاء الذين قالوا أن النهي قد يكون لمعنى فى المنهى عنه وقد يكون لمعنى فى غيره من قال أنه قد يكون لوصف فى الفعل لا في أصله فيدل على صحته كالنهي عن صوم يومي العيدين قالوا هو منهى عنه لوصف العيدين لا لجنس الصوم فاذا صام صح لأنه سماه صوما
____________________
(29/288)
فيقال لهم وكذلك الصوم فى أيام الحيض وكذلك الصلاة بلا طهارة وإلى غير القبلة جنس مشروع وإنما النهي لوصف خاص وهو الحيض والحدث واستقبال غير القبلة ولا يعرف بين هذا وهذا فرق معقول له تأثير في الشرع فانه إذا قيل الحيض والحدث صفة فى الحائض والمحدث وذلك صفة فى الزمان قيل والصفة في محل الفعل زمانه ومكانه كالصفة فى فاعله فانه لو وقف بعرفة فى غير وقتها أو غير عرفة لم يصح وهو صفة فى الزمان والمكان وكذلك لو رمى الجمار فى غير أيام منى أو المرمى وهو صفة في الزمان والمكان واستقبال غير القبلة هو لصفة فى الجهة لا فيه ولا يجوز ولو صام بالليل لم يصح وان كان هذا زمانا
فاذا قيل الليل ليس بمحل للصوم شرعا قيل ويوم العيد ليس بمحل للصوم شرعا كما ان زمان الحيض ليس بمحل للصوم شرعا فالفرق لابد أن يكون فرقا شرعيا فيكون معقولا ويكون الشارع قد جعله مؤثرا فى الحكم بحيث علق به الحل أو الحرمة الذي يختص بأحد الفعلين
وكثير من الناس يتكلم بفروق لا حقيقة لها ولا تأثير له فى الشرع أو يمنع تأثيره فى الأصل وذلك أنه قد يذكر وصفا يجمع به بين الأصل والفرع ولا يكون ذلك الوصف مشتركا بينهما بل
____________________
(29/289)
قد يكون منفيا عنهما أو عن أحدهما
وكذلك المفرق قد يفرق بوصف يدعى انتقاضه باحدي الصورتين وليس هو مختصا بها بل هو مشترك بينها وبين الأخرى كقولهم النهي لمعنى فى المنهي عنه وذلك لمعنى فى غيره أو ذاك لمعنى فى وصفه دون أصله ولكن قد يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة والعقد وقد يكون لمعنى مشترك بينها وبين غيرها كما ينهى المحرم عما يختص بالاحرام مثل حلق الرأس ولبس العمامة وغير ذلك من الثياب المنهي عنها وينهى عن نكاح امرأته وينهي عن صيد البر وينهى مع ذلك عن الزنى والظلم للناس فيما ملكوه من الصيد
وحينئذ فالنهى لمعنى مشترك أعظم ولهذا لو قتل المحرم صيدا مملوكا وجب عليه الجزاء لحق الله ووجب عليه البدل لحق المالك ولو زنا لأفسد احرامه كما يفسد بنكاح امرأته ويستحق حد الزنى مع ذلك وعلى هذا فمن لبس فى الصلاة ما يحرم فيها وفى غيرها كالثياب التى فيها خيلاء وفخر كالمسبلة والحرير كان أحق ببطلان الصلاة من الثوب النجس وفى الحديث الذي فى السنن ( ان الله لا يقبل صلاة مسبل ( والثوب النجس فيه نزاع وفى قدر النجاسة نزاع والصلاة فى الحرير للرجال من غير حاجة حرام بالنص والاجماع
وكذلك البيع بعد النداء إذا كان قد نهى عنه وغيره يشغل عن
____________________
(29/290)
الجمعة كان ذلك أوكد فى النهي وكل ما شغل عنها فهو شر وفساد لا خير فيه
والملك الحاصل بذلك كالملك الذي لم يحصل الا بمعصية الله وغضبه ومخالفته كالذي لا يحصل الا بغير ذلك من المعاصي مثل الكفر والسحر والكهانة والفاحشة وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( حلوان الكاهن خبيث ومهر البغي خبيث ( فاذا كانت السلعة لا تملك ان لم تترك الصلاة المفروضة كان حصول الملك بسبب ترك الصلاة كما ان حصول الحلوان والمهر بالكهانة والبغاء وكما لو قيل له ان تركت الصلاة اليوم أعطيناك عشرة دراهم فان ما يأخذه على ترك الصلاة خبيث كذلك ما يملك بالمعاوضة على ترك الصلاة خبيث ولو استأجر أجيرا بشرط ان لا يصلي كان هذا الشرط باطلا وكان ما يأخذه عن العمل الذي يعمله بمقدار الصلاة خبيثا مع أن جنس العمل بالأجرة جائز كذلك جنس المعاوضة جائز لكن بشرط ان لا يتعدى عن فرائض الله
وإذا حصل البيع فى هذا الوقت وتعذر الرد فله نظير ثمنه الذي أداه ويتصدق بالربح والبائع له نظير سلعته ويتصدق بالربح ان كان قد ربح ولو تراضيا بذلك بعد الصلاة لم ينفع فان النهي هنا لحق الله تعالى فهو كما لو تراضيا بمهر البغي وهناك يتصدق به على
____________________
(29/291)
أصح القولين لا يعطى للزاني وكذلك فى الخمر ونحو ذلك مما أخذ صاحبه منفعة محرمة فلا يجمع له العوض والمعوض فان ذلك أعظم اثما من بيعه
وإذا كان لا يحل أن يباع الخمر بالثمن فكيف إذا أعطى الخمر وأعطى الثمن وإذا كان لا يحل للزانى أن يزنى وان أعطى فكيف إذا أعطى المال والزنا جميعا بل يجب إخراج هذا المال كسائر أموال المصالح المشتركة فكذلك هنا إذا كان قد باع السلعة وقت النداء بربح وأخذ سلعته فان فاتت تصدق بالربح ولم يعطه للمشتري فيكون أعانه على الشراء والمشترى يأخذ ثمنه ويعيد السلعة فان باعها بربح تصدق به ولم يعطه للبائع فيكون قد جمع له بين ربحين
وقد تنازع الفقهاء فى المقبوض بالعقد الفاسد هل يملك أو لا يملك او يفرق بين أن يفوت أو لا يفوت كما هو مبسوط فى غير هذا الموضع والله أعلم
____________________
(29/292)
وسئل
عن ( الرجل ) يشتري سلعة بمال حلال ولم يعلم أصل السلعة هل هو حرام او حلال ثم كانت حراما فى الباطن هل يأثم أم لا
فأجاب متى اعتقد المشترى أن الذي مع البائع ملكه فاشتراه منه علي الظاهر لم يكن عليه اثم فى ذلك وان كان فى الباطن قد سرقه البائع لم يكن على المشترى اثم ولا عقوبة لا فى الدنيا ولا فى الآخرة والضمان والدرك على الذي غره وباعه وإذا ظهر صاحب السلعة فيما بعد ردت إليه سلعته ورد على المشترى ثمنه وعوقب البائع الظالم فمن فرق بين من يعلم ومن لا يعلم فقد أصاب ومن لا أخطأ والله أعلم
____________________
(29/293)
وقال رحمه الله فصل
حديث النبى صلى الله عليه وسلم لما ( أمرهم بشق ظروف الخمر وكسر دنانها ( دليل على احدى الروايتين فى جواز إتلاف ذلك عند الانكار وان الظرف يتبع المظروف ومثله ما ثبت عن عمر بن الخطاب وعلي بن ابى طالب أنهما أمرا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر وقد نص احمد على ذلك ومثله اتلاف الآلة التى يقوم بها صورة التأليف المحرم وهي آلات اللهو فان هذه العقوبات المالية ثابتة بالسنة وسيرة الخلفاء ومن قال إنها منسوخة فما معه دليل على ذلك
وقد احتج بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه أنهم قد طبخوا لحوم الحمر قال لهم ( أريقوها واكسروا القدور قالوا أفلا نريقها ونغسل القدور قال افعلوا ( قالوا فلعلهم لو استأذنوه فى أوعية الخمر لقال ذلك فأجيب بجوابين
____________________
(29/294)
أحدهما أن دفع الشريعة بمثل هذه التقديرات لا تجوز فانا إذا سوغنا فيما أمر به أو نهى عنه أنه لو روجع لنسخ ذلك لجاز رفع كثير من الشريعة بمثل هذه الخيالات مثل أن يقال لو روجع الرب فى نقص الصلاة عن خمس لنقصها ولو ولو ويقال هذا باطل من وجهين
أحدهما أنا لا نعلم أنه لو روجع لفعل وثبوت ذلك في صورة لا يوجب ثباته فى سائر الصور الا بتقدير المساواة من كل وجه وانتفاء الموانع وهذا غير معلوم
الثانى أنه لو فرض أنه لو كان لكان لكن لم يكن واذا كان النسخ معلقا بسؤالهم ولم يسألوا لم يقع النسخ كما أن ابتداء الايجاب والتحريم قد يكون معلقا بسؤالهم كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }
وقال صلى الله عليه وسلم ( انما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ( وقال ( ان أعظم المسلمين فى المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ( وقال فى الحج لما سألوه أفي كل عام فقال ( لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما قمتم به ( وقال فى قيام رمضان ( انما منعنى أن أخرج إليكم خشية أن يفترض عليكم فلا تقوموا ( فقد بين
____________________
(29/295)
النبى صلى الله عليه وسلم أن السؤال والعمل قد يكون سببا لابتداء الحكم من وجوب أو تحريم ثم اذا لم يكن السبب فلم يكن الوجوب والتحريم لم يثبت بعد موته صلى الله عليه وسلم وكذلك قد يكون سببا لرفع حكم من وجوب أو تحريم ثم إذا لم يوجد السبب لم يرتفع الحكم بعد موته
وليس من هذا قول عائشة لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع النساء بعده لمنعهن المسجد كما منعت نساء بنى اسرائيل فان عائشة كانت أتقى لله من أن تسوغ رفع الشريعة بعد موته وإنما أرادت أن النبى صلى الله عليه وسلم لو رأى ما فى خروج بعض النساء من الفساد لمنعهن الخروج تريد بذلك أن قوله ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ( وان كان مخرجه علي العموم فهو مخصوص بالخروج الذي فيه فساد كما قال أكثر الفقهاء أن الشواب التى في خروجهن فساد يمنعهن فقصد بذلك تخصيص اللفظ الذي ظاهره أنها علمت من حال النبى صلى الله عليه وسلم أنه لا يأذن فى مثل هذا الخروج لا أنها قصدت منع النساء مطلقا فانه ليس كل النساء أحدثن وإنما قصدت منع المحدثات
الجواب الثانى أن هذا الحديث الوارد فى أوعية لحوم الحمر حجة ايضا فى المسألة فانه أمر أولا بتكسير الأوعية ثم لما استأذنوه
____________________
(29/296)
فى الغسل أذن فيه فعلم بذلك أن الكسر لا يجب وليس فيه أنه لا يجوز بل يقال يجوز الأمران الكسر
والغسل وكذلك يقال فى أوعية الخمر أنه يجوز اتلافها ويجوز تطهيرها فاذا كان الأصلح الاتلاف أتلفت ولو ان صاحب أوعية الخمرة والملاهي طهر الأوعية وغسل الآلات لجاز بالاتفاق لكن إذا أظهر المنكر حتى أنكر عليه فانه يستحق العقوبة بالاتلاف
والصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا علموا التحريم فأسقط عنهم الاتلاف لذلك والله أعلم
وسئل
عن رجل يتجر فى الاقباع هل يجوز له بيع القبع المرعزى وشراؤه والاكتساب منه وما يجري مجراه من الحرير الصامت او يحرم عليه لكون القبع لبس الرجال دون النساء وهل يجوز للجند والصبيان إذا كانوا دون البلوغ او اليهود والنصارى ومن يجرى مجراهم أو يحرم جميع ذلك وهل يجوز لمن يتجر فى هذا الصنف وغيره أن يبيع لأهل البادية والنساء والصبيان ممن يجهل القيمة ما ثمنه درهم بدرهمين أو قريب منها مع علمه أن الذي يشتريه لو
____________________
(29/297)
احتاج إلى ثمنه فى بقية يومه لم يصل إلى الدرهم الذي هو أصل ثمنه بل أقل منه أو يحرم عليه ذلك وما القدر الذي يجوز من الكسب فيما يباع مساومة وهل هو الثلث أو أقل منه او اكثر
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما اقباع الحرير فيحرم لبسها على الرجال والنساء أما على الرجال فلأنها حرير ولبس الحرير حرام على الرجال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجماع العلماء وان كان مبطنا بقطن أو كتان
وأما على النساء فلأن الاقباع من لباس الرجال وقد ( لعن النبى صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء (
وأما لباس الحرير للصبيان الذين لم يبلغوا ففيه قولان مشهوران للعلماء لكن أظهرهما أنه لا يجوز فان ما حرم على الرجال فعله حرم عليه ان يمكن منه الصغير بل عليه ان يأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ويضربه عليها إذا بلغ عشرا فكيف يحل له ان يلبسه المحرمات وقد رأى عمر بن الخطاب على صبي للزبير ثوبا من حرير فمزقه وقال لا تلبسوهم الحرير وكذلك بن عمر مزق ثوب حرير كان على ابنه وما حرم لبسه لم تحل صناعته ولا بيعه لمن يلبسه من
____________________
(29/298)
أهل التحريم ولا فرق فى ذلك بين الجند وغيرهم
فلا يحل للرجل أن يكتسب بأن يخيط الحرير لمن يحرم عليه لبسه فان ذلك إعانة على الاثم والعدوان وهذه مثل الاعانة على الفواحش ونحوها وكذلك لا يباع الحرير لرجل يلبسه من أهل التحريم
وأما إذا بيع الحرير للنساء فيجوز وكذلك إذا بيع لكافر فان عمر بن الخطاب أرسل بحرير أعطاه إياه النبى صلى الله عليه وسلم إلى رجل مشرك
وأما البيع فلا يجوز أن يباع لمسترسل الا بالسعر الذي يباع به غيره لا يجوز لأحد استرساله أن يغبن من الربح غبنا يخرج عن العادة وقدر ذلك بعض العلماء بالثلث وآخرون بالسدس وبعضهم قالوا يرجع فى ذلك إلى عادة الناس مما جرت به عادتهم من الربح على المماكسين ما يربحونه على المسترسل والمسترسل قد فسر بأنه الذى لا يماكس بل يقول خذ وأعطنى وبأنه الجاهل بقيمة المبيع فلا يغبن غبنا فاحشا لا هذا ولا هذا وفى الحديث ( غبن المسترسل ربا ( ومن علم أنه يغبنهم استحق العقوبة بل يمنع من الجلوس في سوق المسلمين حتى يلزم طاعة الله ورسوله وللمغبون أن يفسخ البيع فيرد عليه السلعة ويأخذ منه الثمن وإذا تاب هذا الغابن
____________________
(29/299)
الظالم ولم يمكنه أن يرد إلى المظلومين حقوقهم فليتصدق بمقدار ما ظلمهم عنهم لتبرأ ذمته من ذلك
وبيع المساومة إذا كان مع أهل الخبرة بالأسعار التى يشترون بها السلع فى غالب الأوقات فانهم يباع غيرهم كما يباعون فلا يربح على المسترسل اكثر من غيره
وكذلك المضطر الذي لا يجد حاجته الا عند هذا الشخص ينبغى له أن يربح عليه مثل ما يربح على غير المضطر فان فى السنن ( ان النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضطر ( ولو كانت الضرورة إلى ما لابد منه مثل أن يضطر الناس إلى ما عنده من الطعام واللباس فانه يجب عليه أن لا يبيعهم إلا بالقيمة المعروفة بغير اختياره ولا يعطوه زيادة على ذلك والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل باع قمحا بثمن مؤجل فلما حل الأجل لم يكن عند المدين الا قمحا فهل له أن يأخذ منه قمحا
فأجاب نعم يجوز له أن يأخذ منه قمحا وليس ذلك ربا عند
____________________
(29/300)
جمهور العلماء كأبى حنيفة والشافعي وطائفة من أصحاب أحمد وإذا كان أخذ القمح أرفق بالمدين من أن يكلفه بيعه واعطاء الدراهم فالأفضل للغريم أخذ القمح والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل اشترى غلة بدرهم معين إلى أجل وعند نهاية الأجل قصد صاحب الدين أخذ ماله فلم يجد شيئا إلا غلة قيمتها بالسعر فى ذلك الوقت وتعينت بالدراهم عن براءة الذمة فهل يجوز لصاحب الدين أن يأخذ الغلة بالسعر الواقع
فأجاب هذه المسألة فيها قولان مثل أن يبيع حنطة إلى أجل ثم يأخذ عن الثمن حنطة فعند مالك وأحمد لا يصح هذا وعند أبي حنيفة والشافعي لا بأس به وهو قول بعض أصحاب احمد
وسئل
عن رجل له فى ذمة رجل دين وللمديون ولد فقال ولد المديون لرب الدين بعني سلعة إلى أجل وأنا أبيعها بالدراهم الحاضرة
____________________
(29/301)
و يوفى ما على والده
فأجاب الحمد لله إذا كان مقصود المشتري الدراهم وغرضه أن يشتري السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذه تسمى ( مسألة التورق ( لأن غرضه الورق لا السلعة وقد اختلف العلماء فى كراهته فكرهه عمر بن عبد العزيز وطائفة من أهل المدينة من المالكية وغيرهم وهو احدى الروايتين عن أحمد ورخص فيه آخرون والأقوى كراهته
وسئل رحمه الله
عن الرجل عليه دين ويحتاج إلى بضاعة أو حيوان لينتفع به أو يتجر فيه فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده هل للمطلوب منه ان يشتريه ثم يدينه منه إلى أجل وهل له أن يوكله فى شرائه ثم يبيعه بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء
فأجاب من كان عليه دين فان كان موسرا وجب عليه ان يوفيه وان كان معسرا وجب إنظاره ولا يجوز قلبه عليه بمعاملة ولا غيرها
وأما البيع إلى أجل ابتداء فان كان قصد المشتري الانتفاع بالسلعة
____________________
(29/302)
و التجارة فيها جاز اذا كان على الوجه المباح وأما أن كان مقصوده الدراهم فيشتري بمائة مؤجلة ويبيعها فى السوق بسبعين حالة فهذا مذموم منهي عنه فى أظهر قولي العلماء وهذا يسمى ( التورق ( قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالي عنه التورق أخية الربا
وسئل
عمن طلب من إنسان سلعة تساوي خمسة عشر قال أنه ما يعطى الا بثمانية وعشرين فهل يجوز للأخذ أن يأخذ مع علمه بالزيادة
فأجاب ان كان المشتري محتاجا إلى الدراهم فاشتراها ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى ( التورق ( وان كان المشتري غرضه أخذ الورق فهذا مكروه فى أظهر قولي العلماء كما قال عمر بن عبد العزيز التورق أخية الربا وقال بن عباس اذا قومت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم وهذا احدى الروايتين عن احمد
____________________
(29/303)
وسئل
عن تاجرين عرضت عليهما سلعة للبيع فرغب فى شرائها كل واحد منهما فقال أحدهما للآخر أشتريها شركة بيني وبينك وكانت نيته أن لا يزيد عليه فى ثمنها وينفرد فيها فرغب فى الشركة لأجل ذلك فاشتراها أحدهما ودفع ثمنها من مالهما على السوية فهل يصح هذا البيع والحالة هذه أو يكون فى ذلك دلسة على بائعها والحالة هذه
فأجاب الحمد لله أما اذا كان فى السوق من يزايدهما ولكن أحدهما ترك مزايدة صاحبه خاصة لأجل مشاركته له فهذا لا يحرم فان باب المزايدة مفتوح وانما ترك أحدهما مزايدة الآخر بخلاف ما إذا اتفق أهل السوق على أن لا يزايدوا فى سلع هم محتاجون لها ليبيعها صاحبها بدون قيمتها ويتقاسمونها بينهم فان هذا قد يضر صاحبها اكثر مما يضر تلقى السلع اذا باعها مساومة فان ذلك فيه من بخس الناس ما لا يخفى والله اعلم
____________________
(29/304)
وسئل رحمه الله
عن سماسرة فى فندق من جملتهم ثلاثة يشترون من يد بعضهم لبعض ثم أنهم يزيدون فى الشراء ويقسمون الفائدة فهل يجوز ذلك
فأجاب الحمد لله لا يجوز للدلال الذي هو وكيل البائع في المناداة أن يكون شريكا لمن يزيد بغير علم البائع فان هذا يكون هو الذي يزيد ويشتري فى المعنى وهذا خيانة للبائع ومن عمل مثل هذا لم يحب أن يزيد أحد عليه ولم ينصح البائع فى طلب الزيادة وانهاء المناداة
واذا تواطأ جماعة على ذلك فانهم يستحقون التعزير البليغ الذي يردعهم وامثالهم عن مثل هذه الخيانة ومن تعزيرهم أن يمنعوا من المناداة حتى تظهر توبتهم والله أعلم
____________________
(29/305)
وسئل رحمه الله عن معسر تداين من رجل قمحا بأضعاف قيمته ولم يتغير سعره من مدة ما استدانه وإلى أجل استحقاقه عليه ادانه إياه ووصفه له بصفة وذكر له أنه يساوي ستة عشر كل إردب وكتب حجة ووقع الاتفاق بينهما على أن كل إردب باثنين وثلاثين باعه المديون ببينة واشهاد باثنى عشر درهم الاردب بخلاف ما وصفه المستدين وقد استحق الأجل وعسر المديون فى طلب ما عليه فهل يطالب المديون بقيمة المثل أو بما كتب عليه أو بقمح مثل قمحه
فأجاب أما المعسر فلا يجوز مطالبته بما أعسر عنه وان كان حقا واجبا وجب انظاره به وان كان معاملة ربوية لم يجز أن يطالب إلا برأس ماله وبيع العين الغائبة بغير صفة بيع باطل يجب فيه رد المبيع أو رد بدله ولا يستحق فيه الثمن المسمى فكيف اذا قال هذا يساوي الساعة كذا وكذا وانا أبيعكه بكذا أكثر منه إلى أجل فهذا ربا كما قال بن عباس رضي الله عنه اذا قومت نقدا وبعت نقدا فلا بأس واذا قومت نقدا وبعت إلى أجل
____________________
(29/306)
فتلك دراهم بدراهم وهذا قوم نقدا وباع إلى أجل واذا كان المشتري قد فسخ البيع لفوات الصفة ولم يمكنه رد المبيع إلى البائع بعينه ولا حفظه بعينه عند أحد فباعه وحفظ له ثمنه لم يجب عليه غير ذلك الثمن اذا كان قد باعه بثمن مثله والله أعلم
وسئل
عن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث أم لا
فأجاب أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه إما أن يرده إلى أصحابه ان أمكن والا تصدق به والباقى لا يحرم عليه لكن القدر المشتبه يستحب له تركه اذا لم يجب صرفه فى قضاء دين أو نفقة عيال وان كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التى يرخص فيها بعض الفقهاء جاز للوارث الانتفاع به وان اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما جعل ذلك نصفين
____________________
(29/307)
وسئل
عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام
فأجاب يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه وقدر الحلال له وان لم يعرفه وتعذرت معرفته تصدق به عنه
وسئل رحمه الله
