الصائم لأن فى داخل العين منفذا إلى داخل الحلق
وإذا كان عمدتهم هذه الاقيسة ونحوها لم يجز افساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه (
أحدها ( ان القياس وان كان حجة اذا اعتبرت شروط صحته فقد قلنا فى الاصول ان الاحكام الشرعية كلها بينتها النصوص ايضا وان دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية فاذا علمنا بان الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه علمنا انه ليس بحرام ولا واجب وان القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد ونحن نعلم انه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الافطار بهذه الاشياء التى ذكرها بعض اهل الفقه فعلمنا انها ليست مفطرة
( الثانى ) ان الاحكام التى تحتاج الامة إلى معرفتها لابد ان يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولابد ان تنقلها الأمة فاذا انتفى هذا علم ان هذا ليس من دينه وهذا كما يعلم انه لم يفرض صيام شهر غير رمضان ولا حج بيت غير البيت الحرام ولا صلاة مكتوبة غير الخمس
ولم يوجب الغسل فى مباشرة المرأة بلا انزال ولا اوجب الوضوء من الفزع العظيم وان كان فى مظنة خروج الخارج ولا سن
____________________
(25/236)
الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت وبهذا يعلم ان المنى ليس بنجس لانه لم ينقل عن احد باسناد يحتج به انه امر المسلمين بغسل ابدانهم وثيابهم من المني مع عموم البلوى بذلك بل امر الحائض ان تغسل قميصها من دم الحيض مع قلة الحاجة إلى ذلك ولم يأمر المسلمين بغسل ابدانهم وثيابهم من المنى
والحديث الذى يرويه بعض الفقهاء ( يغسل الثوب من البول والغائط والمني والمذى والدم ( ليس من كلام النبى وليس فى شيء من كتب الحديث التى يعتمد عليها ولا رواه احد من اهل العلم بالحديث باسناد يحتج به وانما روى عن عمار وعائشة من قولهما
وغسل عائشة للمني من ثوبه وفركها اياه لا يدل على وجوب ذلك فان الثياب تغسل من الوسخ والمخاط والبصاق والوجوب انما يكون بامره لا سيما ولم يأمر هو سائر المسلمين بغسل ثيابهم من ذلك ولا نقل انه امر عائشة بذلك بل اقرها على ذلك فدل على جوازه او حسنه واستحبابه
____________________
(25/237)
وأما الوجوب فلابد له من دليل
وبهذه الطرق يعلم ايضا انه لم يوجب الوضوء من لمس النساء ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين فإنه لم ينقل احد عنه باسناد يثبت مثله انه امر بذلك مع العلم بان الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيئون ويجرحون فى الجهاد وغير ذلك وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد ولم ينقل عنه مسلم انه امر اصحابه بالتوضؤ من ذلك
وكذلك الناس لا يزال احدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة ولم ينقل عنه مسلم انه امر الناس بالتوضؤ من ذلك والقرآن لا يدل على ذلك بل المراد بالملامسة الجماع كما بسط فى موضعه وامره بالوضوء من مس الذكر انما هو استحباب اما مطلقا واما اذا حرك الشهوة وكذلك يستحب لمن لمس النساء فتحركت شهوته ان يتوضأ وكذلك من تفكر فتحركت شهوته فانتشر وكذلك من مس الامرد او غيره فانتشر
فالتوضؤ عند تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب وهذا مستحب لما فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( ان
____________________
(25/238)
الغضب من الشيطان وان الشيطان من النار وانما تطفأ النار بالماء فاذا غضب احدكم فليتوضأ ( وكذلك الشهوة الغالبة هي من الشيطان والنار والوضوء يطفئها فهو يطفئ حرارة الغضب والوضوء من هذا مستحب وكذلك امره بالوضوء مما مسته النار امر استحباب لان ما مسته النار يخالط البدن فليتوضأ فان النار تطفأ بالماء وليس في النصوص ما يدل على انه منسوخ بل النصوص تدل على انه ليس بواجب وإستحباب الوضوء من اعدل الاقوال من قول من يوجبه وقول من يراه منسوخا وهذا احد القولين فى مذهب أحمد وغيره
وكذلك بهذه الطريق يعلم ان بول ما يؤكل لحمه وروثه ليس بنجس فان هذا مما تعم به البلوى والقوم كانوا أصحاب إبل وغنم يقعدون ويصلون فى أمكنتها وهى مملوءة من ابعارها فلو كانت بمنزلة المراحيض كانت تكون حشوشا وكان النبى يأمرهم باجتنابها وان لا يلوثوا ابدانهم وثيابهم بها ولا يصلون فيها
فكيف وقد ثبتت الأحاديث بأن النبى واصحابه كانوا يصلون فى مرابض الغنم وامر بالصلاة فى مرابض الغنم ونهى
____________________
(25/239)
عن الصلاة فى معاطن الابل فعلم ان ذلك ليس لنجاسة الأبعار بل كما امر بالتوضؤ من لحوم الابل وقال فى الغنم ان شئت فتوضأ وان شئت فلا تتوضأ ( وقال ( ان الابل خلقت من جن وان على ذروة كل بعير شيطانا ( وقال ( الفخر والخيلاء فى الفدادين اصحاب الابل والسكينة فى اهل الغنم (
فلما كانت الابل فيها من الشيطنة ما لا يحبه الله ورسوله امر بالتوضؤ من لحمها فان ذلك يطفئ تلك الشيطنة ونهى عن الصلاة في اعطانها لأنها مأوى الشياطين كما نهى عن الصلاة فى الحمام لأنها مأوى الشياطين
فإن مأوى الارواح الخبيثة احق بان تجتنب الصلاة فيه وفى موضع الاجسام الخبيثة بل الارواح الخبيثة تحب الاجسام الخبيثة
ولهذا كانت الحشوش محتضرة تحضرها الشياطين والصلاة فيها اولى بالنهى من الصلاة فى الحمام ومعاطن الابل والصلاة على الارض النجسة ولم يرد فى الحشوش نص خاص لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين ان يحتاج إلى بيان ولهذا لم يكن احد من المسلمين يقعد فى الحشوش ولا يصلى فيها وكانوا ينتابون البرية لقضاء حوائجهم
____________________
(25/240)
قبل ان تتخذ الكنف فى بيوتهم
وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة فى الحمام او اعطان الابل علموا ان النهى عن الصلاة فى الحشوش اولى واحرى مع انه قد روى الحديث الذى فيه ( النهي عن الصلاة فى المقبرة والمجزرة والمزبلة والحشوش وقارعة الطريق ومعاطن الابل وظهر بيت الله الحرام (
وأصحاب الحديث متنازعون فيه واصحاب احمد فيه على قولين منهم من يرى هذه من مواضع النهى ومنهم من يقول لم اجد فى هذا الحديث ولم أجد فى كلام احمد فى ذلك اذنا ولا منعا مع انه قد كره الصلاة فى مواضع العذاب نقله عنه ابنه عبد الله للحديث المسند فى ذلك عن علي الذى رواه ابو داود وانما نص على الحشوش واعطان الابل والحمام وهذه الثلاثة هي التى ذكرها الخرقي وغيره والحكم فى ذلك عند من يقول به قد يثبته بالقياس على موارد النص وقد يثبته بالحديث ومن فرق يحتاج إلى الطعن فى الحديث وبيان الفارق وأيضا المنع قد يكون منع كراهة وقد يكون منع تحريم
وإذا كانت الاحكام التى تعم بها البلوى لابد ان يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولابد ان تنقل الامة ذلك
فمعلوم
____________________
(25/241)
أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبى صلى الله عليه وسلم كما بين الافطار بغيره فلما لم يبين ذلك علم انه من جنس الطيب والبخور والدهن والبخور قد يتصاعد إلى الانف ويدخل فى الدماغ وينعقد اجساما والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوى به الانسان وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطييبه وتبخيره وإدهانه وكذلك اكتحاله
وقد كان المسلمون فى عهده يجرح احدهم اما فى الجهاد واما فى غيره مأمومة وجائفة فلو كان هذا يفطر لبين لهم ذلك فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم انه لم يجعله مفطرا
(
الوجه الثالث ( اثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى ان يكون القياس صحيحا وذلك اما قياس علة باثبات الجامع واما بإلغاء الفارق فاما ان يدل دليل على العلة فى الاصل فيعدى بها إلى الفرع واما ان يعلم ان لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة فى الشرع وهذا القياس هنا منتف
وذلك انه ليس فى الادلة ما يقتضى ان المفطر الذى جعله الله
____________________
(25/242)
ورسوله مفطرا هو ما كان واصلا إلى دماغ او بدن او ما كان داخلا من منفذ او واصلا إلى الجوف ونحو ذلك من المعانى التى يجعلها اصحاب هذه الاقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله ويقولون ان الله ورسوله انما جعل الطعام والشراب مفطرا لهذا المعنى المشترك من الطعام والشراب ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والتقطير فى الاحليل ونحو ذلك
واذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل كان قول القائل ان الله ورسوله انما جعلا هذا مفطرا لهذا قولا بلا علم وكان قوله ( ان الله حرم على الصائم ان يفعل هذا ( قولا بان هذا حلال وهذا حرام بلا علم وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم وهذا لا يجوز
ومن اعتقد من العلماء ان هذا المشترك مناط الحكم فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهب لم يكن صحيحا او دلالة لفظ على معنى لم يرده الرسول وهذا اجتهاد يثابون عليه ولا يلزم ان يكون قولا بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها
____________________
(25/243)
الوجه الرابع ( ان القياس انما يصح اذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم اذا سبرنا اوصاف الأصل فلم يكن فيها ما يصلح للعلة الا الوصف المعين وحيث اثبتنا علة الاصل بالمناسبة او الدوران او الشبه المطرد عند من يقول به فلابد من السبر فاذا كان فى الاصل وصفان مناسبان لم يجز ان يقول الحكم بهذا دون هذا
ومعلوم أن النص والاجماع اثبتا الفطر بالاكل والشرب والجماع والحيض والنبى قد نهى المتوضئ عن المبالغة فى الاستنشاق اذا كان صائما وقياسهم على الاستنشاق اقوى حججهم كما تقدم وهو قياس ضعيف وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه والى جوفه فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه ويغذى بدنه من ذلك الماء ويزول العطش ويطبخ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل ان هذا من جنس الشرب فانهما لا يفترقان الا فى دخول الماء من الفم وذلك غير معتبر بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر فليس هو مفطرا ولا جزءا من المفطر لعدم تأثيره بل هو طريق إلى الفطر وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة فان الكحل لا يغذى البتة ولا يدخل احد كحلا إلى جوفه لا من انفه ولا فمه
____________________
(25/244)
وكذلك الحقنة لا تغذى بل تستفرغ ما فى البدن كما لو شم شيئا من المسهلات او فزع فزعا اوجب استطلاق جوفه وهي لا تصل إلى المعدة
والدواء الذى يصل إلى المعدة فى مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل اليها من غذائه والله سبحانه قال ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ( وقال صلى الله عليه وسلم ( الصوم جنة ( وقال ( ان الشيطان يجري من بن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم (
فالصائم نهي عن الاكل والشرب لأن ذلك سبب التقوى فترك الاكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجرى فيه الشيطان انما يتولد من الغذاء لا عن حقنة ولا كحل ولا ما يقطر فى الذكر ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة وهو متولد عما استنشق من الماء لأن الماء مما يتولد منه الدم فكان المنع منه من تمام الصوم
فاذا كانت هذه المعانى وغيرها موجودة فى الاصل الثابت بالنص والاجماع فدعواهم ان الشارع علق الحكم بما ذكروه من الاوصاف
____________________
(25/245)
معارض بهذه الاوصاف والمعارضة تبطل كل نوع من الاقيسة ان لم يتبين ان الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا
(
الوجه الخامس ( انه ثبت بالنص والاجماع منع الصائم من الاكل والشرب والجماع وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( ان الشيطان يجري من بن آدم مجرى الدم ( ولا ريب ان الدم يتولد من الطعام والشراب واذا اكل او شرب اتسعت مجاري الشياطين ولهذا قال ( فضيقوا مجاريه بالجوع ( وبعضهم يذكر هذا اللفظ مرفوعا ولهذا قال النبى ( اذا دخل رمضان فتحت ابواب الجنة وغلقت ابواب النار وصفدت الشياطين ( فان مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت واذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التى بها تفتح ابواب الجنة والى ترك المنكرات التى بها تفتح ابواب النار وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم فلم يستطيعوا ان يفعلوا فى شهر رمضان ما كانوا يفعلونه فى غيره ولم يقل انهم قتلوا ولا ماتوا بل قال ( صفدت ( والمصفد من الشياطين قد يؤذي لكن هذا اقل وأضعف مما يكون فى غير رمضان فهو بحسب كمال الصوم ونقصه فمن كان صومه كاملا دفع الشيطان دفعا لا يدفعه دفع الصوم الناقص فهذه المناسبة ظ 4 اهرة فى منع الصائم من الاكل
____________________
(25/246)
والشرب والحكم ثابت على وفقه وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره وهذا المنع منتف فى الحقنة والكحل وغير ذلك (
فان قيل ) بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دما قيل هذا كما قد يقال فى البخار الذي يصعد من الانف إلى الدماغ فيستحيل دما وكالدهن الذي يشربه الجسم والممنوع منه انما هو ما يصل إلى المعدة فيستحيل دما ويتوزع على البدن
ونجعل هذا ( وجها سادسا ( فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن ونحو ذلك لجامع ما يشتركان فيه من ان ذلك ليس مما يتغذي به البدن ويستحيل فى المعدة دما وهذا الوصف هو الذي اوجب ان لا تكون هذه الامور مفطرة وهذا موجود فى محل النزاع والفرع قد يتجاذبه أصلان فيلحق كلا منهما بما يشبهه من الصفات
فإن قيل هذا تطبخه المعدة ويستحيل دما ينمو عنه البدن لكنه غذاء ناقص فهو كما لو اكل سما او نحوه مما يضره وهو بمنزلة من
____________________
(25/247)
اكل اكلا كثيرا اورثه تخمة ومرضا فكان منعه فى الصوم عن هذا اوكد لانه ممنوع عنه فى الافطار وبقي الصوم اوكد وهذا كمنعه من الزنى فانه اذا منع من الوطء المباح فالمحظور أولى
فإن قيل فالجماع مفطر وهذه العلة منتفية فيه (
قيل ) تلك أحكام ثابتة بالنص والاجماع فلا يحتاج اثباتها إلى القياس بل يجوز ان تكون العلل مختلفة فيكون تحريم الطعام والشراب والفطر بذلك لحكمة وتحريم الجماع والفطر به لحكمة والفطر بالحيض لحكمة فان الحيض لا يقال فيه انه يحرم وهذا لان المفطرات بالنص والاجماع لما انقسمت إلى امور اختيارية تحرم على العبد كالأكل والجماع والى امور لا اختيار له فيها كدم الحيض كذلك تنقسم عللها
فنقول اما الجماع فانه بإعتبار انه سبب انزال المني يجري مجري الاستقاءة والحيض والاحتجام كما سنبينه ان شاء الله تعالى فانه من نوع الاستفراغ لا الامتلاء كالأكل والشرب ومن جهة انه احدى الشهوتين فجرى مجرى الأكل والشرب قد قال النبى فى الحديث الصحيح عن الله تعالى ( قال الصوم لي وانا اجزي
____________________
(25/248)
به يدع شهوته وطعامه من اجلى ( فترك الانسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يثاب عليها كما يثاب المحرم على ترك ما اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نعيم البدن والجماع من أعظم نعيم البدن وسرور النفس وانبساطها هو يحرك الشهوة والدم والبدن اكثر من الاكل فاذا كان الشيطان يجرى من بن آدم مجرى الدم والغذاء يبسط الدم الذي هو مجاريه فاذا اكل او شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات وضعفت ارادتها ومحبتها للعبادات فهذا المعنى في الجماع ابلغ فانه يبسط ارادة النفس للشهوات ويضعف ارادتها عن العبادات اعظم بل الجماع هو غاية الشهوات وشهوته اعظم من شهوة الطعام والشراب ولهذا أوجب على المجامع كفارة الظهار فوجب عليه العتق او ما يقوم مقامه بالسنة والاجماع لان هذا اغلظ وداعيه أقوى والمفسدة به اشد فهذا اعظم الحكمتين فى تحريم الجماع
وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ فذاك حكمة اخرى فصار فيهما كالا كل والحيض وهو فى ذلك ابلغ منهما فكان افساده الصوم اعظم من افساد الاكل والحيض
فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس فنقول ان الشرع جاء بالعدل في كل شيء والاسراف فى العبادات من الجور
____________________
(25/249)
الذى نهى عنه الشارع وامر بالاقتصاد فى العبادات ولهذا امر بتعجيل الفطر وتاخير السحور ونهى عن الوصال وقال ( افضل الصيام واعدل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر اذا لاقى ( فالعدل فى العبادات من اكبر مقاصد الشارع ولهذا قال تعالى ( يا ايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم ) الاية فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل وقال تعالى ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا واخذهم الربا وقد نهوا عنه ) فلما كانوا ظالمين عوقبوا بان حرمت عليهم الطيبات بخلاف الامة الوسط العدل فانه احل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث
وإذا كان كذلك فالصائم قد نهى عن اخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب فينهى عن اخراج ما يضعفه ويخرج مادته التى بها يتغذى والا فاذا مكن من هذا ضره وكان متعديا فى عبادته لا عادلا
والخارجات نوعان نوع يخرج لا يقدر على الاحتراز منه او على وجه لا يضره فهذا لا يمنع منه كالاخبثين فإن خروجهما لا يضره ولا يمكنه الاحتراز منه ايضا ولو استدعى خروجهما فان خروجهما لا يضره بل ينفعه وكذلك اذا ذرعه القيء لا يمكنه الاحتراز منه وكذلك الاحتلام
____________________
(25/250)
فى المنام لا يمكنه الاحتراز منه واما اذا استقاء فالقيء يخرج ما يتغذى به من الطعام والشراب المستحيل فى المعدة وكذلك الاستمناء مع ما فيه من الشهوة فهو يخرج المني الذي هو مستحيل فى المعدة عن الدم فهو يخرج الدم الذى يتغذى به ولهذا كان خروج المني اذا افرط فيه يضر الانسان ويخرج احمر
والدم الذي يخرج بالحيض فيه خروج الدم والحائض يمكنها ان تصوم في غير اوقات الدم في حال لا يخرج فيها دمها فكان صومها فى تلك الحال صوما معتدلا لا يخرج فيه الدم الذى يقوى البدن الذي هو مادته وصومها فى الحيض يوجب ان يخرج فيه دمها الذى هو مادتها ويوجب نقصان بدنها وضعفها وخروج صومها عن الاعتدال فأمرت ان تصوم فى غير اوقات الحيض
بخلاف المستحاضة فان الاستحاضة تعم اوقات الزمان وليس لها وقت تؤمر فيه بالصوم وكان ذلك لا يمكن الاحتراز منه كذرع القيء وخروج الدم بالجراح والدمامل والاحتلام ونحو ذلك مما ليس له وقت محدد يمكن الاحتراز منه فلم يجعل هذا منافيا للصوم كدم الحيض
____________________
(25/251)
وطرد هذا اخراج الدم بالحجامة والفصاد ونحو ذلك
فإن العلماء متنازعون فى الحجامة هل تفطر الصائم ام لا والاحاديث الواردة عن النبى فى قوله ( أفطر الحاجم والمحجوم ( كثيرة قد بينها الائمة الحفاظ
وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم وكان منهم من لا يحتجم الا بالليل وكان اهل البصرة اذا دخل شهر رمضان أغلقوا حوانيت الحجامين والقول بأن الحجامة تفطر مذهب اكثر فقهاء الحديث كاحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وبن خزيمة وبن المنذر وغيرهم
وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به اخص الناس باتباع محمد والذين لم يروا افطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح ( أن النبى احتجم وهو صائم محرم ( واحمد وغيره طعنوا فى هذه الزيادة وهي قوله ( وهو صائم ( وقالوا الثابت انه احتجم وهو محرم قال احمد قال يحيى بن سعيد قال شعبة لم يسمع الحكم حديث مقسم فى الحجامة للصائم يعنى حديث شعبة عن الحكم عن مقسم عن بن عباس ( ان النبى احتجم وهو صائم محرم
____________________
(25/252)
قال مهنا سألت احمد عن حديث حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن بن عباس ( ان النبى احتجم وهو صائم محرم ( فقال ليس بصحيح وقد انكره يحيى بن سعيد الانصارى قال الاثرم سمعت ابا عبد الله رد هذا الحديث فضعفه وقال كانت كتب الأنصارى ذهبت فى أيام المنتصر فكان بعد يحدث من كتب غلامه وكان هذا من تلك
وقال مهنا سألت احمد عن حديث قبيصة عن سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن بن عباس الخ فقال هو خطأ من قبل قبيصة وسالت يحيى عن قبيصة فقال رجل صدق والحديث الذى يحدث به عن سفيان عن سعيد خطأ من قبله
قال مهنا سألت احمد عن حديث بن عباس ( ان النبى صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم ( فقال ليس فيه ( صائم ( انما هو ( محرم ( ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن بن عباس ( احتجم النبى على رأسه وهو محرم ( وعن طاوس وعطاء مثله عن بن عباس وعن عبد الرزاق عن معمرعن بن خثيم عن سعيد بن جبير عن بن عباس مثله وهؤلاء اصحاب بن عباس لا يذكرون ( صائما
____________________
(25/253)
قلت وهذا الذي ذكره الامام احمد هو الذى اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم ولهذا اعرض مسلم عن الحديث الذي ذكر حجامة الصائم ولم يثبت الا حجامة المحرم وتأولوا احاديث الحجامة بتأويلات ضعيفة كقولهم كانا يغتابان وقولهم افطر لسبب آخر واجود ما قيل ما ذكره الشافعي وغيره ان هذا منسوخ فان هذا القول كان في رمضان واحتجامه وهو محرم كان بعد ذلك لان الاحرام بعد رمضان وهذا ايضا ضعيف بل هو صلوات الله عليه احرم سنة ست عام الحديبية بعمرة فى ذي القعدة واحرم من العام القابل بعمرة القضية فى ذي القعدة واحرم من العام الثالث سنة الفتح من الجعرانة في ذي القعدة بعمرة واحرم سنة عشر بحجة الوداع فى ذى القعدة فاحتجامه وهو محرم صائم لم يبين في اي الاحرامات كان
والذي يقوي ان احرامه الذي احتجم فيه كان قبل فتح مكة قوله ( افطر الحاجم والمحجوم ( فانه كان عام الفتح بلا ريب هكذا في اجود الاحاديث وروى احمد باسناده عن ثوبان ان رسول الله اتى على رجل يحتجم فى رمضان قال ( افطر الحاجم والمحجوم
____________________
(25/254)
وقال أحمد أنبأنا إسماعيل عن خالد الحذاء عن ابى قلابة عن الاشعث عن شداد بن اوس انه مر مع النبى صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل محتجم بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان فقال ( افطر الحاجم والمحجوم ( وقال الترمذي سألت البخارى فقال ليس فى هذا الباب اصح من حديث شداد بن اوس وحديث ثوبان فقلت وما فيه من الاضطراب فقال كلاهما عندي صحيح لان يحيى بن سعيد روى عن أبى قلابة عن ابي اسماء عن ثوبان عن ابى الاشعث عن شداد الحديثين جميعا
قلت وهذا الذي ذكره البخارى من اظهر الادلة على صحة كلا الحديثين اللذين رواهما ابو قلابة إلى ان قال ومما يقوي ان الناسخ هو الفطر بالحجامة ان ذلك رواه عنه خواص اصحابه الذين كانوا يباشرونه حضرا وسفر ا ويطلعون على باطن امره مثل بلال وعائشة ومثل اسامة وثوبان مولياه ورواه عنه الانصار الذين هم بطانته مثل رافع بن خديج وشداد بن اوس وفى مسند احمد عن رافع بن خديج عن النبى قال ( افطر الحاجم والمحجوم ( قال احمد اصح شيء فى هذا الباب حديث رافع وذكر أحاديث ( افطر الحاجم والمحجوم ( إلى ان قال ثم اختلفوا على اقوال
____________________
(25/255)
أحدها يفطر المحجوم دون الحاجم ذكره الخرقي لكن المنصوص عن احمد وجمهور اصحابه الافطار بالأمرين والنص دال على ذلك فلا سبيل إلى تركه
والثاني أنه يفطر المحجوم الذي يحتجم ويخرج منه الدم ولا يفطر بالافتصاد ونحوه لانه لا يسمى احتجاما وهذا قول القاضي واصحابه فالتشريط في الاذان هل هو داخل فى مسمى الحجامة تنازع فيه المتأخرون فبعضهم يقول التشريط كالحجامة كما يقوله شيخنا ابو محمد المقدسي وعليه يدل كلام العلماء قاطبة فليس منهم من خص التشريط بذكر ولو كان عندهم لا يدخل فى الحجامة لذكروه كما ذكروا الفصاد فعلم ان التشريط عندهم من نوع الحجامة وقال شيخنا ابو محمد هذا هو الصواب إلى ان قال
والرابع وهو الصواب واختاره ابو المظفر بن هبيرة الوزير العالم العادل وغيره انه يفطر بالحجامة والفصاد ونحوهما وذلك لان المعنى الموجود فى الحجامة موجود فى الفصاد شرعا وطبعا وحيث حض النبى على الحجامة وامر بها فهو حض على ما فى معناها من الفصاد وغيره لكن الارض الحارة تجتذب الحرارة فيها دم البدن
____________________
(25/256)
فيصعد إلى سطح الجلد فيخرج بالحجامة والارض الباردة يغور الدم فيها إلى العروق هربا من البرد فان شبه الشيء منجذب إليه كما تسخن الاجواف فى الشتاء وتبرد في الصيف فأهل البلاد الباردة لهم الفصاد وقطع العروق كما للبلاد الحارة الحجامة لا فرق بينهما فى شرع ولا عقل
وقد بينا ان الفطر بالحجامة على وفق الاصول والقياس وانه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء واذا كان كذلك فبأي وجه اراد اخراج الدم افطر كما انه بأي وجه اخرج القيء افطر سواء جذب القيء بادخال يده او بشم ما يقيئه او وضع يده تحت بطنه واستخرج القيء فتلك طرق لاخراج القيء وهذه طرق لاخراج الدم ولهذا كان خروج الدم بهذا وهذا سواء في ( باب الطهارة ) فتبين بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه وان ما ورد من النصوص ومعانيها فان بعضه يصدق بعضا ويوافقه ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )
وأما الحاجم فانه يجتذب الهواء الذي فى القارورة بامتصاصه والهواء يجتذب ما فيها من الدم فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل فى حلقه وهو لا يشعر والحكمة اذا كانت خفية او منتشرة علق الحكم
____________________
(25/257)
بالمظنة كما أن النائم الذي تخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء فكذلك الحاجم يدخل شيء من الدم مع ريقه إلى بطنه وهو لا يدري
والدم من أعظم المفطرات فانه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة والخروج عن العدل والصائم امر بحسم مادته فالدم يزيد الدم فهو من جنس المحظور فيفطر الحاجم لهذا كما ينتقض وضوء النائم وان لم يستيقن خروج الريح منه لانه يخرج ولا يدرى وكذلك الحاجم قد يدخل الدم فى حلقه وهو لا يدرى
وأما الشارط فليس بحاجم وهذا المعنى منتف فيه فلا يفطر الشارط وكذلك لو قدر حاجم لا يمص القارورة بل يمتص غيرها او ياخذ الدم بطريق اخرى لم يفطر
والنبى كلامه خرج على الحاجم المعروف المعتاد واذا كان اللفظ عاما وان كان قصده شخصا بعينه فيشترك في الحكم سائر النوع للعادة الشرعية من ان ما ثبت فى حق الواحد من الامة ثبت في حق الجميع فهذا أبلغ فلا يثبت بلفظه ما يظهر لفظا ومعنى أنه لم يدخل فيه مع بعده عن الشرع والعقل والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
____________________
(25/258)
وسئل
عن رجل باشر زوجته وهو يسمع المتسحر يتكلم فلا يدري اهو يتسحر ام يؤذن ثم غلب على ظنه انه يتسحر فوطئها وبعد يسير اضاء الصبح فما الذي يجب عليه افتونا مأجورين
فأجاب هذه المسالة للعلماء فيها ثلاثة اقوال
أحدها عليه القضاء والكفارة هذا احدى الروايتين عن احمد
وقال مالك عليه القضاء لا غير وهذه الرواية الاخرى عنه وهذا مذهب الشافعي وابى حنيفة وغيرهما
والثالث لا قضاء ولا كفارة عليه وهذا قول النبى وهو اظهر الاقوال ولان الله تعالى عفا عن الخطأ
____________________
(25/259)
والنسيان واباح سبحانه وتعالى الاكل والشرب والجماع حتى يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود والشاك في طلوع الفجر يجوز له الاكل والشرب والجماع بالاتفاق ولا قضاء عليه اذا استمر الشك
وسئل رحمه الله
عن رجل اراد ان يواقع زوجته فى شهر رمضان بالنهار فافطر بالاكل قبل ان يجامع ثم جامع فهل عليه كفارة أم لا وما على الذي يفطر من غير عذر
فأجاب الحمد لله هذه المسألة فيها قولان للعلماء مشهوران
أحدهما تجب وهو قول جمهورهم كمالك واحمد وابى حنيفة وغيرهم
والثانى لا تجب وهو مذهب الشافعى
وهذان القولان مبناهما على ان الكفارة سببها الفطر من الصوم او من الصوم الصحيح بجماع او بجماع وغيره على اختلاف المذاهب فان ابا حنيفة
____________________
(25/260)
يعتبر الفطر بأعلى جنسه ومالك يعتبر الفطر مطلقا فالنزاع بينهما إذا افطر بابتلاع حصاة او نواة ونحو ذلك وعن احمد رواية انه اذا افطر بالحجامة كفر كغيرها من المفطرات بجنس الوطء فاما الاكل والشرب ونحوهما فلا كفارة فى ذلك
ثم تنازعوا هل يشترط الفطر من الصوم الصحيح فالشافعي وغيره يشترط ذلك فلو اكل ثم جامع او اصبح غير ناو للصوم ثم جامع او جامع وكفر ثم جامع لم يكن عليه كفارة لانه لم يطأ فى صوم صحيح
وأحمد فى ظاهر مذهبه وغيره يقول بل عليه كفارة فى هذه الصور ونحوها لانه وجب عليه الامساك فى شهر رمضان فهو صوم فاسد فاشبه الاحرام الفاسد
وكما ان المحرم بالحج اذا افسد احرامه لزمه المضي فيه بالامساك عن محظوراته فاذا اتى شيئا منها كان عليه ما عليه من الاحرام الصحيح وكذلك من وجب عليه صوم شهر رمضان اذا وجب عليه الامساك فيه وصومه فاسد لاكل او جماع او عدم نية فقد لزمه الامساك عن محظورات الصيام فاذا تناول شيئا منها كان عليه ما عليه فى الصوم
____________________
(25/261)
الصحيح وفى كلا الموضعين عليه القضاء
وذلك لان هتك حرمة الشهر حاصلة فى الموضعين بل هي في هذا الموضع اشد لانه عاص بفطره اولا فصار عاصيا مرتين فكانت الكفارة عليه اوكد ولانه لو لم تجب الكفارة على مثل هذا لصار ذريعة إلى ان لا يكفر أحد فانه لا يشاء احد ان يجامع فى رمضان الا امكنه ان يأكل ثم يجامع بل ذلك اعون له على مقصوده فيكون قبل الغدا عليه كفارة واذا تغدى هو وامرأته ثم جامعها فلا كفارة عليه وهذا شنيع فى الشريعة لا ترد بمثله
فإنه قد استقر فى العقول والاديان انه كلما عظم الذنب كانت العقوبة ابلغ وكلما قوى الشبه قويت والكفارة فيها شوب العبادة وشوب العقوبة وشرعت زاجرة وماحية فبكل حال قوة السبب يقتضي قوة المسبب
ثم الفطر بالاكل لم يكن سببا مستقلا موجبا للكفارة كما يقوله ابو حنيفة ومالك فلا اقل ان يكون معينا للسبب المستقل بل
____________________
(25/262)
يكون مانعا من حكمه وهذا بعيد عن اصول الشريعة
ثم المجامع كثيرا ما يفطر قبل الايلاج فتسقط الكفارة عنه بذلك على هذا القول وهذا ظاهر البطلان والله أعلم
وسئل
عن رجل أفطر نهار رمضان متعمدا ثم جامع فهل يلزمه القضاء والكفارة ام القضاء بلا كفارة
فأجاب عليه القضاء وأما الكفارة فتجب فى مذهب مالك واحمد وابى حنيفة ولا تجب عند الشافعي
وسئل
عن رجل وطىء امرأته وقت طلوع الفجر معتقدا بقاء الليل ثم تبين ان الفجر قد طلع فما يجب عليه
____________________
(25/263)
فأجاب الحمد لله هذه المسألة فيها ثلاثة اقوال لاهل العلم
أحدها ان عليه القضاء والكفارة وهو المشهور من مذهب احمد
والثانى ان عليه القضاء وهو قول ثان فى مذهب احمد وهو مذهب ابى حنيفة والشافعي ومالك
والثالث لا قضاء عليه ولا كفارة وهذا قول طوائف من السلف كسعيد بن جبير ومجاهد والحسن واسحاق وداود وأصحابه والخلف وهؤلاء يقولون من اكل معتقدا طلوع الفجر ثم تبين له انه لم يطلع فلا قضاء عليه
وهذا القول أصح الاقوال واشبهها باصول الشريعة ودلالة الكتاب والسنة وهو قياس اصول احمد وغيره فان الله رفع المؤاخذة عن الناسي والمخطئ وهذا مخطئ وقد اباح الله الاكل والوطء حتى يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر واستحب تأخير السحور ومن فعل ما ندب إليه وابيح له لم يفرط فهذا اولى بالعذر من الناسي والله أعلم
____________________
(25/264)
وسئل
عما إذا قبل زوجته أو ضمها فأمذى هل يفسد ذلك صومه ام لا
فأجاب يفسد الصوم بذلك عند اكثر العلماء
وسئل عمن أفطر فى رمضان الخ
فأجاب إذا افطر فى رمضان مستحلا لذلك وهو عالم بتحريمه استحلالا له وجب قتله وان كان فاسقا عوقب عن فطره فى رمضان بحسب ما يراه الامام واخذ منه حد الزنى وان كان جاهلا عرف بذلك واخذ منه حد الزنى ويرجع فى ذلك إلى إجتهاد الامام والله أعلم
____________________
(25/265)
وسئل رحمه الله
عن المضمضة والاستنشاق والسواك وذوق الطعام والقيء وخروج الدم والادهان والاكتحال
فأجاب أما المضمضة والاستنشاق فمشروعان للصائم باتفاق العلماء وكان النبى والصحابة يتمضمضون ويستنشقون مع الصوم لكن قال للقيط بن صبرة ( وبالغ فى الاستنشاق الا ان تكون صائما ( فنهاه عن المبالغة لا عن الاستنشاق
وأما السواك فجائز بلا نزاع لكن اختلفوا فى كراهيته بعد الزوال على قولين مشهورين هما روايتان عن احمد ولم يقم على كراهيته دليل شرعي يصلح ان يخص عمومات نصوص السواك وقياسه على دم الشهيد ونحوه ضعيف من وجوه كما هو مبسوط فى موضعه
وذوق الطعام يكره لغير حاجة لكن لا يفطره وأما للحاجة
____________________
(25/266)
فهو كالمضمضة
وأما القيء فاذا استقاء افطر وان غلبه القيء لم يفطر
والادهان لا يفطر بلا ريب
وأما خروج الدم الذي لا يمكن الاحتراز منه كدم المستحاضة والجروح والذي يرعف ونحوه فلا يفطر وخروج دم الحيض والنفاس يفطر باتفاق العلماء
وأما الاحتجام ففيه قولان مشهوران ومذهب احمد وكثير من السلف انه يفطر والفصاد ونحوه فيه قولان فى مذهبه أحدهما ان ذلك كالاحتجام
ومذهبه فى الكحل الذي يصل إلى الدماغ انه يفطر كالطيب وللحاجة ومذهب مالك نحو ذلك واما ابو حنيفة والشافعي رحمهما الله فلا يريان الفطر بذلك والله أعلم
____________________
(25/267)
وسئل
عن رجل افتصد بسبب وجع رأسه وهو صائم هل يفطر ويجب عليه قضاء ذلك اليوم ام لا وهل اذا اعلم أنه يفطر اذ افتصد يأثم أم لا
فأجاب الحمد لله هذه المسألة فيها نزاع فى مذهب احمد وغيره والأحوط أنه يقضي ذلك اليوم والله أعلم
وسئل عن الفصاد فى شهر رمضان هل يفسد الصوم ام لا
فأجاب إن أمكنه تأخير الفصاد اخره وان احتاج إليه لمرض افتصد وعليه القضاء فى احد قولي العلماء والله أعلم
____________________
(25/268)
وسئل
عن الميت فى ايام مرضه ادركه شهر رمضان ولم يكن يقدر على الصيام وتوفى وعليه صيام شهر رمضان وكذلك الصلاة مدة مرضه ووالديه بالحياة فهل تسقط الصلاة والصيام عنه اذا صاما عنه وصليا اذا وصى أو لم يوص
فأجاب اذا اتصل به المرض ولم يمكنه القضاء فليس على ورثته الا الاطعام عنه واما الصلاة المكتوبة فلا يصلى أحد عن أحد ولكن اذا صلى عن الميت واحد منهما تطوعا واهداه له او صام عنه تطوعا وأهداه له نفعه ذلك والله أعلم
____________________
(25/269)
الاقتصاد في الاعمال
المسئول من احسان السادة العلماء رضي الله عنهم حل هذه الشبهة التى دخل على العباد بسببها ضرر بين وهي ان بعضهم سمع قوله ( احب الصلاة إلى الله صلاة داود واحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ( فعقد مع الله أن يصوم يوما ويفطر يوما فعل ذلك سنة او اكثر وهو متأهل له عيال وهو ذو سبب يحتاج إلى نفسه في حفظ صحته فحدثت عنده بعد ذلك همة فى حفظ القرآن فصار مع هذه المجاهدة يتلقن كل يوم ويكرر ثم حدثت عنده مع ذلك همة إلى طلب المقصود وقيام اكثر الليل وكثرة الإجتهاد والدأب فى العبادة فاجتمع عليه ثقل يبس الصيام مع ضعف القوة فى السبب مع يبس التكرار وكثرته مع اليبس الحادث من الهمة الحادة وهو شاب عنده حرارة الشبوبية فاثر مجموع ذلك خللا فى ذهنه من ذهول وصداع يلحقه فى رأسه وبلادة
____________________
(25/270)
فى فهمه بحيث انه لا يحيط بمعنى الكلام اذا سمعه وظهر أثر اليبس فى عينيه حتى كادتا ان تغورا وقد وجد فى هذا الاجتهاد شيئا من الانوار وهو لا يترك هذا الصيام لعقده الذى عقده مع الله تعالى لخوفه ان يذهب النور الذى عنده فاذا نهاه احد من اهل المعرفة يتعلل ويقول انا اريد ان اقتل نفسى فى الله فهل صومه هذا يوافق رضا الله تعالى وهو بهذه الصفة ام هو مكروه لا يرضى الله به وهل يباح له هذا العقد وعليه فيه كفارة يمين ام لا وهل اشتغاله بما فيه صلاح جسمه وصيانة دماغه وعقله وذهنه ليتوفر على حفظ فرائضه ومصلحة عياله الذى يرضى الله منه ويريده منه أم لا وهل إصراره على ذلك موجب لمقت الله تعالى حيث يلقى نفسه إلى التهلكة بشئ لم يجب عليه
وإن كان مشروعا فى السنة فهل هو مشروع مطلقا لكل احد ام هو مخصوص بمن لا يتضرر به يسأل كشف هذه المسألة وحلها فقد أعيا هذا الشخص الأطباء وأحزن العقلاء لدخوله فى السلوك بالجهل غافلا عن مراد ربه ونسأل تقييد الجواب واعضاده بالكتاب والسنة ليصل إلى قلبه ذلك آجركم الله تعالى ومتع المسلمين بطول بقاكم وصلى الله على سيدنا محمد وسلم ورضى الله عن اصحابه اجمعين
____________________
(25/271)
فأجاب شيخ الاسلام العلامة الحافظ المجتهد مفتى الانام تقى الدين احمد بن تيمية بخطه
الحمد لله جواب هذه المسألة مبنى على أصلين
أحدهما موجب الشرع
والثانى مقتضى العهد والنذر
أما الاول فان المشروع المأمور به الذى يحبه الله ورسوله هو الاقتصاد فى العبادة كما قال النبى ( عليكم هديا قاصدا عليكم هديا قاصدا ( وقال ( ان هذا الدين متين ولن يشاد الدين احد إلا غلبه فإستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا ) وكلاهما فى الصحيح
وقال أبى بن كعب ( إقتصاد فى سنة خير من اجتهاد فى بدعة (
فمتى كانت العبادة توجب له ضررا يمنعه عن فعل واجب انفع له منها كانت محرمة مثل ان يصوم صوما يضعفه عن الكسب الواجب او يمنعه عن العقل او الفهم الواجب او يمنعه عن الجهاد الواجب
____________________
(25/272)
وكذلك اذا كانت توقعه فى محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها مثل ان يخرج ماله كله ثم يستشرف إلى أموال الناس ويسألهم
وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها وأوقعته فى مكروهات فانها مكروهة وقد انزل الله تعالى فى ذلك قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين ) فانها نزلت فى أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة هذا يسرد الصوم وهذا يقوم الليل كله وهذا يجتنب اكل اللحم وهذا يجتنب النساء فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من اكل اللحم والنساء وعن الاعتداء وهو الزيادة على الدين المشروع فى الصيام والقيام والقراءة والذكر ونحو ذلك والزيادة فى التحريم على ما حرم والزيادة فى المباح على ما أبيح ثم انه امرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه من اليمين على هذا التحريم والعدوان
وفى الصحيحين عن انس ان نفرا من اصحاب النبى صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبى عن عمله فى السر فقال بعضهم أما أنا فأصوم لا افطر وقال الآخر أما أنا فأقوم لا انام وقال الاخر اما انا فلا اتزوج النساء وقال الآخر أما أنا
____________________
(25/273)
فلا آكل اللحم فبلغ ذلك النبى فقال ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا لكنى اصلى وانام واصوم وافطر واتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى )
وفى الصحاح من غير وجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص انه كان قد جعل يصوم النهار ويقوم الليل ويقرأ القرآن فى كل ثلاث فنهاه النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال ( لا تفعل فانك اذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس ) أي غارت العين وملت النفس وسئمت وقال له ( ان لنفسك عليك حقا وان لزوجك عليك حقا وان لزورك عليك حقا فآت كل ذى حق حقه )
فبين له النبى صلى الله عليه وسلم ان عليك امورا واجبة من حق النفس والاهل والزائرين فليس لك ان تفعل ما يشغلك عن اداء هذه الحقوق الواجبة بل آت كل ذى حق حقه ثم امره النبى ان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وقال ( انه يعدل صيام الدهر وامره ان يقرأ القرآن فى كل شهر مرة فقال انى اطيق أفضل من ذلك ولم يزل يزايده حتى قال فصم يوما وافطر يوما فان ذلك افضل الصيام قال انى اطيق افضل
____________________
(25/274)
من ذلك قال لا افضل من ذلك )
وكان عبد الله بن عمرو لما كبر يقول يا ليتنى قبلت رخصة رسول الله وكان ربما عجز عن صوم يوم وفطر يوم فكان يفطر أياما ثم يسرد الصيام أياما بقدرها لئلا يفارق النبى صلى الله عليه وسلم على حال ثم ينتقل عنها وهذا لأن بدنه كان يتحمل ذلك والا فمن الناس من اذا صام يوما وافطر يوما شغله عما هو أفضل من ذلك فلا يكون الصوم افضل فى حقه
وكان النبى هكذا فانه كان افضل من صوم داود ومع هذا فقد ثبت عنه فى الصحيح انه سئل عمن يصوم الدهر فقال ( من صام الدهر فلا صام ولا افطر ) وسئل عمن يصوم يومين ويفطر يوما فقال ( ومن يطيق ذلك ( وسئل عمن يصوم يوما ويفطر يومين فقال ( وددت انى طوقت ذلك ) وسئل عمن يصوم يوما ويفطر يوما فقال ( ذلك أفضل الصيام ) فأخبر أنه ود أن يطيق صوم ثلث الدهر لانه كان له من الاعمال التى هي أوجب عليه واحب إلى الله ما لا يطيق معه صوم ثلث الدهر
وكذلك ثبت عنه فى الصحيح انه لما قرب من العدو فى غزوة الفتح
____________________
(25/275)
فى رمضان امر اصحابه بالفطر فبلغه ان قوما صاموا فقال ( أولئك العصاة ) وصلى على ظهر دابته مرة وامر من معه أن يصلوا على ظهور دوابهم فوثب رجل عن ظهر دابته فصلى على الارض فقال النبى ( مخالف خالف الله به ) فلم يمت حتى ارتد عن الاسلام وقال بن مسعود إنى اذا صمت ضعفت عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلى وهذا باب واسع قد بسط فى غير هذا الموضع
وأما ( الاصل الثانى ) وهو انه اذا عاهد الله على ذلك ونذره فالاصل فيه ما أخرجاه فى الصحيحين عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من نذر ان يطيع الله فليطعه ومن نذر ان يعصى الله فلا يعصه ) فاذا كان المنذور الذى عاهد الله يتضمن ضررا غير مباح يفضى إلى ترك واجب او فعل محرم كان هذا معصية لا يجب الوفاء به بل لو نذر عبادة مكروهة مثل قيام الليل كله وصيام النهار كله لم يجب الوفاء بهذا النذر
ثم تنازع العلماء هل عليه كفارة يمين على قولين
أظهرهما ان عليه كفارة يمين لما ثبت عن النبى صلى الله عليه
____________________
(25/276)
وسلم فى الصحيح انه قال ( كفارة النذر كفارة يمين ) وقال ( النذر حلفة ) وفى السنن عنه ( لا نذر فى معصية وكفارته كفارة يمين ) وقد ذكرنا سبب نزول الاية
ومثل ذلك ما رواه البخارى فى صحيحه عن بن عباس ان النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما فى الشمس فقال ( ما هذا فقالوا هذا ابو اسرائيل نذر ان يقوم ولا يستظل ولا يتكلم وان يصوم فقال مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ) فلما نذر عبادة غير مشروعة من الصمت والقيام والتضحية أمره بفعل المشروع وهو الصوم فى حقه ونهاه عن فعل غير المشروع
وأما اذا عجز عن فعل المنذور او كان عليه فيه مشقة فهنا يكفر ويأتى ببدل عن المنذور كما فى حديث عقبة بن عامر ان اخته لما نذرت ان تحج ماشية قال النبى ( ان الله لغنى عن تعذيب اختك نفسها مرها فلتركب ولتهد وروى ولتصم )
فهذا الرجل الذى عقد مع الله تعالى صوم نصف الدهر وقد اضر ذلك بعقله وبدنه عليه ان يفطر ويتناول ما يصلح عقله وبدنه ويكفر كفارة يمين ويكون فطره قدر ما يصلح به عقله وبدنه
____________________
(25/277)
على حسب ما يحتمله حاله إما ان يفطر ثلثى الدهر او ثلاثة ارباعه او جميعه فإذا اصلح حاله فان امكنه العود إلى صوم يوم وفطر يوم بلا مضرة والا صام ما ينفعه من الصوم ولا يشغله عما هو احب إلى الله منه فالله لا يحب ان يترك الاحب إليه بفعل ما هو دونه فكيف يوجب ذلك
وأما النور الذى وجده بهذا الصوم فمعلوم ان جنس العبادات ليس شرا محضا بل العبادات المنهى عنها تشتمل على منفعة ومضرة ولكن لما ترجح ضررها على نفعها نهى عنها الشارع كما نهى عن صيام الدهر وقيام الليل كله دائما وعن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر مع ان خلقا يجدون في المواصلة الدائمة نورا بسبب كثرة الجوع وذلك من جنس ما يجده الكفار من اهل الكتاب والاميين مثل الرهبان وعباد القبور لكن يعود ذلك الجوع المفرط الزائد على الحد المشروع يوجب لهم ضررا فى الدنيا والاخرة فيكون اثمه اكثر من نفعه كما قد رأينا من هؤلاء خلقا كثيرا آل بهم الافراط فيما يعانونه من شدائد الاعمال إلى التفريط والتثبيط والملل والبطالة وربما انقطعوا عن الله بالكلية او بالاعمال المرجوحة عن الراجحة او بذهاب العقل بالكلية او بحصول خلل فيه وذلك لان اصل اعمالهم واساسها على غير استقامة ومتابعة
____________________
(25/278)
وأما قوله أريد أن أقتل نفسي فى الله فهذا كلام مجمل فانه اذا فعل ما أمره الله به فأفضي ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملا فيه منفعة للمسلمين وقد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن وفي مثله أنزل الله قوله ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد ) ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس فى العدو بحضرة النبى وقد روي الخلال باسناده عن عمر بن الخطاب ( ان رجلا حمل على العدو وحده فقال الناس القى بيده إلى التهلكة فقال عمر لا ولكنه ممن قال الله فيه ( ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد )
وأما إذا فعل ما لم يؤمر به حتى أهلك نفسه فهذا ظالم متعد بذلك مثل ان يغتسل من الجنابة فى البرد الشديد بماء بارد يغلب على ظنه انه يقتله او يصوم فى رمضان صوما يفضي إلى هلاكه فهذا لا يجوز فكيف فى غير رمضان
وقد روى أبو داود فى سننه فى قصة الرجل الذي اصابته جراحة فاستفتى من كان معه هل تجدون لي رخصة فى التيمم فقالوا لا نجد لك رخصة فاغتسل فمات فقال النبى
____________________
(25/279)
قتلوه قتلهم الله هلا سألوا اذا لم يعلموا فانما شفاء العي السؤال (
وكذلك روى حديث عمرو بن العاص لما اصابته الجنابة فى غزوة ذات السلاسل وكانت ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه بالتيمم ولما رجعوا ذكروا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال ( يا عمرو اصليت بأصحابك وانت جنب فقال يا رسول الله انى سمعت الله يقول ( ولا تقتلوا انفسكم ) فضحك ولم يقل شيئا ( فهذا عمرو قد ذكر ان العبادة المفضية إلى قتل النفس بلا مصلحة مامور بها هي من قتل النفس المنهى عنه واقره النبى على ذلك
وقتل الانسان نفسه حرام بالكتاب والسنة والاجماع كما ثبت عنه فى الصحاح انه قال ( من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ( وفى الحديث الاخر ( عبدي بادأنى بنفسه فحرمت عليه الجنة واوجبت له النار ( وحديث القاتل الذي قتل نفسه لما اشتدت عليه الجراح وكان النبى يخبر انه من اهل النار لعلمه بسوء خاتمته وقد كان لا يصلى على من
____________________
(25/280)
قتل نفسه ولهذا قال سمرة بن جندب عن ابنه لما اخبر انه بشم فقال لو مات لم أصل عليه
فينبغى للمؤمن ان يفرق بين ما نهى الله عنه من قصد الانسان قتل نفسه او تسببه فى ذلك وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين انفسهم واموالهم له كما قال تعالى ( ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة ) وقال ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) اي يبيع نفسه
والاعتبار فى ذلك بما جاء به الكتاب والسنة لا بما يستحسنه المرء او يجده او يراه من الامور المخالفة للكتاب والسنة بل قد يكون احد هؤلاء كما قال عمر بن عبد العزيز من عبد الله بجهل أفسد أكثر مما يصلح
ومما ينبغي ان يعرف ان الله ليس رضاه او محبته فى مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كل ما كان اشق كان افضل كما يحسب كثير من الجهال ان الاجر على قدر المشقة في كل شيء لا ولكن الاجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته
____________________
(25/281)
وعلى قدر طاعة امر الله ورسوله فاى العملين كان أحسن وصاحبه أطوع واتبع كان افضل فان الاعمال لا تتفاضل بالكثرة وانما تتفاضل بما يحصل فى القلوب حال العمل
ولهذا لما نذرت اخت عقبة بن عامر ان تحج ماشية حافية قال النبى ( ان الله لغني عن تعذيب اختك نفسها مرها فلتركب ( وروى ( انه امرها بالهدى ( وروى ( بالصوم ( وكذا حديث جويرية فى تسبيحها بالحصى او النوى وقد دخل عليها ضحى ثم دخل عليها عشية فوجدها على تلك الحال وقوله لها ( لقد قلت بعدك اربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لرجحت (
وأصل ذلك ان يعلم العبد ان الله لم يأمرنا الا بما فيه صلاحنا ولم ينهنا الا عما فيه فسادنا ولهذا يثنى الله على العمل الصالح ويأمر بالصلاح والاصلاح وينهى عن الفساد
فالله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من المضرة والفساد وامرنا بالاعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا وقد لا تحصل هذه الاعمال الا
____________________
(25/282)
بمشقة كالجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة كما قال النبى لعائشة لما اعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع ( أجرك على قدر نصبك ( واما اذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقته فهذا فساد والله لا يحب الفساد
ومثال ذلك منافع الدنيا فإن من تحمل مشقة لربح كثير او دفع عدو عظيم كان هذا محمودا واما من تحمل كلفا عظيمة ومشاقا شديدة لتحصيل يسير من المال او دفع يسير من الضرر كان بمنزلة من اعطى الف درهم ليعتاض بمائة درهم او مشى مسيرة يوم ليتغدى غدوة يمكنه ان يتغدى خيرا منها فى بلده
فالأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل والاقتصاد والتوسط الذي هو خير الامور واعلاها كالفردوس فانه اعلى الجنة واوسط الجنة فمن كان كذلك فمصيره إليه ان شاء الله تعالى
هذا فى كل عبادة لا تقصد لذاتها مثل الجوع والسهر والمشى
وأما ما يقصد لنفسه مثل معرفة الله ومحبته والانابة إليه
____________________
(25/283)
والتوكل عليه فهذه يشرع فيها الكمال لكن يقع فيها سرف وعدوان بادخال ما ليس منها فيها مثل ان يدخل ترك الاسباب المأمور بها فى التوكل او يدخل استحلال المحرمات وترك المشروعات فى المحبة فهذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم
وسئل
رضى الله عنه وأرضاه عن ليلة القدر وهو معتقل بالقلعة قلعة الجبل سنة ست وسبعمائة
فأجاب الحمد لله ليلة القدر فى العشر الاواخر من شهر رمضان هكذا صح عن النبى أنه قال ( هي في العشر الأواخر من رمضان ( وتكون فى الوتر منها
لكن الوتر يكون بإعتبار الماضي فتطلب ليلة احدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة سبع وعشرين وليلة تسع وعشرين
____________________
(25/284)
ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبى ( لتاسعة تبقى لسابعة تبقى لخامسة تبقى لثالثة تبقى ( فعلى هذا اذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الاشفاع وتكون الاثنين والعشرين تاسعة تبقى وليلة اربع وعشرين سابعة تبقى وهكذا فسره ابو سعيد الخدري فى الحديث الصحيح وهكذا اقام النبى صلى الله عليه وسلم فى الشهر
وان كان الشهر تسعا وعشرين كان التاريخ بالباقى كالتاريخ الماضى
وإذا كان الامر هكذا فينبغى ان يتحراها المؤمن فى العشر الأواخر جميعه كما قال النبى ( تحروها فى العشر الأواخر وتكون فى السبع الاواخر اكثر واكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين كما كان ابي بن كعب يحلف انها ليلة سبع وعشرين فقيل له بأى شيء علمت ذلك فقال بالآية التى اخبرنا رسول الله ( اخبرنا ان الشمس تطلع صبحة صبيحتها كالطشت لا شعاع لها (
فهذه العلامة التى رواها ابي بن كعب عن النبى
____________________
(25/285)
من أشهر العلامات فى الحديث وقد روى فى علاماتها ( انها ليلة بلجة منيرة ( وهي ساكنة لا قوية الحر ولا قوية البرد وقد يكشفها الله لبعض الناس فى المنام او اليقظة فيرى انوارها او يرى من يقول له هذه ليلة القدر وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الامر والله تعالى أعلم
وسئل
عن ( ليلة القدر ( و ( ليلة الاسراء بالنبى ( ايهما افضل
فأجاب بأن ليلة الاسراء افضل فى حق النبى وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة فحظ النبى الذي اختص به ليلة المعراج منها اكمل من حظه من ليلة القدر
وحظ الامة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج وان كان لهم فيها اعظم حظ لكن الفضل والشرف والرتبة العليا إنما حصلت فيها لمن اسرى به
____________________
(25/286)
وسئل
عن عشر ذي الحجة والعشر الاواخر من رمضان أيهما أفضل
فأجاب أيام عشر ذي الحجة افضل من ايام العشر من رمضان والليالى العشر الاواخر من رمضان افضل من ليالى عشر ذى الحجة
قال بن القيم واذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيا كافيا فانه ليس من أيام العمل فيها احب إلى الله من ايام عشر ذي الحجة وفيها يوم عرفة ويوم النحر ويوم التروية
وأما ليالى عشر رمضان فهي ليالى الاحياء التى كان رسول الله يحييها كلها وفيها ليلة خير من ألف شهر
فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه ان يدلى بحجة صحيحة
____________________
(25/287)
سئل شيخ الاسلام
أيما أفضل يوم عرفة أو الجمعة أو الفطر أو النحر فأجاب الحمد لله أفضل أيام الاسبوع يوم الجمعة باتفاق العلماء وأفضل أيام العام هو يوم النحر وقد قال بعضهم يوم عرفة والاول هو الصحيح لان فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( افضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر ( لانه يوم الحج الاكبر فى مذهب مالك والشافعى واحمد كما ثبت فى الصحيح عن النبى انه قال ( يوم النحر هو يوم الحج الاكبر (
وفيه من الاعمال ما لا يعمل فى غيره كالوقوف بمزدلفة ورمي جمرة العقبة وحدها والنحر والحلق وطواف الافاضة فان فعل هذه فيه افضل بالسنة واتفاق العلماء والله أعلم
____________________
(25/288)
وسئل
عن يوم الجمعة ويوم النحر أيهما أفضل
فأجاب يوم الجمعة افضل ايام الاسبوع ويوم النحر افضل ايام العام
قال إبن القيم وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له فى دفعه
وسئل عن أفضل الأيام
فأجاب الحمد لله أفضل أيام الاسبوع يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه اخرج منها وأفضل أيام العام يوم النحر كما روي عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر
وسئل
عن رجل نذر أنه يصوم الاثنين والخميس ثم بدا له ان يصوم يوما ويفطر يوما ولم يرتب ذلك الا بأن يصوم أربعة أيام ويفطر ثلاثة أو يفطر أربعة ويصوم ثلاثة فأيهما أفضل أفتونا يرحمكم الله
فأجاب الحمد لله إذا انتقل من صوم الاثنين والخميس إلى صوم
____________________
(25/289)
يوم وفطر يوم فقد إنتقل إلى ما هو افضل وفيه نزاع والاظهر ان ذلك جائز كما لو نذر الصلاة فى المسجد المفضول وصلى فى الافضل مثل ان ينذر الصلاة فى المسجد الاقصى فيصلي فى مسجد أحد الحرمين والله أعلم
وسئل رحمه الله
عما ورد فى ثواب صيام الثلاثة أشهر وما تقول فى الاعتكاف فيها والصمت هل هو من الاعمال الصالحات أم لا
فأجاب أما تخصيص رجب وشعبان جميعا بالصوم أو الاعتكاف فلم يرد فيه عن النبى شيء ولا عن أصحابه ولا أئمة المسلمين بل قد ثبت فى الصحيح ان رسول الله كان يصوم إلى شعبان ولم يكن يصوم من السنة اكثر مما يصوم من شعبان من أجل شهر رمضان
وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة بل موضوعة لا يعتمد أهل العلم على شيء منها وليست من الضعيف الذي يروى فى
____________________
(25/290)
الفضائل بل عامتها من الموضوعات المكذوبات وأكثر ما روى فى ذلك ان النبى صلى الله عليه وسلم كان اذا دخل رجب يقول ( اللهم بارك لنا فى رجب وشعبان وبلغنا رمضان (
وقد روى إبن ماجه فى سننه عن بن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم انه نهى عن صوم رجب وفي إسناده نظر لكن صح ان عمر بن الخطاب كان يضرب ايدي الناس ليضعوا ايديهم فى الطعام فى رجب ويقول لا تشبهوه برمضان
ودخل ابو بكر فرأى اهله قد اشتروا كيزانا للماء واستعدوا للصوم فقال ( ما هذا فقالوا رجب فقال أتريدون ان تشبهوه برمضان وكسر تلك الكيزان ( فمتى افطر بعضا لم يكره صوم البعض
وفى المسند وغيره حديث عن النبى أنه أمر بصوم الاشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فهذا فى صوم الأربعة جميعا لا من يخصص رجب
وأما تخصيصها بالاعتكاف فلا أعلم فيه أمرا بل كل من صام صوما
____________________
(25/291)
مشروعا وأراد ان يعتكف من صيامه كان ذلك جائزا بلا ريب وان اعتكف بدون الصيام ففيه قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد
أحدهما أنه لا إعتكاف إلا بصوم كمذهب ابي حنيفة ومالك
والثانى يصح الاعتكاف بدون الصوم كمذهب الشافعى
وأما الصمت عن الكلام مطلقا فى الصوم أو الاعتكاف او غيرهما فبدعة مكروهة باتفاق اهل العلم لكن هل ذلك محرم او مكروه فيه قولان فى مذهبه وغيره
وفى صحيح البخاري ان ابا بكر الصديق دخل على امرأة من احمس فوجدها مصمتة لا تتكلم فقال لها ابو بكر ان هذا لا يحل ان هذا من عمل الجاهلية وفي صحيح البخاري عن بن عباس ان النبى رأى رجلا قائما فى الشمس فقال ( من هذا فقالوا هذا أبو اسرائيل نذر ان يقوم فى الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه ( فأمره صلى الله عليه وسلم مع نذره للصمت ان يتكلم كما امره مع
____________________
(25/292)
نذره للقيام ان يجلس ومع نذره ان لا يستظل ان يستظل وانما امره بأن يوفى بالصوم فقط وهذا صريح فى ان هذه الاعمال ليست من القرب التى يؤمر بها الناذر
وقد قال فى الحديث الصحيح ( من نذر ان يطيع الله فليطعه ومن نذر ان يعصي الله فلا يعصه ( كذلك لا يؤمر الناذر ان يفعلها فمن فعلها على وجه التعبد بها والتقرب واتخاذ ذلك دينا وطريقا إلى الله تعالى فهو ضال جاهل مخالف لأمر الله ورسوله ومعلوم ان من يفعل ذلك من نذر اعتكافا ونحو ذلك إنما يفعله تدينا ولا ريب ان فعله على وجه التدين حرام فإنه يعتقد ما ليس بقربة قربة ويتقرب إلى الله تعالى بما لا يحبه الله وهذا حرام لكن من فعل ذلك قبل بلوغ العلم إليه فقد يكون معذورا بجهله اذا لم تقم عليه الحجة فاذا بلغه العلم فعليه التوبة
وجماع الامر فى الكلام قوله صلى الله عليه وسلم ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا او ليصمت ( فقول الخير وهو الواجب او المستحب خير من السكوت عنه وما ليس بواجب ولا مستحب فالسكوت عنه خير من قوله
____________________
(25/293)
ولهذا قال بعض السلف لصاحبه السكوت عن الشر خير من التكلم به فقال له الآخر التكلم بالخير خير من السكوت عنه وقد قال تعالى ( يا ايها الذين آمنوا اذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى ( وقال تعالى ( لا خير فى كثير من نجواهم الا من أمر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (
وفى السنن عن النبى انه قال ( كل كلام بن آدم عليه لا له الا امرا بمعروف او نهيا عن منكر او ذكرا لله تعالى ( والاحاديث فى فضائل الصمت كثيرة وكذلك فى فضائل التكلم بالخير والصمت عما يجب من الكلام حرام سواء اتخذه دينا او لم يتخذه كالامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب أن تحب ما أحبه الله ورسوله وتبغض ما يبغضه الله ورسوله وتبيح ما اباحه الله ورسوله وتحرم ما حرمه الله ورسوله
____________________
(25/294)
وقال رحمه الله
فصل
قول عائشة ( ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله ( هذا إشارة إلى مقامه فى المدينة وأنه كان يعتكف أداء أو قضاء فإنه قد ثبت فى الصحيح أنه أراد ان يعتكف مرة فطلب نساؤه الاعتكاف معه فرأى أن مقصود بعضهن المباهاة فأمر بالخيام فقوضت وترك الاعتكاف ذلك العام حتى قضاه من شوال
وهو لم يصم رمضان الا تسع مرات فإنه فرض فى العام الثانى من الهجرة بعد ان صام يوم عاشوراء وأمر الناس بصيامه مرة واحدة فإنه قدم المدينة فى شهر ربيع الاول من السنة الاولى وقد تقدم عاشوراء فلم يأمر ذلك العام بصيامه فلما أهل العام الثانى امر الناس بصيامه وهل كان امر ايجاب او
____________________
(25/295)
إستحباب على قولين لأصحابنا وغيرهم والصحيح انه كان امر ايجاب ابتدئ فى اثناء النهار لم يؤمروا به من الليل
فلما كان فى أثناء الحول رجب أو غيره فرض شهر رمضان وغزا النبى فى شهر رمضان ذلك العام أول شهر فرض غزوة بدر وكانت يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من الشهر فلما نصره الله على المشركين اقام بالعرصة بعد الفتح ثلاثا فدخل عليه العشر وهو فى السفر فرجع إلى المدينة ولم يبق من العشر الا اقله فلم يعتكف ذلك العشر بالمدينة وكان فى تمامه مشغولا بأمر الأسرى والفداء ولما شاورهم في الفداء قام فدخل بيته ثم خرج
وأحواله المنقولة عنه تدل على أنه لم يعتكف تمام ذلك العشر لكن يمكن انه قضى اعتكافه كما قضى صيامه وكما قضى اعتكاف العام الذي اراد نساؤه الاعتكاف معه فيه فهذا عام بدر
وأيضا فعام الفتح سنة ثمان كان قد سافر في شهر رمضان ودخل مكة فى اثناء الشهر وقد بقى منه اقله وهو فى مكة مشتغل بآثار الفتح وتسرية السرايا إلى ما حول مكة وتقرير أصول
____________________
(25/296)
الاسلام بأم القرى والتجهز لغزو هوازن 8 لما بلغه انهم قد جمعوا له مع مالك بن عوف النضرى وقد اقام بمكة فى غزوة الفتح تسع عشرة ليلة يقصر الصلاة
قالوا لانه لم يكن قد اجمع المقام بمكة لاجل غزو هوازن فكان مسافرا فيها غير متفرغ للاعتكاف بمكة ذلك العام فهذه ثلاثة اعوام لم يعتكف فيها فى رمضان بل قضى العام الواحد الذي اراد إعتكافه ثم تركه واما الآخران فالله اعلم اقضاهما مع الصوم ام لم يقضهما مع شطر الصلاة فقد ثبت عنه انه قال ( اذا مرض العبد او سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ( وثبت عنه انه قال ( ان الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ( اي الصوم اداء والشطر أداء وقضاء فالاعتكاف ملحق بأحدهما
ولم ينقل عنه انه قضى اعتكافا فاته فى السفر فلا يثبت الجواز الا انه لعموم حديث عائشة يبقى فيه امكان والله أعلم
____________________
(25/297)
وسئل عمن يعمل كل سنة ختمة فى ليلة مولد النبى هل ذلك مستحب أم لا
فأجاب الحمد لله جمع الناس للطعام فى العيدين وايام التشريق سنة وهو من شعائر الاسلام التى سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين وإعانة الفقراء بالاطعام فى شهر رمضان هو من سنن الاسلام فقد قال النبى ( من فطر صائما فله مثل أجره ( واعطاء فقراء القراء ما يستعينون به على القرآن عمل صالح في كل وقت ومن اعانهم على ذلك كان شريكهم فى الأجر
وأما إتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الاول التى يقال انها ليلة المولد او بعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة او اول جمعة من رجب او ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الابرار فإنها من البدع التى لم يستحبها السلف ولم يفعلوها والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(25/298)
وسئل شيخ الاسلام
عما يفعله الناس فى يوم عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وغير ذلك إلى الشارع فهل ورد فى ذلك عن النبى حديث صحيح أم لا وإذا لم يرد حديث صحيح فى شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة ام لا وما تفعله الطائفة الاخرى من المأتم والحزن والعطش وغير ذلك من الندب والنياحة وقراءة المصروع وشق الجيوب هل لذلك اصل ام لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين لم يرد فى شيء من ذلك حديث صحيح عن النبى ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك احد من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا روى اهل الكتب المعتمدة فى ذلك شيئا لا عن النبى ولا الصحابة ولا التابعين لا صحيحا ولا ضعيفا لا فى كتب الصحيح
____________________
(25/299)
ولا فى السنن ولا المسانيد ولا يعرف شيء من هذه الاحاديث على عهد القرون الفاضلة
ولكن روى بعض المتأخرين فى ذلك احاديث مثل ما رووا ان من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام ومن إغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام وامثال ذلك
ورووا فضائل فى صلاة يوم عاشوراء ورووا ان فى يوم عاشوراء توبة آدم واستواء السفينة على الجودي ورد يوسف على يعقوب وانجاء ابراهيم من النار وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك
ورووا فى حديث موضوع مكذوب على النبى ( انه من وسع على اهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة ( ورواية هذا كله عن النبى صلى الله عليه وسلم كذب ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة عن ابراهيم بن محمد بن المنتشر عن ابيه قال ( بلغنا انه من وسع على اهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته ( وابراهيم بن محمد بن المنتشر من اهل الكوفة واهل الكوفة كان فيهم طائفتان
____________________
(25/300)
طائفة رافضة يظهرون موالاة اهل البيت وهم فى الباطن اما ملاحدة زنادقة واما جهال واصحاب هوى
وطائفة ناصبة تبغض عليا واصحابه لما جرى من القتال فى الفتنة ما جرى
وقد ثبت فى صحيح مسلم عن النبى انه قال ( سيكون فى ثقيف كذاب ومبير ( فكان الكذاب هو المختار بن ابي عبيد الثقفى وكان يظهر موالاة اهل البيت والانتصار لهم وقتل عبيد الله بن زياد امير العراق الذي جهز السرية التى قتلت الحسين بن على رضى الله عنهما ثم انه اظهر الكذب وادعى النبوة وان جبريل عليه السلام ينزل عليه حتى قالوا لابن عمر وبن عباس قالوا لأحدهما ان المختار بن ابي عبيد يزعم انه ينزل عليه فقال صدق قال الله تعالى ( هل انبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل افاك اثيم ( وقالوا للآخر ان المختار يزعم انه يوحى إليه فقال صدق ( وإن الشياطين ليوحون إلى اوليائهم ليجادلوكم (
وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفى وكان منحرفا عن على واصحابه فكان هذا من النواصب والاول من الروافض وهذا
____________________
(25/301)
الرافضى كان اعظم كذبا وافتراء والحادا فى الدين فانه ادعى النبوة وذاك كان اعظم عقوبة لمن خرج على سلطانه وانتقاما لمن اتهمه بمعصية اميره عبد الملك بن مروان
وكان فى الكوفة بين هؤلاء وهؤلاء فتن وقتال فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية وأكرم الله الحسين بالشهادة كما اكرم بها من اكرم من اهل بيته اكرم بها حمزة وجعفر وأباه عليا وغيرهم وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته فانه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة والمنازل العالية لا تنال الا بالبلاء كما قال النبى لما سئل أي الناس اشد بلاء فقال ( الأنبياء ثم الصالحون ثم الامثل فالامثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان فى دينه صلابة زيد فى بلائه وان كان فى دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على الارض وليس عليه خطيئة ( رواه الترمذى وغيره
فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق من المنزلة العالية ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب فانهما ولدا فى عز الاسلام وتربيا فى عز وكرامة والمسلمون يعظمونهما ويكرمونهما ومات النبى ولم يستكملا سن التمييز
____________________
(25/302)
فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما كما ابتلى من كان افضل منهما فان على بن ابي طالب افضل منهما وقد قتل شهيدا
وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الاسباب التى أوجبت الفتن بين الناس وبسببه تفرقت الامة إلى اليوم ولهذا جاء فى الحديث ( ثلاث من نجا منهن فقد نجا موتى وقتل خليفة مضطهد والدجال (
فكان موت النبى من اعظم الاسباب التى افتتن بها خلق كثير من الناس وارتدوا عن الاسلام فأقام الله تعالى الصديق رضي الله عنه حتى ثبت الله به الايمان واعاد به الامر إلى ما كان فأدخل أهل الردة فى الباب الذى منه خرجوا وأقر أهل الايمان على الدين الذي ولجوا فيه وجعل الله فيه من القوة والجهاد والشدة على اعداء الله واللين لاولياء الله ما استحق به وبغيره ان يكون خليفة رسول الله
ثم استخلف عمر فقهر الكفار من المجوس واهل الكتاب واعز الاسلام ومصر الامصار وفرض العطاء ووضع الديوان ونشرالعدل وأقام السنة وظهر الاسلام في ايامه ظهورا بان به تصديق قوله تعالى ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
____________________
(25/303)
الدين كله وكفى بالله شهيدا ) وقوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ) وقول النبى صلى الله عليه وسلم ( اذا هلك كسرى فلا كسرى بعده واذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسى بيده لتنفقن كنوزهما فى سبيل الله ( فكان عمر رضى الله عنه هو الذى انفق كنوزهما فعلم انه انفقها فى سبيل الله وأنه كان خليفة راشدا مهديا ثم جعل الامر شورى فى ستة
فإتفق المهاجرون والانصار على تقديم عثمان بن عفان من غير رغبة بذلها لهم ولا رهبة اخافهم بها وبايعوه بأجمعهم طائعين غير كارهين وجرى فى آخر ايامه اسباب ظهر بالشر فيها على أهل العلم أهل الجهل والعدوان وما زالوا يسعون فى الفتن حتى قتل الخليفة مظلوما شهيدا بغير سبب يبيح قتله وهو صابر محتسب لم يقاتل مسلما
فلما قتل رضى الله عنه تفرقت القلوب وعظمت الكروب وظهرت الاشرار وذل الاخيار وسعى فى الفتنة من كان عاجزا عنها وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته
فبايعوا أمير المؤمنين على بن ابى طالب رضي الله عنه وهو احق الناس بالخلافة حينئذ
____________________
(25/304)
وأفضل من بقي لكن كانت القلوب متفرقة ونار الفتنة متوقدة فلم تتفق الكلمة ولم تنتظم الجماعة ولم يتمكن الخليفة وخيار الامة من كل ما يريدونه من الخير ودخل فى الفرقة والفتنة اقوام وكان ما كان إلى ان ظهرت الحرورية المارقة مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم فقاتلوا امير المؤمنين عليا ومن معه فقتلهم بأمر الله ورسوله طاعة لقول النبى لما وصفهم بقوله ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية اينما لقيتموهم فاقتلوهم فان فى قتلهم اجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ( وقوله ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم ادنى الطائفتين إلى الحق ( اخرجاه في الصحيحين
فكانت هذه الحرورية هي المارقة وكان بين المؤمنين فرقة والقتال بين المؤمنين لا يخرجهم من الايمان كما قال تعالى ( وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغي حتى تفيء إلى امر الله فان فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان الله يحب المقسطين انما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين اخويكم ) فبين سبحانه وتعالى انهم مع الاقتتال وبغى بعضهم
____________________
(25/305)
على بعض مؤمنون اخوة وأمر بالاصلاح بينهم فان بغت احداهما بعد ذلك قوتلت الباغية ولم يأمر بالاقتتال ابتداء
وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم ان الطائفة المارقة يقتلها ادنى الطائفتين إلى الحق فكان علي بن ابي طالب ومن معه هم الذين قاتلوهم فدل كلام النبى على انهم ادنى إلى الحق من معاوية ومن معه مع ايمان الطائفتين
ثم إن عبد الرحمن بن ملجم من هؤلاء المارقين قتل امير المؤمنين عليا فصار إلى كرامة الله ورضوانه شهيدا
306
وبايع الصحابة للحسن ابنه فظهرت فضيلته التى اخبر بها رسول الله فى الحديث الصحيح حيث قال ( ان ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ( فنزل عن الولاية وأصلح الله به بين الطائفتين وكان هذا مما مدحه به النبى واثنى عليه ودل ذلك على ان الاصلاح بينهما مما يحبه الله ورسوله ويحمده الله ورسوله
ثم إنه مات وصار إلى كرامة الله ورضوانه وقامت طوائف كاتبوا الحسين ووعدوه بالنصر والمعاونة اذا قام بالأمر ولم يكونوا من اهل
____________________
(25/306)
ذلك بل لما ارسل اليهم بن عمه اخلفوا وعده ونقضوا عهده واعانوا عليه من وعدوه ان يدفعوه عنه ويقاتلوه معه
وكان اهل الرأي والمحبة للحسين كابن عباس وبن عمر وغيرهما اشاروا عليه بأن لا يذهب اليهم ولا يقبل منهم ورأوا ان خروجه اليهم ليس بمصلحة ولا يترتب عليه ما يسر وكان الامر كما قالوا وكان امر الله قدرا مقدورا
فلما خرج الحسين رضي الله عنه ورأى ان الامور قد تغيرت طلب منهم ان يدعوه يرجع او يلحق ببعض الثغور او يلحق بابن عمه يزيد فمنعوه هذا وهذا حتى يستأسر وقاتلوه فقاتلهم فقتلوه وطائفة ممن معه مظلوما شهيدا شهادة أكرمه الله بها وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين واهان بها من ظلمه واعتدى عليه وأوجب ذلك شرا بين الناس
فصارت طائفة جاهلة ظالمة اما ملحدة منافقة واما ضالة غاوية تظهر موالاته وموالاة اهل بيته تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والتعزى بعزاء الجاهلية
____________________
(25/307)
والذى أمر الله به ورسوله في المصيبة اذا كانت جديدة انما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع كما قال تعالى ( وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ( وقال ( انا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة ( وقال ( النائحة اذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ( وفى المسند عن فاطمة بنت الحسين عن ابيها الحسين عن النبى انه قال ( ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وان قدمت فيحدث لها استرجاعا الا اعطاه الله من الأجر مثل اجره يوم اصيب بها (
وهذا من كرامة الله للمؤمنين فان مصيبة الحسين وغيره اذا ذكرت بعد طول العهد فينبغى للمؤمن ان يسترجع فيها كما أمر الله ورسوله ليعطى من الاجر مثل اجر المصاب يوم اصيب بها
وإذا كان الله تعالى قد امر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد
____________________
(25/308)
بالمصيبة فكيف مع طول الزمان فكان ما زينه الشيطان لاهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتما وما يصنعون فيه من الندب والنياحة وانشاد قصائد الحزن ورواية الاخبار التى فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه الا تجديد الحزن والتعصب واثارة الشحناء والحرب والقاء الفتن بين اهل الاسلام والتوسل بذلك إلى سب السابقين الاولين وكثرة الكذب والفتن فى الدنيا ولم يعرف طوائف الاسلام اكثر كذبا وفتنا ومعاونة للكفار على اهل الاسلام من هذه الطائفة الضالة الغاوية فانهم شر من الخوارج المارقين
وأولئك قال فيهم النبى ( يقتلون اهل الاسلام ويدعون اهل الاوثان ( وهؤلاء يعاونون اليهود والنصارى والمشركين على اهل بيت النبى وامته المؤمنين كما أعانوا المشركين من الترك والتتار على ما فعلوه ببغداد وغيرها بأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ولد العباس وغيرهم من أهل البيت والمؤمنين من القتل والسبى وخراب الديار وشر هؤلاء وضررهم على اهل الاسلام لا يحصيه الرجل الفصيح فى الكلام
فعارض هؤلاء قوم اما من النواصب المتعصبين على الحسين واهل
____________________
(25/309)
بيته واما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد والكذب بالكذب والشر بالشر والبدعة بالبدعة فوضعوا الاثار فى شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب وتوسيع النفقات على العيال وطبخ الاطعمة الخارجة عن العادة ونحو ذلك مما يفعل فى الأعياد والمواسم فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسما كمواسم الاعياد والافراح واولئك يتخذونه مأتما يقيمون فيه الاحزان والاتراح وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة وان كان اولئك اسوأ قصدا واعظم جهلا وأظهر ظلما لكن الله امر بالعدل والاحسان وقد قال النبى ( انه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الامور فان كل بدعة ضلالة
ولم يسن رسول الله ولا خلفاؤه الراشدون فى يوم عاشوراء شيئا من هذه الامور لا شعائر الحزن والترح ولا شعائر السرور والفرح ولكنه لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال ( ما هذا فقالوا هذا يوم نجى الله فيه موسى من الغرق فنحن نصومه فقال نحن أحق
____________________
(25/310)
بموسى منكم فصامه وامر بصيامه ( وكانت قريش ايضا تعظمه فى الجاهلية
واليوم الذي امر الناس بصيامه كان يوما واحدا فانه قدم المدينة فى شهر ربيع الاول فلما كان فى العام القابل صام يوم عاشوراء وامر بصيامه ثم فرض شهر رمضان ذلك العام فنسخ صوم عاشوراء
وقد تنازع العلماء هل كان صوم ذلك اليوم واجبا او مستحبا على قولين مشهورين اصحهما انه كان واجبا ثم انه بعد ذلك كان يصومه من يصومه استحبابا ولم يأمر النبى ( ( العامة بصيامه بل كان يقول ( هذا يوم عاشوراء وانا صائم فيه فمن شاء صام ( وقال ( صوم يوم عاشوراء يكفر سنة وصوم يوم عرفة يكفر سنتين ( ولما كان آخر عمره وبلغه ان اليهود يتخذونه عيدا قال ( لئن عشت إلى قابل لاصومن التاسع ( ليخالف اليهود ولا يشابههم فى اتخاذه عيدا وكان من الصحابة والعلماء من لا يصومه ولا يستحب صومه بل يكره افراده بالصوم كما نقل ذلك عن طائفة من الكوفيين ومن العلماء من يستحب صومه
____________________
(25/311)
والصحيح أنه يستحب لمن صامه ان يصوم معه التاسع لان هذا آخر امر النبى صلى الله عليه وسلم لقوله ( لئن عشت إلى قابل لاصومن التاسع مع العاشر ( كما جاء ذلك مفسرا في بعض طرق الحديث فهذا الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما سائر الامور مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة اما حبوب واما غير حبوب او تجديد لباس او توسيع نفقة او اشتراء حوائج العام ذلك اليوم او فعل عبادة مختصة كصلاة مختصة به او قصد الذبح او ادخار لحوم الاضاحي ليطبخ بها الحبوب او الاكتحال او الاختضاب او الاغتسال او التصافح او التزاور او زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك فهذا من البدع المنكرة التى لم يسنها رسول الله ولا خلفاؤه الراشدون ولا استحبها احد من ائمة المسلمين لا مالك ولا الثوري ولا الليث بن سعد ولا ابو حنيفة ولا الأوزاعي ولا الشافعي ولا احمد بن حنبل ولا إسحاق بن راهويه ولا امثال هؤلاء من أئمة المسلمين وعلماء المسلمين وان كان بعض المتأخرين من اتباع الائمة قد كانوا يأمرون ببعض ذلك ويروون فى ذلك احاديث وأثارا ويقولون ( ان بعض ذلك صحيح فهم مخطئون غالطون بلا ريب عند اهل
____________________
(25/312)
المعرفة بحقائق الامور وقد قال حرب الكرمانى فى مسائله سئل احمد بن حنبل عن هذا الحديث ( من وسع على اهله يوم عاشوراء ( فلم يره شيئا
وأعلى ما عندهم اثر يروى عن ابراهيم بن محمد بن المنتشر عن ابيه انه قال بلغنا ( انه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته ( قال سفيان بن عيينة جربناه منذ ستين عاما فوجدناه صحيحا وإبراهيم بن محمد كان من اهل الكوفة ولم يذكر ممن سمع هذا ولا عمن بلغه فلعل الذي قال هذا من اهل البدع الذين يبغضون عليا وأصحابه ويريدون ان يقابلوا الرافضة بالكذب مقابلة الفاسد بالفاسد والبدعة بالبدعة
وأما قول بن عيينة فانه لا حجة فيه فان الله سبحانه انعم عليه برزقه وليس فى انعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء وقد وسع الله على من هم افضل الخلق من المهاجرين والانصار ولم يكونوا يقصدون ان يوسعوا على اهليهم يوم عاشوراء بخصوصه وهذا كما ان كثيرا من الناس ينذرون نذرا لحاجة يطلبها فيقضي الله حاجته فيظن ان النذر كان السبب وقد ثبت
____________________
(25/313)
فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ( انه نهى عن النذر وقال انه لا يأتى بخير وانما يستخرج به من البخيل ( فمن ظن ان حاجته انما قضيت بالنذر فقد كذب على الله ورسوله والناس مأمورون بطاعة الله ورسوله واتباع دينه وسبيله واقتفاء هداه ودليله وعليهم ان يشكروا الله على ما عظمت به النعمة حيث بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وقد قال النبى في الحديث الصحيح ( ان خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدي محمد وشر الامور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (
وقد إتفق أهل المعرفة والتحقيق ان الرجل لو طار فى الهواء او مشى على الماء لم يتبع الا ان يكون موافقا لأمر الله ورسوله ومن رأى من رجل مكاشفة او تأثيرا فاتبعه فى خلاف الكتاب والسنة كان من جنس اتباع الدجال فان الدجال يقول للسماء امطري فتمطر ويقول للارض انبتى فتنبت ويقول للخربة اخرجي كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة ويقتل رجلا ثم يأمره ان يقوم فيقوم وهو مع هذا كافر ملعون عدو لله قال النبى ( ما من نبى الا قد انذر امته الدجال وانا انذركموه انه اعور
____________________
(25/314)
وان الله ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر ك ف ر يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ واعلموا ان احدا منكم لن يرى ربه حتى يموت ( وقد ثبت عنه فى الصحيح انه قال ( اذا قعد احدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع يقول ( اللهم انى اعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال (
وقال ( لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم انه رسول الله ( وقال صلى الله عليه وسلم ( يكون بين يدي الساعة كذابون دجالون يحدثونكم بما لم تسمعوا انتم ولا آباؤكم فاياكم واياهم ( وهؤلاء تنزل عليهم الشياطين وتوحي اليهم كما قال تعالى ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك اثيم يلقون السمع واكثرهم كاذبون ( ومن أول من ظهر من هؤلاء المختار بن ابى عبيد المتقدم ذكره
ومن لم يفرق بين الاحوال الشيطانية والاحوال الرحمانية كان بمنزلة من سوى بين محمد رسول الله وبين مسيلمة الكذاب فان مسيلمة كان له شيطان ينزل عليه ويوحي إليه
____________________
(25/315)
ومن علامات هؤلاء ان الاحوال اذا تنزلت عليهم وقت سماع المكاء والتصدية ازبدوا وارعدوا كالمصروع وتكلموا بكلام لا يفقه معناه فان الشياطين تتكلم على السنتهم كما تتكلم على لسان المصروع
والأصل فى هذا الباب أن يعلم الرجل ان اولياء الله هم الذين نعتهم الله في كتابه حيث قال ( الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون ) فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا وفى الحديث الصحيح عن النبى انه قال ( يقول الله تعالى من عادى لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة وما تقرب الي عبدي بمثل اداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى احبه فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشي بها فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشي ولئن سألنى لاعطينه ولان استعاذنى لاعيذنه وما ترددت فى شيء انا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولابد له منه (
ودين الاسلام مبني على اصلين على ان لا نعبد الا الله وان
____________________
(25/316)
نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع قال تعالى ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا ) فالعمل الصالح ما احبه الله ورسوله وهو المشروع المسنون ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول فى دعائه اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لاحد فيه شيئا
ولهذا كانت اصول الاسلام تدور على ثلاثة احاديث قول النبى ( انما الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى ( وقوله ( من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد ( وقوله ( الحلال بين والحرام بين وبين ذلك امور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع فى الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه الا وان لكل ملك حمى الا وان حمى الله محارمه الا وان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد كله الا وهي القلب ( والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(25/317)
وسئل عما في الخميس ونحو هـ من البدع
فأجاب اما بعد حمد الله والصلاة والسلام على محمد وصحبه وسلم فان الشيطان قد سول لكثير ممن يدعى الاسلام فيما يفعلونه في اواخر صوم النصارى وهو الخميس الحقير من الهدايا والافراح والنفقات وكسوة الاولاد وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين
وهذا الخميس الذي يكون فى آخر صوم النصارى فجميع ما يحدثه الانسان فيه من المنكرات فمن ذلك خروج النساء وتبخير القبور ووضع الثياب على السطح وكتابة الورق وإلصاقها بالابواب واتخاذه موسما لبيع الخمور وشرائها ورقى البخور مطلقا فى ذلك الوقت او غيره او قصد شراء البخور المرقى فان رقى البخور واتخاذه قربانا هو دين النصارى والصابئين وانما البخور طيب يتطيب بدخانه كما يتطيب بسائر الطيب وكذلك تخصيصه بطبخ الاطعمة وغير ذلك من صبغ البيض
____________________
(25/318)
وأما القمار بالبيض وبيعه لمن يقامر به او شراؤه من المقامرين فحكمه ظاهر
ومن ذلك ما يفعله النساء من اخذ ورق الزيتون او الاغتسال بمائه فان اصل ذلك ماء المعمودية ومن ذلك أيضا ترك الوظائف الراتبة من الصنائع والتجارات او حلق العلم فى ايام عيدهم وإتخاذه يوم راحة وفرحة وغير ذلك فان النبى نهاهم عن اليومين اللذين كانوا يلعبون فيهما فى الجاهلية ونهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالمكان اذا كان المشركون يعبدون فيه ويفعلون امورا يقشعر منها قلب المؤمن الذي لم يمت قلبه بل يعرف المعروف وينكر المنكر كما لا يتشبه بهم فلا يعان المسلم المتشبه بهم فى ذلك بل ينهى عن ذلك
فمن صنع دعوة مخالفة للعادة فى اعيادهم لم تجب دعوته ومن اهدى من المسلمين هدية في هذه الاعياد مخالفة للعادة فى سائر الاوقات لم تقبل هديته خصوصا ان كانت الهدية مما يستعان به على التشبه بهم مثل اهداء الشمع ونحوه في الميلاد واهداء البيض واللبن والغنم فى الخميس الصغير الذي فى اخر صومهم وهو الخميس الحقير ولا
____________________
(25/319)
يبايع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم فى العيد من الطعام واللباس والبخور لأن في ذلك اعانة على المنكر
وقال الشيخ رضي الله عنه
ونذكر أشياء من منكرات دين النصارى لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلى ببعضها وجهل كثير منهم انها من دين النصارى الملعون هو وأهله وقد بلغنى انهم يخرجون فى الخميس الحقير الذي قبل ذلك او السبت او غير ذلك إلى القبور وكذلك يبخرون في هذه الاوقات وهم يعتقدون ان في البخور بركة ودفع مضرة ويعدونه من القرابين مثل الذبائح ويرقونه بنحاس يضربونه كانه ناقوس صغير وبكلام مصنف ويصلبون على ابواب بيوتهم إلى غير ذلك من الامور المنكرة حتى ان الاسواق تبقى مملوءة اصوات النواقيس الصغار وكلام الرقايين من المنجمين وغيرهم بكلام اكثره باطل وفيه ما هو محرم او كفر
وقد القى إلى جماهير العامة او جميعهم الا من شاء الله واعنى
____________________
(25/320)
بالعامة هنا كل من لم يعلم حقيقة الاسلام فان كثيرا ممن ينسب إلى فقه ودين قد شاركهم فى ذلك القى اليهم ان هذا البخور المرقى ينفع ببركته من العين والسحر والادواء والهوام ويصورون صور الحيات والعقارب ويلصقونها فى بيوتهم زعما ان تلك الصور الملعون فاعلها التى لا تدخل الملائكة بيتا هي فيه تمنع الهوام وهو ضرب من طلاسم الصابئة ثم كثير منهم على ما بلغنى يصلب باب البيت ويخرج خلق عظيم في الخميس الحقير المتقدم وعلى هذا يبخرون القبور ويسمون هذا المتأخر الخميس الكبير وهو عند الله الخميس المهين الحقير هو واهله ومن يعظمه فان كل ما عظم بالباطل من مكان او زمان او حجر او شجر او بنية يجب قصد اهانته كما تهان الاوثان المعبودة وان كانت لولا عبادتها لكانت كسائر الاحجار
ومما يفعله الناس من المنكرات انهم يوظفون على الفلاحين وظائف اكثرها كرها من الغنم والدجاج واللبن والبيض يجتمع فيها تحريمان اكل مال المسلم والمعاهد بغير حق واقامة شعار النصارى ويجعلونه ميقاتا لإخراج الوكلاء على المزارع ويطبخون منه ويصطبغون فيه البيض وينفقون فيه النفقات الواسعة ويزينون أولادهم
____________________
(25/321)
إلى غير ذلك من الامور التى يقشعر منها قلب المؤمن الذي لم يمت قلبه بل يعرف المعروف وينكر المنكر وخلق كثير منهم يضعون ثيابهم تحت السماء رجاء لبركة نزول مريم عليها فهل يستريب من فى قلبه أدنى حبة من الايمان ان شريعة جاءت بما قدمنا بعضه من مخالفة اليهود والنصارى لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح واصل ذلك كله انما هو اختصاص اعياد الكفار بامر جديد او مشابهتهم فى بعض امورهم فيوم الخميس هو عندهم يوم عيد المائدة ويوم الاحد يسمونه عيد الفصح وعيد النور والعيد الكبير ولما كان عيدا صاروا يصنعون لاولادهم فيه البيض المصبوغ ونحوه لانهم فيه ياكلون ما يخرج من الحيوان من لحم ولبن وبيض اذ صومهم هو عن الحيوان وما يخرج منه وعامة هذه الاعمال المحكية عن النصارى وغيرها مما لم يحك قد زينها الشيطان لكثير ممن يدعى الاسلام وجعل لها في قلوبهم مكانة وحسن ظن وزادوا فى بعض ذلك ونقصوا وقدموا واخروا وكل ما خصت به هذه الايام من افعالهم وغيرها فليس للمسلم ان يشابههم فى أصله ولا فى وصفه ومن ذلك ايضا انهم يكسون بالحمرة دوابهم ويصبغون الاطعمة التى لا تكاد تفعل فى عيد الله ورسوله ويتهادون الهدايا التى تكون فى مثل مواسم الحج وعامتهم قد نسوا اصل ذلك
____________________
(25/322)
وبقى عادة مطردة وهذا كله تصديق قول النبى ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ( واذا كانت المتابعة فى القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح كانت محرمة فكيف اذا افضت إلى ما هو كفر بالله من التبرك بالصليب والتعمد فى المعمودية
وقول القائل المعبود واحد وان كانت الطرق مختلفة ونحو ذلك من الاقوال والافعال التى تتضمن إما كون الشريعة النصرانية او اليهودية المبدلين المنسوخين موصلة إلى الله واما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله او التدين بذلك او غير ذلك مما هو كفر بالله ورسوله وبالقرآن وبالاسلام بلا خلاف بين الامة واصل ذلك المشابهة والمشاركة
وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية وبعض حكم ما شرع الله لرسوله ( من ) مباينة الكفار ومخالفتهم فى عامة الامور لتكون المخالفة احسم لمادة الشر وابعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس فينبغي للمسلم اذا طلب منه أهله وأولاده شيئا من ذلك ان يحيلهم على ما عند الله ورسوله ويقضي لهم في عيد الله من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره فان لم يرضوا فلا حول ولا قوة الا
____________________
(25/323)
بالله ومن اغضب اهله لله أرضاه الله وأرضاهم
فليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك وفى الصحيحين عن اسامة بن زيد قال قال رسول الله ( ما تركت بعدي فتنة اضر على الرجال من النساء ( وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء ففى صحيح البخارى عن ابى بكرة قال قال رسول الله ( لا افلح قوم ولوا أمرهم امرأة ( وروى ايضا ( هلكت الرجال حين اطاعت النساء ( وقد قال لامهات المؤمنين لما راجعنه فى تقديم ابى بكر ( انكن صواحب يوسف ( يريد ان النساء من شأنهن مراجعة ذى اللب كما قال فى الحديث الاخر ( ما رايت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من احداكن ( ولما انشده الاعشى اعشى باهلة ابياته التى يقول فيها ( ** وهن شر غالب لمن غلب ** ( جعل النبى صلى الله عليه وسلم يرددها ويقول ( وهن شر غالب لمن غلب ( ولذلك إمتن الله سبحانه على زكريا حيث قال ( وأصلحنا له زوجه ) قال بعض العلماء ينبغي للرجل ان يجتهد إلى الله فى إصلاح زوجته
____________________
(25/324)
وقد قال ( من تشبه بقوم فهو منهم ( وقد روى البيهقى باسناد صحيح فى ( باب كراهية الدخول على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم ) عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار
قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( لا تعلموا رطانة الاعاجم ولا تدخلوا على المشركين فى كنائسهم يوم عيدهم فان السخط ينزل عليهم ( فهذا عمر قد نهى عن تعلم لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم فكيف من يفعل بعض أفعالهم او قصد ما هو من مقتضيات دينهم اليست موافقتهم فى العمل أعظم من موافقتهم فى اللغة او ليس عمل بعض اعمال عيدهم اعظم من مجرد الدخول عليهم فى عيدهم واذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم فى العمل او بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك
ثم قوله ( اجتنبوا اعداء الله في عيدهم ( أليس نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه فكيف بمن عمل عيدهم وقال بن عمر فى كلام له من صنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم وقال عمر اجتنبوا اعداء الله فى عيدهم ونص الامام احمد على انه
____________________
(25/325)
لا يجوز شهود اعياد اليهود والنصارى واحتج بقول الله تعالى ( والذين لا يشهدون الزور ) قال الشعانين واعيادهم وقال عبد الملك بن حبيب من اصحاب مالك فى كلام له قال فلا يعاونون على شيء من عيدهم لان ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين ان ينهوا المسلمين عن ذلك وهو قول مالك وغيره لم اعلم انه اختلف فيه
وأكل ذبائح اعيادهم داخل فى هذا الذي اجتمع على كراهيته بل هو عندي اشد وقد سئل ابو القاسم عن الركوب فى السفن التى تركب فيها النصارى إلى اعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذى إجتمعوا عليه وقد قال الله تعالى ( يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء بعضهم اولياء بعض ومن يتولهم منكم ) فيوافقهم ويعينهم ( فانه منهم )
وروى الامام أحمد بإسناد صحيح عن ابى موسى قال قلت لعمر ان لي كاتبا نصرانيا قال مالك قاتلك الله أما سمعت الله تعالى يقول ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء بعضهم اولياء بعض ) ألا اتخذت حنيفيا قال قلت يا امير المؤمنين لى
____________________
(25/326)
كتابته وله دينه قال لا اكرمهم اذ اهانهم الله ولا أعزهم اذ اذلهم الله ولا ادنيهم اذ اقصاهم الله وقال الله تعالى ( والذين لا يشهدون الزور ) قال مجاهد أعياد المشركين وكذلك قال الربيع بن انس وقال القاضي ابو يعلى ( مسألة فى النهى عن حضور اعياد المشركين ) وروى أبو الشيخ الاصبهانى بإسناده فى شروط اهل الذمة عن الضحاك فى قوله ( والذين لا يشهدون الزور ) قال عيد المشركين وبإسناده عن سنان عن الضحاك ( والذين لا يشهدون الزور ) كلام المشركين وروى بإسناده عن بن سلام عن عمرو بن مرة ( والذين لا يشهدون الزور ) لا يماكثون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم
وقد دل الكتاب وجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين التى اجمع اهل العلم عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم ايقاد النار والفرح بها من شعار المجوس عباد النيران والمسلم يجتهد في احياء السنن واماتة البدع ففي الصحيحين عن ابى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
____________________
(25/327)
عليه وسلم ( ان اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ( وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ( وقد امرنا الله تعالى ان نقول فى صلاتنا ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) والله سبحانه أعلم
____________________
(25/328)
وسئل
عمن يفعل من المسلمين مثل طعام النصارى في النيروز ويفعل سائر المواسم مثل الغطاس والميلاد وخميس العدس وسبت النور ومن يبيعهم شيئا يستعينون به على اعيادهم ايجوز للمسلمين ان يفعلوا شيئا من ذلك أم لا
فأجاب الحمد لله لا يحل للمسلمين ان يتشبهوا بهم فى شيء مما يختص باعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا إغتسال ولا ايقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة او عبادة او غير ذلك ولا يحل فعل وليمة ولا الاهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الاعياد ولا اظهار زينة
وبالجملة ليس لهم ان يخصوا اعيادهم بشيء من شعائرهم بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الايام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصهم
____________________
(25/329)
واما اذا اصابه المسلمون قصدا فقد كره ذلك طوائف من السلف والخلف وأما تخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور لما فيها من تعظيم شعائر الكفر وقال طائفة منهم من ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرا
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص من تأسى ببلاد الاعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة وفى سنن ابى داود عن ثابت بن الضحاك قال ( نذر رجل على عهد رسول الله ان ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله فقال اني نذرت ان انحر ابلا ببوانة فقال النبى هل كان فيها من وثن يعبد من دون الله من اوثان الجاهلية قال لا قال فهل كان فيها عيد من اعيادهم قال لا قال رسول الله أوف بنذرك فانه لا وفاء لنذر فى معصية الله ولا فيما لا يملك بن آدم ( فلم يأذن النبى لهذا الرجل ان يوفى بنذره مع ان الاصل فى الوفاء ان يكون واجبا حتى اخبره انه لم يكن بها عيد من اعياد الكفار وقال ( لا وفاء لنذر في
____________________
(25/330)
معصية الله (
فإذا كان الذبح بمكان كان فيه عيدهم معصية فكيف بمشاركتهم فى نفس العيد بل قد شرط عليهم امير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة وسائر ائمة المسلمين ان لا يظهروا اعيادهم فى دار المسلمين وانما يعملونها سرا فى مساكنهم فكيف اذا اظهرها المسلمون انفسهم حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( لا تتعلموا رطانة الاعاجم ولا تدخلوا على المشركين فى كنائسهم يوم عيدهم فان السخط ينزل عليهم (
وإذا كان الداخل لفرجة او غيرها منهيا عن ذلك لان السخط ينزل عليهم فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم مما هي من شعائر دينهم وقد قال غير واحد من السلف فى قوله تعالى ( والذين لا يشهدون الزور ) قالوا اعياد الكفار فاذا كان هذا في شهودها من غير فعل فكيف بالافعال التى هي من خصائصها
وقد روى عن النبى فى المسند والسنن انه قال ( من تشبه بقوم فهو منهم ( وفي لفظ ( ليس منا من تشبه بغيرنا ( وهو حديث جيد فاذا كان هذا في التشبه بهم وان كان
____________________
(25/331)
من العادات فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك
وقد كره جمهور الأئمة إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه أكل ما ذبحوه لأعيادهم وقرابينهم إدخالا له فيما أهل به لغير الله وما ذبح على النصب وكذلك نهوا عن معاونتهم على أعيادهم باهداء او مبايعة وقالوا انه لا يحل للمسلمين ان يبيعوا للنصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا دما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من دينهم لان ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين ان ينهوا المسلمين عن ذلك لان الله تعالى يقول ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان )
ثم ان المسلم لا يحل له ان يعينهم على شرب الخمور بعصرها او نحو ذلك فكيف على ما هو من شعائر الكفر وإذا كان لا يحل له ان يعينهم هو فكيف اذا كان هو الفاعل لذلك والله أعلم قاله أحمد بن تيمية
____________________
(25/332)
سئل شيخ الاسلام رحمه الله ورضي عنه عن العمرة هل هي واجبة وإن كان فما الدليل عليه فأجاب فصل
والعمرة فى وجوبها قولان للعلماء هما قولان في مذهب الشافعي وأحمد والمشهور عنهما وجوبها والقول الآخر لا تجب وهو مذهب أبي حنيفة ومالك
وهذا القول أرجح فإن الله إنما أوجب الحج بقوله ( ولله على الناس حج البيت ( لم يوجب العمرة وإنما أوجب إتمامهما فأوجب إتمامهما لمن شرع فيهما وفى الإبتداء إنما أوجب الحج وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب الحج ولأن العمرة ليس فيها جنس غير ما في الحج فإنها إحرام وإحلال وطواف بالبيت وبين
____________________
(26/5)
الصفا والمروة وهذا كله داخل في الحج
وإذا كان كذلك فأفعال الحج لم يفرض الله منها شيئا مرتين فلم يفرض وقتين ولا طوافين ولا سعيين ولا فرض الحج مرتين
وطواف الوداع ليس بركن بل هو واجب وليس هو من تمام الحج ولكن كل من خرج من مكة عليه أن يودع ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت كما وجب الدخول بالإحرام فى أحد قولي العلماء لسبب عارض لاكون ذلك واجبا بالإسلام كوجوب الحج
ولأن الصحابة المقيمين بمكة لم يكونوا يعتمرون بمكة لا على عهد النبى صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خلفائه بل لم يعتمر أحد عمرة بمكة على عهد النبى صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها لسبب عارض وقد بسطنا الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع
وسئل عمن حج ولم يعتمر وتركها إما عامدا أو ناسيا فهل تسقط
____________________
(26/6)
عنه بالحج أم لا وهل ذكر أحد فى ذلك خلافا أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين العمرة فى وجوبها قولان مشهوران للعلماء هما قولان للشافعي وروايتان عن أحمد والمشهور عن أصحابهما وجوبها ولكن القول بعدم وجوبها قول الأكثرين كمالك وأبي حنيفة وكلا القولين منقول عن بعض الصحابة
والأظهر أن العمرة ليست واجبة وأن من حج ولم يعتمر فلا شيء عليه سواء ترك العمرة عامدا أو ناسيا لأن الله إنما فرض فى كتابه حج البيت بقوله ( ولله على الناس حج البيت ( ولفظ الحج فى القرآن لا يتناول العمرة بل هو سبحانه إذا أراد العمرة ذكرها مع الحج كقوله ( واتموا الحج والعمرة لله ( وقوله ( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ( فلما أمر بالإتمام أمر بإتمام الحج والعمرة وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق الناس وآية آل عمران نزلت بعد ذلك سنة تسع أو عشر وفيها فرض الحج
ولهذا كان أصح القولين أن فرض الحج كان متأخرا ومن قال انه فرض سنة ست فإنه احتج بآية الإتمام وهو غلط فإن الآية إنما أمر فيها بإتمامهما لمن شرع فيهما لم يأمر فيها بابتداء الحج والعمرة والنبى صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة الحديبية قبل أن تنزل هذه
____________________
(26/7)
الآية ولم يكن فرض عليه لا حج ولا عمرة ثم لما صده المشركون أنزل الله هذه الآية فأمر فيها بإتمام الحج والعمرة وبين حكم المحصر الذي تعذر عليه الإتمام ولهذا اتفق الأئمة على أن الحج والعمرة يلزمان بالشروع فيجب إتمامهما وتنازعوا فى الصيام والصلاة والإعتكاف
وأيضا فإن العمرة ليس فيها جنس من العمل غير جنس الحج فإنها إحرام وطواف وسعي وإحلال وهذا كله موجود فى الحج والحج إنما فرضه الله مرة واحدة لم يفرضه مرتين ولا فرض شيئا من فرائضه مرتين لم يفرض فيه وقوفين ولا طوافين بل الفرض طواف الإفاضة وأما طواف الوداع فليس من الحج وإنما هو لمن أراد الخروج من مكة ولهذا لا يطوف من أقام بمكة وليس فرضا على كل أحد بل يسقط عن الحائض ولو لم يفعله لأجزأه دم ولم يبطل الحج بتركه بخلاف طواف الفرض والوقوف وكذلك السعي لا يجب إلا مرة واحدة والرمي يوم النحر لا يجب إلا مرة واحدة ورمي كل جمرة فى كل يوم لا يجب إلا مرة واحدة وكذلك الحلق والتقصير لا يجب إلا مرة واحدة
فإذا كانت العمرة ليس فيها عمل غير أعمال الحج وأعمال الحج إنما فرضها الله مرة لا مرتين علم أن الله لم يفرض العمرة
____________________
(26/8)
والحديث المأثور في ( أن العمرة هي الحج الأصغر ( قد احتج به بعض من أوجب العمرة وهو إنما يدل على أنها لا تجب لأن هذا الحديث دال على حجين أكبر وأصغر كما دل على ذلك القرآن فى قوله ( يوم الحج الأكبر ( واذا كان كذلك فلو أوجبناها لأوجبنا حجين أكبر وأصغر والله تعالى لم يفرض حجين وإنما أوجب حجا واحدا والحج المطلق إنما هو الحج الأكبر وهو الذي فرضه الله على عباده وجعل له وقتا معلوما لا يكون فى غيره كما قال ( يوم الحج الأكبر ( بخلاف العمرة فإنها لا تختص بوقت بعينه بل تفعل فى سائر شهور العام
ولأن العمرة مع الحج كالوضوء مع الغسل والمغتسل للجنابة يكفيه الغسل ولا يجب عليه الوضوء عند جمهور العلماء فكذلك الحج فإنهما عبادتان من جنس واحد صغرى وكبرى فإذا فعل الكبرى لم يجب عليه فعل الصغرى ولكن فعل الصغري أفضل وأكمل كما أن الوضوء مع الغسل أفضل وأكمل
وهكذا فعل النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكنه أمرهم بأمر التمتع وقال ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ( كما قد بسط فى موضع آخر والله أعلم
____________________
(26/9)
وسئل عن امرأة حجت حجة الإسلام وما اعتمرت وفى العام الثاني قصدت أن تحج عن بنتها وكانت بالأول أحرمت بحج وعمرة فهل عليها عمرة أخرى
فأجاب لا عمرة عليها لما مضي وأما إذا اعتمرت فى هذا العام عن نفسها غير العمرة عن بنتها جاز ذلك وسئل رحمه الله ** ماذا يقول أهل العلم فى رجل ** آتاه ذو العرش مالا حج واعتمرا ** ** فهزه الشوق نحو المصطفى طربا ** أترون الحج أفضل أم إيثاره الفقرا ** ** أم حجه عن أبيه ذاك أفضل أم ** ماذا الذي يا سادتى ظهرا
____________________
(26/10)
فأفتوا محبا لكم فديتكمو ** وذكركم دأبه إن غاب أو حضرا ** فأجاب رضي الله عنه ** نقول فيه بأن الحج أفضل من ** فعل التصدق والإعطاء للفقراء ** ** والحج عن والديه فيه برهما ** والأم أسبق فى البر الذي ذكرا ** لكن إذا الفرض خص الأب كان إذا ** هو المقدم فيما يمنع الضررا ** كما إذا كان محتاجا إلى صلة وأمه قد كفاها من بريء البشرا ** هذا جوابك يا هذا موازنة ** وليس مفتيك معدودا من الشعراء **
____________________
(26/11)
وسئل رحمه الله
عن امرأة تملك زيادة عن نحو ألف درهم ونوت أن تهب ثيابها لبنتها فهل الأفضل أن تبقي قماشها لبنتها أو تحج بها
فأجاب الحمد لله نعم تحج بهذا المال وهو ألف درهم ونحوها وتزوج البنت بالباقي إن شاءت فإن الحج فريضة مفروضة عليها إذا كانت تستطيع إليه سبيلا ومن لها هذا المال تستطيع السبيل
وسئل
عن شيخ كبير وقد انحلت أعضاؤه لا يستطيع أن يأكل أو يشرب ولا يتحرك هل يجوز أن يستأجر من يحج عنه الفرض
فأجاب أما الحج فإذا لم يستطع الركوب على الدابة فإنه يستنيب من يحج عنه
____________________
(26/12)
وسئل هل يجوز أن تحج المرأة بلا محرم
فأجاب إن كانت من القواعد اللاتى لم يحضن وقد يئست من النكاح ولا محرم لها فإنه يجوز فى أحد قولي العلماء أن تحج مع من تأمنه وهو إحدى الروايتين عن أحمد ومذهب مالك والشافعي
وقال رحمه الله فصل
يجوز للمرأة أن تحج عن إمرأة أخرى باتفاق العلماء سواء كانت بنتها أو غير بنتها وكذلك يجوز أن تحج المرأة عن الرجل عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم المرأة الخثعمية أن تحج عن أبيها لما قالت يا رسول الله إن فريضة
____________________
(26/13)
الله فى الحج على عباده أدركت أبي وهو شيخ كبير فأمرها النبى صلى الله عليه وسلم أن تحج عن أبيها مع أن إحرام الرجل أكمل من إحرامها والله أعلم
وقال رحمه الله فصل
فى الحج عن الميت أو المعضوب بمال يأخذه إما نفقة فإنه جائز بالإتفاق أو بالإجارة أو بالجعالة على نزاع بين الفقهاء فى ذلك سواء كان المال المحجوج به موصى به لمعين أو عين مطلق أو مبذول أو مخرج من صلب التركة فمن أصحاب الشافعي من استحب ذلك وقال هو من أطيب المكاسب لأنه يعمل صالحا ويأكل طيبا والمنصوص عن أحمد أنه قال لا أعرف في السلف من كان يعمل هذا وعده بدعة وكرهه ولفظ نصه مكتوب في غير هذا الموضع ولم يكره إلا الإجارة والجعالة قلت حقيقة الأمر فى ذلك أن الحاج يستحب له ذلك إذا كان مقصوده أحد شيئين الإحسان إلى المحجوج عنه أو نفس
____________________
(26/14)
الحج لنفسه
وذلك أن الحج عن الميت إن كان فرضا فذمته متعلقة به فالحج عنه إحسان إليه بإبراء ذمته بمنزلة قضاء دينه كما قال النبى صلى الله عليه وسلم للخثعمية ( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزئ عنه قالت نعم قال فالله أحق بالقضاء ( وكذلك ذكر هذا المعنى في عدة أحاديث بين أن الله لرحمته وكرمه أحق بأن يقبل قضاء الدين عمن قضي عنه فإذا كان مقصود الحاج قضاء هذا الدين الواجب عن هذا فهذا محسن إليه والله يحب المحسنين فيكون مستحبا وهذا غالبا إنما يكون لسبب يبعثه على الإحسان إليه مثل رحم بينهما أو مودة وصداقة أو إحسان له عليه يجزيه به ويأخذ من المال ما يستعين به على أداء الحج عنه وعلامة ذلك أن يطلب مقدار كفاية حجه ولهذا جوزنا نفقة الحج بلا نزاع وكذلك لو وصى بحجة مستحبة وأحب إيصال ثوابها إليه
والموضع الثاني إذا كان الرجل مؤثرا أن يحج محبة للحج وشوقا إلى المشاعر وهو عاجز فيستعين بالمال المحجوج به على الحج وهذا قد يعطي المال ليحج به لا عن أحد كما يعطي المجاهد المال ليغزو به فلا شبهة فيه فيكون لهذا أجر الحج ببدنه ولهذا أجر الحج بماله كما في الجهاد فإنه من جهز غازيا فقد غزا وقد يعطي
____________________
(26/15)
المال ليحج به عن غيره فيكون مقصود المعطي الحج عن المعطي عنه ومقصود الحاج ما يحصل له من الأجر بنفس الحج لا بنفس الإحسان إلى الغير
وهذا يتوجه على أصل أبي حنيفة حيث قال الحج يقع عن الحاج وللمعطي أجر الإنفاق كالجهاد وعلى أصلنا فإن المصلي والصائم والمتصدق عن الغير والحاج عن الغير له قصد صالح فى ذلك العمل وقصد صالح فى عمله عن الغير وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد قال ( الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين ( فجعل للوكيل مثل الموكل في الصدقة وهو نائب وقال ( إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت وللزوج أجره بما اكتسب وللخادم مثل ذلك ( فكذلك النائب في الحج وسائر ما يقبل النيابة من الأعمال له أجر وللمستنيب أجر
وهذا أيضا إنما يأخذ ما ينفقه فى الحج كما لا يأخذ إلا ما ينفقه فى الغزو فهاتان صورتان مستحبتان وهما الجائزتان من أن يأخذ نفقة الحج ويرد الفضل وأما إذا كان قصده الإكتساب بذلك وهو أن يستفضل مالا فهذا صورة الإجارة والجعالة والصواب أن هذا لا يستحب وإن قيل بجوازه لأن العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صالح فى نفسه إذا لم يقصد
____________________
(26/16)
به إلا المال فيكون من نوع المباحات ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق
ونحن إذا جوزنا الإجارة والجعالة على أعمال البر التى يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب لم نجعلها في هذه الحال إلا بمنزلة المباحات لا نجعلها من ( باب القرب ( فإن الأقسام ثلاثة إما أن يعاقب على العمل بهذه النية أو يثاب أو لا يثاب ولا يعاقب
وكذلك المال المأخوذ إما منهي عنه وإما مستحب وإما مباح فهذا هذا والله أعلم لكن قد رجحت الإجارة على إذا كان محتاجا إلى ذلك المال للنفقة مدة الحج وللنفقة بعد رجوعه أو قضاء دينه فيقصد إقامة النفقة وقضاء الدين الواجب عليه فهنا تصير الأقسام ثلاثة إما أن يقصد الحج والإحسان فقط أو يقصد النفقة المشروعة له فقط أو يقصد كلاهما فمتى قصد الأول فهو حسن وإن قصدهما معا فهو حسن إن شاء الله لأنهما مقصودان صالحان وأما إن لم يقصد إلا الكسب لنفقته فهذا فيه نظر والمسألة مشروحة في مواضع
____________________
(26/17)
وسئل
عن امرأة حجت وقصدت أن تحج عن ميتة بأجرة فهل لها أن تحج
فأجاب يجوز أن تحج عن الميت بمال يؤخذ على وجه النيابة بالاتفاق وإما على وجه الإجارة ففيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد
إحداهما يجوز وهو قول الشافعي
والثاني لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة ثم هذه الحاجة عن الميت إن كان قصدها الحج أو نفع الميت كان لها فى ذلك أجر وثواب وإن كان ليس مقصودها إلا أخذ الأجرة فمالها فى الآخرة من خلاق
وسئل عمن حج عن الغير ليوفي
____________________
(26/18)
دينه
فأجاب أما الحاج عن الغير لأن يوفي دينه فقد اختلف فيها العلماء أيهما أفضل والأصح أن الأفضل الترك فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئا من النفقة ليس من أعمال السلف حتى قال الإمام أحمد ما أعلم أحدا كان يحج عن أحد بشيء ولو كان هذا عملا صالحا لكانوا إليه مبادرين والإرتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين أعنى اذا كان إنما مقصوده بالعمل اكتساب المال وهذا المدين يأخذ من الزكاة ما يوفي به دينه خير له من أن يقصد أن يحج ليأخذ دراهم يوفي بها دينه ولا يستحب للرجل أن يأخذ ما لا يحج به عن غيره إلا لأحد رجلين
إما رجل يحب الحج ورؤية المشاعر وهو عاجز فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح ويؤدي به عن أخيه فريضة الحج
أو رجل يحب أن يبرئ ذمة الميت عن الحج إما لصلة بينهما أو لرحمة عامة بالمؤمنين ونحو ذلك فيأخذ ما يأخذ ليؤدي به ذلك وجماع هذا أن المستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ وهذا فى جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح فمن ارتزق ليتعلم أو ليعلم أو ليجاهد فحسن كما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( مثل الذين يغزون من أمتى ويأخذون أجورهم مثل أم موسى ترضع ابنها وتأخذ أجرها ( شبههم بمن يفعل الفعل
____________________
(26/19)
لرغبة فيه كرغبة أم موسى فى الإرضاع بخلاف الظئر المستأجر على الرضاع اذا كانت أجنبية وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق فهذا من أعمال الدنيا
ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة والأشبه أن هذا ليس له فى الآخرة من خلاق كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها
وسئل رحمه الله
عن رجل عليه دين لشخص غائب ببغداد والمديون مقيم بمصر وهو معسر وقصد شخص أن يحج به من عنده فهل يجوز له أن يحج وعليه الدين
فأجاب نعم يجوز أن يحج المدين المعسر اذا حججه غيره ولم يكن فى ذلك إضاعة لحق الدين إما لكونه عاجزا عن الكسب وإما لكون الغريم غائبا لا يمكن توفيته من الكسب والله أعلم
____________________
(26/20)
وسئل رحمه الله
عن رجل خرج حاجا إلى بيت الله الحرام بالزاد والراحلة فأدركه الموت فى الطريق فهل يسقط عنه الفرض أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين لا يسقط عنه بذلك ثم إن كان خرج إلى الحج حين وجب عليه من غير تفريط مات غير عاص وإن فرط بعد الوجوب مات عاصيا ويحج عنه من حيث بلغ وإن كان قد خلف مالا فالنفقة من ذلك واجبة فى أظهر قولي العلماء
وتفصيل ذلك أنه إذا استطاع الحج بالزاد والراحلة وجب عليه الحج بالإجماع فإن حج عقب ذلك بحسب الإمكان ومات فى الطريق وجب أجره على الله ومات وهو غير عاص وله أجر نيته وقصده
فإن كان فرط ثم خرج بعد ذلك ومات قبل أداء الحج مات عاصيا آثما وله أجر ما فعله ولم يسقط عنه الفرض بذلك بل الحج باق فى ذمته ويحج عنه من حيث بلغ والله أعلم
____________________
(26/21)
& باب الإحرام سئل شيخ الإسلام عما حكى أصحابنا رحمهم الله فى الإحرام هل هو ركن أم لا ثم أنهم ذكروا فى موضع آخر أن الإحرام عبارة عن نية الحج فكيف يتصور الخلاف فى النية مع أنه لا يتصور وجود الحج الشرعي بدونها أبن لنا عن هذا مثابا معظم الأجر
فأجاب الحمد لله رب العالمين الجواب من طريقين إجمالي وتفصيلي
أما الإجمالي فنقول أما النية للحج والعمرة فلا خلاف بين أصحابنا وسائر المسلمين أن الحج لا يصح إلا بها إما من الحاج نفسه وإما من يحج به كما يحج ولي الصبي ولو عمل الرجل أعمال الحج من غير قصد لم يصح الحج كما لا تصح الصلاة والصوم بغير نية وسواء قيل إن الحج ينعقد بمجرد النية أو لا ينعقد إلا بها وبشيء آخر من قول أو عمل من تلبية أو تقليد هدي على الخلاف
____________________
(26/22)
المشهور بين العلماء فى ذلك
وسواء قلنا إن الإحرام ركن أم ليس بركن وهذا أمر لا يقبل الخلاف فإن العبادات المقصودة يمتنع أن تكون هي العبادات المأمور بها بدون النية
وأما انعقاد الإحرام بمجرد النية ففيه خلاف فى المذهب وغيره كما سنذكره إن شاء الله تعالى
وفرق بين النية المشترطة للحج والنية التى ينعقد بها الإحرام فإن الرجل يمكنه أن ينوي الحج من حين يخرج من بيته كما هو الواقع ويقف ويطوف مستصحبا لهذه النية ذكرا وحكما وإن لم يقصد الإحرام ولا يخطر بقلبه
وأصل ذلك أن النية المعهودة فى العبادات تشتمل على أمرين على قصد العبادة وقصد المعبود وقصد المعبود هو الأصل الذي دل عليه قوله سبحانه ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( وقول النبى ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (
فإنه صلى الله عليه وسلم ميز بين مقصود ومقصود وهذا
____________________
(26/23)
المقصود فى الجملة لابد منه فى كل فعل اختياري قال النبى صلى الله عليه وسلم ( أصدق الأسماء حارث وهمام ( فإن كل بشر بل كل حيوان لابد له من همة وهو الإرادة ومن حرث وهو العمل إذ من لوازم الحيوان أنه يتحرك بإرادته ثم ذلك الذي يقصده هو غايته وإن كان قد يحدث له بعد ذلك القصد قصد آخر وإنما تطمئن النفوس بوصولها إلى مقصودها
وأما قصد العبادة فقصد العمل الخاص فإن من أراد الله والدار الآخرة بعمله فقد يريده بصلاة وقد يريده بحج وكذلك من قصد طاعته بامتثال ما أمره به فقد أطاعه فى هذا العمل وقد يقصد طاعته فى هذا العمل فهذا القصد الثاني مثل قصد الصلاة دون الصوم ثم صلاة الظهر دون صلاة العصر ثم الفرض دون النفل وهذه النية التى تذكر غالبا فى كتب الفقه المتأخرة وكل واحدة من النيتين فرض فى الجملة
أما الأولى فبها يتميز من يعبد الله مخلصا له الدين ممن يعبد الطاغوت أو يشرك بعبادة ربه ومن يريد حرث الآخرة ممن يريد حرث الدنيا وهو الدين الخالص لله الذي تشترك فيه جميع الشرائع الذي نهى الأنبياء عن التفرق فيه كما قال تعالى ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
____________________
(26/24)
وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (
ولهذا كان دين الأنبياء واحدا وإن كانت شرائعهم متنوعة قال تعالى ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ( وقال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( وقال تعالى ( ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ( وقال تعالى ( وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ( وقال تعالى ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم (
وأما النية الثانية فبها تتميز أنواع العبادات وأجناس الشرائع فيتميز المصلي من الحاج والصائم ويتميز من يصلي الظهر ويصوم قضاء رمضان ممن يصلي العصر ويصوم شيئا من شوال ويتميز من يتصدق عن زكاة ماله ممن يتصدق من نذر عليه أو كفارة
وأصناف العبادات مما تتنوع فيه الشرائع إذ الدين لا قوام له إلا الشريعة إذ أعمال القلوب لا تتم إلا بأعمال الأبدان كما أن الروح لا قوام لها إلا بالبدن أعني ما دامت في الدنيا
وكما أن معاني الكلام لا تتم إلا بالألفاظ وبمجموع اللفظ والمعنى يصير الكلام كلاما وإن كان المعنى لا يختلف باختلاف الأمم واللفظ
____________________
(26/25)
يتنوع بتنوع الأمم ثم قد يكون لغة بعض الأمم أبلغ فى إكمال المعنى من بعض وبعض ألفاظ اللغة أبلغ تماما للمعنى من بعض
فالدين العام يتعلق بقصد القلب ثم لابد من عمل بدني يتم به القصد ويكمل فتنوعت الأعمال البدنية كذلك وتنوعت لما اقتضته مشيئة الله ورحمته لعباده وبحكمته فى أمره وإنما وجب كل واحد من النيتين لأن الله فرض علينا أن نقيم دينه بالشريعة التى بعث بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إذ لا يقبل منا أن نعبده بشريعة غيرها
والأعمال المشروعة مؤلفة من أقوال وأعمال مخصوصة قد يعتبر لها أوقات وأمكنة مخصوصة وصفات كلما كان فرضا علينا أن نعبد الله وأن تكون العبادة على وصف معين كان فرضا علينا أن نقصده القصد الذي نكون به عابدين والقصد الذي به نكون عابدين بنفس العمل الذي أمر به
ثم اعلم أن النيات قد تحصل جملة وقد تحصل تفصيلا وقد تحصل بطريق التلازم وقد تتنوع النيات حتى يكون بعضها أفضل من بعض بحيث يسقط الفرض بأدناها لكن الفضل لمن أتى بالأعلى وقد يكون الشيء مقصودا بالقصد الثاني دون الأول ثم قد يحضر الإنسان القصد الثاني ويذهل عن القصد الأول فإن الإنسان فى
____________________
(26/26)
قصده العبادة قد يريد وجه الله من حيث الجملة أو يريد طاعته أو عبادته أو التقرب إليه أو يريد ثوابه من غير أن يستشعر ثوابا معينا أو يرجو ثوابا معينا فى الآخرة أو في الدنيا أو فيهما أو يخاف عقابا إما مجملا وإما مفصلا وتفاصيل هذه النيات باب واسع
وهو بهذا الإعتبار قد لا يكون له غرض فى نوع من الأعمال البدنية دون نوع إلا باعتبار تقييس ذلك نية نوع العمل فإن من قصد الحج قد يكون قد استشعر الحج من حيث الجملة وهو أنه قصد مكان معين فيقصد ما استشعره من غير علم ولا قصد تفصيل أعماله من وقوف وطواف وترك محظورات وغير ذلك بل إنما تصير تفاصيل أعمال الحج مقصودة إذا استشعرها وقد يكون عالما بجنس أعمال الحج وأنها وقوف وطواف ونحو ذلك لأنها قد وصفت له وإن لم يعلم عين المكان وصورة الطواف فينوي ذلك وقد يعلم ذلك كله فينوي ما قد علمه
وكذلك الكافر اذا أسلم وقلنا له قد وجبت عليك الصلاة فإنه يلتزمها وينويها لاستشعاره لها جملة ولم يعلم صفتها بل كل من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم إيمانا راسخا فإن إيمانه متضمن لتصديقه فيما أخبره وطاعته فيما أمره وإن لم يعلم ولم يقصد أنواع
____________________
(26/27)
الأخبار والأعمال ثم عند العلم بالتفصيل إما أن يصدق ويطيع فيصير من الذين آمنوا وعملوا الصالحات أو يخالف ذلك فيصير إما منافقا وإما عاصيا فاسقا أو غير ذلك
وهذا يبين لك أن الأقسام ثلاثة رجل يقصد عبادة الله وطاعته ولم يقصد العمل المعين المأمور به كرجل له أموال ينفق منها على السائل والمحروم مريدا بذلك وجه الله من غير أن يخطر بباله لا زكاة ولا كفارة ولا وضعها فى الأصناف الثمانية دون بعض فهذا يثاب على ما يعمله لله سبحانه لكن بقي فى عهدة الأمر بالواجبات
ورجل قد يقصد العمل المعين من غير أن يقصد طاعة الله وعبادته كمن يدفع زكاة ماله إلى السلطان لئلا يضرب عنقه أو ينقص حرمته أو يأخذ ماله أو قام يصلي خوفا على دمه أو ماله أو عرضه وهذه حال المنافقين عموما والمرائين فى بعض الأعمال خصوصا كما قال تعالى ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ( وقال ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون ( وقال تعالى ( ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ( والقسم الثالث أن يقصد فعل ما أمر به من ذلك العمل المعين
____________________
(26/28)
لله سبحانه واتفق الفقهاء على أن نية نوع العمل الواجب لابد منها فى الجملة فلا بد أن يقصد الصلاة أو الحج أو الصيام ولهم فى فروع ذلك تفصيل وخلاف ليس هذا موضعه
واختلفوا فى النية الأولى وهي نية الإضافة إلى الله تعالى من أصحابنا من قال لا تجب نية الإضافة إلى الله تعالى ومنهم من فرق بين العبادات المقصودة كالصلاة والحج والصوم وغير المقصودة كالطهارة والتيمم وكذلك أصحاب الشافعي لم يعتبروا نية الإضافة إلى الله تعالى فى أصح الوجهين
وذلك لأن نفس نية فعل العبادة تتضمن الإضافة كما تتضمن عدد الركعات فإن الصلاة لا تشرع إلا لله تعالى كما أن صلاة الظهر في الحضر لا تكون إلا أربع ركعات فلهذا لم تجب نية الإضافة
وأيضا النية الحكمية تقوم مقام النية المستحضرة وإن كانت النية المستحضرة أكمل وأفضل فإذا نوى العبد صلاة الظهر فى أول الأمر أجزاه استصحاب النية حكما فكذلك العبد المؤمن الذي دخل الإيمان فى قلبه قد نوى نية عامة أن عباداته هي له لا لغيره فإنه إن لم يكن كذلك كان منافقا
فإذا نوي عبادة معينة من صلاة وصوم كان مستصحبا لحكم تلك
____________________
(26/29)
النية الشاملة لجميع أنواع العبادات كما أنه فى الصلاة اذا نوى الركوع والسجود فى أثناء الصلاة كان مستصحبا لحكم نية الظهر أو العصر الشاملة لجميع أعمال الصلاة ثم إن أتى بما ينقض علم تلك أفسدها فإنه يكون فاسخا لها كما لو فسخ نية الصلاة فى أثنائها فإذا قام يصلي لئلا يضرب أو يؤخذ ماله أو أدى الزكاة لئلا يضرب كان قد فسخ تلك النية الإيمانية
فلهذا كان الصحيح عندنا وعند أكثر العلماء أن هذه العبادة فاسدة لا يسقط الفرض بهذه النية وقلنا إن عبادات المرائين الواجبة باطلة وأن السلطان اذا أخذ الزكاة من الممتنع من أدائها لم يجزه فى الباطن على أصح الوجهين لكن لما كان غالب المسلمين يولد بين أبوين مسلمين يصيرون مسلمين إسلاما حكميا من غير أن يوجد منهم إيمان بالفعل ثم اذا بلغوا فمنهم من يرزق الإيمان الفعلي فيؤدي الفرائض ومنهم من يفعل ما يفعله بحكم العادة المحضة والمتابعة لأقاربه وأهل بلده ونحو ذلك مثل أن يؤدي الزكاة لأن العادة أن السلطان يأخذ الكلف ولم يستشعر وجوبها عليه لا جملة ولا تفصيلا فلا فرق عنده بين الكلف المبتدعة وبين الزكاة المشروعة أو من يخرج من اهل مكة [ كل ] سنة إلى عرفات لأن العادة جارية بذلك من غير استشعار أن هذا عبادة لله لا جملة ولا تفصيلا أو يقاتل الكفار
____________________
(26/30)
لأن قومه قاتلوهم فقاتل تبعا لقومه ونحو ذلك فهؤلاء لا تصح عبادتهم بلا تردد بل نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة قاضية بأن هذه الأعمال لا تسقط الفرض فلا يظن ظان أن قول من قال من الفقهاء أن نية الإضافة ليست
واجبة أراد مثل هؤلاء وإنما اكتفى فيها بالنية الحكمية كما قدمناه ففرق بين من لم يرد الله بعمله لا جملة ولا تفصيلا وبين من أراده جملة وذهل عن إرادته بالعمل المعين تفصيلا
فإن أحدا من الأمة لا يقول إن الأول عابد لله ولا مؤد لما أمر به أصلا وهذا ظاهر ومن أصحابنا من اشترط هذه النية عند العمل المعين فقال النية الواجبة في الصلاة أن يعتقد أداء فعل ما افترض الله عليه من فعل الصلاة بعينها وامتثال أمره الواجب من غير رياء ولا سمعة ولفظ بعضهم اتباع أمره وإخلاص العمل له وعلى هذا يدل كلام أكثرهم فإنهم يستدلون على النية الواجبة فى الطهارة والصلاة ونحوهما بقوله ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( قالوا وإخلاص الدين هو النية ومن اغتسل للتبرد أو التنظف لم يخلص الدين لله ويستدلون بقوله ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب ( قالوا ومن اغتسل للتبرد والتنظف لم يرد حرث الآخرة
____________________
(26/31)
فيجب أن لا يخلص له
ومعلوم أن هاتين الآيتين تدلان على وجوب العمل لله والدار الآخرة أبلغ من دلالتهما على وجوب نية العمل المعين لكن من نصر الوجه الأول قد يقول نية النوع مستلزمة لنية الجنس فإن من نوى العمل المعين فقد نوى العمل لله بحكم إيمانه كما تقدم ومن نصر الثاني يقول النية الواجبة لا تتقدم على العمل بعشرين سنة بل إنما تقدم عليه إما بالزمن اليسير وإما من أول وقت الوجوب على اختلاف الوجهين
وايضا فالدليل الظاهر والقياس يوجب وجود النية المحضرة فى جميع العبادة وإنما عفي عن استصحابها في أثناء العبادة لما فى ذلك من المشقة ولا مشقة فى نية العبادة لله عند فعل كل عبادة
وأيضا فغالب الناس إسلامهم حكمي وإنما يدخل فى قلوبهم فى أثناء الامر ان دخل فان لم توجب عليهم هذه النية لم يقصدوها فتخلو قلوبهم منها فيصيرون منافقين إنما يعملون الأعمال عادة ومتابعة كما هو الواقع فى كثير من الناس
____________________
(26/32)
وسئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه عن ( التمتع والقران ( أيهما أفضل
فأجاب الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
لا يختلف مذهب أحمد أنه اذا قدم فى أشهر الحج ولم يسق الهدي فالتمتع الخاص أفضل له وهو أن يتمتع بعمرة فيحل منها اذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يحرم بالحج
وأما اذا ساق الهدي فنقل المروذي عنه أن القران أفضل فمن أصحابنا من جعل هذا رواية ثانية عن أحمد وجعلوا فيها إذا ساق الهدي هل الأفضل التمتع أو القران على روايتين
وهذه طريقة المتأخرين الذين قالوا أن النبى صلى الله عليه
____________________
(26/33)
وسلم حج متمتعا فإنه على هذا القول يكون النبي صلى الله عليه وسلم تمتع وساق الهدي وأمر أصحابه بالتمتع فلا يبقى لاختيار القران وجه
ولكن المنصوص عن أحمد الذي عليه أئمة أصحابه المتقدمون أنه حج قارنا ولكن أمر أصحابه بالتمتع من لم يسق الهدي أن يحل من إحرامه ويجعلها متعة وقال ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة (
وعلى هذا القول فهذا من باب المطلق والمقيد فإن أحمد لم ينص على أنه من ساق الهدي فالتمتع أفضل له بل إنما اختار التمتع لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه به ولقوله ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ( والنبى صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالتحلل من لم يسق الهدي وإنما اختار أن يجعلها عمرة ولا يحل من لم يختر أن يجعلها عمرة مع سوق الهدي
وأيضا فإن أحمد لم يقل أن النبى صلى الله عليه وسلم حج متمتعا التمتع الخاص بل نص على أن النبى صلى الله عليه وسلم حج قارنا وقال لا أشك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قارنا والتمتع أحب الي لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه
____________________
(26/34)
وسلم فإنه قال ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ( فكلامه إنما كان في أيهما أفضل أن يسوق ويقرن أو يتمتع ولا يسوق لأنه إذا ساق الهدي لم يجز له أن يتحلل فهذا مما يختلف فيه الإجتهاد لأن قول النبى صلى الله عليه وسلم ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ( هل كان لأن التحلل بعمرة أفضل من القران أم لا موافقة لأصحابه لما أمرهم بالتحلل فشق ذلك عليهم فهذا مورد اجتهاد ولم يختلف كلام أحمد أن من لم يسق الهدي وقدم فى أشهر الحج فالتمتع أفضل له
وأيضا فإنه إذا ساق الهدي وقدم فى العشر لم يجز له التحلل عند أحمد وأبي حنيفة وغيرهما حتى ينحر الهدي يوم النحر سواء كان متمتعا التمتع الخاص أو قارنا وحينئذ فلا فرق بين المتمتع والقارن عند أحمد إلا فى شيئين
أحدهما أن القارن يكون قد أحرم بالحج قبل الطواف سواء أحرم بالحج مع العمرة أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج بأنه في كلاهما قارن باتفاق الأئمة
وأما المتمتع التمتع الخاص فإنه يؤخر إحرامه بالحج إلى ما بعد
____________________
(26/35)
قضاء العمرة ومعلوم حينئذ أن تقديم الإحرام بالحج أفضل من تأخيره فيكون القران أفضل لمن ساق الهدى
الثاني أن القارن عنده لا يطوف بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة كالمفرد وأما المتمتع فقد اختار له أن يسعي سعيين ونص على أنه يجزيه سعي واحد كالمفرد والقارن وحينئذ فيكون قد تميز بسعي زائد مستحب لكن هو أيضا يستحب للمتمتع أن يطوف أولا بعد عرفة طواف القدوم فيكون المتمتع قد طاف بعد عرفة مرتين وسعى سعيا ثانيا
وأما القارن فإنه يعمل ما يعمله المفرد لكن كل هذا فيه نزاع وفى مذهبه قول آخر أن السعي الثاني واجب على المتمتع
وقول أن القارن يطوف طوافين ويسعي سعيين كمذهب أبي حنيفة
وقول إن المتمتع لا يستحب له طواف القدوم وهذا هو الصواب بل ولا يستحب له سعي ثان فإن الصحابة الذين حجوا مع النبى صلى الله عليه وسلم لم يسعوا إلا مرة واحدة وبهذا يظهر فضل القارن اذا ساق الهدي على المتمتع الغير السائق
وأما إذا حصل فى عمل المتمتع زيادة سعي واجب أو مستحب
____________________
(26/36)
أو زيادة طواف مستحب فقد يقال أنه أفضل من هذا الوجه لكن هو خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأيضا فلو سلم استحباب ذلك لم يسلم أن كلما زاد عملا كان أفضل بل الأفضل قد يكون هو الأيسر كما أن التمتع أفضل من الإفراد وهو أيسر والفطر فى السفر أفضل وهو أيسر وكذلك القصر أفضل من التربيع وهو أيسر
وقد يفضل المتمتع بأن طوافه الأول يكون واجبا لأنه طواف عمرة والقارن يكون طوافه طواف قدوم وهو لا يجب والواجب أفضل وهذا ممنوع فإن الفضل بحسب كثرة مصلحة الفعل والوجوب سبب حصول مفسدة فى الترك
ولم يختلف كلام أحمد أن من لم يسق الهدي وقدم فى أشهر الحج فالتمتع أفضل له لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر الذين حجوا معه جميعهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي
ومذهب أحمد أيضا أنه إذا أفرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة فهذا الإفراد أفضل له من التمتع نص على ذلك فى غير موضع
وذكره أصحابه كالقاضي أبي يعلي فى تعليقه وغيره وكذلك
____________________
(26/37)
مذهب سائر العلماء حتى أصحاب أبي حنيفة فإنهم نصوا على أن العمرة الكوفية أفضل من القران مع أن القران عندهم أفضل
لكن القرآن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو القران الذي يقوله أبو حنيفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف إلا طوافا واحدا ولم يسع إلا سعيا واحدا
ومذهب أبي حنيفة أن القارن يطوف أولا ويسعى للعمرة ثم يطوف ويسعى للحج وإذا فعل محظورا كان عليه جزاءان للحج والعمرة وقد حكي هذا رواية عن أحمد وأن القارن يلزمه طوافان وسعيان كمذهب أبى حنيفة لكن مذهبه المنصوص عنه فى غير موضع المعروف كمذهب مالك والشافعي وغيرهما أنه ليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد
بل أبلغ من ذلك أن المتمتع هل يجزيه السعي الأول الذي مع طواف العمرة أو يحتاج إلى سعي ثان عقيب طواف الإفاضة أو غيره على قولين عن أحمد
والمشهور عند أصحابه هو الثاني والأول قد نص عليه أيضا قال عبد الله بن أحمد قلت لأبي المتمتع يسعى بين الصفا والمروة قال
____________________
(26/38)
إن طاف طوافين فهو أجود وإن طاف طوافا واحدا فلا بأس
قال وإن طاف طوافين فهو أعجب الي واحتج بحديث جابر وكذلك نقل عنه بن منصور وإنما اختلف مذهبه في ذلك لاختلاف الأحاديث في ذلك ففي صحيح مسلم عن جابر قال لم يطف النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول وهذا مع انهم كانوا متمتعين
وروى أحمد قال ثنا الوليد بن مسلم قال ثنا الأوزاعي عن عطاء عن بن عباس أنه كان يقول القارن والمتمتع والمفرد يجزيه طواف بالبيت وسعي بين الصفا والمروة
وفي الصحيحين عن عائشة قالت ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا إلى أن قالت فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة
____________________
(26/39)
فإنما طافوا طوافا واحدا بالبيت (
قلت فقولها طوافا آخر إنما أرادت به الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة كذكرها فى أول الحديث ولأن الذين جمعوا بين الحج والعمرة لابد لهم من طواف الإفاضة فعلم أنها إنما نفت طوافا معه الطواف بين الصفا والمروة لا الطواف المجرد بالبيت والذي نفته عن القارن أثبتته للمتمتع الذي أحرم بالعمرة ولم يدخل عليها الحج
وأحمد في بعض رواياته فهم من هذا أنهم طافوا بالبيت فقط للقدوم فاستحب للمتمتع أولا إذا رجع من منى أن يطوف أولا للقدوم ثم يطوف طواف الفرض
ومن رد على أحمد حجته بأن المراد بالطواف طواف الفرض فقد غلط لأن طواف الفرض مشترك بين المتمتع والمفرد والقارن وعائشة أثبتت للمتمتع ما نفته عن القارن
ولكن المراد بهذا الحديث الطواف بالبيت وبالصفا والمروة إن لم تكن أرادت الطواف بالبيت لأنها هي لم تطف بالبيت إلا مرة واحدة لأجل حيضها وهذا قد عارضه حديث جابر ( الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أمرهم بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا أول مرة ( وهذا
____________________
(26/40)
يناقض ما فهم من حديث عائشة فإنهم إذا لم يكونوا سعوا بعد طواف الفرض فإن لا يطوفوا قبله للقدوم أولى وأخرى
وفي ترجيح أحد الحديثين كلام ليس هذا موضع بسطه فإن المحققين من أهل الحديث يعلمون أن هذه الزيادة في حديث عائشة هي من كلام الزهري ليست من قول عائشة فلا تعارض الحديث الصحيح
وقدر روى البخاري تعليقا عن إبن عباس مثل حديث عائشة وفيه أيضا علة
والشافعي اختار التمتع تارة واختار الإفراد تارة ومن قال أن النبى صلى الله عليه وسلم أحرم إحراما مطلقا فقد غلط واختلف كلامه فى إحرام النبى صلى الله عليه وسلم على هذه الأقوال الثلاثة
ومالك يختار الإفراد لكن قد قيل يستحب مع ذلك تأخير العمرة إلى المحرم فأما العمرة عقيب الحج من مكة كما يفعله كثير من الناس اليوم فهذا لم يعرف على عهد السلف ولا نقل أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الذين حجوا معه أنهم فعلوا ذلك إلا عائشة رضي الله عنها لأنها كانت قدمت متمتعة فحاضت فأمرها النبى صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج وتدع العمرة
____________________
(26/41)
فمذهب أحمد ومالك والشافعي أنها صارت قارنة ولا يجب عليها قضاء تلك العمرة لكن أحمد فى احدى الروايتين عنه جعل القضاء واجبا عليها لوجوب العمرة عنده فى المشهور عنه وكون عمرة القارن والعمرة من أدنى الحل لا يسقط وجوب العمرة عنده فى إحدى الروايتين
وهكذا يقولون فى كل متمتع ضاق عليه الوقت فلم يتمكن من الطواف قبل التعريف فإنهم يأمرونه بادخال الحج على العمرة ويصير قارنا كالمفرد الذي قدم وقد ضاق عليه الوقت فإنه يقف بعرفة أولا ولا يطوف قبل التعريف
وهكذا يصنع حاج العراق إذا قدموا متأخرين فإنهم يوافون عرفة يوم التعريف فيعرفون ولا يطوفون قبل التعريف ومذهب أبي حنيفة أن عائشة رفضت العمرة وأهلت بالحج فصارت مفردة
وعنده يجب عليها قضاء العمرة التى رفضتها وبنى ذلك على أصله في أن القارن يطوف طوافين ويسعي سعيين فلم يكن في القران لها فائدة
وأما الجمهور فبنوه على أصولهم فى أن عمل القارن لا يزيد على عمل المفرد وقالوا إن النبى صلى الله عليه وسلم إنما أعمر عائشة
____________________
(26/42)
تطييبا لنفسها لأنها قالت يذهب أصحابي بحجة وعمرة واذهب أنا بحجة فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم ( يسعك طوافك بحجك وعمرتك ( وفى رواية أهل السنن ( طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك (
فلما ألحت أعمرها تطييبا لنفسها وأحمد فى رواية الأثرم وغيره قال إن عمرة القارن والعمرة المكية لا تجزئ عن عمرة الإسلام واحتج بحديث عائشة لما أعمرها النبى صلى الله عليه وسلم فإنها كانت قارنة وأعمرها بعد ذلك فجعل هذه العمرة واجبة فى هذه الرواية كما قال أبو حنيفة لكن اختلفا فى تنقيح المناط ولم يعتمر من مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة خاصة لأجل هذا العذر
وأما عمر النبى صلى الله عليه وسلم فإنما كانت وهو قاصد إلى مكة فأحرم بالعمرة عام الحديبية من ذي الحليفة وحل بالحديبية لما أحصر وصده المشركون عن البيت والحديبية غربي جبل التنعيم حيث بايع النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة وصالحه المشركون وجبل التنعيم هو الجبل الذي عند المساجد التى تسمى مساجد عائشة عن يمينك وأنت داخل إلى مكة وتلك المساجد مبنية في التنعيم
____________________
(26/43)
ولم تكن هذه المساجد على عهد النبى صلى الله عليه وسلم
فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتمر من التنعيم والتنعيم أدنى الحل إلى مكة فهو أقرب الحل إلى مكة والمعتمر من مكة يخرج إلى الحل ليجمع بين الحل والحرم بخلاف الحاج من مكة فإنه يخرج إلى عرفة وعرفة من الحل ثم اعتمر من العام القابل عمرة القضية من ذي الحليفة ثم لما لقي هوازن بوادي حنين فهزمهم ثم ذهب إلى الطائف فحاصرهم ثم رجع إلى الجعرانة فقسم غنائم حنين بالجعرانة اعتمر داخلا إلى مكة وحنين والجعرانة والطائف كل ذلك من جهة الشرق شرقي عرفات فأقربها إلى عرفة الجعرانة ثم وادي حنين ثم الطائف
ولم يكن يخرج هو ولا أصحابه من مكة فيعتمرون إلا ما ذكر من حديث عائشة فلهذا نص أحمد فى غير موضع على أن أهل مكة ليس عليهم عمرة وروى أحمد عن بن عباس أنه قال يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت فمن أبي إلا أن يعتمر فليجعل بينه وبين مكة بطن واد وذلك لأن الصحابة المقيمين بمكة على عهد النبى صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعتمرون من مكة
____________________
(26/44)
والعمرة واجبة فى أشهر الروايتين عن أحمد فمن أصحابه من جعل هذا رواية ثالثة
فقال المسألة على ثلاث روايات رواية تجب ورواية لا تجب ورواية يفرق بين المكي وغيره وهي طريقة جدنا أبي البركات وغيره
ومنهم من قال أهل مكة يستثنون فلا تجب عليهم عمرة رواية واحدة وهي طريقة الشيخ أبي محمد وهي أصح
ومن الفقهاء من استحب لمن اعتمر من مكة أن يحرم من الحديبية أو الجعرانة محتجا بعمرة النبى صلى الله عليه وسلم وهو غلط فإن الحديبية كانت موضع حله لما أحصر لم تكن موضع إحرامه وأما الجعرانة فإنه أحرم منها داخلا إلى مكة لأنه أنشأ العمرة من هناك ولهذا كان أصح الوجهين لأصحابنا وهو المنصوص عن أحمد أنه لا يستحب الإكثار من العمرة لا من مكة ولا غيرها بل يجعل بين العمرتين مدة ولو أنه مقدار ما ينبت فيه شعره ويمكنه الحلاق وهذا لمن يخرج إلى ميقات بلده ويعتمر وأما المقيم بمكة فكثرة الطواف بالبيت أفضل له من العمرة المكية كما كان الصحابة يفعلون إذا كانوا مقيمين بمكة كانوا يستكثرون من الطواف ولا يعتمرون عمرة مكية فالصحابة الذين استحبوا الإفراد
____________________
(26/45)
كعمر بن الخطاب وغيره إنما استحبوا أن يسافر سفرا آخر للعمرة ليكون للحج سفر على حدة وللعمرة سفر على حدة
وأحمد وأبو حنيفة وغيرهما اتبعوا الصحابة في ذلك واستحبوا هذا الإفراد على التمتع والقران
قال أبو بكر الأثرم قيل لأبي عبد الله فأي العمرة عندك أفضل قال أفضل العمرة عندي أن تكون فى غير أشهر الحج كما قال عمر فإن ذلك أتم لحجكم وأتم لعمرتكم أن تجعلوها في غير أشهر الحج قيل لأبي عبد الله فأنت تأمر بالمتعة وتقول العمرة في غير أشهر الحج أفضل فقال إنما سئلت عن أتم العمرة فقلت فى غير أشهر الحج وقلت المتعة تجزيه من عمرته فأتم العمرة أن تكون فى غير أشهر الحج
وقال علي من تمام العمرة أن تقدم من دويرة أهلك وكان سفيان بن عيينة يفسره أن ينشئ لها سفرا يقصد له ليس أن تحرم من أهلك حتى تقدم الميقات
وقال عمر فى العمرة من دويرة أهلك قيل لأبي عبد الله فيجعل للحج سفرا على حدة وللعمرة سفرا على حدة قال نعم قلت له فإن إعتمر فى غير أشهر الحج ثم أقام بمكة حتى يحج أيكون هذا قد
____________________
(26/46)
جعل له سفرا على حدة وللحج سفرا على حدة فقال لا حتى يرجع ثم يحج فهذا مد للعمرة من أهله وقصد للحج من أهله هذا معناه
قيل لأبي عبد الله فإنهم يحكون عنك أنك تقول المتعة أفضل من غيرها فقال أما أفضل من الحج وحده فليس فيه شك ثم قال أيما أفضل أن يجيء بعمرة وحج أو أن يجيء بحج وحده هي أفضل من إفراد الحج
قلت له وأفضل من القران لأنه جاء بكل واحد على حدة فهو أفضل من أن يجمع بينهما فقال نعم وأفضل من القران ثم قال نحو ما قلت
وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يقول التمتع أحب الي هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت كما صنعتم ( وقوله لأصحابه ( حلوا ( وما جاء فيها من الحديث وقال أيضا قيل لأبي عبد الله أنت تذهب إلى المتعة فقال هي أحب الي وأفضل وذاك أنا نذهب إلى أن العمرة واجبة قال تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ( ثم قال هذا بين
____________________
(26/47)
وكان بن عباس وبن عمر يريانها واجبة وقال بن عباس والله إنها لقرينتها فى كتاب الله وقال جماعة الحج الأصغر العمرة فإذا وقع عليها اسم الحج فهذا يدل على أنها فريضة فإذا خرج متمتعا فقد أجزأه من حجه وعمرته جاء بعمرة مفردة وحجة مفردة
فأما عمرة المحرم فليس بمجزى عنه عندي وليست بعمرة تامة إنما هي من أربعة أميال
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة ( إنما هي على قدر نصبك ونفقتك ( ومعنى عمرة المحرم أنهم كانوا يخرجون فى المحرم من مكة ليعتمرون من أدنى الحل إلى أن يعتمر فكيف من اعتمر فى ذي الحجة من مكة عقيب الحج وهذا لم يكن السلف يفعلونه
فإذا تبين أن العمرة المكية عقب الحج مع الحج لم يفعلها النبى صلى الله عليه وسلم باتفاق العلماء ولا أحد من الصحابة إلا عائشة ولا كان خلفاؤه الراشدون يفعلونها امتنع أن يكون ذلك أفضل وأما من قال من الفقهاء الإفراد أن يحج ويعتمر عقب ذلك من مكة فهذا غلط بإجماع العلماء فإنه لا نزاع بينهم أن من اعتمر قبل أشهر الحج ورجع إلى بلده ثم حج أو أقام بمكة حتى يحج
____________________
(26/48)
من عامه أنه مفرد للحج وكذلك لو إعتمر بعد الحج فى سفرة أخرى فإنه مفرد بالإتفاق وهذا الإفراد هو الذي استحبه الصحابة وهو مستحب أيضا عند أحمد وغيره فإن الإعتمار في رمضان والإقامة إلى أن يحج أفضل من التمتع وإن كان الرجوع إلى بلده ثم السفر للحج أفضل منها
والتمتع جائز باتفاق أهل العلم وإنما كان طائفة من بنى أمية وغيرهم يكرهونه
وقد قيل إن الذين كرهوا ذلك إنما كرهوا فسخ الحج إلى التمتع فإن الناس يقدمون من الآفاق فيحرمون بالحج فمن جوز الفسخ جوز لهم المتعة ومن منع من ذلك منعهم منه
والفسخ فيه ثلاثة أقوال معروفة قيل هو واجب كقول بن عباس وأتباعه وأهل الظاهر والشيعة
وقيل هو محرم كقول معاوية وبن الزبير ومن اتبعهما كأبي حنيفة ومالك والشافعي
وقيل هو جائز مستحب وهو مذهب فقهاء الحديث أحمد وغيره والأمر به معروف عن غير واحد من الصحابة والتابعين
____________________
(26/49)
ولهذا كان بن عمر وبن عباس يأمران بالمتعة
قال أحمد أخبرنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سالم قال سئل بن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له إنك تخالف أباك فقال عمر لم يقل الذي تقولون إنما قال عمر إفراد الحج من العمرة فإنها أتم للعمرة أو أن العمرة لا تتم فى أشهر الحج إلا أن يهدي وأراد أن يزار البيت في غير أشهر الحج فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتهم الناس عليها وقد أحلها الله وعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أكثروا عليه قال أفكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر وكان بن عباس يأمر بها فيقولون إن أبا بكر وعمر لم يفعلاها فيقول يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال النبى صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر
وكان عروة بن الزبير يناظر بن عباس فيها فقال إن أبا بكر وعمر أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منك فقال له بن عباس ياعرية سل أمك يعنى أنها تخبره أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحلال وكانت أسماء ممن أحلت
وهذه المشاجرة إنما وقعت لأن بن عباس كان يوجب المتعة
____________________
(26/50)
بل كان يوجب الفسخ وكان يقول كل من طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يسق الهدي فقد حل من إحرامه ويحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالتحلل فى حجة الوداع وبقوله تعالى ( ثم محلها إلى البيت العتيق (
وايجاب المتعة هو قول طائفة من أهل الحديث والظاهرية كابن حزم وغيره وهو مذهب الشيعة أيضا لكن الجماهير من الصحابة والأئمة الأربعة وغيرهم على أنه يجوز التمتع والإفراد والقران لكن أهل مكة وبنو هاشم وعلماء أهل الحديث يستحبونها فاستحبها علماء سنته وأهل سنته وأهل بلدته التى بقربها المناسك وهؤلاء الثلاثة أخص الناس به وهو أحد قولي الشافعي
وأبو يوسف يجعل التمتع والقران سواء وإنما جوز الجمهور الثلاثة لأنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه ( من شاء منكم أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء منكم أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء منكم أن يهل بحجة وعمرة فليفعل (
وأما أمره لأصحابه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فلأنه أراد أن يجمعوا بين الحج والعمرة وأن لا يعتمروا عمرة مكية وإن سافروا سفرا
____________________
(26/51)
آخر للعمرة ومن كان هذه حاله فينبغي له أن يتمتع فالتمتع كان متعينا في حق الصحابة
إذا أرادوا أن يفعلوا الأفضل لهم وكان أولا قد أذن لهم فى الفسخ ولم يأمرهم به لا سيما إذا قيل بوجوب العمرة فإنه يجب التمتع على من لم يسافر سفرة أخرى ولم يعتمر عقب الحج من مكة وعمرة المتمتع بمنزلة التوضؤ للمغتسل فالمغتسل للجنابة اذا توضأ كان وضوؤه بعض اغتساله الكامل كذلك عمرة المتمتع عند أحمد بعض حجة الكامل ولهذا يجوز عنده للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة من حين يحرم بالعمرة وقد قال الله تعالى ( فصيام ثلاثة أيام فى الحج ( فهو من حين أحرم بالعمرة دخل فى الحج كما أن المغتسل من حين توضأ دخل فى الغسل
وقوله صلى الله عليه وسلم ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ( أخرجاه فى الصحيحين يدخل فيه المتمتع من حين يحرم بالعمرة
ولهذا كان أحمد ينكر على من يقول إن حجة المتمتع حجة مكية قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يقول كان بن المبارك زعموا يقول بالمتعة فقيل له يكون مجيئه حينئذ للعمرة فقال أرأيتم لو
____________________
(26/52)
أن رجلا خرج يريد صلاة الظهر فى جماعة فتطوع قبلها بأربع ركعات ثم صلى الظهر أزاده ذلك خيرا أم نقصه
ثم قال أحمد ما أحسن ما قال ثم قال أبو عبد الله يقول مجيئه حينئذ للظهر أو للتطوع أي إنما مجيئه للظهر قال أبو عبد الله هذا قول محدث يعني قولهم حجة مكية
قال وسمعت أبا عبد الله مرة أخرى وذكر قول بن المبارك إنه قول محدث يعني قولهم حجة مكية
قيل لأبي عبد الله قول عبد الله قول محدث قال إي والله قول محدث كلام بغيظ ما أدري ما هو وكيف لا يكون محدثا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم به ويأمر به أصحابه وغلظ القول فيه
قال وسمعت أبا عبد الله مرة أخرى قيل له من قال حجة مكية قال هذا قول محدث قيل له عمن يروى فقال عن الشعبي وسعيد بن جبير فصل
والدليل على أنه قد تواترت الأحاديث عن النبى صلى الله عليه
____________________
(26/53)
وسلم أنه أمر أصحابه فى حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله
ولهذا لما قال سلمة بن شبيب لأحمد يا أبا عبد الله قويت قلوب الرافضة لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة فقال يا سلمة كان يبلغني عنك أنك أحمق وكنت أدافع عنك والآن فقد تبين لي أنك أحمق عندي أحد عشر حديثا صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعها لقولك فبين أحمد أن الأحاديث متواترة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع لجميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي حتى من كان منهم مفردا أو قارنا والنبى صلى الله عليه وسلم لا ينقلهم من الفاضل إلى المفضول بل إنما يأمرهم بما هو أفضل لهم
ولهذا كان فسخ الحج إلى التمتع مستحبا عند أحمد ولم يجعل اختلاف العلماء فى جواز الفسخ موجبا للإحتياط بترك الفسخ فإن الإحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا تبينت السنة فاتباعها أولى وإن كان بعض العلماء قد قال إنه لا يجوز ذلك لا سيما وآخرون من السلف والخلف قد أوجبوا الفسخ فليس الإحتياط بالخروج من خلاف أولئك بأولى من الخروج من خلاف هؤلاء
____________________
(26/54)
والذين منعوا الفسخ أو المتعة مطلقا قالوا كان لأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم خاصة قالوا لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون إذ برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر قالوا فأمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بالعمرة ليبين
جواز العمرة فى أشهر الحج وهذا القول خطأ عند أحمد وغيره لوجوه أحدها لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان قد اعتمر قبل ذلك عمره الثلاثة فى أشهر الحج فاعتمر عمرته الأولى عمرة الحديبية فى ذي القعدة واعتمر عمرة القضية في ذي القعدة واعتمر من الجعرانة في ذي القعدة وقد ثبت فى الصحيح أن عائشة قيل لها إن بن عمر يقول إن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر فى رجب فقالت يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رجب قط وما اعتمر إلا وبن عمر معه وقد اتفق أهل العلم على ما قالت عائشة بأن عمره كلها كانت فى ذي القعدة وهو أوسط أشهر الحج فكيف يقال أن الصحابة لم يعلموا جواز العمرة فى أشهر الحج حتى أمرهم بالفسخ وقد فعلها قبل ذلك ثلاث مرات
الوجه الثاني أنه قد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنه قال لهم عند الميقات ( من شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل ( فبين لهم جواز
____________________
(26/55)
الإعتمار فى أشهر الحج عند الميقات وعامة المسلمين معه فكيف لم يعلموا ذلك
الوجه الثالث أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل وأمر من ساق الهدي أن يتم على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ففرق بين محرم ومحرم فهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحلل لإحرامه الأول وما ذكره يشترك فيه السائق أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنى قال فقام النبى صلى الله عليه وسلم فينا فقال ( قد علمتم أنى أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا فحللنا وسمعنا وأطعنا فقدم علي من سعايته فقال ( بما أهللت ( قال بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فاهد وامكث حراما ( قال وأهدى علي له هديا فقال سراقة بن مالك بن جعشم لعامنا هذا أم للأبد فقال ( بل للأبد ( وفي رواية البخاري وان سراقة بن مالك بن جعشم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وهو يرميها فقال جعشم ألكم هذه خاصة يا رسول الله قال ( لا بل للأبد (
فبين أن تلك العمرة التى فسخ من فسخ منها حجه إليها للأبد
____________________
(26/56)
وأن العمرة دخلت فى الحج إلى يوم القيامة وهذا يبين أن عمرة التمتع بعض الحج ولم يرد السائل بقوله عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد أنه يسقط الفرض بها في عامنا هذا لأن العمرة إن كانت واجبة فلا تجب إلا مرة واحدة ولأنه لو أراد ذلك لم يقل بل للأبد فإن الأبد لا يكون فى حق طائفة معينة بل إنما يكون لجميع المسلمين ولا قال ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة (
فإن قيل قوله ( دخلت العمرة فى الحج ( أراد به جواز العمرة فى أشهر الحج
قيل نعم ومن ذلك عمرة الفاسخ فإنها سبب هذا اللفظ وسبب اللفظ العام لا يجوز إخراجه منه فعلم أن قوله ( دخلت العمرة فى الحج ( يتناول عمرة الفاسخ وأنها دخلت فى الحج إلى يوم القيامة
الوجه السادس أن يقال فسخ الحج إلى التمتع موافق لقياس الأصول لا مخالف له فإن المحرم إذا التزم اكبر ما لزمه جاز باتفاق الأئمة فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز بلا نزاع وأما إذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز عند الجمهور وهو مذهب أحمد ومالك وظاهر مذهب الشافعي وأما أبو حنيفة فيجوزه لأنه يصير قارنا والقارن عنده يلزمه طوافان وسعيان وهذا قياس الرواية المحكية عن أحمد فى القارن
____________________
(26/57)
واذا كان كذلك فالمحرم بالحج لم يلزمه إلا الحج فإذا صار متمتعا صار ملتزما لعمرة وحج فكان ما التزمه بالفسخ أكبر مما كان عليه فجاز ذلك وهو أفضل فاستحب ذلك وإنما يشكل هذا على من يظن أنه فسخ حجا إلى عمرة مجردة وليس كذلك فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى العمرة مفردة لم يجز بلا نزاع وإنما الفسخ جائز لمن كان نيته أن يحج بعد العمرة
وقد قدمنا أن المتمتع من حين يحرم بالعمرة دخل فى الحج كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( دخلت العمرة فى الحج ( ولهذا يجوز أن يصوم الأيام الثلاثة من حينئذ وإنما إحرامه بالحج بعد ذلك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل للجنابة بدأ بالوضوء وكما قال للنسوة فى غسل ابنته ( إبدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ( فكان غسل مواضع الوضوء توضية وهو بعض الغسل
فإن قيل دم المتمتع دم جبران ونسك لا جبران فيه أفضل من نسك مجبور قيل هذا لا يصح لوجهين
( أحدهما ( أنه ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أكل من هديه فإنه أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت فى قدر فأكل من لحمها وشرب من مرقها وثبت أنه كان متمتعا التمتع العام فإن
____________________
(26/58)
القارن يدخل فى مسمى المتمتع كما سنذكره فدل على استحباب الأكل من هدي المتمتع ودم الجبران ليس كذلك وثبت أيضا في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ( أن النبى صلى الله عليه وسلم أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهن وكن متمتعات ( وهذا مما احتج به الإمام أحمد
( الثاني ( أن سبب الجبران محظور فى الأصل كالإفساد بالوطىء وكفعل المحظورات أو بترك الواجبات فإنه لا يجوز له أن يفسد حجه ولا أن يفعل المحظور إلا لعذر ولا يترك الواجب إلا لعذر والتمتع جائز مطلقا فلو كان دمه دم جبران لم يجز مطلقا فعلم أنه دم نسك وهدي وأنه مما وسع الله به على المسلمين فأباح لهم التحلل فى أثناء الإحرام والهدي مكانه لما فى إستمرار الإحرام من المشقة فيكون بمنزلة قصر الصلاة فى السفر وبمنزلة الفطر للمسافر والمسح على الخفين للابس الخف
فإن ذلك أفضل له من أن يخلع ويغسل فى ظاهر مذهب أحمد لأن النبى صلى الله عليه وسلم اذا كان لابس الخف على طهارة مسح عليه ولم يكن يخلع ويغسل بخلاف ما إذا لم تكن رجلاه فى الخفين فإنه كان يغسل وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه كان يقول فى خطبته ( خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد
____________________
(26/59)
و هدي محمد لمن كان مكشوف الرجلين ان يغسلهما لا يقصد أن يلبس ليمسح عليهما ولمن كان لابس الخفين أن يمسح عليهما لا أن يخلعهما ويغسل مع أن مسح الخفين بدل فكذلك الهدي
وإن كان بدلا عن ترفهه بسقوط أحد السفرين فهو أفضل لمن جمع بينهما وقد قدم فى أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد يعتمر عقبه والبدل قد يكون واجبا كالجمعة فإنها وإن كانت بدلا عن الظهر فهي واجبة وكالمتيمم العاجز عن استعمال الماء فإن التيمم واجب عليه وهو بدل فإذا جاز أن يكون البدل واجبا فكونه مستحبا أولى بالجواز
ولهذا يستحب للمسافر أن يفطر ويقضي والقضاء بدل عن الأداء وكذلك المريض الذي يشق عليه الصوم يفطر ويقضي والقضاء بدل
وتخلل الإحلال لا يمنع أن يكون الجميع بمنزلة العبادة الواحدة كطواف الفرض فإنه من تمام الحج باتفاق المسلمين ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول ورمى الجمار أيام منى من تمام الحج وإذا طاف قبل ذلك فقد رمي الجمار أيام منى بعد الحل التام وهو السنة كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم وشهر رمضان يتخلل صيام أيامه
____________________
(26/60)
الفطر بالليل وهو الصوم المفروض المذكور فى قوله ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ( إلى قوله ( شهر رمضان ( وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ( وهذا الصوم يتخلله الفطر كل ليلة فكذلك قوله ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه (
والآية تتناول لمن حج حجة تمتع فيها بالعمرة وإن كان قد يتخلل هذا الإحرام إحلال وهو من حين إحرامه بالحج قد دخل فى الحج كما أنه بصيام أول يوم دخل في صيام شهر رمضان وكذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ( والقيام يتخلله السلام من كل ركعتين وكذلك الوتر بثلاث مفصولة فصل
فى ( صفة حجة الوداع ( لم يختلف أحد من أهل العلم أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة وهذا مما تواترت به الأحاديث
____________________
(26/61)
ولم يختلفوا أنه لم يعتمر بعد الحج لا النبى صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة إلا عائشة فهذا كله متفق عليه لم يختلف فيه النقل ولا خالف فيه أحد من أهل العلم
ولكن تنازعوا هل حج متمتعا أو مفردا أو قارنا أو أحرم مطلقا وإضطربت عليهم فيه الأحاديث وهي بحمد الله غير مختلفة عند من فهم مراد الصحابة بها
والمنصوص عن الإمام أحمد أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قارنا بين العمرة والحج حتى قال لا أشك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قارنا وهذا قول أئمة الحديث كإسحاق بن راهويه وغيره وهو الصواب الذي لا ريب فيه وقد صنف أبو محمد بن حزم فى حجة الوداع مصنفا جمع فيه الآثار وقرر ذلك
وأحمد إنما اختار التمتع لأمر النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه به لا لكونه كان متمتعا التمتع الخاص عنده ولهذا قال فى رواية المروذى إنه إذا ساق الهدى فالقران أفضل ولولا أن النبى صلى الله عليه وسلم قرن عنده وساق الهدي لم يكن لهذا القول وجه فإنه لو كان متمتعا عنده لكان قد فعلها وأمر بها فلا وجه حينئذ لاختيار القران لمن ساق الهدي
____________________
(26/62)
ولم يقل أحد من قدماء أصحاب أحمد أنه كان متمتعا التمتع الخاص وأول من ادعى من أصحاب أحمد أن النبى صلى الله عليه وسلم كان متمتعا التمتع الخاص فيما علمناه القاضي أبو يعلي وذكر فى تعليقه الإحتجاج بهذه الطريقة على فضيلة التمتع وذكر أن الأولى وهي أن الإحتجاج بأمره لا بفعله وبقوله ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ( هي طريقة الأصحاب كما كان يحتج بها امامهم أحمد
ثم أن الذين نصروا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان متمتعا من الأصحاب على قولين
( الأول ( أنه حل من إحرامه مع سوقه الهدي وحمل هؤلاء رواية من روى أن المتعة كانت لهم خاصة على أنهم خصوا بالتحلل من الإحرام مع سوق الهدي دون من ساق الهدي من الصحابة وهذه طريقة القاضي ومن اتبعه وهذا الذي قاله هؤلاء منكر عند جماهير أهل العلم وممن أنكر ذلك على القاضي الشيخ أبو البركات وغيره وقالوا من تأمل الأحاديث المستفيضة تبين له أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يحل هو ولا أحد ممن ساق الهدي
( والقول الثاني ( أن النبى صلى الله عليه وسلم تمتع بمعنى أنه أحرم بالعمرة ولم يحل من إحرامه لكونه ساق الهدي وأحرم بالحج
____________________
(26/63)
بعد أن طاف وسعى للعمرة وهذه طريقة الشيخ أبي محمد وغيره وهؤلاء يسمون هذا متمتعا وقد يسمونه قارنا لكونه احرم قبل التحلل من العمرة لكن القران المعروف أن يحرم بالعمرة قبل أن يطوف بالبيت ليقع الطواف عن العمرة والحج
والفرق بين القارن والمتمتع الذي ساق الهدي يظهر من وجهين
( أحدهما من الإحرام بالحج قبل الطواف ( والثاني ( من السعي عقب طواف الإفاضة فإن القارن ليس عليه سعي ثان كما ليس ذلك على المفرد و [ أما ] المتمتع فهذا السعي واجب فى حقه عند أكثر العلماء وفيه عند أحمد روايتان
وأما الشافعي فاختلف كلامه فى حج النبى صلى الله عليه وسلم فقال تارة أنه أفرد وقال تارة أنه تمتع وقال تارة أنه أحرم مطلقا فقال فى ( مختصر الحج ( وأحب الي أن يفرد لأن الثابت عندنا أن النبى صلى الله عليه وسلم أفرد وقال فى ( اختلاف الأحاديث ( أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ( قال ومن قال إنه إفرد الحج يشبه أن يكون قاله على ما يعرف من أهل العلم الذين أدرك دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
____________________
(26/64)
أحدا لا يكون مقيما على حج إلا وقد إبتدأ إحرامه بحج قال وأحسب عروة حين حدث أن النبى صلى الله عليه وسلم أحرم بحج ذهب إلى أنه سمع عائشة تقول يفعل فى حجه على هذا المعنى
فقد بين الشافعي هنا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان متمتعا وأن من قال أفرد الحج فلانه لما رأي أن من استمر على إحرامه لا يكون إلا حاجا والنبى صلى الله عليه وسلم لما استمر على إحرامه ظن أنه كان حاجا وقال أيضا فيما اختلف فيه من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مخرجه ليس شيء من الإختلاف أبين من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح لأن الكتاب ثم السنة ثم ما أعلم فيه خلافا يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج وإفراد الحج والقران واسع كله قال وثبت أنه خرج ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو فيما بين الصفا والمروة وأمر أصحابه أن من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة وقال ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة (
قال فإن قال قائل فمن أين أثبت حديث عائشة وجابر وإبن عمر وطاووس دون حديث من قال قرن
____________________
(26/65)
قيل لتقدم صحبة جابر للنبى صلى الله عليه وسلم وحسن سياقه لابتداء الحديث وآخره ولرواية عائشة عن النبى صلى الله عليه وسلم وفضل حفظها عنه وقرب بن عمر منه
قال ولأن من وصف انتظار النبى صلى الله عليه وسلم القضاء إذ لم يحج من المدينة بعد نزول فرض الحج طلب الإختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة يشبه أن يكون أحفظ لأنه قد أتي في المتلاعنين فانتظر القضاء فكذلك حفظ في الحج ينتظر القضاء
قال المزني إن ثبت حديث أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قرن حتى يكون معارضا للأحاديث سواه فأصل قول الشافعي أن العمرة فرض وأداء الفرض فى وقت الحج أفضل من أداء فرض واحد لأن من أكثر عمله لله كان أكثر فى ثواب الله قلت والصواب فى هذا الباب أن الأحاديث متفقة ليست مختلفة إلا اختلافا يسيرا يقع مثله فى غير ذلك فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتع والتمتع عندهم يتناول القران والذين روي عنهم أنه أفرد روي عنهم أنه تمتع
أما الأول ففي الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال اجتمع علي وعثمان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال علي ما
____________________
(26/66)
يريد إلا أمرا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عنه فقال عثمان دعنا منك فقال إنى لا أستطيع أن أدعك فلما أن رأى علي ذلك أهل بهما جميعا هذا لفظ مسلم ولم يذكر البخاري دعنا إلى أن أدعك وخرجه البخاري وحده من حديث مروان بن الحكم قال شهدت عثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بين الحج والعمرة فلما رأى علي ذلك أهل بهما لبيك بعمرة وحجة قال ما كنت لأدع سنة النبى صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس
فهذا يبين أنه إذا جمع بينهما كان متمتعا عندهم وأن هذا هو الذي فعله النبى صلى الله عليه وسلم وهو سنة النبى صلى الله عليه وسلم التى فعلها علي بن أبي طالب ووافقه عثمان على أن النبى صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لكن كان النزاع هل ذلك أفضل في حقنا أم لا وهل يشرع فسخ الحج إلى المتعة فى حقنا كما تنازع فيه الفقهاء
وفى الصحيح عن عبد الله بن شقيق قال كان عثمان ينهى عن المتعة وكان علي يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة فقال لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أجل ولكنا كنا خائفين فقد اتفق عثمان وعلي على أنهم تمتعوا مع النبى صلى الله عليه وسلم وأما قول عثمان كنا خائفين فإنهم كانوا خائفين في عمرة القضية
____________________
(26/67)
وكانوا قد اعتمروا فى أشهر الحج وكان كل من اعتمر في أشهر الحج يسمى أيضا متمتعا لأن الناهين عن المتعة كانوا ينهون عن العمرة فى أشهر الحج مطلقا
وشاهده ما فى الصحيح عن سعد بن أبي وقاص لما بلغه أن معاوية نهى عن المتعة قال فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كافر بالعرش يعني معاوية ومعلوم أن معاوية كان مسلما فى حجة الوداع بل وفي عمرة الجعرانة عام الفتح أو قبل ذلك ولكن فى عمرة القضية كافر بعرش مكة وقد سمى سعد عمرة القضية متعة فلعل عثمان أراد الخوف عام القضية وكانوا أيضا خائفين عام الفتح وأما عام حجة الوداع فكانوا آمنين لم يكن قد بقي مشرك بل نفى الله الشرك وأهله ولهذا قالوا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آمن ما كان الناس ركعتين فلعله قد اشتبه حالهم هذا العام بحالهم هذا العام كما اشتبه على من روي أنه نهى عن متعة النساء فى حجة الوداع وإنما كان النهى في غزاة الفتح
وكما يظن بعض الناس أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في حجة أو عمرة وإنما كان دخوله الكعبة عام الفتح لما فتح مكة ولم يقل أحد أنه دخلها فى حجة ولا عمرة بل في الصحيحين عن إسماعيل بن أبي خالد قال قلت لعبدالله بن أبي أوفي من صحابة النبى
____________________
(26/68)
صلى الله عليه وسلم أدخل النبى صلى الله عليه وسلم البيت فى عمرته قال لا
وفى الصحيحين عن مطرف بن الشخير قال قال لي عمران بن حصين أحدثك حديثا لعل الله أن ينفعك به ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجته وعمرته ثم أنه لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه ( وفي رواية قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه ( فهذا عمران وهو من أجل السابقين الأولين أخبر أنه تمتع وأنه جمع بين الحج والعمرة
وفي صحيح مسلم عن غنيم بن قيس قال سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة فى الحج فقال فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش يعني بيوت مكة يعني معاوية وهذا إنما أراد به سعد عمرة القضية فإن معاوية لم يكن أسلم إذ ذاك وأما في حجة الوداع فكان قد أسلم فكذلك فى عمرة الجعرانة فسمي سعد الإعتمار فى أشهر الحج متعة لأن بعض الشاميين كانوا ينهون عن الإعتمار فى أشهر الحج فصار الصحابة يروون السنة في ذلك ردا على من نهى عن ذلك فالقارن عندهم متمتع ولهذا وجب عليه الهدي ودخل فى قوله تعالى ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ( وفى صحيح البخاري وغيره عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول
____________________
(26/69)
الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي العقيق يقول ( أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة فى حجة ( فهؤلاء الخلفاء الراشدون عمر وعثمان وعلي وغير الخلفاء كعمران بن حصين يروى عنهم بأصح الأسانيد أن النبى صلى الله عليه وسلم قرن بين العمرة والحج وكانوا يسمونه تمتعا
وفي الصحيحين عن بكر بن عبد الله المزني عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة فحدثت بذلك بن عمر فقال لبى بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته فقال ما يعدونا إلا صبيانا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( لبيك عمرة وحجا ( فهذا أنس يخبر أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا وما ذكره بكر عن بن عمر عنه فجوابه أن الثقاة الذين هم أثبت فى بن عمر من بكر مثل ابنه سالم رووا عنه أنه قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج وهؤلاء أثبت عن بن عمر من بكر وغلط بكر على إبن عمر أولى من تغليط سالم ابنه عنه وتغليطه هو على النبى صلى الله عليه وسلم ويشبه هذا أن بن عمر قال له أفرد الحج فظن أنه قال لبى بالحج فإن إفراد الحج كانوا يطلقونه ويريدون به إفراد أعمال الحج وذلك
____________________
(26/70)
يرد قول من يقول أنه قرن فطاف طوافين وسعي سعيين ومن يقول إنه أحل من إحرامه فرواية من روي من الصحابة أنه أفرد الحج ترد على هؤلاء يبين هذا ما رواه مسلم فى صحيحه عن نافع عن بن عمر قال أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا وفي رواية أهل بالحج مفردا فلم يذكروا عن بن عمر إلا أنه قال أفرد الحج لا أنه قال لبي بالحج
وفى السنن من حديث البراء بن عازب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعلي ( قد سقت الهدي وقرنت ( وفى الصحيحين من حديث الزهري عن سالم عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال ( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليتحلل ثم ليهل بالحج وليهدي فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة
____________________
(26/71)
إذا رجع إلى اهله وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أشواط من السبع ومشى أربعة أطواف ثم رجع حين قضى طوافه بالبيت فصلى عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ثم لم يتحلل من كل شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى فساق الهدي من الناس ( قال الزهري وحدثني عروة عن عائشة مثل حديث سالم عن أبيه
فهذا أصح حديث على وجه الأرض وهو من حديث الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة عن سالم عن بن عمر وهو أصح من حديث بن عمر ومن حديث عروة عن عائشة وهو أصح من حديث عائشة وقد ثبت عنها فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر الرابعة مع حجته ولم يعتمر بعدها باتفاق المسلمين فتعين أن يكون قرن بين العمرة والحج وقال هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أخبرت أن الذين جمعوا الحج والعمرة إنما طافوا طوافا واحدا
وأما الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج فهم ثلاثة عائشة وبن
____________________
(26/72)
عمر وجابر والثلاثة نقل عنهم التمتع وحديث عائشة وبن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج أصح من حديثهما أنه أفرد الحج وما صح عنهما من ذلك فمعناه إفراد أعمال الحج
وفى الصحيحين عن حفصة أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع قالت حفصة فما يمنعك أن تحل فقال ( إنى لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر هديي ( وفي رواية ( ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي ( فهذا يدل على أنه كان معتمرا وليس فيه أنه لم يكن مع العمرة حاجا ومما يبين ذلك أن في الصحيحين عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن فى ذي القعدة إلا التى مع حجته عمرة الحديبية فى ذي القعدة وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من الجعرانة في ذي القعدة وعمرة مع حجته
وفي الصحيحين عن مجاهد قال ( دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة فقال له عروة يا أبا عبد الرحمن كم إعتمر النبى صلى الله عليه وسلم فقال أربع عمر إحداهن فى رجب فقال عروة ألا تسمعين يا أم المؤمنين إلى
____________________
(26/73)
ما يقول أبو عبد الرحمن فقالت وما يقول قال يقول إعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب فقالت يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه وما اعتمر فى رجب قط ( فعائشة أنكرت كونه اعتمر في رجب وما أنكرت كونه إعتمر أربع عمر فقد اتفقت عائشة وبن عمر على أنه اعتمر أربع عمر كما روي ذلك عن أنس وقد ثبت باتفاق الناس أنه لم يعتمر بعد الحج وثبت أن إبن عمر وعائشة نقلا عنه أنه إعتمر مع الحج وهذا هو التمتع العام الذي يدخل فيه القران وهو الموجب للهدي
فتبين أن الروايات الكثيرة الثابتة عن بن عمر وعائشة توافق ما فعله سائر الصحابة أنه كان متمتعا التمتع العام ومن قال أنه أحرم مطلقا فاحتج بحديث مرسل ومثل هذا لا يجوز أن يعارض به الأحاديث الصحيحة
فقد تبين أن من قال أفرد الحج فان ادعى أنه اعتمر بعد الحج كما يظنه بعض المتفقهة فهذا مخطئ باتفاق العلماء
ومن قال أنه أفرد الحج بمعنى أنه لم يأت مع حجته بعمرة فهذا قد اعتقده بعض العلماء وهو غلط ولم يثبت ذلك عن أحد من الصحابة
____________________
(26/74)
ومن قال أنه أحرم إحراما مطلقا فقوله غلط لم ينقل عن أحد من الصحابة
ومن قال أنه تمتع بمعنى أنه لم يحرم بالحج حتى طاف وسعى فقوله أيضا غلط لم ينقل عن أحد من الصحابة
ومن قال إنه تمتع بمعنى أنه حل من إحرامه فهو أيضا مخطئ باتفاق العلماء العارفين بالأحاديث ومن قال أنه قرن بمعنى أنه طاف طوافين وسعى سعيين فقد غلط أيضا ولم ينقل ذلك أحد من الصحابة عن النبى صلى الله عليه وسلم فالغلط فى هذا الباب وقع ممن دون الصحابة فلم يفهموا كلامهم وأما الصحابة فنقولهم متفقة
ومما يبين أنه لم يطف طوافين ولا سعى سعيين لا هو ولا أصحابه ما في الصحيحين عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا ( وقالت فيه ( فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا
____________________
(26/75)
وفي صحيح مسلم عن طاووس عن عائشة أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم يوم النفر ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج ( وفى مسلم أيضا عن مجاهد عن عائشة أنها حاضت بسرف فطهرت بعرفة فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك وفى سنن أبي داود عن عطاء عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لها ( طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ( وفى الصحيحين عن جابر قال ( دخل النبى صلى الله عليه وسلم على عائشة ثم وجدها تبكي وقالت قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت فقال اغتسلي ثم أهلي بالحج ففعلت ووقفت المواقف كلها حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال قد حللت من حجك وعمرتك جميعا ( قالت يا رسول الله إني أجد في نفسي انى لم أطف بالبيت حين حججت فقال ( فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة (
فقد أخبرت عائشة فى الحديث الصحيح أن الذين قرنوا لم يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة إلا الطواف الأول الذي طافه
____________________
(26/76)
المتمتعون أولا وأيضا فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة فى قضيتها أنها لما طافت يوم النحر بالبيت وبين الصفا والمروة قال لها ( قد حللت ( وقال لها ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ( وأنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة ودل ذلك على أن القارن يجزيه طواف واحد بالبيت وبين الصفا والمروة كما يجزئ المفرد لا سيما وعائشة لم تطف إلا طواف قدوم بل لم تطف إلا بعد التعريف وسعت مع ذلك فإذا كان طواف الإفاضة والسعي بعده يكفي القارن فلان يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأولى
ومما يبين ذلك أن الصحابة الذين نقلوا حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم نقلوا أنه لما طاف الصحابة بالبيت وبين الصفا والمروة أمرهم النبى بالتحلل إلا من ساق الهدي فإنه لا يتحلل إلا يوم النحر ولم ينقل أحد منهم أن أحدا منهم طاف وسعى ثم طاف وسعى ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فلما لم ينقله أحد من الصحابة علم أن هذا لم يكن وعمدة من قال ذلك أثر يرويه الكوفيون عن علي وأثر آخر عن بن مسعود وقد روى جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي أنه كان يحفظ عن علي بن أبي طالب للقارن طوافا واحدا بين الصفا والمروة خلاف ما يحفظ أهل
____________________
(26/77)
العراق وما رواه العراقيون منه ما هو منقطع ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون ولهذا طعن علماء النقل فى ذلك حتى قال بن حزم كلما روى فى ذلك عن الصحابة لا يصح منه ولا كلمة واحدة وقد نقل فى ذلك عن النبى ما هو موضوع بلا ريب
وأيضا ففي الصحيحين عن بن عمر قال لهم ( اشهدوا أنى قد أوجبت حجا مع عمرتي ثم انطلق يهل بهما جميعا حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ولم يزد على ذلك ولم يحلق ولا قصر ولا أحل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فحلق ونحر ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ( ثم قال هكذا فعل رسول الله
وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبى أنه قال دخلت العمرة فى الحج إلى يوم القيامة وإذا دخلت فيه لم تحتج إلى عمل زائد على عمله ( وقد روى سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل قال حلف لي طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله في حجته وعمرته إلا طوافا واحدا
وقد ثبت مثل هذا عن بن عمر وبن عباس وجابر وغيرهم وهم من أعلم الناس بحجة رسول الله ولا يخالفونها
____________________
(26/78)
فهذه الأحاديث الثابتة الصحيحة عن النبى تبين أنه لم يطف بالبيت وبين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا فتبين بذلك أن الذي دلت عليه الأحاديث هو الذي قاله أئمة أهل الحديث كأحمد وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأنه لم يطف إلا طوافا واحدا بالبيت وبين الصفا والمروة لكنه ساق الهدي فمن ساق الهدي فالقران أفضل له من التمتع ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه والله أعلم
____________________
(26/79)
وسئل رحمه الله تعالى
عن حج النبى صلى الله عليه وسلم هل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا وأيما أفضل لمن يحج فقد أكثر الناس القول وأطالوا وزادوا ونقصوا والقصد كشف الحق عن هذه الأحوال وقول بعض الناس أن أحدا من الصحابة أتى بعمرة من مكة والحديث الذي رووه ( أن عمرة فى رمضان تقوم كذا وكذا حجة ( هل هو صحيح أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما حج النبى صلى الله عليه وسلم فالصحيح أنه كان قارنا قرن بين الحج والعمرة وساق الهدي ولم يطف بالبيت وبين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا حين قدم لكنه طاف طواف الإفاضة مع هذين الطوافين
وهذا الذي ذكرناه هو الصواب المحقق عند أهل المعرفة بالأحاديث الذين جمعوا طرقها وعرفوا مقصدها وقد جمع أبو محمد بن حزم فى حجة الوداع كتابا جيدا فى هذا الباب وقال الإمام أحمد لا أشك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان
____________________
(26/80)
قارنا والتمتع أحب إلي لأنه آخر الأمرين يريد به قول النبى صلى الله عليه وسلم بعد أن طاف وسعى وأمر أصحابه بالتحلل فشق عليهم فقال ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ( وهذا إنما يقتضي أنه كان متمتعا بدون سوق الهدي والنبى صلى الله عليه وسلم كان قد ساق الهدي ولهذا قال أحمد فى رواية المروذي اذا ساق الهدي فالقران أفضل وذلك لأنه فعل النبى صلى الله عليه وسلم
وهذا الذي ذكرناه من أنه حج قارنا يتبين لمن تدبر الأحاديث وفهم مضمونها وبسط ذلك في هذا الموضع غير ممكن لكن نذكر نكتا مختصرة
منها أن الذين نقلوا لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلفظ تلبيته ولفظه في خبره عن نفسه وفيما يخبر به عن أمر الله له إنما ذكروا القران كقول أنس فى الصحيحين سمعته يقول ( لبيك عمرة وحجة وكان تحت ناقته ( وكحديث عمر الذي فى الصحيح حيث قال ( أتاني آت من ربي فى هذا الوادي المبارك وقال قل عمرة فى حجة ( وقوله في حديث البراء بن عازب
والذين قالوا تمتع بالعمرة إلى الحج لم تزل قلوبهم على غير
____________________
(26/81)
القرآن فإن القرآن كان عندهم داخلا فى مسمى التمتع بالعمرة إلى الحج كما جاء مفسرا فى الصحيحين من أن عثمان كان ينهى عن المتعة وكان علي يأمر بها فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا ولهذا وجب عند الأئمة على القارن الهدي بقوله ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ( وذلك أن مقصود حقيقة التمتع أن يأتي بالعمرة فى أشهر الحج ويحج من عامه فيترفه بسقوط أحد السفرين قد أحل من عمرته ثم أحرم بالحج أو أحرم بالحج مع العمرة أو أدخل الحج على العمرة فأتى بالعمرة والحج جميعا فى أشهر الحج من غير سفر بينهما فيترفه بسقوط أحد السفرين فهذا كله داخل فى مسمى التمتع مع أن هؤلاء لم ينقلوا لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكذلك الذين قالوا أفرد الحج مع أن هذا اللفظ يراد به الرد على من قال تمتع بالعمرة إلى الحج وحل من إحرامه وعلى من قال إنه طاف طوافين وسعي سعيين فإن أصحابه حلوا من إحرامهم حيث لم يسوقوا الهدي فبقوا محرمين كما يبقي مفردا بحج ولم يأتوا بزيادة على عمل المفرد فبين هؤلاء أنه لم يفعل إلا أفعال الحج لم يحل من إحرامه ولا زاد عليها وتبين بذلك أنه قد اعتمر أربعا إحداهن عمرة مع حجته ولا نزاع بين أهل العلم أنه لم يعتمر
____________________
(26/82)
بعد الحجة لا هو ولا أحد ممن حج معه حجة الوداع إلا عائشة خاصة فإنه أعمرها مع أخيها عبد الرحمن لأجل حيضها الذي حاضته وبنيت بعد ذلك مساجد فسميت ( مساجد عائشة ( فإنها أحرمت بالعمرة من هناك فإنه أدنى الحل إلى مكة إذ ذاك الجانب من الحرم أقرب جوانبه من مكة وكان قد اعتمر مع حجته ولم يعتمر بعدها فتبين أن عمرته كانت فيها قبلها فيكون متمتعا
يوضح ذلك أن عامة الذين روي عنهم أنه أفرد الحج كعائشة وبن عمر روى عنهم أنه تمتع بالعمرة إلى الحج كما ثبت ذلك في الصحيحين عن بن عمر وعائشة وغيرهما وقد تبين أن من قال تمتع بالعمرة إلى الحج وأنه حل من إحرامه كما زعم ذلك بعض أصحاب أحمد كالقاضي وغيره وزعموا أنه كان مخصوصا بذلك دون من تمتع وساق الهدي فهذا القول خطأ
وكذلك من يظن من أصحاب مالك والشافعي أنه أفرد الحج واعتمر عقب ذلك فهذا القول خطأ وكلا القولين مخالف لإجماع أهل العلم بالآثار
وكذلك من زعم أنه طاف طوافين وسعى سعيين كما يختار ذلك أصحاب أبي حنيفة وأنه خلاف الأحاديث الصحيحة التى
____________________
(26/83)
تبين أنه لم يطف بالبيت والصفا والمروة إلا مرة واحدة
وأما من قال من أصحاب أحمد أنه تمتع ولم يحل من إحرامه لأجل سوق الهدي كما يختاره أبو محمد وغيره فالتمتع على المشهور عندهم السعي بين الصفا والمروة بعد طواف الإفاضة للحج كما سعى أولا للعمرة والنبى صلى الله عليه وسلم لم يسع بعد الإفاضة فكيف يكون متمتعا على هذا القول لكن عن أحمد رواية أخرى أن المتمتع لا يحتاج إلى سعي ثان بل يكفيه السعي الأول كما يكفي المفرد وكما يكفي القارن
وسبب اختلاف الروايتين عن أحمد أن في حديث عامر ( أنهم لم يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة إلا الطواف الأول ( وفي حديث عائشة ( أنهم طافوا بعد التعريف ( فإنه على هذه الرواية لا يتوجه هذا الإلزام لكن لا يبقى بين القارن وبين المتمتع الذي ساق الهدي فلم يحل لأجله فرق إلا أن القارن أحرم بالحج قبل الطواف والسعي والمتمتع أحرم بالحج بعد ذلك فإذا كان إدخاله الحج عليها بعد طوافه وسعيه كإدخاله قبل طوافه وسعيه لا يوجب عليه سعيا ثانيا لم يكن بين القارن والمتمتع الذي لم يحل فرق أصلا
وعلى هذا فإحرامه بالحج قبل أن يطوف ويسعى أفضل من أن
____________________
(26/84)
يحرم به بعد الطواف والسعي وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أحرم بهما جميعا وقال ( لبيك عمرة وحجا ( ومن لم يحرم بالحج إلا بعد الطواف والسعي لا يقول هذا
ومن قال من أصحاب مالك والشافعي أفرد الحج ولم يعتمر مع حجته فالأحاديث الصحيحة التى تبين أنه اعتمر مع حجته وأنه اعتمر أربع عمر عمرة الحديبية وعمرة القضية وعمرة الجعرانة والعمرة التى مع حجته ترد هذا القول وكذلك قول حفصة فى الحديث المتفق عليه ( ما بال الناس حلوا ولم تحل من عمرتك فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا احل حتى أنحر (
وأما قول القائل أيما أفضل
فالتحقيق فى هذه المسألة أنه اذا أفرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة فهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة مع مالك والشافعي وغيرهم وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر وكان عمر يختاره للناس وكذلك علي رضي الله عنه وقال عمر وعلي فى قوله ( وأتموا الحج والعمرة لله ( قالا إتمامهما أن تهل بهما من دويرة أهلك وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها ( اجرك على قدر
____________________
(26/85)
نصبك ( واذا رجع الحاج إلى دويرة أهله فأنشا منها العمرة أو اعتمر قبل أشهر الحج وأقام حتى يحج أو اعتمر فى أشهره ورجع إلى أهله ثم حج فهنا قد أتى بكل واحد من النسكين من دويرة أهله وهذا أتى بهما على الكمال فهو أفضل من غيره
وأما إذا أفرد الحج واعتمر عقب ذلك من أدنى الحل فهذا الإفراد لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه بل ولا غيرهم كيف يكون هو الأفضل مما فعلوه معه بأمره بل لم يعرف أن أحدا اعتمر من مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة لا فى حجة الوداع ولا قبلها ولا بعدها بل هذه العمرة لا تجزئ عن عمرة الإسلام فى إحدى الروايتين عن أحمد وعند بعض أهل العلم أنها متعة
وتكره العمرة في ذي الحجة عند طائفة من أهل العلم مع أن عائشة كانت إذا حجت صبرت حتى يدخل المحرم ثم تحرم من الجحفة فلم تكن تعتمر من أدنى الحل ولا في ذي الحجة وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة وقدم مكة في أشهر الحج ولم يسق الهدي فالتمتع أفضل له من أن يحج ويعتمر بعد ذلك من الحل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
____________________
(26/86)
وسلم الذين حجوا معه ولم يسوقوا الهدي أمرهم جميعهم أن يحجوا هكذا أمرهم إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها متعة فلما كان يوم التروية أمرهم أن يحرموا بالحج وهذا متواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بذلك وحجوا معه كذلك ومعلوم أنهم أفضل الأمة بعده ولا حجة تكون أفضل من حجة أفضل الأمة مع أفضل الخلق بأمره فكيف يكون حج من حج مفردا واعتمر عقب ذلك أو قارنا ولم يسق الهدي أفضل من حج هؤلاء معه بأمره وكيف ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول وأمره أبلغ من فعله
وأيضا فإن من يحرم بالعمرة قد نوى الحج فإنه ينوي التمتع بالعمرة إلى الحج كما ينوي المغتسل إذا بدأ بالتوضؤ أنه يتوضأ الوضوء الذي هو بعض الغسل فيكون تحريمان وتحليلان كما للمفرد تحليلان وتحريمان فيكون له هدي كما للقارن هدي والهدي هدي نسك لا هدي جبران فإن هدي الجبران الذي يكون لترك واجب أو فعل محرم لا يحل سببه إلا مع العذر فليس له أن يترك شيئا من واجبات الحج بلا عذر أو يفعل شيئا من محظوراته بلا عذر ويأتي بدم وهذا له أن يتمتع بلا عذر ويأتي بالهدي فعلم أنه دم نسك وقد ثبت بالسنة أنه يأكل كما أكل
____________________
(26/87)
النبى صلى الله عليه وسلم من هديه وقد كان قارنا وكما ذبح عن نسائه البقرة وأطعمهن من ذلك وكن متمتعات
وأيضا فلمن يأتي بالعبادتين إذا كانتا من جنس يجمع بينهما أن يبدأ بالصغرى على الكبرى كما يتوضأ المغتسل ثم يتم غسله وكما أمره بمثل ذلك في غسل الميت فإذا اعتمر ثم أتى بالحج كان موافقا لهذا بخلاف من حج فإنه أتى بالغاية فإذا اعتمر عقب ذلك لم يكن فى عمرته عمل زائد
واذا أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز ذلك بالإتفاق لأنه التزم أكثر مما كان عليه
وأما اذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز على الصحيح لأنه لا يلتزم زيادة شيء وإنما جوزه أبو حنيفة بناء على أصله في أن عمل القارن فيه زيادة على عمل المفرد
ومن سافر سفرة واحدة واعتمر فيها ثم أراد أن يسافر أخرى للحج فتمتعه أيضا أفضل له من الحج فإن كثيرا من الصحابة الذين حجوا مع النبى صلى الله عليه وسلم كانوا قد اعتمروا قبل ذلك ومع هذا فأمرهم بالتمتع لم يأمرهم بالإفراد ولأن هذا يجمع بين عمرتين وحجة وهدي وهذا أفضل من عمرة وحجة
____________________
(26/88)
وكذلك لو تمتع ثم سافر من دويرة أهله للمتعة فهذا أفضل من سفرة بعمرة وسفرة بحجة مفردة وهذا المفرد أفضل من سفرة واحدة يتمتع فيها وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة ويسوق الهدي فالقران أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قرن وساق الهدي
ومن قال أنه مع سوق الهدي يكون التمتع أفضل له قيل له مع أن هذا مخالف للسنة إذا أحرم قبل الطواف والسعي كان قد تقدم إحرامه ووقع الطواف والسعي عن الحج والعمرة وإذا أحرم بعدهما لم يكن الطواف والسعي واقعا إلا عن العمرة ووقوع الأفعال عن حج مع عمرة خير من وقوعها عن عمرة لا يتحلل فيها إلى أن يحج لكنه قد يقول إذا تأخر إحرامه بالحج لزمه سعي ثان وهذا زيادة عمل لكن هذا فيه نزاع كما تقدم
وليس له أن يحتج بقول النبى صلى الله عليه وسلم ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ( لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل لتمتعت مع سوق الهدي بل قال ( لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ( فجعل المطلوب متعة بلا سوق هدي وهذا
____________________
(26/89)
دليل ثان على أن من ساق الهدي لا يتمتع بل يقرن واذا كان القران والتمتع مع سوق الهدي سواءا إرتفع النزاع
فإن قيل أيما أفضل أن يسوق الهدي ويقرن أو أن يتمتع بلا سوق هدي ويحل من إحرامه
قيل هذا موضع الإجتهاد فإنه قد تعارض دليلان شرعيان
( أحدهما ( أنه قرن وساق الهدي فى حجة الوداع ولم يكن الله ليختار لنبيه المفضول دون الأفضل فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
( والثاني ( أن قوله هذا يقتضي أنه لو كان ذلك الحال هو وقت إحرامه لكان أحرم بعمرة ولم يسق الهدي بقوله ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ( فالذي استدبره هو الذي فعله ومضى فصار خلفه والذي يستقبله هو الذي لم يفعله بعد بل هو أمامه فتبين أنه لو كان مستقبلا لما استدبره من أمره وهو الإحرام لأحرم بالعمرة دون هدي وهو لا يختار أن ينتقل من الأفضل إلى المفضول بل إنما يختار الأفضل وذلك يدل على أنه تبين له حينئذ أن التمتع بلا هدي أفضل له
ولكن من نصر الأول يجيب عن هذا بأنه لم يقل هذا لأجل أن
____________________
(26/90)
الذي فعله مفضول بل لأن أصحابه شق عليهم أن يحلوا من إحرامهم مع بقائه محرما فكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أمروا به عن انشراح وموافقة وقد ينتقل عن الأفضل إلى المفضول لما فيه من الموافقة وائتلاف القلوب كما قال لعائشة ( لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولجعلت لها بابين ( فهنا ترك ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف الذي هو الأدنى من هذا الأولى فكذلك اختار المتعة بلا هدي
وعلى هذا التقدير فيكون الله قد جمع له بين أن فعل الأفضل وبين أن أعطاه بما يراه من الموافقة لهم ما في ذلك من الفضل فاجتمع له الأجران وهذا هو اللائق بحاله صلى الله عليه وسلم
يبين ذلك أن سوق الهدي أفضل من ترك سوقه وقد ساق مائة بدنة فكيف يكون ترك ذلك أفضل فى نفسه بمجرد التحلل والإحرام ثانيا وسوق الهدي فيه من تعظيم شعائر الله ما ليس فى تكرر التحلل والتحريم
يبين ذلك أن المتمتع اذا ساق الهدي فينبغي أن يكون أفضل من جميع من لم يسق والقارن الذي ساق الهدي أفضل منهما
وأيضا فإن القارن والمتمتع عليه هدي ومعلوم أن الهدي الذي يسوقه
____________________
(26/91)
من الحل أفضل باتفاق المسلمين مما يشتريه من الحرم بل فى أحد قولي العلماء لا يكون هديا إلا بما أهدي من الحل إلى الحرم وحينئذ فسوقه من الميقات أفضل من سوقه من أدنى الحل فكيف يجعل الهدي الذي لم يسق أفضل مما سيق فهذا وغيره مما يبين أن سوق الهدي مع التمتع والقران أفضل من تمتع لا سوق فيه
وأما سؤال السائل عن بعض الصحابة هل اعتمر من مكة فلم يعتمر أحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلا عائشة خاصة وعائشة نفسها كانت اذا حجت تمكث إلى أن يهل المحرم ثم تخرج إلى الجحفة فتحرم منها بعمرة وقوله صلى الله عليه وسلم ( عمرة فى رمضان تعدل حجة ( وفى لفظ ( تعدل حجة معي ( وفى رواية أنه قال ( الحج من سبيل الله ( فبين لها أن اعتمارها فى رمضان تقوم مقام الحجة التى تخلفت عنها والحجة كانت من المدينة والعمرة كانت من المدينة وذلك لأن شهر رمضان هو شهر الصيام وهو قبل أشهر الحج ومن حج من عامه كان أفضل من المتمتع والمتمتع لابد أن يعتمر فى أشهر الحج وقد كان يمكنه أن يحرم بالحج فلما عدل عن الإحرام
____________________
(26/92)
بالحج إلى الإحرام بالعمرة ترفه بسقوط أحد السفرين فصار الهدي قائما مقام هذا الترفه
ولهذا ظن بعض الفقهاء أن هدي المتمتع هدي جبران ومنعوه من الأكل منه وجعلوا وجوب الهدي فى المتمتع دليلا على أنه مرجوح فإن النسك السالم عن جبران أفضل من النسك المجبور
فقال لهم الآخرون دم الجبران لا يجوز للرجل أن يفعل سببه بغير عذر وهنا يجوز التمتع من غير حاجة فامتنع أن يكون هذا دم جبران نعم قد يقال التمتع رخصة والرخصة قد تكون أفضل كما أن القصر أفضل من التربيع عند العلماء بالسنة المتواترة واتفاق السلف وكذلك ( الفطر والمسح ( على أظهر قولي العلماء فإن الفطر هو آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم
وتنازع العلماء في وجوبه وفى إجزاء الصوم فى السفر فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم فى السفر عليه القضاء واتفق المسلمون على أن الفطر فى السفر جائز لأنه كان آخر الأمرين من النبى صلى الله عليه وسلم واتفق المسلمون على جوازه وهو أفضل فما تنازعوا فى جوازه مع أنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ليس من البر الصيام فى السفر ( وثبت فى صحيح مسلم أن حمزة
____________________
(26/93)
بن عمرو قال للنبى صلى الله عليه وسلم إني رجل أكثر الصيام أفاصوم في السفر فقال ( إن أفطرت فحسن وإن صمت فلا بأس ( فحسن الفطر ورفع البأس عن الصوم
وهكذا ( المسح على الخفين ( فإنه لم ينقل أحد أن النبى صلى الله عليه وسلم كان اذا لبس الخفين على طهارة ثم أحدث أنه ينزعهما ويغسل رجليه بل كان يمسح عليهما وهذا مورد النزاع فأما اذا لم يكن عليه خفان ففرضه الغسل ولا يشرع له أن يلبس الخفين لأجل المسح بل صورة المسألة اذا لبسهما لحاجته فهل الأفضل أن يمسح عليهما أو يخلعهما أو كلاهما على السواء على ثلاثة أقوال
والصواب أن المسح أفضل إتباعا للسنة
وأيضا فالذي يحج متمتعا فعل ما يشرع باتفاق العلماء المعروفين وأما غير المتمتع ففي حجه نزاع فقد ثبت عن بن عباس وطائفة من السلف أن التمتع واجب وأن كل من طاف وسعى ولم يكن معه هدي فإنه يحل من إحرامه سواء قصد التحلل أو لم يقصده وليس لأحد عند هؤلاء أن يحج إلا متمتعا وهذا مذهب بن حزم وغيره من أهل الظاهر وهو مذهب الشيعة أيضا لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أصحابه فى حجة الوداع فإذا كان التمتع
____________________
(26/94)
مختلفا فى وجوبه متفقا على جوازه وغيره ليس بواجب ولم يتفق على جوازه كان الحج الذي اتفق على جوازه أولى
ولا يعارض هذا أن بعض المتقدمين كان ينهى عن المتعة وكان بعض الولاة يضرب عليها فعلماء أصحاب هذا القول قد قيل أنهم لم يكونوا يحرمون المتعة بل كانوا يختارون أن يعتمر الناس فى غير أشهر الحج كي لا يزال البيت معمورا بالحجاج والعمار ومن قدر أنه نهى عن ذلك نهي تحريم فهذا قول مخالف للسنة الثابتة عن النبى صلى الله عليه وسلم مع مخالفته لكتاب الله فلا يلتفت إليه
وأما تنازع العلماء فى جواز فسخ المفرد والقارن وانتقالهما إلى التمتع فمن العلماء من قال أن ذلك منسوخ وأن ذلك كان مخصوصا بالذين حجوا مع النبى صلى الله عليه وسلم قال بعضهم لأن النبى صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلمهم جواز العمرة فى أشهر الحج
وقال آخرون هذا قول ضعيف جدا فإن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر في أشهر الحج غير مرة بل عمرة كانت في أشهر الحج عمرة الحديبية كانت في ذي القعدة وعمرة القضاء في العام القابل كانت في ذي القعدة وعمرة الجعرانة كانت فى ذي القعدة أما كان فى هذا ما يبين جواز الإعتمار فى أشهر الحج
وأيضا فقد ثبت فى الصحيحين أنهم لما كانوا بذي الحليفة قال ( من شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة
____________________
(26/95)
فليفعل ومن شاء أن يهل بعمرة فليفعل ( فقد صرح لهم بجواز الثلاثة وفى هذا بيان واضح لجواز العمرة في أشهر الحج
وأيضا فالذين حجوا معه متمتعين كان في حجهم ما يبين الجواز فلا يجوز أن يأمر جميع من حج معه بالتحلل من إحرامه وأن يجعلوا ذلك تمتعا بمجرد بيان جواز ذلك ولا ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول فعلم أنه إنما نقلهم إلى الأفضل وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قيل له عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد فقال ( بل للأبد دخلت العمرة فى الحج إلى يوم القيامة (
وأيضا فإذا كان الكفار لم يكونوا يتمتعون ولا يعتمرون في أشهر الحج والنبى صلى الله عليه وسلم قصد مخالفة الكفار كان هذا من سنن الحج كما فعل في وقوفه بعرفة ومزدلفة فإن المشركين كانوا يعجلون الإفاضة من عرفة قبل الغروب ويؤخرون الإفاضة من جمع إلى أن تطلع الشمس فخالفهم النبى صلى الله عليه وسلم وقال ( خالف هدينا هدي المشركين ( فأخر الإفاضة من عرفة إلى أن غربت الشمس وعجل الإفاضة من جمع قبل طلوع الشمس وهذا هو السنة للمسلمين باتفاق المسلمين فهكذا ما فعله من التمتع والفسخ إن كان قصد به مخالفة المشركين فهذا هو السنة وإن فعله لأنه أفضل وهو سنة فعلى التقديرين يكون الفسخ أفضل اتباعا لما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه والله سبحانه أعلم
____________________
(26/96)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
وأما الركن اليماني فلا يقبل على القول الصحيح وأما سائر جوانب البيت والركنان الشاميان ومقام إبراهيم فلا يقبل ولا يتمسح به باتفاق المسلمين المتبعين للسنة المتواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم
فإذا لم يكن التمسح بذلك وتقبيله مستحبا فأولى أن لا يقبل ولا يتمسح بما هو دون ذلك واتفق العلماء على أنه لا يستحب لمن سلم على النبى صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يقبل الحجرة ولا يتمسح بها لئلا يضاهي بيت المخلوق بيت الخالق ولأنه قال صلى الله عليه وسلم ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ( وقال ( لا تتخذوا قبري عيدا ( وقال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ( فإذا كان هذا دين المسلمين في قبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم فقبر غيره أولى أن لا يقبل ولا يستلم
وقد حكى بعض العلماء فى هذا خلافا مرجوحا وأما الأئمة المتبعون والسلف الماضون فما أعلم بينهم فى ذلك خلافا والله سبحانه أعلم
____________________
(26/97)
وقال شيخ الإسلام أبو العباس
أحمد بن شهاب الدين عبد الحليم بن الإمام مجد الدين عبدالسلام إبن عبد الله بن تيمية رضي الله عنه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فقد تكرر السؤال من كثير من المسلمين أن أكتب فى بيان مناسك الحج ما يحتاج إليه غالب الحجاج فى غالب الأوقات فأني كنت قد كتبت منسكا فى أوائل عمري فذكرت فيه أدعية كثيرة وقلدت فى الأحكام من اتبعته قبلي من العلماء وكتبت فى هذا ما تبين لى من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مختصرا مبينا ولا حول ولا قوة إلا بالله
____________________
(26/98)
فصل
أول ما يفعله قاصد الحج والعمرة إذا أراد الدخول فيهما أن يحرم بذلك وقبل ذلك فهو قاصد الحج أو العمرة ولم يدخل فيهما بمنزلة الذي يخرج إلى صلاة الجمعة فله أجر السعي ولا يدخل في الصلاة حتى يحرم بها
وعليه إذا وصل إلى الميقات أن يحرم والمواقيت خمسة ذو الحليفة والجحفة وقرن المنازل ويلملم وذات عرق ولما وقت النبى صلى الله عليه وسلم المواقيت قال ( هن لأهلهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن لمن يريد الحج والعمرة ومن كان منزله دونهن فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون من مكة (
فذو الحليفة هي أبعد المواقيت بينها وبين مكة عشر مراحل أو أقل أو اكثر بحسب اختلاف الطرق فإن منها إلى مكة عدة طرق وتسمى وادي العقيق ومسجدها يسمي مسجد الشجرة وفيها بئر تسميها جهال العامة ( بئر على ( لظنهم أن عليا قاتل الجن بها وهو كذب فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة وعلي أرفع
____________________
(26/99)
قدرا من أن يثبت الجن لقتاله ولا فضيلة لهذا البئر ولا مذمة ولا يستحب أن يرمي بها حجرا ولا غيره
وأما الجحفة فبينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل وهي قرية كانت قديمة معمورة وكانت تسمى مهيعة وهي اليوم خراب ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكان الذي يسمى رابغا وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب كأهل الشام ومصر وسائر المغرب لكن اذا اجتازوا بالمدينة النبوية كما يفعلونه فى هذه الأوقات أحرموا من ميقات أهل المدينة فإن هذا هو المستحب لهم بالإتفاق فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع
وأما المواقيت الثلاثة فبين كل واحد منها وبين مكة نحو مرحلتين وليس لأحد أن يجاوز الميقات اذا أراد الحج أو العمرة إلا بإحرام وإن قصد مكة للتجارة أو الزيارة فينبغي له أن يحرم وفي الوجوب نزاع
ومن وافى الميقات فى أشهر الحج فهو مخير بين ثلاثة أنواع وهي التى يقال لها التمتع والإفراد والقران إن شاء أهل بعمرة فإذا حل منها أهل بالحج وهو يخص باسم التمتع وإن شاء أحرم بهما جميعا أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف
____________________
(26/100)
وهو القرآن وهو داخل فى اسم التمتع فى الكتاب والسنة وكلام الصحابة وإن شاء أحرم بالحج مفردا وهو الإفراد فصل
في الأفضل من ذلك فالتحقيق فى ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج فإن كان يسافر سفرة للعمرة وللحج سفرة أخري أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها حتى يحج فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة
والإحرام بالحج قبل أشهره ليس مسنونا بل مكروه واذا فعله فهل يصير محرما بعمرة أو بحج فيه نزاع وأما اذا فعل ما يفعله غالب الناس وهو أن يجمع بين العمرة والحج فى سفرة واحدة ويقدم مكة في أشهر الحج وهن شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة فهذا إن ساق الهدي فالقرآن أفضل له وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التى لم يختلف فى صحتها أهل
____________________
(26/101)
العلم بالحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع هو وأصحابه أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه وقرن هو بين العمرة والحج فقال ( لبيك عمرة وحجا )
ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبى صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها لأنها كانت قد حاضت فلم يمكنها الطواف لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ( فأمرها أن تهل بالحج وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة ثم أنها طلبت من النبى صلى الله عليه وسلم أن يعمرها فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن فاعتمرت من التنعيم والتنعيم هو أقرب الحل إلى مكة وبه اليوم المساجد التى تسمى ( مساجد عائشة ( ولم تكن هذه على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وإنما بنيت بعد ذلك علامة على المكان الذي أحرمت منه عائشة وليس دخول هذه المساجد ولا الصلاة فيها لمن اجتاز بها محرما لا فرضا ولا سنة بل قصد ذلك واعتقاد أنه يستحب بدعة مكروهة لكن من خرج من مكة ليعتمر فإنه إذا دخل واحدا منها وصلى فيه لأجل الإحرام
____________________
(26/102)
فلا بأس بذلك
ولم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر لا فى رمضان ولا في غير رمضان والذين حجوا مع النبى صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة إلا عائشة كما ذكر ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين والذين استحبوا الإفراد من الصحابة إنما استحبوا أن يحج في سفرة ويعتمر فى أخرى ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر عقب ذلك عمرة مكية بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط اللهم إلا أن يكون شيئا نادرا
وقد تنازع السلف فى هذا هل يكون متمتعا عليه دم أم لا وهل تجزئه هذه العمرة عن عمرة الإسلام أم لا
وقد اعتمر النبى صلى الله عليه وسلم بعد هجرته أربع عمر عمرة الحديبية وصل إلى الحديبية والحديبية وراء الجبل الذي بالتنعيم عند مساجد عائشة عن يمينك وأنت داخل إلى مكة فصده المشركون عن البيت فصالحهم وحل من إحرامه وانصرف وعمرة القضية اعتمر من العام القابل
وعمرة الجعرانة فإنه كان قد قاتل المشركين بحنين وحنين من
____________________
(26/103)
ناحية المشرق من ناحية الطائف وأما بدر فهي بين المدينة وبين مكة وبين الغزوتين ست سنين ولكن قرنتا فى الذكر لأن الله تعالى أنزل فيهما الملائكة لنصر النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فى القتال ثم ذهب فحاصر المشركين بالطائف ثم رجع وقسم غنائم حنين بالجعرانة فلما قسم غنائم حنين اعتمر من الجعرانة داخلا إلى مكة لا خارجا منها للإحرام
والعمرة الرابعة مع حجته فإنه قرن بين العمرة والحج باتفاق أهل المعرفة بسنته وباتفاق الصحابة على ذلك ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه تمتع تمتعا حل فيه بل كانوا يسمون القران تمتعا ولا نقل عن أحد من الصحابة أنه لما قرن طاف طوافين وسعى سعيين وعامة المنقول عن الصحابة فى صفة حجته ليست بمختلفة وإنما اشتبهت على من لم يعرف مرادهم وجميع الصحابة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج كعائشة وبن عمر وجابر قالوا أنه تمتع بالعمرة إلى الحج فقد ثبت فى الصحيحين عن عائشة وبن عمر بإسناد أصح من إسناد الإفراد ومرادهم بالتمتع القران كما ثبت ذلك فى الصحاح أيضا فإذا أراد الإحرام فإن كان قارنا قال لبيك عمرة وحجا وإن كان متمتعا قال لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج وإن كان مفردا قال لبيك حجة
____________________
(26/104)
أو قال اللهم إنى أوجبت عمرة وحجا أو أوجبت عمرة أتمتع بها إلى الحج أو أوجبت حجا أو أريد الحج أو أريدهما أو أريد التمتع بالعمرة إلى الحج فمهما قال من ذلك أجزأه باتفاق الأئمة ليس فى ذلك عبارة مخصوصة ولا يجب شيء من هذه العبارات باتفاق الأئمة كما لا يجب التلفظ بالنية فى الطهارة والصلاة والصيام باتفاق الأئمة بل متى لبى قاصدا للإحرام انعقد إحرامه باتفاق المسلمين ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء
ولكن تنازع العلماء هل يستحب أن يتكلم بذلك كما تنازعوا هل يستحب التلفظ بالنية فى الصلاة والصواب المقطوع به أنه لا يستحب شيء من ذلك فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسلمين شيئا من ذلك ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيء من ألفاظ النية لا هو ولا أصحابه بل لما أمر ضباعة بنت الزبير بالإشتراط قالت فكيف أقول قال ( قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني ( رواه أهل السنن وصححه الترمذي ولفظ النسائي إني أريد الحج فكيف أقول قال ( قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسنى فإن لك على ربك ما استثنيت ( وحديث الإشتراط في الصحيحين
لكن المقصود بهذا اللفظ أنه أمرها بالإشتراط فى التلبية ولم
____________________
(26/105)
يأمرها أن تقول قبل التلبية شيئا لا اشتراطا ولا غيره وكان يقول فى تلبيته ( لبيك عمرة وحجا ( وكان يقول للواحد من أصحابه ( بم أهللت ( وقال في المواقيت ( مهل أهل المدينة ذو الحليفة ومهل أهل الشام الجحفة ومهل أهل اليمن يلملم ومهل أهل نجد قرن المنازل ومهل أهل العراق ذات عرق ومن كان دونهن فمهله من أهله ( والإهلال هو التلبية فهذا هو الذي شرع النبى صلى الله عليه وسلم للمسلمين التكلم به فى ابتداء الحج والعمرة وإن كان مشروعا بعد ذلك كما تشرع تكبيرة الإحرام ويشرع التكبير بعد ذلك عند تغير الأحوال ولو أحرم إحراما مطلقا جاز فلو أحرم بالقصد للحج من حيث الجملة ولا يعرف هذا التفصيل جاز
ولو أهل ولبى كما يفعل الناس قاصدا للنسك ولم يسم شيئا بلفظه ولا قصد بقلبه لا تمتعا ولا إفرادا ولا قرانا صح حجه أيضا وفعل واحدا من الثلاثة فإن فعل ما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه كان حسنا وإن اشترط على ربه خوفا من العارض فقال وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني كان حسنا فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر ابنة عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أن تشترط على ربها لما كانت شاكية فخاف أن يصدها المرض عن البيت ولم
____________________
(26/106)
يكن يأمر بذلك كل من حج
وكذلك إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه فهو حسن ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك فإن النبى صلى الله عليه وسلم فعله ولم يأمر به الناس ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يأمر أحدا بعبارة بعينها وإنما يقال أهل بالحج أهل بالعمرة أو يقال لبى بالحج لبى بالعمرة وهو تأويل قوله تعالى ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ( وهذا على قراءة من قرأ ( فلا رفث ولا فسوق ( بالرفع فالرفث اسم للجماع قولا وعملا والفسوق اسم للمعاصي كلها والجدال على هذه القراءة هو المراء في أمر الحج فإن الله قد أوضحه وبينه وقطع المراء فيه كما كانوا فى الجاهلية يتمارون فى أحكامه وعلى القراءة الأخرى قد يفسر بهذا المعنى أيضا وقد فسروها بأن لا يماري الحاج أحدا والتفسير الأول أصح فإن الله لم ينه المحرم ولا غيره عن الجدال مطلقا بل الجدال قد يكون واجبا أو مستحبا كما قال تعالى ( وجادلهم بالتى هي أحسن ( وقد يكون الجدال محرما في الحج وغيره كالجدال بغير علم وكالجدال في الحق بعد ما تبين
____________________
(26/107)
ولفظ ( الفسوق ( يتناول ما حرمه الله تعالى ولا يختص بالسباب وإن كان سباب المسلم فسوقا فالفسوق يعم هذا وغيره
( والرفث ( هو الجماع وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث فلهذا ميز بينه وبين الفسوق
وأما سائر المحظورات كاللباس والطيب فإنه وإن كان يأثم بها فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين
وينبغي للمحرم أن لا يتكلم إلا بما يعنيه وكان شريح اذا أحرم كأنه الحية الصماء ولا يكون الرجل محرما بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته فإن القصد ما زال فى القلب منذ خرج من بلده بل لابد من قول أو عمل يصير به محرما هذا هو الصحيح من القولين والتجرد من اللباس واجب فى الإحرام وليس شرطا فيه فلو أحرم وعليه ثياب صح ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتفاق أئمة أهل العلم وعليه أن ينزع اللباس المحظور فصل
يستحب أن يحرم عقيب صلاة إما فرض وإما تطوع إن كان
____________________
(26/108)
وقت تطوع في أحد القولين وفي الآخر إن كان يصلي فرضا أحرم عقيبه وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه وهذا أرجح
ويستحب أن يغتسل للإحرام ولو كانت نفساء أو حائضا وإن احتاج إلى التنظيف كتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ونحو ذلك فعل ذلك وهذا ليس من خصائص الإحرام وكذلك لم يكن له ذكر فيما نقله الصحابة لكنه مشروع بحسب الحاجة وهكذا يشرع لمصلي الجمعة والعيد على هذا الوجه
ويستحب أن يحرم فى ثوبين نظيفين فإن كانا أبيضين فهما أفضل ويجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة من القطن والكتان والصوف
والسنة أن يحرم فى إزار ورداء سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين باتفاق الأئمة ولو أحرم فى غيرهما جاز اذا كان مما يجوز لبسه ويجوز أن يحرم فى الأبيض وغيره من الألوان الجائزة وإن كان ملونا
والأفضل أن يحرم فى نعلين إن تيسر والنعل هي التى يقال لها التاسومة فإن لم يجد نعلين لبس خفين وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بالقطع أولا ثم
____________________
(26/109)
رخص بعد ذلك في عرفات في لبس السراويل لمن لم يجد إزارا ورخص فى لبس الخفين لمن لم يجد نعلين وإنما رخص في المقطوع أولا لأنه يصير بالقطع كالنعلين
ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يلبس ما دون الكعبين مثل الخف المكعب والجمجم والمداس ونحو ذلك سواء كان واجدا للنعلين أو فاقدا لهما واذا لم يجد نعلين ولا ما يقوم مقامهما مثل الجمجم والمداس ونحو ذلك فله أن يلبس الخف ولا يقطعه وكذلك اذا لم يجد إزارا فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه هذا أصح قولي العلماء لأن النبى صلى الله عليه وسلم رخص فى البدل في عرفات كما رواه بن عمر
وكذلك يجوز أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء فله أن يلتحف بالقباء والجبة والقميص ونحو ذلك ويتغطى به باتفاق الائمة عرضا ويلبسه مقلوبا يجعل أسفله أعلاه ويتغطى باللحاف وغيره ولكن لا يغطي رأسه إلا لحاجة والنبى صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن يلبس القميص والبرنس والسراويل والخف والعمامة ونهاهم أن يغطوا رأس المحرم بعد الموت وأمر من أحرم فى جبة أن ينزعها عنه فما كان من هذا الجنس فهو فى معنى ما نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم فما كان فى معنى القميص
____________________
(26/110)
فهو مثله وليس له أن يلبس القميص لا بكم ولا بغير كم وسواء أدخل فيه يديه أو لم يدخلهما وسواء كان سليما أو مخروقا وكذلك لا يلبس الجبة ولا القباء الذي يدخل يديه فيه وكذلك الدرع الذي يسمى ( عرق جين ( وأمثال ذلك باتفاق الأئمة
وأما اذا طرح القباء على كتفيه من غير إدخال يديه ففيه نزاع وهذا معنى قول الفقهاء لا يلبس والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو وكذلك لا يلبس ما كان في معنى الخف كالموق والجورب ونحو ذلك
ولا يلبس ما كان في معنى السراويل كالتبان ونحوه وله أن يعقد ما يحتاج إلى عقده كالإزار وهميان النفقة والرداء لا يحتاج إلى عقده فلا يعقده فإن احتاج إلى عقده ففيه نزاع والأشبه جوازه حينئذ وهل المنع من عقده منع كراهة أو تحريم فيه نزاع وليس على تحريم ذلك دليل إلا ما نقل عن بن عمر رضي الله عنه أنه كره عقد الرداء وقد اختلف المتبعون لابن عمر فمنهم من قال هو كراهة تنزيه كأبي حنيفة وغيره ومنهم من قال كراهة تحريم
وأما الرأس فلا يغطيه لا بمخيط ولا غيره فلا يغطيه بعمامة ولا قلنسوة ولا كوفية ولا ثوب يلصق به ولا غير ذلك وله أن
____________________
(26/111)
يستظل تحت السقف والشجر ويستظل فى الخيمة ونحو ذلك باتفاقهم وأما الإستظلال بالمحمل كالمحارة التى لها رأس في حال السير فهذا فيه نزاع والأفضل للمحرم أن يضحي لمن أحرم له كما كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحجون وقد رأى بن عمر رجلا ظلل عليه فقال أيها المحرم أضح لمن أحرمت له ولهذا كان السلف يكرهون القباب على المحامل وهي المحامل التى لها رأس وأما المحامل المكشوفة فلم يكرهها إلا بعض النساك وهذا فى حق الرجل
وأما المرأة فإنها عورة فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب التى تستتر بها وتستظل بالمحمل لكن نهاها النبى صلى الله عليه وسلم أن تنتقب أو تلبس القفازين والقفازان غلاف يصنع لليد كما يفعله حملة البزاة ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالإتفاق وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضا ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا بيد ولا غير ذلك فإن النبى صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه
وأزواجه صلى الله عليه وسلم كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إحرام المرأة فى وجهها ( وإنما هذا قول بعض السلف لكن النبى صلى الله عليه وسلم نهاها أن تنتقب أو تلبس القفازين
____________________
(26/112)
كما نهى المحرم أن يلبس القميص والخف مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه باتفاق الأئمة والبرقع أقوى من النقاب فلهذا ينهى عنه باتفاقهم ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه كالبرقع ونحوه فإنه كالنقاب
وليس للمحرم أن يلبس شيئا مما نهى النبى صلى الله عليه وسلم عنه إلا لحاجة كما أنه ليس للصائم أن يفطر إلا لحاجة والحاجة مثل البرد الذي يخاف أن يمرضه اذا لم يغط رأسه أو مثل مرض نزل به يحتاج معه إلى تغطية رأسه فيلبس قدر الحاجة فإذا استغنى عنه نزع
وعليه أن يفتدي إما بصيام ثلاثة أيام وإما بنسك شاة أو بإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو شعير أو مد من بر وإن أطعمه خبزا جاز ويكون رطلين بالعراقي قريبا من نصف رطل بالدمشقي وينبغي أن يكون مأدوما وإن أطعمه مما يؤكل كالبقسماط والرقاق ونحو ذلك جاز وهو أفضل من أن يعطيه قمحا أو شعيرا وكذلك في سائر الكفارات اذا أعطاه مما يقتات به مع أدمه فهو أفضل من أن يعطيه حبا مجردا اذا لم يكن عادتهم أن يطحنوا بأيديهم ويخبزوا بأيديهم والواجب فى ذلك كله ما ذكره الله تعالى بقوله ( اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم
____________________
(26/113)
أو كسوتهم ( الآية فأمر الله تعالى بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم
وقد تنازع العلماء فى ذلك هل ذلك مقدر بالشرع أو يرجع فيه إلى العرف وكذلك تنازعوا فى النفقة نفقة الزوجة والراجح فى هذا كله أن يرجع فيه إلى العرف فيطعم كل قوم مما يطعمون أهليهم ولما كان كعب بن عجرة ونحوه يقتاتون التمر أمره النبى صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا من التمر بين ستة مساكين والفرق ستة عشر رطلا بالبغدادي
وهذه الفدية يجوز أن يخرجها اذا احتاج إلى فعل المحظور قبله وبعده ويجوز أن يذبح النسك قبل أن يصل إلى مكة ويصوم الأيام الثلاثة متتابعة إن شاء ومتفرقة إن شاء فإن كان له عذر أخر فعلها وإلا عجل فعلها
واذا لبس ثم لبس مرارا ولم يكن أدى الفدية أجزأته فدية واحدة فى أظهر قولي العلماء فصل
فإذا أحرم لبى بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا
____________________
(26/114)
شريك لك ( وإن زاد على ذلك لبيك ذا المعارج أو لبيك وسعديك ونحو ذلك جاز كما كان الصحابة يزيدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعهم فلم ينههم وكان هو يداوم على تلبيته ويلبي من حين يحرم سواء ركب دابة أو لم يركبها وإن أحرم بعد ذلك جاز
والتلبية هي إجابة دعوة الله تعالى لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته والمعنى انا مجيبوك لدعوتك مستسلمون لحكمتك مطيعون لأمرك مرة بعد مرة لا نزال على ذلك والتلبية شعار الحج فافضل الحج العج والثج فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج اراقة دماء الهدي
ولهذا يستحب رفع الصوت بها للرجل بحيث لا يجهد نفسه والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها ويستحب الإكثار منها عند اختلاف الأحوال مثل أدبار الصلوات ومثل ما اذا صعد نشزا أو هبط واديا أو سمع ملبيا أوأقبل الليل والنهار أو التقت الرفاق وكذلك اذا فعل ما نهي عنه وقد روي أنه من لبى حتى تغرب الشمس فقد أمسى مغفورا له
وإن دعا عقيب التلبية وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم
____________________
(26/115)
وسأل الله رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من سخطه والنار فحسن فصل
ومما ينهى عنه المحرم أن يتطيب بعد الاحرام فى بدنه أو ثيابه أو يتعمد لشم الطيب وأما الدهن فى رأسه أو بدنه بالزيت والسمن ونحوه اذا لم يكن فيه طيب ففيه نزاع مشهور وتركه أولى
ولا يقلم أظفاره ولا يقطع شعره وله أن يحك بدنه اذا حكه ويحتجم فى رأسه وغير رأسه وإن احتاج أن يحلق شعرا لذلك جاز فإنه قد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه وهو محرم ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره وإن تيقن أنه إنقطع بالغسل ويفتصد اذا احتاج إلى ذلك وله أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق وكذلك لغير الجنابة ولا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ولا يصطاد صيدا بريا ولا يتملكه بشراء ولا اتهاب ولا غير ذلك ولا يعين على صيد ولا يذبح صيدا فأما صيد البحر كالسمك ونحوه فله أن يصطاده ويأكله
وله أن يقطع الشجر لكن نفس الحرم لا يقطع شيئا من
____________________
(26/116)
شجره وإن كان غير محرم ولا من نباته المباح إلا الاذخر وأما ما غرس الناس أو زرعوه فهو لهم وكذلك ما يبس من النبات يجوز أخذه ولا يصطاد به صيدا وإن كان من الماء كالسمك على الصحيح بل ولا ينفر صيده مثل أن يقيمه ليقعد مكانه
وكذلك حرم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما بين لابتيها و ( اللابة ( هي الحرة وهي الأرض التى فيها حجارة سود وهو بريد فى بريد والبريد أربعة فراسخ وهو من عير إلى ثور وعير هو جبل عند الميقات يشبه العير وهو الحمار وثور هو جبل من ناحية أحد وهو غير جبل ثور الذي بمكة فهذا الحرم أيضا لا يصاد صيده ولا يقطع شجره إلا لحاجة كآلة الركوب والحرث ويؤخذ من حشيشه ما يحتاج إليه للعلف فإن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأهل المدينة فى هذا لحاجتهم إلى ذلك إذ ليس حولهم ما يستغنون به عنه بخلاف الحرم المكي واذا أدخل عليه صيد لم يكن عليه إرساله وليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره إلا هذان الحرمان ولا يسمى غيرهما حرما كما يسمي الجهال فيقولون حرم المقدس وحرم الخليل فإن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين والحرم المجمع عليه حرم مكة وأما المدينة فلها حرم أيضا عند الجمهور كما استفاضت
____________________
(26/117)
بذلك الأحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلم ولم يتنازع المسلمون فى حرم ثالث إلا في ( وج ( وهو واد بالطائف وهو عند بعضهم حرم وعند الجمهور ليس بحرم وللمحرم أن يقتل ما يؤذي بعادته الناس كالحية والعقرب والفأرة والغراب والكلب العقور وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدميين والبهائم حتى لو صال عليه أحد ولم يندفع إلا بالقتال قاتله فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد (
واذا قرصته البراغيث والقمل فله القاؤها عنه وله قتلها ولا شيء عليه والقاؤها أهون من قتلها وكذلك ما يتعرض له من الدواب فينهي عن قتله وإن كان فى نفسه محرما كالأسد والفهد فإذا قتله فلا جزاء عليه فى أظهر قولي العلماء وأما التفلي بدون التأذي فهو من الترفه فلا يفعله ولو فعله فلا شيء عليه
ويحرم على المحرم الوطء ومقدماته ولا يطأ شيئا سواء كان امرأة ولا غير امرأة ولا يتمتع بقبلة ولا مس بيد ولا نظر بشهوة فإن جامع فسد حجه وفى الانزال بغير الجماع نزاع ولا يفسد
____________________
(26/118)
الحج بشيء من المحظورات إلا بهذا الجنس فإن قبل بشهوة أو أمذى لشهوة فعليه دم فصل
إذا أتى مكة جاز أن يدخل مكة والمسجد من جميع الجوانب لكن الأفضل أن يأتي من وجه الكعبة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه دخلها من وجهها من الناحية العليا التى فيها اليوم باب المعلاة
ولم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم لمكة ولا للمدينة سور ولا أبواب مبنية ولكن دخلها من الثنية العليا ثنية كداء بالفتح والمد المشرفة على المقبرة ودخل المسجد من الباب الأعظم الذي يقال له باب بني شيبة ثم ذهب إلى الحجر الأسود فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود لمن دخل من باب المعلاة
ولم يكن قديما بمكة بناء يعلو على البيت ولا كان فوق الصفا والمروة والمشعر الحرام بناء ولا كان بمنى ولا بعرفات مسجد ولا عند الجمرات مساجد بل كل هذه محدثة بعد الخلفاء الراشدين ومنها ما أحدث بعد الدولة الاموية ومنها ما أحدث بعد ذلك فكان البيت يري قبل دخول المسجد
____________________
(26/119)
وقد ذكر بن جرير أن النبى صلى الله عليه وسلم كان اذا رأى البيت رفع يديه وقال ( اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتعظيما ( فمن رأى البيت قبل دخول المسجد فعل ذلك وقد إستحب ذلك من إستحبه عند رؤية البيت ولو كان بعد دخول المسجد
لكن النبى صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل المسجد ابتدأ بالطواف ولم يصل قبل ذلك تحية المسجد ولا غير ذلك بل تحية المسجد الحرام هو الطواف بالبيت وكان صلى الله عليه وسلم يغتسل لدخول مكة كما يبيت بذي طوى وهو عند الآبار التى يقال لها آبار الزاهر فمن تيسر له المبيت بها والاغتسال ودخول مكة نهارا وإلا فليس عليه شيء من ذلك
واذا دخل المسجد بدأ بالطواف فيبتدئ من الحجر الأسود يستقبله استقبالا ويستلمه ويقبله إن أمكن ولا يؤذي أحدا بالمزاحمة عليه فإن لم يمكن استلمه وقبل يده وإلا أشار إليه ثم ينتقل للطواف ويجعل البيت عن يساره وليس عليه أن يذهب إلى ما بين الركنين ولا يمشي عرضا ثم ينتقل للطواف بل ولا يستحب ذلك ويقول اذا استلمه بسم الله والله أكبر وإن شاء قال
____________________
(26/120)
اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ويجعل البيت عن يساره فيطوف سبعا ولا يخترق الحجر في طوافه لما كان أكثر الحجر من البيت والله أمر بالطواف به لا بالطواف فيه
ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين فإن النبى صلى الله عليه وسلم إنما استلمهما خاصة لأنهما على قواعد إبراهيم والآخران هما فى داخل البيت فالركن الأسود يستلم ويقبل واليمانى يستلم ولا يقبل والآخران لا يستلمان ولا يقبلان والاستلام هو مسحه باليد وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها ومقابر الأنبياء والصالحين كحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم ومغارة إبراهيم ومقام نبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلى فيه وغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين وصخرة بيت المقدس فلا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة
وأما الطواف بذلك فهو من أعظم البدع المحرمة ومن اتخذه دينا يستتاب فإن تاب وإلا قتل ولو وضع يده على الشاذروان الذي يربط فيه أستار الكعبة لم يضره ذلك فى أصح قولي العلماء وليس الشاذروان من البيت بل جعل عمادا للبيت
ويستحب له في الطواف الأول أن يرمل من الحجر إلى الحجر
____________________
(26/121)
فى الأطواف الثلاثة والرمل مثل الهرولة وهو مسارعة المشي مع تقارب الخطأ فإن لم يمكن الرمل للزحمة كان خروجه إلى حاشية المطاف والرمل أفضل من قربه إلى البيت بدون الرمل وأما اذا أمكن القرب من البيت مع إكمال السنة فهو أولى
ويجوز أن يطوف من وراء قبة زمزم وما وراءها من السقائف المتصلة بحيطان المسجد
ولو صلى المصلي في المسجد والناس يطوفون أمامه لم يكره سواء مر أمامه رجل أو امرأة وهذا من خصائص مكة
وكذلك يستحب أن يضطبع في هذا الطواف والاضطباع هو أن يبدي ضبعه الأيمن فيضع وسط الرداء تحت إبطه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر وإن ترك الرمل والاضطباع فلا شيء عليه
ويستحب له في الطواف أن يذكر الله تعالى ويدعوه بما يشرع وإن قرأ القرآن سرا فلا بأس وليس فيه ذكر محدود عن النبى صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له وكان النبى صلى الله عليه وسلم يختم طوافه بين الركنين بقوله ( ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة
____________________
(26/122)
حسنة وقنا عذاب النار ( كما كان يختم سائر دعائه بذلك وليس في ذلك ذكر واجب باتفاق الأئمة والطواف بالبيت كالصلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير
ولهذا يؤمر الطائف أن يكون متطهرا الطهارتين الصغرى والكبرى ويكون مستور العورة مجتنب النجاسة التى يجتنبها المصلي والطائف طاهرا لكن فى وجوب الطهارة فى الطواف نزاع بين العلماء فإنه لم ينقل أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة للطواف ولا نهي المحدث أن يطوف ولكنه طاف طاهرا لكنه ثبت عنه أنه نهى الحائض عن الطواف وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ( فالصلاة التى أوجب لها الطهارة ما كان يفتتح بالتكبير ويختم بالتسليم كالصلاة التى فيها ركوع وسجود كصلاة الجنازة وسجدتى السهو وأما الطواف وسجود التلاوة فليسا من هذا
والاعتكاف يشترط له المسجد ولا يشترط له الطهارة بالاتفاق والمعتكفة الحائض تنهى عن اللبث فى المسجد مع الحيض وإن كانت تلبث فى المسجد وهي محدثة
قال أحمد بن حنبل فى ( مناسك الحج ( لابنه عبد الله حدثنا
____________________
(26/123)
سهل بن يوسف أنبأنا شعبة عن حماد ومنصور قال سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ فلم يريا به بأسا قال عبد الله سألت أبي عن ذلك فقال أحب إلي أن لا يطوف بالبيت وهو غير متوضئ لأن الطواف بالبيت صلاة وقد اختلفت الرواية عن أحمد فى اشتراط الطهارة فيه ووجوبها كما هو أحد القولين فى مذهب أبي حنيفة لكن لا يختلف مذهب أبي حنيفة أنها ليست بشرط
ومن طاف في جورب ونحوه لئلا يطأ نجاسة من ذرق الحمام أو غطى يديه لئلا يمس إمرأة ونحو ذلك فقد خالف السنة فإن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ما زالوا يطوفون بالبيت وما زال الحمام بمكة لكن الاحتياط حسن ما لم يخالف السنة المعلومة فإذا أفضى إلى ذلك كان خطأ
وأعلم أن القول الذي يتضمن مخالفة السنة خطأ كمن يخلع نعليه في الصلاة المكتوبة أو صلاة الجنازة خوفا من أن يكون فيهما نجاسة فإن هذا خطأ مخالف للسنة فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلي فى نعليه وقال ( ان اليهود لا يصلون فى نعالهم فخالفوهم ( وقال ( إذا أتى المسجد أحدكم فلينظر فى نعليه فإن كان فيهما أذى فليدلكهما فى التراب فإن التراب لهما طهور (
وكما يجوز إن يصلي فى نعليه فكذلك يجوز أن يطوف فى نعليه
____________________
(26/124)
وإن لم يمكنه الطواف ماشيا فطاف راكبا أو محمولا أجزأه بالاتفاق وكذلك ما يعجز عنه من واجبات الطواف مثل من كان به نجاسة لا يمكنه إزالتها كالمستحاضة ومن به سلس البول فإنه يطوف ولا شيء عليه باتفاق الأئمة وكذلك لو لم يمكنه الطواف إلا عريانا فطاف بالليل كما لو لم يمكنه الصلاة إلا عريانا
وكذلك المرأة الحائض اذا لم يمكنها طواف الفرض إلا حائضا بحيث لا يمكنها التأخر بمكة ففي أحد قولي العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف إذا طافت الحائض أو الجنب أو المحدث أو حامل النجاسة مطلقا أجزأه الطواف وعليه دم إما شاة وإما بدنة مع الحيض والجنابة وشاة مع الحدث الأصغر
ومنع الحائض من الطواف قد يعلل بأنه يشبه الصلاة وقد يعلل بأنها ممنوعة من المسجد كما تمنع منه بالاعتكاف وكما قال عز وجل لابراهيم صلى الله عليه وسلم ( وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ( فأمره بتطهيره لهذه العبادات فمنعت الحائض من دخوله وقد اتفق العلماء على أنه لا يجب للطواف ما يجب للصلاة من تحريم وتحليل وقراءة وغير ذلك ولا يبطله ما يبطلها من الأكل والشرب والكلام وغير ذلك ولهذا كان مقتضى تعليل من منع الحائض لحرمة المسجد أنه
____________________
(26/125)
لا يرى الطهارة شرطا بل مقتضى قوله أنه يجوز لها ذلك عند الحاجة كما يجوز لها دخول المسجد عند الحاجة وقد أمر الله تعالى بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود والعاكف فيه لا يشترط له الطهارة ولا تجب عليه الطهارة من الحدث الأصغر باتفاق المسلمين ولو اضطرت العاكفة الحائض إلى لبثها فيه للحاجة جاز ذلك وأما ( الركع السجود ( فهم المصلون والطهارة شرط للصلاة باتفاق المسلمين والحائض لا تصلي لا قضاء ولا أداء
يبقى الطائف هل يلحق بالعاكف أو بالمصلي أو يكون قسما ثالثا بينها هذا محل اجتهاد
وقوله ( الطواف بالبيت صلاة ( لم يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم ولكن هو ثابت عن بن عباس وقد روى مرفوعا ونقل بعض الفقهاء عن بن عباس أنه قال ( اذا طاف بالبيت وهو جنب عليه دم ( ولا ريب أن المراد بذلك أنه يشبه الصلاة من بعض الوجوه ليس المراد أنه نوع من الصلاة التى يشترط لها الطهارة وهكذا قوله ( إذا أتى أحدكم المسجد فلا يشبك بين اصابعه فإنه في صلاة ( وقوله ( ان العبد فى صلاة ما كانت الصلاة تحبسه وما دام ينتظر الصلاة وما كان يعمد إلى الصلاة ( ونحو ذلك فلا يجوز لحائض أن تطوف إلا طاهرة إذا أمكنها ذلك باتفاق
____________________
(26/126)
العلماء ولو قدمت المرأة حائضا لم تطف بالبيت لكن تقف بعرفة وتفعل سائر المناسك كلها مع الحيض إلا الطواف فإنها تنتظر حتى تطهر إن أمكنها ذلك ثم تطوف وإن إضطرت إلى الطواف فطافت أجزأها ذلك على الصحيح من قولي العلماء فإذا قضى الطواف صلى ركعتين للطواف وإن صلاهما عند مقام إبراهيم فهو أحسن ويستحب أن يقرأ فيهما بسورتي الاخلاص ( قل يا أيها الكافرون ( و ( قل هو الله أحد ( ثم اذا صلاهما استحب له أن يستلم الحجر ثم يخرج إلى الطواف بين الصفا والمروة ولو أخر ذلك إلى بعد طواف الإفاضة جاز
فإن الحج فيه ثلاثة أطوفة طواف عند الدخول وهو يسمى طواف القدوم والدخول والورود والطواف الثاني هو بعد التعريف ويقال له طواف الإفاضة والزيارة وهو طواف الفرض الذي لابد منه كما قال تعالى ( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ( والطواف الثالث هو لمن أراد الخروج من مكة وهو طواف الوداع وإذا سعى عقيب واحد منها أجزأه فاذا خرج للسعي خرج من باب الصفا وكان النبى صلى الله عليه وسلم يرقى على الصفا والمروة وهما في جانب
____________________
(26/127)
جبلي مكة فيكبر ويهلل ويدعو الله تعالى واليوم قد بنى فوقهما دكتان فمن وصل إلى أسفل البناء أجزأه السعي وإن لم يصعد فوق البناء فيطوف بالصفا والمروة سبعا يبتدئ بالصفا ويختم بالمروة ويستحب أن يسعى فى بطن الوادي من العلم إلى العلم وهما معلمان هناك وإن لم يسع فى بطن الوادي بل مشى على هيئته جميع ما بين الصفا والمروة أجزأه باتفاق العلماء ولا شيء عليه
ولا صلاة عقيب الطواف بالصفا والمروة وإنما الصلاة عقيب الطواف بالبيت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق السلف والأئمة
فإذا طاف بين الصفا والمروة حل من احرامه كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه لما طافوا بهما أن يحلوا إلا من كان معه هدي فلا يحل حتى ينحره والمفرد والقارن لا يحلان إلا يوم النحر ويستحب له أن يقصر من شعره ليدع الحلاق للحج وكذلك أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم واذا أحل حل له ما حرم عليه بالإحرام فصل
فإذا كان يوم التروية احرم وأهل بالحج فيفعل كما فعل عند
____________________
(26/128)
الميقات وإن شاء أحرم من مكة وإن شاء من خارج مكة هذا هو الصواب وأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم إنما أحرموا كما امرهم النبى صلى الله عليه وسلم من البطحاء والسنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه وكذلك المكي يحرم من أهله كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من كان منزله دون مكة فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون من مكة
والسنة أن يبيت الحاج بمنى فيصلون بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ولا يخرجون منها حتى تطلع الشمس كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم
وأما الايقاد فهو بدعة مكروهة باتفاق العلماء وإنما الايقاد بمزدلفة خاصة بعد الرجوع من عرفة وأما الايقاد بمنى أو عرفة فبدعة أيضا
ويسيرون منها إلى نمرة على طريق ضب من يمين الطريق و ( نمرة ( كانت قرية خارجة عن عرفات من جهة اليمين فيقيمون بها إلى الزوال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسيرون منها إلى بطن الوادي وهو موضع النبي صلى الله عليه وسلم الذي صلي فيه الظهر والعصر وخطب وهو فى حدود عرفة ببطن عرنة وهناك مسجد يقال له مسجد إبراهيم وإنما بنى فى أول دولة
____________________
(26/129)
بنى العباس
فيصلي هناك الظهر والعصر قصرا كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم ويصلي خلفه جميع الحاج أهل مكة وغيرهم قصرا وجمعا يخطب بهم الإمام كما خطب النبى صلى الله عليه وسلم على بعيره ثم اذا قضى الخطبة أذن المؤذن وأقام ثم يصلي كما جاءت بذلك السنة ويصلي بعرفة ومزدلفة ومنى قصرا ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة
وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبى صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ومنى وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبى صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدا من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى أتموا صلاتكم فانا قوم سفر ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ ولكن المنقول عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك فى غزوة الفتح لما صلى بهم بمكة
وأما في حجه فإنه لم ينزل بمكة ولكن كان نازلا خارج مكة وهناك كان يصلي بأصحابه ثم لما خرج إلى منى وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم ولما رجع من عرفة رجعوا معه ولما صلى بمنى أيام منى صلوا معه ولم يقل لهم أتموا صلاتكم فانا قوم سفر ولم يحد النبى
____________________
(26/130)
صلى الله عليه وسلم السفر لا بمسافة ولا بزمان ولم يكن بمنى أحد ساكنا فى زمنه ولهذا قال ( منى مناخ من سبق ( ولكن قيل أنها سكنت فى خلافة عثمان وأنه بسبب ذلك أتم عثمان الصلاة لأنه كان يرى أن المسافر من يحمل الزاد والمزاد
ثم بعد ذلك يذهب إلى عرفات فهذه السنة لكن فى هذه الأوقات لا يكاد يذهب أحد إلى نمرة ولا إلى مصلى النبى صلى الله عليه وسلم بل يدخلون عرفات بطريق المأزمين ويدخلونها قبل الزوال ومنهم من يدخلها ليلا ويبيتون بها قبل التعريف وهذا الذي يفعله الناس كله يجزئ معه الحج لكن فيه نقص عن السنة فيفعل ما يمكن من السنة مثل الجمع بين الصلاتين فيؤذن أذانا واحدا ويقيم لكل صلاة والايقاد بعرفة بدعة مكروهة وكذلك الايقاد بمنى بدعة باتفاق العلماء وإنما يكون الايقاد بمزدلفة خاصة فى الرجوع
ويقفون بعرفات إلى غروب الشمس ولا يخرجون منها حتى تغرب الشمس واذا غربت الشمس يخرجون إن شاؤوا بين العلمين وإن شاؤوا من جانبيهما والعلمان الأولان حد عرفة فلا يجاوزوهما حتى تغرب الشمس والميلان بعد ذلك حد مزدلفة وما بينهما بطن عرفة
ويجتهد فى الذكر والدعاء هذه العشية فإنه ما رؤي إبليس فى
____________________
(26/131)
يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ ولا أدحض من عشية عرفة لما يرى من تنزيل الرحمة وتجاوز الله سبحانه عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر فإنه رأي جبريل يزع الملائكة
ويصح وقوف الحائض وغير الحائض
ويجوز الوقوف ماشيا وراكبا وأما الأفضل فيختلف باختلاف الناس فإن كان ممن إذا ركب رآه الناس لحاجتهم إليه أو كان يشق عليه ترك الركوب وقف راكبا فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكبا
وهكذا الحج فإن من الناس من يكون حجه راكبا أفضل ومنهم من يكون حجه ماشيا أفضل ولم يعين النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة دعاء ولا ذكرا بل يدعو الرجل بما شاء من الأدعية الشرعية وكذلك يكبر ويهلل ويذكر الله تعالى حتى تغرب الشمس
والاغتسال لعرفة قد روي في حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم وروى عن بن عمر وغيره ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال غسل الإحرام والغسل عند دخول مكة والغسل يوم عرفة وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار وللطواف والمبيت بمزدلفة فلا أصل له لا عن النبى
____________________
(26/132)
صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحبه جمهور الأئمة لا مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه بل هو بدعة إلا أن يكون هناك سبب يقتضي الاستحباب مثل أن يكون عليه رائحة يؤذي الناس بها فيغتسل لإزالتها وعرفة كلها موقف ولا يقف ببطن عرنة وأما صعود الجبل الذي هناك فليس من السنة ويسمى جبل الرحمة ويقال له إلآل على وزن هلال وكذلك القبة التى فوقه التى يقال لها قبة آدم لا يستحب دخولها ولا الصلاة فيها والطواف بها من الكبائر وكذلك المساجد التى عند الجمرات لا يستحب دخول شيء منها ولا الصلاة فيها وأما الطواف بها أو بالصخرة أو بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما كان غير البيت العتيق فهو من أعظم البدع المحرمة فصل
فإذا أفاض من عرفات ذهب إلى المشعر الحرام على طريق المأزمين وهو طريق الناس اليوم وإنما قال الفقهاء على طريق المأزمين لأنه إلى عرفة طريق أخرى تسمى طريق ضب ومنها دخل النبي صلى الله
____________________
(26/133)
عليه وسلم إلى عرفات وخرج على طريق المأزمين
وكان صلى الله عليه وسلم فى المناسك والاعياد يذهب من طريق ويرجع من أخرى فدخل من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى ودخل المسجد من باب بني شيبة وخرج بعد الوداع من باب حزورة اليوم ودخل إلى عرفات من طريق ضب وخرج من طريق المأزمين وأتى إلى جمرة العقبة يوم العيد من الطريق الوسطى التى يخرج منها إلى خارج منى ثم يعطف على يساره إلى الجمرة ثم لما رجع إلى موضعه بمنى الذي نحر فيه هديه وحلق رأسه رجع من الطريق المتقدمة التى يسير منها جمهور الناس اليوم
فيؤخر المغرب إلى أن يصليها مع العشاء بمزدلفة ولا يزاحم الناس بل إن وجد خلوة أسرع فإذا وصل إلى المزدلفة صلى المغرب قبل تبريك الجمال إن أمكن ثم اذا بركوها صلوا العشاء وإن أخر العشاء لم يضر ذلك ويبيت بمزدلفة ومزدلفة كلها يقال لها المشعر الحرام وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر
فإن بين كل مشعرين حدا ليس منهما فإن بين عرفة ومزدلفة بطن عرنة وبين مزدلفة ومنى بطن محسر قال النبي صلى الله عليه وسلم ( عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة ومزدلفة كلها
____________________
(26/134)
موقف وارفعوا عن بطن محسر ومنى كلها منحر وفجاج مكة كلها طريق (
والسنة أن يبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر فيصلي بها الفجر فى أول الوقت ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يسفر جدا قبل طلوع الشمس فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم فإنه يتعجل من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر ولا ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر فيصلوا بها الفجر ويقفوا بها ومزدلفة كلها موقف لكن الوقوف عند قزح أفضل وهو جبل الميقدة وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم وقد بني عليه بناء وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء باسم المشعر الحرام
فإذا كان قبل طلوع الشمس أفاض من مزدلفة إلى منى فإذا أتي محسرا أسرع قدر رمية بحجر فإذا أتى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات ويرفع يده في الرمي وهي الجمرة التي هي آخر الجمرات من ناحية منى وأقربهن من مكة وهي الجمرة الكبرى ولا يرمي يوم النحر غيرها يرميها مستقبلا لها يجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه هذا هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها ويستحب أن يكبر مع كل حصاة وإن شاء قال مع ذلك اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا ويرفع يديه
____________________
(26/135)
في الرمي
ولا يزال يلبي فى ذهابه من مشعر إلى مشعر مثل ذهابه إلى عرفات وذهابه من عرفات إلى مزدلفة حتى يرمي جمرة العقبة فإذا شرع فى الرمي قطع التلبية فإنه حينئذ يشرع فى التحلل
والعلماء فى التلبية على ثلاثة أقوال منهم من يقول يقطعها إذا وصل إلى عرفة ومنهم من يقول بل يلبي بعرفة وغيرها إلى أن يرمي الجمرة والقول الثالث أنه إذا أفاض من عرفة إلى مزدلفة لبى وإذا أفاض من مزدلفة إلى منى لبى حتى يرمي جمرة العقبة وهكذا صح عن النبى صلى الله عليه وسلم فصل
وأما التلبية في وقوفه بعرفة ومزدلفة فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد نقل عن الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم كانوا يلبون بعرفة فإذا رمى جمرة العقبة نحر هديه إن كان معه هدي ويستحب أن تنحر الإبل مستقبلة القبلة قائمة معقولة اليد اليسري والبقر والغنم يضجعها على شقها الأيسر مستقبلا بها القبلة ويقول بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل مني كما تقبلت من
____________________
(26/136)
ابراهيم خليلك وكل ما ذبح بمنى وقد سيق من الحل إلى الحرم فإنه هدي سواء كان من الإبل أو البقر أو الغنم ويسمى أيضا أضحية بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل فإنه أضحية وليس بهدي وليس بمنى ما هو أضحية وليس بهدي كما في سائر الأمصار فإذا اشترى الهدي من عرفات وساقه إلى منى فهو هدي باتفاق العلماء وكذلك إن اشتراه من الحرم فذهب به إلى التنعيم وأما إذا اشترى الهدي من منى وذبحه فيها ففيه نزاع فمذهب مالك أنه ليس بهدي وهو منقول عن بن عمر ومذهب الثلاثة أنه هدي وهو منقول عن عائشة
وله أن يأخذ الحصى من حيث شاء لكن لا يرمي بحصى قد رمي به ويستحب أن يكون فوق الحمص ودون البندق وإن كسره جاز والتقاط الحصى أفضل من تكسيره من الجبل
ثم يحلق رأسه أو يقصره والحلق أفضل من التقصير وإذا قصره جمع الشعر وقص منه بقدر الأنملة أو أقل أو أكثر والمرأة لا تقص أكثر من ذلك وأما الرجل فله أن يقصر ما شاء
وإذا فعل ذلك فقد تحلل باتفاق المسلمين التحلل الأول فيلبس الثياب ويقلم أظفاره وكذلك له على الصحيح أن يتطيب ويتزوج وأن
____________________
(26/137)
يصطاد ولا يبقى عليه من المحظورات إلا النساء
وبعد ذلك يدخل مكة فيطوف طواف الإفاضة إن أمكنه ذلك يوم النحر وإلا فعله بعد ذلك لكن ينبغي أن يكون فى أيام التشريق فإن تأخيره عن ذلك فيه نزاع ثم يسعى بعد ذلك سعي الحج وليس على المفرد إلا سعي واحد وكذلك القارن عند جمهور العلماء وكذلك المتمتع في أصح أقوالهم وهو أصح الروايتين عند أحمد وليس عليه إلا سعي واحد فإن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة قبل التعريف
فإذا اكتفى المتمتع بالسعي الأول أجزأه ذلك كما يجزئ المفرد والقارن وكذلك قال عبد الله بن احمد بن حنبل قيل لأبي المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة قال إن طاف طوافين يعني بالبيت وبين الصفا والمروة فهو أجود وإن طاف طوافا واحدا فلا بأس وإن طاف طوافين فهو أعجب إلى وقال أحمد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن عطاء عن بن عباس أنه كان يقول المفرد والمتمتع يجزئه طواف بالبيت وسعي بين الصفا والمروة وقد اختلفوا فى الصحابة المتمتعين مع النبي صلى الله عليه وسلم مع اتفاق الناس على أنهم طافوا أولا بالبيت وبين الصفا والمروة لما رجعوا من عرفة قيل أنهم سعوا أيضا بعد طواف الإفاضة
____________________
(26/138)
وقيل لم يسعوا وهذا هو الذي ثبت فى صحيح مسلم عن جابر قال لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا مرتين لكن هذه الزيادة قيل إنها من قول الزهري لا من قول عائشة وقد احتج بها بعضهم على أنه يستحب طوافان بالبيت وهذا ضعيف والأظهر ما في حديث جابر ويؤيده قوله ( دخلت العمرة فى الحج إلى يوم القيامة ( فالمتمتع من حين أحرم بالعمرة دخل بالحج لكنه فصل بتحلل ليكون أيسر على الحاج وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة
ولا يستحب للمتمتع ولا لغيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف بل هذا الطواف هو السنة فى حقه كما فعل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا طاف طواف الإفاضة فقد حل له كل شيء النساء وغير النساء
وليس بمنى صلاة عيد بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لأهل الأمصار والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل جمعة ولا عيدا فى السفر لا بمكة ولا عرفة بل كانت خطبته بعرفة خطبة نسك لا خطبة جمعة ولم يجهر بالقراءة فى الصلاة بعرفة
____________________
(26/139)
فصل
ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ويرمي الجمرات الثلاث كل يوم بعد الزوال يبتدئ بالجمرة الأولى التى هي أقرب إلى مسجد الخيف ويستحب أن يمشى إليها فيرميها بسبع حصيات ويستحب له أن يكبر مع كل حصاة وإن شاء قال اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا ويستحب له اذا رماها أن يتقدم قليلا إلى موضع لا يصيبه الحصى فيدعو الله تعالى مستقبل القبلة رافعا يديه بقدر سورة البقرة
ثم يذهب إلى الجمرة الثانية فيرميها كذلك فيتقدم عن يساره يدعو مثل ما فعل عند الأولى ثم يرمي الثالثة وهي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات أيضا ولا يقف عندها
ثم يرمي فى اليوم الثاني من أيام منى مثل ما رمى فى الأول ثم إن شاء رمى فى اليوم الثالث وهو الأفضل وإن شاء تعجل فى اليوم الثاني بنفسه قبل غروب الشمس كما قال تعالى ( فمن تعجل فى يومين
____________________
(26/140)
فلا اثم عليه ( الآية فإذا غربت الشمس وهو بمنى أقام حتى يرمي مع الناس فى اليوم الثالث ولا ينفر الإمام الذي يقيم للناس المناسك بل السنة أن يقيم إلى اليوم الثالث والسنة للإمام أن يصلي بالناس بمنى ويصلي خلفه أهل الموسم
ويستحب أن لا يدع الصلاة فى مسجد منى وهو مسجد الخيف مع الإمام فإن النبى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون بالناس قصرا بلا جمع بمنى ويقصر الناس كلهم خلفهم أهل مكة وغير أهل مكة وإنما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يا أهل مكة أتموا صلاتكم فانا قوم سفر ( لما صلى بهم بمكة نفسها فإن لم يكن للناس إمام عام صلى الرجل بأصحابه والمسجد بني بعد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على عهده
ثم اذا نفر من منى فإن بات بالمحصب وهو الابطح وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة ثم نفر بعد ذلك فحسن فإن النبى صلى الله عليه وسلم بات به وخرج ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى لكنه ودع البيت وقال ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ( فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت فيطوف طواف الوداع حتى يكون
____________________
(26/141)
آخر عهده بالبيت ومن أقام بمكة فلا وداع عليه
وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها لكن إن قضى حاجته أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل فلا إعادة عليه وإن أقام بعد الوداع أعاده وهذا الطواف واجب عند الجمهور لكن يسقط عن الحائض
وإن أحب أن يأتي الملتزم وهو ما بين الحجر الأسود والباب فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه ويدعو ويسأل الله تعالى حاجته فعل ذلك وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة وإن شاء قال في دعائه الدعاء المأثور عن بن عباس ( اللهم اني عبدك وبن عبدك وبن أمتك حملتني على ما سخرت لى من خلقك وسيرتني فى بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عنى رضا وإلا فمن الآن فارض عني قبل أن تنآى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم فأصحبنى العافية فى بدني والصحة في
____________________
(26/142)
جسمي والعصمة فى ديني وأحسن منقلبى وارزقنى طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير ( ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسنا
فإذا ولى لا يقف ولا يلتفت ولا يمشي القهقري قال الثعلبي في ( فقه اللغة ( القهقري مشية الراجع إلى خلف حتى قد قيل أنه إذا رأى البيت رجع فودع وكذلك عند سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم لا ينصرف ولا يمشي القهقري بل يخرج كما يخرج الناس من المساجد عند الصلاة وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد لكن عليه وعلى المتمتع هدي بدنة أو بقرة أو شاة أو شرك في دم فمن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام قبل يوم النحر وسبعة اذا رجع وله أن يصوم الثلاثة من حين أحرم بالعمرة فى أظهر أقوال العلماء وفيه ثلاث روايات عن أحمد قيل أنه يصومها قبل الإحرام بالعمرة وقيل لا يصومها إلا بعد الإحرام بالحج وقيل يصومها من حين الإحرام بالعمرة وهو الأرجح وقد قيل أنه يصومها بعد التحلل من العمرة فإنه حينئذ شرع فى الحج ولكن دخلت العمرة فى الحج كما دخل الوضوء في الغسل قال النبي صلى الله عليه وسلم ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ( وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا متمتعين معه وإنما
____________________
(26/143)
أحرموا بالحج
ويستحب أن يشرب من ماء زمزم ويتضلع منه ويدعو عند شربه بما شاء من الأدعية الشرعية ولا يستحب الاغتسال منها
وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام كالمسجد الذي تحت الصفا وما في سفح أبي قبيس ونحو ذلك من المساجد التى بنيت على آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كمسجد المولد وغيره فليس قصد شيء من ذلك من السنة ولا استحبه أحد من الأئمة وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة والمشاعر عرفة ومزدلفة والصفا والمروة وكذلك قصد الجبال والبقاع التى حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال أنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك بل هو بدعة وكذلك ما يوجد فى الطرقات من المساجد المبنية على الآثار والبقاع التى يقال أنها من الآثار لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك بخصوصه ولا زيارة شيء من ذلك
ودخول الكعبة ليس بفرض ولا سنة مؤكدة بل دخولها حسن والنبى صلى الله عليه وسلم لم يدخلها فى الحج ولا فى العمرة
____________________
(26/144)
لا عمرة الجعرانة ولا عمرة القضية وانما دخلها عام فتح مكة ومن دخلها يستحب له ان يصلي فيها ويكبر الله ويدعوه ويذكره فاذا دخل مع الباب تقدم حتى يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع والباب خلفه فذلك هو المكان الذى صلى فيه النبى ولا يدخلها الا حافيا والحجر أكثره من البيت من حيث ينحني حائطه فمن دخله فهو كمن دخل الكعبة وليس على داخل الكعبة ما ليس على غيره من الحجاج بل يجوز له من المشي حافيا وغيرذلك ما يجوز لغيره
والاكثار من الطواف بالبيت من الاعمال الصالحة فهو افضل من ان يخرج الرجل من الحرم ويأتى بعمرة مكية فان هذا لم يكن من أعمال السابقين الاولين من المهاجرين والانصار ولا رغب فيه النبى صلى الله عليه وسلم لامته بل كرهه السلف فصل
وإذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده فانه يأتى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم ويصلى فيه والصلاة فيه خير من الف صلاة فيما سواه الا المسجد الحرام ولا تشد الرحال الا إليه والى المسجد الحرام
____________________
(26/145)
والمسجد الاقصى هكذا ثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وأبى سعيد وهو مروى من طرق أخر
ومسجده كان أصغر مما هو اليوم وكذلك المسجد الحرام لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون ومن بعدهم وحكم الزيادة حكم المزيد فى جميع الاحكام
ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فانه قد قال ( ما من رجل يسلم علي الارد الله علي روحى حتى أرد عليه السلام ( رواه أبو داود وغيره وكان عبد الله بن عمر يقول اذا دخل المسجد السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه ويسلمون عليه مستقبلى الحجرة مستدبرى القبلة عند أكثر العلماء كمالك والشافعى وأحمد وأبو حنيفة قال يستقبل القبلة فمن أصحابه من قال يستدبر الحجرة ومنهم من قال يجعلها عن يساره واتفقوا على انه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها وإذا قال في سلامه السلام عليك يا رسول الله يا نبي الله يا خيرة اللهمن خلقه يا أكرم الخلق على ربه يا امام المتقين فهذا كله من صفاته بأبي هو وأمي وكذلك اذا صلى عليه مع السلام عليه فهذا مما أمر الله به
____________________
(26/146)
ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة فان هذا كله منهى عنه باتفاق الأئمة ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك والحكاية المروية عنه انه أمر المنصور أن يستقبل الحجرة وقت الدعاء كذب على مالك ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه فان هذا بدعة ولم يكن احد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون فى مسجده فانه قال ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد ( وقال ( لا تجعلوا قبرى عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني ( وقال ( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي فقالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي بليت قال ان الله حرم على الارض ان تأكل أجساد الانبياء ( فاخبر انه يسمع الصلاة والسلام من القريب وانه يبلغ ذلك من البعيد وقال ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لا برز قبره ولكنه كره ان يتخذ مسجدا ( أخرجاه فى الصحيحين
فدفنته الصحابة فى موضعه الذى مات فيه من حجرة عائشة وكانت هي وسائر الحجر خارج المسجدمن قبليه وشرقيه لكن لما كان فى زمن الوليد بن عبد الملك عمر هذا المسجد وغيره وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز فأمر أن تشترى الحجر ويزاد
____________________
(26/147)
فى المسجد فدخلت الحجرة في المسجد من ذلك الزمان وبنيت منحرفة عن القبلة مسنمة لئلا يصلى احداليها فانه قال ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا اليها ( رواه مسلم عن أبى مرثد الغنوى والله أعلم وزيارة القبور على وجهين زيارة شرعية وزيارة بدعية فالشرعية المقصود بها السلام على الميت والدعاء له كما يقصد بالصلاة على جنازته فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه فالسنة ان يسلم على الميت ويدعو له سواء كان نبيا أو غير نبى كما كان النبى يأمر أصحابه اذا زاروا القبور ان يقول أحدهم ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وانا ان شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ( وهكذا يقول اذا زار أهل البقيع ومن به من الصحابة أو غيرهم او زار شهداء أحد وغيرهم
وليست الصلاة عند قبورهم أو قبور غيرهم مستحبة عند أحد من أئمة المسلمين بل الصلاة فى المساجد التى ليس فيها قبر أحد من الانبياء والصالحين وغيرهم أفضل من الصلاة فى المساجد التى فيها ذلك باتفاق أئمة
____________________
(26/148)
المسلمين بل الصلاة فى المساجد التي على القبور اما محرمه واما مكروهة
والزيارة البدعية ان يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت او يقصد الدعاء عند قبره أو يقصد الدعاء به فهذا ليس من سنة النبي ولا استحبه احد من سلف الأمة وأئمتها بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل زرت قبرالنبى وهذا اللفظ لم ينقل عن النبى بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله ( من زارنى وزار أبي ابراهيم فى عام واحد ضمنت له على الله الجنة ( وقوله ( من زارنى بعد مماتى فكأنما زارنى فى حياتى ومن زارنى بعد مماتى حلت عليه شفاعتي ( ونحو ذلك كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة ليست فى شيء من دواوين الاسلام التى يعتمد عليها ولا نقلها امام من أئمة المسلمين لا الأئمة الاربعة ولا غيرهم ولكن روى بعضها البزار والدار قطنى ونحوهما باسانيد ضعيفة ولان من عادة الدارقطنى وامثاله يذكرون هذا في السنن ليعرف وهو وغيره يبينون ضعف الضعيف من ذلك فاذا كانت هذه الامور التى فيها شرك وبدعة نهى عنها عند قبره وهو أفضل الخلق فالنهي عن ذلك عند قبر غيره أولى وأحرى
____________________
(26/149)
ويستحب ان يأتى مسجد قباء ويصلى فيه فان النبي قال ( من تطهر فى بيته واحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء لا يريد الا الصلاة فيه كان له كأجر عمرة ( رواه احمد والنسائي وبن ماجة وقال النبى ( الصلاة فى مسجد قباء كعمرة ( قال الترمذى حسن
والسفر إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف مستحب في أى وقت شاء سواء كان عام الحج او بعده ولا يفعل فيه وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الا ما يفعل فى سائر المساجد وليس فيها شيء يتمسح به ولا يقبل ولا يطاف به هذا كله ليس الا فى المسجد الحرام خاصة ولا تستحب زيارة الصخرة بل المستحب أن يصلي فى قبلي المسجد الأقصى الذى بناه عمر بن الخطاب للمسلمين
ولا يسافر احد ليقف بغير عرفات ولا يسافر للوقوف بالمسجد الأقصى ولا للوقوف عند قبر احد لا من الانبياء ولا المشايخ ولا غيرهم باتفاق المسلمين بل أظهر قولي العلماء انه لا يسافر احد لزيارة قبر من القبور
ولكن تزار القبور الزيارة الشرعية من كان قريبا ومن اجتاز
____________________
(26/150)
بها كما أن مسجد قباء يزار من المدينة وليس لأحد ان يسافر إليه لنهيه صلى الله عليه وسلم ان تشد الرحال الا إلى المساجد الثلاثة
وذلك ان الدين مبني على اصلين ان لا يعبد الا الله وحده لا شريك له ولا يعبد الا بما شرع لا نعبده بالبدع كما قال تعالى ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا ( ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل فيه لأحد شيئا وقال الفضيل بن عياض فى قوله تعالى ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ( قال أخلصه وأصوبه قيل يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال ان العمل اذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل واذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ان يكون لله والصواب ان يكون على السنة وقد قال الله تعالى ( ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله (
والمقصود بجميع العبادات ان يكون الدين كله لله وحده فالله هو المعبود والمسئول الذى يخاف ويرجى ويسأل ويعبد فله الدين خالصا وله أسلم من فى السموات والأرض طوعا وكرها والقرآن مملوء من هذا كما قال تعالى ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم
____________________
(26/151)
انا انزلنا اليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص ( إلى قوله ( قل الله اعبد مخلصا له دينى ( إلى قوله ( أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ( وقال تعالى ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ( الآيتين وقال تعالى ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ( الآيتين
قالت طائفة من السلف كان أقوام يدعون الملائكة والانبياء كالمسيح والعزير فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال تعالى ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول ( الآيات ومثل هذا فى القرآن كثير بل هذا مقصود القرآن ولبه وهو مقصود دعوة الرسل كلهم وله خلق الخلق كما قال تعالى ( وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون
فيجب على المسلم ان يعلم ان الحج من جنس الصلاة ونحوها من العبادات التى يعبد الله بها وحده لا شريك له وان الصلاة على الجنائز وزيارة قبور الأموات من جنس الدعاء لهم والدعاء للخلق من جنس المعروف والاحسان الذي هو من جنس الزكاة
والعبادات التى امر الله بها توحيد وسنة وغيرها فيها شرك
____________________
(26/152)
وبدعة كعبادات النصارى ومن اشبههم مثل قصد البقعة لغير العبادات التى امر الله بها فانه ليس من الدين ولهذا كان أئمة العلماء يعدون من جملة البدع المتكررة السفر لزيارة قبور الانبياء والصالحين وهذا فى أصح القولين غير مشروع حتى صرح بعض من قال ذلك ان من سافر هذا السفر لا يقصر فيه الصلاة لأنه سفر معصية وكذلك من يقصد بقعة لأجل الطلب من مخلوق هي منسوبة إليه كالقبر والمقام او لأجل الاستعاذة به ونحو ذلك فهذا شرك وبدعة كما تفعله النصارى ومن أشبههم من مبتدعة هذه الأمة حيث يجعلون الحج والصلاة من جنس ما يفعلونه من الشرك والبدع ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر له بعض ازواجه كنيسة بأرض الحبشة وذكر له عن حسنها وما فيها من التصاوير فقال ( اولئك اذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير اولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة (
ولهذا نهى العلماء عما فيه عبادة لغير الله وسؤال لمن مات من الانبياء او الصالحين مثل من يكتب رقعة ويعلقها عند قبر نبي او صالح اويسجد لقبر او يدعوه او يرغب إليه وقالوا انه لا يجوز بناء المساجد على القبور لأن النبي قال قبل ان يموت بخمس ليال ( ان من كان قبلكم كانوا يتخذون
____________________
(26/153)
القبور مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني انهاكم عن ذلك ( رواه مسلم وقال ( لوكنت متخذا من اهل الارض خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا ( وهذه الأحاديث فى الصحاح وما يفعله بعض الناس من اكل التمر فى المسجد او تعليق الشعر فى القناديل فبدعة مكروهة
ومن حمل شيئا من ماء زمزم جاز فقد كان السلف يحملونه واما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه بل غيره من التمر البرني والعجوة خير منه والأحاديث انما جاءت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى مثل ذلك كما جاء فى الصحيح ( من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يصبه ذلك اليوم سم ولا سحر ( ولم يجئ عنه فى الصيحاني شيء وقول بعض الناس انه صاح بالنبي جهل منه بل انما سمي بذلك ليبسه فانه يقال تصوح التمر اذا يبس
وهذا كقول بعض الجهال ان عين الزرقاء جاءت معه من مكة ولم يكن بالمدينة على عهد النبى عين جارية لا الزرقاء ولا عيون حمزة ولا غيرهما بل كل هذا مستخرج بعده
ورفع الصوت فى المساجد منهي عنه وقد ثبت ان عمر بن الخطاب
____________________
(26/154)
رضي الله عنه رأى رجلين يرفعان اصواتهما فى المسجد فقال لو أعلم أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا ان الأصوات لا ترفع فى مسجده فما يفعل بعض جهال العامة من رفع الصوت عقيب الصلاة من قولهم السلام عليك يا رسول الله بأصوات عالية من اقبح المنكرات ولم يكن احد من السلف يفعل شيئا من ذلك عقيب السلام بأصوات عالية ولا منخفضة بل ما فى الصلاة من قول المصلي السلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته هو المشروع كما ان الصلاة عليه مشروعة فى كل زمان ومكان
وقد ثبت فى الصحيح انه قال ( من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ( وفى المسند ( أن رجلا قال يا رسول الله أجعل عليك ثلث صلاتي قال اذا يكفيك الله ثلث امرك فقال اجعل عليك ثلثى صلاتى قال اذا يكفيك الله ثلثى امرك قال أجعل صلاتي كلها عليك قال اذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وأمر آخرتك ( وفى السنن عنه انه قال ( لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغني ( وقد رأى عبد الله بن حسن شيخ الحسنيين فى زمنه رجلا ينتاب قبر النبى للدعاء عنده قال يا هذا ان رسول الله قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن
____________________
(26/155)
صلاتكم تبلغني ( فما أنت ورجل بالاندلس الا سواء
ولهذا كان السلف يكثرون الصلاة والسلام عليه في كل مكان وزمان ولم يكونوا يجتمعون عند قبره لا لقراءة ختمة ولا ايقاد شمع واطعام واسقاء ولا انشاد قصائد ولا نحوذلك بل هذا من البدع بل كانوا يفعلون فى مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد من الصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف وتعليم القرآن والعلم وتعلمه ونحو ذلك
وقد علموا ان النبى له مثل اجر كل عمل صالح تعمله أمته فانه قال ( من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير ان ينقص من اجورهم شيئا ( وهو الذى دعا أمته إلى كل خير فكل خير يعمله احد من الامة فله مثل اجره فلم يكن يحتاج إلى ان يهدى إليه ثواب صلاة او صدقة او قراءة من احد فان له مثل اجر ما يعملونه من غير ان ينقص من اجورهم شيئا
وكل من كان له أطوع وأتبع كان أولى الناس به فى الدنيا والآخرة قال تعالى ( قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعنى ( وقال ( ان آل أبى فلان ليسوا لي
____________________
(26/156)
بأولياء انما ولي الله وصالح المؤمنين ( وهو أولى بكل مؤمن من نفسه وهو الواسطة بين الله وبين خلقه فى تبليغ امره ونهيه ووعده ووعيده فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه
والله هو المعبود المسئول المستعان به الذى يخاف ويرجى ويتوكل عليه قال تعالى ( ومن يطع الله ورسوله ويخش ويتقه فاولئك هم الفائزون ( فجعل الطاعة لله والرسول كما قال تعالى ( من يطع الرسول فقد اطاع الله ( وجعل الخشية والتقوى لله وحده لا شريك له فقال تعالى ( ولوانهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا إلى الله راغبون ( فاضاف الايتاء إلى الله والرسول كما قال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ( فليس لاحد ان يأخذ الا ما اباحه الرسول وان كان الله آتاه ذلك من جهة القدرة والملك فانه يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ولهذا كان يقول فى الاعتدال من الركوع وبعد السلام ( اللهم لا مانع لما اعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ( أى من آتيته جدا وهو البخت والمال والملك فإنه لا ينجيه منك الا الإيمان والتقوى
وأما التوكل فعلى الله وحده والرغبة فاليه وحده كما قال
____________________
(26/157)
تعالى ( وقالوا حسبنا الله ( ولم يقل ورسوله وقالوا ( انا إلى الله راغبون ( ولم يقولوا هنا ورسوله كما قال فى الايتاء بل هذا نظير قوله ( فاذا فرغت فانصب والى ربك فارغب ( وقال تعالى ( الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ( وفى صحيح البخاري عن بن عباس انه قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها ابراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل وقد قال تعالى ( يا أيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( اي الله وحده حسبك وحسب المؤمنين الذين اتبعوك
ومن قال ان الله والمؤمنين حسبك فقد ضل بل قوله من جنس الكفرة فإن الله وحده هو حسب كل مؤمن به والحسب الكافي كما قال تعالى ( أليس الله بكاف عبده (
ولله تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق كالعبادات والاخلاص والتوكل والخوف والرجاء والحج والصلاة والزكاة والصيام والصدقة والرسول له حق كالايمان به وطاعته واتباع سنته وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه وتقديمه فى المحبة على الأهل والمال والنفس كما قال ( والذي نفسي بيده
____________________
(26/158)
لا يؤمن احدكم حتى اكون احب إليه من ولده ووالده والناس اجمعين ( بل يجب تقديم الجهاد الذي أمر به على هذا كله كما قال تعالى ( قل ان كان آباؤكم وابناؤكم واخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين ( وقال تعالى ( والله ورسوله احق ان يرضوه ان كانوا مؤمنين ( وبسط ما في هذا المختصر وشرحه مذكور فى غير هذا الموضع والله سبحانه وتعالى اعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
____________________
(26/159)
وقال قدس الله روحه فصل
واما الحج فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول الله فى صفته واحكامه
وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة فى الصحيحين وغيرهما انه لما حج حجة الوداع احرم هو والمسلمون من ذى الحليفة فقال ( من شاء ان يهل بعمرة فليفعل ومن شاء ان يهل بحجة فليفعل ومن شاء ان يهل بعمرة وحجة فليفعل فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه ان يحلوا من احرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله فراجعه بعضهم فى ذلك فغضب وقال ( انظروا ما أمرتكم به فافعلوه ( وكان هو صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي فلم يحل من إحرامه
____________________
(26/160)
ولما رأى كراهة بعضهم للاحلال قال ( لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة ولولا ان معي الهدى لأحللت ( وقال أيضا ( إنى لبدت رأسى وقلدت هديي فلا احل حتى انحر ( فحل المسلمون جميعهم الا النفر الذين ساقوا الهدي منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بن أبى طالب وطلحة بن عبيد الله
فلما كان يوم التروية احرم المحلون بالحج وهم ذاهبون إلى منى فبات بهم تلك الليلة بمنى وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب ونمرة خارجة عن عرنة من يمانيها وغربيها ليست من الحرم ولا من عرفة فنصبت له القبة بنمرة وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده وبها الأسواق وقضاء الحاجة والأكل ونحو ذلك
فلما زالت الشمس ركب هو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة حيث قد بنى المسجد وليس هو من الحرم ولا من عرفة وانما هو برزخ بين المشعرين الحلال والحرام هناك بينه وبين الموقف نحو ميل فخطب بهم خطبة الحج على راحلته وكان يوم الجمعة ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين ثم سار والمسلمون معه الى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة
____________________
(26/161)
واسمه إلال على وزن هلال وهو الذى تسميه العامة عرفة فلم يزل هو والمسلمون فى الذكر والدعاء إلى ان غربت الشمس
فدفع بهم إلى مزدلفة فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة وبات بها حتى طلع الفجر فصلى بالمسلمين الفجر فى اول وقتها مغلسا بها زيادة على كل يوم ثم وقف عند ( قزح ( وهو جبل مزدلفة الذى يسمى المشعر الحرام وان كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور فى القرآن فلم يزل واقفا بالمسلمين إلى ان اسفر جدا
ثم دفع بهم حتى قدم منى فاستفتحها برمي جمرة العقبة ثم رجع إلى منزله بمنى فحلق رأسه ثم نحر ثلاثا وستين بدنه من الهدى الذى ساقه وأمر عليا فنحر الباقي وكان مائة بدنة ثم أفاض إلى مكة فطاف طواف الافاضة وكان قد عجل ضعفه أهل بيته من مزدلفة قبل طلوع الفجر فرموا الجمرة بليل ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث يصلى بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة يرمى كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يفتتح بالجمرة الأولى وهي الصغرى وهي الدنيا إلى منى والقصوى من مكة ويختتم بجمرة العقبة ويقف بين الجمرتين الأولى والثانية وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر الله ويدعو فان المواقف ثلاثة عرفة
____________________
(26/162)
ومزدلفة ومنى
ثم افاض آخر أيام التشريق بعد رمي الجمرات هو والمسلمون فنزل بالمحصب عند خيف بني كنانة فبات هو والمسلمون فيه ليلة الاربعاء
وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن لتعتمر من التنعيم وهو اقرب اطراف الحرم إلى مكة من طريق اهل المدينة وقد بنى بعده هناك مسجد سماه الناس مسجد عائشة لانه لم يعتمر بعد الحج مع النبى من اصحابه احد قط الا عائشة لاجل انها كانت قد حاضت لما قدمت وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة وقال لها النبى ( اقضي ما يقضي الحاج غير ان لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة
ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة ولم يقم بعد ايام التشريق ولا اعتمر احد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرم إلى الحل الا عائشة وحدها
فأخذ فقهاء الحديث كأحمد وغيره بسنته فى ذلك كله وان كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعض ذلك بتأويل تخفى عليه
____________________
(26/163)
فيه السنة
فمن ذلك انهم استحبوا للمسلمين ان يحجوا كما امر النبى اصحابه ولما اتفقت جميع الروايات على انه امر أصحابه بان يحلوا من احرامهم ويجعلوها متعة استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين فى سفرة واحدة واحرم في اشهر الحج كما امر به النبى وعلموا ان من افرد الحج واعتمر عقبه من الحل وان قالوا انه جائز فانه لم يفعله احد على عهد رسول الله الا عائشة على قول من يقول انها رفضت العمرة واحرمت بالحج كما يقوله الكوفيون واما على قول اكثر الفقهاء انها صارت قارنة فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك
وكذلك علموا ان من لم يسق الهدي وقرن بين النسكين لا يفعله وان قال اكثرهم كأحمد وغيره انه جائز فانه لم يفعله احد على عهد النبى صلى الله عليه وسلم الا عائشة على قول من قال انها كانت قارنة
ولم يختلف ائمة الحديث فقهاء وعلماء كأحمد وغيره ان النبى صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن مفردا للحج ولا كان متمتعا تمتع حل به من احرامه ومن قال من اصحاب احمد انه تمتع
____________________
(26/164)
وحل من احرامه فقد غلط وكذلك من قال انه لم يعتمر في حجته فقد غلط
وأما من توهم من بعض الفقهاء انه اعتمر بعد حجته كما يفعله المختارون للافراد اذا جمعوا بين النسكين فهذا لم يروه احد ولم يقله احد اصلا من العالمين بحجته فانه لا خلاف بينهم انه صلى الله عليه وسلم لا هو ولا احد من اصحابه اعتمر بعد الحج الا عائشة ولهذا لا يعرف موضع الاحرام بالعمرة الا بمساجد عائشة حيث لم يخرج احد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة الا هي ولا كان ايضا قارنا قرانا طاف فيه طوافين وسعى سعيين فان الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه انما طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التعريف مرة واحدة
فمن قال من اصحاب ابى حنيفة او مالك أو الشافعي او احمد شيئا من هذه المقالات فقد غلط
وسبب غلطه الفاظ مشتركة سمعها فى الفاظ الصحابة الناقلين لحجة النبى فانه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد منهم عائشة وبن عمر وغيرهما انه صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج ( وثبت ايضا عنهم ( 0 انه افرد الحج