عن امراة كانت مغنية واكتسبت فى جهلها مالا كثيرا وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى وهي محافظة على طاعة الله فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره اذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه
فأجاب المال المكسوب ان كانت عين أو منفعة مباحة فى نفسها وإنما حرمت بالقصد مثل من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها فهذا يفعله بالعوض لكن لا يطيب له أكله
____________________
(29/308)
واما ان كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي وثمن الخمر فهنا لا يقضي له به قبل القبض ولو أعطاه إياه لم يحكم برده فان هذا معونة لهم على المعاصي اذا جمع لهم بين العوض والمعوض ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما لكن يصرف في مصالح المسلمين
فان تابت هذه البغي وهذا الخمار وكانوا فقراء جاز أن يصرف اليهم من هذا المال مقدار حاجتهم فان كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل أعطى ما يكون له رأس مال وان اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به ولم يردوا عوض القرض كان أحسن
وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به فهذا يثاب على ذلك وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه فهذا لا يقبله الله ان الله لا يقبل إلا الطيب فهذا خبيث كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( مهر البغي خبيث (
وسئل
عن الجهات بالزكاة والضمان بالأسواق وغيرها إذا أجراهم
____________________
(29/309)
السلطان فى أقطاع الجند حلال أم حرام
فأجاب اما اذا كان الرجل محتاجا والجهة فيها حلالا وحرام أو فيها شبهة فينبغى لصاحبها إذا أخذها ولا بد أن يصرفها فى الأمور البرانية مثل علف دابته والكلف السلطانية ونحو ذلك
وإذا تصدق بها على الفقراء أو نوي الصدقة بها عمن يستحقها كان ذلك حسنا والله أعلم
وسئل
عن رجل له إقطاع بالأطرون وكان عادة المسلمين أن يشترى الأطرون الصعاليك ويبيعوه كل رطل بثلاثة فلوس ولما كان زمان بيبرس جاء شخص ضمن الأطرون أن لا يبيع احد ولا يشترى الا من تحت يد الضامن بثلاثة وعشرين درهما القنطار فهل هو حلال أم حرام
فأجاب من كان الأطرون قد أخذه بحق لم يجز لأحد أن يكره أحدا على الشراء منه ولا يمنعه أن يشتري من غيره بل إذا أخذه بحق وباعه كما تباع سلع المسلمين بذلك جاز
____________________
(29/310)
وسئل الشيخ الامام العالم العامل
شيخ الاسلام وقطب الأئمة الأعلام ومن عمت بركاته أهل العراقين والشام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحرانى ثم الدمشقي متع الله المسلمين ببركاته وكان بالديار المصرية
عن رجل نقل عن بعض السلف من الفقهاء أنه قال أكل الحلال متعذر لا يمكن وجوده فى هذا الزمان فقيل له لم ذلك فذكر ان وقعة المنصورة لم تقسم الغنائم فيها واختلطت الأموال بالمعاملات بها فقيل له ان الرجل يؤجر نفسه لعمل من الأعمال المباحة ويأخذ أجرته حلال فذكر أن الدرهم فى نفسه حرام فقيل له كيف قبل الدرهم التغير أولا فصار حراما بالسبب الممنوع ولم يقبل التغير فيكون حلالا بالسبب المشروع فما الحكم فى ذلك
فأجاب رضي الله عنه الحمد لله هذا القائل الذي قال أكل الحلال متعذر لا يمكن وجوده فى هذا الزمان غالط مخطئ في قوله باتفاق أئمة الاسلام فان مثل هذه المقالة كان يقولها بعض أهل
____________________
(29/311)
البدع وبعض أهل الفقه الفاسد وبعض أهل النسك الفاسد فأنكر الأئمة ذلك حتى الامام احمد في ورعه المشهور كان ينكر مثل هذه المقالة وجاء رجل من النساك فذكر له شيئا من هذا فقال انظر إلى هذا الخبيث يحرم أموال المسلمين
وقال بلغني أن بعض هؤلاء يقول من سرق لم تقطع يده لأن المال ليس بمعصوم ومثل هذا كان يقوله بعض المنتسبين إلى العلم من أهل العصر بناء على هذه الشبهة الفاسدة وهو أن الحرام قد غلب على الأموال لكثرة الغصوب والعقود الفاسدة ولم يتميز الحلال من الحرام
ووقعت هذه الشبهة عند طائفة من مصنفى الفقهاء فأفتوا بأن الانسان لا يتناول الا مقدار الضرورة وطائفة لما رأت مثل هذا الحرج سدت باب الورع فصاروا نوعين
المباحية لا يميزون بين الحلال والحرام بل الحلال ما حل بأيديهم والحرام ما حرموه لأنهم ظنوا مثل هذا الظن الفاسد وهو أن الحرام قد طبق الأرض ورأوا أنه لابد للانسان من الطعام والكسوة فصاروا يتناولون ذلك من حيث أمكن فلينظر العاقل عاقبة ذلك الورع الفاسد كيف أورث الانحلال عن دين الاسلام
____________________
(29/312)
وهؤلاء يحكون في الورع الفاسد حكايات بعضها كذب ممن نقل عنه وبعضها غلط كما يحكون عن الامام أحمد أن ابنه صالحا لما تولى القضاء لم يكن يخبز فى داره وأن أهله خبزوا فى تنوره فلم يأكل الخبز فألقوه فى دجلة فلم يكن يأكل من صيد دجلة وهذا من أعظم الكذب والفرية على مثل هذا الامام ولا يفعل مثل هذا إلا من هو من أجهل الناس أو أعظمهم مكرا بالناس واحتيالا على أموالهم وقد نزهه الله عن هذا وهذا وكل عالم يعلم أن ابنه لم يتول القضاء فى حياته وإنما تولاه بعد موته ولكن كان الخليفة المتوكل قد أجاز أولاده واهل بيته جوائز من بيت المال فأمرهم أبو عبد الله ان لا يقبلوا جوائز السلطان فاعتذروا إليه بالحاجة فقبلها من قبلها منهم فترك الأكل من أموالهم والانتفاع بنيرانهم فى خبز او ماء لكونهم قبلوا جوائز السلطان وسألوه عن هذا المال احرام هو فقال لا فقالوا أنحج منه فقال نعم وبين لهم أنه انما امتنع منه لئلا يصير ذلك سببا إلى أن يداخل الخليفة فيما يريد كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( خذ العطاء ما كان عطاء فاذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا يأخذه ( ولو ألقى فى دجلة الدم والميتة ولحم الخنزير وكل حرام فى الوجود لم يحرم صيدها ولم تحرم
ومن الناس من آل به الافراط فى الورع إلى أمر اجتهد فيه
____________________
(29/313)
فيثاب على حسن قصده وان كان المشروع خلاف ما فعله مثل من امتنع من أكل ما فى الأسواق ولم يأكل الا ما ينبت فى البراري ولم يأكل من أموال المسلمين وانما يأكل من أموال أهل الحرث وأمثال ذلك مما يكون فاعله حسن القصد وله فيما فعل تأويل لكن الصواب المشروع خلاف ذلك فان الله سبحانه خلق الخلق لعبادته وأمرهم بذلك وقد ثبت فى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ان الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } وقال { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فانى يستجاب لذلك ( فقد بين صلى الله عليه وسلم ان الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين من أكل الطيبات كما أمرهم بالعمل الصالح والعمل الصالح لا يمكن الا بأكل وشرب ولباس وما يحتاج إليه العبد من مسكن ومركب وسلاح يقاتل به وكراع يقاتل عليه وكتب يتعلم منها وأمثال ذلك مما لا يقوم ما أمر الله به الا به وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب
فاذا كان القيام بالواجبات فرضا على جميع العباد وهي لا تتم الا بهذه الاموال فكيف يقال أنه قليل بل هو كثير غالب بل هو
____________________
(29/314)
الغالب على أموال الناس ولو كان الحرام هو الأغلب والدين لا يقوم فى الجمهور الا به للزم أحد أمرين اما ترك الواجبات من أكثر الخلق واما اباحة الحرام لأكثر الخلق وكلاهما باطل
و ( الورع ( من قواعد الدين ففى الصحيح عن عثمان بن بشير عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه الا وان لكل ملك حمى ألا وان حمي الله محارمه الا وان فى الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب (
وفى الحديث الآخر ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ( ورأى تمرة ساقطة فقال ( لولا أني أخاف ان تكون من الصدقة لاكلتها ( وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع
وهذا يتبين بذكر أصول
أحدها أنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما انما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب او السنة او الاجماع او قياس مرجح لذلك وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الاصول ومن الناس
____________________
(29/315)
من يكون نشأ على مذهب امام معين أو استفتى فقيها معينا أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك وهذا غلط ولهذا نظائر
منها ( مسألة المغانم ( فان السنة ان تجمع وتخمس وتقسم بين الغانمين بالعدل وهل يجوز للامام أن ينفل من أربعة أخماسها فيه قولان فمذهب فقهاء الثغور وأبى حنيفة وأحمد وأهل الحديث ان ذلك يجوز لما فى السنن ( أن النبى صلى الله عليه وسلم نفل فى بدأته الربع بعد الخمس ونفل فى رجعته الثلث بعد الخمس ( وقال سعيد بن المسيب ومالك والشافعي لا يجوز ذلك بل يجوز عند مالك التنفيل من الخمس ولا يجوز عند الشافعي الا من خمس الخمس وكان أحمد يعجب من سعيد بن المسيب ومالك كيف لم تبلغهما هذه السنة مع وفور علمهما
وقد ثبت فى الصحيحين عن بن عمر أنه قال ( بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سرية قبل نجد فبلغت سهامنا إثنا عشر بعيرا ونفلنا بعيرا بعيرا ( ومعلوم ان السهم اذا كان اثنى عشر بعيرا لم يحتمل خمس الخمس أن يخرج منه لكل واحد بعير فان ذلك لا يكون الا اذا كان السهم أربعة وعشرين بعيرا وكذلك اذا فضل الامام بعض الغانمين على بعض لمصلحة راجحة كما أعطى النبى صلى الله عليه
____________________
(29/316)
و سلم سلمة بن الاكوع في غزوة ذى قرد سهم راجل وفارس فان ذلك يجوز فى أصح قولي العلماء ومنهم من لا يجيزه كما تقدم
وكذلك اذا قال الامام من أخذ شيئا فهو له ولم تقسم الغنائم فهذا جائز فى أحد قولي العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد ولا يجوز فى القول الآخر وهو المشهور من مذهب الشافعي وفى كل من المذهبين خلاف
وعلى مثل هذا الاصل تنبنى ( الغنائم فى الأزمان المتأخرة ( مثل الغنائم التى كان يغنمها السلاجقة الاتراك والغنائم التى غنمها المسلمون من النصارى من ثغور الشام ومصر فان هذه أفتى بعض الفقهاء كأبى محمد الجوينى والنواوى أنه لا يحل لمسلم أن يشتري منها شيئا ولا يطأ منها فرجا ولا يملك منها مالا ولزم من هذا القول من الفساد ما الله به عليم فعارضهم أبو محمد بن سباع الشافعي فأفتى أن الامام لا يجب عليه قسمة المغانم بحال ولا تخميسها وان له أن يفضل الراجل وان يحرم بعض الغانمين ويخص بعضهم وزعم أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضى ذلك وهذا القول خلاف الاجماع والذي قبله باطل ومنكر أيضا فكلاهما انحراف
والصواب فى مثل هذه ان الامام اذا قال من أخذ شيئا فهو له
____________________
(29/317)
فان قيل بجواز ذلك فمن أخذ شيئا ملكه وعليه تخميسه وان كان الامام لم يقل ذلك ولم يهبهم المغانم بل أراد منها ما لا يسوغ بالاتفاق أو قيل انه يجب عليه أن يقسم بالعدل ولا يجوز له الاذن بالانتهاب فهنا المغانم مال مشترك بين الغانمين ليس لغيرهم فيها حق فمن أخذ منها مقدار حقه جاز له ذلك واذا شك فى ذلك فاما ان يحتاط ويأخذ بالورع المستحب أو يبنى على غالب ظنه ولا يكلف الله نفسا الا وسعها
وكذلك ( المزارعة ( على أن يكون البذر من العامل التى يسميها بعض الناس المخابرة وقد تنازع فيها الفقهاء لكن ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة جوازها فانه عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم وأما نهيه عن المخابرة فقد جاء مفسرا فى الصحيح فان المراد به أن يشترط للمالك زرع بقعة بعينها وكذلك كراء الأرض بجزء من الخارج منها فجوزه أبو حنيفة والشافعي وأحمد فى المشهور عنه ونهي عنه مالك وأحمد فى رواية ونظائر ذلك كثيرة فهذا بين
( الأصل الثاني ( أن المسلم اذا عامل معاملة يعتقد هو جوازها وقبض المال جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال وان لم يعتقد جواز تلك المعاملة فانه قد ثبت أن عمر بن الخطاب
____________________
(29/318)
رضي الله عنه رفع إليه أن بعض عماله يأخذ خمرا من أهل الذمة عن الجزية فقال قاتل الله فلانا أما علم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها ( ثم قال عمر ولوهم بيعها وخذوا منهم أثمانها فامر عمر أن يأخذوا من أهل الذمة الدراهم التى باعوا بها الخمر لانهم يعتقدون جواز ذلك فى دينهم
ولهذا قال العلماء ان الكفار اذا تعاملوا بينهم بمعاملات يعتقدون جوازها وتقابضوا الأموال ثم أسلموا كانت تلك الأموال لهم حلالا وان تحاكموا الينا أقررناها فى أيديهم سواء تحاكموا قبل الاسلام أو بعده وقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } فامرهم بترك ما بقى في الذمم من الربا ولم يأمرهم برد ما قبضوه لانهم كانوا يستحلون ذلك
والمسلم اذا عامل معاملات يعتقد جوازها كالحيل الربوية التى يفتى بها من يفتى من أصحاب أبى حنيفة وأخذ ثمنه أو زارع على أن البذر من العامل أو أكرى الأرض بجزء من الخارج منها ونحو ذلك وقبض المال جاز لغيره من المسلمين أن يعامله فى ذلك المال وان لم يعتقد جواز تلك المعاملة بطريق الأولى والأحرى ولو أنه تبين له فيما بعد رجحان التحريم لم يكن عليه اخراج المال الذي كسبه
____________________
(29/319)
بتأويل سائغ فان هذا أولى بالعفو والعذر من الكافر المتأول ولما ضيق بعض الفقهاء هذا على بعض أهل الورع ألجأه إلى أن يعامل الكفار ويترك معاملة المسلمين ومعلوم أن الله ورسوله لا يأمر المسلم أن يأكل من أموال الكفار ويدع أموال المسلمين بل المسلمون أولى بكل خير والكفار أولى بكل شر
( الأصل الثالث ( أن الحرام نوعان
حرام لوصفه كالميتة والدم ولحم الخنزير فهذا اذا اختلط بالماء والمائع وغيره من الأطعمة وغير طعمه أو لونه أو ريحه حرمه وان لم يغيره ففيه نزاع ليس هذا موضعه
والثاني الحرام لكسبه كالمأخوذ غصبا أو بعقد فاسد فهذا إذا اختلط بالحلال لم يحرمه فلو غصب الرجل دراهم أو دنانير أو دقيقا او حنطة أو خبزا وخلط ذلك بماله لم يحرم الجميع لا على هذا ولا على هذا بل ان كانا متماثلين أمكن أن يقسموه ويأخذ هذا قدر حقه وهذا قدر حقه وان كان قد وصل إلى كل منهما عين مال الآخر الذي أخذ الآخر نظيره وهل يكون الخلط كالاتلاف فيه وجهان فى مذهب الشافعي واحمد وغيرهما
أحدهما انه كالاتلاف فيعطيه مثل حقه من أين أحب
____________________
(29/320)
والثانى أن حقه باق فيه فللمالك أن يطلب حقه من المختلط فهذا أصل نافع فان كثيرا من الناس يتوهم أن الدراهم المحرمة اذا اختلطت بالدراهم الحلال حرم الجميع فهذا خطأ وانما تورع بعض العلماء فيما اذا كانت قليلة وأما مع الكثرة فما أعلم فيه نزاعا
( الأصل الرابع ( المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف فى مصالح المسلمين عند جماهير العلماء كمالك وأحمد وغيرهما فاذا كان بيد الانسان غصوب أو عواري أو ودائع أو رهون قد يئس من معرفة اصحابها فانه يتصدق بها عنهم أو يصرفها فى مصالح المسلمين أو يسلمها إلى قاسم عادل يصرفها فى مصالح المسلمين المصالح الشرعية
ومن الفقهاء من يقول توقف أبدا حتى يتبين أصحابها والصواب الأول فان حبس المال دائما لمن لا يرجى لا فائدة فيه بل هو تعرض لهلاك المال واستيلاء الظلمة عليه وكان عبد الله بن مسعود قد اشترى جارية فدخل بيته ليأتى بالثمن فخرج فلم يجد البائع فجعل يطوف على المساكين ويتصدق عليهم بالثمن ويقول اللهم عن رب الجارية فان قبل فذاك وان لم يقبل فهو لي وعلي له مثله يوم القيامة وكذلك أفتى بعض التابعين من غل من الغنيمة وتاب بعد تفرقهم أن يتصدق بذلك عنهم ورضي بهذه الفتيا الصحابة والتابعون الذين بلغتهم كمعاوية وغيره من أهل الشام وهذا يبين
____________________
(29/321)
( الأصل الخامس ( وهو الذي يكشف سر المسألة وهو أن المجهول فى الشريعة كالمعدوم والمعجوز عنه فان الله سبحانه وتعالى قال { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم ( فالله إذا أمرنا بأمر كان ذلك مشروطا بالقدرة عليه والتمكن من العمل به فما عجزنا عن معرفته أو عن العمل به سقط عنا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فى اللقطة ( فان جاء صاحبها فأدها إليه والا فهي مال الله يؤتيه من يشاء ( فهذه اللقطة كانت ملكا لمالك ووقعت منه فلما تعذر معرفة مالكها قال النبى صلى الله عليه وسلم ( هي مال الله يؤتيه من يشاء ( فدل ذلك على أن الله شاء أن يزيل عنها ملك ذلك المالك ويعطيها لهذا الملتقط الذي عرفها سنة ولا نزاع بين الأئمة أنه بعد تعريف السنة يجوز للملتقط أن يتصدق بها وكذلك له أن يتملكها ان كان فقيرا وهل له التملك مع الغنى فيه قولان مشهوران ومذهب الشافعي وأحمد أنه يجوز ذلك وأبو حنيفة لا يجوزه
ولو مات رجل ولم يعرف له وارث صرف ماله فى مصالح المسلمين وان كان في نفس الأمر له وارث غير معروف حتى لو تبين الوارث يسلم إليه ماله وان كان قبل تبينه يكون صرفه إلى من يصرفه جائزا
____________________
(29/322)
و أخذه له غير حرام مع كثرة من يموت وله عصبة بعد لم تعرف
وإذا تبين هذا فيقال ما فى الوجود من الأموال المغصوبة والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض ان عرفه المسلم اجتنبه فمن علمت أنه سرق مالا أو خانه فى أمانته أو غصبه فأخذه من المغصوب قهرا بغير حق لم يجز لي أن آخذه منه لا بطريق الهبة ولا بطريق المعاوضة ولا وفاء عن اجرة ولا ثمن مبيع ولا وفاء عن قرض فان هذا عين مال ذلك المظلوم
وأما ان كان ذلك المال قبضه بتأويل سائغ فى مذهب بعض الأئمة جاز لي أن أستوفيه من ثمن المبيع والاجرة والقرض وغير ذلك من الديون وان كان مجهول الحال فالمجهول كالمعدوم والأصل فيما بيد المسلم أن يكون ملكا له أن ادعى أنه ملكه أو يكون وليا عليه كناظر الوقف وولي اليتيم وولي بيت المال أو يكون وكيلا فيه وما تصرف فيه المسلم أو الذمي بطريق الملك أو الولاية جاز تصرفه
فاذا لم أعلم حال ذلك المال الذي بيده بنيت الأمر على الأصل ثم ان كان ذلك الدرهم فى نفس الأمر قد غصبه هو ولم اعلم أنا كنت جاهلا بذلك والمجهول كالمعدوم فليس أخذى لثمن المبيع وأجرة العمل وبدل القرض بدون أخذى اللقطة فان أخذتها بغير
____________________
(29/323)
عوض ثم لم أعلم مالكها وهذا المال لا أعلم له مالكا غير هذا وقد أخذته عوضا عن حقي فكيف يحرم هذا علي لكن ان كان ذلك الرجل معروفا بأن في ماله حراما ترك معاملته ورعا وان كان أكثر ماله حراما ففيه نزاع بين العلماء
وأما المسلم المستور فلا شبهة فى معاملته أصلا ومن ترك معاملته ورعا كان قد ابتدع فى الدين بدعة ما أنزل الله بها من سلطان
وبهذا يتبين الحكم فى سائر الأموال فان هذا الغالط يقول ان هذه اللحوم والألبان التى تؤكل قد تكون فى الأصل قد نهبت أو غصبت فيقال المجهول كالمعدوم فاذا لم نعلم كان ذلك فى حقنا كأنه لم يكن وهذا لأن الله انما حرم المعاملات الفاسدة لما فيها من الظلم فان الله تعالى يقول فى كتابه العزيز { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } والغصب وأنواعه والسرقة والخيانة داخل فى الظلم
واذا كان كذلك فهذا المظلوم الذي أخذ ماله بغير حق ببيع أو أجرة وأخذ منه والمشتري لا يعلم بذلك ثم ينقل من المشتري
____________________
(29/324)
إلى غيره ثم إلى غيره ويعلم أن أولئك لم يظلموه وانما ظالمه من اعتدى عليه ولكن لو علم بهم فهل له مطالبتهم بما لم يلتزموا ضمانه على قولين للعلماء أصحهما أنه ليس له ذلك
مثال ذلك أن الظالم إذا أودع ماله عند من لا يعلم أنه غاصب فتلفت الوديعة فهل للمالك أن يطالب المودع على قولين أصحهما أنه ليس له ذلك
ولو أطعم المال لضيف لم يعلم بالظلم ثم علم المالك فهل له مطالبة الضيف على قولين احدهما ليس له مطالبته ومن قال ان له مطالبته لا يقول إن أكله حرام بل يقول لا إثم عليه فى أكله وانما عليه أداء ثمنه بمنزلة ما اشتراه وصاحب القول الصحيح يقول لا إثم عليه فى أكله ولا غرم عليه لصاحبه بحال وانما الغرم على الغاصب الظالم الذي أخذه منه بغير حق فاذا نظرنا إلى مال معين بيد انسان لا نعلم أنه مغصوب ولا مقبوض قبضا لا يفيد المالك واستوفيناه منه أو اتهبناه منه أو استوفيناه عن اجرة أو بدل قرض لا إثم علينا فى ذلك بالاتفاق