____________________
(26/165)
وعامة الذين نقل عنهم ( انه افرد الحج ( ثبت عنهم انهم قالوا ( انه تمتع بالعمرة إلى الحج ( وثبت عن انس بن مالك انه قال سمعت رسول الله يقول ( لبيك عمرة وحجا ( وعن عمر انه اخبر عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( اتاني آت من ربي يعني بوادى العقيق وقال قل عمرة فى حجة ( ولم يحك احد لفظ النبى الذي احرم به الا عمر وانس فلهذا قال الامام احمد لا أشك ان النبى كان قارنا
وأما الفاظ الصحابة فان التمتع بالعمرة إلى الحج اسم لكل من اعتمر فى اشهر الحج وحج من عامة سواء جمع بينهما باحرام واحد او تحلل من احرامه فهذا التمتع العام يدخل فيه القران ولذلك وجب عليه الهدى عند عامة الفقهاء ادخالا له فى عموم قوله تعالى ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى ) وان كان اسم ( التمتع ( قد يختص بمن اعتمر ثم احرم بالحج بعد قضاء عمرته
فمن قال منهم ( تمتع بالعمرة إلى الحج ( لم يرد انه حل من احرامه ولكن اراد انه جمع فى حجته بين النسكين معتمرا فى اشهر الحج لكن لم يبين هل احرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين
____________________
(26/166)
أو أحرم بالحج بعد ذلك فإن كان قد أحرم قبل الطوافين فهو قارن بلا تردد وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت وبالجبلين وهو لم يكن حل من احرامه فهذا يسمى متمتعا لانه اعتمر قبل الاهلال بالحج ويسمى قارنا لانه احرم بالحج قبل احلاله من العمرة ولهذا يسميه بعض اصحابنا ( متمتعا ( ويسميه بعضهم ( قارنا ( ويسميه بعضهم بالاسمين وهو الاصوب وهذا فى التمتع الخاص فأما التمتع العام فيشمله بلا تردد
ومع هذا فالصواب ما قطع به احمد من انه احرم بالحج قبل الطواف لقوله ( لبيك عمرة وحجا ( ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه ( فصيام ثلاثة ايام فى الحج ) لان العمرة دخلت فى الحج كما قاله النبى
واذا كانت عمرة المتمتع جزءا من حجة فالهدي المسوق لا ينحر حتى يقضي التفث كما قال تعالى ( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم ) وذلك اشارة إلى الهدي المسوق فانه نذر ولهذا لو عطب دون محله وجب نحره لان نحره انما يكون عند بلوغه محله وانما يبلغ محله اذا بلغ صاحبه محله لانه تبع له وانما يبلغ صاحبه محله يوم النحر اذ قبل ذلك لا يحل مطلقا لانه يجب عليه ان يحج بخلاف من اعتمر عمرة مفردة فانه حل حلا مطلقا
____________________
(26/167)
واما ما تضمنته سنة رسول الله من المقام بمنى يوم التروية والمبيت بها الليلة التى قبل يوم عرفة ثم المقام بعرفة التى بين المشعر الحرام وعرفة إلى الزوال والذهاب منها إلى عرفة والخطبة والصلاتين فى اثناء الطريق ببطن عرفة فهذا كالمجمع عليه بين الفقهاء وان كان كثير من المصنفين لا يميزه واكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المحدثة
ومن سنة رسول الله انه جمع بالمسلمين جميعهم بعرفة بين الظهر والعصر وبمزدلفة بين المغرب والعشاء وكان معه خلق كثير ممن منزله دون مسافة القصر من اهل مكة وما حولها ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كل صلاة فى وقتها ولا ان يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلوا معه العصر وان ينفردوا فيصلوها فى اثناء الوقت دون سائر المسلمين فان هذا مما يعلم بالاضطرار لمن تتبع الاحاديث أنه لم يكن وهو قول مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وعليه يدل كلام احمد
وانما غفل قوم من اصحاب الشافعي واحمد عن هذا فطردوا قياسهم فى الجمع واعتقدوا انه انما جمع لاجل السفر والجمع للسفر لا يكون الا لمن سافر ستة عشر فرسخا وحاضروا مكة ليسوا عن عرفة بهذا البعد
____________________
(26/168)
وهذا ليس بحق فانه لو كان جمعه لاجل السفر لجمع قبل هذا اليوم وبعده وقد اقام بمنى أيام التشريق ولم يجمع فيها لا سيما ولم ينقل عنه انه جمع فى السفر وهو نازل الا مرة واحدة وانما كان يجمع في السفر اذا جد به السير وانما جمع لنحو الوقوف لاجل ان لا يفصل بين الوقوف بصلاة ولا غيرها كما قال احمد انه يجوز الجمع لاجل ذلك من الشغل المانع من تفريق الصلوات
ومن اشترط فى هذا الجمع السفر من اصحاب احمد فهو ابعد عن اصوله من اصحاب الشافعي فإن احمد يجوز الجمع لامور كثيرة غير السفر حتى قال القاضي ابو يعلى وغيره تفسيرا لقول احمد انه يجمع لكل ما يبيح ترك الجماعة فالجمع ليس من خصائص السفر وهذا بخلاف القصر فانه لا يشرع الا للمسافر
ولهذا قال أكثر الفقهاء كالشافعي واحمد ان قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى وايام التشريق لا يجوز الا للمسافر الذي يباح له القصر عندهم طردا للقياس واعتقادا ان القصر لم يكن الا للسفر بخلاف الجمع حتى امر احمد وغيره أن الموسم لا يقيمه امير مكة لاجل قصر الصلاة
وذهب طوائف من أهل المدينة وغيرهم منهم مالك وطائفة
____________________
(26/169)
من اصحاب الشافعي وأحمد كأبى الخطاب فى عباداته الخمس إلى انه يقصر المكيون وغيرهم وان القصر هناك لاجل النسك
والحجة مع هؤلاء أنه لم يثبت ان النبى امر من صلى خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى من المكيين ان يتموا الصلاة كما امرهم ان يتموا لما كان يصلي بهم بمكة ايام فتح مكة حين قال لهم ( اتموا صلاتكم فانا قوم سفر (
فإنه لو كان المكيون قد قاموا لما صلوا خلفه الظهر فاتموها اربعا ثم لما صلوا العصر قاموا فأتموها اربعا ثم لما صلوا خلفه عشاء الاخرة قاموا فأتموها اربعا ثم كانوا مدة مقامه بمنى يتمون خلفه لما أهمل الصحابة نقل مثل هذا
ومما قد يغلط فيه الناس اعتقاد بعضهم انه يستحب صلاة العيد بمنى يوم النحر حتى قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه أخذا فيها بالعمومات اللفظية او القياسية وهذه غفلة عن السنة ظاهرة فان النبى صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يصلوا بمنى عيدا قط وانما صلاة العيد بمنى هي جمرة العقبة فرمى جمرة العقبة لاهل الموسم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم ولهذا استحب احمد ان تكون صلاة اهل الامصار وقت النحر بمنى ولهذا خطب النبى صلى الله عليه وسلم يوم النحر
____________________
(26/170)
بعد الجمرة كما كان يخطب فى غير مكة بعد صلاة العيد ورمي الجمرة تحية مني كما ان الطواف تحية المسجد الحرام
ومثل هذا ما قاله طائفة منهم بن عقيل انه يستحب للمحرم إذا دخل المسجد الحرام أن يصلي تحية المسجد كسائر المساجد ثم يطوف طواف القدوم او نحوه واما الائمة وجماهير الفقهاء من اصحاب احمد وغيرهم فعلى انكار هذا
اما اولا فلأنه خلاف السنة المتواترة من فعل النبى وخلفائه فانهم لما دخلوا المسجد لم يفتتحوا الا بالطواف ثم الصلاة عقب الطواف واما ثانيا فلأن تحية المسجد الحرام هي الطواف كما ان تحية المساجد هي الصلاة
واشنع من هذا استحباب بعض اصحاب الشافعي لمن سعى بين الصفا والمروة ان يصلي ركعتين بعد السعي على المروة قياسا على الصلاة بعد الطواف وقد انكر ذلك سائر العلماء من اصحاب الشافعي وسائر الطوائف ورأوا ان هذه بدعة ظاهرة القبح فان السنة مضت بان النبى وخلفاءه طافوا وصلوا كما ذكر الله الطواف والصلاة ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي فاستحباب
____________________
(26/171)
الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات او بالموقف بعرفات او جعل الفجر اربعا قياسا على الظهر والترك الراتب سنة كما ان الفعل الراتب سنة بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض او فوات شرط او وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ كجمع القرآن فى المصحف وجمع الناس فى التراويح على امام واحد وتعلم العربية واسماء النقلة للعلم وغير ذلك ما يحتاج إليه فى الدين بحيث لا تتم الواجبات او المستحبات الشرعية الا به وانما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه او وجود مانع
فأما ما تركه من جنس العبادات مع انه لو كان مشروعا لفعله او اذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بان فعله بدعة وضلالة ويمتنع القياس فى مثله وان جاز القياس فى النوع الاول وهو مثل قياس ( صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ( على الصلوات الخمس فى ان يجعل لها اذانا واقامة كما فعله بعض المراونية فى العيدين وقياس حجرته ونحوها من مقابر الانبياء على بيت الله فى الاستلام والتقبيل ونحو ذلك من الاقيسة التى تشبه قياس الذين حكى الله عنهم انهم قالوا ( انما البيع مثل الربا )
واخذ فقهاء الحديث كالشافعي واحمد وغيرهما مع فقهاء
____________________
(26/172)
الكوفة ما عليه جمهور الصحابة والسلف بتلبية رسول الله فانه قد ثبت عنه انه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وذهب طائفة من السلف من الصحابة والتابعين واهل المدينة كمالك إلى ان التلبية تنقطع بالوصول إلى الموقف بعرفة لانها اجابة فتنقطع بالوصول إلى المقصد وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التى يجب اتباعها
واما المعنى فان الواصل إلى عرفة وان كان قد وصل إلى هذا الموقف فانه قد دعى بعده إلى موقف آخر وهو مزدلفة فاذا قضى الوقوف بمزدلفة فقد دعي إلى الجمرة فاذا شرع فى الرمي فقد انقضى دعاؤه ولم يبق مكان يدعى إليه محرما لان الحلق والذبح يفعله حيث احب من الحرم وطواف الافاضة يكون بعد التحلل الاول
ولهذا قالوا أيضا بما ثبت عن النبى انه يلبى بالعمرة إلى ان يستلم الحجر وان كان بن عمر ومن اتبعه من اهل المدينة كمالك قالوا يلبى إلى ان يصل إلى الحرم فانه وان وصل إليه فانه مدعو إلى البيت
____________________
(26/173)
نعم يستفاد من هذا المعنى انه انما يلبى حال سيره لاحال الوقوف بعرفة ومزدلفة وحال المبيت بها وهذا مما اختلف فيه اهل الحديث
فأما التلبية حال السير من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى فاتفق من جمع الإحاديث الصحيحة عليه
واختلف الناس فى اكل المحرم لحم الصيد الذي صاده الحلال وذكاه على ثلاثة أقوال
فقالت طائفة من السلف هو حرام اتباعا لما فهموه من قوله تعالى ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) ولما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم من انه رد لحم الصيد لما اهدي إليه
وقال آخرون منهم ابو حنيفة بل هو مباح مطلقا عملا بحديث ابى قتادة لما صاد الحمار الوحشي واهدى لحمه للنبى واخبره بانه لم يصده له كما جاء فى الأحاديث الصحيحة
وقالت الطائفة الثالثة التى فيها فقهاء الحديث بل هو مباح للمحرم اذا لم يصده له المحرم ولا ذبحه من اجله توفيقا بين الاحاديث كما روى جابر عن النبى أنه قال
____________________
(26/174)
( لحم صيد البر لكم حلال وانتم حرم ما لم تصيدوه او يصاد لكم ( قال الشافعي هذا احسن حديث فى هذا الباب واقيس وهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم
وانما اختلفوا اذا صيد لمحرم بعينه فهل يباح لغيره من المحرمين على قولين هما وجهان فى مذهب احمد رحمه الله تعالى
____________________
(26/175)
وسئل رحمه الله
عن طواف الحائض والجنب والمحدث
فأجاب ثبت عن النبى انه قال ( الحائض تقضي المناسك كلها الا الطواف بالبيت ( ( وقال لعائشة رضي الله عنها ( اصنعى ما يصنع الحاج غير ان لا تطوفي بالبيت ( ولما قيل له عن صفية انها حاضت فقال ( احابستنا هي فقيل له إنها قد افاضت قال فلا اذا ( وصح عنه انه بعث ابا بكر عام تسع لما امره على الموسم ينادي ( ان لا يطوف بالبيت عريان ( ولم ينقل احد عنه انه امر الطائفين بالوضوء ولا باجتناب النجاسة كما امر المصلين بالوضوء
فنهيه الحائض عن الطواف بالبيت اما ان يكون لاجل المسجد لكونها منهية عن اللبث فيه وفى الطواف لبث او عن الدخول إليه مطلقا لمرور او لبث واما ان يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض كما يحرم على الحائض الصلاة والصيام بالنص والاجماع ومس المصحف عند عامة العلماء وكذلك قراءة القرآن فى أحد
____________________
(26/176)
قولى العلماء والذين حرموا عليها القراءة كأحمد فى المشهور عنه وكذلك الشافعى مع ابى حنيفة تنازعوا في إباحة قراءة القرآن لها وللنفساء قبل الغسل وبعد انقطاع الدم على ثلاثة أقوال احدها
إباحتها للحائض والنفساء وهو اختيار القاضي أبي يعلى وقال هو ظاهر كلام احمد
والثانى منع الحائض والنفساء
والثالث إباحتها للنفساء دون الحائض اختاره الحلال من أصحاب احمد فاما ان يكون لكل منهما وإما ان يكون لمجموعهما بحيث لو انفرد احدهما لم يحرم فان كان تحريمه للأول لم يحرم عليها عند الضرورة فان لبثها فى المسجد لضرورة جائز كما لو خافت من يقتلها إذا لم تدخل المسجد او كان البرد شديدا او ليس لها مأوى الا المسجد
وقد ثبت عن النبى فى صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها انها قالت قال لي رسول الله ( ناوليني الخمرة من المسجد فقلت إني حائض
____________________
(26/177)
قال ان حيضتك ليست فى يدك ( وعن ميمونة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت ( كان رسول الله يضع رأسه فى حجر احدانا يتلو القرآن وهي حائض وتقوم إحدانا بخمرته إلى المسجد فتبسطها وهى حائض ( رواه النسائي وقد روى أبو داود من حديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم انه قال ( لا أحل المسجد لجنب ولا حائض ( رواه بن ماجه من حديث أم سلمة وقد تكلم فى هذين الحديثين
ولهذا ذهب أكثر العلماء كالشافعى وأحمد وغيرهما إلى الفرق بين المرور واللبث جمعا بين الاحاديث ومنهم من منعها من اللبث والمرور كأبى حنيفة ومالك ومنهم من لم يحرم المسجد عليها وقد يستدلون على ذلك بقوله تعالى ( ولا جنبا الا عابري سبيل (
وأباح أحمد وغيره اللبث لمن يتوضأ لما رواه هو وغيره عن عطاء بن يسار قال ( رأيت رجالا من أصحاب رسول الله يجلسون في المسجد وهم مجنبون اذا توضؤوا وضوء الصلاة ( وذلك والله اعلم ان المسجد بيت الملائكة والملائكة لا تدخل بيتا فيه جنب كما جاء ذلك فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم الجنب أن ينام حتى
____________________
(26/178)
يتوضأ وروى يحيى بن سعيد عن هشام بن عروة قال اخبرنى أبى عن عائشة انها كانت تقول ( إذا اصاب أحدكم المرأة ثم اراد ان ينام فلا ينام حتى يتوضأ وضوءه للصلاة فانه لا يدرى لعل نفسه تصاب فى نومه ( وفي حديث آخر ( فانه اذا مات لم تشهد الملائكة جنازته ( وقد أمر النبى الجنب بالوضوء عند الاكل والشرب والمعاودة وهذا دليل انه اذا توضأ ذهبت الجنابة عن اعضاء الوضوء فلا تبقى جنابته تامة وان كان قد بقى عليه بعض الحدث كما ان المحدث الحدث الاصغر عليه حدث دون الجنابة وان كان حدثه فوق الحدث الاصغر فهودون الجنب فلا تمتنع الملائكة عن شهوده فلهذا ينام ويلبث فى المسجد
وهذا يدل على ان الجنابة تتبعض فتزول عن بعض البدن دون بعض كما عليه جمهور العلماء
وأما الحائض فحدثها دائم لا يمكنها طهارة تمنعها عن الدوام فهي معذورة فى مكثها ونومها واكلها وغير ذلك فلا تمنع مما يمنع منه الجنب مع حاجتها إليه ولهذا كان أظهر قولى العلماء انها لا تمنع من قراءة القرآن اذا احتاجت إليه كما هومذهب مالك وأحد القولين فى مذهب الشافعى ويذكر رواية عن احمد فانها محتاجة اليها ولا يمكنها الطهارة كما يمكن الجنب وان كان حدثها اغلظ من
____________________
(26/179)
حدث الجنب من جهة انها لا تصوم ما لم ينقطع الدم والجنب يصوم ومن جهة انها ممنوعة من الصلاة طهرت او لم تطهر ويمنع الرجل من وطئها ايضا فهذا يقتضي ان المقتضي للحظر فى حقها اقوى لكن اذا احتاجت إلى الفعل استباحت المحظور مع قيام سبب الحظر لاجل الضرورة كما يباح سائر المحرمات مع الضرورة من الدم والميتة ولحم الخنزير وان كان ما هو دونها فى التحريم لا يباح من غير حاجة كلبس الحرير والشرب فى آنية الذهب والفضة ونحو ذلك
وكذلك الصلاة إلى غير القبلة مع كشف العورة ومع النجاسة فى البدن والثوب هي محرمة أغلظ من غيرها وتباح بل تجب مع الحاجة وغيرها وان كان دونها في التحريم كقراءة القرآن الكريم مع عدم الحاجة لا تباح
واذا قدر جنب استمرت به الجنابة وهو لا يقدر على غسل او تيمم فهذا كالحائض فى الرخصة وان كان هذا نادرا وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم الحيض ان يخرجن فى العيد ويشهدن الخير ودعوة المسلمين ويكبرن بتكبير الناس وكذلك الحائض والنفساء امرهما النبى صلى الله عليه وسلم بالاحرام والتلبية وما فيهما من ذكر الله وشهودهما عرفة مع الذكر والدعاء ورمي الجمار مع ذكر الله وغير
____________________
(26/180)
ذلك ولا يكره لها ذلك بل يجب عليها والجنب يكره له ذلك حتى يغتسل لانه قادر على الطهارة بخلاف الحائض
فهذا أصل عظيم في هذه المسائل ونوعها لا ينبغى ان ينظر إلى غلظ المفسدة المقتضية للحظر الا وينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن بل الموجبة للاستحباب او الايجاب
وكل ما يحرم معه الصلاة يجب معه عند الحاجة اذا لم تمكن الصلاة الا كذلك فان الصلاة مع تلك الامور اخف من ترك الصلاة فلو صلى بتيمم مع قدرته على استعمال الماء لكانت الصلاة محرمة ومع عجزه عن استعمال الماء كانت الصلاة بالتيمم واجبة بالوقت وكذلك الصلاة عريانا والى غير القبلة ومع حصول النجاسة وبدون القراءة وصلاة الفرض قاعدا او بدون اكمال الركوع والسجود وأمثال ذلك مما يحرم مع القدرة ويجب مع العجز
وكذلك اكل الميتة والدم ولحم الخنزير يحرم أكلها عند الغنى عنها ويجب اكلها عند الضرورة عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء قال مسروق من اضطر فلم يأكل حتى مات دخل النار وذلك لأنه اعان على قتل نفسه بترك ما يقدر عليه من الاكل المباح له فى هذه الحال فصار بمنزلة من قتل نفسه بخلاف المجاهد بالنفس ومن
____________________
(26/181)
تكلم بحق عند سلطان جائر فان ذلك قتل مجاهدا ففي قتله مصلحة لدين الله تعالى
وتعليل منع طواف الحائض بانه لاجل حرمة المسجد رأيته يعلل به بعض الحنفية فان مذهب ابى حنيفة ان الطهارة واجبة له لا فرض فيه ولا شرط له ولكن هذا التعليل يناسب القول بان طواف المحدث غير محرم وهذا مذهب منصور بن المعتمر وحماد بن ابي سليمان رواه أحمد عنهما قال عبد الله فى مناسكه حدثنى ابى حدثنا سهل بن يوسف انبأنا شعبة عن حماد ومنصور قال سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ فلم يريا به بأسا قال عبد الله سألت ابى عن ذلك فقال احب إلي ان يطوف بالبيت وهو متوضئ لان الطواف صلاة وأحمد عنه روايتان منصوصتان في الطهارة هل هي شرط فى الطواف ام لا وكذلك وجوب الطهارة فى الطواف كلامه فيها يقتضى روايتين
وكذلك قال بعض الحنفية ان الطهارة ليست واجبة فى الطواف بل سنة مع قوله ان فى تركها دما فمن قال ان المحدث يجوز له ان يطوف بخلاف الحائض والجنب فانه يمكنه تعليل المنع بحرمة المسجد لا بخصوص الطواف لأن الطواف يباح فيه الكلام والاكل والشرب فلا يكون كالصلاة ولان الصلاة مفتاحها الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم والطواف ليس كذلك ويقول انما منع العراة من ذلك لاجل نظر الناس ولحرمة المسجد ايضا
____________________
(26/182)
ومن
قال هذا قال المطاف اشرف المساجد ولا يكاد يخلو من طائف وقد قال الله تعالى ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ( فأمر بأخذها عند دخول المسجد وهذا بخلاف الصلاة فإن المصلى عليه ان يستتر لنفس الصلاة والصلاة تفعل فى جميع البقاع فلو صلى وحده فى بيت مظلم لكان عليه أن يفعل ما أمر به من الستر للصلاة بخلاف الطواف فإنه يشترط فيه المسجد الحرام والاعتكاف يشترط فيه جنس المساجد وعلى قول هؤلاء فلا يحرم طواف الجنب والحائض اذا اضطر إلى ذلك كما لا يحرم عندهم الطواف على المحدث بحال لأنه لا يحرم عليهما دخول المسجد حينئذ وهما اذا كانا مضطرين إلى ذلك اولى بالجواز من المحدث الذى يجوزون له الطواف مع الحدث من غير عذر الا ترى ان المحدث منع من الصلاة ومس المصحف مع قدرته على الطهارة وذلك جائز للجنب مع التيمم واذا عجز عن التيمم صلى بلا غسل ولا تيمم فى احد قولي العلماء وهو المشهور فى مذهب الشافعى وأحمد كما ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا مع الجنابة قبل ان تنزل آية التيمم
والحائض نهيت عن الصوم فانها ليست محتاجة إلى الصوم فى الحيض فإنه يمكنها ان تصوم شهرا آخر غير رمضان فاذا كان المسافر والمريض
____________________
(26/183)
مع امكان صومهما جعل لهما ان يصوما شهرا آخر فالحائض الممنوعة من ذلك أولى ان تصوم شهرا آخر واذا أمرت بقضاء الصوم لم تؤمر الا بشهر واحد فلم يجب عليها الا ما يجب على غيرها ولهذا لو استحاضت فانها تصوم مع الاستحاضة فان ذلك لا يمكن الاحتراز عنه اذ قد تستحيض وقت القضاء
واما الصلاة فانها تتكرر في كل يوم وليلة خمس مرات والحيض مما يمنع الصلاة فلو قيل انها تصلي مع الحيض لاجل الحاجة لم يكن الحيض مانعا من الصلاة بحال وكان يكون الصوم والطواف بالبيت اعظم حرمة من الصلاة وليس الامر كذلك بل كان من حرمة الصلاة انها لاتصلى وقت الحيض اذا كان لها في الصلاة أوقات الطهر غنية عن الصلاة وقت الحيض واذا كانت انما منعت من الطواف لاجل المسجد فمعلوم ان اباحة ذلك للعذر أولى من إباحة مس المصحف للعذر ولو كان لها مصحف ولم يمكنها حفظه الا بمسه مثل ان يريد ان ياخذه لص او كافر او ينهبه احد او ينهبه منها ولم يمكنها منعه الا بمسه لكان ذلك جائزا لها مع ان المحدث لا يمس المصحف ويجوز له الدخول فى المسجد
فعلم ان حرمة المصحف اعظم من حرمة المسجد وإذا ابيح لها مس المصحف للحاجه فالمسجد الذى حرمته دون حرمة المصحف
____________________
(26/184)
اولى بالاباحه فصل
واما ان كان المنع من الطواف لمعنى فى نفس الطواف كما منع من غيره او كان لذلك وللمسجد كل منهما عله مستقله فنقول اذا اضطرت الى ذلك بحيث لم يمكنها الحج بدون طوافها وهى حائض لتعذر المقام عليها إلى ان تطهر فهنا الامر دائر بين ان تطوف مع الحيض وبين الضرر الذى ينافي الشريعة فإن الزامها بالمقام اذا كان فيه خوف على نفسها ومالها وفيه عجزها عن الرجوع إلى اهلها والزامها بالمقام بمكة مع عجزها عن ذلك وتضررها به لاتاتى به الشريعه فإن مذهب عامة العلماء ان من امكنه الحج ولم يمكنه الرجوع إلى اهله لم يجب عليه الحج وفيه قول ضعيف انه يجب اذا امكنه المقام اما مع الضرر الذى يخاف منه على النفس او مع العجز عن الكسب فلا يوجب احد عليه المقام فهذة لايجب عليها حج يحتاج معه إلى سكنى مكه
وكثير من النساء اذا لم ترجع مع من حجت معه لم يمكنها بعد ذلك الرجوع ولو قدر انه يمكنها بعد ذلك الرجوع فلا يجب عليها ان
____________________
(26/185)
يبقى وطؤها محرما مع رجوعها إلى اهلها ولا تزال كذلك إلى ان تعود فهذا ايضا من اعظم الحرج الذى لا يوجب الله مثله اذ هو اعظم من ايجاب حجتين والله تعالى لم يوجب الا حجة واحدة
ومن وجب عليه القضاء كالمفسد فانما ذاك لتفريطه بافساد الحج ولهذا لم يجب القضاء على المحصر فى اظهر قولي العلماء لعدم التفريط ومن اوجب القضاء على من فاته الحج فانه يوجبه لأنه مفرط عنده
واذا قيل فى هذه المرأة بل تتحلل كما يتحلل المحصر فهذا لا يفيد سقوط الفرض عنها فتحتاج مع ذلك إلى حجة ثانية ثم هي فى الثانية تخاف ما خافته فى الأولى مع ان المحصر لا يحل الا مع العجز الحسي اما بعدو او بمرض او فقر او حبس فاما من جهة الشرع فلا يكون احد محصرا وكل من قدر على الوصول إلى البيت لم يكن محصرا فى الشرع فهذه هي التقديرات التى يمكن ان تفعل اما مقامها بمكة واما رجوعها محرمة واما تحللها وكل ذلك مما منعه الشرع فى حق مثلها
وان قيل ان الحج يسقط عن مثل هذه كما يسقط عمن لا تحج الا مع من يفجر بها لكون الطواف مع الحيض يحرم كالفجور
____________________
(26/186)
قيل هذا مخالف لأصول الشرع لأن الشرع مبناه على قوله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ( وعلى قول النبى ( اذا امرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ( ومعلوم ان المرأة اذا لم يمكنها فعل شيء من فرائض الصلاة او الصيام او غيرهما الا مع الفجور لم يكن لها ان تفعل ذلك فإن الله تعالى لم يأمر عباده بأمر لا يمكن الا مع الفجور فان الزنى لا يباح بالضرورة كما يباح اكل الميتة عند الضرورة ولكن اذا اكرهت عليه بأن يفعل بها ولا تستطيع الامتناع منه فهذه لا فعل لها وان كان بالاكراه ففيه قولان هما روايتان عن احمد ( إحداهما ( انه لا يباح بالاكراه الا الأقوال دون الافعال ( والثانى ( وهو قول الاكثرين ان المكرهة على الزنى وشرب الخمر معفو عنها لقوله تعالى ( ومن يكرهن فإن الله من بعد اكراههن غفور رحيم (
واما الرجل الزانى ففيه قولان فى مذهب احمد وغيره بناء على ان الاكراه هل يمنع الانتشار ام لا فأبو حنيفة واحمد فى المنصوص عنه يقولان لا يكون الرجل مكرها على الزنى
واما اذا امكن العبد ان يفعل بعض الواجبات دون بعض فإنه
____________________
(26/187)
يؤمر بما يقدر عليه وما عجز عنه يبقى ساقطا كما يؤمر بالصلاة عريانا ومع النجاسة وإلى غير القبلة اذا لم يطق الا ذلك وكما يجوز الطواف راكبا ومحمولا للعذر بالنص واتفاق العلماء وبدون ذلك ففيه نزاع وكما يجوز اداء الفرض للمريض قاعدا او راكبا ولا يجوز ذلك فى الفرض بدون العذر مع ان الصلاة إلى غير القبلة والصلاة عريانا وبدون الاستنجاء وفي الثوب النجس حرام فى الفرض والنفل ومع هذا فلأن يصلي الفرض مع هذه المحظورات خير من تركها وكذ 1 لك صلاة الخوف مع العمل الكثير ومع استدبار القبلة مع مفارقة الامام فى أثناء الصلاة ومع قضاء ما فاته قبل السلام وغير ذلك مما لا يجوز فى غير العذر
فإن قيل الطواف مع الحيض كالصلاة مع الحيض والصوم مع الحيض وذلك لا يباح بحال
قيل الصوم مع الحيض لايحتاج إليه بحال فان الواجب عليها شهر وغير رمضان يقوم مقامه واذا لم يكن لها ان تؤدى الفرض مع الحيض فالنفل بطريق الأولى لان لها مندوحة عن ذلك بالصيام في وقت الطهر كما كان للمصلى المتطوع فى اوقات النهي مندوحة عن ذلك بالتطوع فى أوقات أخر فلم تكن محتاجة إلى الصوم مع الحيض بحال فلا تباح هذه المفسدة مع الاستغناء عنها كما لا تباح صلاة
____________________
(26/188)
التطوع التى لا سبب لها فى اوقات النهى بخلاف ذوات الاسباب فإن الراجح في الدليل من قولي العلماء أنها تجوز لحاجته اليها فإنه ان لم يفعلها تعذر فعلها وفاتت مصلحتها بخلاف التطوع المحض فإنه لا يفوت والصوم من هذا الباب ليس لها صوم الا ويمكن فعله فى ايام الطهر ولهذا جاز للمستحاضة الصوم والصلاة
واما الصلاة فانها لوابيحت مع الحيض لم يكن الحيض مانعا من الصلاة بحال فإن الحيض مما يعتاد النساء كما قال النبي لعائشة إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم فلو أذن لهن النبي أن يصلين بالحيض صارت الصلاة مع الحيض كالصلاة مع الطهر ثم أن أبيح سائر العبادات لم يبق الحيض مانعا مع أن الجنابة والحدث الاصغر مانع وهذا تناقض عظيم وان حرم ما دون الصلاة وابيحت الصلاة كان ايضا تناقضا ولم تكن محتاجة إلى الصلاة زمن الحيض فان لها فى الصلاة زمن الطهر وهو اغلب اوقاتها ما يغنيها عن الصلاة ايام الحيض ولكن رخص لها فيما تحتاج إليه من التلبية والذكر والدعاء وقد امرت مع ذلك بالاغتسال كما امر النبى أسماء ان تغتسل عند الاحرام لما نفست بمحمد بن ابى بكر وامر ايضا بذلك النساء مطلقا وأمر عائشة حين حاضت بسرف
____________________
(26/189)
ان تغتسل وتحرم بالحج فأمرها بالاغتسال مع الحيض للاهلال بالحج ورخص للحائض مع ذلك ان تلبى وتقف بعرفة وتدعو وتذكر الله ولا تغتسل ولا تتوضأ ولا يكره لها ذلك كما يكره للجنب لو فعل ذلك بدون طهارة لأنها محتاجة إلى ذلك وغسلها ووضوؤها لا يؤثران في الحدث المستمر بخلاف غسلها عند الاحرام فإنه غسل نظافة كما يغتسل للجمعة
ولهذا هل يتيمم لمثل هذه الاغسال اذا عدم الماء على قولين فى مذهب أحمد وكذلك هل ييمم الميت اذا تعذر غسله على قولين وليس هذا كغسل الجنابة والوضوء من الحدث ومع هذا فلم تؤمر بالغسل عند دخول مكه والوقوف بعرفه فلما نهيت عن الصلاة مع الحيض دون الأذكار من غير كراهه علم الفرق بين ما تحتاج إليه وما لا تحتاج إليه
فإن قيل سائر الأذكار تباح للجنب والمحدث فلا حظر فى ذلك
قيل الجنب ممنوع من قراءة القرآن ويكره له الاذان مع الجنابه والخطبه وكذلك النوم بلا وضوء وكذلك فعل المناسك بلا طهاره مع قدرته عليها والمحدث ايضا تستحب له الطهاره لذكر الله تعالى كما قال النبى ( إني كرهت ان اذكر
____________________
(26/190)
الله إلا على طهر ) والحائض لا يستحب لها شيء من ذلك ولا يكره الذكر بدونه عند احد من العلماء للسنه المتواتره فى ذلك
وإنما تنازعوا فى قراءة القرآن وليس فى منعها من القرآن سنه اصلا فإن قوله ( لاتقرا الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن ) حديث ضعيف باتفاق اهل المعرفه بالحديث رواه إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبه عن نافع عن بن عمر واحاديثه عن اهل الحجاز يغلط فيها كثيرا وليس لهذا اصل عن النبى ولا حدث به عن بن عمر ولا عن نافع ولا عن موسى بن عقبه اصحابهم المعروفون بنقل السنن عنهم
وقد كان النساء يحضن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة لكان هذا مما بينه النبى صلى الله عليه وسلم لأمته وتعلمه امهات المؤمنين وكان ذلك مما ينقلونه إلى الناس فلما لم ينقل احد عن النبى فى ذلك نهيا لم يجز ان تجعل حراما مع العلم انه لم ينه عن ذلك واذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض فى زمنه علم انه ليس بمحرم
وهذا كما استدللنا على ان المني لو كان نجسا لكان يأمر الصحابة بازالته من ابدانهم وثيابهم لأنه لابد أن يصيب ابدان الناس وثيابهم
____________________
(26/191)
فى الاحتلام فلما لم ينقل احد عنه انه امر بازالة ذلك لا بغسل ولا فرك مع كثرة اصابة ذلك الابدان والثياب على عهده والى يوم القيامة علم انه لم يأمر بذلك ويمتنع ان تكون ازالته واجبة ولا يأمر به مع عموم البلوى بذلك كما امر بالاستنجاء من الغائط والبول والحائض بازالة دم الحيض من ثوبها
وكذلك الوضوء من لمس النساء ومن النجاسات الخارجة من غير السبيلين لم يأمر المسلمين بالوضوء من ذلك مع كثرة ابتلائهم به ولو كان واجبا لكان يجب الأمر به وكان اذا أمر به فلا بد ان ينقله المسلمون لأنه مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله وأمره بالوضوء من مس الذكر ومما مست النار امر استحباب فهذا اولى ان لا يكون الا مستحبا واذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضت بأنه يرخص للحائض فيما لا يرخص فيه للجنب لأجل حاجتها إلى ذلك لعدم امكان تطهرها وانه انما حرم عليها ما لا تحتاج إليه فمنعت منه كما منعت من الصوم لأجل حدث الحيض وعدم احتياجها إلى الصوم ومنعت من الصلاة بطريق الأولى لاعتياضها عن صلاة الحيض بالصلاة بالطهر فهي التى منعت من الطواف اذا امكنها ان تطوف مع الطهر لأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه وليس كالصلاة من كل الوجوه
____________________
(26/192)
والحديث الذي رواه النسائى عن بن عباس عن النبى انه قال ( الطواف بالبيت صلاة الا ان الله أباح فيه الكلام فمن تكلم فيه فلا يتكلم الا بخير ( قد قيل انه من كلام بن عباس وسواء كان من كلام النبى صلى الله عليه وسلم او كلام بن عباس ليس معناه انه نوع من الصلاة كصلاة الجمعة والاستسقاء والكسوف فإن الله قد فرق بين الصلاة والطواف بقوله تعالى ( وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع السجود ( وقد تكلم العلماء ايما افضل للقادم الصلاة او الطواف وأجمع العلماء على ان النبى طاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين
والآثار عن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وسائر العلماء بالفرق بين مسمى الصلاة ومسمى الطواف متواترة فلا يجوز ان يجعل نوعا من الصلاة والنبى صلى الله عليه وسلم قال ( الصلاة مفتاحها الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ( والطواف ليس تحريمه التكبير وتحليله التسليم وقد تنازع السلف ومن بعدهم فى وجوب الوضوء من الحدث له والوضوء للصلاة معلوم بالاضطرار من دين الاسلام ومن انكره فهو كافر ولم ينقل شيء عن النبى فى وجوب الوضوء له ومنع الحائض لا يستلزم
____________________
(26/193)
منع المحدث وتنازع العلماء فى الطهارة من الحيض هل هي واجبة فيه او شرط فيه على قولين فيه ولم يتنازعوا فى الطهارة للصلاة انها شرط فيها وأيضا فقد قال النبى ( صلى الله عليه وسلم لا صلاة الا بأم القرآن ( والقراءة فيه ليست واجبة باتفاق العلماء بل في كراهتها قولان للعلماء
وأيضا فإنه قد قال ( ان الله يحدث من أمره ما شاء ومما احدث ان لا تكلموا فى الصلاة ( فنهى عن الكلام فى الصلاة مطلقا والطواف يجوز فيه من الكلام ما لا يجوز فى غيره وبهذا يظهر الفرق بينه وبين صلاة الجنازة فان لها تحريما وتحليلا ونهى فيها عن الكلام وتصلى بامام وصفوف وهذا كله متفق عليه والقراءة فيها سنة عن النبى وهذا أصح قولى العلماء وأما ( سجود التلاوة ( فقد تنازع العلماء هل هو من الصلاة التى تشترط لها الطهارة مع انه سجود وهو أعظم أركان الصلاة الفعلية ولا يتكلم في حال سجوده بل يكبر اذا سجد واذا رفع ويسلم أيضا فى احد قولي العلماء هذا عند من يسلم ان السجود المجرد كسجود التلاوة تجب له الطهارة ومن منع ذلك قال انه يجوز بدون الوضوء وقال ان السجود المجرد لا يدخل في مسمى الصلاة وانما مسمى الصلاة ما له تحريم وتحليل وهذا السجود لم يرو عن
____________________
(26/194)
النبى انه امر له بالطهارة بل ثبت في الصحيح ان النبى لما قرأ ( سورة النجم ( سجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس وسجد سحرة فرعون على غير طهارة وثبت عن بن عمر انه سجد للتلاوة على غير وضوء ولم يرو عن احد من الصحابة انه أوجب فيه الطهارة وكذلك لم يرو أحد عن النبى انه سلم فيه وأكثر السلف على انه لا يسلم فيه وهو احدى الروايتين عن أحمد وذكر أنه لم يسمع فى التسليم أثرا ومن قال فيه تسليم فقد أثبته بالقياس الفاسد حيث جعله صلاة وهو موضع المنع
( وصلاة الجنازة ( قد ذهب بعضهم إلى أنه لا يشترط لها الطهارة لكن هذا قول ضعيف فان لها تحريما وتحليلا فهي صلاة وليس الطواف مثل شيء من ذلك ولا الحائض محتاجة إلى ذلك فانها اذا لم تصل فرض العين ففرض الكفاية والنفل أولى ودعاؤها للميت واستغفارها له يحصل المقصود بحسب الامكان كما أن شهودها العيد وذكر الله تعالى مع المسلمين يحصل المقصود بحسب الامكان والطواف وان كان له مزية على سائر المناسك بنفسه ولكونه في المسجد وبان الطواف شرع منفردا بنفسه وشرع فى العمرة
____________________
(26/195)
وشرع فى الحج وأما الاحرام والسعى بين الصفا والمروة والحلق فلا يشرع الا فى حج او عمرة وأما سائر المناسك من الوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار فلا يشرع الا في الحج فهذا يدل على ان الله عز وجل يسره للناس وجعل لهم التقرب به مع الاحلال والاحرام فى النسكين وفى غيرهما فلم يوجب فيه ما أوجبه فى الصلاة ولا حرم فيه ما حرمه فى الصلاة فعلم ان أمر الصلاة أعظم فلا يجعل مثل الصلاة
ومن قال من العلماء إن طواف أهل الآفاق افضل من الصلاة بالمسجد فانما ذلك لان الصلاة تمكنهم فى سائر الامصار بخلاف الطواف فانه لا يمكن الا بمكة والعمل المفضول فى مكانه وزمانه يقدم على الفاضل لا لأن جنسه أفضل كما يقدم الدعاء فى آخر الصلاة على الذكر والقراءة ويقدم الذكر في الركوع والسجود على القراءة لان النبى قال ( نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا ( وكما تقدم القراءة والذكر والدعاء فى أوقات النهي وكما تقدم اجابة المؤذن على الصلاة والقراءة لان هذا يفوت وذلك لا يفوت وكما اذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها قدم ما يخاف فواته فالطواف قدم لانه يفوت الآفاقى اذا خرج فقدم ذلك لا لأن جنسه أفضل من جنس الصلاة بل ولا مثلها فإن هذا لا
____________________
(26/196)
يقوله أحد والحج كله لا يقاس بالصلاة التى هي عمود الدين فكيف يقاس بها بعض افعاله وانما فرض الله الحج على كل مسلم مرة فى العمر ولم يوجب شيئا من اعماله مرتين بل انما فرض طوافا واحدا ووقوفا واحدا
وكذلك السعي عن احمد فى أنص الروايتين عنه لا يوجب على المتمتع الا سعيا واحدا اما قبل التعريف واما بعده بعد الطواف ولهذا قال اكثر العلماء ان العمرة لا تجب كما هو مذهب مالك وأبى حنيفة وهو أحد القولين فى مذهب الشافعى وأحمد وهو الأظهر في الدليل فان الله لم يوجب الا حج البيت لم يوجب العمرة ولكن أوجب اتمام الحج والعمرة على من يشرع فيها لأن العمرة هي الحج الأصغر فيجب اتمامها كما يجب اتمام الحج التطوع والله لم يوجب الا مسمى الحج لم يوجب حجين اكبر واصغر والمسمى يحصل بالحج الأكبر وهو المفهوم من اسم الحج عند الاطلاق فلا يجب غير ذلك وليس فى أعمال العمرة قدر زائد على اعمال الحج فلو وجبت لم يجب الا عمل واحد مرتين وهذا خلاف ما اوجبه الله فى الحج
والمقصود هنا أن الحج اذا لم يجب الا مرة واحدة فكيف يقاس بما يجب فى اليوم والليلة خمس مرات
____________________
(26/197)
وهذا مما يفرق بين طواف الحائض وصلاة الحائض فانها تحتاج إلى الطواف الذي هو فرض عليها مرة فى العمر وقد تكلفت السفر الطويل وحملت الابل أثقالها إلى بلد لم يكن الناس بالغيه الا بشق الأنفس فأين حاجة هذه الى الطواف من حاجتها إلى الصلاة التي تستغني عنها زمن الحيض بما تفعله زمن الطهر وقد تقدم ان الحائض لم تمنع من القراءة لحاجتها اليها وحاجتها إلى هذا الطواف اعظم
واذا قال القائل القرآن تقرؤه مع الحدث الأصغر والطواف تجب له الطهارة قيل له هذا فيه نزاع معروف عن السلف والخلف فلا بد لك من حجة على وجوب الطهارة الصغرى فى الطواف والإحتجاج بقوله ( الطواف بالبيت صلاة ( حجة ضعيفة فان غايته ان يشبه بالصلاة في بعض الأحكام وليس المشبه كالمشبه به من كل وجه وانما أراد أنه كالصلاة فى اجتناب المحظورات التى تحرم خارج الصلاة فأما ما يبطل الصلاة وهوالكلام والأكل والشرب والعمل الكثير فليس شيء من هذا مبطلا للطواف وانكره فيه اذا لم يكن به حاجة إليه فإنه يشغل عن مقصوده كما يكره مثل ذلك عند القراءة والدعاء والذكر وهذا كقول النبى صلى الله عليه وسلم ( العبد فى صلاة ما دام ينتظر الصلاة وقوله إذا خرج أحدكم إلى المسجد فلا يشبك بين اصابعه فإنه فى صلاة
____________________
(26/198)
ولهذا قال ( الا ان الله اباح لكم فيه الكلام ( ومعلوم انه يباح فيه الأكل والشرب وهذه محظورات الصلاة التى تبطلها الأكل والشرب والعمل الكثير ولا يبطل شيء من ذلك الطواف بل غايته انه يكره فيه لغير حاجة كما يكره العبث في الصلاة ولو قطع الطواف لصلاة مكتوبة اوجنازة أقيمت بنى على طوافه والصلاة لا تقطع لمثل ذلك فليست محظورات الصلاة محظورة فيه ولا واجبات الصلاة واجبات فيه كالتحليل والتحريم فكيف يقال انه مثل الصلاة فيما يجب لها ويحرم فيها فمن اوجب له الطهارة الصغرى فلا بد له من دليل شرعى وما اعلم ما يوجب ذلك
ثم تدبرت وتبين لي ان طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب ولكن تستحب فيه الطهارة الصغرى فإن الأدلة الشرعية انما تدل على عدم وجوبها فيه وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه وحينئذ فلا نسلم ان جنس الطواف افضل من جنس قراءة القرآن بل جنس القراءة افضل منه فانها افضل ما فى الصلاة من الاقوال والسجود افضل ما فيها من الأفعال والطواف ليس فيه ذكر مفروض
وإذا قيل الطواف قد فرض بعضه قيل له قد فرضت القراءة فى كل صلاة فلا تصح صلاة الا بقراءة فكيف يقاس الطواف
____________________
(26/199)
بالصلاة واذا كانت القراءة افضل وهى تجوز للحائض مع حاجتها اليها فى اظهر قولي العلماء فالطواف أولى ان يجوز مع الحاجة
واذا قيل أنتم تسلمون ان الطواف فى الأصل محظور على الحائض وانما يباح للضرورة قيل من علل بالمسجد فلا يسلم أن نفس فعله محظور لنفسه ومن سلم ذلك يقول وكذلك من القرآن ما هو محظور على الحائض وهو القراءة فى الصلاة وكذلك فى غير الصلاة لغير حاجة يحرمها اكثر العلماء وانما ابيحت للحاجة فاذا ابيحت للحاجة فالطواف أولى
ثم مس المصحف يشترط له الطهارة الكبرى والصغرى عند جماهير العلماء وكما دل عليه الكتاب والسنة وهو ثابت عن سلمان وسعد وغيرهم من الصحابة وحرمة المصحف أعظم من حرمة المساجد ومع هذا اذا اضطر الجنب والمحدث والحائض إلى مسه مسه فإذا اضطر إلى الطواف الذي لم يقم دليل شرعي على وجوب الطهارة فيه مطلقا كان اولى بالجواز
فإذا قيل الطواف منه ما هو واجب قيل ومس المصحف قد يجب فى بعض الاحوال اذا احتيج إليه لصيانته الواجبة والقراءة الواجبة او الحمل الواجب اذا لم يمكن اداء الواجب الا بمسه
وقوله ( الحائض تقضي المناسك كلها
____________________
(26/200)
الا الطواف بالبيت ( من جنس قوله ( لا يقبل الله صلاة احدكم اذا احدث حتى يتوضأ ( وقوله ( لايقبل الله صلاة حائض الا بخمار ( وقوله صلى الله عليه وسلم ( لا احل المسجد لجنب ولا حائض ( بل اشتراط الوضوء فى الصلاة وخمار المرأة في الصلاة ومنع الصلاة بدون ذلك اعظم من منع الطواف مع الحيض واذا كان قد حرم المسجد على الجنب والحائض ورخص للحائض ان تناوله الخمرة من المسجد وقال لها ( ان حيضتك ليست فى يدك ( تبين ان الحيضة فى الفرج والفرج لا ينال المسجد وهذه العلة تقتضى اباحته للحائض مطلقا لكن اذا كان قد قال ( لا أحل المسجد لجنب ولا حائض ( فلا بد من الجمع بين ذلك والايمان بكل ما جاء من عند الله واذا لم يكن احدهما ناسخا للآخر فهذا عام مجمل وهذا خاص فيه اباحة المرور وهو مستثنى من ذلك التحريم مع أنه لا ضرورة إليه فإباحة الطواف للضرورة لا تنافى تحريمه بذلك النص كإباحة الصلاة للمرأة بلا خمار للضرورة واباحة الصلاة بلا وضوء للضرورة بالتيمم بل وبلا وضوء ولا تيمم للضرورة كما فعل الصحابة لما فقدوا الماء قبل نزول الآية وكاباحة الصلاة بلا قراءة للضرورة مع قوله ( لا صلاة الا بأم القرآن ( وكاباحة الصلاة والطواف مع النجاسة للضرورة مع قوله ( حتيه ثم اقرصيه ثم صلى فيه ( واباحة الصلاة على المكان النجس للضرورة مع قوله ( جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا
____________________
(26/201)
بل تحريم الدم ولحم الخنزير أعظم الأمور وقد أبيح للضرورة والذى جاءت به السنة ان الطواف عبادة متوسطة بين الصلاة وبين سائر المناسك فهو افضل من غيره لنهى الحائض عنه فالصلاة اكمل منه وذلك لأنه يشبه الصلاة اكثر من غيره ولأنه مختص بالمسجد فلهاتين الحرمتين منعت منه الحائض ولم تأت سنة تمنع المحدث منه وما لم يحرم على المحدث فلا يحرم على الحائض مع الضرورة بطريق الأولى والأحرى كقراءة القرآن وكالاعتكاف في المسجد ولو حرم عليها مع الحدث فلا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة كمس المصحف وغيره ومن جعل حكم الطواف مثل حكم الصلاة فيما يجب ويحرم فقد خالف النص والاجماع
وليس لأحد ان يحتج بقول احد فى مسائل النزاع وانما الحجة النص والاجماع ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية لا يحتج بها على الأدلة الشرعية ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الايمان به وبين ما قاله بعض العلماء ويتعسر او يتعذر اقامة الحجة عليه ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن ان يتكلم في العلم بكلام العلماء
____________________
(26/202)
وانما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم مثل المحدث عن غيره والشاهد على غيره لا يكون حاكما والناقل المجرد يكون حاكيا لا مفتيا ولا يحتمل حال هذه المرأة الا تلك الأمور الثلاثة اوهذا القول او ان يقال طواف الافاضة قبل الوقوف يجزئ اذا تعذر الطواف بعده كما يذكر ذلك قولا فى مذهب مالك فيمن نسي طواف الافاضة حتى عاد إلى بلده انه يجزئه طواف القدوم هذا مع انه ليس لها فيه فرج فانها قد يمتد بها الحيض من حين تدخل مكة إلى ان يخرج الحاج
وفيه ايضا تقديم الطواف قبل وقته الثابت بالكتاب والسنة والاجماع والمناسك قبل وقتها لا تجزئ واذا دار الامر بين ان تطوف طواف الافاضة مع الحدث وبين ان لا تطوفه كان ان تطوفه مع الحدث اولى فان فى اشتراط الطهارة نزاعا معروفا وكثير من العلماء كأبى حنيفة واحمد فى احدى الروايتين عنه يقولون انها في حال القدرة على الطهارة اذا طافت مع الحيض أجزأها وعليها دم مع قولهم إنها تأثم بذلك ولوطافت قبل التعريف لم يجزئها وهذا القول مشهور معروف فتبين لك ان الطواف مع الحيض اولى من الطواف قبل الوقت واصحاب هذا القول يقولون ان الطهارة واجبة فيها لا شرط فيها والواجبات كلها تسقط بالعجز ولهذا كان قول ابي حنيفة وغيره
____________________
(26/203)
من العلماء ان كل مايجب فى حال دون حال فليس بفرض وانما الفرض ما يجب على كل أحد فى كل حال
ولهذا قالوا ان طواف الوداع لما اسقطه النبى عن الحائض دل على انه ليس بركن بل يجبره دم وكذلك المبيت بمنى لما اسقطه عن اهل السقاية دل على انه ليس بفرض بل هو واجب يجبره دم وكذلك الرمي لما جوز فيه للرعاة واهل السقاية التأخير من وقت إلى وقت دل ذلك على ان فعله فى ذلك الوقت ليس بفرض وكذلك لما رخص للضعفة أن يفيضوا من جمع بليل دل على أن الوقوف بمزدلفة بعد الفجر ليس بفرض بل هو واجب يجبره الدم فهذا حجة لهؤلاء العلماء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم وقد ذكرها أصحاب أبي حنيفة كالطحاوي وغيره
فإذا كان قولهم إن الطهارة ليست فرضا في الطواف وشرطا فيه بل هي واجبة تجبر بدم دل ذلك على أنها لا تجب على كل أحد في كل حال فإنما أوجب على كل أحد في كل حال إنما هو فرض عندهم لا بد من فعله لا يجبر بدم
وحينئذ فإذا كانت الطهارة واجبة في حال دون حال سقطت مع العجز كما سقط سائر الواجبات مع العجز كطواف الوداع وكما يباح
____________________
(26/204)
للمحرم ما يحتاج إليه الناس من حاجة عامة كالسراويل والخفين فلا فدية عند أكثر العلماء كالشافعي وأحمد وسائر فقهاء الحديث بخلاف ما يحتاج إليه في بعض الأحوال فإنه لا يباح إلا مع الفدية وأبو حنيفة يوجب الفدية في الجميع وحينئذ فهذه المحتاجة إلى الطواف أكثر ما يقال إنه يلزمها دم كما هو قول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد فإن الدم يلزمها بدون العذر على قول من يجعل الطهارة واجبة وأما مع العجز فإذا قيل بوجوب ذلك فهذا غاية ما يقال فيها والأقيس أنه لا دم عليها عند الضرورة وأما أن يجعل هذا واجبا يجبره دم ويقال أنه لا يسقط للضرورة فهذا خلاف أصول الشريعة
وقد تبين بهذا أن المضطرة إلى الطواف مع الحيض لما كان في علماء المسلمين من يفتيها بالأجزاء مع الدم وأن لم تكن مضطرة لم تكن الأمة مجمعة على أنه لا يجزئها إلا الطواف مع الطهر مطلقا وحينئذ فليس مع المنازع القائل بذلك لا نص ولا اجماع ولا قياس وقد بينا أن هذا القول مستلزم لجواز ذلك عند الحاجة وأن العلماء اختلفوا في طهارة الحدث هل هي واجبة عليها وأن قول النفاة للوجوب أظهر فلم تجمع الأمة على وجوب الطهارة مطلقا ولا على أن شيئا من الطهارة شرط في الطواف
وأما الذى لا أعلم فيه نزاعا أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا
____________________
(26/205)
كانت قادرة على الطواف مع الطهر فما أعلم منازعا أن ذلك يحرم عليها وتأثم به وتنازعوا في إجزائه فمذهب أبي حنيفة يجزئها ذلك وهو قول في مذهب أحمد فإن أحمد نص في رواية على أن الجنب إذا طاف ناسيا اجزأه ذلك فمن أصحابه من قصر ذلك على حال النسيان ومنهم من قال هذا يدل على أن الطهارة ليست فرضا إذ لو كانت فرضا لما سقطت بالنسيان لأنها من باب المأمور به لا من باب المنهي عنه كطهارة الحدث في الصلاة بخلاف اجتناب النجاسة في الصلاة فإن ظاهر مذهب أحمد أنه إذا صلى ناسيا لها أو جاهلا بها لا يعيد لأن ذلك من باب المنهي عنه فإذا فعله ناسيا أو جاهلا به لم يكن عليه اثم فيكون وجوده كعدمه
ثم أن من أصحابه من قال هذا يدل على أن الطهارة في الطواف ليست عنده ركنا على هذه الرواية بل واجبة تجبر بدم وحكى هؤلاء في صحة طواف الحائض روايتين
إحداهما لا يصح والثانية يصح وتجبره بدم وممن ذكر هذا أبو البركات وغيره وكذلك صرح غير واحد منهم بأن هذا النزاع في الطهارة من الحيض والجنابة كمذهب أبي حنيفة فعلى هذا القول تسقط بالعجز كسائر الواجبات
____________________
(26/206)
وذكر آخرون من أصحابه عنه ثلاث روايات رواية يجزئه الطواف مع الجنابة ناسيا ولا دم عليه ورواية أن عليه دما ورواية أنه لا يجزئه ذلك وبعض الناس يظن أن النزاع في مذهب أحمد إنما هو في الجنب والمحدث دون الحائض وليس الأمر كذلك بل صرح غير واحد من أصحابه بأن النزاع في الحائض وغيرها وكلام أحمد يدل على ذلك وتبين أنه كان متوقفا في طواف الحائض وفي طواف الجنب وكان يذكر أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم في ذلك فذكر أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن الميموني قال قلت لأحمد من سعى وطاف طواف الواجب على غير طهارة ثم واقع أهله فقال هذه مسألة الناس فيها مختلفون وذكر قول بن عمر وما يقول عطاء وما يسهل فيه وما يقول الحسن وأمر عائشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين حاضت افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفى بالبيت إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم فقد بليت به نزل بها ليس من قبلها قال الميموني قلت فمن الناس من يقول عليه الحج فقال نعم كذلك أكثر علمي ومن الناس من يذهب إلى أن عليه دما قال أبو عبد الله أولا وآخرا هي مسألة مشتبهة فيها نظر دعنى حتى أنظر فيها ومن الناس من يقول وأن رجع إلى بلده يرجع حتى يطوف قلت والنسيان قال والنسيان أهون حكما بكثير يريد أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدا
____________________
(26/207)
قال أبو بكر عبد العزيز قد بينا أمر الطواف بالبيت في أحكام الطواف على قولين يعنى لأحمد أحد القولين إذا طاف الرجل وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيا والقول الآخر أنه لا يجزئه حتى يكون طاهرا فإن وطىء وقد طاف غير طاهر ناسيا فعلى قولين مثل قوله في الطواف فمن أجاز الطواف غير طاهر قال تم حجه ومن لم يجزه إلا طاهرا رده من أي المواضع ذكر حتى يطوف قال وبهذا أقول
فأبو بكر وغيره من أصحاب أحمد يقولون في إحدى الروايتين يجزئه مع العذر ولا دم عليه وكلام أحمد بين في هذا وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره
وقد ذكر عن بن عمر وعطاء وغيرهما التسهيل في هذا ومما نقل عن عطاء في ذلك أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطا وقوله مما اعتد به أحمد وذكر حديث عائشة وأن قول النبي أن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم يبين أنه أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها فهي معذورة في ذلك
ولهذا تعذر إذا حاضت وهي معتكفة فلا يبطل اعتكافها بل
____________________
(26/208)
تقيم في رحبة المسجد وأن اضطرت إلى المقام في المسجد أقامت به وكذلك إذا حاضت في صوم الشهرين لم ينقطع التتابع باتفاق العلماء وهذا يقتضي أنها تشهد المناسك بلا كراهة وتشهد العيد مع المسلمين بلا كراهة وتدعو وتذكر الله والجنب يكره له ذلك لأنه قادر على الطهارة وهذه عاجزة عنها فهي معذورة كما عذرها من جوز لها القراءة بخلاف الجنب الذي يمكنه الطهارة فالحائض أحق بأن تعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة فإن ذلك يمكنه الطهارة وهذه تعجز عن الطهارة وعذرها بالعجز والضرورة أولى من عذر الجنب بالنسيان فإن الناسي لما أمر بها في الصلاة يؤمر بها إذا ذكرها وكذلك من نسى الطهارة للصلاة فعليه أن يتطهر ويصلي إذا ذكر بخلاف العاجز عن الشرط مثل من يعجز عن الطهارة بالماء فإنها تسقط عنه وكذلك العاجز عن سائر أركان الصلاة كالعاجز عن القراءة والقيام وعن تكميل الركوع والسجود وعن استقبال القبلة فإن هذا يسقط عنه كل ما عجز عنه ولم يوجب الله على أحد ما يعجز عنه من واجبات العبادات
فهذه إذا لم يمكنها الطواف على الطهارة سقط عنها ما تعجز عنه ولا يسقط عنها الطواف الذي تقدر عليه بعجزها عما هو ركن فيه أو واجب كما في الصلاة وغيرها وقد قال الله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم }
____________________
(26/209)
وقال النبي إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وهذه لا تستطيع إلا هذا وقد اتقت الله ما استطاعت فليس عليها غير ذلك
ومعلوم أن الذي طاف على غير طهارة متعمدا آثم وقد ذكر أحمد القولين هل عليه دم أم يرجع فيطوف وذكر النزاع في ذلك وكلامه يبين في أن توقفه في الطائف على غير طهارة يتناول الحائض والجنب مع التعمد ويبين أن أمر الناسي أهون بكثير والعاجز عن الطهارة أعذر من الناسي
وقال أبو بكر عبد العزيز في الشافى باب في الطواف بالبيت غير طاهر قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب ولا يطوف بالبيت أحد إلا طاهرا والتطوع أيسر ولا يقف مشاهد الحج إلا طاهرا وقال في رواية محمد بن الحكم إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه وأختار له أن يطوف وهو طاهر وأن وطىء فحجه ماض ولا شيء عليه
فهذا النص من أحمد صريح بأن الطهارة ليست شرطا وأنه لا شيء عليه إذا طاف ناسيا لطهارته لا دم ولا غيره وأنه إذا وطىء بعد ذلك فحجه ماض ولا شيء عليه كما أنه لما فرق بين التطوع
____________________
(26/210)
وغيره في الطهارة فأمر بالطهارة فيه وفي سائر المناسك دل ذلك على أن الطهارة ليست شرطا عنده فقطع هنا بأنه لا شيء عليه مع النسيان وقال في رواية أبي طالب أيضا إذا طاف بالبيت وهو غير طاهر يتوضأ ويعيد الطواف وإذا طاف وهو جنب فإنه يغتسل ويعيد الطواف وقال في رواية أبي داود حدثنا سفيان عن بن جريج عن عطاء إذا طاف على غير وضوء فليعد طوافه وقال أبو بكر عبد العزيز باب في الطواف في الثوب النجس قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب وإذا طاف رجل في ثوب نجس فإن الحسن كان يكره أن يفعل ذلك ولا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر
وهذا الكلام من أحمد يبين أنه ليس الطواف عنده كالصلاة في شروطها فإن غاية ما ذكر في الطواف في الثوب النجس أن الحسن كره ذلك وقال لا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر ومثل هذه العبارة تقال في المستحب المؤكد وهذا بخلاف الطهارة في الصلاة ومذهب أبي حنيفة وغيره أنه إذا طاف وعليه نجاسة صح طوافة ولا شيء عليه
وبالجملة هل يشترط للطواف شروط الصلاة على قولين في مذهب أحمد وغيره
أحدهما يشترط كقول مالك والشافعي وغيرهما
____________________
(26/211)
والثاني لا يشترط وهذا قول أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة وغيره وهذا القول هو الصواب فإن المشترطين في الطواف كشروط الصلاة ليس معهم حجة إلا قوله الطواف بالبيت صلاة وهذا لو ثبت عن النبي لم يكن لهم فيه حجة كما تقدم والأدلة الشرعية تدل على خلاف ذلك فإن النبي لم يوجب على الطائفين طهارة ولا اجتناب نجاسة بل قال مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم والطواف ليس كذلك والطواف لا يجب فيه ما يجب في الصلاة ولا يحرم فيه ما يحرم في الصلاة فبطل أن يكون مثلها
وقد ذكروا من القياس أنها عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة وغيرها شرطا فيها كالصلاة وهذا القياس فاسد فإنه يقال لا نسلم أن العلة في الأصل كونها متعلقة بالبيت ولم يذكروا دليلا على ذلك والقياس الصحيح ما بين فيه أن المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم أو دليل العلة
وأيضا فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة سواء تعلقت بالبيت أو لم تتعلق ألا ترى أنهم لما كانوا يصلون إلى الصخرة كانت الطهارة أيضا شرطا فيها ولم تكن متعلقة بالبيت وكذلك أيضا إذا صلى
____________________
(26/212)
إلى غير القبلة كما يصلي المتطوع في السفر وكصلاة الخوف راكبا فإن الطهارة شرط وليست متعلقة بالبيت
وأيضا فالنظر إلى البيت عبادة متعلقة بالبيت ولا يشترط له الطهارة ولا غيرها ثم هناك عبادة من شرطها المسجد ولم تكن الطهارة شرطا فيها كالإعتكاف وقد قال تعالى { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } فليس إلحاق الطائف بالراكع الساجد بأولى من إلحاقه بالعاكف بل بالعاكف أشبه لأن المسجد شرط في الطواف والعكوف وليس شرطا في الصلاة فإن قيل الطائف لا بد أن يصلى الركعتين بعد الطواف والصلاة لا تكون الا بطهارة قيل وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع واذا قدر وجوبهما لم تجب فيهما الموالاة وليس اتصالهما بالطواف بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة ومعلوم انه لو خطب محدثا ثم توضأ وصلى الجمعة جاز فلأن يجوز ان يطوف محدثا ثم يتوضأ ويصلى الركعتين بطريق الأولى وهذا كثير ما يبتلى به الانسان اذا نسى الطهارة في الخطبة والطواف فانه يجوز له ان يتطهر ويصلي وقد نص على انه اذا خطب وهو جنب جاز
وإذا تبين ان الطهارة ليست شرطا يبقى الأمر دائرا بين ان
____________________
(26/213)
تكون واجبة وبين ان تكون سنة وهما قولان للسلف وهما قولان فى مذهب احمد وغيره وفى مذهب ابى حنيفة لكن من يقول هي سنة من اصحاب أبي حنيفة يقول مع ذلك عليها دم واما احمد فإنه يقول لا شيء عليها لادم ولا غيره كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناس فاذا طافت حائضا مع التعمد توجه القول بوجوب الدم عليها وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال ان عليها دما والأشبه انه لا يجب الدم لأن هذا واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز فان لزوم الدم انما يجب بترك مأمور وهي لم تترك مأمورا فى هذه الحالة ولم تفعل محظورا من محظورات الاحرام وهذا ليس من محظورات الاحرام فان الطواف يفعله الحلال والحرام فصار الحظر هنا من جنس حظر اللبث فى المسجد واعتكاف الحائض في المسجد او مس المصحف او قراءة القرآن وهذا يجوز للحاجة بلا دم وطواف الافاضة انما يجوز بعد التحلل الأول وهي حينئذ يباح لها المحظورات الا الجماع
فإن قيل لو كان طوافها مع الحيض ممكنا أمرت بطواف القدوم وطواف الوداع والنبى صلى الله عليه وسلم أسقط طواف الوداع عن الحائض وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت ان تدع أفعال
____________________
(26/214)
العمرة وتحرم بالحج فعلم انه لا يمكنها الطواف
قيل الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد او للطواف او لهما والمحظورات لا تباح الا حال الضرورة ولا ضرورة بها إلى طواف الوداع فإن ذلك ليس من الحج ولهذا لايودع المقيم بمكة وانما يودع المسافر عنها فيكون آخر عهده بالبيت وكذلك طواف القدوم ليست مضطرة إليه بل لو قدم الحاج وقد ضاق الوقت عليه بدأ بعرفة ولم يطف للقدوم فهو ان أمر بهما القادر عليهما اما أمر إيجاب فيهما أو في أحدهما أو استحباب فان للعلماء فى ذلك أقوالا وليس واحد منهما ركنا يجب على كل حاج بالسنة الثابتة باتفاق العلماء بخلاف طواف الفرض فانها مضطرة إليه لأنه لا حج الا به وهذا كما يباح لها دخول المسجد للضرورة ولا تدخله لصلاة ولا اعتكاف وان كان منذورا بل المعتكفة اذا حاضت خرجت من المسجد ونصبت لها قبة في فنائه
وهذا ايضا يدل على ان منع الحائض من الطواف كمنعها من الاعتكاف فيه لحرمة المسجد والا فالحيض لا يبطل اعتكافها لأنها مضطرة إليه بل انما تمنع من المسجد لا من الاعتكاف فإنها ليست مضطرة إلى ان تقيم في المسجد ولو ابيح لها ذلك مع دوام الحيض لكان فى ذلك إباحة المسجد للحيض وأما الطواف فلا يمكن الا في المسجد
____________________
(26/215)
الحرام فانه مختص ببقعة معينة ليس كالاعتكاف فان المعتكف يخرج من المسجد لما لا بد منه كقضاء الحاجة والأكل والشرب وهو معتكف فى حال خروجه من المسجد ليس له في تلك الحال ان يباشر النساء وهو كما قال الله تعالى ( ولا تباشروهن وانتم عاكفون فى المساجد ( وقوله ( فى المساجد ( يتعلق بقوله ( عاكفون ( لا بقوله ( تباشروهن ( فان المباشرة فى المسجد لا تجوز للمعتكف ولا لغيره بل المعتكف فى المسجد ليس له ان يباشر اذا خرج منه لما لابد منه
فلما كان هذا يشبه الاعتكاف والحائض تخرج لما لا بد لها منه فلم يقطع الحيض اعتكافها وقد جمع سبحانه بين العكوف والطواف والصلاة في الأمر بتطهير بيته بقوله ( وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ( فمنعه من الحيض من تمام طهارته والطواف كالعكوف لا كالصلاة فإن الصلاة تباح فى جميع الأرض لا تختص بمسجد ويجب لها ويحرم فيها ما لا يحرم فى اعتكاف ولا طواف
وحقيقة الأمر ان الطواف عبادة من العبادات التى يفعلها الحلال والحرام لا تختص بالاحرام ولهذا كان طواف الفرض انما يجب بعد التحلل الأول فيطوف الحاج الطواف المذكور في قوله تعالى
____________________
(26/216)
( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ( فيطوف الحجاج وهم حلال قد قضوا حجهم ولم يبق عليهم محرم الا النساء ولهذا لو جامع أحدهم فى هذه الحال لم يفسد نسكه باتفاق الأئمة واذا كانت عبادة من العبادات فهي عبادة مختصة بالمسجد الحرام كما أن الاعتكاف يختص بجميع المساجد والله تعالى قد أمر بتطهير بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود وليس هو نوعا من الصلاة فإذا ترك من واجبه شيئا فقد يقال ترك شيئا ومن ترك شيئا من نسكه فعليه دم وإذا ترك الواجب الذي هو صفة في الطواف للعجز فهذا محل اجتهاد هل يلحق بمن ترك شيئا من نسكه او يقال هذا فيمن ترك نسكا مستقلا او تركه مع القدرة بلا عذر او ترك ما يختص بالحج والعمرة
واما القول بأن هذه العاجزة عن الطواف مع الحيض ترجع محرمة أو تكون كالمحصر أو يسقط عنها الحج او يسقط عنها طواف الفرض فهذه أقوال كلها مخالفة لأصول الشرع مع أنى لم أعلم اماما من الأئمة صرح بشيء منها فى هذه الصورة وانما كلام من قال عليها دم أو ترجع محرمة ونحو ذلك من السلف والأئمة كلام مطلق يتناول من كان يفعل ذلك فى عهدهم وكان زمنهم يمكنها ان تحتبس حتى تطهر وتطوف وكانوا يأمرون الأمراء ان يحتبسوا حتى تطهر الحيض
____________________
(26/217)
ويطفن
ولهذا ألزم مالك وغيره المكاري الذى لها ان يحتبس معها حتى تطهر وتطوف ثم ان أصحابه قالوا لا يجب على مكاريها فى هذه الأزمان ان يحتبس معها لما عليه في ذلك من الضرر
فعلم أن أجوبة الأئمة بكون الطهارة من الحيض شرطا أو واجبا كان مع القدرة على ان تطوف طاهرا لا مع العجز عن ذلك اللهم الا ان يكون منهم من قال بالاشتراط او الوجوب فى الحالين فيكون النزاع مع من قال ذلك والله تعالى اعلم وصلى الله على محمد
____________________
(26/218)
وسئل شيخ الاسلام
عن هذه الضرورة التى في الحيض المبتلى بها شطر النسوة فى الحج وكثرة اختلاف الأنواع فيه منهم من تكون حائضا في ابتداء الاحرام ومنهم من تحيض ايام التشريق
المسألة الأولى امرأة تحيض أول الشهر ولم يمكن ان تطوف الا حائضا وعند الوقوف بعرفة ترى شيئا من الصفرة والكدرة التى تراها بعد القصة البيضاء فما الحكم فى ذلك المسألة الثانية فيمن تحيض في خامس إلى تاسع ويبقى حيضها إلى سابع عشر او اكثر فوقفت وهي حائض ورمت وهي حائض وطافت للافاضة وهي حائض ولم يمكنها عمرة
المسألة الثالثة امرأة وقفت ورمت الجمار وتريد طواف الافاضة فحاضت قبل الطواف فلم تطف وكتمت وكانت تريد العمرة فلم تعتمر ورجعت ولم تفعل لا طوافا ولا عمرة ولا دما فأجاب رحمه الله الحمد لله رب العالمين أما المسألة الأولى فإن
____________________
(26/219)
المرأة الحائض تقضى جميع المناسك وهى حائض غير الطواف بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه واتفاق الأئمة فانه قال الحائض تقضى المناسك كلها الا الطواف بالبيت وأمر أسماء بنت ابى بكر لما نفست بذى الحليفة ان تغتسل وتحرم وأمر عائشة لما حاضت بسرف ان تغتسل وتحرم بالحج ولا تطوف قبل التعريف
فهذه التى قدمت مكة وهي حائض قبل التعريف لا تطوف بالبيت لكن تقف بعرفة ولو كانت حائضا فكيف اذا كانت ترى شيئا من الصفرة والكدرة و ( الصفرة والكدرة ( للفقهاء فيها ثلاثة أقوال في مذهب احمد وغيره هل هي حيض مطلقا أو ليست حيضا مطلقا والقول الثالث وهو الصحيح أنها ان كانت فى العادة مع الدم الاسود والأحمر فهي حيض والا فلا لأن النساء كن يرسلن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء وكذلك غيرها فكن يجعلن ما قبل القصة البيضاء حيضا وقالت ام عطية كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا
وليس في المناسك ما تجب له الطهارة الا الطواف فان الطواف بالبيت تجب له الطهارة باتفاق العلماء واما الطواف بين الصفا والمروة
____________________
(26/220)
ففيه نزاع والجمهور على انه لا تجب له الطهارة وما سوى ذلك لا تجب له الطهارة باتفاق العلماء
ثم تنازع العلماء فى الطهارة هل هي شرط فى صحة الطواف كما هي شرط في صحة الصلاة أم هي واجبة اذا تركها جبرها بدم كمن ترك الإحرام من الميقات او ترك رمي الجمار أو نحو ذلك على قولين مشهورين هما روايتان عن احمد
اشهرهما عنه وهى مذهب مالك والشافعى ان الطهارة شرط فيها فإذا طاف جنبا او محدثا او حائضا ناسيا او جاهلا ثم علم أعاد الطواف
والثانى انه واجب فإذا فعل ذلك جبره بدم لكن عند ابي حنيفة الجنب والحائض عليه بدنه والمحدث عليه شاة
وأما أحمد فأوجب دما ولم يعين بدنه ونص فى ذلك على الجنب إذا طاف ناسيا فقال فى هذه الرواية عليه دم فمن اصحابه من جعل الروايتين فى المعذور خاصة كالناسي ومنهم من جعل الروايتين مطلقا في الناسي والمتعمد ونحوهما
والذين جعلوا ذلك شرطا احتجوا بأن الطواف بالبيت كالصلاة
____________________
(26/221)
كما في النسائى وغيره عن بن عباس عن النبى انه قال ( الطواف بالبيت صلاة الا ان الله قد اباح لكم فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم الا بخير ( وهذا قد قيل انه موقوف على بن عباس وقد صح عن النبى انه قال ( لا يطوف بالبيت عريان ( وقد قال الله تعالى ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ( نزلت لما كانوا يطوفون بالبيت عراة الا الحمس فإنهم كانوا يطوفون فى ثيابهم وغيرهم لا يطوف في ثيابه يقولون ثياب عصينا الله فيها فإن وجد ثوب أحمسى طاف فيه والا طاف عريانا فان طاف فى ثيابه ألقاها فسميت لقاء
وكان هذا مما ابتدعه المشركون في الطواف وابتدعوا أيضا تحريم أشياء من المطاعم فى الاحرام فأنزل الله ( خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق ( وقوله ( وإذا فعلوا فاحشة كالطواف بالبيت عراة قالوا وجدنا عليها أباءنا والله أمرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (
فما ثبت بالنص من ايجاب الطهارة والستارة في الطواف متفق عليه وأما ما ثبت باللزوم من كون ذلك شرطا فيه كالصلاة ففيه نزاع
____________________
(26/222)
ومن قال ان ذلك ليس بشرط قال ان الحج قد وجب فيه اشياء تجبر بدم ليست شرطا فى صحة الحج فاذا تركها الحاج عمدا او سهوا جبرها بدم بخلاف الصلاة
وأما الصلاة فهل يجب فيها ما لا تبطل بتركه مطلقا أم لا ام لا تبطل إذا تركه نسيانا هذا فيه نزاع مشهور فأبو حنيفة يوجب فيها ما لا تبطل بتركه مطلقا كقراءة الفاتحة والطمأنينة وكذلك أحمد في أحد القولين فى مذهبه إذ أوجب الجماعة ولم يجعلها شرطا في صحة الصلاة وأحمد فى المشهور عنه يوجب فيها ما اذا تركه سهوا جبره بسجدتي السهو وما لا يحتاج إلى جبر كاجتناب النجاسات فى المشهور عنه وكذلك مالك يوجب فيها من اجتناب النجاسة ونحوها ما اذا تركه أعاد في الوقت ولم يعد بعده كما هو مشهور فى مذاهبهم
واما ( المسألة الثانية ( فإن المرأة اذا حاضت وطهرت قبل يوم النحر سقط عنها طواف القدوم وطافت طواف الافاضة يوم النحر وبعده وهي طاهر وكذلك لو طافت طواف الافاضة وهي طاهر ثم حاضت فلم تطهر قبل الخروج فانه يسقط عنها طواف الوداع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رخص للمرأة اذا طافت وهى طاهر ثم حاضت انه يسقط عنها طواف الوداع وحاضت امرأته صفية أم المؤمنين يوم النحر فقال احابستنا هي فقالوا انها
____________________
(26/223)
قد أفاضت قال فلا إذا (
وان حاضت قبل طواف الافاضة فعليها ان تحتبس حتى تطهر وتطوف اذا أمكن ذلك وعلى من معها ان يحتبس لأجلها اذا امكنه ذلك ولما كانت الطرقات آمنة في زمن السلف والناس يردون مكة ويصدرون عنها فى ايام العام كانت المرأة يمكنها ان تحتبس هي وذو محرمها ومكاريها حتى تطهر ثم تطوف فكان العلماء يأمرون بذلك وربما أمروا الأمير ان يحتبس لأجل الحيض حتى يطهرن كما قال النبى ( أحابستنا هي ( وقال ابو هريرة رضي الله عنه أمير وليس بأمير امرأة مع قوم حاضت قبل الإفاضة فيحتبسون لأجلها حتى تطهر وتطوف او كما قال
وأما هذه الأوقات فكثير من النساء او اكثرهن لا يمكنها الاحتباس بعد الوفد والوفد ينفر بعد التشريق بيوم او يومين او ثلاثة وتكون هي قد حاضت ليلة النحر فلا تطهر إلى سبعة ايام او اكثر وهي لا يمكنها ان تقيم بمكة حتى تطهر اما لعدم النفقة او لعدم الرفقة التى تقيم معها وترجع معها ولا يمكنها المقام بمكة لعدم هذا أو هذا او لخوف الضرر على نفسها ومالها فى المقام وفي الرجوع بعد الوفد والرفقة التى معها تارة لا يمكنهم الاحتباس لأجلها اما لعدم القدرة على المقام والرجوع وحدهم واما لخوف الضرر على انفسهم
____________________
(26/224)
واموالهم وتارة يمكنهم ذلك لكن لا يفعلونه فتبقى هي معذورة فهذه ( المسألة ( التى عمت بها البلوى فهذه اذا طافت وهي حائض وجبرت بدم او بدنة أجزأها ذلك عند من يقول الطهارة ليست شرطا كما تقدم فى مذهب ابى حنيفة واحمد فى احدى الروايتين عنه واولى فإن هذه معذورة لكن هل يباح لها الطواف مع العذر هذا محل النظر وكذلك قول من يجعلها شرطا هل يسقط هذا الشرط للعجز عنه ويصح الطواف هذا هو الذي يحتاج الناس إلى معرفته
فيتوجه ان يقال انما تفعل ما تقدر عليه من الواجبات ويسقط عنها ما تعجز عنه فتطوف وينبغى ان تغتسل وان كانت حائضا كما تغتسل للاحرام وأولى وتستثفر كما تستثفر المستحاضة وأولى وذلك لوجوه
احدها أن هذه لا يمكن فيها الا احد أمور خمسة إما ان يقال تقيم حتى تطهر وتطوف وان لم يكن لها نفقة ولا مكان تأوى إليه بمكة وان لم يمكنها الرجوع إلى بلدها وان حصل لها بالمقام بمكة من يستكرهها على الفاحشة فيأخذ مالها ان كان معها مال
واما ان يقال بل ترجع غير طائفة بالبيت وتقيم على ما بقى من احرامها إلى ان يمكنها الرجوع وان لم يمكنها بقيت محرمة
____________________
(26/225)
إلى ان تموت
واما ان يقال بل تتحلل كما يتحلل المحصر ويبقى تمام الحج فرضا عليها تعود إليه كالمحصر عن البيت مطلقا لعذر فانه يتحلل من احرامه ولكن لم يسقط الفر ض عنه بل هو باق فى ذمته باتفاق العلماء ولو كان قد أحرم بتطوع من حج او عمرة فأحصر فهل عليه قضاؤه على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد اشهرهما عنه انه لا قضاء عليه وهو قول مالك والشافعي والثانى عليه القضاء وهو قول ابى حنيفة وكل من الفريقين احتج بعمرة القضية هؤلاء قالوا قضاها النبى واولئك قالوا لم يقضها المحصرون معه فانهم كانوا اكثر من الف واربعمائة والذين اعتمروا معه عمرة القضية فى العام القابل كانوا دون ذلك بكثير وقالوا سميت عمرة القضية لانه قاضى عليها المشركين لا لكونه قضاها وانما كانت عمرة قائمة بنفسها
واما ان يقال من تخاف ان تحيض فلا يمكنها الطواف طاهرا لا تؤمر بالحج لا ايجابا ولا استحبابا ونصف النساء او قريب من النصف يحضن اما فى العاشر واما قبله بأيام ويستمر حيضهن إلى ما بعد التشريق بيوم او يومين او ثلاثة فهؤلاء فى هذه الازمنة فى كثير من الاعوام او أكثرها لا يمكنهن طواف الافاضة مع الطهر
____________________
(26/226)
فلا يحججن ثم اذا قدر ان الواحدة حجت فلا بد لها من احد الامور الثلاثة المتقدمة الا ان يسوغ لها الطواف مع الحيض
ومن المعلوم ان الوجه الاول لا يجوز ان تؤمر به فان فى ذلك من الفساد في دينها ودنياها ما يعلم بالاضطرار ان الله ينهى عنه فضلا عن أن يأمر به
والوجه الثانى كذلك لثلاثة اوجه
أحدها ان الله لم يأمر احدا ان يبقى محرما إلى ان يموت فالمحصر بعدو له ان يتحلل باتفاق العلماء والمحصر بمرض او فقر فيه نزاع مشهور فمن جوز له التحلل فلا كلام فيه ومن منعه التحلل قال ان ضرر المرض والفقر لا يزول بالتحلل بخلاف حبس العدو فانه يستفيد بالتحلل الرجوع إلى بلده واباحوا له ان يفعل ما يحتاج إليه من المحظورات ثم اذا فاته الحج تحلل بعمرة الفوات فاذا صح المريض ذهب والفقير حاجته فى اتمام سفر الحج كحاجته فى الرجوع إلى وطنه فهذا مأخذهم في انه لا يتحلل قالوا لانه لا يستفيد بالتحلل شيئا فان كان هذا المأخذ صحيحا وإلا كان الصحيح هو القول الأول وهو التحلل وهذا المأخذ يقتضى اتفاق الائمة على انه متى كان دوام الاحرام يحصل به ضرر يزول بالتحلل فله التحلل
____________________
(26/227)
ومعلوم ان هذه المرأة اذا دام احرامها تبقى ممنوعة من الوطء دائما بل وممنوعة فى أحد قوليهم من مقدمات الوطء بل ومن النكاح ومن الطيب ومن الصيد عند من يقول بذلك وشريعتنا لا تأتى بمثل ذلك
ولو قدر ان بعض القائلين بان المحصر بمرض او نفقة يقول بمثل ذلك فالمريض المأيوس من برئه والفقير الذي يمكنه المقام دون السفر كان قوله مردودا بأصول الشريعة فانه لا يقول فقيه ان الله امر المريض المعضوب المأيوس من برئه ان يبقى محرما حتى يموت بل اكثر ما يقال انه يقيم مقامه من يحج عنه كما قال ذلك الشافعي واحمد في اصل الحج فأوجباه على المعضوب اذا كان له مال يحج به غيره عنه اذ كان مناط الوجوب عندهما هو ملك الزاد والراحلة وعند مالك القدرة بالبدن كيف ما كان وعند ابي حنيفة مجموعهما وعند احمد فى كل من الامرين مناط للوجوب فيجب على هذا وهذا ولم يقل احد من ائمة المسلمين ان المعضوب عليه ان يحج او يعتمر ببدنه فكيف يبقى محرما عليه اتمام الحج إلى ان يموت
الثانى ان هذه اذا امكنها العود فعادت اصابها فى المرة الثانية نظير ما اصابها فى الاولى اذا كان لا يمكنها العود الا مع الوفد والحيض قد يصيبها مدة مقامهم بمكة
____________________
(26/228)
الثالث ان هذا ايجاب سفرين كاملين على الانسان للحج من غير تفريط منه ولا عدوان وهذا خلاف الاصول فإن الله لم يوجب على الناس الحج الا مرة واحدة واذا اوجب القضاء على المفسد فذلك بسبب جنايته على احرامه واذا اوجبه على من فاته الحج فذلك بسبب تفريطه لان الوقوف له وقت محدود يمكن في العادة ان لا يتأخر عنه فتأخره يكون لجهله بالطريق او بما بقى من الوقت او لترك السير المعتاد وكل ذلك تفريط منه بخلاف الحائض فانها لم تفرط ولهذا اسقط النبى عنها طواف الوداع وطواف القدوم كما فى حديث عائشة وصفية
واما التقدير الثالث وهو ان يقال انها تتحلل كما يتحلل المحصر فهذا اقوى كما قال ذلك طائفة من العلماء فان خوفها منعها من المقام حتى تطوف كما لو كان بمكة عدو منعها من نفس الطواف دون المقام على القول بذلك لكن هذا القدر لا يسقط عنها فرض الاسلام ولا يؤمر المسلم بحج يحصر فيه فمن اعتقد انه اذا حج أحصر عن البيت لم يكن عليه الحج بل خلو الطريق وأمنه وسعة الوقت شرط في لزوم السفر باتفاق المسلمين وانما تنازعوا هل هو شرط فى الوجوب بمعنى ان ملك الزاد والراحلة مع خوف الطريق او ضيق الوقت هل يجب عليه فيحج
____________________
(26/229)
عنه اذا مات او لا يجب عليه بحال على قولين معروفين فعلى قول من لم يجعل لها رخصة الا رخصة الحصر يلزمه القول الرابع وهو انها لا تؤمر بالحج بل لا يجب ولا يستحب فعلى هذا التقدير يبقى الحج غير مشروع لكثير من النساء او اكثرهن فى اكثر هذه الاوقات مع امكان أفعالها كلها لكونهن يعجزن عن بعض الفروض فى الطواف
ومعلوم ان هذا خلاف اصول الشريعة فان العبادات المشروعة ايجابا او استحبابا اذا عجز عن بعض ما يجب فيها لم يسقط عنه المقدور لاجل المعجوز بل قد قال النبى ( اذا امرتكم بامر فأتوا منه ما استطعتم ( وذلك مطابق لقول الله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ومعلوم ان الصلاة وغيرها من العبادات التى هي اعظم من الطواف لا تسقط بالعجز عن بعض شروطها واركانها فكيف يسقط الحج بعجزه عن بعض شروط الطواف واركانه
ومثل هذا القول ان يقال يسقط عنها طواف الافاضة فان هذا خلاف الاصول اذ الحج عبارة عن الوقوف والطواف والطواف افضل الركنين واجلهما ولهذا يشرع فى الحج ويشرع فى العمرة ويشرع منفردا ويشترط له من الشروط مالا يشترط للوقوف فكيف يمكن ان يصح الحج بوقوف بلا طواف
____________________
(26/230)
ولكن أقرب من ذلك أن يقال يجزيها طواف الافاضة قبل الوقوف فيقال انها ان امكنها الطواف بعد التعريف والا طافت قبله لكن هذا لا نعلم احدا من الأئمة قال به فى صورة من الصور ولا قال باجزائه الا ما نقله البصريون عن مالك فيمن طاف وسعى قبل التعريف ثم رجع إلى بلده ناسيا او جاهلا ان هذا يجزيه عن طواف الافاضة
وقد قيل على هذا يمكن ان يقال فى الحائض مثل ذلك اذا لم يمكنها الطواف الا قبل الوقوف ولكن هذا لا اعرف به قائلا
والمسألة المنقولة عن مالك قد يقال فيها ان الناسي والجاهل معذور ففي تكليفه الرجوع مشقة عظيمة فسقط الترتيب لهذا العذر وكما يقال في الطهارة فى احد الوجهين على احدى الروايتين فى مذهب أحمد انه اذا طاف محدثا ناسيا حتى ابعد كان معذورا فيجبره بدم
واما اذا امكنه الاتيان بأكثر الواجبات فكيف يسقط بعجزه عن بعضها وطواف الحائض قد قيل انه يجزئ مطلقا وعليها دم
واما تقديم طواف الفرض على الوقوف فلا يجزئ مع العمد بلا نزاع وترتيب قضاء الفوائت يسقط بالنسيان عند اكثر
____________________
(26/231)
العلماء ولا يسقط بالعجز عن بعض شروط الصلاة ولا بضيق الوقت عند أكثرهم
وأيضا فالمستحاضة ومن به سلس البول ونحو هؤلاء لو امكنه ان يطوف قبل التعريف بطهارة وبعد التعريف بهذا الحدث لم يطف الا بعد التعريف ولهذا لا يجوز للمرأة ان تصوم قبل شهر رمضان لاجل الحيض فى رمضان ولكن تصوم بعد وجوب الصوم
وايضا فان الاصول متفقة على انه متى دار الامر بين الاخلال بوقت العبادة والاخلال ببعض شروطها واركانها كان الاخلال بذلك اولى كالصلاة فان المصلى لو امكنه ان يصلي قبل الوقت بطهارة وستارة مستقبل القبلة مجتنب النجاسة ولم يمكنه ذلك في الوقت فانه يفعلها فى الوقت على الوجه الممكن ولا يفعلها قبله بالكتاب والسنة والاجماع
وكذلك ايضا لا يؤخر العبادة عن الوقت بل يفعلها فيه بحسب الامكان وانما يرخص للمعذور فى الجمع لان الوقت وقتان وقت مختص لاهل الرفاهية ووقت مشترك لاهل الاعذار والجامع بين الصلاتين صلاهما فى الوقت المشروع لم يفوت واحدة منهما ولا قدمها على الوقت المجزئ باتفاق العلماء
____________________
(26/232)
وكذلك الوقوف لو فرضنا انه امكنه الوقوف قبل الوقت او بعده اذا لم يمكنه فى وقته لم يكن الوقوف فى غير وقته مجزيا باتفاق العلماء والطواف للافاضة هو مشروع بعد التعريف ووقته يوم النحر وما بعده وهل يجزئ بعد انتصاف الليل ليلة النحر فيه نزاع مشهور
فإذا تبين فساد هذه الاقسام الاربعة بقي ( الخامس ) وهو انها تفعل ما تقدر عليه ويسقط عنها ما تعجز عنه وهذا هو الذي تدل عليه النصوص المتناولة لذلك والاصول المشابهة له وليس في ذلك مخالفة الاصول والنصوص التى تدل على وجوب الطهار ة كقوله ( تقضي الحائض المناسك كلها الا الطواف بالبيت ( انما تدل على الوجوب مطلقا كقوله ( اذا احدث احدكم فلا يصلى حتى يتوضأ ( وقوله ( لا يقبل الله صلاة احدكم حتى يتوضأ ( وقوله ( لا يقبل الله صلاة حائض الا بخمار ) وقوله ( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه ثم صلى فيه ( وقوله ( لا يطوف بالبيت عريان ( وأمثال ذلك من النصوص وقد علم ان وجوب ذلك جميعه مشروط بالقدرة كما قال تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وقال ( اذا امرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم ( وهذا تقسيم حاصر
اذا تبين انه لا يمكن ان تؤمر بالمقام مع العجز والضرر على نفسها
____________________
(26/233)
ودينها ومالها ولا تؤمر بدوام الاحرام وبالعود مع العجز وتكرير السفر وبقاء الضرر من غير تفريط منها ولا يكفي التحلل ولا يسقط به الفرض
وكذلك سائر الشروط كالستارة واجتناب النجاسة وهي فى الصلاة أوكد فان غاية الطواف ان يشبه بالصلاة وليس فى الطواف نص ينفي قبول الطواف مع عدم الطهارة والستارة كما فى الصلاة ولكن فيه ما يقتضى وجوب ذلك
ولهذا تنازع العلماء هل ذلك شرط او واجب ليس بشرط ولم يتنازعوا ان ذلك شرط في صحة الصلاة وانه يستلزم ان تؤمر بترك الحج ولا تؤمر بترك الحج بغير ما ذكرناه وهو المطلوب
الدليل الثانى ان يقال غاية ما فى الطهارة انها شرط فى الطواف ومعلوم ان كونها شرطا فى الصلاة اوكد منها في الطواف ومعلوم ان الطهارة كالستارة واجتناب النجاسة بل الستارة فى الطواف اوكد من الطواف لان ستر العورة يجب فى الطواف وخارج الطواف ولان ذلك من أفعال المشركين التى نهى الله ورسوله عنها نهيا عاما ولان المستحاضة ومن به سلس البول ونحوهما يطوف ويصلي باتفاق المسلمين والحدث فى حقهم من جنس الحدث في
____________________
(26/234)
حق غيرهم لم يفرق بينهما الا العذر
واذا كان كذلك وشروط الصلاة تسقط بالعجز فسقوط شروط الطواف بالعجز اولى واحرى والمصلي يصلي عريانا ومع الحدث والنجاسة فى صورة المستحاضة وغيرها ويصلي مع الجنابة وحدث الحيض مع التيمم وبدون التيمم عند الاكثرين اذا عجز عن الماء والتراب لكن الحائض لا تصلي لانها ليست محتاجة إلى الصلاة مع الحيض فانها تسقط عنها إلى غير بدل لان الصلاة تتكرر بتكرر الايام فكانت صلاتها فى سائر الايام تغنيها عن القضاء ولهذا امرت بقضاء الصيام دون الصلاة لان الصوم شهر واحد فى الحول فاذا لم يمكنها ان تصوم طاهرا فى رمضان صامت في غير شهر رمضان فلم يتعدد الواجب عليها بل نقلت من وقت إلى وقت ولو قدر انها عجزت عن الصوم عجزا مستمرا كعجز الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة والمريض المأيوس من برئه سقط عنها إما إلى بدل وهو الفدية باطعام مسكين عن كل يوم عند الاكثرين كمذهب ابى حنيفة والشافعي واحمد واما إلى غير بدل كقول مالك
واما الصلاة فلا يمكن العجز عن جميع اركانها بل يفعل منها ما يقدر عليه فلو قدر انه عجز عن جميع الحركات الظاهرة برأسه وبدنه سقطت عنه فى أحد قولي العلماء كقول ابى حنيفة وأحمد فى احدى
____________________
(26/235)
الروايتين وأحد القولين فى مذهب مالك وفى القول الآخر يومئ بطرفه ويستحضر الافعال بقلبه كقول الشافعي واحمد فى احدى الروايتين والقول الاول اشبه بالاثر والنظر
واما الحج فالتقدير انه لا يمكنها ان تحج الا على هذا الوجه واذا لم يمكنها ذلك كان هذا غاية المقدور كما لو لم يمكنه ان يطوف الا راكبا او حامل النجاسة
فإن قيل هنا سؤالان احدهما انه هلا جعلت الحائض كالمعضوب فان كانت ترجو ان تحج ويمكنها الطواف والا استنابت
والثانى انه اذا لم يسوغ لها الشارع الصلاة زمن الحيض كما سوغها للجنب بالتيمم وللمستحاضة علم ان الحيض لا تصح معه العبادة بحال
فيقال اما الاول فلأن المعضوب هو الذي يعجز عن الوصول إلى مكة فاما من امكنه الوصول إلى مكة وعجز عن بعض الواجبات فليس بمعضوب كما لو امكنه الوصول وعجز عن اجتناب النجاسة مثل المستحاضة ومن به سلس البول ونحوهما فان عليه الحج بالاجماع
____________________
(26/236)
ويسقط عنه ما يعجز عنه من الطهارة وكذلك من لم يمكنه الطواف الا راكبا او محمولا او من لم يمكنه رمي الجمار ونحو ذلك فانه يستنيب فيه ويحج ببدنه
واما صلاة الحائض فليست محتاجة اليها لان فى صلاة بقية الايام غنى عنها ولهذا اذا استحيضت امرت بالصلاة مع الاستحاضة ومع احتمال الصلاة مع الحيض وان كان خروج ذلك الدم وتنجيسها به يفسد الصلاة لولا العذر فقد فرق الشارع بين المعذور وغيره فى ذلك ولهذا لو امكن المستحاضة أن تطهر وتصلي حال انقطاع الدم وجب عليها ذلك وإنما اباح الصلاة مع خروجه للضرورة
فإن قيل فقد كان الجنب والمستحاضة ونحوهما يمكن اسقاط الصلاة عنه كما أسقطت عن الحائض ويكون صلاة بقية الأيام مغنية فلما أمرها الشارع بالصلاة دون الحائض علم أن الحيض ينافى الصلاة مطلقا وكذلك ينافى الطواف الذى هو كالصلاة
فيقال الجنب ونحوه لا يدوم به موجب الطهارة بل هو بمنزلة الحائض التى انقطع دمها وهو متمكن من احدى الطهارتين وأما المستحاضة فلو اسقط عنها الصلاة للزم سقوطها أبدا فلما كان حدثها دائما لم تمكن الصلاة الا معه فسقط وجوب الطهارة عنها فهذا دليل على أن
____________________
(26/237)
العبادة اذا لم يمكن فعلها الا مع المحظور كان ذلك أولى من تركها والاصول كلها توافق ذلك والجنب اذا عدم الماء والتراب صلى أيضا فى أشهر قولى العلماء لعجزه عن الطهارة فالحيض ينافى الصلاة مطلقا لعدم الحاجة إلى الصلاة مع الحيض استغناء بتكرر أمثالها وأما الحج والطواف فيه فلا يتكرر وجوبه فان لم يصح مع العذر لزم ألا يصح مطلقا والأصول قد دلت على أن العبادة اذا لم تمكن الا مع العذر كانت صحيحة مجزية معه بدون ما اذا فعلت بدون العذر وقد تبين أنه لا عذر للحائض فى الصلاة مع الحيض لاستغنائها بها عن ذلك بتكرر أمثالها فى غير أيام الحيض بخلاف الطواف فانه اذا لم يمكنها فعله الا مع الحيض لم تكن مستغنية عنه بنظيره فجاز لها ذلك كسائر ما تعجز عنه من شروط العبادات
الدليل الثالث ان يقال هذا نوع من انواع الطهارة فسقط بالعجز كغيره من انواع الطهارة فانها لو كانت مستحاضة ولم يمكنها ان تطوف الا مع الحدث الدائم طافت باتفاق العلماء وفى وجوب الوضوء عليها خلاف مشهور بين العلماء وفى هذا صلاة مع الحدث ومع حمل النجاسة وكذلك لو عجز الجنب او المحدث عن الماء والتراب صلى وطاف في اظهر قولي العلماء
الدليل الرابع ان يقال شرط من شرائط الطواف فسقط
____________________
(26/238)
بالعجز كغيره من الشرائط فانه لو لم يمكنه ان يطوف الا عريانا لكان طوافه عريانا اهون من صلاته عريانا وهذا واجب بالاتفاق فالطواف مع العري اذا لم يمكن الا ذلك اولى وأحرى
وانما قل تكلم العلماء فى ذلك لان هذا نادر فلا يكاد بمكة يعجز عن سترة يطوف بها لكن لو قدر انه سلب ثيابه والقافلة خارجون لا يمكنه ان يتخلف عنهم كان الواجب عليه فعل ما يقدر عليه من الطواف مع العري كما تطوف المستحاضة ومن به سلس البول مع ان النهى عن الطواف عريانا أظهر واشهر فى الكتاب والسنة من طواف الحائض
وهذا الذي ذكرته هو مقتضى الاصول المنصوصة العامة المتناولة لهذه الصورة لفظا ومعنى ومقتضى الاعتبار والقياس على الاصول التى تشابهها والمعارض لها انما لم يجد للعلماء المتبوعين كلاما في هذه الحادثة المعينة كما لم يجد لهم كلاما فيما اذا لم يمكنه الطواف الا عريانا وذلك لان الصور التى لم تقع في ازمنتهم لا يجب ان تخطر بقلوبهم ليجب ان يتكلموا فيها ووقوع هذا وهذا في ازمنتهم اما معدوم واما نادر جدا وكلامهم فى هذا الباب مطلق عام وذلك يفيد العموم لو لم تختص الصورة المعينة بمعان توجب الفرق والاختصاص وهذه الصورة قد لا يستحضرها المتكلم باللفظ العام من
____________________
(26/239)
الائمة لعدم وجودها في زمنهم والمقلدون لهم ذكروا ما وجدوه من كلامهم
ولهذا اوجب مالك وغيره على مكاريها ان يحتبس لاجلها اذا كانت الطرقات آمنة ولا ضرر عليه فى التخلف معها وكانوا فى زمن الصحابة وغيرهم يحتبس الامير لاجل الحيض والمتأخرون من اصحاب مالك اسقطوا عن المكاري الوداع واسقط المبيت عن أهل السقاية والرعاية لعجزهم وعجزهم يوجب الاحتباس معها في هذه الازمان ولا ريب ان من قال الطهارة واجبة في الطواف وليست شرطا فان يلزمه ان يقول ان الطهارة فى مثل هذه الصورة ليست واجبة لعدم القدرة عليها فانه يقول اذا طاف محدثا وأبعد عن مكة لم يجب عليه العود للمشقة فكيف يجب على هذه ما لا يمكنها الا بمشقة اعظم من ذلك لكن هناك من يقول عليه دم وهنا يتوجه ان لا يجب عليها دم لان الواجب اذا تركه من غير تفريط فلا دم عليه بخلاف ما اذا تركه ناسيا او جاهلا وقد يقال عليها دم لندور هذه الصورة ونظير ذلك ان يمنعه عدو عن رمي الجمرة فلا يقدر على ذلك حتى يعود إلى مكة او يمنعه العدو عن الوقوف بعرفة إلى الليل او يمنعه العدو عن طواف الوداع بحيث لا يمكنه المقام حتى يودع
____________________
(26/240)
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى انه اسقط عن الحائض طواف الوداع ومن قال ان الطهارة فرض في الطواف وشرط فيه فليس كونها شرطا فيه أعظم من كونها شرطا فى الصلاة ومعلوم ان شروط الصلاة تسقط بالعجز فسقوط شروط الطواف بالعجز اولى واحرى
هذا هو الذي توجه عندي في هذه المسألة ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ولولا ضرورة الناس واحتياجهم اليها علما وعملا لما تجشمت الكلام حيث لم أجد فيها كلاما لغيري فان الاجتهاد عند الضرورة مما امرنا الله به فان يكن ما قلته صوابا فهو حكم الله ورسوله والحمد لله وان يكن ما قلته خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله بريئان من الخطأ وان كان المخطئ معفوا عنه والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما
____________________
(26/241)
وسئل قدس الله روحه عن امراة حاضت قبل طواف الافاضة ولم تطهر حتى ارتحل الحاج ولم يمكنها المقام بعدهم حتى تطهر فهل لها ان تطوف والحالة هذه للضرورة ام لا واذا جاز لها ذلك فهل يجب عليها دم ام لا وهل يستحب لها الاغتسال مع ذلك واذا علمت المرأة من عادتها انها لا تطهر حتى يرتحل الحاج ولا يمكنها المقام بعدهم فهل يجب عليها الحج مع هذا ام لا وان لم يجب فهل يستحب لها ان تتقدم فتطوف ام لا افتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله العلماء لهم فى الطهارة هل هي شرط في صحة الطواف قولان مشهوران
احدهما انها شرط وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في احدى الروايتين والثاني ليست بشرط وهو مذهب ابى حنيفة وأحمد فى الرواية الاخرى
____________________
(26/242)
فعند هؤلاء لو طاف جنبا او محدثا او حاملا للنجاسة اجزأه الطواف وعليه دم لكن اختلف اصحاب أحمد هل هذا مطلق فى حق المعذور الذي نسي الجنابة وابو حنيفة يجعل الدم بدنة اذا كانت حائضا او جنبا فهذه التى لم يمكنها ان تطوف الا حائضا اولى بالعذر فان الحج واجب عليها ولم يقل احد من العلماء ان الحائض يسقط عنها الحج وليس من اقوال الشريعة ان تسقط الفرائض للعجز عن بعض ما يجب فيها كما لو عجز عن الطهارة فى الصلاة فلو امكنها ان تقيم بمكة حتى تطهر وتطوف وجب ذلك بلا ريب فأما اذا لم يمكن ذلك فإن اوجب عليها الرجوع مرة ثانية كان قد أوجب عليها سفران للحج بلا ذنب لها وهذا بخلاف الشريعة ثم هي ايضا لا يمكنها ان تذهب الا مع الركب وحيضها في الشهر كالعادة فهذه لا يمكنها ان تطوف طاهرا ألبتة
واصول الشريعة مبنية على ان ما عجز عنه العبد من شروط العبادات يسقط عنه كما لو عجز المصلى عن ستر العورة واستقبال القبلة او تجنب النجاسة وكما لو عجز الطائف ان يطوف بنفسه راكبا وراجلا فانه يحمل ويطاف به
ومن قال انه يجزئها الطواف بلا طهارة ان كانت غير معذورة
____________________
(26/243)
مع الدم كما يقوله من يقوله من اصحاب ابى حنيفة واحمد فقولهم لذلك مع العذر اولى وأحرى واما الاغتسال فإن فعلته فحسن كما تغتسل الحائض والنفساء للإحرام والله أعلم
وسئل
عن المرأة إذا جاءها الحيض فى وقت الطواف ما الذي تصنع
فأجاب الحمد لله الحائض تقضى المناسك كلها الا الطواف بالبيت فانها تجتهد ان لا تطوف بالبيت الا طاهرة فان عجزت عن ذلك ولم يمكنها التخلف عن الركب حتى تطهر وتطوف فانها اذا طافت طواف الزيارة وهي حائض اجزاها فى احد قولى العلماء ثم قال ابو حنيفة وغيره يجزئها لو لم يكن لها عذر لكن اوجب عليها بدنة واما احمد فاوجب على من ترك الطهارة ناسيا دما وهي شاة
واما هذه العاجزة عن الطواف وهي طاهرة فإن اخرجت دما فهو احوط والا فلا يتبين ان عليها شيئا فان الله لا يكلف نفسا الا وسعها
وقال تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وقال النبى صلى الله
____________________
(26/244)
عليه وسلم ( اذا امرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم ( وهذه لا تستطيع الا هذا والصلاة اعظم من الطواف ولو عجز المصلي عن شرائطها من الطهارة أو ستر العورة أو استقبال القبلة صلى على حسب حاله فالطواف اولى بذلك كما لو كانت مستحاضة ولا يمكنها ان تطوف الا مع النجاسة نجاسة الدم فانها تصلى وتطوف على هذه الحالة باتفاق المسلمين اذا توضأت وتطهرت وفعلت ما تقدر عليه
وينبغي للحائض اذا طافت ان تغتسل وتستثفر أي تستحفظ كما تفعله عند الاحرام وقد أسقط النبى عن الحائض طواف الوداع واسقط عن اهل السقاية والرعاة المبيت بمنى لأجل الحاجة ولم يوجب عليهم دما فإنهم معذورون فى ذلك بخلاف غيره وكذلك من عجز عن الرمى بنفسه لمرض او نحوه فانه يستنيب من يرمى عنه ولا شيء عليه وليس من ترك الواجب للعجز كمن تركه لغير ذلك والله اعلم
____________________
(26/245)
وسئل عن امرأة حجت وأحرمت لعمرة وحجة قارنة ودخلت إلى مكة وطافت وسعت وتوجهت إلى منى ثم إلى عرفة ووقفت ثم عادت إلى منى ونحر عنها ما وجب عليها من دم ورمت الجمار يوما واحدا ودخلت إلى مكة وطافت وعندما حضرت الحرم حاضت ورجعت إلى منى وكتمت وهي محققة ان حجها قد كمل وعادت إلى بلدها وبعد سنتين اعترفت بما وقع لها قيل لها يلزمك العود ولم يمكنها زوجها والحالة هذه
فأجاب ان كانت قد طافت طواف الافاضة وهي حائض والحالة هذه ناوية اجزأها الحج فى احد قولى العلماء وهو مذهب ابي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وغاية ما يجب عليها عند ابى حنيفة بدنة وعند أحمد دم وهي شاة
واما ان كانت لم تطف تحللت التحلل الاول وجاز لها الطيب وتغطية الوجه وغير ذلك لكن لا يطؤها زوجها حتى تطوف طواف الافاضة فان لم يمكنها العود فغاية ما يمكن ان يرخص لها فيه انها
____________________
(26/246)
تكون كالمحصرة تحلل من احرامها بهدي ولكن الاحوط ان تبعث به إلى مكة ليذبح مثل ان يذبح يوم النحر فاذا ذبح هناك حلت هنا وجاز لزوجها ان يطأها والحالة هذه
فإذا واعدت من يذبحه هناك فى يوم معين حلت إلى ذلك اليوم ثم اذا امكنها بعد ذلك ان تذهب إلى مكة فانها تدخل مهلة بعمرة وتطوف هذا الطواف الباقي عليها ثم ان شاءت حجت من هناك وان عجزت عن ذلك حتى تموت فلا يكلف الله نفسا الا وسعها وان امكن ان تبعث عنها بعد موتها من يفعل ذلك عنها فعل
وان كان وطؤها قبل هذا الطواف لم يفسد الحج بذلك لكن يفسد ما بقي وعليها طواف الافاضة باتفاق الائمة كما ذكر لكن عند مالك واحمد عليها ان تحرم بعمرة كما نقل عن بن عباس وعند ابي حنيفة والشافعي فى المشهور عنها يجزئها بلا احرام جديد هذا اذا كانت هناك
فأما ان كانت رجعت إلى بلدها ووطأها زوجها فلا بد لها اذا رجعت ان تحرم بعمرة من الميقات لانه لا يدخل احد مكة الا محرما بحج او عمرة اما وجوبا او استحبابا الا من له حاجة متكررة ونحو ذلك
____________________
(26/247)
وسئل ابو العباس ايما افضل لمن كان بمكة الطواف بالبيت او الخروج إلى الحل ليعتمر منه ويعود وهل يستحب لمن كان بمكة كثرة الاعتمار فى رمضان او في غيره او الطواف بدل ذلك وكذلك كثرة الاعتمار لغير المكي هل هو مستحب وهل فى اعتمار النبى من الجعرانة وفى عمرة الحديبية مستند لمن يعتمر من مكة كما فى امره لعائشة ان تعتمر من التنعيم وقوله النبى ( عمرة فى رمضان تعدل حجة ( هل هي عمرة الافقى او تتناول المكي الذي يخرج إلى الحل ليعتمر في رمضان
فأجاب أما من كان بمكة من مستوطن ومجاور وقادم وغيرهم فان طوافه بالبيت افضل له من العمرة وسواء خرج في ذلك إلى ادنى الحل وهو التنعيم الذي احدث فيه المساجد التى تسمى ( مساجد عائشة ) او اقصى الحل من أي جوانب الحرم سواء كان من جهة ( الجعرانة ( او ( الحديبية ( او غير ذلك وهذا المتفق عليه بين سلف الامة وما أعلم فيه مخالفا من ائمة الإسلام فى العمرة المكية
____________________
(26/248)
وأما العمرة من الميقات بأن يذهب إلى الميقات فيحرم منه او يرجع إلى بلده ثم ينشئ السفر منه للعمرة فهذه ليست عمرة مكية بل هذه عمرة تامة وليس الكلام هنا فيها
وهذه فيها نزاع هل المقام بمكة أفضل منها ام الرجوع إلى بلده او الميقات أفضل وسيأتى كلام بعض من رجح المقام بمكة للطواف على الرجوع للعمرة من الميقات
وانما النزاع فى انه هل يكره للمكى الخروج للاعتمار من الحل ام لا وهل يكره ان يعتمر من تشرع له العمرة كالأفقي فى العام أكثر من عمرة ام لا وهل يستحب كثرة الاعتمار ام لا فأما كون الطواف بالبيت افضل من العمرة لمن كان بمكة فهذا مما لا يستريب فيه من كان عالما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه وآثار الصحابة وسلف الأمة وأئمتها وذلك أن الطواف بالبيت من أفضل العبادات والقربات التي شرعها الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهو من أعظم عبادة اهل مكة أعنى من كان بمكة مستوطنا او غير مستوطن ومن عباداتهم الدائمة الراتبة التى امتازوا بها على سائر اهل الأمصار وما زال اهل مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه واصحابه رضي الله عنهم يطوفون بالبيت في كل
____________________
(26/249)
وقت ويكثرون ذلك وكذلك امر النبى صلى الله عليه وسلم ولاة البيت ان لا يمنعوا احدا من ذلك فى عموم الأوقات فروى جبير بن مطعم ان النبي قال يا بنى عبد مناف لا تمنعوا احدا طاف بهذا البيت وصلى فيه أية ساعة شاء من ليل او نهار رواه مسلم فى صحيحه وسائر اهل السنن كأبى داود والترمذى والنسائى وبن ماجه وغيرهم
وقد قال تعالى لخليله إمام الحنفاء الذي امره ببناء البيت ودعا الناس إلى حجة ( وطهر بيتى للطائفين والعاكفين والركع السجود ( وفى الآية الأخرى ( والقائمين ( فذكر ثلاثة انواع الطواف والعكوف والركوع مع السجود وقدم الأخص فالأخص فان الطواف لا يشرع الا بالبيت العتيق باتفاق المسلمين ولهذا اتفقوا على تضليل من يطوف بغير ذلك مثل من يطوف بالصخرة او بحجرة النبى او بالمساجد المبنية بعرفة او منى او غير ذلك او بقبر بعض المشايخ او بعض اهل البيت كما يفعله كثير من جهال المسلمين فان الطواف بغير البيت العتيق لا يجوز باتفاق المسلمين بل من اعتقد ذلك دينا وقربة عرف ان ذلك ليس بدين باتفاق المسلمين وان ذلك معلوم بالضرورة من دين الاسلام فإن اصر على اتخاذه دينا قتل
____________________
(26/250)
وأما ( الاعتكاف ( فهو مشروع فى المساجد دون غيرها وأما الركوع مع السجود فهو مشروع في عموم الأرض كما قال النبى ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره ( وهذا كله متفق عليه بين المسلمين وان كان بعض البقاع تمنع الصلاة فيها لوصف عارض كنجاسة او مقبرة او حش او غير ذلك
فالمقصود هنا انه سبحانه وتعالى قدم الأخص بالبقاع فالأخص فقدم الطواف لأنه يختص بالمسجد الحرام ثم العكوف لأنه يكون فيه وفي المساجد التى يصلى المسلمون فيها الصلاة المشروعة وهي الصلوات الخمس جماعة ثم الصلاة لأن مكانها أعم
ومن خصائص الطواف انه مشروع بنفسه منفردا او في ضمن العمرة وفي ضمن الحج وليس في اعمال المناسك ما يشرع منفردا عن حج وعمرة الا الطواف فان اعمال المناسك على ثلاث درجات منها ما لا يكون الا فى حج وهو الوقوف بعرفة وتوابعه من المناسك التى بمزدلفة
ومنها ما لا يكون الا فى حج او عمرة وهو الاحرام والاحلال
____________________
(26/251)
والسعى بين الجبلين كما قال تعالى ( ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت او اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما (
ومنها ما يكون فى الحج وفي العمرة ويكون منفردا وهو الطواف والطواف ايضا هو اكثر المناسك عملا فى الحج فانه يشرع للقادم طواف القدوم ويشرع للحاج طواف الوداع وذلك غير الطواف المفروض طواف الافاضة الذى يكون بعد التعريف
ويستحب ايضا الطواف فى اثناء المقام بمنى ويستحب في جميع الحول عموما وأما الاعتمار للمكي بخروجه إلى الحل فهذا لم يفعله احد على عهد رسول الله قط الا عائشة فى حجة الوداع مع ان النبى لم يأمرها به بل أذن فيه بعد مراجعتها اياه كما سنذكره ان شاء الله تعالى فأما اصحابه الذين حجوا معه حجة الوداع كلهم من أولهم إلى آخرهم فلم يخرج أحد منهم لا قبل الحجة ولا بعدها لا إلى التنعيم ولا إلى الحديبية ولا إلى الجعرانة ولا غير ذلك لأجل العمرة وكذلك اهل مكة المستوطنين لم يخرج احد منهم إلى الحل لعمرة وهذا متفق عليه معلوم لجميع العلماء الذين يعلمون سنته وشريعته
____________________
(26/252)
وكذلك ايضا اصحابه الذين كانوا مقيمين بمكة من حين فتحه مكة من شهر رمضان سنة ثمان والى ان توفى لم يعتمر احد منهم من مكة ولم يخرج احد منهم إلى الحل ويهل منه ولم يعتمر النبي وهو بمكة قط لا من الحديبية ولا من الجعرانة ولا غيرهما بل قد اعتمر اربع عمر ثلاث منفردة وواحدة مع حجته وجميع عمره كان يكون فيها قادما إلى مكة لا خارجا منها إلى الحل
فأما عمرة الحديبية فانه اعتمر من ذي الحليفة ميقات اهل المدينة هو وأصحابه الذين بايعوه في تلك العمرة تحت الشجرة ثم انهم لما صدهم المشركون عن البيت وقاضاهم النبى على العمرة من العام القابل وصالحهم الصلح المشهور حل هو وأصحابه من العمرة بالحديبية ولم يدخلوا مكة ذلك العام فأنزل الله تعالى فى ذلك ( سورة الفتح ( وأنزل قوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله فان احصرتم فما استيسر من الهدي ( الآية وقد ذكر الشافعى وغيره الاجماع على ان هذه الآية نزلت فى ذلك العام
ثم انه بعد ذلك فى العام القابل سنة سبع بعد ان فتح خيبر وكان فتح خيبر عقيب انصرافه من الحديبية ثم اعتمر هو ومن معه عمرة القضية وتسمى عمرة القضاء وكانت عمرته هذه فى ذي القعدة سنة سبع والتى قبلها عمرة الحديبية وكانت ايضا فى ذي القعدة
____________________
(26/253)
وعمرة الجعرانة كانت فى ذي القعدة وكانت عمره كلها فى ذي القعدة أوسط اشهر الحج وبين للمسلمين بذلك جواز الاعتمار فى اشهر الحج ولما اعتمر هو ومن معه عمرة القضية أحرموا ايضا من ذي الحليفة ودخلوا مكة واقاموا بها ثلاثا وتزوج فى ذلك العام ميمونة بنت الحارث
ثم ان اهل مكة نقضوا العهد سنة ثمان فغزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح فى نحو عشرة آلاف في شهر رمضان ودخل مكة حلالا على رأسه المغفر وطاف بالبيت واقام بمكة سبع عشرة ليلة ولم يعتمر فى دخوله هذا وبلغه ان هوازن قد جمعت له فغزاهم غزوة حنين وحاصر الطائف بعد ذلك ولم يفتحها وقسم غنائم حنين بالجعرانة وأنشأ حينئذ العمرة بالجعرانة فكان قادما إلى مكة في تلك العمرة لم يخرج من مكة إلى الجعرانة وحكم كل من أنشأ الحج او العمرة من مكان دون المواقيت ان يحرم من ذلك المكان كما فى الصحيحين عن بن عباس قال ( وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن اتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة ومن كان دونهن فمهله من اهله وكذلك اهل مكة يهلون منها
____________________
(26/254)
فاحرام النبى صلى الله عليه وسلم من الجعرانة كان لأنه أنشأ العمرة منها وبعد ان حصل فيها لأجل الغزو والغنائم فقد تبين ان الحديبية لم يحرم منها النبى صلى الله عليه وسلم لا قادما إلى مكة ولا خارجا منها بل كان محله من احرامه بالعمرة لما صده المشركون واما الجعرانة فأحرم منها لعمرة أنشأها منها وهذا كله متفق عليه ومعلوم بالتواتر لا يتنازع فيه اثنان ممن له أدنى خبرة بسيرة النبى وسنته
فمن توهم ان النبى خرج من مكة فاعتمر من الحديبية او الجعرانة فقد غلط غلطا فاحشا منكرا لا يقوله الا من كان من أبعد الناس عن معرفة سنة النبى صلى الله عليه وسلم وسيرته وان كان قد غلط فى الاحتجاج بذلك على العمرة من مكة طوائف من اكابر اعيان العلماء فقد ظهر ان النبى واصحابه جميعهم لم يعتمر احد منهم فى حياته من مكة بعد فتح مكة ومصيرها دار اسلام الا عائشة
وكذلك ايضا لم يعتمر احد منها قبل الفتح حين كانت دار كفر وكان بها من اصحاب النبى صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة وقبل هجرته فانهم كانوا يطوفون بالبيت ولم يخرج احد منهم إلى الحل ليعتمر منه اذ الطواف بالبيت ما زال مشروعا من اول مبعث
____________________
(26/255)
النبى بل ولم يزل من زمن ابراهيم بل ومن قبل ابراهيم ايضا فاذا كان المسلمون حين كانوا بمكة من حين بعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى ان توفى اذا كانوا بمكة لم يكونوا يعتمرون من مكة بل كانوا يطوفون ويحجون من العام إلى العام وكانوا يطوفون فى كل وقت من غير اعتمار كان هذا مما يوجب العلم الضرورى ان المشروع لأهل مكة انما هو الطواف وان ذلك هو الأفضل لهم من الخروج للعمرة اذ من الممتنع ان يتفق النبى صلى الله عليه وسلم وجميع اصحابه على عهده على المداومة على المفضول وترك الأفضل فلا يفعل احد منهم الأفضل ولا يرغبهم فيه النبى فهذا لا يقوله احد من اهل الايمان
ومما يوضح ذلك ان المسلمين قد تنازعوا في وجوب العمرة لوجوب الحج على قولين مشهورين للعلماء وروى النزاع في ذلك عن الصحابة ايضا فروى وجوبها عن عمر وبن عباس وغيرهما وروى عدم الوجوب عن بن مسعود والأول هو المشهور عن الشافعى واحمد والثانى هو احد قوليهما وقول ابى حنيفة ومالك
ومع هذا فالمنقول الصريح عمن اوجب العمرة من الصحابة والتابعين لم يوجبها على اهل مكة قال احمد بن حنبل كان بن عباس يرى العمرة واجبة ويقول يا أهل مكة ليس عليكم عمرة انما عمرتكم طوافكم بالبيت وقال عطاء بن ابى رباح اعلم التابعين بالمناسك
____________________
(26/256)
وامام الناس فيها ليس احد من خلق الله الا عليه حجة وعمرة واجبتان لابد منهما لمن استطاع اليهما سبيلا إلا اهل مكة فإن عليهم حجة وليس عليهم عمرة من اجل طوافهم بالبيت وهم يفعلونه فأجزأ عنهم وقال طاوس ليس على اهل مكة عمرة رواه بن ابى شيبة
وكلام هؤلاء السلف وغيرهم يقتضى انهم كانوا لم يستحبوها لأهل مكة فضلا عن أن يوجبوها كما رواه ابو بكر بن ابى شيبة فى كتابه الكبير المصنف ثنا بن ادريس عن بن جريج عن عطاء قال ليس على اهل مكة عمرة قال بن عباس انتم يا أهل مكة لا عمرة لكم انما عمرتكم الطواف بالبيت فمن جعل بينه وبين الحرم بطن واد فلا يدخل مكة الا باحرام قال فقلت لعطاء أيريد بن عباس واد من الحل قال بطن واد من الحل وقال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن بن كيسان سمعت بن عباس يقول لايضركم يا أهل مكة ان لا تعتمروا فان ابيتم فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد وقال حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن بن جريج عن خلف بن مسلم عن سالم قال لو كنت من اهل مكة ما اعتمرت وقال حدثنا عبيد الله بن موسى عن عثمان عن عطاء قال ليس على اهل مكة عمرة انما يعتمر من زار البيت ليطوف به واهل مكة يطوفون متى شاؤوا
____________________
(26/257)
وهذا نص احمد في غير موضع على ان اهل مكة لا عمرة عليهم مع قوله بوجوبها على غيرهم
ولهذا كان تحقيق مذهبه اذا أوجب العمرة انها تجب الا على اهل مكة وان كان من اصحابه من جعل هذا التفريق رواية ثالثة عنه وان القول بالايجاب يعم مطلقا ومنهم من تأول كلامه على انه لا عمرة عليهم مع الحجة لأنه يتقدم منهم فعلها فى غير وقت الحج فهذا خلاف نصوص احمد الصريحة عنه بالتفريق
ثم من هؤلاء من يقول مثل ذلك من اصحاب الشافعى في وجوب العمرة على اهل مكة قول ضعيف جدا مخالف للسنة الثابتة واجماع الصحابة فانها لو كانت واجبة عليهم لامرهم النبى بها ولكانوا يفعلونها وقد علم انه لم يكونوا اهل مكة يعتمرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اصلا بل ولا يمكن احدا ان ينقل عن احد انه اعتمر من مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا عائشة
ولهذا كان المصنفون للسنن اذا ارادوا ذكر ما جاء من السنة فى العمرة من مكة لم يكن معهم الا قضية عائشة ومن المعلوم انما دون هذا تتوفر الهمم والدواعى على نقله فلو كان اهل مكة كلهم بل
____________________
(26/258)
او بعضهم على عهد النبى يخرجون إلى الحل فيعتمرون فيه لنقل ذلك كما نقل خروجهم فى الحج إلى عرفات وقد حج النبى صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وخرج معه أهل مكة إلى عرفات ولم يعتمر بعد الحجة ولا قبلها أحد من أدنى الحل لا اهل مكة ولا غيرهم الا عائشة ثم كان الأمر على ذلك زمن الخلفاء الراشدين حتى قال بن عباس ثم عطاء وغيرهما لما بعد عهد الناس بالنبوة يا أهل مكة ليس عليكم عمرة انما عمرتكم الطواف بالبيت ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة يعتمرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمرون بذلك لم يكن مثل هذا خافيا على بن عباس إمام أهل مكة وأعلم الامة فى زمنه بالمناسك وغيرها
وكذلك عطاء بعده إمام أهل مكة بل إمام الناس كلهم فى المناسك حتى كان يقال فى أئمة التابعين الأربعة أئمة أهل الامصار سعيد بن المسيب إمام أهل المدينة وعطاء بن أبى رباح إمام أهل مكة وابراهيم النخعي إمام أهل الكوفة والحسن البصري إمام أهل البصرة وأعلمهم بالحلال والحرام سعيد بن المسيب وأعلمهم بالمناسك عطاء وأعلمهم بالصلاة ابراهيم وأجمعهم الحسن
وايضا فان كل واحد من الحج والعمرة يتضمن القصد إلى بيت
____________________
(26/259)
الله المحيط به حرم الله تعالى ولهذا لم يكن بد من أن يجمع فى نسكه بين الحل والحرم حتى يكون قاصدا للحرم من الحل فيظهر فيه معنى القصد إلى الله والتوجه إلى بيته وحرمه فمن كان بيته خارج الحرم فهو قاصد من الحل إلى الحرم إلى البيت
وأما من كان بالحرم كأهل مكة فهم فى الحج لابد لهم من الخروج إلى عرفات وعرفات هي من الحل فاذا فاضوا من عرفات قصدوا حينئذ البيت من الحل
ولهذا كان الطواف المفروض لا يكون الا بعد التعريف وهو القصد من الحل إلى الكعبة الذي هو حقيقة الحج كما قال النبى ( الحج عرفة ( ولهذا كان الحج يدرك بادراك التعريف ويفوت بفوات وقته بطلوع فجر يوم النحر بعد يوم التعريف فحقيقة الحج ممكنة فى حق أهل مكة كما هي ممكنة في حق غيرهم اذ ما قبل التعريف من الاعمال كطواف القدوم ليس من الأمور اللازمة فإن النبى أخبرته عائشة أنها قد حاضت وكانت متمتعة أمرها النبى صلى الله عليه وسلم أن تنقض رأسها وتمتشط وتهل بالحج وتدع العمرة
فأكثر الفقهاء يقولون جعلها قارنة وأسقط عنها طواف القدوم
____________________
(26/260)
فسقوطه عن المفرد للحج أولى وهو قول أبى حنيفة ومنهم من يقول جعلها رافضة للعمرة وهذا قول مالك والشافعي وأحمد لكن تنازعوا في سقوطه عن غير المعذور فعلى القولين فهو يدل على أنها لو كانت مفردة او قارنة كان سقوط طواف القدوم عنها اذا كانت حائضا أولى من العمرة وطوافها
وهذا بخلاف طواف الافاضة فانه لما قيل ان صفية بنت حيي قد حاضت ( قال عقرى حلقى أحابستنا هي فقيل له انها قد افاضت قال فلا اذا ( وهذا كما أنه قد أمر النبى أن لا ينفر احد حتى يكون آخر عهده بالبيت وهو طواف الوداع ورخص للحائض ان تنفر قبل الوداع وما سقط بالعذر علم انه ليس من أركان الحج الذي لابد منها ولهذا لم يكن على أهل مكة طواف قدوم ولا طواف وداع لانتفاء معنى ذلك فى حقهم فانهم ليسوا بقادمين اليها ولا مودعين لها ماداموا فيها فظهر أن الحج الذي أصله التعريف للطواف بعد ذلك مشروع لوجود حقيقته فيهم
وأما العمرة فان جماعها الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وذلك من نفس الحرم وهو فى الحرم دائما والطواف بين الصفا
____________________
(26/261)
والمروة تابع فى العمرة ولهذا لا يفعل الا بعد الطواف ولا يتكرر فعله لا في حج ولا عمرة فالمقصود الأكبر من العمرة هو الطواف وذلك يمكن أهل مكة بلا خروج من الحرم فلا حاجة إلى الخروج منه ولأن الطواف والعكوف هو المقصود بالقادم إلى مكة واهل مكة متمكنون من ذلك ومن كان متمكنا من المقصود بلا وسيلة لم يؤمر أن يترك المقصود ويشتغل بالوسيلة
وأيضا فمن المعلوم ان مشي الماشي حول البيت طائفا هو العبادة المقصودة وأن مشيه من الحل هو وسيلة إلى ذلك وطريق فمن ترك المشي من هذا المقصود الذي هو العبادة واشتغل بالوسيلة فهو ضال جاهل بحقيقة الدين وهو أشر من جهل من كان مجاورا للمسجد يوم الجمعة يمكنه التبكير إلى المسجد والصلاة فيه فذهب إلى مكان بعيد ليقصد المسجد منه وفوت على نفسه ما يمكن فعله في المسجد من الصلاة المقصودة
يبين ذلك أن الاعتمار افتعال من عمر يعمر والاسم فيه ( العمرة ) قال تعالى ( فمن حج البيت او اعتمر ) وقال تعالى ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) وعمارة المساجد انما هي بالعبادة فيها وقصدها لذلك كما قال النبى ( اذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان ( لان الله يقول
____________________
(26/262)
( انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الأخر واقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله ) والمقيم بالبيت أحق بمعنى العمارة من القاصد له ولهذا قيل العمرة هي الزيارة لان المعتمر لابد أن يدخل من الحل وذلك هو الزيارة وأما الاولى فيقال لها عمارة ولفظ عمارة أحسن من لفظ عمرة وزيادة اللفظ يكون لزيادة المعنى
ولهذا ثبت في الصحيح ان بعض اصحاب رسول الله قال ( لا أبالي ان لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الاسلام الا ان أسقي الحجيج فقال علي الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتم فقال عمر لا ترفعوا اصواتكم عند منبر رسول الله فإذا قضيت الجمعة ان شاء الله دخلت عليه فسألته فأنزل الله تعالى ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) الآية
واذا كان كذلك فالمقيم فى البيت طائفا فيه وعامرا له بالعبادة قد أتى بما هو أكمل من معنى المعتمر واتى بالمقصود بالعمرة فلا يستحب له ترك ذلك بخروجه عن عمارة المسجد ليصير بعد ذلك عامرا له لانه استبدل الذي هو ادنى بالذي هو خير
____________________
(26/263)
فصل
وهذا الذي ذكرناه مما يدل على أن الطواف أفضل فهو يدل على أن الاعتمار من مكة وترك الطواف ليس بمستحب بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار بل الاعتمار فيه حينئذ هو بدعة لم يفعله السلف ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة ولا قام دليل شرعي على استحبابها وما كان كذلك فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء
ولهذا كان السلف والائمة ينهون عن ذلك فروى سعيد فى سننه عن طاوس أجل أصحاب بن عباس قال الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري أيؤجرون عليها أم يعذبون قيل فلم يعذبون قال لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتى طواف وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشى فى غير شيء قال أبو طالب قيل لأحمد بن حنبل ما تقول في عمرة المحرم فقال أي شيء فيها العمرة عندي التى تعمد لها من ذلك قال الله
____________________
(26/264)
{ وأتموا الحج والعمرة لله } وقالت عائشة إنما العمرة على قدره يعنى على قدر النصب والنفقة وذكر حديث علي وعمر إنما إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك
قال أبو طالب قلت لأحمد قال طاوس الذين يعتمرون من التنعيم لا أدري يؤجرون أو يعذبون قيل له لم يعذبون قال لأنه ترك الطواف بالبيت ويخرج إلى أربعة أميال ويخرج إلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشى في غير شيء فقد أقر أحمد قول طاوس هذا الذي استشهد به أبو طالب لقوله رواه أبو بكر فى الشافي
وذكر عبد الرزاق باسناده عن مجاهد قال سئل علي وعمر وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة فقال عمر هي خير من لا شيء وقال هي خير من مثقال ذرة وقالت عائشة العمرة على قدر النفقة وعن عائشة أيضا قالت لأن أصوم ثلاثة أيام او اتصدق على عشرة مساكين أحب الي من ان اعتمر العمرة التى اعتمرت من التنعيم وقال طاوس فمن اعتمر بعد الحج ما أدري أيعذبون عليها أم يؤجرون وقال عطاء بن السائب اعتمرنا بعد الحج فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير
وقد أجازها آخرون لكن لم يفعلوها وعن أم الدرداء أنه سألها
____________________
(26/265)
سائل عن العمرة بعد الحج فأمرته بها وسئل عطاء عن عمرة التنعيم فقال هي تامة ومجزئة وعن القاسم بن محمد قال عمرة المحرم تامة وروى عبد الرزاق فى مصنفه قال أخبرنى من سمع عطاء يقول طواف سبع خير لك من سفرك إلى المدينة قال فآتي جدة قال لا انما أمرتم بالطواف قال قلت فأخرج إلى الشجرة فاعتمر منها قال لا قال
وقال بعض العلماء ما زالت قدماي منذ قدمت مكة قال قلت فالاختلاف أحب اليك من الجواز قال لا بل الاختلاف قال عبد الرزاق أخبرنى أبى قال قلت للمثنى اني اريد أن آتى المدينة قال لا تفعل سمعت عطاء سأله رجل فقال له طواف سبع بالبيت خير لك من سفرك إلى المدينة
وروى أبو بكر بن أبى شيبة فى ( المصنف ( حدثنا وكيع عن سفيان عن أسلم المنقري قال قلت لعطاء اخرج إلى المدينة أهل بعمرة من ميقات النبى قال طوافك بالبيت أحب الي من سفرك إلى المدينة وقال حدثنا وكيع ثنا عمر بن زر عن مجاهد قال طوافك بالبيت أحب إلى من سفرك إلى المدينة وقال حدثنا إسماعيل بن عبد الملك عن عطاء قال الطواف بالبيت أحب الي من الخروج إلى العمرة
____________________
(26/266)
فصل
وأما كثرة الاعتمار في رمضان للمكى وغيره فهنا ثلاث مسائل مرتبة أحدها الاعتمار فى العام اكثر من مرة ثم الاعتمار لغير المكي ثم كثرة الاعتمار للمكي فأما ( كثرة الاعتمار المشروع ( كالذي يقدم من دويره اهلة فيحرم من الميقات بعمرة كما كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفعلون وهذه من العمرة المشهورة عندهم فقد تنازع العلماء هل يكره أن يعتمر فى السنة اكثر من عمرة واحدة فكره ذلك طائفة منهم الحسن وبن سيرين وهو مذهب مالك وقال ابراهيم النخعي ما كانوا يعتمرون فى السنة الا مرة واحدة وذلك لان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يعتمرون الا عمرة واحدة لم يعتمروا في عام مرتين فتكره الزيادة على ما فعلوه كالاحرام من فوق الميقات وغير ذلك ولانه فى كتاب النبى الذي كتبه لعمرو بن حزم ان العمرة هي الحج الاصغر وقد دل
____________________
(26/267)
القرآن على ذلك بقوله تعالى ( يوم الحج الاكبر ) والحج لا يشرع في العام الا مرة واحدة فكذلك العمرة
ورخص فى ذلك آخرون منهم من أهل مكة عطاء وطاوس وعكرمة وهو مذهب الشافعي وأحمد وهو المروي عن الصحابة كعلي وبن عمر وبن عباس وانس وعائشة لان عائشة اعتمرت فى شهر مرتين بأمر النبى صلى الله عليه وسلم عمرتها التى كانت مع الحجة والعمرة التى اعتمرتها من التنعيم بأمر النبى ليلة الحصبة التى تلى أيام منى وهي ليلة أربعة عشر من ذي الحجة وهذا على قول الجمهور الذين يقولون لم ترفض عمرتها وانما كانت قارنة
وايضا ففي الصحيحين وغيرهما عن أبى هريرة عن النبى قال ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة ( وهذا مع اطلاقه وعمومه فانه يقتضى الفرق بين العمرة والحج إذ لو كانت العمرة لا تفعل في السنة الا مرة لكانت كالحج فكان يقال الحج إلى الحج
وايضا فانه اقوال الصحابة روى الشافعي عن على بن أبي طالب انه قال في كل شهر مرة وعن انس انه كان اذا حمم رأسه
____________________
(26/268)
خرج فاعتمر وروى وكيع عن اسرائيل عن سويد بن أبي ناجية عن ابى جعفر قال قال علي اعتمر فى الشهر ان اطقت مرارا وروي سعيد بن منصور عن سفيان عن بن ابي حسين عن بعض ولد انس ان انسا كان اذا كان بمكة فحمم رأسه خرج إلى التنعيم واعتمر
وهذه والله أعلم هي عمرة المحرم فانهم كانوا يقيمون بمكة إلى المحرم ثم يعتمرون وهو يقتضى ان العمرة من مكة مشروعة فى الجملة وهذا مما لا نزاع فيه والائمة متفقون على جواز ذلك وهو معنى الحديث المشهور مرسلا عن بن سيرين قال ( وقت رسول الله لاهل مكة التنعيم ( وقال عكرمة يعتمر اذا أمكن الموسى من رأسه ان شاء اعتمر فى كل شهر مرتين وفى رواية عنه اعتمر فى الشهر مرارا
وايضا فان العمرة ليس لها وقت يفوت به كوقت الحج فاذا كان وقتها مطلقا فى جميع العام لم تشبه الحج في انها لا تكون الا مرة فصل
( المسألة الثانية ( في الاكثار من الاعتمار والموالاة بينها
____________________
(26/269)
مثل ان يعتمر من يكون منزله قريبا من الحرم كل يوم او كل يومين او يعتمر القريب من المواقيت التى بينها وبين مكة يومان فى الشهر خمس عمر او ست عمر ونحو ذلك او يعتمر من يرى العمرة من مكة كل يوم عمرة او عمرتين فهذا مكروه باتفاق سلف الامة لم يفعله احد من السلف بل اتفقوا على كراهيته وهو وان كان استحبه طائفة من الفقهاء من اصحاب الشافعي واحمد فليس معهم فى ذلك حجة اصلا الا مجرد القياس العام وهو ان هذا تكثير للعبادات او التمسك بالعمومات فى فضل العمرة ونحو ذلك
والذين رخصوا فى اكثر من عمرة في الحول اكثر ما قالوا يعتمر اذا امكن الموسى من رأسه او فى شهر مرتين ونحو ذلك
وهذا الذي قاله الامام احمد قال احمد اذا اعتمر فلا بد من ان يحلق او يقصر وفى عشرة ايام يمكن حلق الراس وهذا الذي قاله الامام احمد فعل انس بن مالك الذي رواه الشافعي انه كان اذا حمم رأسه خرج فاعتمر وهذا لان تمام النسك الحلق او التقصير وهو اما واجب فيه او مستحب ومن حكى عن احمد او نحوه انه ليس الا مباحا لا استحبابا فقد غلط فمدة نبات الشعر اقصر مدة يمكن فيها اتمام النسك ولا ينتقض هذا بالعمرة
____________________
(26/270)
عقيب الحج من أدنى الحل للمفرد فان ذلك مشروع لضرورة فعل العمرة ومع هذا لم يكن يفعله السلف ولا فعله احد على عهد رسول الله بل الثابت المنقول بالتواتر في حجة النبى حجة الوداع انه امر اصحابه جميعهم اذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ان يحلوا من احرامهم ويجعلوها عمرة الا من ساق الهدى فانه لا يحل إلى يوم النحر حتى يبلغ الهدي محله وقال ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ( فكانت عمرة النبى وجميع اصحابه بأمره فى حجة الوداع داخلة في حجهم ليس بينهم فرق الا ان اكثرهم وهم الذين لا هدي معهم حلوا من احرامهم والذين معهم الهدي اقاموا على احرامهم وكل ذلك كانوا يسمونه تمتعا بالعمرة إلى الحج كما استفاضت بذلك الاحاديث الصحيحة التى تبين ان القارن متمتع كما ان من حل من العمرة ثم حج متمتع
فمن اعتمر في اشهر الحج وحج من عامه فهو متمتع فى لغة الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم والقارن يكون قارنا اذا احرم بالعمرة والحج ابتداء ويكون قارنا اذا احرم بالعمرة ثم ادخل عليها الحج قبل الطواف باتفاق الائمة الاربعة وغيرهم واذا لم يحل المتمتع من احرامه لكونه قد ساق الهدي واحرم بالحج انعقد احرامه بالحج ويسميه بعض الفقهاء من أصحاب احمد
____________________
(26/271)
وغيرهم قارنا لعدم وجود التحلل وبعضهم يقول لا يسمى قارنا لان عليه عندهم سعيا آخر بعد طواف الفرض بخلاف القارن
وهذه المسالة فيها عن احمد روايتان فقد استحب السعي مرة ثانية على المتمتع وقد نص فى غير موضع على ان المتمتع يكفيه السعي الاول كما ثبت فى الصحيح من حديث عائشة وغيرها ( ان الصحابة الذين تمتعوا مع النبى صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة الا مرة واحدة طوافهم الاول ( ولهذا لما اوجب الله تعالى فيمن تمتع بالعمرة إلى الحج ما استيسر من الهدى كان واجبا على من احرم بالحج بعد تحلله من العمرة التى احرم بها فى اشهر الحج وعلى من قرن العمرة بالحج من حين احرامه بالحج او في اثناء احرامه في الحج
ولهذا كان من ساق الهدي محرما بعمرة التمتع ولم يحرم بالحج الا بعد الطواف والسعي قد يسميه من يفرق بين القران وبين التمتع الخاص قارنا لكونه احرم بالحج قبل تحلله من العمرة وقد يسمونه متمتعا وهو اشهر لكونه لم يحرم الا بعد قضاء العمرة وهو نزاع لفظي لا يختلف به الحكم بحال الا ما ذكرنا من وجوب السعي ثانيا وفيمن قد يستحب للمتمتع ان يطوف طواف القدوم بعد رجوعه من عرفة قبل طواف الافاضة وهذا وان كان منقولا عن أحمد
____________________
(26/272)
واختاره طائفة من اصحابه فالصواب الذي عليه جماهير العلماء انه لا يستحب لان الصحابة لم يفعلوا ذلك مع النبى وهذا هو القول الاخير من مذهب احمد
ولهذا كان من روى ان النبى تمتع بالعمرة إلى الحج ومن روى انه قرن بينهما كان كلا الحديثين صوابا والمعنى واحد وكذلك من روى انه افرد الحج كابن عمر وعائشة وغيرهما لانهم ارادوا افراد اعمال الحج ولهذا كان هؤلاء الذين رووا ذلك هم الذين رووا أنه أفرد أعمال الحج فلم يفصل بينهما بتحلل كما يفعل المتمتع اذا تحلل من عمرته ولا كان فى عمله زيادة على عمل المفرد بخلاف المتمتع الذي تحلل من احرامه فإنه فصل بين عمرة تمتعه وحجة بتحلل
ولم يعتمر النبى صلى الله عليه وسلم بعد حجته لاهو ولا أحد من اصحابه الذين حجوا معه الا عائشة فهذا متفق عليه بين جميع الناس متواتر تواترا يعرفه جميع العلماء بحجته لا يتنازعون انه لم يعتمر بعد حجته لا من أدنى الحل الذي هو التنعيم الذي بنيت به بعد ذلك المساجد التى تسميها العامة ( مساجد عائشة ( ولا من غير التنعيم
____________________
(26/273)
ولهذا اتفقوا على ان الاحاديث الثابتة في الصحاح وغيرها ان النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر اربع عمر عمرة الحديبية وعمرة القضية وعمرة الجعرانة والعمرة التى مع حجته فانما معناها انه اعتمر عمرة متمتع ساق الهدي وهذا ايضا قارن فتسميته متمتعا وقارنا سواء اذا كان قد أهل بالعمرة والحج وهذا متمتع وهو قارن ولهذا كان من غلط من الفقهاء فقال انه احرم بالحج فقط ولم يقرن به عمرة لا قبله ولا معه او قال إنه احرم إحراما مطلقا ثم عقبه الحج فإنه ينكر ان يكون النبى اعتمر مع حجته ويلزمه رد هذه الاحاديث الصحيحة المبينة انه اعتمر اربع عمر لاتفاق المسلمين على انه لم يعتمر هو ولا احد من اصحابه غير عائشة عقب الحج
ولهذا كان هذا حجة قاطعة على مالم يتنازع فيه الائمة الاربعة وعامة الفقهاء في ان المتمتع بالعمرة إلى الحج سقط عنه بذلك الحج والعمرة سواء قيل بوجوبها او بتوكيد استحبابها دون وجوبها لان الصحابة الذين حجوا مع النبى بامره هكذا فعلوا واخبرهم النبى صلى الله عليه وسلم ان العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة وقالوا له أعمرتنا هذه لعامنا هذا ام للابد فقال بل للابد دخلت العمرة في الحج إلى يوم االقيامة ( قال
____________________
(26/274)
ومن روى من الصحابة ان النبى افرد الحج ارادوا بذلك بيان انه لم يحل من احرامه لعمرة التمتع كما امر بذلك جمهور اصحابه وهم الذين لم يكونوا ساقوا الهدي فإن الاحاديث الثابتة المتواترة كلها متفقة على ان النبى أمر أصحابه حين قدموا مكة فطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ان يحلوا من احرامهم ويجعلوها عمرة الا من ساق الهدي فانه امره ان يبقى على احرامه إلى يوم النحر حتى يبلغ الهدي محله عملا بمعنى قوله ( ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) فهذه الجملة لم يتنازع فيها احد من العلماء ان حجة الوداع كانت هكذا
ثم ان كثيرا من الصحابة روى ان النبى تمتع بالعمرة إلى الحج فصار يظن قوم انهم ارادوا بذلك انه حل من احرامه بالعمرة ثم احرم بالحج كما امر بذلك اصحابه الذين لم يسوقوا الهدي وروي ايضا من روى من هؤلاء الصحابة انه افرد الحج ليزيلوا بذلك ظن من ظن أنه حل من إحرامه وأخبروا أنه لم يحل من إحرامه بل فعل كما يفعل من افرد الحج من بقائه على احرامه وعمل ما يعمله المفرد فروايات الصحابة متفقة على هذا
وكل من روى عنه من الصحابة انه روى الافراد فقد روى التمتع وفسروا التمتع بالقران ورووا عنه صريحا انه قال ( لبيك
____________________
(26/275)
عمرة وحجا ( وانه قال ( اتانى آت من ربي فى هذا الوادي المبارك فقال قل عمرة فى حجة (
ولهذا كان الصواب ان من ساق الهدي فالقران له افضل ومن لم يسق الهدي وجمع بينهما فى سفر وقدم فى اشهر الحج فالتمتع الخاص افضل له وان قدم في شهر رمضان وقبله بعمرة فهذا افضل من التمتع وكذلك لو افرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة فهو افضل من المتعة المجردة بخلاف من افرد العمرة بسفرة ثم قدم فى اشهر الحج متمتعا فهذا له عمرتان وحجة فهو افضل كالصحابة الذين اعتمروا مع النبى عمرة القضية ثم تمتعوا معه فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج فهذا افضل الاتمام وكذلك فعل النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر اولا ثم قرن فى حجه بين العمرة والحج لما ساق الهدي لكنه لم يزد على عمل المفرد فلم يطف للعمرة طوافا رابعا ولهذا قيل انه افرد بالحج
ثم إن الناس كانوا فى عهد ابى بكر وعمر لما رأوا فى ذلك من السهولة صاروا يقتصرون على العمرة فى اشهر الحج ويتركون سائر الأشهر لا يعتمرون فيها من أمصارهم فصار البيت يعرى عن العمار من أهل الأمصار فى سائر الحول فامرهم عمر بن الخطاب بما هو اكمل لهم بأن يعتمروا فى غير اشهر الحج فيصير البيت مقصودا معمورا فى
____________________
(26/276)
اشهر الحج وغير اشهر الحج وهذا الذى اختاره لهم عمر هو الأفضل حتى عند القائلين بأن التمتع افضل من الافراد والقرآن كالإمام أحمد وغيره
فإن الامام احمد يقول انه إذا اعتمر فى غير اشهر الحج كان افضل من ان يؤخر العمرة إلى اشهر الحج سواء قدم مكة قبل اشهر الحج واعتمر وأقام بمكة حتى يحج من عامه ذلك او اعتمر ثم رجع إلى مصره او ميقات بلده وأحرم بالحج وهذا ظاهر فان القاصد لمكة اذا قدم مثلا فى شهر رمضان فاعتمر فيه حصل له ما ذكره النبى بقوله ( عمرة فى رمضان تعدل حجة ) وان قدم قبل ذلك معتمرا وأقام بمكة فذلك كله افضل له فإنه يطوف بمكة ويعتكف بها تلك المدة إلى حين الاهلال بالحج وإن رجع إلى مصره ثم قدم وأحرم بالحج فقد افرد للعمرة سفرا وللحج سفرا وذلك أتم لهما كما قال على فى قوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة اهلك أى تنشئ السفر لهما من دويرة اهلك
واما من اعتمر قبل اشهر الحج ثم رجع إلى مصره ثم قدم ثانيا فى أشهر الحج فتمتع بعمرة إلى الحج فهذا افضل ممن اقتصر على مجرد الحج فى سفرته الثانية إذا اعتمر معها عقيب الحج لأن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر مع الحج تمتع هو قران كما بينوا ولأن من
____________________
(26/277)
تحصل له عمرة مفردة وعمرة مع حجة افضل ممن لا يحصل له الا عمرة وحجة وعمرة تمتع افضل من عمرة مكية عقيب الحج
فهذا الذى اختاره عمر للناس هو الاختيار عند عامة الفقهاء كالإمام احمد ومالك والشافعى وغيرهم وكذلك ذكر اصحاب ابى حنيفة عن محمد بن الحسن ولا يعرف فى اختيار ذلك خلاف بين العلماء
ولما كان ذلك هو الأفضل الأرجح وكان إن لم يؤمر الناس به زهدوا فيه وأعرضوا عما هو أنفع لهم فى دينهم كان من اجتهاد عمر ونظره لرعيته انه ألزمهم بذلك كما يلزم الأب الشفيق ولده ما هو أصلح له ولما في ذلك من المنفعة لأهل مكة وهذا كان موضع اجتهاد خالفه فيه على وعمران بن حصين وغيرهما من الصحابة ولم يروا ان يؤمر الناس بذلك امرا بل يتركون من احب اعتمر قبل اشهر الحج ومن احب اعتمر فيها وان كان الأول اكمل
وقوي النزاع فى ذلك فى ( خلافة عثمان ) حتى ثبت فى الصحيحين ان عثمان كان ينهى عن المتعة فلما رآه على اهل بهما وقال لم اكن لادع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول احد ونهى عثمان كان لاختيار الافضل لانهى كراهة فلما حصلت الفرقة بعد ذلك بين الأمة بمقتل عثمان ومصير الناس
____________________
(26/278)
شيعتين قوما يميلون إلى عثمان وشيعته وقوما يميلون إلى على وشيعته صار قوم من ولاة بنى امية ينهون عن المتعة ويعاقبون من يتمتع ولا يمكنون احدا من العمرة فى اشهر الحج وكان في ذلك نوع من الجهل والظلم فلما رأى ذلك علماء الصحابة كعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهما جعلوا ينكرون ذلك ويأمرون الناس بالمتعة اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرون الناس ان النبى امر بها اصحابه فى ( حجة الوداع ) فصار بعض الناس يناظرهم بما توهمه على ابى بكر وعمر فيقولون لعبد الله بن عمر إن اباك كان ينهى عنها فيقول ان ابى لم يرد ذلك ولا كان يضرب الناس عليها ونحو ذلك
فبين لهم ان عمر قصد امر الناس بالافضل لا تحريم المفضول وعمر إنما امرهم بالاعتمار فى غير اشهر الحج فاما ان يكون عمر أو احد من الصحابة اختار للناس ان يفردوا الحج فى اشهره ويعتمروا فيه عمرة مكية فهذا لم يأمر به ولم يختره احد من الصحابة اصلا ولم يفعله احد على عهد النبى قطعا واكبر ظنى انه لم يفعله احد من الصحابة بعد النبى ولم يأمر به
وقد حمل طائفة من العلماء نهى عمر على أنه نهى عن متعة الفسخ
____________________
(26/279)
وهؤلاء يقولون الفسخ إنما كان جائزا لمن كان مع النبى وقد بسط الكلام على هذا فى غير هذا الموضع
وبين ان السلف والعلماء تنازعوا فى الفسخ فمذهب بن عباس وأصحابه وكثير من الظاهرية والشيعة يرون ان الفسخ واجب وانه ليس لأحد ان يحج إلا متمتعا ومذهب كثير من السلف والخلف أنه وإن جاز التمتع فليس لمن أحرم مفردا أو قارنا أن يفسخ وهذا مذهب أبى حنيفة ومالك والشافعى ومذهب كثير من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد بن حنبل أن الفسخ هو الأفضل وأنه إن حج مفردا أو قارنا ولم يفسخ جاز وأما من ساق الهدى فلا يفسخ بلا نزاع والفسخ جائز ما لم يقف بعرفة وسواء كان قد نوى عند الطواف طواف القدوم أو غير ذلك وسواء كان قد نوى عند الاحرام القران او الافراد أو أحرم مطلقا
فالأفضل عند هؤلاء لكل من لم يسق الهدى ان يحل من احرامه بعمرة تمتع كما أمر النبى أصحابه بذلك فى حجة الوداع وليس له ان يتحلل بعمرة إذا كان قصده أن يحج من عامه فيكون متمتعا فأما الفسخ بعمرة مجردة فلا يجوزه أحد من العلماء ولا للذي
____________________
(26/280)
يجمع بين العمرة والحج فى سفرة واحدة أن يحج فى اشهر الحج ويعتمر عقيب ذلك من مكة بل هم متفقون على ان هذا ليس هو المستحب المسنون فهذا أفضل ممن اقتصر على مجرد الحج فى سفرته الثانية أو اعتمر فيها
فثبت أن النبى اعتمر مع الحج عمرة تمتع هو قران كما تقدم ولأن من يحصل له عمرة مفردة وعمرة مع حجه أفضل ممن لم يحصل له إلا عمرة وحجة وعمرة تمتع أفضل من عمرة بمكة عقيب الحج إلى الحج وإن جوزوه فكان عبد الله بن عمر إذا بين لهم معنى كلام عمر ينازعونه فى ذلك فيقول لهم فقد روا أن عمر نهى عن ذلك امر رسول الله أحق أن تتبعوه ام عمر وكذلك كان عبد الله بن عباس إذا بين لهم سنة النبى فى تمتعه يعارضونه بما توهموه على أبى بكر وعمر فيقول لهم يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر يبين لهم أنه ليس لأحد أن يعارض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس مع أن أولئك المعارضين كانوا يخطئون على أبى بكر وعمر وهم سواء كانوا علموا حال أبى بكر وعمر أم أخطأوا عليهما ليس لأحد أن يدفع المعلوم من سنة
____________________
(26/281)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الخلق بل كل أحد من الناس فانه يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله وهذا متفق عليه بين علماء الأمة وأئمتها
وإنما تنازع فيه أهل الجهالة من الرافضة وغالية النساك الذين يعتقد أحدهم فى بعض أهل البيت أو بعض المشائخ أنه معصوم او كالمعصوم وكان بن عباس يبالغ فى المتعة حتى يجعلها واجبة ويجعل الفسخ واجبا وهو قول أبى حنيفة وطائفة من أهل الظاهر والشيعة ويجعل من طاف وسعى فقد حل من إحرامه وصار متمتعا سواء قصد التمتع او لم يقصده وصار إلى ايجاب التمتع طائفة من الشيعة وغيرهم وهذا مناقضة لمن نهى عنها وعاقب عليها من بنى امية وغيرهم
وأما الذي عليه أئمة الفقه فإنهم يجوزون هذا وهذا ولكن النزاع بينهم فى الفسخ وفى استحبابه فمن حج متمتعا من الميقات أجزأه حجه باتفاق العلماء وما سوى ذلك فيه نزاع سواء أفرد أو قرن أو فسخ إذا قدم فى اشهر الحج إلا القارن الذى ساق الهدى فان هذا يجزئه أيضا حجه باتفاقهم وأما من قدم بعمرة قبل أشهر الحج وأقام إلى أن يحج فهذا
____________________
(26/282)
ايضا ما أعلم فيه نزاعا فالتمتع المستحب والقرآن المستحب والافراد المستحب هو الذى يجزئه باتفاقهم
وبسبب ما وقع من اشتراك الالفاظ فى الرواية واختلاف الاجتهاد في العمل وغير ذلك صار كثير من الفقهاء يغلطون فى معرفة ( صفة حجة الوداع ) فيظن طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ان النبى تمتع بمعنى أنه حل من إحرام العمرة ثم أحرم بالحج وهذا غلط بلا ريب وقد قال الامام احمد لا أشك ان النبى كان قارنا والمتعة أحب إلى أى لمن كان لم يسق الهدى فانه لا يختلف قوله أن من جمع الحج والعمرة فى سفرة واحدة وقدم فى أشهر الحج ولم يسق الهدى أن هذا التمتع أفضل له بل هو المسنون لأن النبى أمر أصحابه بذلك
وأما من ساق الهدى فهل القران أفضل له أم التمتع ذكروا عنه روايتين والذى صرح به فى رواية المروذي أن القران أفضل له لأن النبى هكذا حج بلا نزاع بين أهل العلم والحديث وهذا السائق للهدى تمتعه وقرانه لا يختلفان الا فى تقدم الاحرام وتأخيره فمتى أحرم بالحج مع العمرة او قرن الإحرام بالعمرة او بز يادة سعى عند من يقول به وقبل طوافه وسعيه عند من يقوله
____________________
(26/283)
كان قارنا وهو متمتع تمتع قران بلا نزاع
وإن لم يحرم بالحج الا بعد الطواف والسعى مع بقائه على احرامه فهو متمتع وبقاؤه على إحرامه واجب عليه عند أبى حنيفة وأحمد إذا كان قد ساق الهدى وعند مالك والشافعى انما يتحلل إن لم يسق الهدى فانه يتحلل من عمرته باتفاقهم فان أحرم بالحج قبل تحلله من العمرة ففيه نزاع
ومن جوز هذا من أصحاب أحمد فانهم يسمونه أيضا ( قارنا ) فانه لم يتحلل من أحرامه حتى أحرم بالحج وهل على المتمتع بعد طواف الافاضة سعى غير السعى الاول الذى كان عقيب طواف العمرة فيه قولان فى مذهب أحمد وغيره
وقد نص أحمد على ان المتمتع يجزئه سعى واحد كما يجزئ القارن فى غير موضع وعلى هذا فلا يختلفان الا بالتقدم والتأخر واذا كان الامر كذلك فمعلوم ان تقدم الاحرام بالحج أفضل من تأخيره لأنه أكمل وهذا الذى ثبت صحيحا صريحا عن النبى حيث قال أنس سمعته يقول ( لبيك عمرة وحجا ) وكذلك فى حديث عمر الذى فى الصحيح صحيح البخارى عن النبى أنه قال أتانى آت الليلة من ربي وهو بالعقيق فقال
____________________
(26/284)
صل فى هذا الوادي المبارك وقل عمرة فى حجة ) ولم ينقل أحد عن النبى نفسه لفظا يخالف هذين ألبتة بل لم ينقل أحد عن النبى لفظا باحرامه الا هذا وكذلك قالت عائشة فى الحديث المتفق عليه خرجنا مع رسول الله فى حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله ( من كان معه هدى فليهل بالحج مع العمرة
واما قول النبى ( لو استقبلت من امرى ما استدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة ) فهذا ايضا يبين انه مع سوق الهدى لم يكن يجعلها عمرة وانه إنما كان يجعلها عمرة إذا لم يسق الهدى وذلك لأن اصحابه الذين امرهم بالاحلال وهم الذين لم يسوقوا الهدى كرهوا ان يحلوا فى اشهر الحج لأنهم لم يكونوا يعتادون الحل فى وسط الاحرام فى اشهر الحج فكان النبى لأجل تطييب قلوبهم يوافقهم فى الفعل فذكر انه لو استقبل من امره ما استدبر أي لو كنت الساعة مبتدئا الاحرام لم اسق الهدى ولأحرمت بعمرة احل منها وهذا كله من النصوص الثابتة عنه بلا نزاع
وهو يبين ان المختار لمن قدم في اشهر الحج احد امرين اما ان يسوق الهدى او يتمتع تمتع قارن او لا يسوق الهدى ويتمتع بعمرة ويحل منها
____________________
(26/285)
ثم الذى ينبغى ان يقال ان الذى اختاره الله لنبيه هو افضل الامرين
واما قوله ( لو استقبلت من امرى ما استدبرت لم أفعل ذلك ) فهو حكم معلق على شرط والمعلق على شرط عدم عند عدمه فما استقبل من امره ما استدبر وقد اختار الله تعالى له ما فعل واختار له انه لم يستقبل ما استدبر ولا يلزم اذا كان الشئ افضل على تقدير ان يكون أفضل مطلقا
وهذا كقوله ( لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر ) فهو لا يدل على ان عمر افضلهم لو لم يبعث الرسول ولا يدل على انه افضل مع بعث الرسول بل ابو بكر افضل منه فى هذه الحال ولكن هذا بين ان الموافقة اذا كان فى تنويع الاعمال تفرق وتشتت هو أولى من تنويعها وتنويعها اختيار القادر المفضول للأفضل والعاجز عن المفضول كما اختار من قدر على سوق الهدى الافضل ومن لم يقدر على سوقه مع السلامة عن التفرق ومع تفرق يعقبه ائتلاف هو افضل وغلط ايضا فى ( صفة حجه ) طائفة من اصحاب مالك والشافعى وغيرهما فظنوا انه إنما كان مفردا يعنى انه أحرم بحجة مفردة ولم
____________________
(26/286)
يعتمر معها اصلا وهذا خلاف الاحاديث الصحيحة الثابتة ايضا وخلاف ما تواتر فى سنته
ثم قد يغلط طوائف من متأخريهم فيظنون انه اعتمر مع ذلك من مكة ولهذا لم ينقله احد ممن له قول معتبر ولم يتنازعوا فى أنه أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدى بالتمتع بالعمرة إلى الحج وأمره فى حق أمته أولى بهم من فعله لا سيما وقد بين أن اختصاصه بعدم الاحلال إنما كان لسوق الهدى وهذا متواتر عنه وفى الصحيحين أن حفصة قالت له ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك فقال ( انى لبدت رأسى وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ) فهذا لا ينافى أنه احرم بالعمرة والحج كما روى أنس وعمر وغيرهما لأن ذلك يسمى عمرة لأنه وحده عمل المعتمر ولأنه أمرهم بالحل وأن يجعلوها عمرة فشبهته بهم
وغلط ايضا فى ( صفة حجته ) من غلط من اصحاب أبى حنيفة وغيرهم فاعتقدوا أن النبى كان قارنا بمعنى أنه طاف وسعى أولا للعمرة ثم طاف وسعى ثانيا للحج قبل التعريف وكل من نظر فى الاحاديث الثابتة المتواترة عن النبى علم أنه لم يطف طوافين ولا سعى سعيين ولا أمر بذلك أصحابه الذين ساقوا الهدى وأمرهم بالبقاء على احرامهم فضلا عن
____________________
(26/287)
الذين أمرهم بالاحلال
وما روى أنه يأمر به على ونحوه من فعل الطوافين والسعيين فقد ضعفه غير واحد من أهل العلم بالحديث وليس فى شيء من كتب الحديث ان النبى فى حجته طاف طوافين وسعى سعيين وإنما يوجد ذلك فى بعض كتب الرأى التى يروى أصحابها أحاديث كثيرة وتكون ضعيفة وهم لم يتعمدوا الكذب لكن سمعوا تلك الاحاديث ممن لا يضبط الحديث
وهكذا الاختيار فان الفقهاء وإن جوزوا الانساك الثلاثة فقد يغلط كثير منهم فى الاختيار فأعدل الاقوال وهو أتبعها للسنة وأصحها فى الأثر والنظر ما ذكرناه أن من قدم فى أشهر الحج مريدا للعمرة والحج فى تلك السفرة فالسنة له التمتع بالعمرة إلى الحج ثم إن ساق الهدى لم يحل من إحرامه ولكن احرامه بالحج مع العمرة أولا قبل الطواف والسعى أفضل له من أن يؤخر الاحرام بالحج إلى ما بعد الطواف والسعى وان لم يسق الهدى حل وهذا أفضل له من أن يجئ بعمرة عقب الحج
وأما من أفردهما فى سفرة واعتمر قبل اشهر الحج وأقام إلى الحج فهذا أفضل من التمتع وهذا قول الخلفاء الراشدين وهو
____________________
(26/288)
مذهب الامام احمد وغيره وقول من يقوله من اصحاب مالك والشافعي وغيرهم واختيار المتعة هو قول اصحاب الحديث وهو قول فقهاء مكة من الصحابة والتابعين وقول بنى هاشم
فاتفق على اختياره علماء سنته وأهل بلدته وأهل بيته
ومالك وإن كان يختار ا لافراد فلا يختاره لمن يعتمر عقب الحج بل يعتمر فى غير أشهر الحج كالمحرم والشافعى فى أحد أقواله يختار التمتع وفى الآخر يختار احراما مطلقا وفى الآخر يختار الافراد ولكن لا أحفظ قوله فيمن يعتمر عقب الحج فانه وإن كان من أصحابه من يجعل هذا هو الأفضل فكثير من أصحاب أحمد يظن ان مذهبه ان المتعة افضل من الاعتمار فى أشهر الحج
والغلط فى هذا الباب كثير على السنة وعلى الأئمة وإلا فكيف يشك من له أدنى معرفة فى السنة ان أصحابه لم يعتمر احد منهم عقيب الحج وكيف يشك مسلم ان ما فعلوه بأمر النبى هو الأفضل لهم ولمن كان حاله كحالهم وقد تبين بما ذكرنا انه وإن سوغ العمرة من مكة عقب الحج لمن أفرد فهذا لم يفعله احد على عهد النبى ولا أمر به هو ولا أحد من خلفائه ولا أحد من صحابته
____________________
(26/289)
والتابعين وأئمتهم أمر اختيار وهذا كله مما يضعف امر الاعتمار من مكة غاية الضعف فصل
وأما المسأله الثالثة فنقول فاذا كان قد تبين بما ذكرناه من السنة واتفاق سلف الامة أنه لا يستحب بل تكره الموالاة بين العمرة لمن يحرم من الميقات فمن المعلوم ان الذى يوالي بين العمر من مكة فى شهر رمضان أو غيره أولى بالكراهة فانه يتفق فى ذلك محذوران أحدهما كون الاعتمار من مكة وقد اتفقوا على كراهة اختيار ذلك بدل الطواف
والثانى الموالاة بين العمر وهذا اتفقوا على عدم استحبابه بل ينبغى كراهته مطلقا فيما اعلم لمن لم يعتض عنه بالطواف وهو الاقيس فكيف بمن قدر على ان يعتاض عنه بالطواف بخلاف كثرة الطواف فانه مستحب مأمور به لا سيما للقادمين فان جمهور العلماء على ان طوافهم بالبيت افضل لهم من الصلاة بالمسجد الحرام مع فضيلة الصلاة بالمسجد الحرام
____________________
(26/290)
فصل
وأما الاعتمار فى شهر رمضان ففى الصحيحين والسنن عن عطاء سمعت بن عباس يحدثنا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار سماها بن عباس فنسيت اسمها ( ما منعك أن تحجى معنا فقالت لم يكن لنا الا ناضحان فحج ابو ولدها على ناضح وترك لنا ناضحا ننضح عليه قال فإذا جاء شهر رمضان فاعتمرى فإن عمرة في رمضان تعدل حجة وفي الصحيحين عن بن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم ( عمرة فى رمضان تعدل حجة ) وفى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأم سنان امرأة من الأنصار ( عمرة فى رمضان تقضى حجة معى ) وروى البخارى هذا الحديث من طريق جابر تعليقا وعن ام معقل عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( عمرة فى رمضان تعدل حجة ) رواه بن ماجه والترمذى وقال حديث حسن وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته ام معقل قالت لما حج رسول الله حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله ابو معقل فى سبيل الله واصابنا مرض وهلك ابو معقل وخرج
____________________
(26/291)
النبى صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجته جئته فقال ( يا ام معقل ما منعك ان تحجى قالت لقد تهيأنا فهلك ابو معقل وكان لنا جمل هو الذى نحج عليه فأوصى به ابو معقل فى سبيل الله قال فهلا خرجت عليه فان الحج من سبيل الله ) رواه ابو داود وروى احمد فى المسند عن ام معقل الاسدية ان زوجها جعل بكرا فى سبيل الله وانها ارادت العمرة فسألت زوجها البكر فابى فاتت النبى فذكرت ذلك له فأمره أن يعطيها وقال رسول الله ( الحج والعمرة فى سبيل الله )
فهذه الأحاديث تبين انه اراد بذلك العمرة التى كان المخاطبون يعرفونها وهى قدوم الرجل إلى مكة معتمرا فاما ان يخرج المكي فيعتمر من الحل فهذا امر لم يكونوا يعرفونه ولا يفعلونه ولا يأمرون به فكيف يجوز ان يكون ذلك مرادا من الحديث مع ان هذه المرأة كانت بالمدينة النبوية وعمرتها لا تكون إلا عن الميقات ليست عمرتها مكية
وكيف يكون قد رغبهم فى عمرة مكية فى رمضان ثم أنهم لا يأتون ما فية هذا الاجر العظيم مع فرط رغبتهم فى الخير وحرصهم عليه وهلا أخبر النبى صلى الله علية وسلم بذلك أهل مكة المقيمين بها ليعتمروا كل عام فى شهر رمضان وإنما أخبر بذلك من كان
____________________
(26/292)
بالمدينة لما ذكر له مانعا منعه من السفر للحج فأخبره ان الحج في سبيل الله وان عمره فى رمضان تعدل حجة وهذا ظاهر لأن المعتمر فى رمضان ان عاد إلى بلدة فقد أتى بسفر كامل للعمرة ذهابا وإيابا في شهر رمضان المعظم فاجتمع له حرمه شهر رمضان وحرمه العمره وصار ما فى ذلك من شرف الزمان والمكان يناسب ان يعدل بما فى الحج فى شرف الزمان وهو أشهر الحج وشرف المكان وان كان المشبه ليس كالمشبه به من جميع الوجوه لا سيما فى هذة القصة باتفاق المسلمين وإن أقام بمكة إلى ان حج في ذلك العام فقد حصل له نسكا مكفرا ايضا بخلاف من تمتع في أشهر الحج فإن هذا هو حاج محض وإن كان متمتعا ولهذا يكون داخلا فى الحج من حين يحرم بالعمرة
يبين هذا ان بعض طرقة فى الصحيح أنه قال للمرأة ( عمرة فى رمضان تعدل حجة معى ( ومعلوم ان مراده ان عمرتك فى رمضان تعدل حجة معى فانها كانت قد ارادت الحج معه فتعذر ذلك عليها فأخبرها بما يقوم مقام ذلك وهكذا من كان بمنزلتها من الصحابة ولا يقول عاقل ما يظنه بعض الجهال ان عمرة الواحد منا من الميقات او من مكة تعدل حجة معه فانه من المعلوم بالاضطرار ان الحج التام افضل من عمرة رمضان والواحد منا لو حج الحج المفروض لم يكن كالحج معه فكيف بعمرة وغاية ما يحصله الحديث ان يكون عمرة احدنا فى
____________________
(26/293)
رمضان من الميقات بمنزلة حجة وقد يقال هذا لمن كان اراد الحج فعجز عنه فيصير بنية الحج مع عمرة رمضان كلاهما تعدل حجة لا احدهما مجردا
وكذلك الانسان اذا فعل ما يقدر عليه من العمل الكامل مع انه لو قدر لفعله كله فانه يكون بمنزلة العامل من الأجر
كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( اذا مرض العبد او سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ) وفى الصحيح عنه انه قال ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل اجور من اتبعه من غير ان ينقص من اجورهم شيئا ) وكذلك قال فى الضلالة وشواهد هذا الاصل كثير
ونظير هذا قوله فى الحديث الذى رواه بن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( تابعوا بين الحج والعمرة فانهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة ) رواه النسائى والترمذى وقال حديث حسن صحيح فان قوله ( تابعوا بين الحج والعمرة ) لم يرد به العمرة من مكة إذ لو أراد ذلك لكان الصحابة يقبلون امره سواء كان امر إيجاب او استحباب ولا يظن بالصحابة
____________________
(26/294)
والتابعين أنهم تركوا اتباع سنته وما رغبوا فيه كلهم حتى حدث بعدهم من فعل ذلك واذا كانوا لا يعتمرون من مكة على ان هذا ليس مقصود الحديث ولكن المراد به العمرة التى كانوا يعرفونها ويفعلونها وهى عمرة القادم
يبين هذا ان النبى لم يأمر عائشة بالعمرة من أدنى الحل مع انها متابعة بين الحج والعمرة ولو كانت المكية مرادة حين طلبت ذلك منه امرها ان تكتفى بما فعلته وقال ( طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ) فلما راجعته والحت عليه اذن لها فى ذلك فلو كان مثل هذا مما امر به لم يكن يأمر ها ابتداء بترك ذلك والاكتفاء بما دونه وهى تطلب ما قد رغب الناس فيه كلهم ففى الصحيحين وسنن ابى داود والنسائى وغيرهما عن عائشة انها قالت ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله من كان معه هدى فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا ثم قدمت مكة وانا حائض فلم اطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال انقضى رأسك وامتشطى واهلى بالحج ودعى العمرة ففعلت فلما قضينا الحج ارسلنى رسول الله مع عبد الرحمن بن ابى بكر إلى التنعيم فاعتمرت فقال
____________________
(26/295)
هذه مكان عمرتك قالت وطاف الذين اهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد ان رجعوا من منى لحجهم واما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فانما طافوا طوافا واحدا ) وفى الصحيحين والسنن أيضا عن عائشة قالت ( لبينا بالحج حتى إذا كنا بسرف حضت فد خل على رسول الله وانا أبكى فقال وما يبكيك يا عائشة فقلت حضت ليتنى لم اكن حججت فقال سبحان الله إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فقال انسكى المناسك كلها غير ان لاتطوفى بالبيت فلما دخلنا مكة قال رسول الله من شاء ان يجعلها عمرة فليجعلها عمرة الا من كان معه الهدى وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر فلما كانت ليلة البطحاء وطهرت عائشة قالت يا رسول الله أيرجع صواحبى بحج وعمرة وأرجع انا بالحج فأمر رسول الله عبد الرحمن بن ابى بكر فأعمرها من التنعيم فأتت بالعمرة ) وفى الصحيحين وسنن ابى داود والنسائي عن جابر قال ( اقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا فأقبلت عائشة مهلة بعمرة حتى اذا كانت بسرف عركت حتى إذا
____________________
(26/296)
قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يحل منا من لم يكن معه هدى قال فقلنا حل ماذا قال الحل كله فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا اربع ليال ثم اهللنا يوم التروية ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكى فقال ما شأنك قالت شأنى انى قد حضت وقد حل الناس ولم احلل ولم اطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن قال إن هذا امر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلى ثم اهلى بالحج ففعلت ووقفت المواقف حتى اذا طهرت طافت بالبيت وبين الصفا والمروة ثم قال قد حللت من حجتك وعمرتك جميعا قالت يا رسول الله إنى أجد فى نفسى أنى لم أطف بالبيت حين حججت قال فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة ) وفى رواية مسلم ( وكان رسول الله سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه فأرسلها مع عبد الرحمن فأهلت من التنعيم بعمرة ) وروى مسلم فى صحيحه عن طاوس عن عائشة أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حين حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم يوم النفر ( يكفيك
____________________
(26/297)
طوافك لحجك وعمرتك فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج ) وروى مسلم أيضا عن مجاهد عن عائشة أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة فقال لها رسول الله ( يجزئ عنك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك ) فهذه قصة عائشة
وللفقهاء فى عمرتها التى فعلتها قولان مشهوران
أحدهما وهو قول جمهور الفقهاء من أهل الحديث والحجاز كمالك والشافعى وأحمد وغيرهم أنها لما حاضت وهى متمتعة بالعمرة إلى الحج فمنعها الحيض من طواف العمرة أمرها النبى أن تحرم بالحج مع بقائها على الاحرام فصارت قارنة بين العمرة والحج اذ القارن اسم لمن أحرم بهما ابتداء أو أحرم بالعمرة ثم ادخل عليها الحج قبل طوافها قالوا والاحاديث تدل على ان القارن ليس فى عمله زيادة على عمل المفرد الا الهدى فلهذا قال لها النبى صلى الله عليه وسلم لما احلت ( قد حللت من حجك وعمرتك جميعا )
والقول الثانى وهو قول ابى حنيفة ومن وافقه انها لما حاضت امرها ان ترفض العمرة فتنتقل عنها إلى الحج لا تفرق
____________________
(26/298)
بينهما بل تبقى فى حج مفرد قالوا فلما حلت حلت من الحج فقط وكان عليها عمرة تقضيها مكان عمرتها التى رفضتها وعلى قول هؤلاء كانت العمرة التى فعلتها واجبة لأنها قضاء عما تركتها وعلى قول الا كثرين لم تكن واجبة بل جائزة وحكم كل امرأة قدمت متمتعة فحاضت قبل الطواف على هذين القولين الأولين هل تؤمر ان تحرم بالحج فتصير قارنة ام ترفض العمرة فى الحج على القولين
وفيها قول ثالث وهو رواية عن احمد انها كانت قارنة وعمرة القارن لا تجزئ عن عمرة الاسلام فأمرها النبى بعمرة الاسلام
وفيها قول رابع ذكره بعض المالكية فامتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض وان هذه العمرة هي عمرة الاسلام وهذا القول أضعف الأقوال من وجوه متعددة ويليه فى الضعف الذى قبله
ومن اصول هذا النزاع ان القارن عند الآخرين عليه ان يطوف أولا ويسعى للعمرة ثم يطوف ويسعى للحج ويختص عندهم بمنعها من عمل القران كما كان يمنعها من عمل التمتع والأولون ليس عندهم على القارن الا طواف واحد وسعى واحد كما على المفرد فاذا كانت حائضا سقط عنها طواف القدوم وأخرت السعى إلى أن تسعى
____________________
(26/299)
بعد طواف الافاضة وليس عليها غير ذلك
وأهل القول الثانى بلغهم ما ثبت فى الصحيح أن النبى قال لها ( ارفضى عمرتك ) واعتقدوا ان رسول الله أمرها ان تعتمر من التنعيم فاعتقدوا أن ذلك صار واجبا للعمرة المرفوضة وان رفض العمرة هو تركها بالدخول فى الحج المفرد
وأما أهل القول الأول فبلغهم من العلم مالم يبلغ هؤلاء فان قصة عائشة رويت من وجوه متعددة عنها وعن غيرها كجابر وغيره فانظر ما قالت وما قال لها النبى حيث قال لها ( قد حللت من حجك وعمرتك جميعا ) وقال لها ( سعيك وطوافك لحجك وعمرتك ) وفى رواية ( يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك ) فهذا نص فى أنها كانت فى حج وعمرة لافى حج مفرد وفى ان الطواف الواحد أجزأ عنها لم يحتج إلى طوافين
وايضا قد ثبت فى السنن الصحيحة الصريحة أن النبى صلى الله عليه وسلم ومن ساق الهدى من أصحابه كانوا قادمين ولم يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة حين قدموا الا مرة واحدة
____________________
(26/300)
وايضا فإنها قالت له لما قال لها ذلك انى اجد فى نفسى أنى لم أطف بالبيت حين حججت قال ( فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم ) وكذلك قولها له ( أيرجع صواحبى بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج فأمر عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم ) يدل على أنه لم يأمرها بالعمرة ابتداء وإنما أجاب سؤالها لما كرهت أن ترجع الا بفعل عمرة فان صواحبها كن فى عمرة تمتع طفن أولا وسعين وهى لم تطف وتسع الا بعد التعريف فصار عملهن أزيد من عملها لأنه سقط عنها بالحيض الطواف الاول
____________________
(26/301)
وسئل رضى الله عنه وأرضاه عمن يقف بعرفة ولا يمكنه الذهاب إلى البيت خوفا من القتل او ذهاب المال هل يجزئه الحج أم لا وفيمن يكون ببدنه أو رأسه أذى فلبس وغطى رأسه هل تجب عليه الفدية أم لا وما هي الفدية ومن لم يجد الا بعيرا حراما هل يجزئه الحج عليه وما هو الافراد والقران والتمتع وما الأفضل ومن لم يعلم ذلك هل يصح حجه أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين لا بد بعد الوقوف من طواف الافاضة وان لم يطف بالبيت لم يتم حجه باتفاق الامة وان احصره عدو عن البيت وخاف فلم يمكنه الطواف تحلل فيذبح هديا ويحل وعليه الطواف بعد ذلك أن كانت تلك حجة الاسلام فيدخل مكة بعمرة يعتمرها تكون عوضا عن ذلك
ولا يجوز له تغطية رأسه من غير حاجة ولا لبس القميص والجبة ونحو ذلك الا لحاجة فان خاف من شدة البرد ان يمرض لبس وافتدى ايضا واستغفر الله من ذنوبه
____________________
(26/302)
والفدية للعذر ان يذبح شاة يقسمها بين الفقراء او يصوم ثلاثة أيام أو يتصدق على ستة فقراء كل فقير بنصف صاع تمر وان تصدق على كل واحد برطل خبز جاز
ولا يجوز ان يحج على بعير محرم والافضل لمن ساق الهدى أن يقرن بين العمرة والحج وإن لم يسق الهدى وأراد أن يجمع بين العمرة والحج فالتمتع أفضل وإن حج فى سفرة واعتمر فى سفرة فالافراد أفضل له وإذا أحرم مطلقا ولم يخطر بباله هذه الامور صح حجه اذا حج كما يحج المسلمون والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
____________________
(26/303)
& باب الهدى والاضحية والعقيقة
قال رحمه الله فصل
والأضحية والعقيقة والهدى افضل من الصدقة بثمن ذلك فاذا كان معه مال يريد التقرب به إلى الله كان له ان يضحى به والاكل من الأضحية افضل من الصدقة والهدى بمكة افضل من الصدقة بها وان كان قد نذر أضحية فى ذمته فاشتراها فى الذمة وبيعت قبل الذبح كان عليه إبدالها شاة
واما إذا اشترى أضحية فتعيبت قبل الذبح ذبحها فى احد قولي العلماء وان تعيبت عند الذبح أجزأ فى الموضعين
____________________
(26/304)
وقال رحمه الله
والأضحية من النفقة بالمعروف فيضحى عن اليتيم من ماله وتأخذ المرأة من مال زوجها ما تضحى به عن أهل البيت وإن لم يأذن فى ذلك ويضحى المدين اذا لم يطالب بالوفاء ويتدين ويضحى اذا كان له وفاء وسئل
عمن لا يقدر على الأضحية هل يستدين
فأجاب الحمد لله رب العالمين إن كان له وفاء فاستدان ما يضحى به فحسن ولا يجب عليه ان يفعل ذلك والله أعلم
____________________
(26/305)
وقال رحمه الله فصل
وتجوز الأضحية عن الميت كما يجوز الحج عنه والصدقة عنه ويضحى عنه فى البيت ولا يذبح عند القبر أضحية ولا غيرها فان فى سنن ابى داود عن النبى ( انه نهى عن العقر عند القبر ) حتى كره احمد الأكل مما يذبح عند القبر لأنه يشبه ما يذبح على النصب فإن النبى قال ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد ) يحذر ما فعلوا وثبت عنه فى الصحيح انه قال ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا اليها ) وقال ( الارض كلها مسجد الا المقبرة والحمام ) فنهى عن الصلاة عندها لئلا يشبه من يصلى لها وكذلك الذبح عندها يشبه من ذبح لها
وكان المشركون يذبحون للقبور ويقربون لها القرابين وكانوا فى الجاهلية اذا مات لهم عظيم ذ 1 بحوا عند قبره الخيل والابل وغير ذلك تعظيما للميت فنهى النبى عن ذلك كله
____________________
(26/306)
ولو نذر ذلك ناذر لم يكن له ان يوفى به ولو شرطه واقف لكان شرطا فاسدا
وكذلك الصدقة عند القبر كرهها العلماء وشرط الواقف ذلك شرط فاسد وانكر من ذلك ان يوضع على القبر الطعام والشراب ليأخذه الناس فان هذا ونحوه من عمل كفار الترك لامن أفعال المسلمين
وقال رحمه الله فصل
والأضحية بالحامل جائزة فاذا خرج ولدها ميتا فذكاته ذكاة أمه عند الشافعى واحمد وغيرهما سواء اشعر او لم يشعر وان خرج حيا ذبح ومذهب مالك إن أشعر حل والا فلا وعند ابى حنيفة لا يحل حتى يذكى بعد خروجه والله أعلم
____________________
(26/307)
وقال رحمه الله فصل
و ( الهتماء ) التى سقط بعض أسنانها فيها قولان هما وجهان فى مذهب احمد أصحهما انها تجزئ وأما التى ليس لها أسنان فى أعلاها فهذه تجزئ باتفاق
والعفراء أفضل من السوداء واذا كان السواد حول عينيها وفمها وفى رجليها اشبهت أضحية النبى صلى الله عليه وسلم وسئل
عما يقال على الاضحية حال ذبحها وما صفة ذبحها وكيف يقسمها
فأجاب الحمد لله وأما الاضحية فانه يستقبل بها القبلة فيضجعها على الأيسر ويقول بسم الله والله أكبر اللهم تقبل منى كما
____________________
(26/308)
تقبلت من ابراهيم خليلك واذا ذبحها قال ( وجهت وجهى للذى فطر السماوات والارض حنيفا وما انا من المشركين ) ( قل ان صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )
ويتصدق بثلثها ويهدى ثلثها وإن أكل اكثرها او أهداه أو اكله أو طبخها ودعا الناس اليها جاز
ويعطى أجرة الجزار من عنده وجلدها ان شاء انتفع به وان شاء تصدق به والله أعلم
وقال رحمه الله تعالى فصل
الذبيحة الأضحية وغيرها تضجع على شقها الايسر ويضع الذابح رجله اليمين على عنقها كما ثبت فى الصحيح عن رسول الله فيسمى ويكبر فيقول ( باسم الله والله اكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل منى كما تقبلت من ابراهيم خليلك
____________________
(26/309)
ومن أضجعها على شقها الا يمن وجعل رجله اليسرى على عنقها تكلف مخالفة يديه ليذبحها فهو جاهل بالسنة معذب لنفسه وللحيوان ولكن يحل أكلها فإن الاضجاع على الشق الايسر اروح للحيوان وأيسر فى إزهاق النفس وأعون للذبح وهو السنة التى فعلها رسول الله وعليها عمل المسلمين وعمل الامم كلهم
ويشرع ان يستقبل بها القبلة ايضا
وان ضحى بشاة واحدة عنه وعن أهل بيته أجزأ ذلك فى اظهر قولى العلماء وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما فان الصحابة كانوا يفعلون ذلك وقد ثبت فى الصحيح ان النبى ضحى بشاتين فقال فى احداهما ( اللهم عن محمد وآل محمد )
وسئل
عن رجل اسمه ابو بكر صار جنديا وغير اسمه وسمى روحه اسم المماليك فهل عليه إثم
فأجاب اذا سمى اسمه باسم تركى لمصلحة له فى ذلك فلا إثم عليه
____________________
(26/310)
ويكون له اسمان كما يكون له اسم من سماه به أبواه ثم يلقبه الناس ببعض الالقاب كفلان الدين وسئل
عن الألقاب المتواطئ عليها بين الناس فأجاب وأما الألقاب فكانت عادة السلف الاسماء والكنى فاذا كنوه بأبي فلان تارة يكنون الرجل بولده كما يكنون من لا ولد له اما بالإضافة إلى اسمه او اسم ابيه او بن سميه او بأمر له تعلق به كما كنى النبى عائشة بابن اختها عبد الله وكما يكنون داود أبا سليمان لكونه باسم داود عليه السلام الذى اسم ولده سليمان وكذلك كنية ابراهيم أبو إسحاق وكما كنوا عبد الله بن عباس أبا العباس وكما كنى النبى أبا هريرة باسم هريرة كانت معه وكان الأمر على ذلك فى القرون الثلاثة فلما غلبت دولة الأعاجم لبنى أمية صاروا
ثم بعد هذا احدثوا الاضافة إلى الدين وتوسعوا فى هذا ولا ريب ان الذى يصلح مع الامكان هو ما كان السلف يعتادونه من
____________________
(26/311)
المخاطبات والكنايات فمن امكنه ذلك فلا يعدل عنه إن اضطر إلى المخاطبة لا سيما وقد نهى عن الأسماء التى فيها تزكية كما غير النبى بره فسماها زينب لئلا تزكى نفسها والكناية عنه بهذه الاسماء المحدثة خوفا من تولد شر إذا عدل عنها فليقتصر على مقدار الحاجة ولقبوا بذلك لأنه علم محض لا تلمح فيه الصفة بمنزلة الاعلام المنقولة مثل اسد وكلب وثور
ولا ريب ان هذه المحدثات التى احدثها الأعاجم وصاروا يزيدون فيها فيقولون عز الملة والدين وعز الملة والحق والدين واكثر ما يدخل فى ذلك من الكذب المبين بحيث يكون المنعوت بذلك أحق بضد ذلك الوصف والذين يقصدون هذه الامور فخرا وخيلاء يعاقبهم الله بنقيض قصدهم فيذلهم ويسلط عليهم عدوهم
والذين يتقون الله ويقومون بما امرهم به من عبادته وطاعته يعزهم وينصرهم كما قال تعالى ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد ) وقال تعالى ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) والله اعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم
____________________
(26/312)
قال شيخ الاسلام رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا فصل فى ( زيارة بيت المقدس ( ثبت فى الصحيحين عن النبى انه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا ( وفى الصحيحين من حديث أبى سعيد وأبى هريرة وقد روى من طرق أخرى وهو حديث مستفيض
____________________
(27/5)
متلقى بالقبول أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق
واتفق علماء المسلمين على إستحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه كالصلاة والدعاء والذكر وقراءة القرآن والإعتكاف وقد روى من حديث رواه الحاكم فى صحيحه ( إن سليمان عليه السلام سأل ربه ثلاثا ملكا لا ينبغى لأحد من بعده وسأله حكما يوافق حكمه وسأله أنه لا يؤم أحد هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غفر له ( ولهذا كان إبن عمر رضى الله عنه يأتى إليه فيصلى فيه ولا يشرب فيه ماء لتصيبه دعوة سليمان لقوله ( لا يريد إلا الصلاة فيه ( فإن هذا يقتضى إخلاص النية فى السفر إليه ولا يأتيه لغرض دنيوى ولا بدعة
وتنازع العلماء فيمن نذر السفر إليه فى الصلاة فيه او الإعتكاف فيه هل يجب عليه الوفاء بنذره على قولين مشهورين وهما قولان للشافعى أحدهما يجب الوفاء بهذا النذر وهو قول الأكثرين مثل مالك وأحمد بن حنبل وغيرهما والثانى لا يجب وهو قول أبى حنيفة فإن من اصله أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان جنسه واجبا بالشرع فلهذا يوجب نذر
____________________
(27/6)
الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة فإن جنسها واجب بالشرع ولا يوجب نذر الإعتكاف فإن الإعتكاف لا يصح عنده إلا بصوم وهو مذهب مالك وأحمد فى إحدى الروايتين عنه
وأما الأكثرون فيحتجون بما رواه البخارى فى صحيحه عن عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ( فأمر النبى بالوفاء بالنذر لكل من نذر ان يطيع الله ولم يشترط أن تكون الطاعة من جنس الواجب بالشرع وهذا القول أصح
وهكذا النزاع لو نذر السفر إلى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم مع أنه أفضل من المسجد الأقصى وأما لو نذر إتيان المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب عليه الوفاء بنذره بإتفاق العلماء
والمسجد الحرام أفضل المساجد ويليه مسجد النبى صلى الله عليه وسلم ويليه المسجد الأقصى وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام (
والذى عليه جمهور العلماء أن الصلاة فى المسجد الحرام أفضل منها فى مسجد النبى وقد روى أحمد والنسائى وغيرهما
____________________
(27/7)
عن النبى ( إن الصلاة فى المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ( وأما فى المسجد الأقصى فقد روى ( أنها بخمسين صلاة ( وقيل ( بخمسمائة صلاة ( وهو أشبه
ولو نذر السفر إلى ( قبر الخليل عليه السلام ( أو قبر النبى أو إلى ( الطور ( ( الذى كلم الله عليه موسى عليه السلام أو إلى ( جبل حراء ( الذى كان النبى يتعبد فيه وجاءه الوحى فيه أو الغار المذكور فى القرآن وغير ذلك من المقابر والمقامات والمشاهد المضافة إلى بعض الأنبياء والمشائخ أو إلى بعض المغارات أو الجبال لم يجب الوفاء بهذا النذر بإتفاق الأئمة الأربعة فإن السفر إلى هذه المواضع منهى عنه لنهى النبى ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ( فإذا كانت المساجد التى هي من بيوت الله التى أمر فيها بالصلوات الخمس قد نهى عن السفر إليها حتى مسجد قباء الذى يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إليه لما ثبت فى الصحيحين عن بن عمر رضى الله عنه عن النبى ( أنه كان يأتى قباء كل سبت راكبا وماشيا ( وروى الترمذى وغيره أن النبى قال ( من تطهر فى بيته فأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان له كعمرة ( قال الترمذى حديث حسن صحيح
____________________
(27/8)
فإذا كان مثل هذا ينهى عن السفر إليه وينهى عن السفر إلى الطور المذكور فى القرآن وكما ذكر مالك المواضع التى لم تبن للصلوات الخمس بل ينهى عن إتخاذها مساجد فقد ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال فى مرض موته ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا آثار أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ( قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفى صحيح مسلم وغيره عن النبى أنه قال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( ولهذا لم يكن الصحابة يسافرون إلى شيء من مشاهد الأنبياء لا مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام ولا غيره والنبى صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج صلى فى بيت المقدس ركعتين كما ثبت ذلك فى الحديث الصحيح ولم يصل فى غيره وأما ما يرويه بعض الناس من حديث المعراج ( أنه صلى فى المدينة وصلى عند قبر موسى عليه السلام وصلى عند قبر الخليل فكل هذه الأحاديث مكذوبة موضوعة
وقد رخص بعض المتأخرين فى السفر إلى المشاهد ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة ولا إحتجوا بحجة شرعية
____________________
(27/9)
فصل
والعبادات المشروعة فى المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة فى مسجد النبى وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد بالطواف بالكعبة وإستلام الركنين اليمانيين وتقبيل الحجر الأسود وأما مسجد النبى والمسجد الأقصى وسائر المساجد فليس فيها ما يطاف به ولا فيها ما يتمسح به ولا ما يقبل فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبى ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين ولا بصخرة بيت المقدس ولا بغير هؤلاء كالقبة التى فوق جبل عرفات وأمثالها بل ليس فى الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة
ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة صلى بالمسلمين ثمانية عشر شهرا إلى بيت المقدس فكانت قبلة المسلمين هذه المدة ثم إن الله حول القبلة إلى الكعبة وأنزل الله فى ذلك القرآن
____________________
(27/10)
كما ذكر فى سورة البقرة وصلى النبى والمسلمون إلى الكعبة وصارت هي القبلة وهى قبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء
فمن إتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلى إليها فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك فكيف بمن يتخذها مكانا يطاف به كما يطاف بالكعبة والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال وكذلك من قصد أن يسوق إليها غنما أو بقرا ليذبحها هناك ويعتقد أن الأضحية فيها افضل وأن يحلق فيها شعره فى العيد أو أن يسافر إليها ليعرف بها عشية عرفة فهذه الأمور التى يشبه بها بيت المقدس فى الوقوف والطواف والذبح والحلق من البدع والضلالات ومن فعل شيئا من ذلك معتقدا أن هذا قربة إلى الله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كما لو صلى إلى الصخرة معتقدا أن إستقبالها فى الصلاة قربة كإستقبال الكعبة ولهذا بنى عمر بن الخطاب مصلى المسلمين فى مقدم المسجد الأقصى
فإن ( المسجد الأقصى ( إسم لجميع المسجد الذى بناه سليمان عليه السلام وقد صار بعض الناس يسمى الأقصى المصلى الذى بناه عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى مقدمه والصلاة فى هذا المصلى الذى بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة فى سائر المسجد فإن عمر بن الخطاب لما
____________________
(27/11)
فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين يصلون إليها فأمر عمر رضى الله عنه بإزالة النجاسة عنها وقال لكعب الأحبار أين ترى أن نبني مصلى المسلمين فقال خلف الصخرة فقال يا إبن اليهودية خالطتك يهودية بل أبنيه أمامها فإن لنا صدور المساجد ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة فى المصلى الذى بناه عمر وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه صلى فى محراب داود
وأما الصخرة فلم يصل عندها ( عمر رضى الله عنه ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة بل كانت مكشوفة فى خلافة عمر وعثمان وعلى ومعاوية ويزيد ومروان ولكن لما تولى إبنه عبد الملك الشام ووقع بينه وبين إبن الزبير الفتنة كان الناس يحجون فيجتمعون بإبن الزبير فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن إبن الزبير فبنى القبة على الصخرة وكساها فى الشتاء والصيف ليرغب الناس فى ( زيارة بيت المقدس ( ويشتغلوا بذلك عن إجتماعهم بإبن الزبير وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة كما أن يوم السبت كان عيدا فى شريعة موسى عليه السلام ثم نسخ فى شريعة محمد بيوم الجمعة فليس للمسلمين أن يخصوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود
____________________
(27/12)
والنصارى وكذلك الصخرة إنما يعظمها اليهود وبعض النصارى
وما يذكره بعض الجهال فيها من أن هناك أثر قدم النبى وأثر عمامته وغير ذلك فكله كذب وأكذب منه من يظن أنه موضع قدم الرب وكذلك المكان الذى يذكر أنه مهد عيسى عليه السلام كذب وإنما كان موضع معمودية النصارى وكذا من زعم أن هناك الصراط والميزان أو أن السور الذى يضرب به بين الجنة والنار هو ذلك الحائط المبنى شرقى المسجد وكذلك تعظيم السلسلة أو موضعها ليس مشروعا فصل
وليس فى بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى لكن إذا زار قبور الموتى وسلم عليهم وترحم عليهم كما كان النبى يعلم اصحابه فحسن فإن النبى عليه السلام كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم وإغفر لنا ولهم
____________________
(27/13)
فصل
وأما زيارة ( معابد الكفار ) مثل الموضع المسمى ( بالقمامة ) أو ( بيت لحم ( أو صهيون ( أو غير ذلك مثل ( كنائس النصارى ( فمنهى عنها فمن زار مكانا من هذه الأمكنة معتقدا أن زيارته مستحبة والعبادة فيه أفضل من العبادة فى بيته فهو ضال خارج عن شريعة الإسلام يستتاب فإن تاب وإلا قتل وأما إذا دخلها الإنسان لحاجة وعرضت له الصلاة فيها فللعلماء فيها ثلاثة أقوال فى مذهب أحمد وغيره قيل تكره الصلاة فيها مطلقا وإختاره بن عقيل وهو منقول عن مالك وقيل تباح مطلقا وقيل إن كان فيها صور نهى عن الصلاة وإلا فلا وهذا منصوص عن أحمد وغيره وهو مروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وغيره فإن النبى قال ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ( ولما فتح النبى مكة كان فى الكعبة تماثيل فلم يدخل الكعبة حتى محيت تلك الصور والله أعلم فصل
وليس ببيت المقدس مكان يسمى ( حرما ( ولا بتربة الخليل ولا
____________________
(27/14)
بغير ذلك من البقاع إلا ثلاثة أماكن أحدها هو حرم بإتفاق المسلمين وهو حرم مكة شرفها الله تعالى والثانى حرم عند جمهور العلماء وهو حرم النبى من عير إلى ثور بريد فى بريد فإن هذا حرم عند جمهور العلماء كمالك والشافعى وأحمد وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبى والثالث ( وج ( وهو واد بالطائف فإن هذا روى فيه حديث رواه أحمد فى المسند وليس فى الصحاح وهذا حرم عند الشافعى لاعتقاده صحة الحديث وليس حرما عند أكثر العلماء وأحمد ضعف الحديث المروى فيه فلم يأخذ به وأما ما سوى هذه الأماكن الثلاثة فليس حرما عند أحد من علماء المسلمين فإن الحرم ما حرم الله صيده ونباته ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجا عن هذه الأماكن الثلاثة فصل
وأما زيارة بيت المقدس ( فمشروعة فى جميع الأوقات ولكن لا ينبغى أن يؤتى فى الأوقات التى تقصدها الضلال مثل وقت عيد النحر فإن كثيرا من الضلال يسافرون إليه ليقفوا هناك والسفر إليه لأجل التعريف به معتقدا أن هذا قربة محرم بلا ريب وينبغى أن لا يتشبه بهم ولا يكثر سوادهم
____________________
(27/15)
وليس السفر إليه مع الحج قربة وقول القائل قدس الله حجتك قول باطل لا أصل له كما يروى ( من زارنى وزار أبى فى عام واحد ضمنت له الجنة ( فإن هذا كذب بإتفاق أهل المعرفة بالحديث بل وكذلك كل حديث يروى فى زيارة قبر النبى صلى الله عليه وسلم فإنه ضعيف بل موضوع ولم يرو أهل الصحاح والسنن والمسانيد كمسند أحمد وغيره من ذلك شيئا ولكن الذى فى السنن ما رواه أبوداود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( فهو يرد السلام على من سلم عليه عند قبره ويبلغ سلام من سلم عليه من البعيد كما فى النسائى عنه أنه قال ( إن الله وكل بقبرى ملائكة يبلغونى عن أمتى السلام ( وفى السنن عنه أنه قال ( أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة على قالوا وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ( فبين صلى الله عليه وسلم أن الصلاة والسلام توصل إليه من البعيد والله قد أمرنا أن نصلى عليه ونسلم وثبت فى الصحيح أنه قال ( من صلى على مرة صلى الله عليه بها عشرا ( تسليما كثيرا ( فصل
____________________
(27/16)
وأما السفر إلى ( عسقلان ( فى هذه الأوقات فليس مشروعا لا واجبا ولا مستحبا ولكن عسقلان كان لسكناها وقصدها فضيلة لما كانت ثغرا للمسلمين يقيم بها المرابطون فى سبيل الله فإنه قد ثبت فى صحيح مسلم عن سلمان عن النبى أنه قال ( رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا مات مجاهدا وأجرى عليه عمله وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان ( وقال أبوهريرة ( لأن أرابط ليلة فى سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود وكان أهل الخير والدين يقصدون ثغور المسلمين للرباط فيها ثغور الشام كعسقلان وعكة وطرسوس وجبل لبنان وغيرها وثغور مصر كالأسكندرية وغيرها وثغور العراق كعبادان وغيرها فما خرب من هذه البقاع ولم يبق بيوتا كعسقلان لم يكن ثغورا ولا فى السفر إليه فضيلة وكذلك جبل لبنان وأمثاله من الجبال لا يستحب السفر إليه وليس فيه أحد من الصالحين المتبعين لشريعة الإسلام ولكن فيه كثير من الجن وهم ( رجال الغيب ( الذين يرون أحيانا فى هذه البقاع قال تعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا }
____________________
(27/17)
وكذلك الذين يرون الخضر أحيانا هو جني رآه وقد رآه غير واحد ممن أعرفه وقال أننى الخضر وكان ذلك جنيا لبس على المسلمين الذين رأوه وإلا فالخضر الذى كان مع موسى عليه السلام مات ولو كان حيا على عهد رسول الله لوجب عليه أن يأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه فإن الله فرض على كل أحد أدرك محمدا ولو كان من الأنبياء أن يؤمنوا به ويجاهدوا معه كما قال الله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } قال بن عباس رضى الله عنه لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر ولا أنه أتى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدرا من أن يلبس الشيطان عليهم ولكن لبس على كثير ممن بعدهم فصار يتمثل لأحدهم فى صورة النبى ويقول أنا الخضر وإنما هو شيطان كما أن كثيرا من الناس يرى ميته خرج وجاء إليه وكلمه فى أمور وقضا حوائج فيظنه الميت نفسه وإنما هو شيطان تصور بصورته وكثير من الناس يستغيث بمخلوق أما نصرانى كجرجس أو غير
____________________
(27/18)
نصرانى فيراه قد جاءه وربما يكلمه وإنما هو شيطان تصور بصورة ذلك المستغاث به لما أشرك به المستغيث تصور له كما كانت الشياطين تدخل فى الأصنام وتكلم الناس ومثل هذا موجود كثير فى هذه الأزمان فى كثير من البلاد ومن هؤلاء من تحمله الشياطين فتطير به فى الهواء إلى مكان بعيد ومنهم من تحمله إلى عرفة فلا يحج حجا شرعيا ولا يحرم ولا يلبى ولا يطوف ولا يسعى ولكن يقف بثيابه مع الناس ثم يحملونه إلى بلده وهذا من تلاعب الشياطين بكثير من الناس كما قد بسط الكلام فى غير هذا الموضع والله أعلم بالصواب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
____________________
(27/19)
وسئل رحمه الله عن زيارة ( القدس ( و ( قبر الخليل عليه السلام ( وما فى أكل الخبز والعدس من البركة ونقله من بلد إلى بلد للبركة وما فى ذلك من السنة والبدعة
فأجاب الحمد لله أما السفر إلى بيت المقدس للصلاة فيه والإعتكاف أو القراءة أو الذكر أو الدعاء فمشروع مستحب بإتفاق علماء المسلمين وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى من حديث أبى هريرة وأبى سعيد أنه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا ( والمسجد الحرام ومسجد رسول الله أفضل منه وفى الصحيحين عنه أنه قال ( صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام
وأما السفر إلى مجرد زيارة ( قبر الخليل ( أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين ومشاهدهم وآثارهم فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم بل لو نذر ذلك ناذر لم يجب عليه الوفاء بهذا
____________________
(27/20)
النذر عند الأئمة الأربعة وغيرهم بخلاف المساجد الثلاثة فإنه إذا نذر السفر إلى المسجد الحرام لحج أو عمرة لزمه ذلك بإتفاق الأئمة وإذا نذر السفر إلى المسجدين الآخرين لزمه السفر عند أكثرهم كمالك واحمد والشافعى فى أظهر قوليه لقول النبى ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ( رواه البخارى وأنما يجب الوفاء بنذر كل ما كان طاعة مثل من نذر صلاة أو صوما أو إعتكافا أوصدقة لله أو حجا
ولهذا لا يجب بالنذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة لأنه ليس بطاعة لقول النبى ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ( فمنع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة فغير المساجد أولى بالمنع لأن العبادة فى المساجد أفضل منها فى غير المساجد وغير البيوت بلا ريب ولأنه قد ثبت فى الصحيح عنه أنه قال ( أحب البقاع إلى الله المساجد ( مع أن قوله ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ( يتناول المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة بخلاف السفر للتجارة وطلب العلم ونحو ذلك فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت وكذلك السفر لزيارة الأخ فى الله فإنه هو المقصود حيث كان
وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء أنه لا بأس بالسفر إلى
____________________
(27/21)
المشاهد وإحتجوا ( بأن النبى صلى الله عليه وسلم كأن يأتى قباء كل سبت راكبا وماشيا ( أخرجاه فى الصحيحين ولا حجة لهم فيه لأن قباء ليست مشهدا بل مسجد وهى منهى عن السفر إليها بإتفاق الأئمة لأن ذلك ليس بسفر مشروع بل لو سافر إلى قباء من دويرة أهله لم يجز ولكن لو سافر إلى المسجد النبوى ثم ذهب منه إلى قباء فهذا يستحب كما يستحب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد
وأما أكل الخبز والعدس المصنوع عند ( قبر الخليل عليه السلام ( فهذا لم يستحبه أحد من العلماء لا المتقدمين ولا المتأخرين ولا كان هذا مصنوعا لا فى زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا بعد ذلك إلى خمسمائة سنة من البعثة حتى أخذ النصارى تلك البلاد ولم تكن القبة التى على قبره مفتوحة بل كانت مسدودة ولا كان السلف من الصحابة والتابعين يسافرون إلى قبره ولا قبر غيره لكن لما أخذ النصارى تلك البلاد فسووا حجرته واتخذوها كنيسة فلما أخذ المسلمون البلاد بعد ذلك إتخذ ذلك من اتخذه مسجدا وذلك بدعة منهى عنها لما ثبت فى الصحيح عنه أنه قال ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وفى الصحيح عنه انه قال قبل موته بخمس ( أن من كان قبلكم كانوا
____________________
(27/22)
يتخذون القبور مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك (
ثم وقف بعض الناس وقفا للعدس والخبز وليس هذا وقفا من الخليل ولا من أحد من بنى إسرائيل ولا من النبى ولا من خلفائه بل قد روى عن النبى ( أنه أطلق تلك القرية للدارميين ( ولم يأمرهم أن يطعموا عند مشهد الخليل عليه السلام لا خبزا ولا عدسا ولا غير ذلك فمن إعتقد أن الأكل من هذا الخبز والعدس مستحب شرعه النبى فهو مبتدع ضال بل من إعتقد أن العدس مطلقا فيه فضيلة فهو جاهل والحديث الذى يروى ( كلوا العدس فإنه يرق القلب وقد قدس فيه سبعون نبيا ( حديث مكذوب مختلق بإتفاق أهل العلم ولكن العدس هو مما إشتهاه اليهود وقال الله تعالى لهم { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير }
ومن الناس من يتقرب إلى الجن بالعدس فيطبخون عدسا ويضعونه فى المراحيض أو يرسلونه ويطلبون من الشياطين بعض ما يطلب منهم كما يفعلون مثل ذلك فى الحمام وغير ذلك وهذا من الإيمان بالجبت والطاغوت
و ( جماع دين الإسلام ( أن يعبد الله وحده لا شريك له ويعبد
____________________
(27/23)
بما شرعه سبحانه وتعالى على لسان نبيه محمد من الواجبات والمستحبات والمندوبات فمن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة فهو ضال والله أعلم
وسئل الشيخ رحمه الله
هل الأفضل المجاورة بمكة أو بمسجد النبى أو المسجد الأقصى أو بثغر من الثغور لأجل الغزو وفيما يروى عن النبى ( من زار قبرى وجبت له شفاعتى ( و ( من زار البيت ولم يزرنى فقد جفانى ( وهل زيارة النبى على وجه الإستحباب أم لا أفتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله رب العالمين المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة فى المساجد الثلاثة كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة بل قد إختلفوا فى المجاورة فكرهها أبوحنيفة وإستحبها مالك وأحمد وغيرهما ولكن المرابطة عندهم أفضل من المجاورة وهذا متفق عليه بين السلف حتى قال أبوهريرة رضى الله عنه لأن أرابط ليلة فى سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود وذلك أن الرباط من جنس الجهاد وجنس الجهاد مقدم على جنس الحج كما فى الصحيحين عن النبى صلى
____________________
(27/24)
الله عليه وسلم أنه قيل له أى العمل أفضل قال ( الإيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال جهاد فى سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور ( وقد قال تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله } إلى قوله { إن الله عنده أجر عظيم } وأما قوله ( من زار قبرى وجبت له شفاعتى ) فهذا الحديث رواه الدارقطنى فيما قيل بإسناد ضعيف ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد
وأما الحديث الآخر قوله ( من حج البيت ولم يزرنى فقد جفانى ( فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه مخالف للإجماع فإن جفاء الرسول من الكبائر بل هو كفر ونفاق بل يجب أن يكون أحب إلينا من أهلينا وأموالنا كما قال ( والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين
____________________
(27/25)
وأما ( زيارته ( فليست واجبة بإتفاق المسلمين بل ليس فيها أمر فى الكتاب ولا فى السنة وإنما الأمر الموجود فى الكتاب والسنة بالصلاة عليه والتسليم فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وأكثر ما إعتمده العلماء ( فى الزيارة ( قوله فى الحديث الذى رواه أبوداود ( ما من مسلم يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( وقد كره مالك وغيره أن يقال زرت قبر النبى صلى الله عليه وسلم وقد كان الصحابة كإبن عمر وأنس وغيرهما يسلمون عليه وعلى صاحبيه كما فى الموطأ أن بن عمر كان إذا دخل المسجد يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت
وشد الرحل إلى مسجده مشروع بإتفاق المسلمين كما فى الصحيحين عنه انه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا ( وفى الصحيحين عنه أنه قال ( صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ( فإذا أتى مسجد النبى فإنه يسلم عليه وعلى صاحبيه كما كان الصحابة يفعلون
واما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبى دون الصلاة فى مسجده فهذه المسألة فيها خلاف فالذى عليه الأئمة وأكثر العلماء إن هذا غير
____________________
(27/26)
مشروع ولا مأمور به لقوله ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ( ولهذا لم يذكر العلماء أن مثل هذا السفر إذا نذره يجب الوفاء به بخلاف السفر إلى المساجد الثلاثة لا للصلاة فيها والإعتكاف فقد ذكر العلماء وجوب ذلك فى بعضها فى المسجد الحرام وتنازعوا فى المسجدين الآخرين
فالجمهور يوجبون الوفاء به فى المسجدين الأخرين كمالك والشافعى واحمد لكون السفر إلى الفاضل لا يغنى عن السفر إلى المفضول وأبوحنيفة إنما يوجب السفر إلى المسجد الحرام بناء على انه إنما يوجب بالنذر ما كان جنسه واجب بالشرع والجمهور يوجبون الوفاء بكل ما هو طاعة لما فى صحيح البخارى عن عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ( بل قد صرح طائفة من العلماء كابن عقيل وغيره بأن المسافر لزيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وغيرها لا يقصر الصلاة فى هذا السفر لأنه معصية لكونه معتقدا أنه طاعة وليس بطاعة والتقرب إلى الله عز وجل بما ليس بطاعة هو معصية ولأنه نهى عن ذلك والنهى يقتضى التحريم
ورخص بعض المتأخرين فى السفر لزيارة القبور كما ذكر أبو
____________________
(27/27)
حامد فى ( الأحياء ( وأبوالحسن بن عبدوس وأبومحمد المقدسى وقد روى حديثا رواه الطبرانى من حديث إبن عمر قال قال رسول الله ( من جاءنى زائرا لا تنزعه إلا زيارتى كان حقا على أن أكون له شفيعا يوم القيامة ( لكنه من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر العمرى وهو مضعف ولهذا لم يحتج بهذا الحديث أحد من السلف والأئمة وبمثله لا يجوز إثبات حكم شرعى بإتفاق علماء المسلمين والله أعلم
____________________
(27/28)
وقال الشيخ رحمه الله فصل وأما قوله ( من زار قبرى فقد وجبت له شفاعتى ( وأمثال هذا الحديث مما روى فى زيارة قبره فليس منها شيء صحيح ولم يرو أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيئا لا اصحاب الصحيح كالبخارى ومسلم ولا اصحاب السنن كأبى داود والنسائى ولا الأئمة من أهل المسانيد كالإمام أحمد وأمثاله ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه كمالك والشافعى واحمد واسحق إبن راهوية وأبى حنيفة والثورى والأوزاعى والليث بن سعد وأمثالهم بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة كقوله ( من زارنى وزار أبى فى عام واحد ضمنت له على الله الجنة ( وقوله ( من حج ولم يزرنى فقد جفانى ( فإن هذه الأحاديث ونحوها كذب
والحديث الأول رواه الدارقطنى والبزار فى مسنده ومداره على
____________________
(27/29)
عبد الله بن عبد الله بن عمر العمرى وهو ضعيف وليس عن النبى صلى الله عليه وسلم فى زيارة قبره ولا قبر الخليل حديث ثابت أصلا بل إنما إعتمد العلماء على أحاديث السلام والصلاة عليه كقوله ( ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( رواه ابوداود وغيره وقوله ( إن الله وكل بقبرى ملائكة يبلغونى عن أمتى السلام ( رواه النسائى وقوله صلى الله عليه وسلم ( أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة على قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ( رواه أبوداود وغيره
وقد كره مالك أن يقول الرجل زرت قبر النبى قالوا لأن لفظ الزيارة قد صارت فى عرف الناس تتضمن ما نهى عنه فإن زيارة القبور على وجهين وجه شرعى ووجه بدعى ( فالزيارة الشرعية ( مقصودها السلام على الميت والدعاء له سواء كان نبيا أو غير نبى ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبى صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ويدعون له ثم ينصرفون ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه ولهذا كره مالك وغيره ذلك وقالوا أنه من البدع المحدثة ولهذا قال الفقهاء إذا سلم المسلم عليه
____________________
(27/30)
وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر بل يستقبل القبلة وتنازعوا وقت السلام عليه هل يستقبل القبلة أو يستقبل القبر فقال أبو حنيفة يستقبل القبلة وقال مالك والشافعى وأحمد يستقبل القبر وهذا لقوله ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد ( وقوله ( لا تتخذوا قبرى عيدا ( وقوله ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ( وقوله صلى الله عليه وسلم ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فأنى أنهاكم عن ذلك
ولهذا إتفق السلف على أنه لا يستلم قبرا من قبور الأنبياء وغيرهم ولا يتمسح به ولا يستحب الصلاة عنده ولا قصده للدعاء عنده أو به لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان كما قال تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قال طائفة من السلف هؤلاء كانوا قوما صالحين فى قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم
وهذه الأمور ونحوها هي من ( الزيارة البدعية وهى من جنس دين النصارى والمشركين وهو أن يكون قصد الزائر أن يستجاب دعاؤه عند القبر أو أن يدعو الميت ويستغيث به ويطلب منه أو
____________________
(27/31)
يقسم به على الله فى طلب حاجاته وتفريج كرباته فهذه كلها من البدع التى لم يشرعها النبى ولا فعلها أصحابه وقد نص الأئمة على النهى عن ذلك كما قد بسط فى غير هذا الموضع
ولهذا لم يكن أحد من الصحابة يقصد زيارة ( قبر الخليل ( بل كانوا يأتون إلى بيت المقدس فقط طاعة للحديث الذى ثبت فى الصحيح عن النبى من غير وجه أنه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا (
ولهذا إتفق أئمة الدين على أن العبد لو نذر السفر إلى زيارة ( قبر الخليل و ( الطور ( الذى كلم الله عليه موسى عليه السلام أو ( جبل حراء ( ونحو ذلك لم يجب عليه الوفاء بنذره وهل عليه كفارة يمين على قولين لأن النبى قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ( والسفر إلى هذه البقاع معصية فى أظهر القولين حتى صرح من يقول إن الصلاة لا تقصر فى سفر المعصية بأن صاحب هذا السفر لا يقصر الصلاة ولو نذر إتيان المسجد الحرام لوجب عليه الوفاء بالإتفاق ولو نذر إتيان مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان للعلماء أظهرهما وجوب الوفاء به كقول مالك وأحمد والشافعى فى أحد قوليه والثانى
____________________
(27/32)
لا يجب عليه الوفاء به كقول أبى حنيفة والشافعى فى قوله الآخر وهذا بناء على انه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع والصحيح وجوب الوفاء بكل نذر هو طاعة لقول النبى ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ولم يستثن طاعة من طاعة
والمقصود هنا إن الصحابة لم يكونوا يستحبون السفر لشيء من زيارات البقاع لا آثار الأنبياء ولا قبورهم ولا مساجدهم إلا المساجد الثلاثة بل إذا فعل بعض الناس شيئا من ذلك أنكر عليه غيره كما أنكروا على من زار الطور الذى كلم الله عليه موسى حتى إن ( غار حراء ( الذى كان النبى يتعبد فيه قبل المبعث لم يزره هو بعد المبعث ولا أحد من أصحابه وكذا الدعاء المأثور فى القرآن
وثبت أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان فى بعض الأسفار فرأى قوما يتناوبون مكانا يصلون فيه فقال ما هذا قالوا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ومكان صلى فيه رسول الله أتريدون أن تتخذوا أثر الأنبياء لكم مساجد إنما هلك من كان قبلكم بهذا من أدركته الصلاة فليصل وإلا فليمض وهذا لأن الله لم يشرع للمسلمين مكانا يتناوبونه للعبادة إلا المساجد خاصة فما ليس بمسجد لم يشرع قصده
____________________
(27/33)
للعبادة وإن كان مكان نبى أو قبر نبى
ثم إن المساجد حرم رسول الله أن تتخذ على قبور الأنبياء والصالحين كما قال ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وهذان حديثان فى الصحيح وفى المسند وصحيح أبى حاتم عن النبى أنه قال ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم احياء والذين يتخذون القبور مساجد ( بل قد كره الصلاة فى المقبرة عموما لما فى ذلك من التشبه بمن يتخذ القبور مساجد كما فى السنن عنه أنه قال ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ( وهذه المعانى قد نص عليها أئمة الدين من أصحاب مالك والشافعى واحمد وأهل العراق وغيرهم بل ذلك منقول عن أنس
____________________
(27/34)
وسئل رحمه الله عن قوله ( من حج فلم يزرنى فقد جفانى ( فأجاب ( قوله ( من حج ولم يزرنى فقد جفانى ( كذب فإن جفاء النبى حرام وزيارة قبره ليست واجبة بإتفاق المسلمين ولم يثبت عنه حديث فى زيارة قبره بل هذه الأحاديث التى تروى ( من زارنى وزار أبى فى عام واحد ضمنت له على الله الجنة ( وأمثال ذلك كذب بإتفاق العلماء وقد روى الدارقطنى وغيره فى زيارة قبره أحاديث وهى ضعيفة وقد كره مالك وهو من أعلم الناس بحقوق رسول الله وبالسنة التى عليها أهل مدينته من الصحابة والتابعين وتابعيهم كره أن يقال زرت قبر رسول الله ولو كان هذا اللفظ ثابتا عن رسول الله معروفا عند علماء المدينة لم يكره مالك ذلك وأما إذا قال سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يكره بالاتفاق كما في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( وكان
____________________
(27/35)
بن عمر يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابا بكر السلام عليك يا أبت وفى سنن أبى داود عنه أنه قال ( أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة على قالوا وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء
وسئل رحمه الله عن مكة هل هي افضل من المدينة أم بالعكس (
فأجاب الحمد لله مكة أفضل لما ثبت عن عبد الله بن عدى بن الحمراء عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة والله انك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أن قومى أخرجونى منك ما خرجت ( قال الترمذى حديث صحيح وفى رواية ( إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ( فقد ثبت أنها خير أرض الله واحب أرض الله إلى الله وإلى رسوله وهذا صريح فى فضلها وأما الحديث الذى يروى ( أخرجتنى من أحب البقاع إلى فأسكنى أحب البقاع إليك ( فهذا حديث موضوع كذب لم يروه أحد من اهل العلم والله أعلم
____________________
(27/36)
( وسئل (
عن التربة التى دفن فيها النبى هل هي أفضل من المسجد الحرام
فأجاب ( وأما ( التربة ( التى دفن فيها النبى فلا أعلم أحدا من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام أو المسجد النبوى أو المسجد الأقصى إلا القاضي عياض فذكر ذلك إجماعا وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه ولا حجة عليه بل بدن النبى أفضل من المساجد
وأما ما فيه خلق أو ما فيه دفن فلا يلزم إذا كان هو أفضل أن يكون ما منه خلق أفضل فإن أحدا لا يقول أن بدن عبد الله أبيه أفضل من أبدان الأنبياء فإن الله يخرج الحى من الميت والميت من الحى ونوح نبى كريم وإبنه المغرق كافر وإبراهيم خليل الرحمن وأبوه آزر كافر
والنصوص الدالة على تفضيل المساجد مطلقة لم يستثن منها قبور
____________________
(27/37)
الأنبياء ولا قبور الصالحين ولو كان ما ذكره حقا لكان مدفن كل نبى بل وكل صالح أفضل من المساجد التى هي بيوت الله فيكون بيوت المخلوقين أفضل من بيوت الخالق التى أذن الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه وهذا قول مبتدع فى الدين مخالف لأصول الإسلام
وسئل أيضا (
عن رجلين تجادلا فقال أحدهما إن تربة محمد النبى صلى الله عليه وسلم أفضل من السماوات والأرض وقال الآخر الكعبة أفضل فمع من الصواب
فأجاب ( الحمد لله أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام بل الكعبة أفضل منه ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض ولم يسبقه أحد إليه ولا وافقه أحد عليه والله أعلم
____________________
(27/38)
وسئل رحمه الله (
ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين هل تفضل الإقامة فى الشام على غيره من البلاد وهل جاء فى ذلك نص فى القرآن أو الأحاديث أم لا أجيبونا مأجورين
فأجاب شيخ الإسلام والمسلمين ناصر السنة تقى الدين الحمد لله الإقامة فى كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير بحيث يكون أعلم بذلك وأقدر عليه وأنشط له أفضل من الإقامة فى موضع يكون حاله فيه فى طاعة الله ورسوله دون ذلك هذا هو الأصل الجامع فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم
( والتقوى ( هي ما فسرها الله تعالى فى قوله { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } إلى قوله { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } وجماعها فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله وإذا كان هذا هو الأصل فهذا يتنوع بتنوع حال الإنسان فقد يكون مقام الرجل فى أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل إذا كان مجاهدا فى سبيل الله بيده أو لسانه آمرا
____________________
(27/39)
بالمعروف ناهيا عن المنكر بحيث لو إنتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلت حسناته ولم يكن فيها مجاهدا وإن كان أروح قلبا وكذلك إذا عدم الخير الذى كان يفعله في أماكن الفجور والبدع
ولهذا كان المقام فى الثغور بنية المرابطة فى سبيل الله تعالى أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة بإتفاق العلماء فإن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج كما قال تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله } الآية وسئل النبى أى الأعمال أفضل قال ( إيمان بالله ورسوله وجهاد فى سبيله ) قال ثم ماذا قال ( حج مبرور (
وهكذا لو كان عاجزا عن الهجرة والإنتقال إلى المكان الأفضل التى لو انتقل إليها لكانت الطاعة عليه أهون وطاعة الله ورسوله فى الموضعين واحدة لكنها هناك أشق عليه فإنه إذا استوت الطاعتان فأشقهما أفضلهما وبهذا ناظر مهاجرة الحبشة المقيمون بين الكفار لمن زعم أنه أفضل منهم فقالوا كنا عند البغضاء البعداء وأنتم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم جاهلكم ويطعم جائعكم وذلك فى ذات الله
____________________
(27/40)
وأما إذا كان دينه هناك أنقص فالإنتقال أفضل له وهذا حال غالب الخلق فإن أكثرهم لا يدافعون بل يكونون على دين الجمهور وإذا كان كذلك فدين الإسلام بالشام فى هذه الأوقات وشرائعه أظهر منه بغيره هذا أمر معلوم بالحس والعقل وهو كالمتفق عليه بين المسلمين العقلاء الذين أوتوا العلم والإيمان وقد دلت النصوص على ذلك مثل ما روى أبوداود فى سننه عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ( ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ( وفى سننه أيضا عن عبد الله بن خولة عن النبى قال ( إنكم ستجندون أجنادا جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق فقال إبن خولة يا رسول الله إختر لى فقال عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من خلقه فمن أبى فليلحق بيمنه وليتق من غدره فإن الله قد تكفل لى بالشام وأهله ( وكان الخوالى يقول من تكفل الله به فلا ضيعة عليه وهذان نصان فى تفضيل الشام
وفى مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى قال ( لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ( قال الإمام احمد أهل المغرب هم أهل الشام وهو كما قال فإن هذه لغة أهل المدينة النبوية فى ذاك
____________________
(27/41)
الزمان كانوا يسمون أهل نجد والعراق أهل المشرق ويسمون أهل الشام أهل المغرب لأن التغريب والتشريق من الأمور النسبية فكل مكان له غرب وشرق فالنبى تكلم بذلك فى المدينة النبوية فما تغرب عنها فهو غربه وما تشرق عنها فهو شرقه
ومن علم حساب البلاد أطوالها وعروضها علم أن المعاقل التى بشاطئ الفرات كالبيرة ونحوها هي محاذية للمدينة النبوية كما أنما شرق عنها بنحو من مسافة القصر كحران وما سامتها مثل الرقة وسميساط فإنه محاذ أم القرى مكة شرفها الله ولهذا كانت قبلته هو أعدل القبل فما شرق عما حاذى المدينة النبوية فهو شرقها وما يغرب ذلك فهو غربها
وفي الكتب المعتمد عليها مثل ( مسند أحمد ( وغيره عدة آثار عن النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الأصل مثل وصفه أهل الشام ( بأنه لا يغلب منافقوهم مؤمنيهم ( وقوله ( رأيت كأن عمود الكتاب وفى رواية عمود الإسلام أخذ من تحت رأسى فأتبعته نظرى فذهب به إلى الشام وعمود الكتاب والإسلام ما يعتمد عليه وهم حملته القائمون به ومثل قوله ( عقر دار المؤمنين الشام ( ومثل ما فى الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبى صلى الله
____________________
(27/42)
عليه وسلم أنه قال ( لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ( وفيهما أيضا عن معاذ بن جبل قال ( وهم بالشام وفى تاريخ البخارى قال ( وهم بدمشق وروى وهم بأكناف بيت المقدس ( وفى الصحيحين أيضا عن إبن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه أخبر أن ملائكة الرحمن مظلة أجنحتها بالشام (
والآثار فى هذا المعنى متعاضدة ولكن الجواب ليس على البديهة على عجل (
وقد دل الكتاب والسنة وما روى عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام مع ما علم بالحس والعقل وكشوفات العارفين ان الخلق والأمر ابتدآ من مكة أم القرى فهي أم الخلق وفيها إبتدئت الرسالة المحمدية التى طبق نورها الأرض وهى جعلها الله قياما للناس إليها يصلون ويحجون ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم فكان الإسلام فى الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم ودلت الدلائل المذكورة على أن ( ملك النبوة ( بالشام والحشر إليها فالى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر وهناك يحشر الخلق والإسلام فى آخر الزمان يكون أظهر بالشام وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها وكما أنه فى آخر الزمان يعود الأمر إلى
____________________
(27/43)
الشام كما أسرى بالنبى من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فخيار أهل الأرض فى آخر الزمان ألزمهم مهاجر إبراهيم عليه السلام وهو بالشام فالأمر مساسه كما هو الموجود والمعلوم
وقد دل القرآن العظيم على بركة الشام فى خمس آيات قوله { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } والله تعالى إنما أورث بنى إسرائيل أرض الشام وقوله { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } وقوله { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها } وقوله { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } وقوله تعالى { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } الآية فهذه خمس آيات نصوص و ( البركة ( تتناول البركة فى الدين والبركة فى الدنيا وكلاهما معلوم لا ريب فيه فهذا من حيث الجملة والغالب
وأما كثير من الناس فقد يكون مقامه فى غير الشام أفضل له كما تقدم وكثير من أهل الشام لو خرجوا عنها إلى مكان يكونون فيه أطوع لله ولرسوله لكان أفضل لهم وقد كتب أبوالدرداء إلى سلمان الفارسى رضى الله عنهما يقول له هلم إلى الأرض
____________________
(27/44)
المقدسة فكتب إليه سلمان إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الرجل عمله وهو كما قال سلمان الفارسى فإن مكة حرسها الله تعالى أشرف البقاع وقد كانت فى غربة الإسلام دار كفر وحرب يحرم المقام بها وحرم بعد الهجرة أن يرجع إليها المهاجرون فيقيموا بها وقد كانت الشام فى زمن موسى عليه السلام قبل خروجه ببنى إسرائيل دار الصابئة المشركين الجبابرة الفاسقين وفيها قال تعالى لبنى إسرائيل { سأريكم دار الفاسقين }
فإن كون الأرض ( دار كفر ( أو دار إسلام أو إيمان ( أو ( دار سلم ( او ( حرب ( أو ( دار طاعة ( أو ( معصية ( أو ( دار المؤمنين ( أو الفاسقين ( أوصاف عارضة لا لازمة فقد تنتقل من وصف إلى وصف كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم وكذلك بالعكس
وأما الفضيلة الدائمة فى كل وقت ومكان ففى الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم } الآية وقال تعالى { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه } الآية وقال تعالى { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا }
____________________
(27/45)
وإسلام الوجه لله تعالى هو إخلاص القصد والعمل له والتوكل عليه ( كما قال تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين } وقال { فاعبده وتوكل عليه } وقال تعالى { عليه توكلت وإليه أنيب }
ومنذ أقام الله حجته على أهل الأرض بخاتم رسله محمد عبده ورسوله وجب على أهل الأرض الإيمان به وطاعته وإتباع شريعته ومنهاجه فأفضل الخلق أعلمهم وأتبعهم لما جاء به علما وحالا وقولا وعملا وهم أتقى الخلق وأى مكان وعمل كان أعون للشخص على هذا المقصود كان أفضل فى حقه وإن كان الأفضل فى حق غيره شيئا آخر ثم إذا فعل كل شخص ما هو أفضل فى حقه فإن تساوت الحسنات والمصالح التى حصلت له مع ما حصل للآخر فهما سواء وإلا فإن أرجحهما فى ذلك هو أفضلهما
وهذه الأوقات يظهر فيها من النقص فى خراب ( المساجد الثلاثة ( علما وإيمانا ما يتبين به فضل كثير ممن بأقصى المغرب على أكثرهم فلا ينبغى للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة فى فضل أهلها مطلقا بل يعطى كل ذى حق حقه ولكن العبرة بفضل الإنسان فى إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب ثم قد يكون بعض البقاع أعون على بعض الأعمال كإعانة مكة حرسها الله تعالى على الطواف والصلاة المضعفة ونحو
____________________
(27/46)
ذلك وقد يحصل فى الأفضل معارض راجح يجعله مفضولا مثل من يجاور بمكة مع السؤال والإستشراف والبطالة عن كثير من الأعمال الصالحة وكذلك من يطلب الإقامة بالشام لأجل حفظ ماله وحرمه نفسه لا لأجل عمل صالح فالأعمال بالنيات
وهذا الحديث الشريف إنما قاله النبي بسبب الهجرة فقال ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ( قال ذلك بسبب أن رجلا كان قد هاجر يتزوج امرأة يقال لها أم قيس وكان يقال له مهاجر أم قيس
وإذا فضلت جملة على جملة لم يستلزم ذلك تفضيل الأفراد على الإفراد كتفضيل القرن الثانى على الثالث وتفضيل العرب على ما سواهم وتفضيل قريش على ما سواهم فهذا هذا والله أعلم
____________________
(27/47)
( وسئل رحمه الله (
عن رجلين اختلفا فى الصلاة فى جامع بنى أمية هل هي بتسعين صلاة كما زعموا أم لا
وقد ذكروا ( أن فيه ثلاثمائة نبى مدفونين ( فهل ذلك صحيح أم لا وقد ذكروا ( أن النائم بالشام كالقائم بالليل بالعراق ( وذكروا ( أن الصائم المتطوع بالعراق كالمفطر بالشام ( وذكروا ( أن الله خلق البركة إحدى وسبعين جزءا منها جزء واحد بالعراق وسبعون بالشام ( فهل ذلك صحيح أم لا
( فأجاب ( الحمد لله لم يرد فى ( جامع دمشق ( حديث عن النبى بتضعيف الصلاة فيه ولكن هو من أكثر المساجد ذكرا لله تعالى ولم يثبت أن فيه عدد الأنبياء المذكورين
وأما القائم بالشام أو غيره فالأعمال بالنيات فإن أقام فيه بنية صالحة فإنه يثاب على ذلك وكل مكان يكون فيه العبد أطوع لله فمقامه فيه أفضل وقد جاء فى فضل الشام وأهله أحاديث صحيحة ودل
____________________
(27/48)
القرآن على أن البركة فى أربع مواضع ولا ريب أن ظهور الإسلام وأعوانه فيه بالقلب واليد واللسان أقوى منه فى غيره وفيه من ظهور الإيمان وقمع الكفر والنفاق مالا يوجد فى غيره وأما ما ذكر من حديث الفطر والصيام وأن البركة إحدى وسبعون جزءا بالشام والعراق على ما ذكر فهذا لم نسمعه عن أحد من أهل العلم والله أعلم
وسئل أيضا هل دخلت عائشة زوج النبى إلى دمشق وكانت تحدث الناس بجامع دمشق أم لا
فأجاب ( الحمد لله لم يدخل دمشق أحد من أزواج النبى لا عائشة ولا غيرها والله أعلم
____________________
(27/49)
وسئل رحمه الله تعالى (
عن ( جبل لبنان ( هل ورد فى فضله نص فى كتاب الله تعالى أو حديث عن رسول الله وهل يحل فى دين الله تعالى أن يصقع الناس إليه برؤسهم إذا ابصروه وحتى من أبصره صباحا أو مساء يرى أن ذلك بركة عظيمة وهل ثبت عند أهل العلم أن فيه أربعين من الإبدال أو كان فيه رجال عليهم شعر مثل شعر الماعز وهل هذه صفة الصالحين وهل يجوز أن يعقد له نية الزيارة أو يعتقد أن من وطأ أرضه فقد وطىء بعض الجبل المخصوص بالرحمة وهل ثبت أن فيه نبيا من الأنبياء مدفون أو فى أذياله أو قال أحد من أهل العلم أن فيه رجال الغيب وكيف صفة رجال الغيب الذين يعتقد العوام فيهم وهل يحل فى دين الله تعالى أن يعتقد المسلمون شيئا من هذا وهل يكون كل من كابر فيه وحسنه أو داهن فيه مخطئا آثما وهل يكون المنكر لهذا كله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحالة هذه أم لا
( فأجاب ) ليس فى فضل ( جبل لبنان ( وأمثاله نص لا عن الله
____________________
(27/50)
ولا عن رسوله بل هو وأمثاله من الجبال التى خلقها الله وجعلها أوتادا للأرض وآية من آياته وفيها من منافع خلقه ما هو نعم لله على عباده وسوف يفعل بها ما أخبر به فى قوله { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا }
وأما ما ذكر فى بعض الحكايات عن بعض الناس من الإجتماع ببعض العباد فى جبل لبنان وجبل اللكام ونحو ذلك وما يؤثر عن بعض هؤلاء من جميع المقال والفعال فأصل ذلك أن هذه الأمكنة كانت ثغورا يرابط بها المسلمون لجهاد العدو لما كان المسلمون قد فتحوا الشام كله وغير الشام فكانت غزة وعسقلان وعكة وبيروت وجبل لبنان وطرابلس ومصيصة وسيس وطرسوس وأذنه وجبل اللكام وملطية وآمد وجبل ليسون إلى قزوين إلى الشاش ونحو ذلك من البلاد كانت ثغورا كما كانت الأسكندرية ونحوها ثغورا وكذلك عبادان ونحوها من أرض العراق وكان الصالحون يتناوبون الثغور لأجل المرابطة فى سبيل الله فإن المقام بالثغور لأجل الجهاد فى سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة ما أعلم فى ذلك خلافا بين العلماء
وثبت فى صحيح مسلم عن سلمان الفارسى رضى الله عنه قال قال
____________________
(27/51)
رسول الله ( رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا مات مجاهدا وجرى عليه عمله وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان ( وفى السنن عن عثمان بن عفان رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( رباط يوم فى سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ( وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال ( لأن أرابط ليلة فى سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود
وذلك لأن الرباط هو من جنس الجهاد والمجاورة من جنس النسك وجنس الجهاد فى سبيل الله أفضل من جنس النسك بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين كما قال تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } وفضائل الجهاد والرباط كثيرة
فلذلك كان صالحوا المؤمنين يرابطون فى الثغور مثل ما كان الأوزاعى وأبو إسحاق الفزارى ومخلد بن الحسين وإبراهيم بن
____________________
(27/52)
أدهم وعبد الله بن المبارك وحذيفة المرعشى ويوسف بن اسباط وغيرهم يرابطون بالثغور الشامية ومنهم من كان يجيء من خراسان والعراق وغيرهما للرباط فى الثغور الشامية لأن أهل الشام هم الذين كانوا يقاتلون النصارى أهل الكتاب وفى السنن عن النبى انه قال ( من قتله أهل الكتاب فله أجر شهيدين ( وذلك لأن هؤلاء يقاتلون على دين وأما الكفار الترك ونحوهم فلا يقاتلون على دين فإذا غلبوا أولئك أفسدوا الدين والملك وأما الترك فيفسدون الملك وما يتبع ذلك من الدين ولا يقاتلون على الدين
ولهذا كثر ذكر ( طرسوس ( فى كتب العلم والفقه المصنفة فى ذلك الوقت لأنها كانت ثغر المسلمين حتى كان يقصدها أحمد بن حنبل والسرى السقطى وغيرهما من العلماء والمشائخ للرباط وتوفى المأمون قريبا منها
فعامة ما يوجد فى كلام المتقدمين من فضل عسقلان والأسكندرية أو عكة أو قزوين أو غير ذلك وما يوجد من أخبار الصالحين الذين بهذه الأمكنة ونحو ذلك فهو لأجل كونها كانت ثغورا لا لأجل خاصية ذلك المكان وكون البقعة ثغرا للمسلمين أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لها لا اللازمة لها بمنزلة كونها دار إسلام أو دار كفر أو دار حرب أو دار سلم أو دار علم وإيمان أو دار
____________________
(27/53)
جهل ونفاق فذلك يختلف بإختلاف سكانها وصفاتهم بخلاف المساجد الثلاثة فإن مزيتها صفة لازمة لها لا يمكن إخراجها عن ذلك وأما سائر المساجد فبين العلماء نزاع فى جواز تغييرها للمصلحة وجعلها غير مسجد كما فعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه بمسجد الكوفة لما بدله وجعل المسجد مكانا آخر وصار الأول حوانيت التمارين وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره
فصل
إذا عرف ذلك فهذه السواحل الشامية كانت ثغورا للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة وكان المسلمون قد فتحوا قبرص فى خلافة عثمان رضى الله عنه فتحها معاوية فلما كان فى أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام وغلب هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام سواحله وغير سواحله وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام بل وأكثر بلاد الشام وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم وأخذوا منهم ما أخذوا إلى أن يسر
____________________
(27/54)
الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل ( نور الدين ( وصلاح الدين ( وغيرهما فإستنقذوا عامة الشام من النصارى
وبقيت بقايا الروافض والمنافقين فى جبل لبنان وغيره وربما غلبهم النصارى عليه حتى يصير هؤلاء الرافضة والمنافقون فلاحين للنصارى وصار جبل لبنان ونحوه دولة بين النصارى والروافض ليس فيه من الفضيلة شيء ولا يشرع بل ولا يجوز المقام بين نصارى أو روافض يمنعون المسلم عن إظهار دينه
ولكن صار طوائف ممن يؤثر التخلى عن الناس زهدا ونسكا يحسب أن فضل هذا الجبل ونحوه لما فيه من الخلوة عن الناس وأكل المباحات من الثمار التي فيه فيقصدونه لأجل ذلك غلطا منهم وخطأ فإن سكنى الجبال والغيران والبوادى ليس مشروعا للمسلمين إلا عند الفتنة فى الأمصار التى تحوج الرجل إلى ترك دينه من فعل الواجبات وترك المحرمات فيهاجر المسلم حينئذ من أرض يعجز عن إقامة دينه إلى أرض يمكنه فيها إقامة دينه فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه
وربما كان بعض الأوقات من هؤلاء النساك الزهاد طائفة إما ظالمون لأنفسهم وإما مقتصدون مخطئون مغفور لهم خطؤهم فأما السابقون
____________________
(27/55)
المقربون فهم الذين تقربوا إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض كما قال النبى فى الحديث الصحيح الذى رواه عن الله تعالى ( ما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما إفترضت عليه ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى ولئن سألنى لأعطينه ولئن إستعاذنى لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه (
ولا خلاف بين المسلمين أن جنس النساك الزهاد الساكنين فى الأمصار أفضل من جنس ساكنى البوادى والجبال كفضيلة القروى على البدوى والمهاجر على الأعرابى قال الله تعالى { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } وفى الحديث ( أن من الكبائر أن يرتد الرجل أعرابيا بعد الهجرة ( هذا لمن هو ساكن فى البادية بين الجماعة فكيف بالمقيم وحده دائما فى جبل أو بادية فإن هذا يفوته من مصالح الدين نظير ما يفوته من مصالح الدنيا أو قريب منه فإن يد الله على الجماعة والشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد
____________________
(27/56)
فصل
وأما إعتقاد بعض الجهال أن به ( الأربعين الأبدال ( فهذا جهل وضلال ما إجتمع به الإبدال الأربعون قط ولا هذا مشروع لهم ولا فائدة فى ذلك وإعتقاد جهال الجمهور هذا يشبه إعتقاد الرافضة فى الخليفة الحجة صاحب الزمان عندهم الذي يقولون إنه غائب عن الأبصار حاضر فى الأمصار ويعظمون قدره ويرجون بركته وهو معدوم لا حقيقة له فكل من علق دينه بالمجهولات وأعرض عما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق فهو من أهل الضلال الخارج عن شريعة الإسلام بل فيه في هذه الأوقات المتأخرة أهل الضلال من النصارى والنصيرية والرافضة الذين غزاهم المسلمون
وكذلك قول كثير من الجهال وأهل الإفك والمحال أن به أو بغيره ( رجال الغيب ( وتعظيمهم لهؤلاء هو نوع من الضلال الذى إستحوذوا به على الجهال من الأتراك والأعراب والفلاحين والعامة أضلوهم بذلك عن حقيقة الدين وأكلوا به أموالهم بالباطل كما قال تعالى { إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله }
____________________
(27/57)
ولم يكن من أنبياء الله وأوليائه من كان غائب الجسد عن أبصار الناس ولكن كثير منهم قد تغيب عن الناس حقيقة قلبه وما فى باطنه من ولاية الله وعظيم العلم والإيمان والأحوال الزكية فيكون فى الأمصار والمساجد وبين الناس من يكون من أولياء الله وأكثر الناس لا يعلمون حاله كما قال النبى ( رب أشعث أغبر ذى طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ( أى قد يكون فيمن تنبو عنه الأبصار لرثاثة حاله من يبر الله قسمه وليس هذا وصفا لازما بل ولاية الله هي ما ذكرنا فى قوله { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } فأولياء الله هم المؤمنون المتقون فى جميع الأصناف المباحة
وكذلك خبر الرجل الذى نبت الشعر على جميع بدنه كالماعز باطل ومحال نعم يكون فى الضلال من الزهاد من يترك السنة حتى ينبت الشعر ويكثر على جسده وهذا ينبغى أن يؤمر بما امر به النبى صلى الله عليه وسلم من إحفاء الشوارب ونتف الإبط وحلق العانة ونحو ذلك
فإن ظن أن غير هدى النبى أكمل من هديه
____________________
(27/58)
أو أن من الأولياء من يسعه الخروج عن شريعة محمد كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهذا كافر يجب قتله بعد إستتابته لأن موسى عليه السلام لم تكن دعوته عامة ولم يكن يجب على الخضر إتباع موسى عليهما السلام بل قال الخضر لموسى إنى على علم من الله علمنيه الله لا تعلمه وأنت على علم من الله علمكه الله لا أعلمه
فأما محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فهو رسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس عربهم وعجمهم دانيهم وقاصيهم ملوكهم ورعيتهم زهادهم وغير زهادهم قال الله تعالى { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا } وقال تعالى قل { يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض } وقال النبى ( كان النبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ( وهو خاتم الرسل ليس بعده نبى ينتظر ولا كتاب يرتقب بل هو آخر الأنبياء والكتاب الذى أنزل عليه مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فمن إعتقد أن لأحد من جميع الخلق علمائهم وعبادهم وملوكهم خروجا عن إتباعه وطاعته وأخذ ما بعث به من الكتاب والحكمة فهو كافر
ويجب التفريق بين العبادات الإسلامية الإيمانية النبوية الشرعية التى
____________________
(27/59)
يحبها الله ورسوله وعباده المؤمنون وبين العبادات البدعية الضلالية الجاهلية التى قال الله فيها { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وإن إبتلى بشيء منها بعض أكابر النساك والزهاد ففى الصحاح عن أنس رضى الله عنه ( إن النبى صلى الله عليه وسلم بلغه أن بعض أصحابه قال اما أنا فأصوم لا أفطر وقال الآخر أما انا فأقوم لا أنام وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر أما أنا فلا آكل اللحم فقال النبى لكنى أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى ( والراغب عن الشيء الذى لا يحبه ولا يريده بل يحب ويريد ما ينافى المشروع الذى أحبه الله ورسوله فقد تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذى يتعرى دائما او يصمت دائما او يسكن وحده فى البرية دائما أو يترك أكل الخبز واللحم دائما أو يترهب دائما متعبدا بذلك ظانا أن هذا يحبه الله ورسوله دون ضده من اللباس بالمعروف والكلام بالمعروف والأكل بالمعروف ونحو ذلك
وإذا عرف هذا فكل ما ذكر من الإنحناء للجبل المذكور ونحوه أو لمن فيه أو زيارته بلا قصد للجهاد او لأمر مشروع فهو من الجهالات والضلالات وكذلك التبرك بما يحمل منه من الثمار هو من
____________________
(27/60)
البدع الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية والشركية وقد جاء فى الحديث المعروف أن بصره بن أبى بصرة الغفارى رأى أبا هريرة رضى الله عنه وقد سافر إلى الطور الذى كلم الله موسى عليه فقال لو رأيتك قبل أن تذهب إليه لم أدعك تذهب إليه لأن رسول الله قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا ( فإذا كان السفر لزيارة الطور الذى كلم الله عليه موسى وسماه ( الوادى المقدس ( و ( البقعة المباركة ( لا يشرع فكيف بالسفر لزيارة غيره من الأطوار فإن ( الطور ( هو الجبل والأطوار الجبال
وأما القبر المشهور فى سفحه بالكرك الذى يقال إنه قبر نوح فهو باطل محال لم يقل أحد ممن له علم ومعرفة إن هذا قبر نوح ولا قبر أحد من الأنبياء أوالصالحين ولا كان لهذا القبر ذكر ولا خبر أصلا بل كان ذلك المكان حاكورة يزرع فيها ويكون بها الحاكة إلى مدة قريبة رأوا هناك قبرا فيه عظم كبير وشموا فيه رائحة فظن الجهلاء أنه لأجل تلك الرائحة يكون قبر نبى وقالوا من كان من الأنبياء كبيرا فقالوا نوح فقالوا هو قبر نوح وبنوا عليه فى دولة الرافضة الذين كانوا مع الناصر صاحب حلب ذلك القبر وزيد بعد ذلك فى دولة الظاهر فصار وثنا يشرك به الجاهلون
____________________
(27/61)
وقد ثبت عن النبى أنه قال ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ( فلو كان قبر نبى لم يتجرد العظم وقد حدثنى من ثقات أهل المكان عن آبائهم من ذكر أنهم رأوا تلك العظام الكبيرة فيه وشاهدوه قبل ذلك مكانا للزرع والحياكة وحدثنى من الثقات من شاهد فى المقابر القريبة منه رؤوسا عظيمة جدا تناسب تلك العظام فعلم أن هذا وأمثاله من عظام العمالقة الذين كانوا فى الزمن القديم أو نحوهم
ولو كان قبر نبي أو رجل صالح لم يشرع أن يبنى عليه مسجد بإجماع المسلمين وبسنة رسول الله المستفيضة عنه كما قال فى الصحاح ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( وقال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك (
ولا تستحب الصلاة لا الفرض ولا النفل عند قبر نبى ولا غيره بإجماع المسلمين بل ينهى عنه وكثير من العلماء يقول هي باطلة لما ورد فى ذلك من النصوص وأنما البقاع التى يحبها الله ويحب الصلاة والعبادة فيها هي المساجد التى قال الله فيها { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال } وقال تعالى { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين }
____________________
(27/62)
وسئل النبي ( أى البقاع أحب إلى الله قال المساجد قيل فأى البقاع أبغض إلى الله قال ( الأسواق ( وقال ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح ( وقال ( أن العبد إذا تطهر فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة كانت خطوتاه أحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة (
فدين الإسلام هو إتباع ما بعث الله به رسوله من أنواع المحبوبات وإجتناب ما كرهه الله ورسوله من البدع والضلالات وأنواع المنهيات فالعبادات الإسلامية مثل الصلوات المشروعة والجماعات والجمعات وقراءة القرآن وذكر الله الذى شرعه لعبادة المؤمنين ودعائه وما يتبع ذلك من احوال القلوب وأعمال الأبدان وكذلك أنواع الزكوات من الصدقات وسائر الإحسان إلى الخلق فإن كل معروف صدقة وكذلك سائر العبادات المشروعة فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليها وسائر إخواننا المؤمنين والله سبحانه أعلم
____________________
(27/63)
وسئل أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى
عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور فى مرض به او بفرسه أو بعيره يطلب إزالة المرض الذى بهم ويقول يا سيدى أنا فى جيرتك إنا فى حسبك فلان ظلمنى فلان قصد أذيتى ويقول إن المقبور يكون واسطة بينه وبين الله تعالى وفيمن ينذر للمساجد والزوايا والمشائخ حيهم وميتهم بالدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك يقول أن سلم ولدى فللشيخ على كذا وكذا وأمثال ذلك وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذاك الواقع وفيمن يجيء إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه ويمسح القبر بيديه ويمسح بهما وجهه وأمثال ذلك وفيمن يقصده بحاجته ويقول يا فلان ببركتك أو يقول قضيت حاجتى ببركة الله وبركة الشيخ وفيمن يعمل السماع ويجيء إلى القبر فيكشف ويحط وجهه بين يدى شيخه على الأرض ساجدا وفيمن قال إن ثم قطبا غوثا جامعا فى الوجود أفتونا مأجورين وأبسطوا القول فى ذلك
فأجاب ( الحمد لله رب العالمين الدين الذى بعث الله به رسله
____________________
(27/64)
وأنزل به كتبه هو عبادة الله وحده لا شريك له وإستعانته والتوكل عليه ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار كما قال تعالى { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون } وقال تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } قالت طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة قال الله تعالى هؤلاء الذين تدعونهم عبادى كما أنتم عبادى ويرجون رحمتى كما ترجون رحمتى ويخافون عذابى كما تخافون عذابى ويتقربون إلى كما تتقربون إلى فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم
وقال تعالى { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له }
____________________
(27/65)
فبين سبحانه أن من دعى من دون الله من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة فى ملكه وأنه ليس له شريك فى ملكه بل هو سبحانه له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأنه ليس له عون يعاونه كما يكون للملك أعوان وظهراء وإن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن إرتضى فنفى بذلك وجوه الشرك
وذلك أن من يدعون من دونه إما أن يكون مالكا وإما أن لا يكون مالكا وإذا لم يكن مالكا فأما أن يكون شريكا وإما أن لا يكون شريكا وإذا لم يكن شريكا فأما أن يكون معاونا وأما أن يكون سائلا طالبا فالأقسام الأول الثلاثة وهى الملك والشركة والمعاونة منتفية وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه كما قال تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وكما قال تعالى { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض } وقال تعالى { الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون }
____________________
(27/66)
وقال تعالى { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون } وقال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } فإذا جعل من إتخذ الملائكة والنبيين أربابا كافرا فكيف من إتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا
وتفصيل القول أن مطلوب العبد أن كان من الأمور التى لا يقدر عليها إلا الله تعالى مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم أو وفاء دينه من غير جهة معينة أو عافية أهله وما به من بلاء الدنيا والآخرة وإنتصاره على عدوه وهداية قلبه وغفران ذنبه أو دخوله الجنة أو نجاته من النار أو أن يتعلم العلم والقرآن أو أن يصلح قلبه ويحسن خلقه ويزكى نفسه وأمثال ذلك فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبى ولا شيخ سواء كان حيا أو ميتا إغفر ذنبى ولا انصرنى على عدوى ولا إشف مريضى ولا عافنى أو عاف أهلى أو دابتى
____________________
(27/67)
وما أشبه ذلك ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان فهو مشرك بربه من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التى يصورونها على صورهم ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه قال الله تعالى { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } الآية وقال تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }
وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه فى بعض الأحوال دون بعض فإن ( مسألة المخلوق ( قد تكون جائزة وقد تكون منهيا عنها قال الله تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } وأوصى النبى صلى الله عليه وآله وسلم بن عباس ( إذا سألت فاسأل الله وإذا إستعنت فإستعن بالله ( وأوصى النبى صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولنى إياه وثبت فى الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ( يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ( والإسترقاء طلب الرقية وهو من أنواع الدعاء ومع هذا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( ما من
____________________
(27/68)
رجل يدعو له اخوه بظهر الغيب دعوة إلا وكل الله بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك ولك مثل ذلك ( ومن المشروع فى الدعاء دعاء غائب لغائب ولهذا أمر النبى صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة عليه وطلبنا الوسيلة له واخبر بما لنا فى ذلك من الأجر إذا دعونا بذلك فقال فى الحديث ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على فإن من صلى على مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها درجة فى الجنة لا ينبغى أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لى الوسيلة حلت له شفاعتى يوم القيامة
ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه وممن هو دونه فقد روى طلب الدعاء من الأعلى والأدنى فإن النبى صلى الله عليه وآله وسلم ودع عمر إلى العمرة وقال ( لا تنسنا من دعائك يا أخى ( لكن النبى صلى الله عليه وآله وسلم لما أمرنا بالصلاة عليه وطلب الوسيلة له ذكر أن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشرا وأن من سأل له الوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة فكان طلبه منا لمنفعتنا فى ذلك وفرق بين من طلب من غيره شيئا لمنفعة المطلوب منه ومن يسأل غيره لحاجته إليه فقط وثبت فى الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أويسا القرنى وقال لعمر ( إن إستطعت أن يستغفر لك فأفعل
____________________
(27/69)
وفى الصحيحين أنه كان بين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما شيء فقال أبوبكر لعمر إستغفر لى لكن فى الحديث أن أبا بكر ذكر أنه حنق على عمر وثبت أن أقواما كانوا يسترقون وكان النبى صلى الله عليه وآله وسلم يرقيهم
وثبت فى الصحيحين أن الناس لما أجدبوا سألوا النبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يستسقى لهم فدعا الله لهم فسقوا وفى الصحيحين أيضا أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه إستسقى بالعباس فدعا فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون وفى السنن أن أعرابيا قال للنبى صلى الله عليه وآله وسلم جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فإدع الله لنا فانا نستشفع بالله عليك وبك على الله فسبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى عرف ذلك فى وجوه أصحابه وقال ( ويحك ( إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ( فأقره على قوله أنا نستشفع بك على الله وأنكر عليه نستشفع بالله عليك لأن الشافع يسأل المشفوع إليه والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه والرب تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع به
وأما ( زيارة القبور المشروعة ( فهو أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته كما كان النبى صلى الله عليه وآله وسلم
____________________
(27/70)
يعلم أصحابه إذا زارو القبور أن يقولوا ( سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم وروى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ( والله تعالى يثيب الحى إذا دعا للميت المؤمن كما يثيبه إذا صلى على جنازته ولهذا نهى النبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل ذلك بالمنافقين فقال عز من قائل { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } فليس فى الزيارة الشرعية حاجة الحى إلى الميت ولا مسألته ولا توسله به بل فيها منفعة الحى للميت كالصلاة عليه والله تعالى يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه ويثيب هذا على عمله فإنه ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( إذا مات إبن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعوله
____________________
(27/71)
فصل
وأما من يأتى إلى قبر نبى أو صالح أو من يعتقد فيه أنه قبر نبى أو رجل صالح وليس كذلك ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات
إحداها ( أن يسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو مرض دوابه أو يقضى دينه أو ينتقم له من عدوه أو يعافى نفسه وأهله ودوابه ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل
وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله منى ليشفع لى فى هذه الأمور لأنى اتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم فى مطالبهم وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وقال سبحانه وتعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون }
____________________
(27/72)
وقال تعالى { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون } وقال تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } فبين الفرق بينه وبين خلقه فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشفيع فيقضى حاجته إما رغبة وإما رهبة وإما حياء وإما مودة وإما غير ذلك والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما شاء وشفاعة الشافع من إذنه فالأمر كله له
ولهذا قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبى هريرة رضى الله عنه ( لا يقولن أحدكم اللهم إغفر لى إن شئت اللهم إرحمنى إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ( فبين أن الرب سبحانه يفعل ما يشاء لا يكرهه أحد على ما إختاره كما قد يكره الشافع المشفوع إليه وكما يكره السائل المسؤول إذا ألح عليه وآذاه بالمسئلة فالرغبة يجب أن تكون إليه كما قال تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } والرهبة تكون من الله كما قال تعالى { وإياي فارهبون } وقال تعالى { فلا تخشوا الناس واخشون } وقد أمرنا أن نصلى على النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى الدعاء وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا
____________________
(27/73)
وقول كثير من الضلال هذا أقرب إلى الله منى وأنا بعيد من الله لا يمكننى أن أدعوه إلا بهذه الواسطة ونحو ذلك من أقوال المشركين فإن الله تعالى يقول { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } وقد روى أن الصحابة قالوا يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله هذه الآية وفى الصحيح أنهم كانوا فى سفر وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم ( يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا بل تدعون سميعا قريبا إن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ( وقد أمر الله تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقولوا { إياك نعبد وإياك نستعين } وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }
ثم يقال لهذا المشرك أنت إذا دعوت هذا فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو أرحم بك فهذا جهل وضلال وكفر وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره ألا تسمع إلى ما خرجه البخارى وغيره عن جابر رضى الله عنه قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الإستخارة فى الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول إذا هم أحدكم بأمر
____________________
(27/74)
فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إنى أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا اقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى فإقدره لى ويسره لى ثم بارك لى فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى فاصرفه عنى واصرفنى عنه وأقدر لى الخير حيث كان ثم أرضنى به قال ويسمى حاجته ( أمر العبد أن يقول أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم
وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى درجة عند الله منك فهذا حق لكن كلمة حق أريد بها باطل فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه أن يثيبه ويعطيه أكثر مما يعطيك ليس معناه إنك إذا دعوته كان الله يقضى حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت الله تعالى فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء مثلا لما فيه من العدوان فالنبى والصالح لا يعين على ما يكرهه الله ولا يسعى فيما يبغضه الله وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول
وإن قلت هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته فهذا هو ( القسم الثانى ( وهو أن لا تطلب منه الفعل ولا
____________________
(27/75)
ندعوه ولكن تطلب أن يدعو لك كما تقول للحى ادع لى وكما كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبون من النبى صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء فهذا مشروع فى الحى كما تقدم وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول ادع لنا ولا اسأل لنا ربك ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر به أحد من الأئمة ولا ورد فيه حديث بل الذى ثبت فى الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر رضى الله عنه إستسقى بالعباس وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فإسقنا فيسقون ولم يجيئوا إلى قبر النبى صلى الله عليه وآله وسلم قائلين يا رسول الله إدع الله لنا وإستسق لنا ونحن نشكوا إليك مما اصابنا ونحو ذلك لم يفعل ذلك احد من الصحابة قط بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان بل كانوا إذا جاؤا عند قبر النبى صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون عليه فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلى القبر الشريف بل ينحرفون ويستقبلون القبلة ويدعون الله وحده لا شريك له كما يدعونه فى سائر البقاع
وذلك أن فى ( الموطأ ( وغيره عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد إشتد غضب الله على قوم إتخذوا
____________________
(27/76)
قبور أنبيائهم مساجد ( وفى السنن عنه انه قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغنى ( وفى الصحيح عنه أنه قال فى مرضه الذى لم يقم منه ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضى الله عنها وعن أبويها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفى صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وفى سنن أبى داود عنه قال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد
والسرج (
ولهذا قال علماؤنا لا يجوز بناء المسجد على القبور وقالوا أنه لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئا من الأشياء لا من درهم ولا من زيت ولا من شمع ولا من حيوان ولا غير ذلك كله نذر معصية وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ( واختلف العلماء هل على الناذر كفارة يمين على قولين ولهذا لم يقل أحد من أئمة السلف إن الصلاة عند القبور وفى مشاهد القبور مستحبة أو فيها فضيلة ولا أن
____________________
(27/77)
الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة فى غير تلك البقعة والدعاء بل إتفقوا كلهم على أن الصلاة فى المساجد والبيوت افضل من الصلاة عند القبور قبور الأنبياء والصالحين سواء سميت ( مشاهد ( أو لم تسم
وقد شرع الله ورسوله فى المساجد دون المشاهد أشياء فقال تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } ولم يقل المشاهد وقال تعالى { وأنتم عاكفون في المساجد } ولم يقل فى المشاهد وقال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } وقال تعالى { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } وقال تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال صلى الله عليه وآله وسلم ( صلاة الرجل فى المسجد تفضل على صلاته فى بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا ( وقال صلى الله عليه وآله وسلم ( من بنى لله مسجدا بني الله له بيتا فى الجنة (
وأما القبور فقد ورد نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذها مساجد ولعن من يفعل ذلك وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين كما ذكره البخارى فى صحيحه والطبرانى وغيره فى تفاسيرهم وذكره وثيمة وغيره فى ( قصص الأنبياء ( فى قوله تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا }
____________________
(27/78)
قالوا هذه أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم اصناما وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد (
واتفق العلماء على أن من زار قبر النبى صلى الله عليه وآله وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين الصحابة وأهل البيت وغيرهم أنه لا يتمسح به ولا يقبله بل ليس فى الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود وقد ثبت فى الصحيحين أن عمر رضى الله عنه قال والله أنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا إنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك
ولهذا لا يسن بإتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركنى البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين حتى تنازع الفقهاء فى وضع اليد على منبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كان موجودا فكرهه مالك وغيره لأنه بدعة وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم ورخص
____________________
(27/79)
فيه أحمد وغيره لأن إبن عمر رضى الله عنهما فعله وأما التمسح بقبر النبى صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه وذلك لأنهم علموا ما قصده النبى صلى الله عليه وآله وسلم من حسم مادة الشرك وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله رب العالمين
وهذا ما يظهر فى الفرق بين سؤال النبى صلى الله عليه وآله وسلم والرجل الصالح فى حياته وبين سؤاله بعد موته وفى مغيبه وذلك أنه فى حياته لا يعبده أحد بحضوره فإذا كان الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحون أحياء لا يتركون أحدا يشرك بهم بحضورهم بل ينهونهم عن ذلك ويعاقبونهم عليه ولهذا قال المسيح عليه السلام { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } وقال رجل للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله وشئت فقال ( أجعلتنى لله ندا ما شاء الله وحده ) وقال لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ولما قالت الجويرية وفينا رسول الله يعلم ما فى غد قال ( دعى هذا قولى بالذى كنت تقولين ( وقال لا تطرونى كما أطرت النصارى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ولما صفوا خلفه قياما قال ( لا تعظمونى كما تعظم الأعاجم بعضهم بعضا ( وقال
____________________
(27/80)
أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك ولما سجد له معاذ نهاه وقال ( أنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ( ولما أتى على بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار
فهذا شأن أنبياء الله وأوليائه وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علوا فى الأرض وفسادا كفرعون ونحوه ومشائخ الضلال الذين غرضهم العلو فى الأرض والفساد والفتنة بالأنبياء والصالحين وإتخاذهم أربابا والإشراك بهم مما يحصل فى مغيبهم وفى مماتهم كما أشرك بالمسيح وعزير
فهذا مما يبين الفرق بين سؤال النبى صلى الله عليه وآله وسلم والصالح فى حياته وحضوره وبين سؤاله فى مماته ومغيبه ولم يكن أحد من سلف الأمة فى عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعى التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ولا يستغيثون بهم لا فى مغيبهم ولا عند قبورهم وكذلك العكوف
ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب كما ذكره
____________________
(27/81)
السائل ويستغيث به عند المصائب يقول يا سيدى فلان كأنه يطلب منه إزاله ضره أو جلب نفعه وهذا حال النصارى فى المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه ولم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك لا فى مغيبه ولا بعد مماته وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب فإن الكذب مقرون بالشرك وقد قال تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به } وقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم ( عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين أو ثلاثا ( وقال تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } وقال الخليل عليه السلام { أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين }
فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه أن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وإنكشف غطاؤه رده عليه وإن الشيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخا وقد تغويهم الشياطين كما تغوى عباد الأصنام كما كان يجرى فى العرب فى اصنامهم ولعباد الكواكب وطلاسمها من الشرك والسحر كما يجرى للتتار والهند والسودان وغيرهم من أصناف المشركين من إغواء الشياطين ومخاطبتهم ونحو ذلك
____________________
(27/82)
فكثير من هؤلاء قد يجرى له نوع من ذلك لا سيما عند سماع المكاء والتصدية فإن الشياطين قد تنزل عليهم وقد يصيب أحدهم كما يصيب المصروع من الإرغاء والإزباد والصياح المنكر ويكلمه بما لا يعقل هو والحاضرون وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه فى هؤلاء الضالين
وأما ( القسم الثالث ( وهو أن يقول اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك أفعل بى كذا وكذا فهذا يفعله كثير من الناس لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ولم يبلغنى عن أحد من العلماء فى ذلك ما أحكيه إلا ما رأيت فى فتاوى الفقيه أبى محمد بن عبدالسلام فإنه أفتى أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن صح الحديث فى النبى صلى الله عليه وآله وسلم ومعنى الإستفتاء قد روى النسائى والترمذى وغيرهما أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول ( اللهم أنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبى الرحمة يا محمد يا رسول الله إنى أتوسل بك إلى ربى فى حاجتى ليقضيها لى اللهم فشفعه فى ( فإن هذا الحديث قد إستدل به طائفة على جواز التوسل بالنبى صلى الله عليه وآله وسلم فى حياته وبعد مماته قالوا وليس فى التوسل دعاء
____________________
(27/83)
المخلوقين ولا إستغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء وإستغاثه بالله لكن فيه سؤال بجاهه كما فى سنن بن ماجه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر فى دعاء الخارج للصلاة أن يقول ( اللهم أنى أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاى هذا فإنى لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت إتقاء سخطك وإبتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذنى من النار وأن تغفر لى ذنوبى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
قالوا ففى هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة والله تعالى قد جعل على نفسه حقا قال الله تعالى { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } ونحو قوله { كان على ربك وعدا مسؤولا } وفى الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال له ( يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد ( قال الله ورسوله أعلم قال ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم ( وقد جاء فى غير حديث ( كان حقا على الله كذا وكذا ( كقوله ( من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشربها فى الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قيل وما طينة الخبال قال
____________________
(27/84)
عصارة أهل النار
وقالت طائفة ليس فى هذا جواز التوسل به بعد مماته وفى مغيبه بل إنما فيه التوسل فى حياته بحضوره كما فى صحيح البخارى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه إستسقى بالعباس فقال اللهم إنا كنا إذا اجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون وقد بين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به فى حياته فيسقون
وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو لهم ويدعون معه ويتوسلون بشفاعته ودعائه كما فى الصحيح عن انس بن مالك رضى الله عنه أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان بجوار ( دار القضاء ( ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فإستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فقال يا رسول الله هلكت الأموال وإنقطعت السبل فادع الله لنا أن يمسكها عنا قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال ( اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر ( قال وأقلعت فخرجنا نمشى فى الشمس ففى هذا الحديث أنه قال إدع الله لنا أن يمسكها عنا وفى الصحيح أن عبد الله بن عمر قال إنى لا
____________________
(27/85)
ذكر قول أبى طالب فى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول ** وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل **
فهذا كان توسلهم به فى الإستسقاء ونحوه ولما مات توسلوا بالعباس رضى الله عنه كما كانوا يتوسلون به ويستسقون وما كانوا يستسقون به بعد موته ولا فى مغيبه ولا عند قبره ولا عند قبر غيره وكذلك معاوية بن أبى سفيان إستسقى بيزيد بن الأسود الجرشى وقال اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا يا يزيد إرفع يديك إلى الله فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا فلذلك قال العلماء يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير فإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أحسن ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والإستسقاء بالنبى والصالح بعد موته ولا فى مغيبه ولا إستحبوا ذلك فى الإستسقاء ولا فى الإستنصار ولا غير ذلك من الأدعية والدعاء مخ العبادة
والعبادة مبناها على السنة والإتباع لا على الأهواء والإبتداع وإنما يعبد الله بما شرع لا يعبد بالأهواء والبدع قال تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } وقال النبى صلى
____________________
(27/86)
الله عليه وآله وسلم أنه سيكون فى هذه الأمة قوم يعتدون فى الدعاء والطهور
وأما الرجل إذا اصابته نائبة أو خاف شيئا فإستغاث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع فهذا من الشرك وهو من جنس دين النصارى فإن الله هو الذى يصيب بالرحمة ويكشف الضر قال تعالى { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله } وقال تعالى { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده } وقال تعالى { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } فبين أن من يدعى من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا
فإذا قال قائل أنا أدعو الشيخ ليكون شفيعا لى فهو من جنس دعاء النصارى لمريم والأحبار والرهبان والمؤمن يرجو ربه ويخافه ويدعوه مخلصا له الدين وحق شيخه أن يدعو له ويترحم عليه فإن أعظم الخلق
____________________
(27/87)
قدرا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أعلم الناس بأمره وقدره وأطوع الناس له ولم يكن يأمر أحدا منهم عند الفزع والخوف أن يقول يا سيدى يا رسول الله ولم يكونوا يفعلون ذلك فى حياته ولا بعد مماته بل كان يأمرهم بذكر الله ودعائه والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } وفى صحيح البخارى عن بن عباس رضى الله عنهما أن هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين القى فى النار وقالها محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعني وأصحابه حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول عند الكرب ( لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش الكريم لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم ( وقد روى أنه علم نحو هذا الدعاء بعض أهل بيته وفى السنن أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا حزبه أمر قال ( يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث ( وروى أنه علم ابنته فاطمة أن تقول يا حى يا قيوم يا بديع السماوات والأرض لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث
____________________
(27/88)
اصلح لى شأني كله ولا تكلنى إلى نفسى طرفه عين ولا إلى أحد من خلقك (
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبى حاتم البستى عن إبن مسعود رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إنى عبدك وبن عبدك وبن أمتك ناصيتى بيدك ماض في حكمك عدل فى قضاؤك أسألك بكل إسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته فى كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو إستأثرت به فى علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبى ونور صدرى وجلاء حزنى وذهاب همى وغمى إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال ينبغى لمن سمعهن أن يتعلمهن ( وقال لأمته ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يخوف بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فإفزعوا إلى الصلاة وذكر الله والإستغفار ( فأمرهم عند الكسوف بالصلاة والدعاء والذكر والعتق والصدقة ولم يأمرهم أن يدعوا مخلوقا ولا ملكا ولا نبيا ولا غيرهم (
ومثل هذا كثير فى سنته لم يشرع للمسلمين عند الخوف إلا ما أمر الله به من دعاء الله وذكره والإستغفار والصلاة والصدقة
____________________
(27/89)
ونحو ذلك فكيف يعدل المؤمن بالله ورسوله عما شرع الله ورسوله إلى بدعة ما أنزل الله بها من سلطان تضاهى دين المشركين والنصارى
فإن زعم أحد أن حاجته قضيت بمثل ذلك وأنه مثل له شيخه ونحو ذلك فعباد الكواكب والأصنام ونحوهم من أهل الشرك يجرى لهم مثل هذا كما قد تواتر ذلك عمن مضى من المشركين وعن المشركين فى هذا الزمان فلو لا ذلك ما عبدت الأصنام ونحوها قال الخليل عليه السلام { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس }
ويقال إن أول ما ظهر الشرك فى أرض مكة بعد إبراهيم الخليل من جهة ( عمرو بن لحى الخزاعى ( الذى رآه النبى صلى الله عليه وآله وسلم يجر أمعاءه فى النار وهو أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم قالوا أنه ورد الشام فوجد فيها أصناما بالبلقاء يزعمون أنهم ينتفعون بها فى جلب منافعهم ودفع مضارهم فنقلها إلى مكة وسن للعرب الشرك وعبادة الأصنام
والأمور التى حرمها الله ورسوله من الشرك والسحر والقتل والزنا وشهادة الزور وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة أو دفع مضرة ولولا ذلك ما أقدمت النفوس على المحرمات التى لا خير فيها بحال وإنما يوقع النفوس فى المحرمات الجهل
____________________
(27/90)
أو الحاجة فأما العالم بقبح الشيء والنهى عنه فكيف يفعله والذين يفعلون هذه الأمور جميعها قد يكون عندهم جهل بما فيه من الفساد وقد تكون بهم حاجة إليها مثل الشهوة إليها وقد يكون فيها من الضرر أعظم مما فيها من اللذة ولا يعلمون ذلك لجهلهم أو تغلبهم أهواؤهم حتى يفعلوها والهوى غالبا يجعل صاحبه كانه لا يعلم من الحق شيئا فإن حبك للشيء يعمى ويصم
ولهذا كان العالم يخشى الله وقال أبوالعالية سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قول الله عز وجل { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } الآية فقالوا كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب وليس هذا موضع البسط لبيان ما في المنهيات من المفاسد الغالبة وما في المأمورات من المصالح الغالبة بل يكفى المؤمن أن يعلم أن ما أمر الله به فهو لمصلحة محضة أو غالبة وما نهى الله عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة وإن الله لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم ولا نهاهم عما نهاهم بخلابه عليهم بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم ولهذا وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }
وأما التمسح بالقبر أى قبر كان وتقبيله وتمريغ الخد عليه
____________________
(27/91)
فمنهى عنه بإتفاق المسلمين ولو كان ذلك من قبور الأنبياء ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها بل هذا من الشرك قال الله تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا } وقد تقدم إن هؤلاء أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح وأنهم عكفوا على قبورهم مدة ثم طال عليهم الأمد فصوروا تماثيلهم لا سيما إذا إقترن بذلك دعاء الميت والإستغاثة به وقد تقدم ذكر ذلك وبيان ما فيه من الشرك وبينا الفرق بين ( الزيارة البدعية ( التى تشبه أهلها بالنصارى ( والزيارة الشرعية (
وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم أو تقبيل الأرض ونحو ذلك فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة فى النهى عنه بل مجرد الإنحناء بالظهر لغير الله عز وجل منهى عنه ففى المسند وغيره ( أن معاذ بن جبل رضى الله عنه لما رجع من الشام سجد للنبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال ما هذا يا معاذ فقال يا رسول الله رأيتهم فى الشام يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم ويذكرون ذلك عن أنبيائهم فقال كذبوا يا معاذ لو كنت آمرا احدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها يا معاذ أرأيت أن مررت بقبرى أكنت ساجدا قال لا قال لا تفعل هذا ( أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
____________________
(27/92)
بل قد ثبت فى الصحيح من حديث جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه قاعدا من مرض كان به فصلوا قياما فأمرهم بالجلوس وقال ( لا تعظمونى كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا ( وقال من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ( فإذا كان قد نهاهم مع قعوده وإن كانوا قاموا فى الصلاة حتى لا يتشبهوا بمن يقومون لعظمائهم وبين أن من سره القيام له كان من أهل النار فكيف بما فيه من السجود له ومن وضع الرأس وتقبيل الأيادى وقد كان عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وهو خليفة الله على الأرض قد وكل أعوانا يمنعون الداخل من تقبيل الأرض ويؤدبهم إذا قبل أحد الأرض
وبالجملة فالقيام والقعود والركوع والسجود حق للواحد المعبود خالق السماوات والأرض وما كان حقا خالصا لله لم يكن لغيره فيه نصيب مثل الحلف بغير الله عز وجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ( متفق عليه وقال أيضا ( من حلف بغير الله فقد اشرك ( فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وإن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وإن تناصحوا من ولاه الله أمركم )
____________________
(27/93)
وإخلاص الدين لله هو أصل العبادة
ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشرك دقه وجله وحقيره وكبيره حتى أنه قد تواتر عنه أنه نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها بألفاظ متنوعة تارة يقول ( لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ( وتارة ينهى عن الصلاة بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس وتارة يذكر ان الشمس إذا طلعت طلعت بين قرنى شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ونهى عن الصلاة فى هذا الوقت لما فيه من مشابهة المشركين فى كونهم يسجدون للشمس فى هذا الوقت وإن الشيطان يقارن الشمس حينئذ ليكون السجود له فكيف بما هو أظهر شركا ومشابهة للمشركين من هذا وقد قال الله تعالى فيما امر رسوله أن يخاطب به اهل الكتاب { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } وذلك لما فيه من مشابهة أهل الكتاب من إتخاذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله ونحن منهيون عن مثل هذا ومن
____________________
(27/94)
عدل عن هدى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهدى أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى ما هو من جنس هدى النصارى فقد ترك ما أمر الله به ورسوله
وأما قول القائل إنقضت حاجتى ببركة الله وبركتك فمنكر من القول فإنه لا يقرن بالله فى مثل هذا غيره حتى أن قائلا قال للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله وشئت فقال ( أجعلتنى لله ندا بل ما شاء الله وحده ) وقال لأصحابه ( لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ( وفى الحديث أن بعض المسلمين رأى قائلا يقول نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون أى تجعلون لله ندا يعنى تقولون ماشاء الله وشاء محمد فنهاهم النبى صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وفى الصحيح عن زيد بن خالد قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر بالحديبية فى أثر سماء من الليل فقال ( أتدرون ماذا قال ربكم الليلة قلنا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بى مؤمن بالكوكب ( والأسباب التى جعلها الله أسبابا لا تجعل مع الله شركاء وأندادا وأعوانا
____________________
(27/95)
وقول القائل ببركة الشيخ قد يعنى بها دعاءه وأسرع الدعاء إجابه دعاء غائب لغائب وقد يعنى بها بركة ما امره به وعلمه من الخير وقد يعنى بها بركة معاونته له على الحق وموالاته فى الدين ونحو ذلك وهذه كلها معان صحيحة وقد يعنى بها دعاءه للميت والغائب إذ إستقلال الشيخ بذلك التأثير أو فعله لما هو عاجز عنه أو غير قادر عليه أو غير قاصد له متابعته أو مطاوعته على ذلك من البدع المنكرات ونحو هذه المعانى الباطلة والذى لا ريب فيه ان العمل بطاعة الله تعالى ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض ونحو ذلك هو نافع فى الدنيا والآخرة وذلك بفضل الله ورحمته
وأما سؤال السائل عن ( القطب الغوث الفرد الجامع ( فهذا قد يقوله طوائف من الناس ويفسرونه بأمور باطلة فى دين الإسلام مثل تفسير بعضهم أن الغوث هو الذى يكون مدد الخلائق بواسطته فى نصرهم ورزقهم حتى يقول إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته فهذا من جنس قول النصارى فى المسيح عليه السلام والغالية فى على رضى الله عنه وهذا كفر صريح يستتاب منه صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإنه ليس من المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون امداد الخلائق بواسطته ولهذا كان ما يقوله الفلاسفة فى ( العقول العشرة ( الذين يزعمون أنها الملائكة وما يقوله النصارى فى المسيح
____________________
(27/96)
ونحو ذلك كفر صريح بإتفاق المسلمين
وكذلك عنى بالغوث ما يقوله بعضهم من أن فى الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا يسمونهم ( النجباء ( فينتقى منهم سبعون هم ( النقباء ( ومنهم أربعون هم ( الإبدال ( ومنهم سبعة هم ( الأقطاب ( ومنهم أربعة هم ( الأوتاد ( ومنهم واحد هو ( الغوث ( وأنه مقيم بمكة وأن أهل الأرض إذا نابهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا إلى الثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وأولئك يفزعون إلى السبعين والسبعون إلى الأربعين والأربعون إلى السبعة والسبعة إلى الأربعة والأربعة إلى الواحد وبعضهم قد يزيد فى هذا وينقص فى الأعداد والأسماء والمراتب فإن لهم فيها مقالات متعددة حتى يقول بعضهم أنه ينزل من السماء على الكعبة ورقة خضراء بإسم غوث الوقت وإسم خضره على قول من يقول منهم إن الخضر هو مرتبة وإن لكل زمان خضرا فإن لهم فى ذلك قولين وهذا كله باطل لا أصل له فى كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا من المشايخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للإقتداء بهم ومعلوم أن سيدنا رسول رب العالمين وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضى الله عنهم كانوا خير الخلق فى زمنهم وكانوا بالمدينة ولم يكونوا بمكة وقد روى بعضهم حديثا فى ( هلال ( غلام المغيرة بن شعبة
____________________
(27/97)
وأنه أحد السبعة والحديث باطل بإتفاق أهل المعرفة وإن كان قد روى بعض هذه الأحاديث أبو نعيم فى ( حلية الأولياء ( والشيخ أبو عبد الرحمن السلمى فى بعض مصنفاته فلا تغتر بذلك فإن فيه الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والمكذوب الذى لا خلاف بين العلماء فى أنه كذب موضوع وتارة يرويه على عادة بعض أهل الحديث الذين يروون ما سمعوا ولا يميزون بين صحيحة وباطله وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث لما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم انه قال ( من حدث عنى بحديث وهو يرى أنه كذب فهو احد الكاذبين (
وبالجملة فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل فى الرغبة والرهبة مثل دعائهم عند الإستسقاء لنزول الرزق ودعائهم عند الكسوف والإعتداد لرفع البلاء وأمثال ذلك إنما يدعون فى ذلك الله وحده لا شريك له لا يشركون به شيئا لم يكن للمسلمين قط أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله عز وجل بل كان المشركون فى جاهليتهم يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله افتراهم بعد التوحيد والإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التى ما أنزل الله بها من سلطان قال تعالى { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } وقال تعالى
____________________
(27/98)
{ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } وقال تعالى { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون } وقال { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون }
والنبى صلى الله عليه وآله وسلم إستسقى لأصحابه بصلاة وبغير صلاة وصلى بهم للإستسقاء وصلاة الكسوف وكان يقنت فى صلاته فيستنصر على المشركين وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده وكذلك أئمة الدين ومشايخ المسلمين وما زالوا على هذه الطريقة
ولهذا يقال ثلاثة أشياء مالها من اصل ( باب النصيرية ( و ( منتظر الرافضة ( و ( غوث الجهال ( فإن النصيرية تدعى فى الباب الذى لهم ما هو من هذا الجنس أنه الذى يقيم العالم فذاك شخصه موجود ولكن دعوى النصيرية فيه باطلة وأما محمد بن الحسن المنتظر والغوث المقيم بمكة ونحو هذا فإنه باطل ليس له وجود
وكذلك ما يزعمه بعضهم من ان القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم ونحو هذا فهذا باطل فأبوبكر وعمر
____________________
(27/99)
رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله ولا يمدانهم فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء وهو الغرة والتحجيل ومن هؤلاء من أولياء الله من لا يحصيه إلا الله عز وجل وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف اكثرهم بل قال الله تعالى { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } وموسى لم يكن يعرف الخضر والخضر لم يكن يعرف موسى بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر وإنى بأرضك السلام فقال له أنا موسى قال موسى بنى إسرائيل قال نعم وقد كان بلغه إسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه ومن قال أنه نقيب الأولياء أو أنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل
والصواب الذى عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان موجودا فى زمن النبى صلى الله عليه وآله وسلم لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره ولكان يكون فى مكة والمدينة ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم ولم يكن مختفيا عن خير أمة أخرجت للناس وهو
____________________
(27/100)
قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم
ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا فى دينهم ولا فى دنياهم فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبى الأمى صلى الله عليه وآله وسلم الذى علمهم الكتاب والحكمة وقال لهم نبيهم ( لو كان موسى حيا ثم إتبعتموه وتركتمونى لضللتم ( وعيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم فأى حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره والنبى صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بنزول عيسى من السماء وحضوره مع المسلمين وقال ( كيف تهلك أمة أنا فى أولها وعيسى فى آخرها ( فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لاعوامهم ولا خواصهم فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم وإذا كان الخضر حيا دائما فكيف لم يذكر النبى صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قط ولا أخبر به أمته ولا خلفاؤه الراشدون
وقول القائل أنه نقيب الأولياء فيقال له من ولاه النقابة وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيهم الخضر وعامة ما يحكى فى هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبنى على ظن رجل مثل شخص رأى رجلا ظن أنه الخضر
____________________
(27/101)
وقال أنه الخضر كما أن الرافضة ترى شخصا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعى ذلك وروى عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال وقد ذكر له الخضر من أحالك على غائب فما أنصفك وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان وقد بسطنا الكلام على هذا فى غير هذا الموضع
وأما أن قصد القائل بقوله ( القطب الغوث الفرد الجامع ( أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه فهذا ممكن لكن من الممكن ايضا أن يكون فى الزمان إثنان متساويان فى الفضل وثلاثة واربعة ولا يجزم بألا يكون فى كل زمان أفضل الناس إلا واحدا وقد تكون جماعة بعضهم أفضل من بعض من وجه دون وجه وتلك الوجوه إما متقاربة وإما متساوية
ثم إذا كان فى الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان فتسميته ( بالقطب الغوث الجامع ( بدعة ما أنزل الله بها من سلطان ولا تكلم بهذا أحد من سلف الأمة وأئمتها وما زال السلف يظنون فى بعض الناس أنه أفضل أو من أفضل أهل زمانه ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التى ما أنزل الله بها من سلطان لا سيما أن من المنتحلين لهذا الإسم من يدعى أن أول الأقطاب هو الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما ثم يتسلل الأمر إلى ما دونه إلى بعض مشايخ
____________________
(27/102)
المتأخرين وهذا لا يصح لا على مذهب أهل السنة ولا على مذهب الرافضة فأين ابو بكر وعمر وعثمان وعلى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والحسن عند وفاة النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان قد قارب سن التمييز والإحتلام
وقد حكى عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا أن القطب الفرد الغوث الجامع ( ينطبق علمه على علم الله تعالى وقدرته على قدرة الله تعالى فيعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر عليه الله وزعم أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان كذلك وإن هذا إنتقل عنه إلى الحسن وتسلسل إلى شيخه فبينت أن هذا كفر صريح وجهل قبيح وإن دعوى هذا فى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفر دع ما سواه وقد قال الله تعالى { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني } وقال تعالى { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } الآية وقال تعالى { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } الآية وقال تعالى { يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله } وقال تعالى { ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } وقال
____________________
(27/103)
تعالى { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين }
والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نطيع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وأمرنا أن نتبعه فقال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وأمرنا أن نعزره ونوقره وننصره وجعل له من الحقوق ما بينه فى كتابه وسنة رسوله حتى أوجب علينا أن يكون أحب الناس إلينا من أنفسنا وأهلينا فقال تعالى { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } وقال تعالى { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } وقال صلى الله عليه وآله وسلم ( والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ( وقال له عمر رضى الله عنه يا رسول الله لانت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسى فقال ( لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فلأنت أحب إلى من نفسى قال الآن يا عمر ( وقال ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن
____________________
(27/104)
يرجع فى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى فى النار (
وقد بين فى كتابه حقوقه التى لا تصلح إلا له وحقوق رسله وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض كما بسطنا الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع وذلك مثل قوله تعالى { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فالطاعة لله والرسول والخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فالإيتاء لله والرسول والرغبة لله وحده وقال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } لأن الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله وأما الحسب فهو لله وحده كما قال { وقالوا حسبنا الله } ولم يقل حسبنا الله ورسوله وقال تعالى { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أى يكفيك الله ويكفى من إتبعك من المؤمنين وهذا هو الصواب المقطوع به فى هذه الآية ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام حسبنا الله ونعم الوكيل والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
____________________
(27/105)
وسئل رحمه الله (
عن هؤلاء ( الزائرين قبور الأنبياء والصالحين ( كقبر الخليل وغيره فيأتون إلى الضريح ويقبلونه والقوام بذلك المكان أى من جاء يأتونه ويجيئون به إلى الضريح فيعلمونهم ذلك ويقرونهم عليه فهل هذا مما أمر الله تعالى به ورسوله أم لا وهل فى ذلك ثواب وأجر أم لا وهل هو من الدين الذى بعث الله سبحانه به رسوله أم لا وإذا لم يكن كذلك وكان أناس يعتقدون أن هذا من الدين ويفعلونه على هذا الوجه فهل يجب أن ينهوا عن ذلك أم لا وهل إستحب هذا أحد من الأئمة الأربعة أم لا وهل كانت الصحابة والتابعون يفعلون ذلك أم لا وإذا كان فى القوام أو غيرهم من يفعل ذلك أو يأمر به أو يقر عليه لأجل جعل يأخذه أو غير ذلك فهل يثاب ولى الأمر على منع هؤلاء أم لا وهل إذا لم ينتهوا عن ذلك فهل لولى الأمر أن يصرف عن الولاية من لم ينته منهم أم لا والكسب الذى يكسبه الناس من مثل هذا الأمر هل هو كسب طيب أو خبيث وهل يستحقون مثل هذا الكسب أم يؤخذ منهم ويصرف فى
____________________
(27/106)