وان كان فى نفس الأمر قد سرقه أو غصبه ثم اذا علمنا فيما بعد أنه مسروق فعلى أصح القولين لا يجب علينا الا ما التزمناه بالعقد أي لا يستقر علينا إلا ضمان ما التزمناه بالعقد فلا يستقر علينا ضمان ما أهدي أو وهب ولا ضمان اكثر من الثمن كذلك الأجرة
____________________
(29/325)
و بدل القرض إذا كنا قد تصرفنا فيها لم يستقر علينا ضمان بدله
لكن تنازع الفقهاء هنا فى ( مسألة ( وهي أنه هل للمالك تضمين هذا المغرور الذي تلف المال تحت يده ثم يرجع إلى الغار بما غرمه بغروره أم ليس له مطالبة المغرور إلا بما يستقر عليه ضمانه على قولين هما روايتان عن أحمد ومثل هذا لو غصب رجل جارية فاشتراها منه انسان واستولدها أو وهبه اياها فقد اتفق الصحابة والأئمة على أن أولادها من المغرور يكونون احرارا لأن الواطئ لا يعلم أنها مملوكة لغيره بل اعتقد أنها مملوكته مع اتفاقهم أن الولد يتبع أمه فى الحرية والرق ويتبع أباه فى النسب والولاء ومع هذا فجعلوا ابنه حرا لكون الوالد لم يعلم والمجهول كالمعدوم وأوجبوا لسيد الجارية بدل الولد لأنه كان يستحقه لولا الغرور فإذا خرجوا عن ملكه بغير حق كان له بدلهم وأوجبوا له مهر أمة
وقالوا فى أصح القولين أن هذا يلزم الغار الظالم الذي غصب الجارية وباعها لا يلزم المغرور المشترى إلا ما التزمه بالعقد وهو الثمن فقط ثم هل لصاحبها أن يطالب المغرور بفداء الولد والمهر ثم يرجع به المغرور على الغار الظالم أم ليس له إلا مطالبة الغار الظالم على قولين هما روايتان عن أحمد ولا نزاع بين الأمة أن وطئه ليس بحرام وأن ولده ولد رشدة لا ولد عنه فهو ولد حلال لا ولد
____________________
(29/326)
زنا وكذلك فى سائر هذه الصور لم يتنازعوا أنه لا اثم على الآكل ولا على اللابس ولا على الواطئ الذي لم يعلم
وانما تنازعوا فى الضمان لأن الضمان من باب العدل الواجب في حقوق الآدميين وهو يجب فى العمد والخطأ { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } فقاتل النفس خطأ لا يأثم ولا يفسق بذلك ولكن عليه الدية وكذلك من أتلف مالا مغصوبا خطأ فعليه بدله ولا اثم عليه فقد تبين أن الاثم منتف مع عدم العلم
وحينئذ فجميع الأموال التى بأيدي المسلمين واليهود والنصارى التى لا يعلم بدلالة ولا أمارة أنها مغصوبة أو مقبوضة قبضا لا يجوز معه معاملة القابض فانه يجوز معاملتهم فيها بلا ريب ولا تنازع فى ذلك بين الأئمة أعلمه
ومعلوم أن غالب أموال الناس كذلك والقبض الذي لا يفيد الملك هو الظلم المحض فأما المقبوض بعقد فاسد كالربا والميسر ونحوهما فهل يفيد الملك على ثلاثة أقوال للفقهاء
( أحدها ( أنه يفيد الملك وهو مذهب ابى حنيفة
( والثاني ( لا يفيده وهو مذهب الشافعي واحمد فى المعروف
____________________
(29/327)
من مذهبه
( والثالث ( أنه إن فات أفاد الملك وان امكن رده إلى مالكه ولم يتغير فى وصف ولا سعر لم يفد الملك وهو المحكى عن مذهب مالك
وهذه الأمور والقواعد قد بسطناها فى غير هذا الجواب ولكن نبهنا على قواعد شريفة تفتح باب الاشتباه فى هذا الأصل الذي هو احد أصول الاسلام كما قال الامام احمد وغيره إن أصول الاسلام تدور على ثلاثة أحاديث قوله ( الحلال بين والحرام بين ( وقوله ( انما الاعمال بالنيات ( وقوله ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ( فان الأعمال إما مأمورات وإما محظورات والأول فيه ذكر المحظورات والمأمورات اما قصد القلب وهو النية واما العمل الظاهر وهو المشروع الموافق للسنة كما قال الفضيل بن عياض فى قوله تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال اخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال ان العمل اذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وان كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ان يكون لله والصواب أن يكون على السنة
فتبين أن ما ذكره هذا القائل الذي قال أكل الحلال متعذر ولا يمكن وجوده فى هذا الزمان قوله خطأ مخالف للاجماع بل
____________________
(29/328)
الحلال هو الغالب على أموال الناس وهو اكثر من الحرام وهذا القول قد يقوله طائفة من المتفقهة المتصوفة وأعرف من قاله من كبار المشايخ بالعراق ولعله من أولئك انتقل إلى بعض شيوخ مصر ثم الذي قال ذلك لم يرد أن يسد باب الأكل بل قال الورع حينئذ لا سبيل إليه ثم ذكر ما يأتى فيما يفعل ويترك لم يحضرنى الآن
فليتدبر العاقل وليعلم أنه من خرج عن القانون النبوي الشرعي المحمدي الذي دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها احتاج إلى أن يضع قانونا آخر متناقضا يرده العقل والدين لكن من كان مجتهدا امتحن بطاعة الله ورسوله فان الله يثيبه على اجتهاده ويغفر له خطأه { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم }
وما ذكره من أن وقعة المنصورة لما لم تقسم فيها المغانم واختلطت فيها المغانم دخلت الشبهة
الجواب عنه من كلامين
احدهما أن يقال الذي اختلط بأموال الناس من الحرام المحض كالغصب الذي يغصبه القادرون من الولاة والقطاع أو أهل الفتن وما يدخل فى ذلك من الخيانة فى المعاملات اكثر من ذلك بكثير
____________________
(29/329)
لا سيما فى هذه البلاد المصرية فانها اكثر من الشام والمغرب ظلما كظلم بعضهم بعضا فى المعاملات بالخيانة والغش وجحد الحق ولكثرة ما فيها من ظلم قطاع الطريق والفلاحين والاعراب ولكثرة ما فيها من الظلم الموضوع من المتولين بغير حق فاحالة التحريم على هذا الأمر أولى من احالته على المغانم
الثانى ان تلك المغانم قد ذكرنا مذهب الفقهاء فيها وبينا أن الصحيح أن الامام اذا أذن فى الأخذ من غير قسم جاز وأنه اذا لم يجز فمن أخذ مقدار حقه جاز وان من أخذ أكثر من حقه وتعذر رده على أصحابه لعدم العلم بهم فانه يتصدق به عنهم وأنه لو لم يتصدق به عنهم وتصرف فيه فمتى وصل إليه منه شيء لم يعلم بحاله لم يكن محرما عليه ولا عليه فيه اثم وهذا الحكم جار فى سائر الغصوب المذكورة
وتبين بما ذكرناه أن من آجر نفسه أو دوابه أو عقاره أو ما يتعلقه وأخذ الثمن والاجرة لم يحرم عليه سواء علم ذلك الثمن والاجرة حلالا للمالك أو لم يعلم حاله بأن كان مستورا وان علم أنه غصب تلك الدراهم أو سرقها أو قبضها بوجه لا يبيح أخذها به لم يجز أخذها عن ثمنه وأجرته مع أن هذا فيه نزاع بين الفقهاء تضيق هذه الورقة عن بسطه
____________________
(29/330)
أما قوله القائل الدرهم كيف قبل التغير وصار حراما بالسبب الممنوع ولم يقبل التغير فيصير حلالا بالسبب المشروع فيقال له بل قبل التغير فيما حرم لوصفه لا بما حرم لكسبه فالأول مثل الخمر فإنها لما كانت عصيرا لم تصر حلالا طاهرا فلما تخمرت كانت حراما نجسا فإذا تخللت بفعل الله من غير قصد لتخليلها كانت خل خمر حلالا طاهرا باتفاق العلماء وإنما تنازعوا فيما إذا قصد تخليلها وتنازعوا في سائر النجاسات كالخنزير إذا صار ملحا والنجاسة إذا صارت رمادا فقيل لا يطهر كقول الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد والثاني مثل المال المغصوب هو حرام لأنه قبض بالظلم فإذا قبض بحق أبيح مثل أن يأذن فيه المالك للغاصب أو يهبه اياه أو يبيعه منه أو يقبضه المالك أو وليه أو وكيله ثم الغاصب إذا أعطاه لمن لا يعلم أنه مغصوب كان قبضه بحق لأن الله لم يكلفه ما لا يعلم وكذلك بين قبضه من القابض بحق وقد تقدم الكلام في الضمان والله أعلم
____________________
(29/331)
& باب الشروط في البيع
سئل رحمه الله
عن رجل مسلم اشترى جارية كتابية وشرط له البائع أنها طباخة جيدة وأنها تصنع الخمر والنبيذ فهل يصح
فأجاب اشتراط كونها تصنع الخمر والنبيذ شرط باطل باتفاق المسلمين والعقد مع ذلك فاسد
أما على قول من يقول أن الشرط الفاسد يفسد العقد كما هو المشهور من مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فى إحدى الروايتين فظاهر
وأما على القول الآخر فانه لو باعها بدون شرط لم يجز أن يشتري الجارية لأجل كونها تصنع الخمر كما لا يجوز أن يشتري عينا ليعصى الله بها مثل أن يشتري عصيرا ليعمله خمرا ويشتري سلاحا ليقاتل المسلمين فى أصح قولي العلماء كما هو مذهب مالك وأحمد
____________________
(29/332)
و غيرهما كما قال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }
وسئل
عن رجل اشترى من رجل دارا بالف درهم وهي تساوي ألفي درهم ثم إن المشتري أجر البائع الدار مدة من الشهور بدراهم معلومة فى تاريخه على الفور وهو بينهما بيع أمانة فى الباطن هل يصح هذا العقد على هذا الحكم وهل يلزم البائع الأصلي مبلغ مدة الاجارة أم لا وقد ورد فى الحديث أنه روى عن ابى بن كعب وبن مسعود وبن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلي الله عليه وسلم ( أنه نهي عن قرض جر منفعة ( وهل ذلك من نوع ذلك أم لا وهل جاء فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه استسلف من رجل بكرا فجاءته ابل الصدقة فامرنى أن أقضى الرجل بكرا فقلت لم اجد فى الابل الا جملا خيارا رباعيا فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( اعطه فان خياركم أحسنكم قضاء ( وهل ذلك من الاحاديث الصحاح أم لا
فأجاب اذا كان المقصود أن ياخذ احدهما من الآخر دراهم
____________________
(29/333)
و ينتفع المعطى بعقار الآخر مدة مقام الدراهم فى ذمته فاذا أعاد الدراهم إليه أعاد إليه العقار فهذا حرام بلا ريب وهذا دراهم بدراهم مثلها ومنفعة الدار وهو الربا البين وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حراما وكذلك اذا تواطآ على ذلك فى أصح قولي العلماء وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان فى بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ( حرم النبى صلى الله عليه وسلم الجمع بين السلف والبيع لأنه اذا أقرضه وباعه حاباه فى البيع لاجل القرض وكذلك اذا آجره وباعه وما يظهرونه من بيع الأمانة الذي يتفقون فيه على أنه اذا جاءه بالثمن اعاد إليه المبيع هو باطل باتفاق الأئمة سواء شرطه فى العقد أو تواطآ عليه قبل العقد على أصح قولي العلماء والواجب فى مثل هذا أن يعاد العقار إلى ربه والمال إلى ربه ويعزر كل من الشخصين ان كانا علما بالتحريم والقرض الذي يجر منفعة قد ثبت النهي عنه عن غير واحد من الصحابة الذين ذكرهم السائل وغيرهم كعبدالله بن سلام وانس بن مالك وروى ذلك مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم رواه بن ماجه وغيره
وفى صحيح البخاري عن عبد الله بن سلام ( انك بأرض الربا فيها فاش فاذا اقرضت رجلا قرضا فاهدى لك حمل تبن او حمل
____________________
(29/334)
قت فاحسبه له من قرضه ( وقال رجل لابن عباس أنى أقرضت سماكا عشرين درهما فأهدى لي سمكة فقومتها ثلاثة عشر درهما فقال لا تاخذ منه الا سبعة دراهم وحديث البكر حديث صحيح
فإذا وفاه المقرض خيرا من قرضه بلا مواطأة جاز ذلك وان وفاه أكثر من قرضه ففيه قولان للعلماء وذلك لأن هذا زيادة بعد وفاء القرض بخلاف ما اذا أهدى إليه قبل الوفاء فانه إذا لم يحسبه من القرض كان القرض باقيا فى ذمته على أن يأخذه مع الهدية والهدية انما كانت بسبب القرض وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا اهدي إلي أفلا قعد فى بيت أبيه او أمه فينظر أيهدى إليه أم لا (
فبين أن الهدية اذا كانت بسبب ألحقت به فلهذا كان المأثور عن الصحابة وجمهور الأئمة أن الهدية قبل الوفاء تحسب لصاحبها بخلاف زيادة الصفة فى الوفاء
وأما صورة وهو أن يتواطآ على أن يبتاع منه العقار بثمن ثم يؤجره اياه إلى مدة واذا جاءه بالثمن اعاد إليه العقار فهنا المقصود أن المعطى شيئا أدى الاجرة مدة بقاء المال فى ذمته ولا فرق بين أخذ المنفعة وبين عوض المنفعة الجميع حرام
____________________
(29/335)
وهذا وان كان قد رخص فيه طائفة من الفقهاء بناء على أن ذلك لم يشترط فى العقد وان المواطأة والنية لا تؤثر فى العقود فالصواب الذي عليه الكتاب والسنة واتفق عليه الصحابة وهو قول أكثر الأئمة تحريم مثل ذلك وان النيات معتبرة فى العقود كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( انما الاعمال بالنيات وانما لكل امريء ما نوى ( والشرط المتقدم كالمقارن له
وقد عاتب الله من أسقط الواجبات واستحل المحرمات بالحيل والمخادعات كما ذكر ذلك فى سورة ( ن ( وفى قصة اهل السبت وفى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ( وقال أيوب السختيانى يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي ودلائل هذا مبسوطة فى كتاب كبير
____________________
(29/336)
وقال شيخ الاسلام تقى الدين رحمه الله تعالى فصل
فى قول النبى صلى الله عليه وسلم لعائشة ( ابتاعيها واشترطي لهم الولاء فانما الولاء لمن أعتق (
فان هذا أشكل على كثير من الناس حتى أن منهم من قال انفرد به هشام دون الزهري وظن ذلك علة فيه والحديث في الصحيحين لا علة فيه
ومنهم من قال ( اشترطي لهم ( بمعنى عليهم قالوا ومثله قوله تعالى ( ولهم اللعنة ( أي عليهم اللعنة ونقل هذا حرملة عن الشافعي ونقل عن المزني وهو ضعيف
أما أولا فان قوله ( اشترطى لهم ( صريح فى معناه واللام للاختصاص وأما قوله ( ولهم اللعنة ( فمثل قوله ( لهم العذاب ( و ( لهم خزي ( وهو معنى صحيح ليس المراد أنهم يملكون اللعنة
____________________
(29/337)
بل هنا اذا قيل ( لهم اللعنة ( فالمراد أنهم يجزون بها وإذا قيل عليهم فالمراد الدعاء عليهم باللعنة فالمعنيان مفترقان وقد يراد بقوله ( عليهم ( الخبر أي وقعت عليهم فحرف الاستعلاء غير ما أفاده حرف الاختصاص وان كانا يشتركان فى أن أولئك ملعونون وقوله ( اشترطي لهم ( مباين لمعنى اشترطي عليهم فكيف يفسر معني اللفظ بمعنى ضده
وأيضا فعائشة قد كانت اشترطت ذلك عليهم وقالت ( ان شاؤوا عددتها لهم عدة واحدة ويكون ولاؤك لي فامتنعوا (
وأيضا فان ثبوت الولاء للمعتق لا يحتاج إلى اشتراطه بل هو اذا أعتق كان الولاء له سواء شرط ذلك على البائع أو لم يشرط
يبقي حمل الحديث على أن هذا يشعر بأن الولاء انما يصير لهم اذا شرطته وهذا باطل ومن تدبر الحديث تبين له قطعا أن الرسول لم يرد هذا
وأما ما دل عليه الحديث فأشكل عليهم من جهتين من جهة أن الرسول كيف يأمر بالشرط الباطل والثانى من جهة أن الشرط الباطل كيف لا يفسد العقد
وقد أجاب طائفة بجواب ثالث ذكره أحمد وغيره وهو أن
____________________
(29/338)
القوم كانوا قد علموا أن هذا الشرط منهي عنه فأقدموا على ذلك بعد نهي النبى صلى الله عليه وسلم فكان وجود اشتراطهم كعدمه وبين لعائشة أن اشتراطك لهم الولاء لا يضرك فليس هو أمرا بالشرط لكن إذنا للمشتري فى اشتراطه إذا أبى البائع ان يبيع إلا به وإخبارا للمشتري أن هذا لا يضره ويجوز للانسان أن يدخل فى مثل ذلك فهو اذن فى الشراء مع اشتراط البائع ذلك وإذن فى الدخول معهم فى اشتراطه لعدم الضرر فى ذلك ونفس الحديث صريح فى أن مثل هذا الشرط الفاسد لا يفسد العقد وهذا هو الصواب وهو قول بن ابى ليلى وغيره وهو مذهب أحمد فى أظهر الروايتين عنه
وانما استشكل الحديث من ظن أن الشرط الفاسد يفسد العقد وليس كذلك لكن ان كان المشترط يعلم أنه شرط محرم لا يحل اشتراطه فوجود اشتراطه كعدمه مثل هؤلاء القوم فيصح اشتراء المشتري ويملك المشتري ويلغو هذا الشرط الذي قد علم البائع أنه محرم لا يجوز الوفاء به
وأما أولئك القوم فان كانوا قد علموا بالنهي قبل استفتاء عائشة فلا شبهة لكن ليس فى الحديث ما يدل عليه بل فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم قام عشية فقال ( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط ( وهذا كان عقب استفتاء عائشة وقد علم أولئك
____________________
(29/339)
بهذا بلا ريب وكان عقد عائشة معهم بعد هذا الاعلام من الرسول صلى الله عليه وسلم فاما ان يكونوا تابوا عن هذا الشرط أو أقدموا عليه مع العلم بالتحريم وحينئذ فلا يضر اشتراطه هذا هو الذي يدل عليه الحديث وسياقه ولا إشكال فيه ولله الحمد والمنة
وأما ان كان المشترط لمثل هذا الشرط الباطل جاهلا بالتحريم ظانا أنه شرط لازم فهذا لا يكون البيع فى حقه لازما ولا يكون ايضا باطلا وهذا ظاهر مذهب أحمد بل له الفسخ إذا لم يعلم ان هذا الشرط لا يجب الوفاء به فانه إنما رضي بزوال ملكه بهذا الشرط فاذا لم يحصل له فملكه له ان شاء وان شاء أن ينفذ البيع أنفذه كما لو ظهر بالمبيع عيب وكالشروط الصحيحة إذا لم يوف له بها إذا باع بشرط رهن أو ضمين فلم يأت به فله الفسخ وله الامضاء
والقول بأن البيع باطل فى مثل هذا ضعيف مخالف للأصول بل هو غير لازم يتسلط فيه المشترى على الفسخ كالمشترى للمعيب وللمصراة ونحوهما فان حقه مخير بتمكينه من الفسخ وقد قيل في مذهب احمد أن له أرش ما نقص من الثمن بالغاء هذا الشرط كما قيل مثل ذلك فى المعيب وهو أشهر الروايتين عنه والرواية الأخرى لا يستحق إلا الفسخ وانما له الارش بالتراضي أو عند تعذر الرد كقول جمهور الفقهاء وهذا أصح فانه كما أن المشترط لم يرض إلا
____________________
(29/340)
بالشرط فلا يلزم البيع بدونه بل له الخيار فكذلك الآخر لم يرض إلا بالثمن المسمى وإن كان رضي به مع الشرط فاذا ألغى الشرط وصار الولاء له فهو لم يرض بأكثر من الثمن فى هذه الصورة بل ان شاء فسخ البيع فلا يلزم بالزيادة بل إذا أعطى الثمن فان شاء الآخر قبل وأمضى وان شاء فسخ البيع وان تراضيا بالارش جاز لكن لا يلزم به واحد منهما إلا برضاه فانه معاوضة عن الجزء الفائت
وهكذا يقال فى نظائر هذا مثل الصفقة إذا تفرقت وقيل يصح البيع فى الحلال بقسطه من الثمن كما هو ظاهر مذهب أحمد فان الذي تفرقت عليه له الفسخ إذا كان لم يرض ببيع هذا بقسطه إلا مع ذلك
وأصل العقود أن العبد لا يلزمه شيء إلا بالتزامه أو بالزام الشارع له فما التزمه فهو ما عاهد عليه فلا ينقض العهد ولا يغدر وما أمره الشارع به فهو مما أوجب الله عليه ان يلتزمه وإن لم يلتزمه كما أوجب عليه ان يصل ما أمر الله به أن يوصل من الايمان بالكتب والرسل ومن صلة الأرحام ولهذا يذكر الله فى كتابه هذا وهذا كقوله { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل }
____________________
(29/341)
فما أمر الله به أن يوصل فهو الزام من الله به وما عاهد عليه الانسان فقد التزمه فعليه أن يوفى بعهد الله ولا ينقض الميثاق إذا لم يكن ذلك مخالفا لكتاب الله فمن اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله مثل أن يريد به أن يستحل ما حرم الله كالذي يبيع الأمة أو يعتقها ويشرط وطأها بعد خروجها من ملكه أو يبيع غيره مملوكا ويشرط أن يكون ولاؤه له لا للمعتق أو يزوج أمته أو قرابته ويشرط أن يكون النسب لغير الأب أو يكون النسب له فالله قد أمر أن يدعى الولد لأبيه والولاء لحمة كلحمة النسب فمن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين وثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى عن بيع الولاء وعن هبته ( ولهذا كان عند جمهور العلماء لا يورث ايضا ولكن يورث به كالنسب ويكون الولاء للكبر فقد تبين أن الحديث حق كما جاء والله أعلم
وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ( وهذا يبين أن الوفاء بالشروط فى النكاح أولى منها فى البيع ولهذا قال كثير من السلف والخلف أنه اذا اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله مثل أن يشترط ان يتزوجها بلا مهر أو بمهر محرم فهذا نكاح باطل كنكاح الشغار وغيره وهذا مذهب مالك وأحمد فى إحدى الروايتين
____________________
(29/342)
وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن نكاح الشغار وأبطله الصحابة فانهم أشغروا النكاح عن مهر هذا هو العلة فى نصوص أحمد المشهورة عنه وهو قول مالك وغيره وعند طائفة من أصحابه العلة ما قاله الشافعي وهو التشريك فى البضع والأول أصح وهذا لا معنى له فان البضع لم يحصل فيه اشتراك بل كل من الزوجين ملك بضع امرأة بلا شركة وان كان قد جعل صداقها بضع الاخري فالمرأة الحرة لم تملك بضع المراة ولا يمكن هذا فان امرأة لا تتزوج امرأة ولكن جعلت لوليها ما تستحقه من المهر فوليها هو الذي ملك البضع وجعل صداقها ملك وليها البضع وهي لم تملك شيئا فلهذا كان شغارا والمكان الشاغر الخالي وشغرت هذه الجهة اي خلت ومن أصدقت شيئا ولم يحصل لها ما أصدقته لم يكن النكاح لازما وأعطيت بدله كما في البيع وأولى ( فان أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج (
ومن التزمت بالنكاح من غير أن تحصل ما رضيته فقد التزمت بالنكاح الذي لم ترض به وهذا خلاف الكتاب والسنة وإذا كان مثل هذا لا يجوز فى البيع فانه لا يجوز فى النكاح أولى والشارع لم يلزمها النكاح على هذا الوجه ولا هي التزمته وانما يجب علي الانسان ما يجب بالزام الشارع او بالتزامه وكلاهما منتف فلا معنى
____________________
(29/343)
لالتزامها بنكاح لم ترض به
وقول من قال المهر ليس بمقصود كلام لا حقيقة له فانه ركن فى النكاح وإذا شرط فيه كان أوكد من شرط الثمن لقوله ( ان أحق الشروط ان توفوا به ما استحللتم به الفروج ( والأموال تباح بالبدل والفروج لا تستباح الا بالمهور وانما ينعقد النكاح بدون فرضه وتقريره لا مع نفيه والنكاح المطلق ينصرف إلى مهر المثل وكذلك البيع على الصحيح وهو احدى الروايتين عن احمد ينعقد بالسعر فلا فرق كما قد بسط فى مواضع
والذي يثبت بالكتاب والسنة والاجماع أن النكاح ينعقد بدون فرض المهر أي بدون تقديره لا أنه ينعقد مع نفيه بل قد قال تعالى { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم } لما جوز للنبى صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بلا مهر فرض عليهم أن لا يتزوجوا بلا مهر وكذلك دل عليه القرآن فى غير موضع فلابد من مهر مسمى مفروض أو مسكوت عن فرضه ثم أن فرض ما تراضيا به والا فلها مهر نسائها كما قضى به النبى صلى الله عليه وسلم فى بروع بنت واشق وأين هذا من هذا والناس دائما يتناكحون مطلقا وقد تراضوا بالمهر المعتاد فى مثل ذلك وهو مهر المثل كما يتبايعون دائما وقد تراضوا بالسعر الذي يبيع به البائع في
____________________
(29/344)
مثل تلك الأوقات كما يشترون الخبز والأدم والفاكهة واللحم وغير ذلك من الخباز واللحام والفومي وغير ذلك وقد رضوا أن يعطيهم ثمن المثل وهو السعر الذي يبيع به للناس وهو ما ساغ به مثل تلك السلعة فى ذلك المكان والزمان وهذا البيع صحيح نص عليه أحمد وان كان فى مذهبه نزاع فيه
فصل
وأصل الدين أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا مكروه إلا ما كرهه الله ورسوله ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله ولا مستحب إلا ما أحبه الله ورسوله فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله ولهذا انكر الله على المشركين وغيرهم ما حللوه أو حرموه أو شرعوه من الدين بغير اذن من الله
والذي يوجبه الله على العبد قد يوجبه ابتداء كايجابه الايمان والتوحيد على كل أحد وقد يوجبه لأن العبد التزمه وأوجبه على نفسه ولولا ذلك لم يوجبه كالوفاء بالنذر للمستحبات وبما التزمه فى العقود المباحة كالبيع والنكاح والطلاق ونحو ذلك إذا لم يكن
____________________
(29/345)
واجبا وقد يوجبه للأمرين كمبايعة الرسول على السمع والطاعة له وكذلك مبايعة أئمة المسلمين وكتعاقد الناس على العمل بما أمر الله به ورسوله
ونفس التزام شرائع الاسلام من هذا الباب فان المؤمن التزمها بالايمان وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فان هذه الشهادة توجب عليه الوفاء بموجبها وهو تصديق الرسول فيما أتى به عن الله وطاعته فيما أوجبه وأمر به لأنه قد بلغ عن الله أن طاعته طاعته ومعصيته معصيته وهذه الأصول مبسوطة فى مواضع
والمقصود هنا أنه إذا كان أصل الشرع أنه لا يلزمه إلا بالزام الشارع له أو بالتزامه إياه فاذا تنازع الفقهاء فى فرع من فروع هذا الأصل رد إليه ومن الفقهاء من يوفي به ومنهم من لا يوفى به بل ينقضه فى كثير من المسائل وان كان الغالب عليه الوفاء به في اكثر المسائل ومن ذلك ( مسائل النكاح والشروط فيه (
فان القاعدة ايضا أن الأصل فى الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه وقد قيل بل الأصل فيها عدم الصحة إلا ما دل الدليل على صحته لحديث عائشة والأول هو الصحيح فان الكتاب والسنة قد دلا على الوفاء بالعقود والعهود وذم الغدر
____________________
(29/346)
و النكث ولكن إذا لم يكن المشروط مخالفا لكتاب الله وشرطه فاذا كان المشروط مخالفا لكتاب الله وشرطه كان الشرط باطلا وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله اوثق (
فان قوله ( من اشترط شرطا ( اي مشروطا وقوله ( ليس فى كتاب الله ( اي ليس المشروط فى كتاب الله فليس هو مما أباحه الله كاشتراط الولاء لغير المعتق والنسب لغير الوالد وكالوطء بغير ملك يمين ولا نكاح ونحو ذلك مما لم يبحه الله بحال ومن ذلك تزوج المرأة بلا مهر ولهذا قال ( كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ( وهذا إنما يقال إذا كان المشروط يناقض كتاب الله وشرطه فيجب تقديم كتاب الله وشرطه ويقال ( كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ( وأما إذا كان نفس الشرط والمشروط لم ينص الله على حله بل سكت عنه فليس هو مناقضا لكتاب الله وشرطه حتى يقال ( كتاب الله أحق وشرطه أوثق ( فقوله ( من اشترط شرطا ليس فى كتاب الله ( اي مخالفا لكتاب الله وسواء قيل المراد من الشرط المصدر أو المفعول فانه متى خالف أحدهما كتاب الله خالفه الآخر بخلاف ما سكت عنه فهذا اصل
____________________
(29/347)
( والأصل الثانى ( أن الشرط المخالف لكتاب الله إذا لم يرضيا إلا به فقد التزما ما حرمه الله فلا يلزم كما لو نذر المعصية وسواء كانا عالمين أو جاهلين وان اشترطه احدهما على الآخر يعتقد جوازه فلم يرض إلا به فلا يلزمه العقد إلا أن يكون التزمه لله فيلزمه ما كان لله دون ما لم يكن كالنذر والوقف والوصية وغير ذلك مما تتفرق فيه الصفقة وان عرف أنه حرام وشرطه فهو كشرط اهل بريرة شرطه باطل ولا يبطل العقد
ولا فرق فى ذلك بين النكاح والبيع وغير ذلك من العقود فمن الفقهاء من ابطل شروطا كثيرة فى النكاح بلا حجة ثم الشرط الباطل فى النكاح قالوا يبطل ويصح النكاح بدونه والمشترط للنكاح لم يرض إلا به والشروط فى النكاح أوكد منها فى البيع لقوله صلى الله عليه وسلم ( ان أحق الشروط ان توفوا به ما استحللتم به الفروج ( فلزمهم من مخالفة النصوص فى مواضع كثيرة وإلزام الخلق بشيء لم يلتزموه ولا ألزمهم الله به فأوجبوا على الناس ما لم يوجبه الله ورسوله ثم قد يتوسعون فى الطلاق الذي يبغضه الله فيحرمون على الناس ما لم يحرمه الله ورسوله ثم يبيحون ذلك بالعقود المشروطة فيها الشروط الفاسدة فيحللون ما لم يحلله الله ورسوله
مثال ذلك أن شرط التحليل فى العقد شرط حرام باطل بالاتفاق
____________________
(29/348)
اذا شرط أنه يطلقها إذا أحلها وكذلك شرط الطلاق بعد أجل مسمى فشرط الطلاق فى النكاح إذا مضى الأجل أو بعد التحليل شرط باطل بالاتفاق مع القول بتحريم المتعة فان الله لم يبح النكاح إلى أجل ولم يبح نكاح المحلل فقال طائفة من الفقهاء يصح العقد ويبطل الشرط كما يقوله أبو حنيفة والشافعي وأحمد فى إحدى الروايتين ويكون العقد لازما ثم كثير من هؤلاء فرق بين التوقيت وبين الاشتراط فقالوا اذا قال تزوجتها إلى شهر فهو نكاح متعة وهو باطل وطرد بعضهم القياس وهو قول زفر وخرج وجها في مذهب أحمد أنه يصح العقد ويلغو التوقيت كما قالوا يلغو الشرط
ولو قال فى نكاح التحليل على انك اذا أحللتها طلقها فهو شرط كما لو قال فى المتعة على أنه اذا انقضى الأجل طلقها وإن قال فلا نكاح بينكما فقيل فيه قولان للشافعي وغيره قيل يلحق بالشرط الفاسد فيصح النكاح وقيل بالتوقيت فيبطل النكاح
ولو شرط الخيار فى النكاح ففيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد قيل يصح العقد والشرط وقيل يبطلان وقيل يصح العقد دون الشرط فالاظهر فى هذا الشرط أنه يصح واذا قيل ببطلانه لم يكن العقد لازما بدونه فان الاصل فى الشرط الوفاء وشرط الخيار مقصود صحيح لا سيما فى النكاح وهذا يبنى
____________________
(29/349)
على أصل وهو أن شرط الخيار فى البيع هل الأصل صحته أو الاصل بطلانه لكن جوز ثلاثا على خلاف الأصل فالاول قول أئمة الفقهاء مالك وأحمد وبن أبى ليلى وابى يوسف ومحمد والثانى قول أبى حنيفة والشافعي ولهذا أبطلا الخيار فى أكثر العقود النكاح وغيره
وكذلك تعليق النكاح على شرط فيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد وأصحاب الشافعي وأحمد يفرقون فى النكاح بين شرط يرفع العقد كالطلاق وبين غيره مثل اشتراط عدم المهر أو عدم الوطء أو عدم القسم وفى مذهب أحمد خلاف فى شرط عدم المهر ونحوه
والصواب أن كل شرط فاما أن يكون مباحا فيكون لازما يجب الوفاء به واذا لم يوف به ثبت الفسخ كاشتراط نوع أو نقد فى المهر ولا يجوز أن يجعل النكاح لازما مع عدم الوفاء بل يخير المشترط بين امضائه وبين الفسخ كالشروط فى البيع وكالمعيب فانه يرد بالعيب فى البيع بالاتفاق وكذلك فى النكاح عند الجمهور قال طائفة من المدنيين وغيرهم لا ترد الحرة بعيب وقالوا النكاح لا يقبل الفسخ فلم يجوزوا فسخه بعيب ولا شرط ثم هم وسائر المسلمين يوجبون فى الايلاء على المولي إما الفيأة وإما الطلاق وهم يقولون
____________________
(29/350)
يقع الطلاق عقب انقضاء المدة اذا لم يفئ واذا كان الزوج عنينا او مجبوبا فعامتهم على أن لها الفسخ لكن قالوا المرأة لا يمكنها الطلاق والجمهور على ثبوت الخيار بالجنون والجذام والبرص كما قاله عمر بن الخطاب ثم خص الفسخ كثير منهم بما يمنع النكاح كما أبطلوا النكاح بالشرط الذي يرفع العقد وتفصيل هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن مقتضى الأصول والنصوص أن الشرط يلزم إلا إذا خالف كتاب الله واذا كان لازما لم يلزم العقد بدونه فالمسلمون كلهم يجوزون أن يشترط فى المهر شيئا معينا مثل هذا العبد وهذه الفرس وهذه الدار لكن يقولون اذا تعذر تسليم المهر لزم بدله فلم يملك الفسخ وان كان المنع من جهته وهذا ضعيف مخالف للاصول فان لم يقل بامتناع العقد فقد يتعذر تسليم العقد فلا أقل من أن تمكن المرأة من الفسخ فانها لم ترض وتبح فرجها إلا بهذا فاذا تعذر فلها الفسخ وهم يقولون المهر ليس هو المقصود الأصلي فيقال كل شرط فهو مقصود والمهر أوكد من الثمن لكن هنا الزوجان معقود عليهما وهما عاقدان بخلاف البيع فانهما عاقدان غير معقود عليهما وهذا يقتضى أنه اذا فات فالمرأة مخيرة بين الفسخ وبين المطالبة بالبدل كالعيوب فى البيع لكون المعقود عليه وهما الزوجان باقيين فالفائت جزء من المعقود عليه فهو كالعيب الحادث
____________________
(29/351)
فى السلعة قبل التمكن من القبض يوجب الفسخ ولا يبطل العقد هذا مقتضى الأصول والنصوص والقياس
وان كان الشرط باطلا ولم يعلم المشترط ببطلانه لم يكن العقد لازما بل إن رضي بدون الشرط وإلا فله الفسخ هذا هو الاصل وأما إلزامه بعقد لم يرض به ولا ألزمه الشارع أن يعقده فهذا مخالف لاصول الشرع ومخالف للعدل الذى أنزل الله به الكتاب وأرسل به الرسل وهم جعلوا الاصل أن الحرة لا ترد بعيب قالوا فلا يفسخ النكاح بفوات الشرط لأنهما من جنس واحد وقالوا يصح النكاح بلا تقدير مهر فيصح مع نفي المهر فيصح مع كل الشروط الفاسدة
وأما صحته بدون فرض المهر فهذا ثابت بالكتاب والسنة والاجماع لكن اذا اعتقد عدم وجوب المهر فان المهر المطلق مهر المثل وأما مع نفيه ففيه قولان فى مذهب أحمد وغيره والقول بالبطلان قول أكثر السلف كما فى مذهب مالك وغيره وهو الصواب لدلالة الكتاب والسنة عليه وحديث الشغار
قالوا فثبت الفرق بين النكاح والبيع من هاتين الجهتين عدم الفسخ بفوات الشرط الصحيح والصحة مع الشرط الفاسد فيقال
____________________
(29/352)
أما عدم الفسخ بفوات الشرط الصحيح وقول من قال لا ترد الحرة بعيب فهذا ليس له أصل فى كلام الشارع ألبتة بل متى كان الشرط صحيحا وفات فلمشترطه الفسخ
ثم الشرط المتقدم على العقد هل هو كالمقارن له فيه قولان والصحيح أنه كالمقارن وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك ووجه فى مذهب الشافعي يخرج من السر والعلانية وأحمد يوجب ما سمي فى العلانية وان كان دون ما اتفق عليه فى السر لكن يوجب ذلك ظاهرا ويأمرهم أن يوفوا بما شرطوا له فعلى هذا لم يحكم بالسر لعدم ثبوته وان ثبت حكم به
وإن قيل لا يحكم به مطلقا فلانهم أظهروا خلاف ما أبطنوه والنكاح مبناه على الاعلان لا على الاسرار وهذا بخلاف شرط لم يظهروا ما يناقضه فى النكاح والبيع وغيرهما فهذا يجب الوفاء به عنده وهو يؤثر فى العقد والشافعي اذا قال فى النكاح أنه يؤخذ بالسر ففى غيره أولى
وأما صحته مع الشرط الفاسد فالاصل فيه عدم تقدير المهر وليس هذا شرطا فاسدا بدليل أن الشرط الفاسد لا يحل اشتراطه وهذا النكاح حلال فلو تزوجها ولم يفرض مهرا لكن على عادة الناس أنه لابد لها من مهر إما ان يتراضيا وإما أن يكون لها مهر نسائها فهذا النكاح حلال ليس فيه شرط فاسد فمن ذينك القياسين
____________________
(29/353)
الفاسدين فرقوا بين النكاح والبيع والزموا الناس بنكاح لم يرضوا به وان شرطوا فيه شرطا صحيحا كما الزموا الرجل بنكاح المرأة المعيبة وهو لم يرض بنكاح معيبة
فان قيل فلم فرق بين عيوب الفرج وغيرها قيل قد علم أن عيوب الفرج المانعة من الوطء لا يرضى بها في العادة فان المقصود بالنكاح الوطء بخلاف اللون والطول والقصر ونحو ذلك مما ترد به الامة فان الحرة لا تقلب كما تقلب الأمة والزوج قد رضى رضا مطلقا وهو لم يشرط صفة فبانت بدونها فان شرط ففيه قولان فى مذهب الشافعي وأحمد والصواب أنه له الفسخ وكذا بالعكس وهو مذهب مالك والشرط انما يثبت لفظا أو عرفا وفي البيع دل العرف على أنه لم يرض الا بسليم من العيوب وكذلك في النكاح لم يرض بمن لا يمكن وطؤها والعيب الذي يمنع كمال الوطء لا أصله فيه قولان فى مذهب أحمد وغيره وأما ما يمكن معه الوطء وكمال الوطء فلا تنضبط فيه أغراض الناس
والشارع قد أباح بل أحب له النظر إلى المخطوبة وقال ( اذا القى الله فى قلب أحدكم خطبة امرأة فلينظر اليها فانه أحرى أن يؤدم بينهما ( وقال لمن خطب امرأة من الأنصار انظر اليها فان فى أعين الانصار شيئا ( وقوله ( أحرى أن يؤدم بينهما ( يدل على أنه اذا
____________________
(29/354)
عرفها قبل النكاح دام الود وان النكاح يصح وإن لم يرها فانه لم يعلل الرؤية بأنه يصح معه النكاح فدل على أن الرؤية لا تجب وان النكاح يصح بدونها وليس من عادة المسلمين ولا غيرهم ان يصفوا المرأة المنكوحة بذلك بخلاف البيع فانه اما أن لا يصح وإما أن يملك خيار الرؤية وان كان قد ذكر فى مذهب أحمد رواية ضعيفة انه يصح بلا رؤية ولا صفة ولا يثبت خيار
وهذا الفرق انما هو للفرق بين النساء والأموال أن النساء يرضى بهن في العادة على الصفات المختلفة والأموال لا يرضى بها على الصفات المختلفة اذا المقصود بها التمول وهو يختلف باختلاف الصفات والمقصود بالنكاح المصاهرة والاستمتاع وذلك يحصل مع اختلاف الصفات فهذا فرق شرعي معقول فى عرف الناس أما اذا عرف أنه لم يرض لاشتراطه صفة فبانت بخلافها وبالعكس فالزامه بما لم يرض به مخالف للاصول ولو قال ظننتها أحسن مما هي أو ما ظننت فيها هذا ونحو ذلك كان هو المفرط حيث لم يسأل عن ذلك ولم يرها ولا أرسل من رآها وليس من الشرع ولا العادة أن توصف له فى العقد كما توصف الاماء فى السلم فان الله صان الحرائر عن ذلك وأحب سترهن ولهذا نهيت المرأة أن تعقد نكاحا فاذا كن لا يباشرن العقد فكيف يوصفن وأما الرجل فأمره ظاهر
____________________
(29/355)
يراه من يشاء فليس فيه عيب يوجب الرد والمرأة اذا فرط الزوج فالطلاق بيده
وسئل رحمه الله
عن رجل ابتاع عبدا بشرط الابراء من سائر العيوب خلا الاباق فلما ابتاعه هرب عنه فما يلزم البائع
فأجاب ان كان مقرى بالاباق قبل البيع فهذا عيب يستحق الرد واذا كان البائع قد كتم هذا العيب حتى أبق عند المشتري فان المشتري فى أحد القولين يطالبه بجميع الثمن كما هو مذهب مالك وأحمد فى أحدى الروايتين عنه بل هو المنصوص
& باب الخيار
____________________
(29/356)
سئل رحمه الله
عن رجلين تبايعا عينا وشرطا لكل واحد منهما فسخ البيع وامضاءه فى مدة معتبرة شرعا فهل يعتبر الخيار فى الامضاء والفسخ أو في الفسخ دون الامضاء ويكون ذكر الامضاء لغوا أولا يعتبران معا فان قيل ان ذكر الامضاء لغو فلا كلام وان قيل انهما يعتبران ولكل من اللفظين أثر فى الحكم فاذا اختار أحدهما الامضاء والآخر الفسخ فهل القول قول من اختار الفسخ أو السابق منهما أفتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله رب العالمين اذا كان الأمر كما ذكر واختار أحدهما فسخ البيع فله فسخه بدون رضى الآخر ولو سبق الآخر بالامضاء والامضاء المقرون بالفسخ يقصد به ترك الفسخ اي لكل منهما أن يفسخه وان لا يفسخه فانه اذا لم يفسخاه إلى انقضاء المدة لا يقصد به التزام الآخر بالعقد لان تفسيره بذلك ينافي أن
____________________
(29/357)
يكون للآخر الفسخ وهو قد جعل لكل منهما الفسخ
وان اراد بامضائه امضاءه هو العقد بمعنى اسقاط حقه من الخيار كان ذلك صحيحا ولكن اذا سقط خياره لم يسقط خيار الآخر ولكن المعنى المعروف فى مثل هذه العبارة ان لكل منهما أن يفسخه وأن لا يفسخه واذا لم يفسخه فقد أمضاه ونظير هذا قوله تعالى { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } فان التسريح هو ترك الامساك بحيث لا يحبسها ولا يحتاج التسريح إلى احداث طلاق كذلك امضاء العقد لا يحتاج إلى إحداث امضاء والله أعلم
وسئل
عن رجل أعطى نطعا لدلال يبيعه فنادى عليه الدلال فزاد نصف درهم فراح الدلال إلى نائب الحسبة فقال له هذا صاحب النطع زاد فيه نصف درهم فطلبه وقيل له ذلك فأنكر وحلف بالطلاق خوفا على نفسه وإزالة ما فى صدور من سمعه وانه حلف أنه ما فعله فهل يقع به الطلاق
فأجاب المالك اذا زاد فى السلعة كان ظالما ناجشا وهو شر
____________________
(29/358)
من التاجر الذي ليس بمالك وهو الذي يزيد فى السلعة ولا يقصد شراءها
ولهذا لو نجش أجنبى لم يبطل البيع وأما البائع اذا ناجش أو واطأ من ينجش ففي بطلان البيع قولان فى مذهب أحمد وغيره ومثل هذا ينبغى تعزيره على أمرين على نجشه وعلى حلفه بالطلاق يمينا فاجرة وليس فعله المحرم عذرا له فى اليمين الفاجرة
وسئل رحمه الله تعالى
عمن يسوم السلعة بثمن كثير ويبيعها بأزيد من القيمة المعتادة وقد يكون المشترى جاهلا بالقيمة هل يجوز ذلك أم لا
فأجاب أما اذا كان المشترى مسترسلا وهو الجاهل بقيمة المبيع لم يجز للبائع أن يغبنه غبنا يخرج عن العادة بل عليه أن يبيعه بالقيمة المعتادة أو قريب منها فان غبنه غبنا فاحشا فللمشترى الخيار فى فسخ البيع وامضائه فقد روي فى الحديث ( غبن المسترسل ربا ( وثبت فى الصحاح ( أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقى الجلب حتى يهبط به السوق وأثبت الخيار للبائع اذا هبط ( وذلك لأن البائع قبل أن يهبط السوق يكون جاهلا بقيمة السلع فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يخرج المشتري إليه ويبتاع منه لما في ذلك من تغريره والتدليس وأثبت له الخيار اذا علم بحقيقة الحال
____________________
(29/359)
فهكذا كل من كان جاهلا بالقيمة لا يجوز تغريره والتدليس عليه مثل أن يسام سوما كثيرا خارجا عن العادة ليبذل ما يقارب ذلك بل يباع البيع المعروف غير المنكر والله أعلم
وسئل
عن بيع المسترسل