مصالح المسلمين وهل يجوز أن يقام إلى جانب مسجد الخليل السماع الذى يسمونه النوبة الخليلية ( ويقام عند ذلك سماع يجتمعون له الفقراء وغيرهم وفيه الشبابة أم لا والذى يصفر بالشبابة مؤذن بالمكان المذكور هل يفسق أم لا وهل إذا لم ينته يصرفه ولى الأمر أم لا وإذا لم يستطع ولى الأمر أن يزيل ذلك فهل له ان ينقل هذه النوبة المذكورة إلى مكان لا يمكن الرقص فيه لضيق المكان أم لا
فأجاب رضى الله عنه الحمد لله رب العالمين لم يأمر الله ولا رسوله ولا أئمة المسلمين بتقبيل شيء من قبور الأنبياء والصالحين ولا التمسح به لا قبر نبينا ولا قبر الخليل ولا قبر غيرهما بل ولا بالتقبيل والإستلام لصخرة بيت المقدس ولا الركنين الشاميين من البيت العتيق بل إنما يستلم الركنان اليمانيان فقط اتباعا لسنة النبى فإنه لم يستلم الا اليمانيين ولم يقبل إلا الحجر الأسود وإتفقوا على أن الشاميين لا يستلمان ولا يقبلان
واتفقوا على أن اليمانيين يستلمان وإتفقوا على تقبيل الحجر الأسود
وتنازعوا فى تقبيل اليمانى على ثلاثة أقوال معروفة قيل
____________________
(27/107)
يقبل وقيل يستلم وتقبل اليد وقيل يستلم ولا تقبل اليد وهذا هو الصحيح فإن الثابت عن النبى أنه إستلمه ولم يقبله ولم يقبل يده لما إستلمه ولا أجر ولا ثواب فيما ليس بواجب ولا مستحب فإن الأجر والثواب إنما يكون على الأعمال الصالحة والأعمال الصالحة إما واجبة وإما مستحبة
فإذا كان الإستلام والتقبيل لهذه الأجسام ليس بواجب ولا مستحب لم يكن فى ذلك أجر ولا ثواب ومن إعتقد أنه يؤجر على ذلك ويثاب فهو جاهل ضال مخطئ كالذى يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا سجد لقبور الأنبياء والصالحين والذى يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا دعاهم من دون الله والذى يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا صور صورهم كما يفعل النصارى ودعا تلك الصور وسجد لها ونحو ذلك من البدع التى ليست واجبة ولا مستحبة بل هي إما كفر وإما جهل وضلال
وليس شيء من هذا من الدين الذى بعث الله به محمدا بإتفاق المسلمين ومن إعتقد أن هذا من الدين وفعله وجب أن ينهى عنه ولم يستحب هذا أحد من الأئمة الأربعة ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان
ومن أمر الناس بشيء من ذلك أو رغبهم فيه أو أعانهم عليه
____________________
(27/108)
من القوام أو غير القوام فإنه يجب نهيه عن ذلك ومنعه منه ويثاب ولى الأمر على منع هؤلاء ومن لم ينته عن ذلك فإنه يعزر تعزيرا يردعه وأقل ذلك أن يعزل عن القيامة ولا يترك من يأمر الناس بما ليس من دين المسلمين
والكسب الذى يكسب بمثل ذلك خبيث من جنس كسب الذين يكذبون على الله ورسوله ويأخذون على ذلك جعلا ومن جنس كسب سدنة الأصنام الذين يأمرون بالشرك ويأخذون على ذلك جعلا فإن هذه الأمور من جملة ما نهى عنه من أسباب الشرك ودواعيه وأجزائه وقد قال صلى الله عليه وسلم ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد ( رواه مالك فى الموطأ وغيره وقال ( لا تتخذوا قبرى عيدا ( وصلوا على حيثما كنتم ( فإن صلاتكم تبلغنى ( رواه أبوداود وغيره وفى الصحيحين عنه أنه قال ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفى الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وفى المسند وصحيح أبى حاتم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن من شرار الناس من
____________________
(27/109)
تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد ) والأحاديث والآثار فى ذلك كثيرة
ولهذا لم يكن الصحابة يسافرون إلى ( قبر الخليل ( ولا غيره من قبور الصالحين ولا سافروا إلى زيارة ( جبل طور سيناء ( وهو ( البقعة المباركة ( و ( الوادى المقدس ( الذى ذكره الله فى كتابه وكلم عليه كليمه موسى بل ولا كان النبى وأصحابه فى حياته وبعد مماته يزورون ( جبل حراء ( الذى نزل الوحى على رسول الله فيه ولم يكونوا يزورون بمكة غير المشاعر كالمسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة فى الحج وكذلك لم يكن أحد من أصحاب النبى يقصد الدعاء عند قبر أحد من الأنبياء لا قبر نبينا ولا قبر الخليل ولا غيرهما
ولهذا ذكر الأئمة كمالك وغيره أن هذا بدعة بل كانوا إذا أتوا إلى قبر النبى يسلمون عليه ويصلون عليه كما ذكر مالك فى الموطأ إن بن عمر كان إذا أتى قبر النبى صلى عليه وعلى أبى بكر وعمر وفى رواية عنه كان يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف
ومن إكتسب مالا خبيثا مثل هذا الذى يأمر الناس بالبدع
____________________
(27/110)
ويأخذ على ذلك جعلا فإنه لا يملكه فإذا تعذر رده على صاحبه فإن ولاة الأمور يأخذونه من هذا الذى أكل أموال الناس بالباطل وصد عن سبيل الله ويصرفها فى مصالح المسلمين التى يحبها الله ورسوله فيؤخذ المال الذى أنفق فى طاعة الشيطان فينفق فى طاعة الرحمن وأما السماع الذى يسمونه نوبة الخليل فبدعة باطلة لا أصل له ولم يكن الخليل يفعل شيئا من هذا ولا الصحابة لما فتحوا البلاد فعلوا عند الخليل شيئا من هذا ولا فعل شيئا من هذا رسول الله ولا خلفاؤه بل هذا إما أن يكون من أحداث النصارى فإنهم هم الذين نقبوا حجرة الخليل بعد أن كانت مسدودة لا يدخل أحد إليها وإما أن يكون من أحداث بعض جهال المسلمين ولا يجوز أن يقام هناك رقص ولا شبابة ولا ما يشبه ذلك بل يجب النهى عن ذلك ومن أصر على حضور ذلك من مؤذن وغيره قدح ذلك فى عدالته والله أعلم
____________________
(27/111)
( وسئل قدس الله روحه (
عن حكم قول بعض العلماء والفقراء إن الدعاء مستجاب عند قبور أربعة من أصحاب الأئمة الأربعة ( قبر الفندلاوى ( من أصحاب مالك و ( قبر البرهان البلخى ( من أصحاب أبى حنيفة و ( قبر الشيخ نصر المقدسى ( من أصحاب الشافعى ( و ( قبر الشيخ أبى الفرج ( من أصحاب أحمد رضى الله عنهم ومن إستقبل القبلة عند قبورهم ودعا استجيب له وقول بعض العلماء عن بعض المشائخ يوصيه إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه إستوحنى ينكشف عنك ما تجده من الشدة حيا كنت أو ميتا ومن قرأ آية الكرسى وإستقبل جهة الشيخ عبدالقادر الجيلانى وسلم عليه سبع مرات يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجته أو كان فى سماع فإنه يطيب ويكثر التواجد وقول الفقراء إن الله تعالى ينظر إلى الفقراء بتجليه عليهم فى ثلاثة مواطن عند مد السماط وعند قيامهم فى الإستغفار أو المجارات التى بينهم وعند السماع وما يفعله بعض المتعبدين من الدعاء عند قبر زكريا وقبر هود والصلاة عندهما والموقف بين شرقى رواق الجامع بباب الطهارة بدمشق
____________________
(27/112)
والدعاء عند المصحف العثمانى ومن ألصق ظهره الموجوع بالعمود الذى عند رأس قبر معاوية عند الشهداء بباب الصغير
فهل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت مخصوص أو مكان معين عند قبر نبى أو ولى أو يجوز أن يستغيث إلى الله تعالى فى الدعاء بنبى مرسل أو ملك مقرب أو بكلامه تعالى أو بالكعبة أو بالدعاء المشهور بإحتياط قاف أو بدعاء أم داود أو الخضر
وهل يجوز أن يقسم على الله تعالى فى السؤال بحق فلان بحرمة فلان بجاه المقربين بأقرب الخلق أو يقسم بأفعالهم وأعمالهم وهل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران وسرج لكونه رأى النبى فى المنام عنده أو يجوز تعظيم شجرة يوجد فيها خرق معلقة ويقال هذه مباركة يجتمع إليها الرجال الأولياء وهل يجوز تعظيم جبل أو زيارته أو زيارة ما فيه من المشاهد والآثار والدعاء فيها والصلاة كمغارة الدم وكهف آدم والآثار ومغارة الجوع وقبر شيث وهابيل ونوح وإلياس وحزقيل وشيبال الراعى وإبراهيم بن أدهم بجبلة وعش الغراب ببعلبك ومغارة الأربعين وحمام طبرية وزيارة عسقلان ومسجد صالح بعكا وهو مشهور بالحرمات والتعظيم والزيارات
____________________
(27/113)
وهل يجوز تحرى الدعاء عند القبور وأن تقبل أو يوقد عندها القناديل والسرج وهل يحصل للأموات بهذه الأفعال من الأحياء منفعة أو مضرة وهل الدعاء عند ( القدم النبوى ( بدار الحديث الأشرفية بدمشق وغيره وقدم موسى ومهد عيسى ومقام إبراهيم ورأس الحسين وصهيب الرومى وبلال الحبشى واويس القرنى وما أشبه ذلك كله فى سائر البلاد والقرى والسواحل والجبال والمشاهد والمساجد والجوامع
وكذلك قولهم الدعاء مستجاب عند برج ( باب كيسان ( بين بابى الصغير والشرقى مستدبرا له متوجها إلى القبلة والدعاء عند داخل باب الفرادين فهل ثبت شيء فى إجابة الأدعية فى هذه الأماكن أم لا وهل يجوز أن يستغاث بغير الله تعالى بأن يقول يا جاه محمد أو يا لست نفيسة أو يا سيدى أحمد أو إذا عثر أحد وتعسر أو قفز من مكان إلى مكان يقول يال على أو يال الشيخ فلان أم لا وهل تجوز النذور للأنبياء او للمشائخ مثل الشيخ جاكير أو أبى الوفاء أو نورالدين الشهيد أو غيرهم أم لا وكذلك هل تجوز النذور لقبور أحد من آل بيت النبوة ومدركه والأئمة الأربعة ومشايخ العراق والعجم ومصر والحجاز واليمن والهند والمغرب وجميع الأرض وجبل قان وغيرها أم لا
____________________
(27/114)
فأجاب ( الحمد لله رب العالمين أما قول القائل إن الدعاء مستجاب عند قبور المشايخ الأربعة المذكورين رضى الله عنهم فهو من جنس قول غيره قبر فلان هو الترياق المجرب ومن جنس ما يقوله أمثال هذا القائل من أن الدعاء مستجاب عند قبر فلان وفلان فإن كثيرا من الناس يقول مثل هذا القول عند بعض القبور ثم قد يكون ذلك القبر قد علم أنه قبر رجل صالح من الصحابة أو أهل البيت أو غيرهم من الصالحين وقد يكون نسبة ذلك القبر إلى ذلك كذبا أو مجهول الحال مثل أكثر ما يذكر من قبور الانبياء وقد يكون صحيحا والرجل ليس بصالح فإن هذه الأقسام موجودة فيمن يقول مثل هذا القول أو من يقول إن الدعاء مستجاب عند قبر بعينه وأنه استجيب له الدعاء عنده والحال أن ذاك إما قبر معروف بالفسق والإبتداع وأما قبر كافر كما رأينا من دعا فكشف له حال القبور فبهت لذلك ورأينا من ذلك أنواعا
وأصل هذا أن قول القائل إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين قول ليس له أصل فى كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة فى الدين كمالك والثوري والأوزاعى والليث بن سعد وأبى حنيفة والشافعى وأحمد بن حنبل وإسحاق
____________________
(27/115)
بن راهوية وأبى عبيدة ولا مشايخهم الذين يقتدى بهم كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبى سليمان الدارانى وأمثالهم
ولم يكن فى الصحابة والتابعين والأئمة والمشايخ المتقدمين من يقول أن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين لا مطلقا ولا معينا ولا فيهم من قال إن دعاء الإنسان عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من دعائه فى غير تلك البقعة ولا أن الصلاة فى تلك البقعة أفضل من الصلاة فى غيرها ولا فيهم من كان يتحرى الدعاء ولا الصلاة عند هذه القبور بل أفضل الخلق وسيدهم هو رسول الله وليس فى الأرض قبر إتفق الناس على أنه قبر نبى غير قبره وقد إختلفوا فى قبر الخليل وغيره وإتفق الأئمة على أنه يسلم عليه عند زيارته وعلى صاحبيه لما فى السنن عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( وهو حديث جيد وقد روى إبن أبى شيبة والدارقطنى عنه ( من سلم على عند قبرى سمعته ومن صلى على نائيا أبلغته ( وفى إسناده لين لكن له شواهد ثابتة فإن إبلاغ الصلاة والسلام عليه من البعد قد رواه أهل السنن من غير وجه كما فى السنن عنه أنه قال ( أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة
____________________
(27/116)
فإن صلاتكم معروضة على قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أى بليت فقال ( إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ( وفى النسائى وغيره عنه أنه قال ( إن الله وكل بقبرى ملائكة يبلغونى عن أمتى السلام ( ومع هذا لم يقل أحد منهم أن الدعاء مستجاب عند قبره ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجها إلى قبره بل نصوا على نقيض ذلك وإتفقوا كلهم على أنه لا يدعى مستقبل القبر
وتنازعوا فى السلام عليه فقال الأكثرون كمالك وأحمد وغيرهما يسلم عليه مستقبل القبر وهو الذى ذكره أصحاب الشافعى وأظنه منقولا عنه وقال أبوحنيفة وأصحابه بل يسلم عليه مستقبل القبلة بل نص أئمة السلف على أنه لا يوقف عنده للدعاء مطلقا كما ذكر ذلك إسماعيل بن إسحاق فى ( كتاب المبسوط ( وذكره القاضي عياض قال مالك لا أرى أن يقف عند قبر النبى ويدعو ولكن يسلم ويمضى وقال أيضا فى ( المبسوط ( لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبى فيصلى عليه ويدعو له ولأبى بكر وعمر فقيل له فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك فى اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا فى الجمعة أو فى اليوم المرة والمرتين أو
____________________
(27/117)
أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة فقال لم يبلغنى هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدتنا ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها انهم كانوا يفعلون ذلك إلا من جاء من سفر أو أراده قال بن القاسم رأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتو القبر وسلموا قال وذلك دأبى
فهذا مالك وهو أعلم أهل زمانه أى زمن تابع التابعين بالمدينة النبوية الذين كان أهلها فى زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أعلم الناس بما يشرع عند قبر النبى يكرهون الوقوف للدعاء بعد السلام عليه وبين أن المستحب هو الدعاء له ولصاحبيه وهو المشروع من الصلاة والسلام وإن ذلك أيضا لا يستحب لأهل المدينة كل وقت بل عند القدوم من سفر أو ارادته لأن ذلك تحية له والمحيا لا يقصد بيته كل وقت لتحيته بخلاف القادمين من السفر وقال مالك فى رواية أبى وهب إذا سلم على النبي يقف وجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده
وكره مالك أن يقال زرنا قبر النبى قال القاضي عياض كراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبى لقوله ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد إشتد غضب الله على قوم
____________________
(27/118)
إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( ينهى عن إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بفعل ذلك قطعا للذريعة وحسما للباب
قلت والأحاديث الكثيرة المروية فى زيارة قبره كلها ضعيفة بل موضوعة لم يرو الأئمة ولا أهل السنن المتبعة كسنن أبى داود والنسائى ونحوهما فيها شيئا ولكن جاء لفظ زيارة القبور فى غير هذا الحديث مثل قوله ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ( وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وأنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية ( ولكن صار لفظ ( زيارة القبور ( فى عرف كثير من المتأخرين يتناول ( الزيارة البدعية والزيارة الشرعية ( وأكثرهم لا يستعملونها إلا بالمعنى البدعى لا الشرعى فلهذا كره هذا الإطلاق
فأما ( الزيارة الشرعية ( فهي من جنس الصلاة على الميت يقصد بها الدعاء للميت كما يقصد بالصلاة عليه كما قال الله فى حق المنافقين { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } فلما نهى عن
____________________
(27/119)
الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم دل ذلك بطريق مفهوم الخطاب وعلة الحكم أن ذلك مشروع فى حق المؤمنين والقيام على قبره بعد الدفن هو من جنس الصلاة عليه قبل الدفن يراد به الدعاء له وهذا هو الذى مضت به السنة وإستحبه السلف عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين
وأما ( الزيارة البدعية ( فهي من جنس الشرك والذريعة إليه كما فعل اليهود والنصارى عند قبور الأنبياء والصالحين قال فى الأحاديث المستفيضة عنه فى الصحاح والسنن والمسانيد ( لعنة الله على اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ( وقال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وقال ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد ( وقال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( فإذا كان قد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد إمتنع أن يكون تحريها للدعاء مستحبا لأن المكان الذى يستحب فيه الدعاء يستحب فيه الصلاة لأن الدعاء عقب الصلاة أجوب وليس فى الشريعة مكان ينهى عن الصلاة عنده مع أنه يستحب الدعاء عنده وقد نص الأئمة كالشافعى وغيره على أن النهى عن ذلك معلل
____________________
(27/120)
بخوف الفتنة بالقبر لا بمجرد نجاسته كما يظن ذلك بعض الناس ولهذا كان السلف يأمرون بتسوية القبور وتعفية ما يفتتن به منها كما أمر عمر بن الخطاب بتعفية قبر دانيال لما ظهر بتستر فإنه كتب إليه أبوموسى يذكر أنه قد ظهر قبر دانيال وأنهم كانوا يستسقون به فكتب إليه عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا ثم يدفنه بالليل فى واحد منها ويعفيه لئلا يفتتن به الناس
والذى ذكرناه عن مالك وغيره من الأئمة كان معروفا عند السلف كما رواه أبو يعلى الموصلى فى ( مسنده ( وذكره الحافظ أبو عبد الله المقدسى فى ( مختاره ( عن على بن الحسين بن على بن أبى طالب المعروف بزين العابدين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبى فيدخل فيدعو فيها فنهاه فقال الا أحدثكم حديثا سمعته من أبى عن جدى عن رسول الله قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغنى أينما كنتم ( وهذا الحديث فى سنن أبى داود من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله ( لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبرى عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم ( وفى سنن سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرنى سهيل بن ابى سهيل قال رآنى الحسن بن
____________________
(27/121)
الحسين بن على بن أبى طالب عند القبر فنادانى وهو فى بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال مالى رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبى فقال إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال إن رسول الله قال ( لا تتخذوا بيتى عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء ( وقد بسط الكلام على هذا الأصل فى غير هذا الموضع
فإذا كان هذا هو المشروع فى قبر سيد ولد آدم وخير الخلق وأكرمهم على الله فكيف يقال فى قبر غيره وقد تواتر عن الصحابة أنهم كانوا إذا نزلت بهم الشدائد كحالهم فى الجدب والإستسقاء وعند القتال والإستنصار يدعون الله ويستغيثونه فى المساجد والبيوت ولم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبى ولا غيره من قبور الأنبياء والصالحين بل قد ثبت فى الصحيح أن عمر بن الخطاب قال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فإسقنا فيسقون فتوسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون به وهو أنهم كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته وهكذا توسلوا بدعاء العباس وشفاعته ولم يقصدوا الدعاء عند قبر
____________________
(27/122)
النبى ولا أقسموا على الله بشيء من مخلوقاته بل توسلوا إليه بما شرعه من الوسائل وهى الأعمال الصالحة ودعاء المؤمنين كما يتوسل العبد إلى الله بالإيمان بنبيه وبمحبته وموالاته والصلاة عليه والسلام وكما يتوسلون فى حياته بدعائه وشفاعته كذلك يتوسل الخلق فى الآخرة بدعائه وشفاعته ويتوسل بدعاء الصالحين كما قال النبى ( وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم وإستغفارهم (
ومن المعلوم بالإضطرار أن الدعاء عند القبور لوكان أفضل من الدعاء عند غيرها وهو أحب إلى الله وأجوب لكان السلف أعلم بذلك من الخلف وكانوا أسرع إليه فإنهم كانوا أعلم بما يحبه الله ويرضاه وأسبق إلى طاعته ورضاه ولكان النبى صلى الله عليه وسلم يبين ذلك ويرغب فيه فإنه أمر بكل معروف ونهى عن كل منكر وما ترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث أمته به ولا شيئا يبعد عن النار إلا وقد حذر أمته منه وقد ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا ينزوى عنها بعده إلا هالك فكيف وقد نهى عن هذا الجنس وحسم مادته بلعنه ونهيه عن إتخاذ القبور مساجد فنهى عن الصلاة لله مستقبلا لها وإن كان المصلى لا يعبد الموتى ولا يدعوهم كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب لأنها
____________________
(27/123)
وقت سجود المشركين للشمس وإن كان المصلى لا يسجد إلا لله سدا للذريعة فكيف إذا تحققت المفسدة بأن صار العبد يدعو الميت ويدعو به كما إذا تحققت المفسدة بالسجود للشمس وقت الطلوع ووقت الغروب
وقد كان أصل عبادة الأوثان من تعظيم القبور كما قال تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قال السلف كابن عباس وغيره كان هؤلاء قوما صالحين فى قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم
ثم من المعلوم أن بمقابر ( باب الصغير ( من الصحابة والتابعين وتابعيهم من هو أفضل من هؤلاء المشايخ الأربعة فكيف يعين هؤلاء للدعاء عند قبورهم دون من هو أفضل منهم ثم إن لكل شيخ من هؤلاء ونحوهم من يحبه ويعظمه بالدعاء دون الشيخ الآخر فهل أمر الله بالدعاء عند واحد دون غيره كما يفعل المشركون بهم الذين ضاهوا الذين { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }
____________________
(27/124)
فصل
وأما ما حكى عن بعض المشايخ من قوله إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه فإستوحنى فيكشف ما بك من الشدة حيا كنت أو ميتا فهذا الكلام ونحوه إما أن يكون كذبا من الناقل أو خطأ من القائل فإنه نقل لا يعرف صدقه عن قائل غير معصوم ومن ترك النقل المصدق عن القائل المعصوم وإتبع نقلا غير مصدق عن قائل غير معصوم فقد ضل ضلالا بعيدا ومن المعلوم أن الله لم يأمر بمثل هذا ولا رسله أمروا بذلك بل قال الله تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } ولم يقل إرغب إلى الأنبياء والملائكة وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } قالت طائفة من السلف كان أقوام يدعون العزير والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية
وهذا رسول الله لم يقل لأحد من أصحابه إذا
____________________
(27/125)
نزل بك حادث فاستوحنى بل قال لابن عمه عبد الله بن عباس وهو يوصيه ( إحفظ الله يحفظك إحفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا إستعنت فاستعن بالله (
وما يرويه بعض العامة من أنه قال ( إذا سألتم الله فإسألوه بجاهى فإن جاهى عند الله عظيم ( فهو حديث كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو فى شيء من كتب المسلمين المعتمدة فى الدين فإن كان للميت فضيلة فرسول الله أولى بكل فضيلة واصحابه من بعده وإن كان منفعة للحى بالميت فأصحابه أحق الناس إنتفاعا به حيا وميتا فعلم أن هذا من الضلال وإن كان بعض الشيوخ قال ذلك فهو خطأ منه والله يغفر له إن كان مجتهدا مخطئا وليس هو بنبى يجب إتباع قوله ولا معصوم فيما يأمر به وينهى عنه وقد قال الله تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }
فصل
وأما قول القائل من قرأ ( آية الكرسى ( واستقبل جهة الشيخ
____________________
(27/126)
عبدالقادر الجيلانى رضى الله عنه وسلم عليه وخطا سبع خطوات يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجته أو كان فى سماع فإنه يطيب ويكثر تواجده فهذا أمر القربة فيه شرك برب العالمين ولا ريب أن الشيخ عبدالقادر لم يقل هذا ولا أمر به ومن يقل مثل ذلك عنه فقد كذب عليه وإنما يحدث مثل هذه البدع أهل الغلو والشرك المشبهين للنصارى من أهل البدع الرافضة الغالية فى الأئمة ومن أشبههم من الغلاة فى المشائخ وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ( فإذا نهى عن إستقبال القبر فى الصلاة لله فكيف يجوز التوجه إليه والدعاء لغير الله مع بعد الدار وهل هذا إلا من جنس ما يفعله النصارى بعيسى وأمه وأحبارهم ورهبانهم فى اتخاذهم إياهم اربابا وآلهة يدعونهم ويستغيثونهم فى مطالبهم ويسألونهم ويسألون بهم فصل
وأما قول من قال إن الله ينظر إلى الفقراء فى ثلاثة مواطن عند الأكل والمناصفة والسماع فهذا القول روى نحوه عن بعض الشيوخ قال إن الله ينظر إليهم عند الأكل فإنهم يأكلون بايثار
____________________
(27/127)
وعند المجاراة فى العلم لأنهم يقصدون المناصحة وعند السماع لأنهم يسمعون لله أو كلاما يشبه هذا والأصل الجامع فى هذا أن من عمل عملا يحبه الله ورسوله وهو ما كان لله بإذن الله فإن الله يحبه وينظر إليه فيه نظر محبة والعمل الصالح هو الخالص الصواب فالخالص ما كان لله والصواب ما كان بأمر الله ولا ريب إن كل واحد من المواكلة والمخاطبة والإستماع منها ما يحبه الله ومنها مالا يحبه الله ومنها ما يشتمل على خير وشر وحق وباطل ومصلحة ومفسدة وحكم كل واحد بحسبه
فصل
وما يفعله بعض الناس من تحرى الصلاة والدعاء عند ما يقال أنه قبر نبى أو قبر أحد من الصحابة والقرابة أو ما يقرب من ذلك أو الصاق بدنه أو شيء من بدنه بالقبر أو بما يجاور القبر من عود وغيره كمن يتحرى الصلاة والدعاء فى قبلى شرقى جامع دمشق عند الموضع الذى يقال أنه قبر هود والذى عليه العلماء أنه قبر معاوية بن أبى سفيان أو عند المثال الخشب الذى يقال تحته رأس يحيى بن زكريا ونحو ذلك فهو مخطئ مبتدع مخالف للسنة فإن
____________________
(27/128)
الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس له مزية عند احد من سلف الأمة وأئمتها ولا كانوا يفعلون ذلك بل كانوا ينهون عن مثل ذلك كما نهاهم النبى عن اسباب ذلك ودواعيه وإن لم يقصدوا دعاء القبر والدعاء به فكيف إذا قصدوا ذلك فصل
وأما قوله هل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت معين أو مكان معين عند قبر نبى أو ولى فلا ريب أن الدعاء فى بعض الأوقات والأحوال أجوب منه فى بعض فالدعاء فى جوف الليل أجوب الأوقات كما ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير وفى رواية نصف الليل فيقول ( من يدعونى فأستجيب له من يسألنى فأعطيه من يستغفرنى فأغفر له حتى يطلع الفجر ( وفى حديث آخر ( أقرب ما يكون الرب من عبده فى جوف الليل الأخير ( والدعاء مستجاب عند نزول المطر وعند إلتحام الحرب وعند الأذان والإقامة وفى أدبار الصلوات وفى حال السجود ودعوة الصائم ودعوة المسافر ودعوة المظلوم وأمثالذلك فهذا كله مما جاءت به
____________________
(27/129)
الأحاديث المعروفة فى الصحاح والسنن والدعاء بالمشاعر كعرفة ومزدلفة ومنى والملتزم ونحو ذلك من مشاعر مكة والدعاء بالمساجد مطلقا وكلما فضل المسجد كالمساجد الثلاثة كانت الصلاة والدعاء فيه افضل
وأما الدعاء لأجل كون المكان فيه قبر نبى أو ولى فلم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها إن الدعاء فيه أفضل من غيره ولكن هذا مما إبتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين فاصله من دين المشركين لا من دين عباد الله المخلصين كإتخاذ القبور مساجد فإن هذا لم يستحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها ولكن إبتدعه بعض اهل القبلة مضاهاة لمن لعنهم رسول الله من اليهود والنصارى فصل
وأما قول السائل هل يجوز أن يستغيث إلى الله فى الدعاء بنبى مرسل أو ملك مقرب أو بكلامه تعالى أو بالكعبة أو بالدعاء المشهور بإحتياط قاف أو بدعاء أم داود أو الخضر أو يجوز أن يقسم على الله فى السؤال بحق فلان بحرمة فلان بجاه المقربين
____________________
(27/130)
بأقرب الخلق أو يقسم بأعمالهم وأفعالهم فيقال هذا السؤال فيه فصول متعددة فأما الأدعية التى جاءت بها السنة ففيها سؤال الله بأسمائه وصفاته والإستعاذة بكلامه كما فى الأدعية التى فى السنن مثل قوله ( اللهم إنى أسألك بأن لك الحمد أنت الله بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حى يا قيوم ( ومثل قوله ( اللهم إنى أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ( ومثل الدعاء الذى فى المسند ( اللهم إنى أسألك بكل إسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته فى كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو إستأثرت به فى علم الغيب عندك (
وأما الأدعية التى يدعو بها بعض العامة ويكتبها باعة الحروز من الطرقية التى فيها أسألك بإحتياط قاف وهو يوف المخاف والطور والعرش والكرسى وزمزم والمقام والبلد الحرام وأمثال هذه الأدعية فلا يؤثر منها شيء لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن أئمة المسلمين وليس لأحد أن يقسم بهذه بحال بل قد ثبت عن النبى أنه قال ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ( وقال ( من حلف بغير الله فقد أشرك ( فليس لأحد أن يقسم بالمخلوقات ألبتة وقد قال النبى
____________________
(27/131)
( ان من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ( لما قال أنس بن النضر اتكسر ثنية الربيع لا والذى بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع وكما قال البراء بن مالك أقسمت عليك أى رب إلا فعلت كذا وكذا ( وكلاهما كان ممن يبر الله قسمه
والعبد يسأل ربه بالأسباب التى تقتضى مطلوبه وهى الأعمال الصالحة التى وعد الثواب عليها ودعا عباده المؤمنين الذين وعد إجابتهم كما كان الصحابة يتوسلون إلى الله تعالى بنبيه ثم بعمه وغير عمه من صالحيهم يتوسلون بدعائه وشفاعته كما فى الصحيح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه إستسقى بالعباس فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فإسقنا فيسقون فتوسلوا بعد موته بالعباس كما كانوا يتوسلون به وهو توسلهم بدعائه وشفاعته ومن ذلك ما رواه أهل السنن وصححه الترمذى ( أن رجلا قال للنبى إدع الله أن يرد على بصرى فأمره أن يتوضأ ويصلى ركعتين ويقول اللهم إنى اسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة يا محمد يا رسول الله إنى أتوجه بك إلى ربى فى حاجتى ليقضيها اللهم فشفعه فى ( فهذا طلب من النبى وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبى له فى توجهه بنبيه إلى الله هو كتوسل غيره من الصحابة به إلى الله فإن
____________________
(27/132)
هذا التوجه والتوسل هو توجه وتوسل بدعائه وشفاعته
وأما قول القائل أسألك أو أقسم عليك بحق ملائكتك أو بحق أنبيائك أو بنبيك فلان أو برسولك فلان أو بالبيت الحرام أو بزمزم والمقام أو بالطور والبيت المعمور ونحو ذلك فهذا النوع من الدعاء لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا اصحابه ولا التابعين لهم بإحسان بل قد نص غير واحد من العلماء كأبى حنيفة وأصحابه كأبى يوسف وغيره من العلماء على أنه لا يجوز مثل هذا الدعاء فإنه أقسم على الله بمخلوق ولا يصح القسم بغير الله وإن سأله به على أنه سبب ووسيلة إلى قضاء حاجته
أما إذا سأل الله بالأعمال الصالحة وبدعاء نبيه والصالحين من عباده فالأعمال الصالحة سبب للإثابة والدعاء سبب للإجابة فسؤاله بذلك سؤال بما هو سبب لنيل المطلوب وهذا معنى ما يروى فى دعاء الخروج إلى الصلاة ( اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاى هذا ( وكذلك أهل الغار الذين دعوا الله بأعمالهم الصالحة فالتوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم وبطاعتهم كالصلاة والسلام عليهم ومحبتهم وموالاتهم أو بدعائهم وشفاعتهم وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضى حصول مطلوب العبد وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم وفضله عليهم وليس
____________________
(27/133)
فى ذلك ما يقتضى إجابة دعاء غيرهم إلا أن يكون بسبب منه إليهم كالإيمان بهم والطاعة لهم أو بسبب منهم إليه كدعائهم له وشفاعتهم فيه فهذان الشيئان يتوسل بهما
وأما الأقسام بالمخلوق فلا وما يذكره بعض العامة من قوله ( إذا سألتم الله فاسألوه بجاهى فإن جاهى عند الله عظيم ( حديث كذب موضوع فصل
وأما قول السائل هل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران لكون النبى صلى الله عليه وسلم رئي عنده فيقال بل تعظيم مثل هذه الأمكنة وإتخاذها مساجد ومزارات لأجل ذلك هو من أعمال أهل الكتاب الذين نهينا عن التشبه بهم فيها وقد ثبت أن عمر بن الخطاب كان فى السفر فرأى قوما يبتدرون مكانا فقال ما هذا فقالوا مكان صلى فيه رسول الله فقال ومكان صلى فيه رسول الله أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض وهذا قاله عمر بمحضر من الصحابة
ومن المعلوم أن النبى كان يصلى فى أسفاره
____________________
(27/134)
فى مواضع وكان المؤمنون يرونه فى المنام فى مواضع وما إتخذ السلف شيئا من ذلك مسجدا ولا مزارا ولو فتح هذا الباب لصار كثير من ديار المسلمين أو أكثرها مساجد ومزارات فإنهم لا يزالون يرون النبى فى المنام وقد جاء إلى بيوتهم ومنهم من يراه مرارا كثيرة وتخليق هذه الأمكنة بالزعفران بدعة مكروهة
وأما ما يزيده الكذابون على ذلك مثل أن يرى فى المكان أثر قدم فيقال هذا قدمه ونحو ذلك فهذا كله كذب والأقدام الحجارة التى ينقلها من ينقلها ويقول أنها موضع قدمه كذب مختلق ولو كانت حقا لسن للمسلمين أن يتخذوا ذلك مسجدا ومزارا بل لم يأمر الله أن يتخذ مقام نبى من الأنبياء مصلى إلا مقام إبراهيم بقوله ( وإتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( كما أنه لم يأمر بالإستلام والتقبيل لحجر من الحجارة إلا الحجر الأسود ولا بالصلاة إلى بيت إلا البيت الحرام ولا يجوز أن يقاس غير ذلك عليه بإتفاق المسلمين بل ذلك بمنزلة من جعل للناس حجا إلى غير البيت العتيق أو صيام شهر مفروض غير صيام شهر رمضان وأمثال ذلك
فصخرة بيت المقدس لا يسن إستلامها ولا تقبيلها بإتفاق المسلمين بل ليس للصلاة عندها والدعاء خصوصية على سائر بقاع المسجد والصلاة والدعاء فى قبلة المسجد الذى بناه عمر بن الخطاب للمسلمين
____________________
(27/135)
أفضل من الصلاة والدعاء عندها وعمر بن الخطاب لما فتح البلد قال لكعب الأحبار أين ترى أن أبنى مصلى المسلمين قال إبنه خلف الصخرة قال خالطتك يهودية يا بن اليهودية بل أبنيه أمامها فإن لنا صدور المساجد فبنى هذا المصلى الذى تسميه العامة ( الاقصى ( ولم يتمسح بالصخرة ولا قبلها ولا صلى عندها كيف وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه لما قبل الحجر الأسود قال والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك وكان عبد الله بن عمر إذا أتى المسجد الأقصى يصلى فيه ولا يأتى الصخرة وكذلك غيره من السلف وكذلك حجرة نبينا وحجرة الخليل وغيرهما من المدافن التى فيها نبى أو رجل صالح لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها بإتفاق الأئمة بل منهى عن ذلك وأما السجود لذلك فكفر وكذلك خطابه بمثل ما يخاطب به الرب مثل قول القائل إغفر لى ذنوبى أو انصرني على عدوى ونحو ذلك فصل
وأما الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها بعض العامة
____________________
(27/136)
أو يعلقون بها خرقا أو غير ذلك أو يأخذون ورقها يتبركون به أو يصلون عندها أو نحو ذلك فهذا كله من البدع المنكرة وهو من عمل أهل الجاهلية ومن أسباب الشرك بالله تعالى وقد كان للمشركين شجرة يعلقون بها أسلحتهم يسمونها ( ذات أنواط ( فقال بعض الناس يارسول الله إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال ( الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } أنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم وحتى لو أن أحدهم جامع أمرأته فى الطريق لفعلتموه ( وقد بلغ عمر بن الخطاب أن قوما يقصدون الصلاة عند ( الشجرة ( التى كانت تحتها بيعة الرضوان التى بايع النبى الناس تحتها فأمر بتلك الشجرة فقطعت وقد إتفق علماء الدين على أن من نذر عبادة فى بقعة من هذه البقاع لم يكن ذلك نذرا يجب الوفاء به ولا مزية للعبادة فيها فصل
وأصل هذا الباب أنه ليس فى شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة
____________________
(27/137)
الله فيها بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين ومشاعر الحج وأما المشاهد التى على القبور سواء جعلت مساجد أو لم تجعل أو المقامات التى تضاف إلى بعض الأنبياء او الصالحين أو المغارات والكهوف أو غير ذلك مثل ( الطور ) الذى كلم الله عليه موسى ومثل ( غار حراء ( الذى كان النبى صلى الله عليه وسلم يتحنث فيه قبل نزول الوحى عليه و ( الغار ( الذى ذكره الله فى قوله ( ثانى إثنين إذ هما فى الغار ( والغار الذى بجبل قاسيون بدمشق الذى يقال له ( مغارة الدم ( والمقامان اللذان بجانبيه الشرقى والغربى يقال لأحدهما ( مقام إبراهيم ( ويقال للآخر ( مقام عيسى ( وما أشبه هذه البقاع والمشاهد فى شرق الأرض وغربها فهذه لا يشرع السفر إليها لزيارتها ولو نذر ناذر السفر إليها لم يجب عليه الوفاء بنذره بإتفاق أئمة المسلمين بل قد ثبت فى الصحيحين عن النبى من حديث أبى هريرة وأبى سعيد وهو يروى عن غيرهما أنه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا (
وقد كان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لما فتحوا هذه البلاد بلاد الشام والعراق ومصر وخراسان والمغرب وغيرها لا يقصدون هذه البقاع ولا يزورونها ولا يقصدون الصلاة والدعاء فيها بل كانوا
____________________
(27/138)
مستمسكين بشريعة نبيهم يعمرون المساجد التى قال الله فيها { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } وقال { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله } وقال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } وقال تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وأمثال هذه النصوص وفى الصحيحين عن النبى أنه قال ( صلاة الرجل فى المسجد تفضل على صلاته فى بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة وذلك أن الرجل إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه كانت خطوتاه أحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة فإذا جلس ينتظر الصلاة كان فى صلاة ما دام ينتظر الصلاة فإذا قضى الصلاة فإن الملائكة تصلى على أحدهم ما دام فى مصلاه تقول اللهم إغفر له اللهم ارحمه
وقد تنازع المتأخرون فيمن سافر لزيارة قبر نبى أو نحو ذلك من المشاهد والمحققون منهم قالوا إن هذا سفر معصية ولا يقصر الصلاة فيه كما لا يقصر فى سفر المعصية كما ذكر ذلك إبن عقيل وغيره وكذلك ذكر أبو عبد الله بن بطة إن هذا من البدع المحدثة فى الإسلام بل نفس قصد هذه البقاع للصلاة فيها والدعاء ليس له أصل فى شريعة المسلمين ولم ينقل عن السابقين الأولين رضي الله
____________________
(27/139)
عنهم وأرضاهم أنهم كانوا يتحرون هذه البقاع للدعاء والصلاة بل لا يقصدون إلا مساجد الله بل المساجد المبنية على غير الوجه الشرعى لا يقصدونها أيضا كمسجد الضرار الذى قال الله فيه { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين }
بل المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين لا تجوز الصلاة فيها وبناؤها محرم كما قد نص على ذلك غير واحد من الأئمة لما إستفاض عن النبى فى الصحاح والسنن والمسانيد أنه قال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وقال فى مرض موته ( لعنة الله على اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا
وكانت ( حجرة النبى ( خارجة عن مسجده فلما كان فى إمرة الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بن عبد العزيز
____________________
(27/140)
عامله على المدينة النبوية أن يزيد فى المسجد فاشترى حجر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وكانت شرقى المسجد وقبلته فزادها فى المسجد فدخلت الحجرة إذ ذاك فى المسجد وبنوها مسنمة عن سمت القبلة لئلا يصلى أحد إليها
وكذلك ( قبر إبراهيم الخليل ( لما فتح المسلمون البلاد كان عليه السور السليمانى ولا يدخل إليه أحد ولا يصلى أحد عنده بل كان مصلى المسلمين بقرية الخليل بمسجد هناك وكان الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إلى أن نقب ذلك السور ثم جعل فيه باب ويقال أن النصارى هم نقبوه وجعلوه كنيسة ثم لما أخذ المسلمون منهم البلاد جعل ذلك مسجدا ولهذا كان العلماء الصالحون من المسلمين لا يصلون فى ذلك المكان هذا إذا كان القبر صحيحا فكيف وعامة القبور المنسوبة إلى الأنبياء كذب مثل القبر الذى يقال أنه ( قبر نوح ( فإنه كذب لا ريب فيه وإنما أظهره الجهال من مدة قريبة وكذلك قبر غيره فصل
وأما ( عسقلان ( فإنها كانت ثغرا من ثغور المسلمين كان صالحوا
____________________
(27/141)
المسلمين يقيمون بها لأجل الرباط فى سبيل الله وهكذا سائر البقاع التى مثل هذا الجنس مثل ( جبل لبنان ( و ( الأسكندرية ( ومثل ( عبادان ( ونحوها بأرض العراق ومثل ( قزوين ( ونحوها من البلاد التى كانت ثغورا فهذه كان الصالحون يقصدونها لأجل الرباط فى سبيل الله فإنه قد ثبت فى صحيح مسلم عن سلمان الفارسى عن النبى أنه قال ( رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا مات مجاهدا وأجرى عليه عمله وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان ( وفى سنن أبى داود وغيره عن عثمان عن النبى أنه قال ( رباط يوم فى سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ( وقال أبوهريرة لأن أرابط ليلة فى سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود
ولهذا قال العلماء أن الرباط بالثغور أفضل من المجاورة بالحرمين الشريفين لأن المرابطة من جنس الجهاد والمجاورة من جنس الحج وجنس الجهاد أفضل بإتفاق المسلمين من جنس الحج كما قال تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم }
____________________
(27/142)
فهذا هو الأصل فى تعظيم هذه الأمكنة
ثم من هذه الأمكنة ما سكنه بعد ذلك الكفار وأهل البدع والفجور ومنها ما خرب وصار ثغرا غير هذه الأمكنة والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان اهلها كفارا ثم تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها كما كانت مكة شرفها الله فى اول الأمر دار كفر وحرب وقال الله فيها { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك } ثم لما فتحها النبى صارت دارإسلام وهى فى نفسها أم القرى واحب الأرض إلى الله وكذلك الأرض المقدسة كان فيها الجبارون الذين ذكرهم الله تعالى كما قال تعالى { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } الآيات وقال تعالى لما أنجى موسى وقومه من الغرق { سأريكم دار الفاسقين } وكانت تلك الديار ديار
____________________
(27/143)
الفاسقين لما كان يسكنها إذ ذاك الفاسقون ثم لما سكنها الصالحون صارت دار الصالحين
وهذا أصل يجب أن يعرف فإن البلد قد تحمد أو تذم فى بعض الأوقات لحال أهله ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم إذ المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان قال الله تعالى { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } وقال النبى ( لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لابيض على أسود ولا لأسود على ابيض إلا بالتقوى الناس بنو آدم وآدم من تراب ( وكتب أبوالدرداء إلى سلمان الفارسى وكان النبى قد آخى بينهما لما آخى بين المهاجرين والأنصار وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق نائبا لعمر بن الخطاب أن هلم إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان أن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الرجل عمله
____________________
(27/144)
فصل
وقد تبين الجواب فى سائر المسائل المذكورة بأن قصد الصلاة والدعاء عند ما يقال أنه قدم نبى أو أثر نبى أو قبر نبى أو قبر بعض الصحابة أو بعض الشيوخ أو بعض أهل البيت أو الأبراج أو الغيران من البدع المحدثة المنكرة فى الإسلام لم يشرع ذلك رسول الله ولا كان السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان يفعلونه ولا إستحبه أحد من أئمة المسلمين بل هو من أسباب الشرك وذرائع الإفك والكلام على هذا مبسوط فى غير هذا الجواب فصل
وأما قول القائل إذا عثر يا جاه محمد يا للست نفيسة أو يا سيدى الشيخ فلان أو نحو ذلك مما فيه إستغاثته وسؤاله فهو من المحرمات وهو من جنس الشرك فإن الميت سواء كان نبيا أو غير نبى لا يدعى ولا يسأل ولا يستغاث به لا عند قبره ولا مع البعد من قبره بل هذا من جنس دين النصارى الذين { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } ومن جنس الذين قال فيهم
____________________
(27/145)
{ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } وقد قال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع فصل
وكذلك النذر للقبور أو لأحد من أهل القبور كالنذر لإبراهيم الخليل أو للشيخ فلان أو فلان أو لبعض أهل البيت أو غيرهم نذر معصية لا يجب الوفاء به بإتفاق أئمة الدين بل ولا يجوز الوفاء به فإنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ( وفى السنن عنه صلى الله عليه وسلم انه قال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( فقد لعن رسول الله من يبنى على القبور المساجد ويسرج فيها السرج
____________________
(27/146)
كالقناديل والشمع وغير ذلك وإذا كان هذا ملعونا فالذى يضع فيها قناديل الذهب والفضة وشمعدان الذهب والفضة ويضعها عند القبور أولى باللعنة فمن نذر زيتا أو شمعا أو ذهبا أو فضة أو سترا أو غير ذلك ليجعل عند قبر نبى من الأنبياء أو بعض الصحابة أو القرابة أو المشائخ فهو نذر معصية لا يجوز الوفاء به وهل عليه كفارة يمين فيه قولان للعلماء وأن تصدق بما نذره على من يستحق ذلك من أهل بيت النبى وغيرهم من الفقراء الصالحين كان خيرا له عند الله وانفع له فإن هذا عمل صالح يثيبه الله عليه فإن الله يجزى المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين والمتصدق يتصدق لوجه الله ولا يطلب أجره من المخلوقين بل من الله تعالى كما قال تعالى { وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى } وقال تعالى { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة } الآية وقال عن عبادة الصالحين { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا }
ولهذا لا ينبغى لأحد أن يسأل بغير الله مثل الذى يقول كرامة لابى بكر ولعلى أو للشيخ فلان أو الشيخ فلان بل لا يعطى إلا من سأل
____________________
(27/147)
لله وليس لأحد أن يسأل لغير الله فإن إخلاص الدين لله واجب فى جميع العبادات البدنية والمالية كالصلاة والصدقة والصيام والحج فلا يصلح الركوع والسجود إلا لله ولا الصيام إلا لله ولا الحج إلا إلى بيت الله ولا الدعاء إلا لله قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وقال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين }
وهذا هو اصل الإسلام وهو أن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع كما قال تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } وقال تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال الفضيل بن عياض أخلصه وأصوبه قالوا يا ابا على ما اخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة والكتاب
هذا كله لأن دين الله بلغه عنه رسوله فلا حرام إلا ما حرمه الله ولا دين إلا ما شرعه الله والله تعالى ذم المشركين لأنهم شرعوا
____________________
(27/148)
فى الدين مالم يأذن به الله فحرموا أشياء لم يحرمها الله كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام وشرعوا دينا لم يأذن به الله كدعاء غيره وعبادته والرهبانية التى إبتدعها النصارى
والإسلام دين الرسل كلهم أولهم وآخرهم وكلهم بعثوا بالإسلام كما قال نوح عليه السلام { يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال تعالى { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقال تعالى { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون }
وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد ( فدين الرسل كلهم دين واحد وهو دين الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما امر به وشرعه
____________________
(27/149)
كما قال { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وإنما يتنوع فى هذا الدين الشرعة والمنهاج كما قال { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } كما تتنوع شريعة الرسول الواحد فقد كان الله أمر محمدا صلى الله عليه وسلم فى أول الإسلام أن يصلى إلى بيت المقدس ثم أمره فى السنة الثانية من الهجرة أن يصلى إلى الكعبة البيت الحرام وهذا فى وقته كان من دين الإسلام وكذلك شريعة التوراة فى وقتها كانت من دين الإسلام وشريعة الإنجيل فى وقته كانت من دين الإسلام ومن آمن بالتوراة ثم كذب بالإنجيل خرج من دين الإسلام وكان كافرا وكذلك من آمن بالكتابين المتقدمين وكذب بالقرآن كان كافرا خارجا من دين الإسلام فإن دين الإسلام يتضمن الإيمان بجميع الكتب وجميع الرسل كما قال تعالى { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } الآية
____________________
(27/150)
ما قول السادة العلماء أئمة الدين
فى من ينزل بة حاجة من أمر الدنيا أو الاخرة ثم ياتى قبر بعض الانبياء أو غيره من الصلحاء ثم يدعو عنده فى كشف كربته فهل ذلك سنة أم بدعة وهل هو مشروع أم لا فان كان ما هو مشروع فقد تقضى حوائجهم بعض الاوقات فهل يسوغ لهم ان يفعلوا ذلك وما العلة فى قضاء حوائجهم أفتونا
فأجاب ( شيخ الإسلام رحمه الله الحمد لله رب العالمين ليس ذلك سنة بل هو بدعة لم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من اصحابه ولا من أئمة الدين الذين يقتدى بهم المسلمون فى دينهم ولا أمر بذلك ولا إستحبه لا رسول الله ولا أحد من أصحابه ولا أئمة الدين بل لا يعرف هذا عن أحد من أهل العلم والدين من القرون المفضلة التى أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم لا من أهل الحجاز ولا من اليمن ولا الشام ولا العراق ولا مصر ولا المغرب ولا خراسان وإنما أحدث بعد ذلك
____________________
(27/151)
ومعلوم أن كلما لم يسنه ولا إستحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم المسلمون فى دينهم فإنه يكون من البدع المنكرات ولا يقول أحد فى مثل هذا إنه بدعة حسنة إذا البدعة الحسنة عند من يقسم البدع إلى حسنة وسيئة لابد أن يستحبها أحد من أهل العلم الذين يقتدى بهم ويقوم دليل شرعى على إستحبابها وكذلك من يقول البدعة الشرعية كلها مذمومة لقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ( كل بدعة ضلالة ( ويقول قول عمر فى التراويح ( نعمت البدعة هذه ( إنما أسماها بدعة بإعتبار وضع اللغة فالبدعة فى الشرع عند هؤلاء ما لم يقم دليل شرعى على إستحبابه ومآل القولين واحد إذ هم متفقون على أن مالم يستحب أو يجب من الشرع فليس بواجب ولا مستحب فمن إتخذ عملا من الأعمال عبادة ودينا وليس ذلك فى الشريعة واجبا ولا مستحبا فهو ضال بإتفاق المسلمين
وقصد القبور لأجل الدعاء عندها رجاء الإجابة هو من هذا الباب فإنه ليس من الشريعة لا واجبا ولا مستحبا فلا يكون دينا ولا حسنا ولا طاعة لله ولا مما يحبه الله ويرضاه ولا يكون عملا صالحا ولا قربة ومن جعله من هذا الباب فهو ضال باتفاق المسلمين
____________________
(27/152)
ولهذا كان اصحاب رسول الله إذا نزلت بهم الشدائد وأرادوا دعاء الله لكشف الضر أو طلب الرحمة لا يقصدون شيئا من القبور لا قبور الأنبياء ولا غير الأنبياء حتى أنهم لم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبى بل قد ثبت فى ( صحيح البخارى عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا إستسقى بالعباس بن عبد المطلب قال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فإسقنا فيسقون وفى صحيح البخارى عن عبد الله بن دينار قال سمعت بن عمر يتمثل بشعر أبى طالب ** وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل ** وفيه
عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابيه قال ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبى صلى الله عليه وسلم يستسقى فما ينزل حتى يجيش له ميزاب ** وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل ** وهو
قول أبى طالب وكذلك معاوية بالشام إستسقوا بيزيد بن الأسود الجرشى
وكانوا فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم يأتون إليه ويطلبون
____________________
(27/153)
منه الدعاء يتوسلون به ويستشفعون به إلى الله كما أن الخلائق يوم القيامة يأتون إليه يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله ثم لما مات وأصابهم الجدب عام الرمادة فى خلافة عمر وكانت شدة عظيمة أخذوا العباس فتوسلوا به وإستسقوا به بدلا عن النبى ولم يأتوا إلى قبر النبى يدعون عنده ولا إستسقوا به ولا توسلوا به وكذلك فى الشام لم يذهبوا إلى ما فيها من القبور بل إستسقوا بمن فيهم من الصالحين ومعلوم أنه لو كان الدعاء عند القبور والتوسل بالأموات مما يستحب لهم لكان التوسل بالنبى أفضل من التوسل بالعباس وغيره
وقد كانوا يستسقون على ( ثلاثة أوجه ( تارة يدعون عقب الصلوات وتارة يخرجون إلى المصلى فيدعون من غير صلاة وتارة يصلون ويدعون والوجهان الأولان مشروعان بإتفاق الأمة والوجه الثالث مشروع عند الجمهور كمالك والشافعى وأحمد ولم يعرفه أبوحنيفة
وقد أمروا فى الإستسقاء بأن يستسقوا بأهل الصلاح لا سيما بأقارب النبى كما فعل الصحابة وأمروا بالصلاة على النبى فيه ولم يأمر أحد منهم بالإستسقاء عند شيء من قبور الأنبياء ولا غير الأنبياء ولا الإستعانة
____________________
(27/154)
بميت والتوسل به ونحو ذلك مما يظنه بعض الناس دينا وقربة وهذا فيه دلالة للمؤمن على أن هذه محدثات لم تكن عند الصحابة من المعروف بل من المنكر فصل
وهذا كاف لو لم يرد عن النبى وأصحابه من النهى ما يدل على النهى عن ذلك كيف وسنته المتواترة تدل على النهى عن ذلك مثلما فى الصحيحين عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه الذى لم يقم منه لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشى أو خشى أن يتخذ مسجدا وهذا بعض الفاظ البخارى وفى الصحيحين أيضا عن عائشة قالت لما كان مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها ( مارية ( وذكرن من حسنها وتصاوير فيها فرفع النبى رأسه وقال ( إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله
____________________
(27/155)
وهذا المعنى مستفيض عنه فى الصحاح والسنن والمسانيد من غير وجه وفى صحيح مسلم عن جندب ان النبى صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور أو قال قبور انبيائهم مساجد الا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى انهاكم عن ذلك ( وفيه ( لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لإتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله ( وهذا المعنى فى الصحيحين من وجوه وفيه ( لا يبقين فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر بين هذين الأمرين اللذين تواترا عنه وجمع بينهما قبل موته بخمسة ايام من ذكر فضل أبى بكر الصديق ومن نهيه عن إتخاذ القبور مساجد فبهما حسم مادة الشرك التى أفسد بها الدين وظهر بها دين المشركين فإن الله قال فى كتابه عن قوم نوح { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا }
وقد روى البخارى فى صحيحه بإسناده عن إبن عباس قال صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح فى العرب تعبد أما ( ود ( فكانت لكلب بدومة الجندل وأما ( سواع ( فكانت لهذيل واما ( يغوث ( فكانت لمراد ثم لبنى غطيف بالجرف عند سبأ وأما ( يعوق ( فكانت لهمدان وأما ( نسر ( فكانت لحمير لآل ذى
____________________
(27/156)
الكلاع وكانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون فيها انصابا وسموها باسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت
وقد ذكر قريبا من هذا المعنى طوائف من السلف فى ( كتب التفسير ( و ( قصص الأنبياء ( وغيرها أن هؤلاء كانوا قوما صالحين ثم منهم من ذكر أنهم كانوا يعكفون على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ومنهم من ذكر أنهم كانوا يصحبون تماثيلهم معهم فى السفر يدعون عندها ولا يعبدونها ثم بعد ذلك عبدت الأوثان
ولهذا جمع النبى بين القبور والصور فى غير حديث كما فى صحيح مسلم عن أبى الهياج الأسدى قال قال لى على بن أبى طالب ألا أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله ( أمرنى أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته ( فأمره بمحو الصور وتسوية القبور كما قال فى الحديث الآخر الصحيح ( إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة (
والأحاديث عن النبى فى النهى عن إتخاذ
____________________
(27/157)
القبور مساجد والصلاة فى المقبرة كثيرة جدا مثل ما فى الصحيحين والسنن عن ابى هريرة أن رسول الله قال ( قاتل الله اليهود إتخذوا قبور انبيائهم مساجد ( وعن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله يقول ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم احياء ومن يتخذ القبور مساجد ( رواه احمد فى المسند وأبو حاتم بن حبان فى صحيحه وعن إبن عباس قال ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( رواه احمد فى المسند وأهل السنن الأربعة وأبو حاتم بن حبان فى صحيحه
وروى ايضا فى صحيحه عن عائشة قالت قال رسول الله ( لعن الله من إتخذوا قبور انبيائهم مساجد ( وفى الصحيحين عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اجعلوا من صلاتكم فى بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ) وفى صحيح مسلم عن ابى مرثد الغنوى أن النبى قال ( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ( وعن عبد الله بن عمرو قال نهى رسول الله عن ( الصلاة فى المقبرة ( رواه ابو حاتم فى صحيحه وروى أيضا عن أنس ( أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى بين القبور ( وعن ابى سعيد أن النبى قال
____________________
(27/158)
الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ( رواه احمد وأهل الكتب الأربعة وإبن حبان فى صحيحه وقال الترمذى فيه إضطراب لأن سفيان الثورى أرسله لكن غير الترمذى جزم بصحته لأن غيره من الثقات أسندوه وقد صححه إبن حزم أيضا وفى سنن أبى داود عن على قال ( إن خليلى نهانى أن اصلى فى المقبرة ونهانى أن اصلى فى ارض بابل ( والآثار فى ذلك كثيرة جدا
وقد ظن طائفة من أهل العلم أن الصلاة فى المقبرة نهى عنها من اجل النجاسة لإختلاط تربتها بصديد الموتى ولحومهم وهؤلاء قد يفرقون بين المقبرة الجديدة والقديمة وبين ان يكون هناك حائل أو لا يكون والتعليل بهذا ليس مذكورا فى الحديث ولم يدل عليه الحديث لا نصا ولا ظاهرا وإنما هي علة ظنوها والعلة الصحيحة عند غيرهم ما ذكره غير واحد من العلماء من السلف والخلف فى زمن مالك والشافعى وأحمد وغيرهم إنما هو ما فى ذلك من التشبة بالمشركين وان تصير ذريعة إلى الشرك ولهذا نهى عن إتخاذ قبور الأنبياء مساجد وقال ( إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير
) وقال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد الا فلا تتخذوا القبور مساجد ( ونهى عن الصلاة إليها
____________________
(27/159)
ومعلوم أن النهى لو لم يكن إلا لأجل النجاسة فمقابر الأنبياء لاتنتن بل الأنبياء لا يبلون وتراب قبورهم طاهر والنجاسة أمام المصلى لا تبطل صلاته والذين كانوا يتخذون القبور مساجد كانوا يفرشون عند القبور المفارش الطاهرة فلا يلاقون النجاسة ومع أن الذين يعللون بالنجاسة لا ينفون هذه العلة بل قد ذكر الشافعى وغيره النهى عن إتخاذ المساجد على القبور وعلل ذلك بخشية التشبه بذلك وقد نص على النهى عن بناء المساجد على القبور غير واحد من علماء المذاهب من اصحاب مالك والشافعى وأحمد ومن فقهاء الكوفة ايضا وصرح غير واحد منهم بتحريم ذلك وهذا لا ريب فيه بعد لعن النبى ومبالغته فى النهى عن ذلك
وإتخاذها مساجد يتناول شيئين ان يبنى عليها مسجدا أو يصلى عندها من غير بناء وهو الذى خافه هو وخافته الصحابة إذا دفنوه بارزا خافوا أن يصلى عنده فيتخذ قبره مسجدا وفى موطأ مالك عنه أنه قال ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد ( روى ذلك مسندا ومرسلا وفى سنن أبى داود أنه قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغنى ( وما يرويه بعض الناس أنه صلى بمسجد الخليل أو صلى عند قبر الخليل فإن هذا الحديث غير ثابت عند
____________________
(27/160)
أهل العلم وإن كان قد ذكر ذلك طائفة توصف بالصلاح بل الذى فى الصحيحين أنه صلى فى بيت المقدس وهذا باب واسع فمن المعلوم أنه لو كان الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من الدعاء عند غيرها لكان ينبغى أن تستحب الصلاة فى تلك البقاع وإتخاذها مساجد فإن الصلاة مقرونة بالدعاء ولهذا لا يقول مسلم أن الموضع الذى ينهى عن الصلاة فيه كأعطان الإبل أو المقبرة والمواضع النجسة يكون الدعاء فيه أفضل من الدعاء فى غيره بل من قال ذلك فقد راغم الرسول وجعل ما نهى عنه من الشرك وأسباب الشرك مماثلا أو مفضلا على ما أمر به من التوحيد وعبادة الله وحده
ومن هنا أدخل أهل النفاق فى الإسلام ما أدخلوه فإن الذى إبتدع دين الرافضة كان زنديقا يهوديا أظهر الإسلام وأبطن الكفر ليحتال فى افساد دين المسلمين كما إحتال ( بولص ( فى إفساد دين النصارى سعى فى الفتنة بين المسلمين حتى قتل عثمان وفى المؤمنين من يستجيب للمنافقين كما قال تعالى { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } ثم إنه لما تفرقت الأمة إبتدع ما أدعاه فى الإمامة من النص والعصمة وأظهر التكلم فى أبى بكر وعمر وصادف ذلك قلوبا فيها جهل وظلم وإن لم تكن كافرة فظهرت بدعة التشيع التى هي مفتاح باب الشرك
____________________
(27/161)
ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف المعصوم
ورووا فى إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب حتى صنف كبيرهم إبن النعمان كتابا فى ( مناسك حج المشاهد ( وكذبوا فيه على النبى وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه وغيروا ملته وإبتدعوا الشرك المنافى للتوحيد فصاروا جامعين بين الشرك والكذب كما قرن الله بينهما فى غير موضع كقوله { واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به } وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين ثم قرأ هذه الآية ( وقال تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } وقال تعالى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون }
وهذا الحق لله كما ثبت عنه فى الصحيح أنه قال لمعاذ بن جبل يا معاذ اتدرى ما حق الله على عباده قال الله ورسوله أعلم قال حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدرى ما
____________________
(27/162)
حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قال الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم ( وقال تعالى { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون } ومثل هذا فى القرآن متعدد يصف أهل الشرك بالفرية ولهذا طالبهم بالبرهان والسلطان كما فى قوله { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } وفى قوله { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } وقال { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } وقوله تعالى { ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } لأن التوحيد هو دين الله الذى بعث به الأولين والآخرين كما قال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }
____________________
(27/163)
وقال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (
ولهذا كان المتخذون القبور مساجد لما كان فيهم من الشرك ما فيهم قد فرقوا دينهم وكانوا شيعا فتجد كل قوم يعظمون متبوعهم أو نبيهم ويقولون الدعاء عند قبره يستجاب وقلوبهم معلقه به دون غيره من قبور الأنبياء والصالحين وإن كان أفضل منه كما ان عباد الكواكب والأصنام كل منهم قد إتخذ إلهه هواه فهو يعبد ما يألهه وإن كان غيره أفضل منه
ثم إنهم يسمون ذلك ( زيارة ( وهو إسم شرعى وضعوه على غير موضعه ومعلوم أن ( الزيارة الشرعية ( التى سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته تتضمن السلام على الميت والدعاء له بمنزلة الصلاة على جنازته فالمصلى على الجنازة قصده الدعاء للميت والله تعالى يرحم الميت بدعائه ويثيبه هو على صلاته كذلك الذى يزور القبور على الوجه المشروع فيسلم عليهم ويدعو لهم يرحمون بدعائه
____________________
(27/164)
ويثاب هو على إحسانه إليهم وأين قصد النفع للميت من قصد الشرك به ففى صحيح مسلم عن بريدة قال ( كان رسول الله يعلمهم إذا خرجوا للمقابر أن يقول قائلهم السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون انتم لنا فرط ونحن لكم تبع نسأل الله لنا ولكم العافية ( وفى صحيح مسلم عن عائشة قلت كيف أقول يا رسول الله قال ( قولى السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون (
وتجوز زيارة قبر الكافر لأجل الإعتبار دون الإستغفار له كما فى الصحيحين عن ابى هريرة قال ( إن النبى زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ( وقال إستأذنت ربى أن استغفر لها فلم يأذن لى وإستأذنته فى ان ازورها فأذن لى فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ( وقد ثبت عنه فى الصحيح من حديث انس قال ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (
وأما زيارة القبور لأجل الدعاء عندها او التوسل بها أو الإستشفاع بها فهذا لم تأت به الشريعة اصلا وكل ما يروى فى هذا الباب مثل قوله ( من زارنى وزار قبر أبى فى عام واحد ضمنت له على الله الجنة ( و ( من حج ولم يزرنى فقد جفانى ( و ( من
____________________
(27/165)
زارنى بعد مماتى فكأنما زارنى فى حياتى ( فهي أحاديث ضعيفة بل موضوعة لم يرو أهل الصحاح والسنن المشهورة والمسانيد منها شيئا وغاية ما يعزى مثل ذلك إلى كتاب الدارقطنى وهو قصد به غرائب السنن ولهذا يروى فيه من الضعيف والموضوع مالا يرويه غيره وقد إتفق أهل العلم بالحديث على أن مجرد العزو إليه لا يبيح الإعتماد عليه ومن كتب من أهل العلم بالحديث فيما يروى فى ذلك يبين أنه ليس فيها حديث صحيح
بل قد كره مالك وغيره أن يقال زرت قبر النبى صلى الله عليه وسلم ومالك أعلم الناس بهذا الباب فإن أهل المدينة أعلم أهل الأمصار بذلك ومالك إمام أهل المدينة فلو كان فى هذا سنة عن رسول الله فيها لفظ ( زيارة قبره ( لم يخف ذلك على علماء اهل مدينته وجيران قبره بأبى هو وأمى
ولهذا كانت السنة عند الصحابة وأئمة المسلمين إذا سلم العبد على النبى صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أن يدعو الله مستقبل القبلة ولا يدعو مستقبل الحجرة والحكاية التى تروى فى خلاف ذلك عن مالك مع المنصور باطلة لا أصل لها ولم أعلم الأئمة تنازعوا فى أن السنة إستقبال القبلة وقت الدعاء لا إستقبال القبر النبوى وإنما تنازعوا وقت السلام عليه فقال الأكثرون يسلم عليه مستقبل
____________________
(27/166)
القبر وقال أبو حنيفة يسلم عليه مستقبل القبلة مستدبر القبر وكان عبد الله بن عمر يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابا بكر السلام عليك يا ابت ثم ينصرف فإذا كان الدعاء فى مسجد رسول الله أمر الأئمة فيه بإستقبال القبلة كما روى عن الصحابة وكرهوا إستقبال القبر فما الظن بقبر غيره وهذا مما يبين لك ان قصد الدعاء عند القبور ليس من دين المسلمين
ومن ذكر شيئا يخالف هذا من المصنفين فى المناسك او غيرها فلا حجة معه بذلك ولا معه نقل عن إمام متبوع وإنما هو شيء أخذه بعض الناس عن بعض لأحاديث ظنوها صحيحة وهى باطلة أو لعادات مبتدعة ظنوها سنة بلا أصل شرعى
ولم يكن فى العصور المفضلة ( مشاهد ( على القبور وإنما ظهر ذلك وكثر فى دولة بنى بويه لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام وكان فى بنى بويه من الموافقة لهم على بعض ذلك ومن بدع الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم فبنوا المشاهد المكذوبة ( كمشهد علي ( رضى الله عنه وأمثاله وصنف أهل الفرية الأحاديث فى زيارة المشاهد والصلاة عندها والدعاء عندها وما يشبه ذلك فصار هؤلاء الزنادقة واهل البدع المتبعون لهم يعظمون المشاهد ويهينون المساجد
____________________
(27/167)
وذلك ضد دين المسلمين ويستترون بالتشيع ففى الأحاديث المتقدمة المتواترة عنه من تعظيم الصديق ومن النهى عن إتخاذ القبور مساجد ما فيه رد لهاتين البدعتين اللتين هما اصل الشرك وتبديل الإسلام
ومما يبين ذلك ان الله لم يذكر ( المشاهد ( ولا أمر بالصلاة فيها وإنما امر بالمساجد فقال تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } ولم يقل مشاهد الله بل قد أمر النبى عليا أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ولا تمثالا إلا طمسه ونهى عن إتخاذ القبور مساجد ولعن من فعل ذلك فهذا أمر بتخريب المشاهد لا بعمارتها سواء أريد به العمارة الصورية أو المعنوية وقال تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ولم يقل فى المشاهد وقال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } ولم يقل عند كل مشهد وقال تعالى { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } ولم يقل مشاهد الله إذ عمار المشاهد هم مشركون أو متشبهون بالمشركين إلى قوله { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله } ولم يقل إنما يعمر مشاهد الله
بل عمار المشاهد يخشون غير الله فيخشون الموتى ولا يخشون
____________________
(27/168)
الله إذ عبدوه عبادة لم ينزل بها سلطانا ولا جاء بها كتاب ولا سنة كما قال الخليل عليه السلام فى مناظرته للمشركين لما حاجوه وخوفوه آلهتهم { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } قال تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } وفى الصحيحين عن إبن مسعود قال لما نزلت هذه الآية { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } شق ذلك على أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وقالوا يارسول الله اينا لم يظلم نفسه فقال النبى صلى الله عليه وسلم إنما هو الشرك الم تسمعوا قول العبد الصالح { إن الشرك لظلم عظيم } قال تعالى { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء } قال زيد بن اسلم وغيره بالعلم وقال تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } ولم يقل وإن المشاهد لله بل أهل المشاهد يدعون مع الله غيره ولهذا لم يكن بناء المساجد على القبور التى تسمى المشاهد ( وتعظيمها من دين المسلمين بل من دين المشركين لم يحفظ ذلك فإن الله ضمن لنا أن يحفظ الذكر الذى أنزله كما قال { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } فما بعث الله به رسوله من الكتاب
____________________
(27/169)
والحكمة محفوظ وأما أمر المشاهد فغير محفوظ بل عامة القبور التى بنيت عليها المساجد إما مشكوك فيها وإما متيقن كذبها مثل القبر الذى بكرك الذى يقال إن به نوح والذى بظاهر دمشق الذى يقال إنه قبر أبى بن كعب والذى من الناحية الأخرى الذى يقال أنه قبر أويس القرنى والقبور التى هناك التى يظن أنها قبر عائشة او أم سلمة زوج النبى أو أم حبيبة أو قبر على الذى بباطنة النجف أو المشهد الذى يقال إنه على الحسين بالقاهرة والمشهد الذى بحلب وأمثال هذه المشاهد فهذه كلها كذب بإتفاق أهل العلم
وأما القبر الذى يقال إنه ( قبر خالد بن الوليد ( بحمص والذى يقال إنه قبر أبى مسلم الخولانى بداريا وأمثال ذلك فهذه مشكوك فيها وقد نعلم من حيث الجملة ان الميت قد توفى بأرض ولكن لا يتعين أن تلك البقعة مكان قبره كقبر بلال ونحوه بظاهر دمشق وكقبر فاطمة بالمدينة وأمثال ذلك وعامة من يصدق بذلك يكون علم به إما مناما وإما نقلا لا يوثق به وإما غير ذلك ومن هذه القبور ما قد يتيقن لكن لا يترتب على ذلك شيء من هذه الأحكام المبتدعة
ولهذا كان السلف يسدون هذا الباب فإن المسلمين لما فتحوا تستر وجدوا هناك سرير ميت باق ذكروا أنه ( دانيال
____________________
(27/170)
ووجدوا عنده كتابا فيه ذكر الحوادث وكان أهل تلك الناحية يستسقون به فكتب فى ذلك أبو موسى الأشعرى إلى عمر فكتب إليه عمر أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا ثم يدفن بالليل فى واحد منها ويعفى قبره لئلا يفتتن الناس به وهذا كما نقلوا عن عمر أنه بلغه أن أقواما يزورون الشجرة التى بويع تحتها بيعة الرضوان ويصلون هناك فأمر بقطع الشجرة وقد ثبت عنه انه كان فى سفر فرأى قوما ينتابون بقعة يصلون فيها فقال ما هذا فقالوا هذا مكان صلى فيه رسول الله فقال ومكان صلى به رسول الله أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد إنما هلك بنوا إسرائيل بهذا من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض
وأعلم أنه ليس مع أحد من هؤلاء ما يعارض به ذلك إلا حكاية عن بعضهم أنه قال إذا كانت لكم إلى الله حاجة فادعوه عند قبرى أو قال قبر فلان هو الترياق المجرب وأمثال ذلك من هذه الحكايات التى قد تكون صدقا وقد تكون كذبا وبتقدير أن تكون صدقا فإن قائلها غير معصوم وما يعارض النقل الثابت عن المعصوم بنقل غير ثابت عن غير معصوم إلا من يكون من الضالين إخوان الشياطين وهذا من اسباب الشرك وتغيير الدين
____________________
(27/171)
وأما قول القائل إن الحوائج تقضى لهم بعض الأوقات فهل يسوغ ذلك لهم قصدها فيقال ليس ذلك مسوغ قصدها لوجوه
( أحدها ( أن المشركين وأهل الكتاب يقضى كثير من حوائجهم بالدعاء عند الأصنام وعند تماثيل القديسين والأماكن التى يعظمونها وتعظيمها حرام فى زمن الإسلام فهل يقول مسلم إن مثل ذلك سوغ لهم هذا الفعل المحرم بإجماع المسلمين وما تجد عند أهل الأهواء والبدع من الأسباب التى بها إبتدعوا ما إبتدعوه إلا تجد عند المشركين واهل الكتاب من جنس تلك الأسباب ما اوقعهم فى كفرهم وأشد ومن تدبر هذا وجده فى عامة الأمور فإن البدع مشتقة من الكفر وكمال الإيمان هو فعل ما امر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله فإذا ترك بعض المأمور وعوض عنه ببعض المحظور كان فى ذلك من نقص الإيمان بقدر ذلك
والبدعة لا تكون حقا محضا إذ لو كانت كذلك لكانت مشروعة ولا تكون مصلحتها راجحة على مفسدتها إذ لو كانت كذلك لكانت مشروعة ولا تكون باطلا محضا لا حق فيه إذ لو كانت كذلك لما إشتبهت على أحد وإنما يكون فيها بعض الحق وبعض الباطل وكذلك دين المشركين وأهل الكتاب فإنه لا يكون كل ما يخبرون به كذبا وكل ما يأمرون به فسادا بل لابد أن يكون فى خبرهم صدق
____________________
(27/172)
وفى أمرهم نوع من المصلحة ومع هذا فهم كفار بما تركوه من الحق وأتوه من الباطل
( الوجه الثانى ( أن هذا الباب يكثر فيه الكذب جدا فإنه لما كان الكذب مقرونا بالشرك كما دل عليه القرآن فى غير موضع والصدق مقرونا بالإخلاص فالمؤمنون أهل صدق وإخلاص والكفار أهل كذب وشرك وكان فى هذه المشاهد من الشرك ما فيها إقترن بها الكذب من وجوه متعددة
منها دعوى أن هذا قبر فلان المعظم أو رأسه ففى ذلك كذب كثير
والثانى الإخبار عن أحواله بأمور يكثر فيها الكذب
والثالث الإخبار بما يقضى عنده من الحاجات فما اكثر ما يحتال المعظمون للقبر بحيل يلبسون على الناس أنه حصل به خرق عادة أو قضاء حاجة وما أكثر من يخبر بمالا حقيقة له وقد رأينا من ذلك أمورا كثيرة جدا
الرابع الإخبار بنسب المتصلين به مثل كثير من الناس
____________________
(27/173)
يدعى الإنتساب إلى قبر ذلك الميت إما ببنوة وإما بغير بنوة حتى رأيت من يدعى أنه من ولد إبراهيم بن أدهم مع كذبه فى ذلك ليكون سادن قبره وأما الكذب على العترة النبوية فأكثر من ان يوصف فبنوا عبيد الذين يسمون القداح الذين كانوا يقولون إنهم فاطميون وبنوا القاهرة وبقوا ملوكا يدعون أنهم علويون نحو مائتى سنة وغلبوا على نصف مملكة الإسلام حتى غلبوا فى بعض الأوقات على بغداد وكانوا كما قال فيهم أبو حامد الغزالى ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض وقد صنف القاضي أبو بكر إبن الطيب كتابه الذى سماه ( كشف الأسرار وهتك الاستار ( فى كشف أحوالهم وكذلك ما شاء الله من علماء المسلمين كالقاضى أبى يعلى وأبى عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني
واهل العلم كلهم يعلمون أنهم لم يكونوا من ولد فاطمة بل كانوا من ذرية المجوس وقيل من ذرية يهودى وكانوا من ابعد الناس عن رسول الله فى سنته ودينه باطن دينهم مركب من دين المجوس والصابئين وما يظهرون من دين المسلمين هو دين الرافضة فخيار المتدينين منهم هم الرافضة وهم جهالهم وعوامهم وكل من دخل معهم يظن أنه مسلم ويعتقد أن دين الإسلام حق وأما خواصهم من ملوكهم وعلمائهم فيعلمون أنهم خارجون من دين الملل كلهم من دين المسلمين واليهود والنصارى وأقرب الناس
____________________
(27/174)
إليهم الفلاسفة وإن لم يكونوا أيضا على قاعدة فيلسوف معين ولهذا إنتسب إليهم طوائف المتفلسفة فابن سينا وأهل بيته من اتباعهم وبن الهيثم وأمثاله من اتباعهم ومبشر بن فأتك ونحوه من اتباعهم وأصحاب ( رسائل إخوان الصفا ( صنفوا الرسائل على نحو من طريقتهم ومنهم الإسماعيلية وأهل دار الدعوة فى بلاد الإسلام ووصف حالهم ليس هذا موضعه
وإنما القصد أنهم كانوا من اكذب الناس واعظمهم شركا وانهم يكذبون فى النسب وغير النسب ولذلك تجد أكثر المشهدية الذين يدعون النسب العلوى كذابين إما ان يكون أحدهم مولى لبنى هاشم أولا يكون بينه وبينهم لا نسب ولا ولاء ولكن يقول انا علوى وينوى علوى المذهب ويجعل عليا رضي الله عنه وعن اهل بيته الطاهرين كان دينهم دين الرافضة فلا يكفيه هذا الطعن فى على حتى يظهر أنه من اهل بيته أيضا فالكذب فيما يتعلق بالقبور أكثر من ان يمكن سطره فى هذه الفتوى
الخامس ( أن الرافضة أكذب طوائف الأمة على الإطلاق وهم أعظم الطوائف المدعية للإسلام غلوا وشركا ومنهم كان أول من إدعى الإلهية فى القراء وادعى نبوة غير النبى
____________________
(27/175)
كمن ادعى نبوة على وكالمختار بن ابى عبيد الله إدعى النبوة ثم يليهم الجهال كغلاة ضلال العباد وإتباع المشائخ فإنهم أكثر الناس تعظيما للقبور بعد الرافضة وأكثر الناس غلوا بعدهم وأكثر الطوائف كذبا وكل من الطائفتين فيها شبه من النصارى وكذب النصارى وشركهم وغلوهم معلوم عند الخاص والعام وعند هذه الطوائف من الشرك والكذب مالا يحصيه إلا الله
الوجه الثالث ) أنه إذا قضيت حاجة مسلم وكان قد دعا دعوة عند قبره فمن اين له أن لذلك القبر تأثيرا فى تلك الحاجة وهذا بمنزلة ما ينذرونه عند القبور أو غيرها من النذور إذا قضيت حاجاتهم وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه نهى عن النذر وقال انه لا يأتى بخير وإنما يستخرج به من البخيل ( وفى لفظ ( إن النذر لا يأتى إبن آدم بشيء لم يكن قدر له ولكن يلقيه النذر إلى القدر قدرته ( فإذا ثبت بهذا الحديث الصحيح ان النذر ليس سببا فى دفع ما علق به من جلب منفعة او دفع مضرة مع ان النذر جزاء تلك الحاجة ويعلق بها ومع كثرة من تقضى حوائجهم التى علقوا بها النذور كانت القبور أبعد عن ان تكون سببا فى ذلك ثم تلك الحاجة إما أن تكون قد قضيت بغير دعائه وإما ان تكون قضيت بدعائه فإن كان الأول فلا كلام وإن
____________________
(27/176)
كان الثانى فيكون قد إجتهد فى الدعاء إجتهادا لو اجتهده فى غير تلك البقعة او عند الصليب لقضيت حاجته فالسبب هو إجتهاده فى الدعاء لا خصوص القبر
الوجه الرابع ( أنه إذا قدر أن للقبور نوع تأثير فى ذلك سواء كان بها كما يذكره المتفلسفة ومن سلك سبيلهم فى ذلك بأن الروح المفارقة تتصل بروح الداعى فيقوى بذلك كما يزعمه إبن سينا وأبوحامد وأمثالهما فى زيارة القبور أو كان بسبب آخر فيقال ليس كل سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعا بل ولا مباحا وإنما يكون مشروعا إذا غلبت مصلحته على مفسدته أما إذا غلبت مفسدته فإنه لا يكون مشروعا بل محظورا وإن حصل به بعض الفائدة
ومن هذا الباب تحريم السحر مع ماله من التأثير وقضاء بعض الحاجات وما يدخل فى ذلك من عبادة الكواكب ودعائها وإستحضار الجن وكذلك الكهانة والإستقسام بالأزلام وأنواع الأمور المحرمة فى الشريعة مع تضمنها أحيانا نوع كشف أو نوع تأثير
وفى هذا تنبيه على جملة الأسباب التى تقضى بها حوائجهم واما
____________________
(27/177)
تفصيل ذلك فيحتاج إلى بسط طويل كما يحتاج تفصيل أنواع السحر وسبب تأثيره وما فيه من السيميا وتفصيل أنواع الشرك وما دعا المشركين إلى عبادة الأصنام فإن العاقل يعلم أن أمة من الأمم لم تجمع على أمر بلا سبب والخليل عليه السلام يقول { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } ومن ظن فى عباد الأصنام أنهم كانوا يعتقدون أنها تخلق العالم أو أنها تنزل المطر او تنبت النبات أو تخلق الحيوان أو غير ذلك فهو جاهل بهم بل كان قصد عباد الأوثان لأوثانهم من جنس قصد المشركين بالقبور للقبور المعظمة عندهم وقصد النصارى لقبور القديسين يتخذونهم شفعاء ووسائط ووسائل بل قد ثبت عندنا بالنقل الصحيح أن من مساجدى القبور من يفعل بها اكثر مما يفعله كثير من عباد الأصنام ويكفى المسلم أن يعلم أن الله لم يحرم شيئا إلا ومفسدته محضة أو غالبة وأما ما كانت مصلحته محضة أو راجحة فإن الله شرعه إذ الرسل بعثت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها
والشرك كما قرن بالكذب قرن بالسحر فى مثل قوله تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا }
____________________
(27/178)
والجبت السحر والطاغوت الشيطان والوثن وهذه حال كثير من المنتسبين إلى الملة يعظمون السحر والشرك ويرجحون الكفار على كثير من المؤمنين المتمسكين بالشريعة والورقة لا تحتمل أكثر من هذا والله أعلم
____________________
(27/179)
وسئل رحمه الله
عن الدعاء عند القبر مثل الصالحين والأولياء هل هو جائز أم لا وهل هو مستجاب أكثر من الدعاء عند غيرهم أم لا واى أماكن الدعاء فيها أفضل
فأجاب ليس الدعاء عند القبور بأفضل من الدعاء فى المساجد وغيرها من الأماكن ولا قال أحد من السلف والأئمة إنه مستحب أن يقصد القبور لأجل الدعاء عندها لا قبور الأنبياء ولا غيرهم بل قد ثبت فى صحيح البخارى أن عمر بن الخطاب إستسقى بالعباس عم النبى وقال اللهم أنا كنا نستسقى اليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فإسقنا فيسقون فاستسقوا بالعباس كما كانوا يستسقون بالنبى لأنه عم النبى صلى الله عليه وسلم
وما كانوا يستسقون عند قبره ولا يدعون عنده بل قد ثبت عن النبى فى الصحاح أنه قال ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ( وقال قبل أن
____________________
(27/180)
يموت بخمس ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ) وفى السنن عنه قال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( فإذا كان قد حرم إتخاذها مساجد والإيقاد عليها علم أنه لم يجعلها محلا للعبادة لله والدعاء وإنما سن لمن زار القبور أن يسلم على الميت ويدعو له كما سن أن يصلي عليه قبل دفنه ويدعو له فالمقصود بما سنه الدعاء للميت لا دعاؤه والله أعلم
____________________
(27/181)
وقال الشيخ محمد بن عبد الهادى
بسم الله الرحمن الرحيم (
الحمد لله رب العالمين أما بعد فهذه فتيا أفتى بها الشيخ الإمام تقى الدين ابوالعباس ( أحمد بن تيمية ( رضى الله عنه ثم بعد مدة نحو سبع عشرة سنة أنكرها بعض الناس وشنع بها جماعة عند بعض ولاة الأمور وذكرت بعبارات شنيعة ففهم منها جماعة غير ما هي عليه وإنضم إلى الإنكار والشناعة وتغير الألفاظ أمور أوجب ذلك كله مكاتبة السلطان سلطان الإسلام بمصر أيده الله تعالى فجمع قضاة بلده ثم إقتضى الرأى حبسه فحبس بقلعة دمشق المحروسة بكتاب ورد سابع شعبان المبارك سنة ست وعشرين وسبعمائة
وفى ذلك كله لم يحضر الشيخ المذكور بمجلس حكم ولا وقف على خطه الذى انكر ولا إدعى عليه بشيء
فكتب بعض الغرباء من بلده هذه الفتيا وأوقف عليها بعض علماء بغداد فكتبوا عليها بعد تأملها وقراءة ألفاظها
____________________
(27/182)
وسئل بعض مالكية دمشق عنها فكتبوا كذلك وبلغنا أن بمصر من وقف عليها فوافق
ونبدأ الآن بذكر السؤال الذى كتب عليه أهل بغداد وبذكر الفتيا وجواب الشيخ المذكور عليها وجواب الفقهاء بعده
وهذه صورة السؤال والأجوبة
المسئول من إنعام السادة العلماء والهداة الفضلاء أئمة الدين وهداة المسلمين وفقهم الله لمرضاته وأدام بهم الهداية أن ينعموا ويتأملوا الفتوي وجوابها المتصل بهذا السؤال المنسوخ عقبه وصورة ذلك
ما يقول السادة العلماء أئمة الدين نفع الله بهم المسلمين فى رجل نوى السفر إلى ( زيارة قبور الأنبياء والصالحين ( مثل نبينا محمد وغيره فهل يجوز له فى سفره أن يقصر الصلاة وهل هذه الزيارة شرعية ام لا
وقد روى عن النبى أنه قال ( من حج ولم يزرنى فقد جفانى ( ومن زارنى بعد موتى كمن زارنى فى حياتى
____________________
(27/183)
وقد روى عنه أيضا أنه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الأقصى (
أفتونا مأجورين رحمكم الله
فأجاب (
الحمد لله رب العالمين
أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة على قولين معروفين ( أحدهما ( وهو قول متقدمى العلماء الذين لا يجوزون القصر فى سفر المعصية كأبى عبد الله بن بطة وأبى الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين أنه لا يجوز القصر فى مثل هذا السفر لأنه سفر منهى عنه ومذهب مالك والشافعى وأحمد إن السفر المنهى عنه فى الشريعة لا يقصر فيه
والقول الثانى أنه يقصر وهذا يقوله من يجوز القصر فى السفر المحرم كأبى حنيفة ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعى
____________________
(27/184)
وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبى حامد الغزالى وأبى الحسن بن عبدوس الحرانى وأبى محمد بن قدامة المقدسى وهؤلاء يقولون إن هذا السفر ليس بمحرم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم ( زوروا القبور (
وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية فى زيارة قبر النبى صلى الله عليه وسلم كقوله ( من زارنى بعد مماتى فكأنما زارني فى حياتى ( رواه الدار قطنى وبن ماجه
وأما ما ذكره بعض الناس من قوله من حج ولم يزرني فقد جفانى فهذا ( لم يروه احد من العلماء وهو مثل قوله ( من زارنى وزار أبى إبراهيم فى عام واحد ضمنت له على الله الجنة
فإن هذا أيضا بإتفاق العلماء لم يروه أحد ولم يحتج به احد وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطنى ونحوه
وقد احتج أبومحمد المقدسى على جواز السفر لزيارة القبور بأنه كان يزور مسجد قباء
وأجاب عن حديث ( لا تشد الرحال ( بأن ذلك محمول على نفى الإستحباب
____________________
(27/185)
وأما الأولون فإنهم يحتجون بما فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ( وهذا الحديث مما إتفق الأئمة على صحته والعمل به فلو نذر الرجل أن يشد الرحل ليصلى بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه او يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك بإتفاق الأئمة
ولو نذر أن يسافر ويأتى المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب عليه ذلك بإتفاق العلماء
ولو نذر أن يأتى مسجد النبى أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعى فى أحد قوليه وأحمد ولم يجب عليه عند أبى حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان جنسه واجبا بالشرع
أما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة كما ثبت فى صحيح البخارى عن عائشة رضى الله عنها أن النبى قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه (
والسفر إلى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به
____________________
(27/186)
وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من المساجد الثلاثة مع ان مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان فى المدينة لأن ذلك ليس بشد رحل كما فى الحديث الصحيح ( من تطهر فى بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة (
قالوا ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا امر بها رسول الله ولا إستحب ذلك احد من أئمة المسلمين فمن إعتقد ذلك عبادة وفعله فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة
وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة فى ( الإبانة الصغرى ( من البدع المخالفة للسنة والإجماع
وبهذا يظهر بطلان حجة أبى محمد المقدسى لأن زيارة النبى لمسجد قباء لم تكن بشد رحل وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر
وقوله بأن الحديث الذى مضمونه ( لا تشد الرحال ( محمول على نفى الإستحباب يجاب عنه بوجهين
____________________
(27/187)
( أحدهما ( أن هذا تسليم منه ان هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات فإذا من إعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لإعتقاد أن ذلك طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة إتخاذه قربة ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك
وأما إذا نذر الرجل أن يسافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من هذا الباب (
الوجه الثانى ( أن هذا الحديث يقتضى النهى والنهى يقتضى التحريم وما ذكروه من الأحاديث فى زيارة قبر النبى فكلها ضعيفة بإتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل زرت قبره ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو ماثورا عن النبى لم يكرهه عالم أهل المدينة
والإمام أحمد أعلم الناس فى زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم
____________________
(27/188)
يكن عنده ما يعتمد عليه فى ذلك من الأحاديث إلا حديث أبى هريرة أن رسول الله قال ( ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحى حتى ارد عليه السلام ( وعلى هذا إعتمد أبوداود فى سننه وكذلك مالك فى الموطأ روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا ابت ثم ينصرف
وفى سنن أبى داود عن النبى أنه قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم (
وفي سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبى طالب رأى رجلا يختلف إلى قبر النبى صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده فقال يا هذا إن رسول الله قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على فإن صلاتكم حيثما كنتم تبلغنى ( فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء
وفى الصحيحين عن عائشة عن النبى أنه قال فى مرض موته ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( يحذر ما فعلوا ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره
____________________
(27/189)
أن يتخذ مسجدا
وهم دفنوه فى حجرة عائشة رضى الله عنها خلاف ما إعتادوه من الدفن فى الصحراء لئلا يصلى أحد عند قبره ويتخذه مسجدا فيتخذ قبره وثنا
وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك لا يدخل أحد إليه لا لصلاة هناك ولا تمسح بالقبر ولا دعاء هناك بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلونه فى المسجد
وكان السلف من الصحابة والتابعين إذ سلموا على النبى وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلى القبلة ولم يستقبلوا القبر
وأما الوقوف للسلام عليه صلوات الله عليه وسلامه فقال أبو حنيفة يستقبل القبلة أيضا ولا يستقبل القبر
وقال أكثر الأئمة بل يستقبل القبر عند السلام خاصة ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء
وليس فى ذلك إلا حكاية مكذوبة تروى عن مالك ومذهبه بخلافها
____________________
(27/190)
واتفق الائمة على أنة لا يتمسح بقبر النبى ولا يقبله
وهذا كله محافظة على التوحيد فان من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد كما قال طائفة من السلف فى قولة تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قالوا هؤلاء كانوا قوما صالحين فى قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا على صورهم تماثيل ثم طال عليهم الامد فعبدوها ) وقد ذكر البخارى فى صحيحه هذا المعنى عن بن عباس وذكره محمد بن جرير الطبرى وغيره فى التفسير عن غير واحد من السلف وذكره ( وثيمة ) وغيره فى قصص الانبياء من عدة طرق وقد بسطت الكلام على أصول هذه المسائل فى غير هذا الموضع
وأول من وضع هذه الاحاديث فى السفر لزيارة المشاهد التى على القبور أهل البدع من الرافضة ونحوهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد يدعون بيوت الله التى أمر أن يذكر فيها اسمه ويعبد وحده لا شريك له ويعظمون المشاهد التى يشرك فيها ويكذب ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانا فان الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد كما قال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين }
____________________
(27/191)
وقال تعالى { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } وقال تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وقال تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه كان يقول ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( والله أعلم
هذا آخر ما اجاب به شيخ الإسلام والله سبحانه وتعالى أعلم وله من الكلام فى مثل هذا كثير كما اشار إليه فى الجواب
ولما ظفروا فى دمشق بهذا الجواب كتبوه وبعثوا به إلى الديار المصرية وكتب عليه قاضى الشافعية قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط إبن تيمية فصح إلى أن قال وإنما المحرف جعله زيارة قبر النبى صلى اللة علية وسلم وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية بالاجماع مقطوع بها هذا كلامه فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الاسلام والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الانبياء والصالحين وانما ذكر فيه قولين فى شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور
____________________
(27/192)
وزيارة القبور من غير شد رحل اليها مسألة وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى
والشيخ لايمنع الزيارة الخالية عن شد رحل بل يستحبها ويندب إليها وكتبه ومناسكه تشهد بذلك ولم يتعرض الشيخ إلى هذه الزيارة فى الفتيا ولا قال إنها معصية ولا حكى الإجماع على المنع منها والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية
ولما وصل خط القاضي المذكور إلى الديار المصرية كثر الكلام وعظمت الفتنة وطلب القضاة بها فإجتمعوا وتكلموا وأشار بعضهم بحبس الشيخ فرسم السلطان به وجرى ما تقدم ذكره ثم جرى بعد ذلك أمور على القائمين فى هذه القضية لا يمكن ذكرها فى هذا الموضع
وقد وصل ما أجاب به الشيخ فى هذه المسألة إلى علماء بغداد فقاموا فى الإنتصار له وكتبوا بموافقته ورأيت خطوطهم بذلك
وهذا صورة ما كتبوا
____________________
(27/193)
( بسم الله الرحمن الرحيم (
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى بعد حمد الله السابغة نعمه السابقة مننه والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
أنه حيث قد من الله تعالى على عباده وتفضل برحمته على بلاده بأن وسد أمور الأمة المحمدية وأسند أزمة الملة الحنيفية إلى من خصصه الله تعالى بأفضل الكمالات النفسانية وخصصه بأكمل السعادات الروحانية محيى سنن العدل ومبدى سنن الفضل المعتصم بحبل الله المتوكل على الله المكتفى بنعم الله القائم بأوامر الله المستظهر بقوة الله المستضيء بنور الله أعز الله سلطانه وأعلى على سائر الملوك شأنه ولا زالت رقاب الأمم خاضعة لأوامره وأعناق العباد طائعة لمراسمه ولا زال موالى دولته بطاعته مجبورا ومعادى صولته بخزيه مذموما مدحورا
فالمرجو من ألطاف الحضرة المقدسة زادها الله تعالى علوا وشرفا أن يكون للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء وصفوة الأصفياء
____________________
(27/194)
وعماد الدين ومدار أهل اليقين حظ من العناية السلطانية وافر ونصيب من الرحمة والشفقة فإنها منقبة لا يعادلها فضيلة وحسنة لا يحيطها سيئة لأنها حقيقة التعظيم لأمر الله تعالى وخلاصة الشفقة على خلق الله تعالى
ولا ريب أن المملوك وقف على ما سئل عنه الشيخ الإمام العلامة وحيد دهره وفريد عصره تقى الدين أبوالعباس أحمد بن تيمية وما أجاب به فوجدته خلاصة ما قاله العلماء فى هذا الباب حسب ما إقتضاه الحال من نقله الصحيح وما أدى إليه البحث من الإلزام والإلتزام لا يداخله تحامل ولا يعتريه تجاهل وليس فيه والعياذ بالله ما يقتضى الإزراء والتنقيص بمنزلة الرسول
وكيف يجوز للعلماء أن تحملهم العصبية أن يتفوهوا بالإزراء والتنقيص فى حق الرسول صلى الله عليه وسلم وهل يجوز أن يتصور متصور أن زيارة قبره تزيد فى قدره وهل تركها مما ينقص من تعظيمه حاشا للرسول من ذلك
نعم لو ذكر ذلك ذاكر إبتداء وكان هناك قرائن تدل على الإزراء والتنقيص أمكن حمله على ذلك مع انه كان يكون كناية لا صريحا
____________________
(27/195)
فكيف وقد قاله فى معرض السؤال وطريق البحث والجدل
مع أن المفهوم من كلام العلماء وأنظار العقلاء أن الزيارة ليست عبادة وطاعة لمجردها حتى لو حلف أنه يأتى بعبادة أو طاعة لم يبر بها لكن القاضي إبن كج من متأخرى أصحابنا ذكر أن نذر هذه الزيارة عنده قربة تلزم ناذرها وهو منفرد به لا يساعده فى ذلك نقل صريح ولا قياس صحيح والذى يقتضيه مطلق الخبر النبوى في قوله ( لا تشد الرحال إلى آخره ( أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير ما ذكر أو وجوبه أو ندبيته فإن فعله كان مخالفا لصريح النهى ومخالفة النهى معصية إما كفر أو غيره على قدر المنهى عنه ووجوبه وتحريمه وصفة النهى والزيارة اخص من وجه فالزيارة بغير شد غير منهى عنها ومع الشد منهى عنها
وبالجملة فما ذكره الشيخ تقى الدين على الوجه المذكور الموقوف عليه لم يستحق عليه عقابا ولا يوجب عتابا
والمراحم السلطانية أحرى بالتوسعة والنظر بعين الرأفة والرحمة إليه وللآراء الملكية علو المزيد
حرره إبن الكتبى الشافعى حامدا لله على نعمه
____________________
(27/196)
( جواب
آخر (
الله الموفق
ما أجاب به الشيخ الأجل الأوحد بقية السلف وقدوة الخلف رئيس المحققين وخلاصة المدققين تقى الملة والحق والدين من الخلاف فى هذه المسألة صحيح منقول فى غير ما كتاب من كتب أهل العلم لا اعتراض عليه فى ذلك إذ ليس فى ذلك ثلب لرسول الله ولا غض من قدره
وقد نص الشيخ أبو محمد الجوينى فى كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور وهذا إختيار القاضي الإمام عياض بن موسى بن عياض فى إكماله وهو من أفضل المتأخرين من اصحابنا
ومن المدونة ومن قال على المشى إلى المدينة أو بيت المقدس فلا يأتيهما أصلا إلا أن يريد الصلاة فى مسجديهما فليأتهما فلم يجعل نذر زيارة قبره طاعة يجب الوفاء بها إذ من أصلنا أن من نذر طاعة لزمه الوفاء بها
____________________
(27/197)
كان من جنسها ما هو واجب بالشرع كما هو مذهب أبى حنيفة أو لم يكن
قال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق عقيب هذه المسألة ولولا الصلاة فيهما لما لزمه إتيانهما ولو كان نذر زيارة طاعة لما لزمه ذلك
وقد ذكر ذلك القيروانى فى تقريبه والشيخ إبن سيرين فى تنبيهه وفى المبسوط قال مالك ومن نذر المشى إلى مسجد من المساجد ليصلى فيه قال فإنى أكره ذلك له لقوله صلى الله عليه وسلم ( لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد بيت المقدس ومسجدى هذا ( وروى محمد بن المواز فى الموازية إلا أن يكون قريبا فيلزمه الوفاء لأنه ليس بشد رحل وقد قال الشيخ أبوعمر بن عبدالبر فى كتابه ( التمهيد ( يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد
وحيث تقرر هذا فلا يجوز أن ينسب من أجاب فى هذه المسألة بأنه سفر منهى عنه إلى الكفر فمن كفره بذلك من غير موجب فإن كان مستبيحا ذلك فهو كافر وإلا فهو فاسق
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن على المارزى فى ( كتاب المعلم
____________________
(27/198)
من كفر أحدا من اهل القبلة فإن كان مستبيحا ذلك فقد كفر وإلا فهو فاسق يجب على الحاكم إذا رفع أمره إليه أن يؤدبه ويعزره بما يكون رادعا لأمثاله فإن ترك مع القدرة عليه فهو آثم والله تعالى أعلم
كتبه محمد بن عبد الرحمن البغدادى الخادم للطائفة المالكية بالمدرسة الشريفة المستنصرية رحمه الله على منشئها
وأجاب غيره فقال (
الحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين
ما ذكره مولانا الإمام العالم العامل جامع الفضائل والفوائد بحر العلوم ومنشأ الفضل جمال الدين كاتب خطه أمام خطى هذا جمل الله به الإسلام وأسبغ عليه سوابغ الأنعام اتى فيه بالحق الجلى الواضح واعرض فيه عن اغضاء المشايخ إذ السؤال والجواب اللذان تقدماه لا يخفى على ذى فطنة وعقل أنه اتى فى الجواب المطابق للسؤال بحكاية اقوال العلماء الذين تقدموه ولم يبق عليه فى ذلك إلا ان يعترضه معترض فى نقله فيبرزه
____________________
(27/199)
له من كتب العلماء الذين حكى اقوالهم والمعترض له بالتشنيع إما جاهل لا يعلم ما يقول أو متجاهل يحمله حسده وحمية الجاهلية على رد ما هو عند العلماء مقبول أعاذنا الله تعالى من غوائل الحسد وعصمنا من مخائل النكد بمحمد وآله الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين
كتبه الفقير إلى عفو ربه ورضوانه عبدالمؤمن بن عبدالحق الخطيب غفر الله له وللمسلمين أجمعين
وأجاب غيره فقال
بعد حمد الله الذى هو فاتح كل كلام والصلاة والسلام على رسوله محمد خير الأنام وعلى آله وأصحابه البررة الكرام أعلام الهدى ومصابيح الظلام
يقول أفقر عباد الله وأحوجهم إلى عفوه ما حكاه الشيخ الإمام البارع الهمام إفتخار الأنام جمال الإسلام ركن الشريعة ناصر السنة قامع البدعة جامع أشتات الفضائل قدوة العلماء الأماثل فى هذا الجواب من أقوال العلماء والأئمة النبلاء رحمة الله عليهم
____________________
(27/200)
أجمعين بين لا يدفع ومكشوف لا يتقنع بل أوضح من النيرين وأظهر من فرق الصبح لذي عينين والعمدة فى هذه المسألة الحديث المتفق علي صحته ومنشأ الخلاف بين العلماء من إحتمالى صيغته وذلك أن صيغة قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تشد الرحال ( ذات وجهين نفى ونهى لإحتمالهما فإن لحظ معنى النفى فمقتضاه نفى فضيلة وإستحباب شد الرحال وإعمال المطى إلى غير المساجد الثلاثة إذ لو فرض وقوعهما لإمتنع رفعهما فتعين توجه النفى إلى فضيلتهما وإستحبابهما دون ذاتهما وهذا عام فى كل ما يعتقد إن إعمال المطى وشد الرحال إليه قربة وفضيلة من المساجد وزيارة قبور الصالحين وما جرى هذا المجرى بل أعم من ذلك وإثبات ذلك بدليل ضرورة إثبات ذلك المنفى المقدر فى صدر الجملة لما بعد ( إلا ( وإلا لما إفترق الحكم بين ما قبلها وما بعدها وهو مفترق حينئذ لا يلزم من نفى الفضيلة والإستحباب نفى الإباحة فهذا وجه متمسك من قال بإباحة هذا السفر بالنظر إلى أن هذه الصيغة نفى وبنى على ذلك جواز القصر
وإن كان النهى ملحوظا فالمعنى نهيه عن إعمال المطى وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة إذ المقرر عند عامة الأصوليين أن النهى عن الشيء قاض بتحريمه أو كراهته على حسب مقتضى الأدلة
____________________
(27/201)
فهذا وجه متمسك من قال بعدم جواز القصر فى هذا السفر لكونه منهيا عنه وممن قال بحرمته الشيخ الإمام أبو محمد الجوينى من الشافعية والشيخ أبوالوفاء إبن عقيل من الحنابلة وهو الذى أشار القاضي عياض من المالكية إلى إختياره
وما جاء من الأحاديث فى إستحباب زيارة القبور فمحمول على ما لم يكن فيه شد رحل وإعمال مطى جمعا بينهما
ويحتمل أن يقال لا يصلح أن يكون غير حديث ( لا تشد الرحال معارضا له لعدم مساواته إياه فى الدرجة لكونه من أعلى أقسام الصحيح والله اعلم
وقد بلغنى أنه رزىء وضيق على المجيب وهذا أمر يحار فيه اللبيب ويتعجب منه الأريب ويقع به فى شك مريب
فإن جوابه فى هذه المسألة قاض بذكر خلاف العلماء وليس حاكما بالغض من الصالحين والأنبياء فإن الأخذ بمقتضى كلامه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث المتفق على صحة رفعه إليه هو الغاية القصوى فى تتبع أوامره ونواهيه والعدول عن ذلك محذور وذلك مما لا مرية فيه
وإذا كان كذلك فأى حرج على من سئل عن مسألة فذكر فيها
____________________
(27/202)
خلاف الفقهاء ومال فيها إلى بعض أقوال العلماء فإن الأمر لم يزل كذلك على ممر العصور وتعاقب الدهور
وهل ذلك محمول من القادح إلا على إمتطاء نضو الهوى المفضى بصاحبه إلى التوى فإن من يقتبس من فوائده ويلتقط من فرائده لحقيق بالتعظيم وخليق بالتكريم ممن له الفهم السليم والذهن المستقيم وهل حكم المظاهر عليه فى الظاهر إلا كما قيل فى المثل السائر الشعير يؤكل ويذم وقول الشاعر ** جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ** وحسن فعل كما يجزى سنمار وقول **
غيره ( ** وحديث ألذه وهو مما ** ينعت الناعتون يوزن وزنا ** منطق رائع ويلحن أحيا ** نا وخير الحديث ما كان لحنا **
وقال الله تعالى { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }
____________________
(27/203)
وقال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } وقال تعالى { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز }
ولولا خشية الملالة لما نكبت عن الإطالة
نسأل الله الكريم أن يسلك بنا وبكم سبيل الهداية وان يجنبنا وإياكم فسلك الغواية إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وحسبنا الله ونعم الوكيل ونعم النصير
والحمد لله رب العالمين وصلوات الله وسلامه على سيد المرسلين محمد النبى وآله الطاهرين واصحابه الكرام المنتخبين هذا جواب الشيخ الإمام العلامة جمال الدين يوسف بن عبدالمحمود إبن عبدالسلام بن البتى الحنبلى رحمه الله تعالى
قال المؤلف ومن خطه نقلت
____________________
(27/204)
جواب آخر (
لبعض علماء أهل الشام المالكية (
الحمد لله وهو حسبى
السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بمشروع وأما من سافر إلى مسجد النبى ليصلى فيه ويسلم على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضى الله عنهما فمشروع كما ذكر بإتفاق العلماء
وأما لو قصد إعمال المطى لزيارته صلى الله عليه وسلم ولم يقصد الصلاة فهذا السفر إذا ذكر رجل فيه خلافا للعلماء وان منهم من قال إنه منهى عنه ومنهم من قال إنه مباح وأنه على القولين ليس بطاعة ولا قربة فمن جعله طاعة وقربة على مقتضى هذين القولين كان حراما بالإجماع وذكر حجة كل قول منهما او رجح أحد القولين لم يلزمه ما يلزم من تنقص إذ لا تنقص ولا إزراء بالنبى صلى الله عليه وسلم
____________________
(27/205)
وقد
قال مالك رحمه الله لسائل سأله أنه نذر أن يأتى قبر النبى فقال إن كان أراد مسجد النبى صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه وإن كان اراد القبر فلا يفعل للحديث الذى جاء ( لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد ( والله اعلم
كتبه أبو عمرو بن أبى الوليد المالكى
كذلك يقول عبد الله بن أبى الوليد المالكى
قال المؤلف رحمه الله نقلت هذه الأجوبة كلها من خط المفتين بها قال ووقفت على كتاب ورد مع أجوبة أهل بغداد وصورته
بسم الله الرحمن الرحيم (
الحمد لله ناصر الملة الإسلامية ومعز الشريعة المحمدية بدوام أيام الدولة المباركة السلطانية المالكية الناصرية ألبسها الله تعالى لباس العز المقرون بالدوام وحلاها بحلية النصر المستمر بمرور الليالى والأيام والصلاة والسلام على النبى المبعوث إلى جميع الأنام صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام
____________________
(27/206)
اللهم إن بابك لم يزل مفتوحا للسائلين ورفدك ما برح مبذولا للوافدين من عودته مسألتك وحدك لم يسأل أحدا سواك ومن منحته منائح رفدك لم يفد على غيرك ولم يحتم إلا بحماك أنت الرب العظيم الكريم الأكرم قصد باب غيرك على عبادك محرم أنت الذى لا إله غيرك ولا معبود سواك عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك وعظم بلاؤك ولا إله غيرك ولم تزل سنتك فى خلقك جارية بإمتحان أوليائك وأحبابك تفضلا منك عليهم وإحسانا من لدنك إليهم ليزدادوا لك فى جميع الحالات ذكرا ولإ نعامك فى جميع التقلبات شكرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون }
اللهم وأنت العالم الذى لا تعلم وانت الكريم الذى لا تبخل قد علمت يا عالم السر والعلانية ان قلوبنا لم تزل ترفع اخلاص الدعاء صادقة وألسنتنا فى حالتى السر والعلانية ناطقة أن تسعفنا بإمداد هذه الدولة المباركة الميمونة السلطانية الناصرية بمزيد العلا والرفعة والتمكين وأن تحقق آمالنا فيها بإعلاء الكلمة فى ذلك برفع قواعد دعائم الدين وقمع مكايد الملحدين لأنها الدولة التى برئت من غشيان الجنف والحيف وسلمت من طغيان القلم والسيف
والذى ينطوى عليه ضمائر المسلمين ويشتمل عليه سرائر المؤمنين
____________________
(27/207)
أن السلطان الملك الناصر للدين ممن قال فيه رب العالمين وإله السماوات والأرضين الذى بتمكينه فى أرضه حصل التمكين لملوك الأرض وعظماء السلاطين فى كتابه العزيز الذى يتلى فمن شاء فليتدبر { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } وهو ممن مكنه الله تعالى فى الأرض تمكينا يقينا لا ظنا وهو ممن يعنى بقوله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا }
والذى عهده المسلمون وتعوده المؤمنون من المراحم الكريمة والعواطف الرحيمة إكرام أهل الدين وإعظام علماء المسلمين
والذى حمل على رفع هذه الأدعية الصريحة إلى الحضرة الشريفة وإن كانت لم تزل مرفوعة إلى الله سبحانه بالنية الصحيحة قوله ( الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ( وقوله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ( فهذان الحديثان مشهوران بالصحة ومستفيضان فى الأمة
____________________
(27/208)
ثم إن
هذا الشيخ المعظم الجليل والإمام المكرم النبيل أوحد الدهر وفريد العصر طراز المملكة الملكية وعلم الدولة السلطانية لو أقسم مقسم بالله العظيم القدير أن هذا الإمام الكبير ليس له فى عصره مماثل ولا نظير لكانت يمينه برة غنية عن التكفير وقد خلت من وجود مثله السبع الأقاليم إلا هذا الإقليم يوافق على ذلك كل منصف جبل على الطبع السليم ولست بالثناء عليه أطريه بل لو أطنب مطنب فى مدحه والثناء عليه لما أتى على بعض الفضائل التى هي فيه أحمد بن تيمية درة يتيمة يتنافس فيها تشترى ولا تباع ليس فى خزائن الملوك درة تماثلها وتؤاخيها إنقطعت عن وجود مثله الأطماع
لقد أصم الأسماع وأوهى قوى المتبوعين والأتباع سماع رفع أبى العباس أحمد بن تيمية إلى القلاع
وليس يقع من مثله امر ينقم منه عليه إلا أنه يكون أمرا قد لبس عليه ونسب إلى ما ينسب مثله إليه والتطويل على الحضرة العالية لا يليق إن يكن فى الدنيا قطب فهو القطب على التحقيق قد نصب الله السلطان أعلى الله شأنه فى هذا الزمان منصب يوسف الصديق صلى الله على نبينا وعليه لما صرف الله وجوه أهل البلاد إليه حين أمحلت البلاد وإحتاج أهلها إلى القوت المدخر لديه والحاجة بالناس والآن إلى قوت الأرواح المشار فى ذلك الزمان إليها لإخفاء
____________________
(27/209)
أنها للعلوم الشريفة والمعانى اللطيفة
وقد كانت فى بلاد المملكة السلطانية حرسها الله تعالى تكال إلينا جزافا بغير أثمان منحة عظيمة من الله للسلطان ونعمة جسيمة إذ خص بلاد مملكته وإقليم دولته بما لا يوجد فى غيرها من الأقاليم والبلدان وكان قد وفد الوافدون من سائر الأمصار إلى تلك الديار فوجدوا صاحب صواع الملك قد رفع إلى القلاع ومثل هذه الميرة لا توجد فى غير تلك البلاد لتشترى أو تباع فصادف ذلك جدب الأرض ونواحيها جدبا أعطب أهاليها حتى صاروا من شدة حاجتهم إلى الأقوات كالأموات والذى عرض للملك بالتضييق على صاحب صواعه مع شدة الحاجة إلى غذاء الأرواح لعله لم يتحقق عنده أن هذا الإمام من أكابر الأولياء وأعيان أهل الصلاح وهذه نزغة من نزغات الشيطان قال الله سبحانه { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا }
وأما إزراء بعض العلماء عليه فى فتواه وجوابه عن مسألة شد الرحال إلى القبور فقد حمل جواب علماء هذه البلاد إلى نظرائهم من العلماء وقرنائهم من الفضلاء وكلهم أفتى أن الصواب فى الذى به اجاب
____________________
(27/210)
والظاهر بين الأنام أن إكرام هذا الإمام ومعاملته بالتبجيل والإحترام فيه قوام الملك ونظام الدولة وإعزاز الملة وإستجلاب الدعاء وكبت الأعداء وإذلال أهل البدع والأهواء وإحياء الأمة وكشف الغمة ووفور الأجر وعلو الذكر ورفع البأس ونفع الناس ولسان حال المسلمين تال قول الكبير المتعال { فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين }
والبضاعة المزجاة هي هذه الأوراق المرقومة بالأقلام والميرة المطلوبة هي الإفراج عن شيخ الإسلام والذى حمل على هذا الإقدام قوله عليه السلام ( الدين النصيحة ( والسلام
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الكرام وسلم تسليما هذا آخر هذا الكتاب
قال المؤلف ووقفت على ( كتاب آخر ( من بغداد أيضا صورته
( بسم الله الرحمن الرحيم (
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد النبى
____________________
(27/211)
وآله وصحبه أجمعين
اللهم فكما أيدت ملوك الإسلام وولاة الأمور بالقوة والأيد وشيدت لهم ذكرا وجعلتهم للمقهور اللائذ بجنابهم ذخرا وللمكسور العائذ بأكناف بابهم جبرا فاشدد اللهم منهم بحسن معونتك لهم إزرا وأعل لهم جدا وإرفع قدرا وزدهم عزا وزودهم على أعدائك نصرا وأمنحهم توفيقا مسددا وتمكينا مستمرا
وبعد فإنه لما قرع أسماع أهل البلاد المشرقية والنواحى العراقية التضييق على شيخ الإسلام تقى الدين أبى العباس ( أحمد بن تيمية ( سلمه الله عظم ذلك على المسلمين وشق على ذوى الدين وإرتفعت رؤوس الملحدين وطابت نفوس أهل الأهواء والمبتدعين ولما رأى علماء أهل هذه الناحية عظم هذه النازلة من شماته أهل البدع وأهل الأهواء بأكابر الأفاضل وأئمة العلماء أنهوا حال هذا الأمر الفظيع والأمر الشنيع إلى الحضرة الشريفة السلطانية زادها الله شرفا وكتبوا أجوبتهم فى تصويب ما أجاب به الشيخ سلمه الله فى فتاواه وذكروا من علمه وفضائله بعض ما هو فيه وحملوا ذلك إلى بين يدى مولانا ملك الأمراء اعز الله أنصاره وضاعف اقتداءه غيرة منهم على هذا الدين ونصيحة للإسلام وأمراء المؤمنين
____________________
(27/212)
والآراء المولوية العالية أولى بالتقديم لأنها ممنوحة بالهداية إلى الصراط المستقيم
وأفضل الصلاة وأشرف التسليم على النبى الأمى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم تسليما
____________________
(27/213)
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه ( فصل
مختصر فى التنبيه على ما في هذا المصنف من الجهل والكذب مع أنه فى غاية الإختصار وقبل ذلك نذكر ( لفظ الجواب ( ليتبين ما فى معارضته من الخطأ والصواب ولفظ الجواب بعد لفظ السؤال والسؤال سؤال مسترشد يسأل عن السفر إلى قبور الأنبياء وما جاء فى ذلك من الأقوال المختلفة والأحاديث المتعارضة وقد سمع الإختلاف فى ذلك والأحاديث المتعارضة ولم يعرف صحيحها من ضعيفها فقال
ما تقول السادة العلماء فى رجل نوى ( زيارة قبور الأنبياء والصالحين ( مثل نبينا وغيره فهل يجوز له فى
____________________
(27/214)
سفره أن يقصر الصلاة وهل هذه الزيارة شرعية أم لا وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من حج ولم يزرنى فقد جفانى ( و ( من زارنى بعد موتى فكأنما زارنى فى حياتى ( وروى عنه أنه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا )
ولفظ الجواب الحمد لله أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة على قولين معروفين
أحدهما وهو قول متقدمى العلماء الذين لا يجوزون القصر فى سفر المعصية ويقولون إن هذا سفر معصية كأبى عبد الله بن بطة وأبى الوفاء إبن عقيل وطوائف كثيرين من العلماء المتقدمين أنه لا يجوز القصر فى مثل هذا السفر لأنه سفر منهى عنه ومذهب مالك والشافعى وأحمد أن السفر المنهى عنه فى الشريعة لا تقصر فيه الصلاة
والقول الثانى ( أنه تقصر الصلاة فيه وهذا يقوله من يجوز القصر فى السفر المحرم كأبى حنيفة ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعى واحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبى حامد الغزالى وأبى محمد المقدسى وأبى الحسن إبن عبدوس
____________________
(27/215)
الحرانى وهؤلاء يقولون إن هذا السفر ليس بمحرم لعموم قوله فزوروا القبور (
وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية فى زيارة قبر النبى صلى الله عليه وسلم كقوله ( من زارنى بعد مماتى فكأنما زارنى فى حياتى ( رواه الدارقطنى
وأما ما ذكره بعض الناس من قوله ( من حج ولم يزرنى فقد جفانى ( فهذا لم يروه أحد من العلماء وهو مثل قوله ( من زارنى وزار ابى فى عام واحد ضمنت له على الله الجنة ( فإن هذا أيضا باطل بإتفاق العلماء ولم يروه أحد ولم يحتج به احد وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطنى وقد زاد فيها المجيب حاشية بعد ذلك ولكن هذا وإن كان لم يروه أحد من العلماء فى ( كتب الفقه والحديث ( لا محتجا ولا معتضدا به وإن ذكره بعض المتأخرين فقد رواه أبوأحمد بن عدى فى ( كتاب الضعفاء ( ليبين ضعف روايته فذكره بحديث النعمان بن شبل الباهلى المصرى عن مالك عن نافع عن إبن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من حج ولم يزرنى فقد جفانى ( قال بن عدى لم يروه عن مالك غير هذا يعنى وقد علم أنه ليس من حديث مالك فعلم أن الآفة من جهته قال يونس إبن هارون كان النعمان هذا متهما وقال أبوحاتم بن حبان يأتى
____________________
(27/216)
عن الثقات بالطامات وقد ذكر أبوالفرج بن الجوزى هذا الحديث فى الموضوعات ورواه من طريق أبى حاتم بن حبان حدثنا احمد بن عبيد حدثنا محمد بن النعمان حدثنا جدى عن مالك ثم قال ابو الفرج قال أبوحاتم النعمان يأتى عن الثقات بالطامات وقال الدارقطنى الطعن فى هذا الحديث من محمد بن محمد لا من نعمان
وأما الحديث الآخر ( من زارنى وزار أبى فى عام واحد ضمنت له على الله الجنة ( فهذا ليس فى شيء من الكتب لا بإسناد موضوع ولا غير موضوع وقد قيل إن هذا لم يسمع فى الإسلام حتى فتح المسلمون بيت المقدس فى زمن صلاح الدين فلهذا لم يذكر أحد من العلماء لا هذا ولا هذا لا على سبيل الإعتضاد ولا على سبيل الإعتماد بخلاف الحديث الذى قد تقدم فإنه قد ذكره جماعة ورووه وهو معروف من حديث حفص بن سليمان الغاضرى صاحب عاصم عن ليث بن ابى سليم عن مجاهد عن بن عمر قال قال رسول الله ( من حج فزارنى بعد موتى كان كمن زارنى فى حياتى (
وقد إتفق أهل العلم بالحديث على الطعن فى حديث حفص هذا دون قراءته قال البيهقى فى ( شعب الإيمان ( روى حفص بن ابى داود وهو ضعيف عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد عن
____________________
(27/217)
بن عمر قال قال رسول الله ( من حج فزارنى بعد موتى كان كمن زارنى فى حياتى ( قال يحيى بن معين عن حفص هذا ليس بثقه وهو أصح قراءة من ابى بكر بن عياش وأبو بكر أوثق منه وفى رواية عنه كان حفص أقرأ من ابى بكر وكان أبو بكر صدوقا وكان حفص كذابا وقال البخارى تركوه وقال مسلم بن الحجاج متروك وقال على بن المدينى ضعيف الحديث تركته على عمد وقال النسائى ليس بثقة ولا يكتب حديثه وقال مرة متروك وقال صالح بن محمد البغدادى لا يكتب حديثه وأحاديثه كلها منا كير وقال أبوزرعة ضعيف الحديث وقال أبو حاتم الرازى لايكتب حديثه وهو ضعيف الحديث لا يصدق متروك الحديث وقال عبد الرحمن بن خراش هو كذاب متروك يضع الحديث وقال الحاكم أبوأحمد ذاهب الحديث وقال بن عدى عامة أحاديثه عمن روى عنه غير محفوظة
وفي الباب حديث آخر رواه البزار والدارقطنى وغيرهما من حديث موسى بن هلال حدثنا عبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من زار قبرى وجبت له شفاعتى ( قال البيهقى وقد روى هذا الحديث ثم قال وقد قيل عن موسى عن عبد الله قال وسواء عبد الله أو عبيد الله
____________________
(27/218)
فهو منكر عن نافع عن بن عمر لم يأت به غيره وقال العقيلى فى موسى بن هلال هذا لا يتابع على حديثه وقال أبو حاتم الرازى هو مجهول وقال ابوزكريا النواوى فى ( شرح المهذب ( لما ذكر قول أبى إسحاق وتستحب زيارة قبر رسول الله لما روى عن بن عمر عن النبى أنه قال ( من زار قبرى وجبت له شفاعتى ( قال النواوى أما حديث بن عمر فرواه أبو بكر الرازى والدارقطنى والبيهقى بإسنادين ضعيفين جدا
قال المجيب فى تمام الجواب وقد إحتج أبو محمد المقدسى على جواز السفر لزيارة القبور والمساجد بأنه كان يزور قباء وانه كان يزور القبور وأجاب عن حديث ( لا تشد الرحال ( بأن ذلك محمول على نفى الإستحباب
وأما الأولون فإنهم يحتجون بما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا ( وهذا الحديث إتفق الأئمة على صحته والعمل به فلو نذر الرجل أن يصلى بمسجد أو بمشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك بإتفاق الأئمة ولو نذر أن يسافر أو يأتى إلى المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب عليه ذلك بإتفاق العلماء ولو نذر أن يأتى مسجد النبى
____________________
(27/219)
أو المسجد الأقصى لصلاة أو إعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعى فى أحد قوليه وأحمد ولم يجب عليه عند ابى حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع واما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة كما ثبت فى صحيح البخارى عن عائشة أن النبى قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ( والسفر إلى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به واما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليها إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة مع ان مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة لأن ذلك ليس بشد رحل كما فى الحديث الصحيح ( من تطهر فى بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة ( وفى الحاشية وهذا الحديث رواه اهل السنن كالنسائى وبن ماجه والترمذى وحسنه
قال وقالوا ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها احد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله ولا إستحب ذلك احد من ائمة المسلمين فمن إعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة فى ( الإبانة الصغرى ( من البدع المخالفة للسنة
____________________
(27/220)
وبهذا يظهر ضعف حجة أبى محمد المقدسى لأن زيارة النبى صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشد رحل والسفر إليه لا يجب بالنذر
وقوله فى قول النبى ( لا تشد الرحال ( إنه محمول على نفى الإستحباب عنه جوابان
أحدهما أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات فإذا من إعتقد السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لإعتقاده انها طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من هذه الجهة ومعلوم أن احدا لا يسافر إليها إلا لذلك وأما إذا قدر أن الرجل سافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من هذا الباب
الوجه الثانى أن هذا الحديث يقتضى النهى والنهى يقتضى التحريم وما ذكره السائل من الأحاديث فى زيارة قبر النبى فكلها ضعيفة بإتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة لم يخرج أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها بل مالك أمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل زرت قبر النبى صلى الله عليه
____________________
(27/221)
وسلم ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو ماثورا عن النبى لم يكرهه عالم المدينة
والإمام أحمد أعلم الناس فى زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه فى ذلك من الأحاديث إلا حديث أبى هريرة ( أن النبى قال ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( وعلى هذا إعتمد أبو داود فى سننه وكذلك مالك فى ( الموطأ ( روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف وفى سنن أبى داود عن النبى أنه قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغنى ( وفى سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن الحسن بن الحسين رأى رجلا يختلف إلى قبر النبى فقال إن رسول الله قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغنى ( ما انتم ومن بالأندلس منه إلا سواء وفى الصحيحين عن النبى أنه قال فى مرض موته ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وهم دفنوه فى حجرة عائشة خلاف ما
____________________
(27/222)
إعتادوه من الدفن فى الصحراء لئلا يصلى أحد عند قبره ويتخذه مسجدا فيتخذ قبره وثنا
وكان الصحابة والتابعون لما كانت ( الحجرة النبوية ( منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك لا يدخل عنده أحد لا لصلاة هناك ولا لتمسح بالقبر ولا دعاء هناك بل هذا جميعه إنما يفعلونه فى المسجد وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا على النبى وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلى القبلة لم يستقبلوا القبر
وأما وقوف المسلم عليه فقال أبوحنيفة يستقبل القبلة أيضا لا يستقبل القبر وقال أكثر الأئمة بل يستقبل القبر عند السلام عليه خاصة ولم يقل أحد من الأئمة يستقبل القبر عند الدعاء أى الدعاء الذى يقصده لنفسه إلا فى حكاية مكذوبة تروى عن مالك ومذهبه بخلافها وإتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبى ولا يقبله وهذا كله محافظة على التوحيد
فإن من اصول الشرك بالله إتخاذ القبور مساجد كما قال طائفة من السلف فى قوله تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قالوا هؤلاء كانوا قوما صالحين
____________________
(27/223)
فى قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم وقد ذكر بعض هذا المعنى البخارى فى صحيحه كما ذكر قول بن عباس إن هذه الأوثان صارت إلى العرب وذكره إبن جرير الطبرى وغيره فى التفسير عن غير واحد من السلف وذكره غيره فى ( قصص الأنبياء ( من عدة طرق وقد بسطت الكلام على هذه المسائل فى غير هذا الموضع
وأول من وضع هذه الأحاديث فى السفر لزيارة المشاهد التى على القبور هم اهل البدع من الرافضة وغيرهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد التى يشرك فيها ويكذب فيها ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانا فإن الكتاب والسنة إنما فيه ذكر المساجد دون المشاهد كما قال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } وقال { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة } وقال تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وقال تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد
____________________
(27/224)
فإنى أنهاكم عن ذلك والله تعالى أعلم
فهذه ألفاظ المجيب
فليتدبر الإنسان ما تضمنته وما عارض به هؤلاء المعارضون مما نقلوه عن الجواب وما إدعوا أنه باطل هل هم صادقون مصيبون فى هذا او هذا أو هم بالعكس والمجيب أجاب بهذا من بضع عشرة سنة بحسب حال هذا السائل وإسترشاده ولم يبسط القول فيها ولا سمى كل من قال بهذا القول ومن قال بهذا القول بحسب ما تيسر فى هذا الوقت وإلا فهذان القولان موجودان فى كثير من الكتب المصنفة فى مذهب مالك والشافعى واحمد وفى شروح الحديث وغير ذلك والقول بتحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة وإن كان قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو قول مالك وجمهور أصحابه وكذلك أكثر أصحاب أحمد الحديث عندهم معناه تحريم السفر إلى غير الثلاثة لكن منهم من يقول قبر نبينا لم يدخل فى العموم ثم لهذا القول مأخذان
أحدهما أن السفر إليه سفر إلى مسجده وهذا المأخذ هو الصحيح وهو موافق لقول مالك وجمهور أصحابه
والمأخذ الثانى أن نبينا لا يشبه بغيره من المؤمنين كما قال
____________________
(27/225)
طائفة من اصحاب أحمد أنه يحلف به وإن كان الحلف بالمخلوقات منهيا عنه وهو رواية عن أحمد ومن اصحابة من قال فى المسألتين حكم سائر الأنبياء كحكمه قاله بعضهم فى الحلف بهم وقاله بعضهم فى زيارة قبورهم وكذلك أبو محمد الجوينى ومن وافقه من أصحاب الشافعى على ان الحديث يقتضى تحريم السفر إلى غير الثلاثة
وآخرون من اصحاب الشافعى ومالك واحمد قالوا المراد بالحديث نفى الفضيلة والإستحباب ونفى الوجوب بالنذر لا نفى الجواز وهذا قول الشيخ أبى حامد وابى على وابى المعالى والغزالى وغيرهم وهو قول إبن عبدالبر وابى محمد المقدسى ومن وافقهما من اصحاب مالك واحمد فهذان هما القولان الموجودان فى كتب المسلمين ذكرهما المجيب ولم يعرف أحدا معروفا من العلماء المسلمين فى الكتب قال إنه يستحب السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين ولو علم أن فى المسألة قولا ثالثا لحكاه لكنه لم يعرف ذلك وإلى الآن لم يعرف أن أحدا قال ذلك ولكن أطلق كثير منهم القول باستحباب زيارة قبر النبى صلى الله عليه وسلم وحكى بعضهم الإجماع على ذلك وهذا مما لم يذكر فيه المجيب نزاعا فى الجواب فإنه من المعلوم أن مسجد النبى يستحب السفر إليه بالنص والإجماع فالمسافر إلى قبره لابد إن كان عالما بالشريعة أن يقصد السفر إلى
____________________
(27/226)
مسجده فلا يدخل ذلك فى جواب المسألة فإن الجواب إنما كان عمن سافر لمجرد زيارة قبورهم والعالم بالشريعة لا يقع فى هذا فإنه يعلم أن الرسول قد إستحب السفر إلى مسجده والصلاة فيه وهو يسافر إلى مسجده فكيف لا يقصد السفر إليه فكل من علم ما يفعله بإختياره فلا بد أن يقصده وإنما ينتفى القصد مع الجهل إما مع الجهل بأن السفر إلى مسجده مستحب لكونه مسجده لا لأجل القبر وإما مع الجهل بأن المسافر إنما يصل إلى مسجده فأما مع العلم بالأمرين فلابد أن يقصد السفر إلى مسجده ولهذا كان لزيارة قبره حكم ليس لسائر القبور من وجوه متعددة كما قد بسط فى مواضع
وأهل الجهل والضلال يجعلون السفر إلى زيارته كما هو المعتاد لهم من السفر إلى زيارة قبر من يعظمونه يسافرون إليه ليدعوه ويدعوا عنده ويدخلوا إلى قبره ويقعدوا عنده ويكون عليه أو عنده مسجد بنى لاجل القبر فيصلون فى ذلك المسجد تعظيما لصاحب القبر وهذا مما لعن النبى أهل الكتاب على فعله ونهى أمته عن فعله فقال فى مرض موته ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( وهو فى الصحيحين من غير وجه وقال قبل أن يموت بخمس ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم
____________________
(27/227)
عن ذلك ( رواه مسلم
فمن لم يفرق بين ماهو مشروع فى زيارة القبور وما هو منهى عنه لم يعرف دين الإسلام فى هذا الباب
والمقصود التنبيه على مافى هذا المصنف الذى صنفه هذا المعترض على الجواب المذكور وبيان ما فيه من الجهل والإفتراء
فمنها أنه قال فى الجواب أنه ظهر لى من صريح ذلك الكلام وفحواه ومقصده إلي ومغزاه وهو تحريم زياره قبور الأنبياء وسائر القبور والسفر إليها ودعواه أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها
فيقال معلوم لكل من رأى الجواب أنه ليس فيه تحريم لزيارة القبور لا قبور الأنبياء ولا غيرهم إذا لم يكن بسفر ولا فيه دعوى الإجماع على تحريم السفر بل قد صرح بالخلاف فى ذلك فكيف يحكى عنه أنه يقول إن نفس زيارة القبور مطلقا معصية محرمة مجمع عليها فهذا إفتراء ظاهر على الجواب ثم أنه تناقض فى ذلك فحكى بعد هذا عن المجيب أنه حكى الخلاف فى جواز السفر
ثم قال فى آخر كلامه إن ما ادعاه مجمع على أنه حرام وأنه يناقض فى ذلك وهو الذى يناقض فى هذه الحكاية وأما المجيب
____________________
(27/228)
فحكى قولهم فى جواز السفر وأنهم إتفقوا على أنه ليس بقربة ولا طاعة فمن إعتقد ذلك فقد خالف الإجماع وإذا فعله لإعتقاده أنه طاعة كان محرما بالإجماع فصار التحريم من جهة إتخاذه قربة هذا لفظ الجواب
ومعلوم فى كل عمل تنازع المسلمون فيه هل هو محرم أو مباح ليس بقربة أن من جعله قربة فقد خالف الإجماع وإذا فعله متقربا به كان ذلك حراما بإلاجماع كما لو تقرب بلعب النرد والشطرنج وبيع الدرهم بالدرهمين وإتيان النساء فى الحشوش وإستماع الغناء والمعازف ونحو ذلك مما للناس فيه قولان التحريم والإباحة لم يقل أحد إنها قربة فالذى يجعله عبادة يتقرب به كما يتقرب بالعبادات قد فعل محرما بالإجماع وهذا يشبه التقرب بالملاهى والمعازف فإن جمهور المسلمين على أنها محرمة وبعضهم أباحها ولم يقل أحد إنها قربة فقائل ذلك مخالف للإجماع وإنما يقول ذلك زنديق مثل ما حكى أبو عبد الرحمن السلمى عن بن الراوندى أنه قال إختلف الفقهاء فى الغناء هل هو حرام أو حلال وأنا أقول أنه واجب ومعلوم أن هذا ليس من أقوال علماء المسلمين
والذين يتقربون بسماع القصائد والتغبير ونحو ذلك هم مخطئون عند عامة الأئمة مع أنه ليس فى هؤلاء من يقول إن الغناء قربة
____________________
(27/229)
مطلقا ولكن يقوله فى صورة مخصوصة لبعض أهل الدين الذين يحركون قلوبهم بهذا السماع إلى الطاعات فيحركون به وجد المحبة والترغيب فى الطاعات ووجد الحزن والخوف والترهيب من المخالفات فهذا هو الذى يقول فيه طائفة من الناس إنه قربة مع أن الجمهور على أنهم مخطئون لو جعل هذا قربة لكونه بدعة ليست واجبة ولا مستحبة ولاشتماله على مفاسد راجحة على ما ظنوه من المصالح كما فى الخمر والميسر فإنه وإن كان فيهما منافع للناس فاثمهما أكبر من نفعهما
والشريعة تأمر بالمصالح الخالصة والراجحة كالإيمان والجهاد فإن الإيمان مصلحة محضة والجهاد وإن كان فيه قتل النفوس فمصلحته راجحة وفتنة الكفر أعظم فسادا من القتل كما قال تعالى { والفتنة أكبر من القتل } ونهى عن المفاسد الخالصة والراجحة كما نهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وعن الإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وهذه الأمور لا يبيحها قط فى حال من الأحوال ولا فى شرعة من الشرائع وتحريم الدم والميتة ولحم الخنزير والخمر وغير ذلك مما مفسدته راجحة وهذا الضرب تبيحه عند الضرورة لأن مفسدة فوات النفس أعظم من مفسدة الإغتذاء به
والفقهاء إنما تنازعوا فى الخمر هل تشرب للعطش لتنازعهم في
____________________
(27/230)
كونها تذهب العطش والناهى قال لا تزيد الشارب إلا عطشا فلا يحصل به بقاء المهجة والمبيح يقول بل قد ترطب رطوبة تبقى معها المهجة وحينئذ فأى المأخذين كان هو الواقع كان قول صاحبه أصوب وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود أن ما إختلف فيه العلماء هل هو حرام أو مباح كان من جعلة قربة مخالفا لإجماعهم كما إذا إختلف الصحابة على قولين فمن أحدث قولا ثالثا فقد خالف إجماعهم ولهذا لم يكن فى المسلمين من يقول إن إستماع الغناء قربة مطلقا وإن قال إن سماع القول الذى شرط له المكان والإمكان والأخوان وهو ترغيب فى الطاعات وترهيب من المخالفات قربة فلا يقول قط إن كل من سمع الملاهى فهو متقرب كما يقول القائل إن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين قربة وأنه إذا نذر السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه يفى بهذا النذر فإن هذا القول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين وإن أطلقوا القول بأن السفر إلى زيارة قبر النبى قربة أوقالوا هو قربة مجمع عليها فهذا حق إذا عرف مرادهم بذلك كما ذكر ذلك القاضي عياض وإبن بطال وغيرهما فمرادهم السفر المشروع إلى مسجده وما يفعل فيه من العبادة المشروعة التى تسمى زيارة لقبره ومالك وغيره يكرهون أن تسمى زيارة لقبره فهذا الإجماع
____________________
(27/231)
على هذا المعنى صحيح لا ريب فيه
ولكن ليس هذا إجماعا على ماصرحوا بالنهى عنه أو بأنه ليس بقربة ولا طاعة والسفر لغير المساجد الثلاثة قد صرح مالك وغيره كالقاضى إسماعيل والقاضى عياض وغيرهما أنه منهى عنه لا يفعله لا ناذر ولا متطوع وصرحوا بأن السفر إلى المدينة وإلى بيت المقدس لغير الصلاة فى المسجدين هو من السفر المنهى عنه ليس له أن يفعله وإن نذره سواء سافر لزيارة أى نبى من الأنبياء أو قبر من قبورهم أو قبور غيرهم أو مسجد غير الثلاثة فهذا كله عندهم من السفر المنهى عنه فكيف يقولون إنه قربة ولكن الإجماع على تحريم إتخاذه قربة لا يناقض النزاع فى الفعل المجرد
وهذا الإجماع المحكى عن السلف والأئمة لا يقدح فيه خلاف بعض المتأخرين إن وجد ولكن إن وجد ان أحدا من الصلحاء المعروفين من السلف قال إنه يستحب السفر لمجرد زيارة القبور أو لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين كان هذا قادحا فى هذا الإجماع ويكون فى المسألة ثلاثة أقوال ولكن الذى يحكى الإجماع لم يطلع على هذا القول كما يوجد ذلك كثيرا لكثير من العلماء ومع هذا فهذا القول يرد إلى الكتاب والسنة لا يجوز إلزام الناس به بلا حجة فإن هذا خلاف إجماع المسلمين
____________________
(27/232)
فصل
ومنها ظنه أن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس الزيارة المعهودة فى قبر غيره حتى يحتج عليها بزيارة البقيع وشهداء أحد وزيارة قبر أمه
ومنها أنه جعل من حرم السفر لزيارة قبره وسائر القبور مجاهرا بالعداوة للأنبياء مظهرا لهم العناد ومعلوم أن هذا قول أكثر المتقدمين كمالك وأكثر أصحابه والجوينى أبى محمد وغيره من اصحاب الشافعى وأكثر متقدمى أصحاب أحمد فيلزمه أن يكون إمامه مالك وغيره من أئمة الدين مجاهرين للأنبياء بالعداوة معاندين لهم وهذا لو قاله فيما أخطأوا فيه لإستحق العقوبة البليغة فكيف إذا قاله فيما إتبعوا فيه الرسول وإتبعوا فيه سنته الصحيحة فحرموا ما حرم فقد جعل المطيع لله ورسوله الذي رضي الله ورسوله وأنبياؤه عمله مجاهرا لهم بالعداوة معاندا لهم فكفر من حكم الله ورسوله بإيمانه
ومثل هذا يبين له الصواب وإن هذا القول هو الذى جاء به
____________________
(27/233)
الرسول وكان عليه السابقون الأولون من الأمة وأئمتها وعليه دل الكتاب والسنة فإذا تبين له أن هذا هو الذى جاء به الرسول ثم أصر على مشاقة الرسول وإتباع غير سبيل المؤمنين فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل
وكذلك إذا تبين أن هذا القول ليس بكفر بل هو مما إتفق المسلمون على أنه قول سائغ وقائله مجتهد مأجور على إجتهاده سواء أصاب أو أخطأ فإذا أصر على تكفير من تبين بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يكفر وتبين له أنه يكفر فأصر على مشاقة الرسول وإتباع غير سبيل المؤمنين فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كمن جعل إعتقاد أن المسيح عبد الله معاداة للمسيح أو إعتقد أن من قال لا تحلف بالأنبياء فقد عاداهم وكفر فإن مثل هذا يستتاب
ومنها أن هذه المسألة قد نص عليها مالك إمامه وجمهور أصحابه وهو فى كتبهم الكبار والصغار وهو لم يعرف ما قالوا بل يكفر ويلعن ويشتم من قال بنفس القول الذى قالوه فيلزمه تكفيرهم وسبهم وإستحلال دمائهم
ومنها أنه قال ورد فى زيارة قبره أحاديث صحيحة وغيرها مما لم يبلغ درجة الصحيح لكنها يجوز الإستدلال بها على الأحكام
____________________
(27/234)
الشرعية وهذا كلام من لا يعرف ما روى فى هذا الباب ولا ما قال فيه علماء المسلمين بل هو بمنزلة الرافضى الذى يقول قد روى فى النص على علي أنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحه وأخر دونها ومعلوم أن الأحاديث التى فيها ذكر زيارة قبره لم يخرج شيئا منها أهل الصحيح ولا السنن المعتمد عليها كسنن أبى داود والترمذى ولا المسانيد التى هي من هذا الجنس كمسند أحمد ولا إستدل بشيء منها إمام وهو مع ذلك لم يذكر منها حديثا واحدا فضلا عن أن يعزوه إلى كتاب
وقوله إن مالم يبلغ درجة الصحيح منها يجوز الإستدلال بها إنما يكون إذا كانت حسنة عند من قسم الحديث إلى ثلاثة أنواع وهذا موقوف على العلم بحسنها وأئمة الحديث لم يحكموا بذلك وهو وأمثاله لا يعرفون ذلك فالقول بذلك من أعظم القول بلا علم فى الدين والجرأة على سنة رسول رب العالمين بأن يدخل فيها ماليس منها بالجهل والضلال فكيف إذا كان جميع ما روى فى هذا الباب مما ضعفه أهل المعرفة بالحديث بل حكموا بأنه كذب موضوع كما قد بسط الكلام على ما روى فى هذا الباب فى غير هذا الكتاب
ومنها أنه لم يفرق بين ( الزيارة الشرعية ( التى كان النبى يفعلها ومقصودها الدعاء للميت كالصلاة على جنازته