فأجاب أما البيع فلا يجوز أن يباع المسترسل إلا بالسعر الذي يباع به غيره لا يجوز لأحد استرسل إليه أن يغبن فى الربح غبنا يخرج عن العادة وقد قدر ذلك بعض العلماء بالثلث وبعضهم بالسدس وآخرون قالوا يرجع فى ذلك إلى عادة الناس فما جرت به عادتهم من الربح على المماكسين يربحونه على المسترسل
والمسترسل قد فسر بأنه الذي لا يماكس بل يقول خذ أعطنى وبأنه الجاهل بقيمة المبيع فلا يغبن غبنا فاحشا لا هذا ولا هذا وفى الحديث ( غبن المسترسل ربا (
ومن علم منه أنه يغبنهم فانه يستحق العقوبة بل يمنع من الجلوس فى سوق المسلمين حتى يلتزم طاعة الله ورسوله وللمغبون أن يفسخ البيع فيرد السلعة ويأخذ الثمن وإذا تاب هذا الغابن الظالم ولم يمكنه أن يرد إلى المظلومين حقوقهم فليتصدق بمقدار ما ظلمهم به وغبنهم
____________________
(29/360)
لتبرأ ذمته بذلك من ذلك
و ( بيع المساومة ( اذا كان مع أهل الخبرة بالأسعار التى يشترون بها السلع فى غالب الأوقات فانه يباع غيرهم كما يباعون فلا يربح على المسترسل أكثر من غيره وكذلك المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند هذا الشخص ينبغي أن يربح عليه مثل ما يربح على غير المضطر فان في السنن ( أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضطر ( ولو كانت الضرورة إلى ما لابد منه مثل لو يضطر الناس إلى ما عنده من الطعام واللباس فانه يجب عليه أن لا يبيعهم إلا بالقيمة المعروفة ولهم أن يأخذوا ذلك منه بالقيمة المعروفة بغير اختياره ولا يعطوه زيادة على ذلك والله أعلم
وقال فصل
وبيع المغشوش الذي يعرف قدر غشه إذا عرف المشتري بذلك ولم يدلسه على غيره جائز كالمعاملة بدراهمنا المغشوشة وأما إذا كان قدره مجهولا كاللبن الذي يخلط بالماء ولا يقدر قدر الماء فهذا منهي عنه وإن علم المشترى أنه مغشوش
____________________
(29/361)
ومن باع مغشوشا لم يحرم عليه من الثمن إلا مقدار ثمن الغش فعليه أن يعطيه لصاحبه أو يتصدق به عنه ان تعذر رده مثل من يبيع معيبا مغشوشا بعشرة وقيمته لو كان سالما عشرة وبالعيب قيمته ثمانية فعليه إن عرف المشتري أن يدفع إليه الدرهمين ان اختار والا رد إليه المبيع وان لم يعرفه تصدق عنه بالدرهمين والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن قوم يعملون عبيا يدخلون فيه صوفا لا ينتفع به يسمونه ( السلاقة ( فيخلطونه بمشاق الكتان تدليسا منهم ويبيعونه على أنه صوف جيد وربما عرفه التاجر لكن التاجر يكتم ذلك على المشترى فما يجب على صانعه وهل يتجر فيه ويكتمه عن مشتريه وما حكمه فى نفس عمله وما يجب على من عمل ذلك من المسلمين وما يجب على ولاة الأمور فى ذلك اذا كانوا يخلطون المشاق فى الصوف الأبيض وقد نهوا عن ذلك غير مرة ويعودوا إليه
فأجاب الحمد لله ليس للصانع أن يصنع ذلك ولا للبائع أن يبيعه ولو علم المشتري أن فيه عيبا فان مقدار الغش غير معلوم وقد روي عن النبي صلي الله عليه وسلم ( أنه نهى أن يشاب
____________________
(29/362)
اللبن بالماء للبيع ( بخلاف الشرب فاذا خلط اللبن بالماء للشرب جاز وأما للبيع فلا ولو علم المشترى أنه مخلوط بالماء لأن المشترى لا يعلم مقدار الخلط فيبقى البيع مجهولا وهو غرر وهكذا كلما كان من المغشوش الذي لا يعلم قدر غشه فانه ينهي عن بيعه وعن عمله لمن يبيعه وكذلك خلط المشاق بالصوف الأبيض وكل ما كان من الغش فى المطاعم والملابس وغير ذلك إذا لم يعلم مقدار الغش فانه ينهى عن ذلك
وقد أفتى طائفة من العلماء من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما أن من صنع مثل هذا فانه يجوز أن يعاقب بتمزيق الثوب الذي غشه والتصدق بالطعام الذي غشه كما شق النبي ظروف الخمر وكسر دنانها وكما أمر عمر وعلي رضي الله عنهما بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر وقد نص عليه أحمد وغيره وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن يحرق الثوبين المعصفرين رواه مسلم فى صحيحه وكما حرق موسى عليه السلام العجل ولم يعده إلى أهله وكما تكسر آلات الملاهي ونظائر هذه متعددة وهي مبنية على أن العقوبات فى الأموال تتبع حيث جاءت بها الشريعة كالعقوبات بالأبدان
وادعى طائفة من العلماء أن ذلك منسوخ ولا حجة معهم بذلك أصلا فكما أن البدن اذا قام به الفجور قد يتلف فالمال الذي قام
____________________
(29/363)
به صنعة الفجور مثل الأصنام المنحوتة يجوز تكسيرها وتحريقها كما حرق النبى صلى الله عليه وسلم الأصنام وكذلك من صنع صنعة محرمة من طعام أو لباس ونحو ذلك والله أعلم
وسئل
عن دار لرجل باع ثلثها لزيد ثم باع الباقي لعمرو من ملكه الثلث والثلثين بالوكالة عن زيد وتوفى زيد ومن حقوقها قناة ظهرت مستحقة النقل والازالة بحكم تعدي ضررها للغير وتعذر الرد لاحداث زيادة كثيرة من البناء فهل يجب أرش القناة على البائع لعمرو واذا وجب فهل يطلب بأرش الحصة التى باعها بالوكالة عن المشتري منه أم يختص الطلب بما باعه عن نفسه
فأجاب الأرش الواجب بسبب العيب فى الثمن ان كان الثمن لم يقبضه المشتري سقط من الثمن قدر الأرش وان كان قبضه للبائع أو وكيله فله أن يطالب البائع بالأرش
ثم الوكيل أن ضمن عهدة المبيع أو لم يسم موكله فى العقد فهو ضامن للارش فيجوز مطالبته به وان سماه فى العقد ولم يضمن العهدة فهل يكون ضامنا لذلك على قولين للعلماء فى مذهب احمد وغيره والله أعلم
____________________
(29/364)
وسئل قدس الله روحه ونور ضريحه
عن دار بين شخصين باعها احدهما عن نفسه وعن شريكه بالوكالة لشخص آخر ثم إن المشترى بني فوق ما اشتراه بناء كبيرا ومن حقوقه قناة ملاصقة جدار تربة فندت الجدار وسرت النداوة إلى القبر فرفع ملاك التربة المشترى للحسبة فشهدت البينة أرباب الخبرة بتندية الجدار ووصول ذلك إلى القبر وان القناة محدثة على الجدار وأنه ضرر يجب إزالتها من مكانها فالزم المشترى بنقلها فهل ما أحدثه المشتري من البناء والهدم يمنع الرد أم لا واذا منع فهل يثبت الأرش واذا ثبت فهل هو على الفور يسقط بتأخيره أم على التراخي فلا يسقط بالتأخير وما الزم بهدمه وهدمه هل يسقط أرشه أم لا وان قيل أنه على الفور فأشهد على نفسه بطلب الأرش ثم تصرف بعد ذلك الاشهاد فهل يسقط أم لا واذا كان له ذلك فتكون المطالبة للوكيل بما باعه من ملكه وملك موكله أم ملكه فقط
فأجاب أما القناة اذا كانت محدثة حيث لا يجوز إحداثها فانه يلزم محدثها بازالة ما لا يجوز احداثه والمشتري أن لم يعلم بذلك بل
____________________
(29/365)
اعتقد أن هذا حق للملك لا يجوز إزالته فتبين الأمر بخلاف ذلك كان هذا عيبا
فاذا بنى في العقار قبل علمه بالعيب ثم علم أنه عيب فليس إلا الأرش دون الرد فى أحد قولي العلماء كأبي حنيفة وأحمد فى أصح الروايتين عنه وفى الأخرى وهو قول مالك له الرد ايضا ويكون شريكا للبائع بما احدثه من الزيادة فيه ولا يلزم بالهدم مجانا لأنه بنى بحق
وخيار الرد بالعيب على التراخي عند جمهور العلماء كمالك وأبى حنيفة وأحمد فى ظاهر مذهبهما ولهما قول كمذهب الشافعي أنه على الفور فاذا ظهر ما يدل على الرضا من قول أو فعل سقط خياره بالاتفاق فاذا بنى بعد علمه بالعيب سقط خياره
وأما إذا اشهد بطلب الأرش استحقه كان له أن يطالب به بعد ذلك ولا يسقط الأرش بتصرفه والبائع يطالب بالدرك من أرش أو رد فيما باعه من ملكه وأما اذا باعه من ملك موكله فان كان لم يسمه فى البيع طولب ايضا بدرك المبيع وان كان سماه فهل يجوز مطالبته ويكون ضامنا لعهدة المبيع على قولين للعلماء هما روايتان عن أحمد
____________________
(29/366)
وأما ان كان المشتري الزم بالارش لأجل القناة المحدثة التى لا يجوز احداثها فله أن يطالب البائع الغار له بأرش ما لزمه بغرره
وسئل رحمه الله
عن أناس يتعانون خروج المياه مثل ماء الورد وغيره ثم أنهم يأخذون حرقان الورد وينقعونه ويستخرجوه عن العادة وكذلك الينوفر ينقعونه يابسا فهل يجوز لهم أن يفعلوا ذلك ويبيعوه
فأجاب لا يجوز خلط الماء الأول بالماء الثانى لمن يريد بيعه ولو علم بذلك المشترون كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع ولا بأس به للشرب ( فان هذه المائعات اذا شيبت لم يعرف مقدار ما يدخلها من الغش وعلى ولي الأمر عقوبة من يفعل ذلك وسلوك طريق يمتنعون بها عن الغش
____________________
(29/367)
وسئل شيخ الاسلام
عن عمل ( الكيمياء ( هل تصح بالعقل أو تجوز بالشرع
فأجاب الحمد لله ما يصنعه بنو آدم من الذهب والفضة وغيرهما من أنواع الجواهر والطيب وغير ذلك مما يشبهون به ما خلقه الله من ذلك مثل ما يصنعونه من اللؤلؤ والياقوت والمسك والعنبر وماء الورد وغير ذلك فهذا كله ليس مثل ما يخلقه الله من ذلك بل هو مشابه له من بعض الوجوه ليس هو مساويا له فى الحد والحقيقة وذلك كله محرم فى الشرع بلا نزاع بين علماء المسلمين الذين يعلمون حقيقة ذلك
ومن زعم أن الذهب المصنوع مثل المخلوق فقوله باطل فى العقل والدين
وحقيقة ( الكيمياء ( انما هي تشبيه المخلوق وهو باطل فى العقل والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
فهو سبحانه لم يخلق شيئا يقدر العباد أن يصنعوا مثل ما خلق وما
____________________
(29/368)
يصنعونه فهو لم يخلق لهم مثله فانه سبحانه اقدرهم على أن يصنعوا طعاما مطبوخا ولباسا منسوجا وبيوتا مبنية وهو لم يخلق لهم مثل ما يصنعونه من المطبوخات والمنسوجات والبيوت المبنية وما خلقه الله سبحانه من أنواع الحيوان والنبات والمعدن كالانسان والفرس والحمار والأنعام والطير والحيتان فان بنى آدم لا يقدرون أن يصنعوا مثل هذه الدواب وكذلك الحنطة والشعير والباقلا واللوبيا والعدس والعنب والرطب وأنواع الحبوب والثمار لا يستطيع الآدميون أن يصنعوا مثل ما يخلقه الله سبحانه وتعالى وانما يشبهونه ببعض هذه الثمار كما قد يصنعون ما يشبه الحيوان حتى يصوروا الصورة كأنها صورة حيوان
وكذلك المعادن كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص لا يستطيع بنو آدم أن يصنعوا مثل ما يخلقه الله وانما غايتهم أن يشبهوا من بعض الوجوه فيصفرون وينقلون مع اختلاف الحقائق ولهذا يقولون تعمل تصفيرة ويقولون نحن صباغون
وهذه ( القاعدة ( التى يدل عليها استقراء الوجود من أن المخلوق لا يكون مصنوعا والمصنوع لا يكون مخلوقا هي ثابتة عند المسلمين وعند أوائل المتفلسفة الذين تكلموا فى الطبائع وتكلموا فى الكيمياء وغيرها فان الله قال فى كتابه { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء }
____________________
(29/369)
وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن الله أنه قال ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا بعوضة )
وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه لعن المصورين ( وقال ( من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ( وقال ( ان أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله ) وهذا التصوير ليس فيه تلبيس وغش فان كل أحد يعلم أن صورة الحيوان المصورة ليست حيوانا
ولهذا يفرق فى هذا التصوير بين الحيوان وغير الحيوان فيجوز تصوير صورة الشجر والمعادن فى الثياب والحيطان ونحو ذلك لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ( ولهذا قال بن عباس للمستفتى الذي استفتاه صور الشجر وما لا روح فيه وفى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أن جبريل قال له فى الصورة ( مر بالرأس فليقطع ( ولهذا نص الأئمة على ذلك وقالوا الصورة هي الرأس لا يبقى فيها روح فيبقى مثل الجمادات وهذا التصوير ليس فيه غش ولا تلبيس فان كل أحد يفرق بين المصور وبين المخلوق
وأما الكيمياء فانه يشبه فيها المصنوع بالمخلوق وقصد أهلها إما
____________________
(29/370)
أن تجعل هذا كهذا فينفقونه ويعاملون به الناس وهذا من أعظم الغش وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه مر برجل يبيع طعاما فأدخل يده فيه فوجده مبلولا فقال ما هذا يا صاحب الطعام فقال يا رسول الله أصابته السماء يعنى المطر فقال هلا وضعت هذا على وجهه من غشنا فليس منا ( وقوله ( من غشنا فليس منا ( كلمة جامعة فى كل غاش
وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشا ولهذا لا يظهرون للناس اذا عاملوهم أن هذا من الكيمياء ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم إلا من يريد غشهم وقد قال الأئمة أنه لا يجوز بيع المغشوش الذي لا يعلم مقدار غشه وان بين للمشتري أنه مغشوش وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى عن أن يشاب اللبن بالماء للبيع وأرخص فى ذلك للشرب ( وبيع المغشوش لمن لا يتبين له أنه مغشوش حرام بالاجماع والكيمياء لا يعلم مقدار الغش فيها فلا يجوز عملها ولا بيعها بحال
مع أن الناس اذا علموا أن الذهب والفضة من الكيمياء لم يشتروه ولو قيل لهم أنه يثبت على الروباص أو غير ذلك بل القلوب مفطورة على إنكار ذلك والولاة ينكرون على من يجدونه يعمل ذلك ولو كان أحدهم ممن يعمل ذلك في الباطن فيحتاج أن ينكره فى الظاهر
____________________
(29/371)
لأنه منكر فى فطر الآدميين ولا تجد من يعاني ذلك إلا مستخفيا بذلك أو مستعينا بذي جاه وعلى أصحابه من الذلة والصغار وسواد الوجوه ما علي أهل الفرية والكذب والتدليس كما قال تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة وهؤلاء أهل فرية وغش وتدليس فى الدين وكلاهما من المفترين
وأما القدماء فقد قالوا إن الصناعة لا تعمل عمل الطبيعة وأخبروا أن المصنوع لا يكون كالمطبوع ولهذا كان المصنفون منهم فى الكيمياء اذا حققوا قالوا لما كان المقصود بها انما هو التشبيه فالطريق فى التشبيه كذا وكذا فيسلكون الطرق التى يحصل بها التشبيه وهي مع تنوعها وكثرتها ووصول جماعات اليها واتفاقهم فيها عسرة على اكثر الخلق كثيرة الآفات والمنقطع عن الوصول أضعاف الواصلين مع كثرتهم فجماهير من يطلب الكيمياء لا يصل إلى المصنوع الذي هو مغشوش باطل طبعا محرم شرعا بل هم يطلبون الباطل الحرام ويتمنوه ويتحاكون فيه الحكايات ويطالعون فيه المصنفات وينشدون فيه الأشعار ولا يصلون إلى حقيقة الكيمياء وهو المغشوش بمنزلة أتباع المنتظر الذي فى السرداب واتباع رجال الغيب الذين لا يراهم
____________________
(29/372)
أحد من الناس وامثال هؤلاء الذين يطلبون ما لا حقيقة له معتقدين وجوده ويموتون وهم لم يصلوا إليه وان وصلوا إلى من يدعى لقاءه من الكذابين
وكذلك طلاب الكيمياء الذين يقال لهم ( الحدبان ( لكثرة انحنائهم على النفخ فى الكير اكثرهم لا يصلون إلى الحرام ولا ينالون المغشوش واما خواصهم فيصلون إلى الكيمياء وهي محرمة باطلة لكنها على مراتب
منها ما يستحيل بعد بضع سنين ومنها ما يستحيل بعد ذلك لكن المصنوع يستحيل ويفسد ولو بعد حين بخلاف الذهب المعدنى المخلوق فانه لا يفسد ولا يستحيل
ولهذا ذكروا أن محمد بن زكريا الرازي المتطبب وكان من المصححين للكيمياء عمل ذهبا وباعه للنصارى فلما وصلوا إلى بلادهم استحال فردوه عليه ولا أعلم فى الأطباء من كان أبلغ فى صناعة الكيمياء منه وأما الفلاسفة الذين هم أحذق فى الفلسفة منه مثل يعقوب بن إسحاق الكندي وغيره فانهم أبطلوا الكيمياء وبينوا فسادها وبينوا الحيل الكيماوية
ولم يكن فى أهل الكيمياء أحد من الأنبياء ولا من علماء الدين ولا من مشايخ المسلمين ولا من الصحابة ولا من التابعين لهم
____________________
(29/373)
باحسان واقدم من رأينا ويحكى عنه شيء فى الكيمياء خالد بن يزيد بن معاوية وليس هو ممن يقتدي به المسلمون فى دينهم ولا يرجعون إلى رأية فان ثبت النقل عنه فقد دلس عليه كما دلس على غيره
وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية فمجهول لا يعرف وليس له ذكر بين أهل العلم ولا بين أهل الدين وهؤلاء لا يعدون أحد أمرين اما أن يعتقد أن الذهب المصنوع كالمعدنى جهلا وضلالا كما ظنه غيرهم وأما ان يكون علم أنه ليس مثله ولكنه لبس ودلس فما اكثر من يتحلى بصناعة الكيمياء لما في النفوس من محبة الذهب والفضة حتى يقول قائلهم لو غنى بها مغن لرقص الكون وعامتهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ويظهرون للطماع انهم يعملون الكيمياء حتى يأكلوا ماله ويفسدوا حاله وحكاياتهم فى هذا الباب عند الناس اشهر من أن تحتاج إلى نقل مستقر تدل على أن أهل الكيمياء يعاقبون بنقيض قصدهم فتذهب أموالهم حيث طلبوا زيادة المال بما حرمه الله بنقص الاموال كما قال الله تعالى { يمحق الله الربا ويربي الصدقات }
والكيمياء أشد تحريما من الربا قال القاضي أبو يوسف من طلب المال بالكيمياء أفلس ومن طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب غرائب الحديث كذب ويروي هذا الكلام عن مالك والشافعي
____________________
(29/374)
رضى الله عنهم أجمعين
وقد قال لي رأس من رؤوسهم لما نهيته عنها وبينت له فسادها وتحريمها ولما ظهرت عليه الحجة أخذ يستعفى عن المناظرة ويذكر أنه منقطع بالجدال وقال فيما قال النبى صلى الله عليه وسلم كان يعرف الكيمياء فقلت له كذب بل هو مستلزم للكفر فان الله قال فى كتابه { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } وهذه الآية نزلت بالاجماع فى غزوة تبوك وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حض فيها الناس على الصدقة حتى جاء رجل بناقة مخطومة مزمومة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( لك بها سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة ( وجاء ابو عقيل بصاع فطعن فيه بعض المنافقين وقال فيها كان الله غنيا عن صاع هذا وجاء آخر بصرة كادت يده تعجز عن حملها فقالوا هذا مرائى فأنزل الله تعالى { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } وجاء عثمان بن عفان بالف ناقة فاعوزت خمسين فكملها بخمسين فرس فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ( وصارت هذه من مناقبه المشهورة فيقال مجهز جيش العسرة
____________________
(29/375)
وقد قال الله { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } إلى قوله { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } وقد قيل أنهم طلبوا أن يحملهم على النعال وسواء أريد بالنعال النعال التى تلبس أو الدواب التى تركب فقد أخبر الله عن نبيه أنه قال لهم ( لا أجد ما أحملكم عليه ( وقد كان هو يحض الناس على الانفاق غاية الحض فلو كانت الكيمياء حقا مباحا وهو يعلمها لكان من الواجب أن يعمل منها ما يجهز به الجيش فان ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب ومن نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقد نسبه إلى ما نزهه الله عنه
وايضا فان علماء الامة لم يوجب أحد منهم في الكيمياء حقا لا خمسا ولا زكاة ولا غير ذلك وقد اتفقوا على أن فى الركاز الخمس كما ثبت ذلك فى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم والركاز الذي لا ريب فيه هو دفن الجاهلية وهي الكنوز المدفونة فى الأرض كالمعادن فاهل الحجاز لا يجعلونها من الركاز وهو مذهب أحمد وغيره وأهل العراق يجعلونها من الركاز ومن العلماء من يفرق بين أن يوجد المال جملة وبين أن لا يوجد وللشافعي فيها أقوال معروفة وجمهور العلماء يوجبون فى المعدن حقا اما الزكاة وأما الخمس
____________________
(29/376)
و لو كانت الكيمياء حقا حلالا لكان الواجب فيها أعظم من الخمس واعظم من الزكاة فانها ذهب عظيم بسعي يسير أيسر من استخراج المعادن والركاز لكن هي عند علماء الدين من الغش الباطل المحرم الذي لا يحل عمله ولا اتخاذه مالا فضلا عن أن يوجبوا فيها ما يجب فى المال الحلال
وقال لي المخاطب فيها فان موسى صلى الله عليه وسلم كان يعمل الكيمياء قلت له هذا كذب لم ينقل هذا عن موسى أحد من علماء المسلمين ولا علماء اهل الكتاب بل قد ذكروا عنهم أن موسى كان له عليهم حق يأكل منه ولو كان يعمل الكيمياء لكان يأكل منها