____________________
(27/235)
وبين ما إبتدعه الضالون من الإشراك بالميت والحج إلى قبره ودعائه من دون الله ومقصوده بزيارته والسفر إليه أنه يدعوه من دون الله لا أنه يدعو له وهذه الزيارة لم يفعلها الرسول ولا أذن فيها قط فكيف بالسفر إليها وهو من جنس الحج إلى الطواغيت
ومنها أنه جعل زيارة الميت كزيارته حيا وإستدل بحديث ( الذى زار أخا له فى الحياة ( على أنه يستحب زيارة الميت وهذه التسوية والقياس ما عرفت عن أحد من علماء المسلمين فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين سافروا إلى الرسول فساعدوه وسمعوا كلامه وخاطبوه وسألوه فأجابهم وعلمهم وأدبهم وحملهم رسائل إلى قومهم وأمرهم بالتبليغ عنه لا يكون مثلهم أحد بالأعمال الفاضلة كالجهاد والحج فكيف يكون بمجرد رؤية ظاهر حجرته مثلهم أو تقاس هذه الزيارة بهذه الزيارة
فقد ثبت بالسنة وإتفاق الأمة أن كلما يفعل من الأعمال الصالحة فى المسجد عند حجرته من صلاة عليه وسلام وثناء وإكرام وذكر محاسن وفضائل ممكن فعله فى سائر الأماكن ويكون لصاحبه من الأجر ما يستحقه كما قال ( لا تتخذوا بيتى عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم ( ولو كان للأعمال عند القبر فضيلة لفتح للمسلمين باب الحجرة فلما منعوا من الوصول إلى القبر
____________________
(27/236)
وأمروا بالعبادة فى المسجد علم أن فضيلة العمل فيه لكونه فى مسجده كما أن صلاة فى مسجده بألف صلاة فيما سواه ولم يأمر قط بأن يقصد بعمل صالح أن يفعل عند قبره
ومنها إفتراؤه على المجيب فى مواضع متعددة إفتراء ظاهرا وسبب إفترائه عليه أنه ذكر قول علماء المسلمين ورجح ما قاله مالك وغيره من السلف لكون سنة رسول الله الصحيحة الصريحة توافقهم وهذا يستلزم معاداة الله ورسوله إذا كان من عادى سنته وشريعته ودينه فقد عاداه ومن عادى شخصا لأجل ذلك فإنما عادى الرسول فى الحقيقة وإن لم يقصد ذلك فكيف يجوز الكذب والإفتراء مرة بعد مرة وهو كذب ظاهر ولو كان المجيب مخطئا لما جاز ذلك فإن الكذب والإفتراء حرام مطلقا والله أوجب الصدق والعدل لكل أحد على كل أحد فى كل حال
فكيف إذا كان ما ذكره المجيب من الأقوال هي أقوال المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم والمعترض القادح فيهم وفيما قالوه الشاتم المكفر لمن آمن بالرسول وأطاعه وإتبعه على نفس ما هو متابعة للرسول وإيمان به قوله هذا المتضمن عداوة الرسول وعداوة ما جاء به وعداوة من إتبعه وإن لم يكن عالما بما تضمنه قوله فقوله مع عدم العلم من جنس أقوال المحادين لله ولرسوله الموالين لأهل
____________________
(27/237)
الإفك والشرك المضاهين للنصارى وأمثالهم مع أنهم لا يعلمون أن قولهم يتضمن ذلك لقلة العلم وسوء الفهم والبعد عن أهلية الإجتهاد والإستدلال بالأدلة الشرعية ومعرفة ما قاله أئمة الدين
بل هم فى مثل هذه المسألة العظيمة يتكلمون بأنواع من الكلام صاحبها إلى الإستتابة والتعزير والتعليم والتفهيم أحوج منه إلى الرد عليه والمناظرة له كما يوجد فى جهال أهل البدع من الرافضة والخوارج وغيرهم من يسارع إلى تكفير من إتبع الرسول من السلف لقلة علمه وسوء فهمه لما جاء به الرسول فهم مبتدعون بدعة بجهلهم ويكفرون من خالفهم
وأهل السنة والعلم والإيمان يعرفون الحق ويتبعون سنة الرسول ويرحمون الخلق ويعدلون فيهم ويعذرون من إجتهد فى معرفة الحق فعجز عن معرفته وإنما يذمون من ذمه الله ورسوله وهو المفرط فى طلب الحق لتركه الواجب والمعتدي المتبع لهواه بلا علم لفعله المحرم فيذمون من ترك الواجب أو فعل المحرم ولا يعاقبونه إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } لا سيما فى مسائل تنازع فيها العلماء وخفى العلم فيها على اكثر الناس ومن كان لا يتكلم بطريقة أهل
____________________
(27/238)
العلم بل جازف فى القول بلا علم
فصاحب هذا الكلام لا يصلح للمناظرة إلا كما يناظر جهال العوام المبتدعين المضاهين للمشركين والنصارى فإنهم يجعلون من قال الحق فى المخلوق سابا له شاتما وهم يسبون الله ويشتمونه ويؤذونه ولا يخافون من سب الخالق وشتمه وأشرك به ما يخافونه من قول الحق فى حق المخلوق كما قال الخليل لهم { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } وكما قال تعالى عن المشركين { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون } فلا يغضبون من ذكر الرحمن بالباطل كما يغضبون من ذكر آلهتهم بالحق وقال تعالى { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون }
وقد ذكر أهل التفسير ( أن النصارى نصارى نجران
____________________
(27/239)
لما قدموا على النبى قالوا يا محمد لم تذكر صاحبنا قال ومن صاحبكم قالوا عيسى قال وأى شيء أقول له هو عبد الله قالوا بل هو الله فقال إنه ليس بعار عليه أن يكون عبدا لله فقالوا بلى فأنزل الله هذه الآية ( وفى الصحيحين عن النبى قال ( ما أحد اصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم ) وفى الصحيحين أيضا أنه قال ( يقول الله شتمنى إبن آدم وما ينبغى له ذلك وكذبنى بن آدم وما ينبغى له ذلك فأما شتمه إياى فقوله إنى إتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذى لم ألد ولم أولد ولم يكن لى كفوا أحد وأما تكذيبه إياى فقوله لن يعيدنى كما بدأنى وليس أول الخلق بأهون على من إعادته ( وكان معاذ بن جبل يقول عن النصارى لا ترحموهم فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر
فهؤلاء ينتقصون الخالق ويأنفون أن يذكر المخلوق بما يستحقه ويجعلون ذلك تنقيصا له وإنما هو إعطاؤه حقه وخفض له عن درجة الإلهية التى لا يستحقها إلا الله وهذه حال من أشبههم من بعض الوجوه
ومنها ظنه أن كل ما كان قربة جاز التوسل إليه بكل وسيلة
____________________
(27/240)
وهذا من أظهر الخطأ
ومنها ظنه أن القول بتحريم السفر لم يقل به احد من أهل العلم بل إنما نقله المجيب إن صح نقله عمن لا يعتمد عليه ولا يعتد بخلافه وهو نص مالك الصريح فى خصوص قبر الرسول ومذهب جمهور أصحابه وجمهور السلف والعلماء
ومنها زعمه أن الذين حكى المجيب قولهم وهم الغزالى وبن عبدوس وأبو محمد المقدسى لا يعتد بخلاف من سواهم ولا يرجع فى ذلك لمن عداهم ومثل هذا الكلام لا يقال فى أحد من الأئمة الكبار بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب الشرع فكيف يسوغ أن يقال فى مثل هؤلاء
ومنها أنه لما أراد أن يثبت أن النبى يسمع من القرب ويبلغ الصلاة والسلام من البعد لم يذكر ما فى ذلك من الأحاديث الحسان التى فى السنن بل إنما إعتمد على حديث موضوع ( من صلى على عند قبرى سمعته ومن صلى على نائيا بلغته ( وهذا إنما يرويه محمد بن مروان السدى عن الأعمش وهو كذاب بالإتفاق وهذا الحديث موضوع على الأعمش بإجماعهم
ثم قد غير لفظه ففى النسخة التى رأيتها مصححا ( ومن
____________________
(27/241)
صلى على نائيا سمعته ( وإنما لفظه ( بلغته ( وهكذا ذكره القاضي عياض عن مسند بن أبى شيبة وهو نقل منه ومن يحتج بمثل هذا الحديث الموضوع ويعرض عن أحاديث أهل السنن الحسان فهو من أبعد الناس عن أهل العلم والعرفان وإذا كان قد حرف لفظه فهو ظلمات بعضها فوق بعض من جنس فعل الملاحدة فى قوله ( أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ( الحديث فهو كذب موضوع ومع هذا فحرفوا لفظه فقالوا أول بالضم ولفظه ( أول ما خلق ( بالنصب على الظرف كما روى ( لما خلق (
ومنها أنه إحتج بإجماع السلف والخلف على زيارة قبره وظن أن الجواب يتضمن النهى عما أجمع عليه وقد صرح فى الجواب بأن السفر إلى مسجده طاعة مجمع عليها وكذلك ما تضمنه مما يسمى بزيارة لقبره من الأمور المستحبة مثل الصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له بالوسيلة وغيرها والشهادة له والثناء عليه بما فضله الله به ومحبته وموالاته وتعزيره وتوقيره وغير ذلك مما قد يدخل فى مسمى الزيارة فهذا كله مستحب والمجيب يصرح بإستحباب ذلك وقد تنازع العلماء هل يسمى هذا زيارة وذكر تنازع العلماء فيما تنازعوا فيه من ذلك وإجماعهم على ما أجمعوا عليه فذكر جواز ما ثبت بالنص والإجماع من السفر إلى مسجده وزيارة قبره وذكر بعض ما
____________________
(27/242)
تنوزع فيه من ذلك وهذا ظن أن السفر إلى زيارة نبينا كالسفر إلى غيره من الأنبياء والصالحين وهو غلط من وجوه
( أحدها ( أن مسجده عند قبره والسفر إليه مشروع بالنص والإجماع بخلاف غيره
( والثاني ( أن زيارته كما يزار غيره ممتنعة وإنما يصل الإنسان إلى مسجده وفيه يفعل ما شرع له
الثالث ( أنه لو كان قبر نبينا يزار كما تزار القبور لكان أهل مدينتة أحق الناس بذلك كما أن أهل كل مدينة أحق بزيارة من عندهم من الصالحين فلما اتفق السلف وأئمة الدين على أن أهل مدينتة لا يزورون قبره بل ولا يقفون عندة للسلام اذا دخلوا المسجد وخرجوا وان لم يسمى هذا زيارة بل يكره لهم ذلك عند غير السفر كما ذكر ذلك مالك وبين أن ذلك من البدع التى لم يكن صدر هذة الأمة يفعلونه علم أن من جعل زيارة قبرة مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف اجماع المسلمين
( الرابع ( أنه قد نهى أن يتخذ قبرة عيدا وأمر الأمة أن تصلى عليه وتسلم حيث ما كانت وأخبر أن ذلك يبلغه فلم يكن تخصيص البقعة بالدعاء له مشروعا بل يدعى له فى جميع الآماكن وعند كل
____________________
(27/243)
أذان وفى كل صلاة وعند دخول كل مسجد والخروج منه بخلاف غيره وهذا لعلو قدرة وارتفاع درجته فقد خصه الله من الفضيلة بما لم يشركه فيه غيره لئلا يجعل قبرة مثل سائر القبور بل يفرق بينهما من وجوه متعددة ويبين فضله على غيره وما من الله به على أمتة
ومنها أنه قال لم يلزم من دعواه بأن ذلك مجمع على تحريمه أن يكون السادة الصحابة مع التابعين ومن بعدهم من العلماء المجتهدين للاجماع خارقين مصرين على تقرير الحرام مرتكبين بأنفسهم وفتاويهم ما لا يجوز عليه الاقدام مجمعين على الضلالة سالكين طريق العماية والجهالة
وفي هذا الكلام من الجهل بالشريعة وما أجمع عليه المسلمون والتسوية بين عبادة الرحمن التى أجمع عليها أهل الايمان وبين عبادة الآوثان التى أجمعوا على تحريمها وغير ذلك مما يبين اشتمال هذا الكلام على أنواع من مخالفة دين الاسلام ولو كان صاحبه ممن يفهم ما قال ولوازمه لكان مرتدا يجب قتله لكنه جاهل قد يتكلم بما لا يتصوره ويتصور لوازمه
فيقال له ولأمثاله ممن ظن أن فى الجواب ما يخالف الاجماع
____________________
(27/244)
الذى أجمع عليه المسلمون سلفا وخلفا قرنا بعد قرن هو السفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصلاة والسلام عليه فيه ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله من الأعمال المتضمنة لعبادة الله وحده والقيام بحق رسوله من أفضل العبادات لله كشهادتنا له وثنائنا عليه وصلاتنا وسلامنا عليه من أفضل ما عبدنا الله به وهذا ونحوه هو المشروع فى مسجده سواء سمى زيارة لقبره أو لم يسم
فإن لفظ الزيارة لقبره وإستحباب ذلك لا يعرف عن أحد من الصحابة بل المنقول عن بن عمر ومن وافقه السلام عليه هناك والصلاة وهم لا يسمون هذا زيارة لقبره فكيف بالذين لم يكونوا يقفون عند القبر بحال وهم جمهور الصحابة
وأما ما إبتدعه بعض الناس من الشرك والبدع وسمى ذلك ( زيارة لقبره ( فهو من جنس الزيارة البدعية التى تفعل عند قبر غيره ليس هو من الزيارة الشرعية
وأما ما يدخل فى الأعمال الشرعية فهذا هو المستحب بسنته الثابتة عنه وبإجماع أمته ثم من أئمة العلم من لا يسمى هذا زيارة لقبره ( بل يكره هذه التسمية فضلا عن أن يقول إن ذلك سفر إلى قبره وقد صرح من قال ذلك مثل مالك وغيره بأن المسافر إلى هناك إذا
____________________
(27/245)
كان مقصوده القبر أنه سفر منهى عنه داخل فى قوله ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ( وأن السفر الذى هو طاعة وقربة أن يقصد السفر لأجل الصلاة فى المسجد وأنه لو نذر أن يسافر إلى المدينة لغير الصلاة فى المسجد فإنه ينهى عن الوفاء بنذره لأنه نذر معصية
فإذا كان هذا من قولهم معروفا فى الكتب الصغار والكبار فكيف يظن أن السفر لمجرد زيارة القبور هو مجمع عليه بين الأئمة وطائفة أخرى من العلماء يسمون هذا زيارة لقبره ويقولون تستحب زيارة قبره أو السفر لزيارة قبره ومقصودهم بالزيارة هو مقصود الأولين وهو السفر إلى مسجده وأن يفعل فى مسجده ما يشرع من الصلاة والسلام عليه والدعاء له والثناء عليه وهذا عندهم يسمى زيارة لقبره مع إتفاق الجميع على أن أحدا لا يزور قبره الزيارة المعروفة فى سائر القبور فإن تلك قبور بارزة يوصل إليها ويقعد عندها أو يقام عندها ويمكن أن يفعل عندها ما يشرع كالدعاء للميت والإستغفار له وما ينهى عنه كدعائه والشرك به والنياحة عند قبره والندب فهذا هو المفهوم من ( زيارة القبور (
والرسول دفن فى بيته فى حجرته ومنع الناس من الدخول إلى هناك والوصول إلى قبره فلا يقدر أحد أن يزور قبره كما يزور قبر غيره لا زيارة شرعية ولا بدعية بل إنما يصل جميع الخلق
____________________
(27/246)
إلى مسجده وفيه يفعلون ما يشرع لهم أو ما يكره لهم والسفر إلى مسجده لما شرع سفر طاعة وقربة بالإجماع وهو الذى أجمع عليه المسلمون
والمجيب قد ذكر إستحباب هذا السفر وأنه يستحب بالنص والإجماع فى مواضع كثيرة وقد ذكر ذلك فى هذا الجواب وبين ما ثبت بالنص والإجماع من السفر إلى مسجده وزيارته الشرعية وبين مالم يشرع من السفر إلى زيارة قبر غيره مما فى قبور الأنبياء والصالحين فإن السفر إلى هناك ليس هو سفر إلى مسجد شرع السفر إليه بل المساجد التى هناك إن كانت مما يشرع بناؤه والصلاة فيه كجوامع المسلمين التى فى الأمصار فهذه ليس السفر إليها قربة ولا طاعة لا عند الأئمة الأربعة ولا عامة أئمة المسلمين والسفر إليها داخل فى قوله ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ( بإتفاق الناس فإن هذا إستثناء مفرغ والتقدير فيه أحد أمرين
إما أن يقال ( لا تشد الرحال ( إلى مسجد ( إلا المساجد الثلاثة ( فيكون نهيا عنها باللفظ ونهيا عن سائر البقاع التى يعتقد فضيلتها بالتنبيه والفحوى وطريق الأولى فإن المساجد والعبادة فيها أحب إلى الله من العبادة فى تلك البقاع بالنص والإجماع فإذا كان السفر إلى البقاع الفاضلة قد نهى عنه فالسفر إلى المفضولة
____________________
(27/247)
أولى وأحرى
وكذلك من جعل معنى الحديث لا يستحب السفر إلا إلى الثلاثة إن جعل معناه لا يجب إلا إلى الثلاثة وأراد به الوجوب بالنذر كما ذكر ذلك طائفة فهؤلاء يقولون ما سوى الثلاثة لا يستحب السفر إليه ولا يجب بالنذر ومن حمل معنى الحديث على نفى الإستحباب أو نفى الوجوب بالنذر فقولهما واحد فى المعنى فإذا لم يجب بالنذر إلا هذه الثلاثة فقد وجب بالنذر السفر إلى المسجدين وليس واجبا بالشرع فعلم أن وجوبه لكونه مستحبا بالشرع فإذا لم يوجب إلا هذان مما ليس واجبا بالشرع علم أنه ليس مستحبا إلا هذان وقد بسط هذا فى موضع آخر
وإما أن يقال التقدير لا تسافروا إلى بقعة ومكان غير الثلاثة أو يكون المعنى لا يستحب إلى مكان غير الثلاثة وهو معنى كل من قال لا يجب بالنذر إلى غير الثلاثة أى لا تسافروا لقصد ذلك المكان والبقعة بعينه بحيث يكون المقصود والعبادة فى نفس تلك البقعة كالسفر إلى المساجد الثلاثة بخلاف السفر إلى الثغور فإن المقصود السفر إلى مكان الرباط
و ( الثغر ( قد يكون مكانا ثم يفتح المسلمون ما جاورهم فينتقل
____________________
(27/248)
الثغر إلى حد بلاد المسلمين ولهذا يكون المكان تارة ثغرا وتارة ليس بثغر كما يكون تارة دار إسلام وبر وتارة دار كفر وفسق كما كانت مكة دار كفر وحرب وكانت المدينة دار إيمان وهجرة ومكانا للرباط فلما فتحت مكة صارت دار إسلام ولم تبق المدينة دار هجرة ورباط كما كانت قبل فتح مكة بل قد قال ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا إستنفرتم فإنفروا ( وصارت الثغور أطراف ارض الحجاز المجاورة لأرض الحرب أرض الشام وأرض العراق ثم لما فتح المسلمون الشام والعراق صارت الثغور بالشام سواحل البحر كعسقلان وعكة وما جاور ذلك وبالعراق عبادان ونحوها ولهذا يكثر ذكر ( عسقلان ( و ( عبادان ( فى كلام المتقدمين لكونهما كانا ثغرين وكانت أيضا ( طرطوس ( ثغرا لما كانت للمسلمين ولما أخذها الكفار صار الثغر ما يجاور أرض العدو من البلاد الحلبية
فالمسافر إلى الثغور أو طلب العلم أو التجارة أو زيارة قريبه ليس مقصوده مكانا معينا إلا بالعرض إذا عرف أن مقصوده فيه ولو كان مقصوده فى غيره لذهب إليه فالسفر إلى مثل هذا لم يدخل فى الحديث بإتفاق العلماء وإنما دخل فيه من يسافر لمكان معين لفضيلة ذلك بعينه كالذى يسافر إلى المساجد وآثار الأنبياء كالطور الذى كلم الله عليه
____________________
(27/249)
موسى وغار حراء الذى نزل فيه الوحى إبتداء على الرسول وغار ثور المذكور فى القرآن فى قوله { إذ هما في الغار } وما هو دون ذلك من المغارات والجبال كالسفر إلى جبل لبنان ومغارة الدم ونحو ذلك فإن كثيرا من الناس يسافر إلى ما يعتقد فضله من الجبال والغيران فإذا كان الطور الذى كلم الله عليه موسى وسماه البقعة المباركة والوادي المقدس لا يستحب السفر إليه فغير ذلك من الجبال أولى أن لا يسافر إليه وقولى بالإجماع أعنى به إجماع السلف والأئمة فإن الصحابة كإبن عمر وأبى سعيد وأبى بصرة وغيرهم فهموا من قول النبى صلى الله عليه وسلم ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ( إن الطور الذى كلم الله عليه موسى وسماه ( الوادى المقدس ( و ( البقعة المباركة ( داخل فى النهى ونهوا الناس عن السفر إليه ولم يخصوا النهى بالمساجد ولهذا لم يوجب أحد ذلك بالنذر وما علمت فى هذا نزاعا قديما ولا رأيت أحدا صرح بخلاف ذلك إلا بن حزم الظاهرى فإنه يحرم السفر إلى مسجد غير الثلاثة إذا نذره كقول الجمهور وإذا نذر السفر إلى أثر من آثار الأنبياء أوجب الوفاء به لأنه لا يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه وهذا هو إحدى الروايتين عن داود فلا يجعل قوله { فلا تقل لهما أف } دليلا على النهى عن السب والشتم
____________________
(27/250)
والضرب ولا نهيه عن أن يبال فى الماء الدائم ثم يغتسل فيه نهيا عن صب البول ثم الإغتسال فيه وجمهور العلماء يرون أن مثل هذا من نقص العقل والفهم وأنه من ( باب السفسطة ( فى جحد مراد المتكلم كما هو مبسوط فى موضع آخر
وإذا كان غار حراء الذى كان أهل مكة يصعدون إليه للتعبد فيه ويقال إن عبد المطلب سن لهم ذلك وكان النبى قبل النبوة يتحنث فيه وفيه نزل عليه الوحى أولا لكن من حين نزل الوحى عليه ما صعد إليه بعد ذلك ولا قربة لا هو ولا أصحابه وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة لم يزره ولم يصعد إليه وكذلك المؤمنون معه بمكة وبعد الهجرة أتى مكة مرارا فى عمرة الحديبية وعام الفتح وأقام بها قريبا من عشرين يوما وفى عمرة الجعرانة ولم يأت غار حراء ولا زاره فإذا كان هذا الغار لا يسافر إليه ولا يزار فغيره من المغارات كمغارة الدم ونحوها أولى أن لا تزار فإن العبادات بعد مبعث الرسول كالصلاة والذكر والدعاء مشروعة فى كل مكان جعلت الأرض كلها له ولأمته مسجدا وطهورا (
والأماكن المفضلة هي المساجد وهى أحب البقاع إلى الله كما ثبت ذلك فى الصحيح عن النبى وفيها الإعتكاف
____________________
(27/251)
فلا يكون الإعتكاف إلا فى المساجد بإتفاق العلماء كما قال تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } لا يكون الإعتكاف لا بخلوة ولا غير خلوة لا فى غار ولا عند قبر ولا غير ذلك مما يقصد الضالون السفر إليه والعكوف عنده كعكوف المشركين على أوثانهم قال الخليل { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } وقال تعالى { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون } وبسط هذا له موضع آخر
وقد صح عن سعيد بن المسيب أنه قال من نذر أن يعتكف فى مسجد إيليا فاعتكف فى مسجد النبى بالمدينة أجزأ عنه ومن نذر أن يعتكف فى مسجد المدينة فاعتكف فى المسجد الحرام أجزأ عنه ومن نذر أن يعتكف على رؤوس الجبال فإنه لا ينبغى له ذلك ليعتكف فى مسجد جماعة وهذا الذى نهى عنه سعيد متفق عليه عند عامة العلماء وإن قدر أن الرجل لا يسمى ذلك إعتكافا فمن فعل ما يفعل المعتكف فى المسجد فهو معتكف فى غير المسجد وذلك منهى عنه بالإتفاق وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة من قبر وأثر
____________________
(27/252)
نبى ومسجد وغير ذلك ليس بواجب ولا مستحب بالنص والإجماع والسفر إلى مسجد نبينا مستحب بالنص والإجماع وهو مراد العلماء الذين قالوا تستحب زيارة قبره بالإجماع فهذا هو الذى أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم من المجتهدين ولله الحمد والمجيب قد ذكر استحباب هذا بالنص والإجماع فكلام المجيب يبين أنه متبع للصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء المجتهدين وأنهم منزهون عن تقرير الحرام أو خرق الإجماع منزهون أن يجمعوا على ضلالة أو يسلكوا طريق العماية والجهالة
وهذا المعترض وأشباهه من الجهال سووا بين هذا السفر الذى ثبت إستحبابه بنص الرسول وإجماع أمته وبين السفر الذى ثبت أنه ليس مستحبا بنص الرسول وإجماع أمته وقاسوا هذا بهذا والمجيب إنما ذكر القولين فى النوع الثانى فى الذى لا يسافر إلا لقصد زيارة قبور الأنبياء والصالحين وذكر أن الذى يسافر إلى مسجد الرسول وزيارته الشرعية يستحب السفر إليه بالنص والإجماع فحكوا عن المجيب أنه ينهى عن زيارة قبر الرسول والسفر إليه ويحرم ذلك ويحرم قصر الصلاة فيه بحيث جعلوه ينهى عما يفعله الحجاج من السفر إلى مسجده وأن من سافر إلى هناك لا يقصر الصلاة وهذا كله إفتراء وبهتان
____________________
(27/253)
وذلك
أنه لا حجة لهم على السفر إلى سائر قبور الانبياء الا السفر إلى نبينا فلما كان السفر إلى ذلك المكان مشروعا فى الجملة قاسوا عليه السفر إلى سائر القبور فضلوا وأضلوا وخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين وضلوا من وجوه كثيرة
منها أنه ليس فى الأرض قبر نبى معلوم بالتواتر والإجماع إلا قبر نبينا وما سواه ففيه نزاع
ومنها ان الذين إستحبوا السفر إلى زيارة قبر نبينا مرادهم السفر إلى مسجده وهذا مشروع بالإجماع ولو قصد المسافر إليه فهو إنما يصل إلى المسجد والمسجد منتهى سفره لا يصل إلى القبر بخلاف غيره فإنه يصل إلى القبر إلا أن يكون متوغلا فى الجهل والضلال فيظن أن مسجده إنما شرع السفر إليه لأجل القبر وأنه لذلك كانت الصلاة فيه بألف صلاة وأنه لولا القبر لم يكن له فضيلة على غيره أو يظن أن المسجد بنى أو جعل تبعا للقبر كما تبنى المساجد على قبور الأنبياء والصالحين ويظن أن الصلاة فى المسجد تبع والمقصود هو القبر كما يظن المسافرون إلى قبور الأنبياء والصالحين غير قبر نبينا وكما أن الذى يذهب إلى الجمعة يصلى إذا دخل تحية المسجد ركعتين ولكن هو إنما جاء لأجل الجمعة لا لأجل ركعتى التحية فمن ظن هذا فى مسجد نبينا فهو من أضل الناس وأجهلهم بدين
____________________
(27/254)
الإسلام وأجهلهم بأحوال الرسول واصحابه وسيرته وأقواله وأفعاله وهذا محتاج إلى أن يتعلم ما جهله من دين الإسلام حتى يدخل فى الإسلام ولا يأخذ بعض الإسلام ويترك بعضه فإن مسجده أسس على التقوى فى السنة الأولى من الهجرة وهو أفضل مسجد على وجه الأرض إلا المسجد الحرام وقيل هو أفضل مطلقا
فهل يقول عاقل أن مساجد المسلمين مساجد الجوامع التى يصلى فيها الجمعة وغيرها فضيلتها وإستحباب قصدها للصلاة فيها لأجل قبر عندها فإذا لم يجز أن يقال هذا فى مثل هذه المساجد فكيف يقال فيما هو خير منها كلها وأفضل
و ( المسجد ( الحرام أفضل المساجد مطلقا عند الجمهور والصلاة فيه بمائة ألف صلاة كما فى المسند والسنن فهل يقول عاقل إن فضيلته لقبر هناك
و ( المسجد الأقصى ( أفضل من المساجد بعد المسجد النبوى وببيت المقدس من قبور الأنبياء مالا يحصيه إلا الله فهل يقول عاقل إن فضيلته لأجل القبور نعم هذا إعتقاد النصارى يعتقدون أن فضيلة بيت المقدس لأجل ( الكنيسة ( التى يقال أنها بنيت على قبر المصلوب ويفضلونها على بيت المقدس وهؤلاء من أضل الناس وأجهلهم
____________________
(27/255)
وهذا يضاهى ما كان المشركون عليه فى المسجد الحرام لما كانت فيه الأوثان وكانوا يقصدونه لأجل تلك الأوثان التى فيه لم يكونوا يصلون فيه بل كما قال تعالى { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } لكن كانوا يعظمون نفس البيت ويطوفون به كما كانوا يحجون كل عام مع ما كانوا غيروه من شريعة إبراهيم حتى بعث الله محمدا بالهدى ودين الحق وأمره بإتباع ملة إبراهيم فأظهرها ودعا إليها وأقام الحج على ما شرعه الله لإبراهيم ونفى الشرك عن البيت وأنزل الله تعالى { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين }
فبين أن عمار المساجد هم الذين لا يخشون إلا الله ومن لم يخش إلا الله فلا يرجو ويتوكل إلا عليه فإن الرجاء والخوف متلازمان
والذين يحجون إلى القبور يدعون أهلها ويتضرعون لهم ويعبدونهم ويخشون غير الله ويرجون غير الله كالمشركين الذين يخشون آلهتهم ويرجونها ولهذا لما قالوا لهود عليه السلام { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم }
____________________
(27/256)
ولما حاجوا إبراهيم عليه السلام قال لهم { أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } ولما خوفوا محمدا عليه الصلاة والسلام بمن دون الله قال الله تعالى { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين }
____________________
(27/257)
فصل
و ( المسجد الأقصى ( صلت فيه الأنبياء من عهد الخليل كما فى الصحيحين عن أبى ذر قال قلت يا رسول الله أى مسجد وضع أولا قال ( المسجد الحرام ( قلت ثم أى قال ( المسجد الأقصى ( قلت كم بينهما قال ( أربعون سنة ثم حيث ما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد ( وصلى فيه من أولياء الله مالا يحصيه إلا الله وسليمان بناه هذا البناء وسأل ربه ثلاثا سأله ملكا لا ينبغى لأحد من بعده وسأله حكما يوافق حكمه وسأله أنه لا يؤم هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غفر له
ولهذا كان بن عمر يأتى من الحجاز فيدخل فيصلى فيه ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء لتصيبه دعوة سليمان وكان الصحابة ثم التابعون يأتون ولا يقصدون شيئا مما حوله من البقاع ولا يسافرون إلى قرية الخليل ولا غيرها
وكذلك ( مسجد نبينا ( بناه أفضل الأنبياء ومعه المهاجرون
____________________
(27/258)
والأنصار وهو أول مسجد أذن فيه فى الإسلام وفيه كان الرسول يصلى بالمسلمين الجمعة والجماعة ويعلمهم الكتاب والحكمة وفيه كان يأمرهم بما يأمرهم به من المغازى وغير المغازى وفيه سنت السنة والإسلام منه خرج وكانت الصلاة فيه بألف والسفر إليه مشروعا فى حياة النبى وليس عنده قبر لا قبره ولا قبر غيره ثم لما دفن الرسول دفن فى حجرته وبيته لم يدفن فى المسجد
والفرق بين البيت والمسجد مما يعرفه كل مسلم فإن المسجد يعتكف فيه والبيت لا يعتكف فيه وكان إذا إعتكف يخرج من بيته إلى المسجد ولا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان والمسجد لا يمكث فيه جنب ولا حائض وبيته كانت عائشة تمكث فيه وهى حائض وكذلك كل بيت مرسوم تمكث فيه المرأة وهى حائض وكانت تصيبه فيه الجنابة فيمكث فيه جنبا حتى يغتسل وفيه ثيابه وطعامه وسكنه وراحته كما جعل الله البيوت
وقد ذكر الله ( بيوت النبى ( فى كتابه وأضافها تارة إلى الرسول وتارة إلى أزواجه وليس لتلك البيوت حرمة المسجد وفضيلته وفضيلة الصلاة فيه ولا تشد الرحال إليها ولا الصلاة فى شيء منها بألف صلاة ومعلوم أنه فى حال
____________________
(27/259)
حياته كان هو وأصحابه أفضل ممن جاء بعدهم وعبادتهم أفضل من عبادة من جاء بعدهم وهم لما ماتوا لم تكن قبورهم أفضل من بيوتهم التى كانوا يسكنونها فى حال الحياة ولا أبدانهم بعد الموت أكثر عبادة لله وطاعة مما كانت فى حال الحياة
والله تعالى قد أخبر أنه جعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا تكفت الناس أحياء على ظهرها وأمواتا فى بطنها وليس كفتهم أمواتا بأفضل من كفتهم أحياء ولهذا تستحب زيارة أهل البقيع وأحد وغيرهم من المؤمنين فيدعى لهم ويستغفر لهم ولا يستحب أن تقصد قبورهم لما تقصد له المساجد من الصلاة والإعتكاف ونحو ذلك وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أحب البقاع إلى الله المساجد ( فليس فى البقاع أفضل منها وليست مساكن الأنبياء لا أحياء ولا أمواتا بأفضل من المساجد هذا هو الثابت بنص الرسول وإتفاق علماء أمته
وما ذكره بعضهم من أن قبور الأنبياء والصالحين أفضل من المساجد وأن الدعاء عندها أفضل من الدعاء فى المساجد حتى فى المسجد الحرام والمسجد النبوى فقول يعلم بطلانه بالإضطرار من دين الرسول ويعلم إجماع علماء الأمة على بطلانه إجماعا ضروريا كإجماعهم على ان الإعتكاف فى المساجد أفضل منه عند القبور والمقصود
____________________
(27/260)
بالإعتكاف العبادة والصلاة والقراءة والذكر والدعاء
وما ذكره بعضهم من الإجماع على تفضيل قبر من القبور على المساجد كلها فقول محدث فى الإسلام لم يعرف عن أحد من السلف ولكن ذكره بعض المتأخرين فأخذه عنه آخر وظنه إجماعا لكون أجساد الأنبياء أنفسها أفضل من المساجد فقولهم يعم المؤمنين كلهم فأبدانهم أفضل من كل تراب فى الأرض ولا يلزم من كون أبدانهم أفضل أن تكون مساكنهم أحياء وأمواتا أفضل بل قد علم بالإضطرار من دينهم أن مساجدهم أفضل من مساكنهم
وقد يحتج بعضهم بما روى من ( أن كل مولود يذر عليه من تراب حفرته ( فيكون قد خلق من تراب قبره وهذا الإحتجاج باطل لوجهين (
( أحدهما ( أن هذا لا يثبت وما روى فيه كله ضعيف والجنين فى بطن أمه يعلم قطعا أنه لم يذر عليه تراب ولكن آدم نفسه هو الذى خلق من تراب ثم خلقت ذريته من سلالة من ماء مهين ومعلوم أن ذلك التراب لا يتميز بعضه لشخص وبعضه لشخص آخر فإنه إذا إستحال وصار بدنا حيا لما نفخ فى آدم الروح فلم يبق ترابا وبسط هذا له موضع آخر
____________________
(27/261)
والمقصود هنا التنبيه على مثل هذه الإجماعات التى يذكرها بعض الناس ويبنون عليها ما يخالف دين المسلمين الكتاب والسنة والإجماع
الوجه الثانى ] أنه لو ثبت أن الميت خلق من ذلك التراب فمعلوم أن خلق الإنسان من منى أبويه أقرب من خلقه من التراب ومع هذا فالله يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن فيخلق من الشخص الكافر مؤمنا نبيا وغير نبى كما خلق الخليل من آزر وإبراهيم خير البرية هو أفضل الأنبياء بعد محمد وآزر من أهل النار كما فى الصحيح عن النبى أنه قال ( يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة فيقول إبراهيم ألم أقل لك لا تعصنى فيقول له فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يارب ألم تعدنى أن لا تخزيني وأى خزى أخزى من أبى الأبعد فيقال له التفت فيلتفت فإذا هو بذيخ عظيم والذيخ ذكر الضباع فيمسخ آزر فى تلك الصورة ويؤخذ بقوائمه فيلقى فى النار فلا يعرف أنه أبو إبراهيم وكما خلق نبينا صلى الله عليه وسلم من أبويه وقد نهى عن الإستغفار لأمه وفى الصحيح أن رجلا قال له أين أبى قال ( إن أباك فى النار ( فلما أدبر دعاه فقال ( إن أبى وأباك فى النار ( وقد أخرج من نوح وهو
____________________
(27/262)
رسول كريم إبنه الكافر الذى حق عليه القول وأغرقه ونهى نوحا عن الشفاعة فيه والمهاجرون والأنصار مخلوقون من آبائهم وأمهاتهم الكفار
فإذا كانت المادة القريبة التى يخلق منها الأنبياء والصالحون لا يجب أن تكون مساوية لأبدانهم فى الفضيلة لأن الله يخرج الحى من الميت فأخرج البدن المؤمن من منى كافر فالمادة البعيدة وهى التراب أولى أن لا تساوى أبدان الأنبياء والصالحين وهذه الأبدان عبدت الله وجاهدت فيه ومستقرها الجنة وأما المواد التى خلقت منها هذه الأبدان فما إستحال منها وصار هو البدن فحكمه حكم البدن وأما ما فضل منها فذاك بمنزلة أمثاله
ومن هنا غلط من لم يميز بين ما إستحال من المواد فصار بدنا وبين مالم يستحل بل بقى ترابا أو ميتا فتراب القبور إذا قدر أن الميت خلق من ذلك التراب فإستحال منه وصار بدن الميت فهو بدنه وفضله معلوم وأما ما بقى فى القبر فحكمه حكم أمثاله بل تراب كان يلاقى جباهم عند السجود وهو أقرب ما يكون العبد من ربه المعبود أفضل من تراب القبور واللحود وبسط هذا له موضع آخر
____________________
(27/263)
والمقصود هنا أن مسجد الرسول وغيره من المساجد فضيلتها بكونها بيوت الله التى بنيت لعبادته قال تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } وقال تعالى { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } إلى قوله { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } وقال تعالى { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب }
والمساجد الثلاثة لها فضل على ما سواها فإنها بناها انبياء ودعوا الناس إلى السفر إليها فالخليل دعا إلى المسجد الحرام وسليمان دعا إلى بيت المقدس ونبينا دعا إلى الثلاثة إلى مسجده والمسجدين ولكن جعل السفر إلى المسجد الحرام فرضا والآخرين تطوعا وإبراهيم وسليمان لم يوجبا شيئا ولا اوجب الخليل الحج ولهذا لم يكن بنوا إسرائيل يحجون ولكن حج موسى ويونس وغيرهما ولهذا لم يكن
____________________
(27/264)
الحج واجبا فى أول الإسلام وإنما وجب فى سورة آل عمران بقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } هذا هو الذى اتفق عليه المسلمون أنه يفيد إيجابه وأما قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } فقيل أنه يفيد إيجابهما إبتداء وإتمامهما بعد الشروع وقيل إنما يفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع لا إيجابهما إبتداء وهذا هو الصحيح فإن هذه الآية نزلت عام الحديبية بإجماع الناس بعد شروع النبى فى العمرة عمرة الحديبية لما صده المشركون وأبيح فيها التحلل للمحصر فحل النبى وأصحابه لما صدهم المشركون ورجعوا والحج والعمرة يجب على الشارع فيهما إتمامهما بإتفاق الأئمة وتنازعوا فى الصيام والصلاة والإعتكاف على قولين مشهورين ومذهب الشافعى وأحمد فى المشهور عنه أنه لا يجب الإتمام ومذهب مالك وابى حنيفة أنه يجب كما هو مبسوط فى غير هذا الموضع
والمقصود ان مسجد الرسول فضيلة السفر إليه لأجل العبادة فيه والصلاة فيه بألف صلاة وليس شيء من ذلك لأجل القبر بإجماع المسلمين وهذا من الفروق بين مسجد الرسول وغيره وبين قبره وغيره فقد ظهر الفرق من وجوه
____________________
(27/265)
وهذا المعترض وأمثاله جعلوا السفر إلى قبور الأنبياء نوعا ثم لما رأوا ما ذكره العلماء من إستحباب زيارة قبر نبينا ظنوا أن سائر القبور يسافر إليها كما يسافر إليه فضلوا من وجوه
( أحدها ( أن السفر إليه إنما هو سفر إلى مسجده وهو مستحب بالنص والإجماع
( الثانى ( أن هذا السفر هو للمسجد فى حياة الرسول وبعد دفنه وقبل دخول الحجرة وبعد دخول الحجرة فيه فهو سفر إلى المساجد سواء كان القبر هناك أو لم يكن فلا يجوز أن يشبه به السفر إلى قبر مجرد
( الثالث ( أن من العلماء من يكره أن يسمى هذا زيارة لقبره والذين لم يكرهوه يسلمون لأولئك الحكم وإنما النزاع فى الأسم وأما غيره فهو زيارة لقبره بلا نزاع فللمانع أن يقول لا أسلم أنه يمكن أن يسافر إلى زيارة قبره أصلا وكلما سمى زيارة قبر فإنه لا يسافر إليه والسفر إلى مسجد نبينا ليس سفرا إلى زيارة قبره بل هو سفر لعبادة فى مسجده
الرابع أن هذا السفر مستحب بالنص والإجماع والسفر إلى قبور سائر الأنبياء والصالحين ليس مستحبا لابنص ولا إجماع بل
____________________
(27/266)
هو منهى عنه عند الأئمة الكبار كما دل عليه النص ( الخامس ( أن المسجد الذى عند قبره مسجده الذى اسس على التقوى وهو افضل المساجد غير المسجد الحرام والصلاة فيه بألف صلاة والمساجد التى على قبور الأنبياء والصالحين نهى عن إتخاذها مساجد والصلاة فيها كما تقدم فكيف عن السفر إليها
( السادس ( أن السفر إلى مسجده الذى يسمى السفر لزيارة قبره هو ما أجمع عليه المسلمون جيلا بعد جيل واما السفر إلى سائر القبور فلا يعرف عن احد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بل ولا عن إتباع التابعين ولا إستحبه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم فكيف يقاس هذا بهذا وما زال المسلمون من عهده وإلى هذا الوقت يسافرون إلى مسجده إما مع الحج وإما بدون الحج فعلى عهد الصحابة لم يكونوا يأتونه مع الحج كما يسافرون إلى مكة فإن الطرقات كانت آمنة وكان إنشاء السفر إليه أفضل من ان يجعل تبعا لسفر الحج وعمر بن الخطاب قد امرهم أن يفردوا للعمرة سفرا وللحج سفرا وهذا افضل باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من التمتع والقران فإن الذين فضلوا التمتع والقرأن كما فضل أحمد التمتع لمن لم يسق الهدى والقران لمن ساق الهدى فى المنصوص عنه وصرح فى غير موضع بأن النبى كان قارنا
____________________
(27/267)
هو مع ذلك يقول إن إفراد العمرة بسفر والحج بسفر أفضل من التمتع والقران وكذلك مذهب أبى حنيفة فيما ذكره محمد إبن الحسن إن عمرة كوفيه أفضل من التمتع والقران وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود أن المسلمين مازالوا يسافرون إلى مسجده ولا يسافرون إلى قبور الأنبياء كقبر موسى وقبر الخليل عليه السلام ولم يعرف عن احد من الصحابة أنه سافر إلى قبر الخليل مع كثرة مجيئهم إلى الشام والبيت المقدس فكيف يجعل السفر إلى مسجد الرسول الذى يسميه بعض الناس زيارة لقبره مثل السفر إلى قبور الأنبياء
( السابع ( أن السفر المشروع إلى مسجده يتضمن ان يفعل فى مسجده ما كان يفعل فى حياته وحياة خلفائه الراشدين من الصلاة والسلام عليه والثناء والدعاء كما يفعل ذلك فى سائر المساجد وسائر البقاع وإن كان مسجده أفضل فالمشروع فيه عبادة لله مأمور بها واما الذى يفعله من سافر إلى قبر غيره فإنما هو من نوع الشرك كدعائهم وطلب الحوائج منهم وإتخاذ قبورهم مساجد وأعيادا وأوثانا وهذا محرم بالنص والإجماع
فإن قلت فقد يفعل بعض الناس عند قبره مثل هذا
____________________
(27/268)
قلت لك أما عند القبر فلا يقدر أحد على ذلك فإن الله أجاب دعوته حيث قال ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد ( واما فى مسجده فإنما يفعل ذلك بعض الناس الجهال وأما من يعلم شرع الإسلام فإنما يفعل ما شرع وهؤلاء ينهون أولئك بحسب الإمكان فلا يجتمع الزوار على الضلال واما قبر غيره فالمسافرون إليه كلهم جهال ضالون مشركون ويصيرون عند نفس القبر ولا احد هناك ينكر عليهم
( الوجه الثامن ( أن يقال قبره معلوم متواتر بخلاف قبر غيره
ومما ينبغى أن يعلم أن الله تعالى حفظ عامة قبور الأنبياء ببركة رسالة محمد فلم يتمكن الناس مع ظهور دينه ان يتخذوا قبور الأنبياء مساجد كما أظهر من الإيمان بنبوة الأنبياء وما جاؤوا به من إعلان ذكرهم ومحبتهم وموالاتهم والتصديق لأقوالهم والإتباع لأعمالهم مالم يكن هذا لأمة أخرى وهذا هو الذى ينتفع به من جهة الأنبياء وهو تصديقهم فيما اخبروا وطاعتهم فيما امروا والإقتداء بهم فيما فعلوا وحب ما كانوا يحبونه وبغض ما كانوا يبغضونه وموالاة من يوالونه ومعاداة من يعادونه ونحو ذلك مما لا يحصل إلا بمعرفة أخبارهم والقرآن والسنة مملوء من ذكر الأنبياء وهذا أمر ثابت فى القلوب مذكور بالألسنة وأما نفس القبر فليس
____________________
(27/269)
فى رؤيته شيء من ذلك بل أهل الضلال يتخذونها أوثانا كما كانت اليهود والنصارى يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد فببركة رسالة محمد أظهر الله من ذكرهم ومعرفة أحوالهم ما يجب الإيمان به وتنتفع به العباد وابطل ما يضر الخلق من الشرك بهم وإتخاذ قبورهم مساجد كما كانوا يتخذونها فى زمن من قبلنا
ولم يكن على عهد الصحابة قبر نبى ظاهر يزار لا بسفر ولا بغير سفر لا قبر الخليل ولا غيره ولما ظهر بتستر ( قبر دانيال ( وكانوا يستسقون به كتب فيه أبو موسى الأشعرى إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا ويدفنه بالليل فى واحد منها ويعفى القبور كلها لئلا يفتتن به الناس وهذا قد ذكره غير واحد وممن رواه يونس إبن بكر فى ( زيادات مغازى إبن إسحاق ( عن ابى خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال لما فتحنا ( تستر ( وجدنا فى بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأه قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا فقلت لأبى العالية ما كان فيه قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد
____________________
(27/270)
قلت فما صنعتم بالرجل قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه قلت وما يرجون فيه قال كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون فقلت من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له ( دانيال ( فقلت منذ كم وجدتموه مات قال منذ ثلاثمائة سنة قلت ما كان تغير منه شيء قال لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها ألأرض ولا تأكلها السباع
ولم تدع الصحابة فى الإسلام قبرا ظاهرا من قبور الأنبياء يفتتن به الناس ولا يسافرون إليه ولا يدعونه ولا يتخذونه مسجدا بل قبر نبينا حجبوه فى الحجرة ومنعوا الناس منه بحسب الإمكان وغيره من القبور عفوه بحسب الإمكان إن كان الناس يفتتنون به وإن كان لا يفتتنون به فلا يضر معرفة قبره كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن ملك الموت أتى موسى عليه السلام فقال أجب ربك فلطمه موسى ففقأ عينه فرجع الملك إلى الله فقال أرسلتنى إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عينى قال فرد الله عليه عينه وقال إرجع إلى موسى فقل له الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بكل شعرة سنة قال ثم ماذا
____________________
(27/271)
قال الموت قال فمن الآن يارب ولكن أدننى من الأرض المقدسة رمية بحجر قال النبى صلى الله عليه وسلم ( فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر ( وقد مر به ليلة الإسراء فرآه وهو قائم يصلى فى قبره ومع هذا لم يكن أحد من الصحابة والتابعين يسافر إليه ولا ذهبوا إليه لما دخلوا الشام فى زمن أبى بكر وعمر كما لم يكونوا يسافرون إلى قبر الخليل ولا غيره وهكذا كانوا يفعلون بقبور الأنبياء والصالحين فقبر ( دانيال ( كما قيل كانوا يجدون منه رائحة المسك فعفوه لئلا يفتتن به الناس
وقبر الخليل ( عليه السلام كان عليه بناء قيل إن سليمان عليه السلام بناه فلا يصل أحد إليه وإنما نقب البناء بعد زمان طويل بعد إنقراض القرون الثلاثة وقد قيل إنما نقبه النصارى لما إستولوا على ملك البلاد ومع هذا فلم يتمكن أحد من الوصول إلى قبر الخليل صلوات الله عليه وسلامه فكان السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين ممتنعا على عهد الصحابة والتابعين وإنما حدث بعدهم فالأنبياء كثيرون جدا وما يضاف إليهم من القبور قليل جدا وليس منها شيء ثابت عرفا فالقبور المضافة إليهم منها ما يعلم أنه كذب مثل ( قبر نوح ( الذى فى اسفل جبل لبنان ومنها
____________________
(27/272)
مالا يعلم ثبوته بالإجماع إلا قبر نبينا والخليل وموسى فإن هذا من كرامة محمد وأمته فإن الله صان قبور الأنبياء عن ان تكون مساجد صيانه لم يحصل مثلها فى الأمم المتقدمة لأن محمدا وأمته أظهروا التوحيد إظهارا لم يظهره غيرهم فقهروا عباد الأوثان وعباد الصلبان وعباد النيران وكما اخفى الله بهم الشرك فاظهر الله بمحمد وأمته من الإيمان بالأنبياء وتعظيمهم وتعظيم ما جاؤوا به وإعلان ذكرهم بأحسن الوجوه مالم يظهر مثله فى أمة من الأمم وفى القرآن يأمر بذكرهم كقوله تعالى { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا } { واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا } الآيات وقوله { اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب } وذكر بعده سليمان إلى قوله { واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه } إلى قوله { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } إلى قوله { واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل } فامر بذكر هؤلاء واما موسى وقبله نوح وهود وصالح فقد تقدم ذكرهم فى قوله تعالى { كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب } وقد امر بذكر موسى وغيره أيضا فى سورة
____________________
(27/273)
أخرى كما تقدم
فالذى أظهره الله بمحمد وأمته من ذكر الأنبياء بأفضل الذكر وإخبارهم ومدحهم والثناء عليهم ووجوب الإيمان بما جاؤوا به والحكم بالكفر على من كفر بواحد منهم وقتله وقتل من سب أحدا منهم ونحو ذلك من تعظيم أقدارهم مالم يوجد مثله فى ملة من الملل
و ( أصل الإيمان ( توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له والإيمان برسله كما قال تعالى { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } قال أبو العالية خلتان تسأل العباد يوم القيامة عنهما عما كانوا يعملون وعما اجابوا الرسل ولهذا يقرر الله هذين الأصلين فى غير موضع من القرآن بل يقدمهما على كل ما سواهما لأنهما أصل ألأصول مثلما ذكر فى ( سورة البقرة ( فإنه إفتتحها بذكر أصناف الخلق وهم ثلاثة مؤمن وكافر ومنافق وهذا التقسيم كان لما هاجر النبى إلى المدينة فإن مكة لم يكن بها نفاق بل إما مؤمن وإما كافر و ( البقرة ( مدنية من أوائل ما نزل بالمدينة فأنزل الله أربع آيات فى ذكر المؤمنين وآيتين فى ذكر الكافرين وبضع عشرة آية فى صفة المنافقين وإفتتحها بالإيمان بجميع الكتب والأنبياء ووسطها بذلك وختمها
____________________
(27/274)
بذلك قال فى أولها { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } والصحيح فى قوله { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } أنه والذى قبله صفة لموصوف واحد فإنه لابد من الإيمان بما انزل إليه وما أنزل من قبله والعطف لتغاير الصفات كقوله { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } وقوله { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى } وقوله { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون } إلى قوله { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } ومن قال { الذين يؤمنون بالغيب } أراد به مشركى العرب وقوله { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } أن المراد به أهل الكتاب فقد غلط فإن مشركى العرب لم يؤمنوا بما انزل إليه وما أنزل من قبله فلم يكونوا مفلحين وأهل الكتاب إن لم يؤمنوا بالغيب ويقيموا الصلاة ومما رزقناهم ينفقون لم يكونوا مفلحين ولهذا قال تعالى { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } فدل على أنهم صنف واحد
____________________
(27/275)
وقال فى وسط السورة { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } فأمر بالإيمان بكل ما أوتى النبيون من ربهم وقد قال فى أثنائها { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } وختمها بقوله { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله }
ثم أنه بعد تقسيم الخلق قرر أصول الدين فقرر التوحيد أولا ثم النبوة ثانيا بقوله { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } ثم قرر النبوة بقوله { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فأخبر انهم لا يفعلون ذلك كما قال { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } ثم ذكر الجنة فقرر التوحيد والنبوة والمعاد وهذه أصول الإيمان
____________________
(27/276)
وفى آل عمران قال { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } فذكر التوحيد أولا ثم الإيمان بما جاءت به الرسل ثانيا وذكر انه أنزل الكتاب والفرقان كما قال { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان } ولفظ ( الفرقان ( يتناول ما يفرق بين الحق والباطل مثل ألايات التى بعث بها الأنبياء كالحية واليد البيضاء وإنفلاق البحر والقرآن فرقان بين هذا الوجه من جهة أنه آية عظيمة لنبوة محمد وعلم عظيم وهو أيضا فرقان بإعتبار أنه فرق ببيانه بين الحق والباطل كما قال { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } ولهذا فسر جماعة الفرقان هنا به ولفظ ( الفرقان ( أيضا يتناول نصر الله لأنبيائه وعباده المؤمنين وإهلاك أعدائهم فإنه فرق به بين أوليائه وأعدائه وهو أيضا من الأعلام قال تعالى { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } والآيات التى يجعلها الله دلالة على صدق الأنبياء هي مما ينزله كما قال { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية } وقال { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } وقال تعالى { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون } وبسط هذا له موضع آخر
____________________
(27/277)
والمقصود هنا التنبيه وكذلك فى سورة ( يونس ( قال تعالى { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } ثم قال { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون } وفى سورة ( ألم السجدة ( قال تعالى { الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون } وقال { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ومن هذا قوله تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } وقوله { فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون } وقوله { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } وقوله { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } ثم قال
____________________
(27/278)
{ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } وقوله { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }
وكان النبى يقرأ فى ركعتى الفجر بسورتى الإخلاص تارة وتارة قوله تعالى { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم } الآيات وفى الثانية { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } وهذا باب واسع لأن الناس مضطرون إلى هذين الأصلين فلا ينجون من العذاب ولا يسعدون إلا بهما فعليهم أن يؤمنوا بالأنبياء وما جاؤا به وأصل ما جاؤا به أن لا يعبدوا إلا الله وحده كما قال ( { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه هم وسائط بين الله وبين خلقه فى تبليغ كلامه وأمره ونهيه ووعده ووعيده وأنبائه التى أنبأ بها عن أسمائه وصفاته وملائكته وعرشه وما كان وما يكون وليسوا وسائط فى خلقه لعباده ولا فى رزقهم وإحيائهم وإماتتهم ولا
____________________
(27/279)
جزائهم بالأعمال وثوابهم وعقابهم ولا فى إجابة دعواتهم وإعطاء سؤالهم بل هو وحده خالق كل شيء وهو الذى يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذى يسأله من فى السماوات والأرض كل يوم هو فى شأن { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } وقال تعالى { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون } كما قال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له }
فبين ان كل ما يدعى من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون مثقال ذرة ولا لأحد منهم شرك معه ولا له ظهير منهم فلم يبق إلا الشفاعة { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } فالأمر فى الشفاعة إليه وحده كما قال تعالى { قل لله الشفاعة جميعا } وقال { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } وقوله { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون }
____________________
(27/280)
إستثناء منقطع فى أصح القولين
فانقسم الناس فيهم ( ثلاثة أقسام ( قوم انكروا توسطهم بتبليغ الرسالة فكذبوا بالكتب والرسل مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون وغيرهم ممن يخبر الله أنهم كذبوا المرسلين فإنهم كذبوا جنس الرسل لم يؤمنوا ببعضهم دون بعض ومن هؤلاء منكروا النبوات من البراهمة وفلاسفة الهند المشركين وغيرهم من المشركين وكل من كذب الرسل لا يكون إلا مشركا وكذلك من كذب ببعضهم دون بعض كما قال تعالى { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا }
فكل من كذب محمدا أو المسيح أو داود أو سليمان أو غيرهم من الأنبياء الذين بعثوا بعد موسى فهو كافر قال تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل } وقال تعالى { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } وقال تعالى { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين }
____________________
(27/281)
والفلاسفة والملاحدة وغيرهم منهم من يجعل النبوات من جنس المنامات ويجعل مقصودها التخييل فقط قال تعالى { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر } فهؤلاء مكذبون بالنبوات ومنهم من يجعلهم مخصوصين بعلم ينالونه بقوة قدسية بلا تعلم ولا يثبت ملائكة تنزل بالوحى ولا كلاما لله يتكلم به بل يقولون أنه لا يعلم الجزئيات فلا يعلم لا موسى ولا محمدا ولا غيرهما من الرسل ويقولون خاصية النبى هذه القوة العلمية القدسية قوة يؤثر بها فى العالم وعنها تكون الخوارق وقوة تخيلية وهو أن تمثل له الحقائق فى صور خيالية فى نفسه فيرى فى نفسه أشكالا نورانية ويسمع فى نفسه كلاما فهذا هو النبى عندهم وهذه الثلاث توجد لكثير من آحاد العامة الذين غيرهم من النبيين أفضل منهم وهؤلاء وإن كانوا أقرب من الذين قبلهم فهم من المكذبين للرسل
وكثير من أهل البدع يقر بما جاؤوا به إلا فى أشياء تخالف رأية فيقدم رأية على ما جاؤا به ويعرض عما جاؤا به فيقول إنه لا يدرى ما أرادوا به أو يحرف الكلم عن مواضعه وهؤلاء موجودون فى أهل الكتاب وفى أهل القبلة ولهذا ذكر الله فى اول البقرة المؤمنين والكافرين ثم ذكر المنافقين وبسط القول فيهم
____________________
(27/282)
وقسم
ثان غلوا فى الأنبياء والصالحين وفى الملائكة أيضا فجعلوهم وسائط فى العبادة فعبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى وصوروا تماثيلهم وعكفوا على قبورهم وهذا كثير فى النصارى ومن ضاهاهم من ضلال أهل القبلة ولهذا ذكر الله هذا الصنف فى القرآن فى ( آل عمران ( وفى ( براءة ( فى ضمن الكلام على النصارى وقال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقال تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقال تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } وهذا الذى أمره الله أن يقوله لهم هو الذى كتب إلى هرقل ملك الروم
وهؤلاء قد يظنون أنهم إذا إستشفعوا بهم شفعوا لهم وإن من قصد معظما من الملائكة والأنبياء فاستشفع به شفع له عند الله كما يشفع خواص الملوك عندهم وقد أبطل الله هذه الشفاعة فى غير
____________________
(27/283)
موضع من القرآن وبين الفرق بينه وبين خلقه فإن المخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه ويقبل الشفاعة لرغبة أو رهبة أو محبة أو نحو ذلك فيكون الشفيع شريكا للمشفوع إليه وهذه الشفاعة منتفية فى حق الله قال تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى }
وهؤلاء يحجون إلى قبورهم ويدعونهم وقد يسجدون لهم وينذرون لهم وغير ذلك من انواع العبادات وهؤلاء ايضا مشركون وأكثر المشركين يجمعون بين التكذيب ببعض ما جاؤا به وبين الشرك فيكون فيهم نوع من الشرك بالخالق وتكذيب رسله ومنهم من يجمع بين الشرك والتعطيل فيعطل الخالق أو بعض ما يستحقه من أسمائه وصفاته
فأصحاب رسول الله والتابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء بل يثبتون أنهم وسائط فى التبليغ عن الله ويؤمنون بهم ويحبونهم ولا يحجون إلى قبورهم ولا يتخذون قبورهم مساجد وذلك تحقيق ( شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ( فإظهار ذكرهم وما جاؤا به هو من الإيمان بهم وإخفاء قبورهم لئلا يفتتن بها الناس هو من تمام التوحيد وعبادة الله وحده والصحابة وأمة محمد قاموا بهذا
____________________
(27/284)
ولهذا
تجد عند علماء المسلمين من أخبار أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من مشايخ العلم والدين والعدل من ولاة الأمور ما يوجب معرفة ذلك الشخص والثناء عليه والدعاء له وأن يكون له لسان صدق وما ينتفع به إما كلام له ينتفع به وإما عمل صالح يقتدى به فيه فإن العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء صلوات الله عليهم يقصد الإنتفاع بما قالوه وأخبروا به وأمروا به والإقتداء بهم فيما فعلوه صلوات الله عليهم أجمعين
وأما اهل الضلال كالنصارى وأهل البدع فهم مع غلوهم وتعظيمهم لقبورهم وتماثيلهم والإستشفاع بهم لا تجد عندهم من أخبارهم ما يعرف صدقه من كذبه بل قد التبس هذا بهذا ولا يكاد أحد من علمائهم يميز فيما هم عليه من الدين بين ما جاء عن المسيح وما جاء عن غيره إما من الأنبياء وإما من شيوخهم بل قد لبسوا الحق بالباطل
وكذلك أهل الضلال والبدع من أهل القبلة تجدهم يعظمون شيخا أو إماما أو غير ذلك ويشركون به ويدعونه من دون الله ويستغيثون به وينذرون له ويحجون إلى قبره وقد يسجدون له وقد يعبدونه أعظم مما يعبدون الله كما يفعل النصارى وهم مع ذلك من أجهل الناس بأحواله ينقلون عنه أخبارا مسيبة ليس لها إسناد
____________________
(27/285)
ولا يعرف صدقها من كذبها بل عامة ما يحفظونه ما فيه غلو وشطح للإشراك به فأهل الإسلام الذين يعرفون دين الإسلام ولا يشوبونه بغيره يعرفون الله ويعبدونه وحده ويعرفون أنبياءه فيقرون بما جاؤا به ويقتدون به ويعرفون أهل العلم والدين وينتفعون بأقوالهم وأفعالهم واهل الضلال فى ظلمة لا يعرفون الله ولا أنبياءه ولا أولياءه ولا يميزون بين ما أمر الله به وما نهى عنه وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
ولا ريب أن فى أهل القبلة من يشبه اليهود والنصارى فى بعض الأمور كما فى الصحيحين عن أبى سعيد الخدرى عن النبى أنه قال ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن ( وفى صحيح البخارى عن أبى هريرة أن النبى قال ( لتأخذن أمتى مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال فمن الناس إلا هؤلاء (
ومشابهتهم فى الشرك بقبور الأنبياء والصالحين هو من مشابهتهم التى حذر منها أمته قبل موته فى صحته ومرضه وفى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال سمعت رسول الله
____________________
(27/286)
قبل أن يموت بخمس وهو يقول ( إنى أبرأ إلى الله أن يكون لى منكم خليل فإن الله قد إتخذنى خليلا كما إتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتى خليلا لإتخذت أبا بكر خليلا ألا وأن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وأما لعنه لمن فعل ذلك ففى الصحيحين عن عائشة وإبن عباس قالا لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا إغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك ( لعنة الله على اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( يحذر ما صنعوا وفى الصحيحين عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه الذى لم يقم منه ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا وفى لفظ غير أنه خشى أو خشى وفى الصحيح أيضا عن أبى هريرة أن النبى قال لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( هذا لفظ مسلم وله وللبخارى ( قاتل الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( وفى الصحيحين عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير لرسول الله فقال رسول الله ( إن أولئك إذا مات فيهم
____________________
(27/287)
الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ( وفى المسند وصحيح أبى حاتم عن بن مسعود عن النبى أنه قال إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد (
وهذا باب واسع لبسطه موضع آخر وقد بسط الكلام فى هذا الباب فى الرد على من هو أفضل من هذا وبين ما خالفوا فيه الكتاب والسنه والإجماع فى هذا الباب وفى غيره ولما كان أولئك أعلم وأفضل كان الرد عليهم بحسبهم والله أعلم
صورة خطوط القضاة الأربعة
على ظهر فتيا الشيخ تقى الدين أبى العباس إبن تيمية فى ( السفر لمجرد زيارة قبور الأنبياء (
هذا المنقول باطنها جوابا عن السؤال أن زيارة الأنبياء بدعة أو ما ذكره من نحو ذلك وأنه لا يترخص فى السفر إلى زيارة الأنبياء هذا كلام باطل مردود عليه وقد نقل جماعة من العلماء والأئمة الكبار أن زيارة النبى صلى الله عليه وسلم فضيلة وسنة مجمع عليها وهذا المفتى المذكور ينبغى أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند
____________________
(27/288)
العلماء والأئمة الكبار ويمنع من الفتاوى الغريبة المردودة عند الأئمة الأربعة ويحبس إذا لم يمتنع من ذلك ويشهر أمره ليتحفظ الناس من الإقتداء به
كتبه العبد الفقير إلى الله محمد بن إبراهيم بن سعد بن جماعة وتحته يقول أحمد بن عمر المقدسى الحنبلى وتحته كذلك يقول محمد بن الجريرى الحنفى لكن يحبس الآن جزما مطلقا وتحته كذلك يقول العبد الفقير إلى الله محمد بن أبى بكر المالكى أن ثبت ذلك عليه ويبالغ فى زجره بحسب ما تندفع به هذه المفسدة وغيرها من المفاسد فهذه صورة خطوطهم بمصر والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد سيدنا وآله وصحبه وسلم تسليما
قال شيخ الإسلام أسكنه الله الجنة آمين
بسم الله الرحمن الرحيم ولا قوة إلا بالله العلى العظيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
____________________
(27/289)
فصل
فى الجواب عما كتب على نسخة جواب الفتيا وبيان بطلان ذلك وأن الحكم به باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة قد بسطت فى غير هذا الموضع وهى خمسون وجها تبين بطلان ما كتب به وبطلان الحكم به
الأول أنه نقل عن الجواب ما ليس فيه ورتب الحكم على ذلك النقل الباطل ومثل هذا باطل بالإجماع فإنه نقل أن المجيب قال أن زيارة الأنبياء بدعة أو أنه ذكر نحو ذلك والمجيب لم يذكر ذلك ولا نقل ذلك عن أحد من العلماء وإنما فى الجواب ذكر قول العلماء فيمن سافر لمجرد زيارة قبور ألأنبياء والصالحين هل يحرم هذا السفر أو يجوز وأن الطائفتين إتفقوا على أنه غير مستحب والطائفتان لم يقولا ذلك فى الزيارة المطلقة بل جمهورهم يقولون أن زيارة القبور مستحبة وهذا هو الصحيح كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ولكن لا يقولون إنه يستحب السفر إليها كما إتفق المسلمون على أنه يشرع إتيان المساجد غير المساجد الثلاثة وإن إتيانها
____________________
(27/290)
قد يكون فرضا وقد يكون سنة مثل إتيانها للجمعة والجماعة وإتفقوا على أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بفرض ولا سنة فهكذا زيارة القبور على الوجه الشرعى مستحبه وهى سنة والسفر إلى ذلك ليس بفرض ولا سنة عند الطائفتين
والمجيب لم يذكر لنفسه فى الجواب قولا بل حكى أقوال علماء المسلمين وأدلتهم وهؤلاء نقلوا عنه مالم يقله وإستدلوا بما لا ينازع فيه وأخطأوا فيما نقلوه وفهموه من كلام من نقل الإجماع وفيما إستدلوا به عليه وذلك من وجوه كثيرة جدا ولكن مقصود هذا الوجه أن الذى كتب على الجواب نقل عنه أنه هو القائل وأنه قال أن زيارة الأنبياء بدعة وهذا باطل عنه والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع
الوجه الثانى أن الطائفتين من علماء المسلمين إتفقوا على أن السفر لمجرد زيارة القبور ليس بفرض ولا سنة وهؤلاء جعلوا السفر إلى زيارة القبور سنة سنها رسول الله والنبى لم يسن لأمته السفر لذلك ولا قال علماء شريعته أن السفر إليها سنة فقد حكموا بما يخالف السنة والإجماع وهذا الحكم باطل بالإجماع وذلك أن المجيب ذكر القولين فيمن لم يسافر إلا إلى القبور ولم يقصد مع ذلك المسجد قول من جوز ذلك ولم يستحبه
____________________
(27/291)
وقول من حرمه وهم لم يقتصروا على رد أحد القولين فإن هذا لا يناقض ما ذكره المجيب بل قالوا وهذا المفتى المذكور ينبغى أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند العلماء ومتى ما بطل ما ذكره فى الجواب بالقولين تعين جعل السفر سنة مستحبة
وأيضا فإنهم إحتجوا بنقل من نقل الإجماع على إستحباب السفر الذى ذكر فيه القولين
الثالث أنهم إحتجوا بنقل من نقل من العلماء أن زيارة النبى فضيلة مرغب فيها وسنة مجمع عليها وهؤلاء نقلوا الإجماع على الزيارة لا على السفر لمجرد القبر ولو نقلوا الإجماع على السفر للزيارة فمعلوم أن المسلمين يقصدون المسجد والقبر لا يقصد القبر دون المسجد إلا جاهل وإذا قصد الزائر المسجد والقبر جميعا فالمجيب لم يذكر القولين فى هذه الصورة وإنما ذكرهما فيمن لم يسافر إلا لمجرد زيارة القبور والجواب لم يكن فى خصوص قبر النبى بل كان فى جنس القبور وجعلوا ذلك إجماعا على السفر إلى سائر قبور الأنبياء فإن المجيب فرق بين الزيارة النبوية الشرعية التى أجمع المسلمون على إستحبابها وبين ما أجمعوا على أنه لا يستحب وما تنازعوا فيه وما نقلوه من الإجماع وإن كان عندهم لا يدل على مثل ما ذكره المجيب لم يكن حجة عليه وهم جعلوه حجة
____________________
(27/292)
على بطلان الجواب وذلك إنما يكون إذا قيل بإستحباب السفر مطلقا فغلطوا على من نقل الإجماع فلم يفهموا مراده وحكموا بناء على هذا الإعتقاد الباطل ومثل ذلك باطل بالإجماع
الرابع أنهم جعلوا هذا النقل مخالفا للجواب وليس مخالفا له بل المفتى قد ذكر فى الجواب إستحباب العلماء لزيارة قبر النبى صلى الله عليه وسلم ولم يحك عن أحد أنه قال زيارة قبر النبى محرمة والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع
الخامس ( أن هؤلاء جعلوا جنس الزيارة مستحبا بالإجماع ولم يفصلوا بين المشروع والمحرم والزيارة بعضها مشروع وبعضها محرم بالإجماع كما ذكر ذلك فى جواب الفتيا وهم أنكروا هذا التفصيل وهذا مخالف للإجماع والحكم به باطل بالإجماع فإن المجيب لم ينكر السفر للزيارة الشرعية بالإجماع بل بين فى الجواب ما أجمع عليه المسلمون من السفر ومن الزيارة وهذا مبسوط فى مواضع كثيرة من كلامه مشهور عنه وذكر ما تنازعوا فيه وما إتفقوا على النهى عنه فلو وافقوا على التفصيل لم ينكروا الجواب فلما جعلوا الجواب باطلا عند العلماء تبين أنهم لم يفصلوا
____________________
(27/293)
السادس أن الزيارة ثلاثة أنواع نوع إتفق العلماء على إستحبابه ونوع إتفقوا على النهى عنه ونوع تنازعوا فيه وفى الجواب ذكر الأنواع الثلاثة وهؤلاء لم يفصلوا بين ما أجمع عليه وبين ما تنازع العلماء فيه ولا ذكروا أن ما تنازع فيه العلماء يرد إلى الله والرسول بل جعلوه مردودا بمجرد قولهم وهذا باطل بالإجماع والحكم بذلك باطل بالإجماع والمجيب إنما ذكر إتفاق الطائفتين على أن السفر غير مستحب إذا سافر لمجرد زيارة قبر بعض الأنبياء والصالحين وهذا منتف فى الغالب فى قبر النبى فإن من هو عارف بشريعة الإسلام لا بد أن يقصد المسجد مع القبر لا سيما مع علمه بأنه صلى الله عليه وسلم قال ( صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ( ولهذا إحتج طائفة من العلماء على إستحباب زيارة قبره بهذا الحديث وهذه الزيارة التى يفعلها من يعلم الشريعة لم يذكر المجيب أنها لا تستحب بالإجماع وكيف يقول ذلك وإستحبابها موجود فى كلام العلماء
السابع أن الإجماع على أن الزيارة سنة وفضيلة ليس هو إجماعا على كل ما يسمى زيارة ولا على هذا اللفظ بل هو إجماع على ما شرعه الله من حقوقه فى مسجده وهل يكره أن يسمى ذلك زيارة لقبره على قولين وكثير مما يسمى زيارة لقبره فيه نزاع أو هو منهى
____________________
(27/294)
عنه بالإجماع وهؤلاء جعلوا الإجماع متناولا لما تنازع العلماء فيه وإحتجوا بالإجماع فى موارد النزاع وهذا خطأ ( الثامن ( أن ما تنازع فيه العلماء يجب رده إلى الله والرسول وهؤلاء لم يردوه إلى الله ولا إلى الرسول بل قالوا إنه كلام باطل مردود على قائله بلا حجة من كتاب الله ولا سنة رسوله وهذا باطل بإلاجماع
( التاسع ( أن الذين حكوا الإجماع على إستحباب السفر لمجرد زيارة القبر بل الإجماع إنما هو على إستحباب السفر إلى مسجده واما السفر لمجرد القبر فهذا فيه النزاع المشهور وما فيه نزاع يجب رده إلى الله والرسول وهؤلاء لم يردوا ما تنازع العلماء فيه إلى الله والرسول بل إدعوا فيه الإجماع وغلطوا على من حكوا عنه الإجماع ومن زجر عن قول لكونه مخالفا للإجماع ولم يكن مخالفا للإجماع كان هو المخطئ بالإجماع
( العاشر ( أن مالا إجماع فيه يجب رده إلى الله والرسول بالإجماع وإن إحتج فيه بالكتاب والسنة كان هو المصيب والجواب فيه ذكر النزاع والإحتجاج بالكتاب والسنة فى موارد النزاع وهؤلاء جعلوا ذلك مردودا ولم يردوه إلى الله والرسول بل ردوا على من إحتج
____________________
(27/295)
بالكتاب والسنة فى مسائل النزاع وحكموا بهذا الرد المخالف للإجماع والحكم بمثل ذلك باطل بالإجماع
( الحادى عشر ( أن الذى ذكر فى الفتيا ما اجمع عليه كالزيارة المستحبة وما أجمعوا على النهى عنه وما تنازعوا فيه وهذا أقصى ما يكون عند المفتين وهؤلاء جعلوا ذلك من الفتاوى الباطلة عند العلماء وهذا التفصيل ليس باطلا عند أحد من علماء المسلمين وهم جعلوه باطلا وحكموا بذلك ومثل هذا الحكم باطل بالإجماع
( الثانى عشر ( أن ما تنازع فيه العلماء ليس لأحد من القضاة أن يفصل النزاع فيه بحكم وإذا لم يكن لأحد من القضاة أن يقول حكمت بأن هذا القول هو الصحيح وأن القول الآخر مردود على قائله بل الحاكم فيما تنازع فيه علماء المسلمين أو أجمعوا عليه قوله فى ذلك كقول آحاد العلماء إن كان عالما وإن كان مقلدا كان بمنزلة العامة المقلدين والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالما مجتهدا عالما مجتهدا ولو كان الكلام فى العلم والدين بالولايه والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام فى العلم والدين وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم فى العلم والدين فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدعى ذلك لنفسه ولا يلزم الرعية حكمه فى ذلك بقول دون قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله فمن هو دون السلطان فى الولاية أولى بأن لا يتعدى
____________________
(27/296)
طوره ولا يقيم نفسه فى منصب لا يستحق القيام فيه ابوبكر وعمر وعثمان وعلى وهم الخلفاء الراشدون فضلا عمن هو دونهم فإنهم رضى الله عنهم إنما كانوا يلزمون الناس بإتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم وكان عمر رضى الله عنه يقول إنما بعثت عمالى أى نوابى إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقسموا بينكم فيئكم بل هذه يتكلم فيها من علماء المسلمين من يعلم ما دلت عليه الأدلة الشرعية الكتاب والسنة فكل من كان أعلم بالكتاب والسنة فهو أولى بالكلام فيها من غيره وإن لم يكن حاكما والحاكم ليس له فيها كلام لكونه حاكما بل إن كان عنده علم تكلم فيها كآحاد العلماء فهؤلاء حكموا فيما ليس لهم فيه الحكم بالإجماع وهذا من الحكم الباطل بالإجماع
( الثالث عشر ( أن الأحكام الكلية التى يشترك فيها المسلمون سواء كانت مجمعا عليها أو متنازعا فيها ليس للقضاة الحكم فيها بل الحاكم العالم كآحاد العلماء يذكر ما عنده من العلم وإنما يحكم القاضي فى أمور معينة وأما كون هذا العمل واجبا أو مستحبا أو محرما فهذا من الأحكام الكلية التى ليس لأحد فيها حكم إلا لله ورسوله وعلماء المسلمين يستدلون على حكم الله ورسوله بأدلة ذلك وهؤلاء حكموا فى الأحكام الكلية وحكمهم فى ذلك
____________________
(27/297)
باطل بالإجماع
الرابع عشر ( أن الكلام فى هذه المسائل الكلية إنما يجوز لمن كان عالما بأقوال علماء المسلمين فيها وما اجمعوا عليه وما تنازعوا فيه عالما بالكتاب والسنة ووجه الإستدلال بهما وكلام هؤلاء يتضمن انهم لا يعرفون ما قاله علماء المسلمين فى هذه المسائل ولا يميزون بين ما أجمع عليه العلماء وتنازعوا فيه ولا يعرفون سنة رسول الله فى هذه المسائل ولا يفرقون بين ما رغب فيه وما نهى عنه ولم يسنه ولا يعرفون الأحاديث الصحيحة والضعيفة فى هذا الباب بل ولا يعرفون مذهبهم فى هذه المسائل ولا عندهم نقل عن الأئمة الأربعة ولا العلماء المشهورين من أتباعهم فيما قالوه وحكموا به بل هم فيه بمنزلة آحاد المتفقهة الطلبة الذين ينبغى لهم طلب علم هذه المسائل بل لا يجوز لأحدهم أن يفتى فيها ولا يناظر ولا يصنف فضلا عن أن يحكم ومعلوم أن من كان كذلك وحكم فيما ليس له الحكم فيه كان حكمه محرما بالإجماع فكيف إذا حكم فيما ليس له فيه الحكم وحكم بخلاف الإجماع فإن الحاكم إذا حكم بغير إجتهاد ولا تقليد كان حكمه محرما بالإجماع
( الخامس عشر ( أن القاضي يجب أن يكون مجتهدا عند بعض
____________________
(27/298)
العلماء وعند بعضهم يجوز له التقليد للعلماء وهؤلاء لو كانت هذه المسائل مما لهم فيه الحكم فهم لم يقلدوا فيما قالوه احدا من أئمة المسلمين فضلا أن يكونوا فيه مجتهدين بل حكموا بغير إجتهاد ولا تقليد وهذا الحكم الباطل بالإجماع ولو كان على يهودى عشرة دراهم معينة فكيف إذا حكموا على علماء المسلمين فى الأحكام الكلية التى لا حكم لهم فيها بالإجماع
( السادس عشر لو كان لهم فيها الحكم وقد حكموا بالكتاب والسنة والإجماع لم يكن لهم الحكم حتى يسمعوا كلام المحكوم عليه وحجته ويعذروا إليه وهل له جواب أم لا فإن العلماء تنازعوا فى الحقوق كالأموال هل يحكم فيها على غائب على قولين ومن جوز الحكم عليه قال هو باق على حجته تسمع إذا حضر فأما العقوبات والحدود فلا يحكم فيها على غائب وهؤلاء حكموا على غائب فى ذلك ولم يمكنوه من سماع كلامه والأدلاء بحجته وهذا لو كان على يهودى كان حكما باطلا بالإجماع ولهذا كان جميع الناس أهل العلم والدين والعقل ينكرون مثل هذا الحكم ويعلمون أنه حكم بغير حق
( السابع عشر ( أنه لو كان الحاكم خصما لشخص فى حق من الحقوق لم يجز ان يحكم الحاكم على خصمه بإجماع المسلمين وكذلك ( المسائل العلمية ( إذا تنازع حاكم وغيره من العلماء فى تفسير آية أو
____________________
(27/299)
حديث أو بعض مسائل العلم لم يكن للحاكم أن يحكم عليه بالإجماع فإنهما خصمان فيما تنازعا فيه والحاكم لا يحكم على خصمه بالإجماع
الثامن عشر ( أن هذه المسائل منقولة فى كتب أهل العلم من اصحاب مالك والشافعى وأحمد وغيرهم وهؤلاء حكموا فيها بخلاف مذاهب الأئمة الأربعة ولم يعرفوا مذاهب أئمتهم ولا مذاهب غيرهم من الأئمة والعلماء ولا ما دلت عليه السنة والآثار ومعلوم أن مثل هذا الحكم باطل بالإجماع ومن إدعى منهم أن الذى حكم به هو قول العلماء فليكتب خطه بذلك وليذكر ما ذكره العلماء فيها من إجماع ونزاع وأدلة ذلك ليتبين أن الذى يقول بخلاف جواب المفتى قولا باطلا وإلا فقد علم أنهم حكموا بغير الحق وهذا باطل بالإجماع
( التاسع عشر ( أنه لو كان أحدهم عارفا بمذهبه لم يكن له ان يلزم علماء المسلمين بمذهبه ولا يقول يجب عليكم أنكم تفتون بمذهبى وأنه أى مذهب خالف مذهبى كان باطلا من غير إستدلال على مذهبه بالكتاب والسنة ولو قال من خالف مذهبى فقوله مردود ويجب منع المفتى به وحبسه لكان مردودا عليه وكان مستحقا العقوبة على ذلك بالإجماع فكيف إذا كان الذى حكم به ليس هو مذهب أحد من الأئمة الأربعة بل الذى أفتى به المفتى هو موافق للإجماع دون من أنكر قوله وخالف الإجماع
____________________
(27/300)
الوجه العشرون ( أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى أخطأ فى مائة مسألة لم يكن ذلك عيبا وكل من سوى الرسول يصيب ويخطئ ومن منع عالما من الإفتاء مطلقا وحكم بحبسه لكونه أخطا فى مسأئل كان ذلك باطلا بالإجماع فالحكم بالمنع والحبس حكم باطل بالإجماع فكيف إذا كان المفتى قد اجاب بما هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول علماء أمته
( الحادى والعشرون ( ان المفتى لو أفتى فى المسائل الشرعية ( مسائل الأحكام ( بما هو أحد قولى علماء المسلمين وإستدل على ذلك بالكتاب والسنة وذكر أن هذا القول هو الذى يدل عليه الكتاب والسنة دون القول الآخر فى أى باب كان ذلك من مسائل البيوع والنكاح والطلاق والحج والزيارة وغير ذلك لم يكن لأحد أن يلزمه بالقول الآخر بلا حجة من كتاب أو سنة ولا أن يحكم بلزومه ولا منعه من القول الآخر بالإجماع فكيف إذا منعه منعا عاما وحكم بحبسه فإن هذا من ابطل الأحكام بإجماع المسلمين
( الثانى والعشرون ( أن الحاكم لو ظن الإجماع فيما ليس فيه إجماع والزم الناس بذلك القول لظنه أنه مجمع عليه ولم يستدل على ذلك بكتاب أو سنة وكان فيه نزاع لم يعلمه لكان مخطئا فى الزام الناس
____________________
(27/301)
بذلك بالإجماع إلا أن يدل عليه كتاب أو سنة
( الثالث والعشرون ( أن الحاكم متى خالف نصا أو إجماعا نقض حكمه بإتفاق الأئمة وحكم هؤلاء خالف النص والإجماع من وجوه كثيرة فهومستحق للنقض بالإجماع
( الرابع والعشرون ( أن هذا الحكم وأمثاله هو مثل ما تقدم من الحكم مرة بعد مرة فى بعض ما هو فى نظير هذه القضية وكل واحد من تلك الأحكام باطل بالإجماع من وجوه كثيرة فكذلك هذا
( الخامس والعشرون أن هذه الأحكام مع أنها باطلة بالإجماع فإنها مثيرة للفتن مفرقة بين قلوب الأمة متضمنة للعدوان على المسلمين وعلى ولاة أمورهم مؤذية لهم جالبة للفتن بين المسلمين والحكم بما انزل الله فيه صلاح الدنيا والآخرة والحكم بغير ما انزل الله فيه فساد الدنيا والآخرة فيجب نقضه بالإجماع
( السادس والعشرون ( أن ما يحصل به أذى للمسلمين إذا كان مما أمر الله به ورسوله كانوا مطيعين فى ذلك لله ورسوله وأجرهم فيه على الله كالجهاد أما إذا كان الذى يؤذيهم مما لم يأمر به الله ولا رسوله وجب رده بالإجماع ومثل هذه الأحكام المؤذية للمسلمين وولاة أمورهم
____________________
(27/302)
وهى مخالفة للسنة والإجماع فيجب ردها بالإجماع (
السابع والعشرون ( أنهم قالوا إن هذا المفتى ينبغى أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند العلماء والأئمة الكبار وقولهم هو الباطل عند العلماء والأئمة الكبار ومن إدعى أن قول العلماء والأئمة الكبار هو الباطل عند العلماء والأئمة الكبار كان قوله وحكمه به باطلا بالإجماع فإن هذه الفتيا هي قول العلماء والأئمة الكبار فيها قول مالك وغيره من الأئمة الكبار والقول الآخر ليس للعلماء والأئمة الكبار قول إلا ما ذكر فيها وما ذكروه لا يعرف عن أحد من العلماء والأئمة الكبار
( الثامن والعشرون ( انهم قالوا يمنع من الفتاوى الغريبة المردودة عند الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين والحكم به باطل بالإجماع فإن الأئمة الأربعة متفقون على أنه إنما ينقض حكم الحاكم إذا خالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو معنى ذلك فأما ما وافق قول بعض المجتهدين فى ( مسائل الإجتهاد ( فإنه لا ينقض لأجل مخالفته قول الأربعة وما يجوز أن يحكم به الحاكم يجوز أن يفتى به المفتى بالإجماع بل الفتيا أيسر فإن الحاكم يلزم والمفتى لا يلزم فما سوغ الأئمة الأربعة للحاكم أن يحكم به فهم يسوغون للمفتى أن يفتى به بطريق الأولى والأحرى ومن حكم بمنع الإفتاء بذلك فقد خالف الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين فما قالوه هو المخالف للأربعة وسائر أئمة المسلمين
____________________
(27/303)
فهو باطل بالإجماع
( التاسع والعشرون ( أن جميع المذاهب فيها اقوال قالها بعض أهلها ليست قولا لصاحب المذهب وفيها جميعها ما هو مخالف لقول الأربعة وهم يحكون ذلك قولا فى المذهب ولا يحكمون ببطلانه إلا بالحجة لا سيما إذا خرج على أصول صاحب المذهب وبين من نصوصهم ما يقتضى ذلك كما يفعله أتباعهم فى كثير من المسائل والمجيب قد ذكر من كلام الأئمة ألأربعة ومن قبلهم ممن يعظمونهم من العلماء وكلام من تقدمهم ما يعرف به أقوال علماء المسلمين فإبطال القول لمجرد مخالفته للأربعة هو مخالف لأقوال الأربعة ولأتباع الأئمة الأربعة فهو باطل بالإجماع
( الوجه الموفى ثلاثين ( أنما أنكروه فى مسائل الزيارة ومسائل الطلاق من فتاوى المفتى المدلول ليس فيها شيء يخرج عن المذاهب الأربعة بل إما أن يكون ما افتى به قول جميع أهل المذاهب الأربعة كالذى أفتى فى هذه المسألة ( مسألة الزيارة ) فإن الذى قاله هو قول جميع أهل المذاهب الأربعة بل وقول جميع علماء المسلمين قد ذكروا ما اجمعوا عليه وما تنازعوا فيه وإما ان يكون ما افتى به فيها قول بعض الأئمة الأربعة أو بعض المنتسبين إليهم ( كمسائل الطلاق ) فإن مسائل النزاع فيها قد تنازع فيها أهل المذاهب الأربعة والمفتى
____________________
(27/304)
المذكور لم يفت فيها إلا بما قاله بعضهم وما يمكن الإفتاء فيها إلا بذلك ومن أنكر مالا يعلمه وحكم بلا علم وخالف النص والإجماع كان حكمه باطلا بالإجماع
( الحادى والثلاثون ( أن قولهم يحبس إذا لم يمتنع من ذلك ويشهر أمره ليتحفظ الناس من الإقتداء به وإنما يستحق ذلك من أظهر البدعة فى دين المسلمين وإستحبها ودعا إليها الناس وحكم بعقوبة من أمر بالسنة ودعا إليها والسفر إلى زيارة القبور هي البدعة التى لم يستحبها احد من أئمة المسلمين وكذلك جعل زيارة القبور جنسا واحدا لا يفرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية خطأ بإتفاق المسلمين وكذلك التسوية بين ( الزيارة النبوية الشرعية ( التى يسافر فيها المسلمون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين السفر إلى زيارة قبر غيره كل ذلك مخالف لسنة رسول الله ولإجماع أمته فمن أمر بذلك كان أحق بالمنع ويشهر خطاه ليتحفظ الناس من الإقتداء به أولى ممن أفتى بالسنة والإجماع مع ان الله سبحانه هو الفاعل لذلك فهو الذى يظهر خطأ هؤلاء فى مشارق الأرض ومغاربها فى هذا الزمان وما بعده من الأزمنة كما فعله فى سائر من إبتدع فى الدين وخالف شريعة سيد المرسلين فإن المفتى ذكر فى الجواب ما إتفق المسلمون على إستحبابه
____________________
(27/305)
وما إتفقوا على النهى عنه وما تنازعوا فيه ولم ينه عن الزيارة مطلقا لا لفظا ولا معنى والإجماع الذى ذكروه هو موافق لما ذكره لا مخالف له فالزيارة التى أجمع المسلمون عليها هو من أعظم القائلين بإستحبابها لا يجعل المستحب مسمى الزيارة ويسوى بين دين الرحمن ودين الشيطان كما فعل هؤلاء وانكروا على من فرق بين دين الرحمن ودين الشيطان
( الثانى والثلاثون ( ان قبول قول الحاكم وغيره بلا حجة مع مخالفته للسنة مخالف لإجماع المسلمين وإنما هو دين النصارى الذين إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون قال النبى ( أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم ( والمسلمون متفقون على أن ما تنازعوا فيه يجب رده إلى الله والرسول وهؤلاء لم يردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول بل حكموا برده بقولهم وهذا باطل بإجماع المسلمين
وايضا فحكموا بقول ثالث خلاف قولى علماء المسلمين فخرجوا وحكمهم عن إجماع المسلمين وهذا باطل بإجماع المسلمين
____________________
(27/306)
( الثالث والثلاثون ) ان كلامهم تضمن الإعتراف بأن ما افتى به المفتى هو قول بعض علماء المسلمين وحينئذ فما تنازع فيه المسلمون يجب رده إلى الله والرسول ولا يحكم فيه إلا كتاب الله أوسنة نبيه وهؤلاء حكموا فيما تنازع فيه المسلمون بغير كتاب الله ولا سنة رسوله ومثل هذا الحكم باطل بإجماع المسلمين وهذا لو كان ما أفتى به قول بعضهم فكيف وهو ذكر القولين اللذين إتفق المسلمون عليهما والقول الذى انكروه هو قول الأئمة الكبار وقولهم لم ينقله أحد من الأئمة الكبار ولا الصغار
( الرابع والثلاثون ( انه لو قدر أن المفتى أفتى بالخطأ فالعقوبة لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة فالواجب ان تبين دلالة الكتاب والسنة على خطئه ويجاب عما إحتج به فإنه لابد من ذكر الدليل والجواب عن المعارض وإلا فإذا كان مع هذا حجة ومع هذا حجة لم يجز تعيين الصواب مع أحدهما إلا بمرجح وهؤلاء لم يفعلوا شيئا من ذلك فلو كان المفتى مخطئا لم يقيموا عليه فكيف إذا كان هو المصيب وهم المخطئون فحكم مثل هؤلاء الحكام باطل بالإجماع
( الخامس والثلاثون ( أن المفتى إذا تبينت له الأدلة الشرعية فإن تبين له الصواب وإلا كان له أسوة أمثاله من العلماء الذين يقولون قولا مرجوحا ومعلوم أن هؤلاء يستحقون العقوبة والحبس والمنع عن
____________________
(27/307)
الفتيا مطلقا بإجماع المسلمين وهذا الحكم باطل بإجماع المسلمين
( السادس والثلاثون ( إن إلزام الناس بما لم يلزمهم به الله ورسوله ومنعهم أن يتبعوا ما جاء به الكتاب والسنة حرام بإجماع المسلمين والحكم به باطل بإجماع المسلمين وهؤلاء لم يستدلوا على ما قالوه بكتاب الله ولا سنة رسوله ولا أجابوا عن حجة من إحتج بالكتاب والسنة ومثل هذا الإلزام والحكم به باطل بالإجماع
( السابع والثلاثون ( إن علماء المسلمين إذا تنازعوا فى مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم أحداث قول ثالث بل القول الثالث يكون مخالفا لإجماعهم والمسلمون تنازعوا فى السفر لغير المساجد الثلاثة على قولين هل هو حرام أو جائز غير مستحب فإستحباب ذلك قول ثالث مخالف للإجماع وليس من علماء المسلمين من قال يستحب السفر لزيارة القبور ولا يستحب إلى المساجد بل السفر إلى المساجد قد نقل عن بعضهم أنه قال مستحب يجب بالنذر وأما السفر إلى القبور لم يقل احد منهم أنه مستحب ولا أنه يجب بالنذر وكلهم متفقون على أن الذهاب إلى المساجد أفضل من الذهاب إلى القبور فإن زيارة الأنبياء والصالحين حيث كانت مشروعة فلا تشرع في اليوم والليلة خمس مرات والمسجد مشروع إتيانه فى اليوم والليلة خمس مرات فإتيانه أولى من إتيانها بالإجماع
____________________
(27/308)
( الثامن والثلاثون ( إن إتيان مسجد رسول الله وقصد ذلك والسفر لذلك أولى من إتيان قبره لو كانت الحجرة مفتوحة والسفر إليه بإجماع المسلمين فإن الصحابة كانوا يأتون مسجده فى اليوم والليلة خمس مرات والحجرة إلى جانب المسجد لم يدخلها أحد منهم لأنهم قد علموا أنه نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد وأن يتخذوا قبره عيدا أو وثنا وأنه قال لهم ( صلوا على حيثما كنتم ( وكذلك قد علموا أن صلاتهم وسلامهم عليه فى المسجد أولى من عند قبره وكل من يسافر للزيارة فسفره إنما يكون إلى المسجد سواء قصد ذلك او لم يقصده والسفر إلى المسجد مستحب بالنص والإجماع
والمجيب قد ذكر فى الجواب الزيارة المجمع عليها والمتنازع فيها وهؤلاء أعرضوا عن الأمر بما امر الله به ورسوله وعلماء أمته وعن إستحباب ما أحبه الله ورسوله وجميع علماء أمته وفهموا من كلام العلماء ما لم يقصدوه فإن القاضي عياض الذى حكى الفاظه قد صرح بما صرح به إمامه وجمهور أصحابه أنه لا يجوز السفر إلى غير المساجد الثلاثة وهو لم يذكر إستحباب قصد القبر دون المسجد بل ذكر ما نقله عن العلماء فى فضل زيارة الرسول ما بين به مراده وذكر عن مالك أنه كره أن يقف بعد السلام وهذا كراهته لزيارة أكثر العامة وهؤلاء
____________________
(27/309)
جعلوا مسمى الزيارة مستحبا وأنكروا على من فصل بين الزيارة الشرعية والبدعية وذكر أن أهل المدينة يكره لهم الوقوف عند القبر وإن قصدوا مجرد السلام إلا عند السفر وذكر ايضا أنه يستحب قصد المسجد وأن هذا لم يزل المسلمون يفعلونه فقال ( فصل فى حكم زيارة قبره ( وزيارة قبره سنة بين المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها قال وكره مالك أن يقال زرنا قبر النبى ثم قال ( وقال إسحاق بن إبراهيم الفقيه ومما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للتبرك برؤية روضته ومنبره وقبره ومجلسه وملامس يديه ومواطئ قدميه والعمود الذى كان يستند عليه وينزل جبرائيل بالوحى فيه عليه وبمن عمره وقصده من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين والإعتبار بذلك كله
فقد بين أن الإجماع الذى حكوه يتضمن قصد الصلاة فى مسجده وإن القبر من جملة آثاره وهؤلاء زعموا أنه حكى الإجماع على السفر إلى مجرد القبر وهو لم يذكر ذلك ولا ما يدل عليه بل ذكر خلاف ذلك من وجوه وهؤلاء أخطأؤا عليه فيما نقله ولم يعرفوا ما فى ذلك من السنة والإجماع وهذا الحكم باطل بالإجماع
____________________
(27/310)
( الوجه التاسع والثلاثون ( أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى أفتى فى عدة مسائل بخلاف سنة رسول الله الثابتة عنه وخلاف ما عليه الخلفاء الراشدون لم يجز منعه من الفتيا مطلقا بل يبين له خطؤه فيما خالف فيه فما زال فى كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك فإبن عباس رضى الله عنهما كان يقول فى ( المتعة والصرف ( بخلاف السنة الصحيحة وقد أنكر عليه الصحابة ذلك ولم يمنعوه من الفتيا مطلقا بل بينوا له سنة رسول الله المخالفة لقوله فعلى رضى الله عنه روى له عن النبى أنه حرم المتعة وأبو سعيد الخدرى رضى الله عنه وغيره رووا له تحريمه لربا الفضل ولم يردوا فتياه لمجرد قولهم وحكمهم ويمنعوه من الفتيا مطلقا ومثل هذا كثير فالمنع العام حكم بغير ما أنزل الله وهو باطل بإتفاق المسلمين لو كان ما نازعوه فيه مخالفا للسنة فكيف إذا كانت معه بل ومعه إجماع علماء المسلمين فيما أنكروه من مسائل الزيارة وهذا مما يبين أن هذا الحكم من أبطل حكم فى الإسلام ومن أعظم التغيير لدين الإسلام بإجماع المسلمين
( الوجه الموفى أربعين ( إن هذه المسائل يعرفها علماء المسلمين من زمن رسول الله وإلى هذا الوقت فإن جميع المسلمين
____________________
(27/311)
يحتاجون إليها فيمتنع أن يعرف بعض الناس فيها الحق دون السلف والأئمة والمجيب قد صنف فيها مجلدات بين فيها أقوال الصحابة وافعالهم وأقوال علماء المسلمين ما أجمعوا عليه وما تنازعوا فيه وبين الأحاديث النبوية صحيحها وضعيفها وكلام العلماء فيها وبين خطأ من نازعه ممن صنف فى ذلك وبسط القول فى ذلك وهؤلاء لو كانوا قد قالوا ببعض أقاويل العلماء فلم يأتوا عليه بحجة فكيف وقد قالوا ما يخالف سنة رسول الله وإجماع علماء المسلمين فى مثل هذا الأمر العظيم الذى قد بينه الرسول لأمته وعرف ذلك علماء أمته قرنا بعد قرن إلى هذا الزمان ومعلوم أن مثل هذا الحكم باطل بإجماع المسلمين
( الوجه الحادى والأربعون ( أنهم لو قالوا ببعض أقوال العلماء فظنوا أنه لا تنازع فيه كانوا عددا مثل من يظن أن السنة للزائر أن يقف عند القبر ويستقبله ويسلم عليه وقد يظن ذلك إجماعا وهو غالط فإن من العلماء من لم يستحب إستقبال القبلة ومنهم من لم يستحب الوقوف عند القبر كما قد بين النقل عنهم فى مواضعه وأما هؤلاء فحكموا بقول لم يقله أحد من علماء المسلمين وذلك باطل بإلإجماع
( الثانى والأربعون ( أن ما قالوه لو قاله مفت لوجب الإنكار عليه
____________________
(27/312)
ومنعه وحبسه إن لم ينته عن الإفتاء به لأنه مخالف للسنة والإجماع فكيف إذا قاله حاكم يلزم الناس به وهو أولى بالمنع والعقوبة على ذلك كأهل البدع من الخوارج والرافضة وغيرهم والذين يبتدعون بدعة يلزمون بها الناس ويعادون من خالفهم فيها ويستحلون عقوبته والبدع المتضمنة للشرك وإتخاذ القبور أوثانا والحج إليها ودعاء غير الله وعبادته من بدع الخوارج والروافض والله أعلم والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(27/313)
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه ( بسم الله الرحمن الرحيم (
وحسبنا الله ونعم الوكيل (
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
أما بعد يقول احمد بن تيمية إننى لما علمت مقصود ولى الأمر السلطان أيده الله وسدده فيما رسم به كتبت إذ ذاك كلاما مختصرا لأن الحاضر إستعجل بالجواب وهذا فيه شرح الحال أيضا مختصرا وإن رسم ولى الأمر أيده الله وسدده أحضرت له كتبا كثيرة من كتب المسلمين قديما وحديثا مما فيه كلام النبى صلى الله عليه
____________________
(27/314)
وسلم والصحابة والتابعين وكلام أئمة المسلمين الأربعة وغير الأربعة وأتباع الأربعة مما يوافق ما كتبته فى الفتيا فإن الفتيا مختصرة لا تحتمل البسط ولا يقدر أحد أن يذكر خلاف ذلك لا عن النبى ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم
وإنما خالف ذلك من يتكلم بلا علم وليس معه بما يقوله نقل لا عن النبى ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين ولا يمكنه أن يحضر كتابا من الكتب المعتمدة عن أئمة المسلمين بما يقوله ولا يعرف كيف كان الصحابة والتابعون يفعلون فى زيارة قبر النبى وغيره وأنا خطى موجود بما أفتيت به وعندى مثل هذا كثير كتبته بخطى ويعرض على جميع من ينسب إلى العلم شرقا وغربا فمن قال إن عنده علما يناقض ذلك فليكتب خطه بجواب مبسوط يعرف فيه من قال هذا القول قبله وما حجتهم فى ذلك وبعد ذلك فولى الأمر السلطان أيده الله إذا رأى ما كتبته وما كتبه غيرى فأنا أعلم أن الحق ظاهر مثل الشمس يعرفه أقل غلمان السلطان الذى ما رؤى فى هذه الأزمان سلطان مثله زاده الله علما وتسديدا وتأييدا فالحق يعرفه كل أحد فإن الحق الذى بعث الله به الرسل لا يشتبه بغيره
____________________
(27/315)
على العارف كما لا يشتبه الذهب الخالص بالمغشوش على الناقد والله تعالى أوضح الحجة وأبان المحجة بمحمد خاتم المرسلين وافضل النبيين وخير خلق الله اجمعين فالعلماء ورثة الأنبياء عليهم بيان ما جاء به الرسول ورد ما يخالفه
فيجب أن يعرف ( اولا ( ما قاله الرسول فإن الأحاديث المكذوبة كثيرة وبعض المنتسبين إلى العلم قد صنف فى هذه المسألة وما يشبهها مصنفا ذكر فيه من الكذب على رسول الله وعلى الصحابة الوانا يغتر بها الجاهلون وهو لم يتعمد الكذب بل هو محب للرسول صلى الله عليه وسلم معظم له لكن لا خبرة له بالتمييز بين الصدق والكذب فإذا وجد بعض المصنفين فى فضائل البقاع وغيرها قد نسب حديثا إلى النبى أو إلى الصحابة إعتقده صحيحا وبنى عليه ويكون ذلك الحديث ضعيفا بل كذبا عند أهل المعرفة بسنته صلى الله عليه وسلم
ثم إذا ميز العالم بين ما قاله الرسول وما لم يقله فإنه يحتاج أن يفهم مراده ويفقه ما قاله ويجمع بين الأحاديث ويضم كل شكل إلى شكله فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله ويفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله فهذا هو العلم الذى ينتفع به المسلمون ويجب تلقيه وقبوله وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم
____________________
(27/316)
رضى الله عنهم أجمعين
وولى الأمر سلطان المسلمين أيده الله وسدده هو أحق الناس بنصر دين الإسلام وما جاء به الرسول عليه السلام وزجر من يخالف ذلك ويتكلم فى الدين بلا علم ويأمر بما نهى عنه رسول الله ومن يسعى فى إطفاء دينه إما جهلا وإما هوى وقد نزه الله رسوله عن هذين الوصفين فقال تعالى { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } وقال تعالى عن الذين يخالفونه { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } ويخالفون شريعته وما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين الذين يعرفون سنته ومقاصده ويتحرون متابعته بحسب جهدهم رضى الله عنهم أجمعين (
فولى الأمر السلطان أعزه الله إذا تبين له الأمر فهو صاحب السيف الذى هو أولى الناس بوجوب الجهاد فى سبيل الله باليد لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ويبين تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتظهر حقيقة التوحيد ورسالة الرسول الذى جعله الله أفضل الرسل وخاتمهم ويظهر الهدى ودين الحق الذى بعث به والنور الذى أوحى إليه ويصان ذلك
____________________
(27/317)
عن ما يخلطه به اهل الجهل والكذب الذين يكذبون على الله ورسوله ويجهلون دينه ويحدثون فى دينه من البدع ما يضاهى بدع المشركين وينتقصون شريعته وسنته وما بعث به من التوحيد ففى تنقيص دينه وسنته وشريعته من التنقص له والطعن عليه ما يستحق فاعله عقوبة مثله
فولاة أمور المسلمين احق بنصر الله ورسوله والجهاد فى سبيله وإعلاء دين الله وإظهار شريعة رسول الله التى هي أفضل الشرائع التى بعث الله بها خاتم المرسلين وأفضل النبيين وما تضمنته من توحيد الله وعبادته لا شريك له وأن يعبد بما أمر وشرع لا يعبد بالأهواء والبدع وما من الله به على ولاة الأمر وما أنعم الله به عليهم فى الدنيا وما يرجونه من نعمة الله فى الآخرة إنما هو بإتباعهم للرسول ونصر ما جاء به من الحق
وقد طلب ولى الأمر أيده الله وسدده المقصود بما كتبته والمقصود طاعة الله عز وجل ورسوله وان نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ولا تكون العبادة إلا بشريعة رسول الله وهو ما أوجبه الله تعالى كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت أو ندب إليه كقيام الليل
____________________
(27/318)
والسفر إلى مسجد رسول الله والمسجد الأقصى للصلاة فيهما والقراءة والذكر والإعتكاف وغير ذلك مع ما فى ذلك من الصلاة والسلام على النبى عند دخول المسجد والخروج منه وفى الصلاة والإقتداء بالنبى فيما كان يفعل فى المساجد وفى زيارة القبور وغير ذلك فإن الدين هو طاعته فيما أمر والإقتداء به فيما سنه لأمته فلا نتجاوز سنته فيما فعله فى عبادته مثل الذهاب إلى مسجد قباء والصلاة فيه وزيارة شهداء أحد وقبور أهل البقيع
فأما مالا يحبه الله ورسوله ولا هو مستحب فهذا ليس من العبادات والطاعات التى يتقرب بها إلى الله عز وجل كعبادات أهل البدع من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم فإن لهم عبادات ما أنزل الله بها كتابا ولا بعث بها رسولا مثل عبادات المخلوقين كعبادات الكواكب أو الملائكة أو الأنبياء أو عبادة التماثيل التى صورت على صورهم كما تفعله النصارى فى كنائسهم يقولون إنهم يستشفعون بهم وفى الصحيح أن النبى كان يقول فى خطبته ( خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة أى ما كان بدعة فى الشرع وقد يكون مشروعا لكنه إذا فعل بعده سمى بدعة كقول عمر رضى
____________________
(27/319)
الله عنه فى قيام رمضان لما جمعهم على قارئ واحد فقال نعمت البدعة هذه والتى ينامون عنها أفضل وقيام رمضان قد سنة رسول الله فقال ( إن الله قد فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه ( وكانوا على عهده صلى الله عليه وسلم يصلون أوزاعا متفرقين يصلى الرجل وحده ويصلى الرجل ومعه جماعة جماعة وقد صلى بهم النبى جماعة مرة بعد مرة وقال ( إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ( لكن لم يداوم على الجماعة كالصلوات الخمس خشية أن يفرض عليهم فلما مات أمنوا زيادة الفرض فجمعهم عمر على أبى بن كعب
والنبى يجب علينا أن نحبه حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلنا واموالنا ونعظمه ونوقره ونطيعه باطنا وظاهرا ونوالى من يواليه ونعادى من يعاديه ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم ولا يكون وليا لله بل ولا مؤمنا ولا سعيدا ناجيا من العذاب إلا من آمن به وإتبعه باطنا وظاهرا ولا وسيلة يتوسل إلى الله عز وجل بها إلا الإيمان به وطاعته وهو أفضل الأولين والآخرين وخاتم النبيين والمخصوص يوم القيامة بالشفاعة العظمى التى ميزه الله بها على سائر النبيين صاحب المقام المحمود واللواء المعقود لواء الحمد آدم فمن
____________________
(27/320)
دونه تحت لوائه وهو أول من يستفتح باب الجنة فيقول الخازن من أنت فيقول أنا محمد فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك وقد فرض على أمته فرائض وسن لهم سننا مستحبة فالحج إلى بيت الله فرض والسفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة فيهما والقراءة والذكر والدعاء والإعتكاف مستحب بإتفاق المسلمين وإذا أتى مسجده فإنه يسلم عليه ويصلى عليه ويسلم عليه فى الصلاة ويصلى عليه فيها فإن الله يقول ( إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ( ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا ومن سلم عليه سلم الله عليه عشرا
وطلب الوسيلة له كما ثبت فى الصحيح أنه قال ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة ( رواه مسلم وروى البخارى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وإبعثه مقاما محمودا الذى وعدته إنك لا تخلف الميعاد حلت له شفاعتى يوم القيامة ( وهذا مأمور به والسلام عليه عند
____________________
(27/321)
قبره المكرم جائز لما فى السنن عن النبى أنه قال ( ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام
وحيث صلى الرجل وسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها فإن الله يوصل صلاته وسلامه إليه لما فى السنن عن أوس بن أوس أن النبى قال ( أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة على قالوا وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أى صرت رميما قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ( ولهذا قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغنى ( رواه أبوداود وغيره فالصلاة تصل إليه من البعيد كما تصل إليه من القريب وفى النسائى عنه أنه قال ( إن لله ملائكة سياحين يبلغونى عن أمتى السلام ( وقد أمرنا الله ان نصلى عليه وشرع ذلك لنا فى كل صلاة أن نثنى على الله بالتحيات ثم نقول ( السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته ( وهذا السلام يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها وكذلك إذا صلينا عليه فقلنا ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ( وكان المسلمون على عهده وعهد أبى بكر وعمر وعثمان وعلى يصلون
____________________
(27/322)
فى مسجده ويسلمون عليه فى الصلاة وكذلك يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا منه ولا يحتاجون أن يذهبوا إلى القبر المكرم ولا أن يتوجهوا نحو القبر ويرفعوا اصواتهم بالسلام كما يفعله بعض الحجاج بل هذا بدعة لم يستحبها أحد من العلماء بل كرهوا رفع الصوت فى مسجده وقد رأى عمر بن الخطاب رضى الله عنه رجلين يرفعان اصواتهما فى مسجده ورآهما غريبين فقال أما علمتما أن الأصوات لا ترفع فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنكما من اهل البلد لأوجعتكما ضربا وعذرهما بالجهل فلم يعاقبهما
وكان النبى لما مات دفن فى حجرة عائشة رضى الله عنها وكانت هي وحجر نسائه فى شرقى المسجد وقبليه لم يكن شيء من ذلك داخلا فى المسجد وإستمر الأمر على ذلك إلى أن إنقرض عصر الصحابة بالمدينة ثم بعد ذلك فى خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وسع المسجد وأدخلت فيه الحجرة للضرورة فإن الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشترى الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبى فإنهن كن قد توفين كلهن رضى الله عنهن فأمره أن يشترى الحجر ويزيدها فى المسجد فهدمها وأدخلها فى المسجد وبقيت حجرة عائشة على حالها وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبى صلى
____________________
(27/323)
الله عليه وسلم لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك إلى حين كانت عائشة فى الحياة وهى توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة فإنها توفيت فى خلافة معاوية ثم ولى إبنه يزيد ثم إبن الزبير فى الفتنة ثم عبد الملك بن مروان ثم إبنه الوليد وكانت ولايته بعد ثمانين من الهجرة وقد مات عامة الصحابة قيل أنه لم يبق بالمدينة إلا جابر بن عبد الله رضى الله عنهما فإنه آخر من مات بها فى سنة ثمان وسبعين قبل إدخال الحجرة بعشر سنين
ففى حياة عائشة رضى الله عنها كان الناس يدخلون عليها لسماع الحديث ولإستفتائها وزيارتها من غير أن يكون إذا دخل أحد يذهب إلى القبر المكرم لا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك بل ربما طلب بعض الناس منها أن تريه القبور فترية إياهن وهى قبور لا لاطئة ولا مشرفة مبطوحة ببطحاء العرصة وقد إختلف هل كانت مسنمة أو مسطحة والذى فى البخارى أنها مسنمة قال سفيان التمار إنه رأى قبر النبى مسنما ولكن كان الداخل يسلم على النبى لقوله ( ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( وهذا السلام مشروع لمن كان يدخل الحجرة وهذا السلام هو القريب الذى يرد النبى على صاحبه وأما السلام المطلق
____________________
(27/324)
الذى يفعل خارج الحجرة وفى كل مكان فهو مثل السلام عليه فى الصلاة وذلك مثل الصلاة عليه والله هو الذى يصلى على من يصلى عليه مرة عشرا ويسلم على من يسلم عليه مرة عشرا فهذا هو الذى أمر به المسلمون خصوصا للنبى بخلاف السلام عليه عند قبره فإن هذا قدر مشترك بينه وبين جميع المؤمنين فإن كل مؤمن يسلم عليه عند قبره كما يسلم عليه فى الحياة عند اللقاء وأما الصلاة والسلام فى كل مكان والصلاة على التعيين فهذا إنما أمر به فى حق النبى صلى الله عليه وسلم فهو الذى أمر الله العباد أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما فحجر نسائه كانت خارجة عن المسجد شرقية وقبليه ولهذا قال ( ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة ( هذا لفظ الصحيحين ولفظ ( قبرى ( ليس فى الصحيح فإنه حينئذ لم يكن قبر
ومسجده إنما فضل به صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذى بناه واسسه على التقوى وقد ثبت فى الصحيحين عنه أنه قال ( صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ( وجمهور العلماء على أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة هكذا روى أحمد والنسائى وغيرهما
____________________
(27/325)
بإسناد جيد والمسجد الحرام هو فضل به وبإبراهيم الخليل فإن إبراهيم الخليل بنى البيت ودعا الناس إلى حجه بأمره تعالى ولم يوجبه على الناس ولهذا لم يكن الحج فرضا فى أول الإسلام وإنما فرض فى آخر الأمر والصحيح أنه إنما فرض سنة نزلت آل عمران لما وفد أهل نجران سنة تسع أو عشر ومن قال فى سنة ست فإنما إستدل بقوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } فإن هذه نزلت عام الحديبية بإتفاق الناس لكن هذه الآية فيها الأمر بإتمامه بعد الشروع فيه ليس فيها إيجاب إبتداء به فالبيت الحرام كان له فضيلة بناء إبراهيم الخليل ودعاء الناس إلى حجه وصارت له فضيلة ثانية فإن محمدا هو الذى أنقذه من أيدى المشركين ومنعه منهم وهو الذى أوجب حجه على كل مستطيع وقد حجه الناس من مشارق الأرض ومغاربها فعبد الله فيه بسبب محمد أضعاف ما كان يعبد الله فيه قبل ذلك وأعظم مما كان يعبد فإن محمدا سيد ولد آدم (
ولما مات دفن فى حجرة عائشة قالت قال رسول الله فى مرض موته ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضى الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره ان يتخذ مسجدا وفى صحيح
____________________
(27/326)
مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وفى صحيح مسلم أيضا أنه قال ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ( فنهى عن إتخاذ القبور مساجد وعن الصلاة إليها ولعن اليهود والنصارى لكونهم إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لأن هذا كان هو أول اسباب الشرك فى قوم نوح قال الله تعالى عنهم { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا } قال إبن عباس وغيره من السلف هؤلاء كانوا قوما صالحين فى قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم فهو لكمال نصحه لأمته حذرهم أن يقعوا فيما وقع فيه المشركون وأهل الكتاب فنهاهم عن إتخاذ القبور مساجد وعن الصلاة إليها لئلا يتشبهوا بالكفار كما نهاهم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يتشبهوا بالكفار
ولهذا لما أدخلت الحجرة فى مسجده المفضل فى خلافة الوليد بن عبد الملك كما تقدم بنوا عليها حائطا وسنموه وحرفوه لئلا يصلى أحد إلى قبره الكريم وفى موطأ مالك عنه أنه قال ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد إشتد غضب الله على قوم
____________________
(27/327)
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( وقد إستجاب الله دعوته فلم يتخذ ولله الحمد وثنا كما إتخذ قبر غيره بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة وقبل ذلك ما كانوا يمكنون احدا من أن يدخل إليه ليدعو عنده ولا يصلي عنده ولا غير ذلك مما يفعل عند قبر غيره لكن من الجهال من يصلى إلى حجرته أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهى عنه وهذا إنما يفعل خارجا عن حجرته لا عند قبره وإلا فهو ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلى عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنا فإنه فى حياة عائشة رضى الله عنها ما كان أحد يدخل إلا لأجلها ولم تكن تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت فى المسجد فسد بابها وبنى عليها حائط آخر كل ذلك صيانه له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون ولا يأتى إلى هناك إلا مسلم وكلهم معظمون للرسول وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد ولا يتخذ بيته عيدا ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم والقبر المكرم فى الحجرة إنما عليه بطحاء وهو الرمل الغليظ ليس عليه حجارة ولا خشب ولا هو مطين كما فعل بقبور غيره
____________________
(27/328)
وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك سدا للذريعة كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يفضى ذلك إلى الشرك ودعا الله عز وجل أن لا يتخذ قبره وثنا يعبد فإستجاب الله دعاءه فلم يكن مثل الذين إتخذت قبورهم مساجد فإن احدا لا يدخل عند قبره ألبته فإن من كان قبله من الأنبياء إذا إبتدع أممهم بدعة بعث الله نبيا ينهى عنها وهو خاتم الأنبياء لا نبى بعده فعصم الله امته أن تجتمع على ضلالة وعصم قبره المكرم أن يتخذ وثنا فإن ذلك والعياذ بالله لو فعل لم يكن بعده نبي ينهى عن ذلك وكان الذين يفعلون ذلك قد غلبوا الأمة وهو قد اخبر انه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة فلم يكن لأهل البدع سبيل أن يفعلوا بقبره المكرم كما فعل بقبور غيره فصل
قد ذكرت فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره كما يذكره أئمة المسلمين فى مناسك الحج عمل صالح
____________________
(27/329)
مستحب وقد ذكرت فى عدة ( مناسك الحج ( السنة فى ذلك وكيف يسلم عليه وهل يستقبل الحجرة أم القبلة على قولين فالأكثرون يقولون يستقبل الحجرة كمالك والشافعى وأحمد وأبو حنيفة يقول يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره فى قول وخلفه فى قول لأن الحجرة المكرمة لما كانت خارجة عن المسجد وكان الصحابة يسلمون عليه لم يكن يمكن أحد أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة كما صار ذلك ممكنا بعد دخولها فى المسجد بل كان إن إستقبل القبلة صارت عن يساره وحينئذ فإن كانوا يستقبلونه ويستدبرون الغرب فقول الأكثرين أرجح وإن كانوا يستقبلون القبلة حينئذ ويجعلون الحجرة عن يسارهم فقول أبى حنيفة أرجح
والصلاة تقصر فى هذا السفر المستحب بإتفاق أئمة المسلمين لم يقل أحد من أئمة المسلمين إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره بل هذا من افضل الأعمال الصالحة ولا فى شيء من كلامى وكلام غيرى نهى عن ذلك ولا نهى عن المشروع فى زيارة قبور الأنبياء والصالحين ولا عن المشروع فى زيارة سائر القبور بل قد ذكرت فى غير موضع إستحباب زيارة القبور كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وشهداء أحد ويعلم أصحابه
____________________
(27/330)
إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم وإغفر لنا ولهم ( وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى لكن رسول الله له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين وهو أنا أمرنا أن نصلى عليه وأن نسلم عليه فى كل صلاة ويتأكد ذلك فى الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية وأن نصلى ونسلم عليه عند دخول المسجد مسجده وغير مسجده وعند الخروج منه فكل من دخل مسجده فلابد أن يصلى فيه ويسلم عليه فى الصلاة والسفر إلى مسجده مشروع لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره حتى كره مالك رحمه الله أن يقال زرت قبر النبى لأن المقصود الشرعى بزيارة القبور السلام عليهم والدعاء لهم وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه فى الصلاة فى مسجده وغير مسجده وعند سماع الأذان وعند كل دعاء فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء فإنه { أولى بالمؤمنين من أنفسهم }
ولهذا يسلم المصلى عليه فى الصلاة قبل أن يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين فيقول ( السلام عليك أيها النبى ورحمة الله
____________________
(27/331)
وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ( ويصلى عليه فيدعو له قبل أن يدعو لنفسه واما غيره فليس عنده مسجد يستحب السفر إليه كما يستحب السفر إلى مسجده وإنما يشرع أن يزار قبره كما شرعت زيارة القبور وأما هو فشرع السفر إلى مسجده ونهى عما يوهم أنه سفر إلى غير المساجد الثلاثة
ويجب الفرق بين الزيارة الشرعية التى سنها رسول الله وبين الزيارة البدعية التى لم يشرعها بل نهى عنها مثل إتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد والصلاة إلى القبر وإتخاذه وثنا وقد ثبت عنه فى الصحيحين أنه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الأقصى ( حتى أن أبا هريرة سافر إلى الطور الذى كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام فقال له بصرة بن أبى بصرة الغفارى لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت سمعت رسول الله يقول ( لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدى هذا ومسجد بيت المقدس ( فهذه المساجد شرع السفر إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والإعتكاف والمسجد الحرام مختص بالطواف لا يطاف بغيره
وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلى فيها من غير سفر
____________________
(27/332)
كان ذلك من أفضل الأعمال كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( من تطهر فى بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة والعبد فى صلاة ما دام ينتظر الصلاة والملائكة تصلى على أحدكم ما دام فى مصلاه الذى صلى فيه اللهم إغفر له اللهم إرحمه مالم يحدث ( ولو سافر من بلد إلى بلد مثل أن سافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها أو بالعكس أو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعا بإتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم ولو نذر ذلك لم يف بنذره بإتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم إلا خلاف شاذ عن الليث بن سعد فى المساجد وقاله بن مسلمة من أصحاب مالك فى مسجد قباء خاصة ولكن إذا أتى المدينة إستحب له أن يأتى مسجد قباء ويصلى فيه لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يأتى مسجد قباء راكبا وماشيا كل سبت ويصلى فيه ركعتين وقال ( من تطهر فى بيته ثم أتى مسجد قباء كان له كعمرة ( رواه الترمذى وإبن أبى شيبة وقال سعد بن أبى وقاص وإبن عمر صلاة فيه كعمرة
ولو نذر المشى إلى مكة للحج والعمرة لزمه باتفاق المسلمين ولو نذر أن يذهب إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان
____________________
(27/333)
( أحدهما ( ليس عليه الوفاء وهو قول أبى حنيفة وأحد قولى الشافعى لأنه ليس من جنسه ما يجب بالشرع ( والثانى ( عليه الوفاء وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل والشافعى فى قوله الآخر لأن هذا طاعة لله وقد ثبت فى صحيح البخارى عن النبى أنه قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه
ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبى أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذره بإتفاقهم فإن هذا السفر لم يأمر به النبى بل قد قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الأقصى ( وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة فى مسجد رسول الله وفى بنذره وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة فى المسجد لم يف بنذره لأن النبى قال ( لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد ( والمسألة ذكرها القاضي إسماعيل بن إسحاق فى ( المبسوط ( ومعناها ( فى المدونة ( و ( الخلاف ( وغيرهما من كتب أصحاب مالك يقول إن من نذر إتيان مسجد النبى لزمه الوفاء بنذره لأن المسجد لا يؤتى إلا
____________________
(27/334)
للصلاة ومن نذر إتيان المدينة النبوية فإن كان قصده الصلاة فى المسجد وفى بنذره وإن قصد شيئا آخر مثل زيارة من بالبقيع أو شهداء أحد لم يف بنذره لأن السفر إنما يشرع إلى المساجد الثلاثة وهذا الذى قاله مالك وغيره ما علمت أحدا من أئمة المسلمين قال بخلافة بل كلامهم يدل على موافقته
وقد ذكر أصحاب الشافعى واحمد فى السفر لزيارة القبور قولين التحريم والإباحة وقدماؤهم وأئمتهم قالوا أنه محرم وكذلك أصحاب مالك وغيرهم وإنما وقع النزاع بين المتأخرين لأن قوله ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ( صيغة خبر ومعناه النهى فيكون حراما وقال بعضهم ليس بنهى وإنما معناه أنه لا يشرع وليس بواجب ولا مستحب بل مباح كالسفر فى التجارة وغيرها
فيقال له تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة بل يقصد بها مصلحة دنيوية مباحة والسفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب فإذا حصل الإتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبد مبتدعا مخالفا للإجماع والتعبد بالبدعة ليس بمباح لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة فإنه قد يعذر فإذا بينت له السنة لم يجز له مخالفة النبى صلى الله
____________________
(27/335)
عليه وسلم ولا التعبد بما نهى عنه كما لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند غروبها وكما لا يجوز صوم يوم العيدين وإن كانت الصلاة والصيام من أفضل العبادات ولو فعل ذلك إنسان قبل العلم بالسنة لم يكن عليه إثم فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحبا وما علمت أحدا من ائمة المسلمين قال إن السفر إليها مستحب وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا وإذا قيل هذا كان قولا ثالثا فى المسألة وحينئذ فيبين لصاحبه ان هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فى خلافة أبى بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى ومن بعدهم إلى إنقراض عصرهم لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبى ولا رجل صالح
و ( قبر الخليل عليه السلام ( بالشام لم يسافر إليه أحد من الصحابة وكانوا يأتون البيت المقدس فيصلون فيه ولا يذهبون إلى قبر الخليل عليه السلام ولم يكن ظاهرا بل كان فى البناء الذى بناه سليمان بن داود عليهما السلام ولا كان ( قبر يوسف الصديق ( يعرف ولكن أظهر ذلك بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من الهجرة ولهذا وقع فيه نزاع فكثير من اهل العلم ينكره ونقل ذلك عن مالك وغيره لأن الصحابة لم يكونوا يزورونه فيعرف ولما إستولى
____________________
(27/336)
النصارى على الشام نقبوا البناء الذى كان على الخليل عليه السلام وإتخذوا المكان كنيسة
ثم لما فتح المسلمون البلد بقى مفتوحا واما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل مثل قبر نبينا ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبى صلى الله عليه وسلم بل كانوا يأتون فيصلون فى مسجده ويسلمون عليه فى الصلاة ويسلم من يسلم عند دخول المسجد والخروج منه وهو مدفون فى حجرة عائشة رضى الله عنها فلا يدخلون الحجرة ولا يقفون خارجا عنها فى المسجد عند السور وكان يقدم فى خلافة أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب أمداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق وهم الذين قال الله فيهم { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ويصلون فى مسجده كما ذكرنا ولم يكن أحد يذهب إلى القبر ولا يدخل الحجرة ولا يقوم خارجها فى المسجد بل السلام عليه من خارج الحجرة وعمدة مالك وغيره فيه على فعل إبن عمر رضى الله عنهما
وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله من الأقوال فى مسائل النزاع فأما أن يجعل هو الدين الحق وتستحل عقوبة من خالفه او يقال بكفره فهذا خلاف إجماع المسلمين وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة فإن كان المخالف للرسول
____________________
(27/337)
فى هذه المسالة يكفر فالذى خالف سنته وإجماع الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر ونحن لا نكفر أحدا من المسلمين بالخطأ لا فى هذه المسائل ولا فى غيرها ولكن إن قدر تكفير المخطئ فمن خالف الكتاب والسنة والإجماع إجماع الصحابة والعلماء أولى بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وائمتها فأئمة المسلمين فرقوا بين ما امر به النبى وبين ما نهى عنه فى هذا وغيره فما امر به هو عبادة وطاعة وقربة وما نهى عنه بخلاف ذلك بل قد يكون شركا كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين ويصلون إليها وينذرون لها ويحجون إليها بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام ويسمون ذلك الحج الأكبر وصنف لهم شيوخهم فى ذلك مصنفات كما صنف المفيد بن النعمان كتابا فى مناسك المشاهد سماه ( مناسك حج المشاهد ( وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق
وأصل دين الإسلام أن نعبد الله وحده ولا نجعل له من خلقه ندا ولا كفوا ولا سميا قال تعالى { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } وقال تعالى { ولم يكن له كفوا أحد } وقال تعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وقال تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون }
____________________
(27/338)
وفى الصحيحين عن بن مسعود قال ( قلت يا رسول الله أى الذنب اعظم قال ان تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أى قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزانى بحليلة جارك ( فأنزل الله تصديق رسوله { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما } الآية وقال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } فمن سوى بين الخالق والمخلوق فى الحب له أو الخوف منه والرجاء له فهو مشرك والنبى نهى أمته عن دقيق الشرك وجليلة حتى قال ( من حلف بغير الله فقد أشرك ( رواه أبو داود وغيره وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال أجعلتنى لله ندا بل ما شاء الله وحده وقال لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد وجاء معاذ بن جبل مرة فسجد له فقال ما هذا يا معاذ فقال يا رسول الله رأيتهم فى الشام يسجدون لأساقفتهم فقال يا معاذ إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كنت آمرا أحدا ان يسجد لأحد لأمرت المرأة ان تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ( فلهذا فرق
____________________
(27/339)
النبى بين زيارة أهل التوحيد وبين زيارة أهل الشرك فزيارة اهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم والدعاء لهم وهى مثل الصلاة على جنائزهم وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبهون المخلوق بالخالق ينذرون له ويسجدون له ويدعونه ويحبونه مثل ما يحبون الخالق فيكونون قد جعلوه لله ندا وسووه برب العالمين
وقد نهى الله ان يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم فقال تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزير ويدعون الملائكة فأخبرهم تعالى ان هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال
ونهى سبحانه أن يضرب له مثل بالمخلوق فلا يشبه بالمخلوق الذى
____________________
(27/340)
يحتاج إلى الأعوان والحجاب ونحو ذلك قال تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له }
ومحمد سيد الشفعاء لديه وشفاعته أعظم الشفاعات وجاهه عند الله أعظم الجاهات ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم ثم من نوح ثم من إبراهيم ثم من موسى ثم من عيسى كل واحد يحيلهم على الآخر فإذا جاؤوا إلى المسيح يقول إذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال ( فإذهب فإذا رأيت ربى خررت له ساجدا وأحمد ربى بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن فيقال أى محمد إرفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه وإشفع تشفع قال فيحد لى حدا فأدخلهم الجنة ( الحديث
فمن أنكر شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فى أهل الكبائر فهو مبتدع ضال كما ينكرها الخوارج والمعتزلة ومن قال إن مخلوقا يشفع عند الله بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن قال تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى }
____________________
(27/341)
وقال تعالى { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى { وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } وقال تعالى { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وقال تعالى { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } ومثل هذا فى القرآن كثير فالدين هو متابعة النبى بأن يؤمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه ويحب ما أحبه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص ويبغض ما أبغضه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص والله سبحانه وتعالى قد بعث رسوله محمدا بالفرقان ففرق بين هذا وهذا فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق الله بينه
فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول فصلى فى مسجده وصلى فى مسجد قباء وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله فهذا هو الذى عمل العمل الصالح ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة فى مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل فى مسجده ولا سلم عليه فى الصلاة بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع
____________________
(27/342)
ضال مخالف لسنة رسول الله ولإجماع اصحابه ولعلماء أمته وهو الذى ذكر فيه القولان أحدهما أنه محرم والثانى أنه لا شيء عليه ولا اجر له والذى يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية يصلون فى مسجده ويسلمون عليه فى الدخول للمسجد وفي الصلاة وهذا مشروع بإتفاق المسلمين
وقد ذكرت هذا فى المناسك وفى الفتيا وذكرت أنه يسلم على النبى وعلى صاحبيه وهذا هو الذى لم أذكر فيه نزاعا فى الفتيا مع أن فيه نزاعا إذ من العلماء من لا يستحب زيارة القبور مطلقا ومنهم من يكرهها مطلقا كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعى والشعبى ومحمد بن سيرين وهؤلاء من اجلة التابعين ونقل ذلك عن مالك وعنه أنها مباحة ليست مستحبة وهو أحد القولين فى مذهب أحمد لكن ظاهر مذهبه ومذهب الجمهور أن الزيارة الشرعية مستحبة وهو أن يزور قبور المؤمنين للدعاء لهم فيسلم عليهم ويدعو لهم وتزار قبور الكفار لأن ذلك يذكر الآخرة
وأما النبى فله خاصة لا يماثله فيها أحد من الخلق وهو أن المقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور فى حق الرسول فى الصلوات الخمس وعند دخول المساجد والخروج منها وعند الأذان وعند كل دعاء وهو قد نهى عن إتخاذ القبور مساجد
____________________
(27/343)
ونهى أن يتخذ قبره عيدا وسأل الله أن لا يجعله وثنا يعبد فمنع أحد أن يدخل إلى قبره فيزوره كما يدخل إلى قبر غيره وكل ما يفعل فى مسجده وغير مسجده من الصلاة والسلام عليه أمر خصه الله وفضله به على غيره وأغناه بذلك عما يفعل عند قبر غيره وإن كان جائزا
وأما ( إتخاذ القبور مساجد ( فهذا ينهى عنه عند كل قبر وإن كان المصلى إنما يصلى لله ولا يدعو إلا الله فكيف إذا كان يدعو المخلوق أو يسجد له وينذر له ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع والضلالة
وأما إذا قدر أن من أتى المسجد فلم يصل فيه ولكن أتى القبر ثم رجع فهذا هو الذى انكره الأئمة كمالك وغيره وليس هذا مستحبا عند أحد من العلماء وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح وما علمنا أحدا من علماء المسلمين إستحب مثل هذا بل أنكروا إذا كان مقصوده بالسفر مجرد القبر من غير ان يقصد الصلاة فى المسجد وجعلوا هذا من السفر المنهى عنه ولا كان أحد من السلف يفعل هذا بل كان الصحابة إذا سافروا إلى مسجده صلوا فيه وإجتمعوا بخلفائه مثل ابى بكر وعمر وعثمان وعلي يسلمون عليه ويصلون عليه فى الصلاة ويفعل ذلك من يفعله منهم عند دخول المسجد والخروج منه ولم
____________________
(27/344)
يكونوا يذهبون إلى القبر وهذا متواتر عنهم لا يقدر أحد ان ينقل عنهم او عن واحد منهم أنه كان إذا صلى خلف الخلفاء الراشدين يذهب فى ذلك الوقت أو غيره يقف عند الحجرة خارجا منها وأما دخول الحجرة فلم يكن يمكنهم
فإذا كانوا بعد السفر إلى مسجده يفعلون ما سنه لهم فى الصلاة والسلام عليه ولا يذهبون إلى قبره فكيف يقصدون أن يسافروا إليه أو يقصدون بالسفر إليه دون الصلاة فى المسجد ومن قال إن هذا مستحب فلينقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين ثم إذا نقله يكون قائله قد خالف أقوال العلماء كما خالف فاعله فعل الأمة وخالف سنة رسول الله وإجماع اصحابه وعلماء أمته قال تعالى { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرىء ما نوى ( وعلماء المسلمين قد ذكروا فى مناسكهم إستحباب السفر إلى مسجده وذكروا زيارة قبره المكرم وما علمت أحدا من المسلمين قال أنه من لم يقصد إلا زيارة القبر يكون سفره مستحبا ولو قالوا ذلك فى قبر غيره لكن هذا لم يقصده بعض الناس ممن لا يكون عارفا بالشريعة وبما أمر به النبى ونهى عنه وغايته أن يعذر بجهله
____________________
(27/345)
ويعفو الله عنه وأما من يعرف ما امر الله به ورسوله وما نهى الله عنه ورسوله فهؤلاء كلهم ليس فيهم من أمر بالسفر لمجرد زيارة قبر لا نبى ولا غير نبى بل صرح أكابرهم بتحريم مثل هذا السفر من اصحاب مالك والشافعى وأحمد بن حنبل وغيرهم وإنما قال إنه مباح غير محرم طائفة من متأخرى أصحاب الشافعى وأحمد
وتنازعوا حينئذ فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين هل يقصر الصلاة على قولين كما ذكر فى جواب الفتيا وبعضهم فرق بين قبور الأنبياء وغيرهم وقال إن السفر لمجرد زيارة القبور محرم كما هو مذهب مالك وأصحابه وقول المتقدمين من اصحاب الشافعى واحمد فهؤلاء عندهم أن العاصى بسفره لا يقصر الصلاة فعلى قولهم لا تقصر الصلاة لكن اللذين يسافرون لا يعلمون أن هذا محرم ومن علم أنه محرم لم يفعله فإنه لا غرض لمسلم أن يتقرب إلى الله بالمحرم وحينئذ فسفرهم الذى لم يعلموا أنه محرم إذا قصروا فيه الصلاة كان ذلك جائزا ولا إعادة عليهم كما لو سافر الرجل لطلب العلم أو سماع الحديث من شخص فوجده كذابا أو جاهلا فإن قصر الصلاة فى مثل هذا السفر جائز
وقد ذكر أصحاب أحمد فى السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين هل تقصر فيها الصلاة أربعة أقوال قيل لا يقصر مطلقا
____________________
(27/346)
وقيل يقصر مطلقا وقيل لا يقصر إلا إلى قبر نبينا وقيل لا يقصر إلا إلى قبره المكرم وقبور الأنبياء دون قبور الصالحين والذين إستثنوا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم لقولهم وجهان
أحدهما وهو الصحيح ان السفر المشروع إليه هو السفر إلى مسجده وهذا السفر تقصر فيه الصلاة بإجماع المسلمين وهؤلاء رأوا مطلق السفر ولم يفصلوا بين قصد وقصد إذ كان عامة المسلمين لابد أن يصلوا فى مسجده فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل وكذلك قال بعض أصحاب الشافعى فمن نذر زيارة قبر النبى أنه يوفى بنذره وإن نذر قبر غيره فوجهان وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده إذ كان كل مسلم لابد إذا أتى الحجرة المكرمة أن يصلى فى مسجده فهما عندهم متلازمان ثم من هؤلاء من يقول المسلم لابد أن يقصد فى إبتداء السفر الصلاة فى مسجده فالسفر المأمور به لازم وهؤلاء لم يسافروا لمجرد القبر ومنهم من قال بل السفر لمجرد قصد القبر جائز وظن هؤلاء ان الإستثناء ليس لخصوصه بل لكونه نبيا فقال تقصر الصلاة فى السفر إلى قبور الأنبياء دون غيرهم
وحقيقة الأمر أن فعل الصلاة فى مسجده من لوازم هذا السفر
____________________
(27/347)
فكل من سافر إلى قبره المكرم لابد أن تحصل له طاعة وقربة يثاب عليها بالصلاة فى مسجده وأما نفس القصد فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضا إذا لم يعلم انه منهى عنه وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر ثم أنه لابد أن يصلى فى مسجده فيثاب على ذلك وما فعله وهو منهى عنه ولم يعلم أنه منهى عنه لا يعاقب عليه فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر بخلاف السفر إلى قبر غيره فإنه ليس عنده شيء يشرع السفر إليه لكن قد يفعل هذا طاعة يثاب عليها ويغفر له ما جهل أنه محرم والصلاة فى المساجد المبنية على القبور منهى عنها مطلقا بخلاف مسجده فإن الصلاة فيه بألف صلاة فإنه أسس على التقوى وكان حرمته فى حياته وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه حين كان النبى يصلى فيه والمهاجرون والأنصار والعبادة فيه إذ ذاك أفضل وأعظم مما بقى بعد إدخال الحجرة فيه فإنها إنما أدخلت بعد إنقراض عصر الصحابة فى إمارة الوليد بن عبد الملك وهو تولى سنة بضع وثمانين من الهجرة النبوية كما تقدم
وظن بعضهم أن الاستثناء كونه نبيا فعدى ذلك فقالوا يسافر
____________________
(27/348)
إلى سائر قبور الأنبياء كذلك
ولهذا تنازع الناس هل يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم مع إتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسى والكعبة والملائكة فذهب جمهور العلماء كمالك والشافعى وأبى حنيفة واحمد فى أحد قوليه إلى أنه لا يحلف بالنبى ولا تنعقد اليمين كما لا يحلف بشيء من المخلوقات ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث فإنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( لا تحلفوا إلا بالله ( وقال ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ( وفى السنن ( من حلف بغير الله فقد أشرك ( وعن احمد بن حنبل رواية أنه يحلف بالنبى خاصة لأنه يجب الإيمان به خصوصا ويجب ذكره فى الشهادتين والأذان فللإيمان به إختصاص لا يشركه فيه غيره وقال إبن عقيل بل هذا لكونه نبيا وطرد ذلك فى سائر الأنبياء مع أن الصواب الذى عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق لا نبى ولا غير نبى ولا ملك من الملائكة ولا ملك من الملوك ولا شيخ من الشيوخ
والنهى عن ذلك نهى تحريم عند اكثرهم كمذهب أبى حنيفة وغيره وهو أحد القولين فى مذهب أحمد كما تقدم حتى إن بن مسعود وإبن عباس وغيرهما يقول أحدهم لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلى من أن
____________________
(27/349)
أحلف بغير الله صادقا وفى لفظ لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلى من أن أضاهى فالحلف بغير الله شرك والشرك أعظم من الكذب وغاية الكذب أن يشبه بالشرك كما فى الحديث الصحيح عن النبى أنه قال ( عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ( قالها مرتين أوثلاثا وقرأ قوله تعالى { واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } وهذا المنهى عنه بل المحرم الذى هو أعظم من اليمين الفاجرة عند الصحابة رضوان الله عليهم قد ظن طائفة من أهل العلم أنه مشروع غير منهى عنه ولهذا نظائر كثيرة لكن قال الله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وما أمر الله ورسوله به فهو الحق
وهو نهى عن الحلف بغير الله وعن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها وعن إتخاذ القبور مساجد وإتخاذ قبره عيدا ونهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة وأمثال ذلك لتحقيق إخلاص الدين لله وعبادة الله وحده لا شريك له فهذا كله محافظة
____________________
(27/350)
على توحيد الله عز وجل وأن يكون الدين كله لله فلا يعبد غيره ولا يتوكل إلا عليه ولا يدعى إلا هو ولا يتقى إلا هو ولا يصلى ولا يصام إلا له ولا ينذر إلا له ولا يحلف إلا به ولا يحج إلا إلى بيته فالحج الواجب ليس إلا إلى أفضل بيوته وأقدمها وهو المسجد الحرام والسفر المستحب ليس إلا إلى مسجدين لكونهما بناهما نبيان فالمسجد النبوى مسجد المدينة أسسه على التقوى خاتم المرسلين ومسجد إيليا قد كان مسجدا قبل سليمان ففى الصحيحين عن أبى ذر رضى الله عنه ( قلت يا رسول الله أى مسجد وضع أولا قال المسجد الحرام قال قلت ثم أى قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون سنة ثم حيث ما أدركتك الصلاة فصل فإنه لك مسجد ( وفى لفظ البخارى ( فإن فيه الفضل ( وهذه سنة رسول الله كان يصلى حيث أدركته الصلاة فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام لكن سليمان عليه السلام بناه بناء عظيما فكل من المساجد الثلاثة بناه نبى كريم ليصلى فيه هو والناس
فلما كانت الأنبياء عليهم السلام تقصد الصلاة فى هذين المسجدين شرع السفر إليهما للصلاة فيهما والعبادة إقتداء بالأنبياء عليهم السلام وتأسيا بهم كما أن إبراهيم الخليل عليه السلام
____________________
(27/351)
لما بنى البيت وأمره الله تعالى أن يؤذن فى الناس بحجه فكانوا يسافرون إليه من زمن إبراهيم عليه السلام ولم يكن ذلك فرضا على الناس فى اصح القولين كما لم يكن ذلك مفروضا فى أول الإسلام وإنما فرضه الله على محمد فى آخر الأمر لما نزلت ( سورة آل عمران ( وفى البقرة أمر بإتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما ولهذا كان التطوع بهما يوجب إتمامهما عند عامة العلماء وقيل إن الأمر بالإتمام إيجاب لهما إبتداء والأول هو الصحيح فكذلك المسجد الأقصى ومسجد النبى بنى كلا منهما رسول كريم ودعا الناس إلى السفر إليهما للعبادة فيهما ولم يبن أحد من الأنبياء عليهم السلام مسجدا ودعا الناس إلى السفر للعبادة فيه إلا هذه المساجد الثلاثة ولكن كان لهم مساجد يصلون فيها ولم يدعوا الناس إلى السفر إليها كما كان إبراهيم عليه السلام يصلى فى موضعه وإنما دعا الناس إلى حج البيت ولا دعا نبى من الأنبياء إلى السفر إلى قبره ولا بيته ولا مقامه ولا غير ذلك من آثاره بل هم دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له قال تعالى لما ذكرهم { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }
____________________
(27/352)
ولهذا لا يجوز تغيير واحد من هذه المساجد الثلاثة عن موضعه وأما سائر المساجد ففضيلتها من أنها مسجد لله وبيت يصلى فيه وهذا قدر مشترك بين المساجد وإن كان بعضها تكثر العبادة فيه أو لكونه أعتق من غيره ونحو ذلك فهذه المزية موجودة فى عامة المساجد بعضها أكثر عبادة من بعض وبعضها أعتق من بعض فلو شرع السفر لذلك لسوفر إلى عامة المساجد
والسفر إلى البقاع المعظمة هو من جنس الحج ولكل أمة حج فالمشركون من العرب كانوا يحجون إلى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وغير ذلك من الأوثان ولهذا لما قال الحبر الذى بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم لأمية بن أبى الصلت إنه قد أظل زمان نبى يبعث وهو من بيت يحجه العرب فقال أمية نحن معشر ثقيف فينا بيت يحجه العرب فقال الحبر إنه ليس منكم إنه من إخوانكم من قريش فأخبر أمية أن العرب كانت تحج إلى اللات وقد ذكر طائفة من السلف أن هذا كان رجلا يلت السويق للحاج ويطعمهم إياه فلما مات عكفوا على قبره وصار وثنا يحج إليه ويصلى له ويدعى من دون الله وقرأ جماعة من السلف ( أفرأيتم اللات ( بتشديد التاء وكانت اللات لأهل الطائف والعزى لأهل مكة ومناة لأهل المدينة ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد لما جعل يرتجز فقال أعل هبل
____________________
(27/353)
فقال النبى ( ألا تجيبوه ( قالوا وما نقول قال ( قولوا الله أعلى وأجل ( فقال أبوسفيان إن لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبى ( ألا تجيبوه ( قالوا وما نقول قال قولوا ( الله مولانا ولا مولى لكم (
فالسفر إلى البقاع المعظمة من جنس الحج والمشركون من أجناس الأمم يحجون إلى آلهتهم كما كانت العرب تحج إلى اللات والعزى ومناة الثالثة الآخرى وهم مع ذلك يحجون إلى البيت ويطوفون به ويقفون بعرفات ولهذا كانوا تارة يعبدون الله وتارة يعبدون غيره وكانوا يقولون فى تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ولهذا قال تعالى { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } يقول تعالى إذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكا له مثل نفسه فكيف تجعلون مملوكى شريكا لى وكل ما سوى الله من الملائكة والنبيين والصالحين وسائر المخلوقات هو مملوك له وهو سبحانه لا إله إلا هو له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولهذا جعل الشرك بالملائكة والأنبياء كفرا فقال تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وذم النصارى على شركهم فقال تعالى