قال فان قارون كان يعمل الكيمياء قلت وهذا أيضا باطل فانه لم يقله عالم معروف وانما يذكره مثل الثعلبي فى تفسيره عمن لا يسمى وفى تفسير الثعلبى الغث والسمين فانه حاطب ليل ولو كان مال قارون من الكيمياء لم يكن له بذلك اختصاص فان الذين عملوا الكيمياء خلق كثير لا يحصون والله سبحانه قال { وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة } فأخبر أنه آتاه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة اولى القوة والكنوز اما أن يكون هو كنزها كما قال { والذين يكنزون الذهب والفضة } الآية
____________________
(29/377)
و اما أن يكون اطلع على كنائز مدفونة وهو الركاز وهذا لا ريب أنه موجود
ثم أنه مات هذا الرجل وكان خطيبا بجامع فلم يشهد جنازته من جيرانه وغيرهم من المسلمين الا أقل من عشرة وكان يعانى السحر والسيميا وكان يشتري كتبا كثيرة من كتب العلم فشهدت بيع كتبه لذلك فقام المنادى ينادى على ( كتب الصنعة ( وكانت كثيرة يعنى كتب الكيمياء فانهم يقولون هي علم الحجر المكرم وهي علم الحكمة ويعرفونها بأنواع من العبارات وكان المتولى لذلك من أهل السيف والديوان شهودا فقلت لولي الأمر لا يحل بيع هذه الكتب فان الناس يشترونها فيعملون بما فيها فيقولون هؤلاء ( زغلية ( فيقطعون أيديهم واذا بعتم هذه الكتب تكونون قد مكنتموهم من ذلك وأمرت المنادي فألقاها ببركة كانت هناك فألقيت حتى أفسدها الماء ولم يبق يعرف ما فيها
ومما يوضح ذلك أن الكيمياء لم يعملها رجل له فى الأمة لسان صدق لا عالم متبع ولا شيخ يقتدى به ولا ملك عادل ولا وزير ناصح وانما يفعلها شيخ ضال مبطل مثل بن سبعين وأمثاله أو مثل بنى عبيد أو ملك ظالم أو رجل فاجر وان التبس أمرها على بعض أهل العقل والدين فغالبهم ينكشف لهم أمرها فى الآخر ولا
____________________
(29/378)
يستطيعون عملها صيانة من الله لهم لحسن قصدهم وما أعلم أن رجلا من خيار المسلمين انفق منها أو أكل منها
وما يذكره بعض الناس أن أولياء الله يعملون بها فهذا لا يعدو ما يقوله أحد أمرين إما أن يكون كاذبا واما أن يكون قد ظن من يعملها أنه من أولياء الله المخصوصين بمثل هذه الكرامة فهذا جهل فان الكيمياء يعملها المشرك واليهودي والنصرانى والفاجر والمبتدع لا يختص بها أولياء الله بل لا يعرف ولي ثابت الولاية يعملها ومن ذكرها ممن يدعي أنه من الأولياء مثل صاحب ( الفصوص ( وأمثال هؤلاء فهؤلاء فى كلامهم فى الدين من الخطأ والضلال أعظم مما في كلامهم فى الكيمياء فاذا كان كلامهم فى التوحيد والنبوة واليوم الآخر فيه من الضلال ما هو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله واجماع المسلمين بل ما لم يقله اليهود والنصارى فكيف يكون كلامهم فى الكيمياء
ثم من اغتر بما ذكره صاحب ( كتاب السعادة ( فيه وفي ( كتاب جواهر القرآن ( وأمثالهما من الكتب ففي هذه الكتب من الكلام المردود والمخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ما لا يخفى على عالم بذلك وقد رد علماء المسلمين ما في هذه الكتب من أقوال المتفلسفة واشباهها من الضلال المخالف للكتاب والسنة ومن الناس من يطعن فى نقل هذه الكتب عمن أضيفت إليه ويقول أنه كذب
____________________
(29/379)
عليه في نسبة هذه الكتب إليه ومنهم من يقول بل قد رجع عن ذلك فانه قد ثبت عنه في غير موضع نقيض ما يقوله فى هذه الكتب ومات على مطالعة البخاري ومسلم
نعم خرق العادات للأولياء جائز مثل أن يصير النبات ذهبا وذلك مما لا يكون طريقه طريق الكيمياء المعمولة بالمعالجات الطبيعية وبين هذين من الفرق ما بين عصا موسى وعصي السحرة فان تلك كانت حية تسعى وتلك يخيل إليه من سحرهم انها تسعى
وبالجملة فاذا كان طائفة من المنتسبين إلى العلم والعبادة اعتقدوا أن علم الكيمياء حق وحلال فهذا لا يفيد شيئا فان قول طائفة من العلماء والعباد خالفهم من هو اكبر منهم واجل عند الأمة لا يحتج به إلا أحمق فانه ان كان التقليد حجة فتقليد الأكبر الأعلم الأعبد أولى وان لم يكن حجة لم ينفعه ذكره لهؤلاء وعلي التقديرين فلا يفيد هذا شيئا ويكفيه ان خيار هذه الأمة من القرون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم لم يدخلوا في شيء من هذا اذ لو كانت حلالا لدخلوا فيها كما دخلوا فى سائر المباحات فانهم كانوا يكتسبون الأموال بالوجوه واكتساب المال مع انفاقه في طاعة الله عمل صالح وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( على كل مسلم صدقة قالوا فمن لم يجد قال
____________________
(29/380)
يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق قالوا فان لم يستطع قال يعين صانعا أو يصنع لأخرق قالوا فان لم يستطع قال يكف نفسه عن الشر فانها صدقة يتصدق بها على نفسه (
ومما يوضح الأمر في ذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق الأشياء أجناسا وأصنافا وأنواعا تشترك في شيء ويمتاز بعضها عن بعض بشيء كما أن الدواب تشترك فى أنها تحس وتتحرك بالارادة فهذا لازم لها كلها ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ( أصدق الأسماء حارث وهمام ( إذ كل انسان لابد له من حرث وهو كسبه وعمله ولا بد له من هم هو مبدأ إرادته ويمتاز بعض الدواب عن بعض بما يفصل بينه وبين غيره فهذه الخواص الفاصلة مختصة كما أن الصفات المشتركة عامة وهذا كالنطق للانسان والصهيل للفرس والرغاء للبعير والنهيق للحمار وأمثال ذلك
وكذلك النباتات تشترك مع الدواب فى أنها تنمي وتغذي ولكن ليس للنبات حس ولا إرادة تتحرك بها والمعدن مشارك فى بعض ذلك وقد علم أن هذه الأصناف التى تسمى الأنواع التى يفضل بعضها عن بعض بهذه الخواص الفاضلة اذا تقومت بهذه الفضول الخواص لم يكن لبشر أن يجعلها من انواع اخر ولا أن يجعل ذلك الفضل ويلبسها فضلا آخر فلا يمكنه أن يجعل الحنطة شعيرا ولا
____________________
(29/381)
الفرس حمارا ولا الحمار ثورا وكذلك لا يمكنه أن يجعل الفضة ذهبا ولا النحاس فضة وأمثال ذلك وانما غايته يشبه وجوده ويدلس
ومن زعم من الكيماوية أن الفضة ذهب لم يستكمل نضجه فقد كذب بل لهذا معدن ولهذا معدن كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه قيل له اي الناس اكرم فقال أتقاهم فقالوا لسنا نسألك عن هذا فقال يوسف نبى الله بن يعقوب نبي الله بن إسحاق نبي الله بن ابراهيم خليل الله فقالوا لسنا نسألك عن هذا فقال أفعن معادن العرب تسألوني الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ( فكما أن قريشا ليس أصلها أصل تميم وعدنان ليس أصلها أصل قحطان والعرب ليس أصلها أصل العجم فكذلك ليس أصل الذهب أصل الفضة ولا أصل الفضة أصل الذهب وان قدر أن معدن الذهب يكون فيه فضة كما يكون فى معدن الفضة نحاس فكذلك خبث المعادن
ومعلوم أن المستخرج من المعدن لابد من تصفيته من خبثه والناس يعلمون ما شاء الله من معادن الفضة لا يخرج منها ذهب ولو كانت الفضة إذا اكمل طبخها صارت ذهبا لكان يخرج من معادن الفضة ذهب
إلا أن يقال ليس من طبيعة ذلك المعدن حرارة طبخها فيقال هذا أيضا مما يبطل قول الكيماوية وذلك ان الله سبحانه يخلق
____________________
(29/382)
الذهب فى معادن بحرارة ورطوبة ويخلقها فى المعدن كما يخلق الأجنة فى بطون الأرحام وكما يخلق فى الحرث من الأشجار والزرع بحرارة يخلقها وما يخلق به من الحرارة التى أودعها فى تلك الأجسام لا تقوم مقامه حرارة النار التى نصنعها نحن
وبالجملة فاستقراء هذين الأصلين أن المخلوق لا يكون مصنوعا والمصنوع لا يكون مخلوقا وان الأنواع المفضلة بخواصها لا يمكن أن ينقل منها نوع إلى نوع آخر يظهر ذلك بالعقل والدلالة الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة والاجماع أيضا فى ذلك ثم ما فطر الله عليه عباده وسوي بين بلاده من انكار ذلك وعقوبة فاعليه في الجملة ظاهر وان فعله بعضهم باطنا
ثم أن الذين يصنعون الكيمياء ويدعون أنها حق حلال لو بيع لأحدهم ذهب وقيل له هو من عمل الكيمياء لم يشتره كما يشترى المعدني وان صنع به كما يصنع بذهبه الذي يعلمه من الاعتبار بل قد جبلت قلوب الناس على أن من فعل هذا نسبوه إلى الغش والزغل والتمويه والناس شهداء الله فى الأرض
وايضا فان فضلاء أهل ( الكيمياء ( يضمون اليها الذي يسمونه السيميا كما كان يصنع بن سبعين والسهروردي المقتول والحلاج
____________________
(29/383)
و أمثالهم وقد علم أنه محرم بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة بل أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله وقد ثبت قتل الساحر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وحفصة بنت عمر وعبد الله بن عمر وجندب بن عبد الله وروي ذلك مرفوعا عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى { ولا يفلح الساحر حيث أتى } وقال تعالى { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }
فبين سبحانه أن طلاب السحر يعلمون أن صاحبه ما له فى الآخرة من خلاق أي من نصيب ولكن يطلبون به الدنيا من الرئاسة والمال { ولو أنهم آمنوا واتقوا } لحصل لهم من ثواب الله فى الدنيا والآخرة ما هو خير لهم مما يطلبونه
ولهذا تجد الذين يدخلون فى السحر ودعوة الكواكب
____________________
(29/384)
و تسبيحاتها فيخاطبونها ويسجدون لها انما مطلوب أحدهم المال والرئاسة فيكفر ويشرك بالله لأجل ما يتوهمه من حصول رئاسة ومال ولا يحصل له إلا ما يضره ولا ينفعه كما يدل عليه استقراء أحوال العالم
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه عد من الكبائر الاشراك بالله والسحر وقتل النفس والربا والفرار من الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وغير ذلك من أنواع السحر وأصنافه متنوعة
وانما المقصود هنا انك تجد ( السيميا ( التى هي من السحر كثيرا ما تقترن بالكيمياء ومعلوم بالاضطرار من دين الاسلام أن السحر من أعظم المحرمات فاذا كانت الكيمياء تقرن به كثيرا ولا تقترن بأهل العلم والايمان علم أنها ليست من أعمال أهل العلم والايمان بل من أعمال أهل الكفر والفسوق والعصيان وهذا كله فيمن وصل إلى الكيمياء وعملها وقدر على أن ينفق منها ولا ينكر عليه واكثر الطالبين لها لم يوصلوا إلى ذلك ولم يقدروا عليه ومن وصل منهم إلى ذلك مرة تعذر عليه فى غالب الأوقات مع حصول المفسدات
ومن استقرأ أحوال طالبيها وجد تحقيق ما قاله الأئمة حيث قالوا
____________________
(29/385)
من طلب المال بالكيمياء افلس ومن طلب العلم بالكلام تزندق ومن طلب غرائب الحديث كذب وكم انفقوا فيها من الأموال وكم صحبوا بها من الرجال وكم أكثروا فيها من القيل والقال وكم علقوا بها الأطماع والآمال وكم سهروا فيها من الليالي ولم يظفروا الا بخسارة الدنيا والدين ونقص العقل والعلم ونصب العرض والذل والصغار والحاجة والاقتار وكثرة الهموم والأحزان وصحبة شرار الأقران والاشتغال عما ينفعهم فى المعاش والمعاد والاعراض عما ينفع في الآخرة من الزاد
لا سيما وهي كثيرا ما تقود أصحابها إلى أنواع المعاصي والفسوق اذ طالبها يبغيها بغية العاشق للمعشوق بل قد تؤول إلى الكفر بالرحمن والاعراض عن الايمان والقرآن والدخول فى أضاليل المشركين وعباد الأوثان وهو خسارة الدنيا والدين لم يحصل الا على طمع كاذب كالبرق الخالب والسراب الذي { يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } فهم فى ذلك بمنزلة من يظن فى أهل الكفر من القسيسين والرهبان أنهم من عباد الله أهل الايمان او من يظن فى أهل البدع والكذب والتلبيس أنهم من أولياء الله الذين { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم }
____________________
(29/386)
بل كثير منهم يظن فى المتنبئ الكذاب كمسيلمة والعنسي ونحوهما أنهم بمنزلة الأنبياء الصادقين كابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين واشتباه الحق بالباطل واشتباه النبي بالمتنبئ والمتكلم بعلم بالمتكلم بجهل والولى الصادق بالمرائى الكاذب هو كاشتباه الذهب المعدني بالذهب المصنوع وقد فرق الله بين الحق والباطل وانما اهتدى للفرق التام اهل العلم والايمان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين قال الله فيهم { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
وهي الأمة الوسط الذين هم شهداء الله فى الأرض على خلقه في الحق وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر جعلنا الله وسائر اخواننا من اتباعهم والمقتدين بهم وحشرنا فى زمرتهم بمنه وفضله
ومن أعظم حجج ( الكيماوية ( استدلالهم بالزجاج قالوا
____________________
(29/387)
فان الزجاج معمول من الرمل والحصى ونحو ذلك فقاسوا على ذلك ما يعملونه من الكيمياء وهذه حجة فاسدة فان الله سبحانه وتعالى يخلق للناس زجاجا لا في معدن ولا في غيره وانما الزجاج من قسم المصنوعات كالآجر والفخار ونحوهما مما يطبخ فى النار وقد تقدم أن الله سبحانه وتعالى جعل لبنى آدم قدرة على أن يعملوا أنواعا من المطاعم والملابس والمساكن وكذلك جعل لهم قدرة على ما يصنعونه من الآنية من الفخار والزجاج ونحو ذلك ولم يخلق لهم سبيلا على أن يصنعوا مثل ما خلق الله
واذا تبين أن الزجاج من قسم المصنوعات دون المخلوقات ليس فيه ما يشتبه المصنوع بالمخلوق بطلت حجة الكيمياء
فان اصل المخلوقات التى خلقها الله لا يمكن البشر أن يصنعوا مثلها ولا يمكنهم نقل نوع مخلوق من الحيوان والنبات والمعدن إلى نوع آخر مخلوق وهذا مطرد لا ينقض والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل باع ملكا وعقارا ثم خرج مستحقا فهل يحاسب المشتري بالثمن من اجرة المبيع اذا كان له اجرة وهل يتوقف استحقاق
____________________
(29/388)
الاجرة على انتفاع المشتري بالبيع أم لا وهل يرجع المشتري على البائع بما يجب عليه فى الشرع من الأجرة للمبيع مدة مقامه فى يده أو بالثمن الذي دفعه
فأجاب اذا كان المشتري عالما بالغصب فهو ظالم ضامن للمنفعة سواء انتفع بها او لم ينتفع وان لم يعلم فقرار الضمان على البائع الظالم واذا انتزع المبيع من يد المشتري فله أن يطالب بالثمن الذي قبضه وان أخذ منه الاجرة وهو مغرور رجع بها على البائع الغار والله أعلم
وسئل
عمن يقول ان ( السيميا ( و ( الكيمياء ( علمان من علوم الأنبياء والأولياء ويروى بعضهم فى الكيمياء وهو الفضة الخدماء أو المخدمة من أسفاها أكل الحلال ( ونحو ذلك
فأجاب وأما من قال أن ( السيميا والكيمياء ( من علوم الأنبياء والأولياء فكاذب مفتر لم يعرف عن نبى من الأنبياء أنه تكلم لا في هذا ولا في هذا ولا عن ولي مقبول عند الامة
أما ( السيميا ( فانها من السحر { ولا يفلح الساحر حيث أتى }
____________________
(29/389)
ولا ريب ان السحرة قد يشتبهون بالأنبياء والأولياء ويأتون ما يظن أن يضاهي ما تأتى به الأنبياء كما أتى سحرة فرعون بما يضاهون به معجزة موسى { فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون } إلى قوله { ساجدين }
وأما ( الكيمياء ( فهو المشبه بالذهب والفضة المخلوقين والكيمياء لا تختص بهذين بل تصنع كيمياء الجواهر كاللؤلؤ والزبرجد وكيمياء المشمومات كالمسك والعنبر والورد وكيمياء المطعومات وهي باطلة طبعا محرمة شرعا فانه قد ثبت فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من غشنا فليس منا (
( والكيمياء ( من الغش فان الله لم يخلق شيئا الا بقدر والخلق لا يصنعون مثل ما خلق الله تعالى قال الله تعالى { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه } وفى الحديث الصحيح يقول الله تعالى ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة )
والفلاسفة يقولون إن الصناعة لا تعمل عمل الطبيعة يعني أن المصنوع من الذهب والفضة وغيرهما لا يكون مثل المطبوع الذي خلق بالقوة الطبيعية السارية فى الأجسام ولهذا لا يوجد من المخلوقات ما صنع الخلق مثله وما يصنعه الخلق لم يخلق لهم مثله فهم يطحنون
____________________
(29/390)
الطعام وينسجون الثياب ويبنون البيوت ولم يخلق لهم مثل ذلك
وكذلك الزجاج يصنعونه من الرمل والحصى ولم يخلق مثله وهذا مما احتج به الكيماوية على صحة الكيمياء وهي حجة باطلة لما ذكر فانه لو خلق زجاج وصنع زجاج مثله لكان فى هذا حجة وليس الأمر كذلك
وجماهير العقلاء من الأولين والآخرين الذين تكلموا بعلم فى هذا الباب يعلمون أن الكيمياء مشبه وان الذهب المخلوق من المعادن ما يمكن أن يصنع مثله بل ولا يصنع وكل ينكشف قريبا أو بعيدا ولكن منه ما هو شديد الشبه ومنه ما هو أبعد شبها منه وقد بسط الكلام على هذا فى غير هذا الموضع
وسئل
عن رجل اشترى عبدا سليما من العيب ثم باعه كذلك فسرق العبد من المشتري الثاني مبلغا وأبق فهل يرجع بالثمن على البائع الأول أو الثاني أو بالأرش أم لا
فأجاب للمشتري أن يطالب بالأرش بلا نزاع بين العلماء ومعنى
____________________
(29/391)
ذلك أن يقوم العبد ولا عيب فيه ويقوم وبه هذان العيبان فما نقص من القيمة نقص من الثمن بحسابه فاذا كانت قيمته سليما أربعمائة وقيمته معيبا مائتان حط عنه نصف الثمن
وهل يرجع بالثمن كله على السيد الذي دلس العيب فهذا فيه نزاع مشهور بين العلماء فمذهب مالك وأحمد فى أنص الروايتين عنه أنه يرجع عليه بالثمن كله وقد ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد في القول الآخر يرجع عليه بذلك
وسئل
عن رجل اشترى جارية فبانت عاشقة في سيدها الذي باعها وباعها الثاني لثالث فهل للثالث أن يردها على الثانى وهل يردها الثاني على الأول أم لا
فأجاب نعم هذا عيب ينقص القيمة فى العادة نقصا بينا فاذا ثبت ولم يعلم به المشتري كان له أن يردها على بائعه المشتري الثاني واذا كان المشتري الثانى لم يعلم العيب فله أن يردها على البائع الأول والله أعلم
____________________
(29/392)
وسئل
عن رجل اشترى جارية صحيحة سالمة فهربت من يوم ابتاعها من غير ضرب ولا إجحاف فهل للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن قبل حضور الجارية وو جودها أم لا
فاجاب الحمد لله ان كانت الجارية معروفة بالاباق قبل ذلك وكتم البائع هذا العيب وأبقت عند المشتري فللمشتري أن يطالب البائع بالثمن فى أصح قولي العلماء كما هو مذهب مالك وأحمد في المنصوص عنه من القولين وفى القول الآخر يطالب بالأرش
وان لم تكن أبقت قبل ذلك ولكن أبقت بسبب ما فعل بها المشتري فلا شيء على البائع واذا حدث به عيب إباق أو غيره بعد القبض فلا رد له عند ابى حنيفة والشافعي وأحمد وأما مالك فيقول له الرد بذلك إلى تمام ثلاثة أيام وما بعد ذلك إلى سنة وله الرد بالجنون والجذام والبرص والله أعلم
____________________
(29/393)
وسئل
عن دابة لم يعلم أحد المتبايعين بها عيبا فمكثت عنده مقدار شهر ثم وجد بها عيبا
فأجاب الحمد لله اذا ظهر بها عيب قديم قبل البيع ولم يكن علم به فله أن يردها بذلك العيب ما لم يظهر منه ما يدل على الرضا به
وسئل
عن رجل باع قمحا فبذره فتلف فطلب المشتري من البائع خراج الأرض فهل يجب على البائع ذلك وهل للمشتري أن يطالبه بذلك وإذا ادعى المشتري أن العيب كان من البائع
فأجاب اذا باعه وسلم إليه المبيع ثم تلف بعد ذلك عند المشترى أو بذره المشترى فتلف فلا ضمان على البائع بل يستحق جميع الثمن إلا أن يكون به عيب أو تدليس ونحو ذلك
____________________
(29/394)
وان ادعي المشتري أن تلفه بسبب عيب كان فيه وكان ذلك القمح قد اشترى منه غير هذا المشتري وشهدوا أنه سليم من العيب لم يقبل قول المشتري وان لم يكن للبائع بينة فالقول قوله مع يمينه إذا لم يقم المشتري بينة
وأيضا فاذا قال أهل الخبرة أن المعيب لا ينبت النبات المعتاد وهذا قد نبت النبات المعتاد ثم هاف كان حجة للبائع
وسئل
عن رجل باع زوجته دارا بيع أمانة بأربعمائة درهم وقد استوفت الدراهم من الاجرة فهل يجوز لها أخذ شيء آخر وقد أخذت الأربعمائة فهل يحرم عليها
فأجاب الحمد لله وحده المقصود بهذا وأمثاله ان يعطيه المال ويستغل العقار عن منفعة المال فما دام المال فى ذمة الآخذ فانه يستغل العقار واذا رد عليه المال أخذ العقار وهذا على هذا الوجه لا يجوز باتفاق المسلمين وان قصدا ذلك وأظهرا صورة بيع لم يجز على أصح قولي العلماء أيضا
ومن صحح ذلك فلا بد أن يكون بيعه شرعيا فاذا شرط أنه
____________________
(29/395)
اذا جاء بالثمن أعاد إليه العقار كان هذا بيعا باطلا والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له فى أصح قولي العلماء
وحينئذ فما حصل للمرأة من الأجرة بعد أن علمت التحريم تحسبه من رأس المال وما قبضته قبل ذلك فهو على الخلاف المذكور وان اصطلحا على ذلك فهو أحسن وما قبضته بعقد مختلف تعتقد صحته لم يجب عليها رده في أصح القولين
وسئل
عن رجل طلب من انسان أن يقرضه دراهم وللرجل كرم فامتنع الا أن يبيعه الكرم بمائة درهم وأنه اذا جاء بالدراهم أعاد إليه الكرم فباعه الكرم بهذا الشرط ولم يذكر الشرط فى العقد ثم بعد العقد قال المشترى لجماعة شهود اشهدوا على أنه متى جاء هذا بدراهمي أعدت إليه كرمه فهل يكون هذا البيع صحيحا أم لا وهل يجب على المشترى القيام بما شرطه على نفسه فى إعادة الكرم واذا مكر المشترى بالبائع هل يجوز له ذلك
فأجاب ليس هذا بيعا لازما بل عليه أن يرد عليه كرمه اذا أعطاه دراهمه ولا يحل له أن يمكر به
____________________
(29/396)
وسئل
عن امرأة اشترت خرقة تخيطها ثم بعد ذلك وجدتها خامية وفيها فزور فهل تلزم التاجر ان ردتها إليه
فأجاب لها أن تطالبه بأرش العيب القديم واذا كان قد نقص بما أحدثته فيه من العيب كان لها الرد مع ارش العيب الحادث في اصح قولي العلماء والله أعلم
وسئل
عن رجل باع ملكا لابنة تحت حجره بألف وثمانين بيع أمانة وهو يساوي أربعة آلاف درهم وشهدت الشهود وذكروا فى المكتوب ان ابنة البائع أذنت فى البيع ولم يكن الشهود حضروها ولا لها جلية عندهم فهل يصح هذا البيع
فأجاب الحمد لله بيع الأمانة بيع باطل والواجب رد العوض وبيع الأب مثل هذا الغبن العظيم لا يجوز والمحجور عليها لا يصح
____________________
(29/397)
إذنها والاشهاد عليها بالاذن في مثل ذلك بل اذا عرف ذلك فسخ البيع بكل حال
وسئل رحمه الله
هل ذكر أحد من العلماء أن المشترى الأول اذا لم يجز له التصرف فيها قبل القبض فتلفت يكون ضامنا لها أو أن جواز التصرف والضمان متلازمان طردا وعكسا فالنزاع فى ذلك مشهور
فأجاب القولان فى مذهب أحمد وهو طريقة القاضي وأصحابه
والمتأخرون من أصحاب أحمد مع أبى حنيفة والشافعية يقولون بتلازم التصرف والضمان فعندهم أن ما دخل فى ضمان المشتري جاز تصرفه فيه وما لم يدخل فى ضمانه لم يجز تصرفه فيه ولهذا طرد الشافعي ذلك فى بيع الثمار على الشجر فلم يقل بوضع الجوائح بناء على أن المشتري اذا قبضها وجاز تصرفه فيها صار ضمانها عليه
والقول الثانى فى مذهب أحمد الذي ذكره الخرقي وغيره من المتقدمين وعليه تدل أصول أحمد أن الضمان والتصرف لا يتلازمان ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد أن الثمار اذا تلفت قبل تمكن المشترى
____________________
(29/398)
من جذاذها كانت من ضمان البائع مع أن ظاهر مذهبه أنه يجوز للمشترى التصرف فيها بالبيع وغيره فجوز تصرفه فيها مع كون ضمانها على البائع وقد ثبت بالسنة أن الثمار من ضمان البائع كما في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا بعت من أخيك ثمرة فاصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنها شيئا بم يأخذ احدكم مال أخيه بغير حق (
ولكن الرواية الأخرى عنه في منع التصرف فى هذه الثمار يوافق الطريقة الأولى
ومن الحجة لهذه الطريقة أن منافع الاجارة مضمونة على المؤجر قبل الاستيفاء بمعني أنها ان تلفت بآفة سماوية كموت الدابة وتعطلت المنافع كانت من ضمان المؤجر لأنها تلفت قبل التمكن من استيفائها مع أنه يجوز للمستأجر التصرف فيها حتى بالبيع فى ظاهر المذهب وان كان عنه رواية أخرى لا يؤجرها بأكثر من الاجرة اذا لم يحدث فيها زيادة لئلا يربح فيما لم يضمن وهي مذهب أبى حنيفة وأبو حنيفة عنده أن المنافع لا تملك بالعقد وانما تملك بالاستيفاء شيئا فشيئا
وأحمد فى المشهور عنه هو وغيره يجوزون اجارتها بأكثر من الأجرة ويقولون هذا ليس ربحا لم يضمن لأن هذه المنافع مضمونة على
____________________
(29/399)
المشتري بمعني أنه لو تركها مع القدرة على استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه وانما تكون مضمونة على البائع اذا تلفت قبل التمكن من استيفائها ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد فى ( باب الضمان ( ضمان العقد الفرق بين ما يتمكن من قبضه وما لم يتمكن ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره ومن ذلك أن الخرقى وغيره يقولون أن الصبرة المتعينة المبيعة جزافا تدخل فى ضمان المشتري بالعقد ولا يجوزون للمشترى بيعها حتى ينقلها لحديث بن عمر وبن عمر روي الحكمين جميعا قال من السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من ملك المبتاع وقال ما رواه البخاري عنه ( كنا نبتاع الطعام جزافا فنهينا أن نبيعه فى مكانه حتى ننقله إلى رحالنا ( فقد جاز التصرف حيث يكون الضمان على البائع كما فى الثمار ومنع التصرف حيث يكون الضمان على المشتري كالصبرة من الطعام فثبت عدم التلازم بينهما
ومن حجة هذا القول أنه ليس كل ما دخل فى ضمان المشتري يجوز تصرفه فيه بدليل المقبوض قبضا فاسدا والمقبوض في قبض فاسد
أما الأول فلو اشتري قفيزا من صبرة أو رطلا من زبرة ونحو ذلك مما يشترط فى إقباضه الكيل أو الوزن فقبض الصبرة كلها أو الزبرة كلها فان هذا قبض فاسد لا يبيح له التصرف الا بتميز ملكه
____________________
(29/400)
عن ملك البائع ومع هذا فلو تلفت تحت يده كانت مضمونة
وأيضا فليس المشتري ممنوعا من جميع التصرفات بل السنة انما جاءت فى البيع خاصة ولو أعتق العبد المبيع قبل القبض فقد صح اجماعا وقد تنازع الناس في الهبة وغيرها وقد تنازع الناس فى غلة الطعام المبيع قبل النهي عن قبضه فانه هو الذي ثبت فى النصوص واتفق عليه العلماء وكذلك اختلفوا فى تفريع هذا الأصل
وأصول الشريعة توافق هذه الطريقة فليس كل ما كان مضمونا على شخص كان له التصرف فيه كالمغصوب والعارية وليس كل ما جاز التصرف فيه كان مضمونا على المتصرف كالمالك له أن يتصرف فى المغصوب والمعار فيبيع المغصوب من غاصبه وممن يقدر على تخليصه منه وان كان مضمونا على الغاصب كما أن الضمان بالخراج فانما هو فيما اتفق ملكا ويدا وأما اذا كان الملك لشخص واليد لآخر فقد يكون الخراج للمالك والضمان على القابض
وأيضا فبيع الدين ممن هو عليه جائز فى ظاهر مذهب أحمد والشافعي وكذلك ابو حنيفة وعند مالك يجوز بيعه ممن ليس هو عليه وهو رواية عن أحمد مع أن الدين ليس مضمونا على المالك
وايضا فالبائع اذا مكن المشترى من القبض فقد قضى ما عليه
____________________
(29/401)
و انما المشتري هو المفرط بترك القبض فيكون الضمان عليه بخلاف ما اذا لم يمكنه من القبض بأن لا يوفيه التوفية المستحقة فلا يكيله ولا يزنه ولا يعده فانه هنا بمنزلة ما لم يوفه إياه من الدين واذا لم يفعل البائع ما يجب عليه من التوفية كان هو المفرط فكان الضمان عليه إذ التفريط يناسب الضمان
وأما حل التصرف وحرمته فله أسباب أخر
فقد يكون السبب التمكن من التسليم حتى لا يشابه بيع الغرر واذا لم ينقله من مكانه فقد ينكر البائع البيع ويفضي إلى النزاع وقد لا يمكنه البائع من التسليم كما اشترط فى الرهن القبض لأن مقصوده استيفاء الحق من المرهون عند تعذر استيفاء الحق من الراهن وهذا انما يتم بأن يكون قابضا للرهن بخلاف ما اذا كان بيد الراهن فانه يحول بينهما
وقد يكون سبب ذلك أن المقصود بالعقود هو التقابض وبالقبض يتم العقد ويحصل مقصوده ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا الينا وقد تعاقدوا عقودا يجوزونها وتقابضوها لم نفسخها وإن كانت محرمة فى دين المسلمين وان كان قبل التقابض نقضناها لئلا يفضى إلى الاذن بعد الاسلام فى قبض محرم فالبيع قبل قبضه لم يتم ملك المشتري عليه
____________________
(29/402)
بل هو يتعرض للآفات شرعا وكونا فكان بيعها قبل القبض من جنس بيع الغرر ولهذا نهى عن بيع المغانم قبل القبض ولهذا نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده لعدم تمكنه من القبض الواجب عليه بالعقد وان كان من الناس من يجعل الحديث متناولا للدين والعين ويجعل التسليم مستثنى منه ومنهم من يخصه بالعين ويفسره ببيع عين لم يملكها ويجعل معني ( ما ليس عندك ( ما ليس فى ملكك ومنهم من يحمله على الملك واليد جميعا أو يشترط فى المبيع أن يكون مملوكا مقبوضا فلا يجوز بيع المملوك الذي لا يتمكن من تسليمه وهو من بيع الغرر كالعبد الآبق والفرس الشارد
وهذا حجة من منع بيع الدين ممن ليس عليه قال لأنه غرر ليس بمقبوض ومن جوزه قال بيعه كالحوالة عليه وكبيع المودع والمعار فانه مقبوض حكما ولهذا جوزنا بيع الثمار وظاهر مذهب أحمد أنه اذا اشترى ثمرة بادية الصلاح وقبض ثمنها فانها تكون من ضمان البائع لأن عليه القبض إلى كمال الجذاذ والمشتري لم يتمكن من جذاذها ولكن جاز تمكنه منها اذا خلى بينه وبينها بجعل التصرف وقبضها التخلية وجعل في الضمان قبضها التمكن من الانتفاع الذي هو المقصود بالعقد ولغموض مأخذ هذه المسائل كثر تنازع الفقهاء فيها ولم يطرد إلى التوهم فيها قياس كما تراه
____________________
(29/403)
وكثير منهم لا يلحظ فيها معنى بل يتمسك فيها بظاهر النصوص وكل منهما قد يتناقض فيها لكن قد جعل على حمل المذاهب فيها والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل اشترى صبرة مجازفة ثم تلفت على ملك المشترى قبل قبضها ثم باعها قبل قبضها من غير أن يعلم تلفها فاذا قلنا أن المشترى الأول لم يجز له بيعها قبل قبضها فتلفت فهل هي من ماله أو من مال البائع الأول وهل ذكر احد من العلماء ان المشترى الأول اذا لم يجز له التصرف فيها قبل القبض فتلفت يكون ضامنا لها أو ان جواز التصرف والضمان متلازمان طردا وعكسا
فأجاب الحمد لله أما في هذه الصورة فالبيع باطل بالاتفاق اذا تلف المبيع وقت العقد سواء باعها بالصفة أو بغير الصفة أو باعها برؤية سابقة على العقد بل في مثل هذه الصورة لو تلفت بعد العقد وقبل وجودها على الصفة أو الرؤية الأولى لا يفسخ البيع فأما اذا تبين أنها كانت تالفة حين العقد فالبيع باطل بلا ريب
واما ضمانها فظاهر مذهب مالك وأحمد أن التلف من ضمان
____________________
(29/404)
المشترى لما احتج به من حديث الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن بن عمر قال ( مضت السنة انما ادركته الصفقة حيا مجموعا فهو من ضمان المشترى ( اذ ظاهر مذهب احمد أن ما كان متعينا بالعقد لا يحتاج إلى توفية بكيل أو وزن ونحوهما بحيث يكون المشتري قد تمكن من قبضه فهو من ضمانه قبضه أو لم يقبضه
وأما مذهب ابى حنيفة والشافعي فانها من ضمان البائع وهي الرواية الأخرى عن أحمد واختارها أبو محمد لكن الصواب فى ذلك متنوع فمذهب أبى حنيفة لا يدخل المبيع كله فى ضمان المشترى إلا بالقبض إلا العقار وعند الشافعي العقار وغيره سواء وهو رواية عن أحمد
وعن احمد رواية بالفرق بين المكيل والموزون وغيرهما ورواية بالفرق بين الطعام وغيره ورواية بالفرق بين المطعوم المكيل الموزون وغيره وهذا فى القبض عنه كالروايات فى الربا
____________________
(29/405)
وقال رحمه الله فصل
فى ( المقبوض بعقد فاسد ( أصله أن العقد الصحيح يوجب علي كل من المتعاقدين ما اقتضاه العقد مثل ما يوجب التقابض في البيع والاجارة والنكاح ونحو ذلك من المعاوضات اللازمة فان لزومها يقتضى وجوب الوفاء بها وتحريم نقضها
وأما ( العقود الجائزة ( من الوكالات بأنواعها والمشاركات بأصنافها فانها لا توجب الوفاء مطلقا اذ العقد ليس بلازم يجب الوفاء به بل هو جائز مباح وصاحبه مخير بين إمضائه وفسخه واذا فسخه كان نقضا له لكن ما دام العقد موجودا فعليه الوفاء بموجبه من حفظ المال فانه عقد أمانة
وأما تحريم العدوان كالخيانة فذاك واجب بالشرع لا بالعقل اذ يحرم عليه العدوان فى مال من ائتمنه وغيره لكن العقد أوجب ذلك أيضا وزاده توكيدا
____________________
(29/406)
وأما وجوب التصرف عليه بحيث يكون العامل فى المضاربة والمزارعة والمساقاة اذا ترك التصرف الذي اقتضاه العقد مفرطا فهذا هو الظاهر فان العقد وإن كان جائزا فما دام موجودا فله موجبان الحفظ بمنزلة الوديعة والتصرف الذي اقتضاه العقد وهذا قياس مذهبنا لأنا نوجب على أحد الشريكين من المعاوضة بالبيع والعمارة ما يحتاج إليه الآخر فى العرف مثل عمارة ما استهدم هذا فى شركة الأملاك فكذلك فى شركة العقود فان مقصودها هو التصرف فترك التصرف فى المضاربة والمساقاة والمزارعة قد يكون أعظم ضررا من ترك عمارة المكان المستهدم فى شركة الأملاك
ومن ترك بيع العين والمنفعة المشتركة لأنه هناك يمكن الشريك أن يبيع نصيبه وهنا غره وضيع عليه منفعة ماله فاذا كان العقد فاسدا لم يثبت جميع مقتضاه من وجوب التقابض والتصرف وحل التصرف والانتفاع ونحو ذلك فاذا اتصل به القبض فهو قبض مأذون فيه بعقد فليس مثل قبض الغاصب الذي هو بغير إذن
ولهذا قال الفقهاء ما ضمن بالقبض فى العقد الصحيح ضمن بالقبض فى العقد الفاسد كالمبيع والمؤجر وما لم يضمن بالقبض فى العقد الصحيح لا يضمن بالقبض فى العقد الفاسد كالأمانات من المضاربة والشركة ونحوها لوجود الاذن ولهذا تنازع العلماء فى حصول الملك بالقبض فيه وفيما يستحقه
____________________
(29/407)
من العوض هل هو المسمى أو عوض المثل أو نحو ذلك وذلك أن الفرق بينهما من وجهين
( أحدهما ( أن ذلك قبض بغير إذن المالك وهذا قبض باذن المالك
( الثانى ( أن هذا قبض اقتضاه عقد وان كان فيه فساد وذاك قبض لم يقتضه عقد بحال ولهذا نوجب فى ظاهر المذهب المسمى فى النكاح الفاسد وفى المضاربة الفاسدة ونحوها على أحد القولين
فان كان المقبوض به موجودا وأراد الرد رده وإن كان فائتا رد مثله اذا أمكن فاذا تعذر رد العين أو المثل فلابد من رد عوض مثل أن يكون المبيع ليس من ذوات الأمثال بل من ذوات القيم ومثل المنافع المستوفاة بالاجارة الفاسدة ومثل عمل العامل فى المشاركة الفاسدة من المساقاة والمضاربة ونحوها فمن أصحابنا من يوجب رد القيمة فى هذه الصورة كقول الشافعي بناء على أن المستحق رد العين أو المنفعة وقد تعذر عينه ومثله فينقل إلى القيمة كما لو ضمنت بالاتلاف أو الغصب
وطرد الشافعي هذا في المسمي الفاسد فى النكاح والمغصوب فأوجب مهر المثل بناء على أنه كان يجب رد البضع لفساد التسمية فلما لم يمكن رده رد بدله وهو مهر المثل وخالفه بعض أصحابه
____________________
(29/408)
والجمهور من أصحابنا وغيرهم وسائر العلماء أوجبوا بدل المهر المسمى مثله أو قيمته لا بدل البضع وهو الصواب قطعا لأن النكاح هنا لم يفسد فلم يجب رد المستحق به وهو البضع واذا لم يجب رد البضع لم يجب رد بدله بل الواجب هو إعطاء المسمى إن أمكن وإلا فبدله فكان بدل المسمى هو الواجب وهو أقرب إلى ما تراضوا به من بدل البضع وفى سائر العقود اذا فسدت نوجب رد العين أو بدلها وظاهر كلام أحمد أن الواجب فى المشاركة مثل المضاربة ونحوها المسمي أيضا كالنكاح الفاسد على ظاهر المذهب وهذا القول أقوى
بل الصواب أنه لا يجب فى الفاسد قيمة العين أو المنفعة مطلقا وذلك لأن العين لو أمكن ردها أو رد مثلها لكان ذلك هو الواجب لأن العقد لما انتفى وجب إعادة كل حق إلى مستحقه والمثل يقوم مقام العين أما اذا كان الحق قد فات مثل الوطء فى النكاح الفاسد والعمل فى المؤاجرات والمضاربات والغبن فى المبيع فالقيمة ليست مثلا له
وإنما تجب فى بعض المواضع كالمتلف والمغصوب الذي تعذر مثله للضرورة اذ ليس هناك شيء يوجد أقرب إلى الحق من القيمة فكان ذلك هو العدل الممكن كما قلنا مثل ذلك فى القصاص
____________________
(29/409)
و دية الخطأ وأرش الجراح واعتبرنا القيمة بتقويم الناس اذ ليس هناك متعاقدان تراضيا بشيء وأما هنا فقد تراضيا بأن يكون المسمى بدلا عن العين أو المنفعة والناس يرضون لها ببدل آخر فكان اعتبار تراضيهما أولى من اعتبار رضا الناس
فان قيل هما إنما تراضيا بهذا البدل فى ضمن صحة العقد ووجوب موجباته وذلك منتف هنا [ قيل ] والناس إنما يجعلون هذا قيمة فى ضمن عقد صحيح له موجباته فلما تعذر العقد هنا قدرنا وجود عقد يعرف به البدل الواجب فيه فتقدير عقدهما الذي عقداه أولي من تقدير ما لم يوجد بحال ولا رضيا به ولم يعقده غيرهما فاذا كان لابد من التقدير والتقريب فما كان أشبه بالواقع كان أولى بالتقدير وأقرب إلى الصواب
فتبين بهذا أن إيجاب مهر المثل فى النكاح الفاسد إنما هو شبيه لها بمن يتزوج من أمثالها نكاحا صحيحا لازما فتحتاج فيه إلى شيئين إلى تقدير مثلها وتقدير نكاح صحيح فيه مسمى فقسناها على أمثالها وقسنا فاسدها على صحيح أولئك وهذا فى غاية البعد واذا أوجبنا المسمى فى الفاسد قسنا فاسدها بصحيحها وهي إلى نفسها أقرب من غيرها إليها ثم عقدهما الفاسد وعقدهما الصحيح أقرب من عقدهما الفاسد إلى عقد غيرهما الصحيح وأما اذا كان وطىء بشبهة بلا نكاح فهنا يوجب مهر مثلها
____________________
(29/410)
وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه فصل
( قاعدة في المقبوض بعقد فاسد ( وذلك أنه لا يخلو إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد ويعلمه او لا يعتقد الفساد
فالأول يكون بمنزلة الغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه لكنه لشبهة العقد وكون القبض عن التراضي هل يملكه بالقبض او لا يملكه او يفرق بين أن يتصرف فيه او لا يتصرف هذا فيه خلاف مشهور فى الملك هل يحصل بالقبض فى العقد الفاسد
وأما ان كان العاقد يعتقد صحة العقد مثل أهل الذمة فيما يتعاقدون بينهم من العقود المحرمة فى دين الاسلام مثل بيع الخمر والربا والخنزير فان هذه العقود اذا اتصل بها القبض قبل الاسلام والتحاكم إلينا أمضيت لهم ويملكون ما قبضوه بها بلا نزاع لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين }
____________________
(29/411)
فأمر بترك ما بقى
وإن أسلموا أو تحاكموا قبل القبض فسخ العقد ووجب رد المال إن كان باقيا أو بدله إن كان فائتا والأصل فيه قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } أمر الله تعالى برد ما بقى من الربا فى الذمم ولم يأمر برد ما قبضوه قبل الاسلام وجعل لهم مع ما قبضوه قبل الاسلام رؤوس الأموال فعلم أن المقبوض بهذا العقد قبل الاسلام يملكه صاحبه أما اذا طرأ الاسلام وبينهما عقد ربا فينفسخ واذا انفسخ من حين الاسلام استحق صاحبه ما أعطاه من رأس المال ولم يستحق الزيادة الربوية التي لم تقبض ولم يجب عليه من رأس المال ما قبضه قبل الاسلام لأنه ملكه بالقبض فى العقد الذى اعتقد صحته وذلك العقد أوجب ذلك القبض فلو أوجبناه عليه لكنا قد أوجبنا عليه رده وحاسبناه به من رأس المال الذي استحق المطالبة به وذلك خلاف ما تقدم
وهكذا كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقرير مثل المعاملات الربوية التى يبيحها مجوزوا الحيل ومثل بيع النبيذ المتنازع فيه عند من يعتقد صحته ومثل بيوع الغرر المنهي عنها عند من يجوز بعضها فان هذه العقود اذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة
____________________
(29/412)
لم تنقض بعد ذلك لا بحكم ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد
وأما اذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل التقابض او استفتياه اذا تبين لهما الخطأ فرجع عن الرأى الأول فما كان قد قبض بالاعتقاد الأول أمضي واذا كان قد بقي فى الذمة رأس المال وزيادة ربوية أسقطت الزيادة ورجع إلى رأس المال ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأول كأهل الذمة وأولى لأن ذلك الأعتقاد باطل قطعا
وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه فصل
إذا كان إيجاب المسمى أو مثله أقرب إلى التسوية فى الفاسد الذي يتعذر رده رد المقبوض أو مثله من إيجاب مثل العوض المسمى في العقد على مثال هذا المضمون