____________________
(27/354)
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }
والمشركون فى هذه الأزمان من الهند وغيرهم يحجون إلى آلهتهم كما يحجون إلى سمناة وغيره من آلهتهم وكذلك النصارى يحجون إلى قمامة وبيت لحم ويحجون إلى القونة التى بصيدنايا والقونة الصورة وغير ذلك من كنائسهم التى بها الصور التى يعظمونها ويدعونها ويستشفعون بها وقد ذكر العلماء من أهل التفسير والسير وغيرهم أن أبرهة ملك الحبشة الذى ساق الفيل إلى مكة ليهدمها حين إستولت الحبشة على اليمن وقهروا العرب ثم بعد هذا وفد سيف بن ذى يزن فإستنجد كسرى ملك الفرس فأنجده بجيش حتى أخرج الحبشة عنها وهو ممن بشر بالنبي وكانت آية الفيل التى أظهر الله تعالى بها حرمة الكعبة لما أرسل عليهم الطير الأبابيل ترميهم بحجارة من سجيل أى جماعات متفرقة والحجارة من سجيل طين قد إستحجر وكان عام مولد النبى وهو من دلائل نبوته وأعلام رسالته ودلائل شريعته والبيت الذى لا يحج ولا يصلى إليه إلا هو وأمته
قالوا كان أبرهة قد بنى كنيسة بأرض اليمن وأراد أن يصرف حج العرب إليها فدخل رجل من العرب فأحدث فى الكنيسة فغضب
____________________
(27/355)
لذلك أبرهة وسافر إلى الكعبة ليهدمها حتى جرى ما جرى قال تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول } وهذا معروف عند عامة العلماء من أهل التفسير والسير وغيرهم أنه بني كنيسة أراد أن يصرف حج العرب إليها ومعلوم أنه إنما أراد أن يفعل فيها ما يفعله فى كنائس النصارى فدل على أن السفر إلى الكنائس عندهم هو من جنس الحج عند المسلمين وأنه يسمى حجا ويضاهى به البيت الحرام وأن من قصد أن يجعل بقعة للعبادة فيها كما يسافر إلى المسجد الحرام فإنه قصد ما هو عبادة من جنس الحج والنبى نهى أن يحج أحد أو يسافر إلى غير المساجد الثلاثة والحج الواجب الذى يسمى عند الإطلاق حجا إنما هو إلى المسجد الحرام خاصة والسفر إلى بقعة للعبادة فيها هو إلى المسجدين وما سوى ذلك من الأسفار إلى مكان معظم هو من جنس الحج إليه وذلك منهى عنه
وكذلك فى حديث أبى سفيان لما إجتمع بأمية بن أبى الصلت الثقفى وذكر عن عالم من علماء النصارى أنه أخبره بقرب نبى يبعث من العرب قال أمية قلت نحن من العرب قال إنه من أهل بيت يحجه العرب قال فقلت نحن معشر ثقيف فينا بيت يحجه العرب
____________________
(27/356)
قال إنه ليس منكم أنه من إخوانكم قريش كما تقدم وثقيف كان فيهم اللات المذكورة فى القرآن في قوله تعالى { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى } وقد ذكروا أنها مكان رجل كان يلت السويق ويسقيه للحجاج فلما مات عكفوا على قبره وصار ذلك وثنا عظيما يعبد والسفر إليه كانوا يسمونه حجا كما تقدم فدل ذلك على أن السفر إلى المشاهد حج إليها كما يقول من يقول من العامة وحق النبى الذى تحج المطايا إليه
قال عبد بن حميد فى تفسيره حدثنا قبيصة عن سفيان عن منصور عن مجاهد ( أفرأيتم اللات والعزى ( قال كان رجل يلت السويق فمات فإتخذ قبره مصلى وقال حدثنا سليمان بن داود عن أبى الأشهب عن أبى الجوزاء عن بن عباس قال ( اللات ( رجل يلت السويق للحجاج وكذلك رواه بن أبى حاتم عن أبى الجوزاء عن بن عباس قال كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه وروى عن الأعمش قال كان مجاهد يقرأ ( اللات ( مثقلة ويقول كان رجل يلت السويق على صخرة فى طريق الطائف ويطعمه الناس فمات فقبر فعكفوا على قبره وقال سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن مالك عن أبى الجوزاء قال ( اللات ( حجر كان يلت السويق عليه فسمى ( اللات ( وقال
____________________
(27/357)
حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدى عن أبى صالح قال ( اللات ( الذى كان يقوم على آلهتهم وكان يلت لهم السويق ( والعزى ( نخلة كانوا يعلقون عليها الستور والعهن ( ومناة ( حجر بقديد وقد قرأ طائفة من السلف اللات بتشديد التاء وقيل أنها إسم معدول عن اسم الله قال الخطابى المشركون يتعاطون الله إسما لبعض أصنامهم فصرفه الله إلى اللات صيانة لهذا الأسم وذبا عنه
قلت ولا منافاة بين القولين والقراءتين فإنه كان رجل يلت السويق على حجر وعكفوا على قبره وسموه بهذا الأسم وخففوه وقصدوا أن يقولوا هو إلا له كما كانوا يسمون الأصنام آلهة فاجتمع فى الأسم هذا وهذا وكانت ( اللات ( لأهل الطائف وكانوا يسمونها ( الربة ( والعزى ( لأهل مكة ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد ( إن لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبى ألا تجيبوه فقالوا ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ( الحديث وقد تقدم وكانت مناة لأهل المدينة فكل مدينة من مدائن أهل الحجاز كان لها طاغوت تحج إليه وتتخذه شفيعا وتعبده
وما ذكره بعض المفسرين من أن ( العزى ( كانت لغطفان فذلك لأن غطفان كانت تعبدها وهى فى جهتها وأهل مكة يحجون إليها
____________________
(27/358)
فإن العزى كانت ببطن نخلة من ناحية عرفات ومعلوم بالنقول الصحيحة أن أهل مكة كانوا يعبدون العزى كما علم بالتواتر أن أهل الطائف كان لهم اللات ومناة كانت حذو قديد وكان أهل المدينة يهلون لها كما ثبت ذلك فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها
وأما ما ذكره معمر بن المثنى من أن هذه الثلاثة كانت أصناما فى جوف الكعبة من حجارة فهو باطل بإتفاق أهل العلم بهذا الشأن وإنما كان فى الكعبة ( هبل ( الذى إرتجز له أبو سفيان يوم أحد وقال أعل هبل أعل هبل فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( ألا تجيبوه قالوا وما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل ( كما تقدم ذكره هذا وكان إساف ونائلة على الصفا والمروة وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما وهذه الأسماء الثلاثة مؤنثة اللات والعزى ومناة
وبكل حال فقد قال أمية بن أبى الصلت فينا بيت يحجه العرب وأبو سفيان يوافقه على ذلك فدل ذلك على أن البقاع التى يسافر إليها فالسفر إليها حج والحج نسك وهو حج إلى غير بيت الله ونسك لغير الله كما أن الدعاء لها صلاة لغير الله وقد قال تعالى { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } فالله تعالى أمر نبيه صلى
____________________
(27/359)
الله عليه وسلم أن تكون صلاته ونسكه لله فمن سافر إلى بقعة غير بيوت الله التى يشرع السفر إليها ودعا غير الله فقد جعل نسكه وصلاته لغير الله عز وجل والنبى نهى عن السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة وإن كان بيتا من بيوت الله إذ لم تكن له خاصية تستحق السفر إليه ولا شرع هو ومن قبله من الأنبياء السفر إليه بخلاف الثلاثة فإن كل مسجد منها بناه نبى من الأنبياء ودعا الناس إلى السفر إليه فلها خصائص ليست لغيرها
فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع بإتفاق الأئمة الأربعة بل قد نهى عنه الرسول فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد وأوثانا وأعيادا ويشرك بها وتدعى من دون الله حتى أن كثيرا من معظميها يفضل الحج إليها على الحج إلى بيت الله فيجعل الشرك وعبادة الأوثان أفضل من التوحيد وعبادة الرحمن كما يفعل ذلك من يفعله من المشركين وقال تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله } وكانت لها شياطين تكلمهم وتتراءى لهم قال بن عباس فى كل
____________________
(27/360)
صنم شيطان يتراءى للسدنة ويكلمهم وقال أبى بن كعب مع كل صنم جنية
وقد قيل الاناث هي الموات وعن الحسن كل شيء لا روح فيه كالخشب والحجر فهو اناث قال الزجاج والموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث فتقول فى ذلك الأحجار تعجبنى والدراهم تنفعك وليس ذلك مختصا بالموات بل كل ما سوى الله تعالى يجمع بلفظ التأنيث فيقال الملائكة ويقال لما يعبد من دون الله آلهة قال تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } وقال تعالى { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين } هي أوثان وهى مؤنثة قال تعالى { أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } فالآلهة المعبودة من دون الله كلها بهذه المثابة وهى
____________________
(27/361)
الأوثان التى تتخذ من دون الله قال تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقال يوسف الصديق { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } وكل من عبد شيئا من دون الله فإنما يعبد أسماء ما أنزل الله بها من سلطان
وأيضا فالذين يعبدون الملائكة أوالأنبياء لا يرونهم وإنما يعبدون تماثيل صوروها على مثال صورهم وهى من تراب وحجر وخشب فهم يعبدون الموات وفى الصحيح صحيح مسلم عن أبى الهياج الأسدى قال ( قال لى على بن أبى طالب رضى الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله بعثنى أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته وقال تعالى { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } وجميع الأموات لا يشعرون أيان يبعثون فلا يعلم بقيام الساعة إلا الله عز وجل وفى الصحيح ( أنه لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس أبو بكر
____________________
(27/362)
الصديق ( فقال ( من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ( وقرأ قوله تعالى { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } وكأن الناس ما سمعوها حتى تلاها أبو بكر فلا يوجد أحد من الناس إلا وهو يتلوها والناس تغيب عنهم معانى القرآن عند الحوادث فإذا ذكروا بها عرفوها وقال تعالى { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون }
وأما قوله تعالى { ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى } أى قسمة جائرة عوجاء إذ تجعلون لكم ما تحبون وهم الذكور وتجعلون لى الإناث وهذا من قولهم الملائكة بنات الله حيث جعلوا له أولادا إناثا وهم يكرهون أن يكون ولد أحدهم أنثى كالنصارى الذين يجعلون لله ولدا ويجلون الراهب الكبير أن يكون له ولد
وأما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فلما قال تعالى { ألكم الذكر وله الأنثى } فسرها طائفة منهم الكلبى بأنهم كانوا يقولون هذه الأصنام بنات الله وهذا هو الذى ذكره طائفة من المتأخرين
____________________
(27/363)
وليس كذلك فإنهم لم يكونوا يقولون عن هذه الأصنام أنها بنات الله وإنما قالوا ذلك عن الملائكة كما ذكر الله عنهم فى قوله تعالى بعد هذا { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } وقال { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم } وقال تعالى { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم } فإن الولد يماثل أباه وكذلك الشريك يماثل شريكه فهم ضربوا الإناث مثلا وهم جعلوا هذه شركاء لله سبحانه فكانوا يجعلونها أندادا لله والشريك كالأخ فجعلوا له أولادا إناثا وشركاء إناثا فجعلوا له بنات وأخوات وهم لا يحبون أن تكون لأحدهم أنثى لا بنت ولا أخت بل إذا كان الأب يكره أن تكون له بنت فالأخت أشد كراهة له منها ولم يكونوا يورثون البنات والأخوات فتبين فرط جهلهم وظلمهم إذ جعلوا لله مالا يرضونه لأنفسهم فكانت أنفسهم عندهم أعظم من الله سبحانه
وهذا كما ضرب لهم مثلا فقال تعالى { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } إلى قوله { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } وقال تعالى { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون }
____________________
(27/364)
فهم لا يرضون أن يكون مملوك احدهم شريكه وقد جعلوا مملوكى الرب شركاء له فجعلوا لله مالا يرضونه لأنفسهم من الشركاء ومن الأولاد لا يرضون مملوكيهم أن يكونوا شركاء وقد جعلوهم لله شركاء ولايرضون من الأولاد بالإناث فلا يرضونها ولدا ولا نظيرا وهم جعلوا الإناث لله أولادا ونظراء
والنكتة أن الله أجل وأعظم وأعلى وأكبر من كل شيء وهم قد جعلوا لله مالا يرضونه لأنفسهم
وهذا يتناول كل من وصف الله بصفة ينزه عنها المخلوق كالذين قالوا أنه فقير وأنه بخيل والذين قالوا إنه لا يوصف إلا بالسلوب أولا يوصف لا بسلب ولا إثبات والذين جعلوا بعض المخلوقات مماثلة له فى شيء من ألاشياء فى عبادة له أو دعاء له أو توكل عليه أو حبها مثل حبه والذين قالوا يفعل لا لحكمة بل عبثا والذين قالوا إنه يجوز أن يضع الأشياء فى غير مواضعها فيعاقب خيار الناس ويكرم شرارهم والذين قالوا لا يقدر أن يتكلم بمشيئته والذين قالوا أنه لا يسمع ولا يبصر والذين قالوا إنه يجوز أن يحب غيره كما يحب هو ويدعى ويسأل فجعلوا مملوكه ندا له ونظائر ذلك كثيرة
____________________
(27/365)
والقرآن ملآن من توحيد الله تعالى وأنه ليس كمثله شيء فلا يمثل به شيء من المخلوقات فى شيء من ألاشياء إذ ليس كمثله شيء لافى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله ولا فيما يستحقه من العبادة والمحبة والتوكل والطاعة والدعاء وسائر حقوقه قال تعالى { رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } فلا أحد يساميه ولا يستحق أن يسمى بما يختص به من الأسماء ولا يساويه فى معنى شيء من الأسماء لا فى معنى الحى ولا العليم ولا القدير ولا غير ذلك من الأسماء ولا فى معنى الذات والموجود ونحو ذلك من الأسماء العامة ولا يكون إلها ولا ربا ولا خالقا فقال تعالى { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } فلم يكن أحد يكافيه فى شيء من الأشياء فلا يساويه شيء ولا يماثله شيء ولا يعادله شيء قال تعالى { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } وقال تعالى { فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين } وقال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون }
____________________
(27/366)
وهذا الذى ذكرنا من أن السفر إلى الأماكن المعظمة القبور وغيرها عند اصحابه كالحج عند المسلمين هو أمر معروف عند المتقدمين والمتأخرين لفظا ومعنى فإنهم يقصدون من دعاء المخلوق والخضوع له والتضرع إليه نظير ما يقصده المسلمون من دعاء الله تعالى والخضوع له والتضرع إليه لكن كما قال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وهم يسمون ذلك حجا إليها وهذا معروف عند متقدميهم ومتأخريهم وكذلك أهل البدع والضلال من المسلمين كالرافضة وغيرهم يحجون إلى المشاهد وقبور شيوخهم وأئمتهم ويسمون ذلك حجا ويقول داعيتهم السفر إلى الحج الأكبر ويظهرون علما للحج إليه ومعه مناد ينادى إليه كما يرفع المسلمون علما للحج لكن داعى أهل البدع ينادى السفر إلى الحج الأكبر علانية فى مثل بغداد يعنى السفر إلى مشهد من المشاهد فيجعلون السفر إلى قبر بعض المخلوقين هو الحج الأكبر والحج إلى بيت الله عندهم الأصغر وقد ذكر ذلك ائمتهم فى مصنفاتهم ومن جهال الناس من يقول وحق النبى الذى تحج المطايا إليه
فلما كان المشركون يصلون ويدعون المخلوق ويحجون إلى قبره قال تعالى { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }
____________________
(27/367)
وقال تعالى { ولا تدع مع الله إلها آخر } وقوله تعالى ( ونسكى ( قد ذكروا فى تفسيره الذبح لله والحج إلى بيت الله وذكروا أن لفظ النسك يتناول العبادة مطلقا والله سبحانه قد بين فى القرآن أن الذبح والحج كلاهما منسك قال تعالى { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وقال النبى ( من ذبح بعد الصلاة فقد اصاب النسك ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو شاة لحم عجلها لأهله ليس من النسك في شيء ( وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم } فأرى الله إبراهيم وابنه إسماعيل المواضع التى تقصد فى الحج والأفعال التى تفعل هناك كالطواف والسعى والوقوف والرمى كما ذكر ذلك غير واحد من السلف
والصلاة تتناول الدعاء الذى هو بمعنى العبادة والذى هو بمعنى السؤال فالصلاة تجمع هذا وهذا قال تعالى { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } فقد فسر دعاءه بسؤاله فالنبى أمره الله أن يقول { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين }
____________________
(27/368)
فأمره تعالى أن يكون الدعاء لله والصلاة لله ولا تبنى المساجد إلا لله لا تبنى على قبر مخلوق ولا من أجله ولا يسافر إلى بيوت المخلوقين وقد نهى أن يحج ويسافر إلى بيوت الله التى ليست لها تلك الخصائص
وهذا ونحوه يعرف من كلام النبى وسنته وسنة خلفائه الراشدين وما كان عليه الصحابة من بعده والتابعون لهم بإحسان وما ذكره أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم ولهذا لا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه يستحب السفر إلى زيارة قبر نبى أو رجل صالح ومن نقل ذلك فليخرج نقله
وإذا كان ألامر كذلك وليس فى الفتيا إلا ما ذكره أئمة المسلمين وعلماؤهم فالمخالف لذلك مخالف لدين المسلمين وشرعهم ولسنة نبيهم وسنة خلفائه الراشدين ولما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه من توحيده وعبادته وحده لا شريك له وانه إنما يعبد بما شرعه من واجب ومستحب لا يعبد بما نهى عنه ولم يشرعه والله سبحانه بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا فبعثه بدين الإسلام الذى بعث به جميع الأنبياء فإن الدين عند الله الإسلام { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } لا من الأولين ولا من الآخرين
____________________
(27/369)
وجميع الأنبياء كانوا على دين الإسلام كما فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد الأنبياء إخوة لعلات ( وقد أخبر تعالى فى القرآن عن نوح وإبراهيم وإسرائيل وأتباع موسى والمسيح وغيرهم أنهم كانوا مسلمين متفقين على عبادة الله وحده لا شريك له وأن يعبد بما أمر هو سبحانه وتعالى فلا يعبد غيره ولا يعبد هو بدين لم يشرعه فلما امر أن يصلى فى أول الإسلام إلى بيت المقدس كان ذلك من دين الإسلام ثم لما نسخ ذلك وامر بإستقبال البيت الحرام كان هذا من دين الإسلام وذلك المنسوخ ليس من دين الإسلام وقد قال تعالى { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } فللتوراة شرعة وللإنجيل شرعة وللقرآن شرعة فمن كان متبعا لشرع التوراة او الإنجيل الذى لم يبدل ولم ينسخ فهو على دين الإسلام كالذين كانوا على شريعة التوراة بلا تبديل قبل مبعث المسيح عليه السلام والذين كانوا على شريعة الإنجيل بلا تبديل قبل مبعث محمد
وأما من إتبع دينا مبدلا ما شرعه الله أو دينا منسوخا فهذا قد خرج عن دين الإسلام كاليهود الذين بدلوا التوراة وكذبوا المسيح عليه السلام ثم كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم والنصارى الذين بدلوا الإنجيل وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم فهؤلاء ليسوا على
____________________
(27/370)
دين الإسلام الذى كان عليه الأنبياء بل هم مخالفون لهم فيما كذبوا به من الحق وإبتدعوه من الباطل وكذلك كل مبتدع خالف سنة رسول الله وكذب ببعض ما جاء به من الحق وإبتدع من الباطل ما لم تشرعه الرسل فالرسول بريء مما إبتدعه وخالفه فيه قال تعالى { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } وقال تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله وقد ذم الله المشركين على انهم حللوا وحرموا وشرعوا دينا لم يأذن به الله ( فقال تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } والسور المكية أنزلها الله تبارك وتعالى فى الدين العام الذى بعث به جميع الرسل كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
ومحمد خاتم المرسلين لا نبى بعده وأمته خير أمة أخرجت للناس وقد بعثه الله بأفضل الكتب وأفضل الشرائع وأكمل له ولأمته الدين وأتم عليه النعمة ورضى لهم الإسلام دينا وهو قد دعا إلى الصراط المستقيم كما قال تعالى { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } وقد أمرنا الله أن نتبع
____________________
(27/371)
هذا الصراط المستقيم ولا نعدل عنه إلى السبل المبتدعة فقال تعالى { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } وقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه خط لنا رسول الله خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ ( وأن هذا صراطى مستقيما فإتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ( ولهذا أمرنا الله ان نقول فى صلاتنا { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وقال النبى ( اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون (
وهو لم يمت حتى بين الدين وأوضح السبيل وقال ( تركتكم على البيضاء النقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك ( وقال ( ما تركت من شيء يقربكم من الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به ( وقال ( أنه من يعش منكم بعدى فسيرى إختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ( قال الترمذى حديث صحيح
____________________
(27/372)
ولهذا كان أئمة المسلمين لا يتكلمون فى الدين بأن هذا واجب او مستحب او حرام أو مباح إلا بدليل شرعى من الكتاب أو السنة وما دلا عليه (
وما إتفق عليه المسلمون فهو حق جاء به الرسول فإن أمته ولله الحمد لا تجتمع على ضلالة كما اخبر هو فقال ( إن الله أجاركم على لسان نبيكم أن تجتمعوا على ضلالة ( وما تنازعوا فيه ردوه إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } كما كان السلف يفعلون فقد يكون عند هذا حديث سمعه أو معنى فهمه خفى على الآخر والآخر مأجور على إجتهاده أيضا ولا إثم عليه فيما خفى عليه بعد إجتهاده كما فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( إذا إجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا إجتهد فأخطأ فله أجر ( ولو صلى أربعة أنفس إلى أربع جهات إذا أغيمت السماء كل بإجتهاده فكلهم مطيع لله عز وجل وتبرأ ذمته لكن الذى أصاب جهة الكعبة واحد وله أجران وقد قال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فأثنى تعالى على
____________________
(27/373)
النبيين جميعا مع أنه خص أحدهما بفهم تلك الحكومة
والدين كله مأخوذ عن الرسول ليس لأحد بعده أن يغير من دينه شيئا هذا دين المسلمين بخلاف النصارى فإنهم يجوزون لعلمائهم وعبادهم أن يشرعوا شرعا يخالف شرع الله قال تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } قال النبى ( إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم ( ولهذا كان أئمة المسلمين لا يتكلمون فى شيء أنه عبادة وطاعة وقربة إلا بدليل شرعى وإتباع لمن قبلهم لا يتكلمون فى الدين بلا علم فإن الله حرم ذلك بقوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }
وقد اتفق أئمة الدين على أنه يشرع السفر إلى المساجد الثلاثة المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى بخلاف غير هذه الثلاثة لأن فى الصحيحين عنه أنه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الأقصى (
____________________
(27/374)
وتنازع المسلمون فى زيارة القبور فقال طائفة من السلف أن ذلك كله منهى عنه لم ينسخ فإن أحاديث النسخ لم يروها البخارى ولم تشتهر ولما ذكر البخارى زيارة القبور إحتج بحديث المرأة التى بكت عند القبر ونقل بن بطال عن الشعبى أنه قال لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنى وقال النخعى كانوا يكرهون زيارة القبور وعن بن سيرين مثله قال بن بطال وقد سئل مالك عن زيارة القبور فقال قد كان نهى عنها عليه السلام ثم أذن فيها فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيرا لم أر بذلك بأسا وليس من عمل الناس وروى عنه أنه كان يضعف زيارتها
وكان النبى قد نهى أولا عن زيارة القبور بإتفاق العلماء فقيل لأن ذلك يفضى إلى الشرك وقيل لأجل النياحة عندها وقيل لأنهم كانوا يتفاخرون بها وقد ذكر طائفة من العلماء فى قوله تعالى { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } أنهم كانوا يتكاثرون بقبور الموتى وممن ذكره إبن عطية فى تفسيره قال وهذا تأنيب على الإكثار من زيارة القبور أى حتى جعلتم اشغالكم القاطعة لكم عن العبادة والعلم زيارة القبور تكثرا بمن سلف وإشادة بذكره ثم قال النبى ( كنت نهيتكم عن زيارة
____________________
(27/375)
القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا ( فكان نهيه فى معنى الآية ثم أباح الزيارة بعد لمعنى الإتعاظ لا لمعنى المباهاة والتفاخر وتسنيمها بالحجارة الرخام وتلوينها سرفا وبنيان النواويس عليها هذا لفظ بن عطية
والمقصود ان العلماء متفقون على أنه كان نهى عن زيارة القبور ونهى عن الإنتباذ فى الدباء والحنتم والمزفت والمقير
واختلفوا هل نسخ ذلك فقالت طائفة لم ينسخ ذلك لأن أحاديث النسخ ليست مشهورة ولهذا لم يخرج أبو عبد الله البخارى ما فيه نسخ عام وقال الاخرون بل نسخ ذلك ثم قالت طائفة منهم إنما نسخ إلى الإباحة فزيارة القبور مباحة لا مستحبة وهذا قول فى مذهب مالك وأحمد قالوا لأن صيغة إفعل بعد الحظر إنما تفيد الإباحة كما قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وكنت نهيتكم عن الإنتباذ فى الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا ( وروى ( فزوروها ولا تقولوا هجرا ( وهذا يدل على أن النهى كان لما كان يقال عندها من الأقوال المنكرة سدا للذريعة كالنهى عن الإنتباذ فى الأوعية أولا لأن الشدة المطربة تدب فيها ولا يدرى بذلك فيشرب الشارب الخمر وهو لا يدرى
____________________
(27/376)
وقال الأكثرون زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى السلام عليهم كما كان النبى يخرج إلى البقيع فيدعو لهم وكما ثبت عنه فى الصحيحين أنه خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم صلاته على الموتى كالمودع للأحياء والأموات وثبت عنه فى الصحيح انه كان يعلم اصحابه إذا زاروا القبور ان يقولوا ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسال الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم وإغفر لنا ولهم ) وهذا فى زيارة قبور المؤمنين
واما زيارة قبر الكافر فرخص فيها لأجل تذكار الآخرة ولا يجوز الإستغفار لهم وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه ( زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال إستاذنت ربى فى أن أزور قبرها فأذن لى وإستاذنته فى ان استغفر لها فلم يأذن لى فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (
والعلماء المتنازعون كل منهم يحتج بدليل شرعى ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر فإن العلماء ورثة الأنبياء وقال تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما }
____________________
(27/377)
والأقوال الثلاثة صحيحة بإعتبار فإن الزيارة إذا تضمنت أمرا محرما من شرك أو كذب أو ندب أو نياحة وقول هجر فهي محرمة بالإجماع كزيارة المشركين بالله والساخطين لحكم الله فإن هؤلاء زيارتهم محرمة فإنه لا يقبل دين إلا دين الإسلام وهو الإستسلام لخلقه وأمره فيسلم لما قدره وقضاه ويسلم لما يأمر به ويحبه وهذا نفعله وندعو إليه وذاك نسلمه ونتوكل فيه عليه فنرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ونقول فى صلاتنا { إياك نعبد وإياك نستعين } مثل قوله تعالى { فاعبده وتوكل عليه } وقوله تعالى { استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } وقوله تعالى { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }
والنوع الثانى زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت لقرابته أو صداقته فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة كما زار النبى قبر أمه فبكى وابكى من حوله وقال ( زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ( فهذه الزيارة كان نهى عنها لما كانوا يفعلون من المنكر فلما عرفوا الإسلام اذن فيها لأن فيها مصلحة وهو تذكر الموت فكثير من الناس إذا راى قريبه وهو
____________________
(27/378)
مقبور ذكر الموت وإستعذ للآخرة وقد يحصل منه جزع فيتعارض الأمران ونفس الحزن مباح إن قصد به طاعة كان طاعة وإن عمل معصية كان معصية
وأما النوع الثالث فهو زيارتها للدعاء لها كالصلاة على الجنازة فهذا هو المستحب الذى دلت السنة على استحبابه لأن النبى فعله وكان يعلم اصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور
وأما زيارة قباء فيستحب لمن أتى المدينة أن يأتى قباء فيصلى فى مسجدها وكذلك يستحب له عند الجمهور أن يأتى البقيع وشهداء أحد كما كان النبى يفعل فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم لا يقصد فيها ان يدعو مخلوقا من دون الله ولايجوز ان تتخذ مساجد ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء فى المساجد والبيوت والصلاة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتى عند قبورهم وهذا مشروع بل فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به كان هذا شركا محرما بإجماع المسلمين ولو ندبه وناح لكان أيضا محرما وهو دون الأول
فمن إحتج بزيارة النبى صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع ولأهل
____________________
(27/379)
أحد على الزيارة التى يفعلها أهل الشرك وأهل النياحة فهو أعظم ضلالا ممن يحتج بصلاته على الجنازة على أنه يجوز ان يشرك بالميت ويدعى من دون الله ويندب ويناح عليه كما يفعل ذلك بعض الناس يستدل بهذا الذى فعله الرسول وهو عبادة لله وطاعة له يثاب عليه الفاعل وينتفع به المدعو له ويرضى به الرب عز وجل على أنه يجوز أن يفعل ما هو شرك بالله وإيذاء للميت وظلم من العبد لنفسه كزيارة المشركين وأهل الجزع الذين لا يخلصون لله الدين ولا يسلمون لما حكم به سبحانه وتعالى فكل زيارة تتضمن فعل ما نهى عنه وترك ما امر به كالتى تتضمن الجزع وقول الهجر وترك الصبر أو تتضمن الشرك ودعاء غير الله وترك إخلاص الدين لله فهي منهى عنها وهذه الثانية أعظم إثما من الأولى ولا يجوز أن يصلى إليها بل ولا عندها بل ذلك مما نهى عنه النبى فقال ( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ( رواه مسلم فى صحيحه
فزيارة القبور على وجهين وجه نهى عنه رسول الله وإتفق العلماء على أنه غير مشروع وهو أن نتخذها مساجد ونتخذها وثنا ونتخذها عيدا فلا يجوز أن تقصد للصلاة الشرعية ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان ولا أن تتخذ عيدا يجتمع إليها فى وقت
____________________
(27/380)
معين كما يجتمع المسلمون فى عرفة ومنى وأما ( الزيارة الشرعية ( فهي مستحبة عند الأكثرين وقيل مباحة وقيل كلها منهى عنها كما تقدم والذى تدل عليه الأدلة الشرعية أن نحمل المطلق من كلام العلماء على المقيد ونفصل الزيارة إلى ثلاثة أنواع منهى عنه ومباح ومستحب وهو الصواب قال مالك وغيره لا نأتى إلا هذه الآثار مسجد النبى ومسجد قباء وأهل البقيع واحد فإن النبى لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتين المقبرتين كان يصلى يوم الجمعة فى مسجده ويوم السبت يذهب إلى قباء كما فى الصحيحين عن بن عمر رضى الله عنهما أن النبى كان يأتى قباء كل سبت راكبا وماشيا فيصلى فيه ركعتين
وأما أحاديث النهى فكثيرة مشهورة فى الصحيحين وغيرهما كقوله صلى الله عليه وسلم ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور انبيائهم مساجد ) قالت عائشة رضى الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشى أن يتخذ مسجدا رواه البخارى ومسلم وفى صحيح مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وفى الصحيحين عن عائشة وبن عباس
____________________
(27/381)
رضى الله عنهم قالوا لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا إغتم كشفها فقال وهو كذلك ( لعنة الله على اليهود والنصارى إتخذوا قبور انبيائهم مساجد ( يحذر ما صنعوا وفى الصحيحين عن ابى هريرة رضى الله عنه عن النبى أنه قال ( قاتل الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( وفى لفظ ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور انبيائهم مساجد ) وفى الصحيحين عن عائشة أن ام حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير فقال رسول الله ( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ( وعائشة رضى الله عنها أم المؤمنين صاحبة الحجرة النبوية قد روت أحاديث هذا الباب مع مشاركة غيرها من الصحابة كابن عباس وأبى هريرة وجندب وإبن مسعود وغيرهم وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه بن مسعود ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم احياء والذين يتخذون القبور مساجد ( رواه أبو حاتم فى صحيحه والإمام أحمد فى مسنده وفى سنن أبى داود عنه أنه قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغنى ( وفى موطأ مالك عن النبى أنه قال ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد إشتد
____________________
(27/382)
غضب الله على قوم إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( وفى سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبى طالب أحد الأشراف الحسنيين بل أجلهم قدرا فى عصر تابعى التابعين فى خلافة المنصور وغيره راى رجلا يكثر الإختلاف إلى قبر النبى فقال يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغنى ) فما انت ورجل بالأندلس إلا سواء
فلما اراد الأئمة اتباع سنته فى زيارة قبره المكرم والسلام عليه طلبوا ما يعتمدون عليه من سنته فاعتمد الإمام أحمد على الحديث الذى فى السنن عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال ( ما من احد يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( وعن احمد اخذ ذلك أبو داود فلم يذكر فى زيارة قبره المكرم غير هذا الحديث وترجم عليه ( باب زيارة القبر ( مع ان دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل فإنه لا يدل على كل ما تسميه الناس ( زيارة ( بإتفاق المسلمين
ويبقى الكلام المذكور فيه هل هو السلام عند القبر كما كان من دخل على عائشة رضى الله عنها يسلم عليه او يتناول هذا والسلام عليه من خارج الحجرة فالذين إستدلوا به جعلوه متناولا لهذا وهذا
____________________
(27/383)
وهو غاية ما كان عندهم فى هذا الباب عنه وهو صلى الله عليه وسلم يسمع السلام من القريب وتبلغه الملائكة الصلاة والسلام عليه من البعيد كما فى النسائى عنه أنه قال ( إن لله ملائكة سياحين يبلغونى عن أمتى السلام ( وفى السنن عن اوس بن أوس رضى الله عنه أن النبى قال ( أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة على قالوا وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما وذكر مالك فى موطئة أن عبد الله بن عمر كان يأتى فيقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف وفى رواية كان إذا قدم من سفر رواه معمر عن نافع عنه وعلى هذا إعتمد مالك رحمه الله فيما يفعل عند الحجرة إذا لم يكن عنده إلا أثر بن عمر رضى الله عنهما
وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبى مع كثرة الصلاة والسلام عليه فقد كرهه مالك وقال هو بدعة لم يفعلها السلف ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما اصلح اولها
واما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجودا فى الإسلام فى زمن مالك وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة قرن
____________________
(27/384)
الصحابة والتابعين وتابعيهم فأما هذه القرون التى أثنى عليها رسول الله فلم يكن هذا ظاهرا فيها ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك ولهذا لما سأل سائل لمالك عن رجل نذر أن يأتى قبر النبى فقال إن كان أراد المسجد فليأته وليصل فيه وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذى جاء ( لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد ( وكذلك من يزور قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم أو يطلب منهم الدعاء أو يقصد الدعاء عندهم لكونه أقرب إجابة فى ظنه فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك لا عند قبر النبى ولا غيره
وإذا كان مالك رحمه الله يكره أن يطيل الرجل الوقوف عنده للدعاء فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ولا الدعاء له وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه ويرفع صوته عنده فيؤذى الرسول ويشرك بالله ويظلم نفسه ولم يعتمد الأئمة لا الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التى يرويها بعض الناس فى ذلك مثل ما يروون أنه قال ( من زارنى فى مماتى فكأنما زارنى فى حياتى ( ومن قوله ( من زارنى وزار أبى فى عام واحد ضمنت له على الله الجنة ( ونحو ذلك فإن هذا لم يروه أحد من ائمة المسلمين ولم يعتمد
____________________
(27/385)
عليها ولم يروها لأنها أهل الصحاح ولا أهل السنن التى يعتمد عليها كأبى داود والنسائى لانها ضعيفة بل موضوعة كما قد بين العلماء الكلام عليها ومن زاره فى حياته صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين إليه والواحد بعدهم لو انفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وهو إذا اتى بالفرائض لا يكون مثل الصحابة فكيف يكون مثلهم بالنوافل أو بما ليس بقربة أو بما هو منهى عنه
وكره مالك رضى الله عنه أن يقول القائل زرت قبر النبى صلى الله عليه وسلم كره هذا اللفظ لأن السنة لم تأت به فى قبره وقد ذكروا فى تعليل ذلك وجوها ورخص غيره فى هذا اللفظ للأحاديث العامة فى زيارة القبور ومالك يستحب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة فى مسجده وكذلك السلام عليه وعلى صاحبيه عند قبورهم إتباعا لابن عمر ومالك من أعلم الناس بهذا لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة ولهذا كان يستحب إتباع السلف فى ذلك ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة فكره ان يطيل الرجل القيام والدعاء عند قيد النبى لأن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يفعلون ذلك وكره ومالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتى قبر النبى لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك قال مالك رحمه الله عليه ولن
____________________
(27/386)
يصلح آخر هذه الأمة إلا ما اصلح أولها بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون فيه خلف أبى بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم أجمعين فإن هؤلاء الأربعة صلوا أئمة فى مسجده والمسلمون يصلون خلفهم كما كانوا يصلون خلفه وهم يقولون فى الصلاة السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته كما كانوا يقولون ذلك فى حياته ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم بأن الصلاة والسلام عليه فى الصلاة أكمل وأفضل وهى المشروعة
وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك او الصلاة والدعاء فإنه لم يشرعه لهم بل نهاهم وقال ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغنى ( فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد وكذلك السلام ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن سلم عليه مرة سلم الله عليه عشرا كما قد جاء فى بعض الأحاديث وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيدا وهو قد نهاهم عن ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدا ولعن من فعل ذلك ليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة
وكان اصحابه خير القرون وهم أعلم ألامة بسنته وأطوع الأمة لأمره وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحد منهم إلى قبره
____________________
(27/387)
لا من داخل الحجرة ولا من خارجها وكانت الحجرة فى زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة رضى الله عنها فيها وبعد ذلك إلى أن بنى الحائط الآخر وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه لا لسلام ولا لصلاة عليه ولا لدعاء لأنفسهم ولا لسؤال عن حديث أو علم ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان فى غيرهم فاضلهم عند قبره وقبر غيره حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم ويأمرهم وينهاهم فى الظاهر وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت من القبر تكلمهم وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبى ليلة المعراج يقظة لا مناما
فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التى هي خير أمة اخرجت للناس وهم تلقوا الدين عن النبى بلا واسطة ففهموا من مقاصده وعاينوا من أفعاله وسمعوا منه شفاها مالم يحصل لمن بعدهم وكذلك كان يستفيد بعضهم من بعض ما لم يحصل لمن بعدهم وهم قد فارقوا جميع أهل ألارض وعادوهم وهجروا جميع الطوائف وأديانهم وجاهدوهم بأنفسهم
____________________
(27/388)
وأموالهم قال فى الحديث الصحيح ( لا تسبوا أصحابى فوالذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل احد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ( وهذا قاله لخالد بن الوليد لما تشاجر هو وعبد الرحمن بن عوف لأن عبد الرحمن بن عوف كان من السابقين الأولين وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وهو فتح الحديبية وخالد وهو عمرو بن العاص وعثمان بن طلحة أسلموا فى مدة الهدنة بعد الحديبية وقبل فتح مكة فكانوا من المهاجرين التابعين لا من المهاجرين الأولين وأما الذين أسلموا عام فتح مكة فليسوا بمهاجرين فإنه لا هجرة بعد الفتح بل كان الذين أسلموا من اهل مكة يقال لهم الطلقاء لأن النبى أطلقهم بعد الإستيلاء عليهم عنوة كما يطلق الأسير والذين بايعوه تحت الشجرة هم ومن كان من مهاجرة الحبشة هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وفى الصحيح عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال ( قال لنا رسول الله يوم الحديبية ( أنتم خير أهل الأرض ( وكنا ألفا وأربعمائة
ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما ناله ممن بعدهم فلم يكن فيهم من يتعمد الكذب على النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان له أعمال غير ذلك قد تنكر عليه ولم يكن فيهم أحد من
____________________
(27/389)
أهل البدع المشهورة كالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم ولم يكن فيهم من طمع الشيطان أن يتراءى له فى صورة بشر ويقول أنا الخضر أو أنا إبراهيم أو موسى او عيسى أو المسيح أو أن يكلمه عند قبر حتى يظن أن صاحب القبر كلمه بل هذا إنما ناله فيمن بعدهم وناله أيضا من النصارى حيث أتاهم بعد الصلب وقال أنا هو المسيح وهذه مواضع المسامير ولا يقول انا شيطان فإن الشيطان لا يكون جسدا او كما قال وهذا هو الذى إعتمد عليه النصارى فى انه صلب لا فى مشاهدته فإن أحدا منهم لم يشاهد الصلب وإنما حضره بعض اليهود وعلقوا المصلوب وهم يعتقدون أنه المسيح ولهذا جعله الله من ذنوبهم وإن لم يكونوا صلبوه لكنهم قصدوا هذا الفعل وفرحوا به قال تعالى { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه } وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما اضل غيرهم من اهل البدع الذين تأولوا القرآن على غير تأويله أو جهلوا السنة أو رأوا وسمعوا أمورا من الخوارق فظنوها من جنس آيات
____________________
(27/390)
الأنبياء والصالحين وكانت من افعال الشياطين كما أضل النصارى وأهل البدع بمثل ذلك فهم يتبعون المتشابه ويدعون المحكم وكذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية فيسمع ويرى امورا فيظن أنه رحمانى وإنما هو شيطانى ويدعون البين الحق الذى لا اجمال فيه وكذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل فى صورته ويغيث من إستغاث به أو أن يحمل اليهم صوتا يشبه صوته لأن الذين رأوه علموا ان هذا شرك لايحل ولهذا أيضا لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم لأصحابه إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبرى وإستغيثوا بى لافى محياه ولا فى مماته كما جرى مثل هذا لكثير من المتأخرين ولا طمع الشيطان أن يأتى أحدهم ويقول أنا من رجال الغيب أو من ألاوتاد الأربعة أو السبعة أو الأربعين أو يقول له أنت منهم إذ كان هذا عندهم من الباطل الذى لا حقيقة له ولا طمع الشيطان أن يأتى أحدهم فيقول أنا رسول الله أو يخاطبه عند القبر كما وقع لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره وعند غير القبور كما يقع كثير من ذلك للمشركين واهل الكتاب يرون بعد الموت من يعظمونه من شيوخهم
فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه إما النبى
____________________
(27/391)
وإما غيره من الأنبياء يقظة ويخاطبهم ويخاطبونه وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم ومنهم من يخيل إليه أن الحجرة قد إنشقت وخرج منها النبى وعانقه هو وصاحباه ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام وإلى مكان بعيد وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا واشباهه عددا كثيرا وقد حدثنى بما وقع له فى ذلك وبما اخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم وهذا موجود عند خلق كثير كما هو موجود عند النصارى والمشركين لكن كثير من الناس يكذب بهذا وكثير منهم إذا صدق به يظن أنه من الآيات الإلهية وإن الذى رآى ذلك رآه لصلاحه ودينه ولم يعلم أنه من الشيطان وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان ومن كان أقل علما قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافا ظاهرا ومن عنده علم منها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيدا فائدة فى دينه بل يضله عن بعض ما كان يعرفه فإن هذا فعل الشياطين وهو وإن ظن أنه قد إستفاد شيئا فالذى خسره من دينه أكثر
ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة إن الخضر أتاه ولا موسى ولا عيسى ولا انه سمع رد النبى عليه وإبن عمر كان يسلم إذا قدم من سفر ولم يقل قط إنه يسمع الرد وكذلك التابعون وتابعوهم وإنما حدث هذا من بعض المتأخرين
____________________
(27/392)
وكذلك لم يكن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه واشكل عليهم من العلم لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم مع أنهم أخص الناس به صلى الله عليه وسلم حتى ابنته فاطمة رضى الله عنها لم يطمع الشيطان أن يقول لها إذهبى إلى قبره فسليه هل يورث أم لا يورث كما أنهم أيضا لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم إطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا ولا قال أطلبوا منه أن يستنصر لكم ولا ان يستغفر كما كانوا فى حياته يطلبون منه أن يستسقى لهم وإن يستنصر لهم فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته أن يطلبوا منه ذلك ولا طمع بذلك فى القرون الثلاثة وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة فأضله الشيطان كما أضل النصارى فى أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم فى الهواء ولا أن يقطع به الأرض البعيده فى مدة قريبة كما يقع مثل هذا لكثير من المتأخرين لأن الأسفار التى كانوا يسافرونها كانت طاعات كسفر الحج والعمرة والجهاد وهذه يثابون على كل خطوة يخطونها فيه وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم كالذى يخرج من بيته إلى المسجد فخطواته إحداها
____________________
(27/393)
ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة فلم يمكن الشيطان أن يفوتهم ذلك الأجر بأن يحملهم فى الهواء أو يؤزهم فى الأرض أزا حتى يقطعوا المسافة البعيدة بسرعة وقد علموا ان النبى إنما أسرى به الله عز وجل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته الكبرى وكان هذا من خصائصه فليس لمن بعده مثل هذا المعراج ولكن الشيطان يخيل إليه معاريج شيطانية كما خيلها لجماعة من المتأخرين
وأما قطع النهر الكبير بالسير على الماء فهذا قد يحتاج إليه المؤمنون أحيانا مثل أن لا يمكنهم العبور إلى العدو وتكميل الجهاد إلا بذلك فلهذا كان الله يكرم من إحتاج إلى ذلك من الصحابة والتابعين بمثل ذلك كما أكرم به العلاء بن الحضرمى وأصحابه وأبا مسلم الخولانى وأصحابه وبسط هذا له موضع آخر غير هذا الكتاب
لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء فما ظهر فيمن بعدهم مما يظن أنها فضيلة للمتأخرين ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان وهى نقيصة لا فضيلة سواء كانت من جنس العلوم أو من جنس العبادات أو من جنس الخوارق والآيات أو من جنس السياسة والملك بل خير الناس بعدهم أتبعهم لهم قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه من كان منكم مستنا
____________________
(27/394)
فليستن بمن قد مات فإن الحى لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم إختارهم الله لصحبة نبية وإقامة دينه فإعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا ان الصحابة رضوان الله عليهم تركوا البدع المتعلقة بالقبور كقبره المكرم وقبر غيره لنهيه لهم عن ذلك ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين إتخذوا قبور الأنبياء أوثانا وإن كان بعضهم يأتى من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر كما كان بن عمر يفعل بل كانوا فى حياته يسلمون عليه ثم يخرجون من المسجد لا يأتون إليه عند كل صلاة وإذا جاء أحدهم يسلم عليه رد عليه النبى السلام وكذلك من يسلم عليه عند قبره رد عليه السلام وكانوا يدخلون على عائشة فكانوا يسلمون عليه كما كانوا يسلمون عليه فى حياته ويقول أحدهم السلام على النبى ورحمة الله وبركاته وقد جاء هذا عاما فى جميع قبور المؤمنين فما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله روحه عليه حتى يرد عليه السلام فإذا كان رد السلام موجودا فى عموم المؤمنين فما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله روحه عليه حتى يرد عليه السلام فإذا كان رد السلام موجودا فى عموم المؤمنين فهو فى أفضل الخلق أولى وإذا سلم المسلم عليه فى صلاته فإنه وإن لم يرد عليه لكن الله يسلم عليه عشرا كما جاء فى الحديث ( من سلم على مرة سلم الله عليه
____________________
(27/395)
عشرا ( فالله يجزيه على هذا السلام أفضل مما يحصل بالرد كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا وكان إبن عمر يسلم عليه ثم ينصرف لا يقف لا لدعاء له ولا لنفسه ولهذا كره مالك ما زاد على فعل بن عمر من وقوف له أو لنفسه لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة قال مالك لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها مع أن فعل بن عمر إذا لم يفعل مثله سائر الصحابة إنما يصلح للتسويغ كأمثال ذلك فيما فعله بعض الصحابة رضوان الله عليهم
وأما القول بأن هذا الفعل مستحب أو منهى عنه أو مباح فلا يثبت إلا بدليل شرعى فالوجوب والندب والإباحة والإستحباب والكراهة والتحريم لا يثبت شيء منها إلا بالأدلة الشرعية والأدلة الشرعية مرجعها كلها إليه صلوات الله وسلامه عليه فالقرآن هو الذى بلغه والسنة هو الذى علمها والإجماع بقوله عرف أنه معصوم والقياس إنما يكون حجة إذا علمنا أن الفرع مثل الأصل وإن علة الأصل فى الفرع وقد علمنا أنه لا يتناقص فلا يحكم فى المتماثلين بحكمين متناقضين ولا يحكم بالحكم لعلة تارة ويمنعه أخرى مع وجود العلة إلا لإختصاص إحدى الصورتين بما يوجب التخصيص فشرعه هو ما شرعه هو وسنته ما سنها هو لا يضاف إليه قول غيره
____________________
(27/396)
وفعله وإن كان من أفضل الناس إذا وردت سنته بل ولا يضاف إليه إلا بدليل على الإضافة ولهذا كان الصحابة كأبى بكر وعمر وإبن مسعود يقولون بإجتهادهم ويكونون مصيبين موافقين لسنته لكن يقول أحدهم أقول فى هذا برأيى فإن يكن صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه فإن كل ما خالف سنته فهو شرع منسوخ أو مبدل لكن المجتهدون وإن قالوا بآرائهم وأخطأوا فلهم أجر وخطؤهم مغفور لهم
وكان الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعو لنفسه إستقبل القبلة ودعا فى مسجده كما كانوا يفعلون فى حياته لا يقصدون الدعاء عند الحجرة ولا يدخل أحدهم إلى القبر والسلام عليه قد شرع للمسلمين فى كل صلاة وشرع للمسلمين إذا دخل أحدهم المسجد أى مسجد كان فالنوع الأول كل صلاة يقول المصلى السلام عليك ايها النبى ورحمة الله وبركاته ثم يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قال النبى صلى الله عليه وسلم ( فإذا قلتم ذلك أصابت كل عبد صالح لله فى السماء والأرض ( وقد شرع للمسلمين فى كل صلاة أن يسلموا على النبى صلى الله عليه وسلم خصوصا وعلى عباد الله الصالحين من الملائكة والأنس والجن عموما وفى الصحيحين عن إبن مسعود أنه قال كنا نقول خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الصلاة السلام على فلان وفلان فقال النبى صلى الله عليه وسلم إن الله هو السلام فإذا
____________________
(27/397)
قعد أحدكم فى الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ( وقد روى عنه التشهد بألفاظ أخر كما رواه مسلم من حديث بن عباس وكما كان بن عمر يعلم الناس التشهد ورواه مسلم من حديث أبى موسى لكن هو تشهد إبن مسعود ولكن لم يخرج البخارى إلا تشهد بن مسعود وكل ذلك جائز فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف فالتشهد أولى
والمقصود أنه ذكر أن المصلى إذا قال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصابت كل عبد صالح لله فى السماء والأرض وهذا يتناول الملائكة وصالحى الإنس والجن كما قال تعالى عنهم { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا }
( والنوع الثانى ( السلام عليه عند دخول المسجد كما فى المسند والسنن عن فاطمة بنت رسول الله ورضى الله عنها أن النبى قال ك ( إذا دخل أحدكم المسجد فليقل بسم الله والسلام على رسول الله اللهم إغفر لى ذنوبى وافتح لى أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والسلام على رسول الله
____________________
(27/398)
اللهم إغفر لى ذنوبى وإفتح لى أبواب فضلك ( وقد روى مسلم فى صحيحه الدعاء عند دخول المسجد بأن يفتح له أبواب رحمته وعند خروجه يسأل الله من فضله وهذا الدعاء مؤكد فى دخول مسجد النبى صلى الله عليه وسلم ولهذا ذكره العلماء فيما صنفوه من المناسك لمن أتى إلى مسجده أن يقول ذلك فكان السلام عليه مشروعا عند دخول المسجد والخروج منه وفى نفس كل صلاة وهذا أفضل وأنفع من السلام عليه عند قبره وأدوم وهذا مصلحة محضة لا مفسدة فيها تخشى فبها يرضى الله ويوصل نفع ذلك إلى رسوله وإلى المؤمنين وهذا مشروع فى كل صلاة وعند دخول المسجد والخروج منه بخلاف السلام عند القبر
مع أن قبره من حين دفن لم يمكن احد من الدخول إليه لا لزيارة ولا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك ولكن كانت عائشة فيه لأنه بيتها وكانت ناحية عن القبور لأن القبور فى مقدم الحجرة وكانت هي فى مؤخر الحجرة ولم يكن الصحابة يدخلون إلى هناك وكانت الحجرة على عهد الصحابة خارجة عن المسجد متصلة به وإنما أدخلت فيه فى خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد موت العبادلة بن عمر وبن عباس وبن الزبير وبن عمرو بل بعد موت جميع الصحابة الذين كانوا بالمدينة فإن آخر من مات بها جابر بن عبد الله فى بضع
____________________
(27/399)
وسبعين سنة ووسع المسجد فى بضع وثمانين سنة ولم يكن الصحابة يدخلون إلى عند القبر ولا يقفون عنده خارجا مع أنهم يدخلون إلى مسجده ليلا ونهارا وقد قال صلى الله عليه وسلم ( صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ( وقال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الأقصى ( وكانوا يقدمون من ألاسفار للإجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك فيصلون فى مسجده ويسلمون عليه فى الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه ولا يأتون القبر إذ كان هذا عندهم مما لم يأمرهم به ولم يسنه لهم وإنما امرهم وسن لهم الصلاة والسلام عليه فى الصلاة وعند دخولهم المساجد وغير ذلك
ولكن بن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر وقد يكون فعله غير بن عمر أيضا فلهذا رأى من رأى من العلماء هذا جائزا إقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم وبن عمر كان يسلم ثم ينصرف ولا يقف يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل بن عمر بل كان الخلفاء وغيرهم يسافرون للحج وغيره ويرجعون ولا يفعلون ذلك إذ لم يكن هذا
____________________
(27/400)
عندهم سنة سنها لهم وكذلك ازواجه كن على عهد الخلفاء وبعدهم يسافرون إلى الحج ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك وكانت أمداد اليمن الذين قال الله تعالى فيهم { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } على عهد أبى بكر وعمر يأتون أفواجا من اليمن للجهاد فى سبيل الله ويصلون خلف أبى بكر وعمر فى مسجده ولا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة ولا يقف فى المسجد خارجا لا لدعاء ولا لصلاة ولا سلام ولا غير ذلك وكانوا عالمين بسنته كما علمتهم الصحابة والتابعون وإن حقوقه لازمة لحقوق الله عز وجل وأن جميع ما امر الله به وأحبه من حقوقه وحقوق رسوله فإن صاحبها يؤمر بها فى جميع المواضع والبقاع فليست الصلاة والسلام عند قبره المكرم بأوكد من ذلك فى غير ذلك المكان بل صاحبها مأمور بها حيث كان إما مطلقا وإما عند الأسباب المؤكدة لها كالصلاة والدعاء والأذان ولم يكن شيء من حقوقه ولا شيء من العبادات هو عند قبره افضل منه فى غير تلك البقعة بل نفس مسجده له فضيلة لكونه مسجده
ومن اعتقد أنه قبل القبر لم تكن له فضيلة إذ كان النبى يصلى فيه والمهاجرون والأنصار وإنما حدثت له الفضيلة فى خلافة الوليد بن عبد الملك لما أدخل الحجرة فى مسجده فهذا لا يقوله
____________________
(27/401)
إلا جاهل مفرط فى الجهل أو كافر فهو مكذب لما جاء به مستحق للقتل وكان الصحابة يدعون فى مسجده كما كانوا يدعون فى حياته لم تحدث لهم شريعة غير الشريعة التى علمهم إياها فى حياته وهو لم يأمرهم إذا كان لأحدهم حاجة أن يذهب إلى قبر نبى أو صالح فيصلى عنده ويدعوه أو يدعو بلا صلاة أو يسأل حوائجه أو يسأله أن يسأل ربه فقد علم الصحابة رضوان الله عليهم أن رسول الله لم يكن يأمرهم بشيء من ذلك ولا امرهم أن يخصوا قبره أو حجرته لا بصلاة ولا دعاء لا له ولا لأنفسهم بل قد نهاهم أن يتخذوا بيته عيدا فلم يقل لهم كما يقول بعض الشيوخ الجهال لأصحابه إذا كان لكم حاجة فتعالوا إلى قبرى بل نهاهم عما هو أبلغ من ذلك أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدا يصلون فيه لله عز وجل ليسد ذريعة الشرك فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما وجزاه أفضل ما جزى نبينا عن أمته قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد فى الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه وكان إنعام الله به أفضل نعمة أنعم بها على العباد
وقد دلهم على افضل العبادات وافضل البقاع كما فى الصحيحين عن إبن مسعود رضى الله عنه أنه قال ( قلت
____________________
(27/402)
يا رسول الله أى العمل افضل قال الصلاة على مواقيتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد فى سبيل الله قال سألته عنهن ولو إستزدته لزادنى ( وفى المسند وسنن بن ماجه عن ثوبان عن النبى أنه قال ( إستقيموا ولن تحصوا وإعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ( والصلاة قد شرع للأمة أن تتخذ لها مساجد وهى أحب البقاع إلى الله كما ثبت عنه فى صحيح مسلم وغيره أنه قال ( أحب البقاع إلى الله المساجد وأبغض البقاع إلى الله الأسواق ومع هذا فقد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وهو فى مرض موته نصيحة للأمة وحرصا منه على هداها كما نعته الله بقوله { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } ففى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت قال رسول الله فى مرضه الذى لم يقم منه ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفي رواية ولكن خشى أن يتخذ مسجدا وفى رواية للبخارى ( غير أنى أخشى أن يتخذ مسجدا ( وعن عائشة وإبن عباس قالا لما نزل برسول الله صلى
____________________
(27/403)
الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا إغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك ( لعنة الله على اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( يحذر ما صنعوا ومن حكمة الله أن عائشة أم المؤمنين صاحبة الحجرة التى دفن فيها تروى هذه الأحاديث وقد سمعتها منه وإن كان غيرها من الصحابة أيضا يرويها كابن عباس وأبى هريرة وجندب بن عبد الله وبن مسعود رضى الله تعالى عنهم
وفى الصحيحين عن ابى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( وفى الصحيحين عن عائشة ان أم حبيبة وأم سلمة ذكرنا كنيسة راينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله ( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور اولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ( وفى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول ( إنى ابرأ إلى الله أن يكون لى منكم خليل فإن الله قد إتخذنى خليلا كما إتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتى خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا الا وإن من
____________________
(27/404)
كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وفى صحيح مسلم عن أبى مرثد الغنوى ان النبى صلى الله عليه وسلم قال ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ( وفى المسند وصحيح ابى حاتم أنه قال ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور المساجد ( وقد تقدم نهيه أن يتخذوا قبره عيدا
فلما علم الصحابة أنه قد نهاهم عن أن يتخذوه مصلى للفرائض التى يتقرب بها إلى الله عز وجل لئلا يتشبهوا بالمشركين الذين يدعونها ويصلون لها وينذرون لها كان نهيهم عن دعائها أعظم وأعظم كما أنه لما نهاهم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لئلا يتشبهوا بمن يسجد للشمس كان نهيهم عن السجود للشمس اولى وأحرى فكان الصحابة رضوان الله عليهم يقصدون الصلاة والدعاء والذكر فى المساجد التى بنيت لله دون قبور الأنبياء والصالحين التى نهوا أن يتخذوها مساجد وإنما هي بيوت المخلوقين وكانوا يفعلون بعد موته ما كانوا يفعلون فى حياته صلى الله عليه وسلم تسليما
ومما يدل على ما ذكره مالك وغيره من علماء المسلمين من الكراهة لأهل المدينة قصدهم القبر إذا دخلوا أو خرجوا منه ونحو ذلك
____________________
(27/405)
وإن كان قصدهم مجرد السلام عليه والصلاة أن النبى كان ياتى قباء راكبا وماشيا كل سبت كما ثبت فى الصحيحين من حديث بن عمر قال ( كان رسول الله يأتى قباء كل سبت راكبا وماشيا ( وكان بن عمر يفعله زاد نافع عن بن عمر عن النبى ( فيصلى فيه ركعتين ( وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه كان يصلى فى مسجده يوم الجمعة ويذهب إلى مسجد قباء فيصلى فيه يوم السبت وكلاهما أسس على التقوى وقد قال تعالى { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } وقد روى عن النبى من غير وجه انه سأل أهل قباء عن هذا الطهور الذى اثنى الله عليهم فذكروا أنهم يستنجون بالماء وفى سنن أبى داود وغيره قال ( نزلت هذه الآية فى مسجد أهل قباء { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية ( وقد ثبت فى الصحيح عن سعد أنه سأل النبى عن المسجد الذى أسس على التقوى وهو فى بيت بعض نسائه فأخذ كفا من حصى فضرب به الأرض ثم قال ( هو مسجدكم هذا ( لمسجد المدينة فتبين أن كلا المسجدين أسس على التقوى لكن مسجد المدينة أكمل فى هذا النعت فهو أحق بهذا الأسم ومسجد قباء كان سبب نزول الآية لأنه
____________________
(27/406)
مجاور لمسجد الضرار الذى نهى عن القيام فيه
والمقصود أن إتيان قباء كل أسبوع للصلاة فيه كان إبن عمر يفعله اتباعا للنبى ولم يكن بن عمر ولا غيره إذا كانوا مقيمين بالمدينة يأتون قبر النبى صلى الله عليه وسلم لا فى الأسبوع ولا فى غير الأسبوع وإنما كان بن عمر يأتى القبر إذا قدم من سفر وكثير من الصحابة او اكثرهم كانوا يقدمون من الأسفار ولا يأتون القبر لا لسلام ولا لدعاء ولا غير ذلك فلم يكونوا يقفون عنده خارج الحجرة فى المسجد كما كان بن عمر يفعل ولم يكن احد منهم يدخل الحجرة لذلك بل ولا يدخلونها إلا لأجل عائشة رضى الله عنها لما كانت مقيمة فيها وحينئذ فكان من يدخل إليها يسلم على النبى كما كانوا يسلمون عليه إذا حضروا عنده واما السلام الذى لا يسمعه فذلك سلام الله عليهم به عشرا كالسلام عليه فى الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه وهذا السلام مأمور به فى كل مكان وزمان وهو أفضل من السلام المختص بقبره فإن هذا المختص بقبره من جنس تحته سائر المؤمنين أحياء وامواتا
وأما السلام المطلق العام فالأمر به من خصائصه كما ان الأمر بالصلاة من خصائصه وإن كان فى الصلاة والسلام على غيره عموما وفى الصلاة على غيره خصوصا نزاع وقد عدى بعضهم ذلك إلى السلام
____________________
(27/407)
فجعله مختصا به كما اختص بالصلاة وحكى هذا عن أبى محمد الجوينى لكن جمهور العلماء على أن السلام لا يختص به وأما الصلاة ففيها نزاع مشهور وذلك أن الله تعالى أمر فى كتابه بالصلاة والسلام عليه مخصوصا بذلك فقال تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } فهنا أخبر وامر وأما فى حق عموم المؤمنين فأخبر ولم يأمر فقال تعالى { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } ولهذا إذا ذكر الخطباء ذلك قالوا إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته وأية بالمؤمنين من بريته أى قال { يا أيها الذين آمنوا } فإن صلاته تعالى على المؤمنين بدأ فيها بنفسه وثنى بملائكته لكن لم يؤيه فيها بالمؤمنين من بريته وقد جاء فى الحديث ( إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير (
وقد اتفق المسلمون على أنه تشرع الصلاة عليه فى الصلاة قبل الدعاء وفى غير الصلاة وإنما تنازعوا فى وجوب الصلاة عليه فى الصلاة المكتوبة وفى الخطب فأوجب ذلك الشافعى ولم يوجبه أبوحنيفة ومالك وعن الإمام أحمد روايتان وإذا قيل بوجوبها فهل هي ركن أو تسقط بالسهو على روايتين وأظهر الأقوال أن الصلاة واجبة مع الدعاء فلا ندعو حتى نبدأ به والسلام عليه مأمور به فى الصلاة وهو في التشهد الذى هو
____________________
(27/408)
ركن فى الصلاة عند الشافعى وأحمد فى الشهور عنه فتبطل الصلاة بتركه عمدا وسهوا والتشهد الأخير عند مالك وأبى حنيفة وعند مالك وأحمد فى المشهور عنه إذا ترك التشهد الأول عمدا بطلت صلاته وإن تركه سهوا فعليه سجود السهو وهذا يسميه الإمام أحمد واجبا ويسميه أصحاب مالك سنة واجبة ويقولون سنة واجبة وليس فى ذلك نزاع معنوى مع القول بأن من تعمد تركه يعيد ومن تركه سهوا فعليه سجود السهو
ومالك واحمد عندهما الأفعال فى الصلاة أنواع كأفعال الحج وأبو حنيفة يجعلها ثلاثة انواع لكن عنده أن النوع الواجب يكون مسيئا بتركه ولا إعادة عليه سواء تركه عمدا أو سهوا وأما الشافعى فعنده الواجب فيها هو الركن بخلاف الحج فإنه بإتفاقهم فيه واجب يجبر بالدم غير الركن وغير المستحب
ولا نزاع أنه هو صلى الله عليه وسلم يصلى على غيره كما قال تعالى { وصل عليهم } وكما ثبت فى الصحيح أنه قال ( اللهم صل على آل أبى أوفى ( وكما روى أنه قال لأمرأة ( صلى الله عليك وعلى زوجك ( وكانت قد طلبت منه أن يصلى عليها وعلى زوجها
وأيضا لا نزاع أنه يصلى على آله تبعا كما علم أمته أن يقولوا ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد
____________________
(27/409)
مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد (
وأما صلاة على غيره منفردا مثل أن يقال صلى الله علي أبى بكر أو عمر أو عثمان أو علي ففيهما قولان
أحدهما ان ذلك جائز وهو منصوص أحمد فى غير موضع وإستدل على ذلك بأن عليا قال لعمر صلى الله عليك وعليه جمهور أصحابه كالقاضى أبى يعلى وبن عقيل والشيخ عبدالقادر ولم يذكروا فى ذلك نزاعا
والثانى المنع من ذلك كما ذكر ذلك طائفة من اصحاب مالك والشافعى ونقل ذلك عنهما وهو الذى ذكره جدنا أبو البركات فى كتابه الكبير لم يذكر غيره وإحتج بما رواه جماعة عن بن عباس قال لا أعلم الصلاة تنبغى من أحد على احد إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال من منع أما صلاته على غيره فإن الصلاة له فله أن يعطيها لغيره وأماالصلاة على غيره تبعا فقد يجوز تبعا مالا يجوز قصدا ومن جوز ذلك يحتج بالخليفتين الراشدين عمر وعلى وبأنه ليس فى الكتاب والسنة نهى عن ذلك لكن لا يجب ذلك فى حق أحد كما يجب فى حق النبى فتخصيصه كان بالأمر والإيجاب لا بالجواز والإستحباب قالوا وقد ثبت أن
____________________
(27/410)
الملائكة تصلى على المؤمنين كما فى الصحيح ( إن الملائكة تصلى على أحدكم ما دام فى مصلاة ( فإذا كان الله وملائكته يصلون على المؤمن فلماذا لا يجوز أن يصلى عليه المؤمنون
وأما قول بن عباس فهذا ذكره لما صار أهل البدع يخصون بالصلاة عليا أو غيره ولا يصلون على غيرهم فهذا بدعة بالإتفاق وهم لا يصلون على كل احد من بنى هاشم من العباسيين ولا على كل أحد من ولد الحسن والحسين ولا على ازواجه مع أنه قد ثبت فى الصحيحح ( اللهم صل على محمد وعلى ازواجه وذريته ( فحينئذ لا حجة لمن خص بالصلاة [ بعض ] اهل البيت دون سائر أهل البيت ودون سائر المؤمنين
ولما كان الله تعالى أمر بالصلاة والسلام عليه ثم قال من قال ان الصلاة على غيره ممنوع منها طرد ذلك طائفة منهم أبو محمد الجوينى فقالوا لا يسلم على غيره وهذا لم يعرف عن أحد من المتقدمين وأكثر المتأخرين أنكروه فإن السلام على الغير مشروع سلام التحية يسلم عليه إذا لقيه وهو إما واجب وإما مستحب مؤكد فإن فى ذلك قولين للعلماء ء وهما قولا فى مذهب احمد والرد واجب بالإجماع إما على الأعيان وإما على الكفاية والمصلى إذا خرج من الصلاة يقول السلام عليكم السلام عليكم وقد كان النبى صلى الله عليه
____________________
(27/411)
وسلم يعلم اصحابه إذا زاروا القبور ان يسلموا عليهم فيقولوا ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ( فالذين جعلوا السلام من خصائصه لا يمنعون من السلام على الحاضر لكن يقولون لا يسلم على الغائب فجعلوا السلام عليه مع الغيبة من خصائصه وهذا حق لكن الأمر بذلك وإيجابه هو من خصائصه كما فى التشهد فليس فيه سلام على معين إلا عليه وكذلك عند دخول المسجد والخروج منه وهذا يؤيد أن السلام كالصلاة كلاهما واجب له فى الصلاة وغيرها وغيره فليس واجبا إلا سلام التحية عند اللقاء فإنه مؤكد بالإتفاق
وهل يجب أو يستحب على قولين معروفين فى مذهب احمد وغيره والذى تدل عليه النصوص أنه واجب وقد روى مسلم فى صحيحه عنه أنه قال ( خمس تجب للمسلم على المسلم يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض ويشيعه إذا مات ويجيبه إذا دعاه ( وروى ( ويشمته إذا عطس ( وقد أوجب أكثر الفقهاء إجابة الدعوة والصلاة على الميت فرض على الكفاية بإجماعهم والسلام عند اللقاء اوكد من إجابة الدعوة وكذلك عيادة المريض والشر الذى يحصل إذا لم يسلم عليه عند اللقاء ولم يعده إذا مرض أعظم مما يحصل إذا لم يجب دعوته والسلام اسهل من إجابة الدعوة ومن العيادة وهذه المسائل لبسطها مواضع أخر
____________________
(27/412)
والمقصود هنا إن سلام التحية عند اللقاء فى المحيا وفى الممات إذا زار قبر المسلم مشروع فى حق كل مسلم لكل من لقيه حيا او زار قبره أن يسلم عليه فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعرفون أن هذا السلام عليه عند قبره الذى قال فيه ( ما من احد يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( ليس من خصائصه ولا فيه فضيلة له على غيره بل هو مشروع فى حق كل مسلم حى وميت وكل مؤمن يرد السلام على من سلم عليه وهذا ليس مقصودا بنفسه بل إذا لقيه سلم عليه وهكذا زار القبر يسلم على الميت لا أنه يتكلف قطع المسافة واللقاء لمجرد ذلك والسلام عليه فى الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه فهو من خصائصه هو من السلام الذى أمر الله به فى القرآن أن يسلم عليه ومن سلم يسلم الله عليه عشرا كما يصلى عليه إذا صلى عليه عشرا فهو المشروع المأمور به الأفضل الأنفع الأكمل الذى لا مفسدة فيه وذاك جهد لا يختص به ولا يؤمر بقطع المسافة لمجرده بل قصد نية الصلاة والسلام والدعاء هو إتخاذ له عيدا وقد قال صلى الله عليه وسلم ( لا تتخذوا بيتى عيدا (
فلهذا كان العمل الشائع فى الصحابة الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أنهم يدخلون مسجده ويصلون عليه
____________________
(27/413)
فى الصلاة ويسلمون عليه كما أمرهم الله ورسوله ويدعون لأنفسهم فى الصلاة مما إختاروا من الدعاء المشروع كما فى الصحيح من حديث بن مسعود لما علمه التشهد قال ( ثم ليتخير بعد ذلك من الدعاء أعجبه إليه ( ولم يكونوا يذهبون إلى القبر لا من داخل الحجرة ولا من خارجها لا لدعاء ولا صلاة ولا سلام ولا غير ذلك من حقوقه المأمور بها فى كل مكان فضلا عن أن يقصدوها لحوائجهم كما يفعله أهل الشرك والبدع فإن هذا لم يكن يعرف فى القرون الثلاثة لا عند قبره ولا قبر غيره لا فى زمن الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم
فهذه الأمور إذا تصورها ذو الإيمان والعلم عرف دين الإسلام فى هذه الأمور وفرق بين من يعرف التوحيد والسنة والإيمان ومن يجهل ذلك وقد تبين أن الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة كانوا يدخلون المسجد ويصلون فيه على النبى ولا يسلمون عليه عند الخروج من المدينة وعند القدوم من السفر بل يدخلون المسجد فيصلون فيه ويسلمون على النبى ولا يأتون القبر ومقصود بعضهم التحية
وأيضا فقد إستحب لكل من دخل المسجد أن يسلم على النبى فيقول بسم الله والسلام على رسول الله اللهم إغفر لى ذنوبى وإفتح لى أبواب رحمتك وكذلك إذا خرج يقول
____________________
(27/414)
بسم الله والسلام على رسول الله اللهم إغفر لى ذنوبى وإفتح لى أبواب فضلك فهذا السلام عند دخول المسجد كلما يدخل يغنى عن السلام عليه عند القبر وهو من خصائصه ولا مفسدة فيه وهو يفعل ذلك فى الصلاة فيصلون ويسلمون عليه فى الصلاة ويصلون عليه إذا سمعوا الأذان ويطلبون له الوسيلة لما رواه مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لى الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة (
وقد علموا أن الذى يستحب عند قبره المكرم من السلام عليه هو سلام التحية عند اللقاء كما يستحب ذلك عند قبر كل مسلم وعند لقائه فيشاركه فيه غيره كما قال ( ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( وقال ( ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ( وكان إذا أتى المقابر قال ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع أسأل الله العافية لنا ولكم ( وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا
____________________
(27/415)
السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ( والسلام عليه فى الصلاة أفضل من السلام عليه عند القبر وهو من خصائصه وهو مامور به والله يسلم على صاحبه كما يصلى على من صلى عليه فإنه من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرا ومن سلم عليه واحدة سلم الله عليه عشرا وقد حصل مقصودهم ومقصوده من السلام عليه والصلاة عليه فى مسجده وغير مسجده فلم يبق فى إتيان القبر فائدة لهم ولا له بخلاف إتيان مسجد قباء فإنهم كانوا يأتونه كل سبت فيصلون فيه إتباعا له صلى الله عليه وسلم فإن الصلاة فيه كعمرة ويجمعون بين هذا وبين الصلاة فى مسجده يوم الجمعة إذ كان احد هذين لا يغنى عن الآخر بل يحصل بهذا أجر زائد وكذلك إذا خرج الرجل إلى البقيع وأهل أحد كما كان يخرج إليهم النبى يدعو لهم كان حسنا لأن هذا مصلحة لا مفسدة فيها وهم لا يدعون لهم فى كل صلاة حتى يقال هذا يغنى عن هذا
ومع هذا فقد نقل عن مالك كراهة إتخاذ ذلك سنة ولم يأخذ فى هذا بفعل بن عمر كما لم يأخذ بفعله فى التمسح بمقعده على المنبر ولا بإستحباب قصد الأماكن التى صلى فيها لكون الصلاة أدركته فيها فكان بن عمر يستحب قصدها للصلاة فيها وكان جمهور الصحابة لا يستحبون ذلك بل يستحبون ما كان يستحبة
____________________
(27/416)
وهو أن يصلى حيث أدركته الصلاة وكان أبوه عمر بن الخطاب ينهى من يقصدها للصلاة فيها ويقول إنما هلك من كان قبلكم بهذا فإنهم إتخذوا آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب فأمرهم عمر بن الخطاب بما سنه لهم رسول الله إذ كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه من الخلفاء الراشدين الذين امرنا بإتباع سنتهم وله خصوص الأمر بالإقتداء به وبأبى بكر حيث قال ( إقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ( فالأمر بالإقتداء أرفع من الأمر بالسنة كما قد بسط فى مواضع
وكذلك نقل عن مالك كراهة المجىء إلى بيت المقدس خشية أن يتخذ السفر إليه سنة فإنه كره ذلك لما جعل لهذا وقت معين كوقت الحج الذى يذهب إليه جماعة فإن النبى لم يفعل هذا لا في قباء ولا فى قبور الشهداء وأهل البقيع ولا غيرهم كما فعل مثل ذلك فى الحج وفى الجمع والأعياد فيجب الفرق بين هذا وبين هذا مع أنه صلى التطوع فى جماعة مرات فى قيام الليل ووقت الضحى وغيره ولكن لم يجعل الإجتماع مثل تطوع فى وقت معين سنة كالصلوات الخمس وكصلاة الكسوف والعيدين والجمعة واما إتيان القبر للسلام عليه فقد إستغنوا عنه بالسلام عليه فى الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه وفى إتيانه بعد الصلاة مرة بعد مرة ذريعة إلى أن يتخذ عيدا ووثنا
____________________
(27/417)
وقد نهوا عن ذلك
وهو صلى الله عليه وسلم مدفون فى حجرة عائشة وكانت حجرة عائشة وسائر حجر أزواجه من جهة شرقى المسجد وقبلته لم تكن داخلة في مسجده بل كان يخرج من الحجرة إلى المسجد ولكن فى خلافة الوليد وسع المسجد وكان يحب عمارة المساجد وعمر المسجد الحرام ومسجد دمشق وغيرهما فأمر نائبة عمر بن عبد العزيز أن يشترى الحجر من أصحابها الذين ورثوا أزواج النبى ويزيدها فى المسجد فمن حينئذ دخلت الحجر فى المسجد وذلك بعد موت الصحابة بعد موت بن عمر وبن عباس وأبى سعيد الخدرى وبعد موت عائشة بل بعد موت عامة الصحابة ولم يكن بقى فى المدينة منهم أحد وقد روى أن سعيد بن المسيب كره ذلك وقد كره كثير من الصحابة والتابعين ما فعله عثمان رضى الله عنه من بناء المسجد بالحجارة والقصة والساج وهؤلاء لما فعله الوليد أكره وأما عمر رضى الله عنه فإنه وسعه لكن بناه على ما كان من بنائه من اللبن وعمده جذوع النخل وسقفه الجريد ولم ينقل أن أحدا كره ما فعل عمر وإنما وقع النزاع فيما فعله عثمان والوليد
وكان من أراد السلام عليه على عهد الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه من غربى الحجرة فيسلم عليه إما مستقبل الحجرة
____________________
(27/418)
وإما مستقبل القبلة والآن يمكنه أن يأتى من جهة القبلة فلهذا كان أكثر العلماء يستحبون أن يستقبل الحجرة ويسلم عليه ومنهم من يقول بل يستقبل القبلة ويسلم عليه كقول أبى حنيفة
فإن الوليد بن عبد الملك تولى بعد موت أبيه عبد الملك سنة بضع وثمانين من الهجرة وكان قد مات هؤلاء الصحابة كلهم وتوفى عامة الصحابة فى جميع االأمصار ولم يكن بقى بالأمصار إلا قليل جدا مثل أنس بن مالك بالبصرة فإنه توفى فى خلافة الوليد سنة بضع وتسعين وجابر بن عبد الله مات سنة ثمان وسبعين بالمدينة وهو آخر من مات بها والوليد أدخل الحجرة بعد ذلك بمدة طويلة نحو عشر سنين وبناء المسجد كان بعد موت جابر فلم يكن قد بقى بالمدينة أحد وأما عثمان بن عفان رضى الله عنه فزاد فى المسجد والصحابة كثيرون ولم يدخل فيه شيئا من الحجرة بل ترك الحجرة النبوية على ما كانت عليه خارجة عن المسجد متصلة به من شرقية كما كانت على عهد النبى وأبى بكر وعمر وكانت عائشة رضى الله عنها فيها ولم تزل عائشة فيها إلى أواخر خلافة معاوية وتوفيت بعد موت الحسن بن على وكان الحسن قد إستأذنها فى أن يدفن فى الحجرة فأذنت له لكن كره ذلك ناس آخرون ورأوا أن عثمان رضى الله عنه لما لم يدفن فيها فلا يدفن غيره وكادت تقوم فتنة ولما إحتضرت عائشة رضى الله عنها أوصت أن تدفن مع
____________________
(27/419)
صواحباتها بالبقيع ولا تدفن هناك فعلت هذا تواضعا أن تزكى به
فلهذا لم يتكلم فيما فعله الوليد هل هو جائز أو مكروه إلا التابعون كسعيد بن المسيب وأمثاله وكان سعيد إذ ذاك من أجل التابعين قيل لأحمد بن حنبل أى التابعين أفضل قال سعيد بن المسيب فقيل له فعلقمة والأسود فقال سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود هذان كانا قد ماتا قبل ذلك بمدة ومن ذلك الوقت دخلت فى المسجد وكان قبل دخول الحجرة فيه فاضلا وكانت فضيلة المسجد بأن النبى بناه لنفسه وللمؤمنين يصلى فيه هو والمؤمنون إلى يوم القيامة ففضل ببنائه له قلت قال مالك بلغنى أن جبريل هو الذى أقام قبلته للنبي صلى الله عليه وسلم وبأنه كان هو الذي يقصد فيه الجمعة والجماعة إلى أن مات وما صلى جمعة بغيره قط لا فى سفره ولا فى مقامه وأما الجماعة فكان يصليها حيث أدركته
ونحن مأمورون بإتباعه صلى الله عليه وسلم وذلك بأن نصدقه فى كل ما أخبر به ونطيعه فى كل ما أوجبه وأمر به لا يتم الإيمان به إلا بهذا وهذا ومن ذلك أن نقتدى به فى أفعاله التى يشرع لنا أن نقتدى به فما فعله على وجه الوجوب أو الإستحباب أو الإباحة نفعله على وجه الوجوب أو الإستحباب أو الإباحة وهو مذهب جماهير العلماء
____________________
(27/420)
إلا ما ثبت إختصاصه به فإذا قصد عبادة فى مكان شرع لنا أن نقصد تلك العبادة فى ذلك المكان فلما قصد السفر إلى مكة وقصد العبادة بالمسجد الحرام والصلاة فيه والطواف به وبين الصفا والمروة والصعود على الصفا والمروة والوقوف بعرفة وبالمشعر الحرام ورمى الجمار والوقوف للدعاء عند الجمرتين الأوليين دون الثالثة التى هي جمرة العقبة كان ذلك كله مشروعا لنا إما واجبا وأما مستحبا ولم يذهب بمكة إلى غير المسجد الحرام ولا سافر إلى الغار الذى مكث فيه لما سافر سفر الهجرة ولا صعد إلى غار حراء الذى كان يتحنث فيه قبل أن يأتيه الوحى وكان ذلك عبادة لأهل مكة قيل أنه سنها لهم عبد المطلب وصلى عقب الطواف ركعتين ولم يصل عقب الطواف بالصفا والمروة شيئا وحين دخل المسجد الحرام طاف بالبيت وكان الطواف تحية المسجد لم يصل قبله تحية كما تصلى فى سائر المساجد كما أنه إفتتح برمى جمرة العقبة حين أتى منى وتلك هي العبادة وبعدها نحر هديه ثم حلق رأسه ثم طاف بالبيت
ولهذا صارت السنة أن أهل منى يرمون ثم يذبحون والرمي لهم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم وليس بمنى صلاة عيد ولا جمعة ولا بها ولا بعرفة فان النبى لم يصل بهما صلاة عيد ولا صلى يوم عرفة جمعة ولا كان فى أسفاره يصلي جمعة ولا عيدا ولهذا
____________________
(27/421)
كان عامة العلماء على ان الجمعة لا تصلى فى السفر وليس فى ذلك الا نزاع شاذ وجمهور العلماء على ان العيد أيضا لا يكون إلا حيث تكون الجمعة فإن النبى لم يصل عيدا فى السفر ولا كان يصلى فى المدينة على عهده الا عيدا واحدا ولم يكن أحد يصلي العيد منفردا وهذا قول جمهور العلماء وفيه نزاع مشهور ولهذا صار المسلمون بمنى يرمون ثم يذبحون النسك اتباعا لسنته
فما فعله على وجه التقرب كان عبادة تفعل على وجه التقرب وما أعرض عنه ولم يفعله مع قيام السبب المقتضى لم يكن عبادة ولا مستحبا وما فعله على وجه الاباحة من غير قصد التعبد به كان مباحا ومن العلماء من يستحب مشابهته فى هذا فى الصورة كما كان إبن عمر يفعل وأكثرهم يقول إنما تكون المتابعة إذا قصدنا ما قصد وأما المشابهة فى الصورة من غير مشاركة فى القصد والنية فلا تكون متابعة فما فعله على غير العبادة فلا يستحب أن يفعل على وجه العبادة فان ذلك ليس بمتابعة بل مخالفة وقد ثبت فى الصحيح أنه كان يصلي حيث أدركته الصلاة وثبت فى الصحيح أنه قال لأبى ذر حين سأله أي مسجد وضع فى الأرض أول فقال ( المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى ثم حيث ما أدركتك الصلاة فصل فانه مسجد ( وروى فى
____________________
(27/422)
الصحيح ( فان فيه الفضل ( فمن أدركته الصلاة هو وأصحابه بمكان فتركوا الصلاة فيه وذهبوا إلى مكان آخر لكونه فيه أثر لبعض الأنبياء فقد خالفوا السنة وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوما ينتابون مكانا صلى فيه رسول الله فقال ما هذا قالوا هذا مكان صلى فيه رسول الله فقال ومكان صلى فيه رسول الله أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد إنما هلك بنوا اسرائيل بمثل هذا فمن أدركته الصلاة فيه فليصل فيه والا فليذهب
فمسجده المفضل لما كان يفضل الصلاة فيه كان مستحبا فكيف وقد قال ( صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ( وقال ( لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا ( وهذه الفضيلة ثابتة له قبل أن تدخل فيه الحجرة بل كان حنيئذ الذين يصلون فيه أفضل ممن صلى فيه إلى يوم القيامة ولا يجوز أن يظن انه بعد دخول الحجرة فيه صار أفضل مما كان فى حياته وحياة خلفائه الراشدين بل الفضيلة ان اختلفت الأزمنة والرجال فزمنه وزمن الخلفاء الراشدين أفضل ورجاله أفضل فالمسجد حينئذ قبل دخول الحجرة فيه كان أفضل أن اختلفت الأمور وان لم تختلف
____________________
(27/423)
فلا فرق وبكل حال فلا يجوز أن يظن أنه صار بدخول الحجرة فيه أفضل مما كان وهم لم يقصدوا دخول الحجرة فيه وإنما قصدوا توسيعه بادخال حجر أزواج النبى فدخلت فيه الحجرة ضرورة مع كراهة من كره ذلك من السلف
والمقصود أن ما بنى لله من المساجد فضيلتها بعبادة الله فيها وحده لا شريك له وبمن عبد الله فيها من الأنبياء والصالحين وببنائها لذلك كما قال تعالى { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين }
والأعمال تفضل بنيات أصحابها وطاعتهم لله تعالى وما فى قلوبهم من الإيمان بطاعتهم لله كما ثبت فى الصحيح ان النبى قال ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ( وبذلك يثابون وعلى ترك ما فرضه الله يعاقبون وبذلك يندفع عنهم بلاء الدنيا والآخرة وما اصابهم من المصائب فبذنوبهم قال تعالى { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } وقال تعالى { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك }
____________________
(27/424)
قال العلماء ( أى ما اصابك من نصر ورزق وعافية فهو من نعم الله عليك وما اصابك من المصائب فبذنوبك كما قال تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } كما انهم متفقون كلهم على أنه لا تكون العبادة إلا لله وحده ولا يكون التوكل إلا عليه وحده ولا تكون الخشية والتقوى إلا لله وحده
والرسول صلى الله عليه وسلم له حق لا يشركه فيه احد من الأمة مثل وجوب طاعته فى كل ما يوجب ويأمر قال تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } ولهذا كانت مبايعته مبايعة لله كما قال تعالى { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } فإنهم عاقدوه على أن يطيعوه فى الجهاد ولا يفروا وإن ماتوا وهذه الطاعة له هي طاعة لله
وعلينا أن يكون الرسول أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا كما فى الحديث الصحيح عن النبى أنه قال ( والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ( رواه البخارى ومسلم وفى لفظ لمسلم ( وأهله وماله ( وفى البخارى عن عبد الله بن هشام أنه قال ( كنا مع النبى وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب
____________________
(27/425)
فقال له عمر يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسى فقال النبى ( لا والذى نفسى بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ( فقال له عمر فإنك الآن والله لأنت أحب إلى من نفسى فقال النبى ( الآن يا عمر ( وقد قال تعالى { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } وقد قال تعالى { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } وفى الصحيحين عنه أنه قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه
وذلك أنه لا نجاة لأحد من عذاب الله ولا وصول له إلى رحمة الله إلا بواسطة الرسول بالإيمان به ومحبته وموالاته وأتباعه وهو الذى ينجيه الله به من عذاب الدنيا والآخرة وهو الذى يوصله إلى خير الدنيا والآخرة فأعظم النعم وأنفعها نعمة الإيمان ولا تحصل إلا به وهو أنصح وأنفع لكل احد من نفسه وماله فإنه الذى يخرج الله به من الظلمات إلى النور لا طريق له إلا هو وأما نفسه وأهله فلا يغنون عنه من الله شيئا وهو دعا الخلق إلى الله بإذن الله كما قال تعالى { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا }
____________________
(27/426)
والمخالف له يدعو إلى غير الله بغير إذن الله ومن إتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يدعو إلى الله ورسوله وقوله تعالى { بإذنه } أى بأمره وما أنزله من العلم كما قال تعالى { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } فمن إتبع الرسول دعا إلى الله على بصيرة أى على بينة وعلم يدعو إليه بمنزل من الله بخلاف الذى يأمر بمالا يعلم أو بما لم ينزل به وحيا كما قال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير }
وكل ما أمر الله به أو ندب إليه من حقوقه فإنه لا يختص بحجرته لا من داخل ولا من خارج بل يفعل فى جميع الأمكنة التى شرع فيها فليس فعل شيء من حقوقه كالإيمان به ومحبته وموالاته وتبليغ العلم عنه والجهاد على ما جاء به وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه والصلاة والسلام عليه وكل ما يحبه الله ويتقرب إليه ليس شيء من ذلك عند حجرته أفضل منه فيما بعد عن الحجرة لا الصلاة والسلام عليه ولا غير ذلك من حقوقه بل قد نهى هو صلى الله عليه وسلم أن يجعل بيته عيدا فنهى أن يقصد بيته بتخصيص شيء من ذلك فمن قصد أو إعتقد أن
____________________
(27/427)
فعل ذلك عند الحجرة أفضل فهو مخالف له وهذا مما كان مشروعا كالإيمان به والشهادة له بأنه رسول الله والصلاة والسلام عليه وأما مالم يشرعه الله ولم ينزل به سلطانا إليه بل نهى عنه كدعاء غير الله وعبادتهم من جميع المخلوقات الملائكة والأنبياء وغيرهم والحج إلى المخلوقين وإلى قبورهم فهذه إنما يأمر بها من ليس معهم بذلك علم ولا وهي منزل من الله فهم يضاهون الذين يعبدون من دون الله مالم ينزل به سلطانا وماليس لهم به علم أو هم نوع منهم
وقد ميز الله بين حقه وحق الرسول فى مثل قوله { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه } فالطاعة لله والرسول والخشية لله وحده والتقوى لله وحده لا يخشى مخلوق ولا يتقى مخلوق لا ملك ولا نبى ولا غيرهما قال تعالى { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون } وقال تعالى { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } وقال تعالى { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا }
وكذلك ميز بين النوعين فى قوله تعالى { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون }
____________________
(27/428)
ففى الإيتاء قال { آتاهم الله ورسوله } لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله فى تبليغ أمره ونهيه وتحليله وتحريمه ووعده ووعيده فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله قال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فلهذا قال تعالى { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله } ولم يقل هنا ( ورسوله ( لأن الله وحده حسب جميع عبادة المؤمنين كما قال تعالى { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أى هو حسبك وحسب من إتبعك من المؤمنين
وقال تعالى { إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } ذكر هذا بعد قوله { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } إلى قوله { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } عن بن عباس قال هم الذين لا يعدلون بالله فيتولاهم وينصرهم ولا تضرهم عداوة من عاداهم كما قال تعالى { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } ثم قال تعالى مما يأمرهم { سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فأمرهم أن
____________________
(27/429)
يجعلوا الرغبة لله وحدة كما قال تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } وهذا لأن المخلوق لا يملك للمخلوق نفعا ولا ضرا وهذا عام فى أهل السماوات وأهل الأرض قال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }
قال طائفة من السلف بن عباس وغيره هذه الآية فى الذين عبدوا الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير وقال عبد الله بن مسعود كان قوم من الانس يعبدون قوما من الجن فأسلم الجن وبقي أولئك على عبادتهم فالآية تتناول كل من دعا من دون الله من هو صالح عند الله من الملائكة والانس والجن قال تعالى هؤلاء الذين دعوتموهم { فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } قال أبو محمد عبد الحق بن عطية فى تفسيره أخبر الله تعالى ان هؤلاء المعبودين يطلبون التقرب إليه والتزلف إليه وأن هذه حقيقة حالهم والضمير فى ( ربهم ( للمبتغين أو للجميع و ( الوسيلة ( هي القربة وسبب الوصول إلى البغية وتوسل الرجل إذا طلب الدنو والنيل لأمر ما ومنه قول النبى
____________________
(27/430)
( من سأل الله لي الوسيلة ( الحديث وهذا الذى ذكره ذكر سائر المفسرين ( نحوه الا أنه ( برز به على غيره فقال و ( أيهم ( ابتداء وخبره ( أقرب ) و ( أولئك ) يراد بهم المعبودون وهو ابتداء وخبره ( يبتغون ) والضمير فى ( يدعون ) للكفار وفى ( يبتغون ( للمعبودين والتقدير نظرهم وذكرهم ( أيهم أقرب ( وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى حديث الراية بخيبر فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهما يعطاها أى يتبارون فى طلب القرب قال رحمه الله وطفف الزجاج فى هذا الموضع فتأمله
ولقد صدق فى ذلك فإن الزجاج ذكر فى قوله أيهم أقرب وجهين كلاهما فى غاية الفساد وقد ذكر ذلك عنه بن الجوزى وغيره وتابعه المهدوي والبغوى وغيرهما ولكن إبن عطية كان أقعد بالعربية والمعانى من هؤلاء واخبر بمذهب سيبوبة والبصريين فعرف تطفيف الزجاج مع علمه رحمه الله بالعربية وسبقه ومعرفته بما يعرفه من المعانى والبيان وأولئك لهم براعة وفضيلة فى أمور يبرزون فيها على بن عطية لكن دلالة الألفاظ من جهة العربية هو بها أخبر وإن كانوا هم أخبر بشيء آخر من المنقولات أو غيرها
وقد بين سبحانه وتعالى أن المسيح وان كان رسولا كريما فانه عبد الله فمن عبده فقد عبد مالا ينفعه ولا يضره قال تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم }
____________________
(27/431)
وقد أمر تعالى أفضل الخلق ان يقول إنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا يملك لغيره ضرا ولا رشدا فقال تعالى { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } وقال { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته } يقول لن يجيرنى من الله احد إن عصيته كما قال تعالى { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } { ولن أجد من دونه ملتحدا } أي ملجأ الجا إليه إلا بلاغا من الله ورسالاته أى لا يجيرنى منه احد الا طاعته ان أبلغ ما أرسلت به اليكم فبذلك تحصل الاجاره والأمن وقيل أيضا لا
____________________
(27/432)
أملك لكم ضرا ولا رشدا لا املك الا تبليغ ما ارسلت به منه ومثل هذا فى القرآن كثير
فتبين أن الأمن من عذاب الله وحصول السعادة إنما هو بطاعته تعالى لقوله { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } وقال تعالى { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } أى لو لم تدعوه كما أمر فتطيعوه فتعبدوه وتطيعوا رسله فانه لا يعبأ بكم شيئا
وهذه الوسيلة التى امر الله أن تبتغى إليه فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } قال عامة المفسرين كابن عباس ومجاهد وعطاء والفراء الوسيلة القربة قال قتادة تقربوا إلى الله بما يرضيه قال أبو عبيدة توسلت إليه أى تقربت وقال عبد الرحمن بن زيد تحببوا إلى الله والتحبب والتقرب إليه انما هو بطاعة رسوله فالايمان بالرسول وطاعته هو وسيلة الخلق إلى الله ليس لهم وسيلة يتوسلون بها البتة الا الايمان برسوله وطاعته وليس لاحد من الخلق وسيلة إلى الله تبارك وتعالى الا بوسيلة الايمان بهذا الرسول الكريم وطاعته وهذه يؤمر بها الانسان حيث كان من الأمكنة وفى كل وقت وما خص من العبادات بمكان كالحج او زمان كالصوم والجمعة فكل فى مكانه وزمانه وليس لنفس الحجرة من داخل فضلا عن جدارها من خارج اختصاص بشيء فى شرع
____________________
(27/433)
العبادات ولا فعل شيء منها فالقرب من الله أفضل منه بالبعد منه باتفاق المسلمين والمسجد خص بالفضيلة فى حياته قبل وجود القبر فلم تكن فضيلة مسجده لذلك ولا استحب هو ولا أحد من أصحابه ولا علماء أمته ان يجاور أحد عند قبر ولا يعكف عليه ولا قبره المكرم ولا قبر غيره ولا ان يقصد السكنى قريبا من قبر أى قبر كان
وسكنى المدينة النبوية هو أفضل فى حق من تتكرر طاعته لله ورسوله فيها أكثر كما كان الامر لما كان الناس مأمورين بالهجرة اليها فكانت الهجرة اليها والمقام بها أفضل من جميع البقاع مكة وغيرها بل كان ذلك واجبا من أعظم الواجبات فلما فتحت مكة قال النبى ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ( وكان من اتى من اهل مكة وغيرهم ليهاجر ويسكن المدينة يأمره ان يرجع إلى مدينته ولا يأمره بسكناها كما كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يأمر الناس عقب الحج ان يذهبوا إلى بلادهم لئلا يضيقوا على أهل مكة وكان يامر كثيرا من أصحابه وقت الهجرة ان يخرجوا إلى أماكن اخر لولاية مكان وغيره وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة أفضل من المقام عنده بالمدينة حين كانت دار الهجرة فكيف بها بعد ذلك
____________________
(27/434)
إذ كان الذى ينفع الناس طاعة الله ورسوله وأما ما سوى ذلك فإنه لا ينفعهم لا قرابة ولا مجاورة ولا غير ذلك كما ثبت عنه فى الحديث الصحيح أنه قال ( يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا ( قال ( إن آل أبى فلان ليسوا لى بأولياء إنما ولى الله وصالح المؤمنين ( وقال ( إن أوليائى المتقون حيث كانوا ومن كانوا (
وقد قال تعالى { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } فهو تبارك وتعالى يدافع عن المؤمنين حيث كانوا فالله هو الدافع والسبب هو الإيمان وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى خطبته ( من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ( ولن يضر الله شيئا قال تعالى { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا }
وأما ما يظنه بعض الناس من ان البلاء يندفع عن أهل بلد أو إقليم عن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين كما يظن بعض الناس انه يندفع عن أهل بغداد البلاء لقبور ثلاثة أحمد بن حنبل وبشر الحافى ومنصور بن عمار ويظن بعضهم انه يندفع البلاء عن
____________________
(27/435)
أهل الشام بمن عندهم من قبور الأنبياء الخليل وغيره عليهم السلام وبعضهم يظن انه يندفع البلاء عن اهل مصر بنفيسة أو غيرها أو يندفع عن أهل الحجاز بقبر النبى وأهل البقيع او غيرهم فكل هذا غلو مخالف لدين الإسلام مخالف للكتاب والسنة والإجماع فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله فلما عصوا الأنبياء وخالفوا ما أمر الله به ورسله سلط عليهم من إنتقم منهم والرسل الموتى ما عليهم الإ البلاغ المبين وقد بلغوا رسالة ربهم وكذلك نبينا قال الله تعالى فى حقه { إن عليك إلا البلاغ } وقال تعالى { وما على الرسول إلا البلاغ المبين }
وقد ضمن الله لكل من أطاع الرسول أن يهديه وينصره فمن خالف أمر الرسول إستحق العذاب ولم يغن عنه أحد من الله شيئا كما قال النبى يا عباس عم رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا ( وقال لمن ولاه من أصحابه ( لا ألفين أحدكم يأتى يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثنى فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ( وكان اهل المدينة فى خلافة
____________________
(27/436)
أبى بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان على أفضل أمور الدنيا والآخرة لتمسكهم بطاعة الرسول ثم تغيروا بعض التغير بقتل عثمان رضى الله عنه وخرجت الخلافة النبوية من عندهم وصاروا رعية لغيرهم ثم تغيروا بعض التغير فجرى عليهم عام الحرة من القتل والنهب وغير ذلك من المصائب مالم يجر عليهم قبل ذلك والذى فعل بهم ذلك وإن كان ظالما معتديا فليس هو اظلم ممن فعل بالنبى وأصحابه ما فعل وقد قال تعالى { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وقد كان النبى والسابقون الأولون مدفونين بالمدينة
وكذلك الشام كانوا فى أول الإسلام فى سعادة الدنيا والدين ثم جرت فتن وخرج الملك من أيديهم ثم سلط عليهم المنافقون الملاحدة والنصارى بذنوبهم وإستولوا على بيت المقدس وقبر الخليل وفتحوا البناء الذى كان عليه وجعلوه كنيسة ثم صلح دينهم فأعزهم الله ونصرهم على عدوهم لما أطاعوا الله ورسوله وإتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم فطاعة الله ورسوله قطب السعادة وعليها تدور { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } وكان النبى يقول فى خطبته ( من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا )
____________________
(27/437)
ومكة نفسها لا يدفع البلاء عن أهلها ويجلب لهم الرزق إلا بطاعتهم لله ورسوله كما قال الخليل عليه السلام { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } وكانوا فى الجاهلية يعظمون حرمة الحرم ويحجون ويطوفون بالبيت وكانوا خيرا من غيرهم من المشركين والله لا يظلم مثقال ذرة وكانوا يكرمون مالا يكرم غيرهم ويؤتون مالا يؤتاه غيرهم لكونهم كانوا متمسكين بدين إبراهيم بأعظم مما تمسك به غيرهم وهم فى الإسلام إن كانوا أفضل من غيرهم كانوا جزاؤهم بحسب فضلهم وإن كانوا أسوأ عملا من غيرهم كان جزاؤهم بحسب سيئاتهم فالمسجد والمشاعر إنما ينفع فضلها لمن عمل فيها بطاعة الله عز وجل وإلا فمجرد البقاع لا يحصل بها ثواب ولا عقاب وإنما الثواب والعقاب على الأعمال المأمور بها والمنهى عنها وكان النبى قد آخى بين سلمان الفارسى وأبى الدرداء وكان أبوالدرداء بدمشق وسلمان الفارسى بالعراق فكتب أبوالدرداء إلى سلمان هلم إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان أن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الرجل عمله
والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكنى الحرمين بإتفاق العلماء
____________________
(27/438)
ولهذا كان سكنى الصحابة بالمدينة أفضل للهجرة والجهاد
والله تعالى هو الذى خلق الخلق وهو الذى يهديهم ويرزقهم وينصرهم وكل من سواه لا يملك شيئا من ذلك كما قال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقد فسروها بأنه يؤذن للشافع والمشفوع له جميعا فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمد إذا أراد الشفاعة قال ( فإذا رأيت ربى خررت له ساجدا وأحمده بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن فيقال لى إرفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه وإشفع تشفع قال فيحد لى حدا فأدخلهم الجنة وكذلك ذكر فى المرة الثانية والثالثة (
ولهذا قال تعالى { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله وقوله { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } إستثناء منقطع أى من شهد بالحق وهم يعلمون هم أصحاب الشفاعة منهم الشافع ومنهم المشفوع له وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه سأله أبو هريرة فقال من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله فقال ( يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألنى عن هذا الحديث أحد أول منك
____________________
(27/439)
لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ( رواه البخاري فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا وقال فى الحديث الصحيح ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله وارجوا أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة ( فالجزاء من جنس العمل فقد أخبر النبى أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة ( ولم يقل كان اسعد الناس بشفاعتى بل قال ( أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه (
فعلم أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال وإن كان صالحا كسؤاله الوسيلة للرسول فكيف بما لم يأمر به من الأعمال بل نهى عنه فذاك لا ينال به خيرا لا فى الدنيا ولا فى الآخرة مثل غلو النصارى فى المسيح عليه السلام فإنه يضرهم ولا ينفعهم ونظير هذا ما فى الصحيحين عنه أنه قال ( إن لكل نبى دعوة مستجابة وإنى اختبأت دعوتى شفاعة لأمتى يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك
____________________
(27/440)
بالله شيئا وكذلك فى احاديث الشفاعة كلها إنما يشفع فى أهل التوحيد فبحسب توحيد العبد لله وإخلاصه دينه لله يستحق كرامة الشفاعة وغيرها
وهو سبحانه علق الوعد والوعيد والثواب والعقاب والحمد والذم بالإيمان به وتوحيده وطاعته فمن كان أكمل فى ذلك كان احق بتولى الله له بخير الدنيا والآخرة ثم جميع عباده مسلمهم وكافرهم هو الذى يرزقهم وهو الذى يدفع عنهم المكاره وهو الذى يقصدونه فى النوائب قال تعالى { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } وقال تعالى { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } أى بدلا عن الرحمن هذا اصح القولين كقوله تعالى { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } أى لجعلنا بدلا منكم كما قاله عامة المفسرين ومنه قول الشاعر ** فليت لنا من ماء زمزم شربة ** مبردة باتت على طهيان **
أى بدلا من ماء زمزم فلا يكلأ الخلق بالليل والنهار فيحفظهم ويدفع عنهم المكاره إلا الله قال تعالى { أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور }
____________________
(27/441)
ومن ظن أن أرضا معينة تدفع عن اهلها البلاء مطلقا لخصوصها أو لكونها فيها قبور الأنبياء والصالحين فهو غالط فأفضل البقاع مكة وقد عذب الله أهلها عذابا عظيما فقال تعالى { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون } فصل
وولاة الأمر أحق الناس بنصر دين الرسول وما جاء به من الهدى ودين الحق و [ بإنكار ] ما نهى عنه وما نسب إليه بالباطل من الكذب والبدع أما جهلا من ناقله وإما عمدا فإن أصل الدين هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ورأس المعروف هو التوحيد ورأس المنكر هو الشرك وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق به فرق الله بين التوحيد والشرك وبين الحق والباطل وبين الهدى والضلال وبين الرشاد والغى وبين المعروف والمنكر فمن اراد أن يأمر بما نهى عنه وينهى عما أمر به وبغير شريعته ودينه إما جهلا وقلة علم وإما لغرض وهوى كان السلطان أحق بمنعه بما امر الله به ورسوله وكان هو أحق
____________________
(27/442)
بإظهار ما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق فإن الله سبحانه لا بد أن ينصر رسوله والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد فمن كان النصر على يديه كان له سعادة الدنيا والآخرة وإلا جعل الله النصر على يد غيره وجازى كل قوم بعملهم وما ربك بظلام للعبيد
والله سبحانه وتعالى قد وعد أنه لا يزال [ هذا الدين ظاهرا ولا يظهر ] إلا بالحق وأنه من نكل عن القيام بالحق إستبدل من يقوم بالحق فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } وقد أرى الله الناس فى أنفسهم والآفاق ما عملوا به تصديق ما أخبر به تحقيقا لقوله تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } والله أعلم والحمد لله رب العالمين
____________________
(27/443)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
فصل
وأما قبور الأنبياء فالذى إتفق عليه العلماء هو ( قبر النبى ( فإن قبره منقول بالتواتر وكذلك قبر صاحبيه وأما ( قبر الخليل ( فأكثر الناس على ان هذا المكان المعروف هو قبره وأنكر ذلك طائفة وحكى الإنكار عن مالك وأنه قال ليس فى الدنيا قبر نبى يعرف إلا قبر نبينا لكن جمهور الناس على أن هذا قبره ودلائل ذلك كثيرة وكذلك هو عند أهل الكتاب
ولكن ليس فى معرفة قبور الأنبياء بأعيانها فائدة شرعية وليس حفظ ذلك من الدين ولو كان من الدين لحفظه الله كما حفظ سائر الدين وذلك ان عامة من يسأل عن ذلك إنما قصده الصلاة عندها والدعاء بها ونحو ذلك من البدع المنهى عنها ومن كان مقصوده الصلاة والسلام على الأنبياء والإيمان بهم وأحياء ذكرهم فذاك ممكن له وإن لم
____________________
(27/444)
يعرف قبورهم صلوات الله عليهم وقد تقدم ( أن النبى لعن اليهود والنصارى الذين إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( وما يشبه هذا من الحديث
وسئل رحمه الله
عن ( قبور الأنبياء ( عليهم الصلاة والسلام هل هي هذه القبور التى تزورها الناس اليوم مثل قبر نوح وقبر الخليل وإسحاق ويعقوب ويوسف ويونس وإلياس واليسع وشعيب وموسى وزكريا وهو بمسجد دمشق واين قبر على بن أبى طالب فهل يصح من تلك القبور شيء أم لا
فأجاب الحمد لله القبر المتفق عليه هو قبر نبينا وقبر الخليل فيه نزاع لكن الصحيح الذى عليه الجمهور أنه قبره وأما يونس والياس وشعيب وزكريا فلا يعرف وقبر على بن أبى طالب بقصر الإمارة الذى بالكوفة وقبر معاوية هو القبر الذى تقول العامة إنه قبر هود والله أعلم
____________________
(27/445)
وسئل
هل المشاهد المسماة باسم على بن أبى طالب وولده الحسين رضى الله عنهما صحيحه أم لا وأين ثبت قبر على
فأجاب أما هذه المشاهد المشهورة فمنها ما هو كذب قطعا مثل المشهد الذى بظاهر دمشق المضاف إلى ( أبى بن كعب ( والمشهد الذى بظاهرها المضاف إلى ( أويس القرنى ( والمشهد الذى بمصر المضاف إلى ( الحسين ( رضى الله عنه إلى غير ذلك من المشاهد التى يطول ذكرها بالشام والعراق ومصر وسائر الأمصار حتى قال طائفة من العلماء منهم عبد العزيز الكنانى كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح شيء منها إلا قبر النبى وقد أثبت غيره أيضا قبر الخليل عليه السلام
وأما مشهد على فعامة العلماء على أنه ليس قبره بل قد قيل إنه قبر المغيرة بن شعبة وذلك انه إنما أظهر بعد نحو ثلاثمائة سنة من موت على فى إمارة بنى بويه وذكروا أن أصل ذلك حكاية
____________________
(27/446)
بلغتهم عن الرشيد انه اتى إلى ذلك المكان وجعل يعتذر إلى من فيه مما جرى بينه وبين ذرية علي وبمثل هذه الحكاية لا يقوم شيء فالرشيد أيضا لا علم له بذلك ولعل هذه الحكاية إن صحت عنه فقد قيل له ذلك كما قيل لغيره وجمهور أهل المعرفة يقولون إن عليا إنما دفن فى قصر الإمارة بالكوفة أو قريبا منه وهكذا هو السنة فإن حمل ميت من الكوفة إلى مكان بعيد ليس فيه فضيلة أمر غير مشروع فلا يظن بآل على رضى الله عنه أنهم فعلوا به ذلك ولا يظن أيضا أن ذلك خفى على أهل بيته وللمسلمين ثلاثمائة سنة حتى أظهره قوم من الأعاجم الجهال ذوى الأهواء
وكذلك ( قبر معاوية ( الذى بظاهر دمشق قد قيل إنه ليس قبر معاوية وإن قبره بحائط مسجد دمشق الذى يقال إنه ( قبر هود (
وأصل ذلك ان عامة أمر هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلق لا يكاد يوقف منه على العلم إلا فى قليل منها بعد بحث شديد وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام ولا ذلك من حكم الذكر الذى تكفل الله بحفظه حيث قال { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } بل قد نهى النبى صلى الله عليه
____________________
(27/447)
وسلم عما يفعله المبتدعون عندها مثل قوله الذى رواه مسلم فى صحيحه عن جندب بن عبد الله قال سمعت رسول النبى قبل أن يموت بخمس وهو يقول ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وقال ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (
وقد اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور ولا يشرع إتخاذها مساجد ولا يشرع الصلاة عندها ولا يشرع قصدها لأجل التعبد عندها بصلاة أو إعتكاف أو إستغاثة أو إبتهال أو نحو ذلك وكرهوا الصلاة عندها ثم إن كثيرا منهم قال إن الصلاة عندها باطلة لأجل نهى النبى عنها
وإنما السنة لمن زار قبر مسلم ميت إما نبى أو رجل صالح أو غيرهما أن يسلم عليه ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته كما جمع الله بين هذه حيث يقول فى المنافقين { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم وفى السنن أن النيى إذا
____________________
(27/448)
دفن الميت من أصحابه يقوم على قبره ثم يقول ( سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ( وفى الصحيح أنه كان يعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور ( السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم وإغفر لنا ولهم (
وإنما دين الله تعظيم بيوت الله وحده لا شريك له وهى المساجد التى تشرع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة والإعتكاف وسائر العبادات البدنية والقلبية من القراءة والذكر والدعاء لله قال الله تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } وقال تعالى { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } وقال تعالى { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب } فهذا دين المسلمين الذين يعبدون الله مخلصين له الدين
____________________
(27/449)
وأما إتخاذ القبور أوثانا فهو دين المشركين الذى نهى عنه سيد المرسلين والله تعالى يصلح حال جميع المسلمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد
وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه (
عن المشهد المنسوب إلى الحسين رضى الله عنه بمدينة القاهرة هل هو صحيح أم لا
وهل حمل رأس الحسين إلى دمشق ثم إلى مصر أم حمل إلى المدينة من جهة العراق
وهل لما يذكره بعض الناس من جهة المشهد الذى كان بعسقلان صحة أم لا
ومن ذكر أمر رأس الحسين ونقله إلى المدينة النبوية دون الشام ومصر
ومن جزم من العلماء المتقدمين والمتأخرين بأن مشهد عسقلان ومشهد القاهرة مكذوب وليس بصحيح
وليبسطوا القول فى ذلك لأجل مسيس الضرورة والحاجة إليه
____________________
(27/450)
مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى
فأجاب
الحمد لله بل المشهد المنسوب إلى الحسين بن على رضى الله عنهما الذى بالقاهرة كذب مختلق بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم الذين يرجع إليهم المسلمون فى مثل ذلك لعلمهم وصدقهم ولا يعرف عن عالم مسمى معروف بعلم وصدق أنه قال ( إن هذا المشهد صحيح وإنما يذكره بعض الناس قولا عمن لا يعرف على عادة من يحكى مقالات الرافضة وأمثالهم من أهل الكذب
فإنهم ينقلون أحاديث وحكايات ويذكرون مذاهب ومقالات وإذا طالبتهم بمن قال ذلك ونقله لم يكن لهم عصمة يرجعون إليها ولم يسموا أحدا معروفا بالصدق فى نقله ولا بالعلم فى قوله بل غاية ما يعتمدون عليه أن يقولوا أجمعت الطائفة الحقة وهم عند أنفسهم الطائفة الحقة الذين هم عند أنفسهم المؤمنون وسائر الأمة سواهم كفار
ويقولون إنما كانوا على الحق لأن فيهم الإمام المعصوم والمعصوم عند الرافضة الأمامية الإثني عشرية هو الذى يزعمون أنه دخل إلى
____________________
(27/451)
سرداب سامرا بعد موت أبيه الحسن بن على العسكري سنة ستين ومائتين وهو إلى الآن غائب لم يعرف له خبر ولا وقع له أحد على عين ولا اثر
وأهل العلم بأنساب أهل البيت يقولون إن الحسن بن على العسكرى لم يكن له نسل ولا عقب ولا ريب أن العقلاء كلهم يعدون مثل هذا القول من اسفه السفه وإعتقاد الإمامة والعصمة فى مثل هذا مما لا يرضاه لنفسه إلا من هو أسفه الناس وأضلهم وأجهلهم وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا
والمقصود هنا بيان جنس المقولات والمنقولات عند اهل الجهل والضلالات
فإن هؤلاء عند الجهال الضلال يزعمون أن هذا المنتظر كان عمره عند موت ابيه إما سنتين أو ثلاثا أو خمسا على إختلاف بينهم فى ذلك
وقد علم بنص القرآن والسنة المتواترة وإجماع ألأمة أن مثل هذا يجب أن يكون تحت ولاية غيره فى نفسه وماله فيكون هو نفسه محضونا مكفولا لآخر يستحق كفالته فى نفسه وماله تحت من يستحق النظر والقيام عليه من ذمى أو غيره وهو قبل السبع طفل لا يؤمر
____________________
(27/452)
بالصلاة فإذا بلغ العشر ولم يصل أدب على فعلها فكيف يكون مثل هذا إماما معصوما يعلم جميع الدين ولا يدخل الجنة إلا من آمن به
ثم بتقدير وجوده وإمامته وعصمته إنما يجب على الخلق أن يطيعوا من يكون قائما بينهم يأمرهم بما أمرهم الله به ورسوله وينهاهم عما نهاهم عنه الله ورسوله فإذا لم يروه ولم يسمعوا كلامه لم يكن لهم طريق إلى العلم بما يأمر به وما ينهى عنه فلا يجوز تكليفهم طاعته إذ لم يأمرهم بشيء سمعوه وعرفوه وطاعة من لا يأمر ممتنعة لذاتها وإن قدر أنه يأمرهم ولكن لم يصل إليهم أمره ولا يتمكنون من العلم بذلك كانوا عاجزين غير مطيقين لمعرفة ما أمروا به والتمكن من العلم شرط فى طاعة الأمر ولا سيما عند الشيعة المتأخرين فإنهم من اشد الناس منعا لتكليف مالا يطاق لموافقتهم المعتزلة فى القدر والصفات أيضا
وإن قيل إن ذلك بسبب ذنوبهم لأنهم أخافوه أن يظهر قيل هب إن أعداءه أخافوه فأى ذنب لاوليائه ومحبيه وأى منفعة لهم من الإيمان به وهو لا يعلمهم شيئا ولا يأمرهم بشيء
ثم كيف جاز له مع وجوب الدعوة عليه أن يغيب هذه
____________________
(27/453)
الغيبة التى لها الآن أكثر من أربعمائة وخمسين سنة
وما الذى سوغ له هذه الغيبة دون آبائه الذين كانوا موجودين قبل موتهم كعلى والحسن والحسين وعلى بن الحسين ومحمد بن على وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلى بن موسى ومحمد بن على وعلى بن محمد والحسن بن على العسكرى
فإن هؤلاء كانوا موجودين يجتمعون بالناس وقد أخذ عن على والحسن والحسين وعلى بن الحسين ومحمد بن على وجعفر بن محمد من العلم ما هو معروف عند أهله والباقون لهم سير معروفة وأخبار مكشوفة فما باله إستحل هذا الإختفاء هذه المدة الطويلة أكثر من أربعمائة سنة وهو إمام الأمة بل هو على زعمهم هاديها وداعيها ومعصومها الذى يجب عليها الإيمان به ومن لم يؤمن به فليس بمؤمن عندهم
فإن قالوا الخوف
قيل الخوف على آبائه كان أشد بلا نزاع بين العلماء وقد حبس بعضهم وقتل بعضهم ثم الخوف إنما يكون إذا حارب فأما إذا فعل كما كان يفعل سلفه من الجلوس مع المسلمين وتعليمهم لم يكن عليه خوف
____________________
(27/454)
وبيان ضلال هؤلاء طويل
وإنما المقصود بيانه هنا أنهم يجعلون هذا أصل دينهم ثم يقولون إذا إختلفت الطائفة الحقة على قولين احدهما يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله كان القول الذى لا يعرف قائله هو الحق هكذا وجدته فى كتب شيوخهم وعللوا ذلك بأن القول الذى لا يعرف قائله يكون من قائليه الإمام المعصوم وهذا نهاية الجهل والضلال
وهكذا كل ما ينقلونه من هذا الباب ينقلون سيرا أو حكايات وأحاديث إذا ما طالبتهم بإسنادها لم يحيلوك على رجل معروف بالصدق بل حسب أحدهم أن يكون سمع ذلك من آخر مثله أو قرأه فى كتاب ليس فيه إسناد معروف وإن سموا احدا كان من المشهورين بالكذب والبهتان لا يتصور قط أن ينقلوا شيئا مما لا يعرف عند علماء السنة إلا وهو عن مجهول لا يعرف أو عن معروف بالكذب
ومن هذا الباب نقل الناقل إن هذا القبر الذى بالقاهرة ( مشهد الحسين ( رضى الله عنه بل وكذلك مشاهد غير هذا مضافة إلى قبر الحسين رضى الله عنه فإنه معلوم بإتفاق الناس أن هذا المشهد بنى عام بضع واربعين وخمسمائة وانه نقل من مشهد بعسقلان وان ذلك
____________________
(27/455)
المشهد بعسقلان كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمائة
فأصل هذا المشهد القاهرى هو ذلك المشهد العسقلانى وذلك العسقلانى محدث بعد مقتل الحسين بأكثر من اربعمائة وثلاثين سنة وهذا القاهرى محدث بعد مقتله بقريب من خمسمائة سنة وهذا مما لم يتنازع فيه إثنان ممن تكلم فى هذا الباب من أهل العلم على إختلاف أصنافهم كأهل الحديث ومصنفى أخبار القاهرة ومصنفى التواريخ وما نقله اهل العلم طبقة عن طبقة فمثل هذا مستفيض عندهم وهذا بينهم مشهور متواتر سواء قيل إن إضافته إلى الحسين صدق أو كذب لم يتنازعوا أنه نقل من عسقلان فى أواخر الدولة العبيدية
وإذا كان اصل هذا المشهد القاهرى منقول عن ذلك المشهد العسقلانى بإتفاق الناس وبالنقل المتواتر فمن المعلوم أن قول القائل إن ذلك الذى بعسقلان هو مبنى على رأس الحسين رضى الله عنه قول بلا حجة اصلا فإن هذا لم ينقله احد من اهل العلم الذين من شأنهم نقل هذا لا من أهل الحديث ولا من علماء الأخبار والتواريخ ولا من العلماء المصنفين فى النسب نسب قريش أو نسب بنى هاشم ونحوه
____________________
(27/456)
وذلك المشهد العسقلانى أحدث فى آخر المائة الخامسة لم يكن قديما ولا كان هناك مكان قبله أو نحوه مضاف إلى الحسين ولا حجر منقوش ولا نحوه مما يقال إنه علامة على ذلك
فتبين بذلك أن إضافة مثل هذا إلى الحسين قول بلا علم أصلا وليس مع قائل ذلك ما يصلح أن يكون معتمدا لا نقل صحيح ولا ضعيف بل لا فرق بين ذلك وبين أن يجيء الرجل إلى بعض القبور التى بأحد امصار المسلمين فيدعى أن فى واحد منها رأس الحسين اويدعى ان هذا قبر نبى من الأنبياء أو نحو ذلك مما يدعيه كثير من أهل الكذب والضلال
ومن المعلوم أن مثل هذا القول غير منقول باتفاق المسلمين
وغالب ما يستند إليه الواحد من هؤلاء أن يدعى أنه رأى مناما أو أنه وجد بذلك القبر علامة تدل على صلاح ساكنه إما رائحة طيبة وإما توهم خرق عادة ونحو ذلك وإما حكاية عن بعض الناس أنه كان يعظم ذلك القبر
فأما المنامات فكثير منها بل أكثرها كذب وقد عرفنا فى زماننا بمصر والشام والعراق من يدعى أنه رأى منامات تتعلق ببعض البقاع أنه قبر نبى أو أن فيه أثر نبى ونحو ذلك ويكون كاذبا
____________________
(27/457)
وهذا الشيء منتشر فرائى المنام غالبا ما يكون كاذبا وبتقدير صدقه فقد يكون الذى اخبره بذلك شيطان والرؤيا المحضة التى لا دليل يدل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شيء بالإتفاق فإنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه ورؤيا من الشيطان (
فإذا كان جنس الرؤيا تحته أنواع ثلاثة فلابد من تمييز كل نوع منها عن نوع
ومن الناس حتى من الشيوخ الذى لهم ظاهر علم وزهد من يجعل مستنده فى مثل ذلك حكاية يحكيها عن مجهول حتى ان منهم من يقول حدثنى أخى الخضر أن قبر الخضر [ بمكان كذا ] ومن المعلوم الذى بيناه فى غير هذا الموضع أن ( كل من إدعى أنه رأى الخضر أو رأى من رأى الخضر أو سمع ) شخصا رأى الخضر أو ظن الرائى أنه الخضر أن كل ذلك لا يجوز إلا على ( الجهلة المخرفين ( الذين لا حظ لهم من علم ولا عقل ولا دين بل هم من الذين لا يفقهون ولا يعقلون )
وأما ما يذكر من وجود رائحة طيبة أو خرق عادة أو نحو ذلك مما يتعلق بالقبر فهذا لا يدل على تعينه وأنه فلان أو فلان بل
____________________
(27/458)
غاية ما يدل عليه إذا ثبت أنه دليل على صلاح المقبور وأنه قبر رجل صالح أو نبى
وقد تكون تلك الرائحة مما صنعه بعض السوقة فإن هذا مما يفعله طائفة من هؤلاء كما حدثنى بعض اصحابنا أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان وكان أحدهما قد إتخذ قبرا تجبى إليه أموال ممن يزوره وينذر له من الضلال فعمد الآخر إلى قبر وزعم أنه راى فى المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف وجعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة
وقد حدثني جيران القبر الذى بجبل لبنان بالبقاع الذى يقال إنه قبر نوح وكان قد ظهر قريبا فى أثناء المائة السابعة وأصله أنهم شموا من قبر رائحة طيبة ووجدوا عظاما كبيرة فقالوا هذه تدل على كبير خلق البنية فقالوا بطريق الظن هذا قبر نوح وكان بالبقعة موتى كثيرون من جنس هؤلاء
وكذلك هذا المشهد العسقلانى قد ذكر طائفة أنه قبر بعض الحواريين أو غيرهم من أتباع عيسى بن مريم وقد يوجد عند قبور الوثنيين من جنس ما يوجد عند قبور المؤمنين بل إن زعم الزاعم أنه قبر الحسين ظن وتخرص وكان من الشيوخ المشهورين بالعلم والدين
____________________
(27/459)
بالقاهرة من ذكروا عنه أنه قال هو قبر نصرانى
وكذلك بدمشق بالجانب الشرقى مشهد يقال إنه قبر أبى بن كعب وقد إتفق أهل العلم على أن أبيا لم يقدم دمشق وإنما مات بالمدينة فكان بعض الناس يقول إنه قبر نصرانى وهذا غير مستبعد فإن اليهود والنصارى هم السابقون فى تعظيم القبور والمشاهد ولهذا قال فى الحديث المتفق عليه ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا (
والنصارى أشد غلوا فى ذلك من اليهود كما فى الصحيحين عن عائشة ( أن النبى ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة رضى الله عنهما كنيسة بأرض الحبشة وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فقال إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة (
والنصارى كثيرا ما يعظمون آثار القديسين منهم فلا يستبعد أنهم ألقوا إلى بعض جهال المسلمين ان هذا قبر بعض من يعظمه المسلمون ليوافقوهم على تعظيمه كيف لا وهم قد اضلوا كثيرا من
____________________
(27/460)
جهال المسلمين حتى صاروا يعمدون أولادهم ويزعمون ان ذلك يوجب طول العمر للولد وحتى جعلوهم يزورون ما يعظمونه من الكنائس والبيع وصار كثير من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التى يعظمها النصارى كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم
والذين يعظمون القبور والمشاهد لهم شبه شديد بالنصارى حتى إنى لما قدمت القاهرة إجتمع بى بعض معظميهم من الرهبان وناظرنى فى المسيح ودين النصارى حتى بينت له فساد ذلك وأجبته عما يدعيه من الحجة وبلغنى بعد ذلك أنه صنف كتابا فى الرد على المسلمين وإبطال نبوة محمد وأحضره إلى بعض المسلمين وجعل يقرأوه على لأجيب عن حجج النصارى وأبين فسادها
وكان من أواخر ما خاطبت به النصرانى أن قلت له أنتم مشركون وبينت من شركهم ماهم عليه من العكوف على التماثيل والقبور وعبادتها والإستغاثة بها
قال لى نحن ما نشرك بهم ولا نعبدهم وإنما نتوسل بهم كما يفعل المسلمون إذا جاؤوا إلى قبر الرجل الصالح فيتعلقون بالشباك الذى
____________________
(27/461)
عليه ونحو ذلك
فقلت له وهذا أيضا من الشرك ليس هذا من دين المسلمين وإن فعله الجهال فأقر أنه شرك حتى أن قسيسا كان حاضرا فى هذه المسألة فلما سمعها قال نعم على هذا التقدير نحن مشركون
وكان بعض النصارى يقول لبعض المسلمين لنا سيد وسيدة ولكم سيد وسيدة لنا السيد المسيح والسيدة مريم ولكم السيد الحسين والسيدة نفيسة
فالنصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم ويشابهونهم فيه ويحبون أن يقوى ذلك ويكثر ويحبون أن يجعلوا رهبانهم مثل عباد المسلمين وقسيسيهم مثل علماء المسلمين ويضاهئون المسلمين فإن عقلاءهم لا ينكرون صحة دين الإسلام بل يقولون هذا طريق إلى الله وهذا طريق إلى الله
ولهذا يسهل إظهار الإسلام على كثير من المنافقين الذين أسلموا منهم فإن عندهم أن المسلمين والنصارى كأهل المذاهب من المسلمين بل يسمون الملل مذاهب ومعلوم أن أهل المذاهب كالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية دينهم واحد وكل من أطاع الله ورسوله منهم بحسب وسعه كان مؤمنا سعيدا بإتفاق المسلمين
____________________
(27/462)
فإذا إعتقد النصارى مثل هذا فى الملل يبقى إنتقال أحدهم عن ملته كانتقال الإنسان من مذهب إلى مذهب وهذا كثيرا ما يفعله الناس لرغبة أو رهبة وإذا بقى أقاربه وأصدقاؤه على المذهب الأول لم ينكر ذلك بل يحبهم ويودهم فى الباطن لأن المذهب كالوطن والنفس تحن إلى الوطن إذا لم تعتقد أن المقام به محرم أو به مضرة وضياع دنيا فلهذا يوجد كثير ممن اظهر الإسلام من أهل الكتاب لا يفرق بين المسلمين وأهل الكتاب
ثم منهم من يميل إلى المسلمين أكثر ومنهم من يميل إلى ما كان عليه أكثر
ومنهم من يميل إلى أولئك من جهة الطبع والعادة أو من جهة الجنس والقرابة والبلد والمعاونة على المقاصد ونحو ذلك
وهذا كما أن الفلاسفة ومن سلك سبيلهم من القرامطة والإتحادية ونحوهم يجوز عندهم أن يتدين الرجل بدين المسلمين واليهود والنصارى
ومعلوم أن هذا كله كفر بإتفاق المسلمين
فمن لم يقر باطنا وظاهرا بان الله لا يقبل دينا سوى الإسلام فليس بمسلم
____________________
(27/463)
ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد لن يكون مسلم إلا من آمن به واتبعه باطنا وظاهرا فليس بمسلم ومن لم يحرم التدين بعد مبعثه بدين اليهود والنصارى بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم بإتفاق المسلمين
والمقصود هنا أن النصارى يحبون أن يكون فى المسلمين ما يشابهونهم به ليقوى بذلك دينهم ولئلا ينفر المسلمون عنهم وعن دينهم
ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بمخالفة اليهود والنصارى كما قد بسطناه فى كتابنا ( إقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم
وقد حصل للنصارى من جهال المسلمين كثير من مطلوبهم لا سيما من الغلاة من الشيعة وجهال النساك والغلاة فى المشايخ فإن فيهم شبها قريبا بالنصارى فى الغلو والبدع فى العبادات ونحو ذلك فلهذا يلبسون على المسلمين فى مقابر تكون من قبورهم حتى يتوهم الجهال انها من قبور صالحى المسلمين ليعظموها
وإذا كان ذلك المشهد العسقلانى قد قال طائفة أنه قبر بعض النصارى أو بعض الحواريين وليس معنا ما يدل على أنه قبر مسلم فضلا عن أن يكون قبرا لرأس الحسين كان قول من قال إنه قبر
____________________
(27/464)
مسلم الحسين أو غيره قولا زورا وكذبا مردودا على قائله
فهذا كاف فى المنع من أن يقال هذا ( مشهد الحسين ( فصل
ثم نقول بل نحن نعلم ونجزم بأنه ليس فيه رأس الحسين ولا كان ذلك المشهد العسقلانى مشهدا للحسين من وجوه متعددة
منها أنه لو كان رأس الحسين هناك لم يتأخر كشفه وإظهاره إلى ما بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة سنة ودولة بنى أمية إنقرضت قبل ظهور ذلك بأكثر من ثلاثمائة وبضع وخمسين سنة وقد جاءت خلافة بنى العباس وظهر فى أثنائها من المشاهد بالعراق وغير العراق ما كان كثير منها كذبا وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هناك مشهدا وكان ينتابه أمراء عظماء حتى أنكر ذلك عليهم الأئمة وحتى إن المتوكل لما تقدموا له بأشياء يقال إنه بالغ فى إنكار ذلك وزاد على الواجب
دع خلافة بنى العباس فى أوائلها وفى حال إستقامتها فإنهم حينئذ لم يكونوا يعظمون المشاهد سواء منها ما كان صدقا أو كذبا كما
____________________
(27/465)
حدث فيما بعد لأن الإسلام كان حينئذ ما يزال فى قوته وعنفوانه ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء فى بلاد الإسلام لا فى الحجاز ولا اليمن ولا الشام ولا العراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب ولم يكن قد أحدث مشهد لا على قبر نبى ولا صاحب ولا أحد من أهل البيت ولا صالح أصلا بل عامة هذه المشاهد محدثة بعد ذلك وكان ظهورها وإنتشارها حين ضعفت خلافة بنى العباس وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين وفشت فيهم كلمة أهل البدع وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر
ويقال إنه حدث قريبا من ذلك المكوس فى الإسلام
وقريبا من ذلك ظهر بنو بويه وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية وفى دولتهم قوى بنو عبيد القداح بأرض مصر وفى دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى على رضى الله عنه بناحية النجف وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول إن قبر على هناك وإنما دفن على رضى الله عنه بقصر الإمارة بالكوفة وإنما ذكروا أن بعضهم حكى عن الرشيد أنه جاء إلى بقعة هناك وجعل يعتذر إلى المدفون فيها فقالوا إنه على وأنه اعتذر إليه مما فعل بولده فقالوا هذا قبر على وقد قال قوم
____________________
(27/466)
إنه قبر المغيرة بن شعبة والكلام عليه مبسوط فى غير هذا الموضع
فإذا كان بنو بويه وبنو عبيد مع ما كان فى الطائفتين من الغلو فى التشيع حتى أنهم كانوا يظهرون فى دولتهم ببغداد يوم عاشوراء من شعار الرافضة مالم يظهر مثله مثل تعليق المسوح على الأبواب وإخراج النوائح بالأسواق وكان الأمر يفضى فى كثير من الأوقات إلى قتال تعجز الملوك عن دفعه وبسبب ذلك خرج الخرقى صاحب المختصر فى الفقه من بغداد لما ظهر بها سب السلف وبلغ من أمر القرامطة الذين كانوا بالمشرق فى تلك الأوقات أنهم أخذوا الحجر الأسود وبقى معهم مدة وأنهم قتلوا الحجاج وألقوهم ببئر زمزم
فإذا كان مع كل هذا لم يظهر حتى مشهد للحسين بعسقلان مع العلم بأنه لو كان رأسه بعسقلان لكان المتقدمون من هؤلاء أعلم بذلك من المتأخرين فإذا كان مع توفر الهمم والدواعى والتمكن والقدرة لم يظهر ذلك علم أنه باطل مكذوب مثل من يدعى أنه شريف علوى وقد علم أنه لم يدع هذا أحد من اجداده مع حرصهم على ذلك لو كان صحيحا فإنه بهذا يعلم كذب هذا المدعى وبمثل ذلك علمنا كذب من يدعى النص على خلافة على أو غير ذلك مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله ولم ينقل
____________________
(27/467)
( الوجه الثانى ( أن الذين جمعوا أخبار الحسين ومقتله مثل أبى بكر بن أبى الدنيا وأبى القاسم البغوى وغيرهما لم يذكر أحد منهم أن الرأس حمل إلى عسقلان ولا إلى القاهرة
وقد ذكر نحو ذلك أبو الخطاب بن دحية فى كتابه الملقب ب ( العلم المشهور فى فضائل الأيام والشهور ( ذكر أن الذين صنفوا فى مقتل الحسين أجمعوا أن الرأس لم يغترب وذكر هذا بعد أن ذكر أن المشهد الذى بالقاهرة كذب مختلق وأنه لا أصل له وبسط القول فى ذلك كما ذكر فى يوم عاشوراء ما يتعلق بذلك
( الوجه الثالث ( إن الذى ذكره من يعتمد عليه من العلماء والمؤرخين أن الرأس حمل إلى المدينة ودفن عند أخيه الحسن
ومن المعلوم أن الزبير بن بكار صاحب ( كتاب الأنساب ( ومحمد بن سعد كاتب الواقدى وصاحب الطبقات ونحوهما من المعروفين بالعلم والثقة والإطلاع أعلم بهذا الباب وأصدق فيما ينقلونه من الجاهلين والكذابين ومن بعض أهل التواريخ الذين لا يوثق بعلمهم ولا صدقهم بل قد يكون الرجل صادقا ولكن لا خبرة له بالأسانيد حتى يميز بين المقبول والمردود أو يكون سيئ الحفظ أو متهما بالكذب أو بالتزيد فى الرواية كحال كثير من الأخباريين والمؤرخين
____________________
(27/468)
لا سيما إذا كان مثل أبى مخنف لوط بن يحيى وأمثاله
ومعلوم أن الواقدي نفسه خير عند الناس من مثل هشام بن الكلبى وأبيه محمد بن السائب وامثالهما وقد علم كلام الناس فى الواقدى فإن ما يذكره هو وأمثاله إنما يعتضد به ويستأنس به وأما الإعتماد عليه بمجرده فى العلم فهذا لا يصلح
فإذا كان المعتمد عليهم يذكرون أن رأس الحسين دفن بالمدينة وقد ذكر غيرهم أنه إما أن يكون قد عاد إلى البدن فدفن معه بكربلاء وأما انه دفن بحلب أو بدمشق أو نحو ذلك من الأقوال التى لا أصل لها ولم يذكر أحد ممن يعتمد عليه أنه بعسقلان علم أن ذلك باطل إذ يمتنع أن يكون أهل العلم والصدق على الباطل وأهل الجهل والكذب على الحق فى الأمور النقلية التى إنما تؤخذ عن أهل العلم والصدق لا عن أهل الجهل والكذب
الوجه الرابع أن الذى ثبت فى صحيح البخارى ( إن الرأس حمل إلى قدام عبيد الله بن زياد وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه بحضرة أنس بن مالك ( وفى المسند ( أن ذلك كان بحضرة أبى برزة الأسلمى ( ولكن بعض الناس روى بإسناد منقطع ( إن هذا النكت كان بحضرة يزيد بن معاوية ( وهذا باطل فإن أبا برزة وأنس
____________________
(27/469)
بن مالك كانا بالعراق لم يكونا بالشام ويزيد بن معاوية كان بالشام لم يكن بالعراق حين مقتل الحسين فمن نقل أنه نكت بالقضيب ثناياه بحضرة أنس وأبى برزة قدام يزيد فهو كاذب قطعا كذبا معلوما بالنقل المتواتر
ومعلوم بالنقل المتواتر أن عبيد الله بن زياد كان هو أمير العراق حين مقتل الحسين وقد ثبت بالنقل الصحيح أنه هو الذى أرسل عمر بن سعد بن أبى وقاص مقدما على الطائفة التى قاتلت الحسين وكان عمر قد إمتنع من ذلك فأرغبه بن زياد وأرهبه حتى فعل ما فعل
وقد ذكر المصنفون من أهل العلم بالأسانيد المقبولة أنه لما كتب أهل العراق إلى الحسين وهو بالحجاز أن يقدم عليهم وقالوا أنه قد أميتت السنة وأحييت البدعة وأنه وأنه حتى يقال إنهم أرسلوا إليه كتبا ملء صندوق وأكثر وأنه أشار عليه الأحباء الألباء فلم يقبل مشورتهم فإنه كما قيل ** وما كل ذى لب بمؤتيك نصحه ** وما كل مؤت نصحه بلبيب ** فقد أشار عليه مثل عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهما بأن لا يذهب إليهم وذلك كان قد رآه أخوه الحسن وإتفقت كلمتهم على أن هذا لا مصلحة فيه وأن هؤلاء العراقيين يكذبون
____________________
(27/470)
عليه ويخذلونه إذ هم أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم فيها عن ثبات وإن أباه كان أفضل منه واطوع فى الناس وكان جمهور الناس معه ومع هذا فكان فيهم من الخلاف عليه والخذلان له ما الله به عليم حتى صار يطلب السلم بعد أن كان يدعو إلى الحرب وما مات إلا وقد كرههم كراهة الله بها عليم ودعا عليهم وبرم بهم
فلما ذهب الحسين رضى الله عنه وأرسل إبن عمه مسلم بن عقيل إليهم وإتبعه طائفة ثم لما قدم عبيد الله بن زياد الكوفة قاموا مع إبن زياد وقتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة وغيرهما فبلغ الحسين ذلك فأراد الرجوع فوافته سرية عمر بن سعد وطلبوا منه أن يستأسر لهم فأبى وطلب أن يردوه إلى يزيد إبن عمه حتى يضع يده فى يده أو يرجع من حيث جاء أو يلحق ببعض الثغور فإمتنعوا من إجابته إلى ذلك بغيا وظلما وعدوانا وكان من أشدهم تحريضا عليه شمر بن ذى الجوشن ولحق بالحسين طائفة منهم ووقع القتل حتى أكرم الله الحسين ومن أكرمه من أهل بيته بالشهادة رضى الله عنهم وأرضاهم وأهان بالبغى والظلم والعدوان من أهانه بما أنتهكه من حرمتهم وإستحله من دمائهم { ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء } وكان ذلك من نعمة الله على الحسين وكرامته له لينال منازل الشهداء حيث لم يجعل له فى أول الإسلام من الإبتلاء
____________________
(27/471)
والإمتحان ما جعل لسائر أهل بيته كجده وأبيه وعمه وعم أبيه رضى الله عنهم فإن بنى هاشم أفضل قريش وقريشا افضل العرب والعرب افضل بنى آدم كما صح ذلك عن النبى مثل قوله فى الحديث الصحيح ( إن الله إصطفى من ولد إبراهيم بنى إسماعيل وإصطفى كنانة من بنى إسماعيل وإصطفى قريشا من كنانة وإصطفى بنى هاشم من قريش وإصطفانى من بنى هاشم (
وفى صحيح مسلم عنه أنه قال يوم غدير خم ( أذكركم الله فى أهل بيتى أذكركم الله فى أهل بيتى أذكركم الله فى أهل بيتى (
وفى السنن أنه شكا إليه العباس إن بعض قريش يحقرونهم فقال والذى نفسى بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتى ( وإذا كانوا أفضل الخلق فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال
وكان أفضلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى لا عدل له من البشر ففاضلهم أفضل من كل فاضل من سائر قبائل قريش والعرب بل ومن بنى إسرائيل وغيرهم
ثم على وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث هم من السابقين الأولين من المهاجرين فهم أفضل من الطبقة الثانية من سائر القبائل ولهذا
____________________
(27/472)
لما كان يوم بدر أمرهم النبى بالمبارزة لما برز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة فقال النبى قم يا حمزة قم يا عبيدة قم يا على ( فبرز إلى الثلاثة ثلاثة من بنى هاشم
وقد ثبت فى الصحيح أن فيهم نزل قوله { هذان خصمان اختصموا في ربهم } الآية وإن كان فى الآية عموم