فنقول المثل من فاسد فسد مثله فليس المؤجل مثل الحال ولا أحد النوعين مثل الآخر فلو أسلم إليه دراهم فى شيء سلما ولم
____________________
(29/413)
يتغير سعره وقلنا هو سلم فان رد إليه رأس ماله فى الحال أو مثله فهذا هو الواجب
وأما إذا أخره إلى حين حلول السلم ثم أراد رد مثل رأس ماله فليس هذا مثلا له فاذا أوجبنا المسلم فيه بقيمته وقت الاسلاف كان أقرب إلى العدل فانهما تراضيا أن يأخذ بهذه الدراهم من المسلم فيه لا من غيره لكن لم يتفقا على القدر فردهما إلى القيمة العادلة هو الواجب بالقياس فان قبض الثمن قبل قبض المثمن ولو اشترى سلعة لم يقطع فيها وقلنا هو بيع فاسد فاذا تعذر رد العين ومثلها ردت القيمة بالسعر وقت القبض فكما أوجبنا هنا قيمة المقبوض من العوض نوجب هناك قيمة المقبوض من الدراهم
ونظيرها من كل وجه أن يكون المبيع مكيلا أو موزونا لم يقطع ثمنه لكنه مؤجل إلى حول فحين يحل الأجل إن رد حنطة مثلا لم يكن مثلا لتلك المقبوضة لاختلاف القيمة فاعطاء قيمة المقبوض وقت قبض السلعة مؤجلا إلى حين قبض الثمن أشبه بالعدل فهذا فى الثمن والمثمن سواء
والأصل فيه أن كل ما كان أقرب إلى ما تعاقدا عليه وتراضيا به كان أولى بالاستحقاق مما لم يتعاقدا عليه ولم يتراضيا به وأن
____________________
(29/414)
المضمون بالغصب والاتلاف اذا لم يكن مثليا فانه يقدر بالقيمة لا بالعقود فتقدير المضمون بذلك العقد أولى من تقديره بالمضمون بعقد آخر لكن هذه المسألة ( مسألة الحلول والتأجيل ( مبنية على أصل آخر وهو أن اختلاف الأسعار يؤثر فى التماثل وهذا مذكور في موضعه والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل عاقد رجلا بثغر الاسكندرية على غلة ذكر أنها مودعة فى ناحية ببيروت وأعطاه الثمن وأرسل وكيله ليسلم ذلك للمشترى فلم يجد الغلة بل وجدها تحت الحوطة كل ذلك بعد أن أشهد المشترى على نفسه أنه تسلم الغلة المذكورة فهل يجوز لهذا البائع تأخير ما قبضه من الثمن وهل له في ذلك شبهة ويعطى البائع بتأخير الثمن عمن سلمه بعد المطالبة أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين إذا لم يجد المبيع الغائب او وجده ولم يتمكن من قبضه فله فسخ البيع ان كانت العين مغصوبة وان تلفت انفسخ البيع ووجب على البائع أن يرد عليه الثمن اذا طلبه المشترى ولا ينفعه اشهاد المشترى عليه بالقبض إذا كان قد أشهد
____________________
(29/415)
قبل القبض وان قامت عليه بينة بالاقرار وكان الاقرار صحيحا فله تحليف البائع أن باطن الاقرار كظاهره فى أصح قولي العلماء
وأما إذا علم كذب الاقرار بأن يكون قد أقر بالقبض قبل التمكن منه لم يصح هذا الاقرار كله ا ذا صح بيع الغائب بأن يبيعه بالصفة على مذهب مالك وأحمد فى المشهور
وأما من أبطل بيعه مطلقا كالشافعي وأحمد فى رواية فالبيع باطل من أصله وأبو حنيفة يصححه مطلقا وأحمد فى رواية لكن له الخيار عند الرؤية بكل حال وبكل حال فالأئمة متفقون على أن [ على ] البائع دفع الثمن إذا طلبه المشتري والحالة هذه والله أعلم
وسئل رحمه الله
عمن باع بيعا وجحد البيع وأشهد المشترى على نفسه بالفسخ فما الحكم فى ذلك
فأجاب إذا جحد البيع وفسخه المشترى كذلك لم يكن للبائع الزام المشترى ثانيا بالقبض والله أعلم
____________________
(29/416)
وسئل
عن رجل اشترى ملكا بثمن معين ودفع الثمن بمحضر شهود كتاب التبايع وثبت الكتاب وحكم به حكام المسلمين الأربعة ثم استحق الملك المشترى مستحق غير البائع وأثبت استحقاقه بذلك الشرع ورفع يد المشترى عما اشتراه منه والرجل يومئذ غائب فوق مسافة القصر وله أملاك حاضرة وأموال فهل اذا طلب الرجل المذكور من الحاكم الذي ببلد المشترى الذي حكم له على الغائب بنظير ما قبض الغائب من الرجل المشترى من ثمن المبيع يجيبه إلى ذلك والحالة هذه
فأجاب الحمد لله نعم إذا ظهر المبيع مستحقا فللمشترى أن يرجع بالثمن على من قبضه منه أو ببدله فاذا كان القابض منه غائبا حكم عليه اذا قامت الحجة وسلم إلى المحكوم له حقه من مال الغائب مع بقائه على حجته والله أعلم
& باب الربا
____________________
(29/417)
سئل شيخ الاسلام قدس الله روحه
عن تحريم الربا وما يفعل من المعاملات بين الناس اليوم ليتوصلوا بها إلى الربا واذا حل الدين يكون المديون معسرا فيقلب الدين فى معاملة أخرى بزيادة مال وما يلزم ولاة الأمور في هذا وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد فى معاملة الربا
فأجاب المراباة حرام بالكتاب والسنة والاجماع وقد ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ولعن المحلل والمحلل له ( قال الترمذي حديث صحيح فالاثنان ملعونان
وان كان أصل الربا فى الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل فاذا حل الأجل قال له أتقضى أم تربى فان وفاه وإلا زاد هذا فى الأجل وزاد هذا فى المال فيتضاعف المال
____________________
(29/418)
و الأصل واحد وهذا الربا حرام باجماع المسلمين
وأما اذا كان هذا هو المقصود ولكن توسلوا بمعاملة أخرى فهذا تنازع فيه المتأخرون من المسلمين وأما الصحابة فلم يكن بينهم نزاع أن هذا محرم فانما الأعمال بالنيات والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة
والله تعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين وأكل المال بالباطل وهو موجود فى المعاملات الربوية وأما اذا حل الدين وكان الغريم معسرا لم يجز باجماع المسلمين أن يقلب بالقلب لا بمعاملة ولا غيرها بل يجب إنظاره وإن كان موسرا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره
والواجب على ولاة الأمور بعد تعزير المتعاملين بالمعاملة الربوية بأن يأمروا المدين أن يؤدي رأس المال ويسقطوا الزيادة الربوية فان كان معسرا وله مغلات يوفي منها وفي دينه منها بحسب الامكان والله أعلم
____________________
(29/419)
وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه فصل
فيمن أوقع العقود المحرمة ثم تاب
قال الله تعالى فى الربا { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } وقد بسط الكلام على هذا فى موضعه
وقد قال تعالى لما ذكر الخلع والطلاق فقال في الخلع { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } إلى قوله { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } وقال تعالى { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا }
____________________
(29/420)
فالطلاق المحرم كالطلاق فى الحيض وفى طهر قد أصابها فيه حرام بالنص والاجماع وكالطلاق الثلاث عند الجمهور وهو تعد لحدود الله وفاعله ظالم لنفسه كما ذكر الله تعالى { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } والظالم لنفسه اذا تاب تاب الله عليه لقوله { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } فهو اذا استغفره غفر له ورحمه وحينئذ يكون من المتقين فيدخل فى قوله { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب }
والذين ألزمهم عمر ومن وافقه بالطلاق المحرم كانوا عالمين بالتحريم وقد نهوا عنه فلم ينتهوا فلم يكونوا من المتقين فهم ظالمون لتعديهم الحدود مستحقون للعقوبة ولذلك قال بن عباس لبعض المستفتين أن عمك لم يتق الله فلم يجعل له فرجا ولا مخرجا ولو اتقى الله
____________________
(29/421)
لجعل له فرجا ومخرجا
وهذا انما يقال لمن علم أن ذلك محرم وفعله فأما من يعلم بالتحريم فانه لا يستحق العقوبة ولا يكون متعديا فانه اذا عرف أن ذلك محرم تاب من عوده إليه والتزم أن لا يفعله
والذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل ثلاثتهم واحدة فى حياته كانوا يتوبون وكذلك من طلق فى الحيض كما طلق بن عمر فكانوا يتوبون فيصيرون متقين ومن لم يتب فهو الظالم لنفسه كما قال { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون }
فحصر الظلم فيمن لم يتب فمن تاب فليس بظالم فلا يجعل متعديا لحدود الله بل وجود قوله كعدمه ومن لم يتب فهو محل اجتهاد
فعمر عاقبهم بالالزام ولم يكن هناك تحليل فكانوا لاعتقادهم أن النساء يحرمن عليهم لا يقعون فى الطلاق المحرم فانكفوا بذلك عن تعدي حدود الله فاذا صاروا يوقعون الطلاق المحرم ثم يردون النساء بالتحليل المحرم صاروا يفعلون المحرم مرتين ويتعدون حدود الله مرتين بل ثلاثا بل أربعا لأن طلاق الأول كان تعديا لحدود الله وذلك نكاح المحلل لها ووطؤه لها قد صار بذلك ملعونا هو
____________________
(29/422)
و الزوج الأول فقد تعديا حد الله هذا مرة أخري وذاك مرة والمرأة ووليها لما علموا بذلك وفعلوه كانوا متعدين لحدود الله فلم يحصل بالالتزام فى هذه الحال انكفاف عن تعدي حدود الله بل زاد التعدي لحدود الله فترك التزامهم بذلك وإن كانوا ظالمين غير تائبين خير من إلزامهم به فذلك الزنى يعود إلى تعدي حدود الله مرة بعد مرة
وإذا قيل فالذي استفتي بن عباس ونحوه لو قيل له تب لتاب ولهذا كان بن عباس يفتى احيانا بترك اللزوم كما نقل عنه عكرمة وغيره وعمر ما كان يجعل الخلية والبرية إلا واحدة رجعية ولما قال
قال عمر ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ( واذا كان الالزام عاما ظاهرا كان تخصيص البعض بالاعانة نقضا لذلك ولم يوثق بتوبته فالمراتب أربعة
أما اذا كانوا يتقون الله ويتوبون فلا ريب أن ترك الالزام كما كان فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر خير
وان كانوا لا ينتهون إلا بالزام فينتهون حينئذ ولا يوقعون المحرم
____________________
(29/423)
و لا يحتاجون إلى تحليل فهذا هو الدرجة الثانية التى فعلها فيهم عمر
والثالثة أن يحتاجوا إلى التحليل المحرم فهنا ترك الالزام خير
والرابعة أنهم لا ينتهون بل يوقعون المحرم ويلزمون به بلا تحليل فهنا ليس فى إلزامهم به فائدة إلا آصار وأغلال لم توجب لهم تقوي الله وحفظ حدوده بل حرمت عليه نساؤهم وخربت ديارهم فقط والشارع لم يشرع ما يوجب حرمة النساء وتخريب الديار بل ترك إلزامهم بذلك أقل فسادا وإن كانوا أذنبوا فهم مذنبون على التقديرين لكن تخريب الديار اكثر فسادا والله لا يحب الفساد وأما ترك الالزام فليس فيه إلا أنه أذنب ذنبا بقوله ولم يتب منه وهذا أقل فسادا من الفساد الذي قصد الشارع دفعه ومنعه بكل طريق
وسئل عما إذا أبدل قمحا بقمح
فأجاب إذا أبدل قمحا بقمح كيلا بكيل مثلا بمثل جاز وإن كان بزيادة لم يجز
____________________
(29/424)
وسئل
عن امرأة باعت اسورة ذهب بثمن معين إلى أجل معين هل يجوز أم لا
فأجاب اذا بيعت بذهب أو فضة إلى إجل لم يجز ذلك باتفاق الأئمة بل يجب رد الأسورة ان كانت باقية أو رد بدلها ان كانت فائتة والله أعلم
وسئل
هل يجوز بيع الحياصة بنسيئة بزائد عن ثمنها
فأجاب اما الحياصة التى فيها ذهب أو فضة فلا تباع إلى أجل بفضة أو ذهب لكن تباع بعرض إلى أجل والله اعلم
____________________
(29/425)
وسئل
عن حديث ( رخص فى العرايا أن تباع بخرصها ( فما خرصها و ( نهى عن بيع المصراة والمحفلة (
فأجاب الحمد لله اما ( المصراة والمحفلة ( فهي البهيمة من الابل والغنم وغيرهما تترك حتى يجتمع اللبن فى ضرعها أياما ثم تباع يظن المشتري أنها تحلب كل يوم مثل ذلك فهذا من التدليس والغش وقد حرمه النبى صلى الله عليه وسلم عموما وخصوصا وجعل للمشتري الخيار ثلاثا اذا حلبها إن رضيها أمسكها وان سخطها ردها ورد عوض اللبن الذي كان موجودا وقت العقد وجعل صلى الله عليه وسلم عوضه صاعا من تمر
وأما بيع الغرر الذي لا يمكن البائع تسليمه مثل أن يبيع عبده الآبق وبعيره أو فرسه الشارد أو طيره الذي خرج من قفصه أو من حبله ونحو ذلك فان بيع مثل هذه الأمور من ( باب المخاطرة والقمار ( فان المبيع ان قدر عليه كان المشتري قد قمر البائع حيث أخذ ماله بدون قيمته وان لم يقدر عليه كان البائع قد قمر المشترى
____________________
(29/426)
وفى كل منهما أكل مال الآخر بالباطل وشر من ذلك أن يبيعه ما في بطن الدابة وكذلك اذا باعه الثمرة قبل بدو صلاحها فهذه من أنواع الغرر وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عنها عموما وخصوصا وكل ذلك من الميسر الذي حرمه الله فى القرآن
وكذلك بيع الحصاة مثل أن يقول بعتك من هذه الأرض إلى حيث تبلغ هذه الحصاة أو بعتك من هذه الثياب أو الشياه أو الغلمان أو غيره ما تقع عليه هذه الحصاة فيكون المبيع مجهول القدر أو العين أو الوصف
وأما ( العرايا ( فان النبى صلى الله عليه وسلم استثناها مما نهى عنه من المزابنة وذلك أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة ( والمزابنة ( ان يشتري الرطب في الشجر بخرصه من التمر و ( المحاقلة ( أن يشتري الحنطة في سنبلها بخرصها من الحنطة والخرص هو الحزر والتقدير فيقال كم فى هذه النخلة فيقال خمسة أوسق فيقال اشتريته بخمسة أوسق أو كم فى هذا الحقل من البر فيقال خمسة اوسق فيقال اشتريته بخمسة اوسق
وهذا الحكم عام فى كل ما يباع الا بقدره كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( لا تبيعوا الذهب بالذهب الا مثلا بمثل ولا تبيعوا
____________________
(29/427)
الفضة بالفضة الا مثلا بمثل ولا تبيعوا الحنطة بالحنطة الا مثلا بمثل ولا تبيعوا الشعير بالشعير الا مثلا بمثل ولا تبيعوا التمر بالتمر الا مثلا بمثل ولا تبيعوا الملح بالملح الا مثلا بمثل ( ونهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من الطعام لا يعلم كيلها بالطعام المسمى فاذا بيعت هذه الأموال بمثلها جزافا لم يجز ذلك لأن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعها الا متماثلة فاذا لم يعلم التماثل لم يجز البيع ولهذا يقول الفقهاء الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل والتماثل يعلم بالكيل والوزن
واما الخرص فهو ظن وحسبان يقدر به عند الحاجة والضرورة فأما مع امكان الكيل والوزن فلا فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة لأنهم يحزرون من غير حاجة واباح ذلك في العرايا لأجل الحاجة لأن المشتري يحتاج إلى أكل الرطب بالتمر خرصا لأجل حاجته إلى ذلك ورخص فى ذلك فى القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو ما دون النصاب وهو ما دون خمسة اوسق وكذلك يجوز لحاجة البائع إلى البيع كما قد بسط ذلك فى موضعه
ولفظ ( العرايا ( معناه فى اللغة هي النخلات التى يعيرها الرجل لغيره أي يعطيه إياها ليأكل ثمرها ثم يعيدها إليه كما قال الشاعر يمدح فيه بالكرم
____________________
(29/428)
** فليست بسنهاء ولا رجبية ** ولكن عرايا فى السنين الجوائح **
وهذا كما يقال للماشية ( المنيحة ( مثل أن يعطيه الناقة أو الشاة ليشرب لبنها ثم يعيدها إليه وهو من جنس العارية وهو أن يعيره داره ليسكنها ثم يعيدها إليه
ومنه افقار الظهر وهو أن يعطيه دابته ليركب فقارها ثم يعيدها إليه فهذا أصل هذه اللفظة لكن حكم العرايا هل هو مخصوص بما كان موهوبا للمشتري أو عام فى ذلك وفي غيره فيه قولان للعلماء والأول قول مالك والثاني قول الشافعي وفي مذهب أحمد القولان والله أعلم
وسئل عن رجل اشتري قمحا بثمن معلوم إلى وقت معلوم ثم إنه ما حصل لصاحب القمح شيء ثم داره عقدا وارتهن عليه ملكا وأنه أخذ ذلك بيعا وشراء بذلك العقد فهل البيع جائز
فأجاب اذا اشترى قمحا بثمن إلى أجل ثم عوض البائع عن ذلك الثمن سلعة إلى أجل لم يجز فان هذا بيع دين بدين وكذلك
____________________
(29/429)
ان احتال على أن يزيده فى الثمن ويزيده ذلك في الأجل بصورة يظهر رباها لم يجز ذلك ولم يكن له عنده الا الدين الأول فان هذا هو الربا الذي أنزل الله فيه القرآن فان الرجل يقول لغريمه عند محل الأجل تقضى أو تربى فان قضاه والا زاده هذا فى الدين وزاده هذا فى الأجل فحرم الله ورسوله ذلك وأمر بقتال من لم ينته والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل اضطر إلى قرضة دراهم فلم يجد من يقرضه الا رجل يأخذ الفائدة فيأتى السوق يشتري له بضاعة بخمسين ويبيعها له بربح معين إلى مدة معينة فهل هي قنطرة الربا
فأجاب اذا اشتري له بضاعة وباعها له فاشتراها منه أو باعها للثالث صاحبها الذي اشتراها المقرض منه فهذا ربا
والأحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين في تحريم ذلك كثيرة مثل حديث عائشة لأم ولد زيد بن أرقم قالت لها يا أم المؤمنين انى ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمانمائة درهم نسيئة ثم ابتعته منه بستمائة نقدا فقالت عائشة بئس
____________________
(29/430)
ما شريت وبئس ما اشتريت أخبرى زيدا أنه قد ابطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يتوب فقالت يا أم المؤمنين أرأيت أن لم أجد الا رأس مالي فقالت عائشة ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهي فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( وعن أنس بن مالك أنه سئل عن مثل ذلك فقال هذا ما حرم الله
وأما الذي لم يعد إلى البائع بحال بل باعها المشتري من مكان أخر لجاره فهذا يسمى ( التورق ( وقد تنوزع في كراهته فكرهه عمر بن عبد العزيز والامام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في احدى الروايتين وقال عمر بن عبد العزيز التورق أخية الربا أي أصل الربا وهذا القول أقوى
وسئل
عن رجل طلب من انسان ألف درهم إلى سنة بألف ومائتى درهم فباعه فرسا أو قماشا بألف درهم واشتراه منه بألف ومائتى درهم إلى أجل معلوم فهل يجوز ذلك
فأجاب لا يحل له ذلك بل هو ربا باتفاق الصحابة وجمهور
____________________
(29/431)
العلماء كما دلت على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل بن عباس رضي الله عنه عن رجل باع حريرة ثم ابتاعها لأجل زيادة درهم فقال دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة وسئل عن ذلك أنس بن مالك فقال هذا مما حرم الله ورسوله وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم فى نحو ذلك بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أخبرى زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يتوب
فمتى كان مقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل فانما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوي فسواء باع المعطى الأجل أو باع الأجل المعطي ثم استعاد السلعة وفى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من باع بيعتين فى بيعة فله أو كسهما أو الربا ( وفيه ايضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( اذا تبايعتم بالعينة واتبعتم اذناب البقر وتركتم الجهاد فى سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ( وهذا كله في بيع العينة وهو بيعتان فى بيعة
وقال صلى الله عليه وسلم ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان فى بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ( قال الترمذي حديث صحيح فحرم النبى صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل
____________________
(29/432)
شيئا ويقرضه مع ذلك فانه يحابيه فى البيع لأجل القرض حتى ينفعه فهو ربا
وهذه الأحاديث وغيرها تبين أن ما تواطأ عليه الرجلان بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فانه ربا سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض وما أشبه ذلك والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل تداين دينا فدخل به السوق فاشتري شيئا بحضرة الرجل ثم باعه عليه بفائدة هل يجوز ذلك أم لا
فأجاب الحمد لله هذا على ثلاثة أوجه
( الأول ( أن يكون بينهم مواطأة لفظية أو عرفية على أن يشتري السلعة من رب الحانوت فهذا لا يجوز
( والثاني ( أن يشتريها منه على أن يعيدها إليه فهذا أيضا لا يجوز فقد دخلت أم ولد زيد بن أرقم على عائشة فقالت يا أم المؤمنين انى ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمانمائة درهم نسيئة ثم ابتعته منه بستمائة نقدا فقالت لها عائشة بئس ما شريت وبئس
____________________
(29/433)