ولما كان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وكانا قد ولدا بعد الهجرة فى عز الإسلام ولم ينلهما من الأذى والبلاء ما نال سلفهما الطيب فأكرمهما الله بما اكرمهما به من الإبتلاء ليرفع درجاتهما ( وذلك من كرامتهما عليه لا من هوانهما عنده كما أكرم حمزة وعليا وجعفرا وعمر وعثمان وغيرهم بالشهادة ] وفى المسند وغيره عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت فيحدث لها إسترجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها
فهذا الحديث رواه الحسين وعنه بنته فاطمة التى شهدت مصرعه
وقد علم الله إن مصيبته تذكر على طول الزمان
فالمشروع إذا ذكرت المصيبة وأمثالها أن يقال { إنا لله وإنا إليه راجعون }
____________________
(27/473)
اللهم آجرنا فى مصيبتنا وإخلف لنا خيرا منها ( قال تعالى { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } قال الله تعالى { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }
والكلام فى احوال الملوك على سبيل التفصيل متعسر او متعذر لكن ينبغى أن نعلم من حيث الجملة أنهم هم وغيرهم من الناس ممن له حسنات وسيئات يدخلون بها فى نصوص الوعد أو نصوص الوعيد
وتناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه الله موافقا للسنة فإن النبى صلى الله عليه وسلم قيل له ( الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليقال فأى ذلك فى سبيل الله فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو فى سبيل الله (
وكذلك تناول نصوص الوعيد للشخص مشروط بأن لا يكون متأولا ولا مجتهدا مخطئا فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وكثير من تأويلات المتقدمين وما يعرض لهم فيها من الشبهات معروفة يحصل بها من الهوى والشهوات فيأتون ما يأتونه بشبهة وشهوة والسيئات التى يرتكبها أهل الذنوب تزول بالتوبة وقد تزول بحسنات ماحية ومصائب مكفرة وقد تزول بصلاة المسلمين عليه وبشفاعة
____________________
(27/474)
النبى يوم القيامة فى أهل الكبائر فلهذا كان اهل العلم يختارون فيمن عرف بالظلم ونحوه مع أنه مسلم له أعمال صالحة فى الظاهر كالحجاج بن يوسف وأمثاله أنهم لا يلعنون أحدا منهم بعينه بل يقولون كما قال الله تعالى { ألا لعنة الله على الظالمين } فيلعنون من لعنه الله ورسوله عاما كقوله ( لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها ( ولا يلعنون المعين كما ثبت فى صحيح البخارى وغيره ( أن رجلا كان يدعى حمارا وكان يشرب الخمر وكان النبى صلى الله عليه وسلم يجلده فأتي به مرة فلعنه رجل فقال النبى صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله وذلك لأن اللعنة من باب الوعيد والوعيد العام ( لا يقطع به للشخص المعين ( لأحد الأسباب المذكورة من توبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة وغير ذلك
وطائفة من العلماء يلعنون المعين كيزيد وطائفة بإزاء هؤلاء يقولون بل نحبه لما فيه من الإيمان الذى أمرنا الله أن نوالى عليه إذ ليس كافرا
والمختار عند الأمة أنا لا نلعن معينا مطلقا ولا نحب معينا مطلقا
____________________
(27/475)
[ فإن العبد قد يكون فيه سبب هذا وسبب هذا ] إذا إجتمع فيه من حب الأمرين
إذ كان من اصول أهل السنة التى فارقوا بها الخوارج إن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات فيثاب على حسناته ويعاقب على سيئاته ويحمد على حسناته ويذم على سيئاته وانه من وجه مرضى محبوب ومن وجه بغيض مسخوط فلهذا كان لأهل الأحداث هذا الحكم
وأما أهل التأويل المحض الذين يسوغ تأويلهم فأولئك مجتهدون مخطئون خطؤهم مغفور لهم وهم مثابون على ما أحسنوا فيه من حسن قصدهم وإجتهادهم فى طلب الحق وإتباعه كما قال النبى ( إذا إجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا إجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ( ولهذا كان الكلام فى السابقين الأولين ومن شهد له النبى بالجنة كعثمان وعلى وطلحة والزبير ونحوهم له هذا الحكم بل ومن هو دون هؤلاء الأكابر أهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا أكثر من الف وأربعمائة
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال
____________________
(27/476)
لا يدخل النار احد بايع تحت الشجرة (
فنقول فى هؤلاء ونحوهم فيما شجر بينهم إما أن يكون عمل أحدهم سعيا مشكورا أو ذنبا مغفورا أو إجتهادا قد عفى لصاحبه عن الخطأ فيه فلهذا كان من اصول أهل العلم أنه لا يمكن أحد من الكلام فى هؤلاء بكلام يقدح فى عدالتهم وديانتهم بل يعلم أنهم عدول مرضيون وأن هؤلاء رضى الله عنهم لا سيما والمنقول عنهم من العظائم كذب مفترى مثلما كان طائفة من شيعة عثمان يتهمون عليا بأنه امر بقتل عثمان أو اعان عليه وكان بعض من يقاتله يظن ذلك به وكان ذلك من شبههم التى قاتلوا عليا بها وهى شبهة باطلة وكان على يحلف وهو الصادق البار إنى ما قتلت عثمان ولا أعنت على قتله ويقول ( اللهم شتت قتله عثمان فى البر والبحر والسهل والجبل وكانوا يجعلون إمتناعه من تسليم قتلة عثمان من شبههم فى ذلك ولم يكن ممكنا من أن يعمل كل ما يريده من إقامة الحدود ونحو ذلك لكون الناس مختلفين عليه وعسكره وأمراء عسكره غير مطيعين له فى كل ما كان يأمرهم به فإن التفرق والإختلاف يقوم فيه من ( اسباب الشر والفساد وتعطيل الأحكام ما يعلمه ( من يكون [ من أهل العلم العارفين بما جاء من النصوص فى فضل ] الجماعة والإسلام
____________________
(27/477)
ويزيد بن معاوية قد أتى أمورا منكرة منها وقعة الحرة وقد جاء فى الصحيح عن على رضى الله عنه عن النبى قال ( المدينة حرام ما بين عير إلى كذا من أحدث فيها حدثا أو آوى ] محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ( وقال ( من أراد أهل المدينة بسوء أماعه الله كما ينماع الملح فى الماء (
ولهذا قيل للإمام أحمد أتكتب الحديث عن يزيد فقال لا ولا كرامة أو ليس هو الذى فعل بأهل الحرة ما فعل
وقيل له أى فى ما يقولون أما تحب يزيد فقال وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر فقيل فلماذا لا تلعنه فقال ومتى رأيت أباك يلعن أحدا
ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب ولا بمجرد التأويل بل الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله
وهذا الذى ذكرناه هو المتفق عليه بين الناس فى مقتل الحسين رضى الله عنه
____________________
(27/478)
وقد رويت زيادات بعضها صحيح وبعضها ضعيف وبعضها كذب موضوع
والمصنفون من أهل الحديث فى ذلك كالبغوى وإبن أبى الدنيا ونحوهما كالمصنفين من أهل الحديث في سائر المنقولات هم بذلك اعلم وأصدق بلا نزاع بين اهل العلم لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات او يرسلونه عمن يكون مرسله يقارب الصحة بخلاف الأخباريين فإن كثيرا مما يسندونه عن كذاب أو مجهول وأما ما يرسلونه فظلمات بعضها فوق بعض وهؤلاء لعمرى ممن ينقل عن غيره مسندا أو مرسلا
وأما أهل الأهواء ونحوهم فيعتمدون على نقل لا يعرف له قائل أصلا لا ثقة ولا معتمد وأهون شيء عندهم الكذب المختلق وأعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة بل إلى سماعات عن الجاهلين والكذابين وروايات عن أهل الإفك المبين
فقد تبين إن القصة التى يذكرون فيها حمل رأس الحسين إلى يزيد ونكته إياها بالقضيب كذبوا فيها وإن كان الحمل إلى بن زياد وهو الثابت بالقصة فلم ينقل بإسناد معروف إن الرأس حمل إلى قدام يزيد
ولم أر فى ذلك إلا إسنادا منقطعا قد عارضه من الروايات ما هو
____________________
(27/479)
أثبت منه وأظهر نقلوا فيها أن يزيد لما بلغه مقتل الحسين أظهر التألم من ذلك وقال لعن الله أهل العراق لقد كنت أرضى من طاعتهم بدون هذا وقال فى بن زياد أما إنه لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله وأنه ظهر فى داره النوح لمقتل الحسين وأنه لما قدم عليه أهله وتلاقى النساء تباكين وأنه خير ابنه عليا بين المقام عنده والسفر إلى المدينة فإختار السفر إلى المدينة فجهزه إلى المدينة جهازا حسنا
فهذا ونحوه مما نقلوه بالأسانيد التى هي أصح وأثبت من ذلك الإسناد المنقطع المجهول تبين أن يزيد لم يظهر الرضى بقتل الحسين وأنه أظهر الألم لقتله والله أعلم بسريرته
وقد علم أنه لم يأمر بقتله إبتداء لكنه مع ذلك ما إنتقم من قاتليه ولا عاقبهم على ما فعلوا إذ كانوا قتلوه لحفظ ملكه [ الذى كان يخاف عليه من ] الحسين وأهل البيت رضى الله عنهم أجمعين
والمقصود هنا أن نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له فى زمن يزيد فكيف بنقله بعد زمن يزيد وإنما الثابت هو نقله من كربلاء إلى أمير العراق عبيد الله بن زياد بالكوفة والذى ذكر العلماء أنه دفن بالمدينة
____________________
(27/480)
وأما ما يرويه من لا عقل له يميز به ما يقول ولا له إلمام بمعرفة المنقول من أن اهل البيت سبوا وأنهم حملوا على البخاتى وأن البخاتى نبت لها من ذلك الوقت سنامان فهذا من الكذب الواضح الفاضح لمن يقوله فإن البخاتى قد كانت من يوم خلقها الله قبل ذلك ذات سنامين كما كان غيرها من اجناس الحيوان والبخاتى لا تستر أمرأة ولا سبى أهل البيت أحد ولا سبى منهم أحد بل هذا كما يقولون إن الحجاج قتلهم
وقد علم أهل النقل كلهم أن الحجاج لم يقتل أحدا من بنى هاشم كما عهد إليه خليفته عبد الملك وأنه لما تزوج بنت عبد الله بن جعفر شق ذلك على بنى أمية وغيرهم من قريش ورأوه ليس بكفء لها ولم يزالوا به حتى فرقوا بينه وبينها بل بنو مروان على الإطلاق لم يقتلوا أحدا من بنى هاشم لا آل على ولا آل العباس إلا زيد بن على المصلوب بكناسة الكوفة وإبنه يحيى
( الوجه الرابع ( أنه لو قدر إنه حمل إلى يزيد فأى غرض كان لهم فى دفنه بعسقلان وكانت إذ ذاك ثغرا يقيم به المرابطون فإن كان قصدهم تعفية خبره فمثل عسقلان تظهره لكثرة من ينتابها للرباط وإن كان قصدهم بركة البقعة فكيف يقصد هذا من يقال أنه عدو له مستحل لدمه ساع فى قتله
____________________
(27/481)
ثم من المعلوم أن دفنه قريبا عند أمه وأخيه بالبقيع أفضل له
( الوجه الخامس ( أن دفنه بالبقيع هو الذى تشهد له عادة القوم فإنهم كانوا فى الفتن إذا قتلوا الرجل لم يكن منهم سلموا راسه وبدنه إلى أهله كما فعل الحجاج بإبن الزبير لما قتله وصلبه ثم سلمه إلى أمه
وقد علم أن سعى الحجاج فى قتل بن الزبير وأن ما كان بينه وبينه من الحروب أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه فإن بن الزبير إدعى الخلافة بعد مقتل الحسين وبايعه أكثر الناس وحاربه يزيد حتى مات وجيشه محاربون له بعد وقعة الحرة
ثم لما تولى عبد الملك غلبه على العراق مع الشام ثم بعث إليه الحجاج بن يوسف فحاصره الحصار المعروف حتى قتل ثم صلبه ثم سلمه إلى أمه
وقد دفن بدن الحسين بمكان مصرعه بكربلاء ولم ينبش ولم يمثل به فلم يكونوا يمتنعون من تسليم رأسه إلى أهله كما سلموا بدن بن الزبير إلى أهله وإذا تسلم أهله رأسه فلم يكونوا ليدعوا دفنه عندهم بالمدينة المنورة عند عمه وأمه وأخيه وقريبا من جده صلى الله عليه وسلم ويدفنونه بالشام حيث لا أحد إذ ذاك ينصرهم على
____________________
(27/482)
خصومهم بل كثير منهم كان يبغضه ويبغض أباه هذا لا يفعله أحد
والقبة التى على العباس بالبقيع يقال إن فيها مع العباس الحسن وعلى بن الحسين وأبو جعفر محمد بن على وجعفر بن محمد ويقال إن فاطمة تحت الحائط أو قريبا من ذلك وأن رأس الحسين هناك أيضا
( الوجه السادس ( أنه لم يعرف قط أن أحدا لا من أهل السنة ولا من الشيعة كان ينتاب ناحية عسقلان لأجل رأس الحسين ولا يزورونه ولايأتونه كما أن الناس لم يكونوا ينتابون الأماكن التى تضاف إلى الراس فى هذا الوقت كموضع بحلب
فإذا كانت تلك البقاع لم يكن الناس ينتابونها ولا يقصدونها وإنما كانوا ينتابون كربلاء لأن البدن هناك كان هذا دليلا على أن الناس فيما مضى لم يكونوا يعرفون أن الرأس فى شيء من هذه البقاع ولكن الذى عرفوه وإعتقدوه هو وجود البدن بكربلاء حتى كانوا ينتابونه فى زمن أحمد وغيره حتى أن فى مسائله مسائل فيما يفعل عند قبره ذكرها أبو بكر الخلال فى جامعه الكبير فى زيارة المشاهد
ولم يذكر أحد من العلماء أنهم كانوا يرون موضع الرأس فى شيء من هذه البقاع غير المدينة
____________________
(27/483)
فعلم أن ذلك لو كان حقا لكان المتقدمون به أعلم ولو إعتقدوا ذلك لعملوا ما جرت عادتهم بعمله ولأظهروا ذلك وتكلموا به كما تكلموا فى نظائرة
فلما لم يظهر عن المتقدمين بقول ولا فعل ما يدل على أن الرأس فى هذه البقاع علم أن ذلك باطل والله أعلم
( الوجه السابع ( أن يقال ما زال أهل العلم فى كل وقت وزمان يذكرون فى هذا المشهد القاهرى المنسوب إلى الحسين أنه كذب ومين كما يذكرون ذلك فى أمثاله من المشاهد المكذوبة مثل المشاهد المنسوبة بدمشق إلى أبي بن كعب وأويس القرنى أو هود أو نوح أو غيرهما والمشهد المنسوب بحران إلى جابر بن عبد الله وبالجزيرة إلى عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر ونحوهما وبالعراق إلى على رضى الله عنه ونحوه وكذلك ما يضاف إلى الأنبياء غير قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الخليل عليه السلام
فإنه لما كان كثير من المشاهد مكذوبا مختلقا كان اهل العلم فى كل وقت يعلمون أن ذلك كذب مختلق والكتب والمصنفات المعروفة عن أهل العلم بذلك مملوءة من مثل هذا يعرف ذلك من تتبعه وطلبه
____________________
(27/484)
وما زال الناس فى مصنفاتهم ومخاطباتهم يعلمون أن هذا المشهد القاهرى من المكذوبات المختلقات ويذكرون ذلك فى المصنفات حتى من سكن هذا البلد من العلماء بذلك
فقد ذكر أبو الخطاب بن دحية فى كتابه ( العلم المشهور ( فى هذا المشهد فصلا مع ما ذكره فى مقتل الحسين من أخبار ثابتة وغير ثابتة ومع هذا فقد ذكر أن المشهد كذب بالإجماع وبين أنه نقل من عسقلان فى آخر الدول العبيدية وأنه وضع لأغراض فاسدة وأنه بعد ذلك بقليل أزال الله تلك الدولة وعاقبها بنقيض قصدها
وما زال ذلك مشهورا بين أهل العلم حتى أهل عصرنا من ساكنى الديار المصرية القاهرة وما حولها
فقد حدثنى طائفة من الثقات عن الشيخ أبى عبد الله محمد بن على الغنوى المعروف بابن دقيق العيد وطائفة عن الشيخ أبى محمد عبدالمؤمن بن خلف الدمياطى وطائفة عن الشيخ أبى محمد بن القسطلانى وطائفة عن الشيخ أبى عبد الله محمد القرطبى صاحب التفسير وشرح أسماء الله الحسنى وطائفة عن الشيخ عبد العزيز الديرينى كل من هؤلاء حدثنى عنه من لا اتهمه وحدثنى عن بعضهم عدد كثير كل يحدثنى عمن حدثنى من هؤلاء أنه كان ينكر أمر هذا المشهد ويقول
____________________
(27/485)
إنه كذب وإنه ليس فيه الحسين ولا غيره والذين حدثونى عن إبن القسطلانى ذكروا عنه أنه قال إن فيه نصرانيا بل القرطبى والقسطلانى ذكرا بطلان أمر هذا المشهد فى مصنفاتهما وبينا فيها أنه كذب كما ذكره أبوالخطاب بن دحية
وبن دحية هو الذى بنى له الكامل دار الحديث الكاملية وعنه أخذ أبو عمرو بن الصلاح ونحوه كثيرا مما أخذوه من ضبط الأسماء واللغات وليس الإعتماد فى هذا على واحد بعينه بل هو الإجماع من هؤلاء ومعلوم أنه لم يكن بهذه البلاد من يعتمد عليه فى مثل هذا الباب أعلم ولا أدق من هؤلاء ونحوهم
فإذا كان كل هؤلاء متفقين على أن هذا كذب ومين علم أن الله قد برأ منه الحسين
وحدثنى من حدثنى من الثقات أن من هؤلاء من كان يوصى أصحابه بأن لا يظهروا ذلك عنه خوفا من شر العامة بهذه البلاد لما فيهم من الظلم والفساد إذ كانوا فى الأصل دعاة للقرامطة الباطنيين الذين إستولوا عليها مائتى سنة فزرعوا فيهم من أخلاق الزنادقة المنافقين وأهل الجهل المبتدعين وأهل الكذب الظالمين مالم يمكن أن ينقلع إلا بعد حين فإنه قد فتحها بإزالة ملك العبيديين أهل الإيمان
____________________
(27/486)
والسنة فى الدولة النورية والصلاحية وسكنها من أهل الإسلام والسنة من سكنها وظهرت بها كلمة الإيمان والسنة نوعا من الظهور لكن كان النفاق والبدعة فيها كثيرا مستورا وفى كل وقت يظهر الله فيها من الإيمان والسنة مالم يكن مذكورا ويطغى فيها من النفاق والجهل ما كان مشهورا
والله هو المسئول أن يظهر بسائر البلاد ما يحبه ويرضاه من الهدى والسداد ويعظم على عباده الخير بظهور الإسلام والسنة ويحقق ما وعد به فى القرآن من علو كلمته وظهور اهل الإيمان
وكثير من الناس قد إعتقد وتخلق بعقائد وبأخلاق هي فى الأصل من أخلاق الكفار والمنافقين وإن لم يكن بذلك من العارفين كما أن كثيرا منهم يشارك النصارى فى أعيادهم ويعظم ما يعظمونه من الأمكنة والأزمنة والأعمال وهو قد لا يقصد بذلك تعظيم الكفر بل ولا يعرف إن ذلك من خصائصهم فإذا عرف ذلك إنتهى عنه وتاب منه
وكذلك كثير من الناس تخلق بشيء من أخلاق أهل النفاق وهو لا يعرف أنها من أخلاق المنافقين وإذا عرف ذلك كان إلى الله من التائبين والله يتوب علينا وعليه وعلى جميع المذنبين
____________________
(27/487)
من المؤمنين
وهذا كله كلام فى بطلان دعوى وجود رأس الحسين رضى الله عنه فى القاهرة أو عسقلان وكذبه
ثم نقول سواء كان صحيحا أو كذبا فإن بناء المساجد على القبور ليس من دين المسلمين بل هو منهى عنه بالنصوص الثابتة عن النبى وإتفاق أئمة الدين بل لا يجوز إتخاذ القبور مساجد سواء كان ذلك ببناء المسجد عليها أو بقصد الصلاة عندها بل أئمة الدين متفقون على النهى عن ذلك وأنه ليس لأحد أن يقصد الصلاة عند قبر أحد لا نبى ولا غير نبى وكل من قال إن قصد الصلاة عند قبر أحد أو عند مسجد بنى على قبر أو مشهد أو غير ذلك أمر مشروع بحيث يستحب ذلك ويكون أفضل من الصلاة فى المسجد الذى لا قبر فيه فقد مرق من الدين وخالف إجماع المسلمين والواجب أن يستتاب قائل هذا ومعتقده فإن تاب وإلا قتل
بل ليس لأحد أن يصلى فى المساجد التى بنيت على القبور ولو لم يقصد الصلاة عندها فلا يقبل ذلك لا إتفاقا ولا إبتغاء لما فى ذلك من التشبه بالمشركين والذريعة إلى الشرك ووجوب التنبيه عليه
____________________
(27/488)
وعلى غيره كما قد نص على ذلك أئمة الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم منهم من صرح بالتحريم ومنهم من أطلق الكراهة وليست هذه المسألة عندهم مسألة الصلاة فى المقبرة العامة فإن تلك منهم من يعلل النهى عنها بنجاسة التراب ومنهم من يعلله بالتشبه بالمشركين
وأما المساجد المبنية على القبور فقد نهوا عنه معللين بخوف الفتنة بتعظيم المخلوق كما ذكر ذلك الشافعى وغيره من سائر أئمة المسلمين
وقد نهى النبى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند وجودها فى كبد السماء وقال ( إنه حينئذ يسجد لها الكفار ( فنهى عن ذلك لما فيه من المشابهة لهم وإن لم يقصد المصلى السجود إلا للواحد المعبود
فكيف بالصلاة فى المساجد التى بنيت لتعظيم القبور
وهذه المسألة قد بسطناها فى غير هذا الجواب
وإنما كان المقصود تحقيق مكان رأس الحسين رضى الله عنه وبيان أن الأمكنة المشهورة عند الناس بمصر والشام أنها مشهد الحسين وأن فيها رأسه فهي كذب وإختلاق وإفك وبهتان والله أعلم وكتبه أحمد بن تيمية
____________________
(27/489)
وسئل رحمه الله أيضا (
عن الزيارة إلى قبر الحسين وإلى السيدة نفيسة والصلاة عند الضريح وإذا قال إن السيدة نفيسة تخلص المحبوس وتجير الخائف وباب الحوائج إلى الله هذا جائز أم لا
فأجاب أما الحسين فلم يحمل رأسه إلى مصر بإتفاق العلماء وكذلك لم يحمل إلى الشام ومن قال إن ميتا من الموتى نفيسة أو غيرها تجير الخائف وتخلص المحبوس وهى باب الحوائج فهو ضال مشرك فإن الله سبحانه هو الذى يجير ولا يجار عليه وباب الحوائج إلى الله هو دعاؤه بصدق وإخلاص كما قال تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } والله أعلم
____________________
(27/490)
وقال رحمه الله
وأما بنت يزيد بن السكن ( فهذه توفيت بالشام فهذه قبرها محتمل وأما ( قبر بلال ( فممكن فإنه دفن بباب الصغير بدمشق فيعلم أنه دفن هناك وأما القطع بتعيين قبره ففيه نظر فإنه يقال إن تلك القبور حرثت ومنها القبر المضاف إلى ( اويس القرنى ( غربى دمشق فإن أويسا لم يجيء إلى الشام وإنما ذهب إلى العراق
ومنها القبر المضاف إلى ( هود عليه السلام ( بجامع دمشق كذب بإتفاق أهل العلم فإن هودا لم يجيء إلى الشام بل بعث باليمن وهاجر إلى مكة فقيل إنه مات باليمن وقيل إنه مات بمكة وإنما ذلك تلقاء ( قبر معاوية بن ابى سفيان ( وأما الذى خارج باب الصغير الذى يقال أنه قبر معاوية فإنما هو معاوية بن يزيد بن معاوية الذى تولى الخلافة مدة قصيرة ثم مات ولم يعهد إلى احد وكان فيه دين وصلاح
____________________
(27/491)
ومنها ( قبر خالد ( بحمص يقال أنه قبر خالد بن يزيد بن معاوية أخو معاوية هذا ولكن لما إشتهر أنه خالد والمشهور عند العامة خالد بن الوليد ظنوا أنه خالد بن الوليد وقد إختلف فى ذلك هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد وذكر أبو عمر بن عبدالبر فى ( الإستيعاب ( أن خالد بن الوليد توفى بحمص وقيل بالمدينة سنة إحدى وعشرين أو اثنين وعشرين فى خلافة عمر بن الخطاب وأوصى إلى عمر والله أعلم
ومنها ( قبر أبى مسلم الخولانى ( الذى بداريا إختلف فيه ومنها ( قبر على بن الحسين ( الذى بمصر فإنه كذب قطعا فإن على بن الحسين توفى بالمدينة بإجماع الناس ودفن بالبقيع ومنها ( مشهد الرأس ( الذى بالقاهرة فإن المصنفين فى قتل الحسين اتفقوا على أن الرأس ليس بمصر ويعلمون أن هذا كذب وأصله انه نقل من مشهد بعسقلان وذاك المشهد بنى قبل هذا بنحو من ستين سنة فى أواخر المائة الخامسة وهذا بنى فى أثناء المائة السادسة بعد مقتل الحسين بنحو من خمسمائة عام والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو ثلاثمائة عام قد بين كذب هذا المشهد بن دحية فى ( العلم المشهور ( وأن الرأس دفن بالمدينة كما ذكره الزبير بن بكار والذى صح من أمر حمل الرأس ما ذكره البخارى فى صحيحه أنه حمل إلى عبيد الله بن زياد وجعل
____________________
(27/492)
ينكت بالقضيب على ثناياه وقد شهد ذلك انس بن مالك وفى رواية أبي برزة الأسلمى وكلاهما كان بالعراق وقد ورد بإسناد منقطع أو مجهول أنه حمل إلى يزيد وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه وإن أبا برزة كان حاضرا وأنكر هذا وهذا كذب فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد وإنما كان بالعراق
وأما ( بدن الحسين ( فبكربلاء بالإتفاق قال أبوالعباس وقد حدثنى الثقات طائفة عن بن دقيق العيد وطائفة عن أبى محمد عبدالمؤمن بن خلف الدمياطى وطائفة عن أبى بكر محمد بن أحمد بن القسطلانى وطائفة عن أبى عبد الله القرطبى صاحب التفسير كل هؤلاء حدثنى عنه من لا أتهمه وحدثنى عن بعضهم عدد كثير كل حدثنى عمن حدثه من هؤلاء أنه كان ينكر أمر هذا المشهد ويقول أنه كذب وأنه ليس فيه قبر الحسين ولا شيء منه والذين حدثونى عن إبن القسطلانى ذكروا عنه انه قال إنما فيه نصرانى
ومنها ( قبر على رضى الله عنه الذى بباطن النجف فإن المعروف عند أهل العلم أن عليا دفن بقصر الإمارة بالكوفة كما دفن معاوية بقصر الإمارة من الشام ودفن عمرو بقصر الإمارة خوفا عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم ولكن قيل أن الذى بالنجف قبر المغيرة
____________________
(27/493)
بن شعبة ولم يكن أحد يذكر أنه قبر على ولا يقصده أحد أكثر من ثلاثمائة سنة ومنها ( قبر عبد الله بن عمر ( فى الجزيرة والناس متفقون على أن عبد الله بن عمر مات بمكة عام قتل بن الزبير وأوصى أن يدفن بالحل لكونه من المهاجرين فشق ذلك عليهم فدفنوه بأعلى مكة ومنها ( قبر جابر ( الذى بظاهر حران والناس متفقون على أن جابرا توفى بالمدينة النبوية وهو آخر من مات من الصحابة بها ومنها قبر ينسب إلى ( أم كلثوم ( و ( رقية ( بالشام وقد إتفق الناس على أنهما ماتتا فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة تحت عثمان وهذا إنما هو سبب إشتراك الأسماء لعل شخصا يسمى باسم من ذكر توفى ودفن فى موضع من المواضع المذكورة فظن بعض الجهال أنه أحد من الصحابة
____________________
(27/494)
وسئل رحمه الله
عن أناس ساكنين بالقاهرة ثم أنهم يأخذون أضحيتهم فيذبحونها بالقرافة
فأجاب لا يشرع لأحد أن يذبح الأضحية ولا غيرها عند القبور بل ولا يشرع شيء من العبادات الأصلية كالصلاة والصيام والصدقة عند القبور فمن ظن أن التضحية عند القبور مستحبة وأنها أفضل فهو جاهل ضال مخالف لإجماع المسلمين بل قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقر عند القبر كما كان يفعل بعض أهل الجاهلية إذا مات لهم كبير ذبحوا عند قبره والنبى نهى أن تتخذ القبور مساجد فلعن الذين يفعلون ذلك تحذيرا لأمته أن تتشبه بالمشركين الذين يعظمون القبور حتى عبدوهم فكيف يتخذ القبر منسكا يقصد النسك فيه فإن هذا أيضا من التشبه بالمشركين وقد قال الخليل صلاة الله وسلامه عليه ( إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين (
فيجب الإخلاص والصلاة والنسك لله وإن لم يقصد العبد الذبح
____________________
(27/495)
عند القبر لكن الشريعة سدت الذريعة كما نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لأنه حينئذ يسجد لها الكفار وإن كان المصلى لله لم يقصد ذلك وكذلك إتخاذ القبور مساجد قد نهى عنها وإن كان المصلى لا يصلى إلا لله وقال ( ليس منا من تشبه بغيرنا ( وقال ( من تشبه بقوم فهو منهم ( والله أعلم
وسئل
عن رجل غدا إلى ( التكرورى ( يتفرج فغرق هل هو عاص أم شهيد
فأجاب ( أن قصد الذهاب إلى هذا القبر للصلاة عنده والدعاء به والتمسح بالقبر وتقبيله ونحو ذلك مما نهى عنه أو أن يعمل بشيء نهى الله عنه من الفواحش والخمر والزمر أو التفرج على هؤلاء ورؤية أهل المعاصى من غير إنكار فهم عصاة لله فى هذا السفر وأمرهم إلى الله تعالى ويرجى لهم بالغرق رحمة الله والله أعلم
____________________
(27/496)
وسئل رحمه الله
هل فى هذه الأمة أقوام صالحون غيبهم الله عن الناس لا يراهم إلا من أرادوا ولو كانوا بين الناس فهم محجوبون بحالهم وهل فى جبل لبنان أربعين رجلا غائبين عن أعين الناظرين كلما مات منهم واحد أخذوا من الناس واحدا غيره يغيب معهم كما يغيبون وكل أولئك تطوى بهم الأرض ويحجون ويسافرون ما مسيرته شهرا أو سنة فى ساعة ومنهم قوم يطيرون كالطيور ويتحدثون عن المغيبات قبل أن تأتى ويأكلون العظام والطين ويجدونه طعاما وحلاوة وغير ذلك
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما وجود أقوام يحتجبون عن الناس دائما فهذا باطل لم يكن لأحد من الأنبياء ولا الأولياء ولا السحرة ولكن قد يحتجب الرجل بعض الأوقات عن بعض الناس أما كرامة لولى وإما على سبيل السحر فإن هذه الأحوال منها ما هو حال رحمانى وهو كرامات أولياء الله المتبعين للكتاب والسنة وهم المؤمنون المتقون ومنه ما هو حال نفسانى أو شيطانى كما يحصل لبعض
____________________
(27/497)
الكفار إن يكاشف أحيانا وكما يحصل لبعض الكهان أن تخبره الشياطين بأشياء وأحوال أهل البدع هي من هذا الباب
ومن هؤلاء من تحمله الشياطين فتطير به فى الهواء ومنهم من يرقص فى الهواء ومنهم من يلبسه الشيطان فلا يحس بالضرب ولا بالنار إذا ألقى فيها لكنها لا تكون عليه بردا أو سلاما فإن ذلك لا يكون إلا لأهل الأحوال الرحمانية وأهل الإشارات التى هي فسادات من اللاذن والزعفران وماء الورد وغير ذلك هم من هؤلاء فجمهورهم أرباب محال بهتانى وخواصهم لهم حال شيطانى وليس فيهم ولى لله بل هم من إخوان الشياطين من جنس التتر
وليس فى جبل لبنان ولا غيره أربعون رجلا يقيمون هناك ولا هناك من يغيب عن أبصار الناس دائما والحديث المروى فى أن الأبدال أربعون رجلا حديث ضعيف فإن أولياء الله المتقين يزيدون وينقصون بحسب كثرة الإيمان والتقوى وبحسب قلة ذلك كانوا فى أول الإسلام أقل من أربعين فلما إنتشر الإسلام كانوا أكثر من ذلك
وأما قطع المسافة البعيدة فهذا يكون لبعض الصالحين ويكون لبعض إخوان الشياطين وليس هذا من أعظم الكرامات بل الذى
____________________
(27/498)
يحج مع المسلمين أعظم ممن يحج فى الهواء ولهذا إجتمع الشيخ إبراهيم الجعبرى ببعض من كان يحج فى الهواء فطلبوا منه أن يحج معهم فقال هذا الحج لا يجزى عنكم حتى تحجوا كما يحج المسلمون وكما حج رسول الله وأصحابه فوافقوه على ذلك وقالوا بعد قضاء الحج ما حججنا حجة أبرك من هذه الحجة ذقنا فيها طعم عبادة الله وطاعته وهذا يكون بعض الأوقات ليس هذا للإنسان كلما طلبه
وكذلك المكاشفات تقع بعض الأحيان من اولياء الله واحيانا من إخوان الشياطين
وهؤلاء الذين أحوالهم شيطانية قد ياكل أحدهم المآكل الخبيثة حتى يأكل العذرة وغيرها من الخبائث بالحال الشيطانى وهم مذمومون على هذا فإن أولياء الله هم الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فمن أكل الخبائث كانت أحواله شيطانية فإن الأحوال نتائج الأعمال فالأكل من الطيبات والعمل الصالح يورث الأحوال الرحمانية من المكاشفات والتأثيرات التى يحبها الله ورسوله وأكل الخبائث وعمل المنكرات يورث الأحوال الشيطانية التى يبغضها الله ورسوله وخفراء التتر هم من هؤلاء
____________________
(27/499)
وإذا إجتمعوا مع من له حال رحمانى بطلت أحوالهم وهربت شياطينهم وإنما يظهرون عند الكفار والجهال كما يظهر أهل الإشارات عند التتر والأعراب والفلاحين ونحوهم من الجهال الذين لا يعرفون الكتاب والسنة وأما إذا ظهر المحمديون أهل الكتاب والسنة فإن حال هؤلاء يبطل والله أعلم
ما قول أئمة الدين
فى تعبد النبى ما هو وكيف كان قبل مبعثه أفتونا مأجورين (
فأجاب ( الحمد لله هذه المسألة مما لا يحتاج إليها فى شريعتنا فإنما علينا أن نطيع الرسول فيما أمرنا به ونقتدى به بعد إرساله إلينا وأما ما كان قبل ذلك مثل تحنثه بغار حراء وأمثال ذلك فهذا ليس سنة مسنونة للأمة فلهذا لم يكن أحد من الصحابة بعد الإسلام يذهب إلى غار حراء ولا يتحرى مثل ذلك فإنه لا يشرع لنا بعد الإسلام أن نقصد غيران الجبال ولا نتخلى فيها بل يسن لنا العكوف بالمساجد سنة مسنونة لنا
وأما قصد التخلى فى كهوف الجبال وغيرانها والسفر إلى الجبل
____________________
(27/500)
للبركة مثل جبل الطور وجبل حراء وجبل يثرب أو نحو ذلك فهذا ليس بمشروع لنا بل قد قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ( وقد كان قبل البعثة يحج ويتصدق ويحمل الكل ويقرى الضيف ويعين على نوائب الحق ولم يكن على دين قومه المشركين صلى الله عليه وعلى أصحابه وسلم تسليما كثيرا
____________________
(27/501)
وقال فصل
وأما قصد الصلاة والدعاء والعبادة فى مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة بل روى أنهم مروا به ونزلوا فيه أو سكنوه فهذا كما تقدم لم يكن إبن عمر ولا غيره يفعله فإنه ليس فيه متابعتهم لا فى عمل عملوه ولا قصد قصدوه ومعلوم أن الأمكنة التى كان النبى يحل فيها أما فى سفره وأما فى مقامه مثل طرقه فى حجه وغزواته ومنازله فى أسفاره ومثل بيوته التى كان يسكنها والبيوت التى كان يأتى إليها أحيانا من فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك (
فهذه نصوصه الصريحة توجب تحريم إتخاذ قبورهم مساجد مع أنهم مدفونون فيها وهم أحياء فى قبورهم ويستحب إتيان قبورهم للسلام عليهم ومع هذا يحرم إتيانها للصلاة عندها وإتخاذها مساجد
ومعلوم أن هذا إنما نهى عنه لأنه ذريعة إلى الشرك واراد أن
____________________
(27/502)
تكون المساجد خالصة لله تعالى تبنى لأجل عبادته فقط لا يشركه فى ذلك مخلوق فإذا بنى المسجد لأجل ميت كان حراما فكذلك إذا كان لأثر آخر فإن الشرك فى الموضعين حاصل
ولهذا كانت النصارى يبنون الكنائس على قبر النبى والرجل الصالح وعلى أثره وباسمه وهذا الذى خاف عمر رضى الله عنه أن يقع فيه المسلمون وهو الذى قصد النبى منع أمته منه كما قال الله تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } وقال تعالى { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين }
ولو كان هذا مستحبا لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا فى جميع حجر أزواجه وفى كل مكان نزل فيه فى غزواته أو أسفاره ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد ولم يفعل السلف شيئا من ذلك
ولم يشرع الله تعالى للمسلمين مكانا يقصد للصلاة إلا المسجد ولا مكانا يقصد للعبادة إلا المشاعر فمشاعر الحج كعرفة ومزدلفة ومنى
____________________
(27/503)
تقصد بالذكر والدعاء والتكبير لا الصلاة بخلاف المساجد فإنها هي التى تقصد للصلاة وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجد والمشاعر وفيها الصلاة والنسك قال تعالى { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت } وما سوى ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة ولا الدعاء ولا الذكر إذ لم يأت فى شرع الله ورسوله قصدها لذلك وإن كان مسكنا لنبى أو منزلا أو ممرا
فإن الدين أصله متابعة النبى وموافقته بفعل ما أمرنا به وشرعه لنا وسنه لنا ونقتدى به فى أفعاله التى شرع لنا الإقتداء به فيها بخلاف ما كان من خصائصه
فأما الفعل الذى لم يشرعه هو لنا ولا أمرنا به ولا فعله فعلا سن لنا أن نتأسى به فيه فهذا ليس من العبادات والقرب فإتخاذ هذا قربة مخالفة له وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحا كما فعله مباحا ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة فيه قولان كما تقدم وأكثر السلف والعلماء على أنا لا نجعله عبادة وقربة بل نتبعه فيه فإن فعله مباحا فعلناه مباحا وإن فعله قربة فعلناه قربة ومن جعله عبادة رأى أن ذلك من تمام التأسى به والتشبه به ورأى أن فى ذلك بركة لكونه مختصا به نوع إختصاص
____________________
(27/504)
وقال رحمه الله فصل
ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء وهى أحد ما اعتمدته فى تحضيضي المسلمين على غزو التتار وأمرى لهم بلزوم دمشق ونهيى لهم عن الفرار إلى مصر وإستدعائى العسكر المصرى إلى الشام وتثبيت الشامى فيه وقد جرت فى ذلك فصول متعددة وهذه المناقب أمور
أحدها البركة فيه ثبت ذلك بخمس آيات من كتاب الله تعالى قوله تعالى فى قصة موسى { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم } إلى قوله { فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } ومعلوم أن بني
____________________
(27/505)
إسرائيل إنما أورثوا مشارق أرض الشام ومغاربها بعد أن أغرق فرعون فى اليم
وقوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } وحوله ( أرض الشام وقوله تعالى فى قصة إبراهيم { وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } ومعلوم أن إبراهيم إنما نجاه الله ولوطا إلى أرض الشام من أرض الجزيرة والفرات وقوله تعالى { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } وإنما كانت تجرى إلى أرض الشام التى فيها مملكة سليمان وقوله تعالى فى قصة سبأ { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير } وهما كانا بين اليمن مساكن سبأ وبين منتهى الشام من العمارة القديمة كما قد ذكره العلماء
فهذه خمس نصوص حيث ذكر الله أرض الشام فى هجرة إبراهيم إليها ومسرى الرسول إليها وإنتقال بنى إسرائيل إليها ومملكة سليمان بها ومسير سبأ إليها وصفها بأنها الأرض التى باركنا فيها
وأيضا ففيها الطور الذى كلم الله عليه موسى والذى أقسم الله به فى ( سورة الطور ( وفى { والتين والزيتون وطور سينين } وفيها
____________________
(27/506)
المسجد الأقصى وفيها مبعث أنبياء بنى إسرائيل وإليها هجرة إبراهيم وإليها مسرى نبينا ومنها معراجه وبها ملكه وعمود دينه وكتابه وطائفة منصورة من أمته وإليها المحشر والمعاد كما أن من مكة المبدأ فمكة أم القرى من تحتها دحيت الأرض والشام إليها يحشر الناس كما فى قوله ( لأول الحشر ( نبه على الحشر الثانى فمكة مبدأ وإيليا معاد فى الخلق وكذلك فى الأمر فإنه أسرى بالرسول من مكة إلى إيليا ومبعثه ومخرج دينه من مكة وكمال دينه وظهوره وتمامه حتى مملكة المهدى بالشام فمكة هي الأول والشام هي الآخر فى الخلق والأمر فى الكلمات الكونية والدينية
ومن ذلك أن بها طائفة منصورة إلى قيام الساعة التى ثبت فيها الحديث فى الصحاح من حديث معاوية وغيره ( لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ( وفيهما عن معاذ بن جبل قال ( وهم فى الشام ( وفى تاريخ البخارى مرفوعا قال ( وهم بدمشق ( وفى صحيح مسلم عن النبى أنه قال ( لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة ( قال أحمد بن حنبل أهل المغرب هم أهل الشام وهم كما قال لوجهين
أحدهما أن فى سائر الحديث بيان أنهم أهل الشام
____________________
(27/507)
الثانى أن لغة النبى صلى الله عليه وسلم وأهل مدينته فى ( أهل المغرب ( هم أهل الشام ومن يغرب عنهم كما أن لغتهم فى أهل المشرق هم أهل نجد والعراق فإن التغريب والتشريق من الأمور النسبية فكل بلد له غرب قد يكون شرقا لغيره وله شرق قد يكون غربا لغيره فالإعتبار فى كلام النبى صلى الله عليه وسلم بما كان غربا وشرقا له حيث تكلم بهذا الحديث وهى المدينة
ومن علم حساب الأرض كطولها وعرضها علم أن حران والرقة وسيمسياط على سمت مكة وأن الفرات وما على جانبيها بل أكثره على سمت المدينة بينهما فى الطول درجتين فما كان غربى الفرات فهو غربى المدينة وما كان شرقيها فهو شرقى المدينة
فأخبر أن أهل الغرب لا يزالون ظاهرين وأما أهل الشرق فقد يظهرون تارة ويغلبون أخرى وهكذا هو الواقع فإن جيش الشام ما زال منصورا وكان أهل المدينة يسمون ( الأوزاعى ( إمام أهل المغرب ويسمون ( الثورى ( شرقيا ومن أهل المشرق
ومن ذلك انها خيرة الله من الأرض أن أهلها خيرة الله وخيار أهل ألأرض وإستدل أبوداود فى سننه على ذلك بحديثين حديث عبد الله بن خوالة الأزدى عن النبى صلى الله عليه وسلم ( قال ستجندون
____________________
(27/508)
أجنادا جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق فقال الخوالى يا رسول الله إختر لى قال عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبى إليها خيرته من عباده فمن ابى فليلحق بيمنه وليتق من غدره فإن الله قد تكفل لى بالشام وأهله ( وكان الخوالى يقول ومن تكفل الله به فلا ضعية عليه ففى هذا الحديث مناقب أنها خيرة
وحديث عبد الله بن عمرو عن النبى قال ( ستكون هجرة بعد هجرة ( فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى فى الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الرحمن تحشرهم النار مع القردة والخنازير تبيت معهم حيث ما باتوا وتقيل معهم حيث ما قالوا ) فقد أخبر أن خير أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم بخلاف من يأتى إليه أو يذهب عنه ومهاجر إبراهيم هي الشام وفى هذا الحديث بشرى لأصحابنا الذين هاجروا من حران وغيرها إلى مهاجر إبراهيم وإتبعوا ملة إبراهيم ودين نبيهم محمد تسليما وبيان أن هذه الهجرة التى لهم بعد هجرة أصحاب رسول الله إلى المدينة لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره وقد جعل مهاجر إبراهيم يعدل لنا مهاجر نبينا فإن الهجرة إلى مهاجره إنقطعت بفتح مكة
ومن ذلك أمر النبى بها فى حديث الترمذى
____________________
(27/509)
ومن ذلك إن الله قد تكفل بالشام واهله كما فى حديث الخوالى ومن ذلك ( إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام ( كما فى الصحيح من حديث عبد الله بن عمر ومن ذلك أن عمود الكتاب والإسلام بالشام كما قال النبى ( رأيت كأن عمود الكتاب أخذ من تحت رأسى فأتبعته بصرى فذهب به إلى الشام ( ومن ذلك أنها عقر دار المؤمنين كما قال النبى ( وعقر دار المؤمنين الشام (
ومن ذلك أن منافقيها لا يغلبوا أمر مؤمنيها كما رواه أحمد فى المسند فى حديث وبهذا إستدللت لقوم من قضاة القضاة وغيرهم فى فتن قام فيها علينا قوم من أهل الفجور والبدع الموصوفين بخصال المنافقين لما خوفونا منهم فأخبرتهم بهذا الحديث وإن منافقينا لا يغلبوا مؤمنينا
وقد ظهر مصداق هذه النصوص النبوية على أكمل الوجوه فى جهادنا للتتار وأظهر الله للمسلمين صدق ما وعدناهم به وبركة ما أمرناهم به وكان ذلك فتحا عظيما ما رأى المسلمون مثله منذ خرجت مملكة التتار التى أذلت أهل الإسلام فإنهم لم يهزموا ويغلبوا كما غلبوا
____________________
(27/510)
على ( باب دمشق ( فى الغزوة الكبرى التى أنعم الله علينا فيها من النعم بما لا نحصيه خصوصا وعموما والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضاه وكما ينبغى لكرم وجهه وعز جلاله
____________________
(27/511)
بسم الله الرحمن الرحيم سئل شيخ الاسلام احمد بن تيمية قدس الله روحه
عن الحديث وهو ( حرس ليلة على ساحل البحر أفضل من عمل رجل فى أهله الف سنة ( وعن سكنى مكة والبيت المقدس والمدينة المنورة على نية العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والسكنى بدمياط واسكندرية وطرابلس على نية الرباط أيهم أفضل
فأجاب الحمد لله بل المقام فى ثغور المسلمين كالثغور الشامية والمصرية أفضل من المجاورة فى المساجد الثلاثة وما أعلم فى هذا نزاعا بين أهل العلم وقد نص على ذلك غير واحد من الائمة وذلك لأن الرباط من جنس الجهاد والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج كما قال تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله }
وفى الصحيحين عن النبى أنه سئل أي
____________________
(28/5)
الاعمال أفضل قال ( ايمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال ثم جهاد فى سبيله قيل ثم ماذا قال ثم حج مبرور ( وقد روى ( غزوة فى سبيل الله أفضل من سبعين حجة ( وقد روى مسلم فى صحيحه عن سلمان الفارسى ان النبى صلى الله عليه وسلم قال ( رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا مات مجاهدا وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان ( وفى السنن عن عثمان عن النبى انه قال ( رباط يوم فى سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل ( وهذا قاله عثمان على منبر رسول الله وذكر انه قال لهم ذلك تبليغا للسنة
وقال ابو هريرة لأن ارابط ليلة فى سبيل الله احب إلى من ان أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود
وفضائل الرباط والحرس فى سبيل الله كثيرة لا تسعها هذه الورقة والله أعلم
____________________
(28/6)
المسؤول من السادة العلماء القادة الفضلاء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين أن يخبرونا بفضائل الرمى وتعليمه وما ورد فيمن تركه بعد تعلمه وايما افضل الرمي بالقوس او الطعن بالرمح او الضرب بالسيف وهل لكل واحد منهم علم يختص به ومحل يليق به واذا علم رجل رجلا الرمى او الطعن وغيرهما من آلات الحرب والجهاد فى سبيل الله تعالى وجحد تعليمه وانتقل إلى غيره وانتمى إليه هل يأثم بذلك ام
لا واذا قال قائل لهذا المنتقل انت مهدور او تقتل أثم بذلك ام لا وان زاد فقال له انت لقيط او ولد زنا يعد قذفا ويحد بذلك ام لا
وهل يحل للاستاذ الثانى ان يقبل هذا المنتقل ويعزره على جحده لمعلمه واذا قال المنتقل انا انتمي إلى فلان تعليما وتخريجا والى فلان افادة وتفهيما هل يسوغ له ذلك ام لا وهل للمبتدئ ان
____________________
(28/7)
يقوم فى وسط جماعة من الاستاذين والمتعلمين ويقول يا جماعة الخير اسال الله تعالى واسالكم ان تسألوا فلانا ان يقبلنى ان اكون له أخا او رفيقا او غلاما او تلميذا او ما اشبه ذلك فيقوم احد الجماعة فيأخذ عليه العهد ويشترط عليه ما يريده ويشد وسطه بمنديل او غيره فهل يسوغ هذا الفعل ام لا لما يترتب عليه من المحاماة والعصبية لأستاذ بحيث يصير لكل من الاستاذين اخوان ورفقاء واحزاب وتلامذة يقومون معه اذا قام بحق او باطل ويعادون من عاداه ويوالون من والاه
وهل اذا اجتمعوا للرمي على رهن هل يحل ام لا وهل يقدح فى عدالة الاستاذ اذا فعل التلامذة مالا يحل فى الدين ويقرهم على ذلك وهل اذا شد المعلم للتلميذ وحصل بذلك هبة وكرامة وجميع ذلك في العرف يرجع إلى الاستاذ يحل له تناوله ام لا وهل للاستاذ ان يقبل اجرة او هبة او هدية فان المعلم تلحقه كلفة من آلات وغيرها
افتونا مأجورين وارشدونا رضى الله عنكم أجمعين فأجاب شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رضى الله عنه الحمد لله رب العالمين الرمى فى سبيل الله والطعن فى سبيل
____________________
(28/8)
الله والضرب فى سبيل الله كل ذلك مما أمر الله تعالى به ورسوله وقد ذكر الله تعالى الثلاثة فقال تعالى { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } وقال تعالى { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } وقال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم } وقد ثبت فى صحيح مسلم وغيره عن النبى أنه قرأ على المنبر هذه الآية فقال ( ألا إن القوة الرمى ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمى (
وثبت عنه فى الصحيح انه قال ( ارموا واركبوا وان ترموا احب إلى من ان تركبوا ومن تعلم الرمى ثم نسيه فليس منا ( وفى رواية ( ومن تعلم الرمى ثم نسيه فهي نعمة جحدها ( وفى السنن عنه انه قال ( كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق ( وقال ( ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه (
وقال مكحول كتب عمر بن الخطاب إلى الشام ان علموا
____________________
(28/9)
أولادكم الرمى والفروسية
وفى صحيح البخارى عنه انه قال ( ارموا بنى إسماعيل فان أباكم كان راميا ( ومر على نفر من اسلم ينتضلون فقال ( ارموا بنى إسماعيل فان أباكم كان راميا ارموا وانا مع بنى فلان ( فأمسك احد الفريقين بأيديهم فقال مالكم لا ترمون قالوا كيف نرمى وانت معهم فقال ( ارموا وانا معكم كلكم (
وقال سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه نثل لى رسول الله يعنى نفض كنانته يوم احد وقال ( ارم فداك ابى وأمى ( وقال على بن ابى طالب ما رأيت رسول الله جمع ابويه لأحد إلا لسعد قال له ( ارم سعد فداك ابى وأمي (
وقال أنس بن مالك قال رسول الله ( لصوت ابى طلحة فى الجيش خير من مائة ( وكان اذا كان فى الجيش جثا بين يديه ونثر كنانته فقال نفسى لنفسك الفداء ووجهى لوجهك الوقاء وكان النبى له السيف والقوس والرمح وفى السنن عنه انه قال
____________________
(28/10)
( من رمى بسهم فى سبيل الله بلغ العدو أو لم يبلغه كانت له عدل رقبة (
وفى السنن عنه أنه قال ( ان الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه يحتسب فى صنعته الخير والرامى به والممد به ( وهذا لأن هذه الأعمال هي اعمال الجهاد والجهاد أفضل ما تطوع به الانسان وتطوعه أفضل من تطوع الحج وغيره كما قال تعالى ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد فى سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم (
وفى الصحيح ان رجلا قال لا أبالى ان لا أعمل عملا بعد الاسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام فقال على بن ابى طالب الجهاد فى سبيل الله أفضل من هذا كله فقال عمر بن الخطاب لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ولكن اذا قضيت الصلاة سالته عن ذلك فسأله فأنزل الله هذه الآية فبين لهم ان الايمان والجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام والحج والعمرة والطواف ومن
____________________
(28/11)
الاحسان إلى الحجاج بالسقاية ولهذا قال أبو هريرة رضى الله عنه لأن أرابط ليلة فى سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود
ولهذا كان الرباط فى الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة والعمل بالرمح والقوس فى الثغور افضل من صلاة التطوع وأما فى الأمصار البعيدة من العدو فهو نظير صلاة التطوع
وفى الصحيحين عن النبى انه قال ( إن فى الجنة مائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين فى سبيله (
وهذه الأعمال كل منها له محل يليق به هو أفضل فيه من غيره فالسيف عند مواصلة العدو والطعن عند مقاربته والرمى عند بعده او عند الحائل كالنهر والحصن ونحو ذلك فكلما كان انكى فى العدو وأنفع للمسلمين فهو أفضل وهذا يختلف باختلاف أحوال العدو وباختلاف حال المجاهدين فى العدو ومنه ما يكون الرمى فيه أنفع ومنه ما يكون الطعن فيه أنفع وهذا مما يعلمه المقاتلون
____________________
(28/12)
فصل
وتعلم هذه الصناعات هو من الأعمال الصالحة لمن يبتغى بذلك وجه الله عز وجل فمن علم غيره ذلك كان شريكه فى كل جهاد يجاهد به لا ينقص أحدهما من الأجر شيئا كالذى يقرأ القرآن ويعلم العلم وعلى المتعلم ان يحسن نيته فى ذلك ويقصد به وجه الله تعالى وعلى المعلم ان ينصح للمتعلم ويجتهد فى تعليمه وعلى المتعلم ان يعرف حرمة أستاذه ويشكر إحسانه إليه فانه من لايشكر الناس لا يشكر الله ولا يجحد حقه ولا ينكر معروفه
وعلى المعلمين ان يكونوا متعاونين على البر والتقوى كما أمر النبى بقوله ( المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه ( وقوله ( مثل المؤمنين فى توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ( وقوله ( والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه ( وقوله ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه ( وقال صلى الله عليه وسلم ( لا تحاسدوا
____________________
(28/13)
ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ( وهذا كله فى الصحيح
وفى السنن عنه أنه قال ( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر قالوا بلى يا رسول الله قال صلاح ذات البين فان فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين (
وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال ( تفتح أبواب الجنة كل يوم اثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا (
وقال ( لا يحل لمسلم ان يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام (
وليس لأحد من المعلمين ان يعتدى على الآخر ولا يؤذيه بقول ولا فعل بغير حق فان الله تعالى يقول { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } وليس لأحد ان يعاقب أحدا على غير ظلم ولاتعدى حد ولا تضييع حق بل لأجل هواه فان هذا من الظلم الذى حرم الله ورسوله فقد قال تعالى فيما روى
____________________
(28/14)
عنه نبيه ( يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (
وإذا جنى شخص فلا يجوز ان يعاقب بغير العقوبة الشرعية وليس لأحد من المتعلمين والأستاذين ان يعاقبه بما يشاء وليس لأحد ان يعاونه ولا يوافقه على ذلك مثل ان يأمر بهجر شخص فيهجره بغير ذنب شرعى او يقول اقعدته او اهدرته او نحو ذلك فان هذا من جنس ما يفعله القساقسة والرهبان مع النصارى والحزابون مع اليهود ومن جنس ما يفعله أئمة الضلالة والغواية مع أتباعهم
وقد قال الصديق الذى هو خليفة رسول الله فى أمته أطيعونى ما أطعت الله فان عصيت الله فلا طاعة لى عليكم وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ( وقال ( من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه ( فاذا كان المعلم او الاستاذ قد أمر بهجر شخص او باهداره واسقاطه وابعاده ونحو ذلك نظر فيه فان كان قد فعل ذنبا شرعيا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة وان لم يكن أذنب ذنبا شرعيا لم يجز ان يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم او غيره
وليس للمعلمين ان يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقى بينهم العداوة
____________________
(28/15)
والبغضاء بل يكونون مثل الأخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }
وليس لأحد منهم ان يأخذ على أحد عهدا بموا فقتة على كل ما يريده وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه بل من فعل هذا كان من جنس جنكيزخان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا مواليا ومن خالفهم عدوا باغيا بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله فان كان أستاذ أحد مظلوما نصره وإن كان ظالما لم يعاونه على الظلم بل يمنعه منه كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( انصر أخاك ظالما او مظلوما ( قيل يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف انصره ظالما قال ( تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه (
واذا وقع بين معلم ومعلم او تلميذ وتلميذ او معلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد ان يعين أحدهما حتى يعلم الحق فلا يعاونه بجهل ولا بهوى بل ينظر فى الأمر فاذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل سواء كان المحق من أصحابه او أصحاب غيره وسواء كان المبطل من أصحابه او أصحاب غيره فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله واتباع الحق والقيام بالقسط قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا }
____________________
(28/16)
يقال لوى يلوي لسانه فيخبر بالكذب والاعراض ان يكتم الحق فان الساكت عن الحق شيطان أخرس
ومن مال مع صاحبه سواء كان الحق له او عليه فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله والواجب على جميعهم ان يكونوا يدا واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء فانه من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فانه لا يضر إلا نفسه فهذا هو الأصل الذى عليهم اعتماده وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم فان الله تعالى يقول { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقال تعالى { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } واذا كان الرجل قد علمه استاذ عرف قدر إحسانه إليه وشكره
ولا يشد وسطه لا لمعلمه ولا لغير معلمه فان شد الوسط لشخص
____________________
(28/17)
معين وانتسابه إليه كما ذكر فى السؤال من بدع الجاهلية ومن جنس التحالف الذى كان المشركون يفعلونه ومن جنس تفرق قيس ويمن فان كان المقصود بهذا الشد والانتماء التعاون على البر والتقوى فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره بدون هذا الشد وإن كان المقصود به التعاون على الاثم والعدوان فهذا قد حرمه الله ورسوله فما قصد بهذا من خير ففى أمر الله ورسوله بكل معروف استغناء عن أمر المعلمين وما قصد بهذا من شر فقد حرمه الله ورسوله
فليس لمعلم ان يحالف تلامذته على هذا ولا لغير المعلم ان يأخذ أحدا من تلامذته لينسبوا إليه على الوجه البدعى لا ابتداء ولا إفادة وليس له أن يجحد حق الأول عليه وليس للأول أن يمنع أحدا من إفادة التعلم من غيره وليس للثانى ان يقول شد لى وانتسب لى دون معلمك الأول بل إن تعلم من اثنين فانه يراعى حق كل منهما ولا يتعصب لا للأول ولا للثانى واذا كان تعليم الأول له اكثر كانت رعايته لحقه اكثر
واذا اجتمعوا على طاعة الله ورسوله وتعاونوا على البر والتقوى لم يكن احد مع أحد فى كل شيء بل يكون كل شخص مع كل شخص فى طاعة الله ورسوله ولا يكونون مع احد فى معصية الله ورسوله بل يتعاونون على الصدق والعدل والاحسان والأمر بالمعروف والنهى عن
____________________
(28/18)
المنكر ونصر المظلوم وكل ما يحبه الله ورسوله ولا يتعاونون لا على ظلم ولا عصبية جاهلية ولا اتباع الهوى بدون هدى من الله ولا تفرق ولا اختلاف ولا شد وسط لشخص ليتابعه فى كل شيء ولا يحالفه على غير ما أمر الله به ورسوله
وحينئذ فلا ينتقل أحد عن أحد إلى أحد ولا ينتمى أحد لا لقيطا ولا ثقيلا ولا غيرذلك من أسماء الجاهلية فان هذه الأمور إنما ولدها كون الاستاذ يريد أن يوافقه تلميذه على ما يريد فيوالى من يواليه ويعادى من يعاديه مطلقا وهذا حرام ليس لأحد أن يأمر به أحدا ولا يجيب عليه احدا بل تجمعهم السنة وتفرقهم البدعة يجمعهم فعل ما أمر الله به ورسوله 2 وتفرق بينهم معصية الله ورسوله حتى يصير الناس أهل طاعة الله او أهل معصية الله فلا تكون العبادة إلالله عز وجل ولا الطاعة المطلقة الا له سبحانه ولرسوله
ولا ريب أنهم إذا كانوا على عادتهم الجاهلية أى من علمه استاذ كان محالفا له كان المنتقل عن الأول إلى الثانى ظالما باغيا ناقضا لعهده غير موثوق بعقده وهذا أيضا حرام وإثم هذا أعظم من إثم من لم يفعل مثل فعله بل مثل هذا إذا انتقل إلى غير استاذه وحالفه كان قد فعل حراما فيكون مثل لحم الخنزير الميت فانه لا
____________________
(28/19)
بعهد الله ورسوله أو فى ولا بعهد الأول بل كان بمنزلة المتلاعب الذى لا عهد له ولا دين له ولا وفاء وقد كانوا فى الجاهلية يحالف الرجل قبيلة فاذا وجد أقوى منها نقض عهد الأولى وحالف الثانية وهو شبيه بحال هؤلاء فأنزل الله تعالى { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم } (
وعليهم أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر ولا يدعوا بينهم من يظهر ظلما او فاحشة ولا يدعوا صبيا أمرد يتبرج او يظهر ما يفتن به الناس ولا ان يعاشر من يتهم بعشرته ولا يكرم لغرض فاسد
ومن حالف شخصا على أن يوالى من والاه ويعادى من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين فى سبيل الشيطان ومثل هذا ليس من المجاهدين فى سبيل الله تعالى ولا من جند المسلمين ولا يجوز أن
____________________
(28/20)
يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين بل هؤلاء من عسكر الشيطان ولكن يحسن ان يقول لتلميذه عليك عهد الله وميثاقه ان توالى من والى الله ورسوله وتعادى من عادى الله ورسوله وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الاثم والعدوان وإذا كان الحق معى نصرت الحق وان كنت على الباطل لم تنصر الباطل فمن التزم هذا كان من المجاهدين فى سبيل الله تعالى الذين يريدون ان يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا
وفى الصحيحين ان النبى قيل له يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأى ذلك فى سبيل الله فقال ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو فى سبيل الله ( فاذا كان المجاهد الذى يقاتل حمية للمسلمين او يقاتل رياء للناس ليمدحوه او يقاتل لما فيه من الشجاعة لا يكون قتاله فى سبيل الله عز وجل حتى يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فكيف من يكون أفضل تعلمه صناعة القتال مبنيا على أساس فاسد ليعاون شخصا مخلوقا على شخص مخلوق فمن فعل ذلك كان من اهل الجاهلية الجهلاء والتتر الخارجين عن شريعة الاسلام ومثل هؤلاء يستحقون العقوبة البليغة الشرعية التى تزجرهم وأمثالهم عن مثل هذا التفرق والاختلاف حتى يكون الدين كله لله والطاعة لله ورسوله
____________________
(28/21)
ويكونون قائمين بالقسط يوالون لله ورسوله ويحبون لله ويبغضون لله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وللمعلمين ان يطلبوا جعلا ممن يعلمونه هذه الصناعة فان أخذ الجعل والعوض على تعليم هذه الصناعه جائز والاكتساب بذلك أحسن المكاسب ولو اهدى المعلم لأستاذه لأجل تعليمه واعطاه ما حصل له من السبق او غير السبق عوضا عن تعليمه وتحصيله الآلات واستكرائه الحانوت كان ذلك جائزا للاستاذ قبوله وبذل العوض فى ذلك من أفضل الاعمال حتى أن الشريعة مضت بأنه يجوز ان يبذل العوض للمسابقين من غيرهما
فاذا أخرج ولى الأمر مالا من بيت المال للمسابقين بالنشاب والخيل والابل كان ذلك جائزا باتفاق الأئمة ولو تبرع رجل مسلم ببذل الجعل فى ذلك كان مأجورا على ذلك وكذلك ما يعطيه الرجل لمن يعلمه ذلك هو ممن يثاب عليه وهذا لأن هذه الأعمال منفعتها عامة للمسلمين فيجوز بذل العوض من آحاد المسلمين فكان جائزا وان اخرجا جميعا العوض وكان معهما آخر محللا يكافيها كان ذلك جائزا وان لم يكن بينهما محلل فبذل أحدهما شيئا طابت به نفسه من غير الزام له أطعم به الجماعة أو اعطاه للمعلم او اعطاه لرفيقه كان ذلك جائزا
____________________
(28/22)
واصل هذا ان يعلم ان هذه الأعمال عون على الجهاد فى سبيل الله والجهاد فى سبيل الله مقصوده ان يكون الدين كله لله وان تكون كلمة الله هي العليا
وجماع الدين شيئان احدهما ان لا نعبد الا الله تعالى
والثانى ان نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع كما قال تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ) قال الفضيل بن عياض أخلصه وأصوبه قيل له ما اخلصه وأصوبه قال إن العمل اذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ان يكون لله والصواب ان يكون على السنة
وكان عمر بن الخطاب يقول فى دعائه اللهم اجعل عملى كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا
وهذا هو دين الاسلام الذى ارسل الله به رسله وأنزل به كتبه وهو الاستسلام لله وحده فمن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته وقد قال تعالى { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }
____________________
(28/23)
) ومن استسلم لله ولغيره كان مشركا فقد قال تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } ولهذا كان لله حق لا يشركه فيه احد من المخلوقين فلا يعبد الا الله ولا يخاف الا الله ولا يتقى الا الله ولا يتوكل الا على الله ولا يدعى الا الله كما قال تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } وقال تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وقال تعالى { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فالطاعة لله والرسول والخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى ( { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فالرغبة إلى الله وحده والتحسب بالله وحده وأما الايتاء فلله والرسول كما قال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }
فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه فليس لآحد من المشايخ والملوك والعلماء والامراء والمعلمين وسائر الخلق خروج عن ذلك بل على جميع الخلق ان يدينوا بدين الاسلام الذي بعث الله به رسله ويدخلوا به كلهم فى دين خاتم الرسل وسيد ولد آدم وامام المتقين خير الخلق وأكرمهم على الله محمد عبده ورسوله تسليما وكل من أمر بأمر كائنا من كان عرض على
____________________
(28/24)
الكتاب والسنة فان وافق ذلك قبل والا رد كما جاء فى الصحيحين عنه انه قال ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ( أى فهو مردود
فاذا كان المشايخ والعلماء فى احوالهم وأقوالهم المعروف والمنكر والهدى والضلال والرشاد والغى وعليهم أن يردوا ذلك إلى الله والرسول فيقبلوا ما قبله الله ورسوله ويردوا ما رده الله ورسوله فكيف بالمعلمين وأمثالهم وقد قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وقد قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } فنسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر اخواننا إلى صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا والله سبحانه أعلم
____________________
(28/25)
وقال رضى الله عنه
من شرط الجندى أن يكون دينا شجاعا ثم قال الناس على أربعة أقسام أعلاهم الدين الشجاع ثم الدين بلا شجاعة ثم عكسه ثم العرى عنهما
وسئل
عن رجل جندى وهو يريد ان لا يخدم فأجاب إذا كان للمسلمين به منفعة وهو قادر عليها لم ينبغ له ان يترك ذلك لغير مصلحة راجحة على المسلمين بل كونه مقدما فى الجهاد الذى يحبه الله ورسوله أفضل من التطوع بالعبادة كصلاة التطوع والحج التطوع والصيام التطوع والله أعلم
____________________
(28/26)
وسئل رحمه الله
هل يجوز للجندى أن يلبس شيئا من الحرير والذهب والفضة فى القتال أو وقت يصل رسل العدو إلى المسلمين
فأجاب الحمد لله أما لباس الحرير عند القتال للضرورة فيجوز باتفاق المسلمين وذلك بأن لا يقوم غيره مقامه فى دفع السلاح والوقاية وأما لباسه لارهاب العدو ففيه للعلماء قولان أظهرهما ان ذلك جائز فان جند الشام كتبوا إلى عمر بن الخطاب انا إذا لقينا العدو ورأيناهم قد كفروا أى غطوا اسلحتهم بالحرير وجدنا لذلك رعبا فى قلوبنا فكتب اليهم عمر وأنتم فكفروا أسلحتكم كما يكفرون أسلحتهم
ولأن لبس الحرير فيه خيلاء والله يحب الخيلاء حال القتال كما فى السنن عن النبى انه قال ( ان من الخيلاء ما يحبه الله ومن الخيلاء ما يبغضه الله فأما الخيلاء التى يحبها الله فاختيال الرجل عند الحرب وعند الصدقة وأما الخيلاء التى يبغضها الله فالخيلاء فى البغى والفخر ( ولما كان يوم أحد اختال ابو دجانة
____________________
(28/27)
الانصارى بين الصفين فقال النبى ( انها لمشية يبغضها الله الا فى هذا الموطن (
وأما يسير الحرير مثل العلم الذى عرضه أربعة أصابع ونحو ذلك فيجوز مطلقا وفى العلم الذهب نزاع بين العلماء والأظهر جوازه ايضا فان فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى عن الذهب الا مقطعا (
وسئل عن سفر صاحب العيال الخ 00000
فأجاب أما سفر صاحب العيال فان كان السفر يضر بعياله لم يسافر فإن النبى قال ( كفى بالمرء إثماأن يضيع من يقوت ( وسواء كان تضررهم لقلة النفقة أو لضعفهم وسفر مثل هذا حرام وان كانوا لا يتضررون بل يتألمون وتنقص أحوالهم فان لم يكن فى السفر فائدة جسيمة تربو على ثواب مقامه عندهم كعلم يخاف فوته وشيخ يتعين الاجتماع به والا فمقامه عندهم أفضل وهذا لعمري اذا صحت نيته فى السفر كان مشروعا
واما إن كان كسفر كثير من الناس انما يسافر قلقا وتزجية للوقت فهذا مقامه يعبد الله فى بيته خير له بكل حال ويحتاج صاحب هذه
____________________
(28/28)
الحال أن يستشير فى خاصة نفسه رجلا عالما بحاله وبما يصلحه مأمونا على ذلك فان أحوال الناس تختلف فى مثل هذا اختلافا متباينا والله سبحانه وتعالى اعلم
وسئل
عن الايام والليالى مثل أن يقول السفر يكره يوم الاربعاء او الخميس او السبت او يكره التفصيل او الخياطة او الغزل فى هذه الأيام او يكره الجماع فى ليلة من الليالى ويخاف على الولد
فأجاب الحمد لله هذا كله باطل لا أصل له بل الرجل اذا استخار الله تعالى وفعل شيئا مباحا فليفعله فى أي وقت تيسر ولا يكره التفصيل ولا الخياطة ولا الغزل ولا نحو ذلك من الأفعال فى يوم من الأيام ولا يكره الجماع فى ليلة من الليالى ولا يوم من الأيام
والنبى قد نهى عن التطير كما ثبت فى الصحيح عن معاوية بن الحكم السلمى قال ( قلت يا رسول الله ان منا قوما يأتون الكهان قال فلا تأتوهم قلت منا قوم يتطيرون قال ذاك شيء يجده أحدكم من نفسه فلا يصدنكم ( فاذا كان قد نهى عن ان تصده الطيرة عما عزم عليه فكيف بالأيام والليالى
____________________
(28/29)
ولكن يستحب السفر يوم الخميس ويوم السبت ويوم الاثنين من غير نهى عن سائر الأيام إلا يوم الجمعة اذا كانت الجمعة تفوته بالسفر ففيه نزاع بين العلماء واما الصناعات والجماع فلا يكره فى شيء من الأيام والله أعلم
رسالة من شيخ الاسلام قدس الله روحه إلى أصحابه وهو فى حبس الاسكندرية قال بسم الله الرحمن الرحيم
{ وأما بنعمة ربك فحدث } والذى أعرف به الجماعة أحسن الله اليهم فى الدنيا وفى الاخرة وأتم عليهم نعمته الظاهرة والباطنه فانى والله العظيم الذى لا اله الا هو فى نعم من الله ما رأيت مثلها فى عمرى كله وقد فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن بالبال ولا يدور فى الخيال ما يصل الطرف اليها يسرها الله تعالى حتى صارت مقاعد وهذا يعرف بعضها بالذوق من له نصيب من معرفة الله وتوحيده وحقائق الأيمان وما هو مطلوب الأولين والآخرين من العلم والايمان
____________________
(28/30)
فان اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذى لا يمكن التعبير عنه انما هو فى معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده والايمان به وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية كما قال بعض الشيوخ لقد كنت فى حال اقول فيها ان كان أهل الجنة فى هذه الحال انهم لفى عيش طيب
وقال آخر لتمر على القلب أوقات يرقص فيها طربا وليس فى الدنيا نعيم يشبه نعيم الأخرة الا نعيم الايمان والمعرفة ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول ( أرحنا بالصلاة يا بلال ) ولا يقول أرحنا منها كما يقوله من تثقل عليه الصلاة كما قال تعالى { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } والخشوع الخضوع لله تعالى والسكون والطمانينة إليه بالقلب والجوارح وكان النبى يقول ( حبب إلى من دنياكم النساء والطيب ( ثم يقول ( وجعلت قرة عينى فى الصلاة ( ولم يقل ( حبب إلى من دنياكم ثلاث ( كما يرفعه بعض الناس بل هكذا رواه الامام أحمد والنسائى ان المحبب إليه من الدنيا النساء والطيب وأما قرة العين تحصل بحصول المطلوب وذلك فى الصلاة
والقلوب فيها وسواس النفس والشيطان يأمر بالشهوات والشبهات ما يفسد عليه طيب عيشها فمن كان محبا لغير الله فهو معذب فى الدنيا
____________________
(28/31)
والاخرة ان نال مراده عذب به وان لم ينله فهو فى العذاب والحسرة والحزن
وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة الا فى محبة الله والتقرب إليه بما يحبه ولا تمكن محبته الا بالاعراض عن كل محبوب سواه وهذا حقيقة لا إله إلا الله وهى ملة ابراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين وكان النبى يقول لأصحابه ( قولوا أصبحنا على فطرة الاسلام وكلمة الاخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا ابراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين (
( والحنيف ( للسلف فيه ثلاث عبارات قال محمد بن كعب مستقيما وقال عطاء مخلصا وقال آخرون متبعا فهو مستقيم القلب إلى الله دون ما سواه قال الله تعالى { فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين } وقال تعالى { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه فلم يلتفتوا عنه يمنه ولا يسرة فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه لا بالحب ولا بالخوف ولا بالرجاء ولا بالسؤال ولا بالتوكل عليه بل لا يحبون الا الله ولا يحبون معه أندادا ولا يحبون الا اياه لا لطلب منفعة ولا لدفع مضرة ولا يخافون غيره كائنا من كان ولا يسالون غيره ولا يتشرفون
____________________
(28/32)
بقلوبهم إلى غيره
ولهذا قال النبى لعمر رضى الله عنه ( ما اتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا متشرف فخذه وما لا فلا تتبعة نفسك ( فالسائل بلسانه والمتشرف بقلبه متفق على صحته وعن أبى سعيد عن النبى أنه قال ( من يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يصبر يصبره الله ( متفق على صحته فالغنى فى القلب كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( ليس الغنى عن كثرة المال ولكن الغني غنى النفس ( و ( العفيف ( الذى لا يسأل بلسانه لا نصرا ولا رزقا قال تعالى { أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور } وقال تعالى { وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير } وقال تعالى { وجاهدوا في الله حق جهاده } إلى آخر السورة وقال تعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } أى لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله فانه سبحانه وتعالى من حسن تدبيره لعبده وتيسيره له اسباب الخير من الهدى للقلوب والزلفى لديه والتبصير يدفع عنه شياطين الانس والجن ما لا تبلغ العباد قدره والخير كله فى متابعة النبى النبى الأمى الذى { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } إلى آخر الآيه واكثر الناس
____________________
(28/33)
لا يعرفون حقائق ما جاء به إنما عندهم قسط من ذلك { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } ) وقال تعالى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } والجهاد يوجب هداية السبيل إليه وقال تعالى { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } فكل من اتبع الرسول فان الله حسبه أى كافيه وهاديه وناصره أى كافيه كفايته وهدايته وناصره ورازقه
فالانسان ظالم جاهل كما قال تعالى { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال } إلى قوله { ظلوما جهولا } وانما غاية أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين التوبة وقد قال تعالى { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } وتوبة كل انسان بحسبه وعلى قدر مقامه وحاله ولهذا كان الدين مجموعا فى التوحيد والاستغفار قال تعالى { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقال تعالى { فاستقيموا إليه واستغفروه } وقال تعالى { واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه } ففعل جميع المأمورات وترك جميع المحظورات يدخل فى التوحيد فى قول لا اله الا الله فانه من لم يفعل الطاعات لله ويترك المعاصى لله لم يقبل الله عمله قال تعالى { إنما يتقبل الله من المتقين } قال طلق بن حبيب التقوى ان تعمل بطاعة الله على نور
____________________
(28/34)
من الله ترجو رحمة الله وان تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله
ولا بد لكل عبد من التوبة والاستغفار بحسب حاله
والعبد اذا انعم الله عليه بالتوحيد فشهد ان لا اله الا الله مخلصا من قلبه والا له هو المعبود الذى يستحق غاية الحب والعبودية بالأجلال والاكرام والخوف والرجاء يفنى القلب بحب الله تعالى عن حب ما سواه ودعائه والتوكل عليه وسؤاله عما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه حلاه الله بالأمن والسرور والحبور والرحمة للخلق والجهاد فى سبيل الله فهو يجاهد ويرحم له الصبر والرحمة قال الله تعالى { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } وكلما قوى التوحيد فى قلب العبد قوى ايمانه وطمأنينته وتوكله ويقينه
والخوف الذى يحصل فى قلوب الناس هو الشرك الذى فى قلوبهم قال الله تعالى { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله } وكما قال الله جل جلاله فى قصة الخليل عليه السلام { أتحاجوني في الله وقد هدان } إلى قوله { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } وفى الحديث الصحيح ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة
____________________
(28/35)
تعس وانتكس واذا شيك فلا انتقش ( فمن كان فى قلبه رياسة لمخلوق ففيه من عبوديته بحسب ذلك فلما خوفوا خليله بما يعبدونه ويشركون به الشرك الأكبر كالعبادة قال الخليل { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } يقول ان تطيعوا غير الله وتعبدون غيره وتكلمون فى دينه مالم ينزل به سلطانا فأى الفريقين أحق بالأمن ان كنتم تعلمون أى تشركون بالله ولا تخافونه وتخوفونى انا بغير الله فمن ذا الذى يستحق الامن إلى قوله { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } أى هؤلاء الموحدون المخلصون ولهذا قال الأمام احمد لبعض الناس لو صححت لم تخف أحدا
ولكن للشيطان وسواس فى قلوب الناس كما قال تعالى { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } إلى قوله تعالى { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } أخبر سبحانه وتعالى ان ما جاءت به الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين لابد له من عدو شياطين الانس والجن يوسوسون القول المزخرف ونهى ان يطلب حكما من غير الله بقوله تعالى { أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا }
____________________
(28/36)
)
والكتاب هو الحاكم بين الناس شرعا ودينا وينصر القائم نصرا وقدرا وقد قال الله تعالى { إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } وقال تعالى { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها } إلى قوله { والله ولي المتقين } وقال تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } إلى قوله { إن الله قوي عزيز } و { الميزان } هو العدل وما به يعرف العدل وأنزل الحديد لينصر الكتاب فان قام صاحبه بذلك كان سعيدا مجاهدا فى سبيل الله فان الله نصر الكتاب بأمر من عنده وانتقم ممن خرج عن حكم الكتاب كما قال تعالى { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } إلى قوله { والله عزيز حكيم } وقوله لأبى بكر { إن الله معنا } وقال تعالى { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } وقال تعالى { إن الله مع الصابرين } وكل من وافق الرسول فى أمر خالف فيه غيره فهو من الذين اتبعوه فى ذلك وله نصيب من قوله { لا تحزن إن الله معنا } فان المعية الالهية المتضمنة للنصر هي لما جاء به إلى يوم القيامة وهذا قد دل عليه القرآن وقد رأينا من ذلك وجربنا ما يطول وصفه وقال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم } إلى آخر السورة وقال تعالى { والعاقبة للمتقين }
____________________
(28/37)
وقال تعالى { فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر } فمن شنأ شيئا مما جاء به الرسول فله من ذلك نصيب ولهذا قال ابو بكر بن عياش لما قيل له ان بالمسجد أقواما يجلسون ويجلس الناس اليهم فقال من جلس للناس جلس الناس إليه لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم وذلك ان اهل البدعة شنأوا بعض ما جاء به الرسول فابترهم بقدر ذلك والذين أعلنوا ما جاء به النبى فصار لهم نصيب من قوله تعالى { ورفعنا لك ذكرك } فان ما اكرم الله به نبيه من سعادة الدنيا والأخرة فللمؤمنين المتابعين نصيب بقدر ايمانهم فما كان من خصائص النبوة والرسالة فلم يشارك فيه احد من أمته وما كان من ثواب الايمان والأعمال الصالحة فلكل مؤمن نصيب بقدر ذلك
والله تعالى يقول { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } بالحجة والبيان وباليد واللسان هذا إلى يوم القيامة لكن الجهاد المكى بالعلم والبيان والجهاد المدنى مع المكى باليد والحديد قال تعالى { فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا } و سورة الفرقان مكية وإنما جاهدهم باللسان والبيان ولكن يكف عن الباطل وانما قد بين فى المكية { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم }
____________________
(28/38)
وقال تعالى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } وقال تعالى { الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } إلى قوله { ساء ما يحكمون } فبين سبحانه وتعالى أنه أرسل رسله والناس رجلان رجل يقول انا مؤمن به مطيعه فهذا لا بد ان يمتحن حتى يعلم صدقه من كذبه ورجل مقيم على المعصية فهذا قد عمل السيئات فلا يظن ان يسبقونا بل لابد ان نأخذهم وما لأحد من خروج عن هذين القسمين
قال تعالى { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد } إلى قوله { لبئس المولى ولبئس العشير }
فبين سبحانه حال من يجادل فى الدين بلا علم والعلم هو ما بعث الله به رسوله وهو السلطان كما قال تعالى { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم } فمن تكلم فى الدين بغير ما بعث الله به رسوله كان متكلما بغير علم ومن تولاه الشيطان فانه يضله ويهديه إلى عذاب السعير
ومن انقاد لدين الله فقد عبد الله باليقين بل ان اصابه ما يهواه استمر
____________________
(28/39)
وان أصابه ما يخالف هواه رجع وقد عبد الله على حرف و ( الحرف ( هو الجانب كحرف الرغيف وحرف الجبل ليس مستقرا باثبات { فإن أصابه خير } فى الدنيا { اطمأن به وإن أصابته فتنة } أى محنة امتحن بها { انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } وحرف الجبل ليس مستقرا بالثبات معناه خسر الدنيا بما امتحن به وخسر الآخرة برجوعه عن الدين
{ يدعو من دون الله ما لا يضره } الآية أى يدعو المخلوقين يخافهم ويرجوهم وهم لا يملكون له ضرا ولا نفعا بل ضرهم أقرب من نفعهم وإن كان سبب نزولها فى شخص معين أسلم وكان مشركا فحكمها عام فى كل من تناوله لفظها ومعناها إلى يوم القيامة
فكل من دعا غير الله فهو مشرك والعيان يصدق هذا فان المخلوقين اذا اشتكى اليهم الانسان فضررهم أقرب من نفعهم والخالق جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا اله غيره اذا اشتكى إليه المخلوق وانزل حاجته به واستغفره من ذنوبه أيده وقواه وهداه وسد فاقته وأغناه وقربه وأقناه وحبه واصطفاه والمخلوق اذا انزل العبد به حاجته استرذله وازدراه ثم أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة وان قضى له ببعض مطلبه لأن عنده من بعض رعاياه يستعبده بما يهواه قال الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون }
____________________
(28/40)
وقال تعالى { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقال تعالى { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }
وهذا باب واسع قد كتبت فيه شيئا كثيرا وعرفته علما وذوقا وتجربة
فصل
وفى ( الجملة ( ما يبين نعم الله التى أنعم بها على وأنا فى هذا المكان أعظم قدرا وأكثر عددا ما لا يمكن حصره وأكثر ما ينقص على الجماعة فأنا أحب لهم ان ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقربه أعينهم وان يفتح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد فى سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات وأعرف أكثر الناس قدر ذلك فانه لايعرف الا بالذوق والوجد لكن ما من مؤمن الا له نصيب من ذلك ويستدل منه بالقليل على الكثير وان كان لا يقدر قدره الكبير وأنا أعرف أحوال الناس والأجناس واللذات وأين الدر من البعر وأين الفالوذج من الدبس وأين الملائكة من البهيمة أو البهائم
لكن أعرف أن حكمة
____________________
(28/41)
الله وحسن اختياره ولطفه ورحمته يقتضى أن كل واحد يريد ان يعبد الله ويجاهد فى سبيله علما وعملا بحسب طاقته ليكون الدين لله ويكون مقصوده ان كلمة الله هي العليا ولا يكون حبه وبغضه ومعاداته ومدحه وذمه الا لله لا لشخص معين
والهادى المطلق الذى يهدى إلى كل خير وكل أحد محتاج إلى هدايته في كل وقت هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفضل أمته أفضلهم متابعة له وهذا يكون بالايمان واليقين والجهاد
كما قال تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } ) إلى قوله { أولئك هم الصادقون } فبين سبحانه وتعالى أن المؤمن لابد له من ثلاثة أمور أولها ان يؤمن بالله ورسوله وثانيها لا يرتاب بعد ذلك ان يكون موقنا ثابتا واليقين يخالف الريب والريب نوعان نوع يكون شكا لنقص العلم ونوع يكون اضطرابا فى القلب وكلاهما لنقص الحال الايمانى فان الايمان لا بد فيه من علم القلب وليس كل مكان يكون له علم يعلمه وعمل القلب او بصيرته وثباته وطمأنينته وسكينته وتوكله وإخلاصه وانابته إلى الله تعالى وهذه الأمور كلها فى القرآن يقال رابنى كذا وكذا
____________________
(28/42)
يريبنى أى حرك قلبى ومنه الحديث عن رسول الله أنه مر بظبى حاقف فقال ( لا يريبه أحد ( أي لا يحركه أحد ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ( فان الصدق طمأنينة والكذب ريبة فان الصادق من لا يقلق قلبه والكاذب يقلق قلبه وليس هناك شك بل يعلم ان الريب أعم من الشك
ولهذا فى الدعاء الماثور ( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ( الحديث إلى آخره وفى المسند والترمذى عن أبى بكرة رضى الله عنه أنه قال ( سلوا الله اليقين والعافية فانه لم يعط خير من اليقين والعافية فاسألوها الله سبحانه وتعالى ( والعرب تقول ماءيقن اذا كان ساكنا لا يتحرك ( فقلب المؤمن مطمئن لا يكون فيه ريب هذا معنى قوله سبحانه وتعالى ( انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله أولئك هم الصادقون ( وفى الصحيحين عن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال ( أعطى رسول الله رهطا ولم يعط رجلا وهو أحب إلى منهم فقلت يا رسول الله مالك عن فلان فو الله انى أراه مؤمنا قال او مسلما مرتين او ثلاثا ثم قال انى لاعطى الرجل وغيره أحب إلى منه خشية ان يكبه الله على وجهه فى النار ( ولهذا قال ابو جعفر الباقر وغيره من السلف الاسلام دائرة
____________________
(28/43)
كبيرة والايمان دائرة فى وسطها فاذا زنا العبد خرج من الايمان إلى الاسلام كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن (
وهذا أظهر قولى العلماء أن هؤلاء الأعراب الذين قالوا أسلمنا ونحوهم من المسلمين الذين لم يدخل الايمان المتقدم فى قلوبهم يثابون على أعمالهم الصالحة كما قال تعالى { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا } وهم ليسوا بكفار ولا منافقين بل لم يبلغوا حقيقة الايمان وكماله فنفى عنهم كمال الايمان الواجب وان كانوا يدخلون فى الايمان مثل قوله { فتحرير رقبة مؤمنة } وقوله { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } وهذا باب واسع
والمقصود اخبار الجماعة بأن نعم الله علينا فوق ما كانت بكثير كثير ونحن بحمد الله فى زيادة من نعم الله وان لم يمكن خدمة الجماعة باللقاء فأنا داع لهم بالليل والنهار قياما ببعض الواجب من حقهم وتقربا إلى الله تعالى فى معاملته فيهم والذى آمر به كل شخص منهم ان يتقي الله ويعمل لله مستعينا بالله مجاهدا فى سبيل الله ويقصد بذلك ان
____________________
(28/44)
تكون كلمة الله هي العلياء وان يكون الدين كله لله ويكون دعاؤه وغيره بحسب ذلك كما أمر الله به ورسوله
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات والف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم واهدهم سبل السلام وأخرجهم من الظلمات إلى النور وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وبارك لهم فى اسماعهم وأبصارهم ما أبقيتهم واجعلهم شاكرين لنعمك مثنين بها عليك قابليها واتممها عليهم يارب العالمين اللهم انصر كتابك ودينك وعبادك المؤمنين واظهر الهدى ودين الحق الذى بعثت به نبينا محمدا على الدين كله اللهم عذب الكفار والمنافقين الذين يصدون عن سبيلك ويبدلون دينك ويعادون المؤمنين اللهم خالف كلمتهم وشتت بين قلوبهم واجعل تدميرهم فى تدبيرهم وأدر عليهم دائرة السوء اللهم أنزل بهم بأسك الذى لا يرد عن القوم المجرمين اللهم مجرى السحاب ومنزل الكتاب وهازم الاحزاب اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم ربنا اعنا ولا تعن علينا وانصرنا ولا تنصر علينا وامكر لنا ولا تمكر علينا واهدنا ويسر الهدى لنا وانصرنا على من بغى علينا ربنا اجعلنا لك شاكرين مطاوعين مخبتين اواهين منيبين ربنا تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وثبت حجتنا واهد قلوبنا وسدد ألسنتنا
____________________
(28/45)
واسلل سخائم صدورنا
وهذا رواه الترمذى بلفظ افراد وصححه وهو من أجمع الادعية بخير الدنيا والآخرة وله شرح عظيم
والحمد لله ناصر السنة وخاذل أهل البدعة والغرة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
____________________
(28/46)
وكتب رحمه الله
وهو فى السجن ونحن ولله الحمد والشكر فى نعم عظيمة تتزايد كل يوم ويجدد الله تعالى من نعمه نعما أخرى وخروج الكتب كان من أعظم النعم فانى كنت حريصا على خروج شيء منها لتقفوا عليه وهم كرهوا خروج ( الاخنائية ( فاستعملهم الله فى اخراج الجميع والزام المنازعين بالوقوف عليه وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق فان هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس فاذا ظهرت فمن كان قصده الحق هداه الله ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله واستحق ان يذله الله ويخزيه وما كتبت شيئا من هذا ليكتم عن احد ولو كان مبغضا
والاوراق التى فيها جواباتكم وصلت وانا طيب وعيناى طيبتان أطيب ما كانتا ونحن فى نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه
ثم ذكر كلاما وقال كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة
____________________
(28/47)
والحكمة ان ربى لطيف لما يشاء انه هو القوى العزيز العليم الحكيم ولا يدخل على أحد ضرر الا من ذنوبه { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } فالعبد عليه ان يشكر الله ويحمده دائما على كل حال ويستغفر من ذنوبه فالشكر يوجب المزيد من النعم والاستغفار يدفع النقم ولا يقضى الله للمؤمن قضاء الا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر وأن أصابته ضرا ء صبر فكان خيرا له
كتاب الشيخ إلى والدته يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم
من أحمد بن تيمية إلى الوالدة السعيدة أقر الله عينيها بنعمه وأسبغ عليها جزيل كرمه وجعلها من خيار امائه وخدمه
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته
فانا نحمد اليكم الله الذى لا اله إلا هو وهو للحمد اهل وهو على كل شيء قدير ونساله أن يصلى على خاتم النبيين وإمام المتقين محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
____________________
(28/48)
كتابى اليكم عن نعم من الله عظيمة ومنن كريمة والاء جسيمة نشكر الله عليها ونسأله المزيد من فضله ونعم الله كلما جاءت فى نمو وازدياد وأياديه جلت عن التعداد
وتعلمون أن مقامنا الساعة فى هذه البلاد إنما هو لأمور ضرورية متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا
ولسنا والله مختارين للبعد عنكم ولو حملتنا الطيور لسرنا اليكم ولكن الغائب عذره معه وأنتم لو اطلعتم على باطن الامور فانكم ولله الحمد ما تختارون الساعة الا ذلك ولم نعزم على المقام والاستيطان شهرا واحدا بل كل يوم نستخير الله لنا ولكم وادعوا لنا بالخيرة فنسأل الله العظيم أن يخير لنا ولكم وللمسلمين ما فيه الخيرة فى خير وعافية
ومع هذا فقد فتح الله من أبواب الخير والرحمة والهداية والبركة مالم يكن يخطر بالبال ولا يدور فى الخيال ونحن فى كل وقت مهمومون بالسفر مستخيرون الله سبحانه وتعالى
فلا يظن الظان أنا نؤثر على قربكم شيئا من أمور الدنيا قط بل ولا نؤثر من أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه ولكن ثم أمور كبار نخاف الضرر الخاص والعام من اهمالها والشاهد يرى مالا يرى الغائب
والمطلوب كثرة الدعاء بالخيرة فإن الله يعلم ولانعلم ويقدر
____________________
(28/49)
ولا نقدر وهو علام الغيوب وقد قال النبى ( من سعادة بن آدم استخارته الله ورضاه بما يقسم الله له ومن شقاوة بن آدم ترك استخارته الله وسخطه بما يقسم الله له ( والتاجر يكون مسافرا فيخاف ضياع بعض ماله فيحتاج ان يقيم حتى يستوفيه وما نحن فيه امر يجل عن الوصف ولا حول ولا قوة الا بالله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته كثيرا كثيرا وعلى سائر من فى البيت من الكبار والصغار وسائر الجيران والأهل والأصحاب واحدا واحدا والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
وقال الشيخ
بعد حمد الله تعالى والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم أما بعد فان الله وله الحمد قد أنعم على من نعمه العظيمة ومننه الجسيمة وآلائه الكريمة ما هو مستوجب لعظيم الشكر والثبات على الطاعة واعتياد حسن الصبر على فعل المامور والعبد مأمور بالصبر فى السراء أعظم من الصبر فى الضراء قال تعالى ( ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه انه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور الا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير
____________________
(28/50)
وتعلمون أن الله سبحانه من فى هذه القضية من المنن التى فيها من أسباب نصر دينه وعلو كلمته ونصر جنده وعزة أوليائه وقوة أهل السنة والجماعة وذل أهل البدعة والفرقة وتقرير ما قرر عندكم من السنة وزيادات على ذلك بانفتاح ابواب من الهدى والنصر والدلائل وظهور الحق لأمم لا يحصى عددهم إلا الله تعالى واقبال الخلائق إلى سبيل السنة والجماعة وغير ذلك من المنن مالا بد معه من عظيم الشكر ومن الصبر وان كان صبرا فى سراء
وتعلمون ان من القواعد العظيمة التى هي من جماع الدين تاليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين فان الله تعالى يقول { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ويقول { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ويقول { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } وأمثال ذلك من النصوص التى تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف
وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة
وجماع السنة طاعة الرسول ولهذا قال النبى صلى الله عليه
____________________
(28/51)
وسلم فى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة ( إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم (
وفى السنن من حديث زيد بن ثابت وبن مسعود فقيهى الصحابة عن النبى أنه قال ( نضر الله امرءا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومنا صحة ولاة الامر ولزوم جماعة المسلمين فان دعوتهم تحيط من وراءهم (
وقوله لا يغل أى لا يحقد عليهن فلا يبغض هذه الخصال قلب المسلم بل يحبهن ويرضاهن
وأول ما أبدأ به من هذا الأصل ما يتعلق بى فتعلمون رضى الله عنكم أنى لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين فضلا عن اصحابنا بشيء أصلا لا باطنا ولا ظاهرا ولا عندى عتب على احد منهم ولا لوم أصلا بل لهم عندى من الكرامة والاجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان كل بحسبه ولا يخلو
____________________
(28/52)
الرجل اما ان يكون مجتهدا مصيبا او مخطئا أو مذنبا فالأول ماجور مشكور والثانى مع أجره على الأجتهاد فمعفو عنه مغفور له والثالث فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين
فنطوى بساط الكلام المخالف لهذا الأصل
كقول القائل فلان قصر فلان ما عمل فلان أوذى الشيخ بسببه فلان كان سبب هذه القضية فلان كان يتكلم فى كيد فلان ونحو هذه الكلمات التى فيها مذمة لبعض الاصحاب والاخوان فانى لاأسامح من أذاهم من هذا الباب ولاحول ولا قوة إلا بالله
بل مثل هذا يعود على قائله بالملام إلا ان يكون له من حسنة وممن يغفر الله له إن شاء وقد عفا الله عما سلف
وتعلمون ايضا ان ما يجرى من نوع تغليظ أو تخشين على بعض الأصحاب والاخوان ما كان يجرى بدمشق ومما جرى الان بمصر فليس ذلك غضاضة ولا نقصا فى حق صاحبه ولا حصل بسبب ذلك تغير منا ولا بغض بل هو بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين أرفع قدرا وأنبه ذكرا وأحب وأعظم وإنما هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين التى يصلح الله بها بعضهم ببعض فان المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الاخرى وقد لا
____________________
(28/53)
ينقلع الوسخ الا بنوع من الخشونة لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين
وتعلمون أنا جميعا متعاونون على البر والتقوى واجب علينا نصر بعضنا بعضا أعظم مما كان وأشد فمن رام ان يؤذي بعض الأصحاب او الأخوان لما قد يظنه من نوع تخشين عومل به بدمشق أو بمصر الساعة أو غير ذلك فهو الغالط
وكذلك من ظن أن المؤمنين يبخلون عما أمروا به من التعاون والتناصر فقد ظن ظن سوء { وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } ) وما غاب عنا احد من الجماعة او قدم الينا الساعة أو قبل الساعة الا ومنزلته عندنا اليوم أعظم مما كانت وأجل وأرفع
وتعلمون رضى الله عنكم أن مادون هذه القضية من الحوادث يقع فيها من اجتهاد الاراء واختلاف الأهواء وتنوع أحوال أهل الايمان وما لا بد منه من نزغات الشيطان مالا يتصور ان يعرى عنه نوع الانسان وقد قال تعالى { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } بل انا أقول ما هو أبلغ من ذلك تنبيها بالادنى على الاعلى
____________________
(28/54)
وبالاقصى على الأدنى فأقول
تعلمون كثرة ما وقع فى هذه القضية من الأكاذيب المفتراة والاغاليط المظنونة والأهواء الفاسدة وأن ذلك أمر يجل عن الوصف وكل ما قيل من كذب وزور فهو فى حقنا خير ونعمة قال تعالى { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } وقد أظهر الله من نور الحق وبرهانه ما رد به أفك الكاذب وبهتانه
فلا أحب أن ينتصر من احد بسبب كذبه على او ظلمه وعدوانه فانى قد أحللت كل مسلم وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسى
والذين كذبوا وظلموا فهم فى حل من جهتى
وأما ما يتعلق بحقوق الله فان تابوا تاب الله عليهم والا فحكم الله نافذ فيهم فلو كان الرجل مشكورا على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سببا فى هذه القضية لما يترتب عليه من خير الدنيا
____________________
(28/55)
والاخرة لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وألائه وآياديه التى لا يقضى للمؤمن قضاء الا كان خيرا له
وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم وأهل العمل الصالح يشكرون على عملهم وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم وأنتم تعلمون هذا من خلقى والأمر أزيد مما كان وأوكد لكن حقوق الناس بعضهم مع بعض وحقوق الله عليهم هم فيها تحت حكم الله
وأنتم تعلمون ان الصديق الأكبر فى قضية الافك التى أنزل الله فيها القرآن حلف لا يصل مسطح بن اثاثة لأنه كان من الخائضين فى الافك فأنزل الله تعالى { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } ( فلما نزلت قال ابو بكر بلى والله إنى لأحب ان يغفر الله لى فأعاد إلى مسطح النفقة التى كان ينفق
ومع ما ذكرمن العفو والأحسان وأمثاله واضعافه والجهاد على ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة امر لا بد منه ( فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله
____________________
(28/56)
يؤتيه من يشاء والله واسع عليم انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون ( والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما
وكتب ايضا بسم الله الرحمن الرحيم
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته ونحن لله الحمد والشكر فى نعم متزايدة متوافرة وجميع ما يفعله الله فيه نصر الاسلام وهو من نعم الله العظام و { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا } فان الشيطان استعمل حزبه فى افساد دين الله الذى بعث به رسله وأنزل به كتبه
ومن سنة الله انه اذا اراد اظهار دينه أقام من يعارضه فيحق الحق بكلماته ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق
____________________
(28/57)
والذى سعى فيه حزب الشيطان لم يكن مخالفة لشرع محمد وحده بل مخالفة لدين جميع المرسلين ابراهيم وموسى والمسيح ومحمد خاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين
وكانوا قد سعوا فى أن لا يظهر من جهة حزب الله ورسوله خطاب ولا كتاب وجزعوا من ظهور الاخنائية فاستعملهم الله تعالى حتى أظهروا أضعاف ذلك وأعظم والزمهم بتفتيشة ومطالعته ومقصودهم اظهار عيوبه وما يحتجون به فلم يجدوا فيه الا ماهو حجة عليهم وظهر لهم جهلهم وكذبهم وعجزهم وشاع هذا فى الأرض وأن هذا مما لايقدر عليه إلا الله ولم يمكنهم أن يظهروا علينا فيه عيبا فى الشرع والدين بل غاية ما عندهم أنه خولف مرسوم بعض المخلوقين والمخلوق كائنا من كان إذا خالف أمر الله تعالى ورسوله لم يجب بل ولا يجوز طاعته فى مخالفة امر الله ورسوله باتفاق المسلمين
وقول القائل إنه يظهر البدع كلام يظهر فساده لكل مستبصر ويعلم أن الأمر بالعكس فان الذى يظهر البدعة إما أن يكون لعدم علمه بسنة الرسول أو لكونه له غرض وهوى يخالف ذلك وهو أولى بالجهل بسنة الرسول واتباع هواهم بغير هدى من الله { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } ممن هو اعلم بسنة الرسول منهم وأبعد عن الهوى والغرض فى مخالفتها { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين }
____________________
(28/58)
وهذه قضية كبيرة لها شأن عظيم ولتعلمن نبأه بعد حين ثم قال بعده
وكانوا يطلبون تمام الاخنائية فعندهم ما يطمهم أضعافها وأقوى فقها منها وأشد مخالفة لاغراضهم فان الزملكانية قد بين فيها من نحو خمسين وجها أن ما حكم به ورسم به مخالف لاجماع المسلمين وما فعلوه لو كان ممن يعرف ما جاء به الرسول ويتعمد مخالفته لكان كفرا وردة عن الاسلام لكنهم جهال دخلوا فى شيء ما كانوا يعرفونه ولا ظنوا أنه يظهر منه أن السلطنة تخالف مرادهم والأمر أعظم مما ظهر لكم ونحن ولله الحمد على عظيم الجهاد فى سبيله
ثم ذكر كلاما وقال
بل جهادنا فى هذا مثل جهادنا يوم قازان والجبلية والجهمية والاتحادية وأمثال ذلك وذلك من أعظم نعم الله علينا وعلى الناس ولكن اكثر الناس لا يعلمون
____________________
(28/59)
وقال الشيخ الامام العلامة
شيخ الأسلام أبو العباس أحمد بن الشيخ الامام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الامام مجد الدين أبى البركات عبد السلام بن تيمية رحمة الله عليه
الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدى الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وارشد به من الغى وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا حيث بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الامة وجاهد فى الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه صلى الله عليه وعلى
____________________
(28/60)
آله وسلم تسليما وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيا عن أمته
أما بعد
فهذه ( قاعدة فى الحسبة (
أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات فى الاسلام مقصودها ان يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فان الله سبحانه وتعالى انما خلق الخلق لذلك وبه انزل الكتب وبه أرسل الرسل وعليه جاهد الرسول والمؤمنون قال الله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقد أخبر عن جميع المرسلين ان كلامنهم يقول لقومه { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وعباداته تكون بطاعته وطاعة رسوله وذلك هو الخير والبر والتقوى والحسنات والقربات والباقيات والصالحات والعمل الصالح وان كانت هذه الاسماء بينها فروق لطيفة ليس هذا موضعها
وهذا الذى يقاتل عليه الخلق كما قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وفى الصحيحين عن أبى موسى
____________________
(28/61)
الاشعرى رضى الله عنه قال سئل النبى عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأى ذلك فى سبيل الله فقال ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو فى سبيل الله )
وكل بنى آدم لاتتم مصلحتهم لا فى الدنيا ولا فى الآخرة الا بالاجتماع والتعاون والتناصر فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم والتناصر لدفع مضارهم ولهذا يقال الانسان مدنى بالطبع فاذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهى عن تلك المفاسد فجميع بنى آدم لا بد لهم من طاعة آمر وناه
فمن لم يكن من أهل الكتب الالهية ولا من أهل دين فانهم يطيعون ملوكهم فيما يرون انه يعود بمصالح دنياهم مصيبين تارة ومخطئين اخرى وأهل الأديان الفاسدة من المشركين وأهل الكتاب المستمسكين به بعد التبديل او بعد النسخ والتبديل مطيعون فيما يرون انه يعود عليهم بمصالح دينهم ودنياهم
وغير اهل الكتاب منهم من يؤمن بالجزاء بعد الموت ومنهم من لا يؤمن به وأما اهل الكتاب فمتفقون على الجزاء بعد الموت ولكن الجزاء فى الدنيا متفق عليه أهل الارض فان الناس لم يتنازعوا في
____________________
(28/62)
أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة ولهذا يروى ( الله ينصر الدولة العادلة وان كانت كافرة ( ولا ينصر الدولة الظالمة وان كانت مؤمنة (
واذا كان لابد من طاعة آمر وناه فمعلوم أن دخول المرء فى طاعة الله ورسوله خير له وهو الرسول النبى الأمي المكتوب فى التوراة والانجيل الذى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وذلك هو الواجب على جميع الخلق قال الله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } وقال { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين }
وكان النبى يقول فى خطبته للجمعة ( ان خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور
____________________
(28/63)
محدثاتها ) وكان يقول فى خطبة الحاجة ( من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فانه لا يضر الا نفسه ولن يضر الله شيئا )
وقد بعث الله رسوله محمدا بأفضل المناهج والشرائع وأنزل عليه أفضل الكتب فأرسله إلى خير أمة أخرجت للناس وأكمل له ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة وحرم الجنة الا على من آمن به وبما جاء به ولم يقبل من أحد الا الاسلام الذى جاء به فمن ابتغى غيره دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين
وأخبر فى كتابه انه أنزل الكتاب والحديد ليقوم الناس بالقسط فقال تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } ولهذا أمر النبى أمته بتولية ولاة أمور عليهم وأمر ولاة الأمور ان يردوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل وأمرهم بطاعة ولاة الامور فى طاعة الله تعالى ففى سنن أبى داود عن أبى سعيد ان رسول الله
____________________
(28/64)
قال ( اذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا أحدهم ( وفى سننه ايضا عن أبى هريرة مثله وفى مسند الامام احمد عن عبد الله بن عمر أن النبى قال ( لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الارض الا أمروا أحدهم (
فاذا كان قد أوجب فى أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات ان يولى أحدهم كان هذا تنبيها على وجوب ذلك فيما هو اكثر من ذلك ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينا يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب بحسب الامكان من أفضل الاعمال الصالحة حتى قد روى الامام أحمد فى مسنده عن النبى انه قال ( إن أحب الخلق إلى الله امام عادل وأبغض الخلق إلى الله امام جائر (
فصل
واذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهى فالأمر الذى بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف والنهى الذى بعثه به هو النهى عن المنكر وهذا نعت النبى والمؤمنين كما قال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر }
وهذا واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية ويصير
____________________
(28/65)
فرض عين على القادر الذى لم يقم به غيره والقدرة هو السلطان والولاية فذووا السلطان أقدر من غيرهم وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم فان مناط الوجوب هو القدرة فيجب على كل انسان بحسب قدرته قال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم }
وجميع الولايات الاسلامية انما مقصودها الامر بالمعروف والنهى عن المنكر سواء فى ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطنة والصغرى مثل ولاية الشرطة وولاية الحكم أو ولاية المال وهى ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة
لكن من المتولين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن والمطلوب منه الصدق مثل الشهود عند الحاكم ومثل صاحب الديوان الذى وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف والنقيب والعريف الذى وظيفته اخبار ذى الأمر بالاحوال
ومنهم من يكون بمنزلة الأمين المطاع والمطلوب منه العدل مثل الأمير والحاكم والمحتسب وبالصدق فى كل الأخبار والعدل في الانشاء من الأقوال والأعمال تصلح جميع الاحوال وهما قرينان كما قال تعالى { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } وقال النبى صلى الله عليه وسلم لما ذكر الظلمة ( من صدقهم بكذبهم وأعانهم على
____________________
(28/66)
ظلمهم فليس منى ولست منه ولا يرد على الحوض ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منى وأنا منه وسيرد على الحوض (
وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( عليكم بالصدق فان الصدق يهدى إلى البر وان البر يهدى إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا واياكم والكذب فان الكذب يهدى إلى الفجور وان الفجور يهدى إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ( ولهذا قال سبحانه وتعالى { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم } ) وقال { لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة }
فلهذا يجب على كل ولى أمر ان يستعين بأهل الصدق والعدل واذا تعذر ذلك استعان بالامثل فالامثل وإن كان فيه كذب وظلم فان الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم والواجب انما هو فعل المقدور وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم أو عمر بن الخطاب ( من قلد رجلا على عصابة وهو يجد فى تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين (
فالواجب انما هو الارضى من الموجود والغالب انه لا يوجد
____________________
(28/67)
كامل فيفعل خير الخيرين ويدفع شر الشرين ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول اشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس وكلاهما كافر لأن أحد الصنفين أقرب الى الاسلام وأنزل الله فى ذلك ( سورة الروم ( لما اقتتلت الروم وفارس والقصة مشهورة وكذلك يوسف كان نائبا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون وفعل من العدل والخير ما قدر عليه ودعاهم إلى الايمان بحسب الامكان
فصل
عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولى بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف وليس لذلك حد فى الشرع فقد يدخل فى ولاية القضاة فى بعض الأمكنة والازمنة ما يدخل فى ولاية الحرب فى مكان وزمان آخر وبالعكس وكذلك الحسبة وولاية المال
وجميع هذه الولايات هي فى الاصل ولاية شرعية ومناصب دينية فأى من عدل فى ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل وأطاع الله ورسوله بحسب الامكان فهو من الابرار الصالحين وأى من ظلم
____________________
(28/68)
وعمل فيها بجهل فهو من الفجار الظالمين انما الضابط قوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم }
وإذا كان كذلك فولاية الحرب فى عرف هذا الزمان فى هذه البلاد الشامية والمصرية تختص باقامة الحدود التى فيها اتلاف مثل قطع يد السارق وعقوبة المحارب ونحو ذلك وقد يدخل فيها من العقوبات ما ليس فيه اتلاف كجلد السارق ويدخل فيها الحكم فى المخاصمات والمضاربات ودواعى التهم التى ليس فيها كتاب وشهود كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود وكما تختص باثبات الحقوق والحكم فى مثل ذلك والنظر فى حال نظار الوقوف وأوصياء اليتامى وغير ذلك مما هو معروف وفى بلاد أخرى كبلاد المغرب ليس لوالى الحرب حكم فى شيء وانما هو منفذ لما يأمر به متولى القضاء وهذا اتبع السنة القديمة ولهذا أسباب من المذاهب والعادات مذكورة فى غير هذا الموضع
وأما المحتسب فله الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم وكثير من الأمور الدينية هو مشترك بين ولاة الأمور فمن أدى فيه الواجب وجبت طاعته فيه
فعلى المحتسب أن يأمر العامة بالصلوات الخمس فى مواقيتها ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس وأما القتل فالى غيره ويتعهد الأئمة والمؤذنين
____________________
(28/69)
فمن فرط منهم فيما يجب من حقوق الامامة او خرج عن الأذان المشروع الزمه بذلك واستعان فيما يعجز عنه بوالى الحرب والحكم وكل مطاع يعين على ذلك
وذلك ان ( الصلاة ( هي أعرف المعروف من الأعمال وهى عمود الاسلام وأعظم شرائعة وهى قرينة الشهادتين وانما فرضها الله ليلة المعراج وخاطب بها الرسول بلا واسطة لم يبعث بها رسولا من الملائكة وهى آخر ما وصى به النبى أمته وهى المخصوصة بالذكر فى كتاب الله تخصيصا بعد تعميم كقوله تعالى { والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة } وقوله { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة } وهى المقرونه بالصبر وبالزكاة وبالنسك وبالجهاد فى مواضع من كتاب الله كقوله تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة } وقوله { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقوله { إن صلاتي ونسكي } وقوله { أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا } وقوله { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } إلى قوله { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا }
____________________
(28/70)
وأمرها أعظم من ان يحاط به فاعتناء ولاة الامر بها يجب أن يكون فوق اعتنائهم بجميع الاعمال ولهذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه يكتب إلى عماله ان أهم أمركم عندى الصلاة من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة رواه مالك وغيره
ويأمر المحتسب بالجمعة والجماعات وبصدق الحديث واداء الأمانات وينهى عن المنكرات من الكذب والخيانة وما يدخل فى ذلك من تطفيف المكيال والميزان والغش فى الصناعات والبياعات والديانات ونحو ذلك قال الله تعالى { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } وقال فى قصة شعيب { أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين } وقال تعالى { إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما } وقال { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } وفى الصحيحين عن حكيم بن حزام قال قال رسول الله ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فان صدقا وبينا بورك لهما فى بيعهما وان كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ( وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها
____________________
(28/71)
فنالت أصابعه بللا فقال ( ما هذا يا صاحب الطعام فقال أصابته السماء يا رسول الله قال أفلا جعلته فوق الطعام كى يراه الناس من غشنا فليس منا ( وفى رواية ( من غشنى فليس منى ( فقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم ان الغاش ليس بداخل فى مطلق اسم أهل الدين والايمان كما قال ( لا يزنى الزانى حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ( فسلبه حقيقة الايمان التى بها يستحق حصول الثواب والنجاة من العقاب وان كان معه أصل الايمان الذى يفارق به الكفار ويخرج به من النار
والغش يدخل فى البيوع بكتمان العيوب وتدليس السلع مثل ان يكون ظاهر المبيع خيرا من باطنه كالذى مر عليه النبى وأنكر عليه ويدخل فى الصناعات مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز والطبخ والعدس والشواء وغير ذلك او يصنعون الملبوسات كالنساجين والخياطين ونحوهم او يصنعون غير ذلك من الصناعات فيجب نهيهم عن الغش والخيانة والكتمان ومن هؤلاء ( الكيماوية ( الذين يغشون النقود والجواهر والعطر وغير ذلك فيصنعون ذهبا او فضه او عنبرا او مسكا او جواهر او زعفرانا او ماء ورد او غير ذلك يضاهون به خلق الله ولم يخلق الله شيئا
____________________
(28/72)
فيقدر العباد أن يخلقوا كخلقه بل قال الله عز وجل فيما حكى عنه رسوله ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا بعوضة ( ولهذا كانت المصنوعات مثل الأطبخة والملابس والمساكن غير مخلوقة الا بتوسط الناس قال تعالى { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } ) وقال تعالى { أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون }
وكانت المخلوقات من المعادن والنبات والدواب غير مقدورة لبنى آدم ان يصنعوها لكنهم يشبهون على سبيل الغش وهذا حقيقة الكيمياء فانه المشبه وهذا باب واسع قد صنف فيه أهل الخبرة ما لا يحتمل ذكره فى هذا الموضع
ويدخل فى المنكرات ما نهى الله عنه ورسوله من العقود المحرمة مثل عقود الربا والميسر ومثل بيع الغرر وكحبل الحبله والملامسة والمنابذة وربا النسيئة وربا الفضل وكذلك النجش وهو ان يزيد فى السلعة من لا يريد شراءها وتصرية الدابة اللبون وسائر أنواع التدليس
وكذلك المعاملات الربوية سواء كانت ثنائية او ثلاثية اذا كان المقصود بها جميعها أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل
فالثنائية ما يكون بين اثنين مثل ان يجمع إلى القرض بيعا أو إجارة او مساقاة او مزارعة وقد ثبت عن النبى أنه
____________________
(28/73)
قال لا ( يحل سلف وبيع ولا شرطان فى بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ( قال الترمذى حديث صحيح ومثل أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يعيدها إليه ففى سنن أبى داود عن النبى قال ( من باع بيعتين فى بيعة فله او كسهما او الربا (
والثلاثية مثل ان يدخلا بينهما محللا للربا يشترى السلعة منه آكل الربا ثم يبيعها المعطى للربا إلى أجل ثم يعيدهاالى صاحبها بنقص دراهم يستفيدها المحلل وهذه المعاملات منها ما هو حرام باجماع المسلمين مثل التى يجرى فيها شرط لذلك او التى يباع فيها المبيع قبل القبض الشرعى او بغير الشروط الشرعية او يقلب فيها الدين على المعسر فان المعسر يجب انظاره ولا يجوز الزيادة عليه بمعاملة ولا غيرها باجماع المسلمين ومنها ما قد تنازع فيه بعض العلماء لكن الثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين تحريم ذلك كله
ومن المنكرات تلقى السلع قبل ان تجيء إلى السوق فان النبى نهى عن ذلك لما فيه من تغرير البائع فانه لا يعرف السعر فيشترى منه المشترى بدون القيمة ولذلك أثبت النبى له الخيار اذا هبط إلى السوق وثبوت الخيار له مع الغبن لا ريب فيه وأما ثبوته بلا غبن ففيه نزاع بين العلماء وفيه عن أحمد روايتان احداهما يثبت وهو قول الشافعى والثانية لا
____________________
(28/74)
يثبت لعدم الغبن
وثبوت الخيار بالغبن للمسترسل وهو الذى لا يماكس هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما فليس لا هل السوق ان يبيعوا المماكس بسعر ويبيعوا المسترسل الذى لا يماكس او من هو جاهل بالسعر بأكثر من ذلك السعر هذا مما ينكر على الباعة وجاء فى الحديث ( غبن المسترسل ربا ( وهو بمنزلة تلقى السلع فان القادم جاهل بالسعر ولذلك نهى النبى ان يبيع حاضر لباد وقال دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ( وقيل لا بن عباس ما قوله ( لا يبيع حاضر لباد ( قال لا يكون له سمسار وهذا نهى عنه لما فيه من ضرر المشترين فان المقيم اذا توكل للقادم فى بيع سلعة يحتاج الناس اليها والقادم لا يعرف السعر ضر ذلك المشترى فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (
ومثل ذلك ( الاحتكار ( لما يحتاج الناس إليه روى مسلم فى صحيحه عن معمر بن عبد الله أن النبى قال ( لا يحتكر الا خاطئ ( فان المحتكر هو الذى يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد اغلاءه عليهم وهو ظالم للخلق المشترين
ولهذا كان لولى الامر ان يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس فى
____________________
(28/75)
مخمصة فانه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل ولهذا قال الفقهاء من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله ولو امتنع من بيعه الا بأكثر من سعره لم يستحق
الا سعره ومن
هنا يتبين ان السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ومنه ما هو عدل جائز فاذا تضمن ظلم الناس واكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه او منعهم مما أباحه الله لهم فهو حرام واذا تضمن العدل بين الناس مثل اكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب
فاما الأول فمثل ما روى أنس قال غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله لو سعرت فقال ( ان الله هو القابض الباسط الرازق المسعر وانى لارجو أن ألقى الله ولا يطلبنى أحد بمظلمة ظلمتها اياه فى دم ولامال ( رواه أبو داود والترمذى وصححه فاذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر اما لقلة الشيء واما لكثرة الخلق فهذا إلى الله فالزام الخلق ان يبيعوا بقيمة بعينها اكراه بغير حق
وأما الثانى فمثل ان يمتنع ارباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس
____________________
(28/76)
اليها الا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ولا معنى للتسعير الا الزامهم بقيمة المثل فيجب ان يلتزموا بما ألزمهم الله به
وأبلغ من هذا ان يكون الناس قد التزموا ان لا يبيع الطعام او غيره الا أناس معروفون لاتباع تلك السلع الا لهم ثم يبيعونها هم فلو باع غيرهم ذلك منع اما ظلما لوظيفة تؤخذ من البائع او غير ظلم لما فى ذلك من الفساد فها هنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون الا بقيمة المثل ولا يشترون أموال الناس الا بقيمة المثل بلا تردد فى ذلك عند أحد من العلماء لأنه اذا كان قد منع غيرهم ان يبيع ذلك النوع او يشتريه فلو سوغ لهم ان يبيعوا بما اختاروا أواشتروا بما اختاروا كان ذلك ظلما للخلق من وجهين ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال وظلما للمشترين منهم والواجب اذا لم يمكن دفع جميع الظلم ان يدفع الممكن منه فالتسعير فى مثل هذا واجب بلا نزاع وحقيقته إلزامهم ان لا يبيعوا او لا يشتروا الا بثمن المثل وهذا
واجب فى مواضع كثيرة من الشريعة فانه كما ان الاكراه على البيع لا يجوز الا بحق يجوز الا كراه على البيع بحق فى مواضع مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة والاكراه على ان لا يبيع الا بثمن المثل لا يجوز الا بحق ويجوز فى مواضع مثل المضطر إلى
____________________
(28/77)
طعام الغير ومثل الغراس والبناء الذى فى ملك الغير فان لرب الارض ان يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر ونظائره كثيرة
وكذلك السراية فى العتق كما قال النبى ( من أعتق شركا له فى عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد والا فقد عتق منه ما عتق (
وكذلك من وجب عليه شراء شيء للعبادات كآلة الحج ورقبة العتق وماء الطهارة فعليه أن يشتريه بقيمة المثل ليس له أن يمتنع عن الشراء الا بما
يختار وكذلك فيما يجب عليه من طعام او كسوة لمن عليه نفقته اذا وجد الطعام او اللباس الذى يصلح له فى العرف بثمن المثل لم يكن له ان ينتقل إلى ما هو دونه حتى يبذل له ذلك بثمن يختاره ونظائره كثيرة
ولهذا منع غير واحد من العلماء كأبى حنيفة وأصحابة القسام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر ان يشتركوا والناس محتاجون اليهم أغلوا عليهم الأجر فمنع البائعين الذين تواطؤا على أن لايبعوا إلا بثمن قدروه أولى وكذلك منع المشترين اذا تواطؤا على أن يشتركوا فانهم اذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضا
____________________
(28/78)
فاذا كانت الطائفة التى تشترى نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف وينموا ما يشترونه كان هذا أعظم عدوانا من تلقى السلع ومن بيع الحاضر للبادي ومن النجش ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فانه يجب أن لايباع الا بثمن المثل اذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائة عامة
ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس مثل حاجة الناس إلى الفلاحة والنساجة والبناية فان الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه وثياب يلبسونها ومساكن يسكنونها فاذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم كما كان يجلب إلى الحجاز على عهد رسول الله كانت الثياب تجلب اليهم من اليمن ومصر والشام وأهلها كفار وكانوا يلبسون ما نسجه الكفار ولا يغسلونه فاذا لم يجلب إلى ناس البلد ما يكفيهم احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب ولابد لهم من طعام اما مجلوب من غير بلدهم واما من زرع بلدهم وهذا هو الغالب وكذلك لا بد لهم من مساكن يسكنونها فيحتاجون إلى البناء فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من اصحاب الشافعى وأحمد بن حنبل وغيرهم
____________________
(28/79)
كأبى حامد الغزالى وأبى الفرج بن الجوزى وغيرهم ان هذه الصناعات فرض على الكفاية فانه لا تتم مصلحة الناس الا بها كما أن الجهاد فرض على الكفاية الا أن يتعين فيكون فرضا على الاعيان مثل أن يقصد العدو بلدا او مثل أن يستنفر الامام أحدا
وطلب العلم الشرعى فرض على الكفاية الافيما يتعين مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه فان هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين ( وكل من أراد الله به خيرا لا بد ان يفقهه فى الدين فمن لم يفقهه فى الدين لم يرد الله به خيرا والدين ما بعث الله به رسوله وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به وعلى كل أحد أن يصدق محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر تصديقا عاما وطاعة عامة ثم اذا ثبت عنه خبر كان عليه ان يصدق به مفصلا واذا كان مأمورا من جهة بأمر معين كان عليه أن يطيعه طاعة مفصل
ة وكذلك غسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم فرض على الكفاية
وكذلك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض على الكفاية
____________________
(28/80)
والولايات كلها الدينية مثل إمرة المؤمنين وما دونها من ملك ووزارة وديوانية سواء كانت كتابة خطاب او كتابة حساب لمستخرج او مصروف فى أرزاق المقاتلة او غيرهم ومثل امارة حرب وقضاء وحسبة وفروع هذه الولايات انما شرعت للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
وكان رسول الله فى مدينته النبوية يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور ويولى فى الأماكن البعيدة عنه كما ولى على مكة عتاب بن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبى العاص وعلى قرى عرينة خالد بن سعيد بن العاص وبعث عليا ومعاذا وأبا موسى إلى اليمن وكذلك كان يؤمر على السرايا ويبعث على الأموال الزكوية السعاة فيأخذونها ممن هي عليه ويدفعونها إلى مستحقيها الذين سماهم الله فى القرآن فيرجع الساعى إلى المدينة وليس معه الا السوط لا يأتى إلى النبى صلى الله عليه وسلم بشيء اذا وجد لها موضعا يضعها فيه
وكان النبى صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال يحاسبهم على المستخرج والمصروف كما فى الصحيحين عن ابى حميد الساعدى ان النبى استعمل رجلا من الأزد يقال له بن اللتبية على الصدقات فلما رجع حاسبه فقال هذا لكم
____________________
(28/81)
وهذا أهدى إلى فقال النبى ( ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدى إلى أفلا قعد فى بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا والذى نفسى بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا الا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته ان كان بعيرا له رغاء وان كانت بقرة لها خوار وان كانت شاه تيعر ثم رفع يديه إلى السماء وقال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ( قالها مرتين أو ثلاثا
والمقصود هنا أن هذه الأعمال التى هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الانسان صارت فرض عين عليه لاسيما ان كان غيره عاجزا عنها فاذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولى الأمر عليه اذا امتنعوا عنه بعوض المثل ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم فان الجند يلزمون بأن لا يظلموا الفلاح كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند
والمزارعة جائزة فى أصح قولى
____________________
(28/82)
العلماء وهى عمل المسلمين على عهد نبيهم وعهد خلفائه الراشدين وعليها عمل آل أبى بكر وآل عمر وآل عثمان وآل على وغيرهم من بيوت المهاجرين وهى قول أكابر الصحابة كابن مسعود وهى مذهب فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل واسحق بن راهويه وداود بن على والبخارى ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأبى بكر بن المنذر وغيرهم ومذهب الليث بن سعد وبن أبى ليلى وأبى يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم من فقهاء المسلمين وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر عن خيبر وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم وكان البذر منهم لا من النبى صلى الله عليه وسلم ولهذا كان الصحيح من قولى العلماء أن البذر يجوز أن يكون من العامل بل طائفة من الصحابة قالوا لا يكون البذر الا من العامل
والذى نهى عنه النبى من المخابرة وكراء الأرض قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة ومثل هذا الشرط باطل بالنص وإجماع العلماء وهو كما لو شرط فى المضاربة لرب المال دراهم معينة فان هذا لا يجوز بالاتفاق لأن المعاملة مبناها على العدل وهذه المعاملات من جنس المشاركات والمشاركة انما تكون اذا كان لكل من الشريكين جزء شائع
____________________
(28/83)
كالثلث والنصف فاذا جعل لأحدهما شيء مقدر لم يكن ذلك عدلا بل كان ظلما
وقد ظن طائفة من العلماء أن هذه المشاركات من باب الاجارات بعوض مجهول فقالوا القياس يقتضى تحريمها ثم منهم من حرم المساقاة والزراعة وأباح المضاربة استحبابا للحاجة لان الدراهم لا يمكن إجارتها كما يقول أبو حنيفة ومنهم من أباح المساقاة إما مطلقا كقول مالك والقديم للشافعي أو على النخل والعنب كالجديد للشافعى لأن الشجر لا يمكن اجارتها بخلاف الأرض واباحوا ما يحتاج إليه من المزارعة تبعا للمساقاة فأباحوا المزارعة تبعا للمساقاة كقول الشافعى اذا كانت الارض أغلب أو قدروا ذلك بالثلث كقول مالك وأما جمهور السلف وفقهاء الأمصار فقالوا هذا من باب المشاركة لا من باب الاجارة التى يقصد فيها العمل فان مقصود كل منهما ما يحصل من الثمر والزرع وهما متشاركان هذا ببدنه وهذا بماله كالمضاربة
ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن هذه المشاركات اذا فسدت وجب نصيب المثل لا أجرة المثل فيجب من الربح أو النماء إما ثلثه وإما نصفه كما جرت العادة فى مثل ذلك ولا يجب أجرة مقدرة فان ذلك قد يستغرق المال واضعافه
وأنما يجب فى الفاسد من
____________________
(28/84)
العقود نظير ما يجب فى الصحيح والواجب فى الصحيح ليس هو أجرة مسماة بل جزء شائع من الربح مسمى فيجب فى الفاسدة نظير ذلك
والمزارعة آصل من المؤاجرة وأقرب إلى العدل والأصول فانهما يشتركان فى المغنم والمغرم بخلاف المؤاجرة فان صاحب الأرض تسلم له الاجرة والمستأجر قد يحصل له زرع وقد لا يحصل والعلماء مختلفون فى جواز هذا وجواز هذا والصحيح جوازهما
وسواء كانت الأرض مقطعة أو لم تكن مقطعة وما علمت احدا من علماء المسلمين لا أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم قال ان إجارة الاقطاع لا تجوز وما زال المسلمون يؤجرون الأرض المقطعة من زمن الصحابة إلى زمننا هذا لكن بعض أهل زماننا ابتدعوا هذا القول قالوا لأن المقطع لا يملك المنفعة فيصير كالمستعير اذا اكرى الأرض المعارة وهذا القياس خطأ لوجهين
أحدهما أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له وإنما تبرع له المعير بها وأما أراضى المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين وولى الأمر قاسم يقسم بينهم حقوقهم ليس متبرعا لهم كالمعير والمقطع يستوفى المنفعة بحكم الاستحقاق كما يستوفى الموقوف عليه منافع الوقف واولى واذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف وان أمكن أن يموت فتنفسخ الأجارة بموته على أصح قولى العلماء فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الاقطاع
____________________
(28/85)
وان انفسخت الاجارة بموته او غير ذلك بطريق الأولى والأحرى الثانى ان المعير لو أذن فى الاجارة جازت الاجارة مثل الاجارة فى الأقطاع وولى الأمر يأذن للمقطعين فى الأجارة وإنما أقطعهم لينتفعوا بها إما بالمزارعة وإما بالأجارة ومن حرم الأنتفاع بها بالمؤاجرة والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم فان المساكن كالحوانيت والدور ونحو ذلك لا ينتفع بها المقطع الا بالأجارة وأما المزارع والبساتين فينتفع بها بالاجارة وبالمزارعة والمساقاة فى الأمر العام
والمرابعة نوع من المزارعة ولا تخرج عن ذلك الا اذا استكرى باجارة مقدرة من يعمل له فيها وهذا لا يكاد يفعله الا قليل من الناس لأنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء بخلاف المشاركة فانهما يشتركان فى المغنم والمغرم فهو أقرب إلى العدل فلهذا تختارة الفطر السليمة وهذه المسائل لبسطها موضع آخر والمقصود هنا ان ولى الأمر ان أجبر أهل الصناعات على ما تحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فانه يقدر أجرة المثل فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك ولايمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل وهذا من التسعير الواجب وكذلك اذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك فيستعمل باجرة المثل لا
____________________
(28/86)
يمكن المستعملون من ظلمهم ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم مع الحاجة اليهم فهذا تسعير فى الأعمال
وأما فى الاموال فاذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون والامام لو عين أهل الجهاد للجهاد تعين عليهم كما قال النبى ( وإذا استنفرتم فانفروا ( أخرجاه فى الصحيحين وفى الصحيح أيضا عنه أنه قال ( على المرء المسلم السمع والطاعة فى عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه ( فاذا وجب عليه أن يجاهد بنفسه وماله فكيف لا يجب عليه أن يبيع ما يحتاج إليه فى الجهاد بعوض المثل والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله فى أصح قولى العلماء وهو احدى الروايتين عن أحمد فان الله أمر بالجهاد بالمال والنفس فى غير موضع من القرآن وقد قال الله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبى صلى الله عليه وسلم اذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ( أخرجاه فى الصحيحين فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال كما ان من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن ومن أوجب على المعضوب أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه وأوجب الحج على المستطيع بماله فقوله
____________________
(28/87)
ظاهر التناقض
ومن ذلك اذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز فى البيوت كما كان أهل المدينه على عهد رسول الله فانه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا من يبيع طحينا ولا خبزا بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه فى بيوتهم فلم يكونوا يحتاجون إلى التسعير وكان من قدم بالحب باعه فيشتريه الناس من الجالبين ولهذا قال النبى ( الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ( وقال ( لا يحتكر الا خاطئ ( رواه مسلم فى صحيحه
وما يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم ( انه نهى عن قفيز الطحان ( فحديث ضعيف بل باطل فان المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز لعدم حاجتهم إلى ذلك كما ان المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارا لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد
ولهذا لما فتح النبى خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحة لعجز الصحابة عن فلاحتها لأن ذلك يحتاج إلى سكناها وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا نحو الف واربعمائة وانضم اليهم أهل سفينة جعفر فهؤلاء هم الذين قسم النبى بينهم أرض خيبر فلو أقام
____________________
(28/88)
طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التى لا يقوم بها غيرهم فلما كان فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم وكان النبى قد قال ( نقركم فيها ما شئنا وفى رواية ما أقركم الله ( وأمر باجلائهم منها عند موته فقال ( اخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب (
ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبرى إلى ان الكفار لا يقرون فى بلاد المسلمين بالجزية الا اذا كان المسلمون محتاجين اليهم فاذا استغنوا عنهم اجلوهم كأهل خيبر وفى هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه
والمقصود هنا أن الناس اذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين
احدهما أن يحتاجوا إلى صناعتهم كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت فهؤلاء يستحقون الأجرة وليس لهم عند الحاجة اليهم أن يطالبوا إلا باجرة المثل كغيرهم من الصناع
والثانى أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع فيحتاجوا إلى من يشترى الحنطة ويطحنها والى من يخبزها ويبيعها خبزا لحاجة الناس إلى
____________________
(28/89)
شراء الخبز من الاسواق فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة الناس المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاؤوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضررا عظيما فان هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين كما يجب على كل من اشترى شيئا يقصد أن يبيعه بربح سواء عمل فيه عملا أو لم يعمل وسواء اشترى طعاما او ثيابا او حيوانا وسواء كان مسافرا ينقل ذلك من بلد إلى بلد أو كان متربصا به يحبسه إلى وقت النفاق او كان مديرا يبيع دائما ويشترى كأهل الحوانيت فهؤلاء كلهم تجب عليهم زكاة التجار واذا وجب عليهم أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم أو دخلوا طوعا فيما يحتاج إليه الناس من غير الزام لواحد منهم بعينه فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة فلا يبيعوا الحنطة والدقيق الا بثمن المثل بحيث يربحون الربح بالمعروف من غير اضرار بهم ولا بالناس
وقد تنازع العلماء فى التسعير فى مسالتين
إحداهما اذا كان للناس سعر غال فأراد بعضهم أن يبيع باغلى من ذلك فانه يمنع منه فى السوق فى مذهب مالك وهل يمنع النقصان على قولين لهم
وأما الشافعى وإصحاب أحمد كأبى حفص العكبرى والقاضى
____________________
(28/90)
أبى يعلى والشريف أبى جعفر وأبى الخطاب وبن عقيل وغيرهم فمنعوا من ذلك واحتج مالك بما رواه فى موطئه عن يونس بن سيف عن سعيد بن المسيب ان عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبى بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق فقال له عمر إما أن تزيد فى السعر وإما أن ترفع من سوقنا وأجاب الشافعى وموافقوه بما رواه فقال حدثنا الدراوردى عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له مدين لكل درهم فقال له عمر قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك فاما أن ترفع السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطبا فى داره فقال ان الذى قلت لك ليس بمعرفة منى ولا قضاء انما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع وقال الشافعى وهذا الحديث مقتضاه ليس بخلاف ما رواه مالك ولكنه روى بعض الحديث او رواه عنه من رواه وهذا أتى باول الحديث وآخره وبه أقول لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد ان يأخذها او شيئا منها بغير طيب
____________________
(28/91)
أنفسهم الا فى المواضع التى تلزمهم وهذا ليس منها
قلت وعلى قول مالك قال أبو الوليد الباجي الذى يؤمر من حط عنه ان يلحق به هو السعر الذى عليه جمهور الناس فاذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر أمروا باللحاق بسعر الجمهور لأن المراعى حال الجمهور وبه تقوم المبيعات وروى بن القاسم عن مالك لا يقام الناس لخمسة قال وعندى أنه يجب ان ينظر فى ذلك إلى قدر الأسواق وهل يقام من زاد فى السوق أى فى قدر المبيع بالدرهم مثلا كما يقام من نقص منه قال أبو الحسن بن القصار المالكى اختلف أصحابنا فى قول مالك ولكن من حط سعرا فقال البغداديون أراد من باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية وقال قوم من المصريين أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة قال وعندى ان الأمرين جميعا ممنوعان لأن من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة أفسد على أهل السوق بيعهم فربما أدى إلى الشغب والخصومة ففى منع الجميع مصلحة قال أبو الوليد ولا خلاف ان ذلك حكم أهل السوق
2 وأما الجالب ففى كتاب محمد لا يمنع الجالب ان يبيع فى السوق دون الناس وقال بن حبيب ما عدا القمح والشعير الا بسعر الناس والا رفعوا قال وأما جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء
____________________
(28/92)
الا أن لهم فى أنفسهم حكم أهل السوق إن أرخص بعضهم تركوا وان كثر المرخص قيل لمن بقى اما ان تبيعوا كبيعهم واما أن ترفعوا قال بن حبيب وهذا فى المكيل والموزون مأكولا أو غير مأكول دون مالا يكال ولا يوزن لأن غيره لا يمكن تسعيره لعدم التماثل فيه قال أبو الوليد يريد اذا كان المكيل والموزون متساويا فاذا اختلف لم يؤمر بائع الجيد أن يبيعه بسعر الدون
قلت والمسألة الثانية التى تنازع فيها العلماء فى التسعير أن لا يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه مع قيام الناس بالواجب فهذا منع منه جمهور العلماء حتى مالك نفسه فى المشهور عنه ونقل المنع ايضا عن بن عمر وسالم والقاسم بن محمد وذكر أبو الوليد عن سعيد بن المسيب وربيعة بن ابى عبد الرحمن وعن يحيى بن سعيد أنهم أرخصوا فيه ولم يذكر الفاظهم
وروى أشهب عن مالك وصاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن ثلث رطل ولحم الابل نصف رطل والا خرجوا من السوق قال إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس 8 به ولكن أخاف أن يقوموا من السوق
واحتج أصحاب هذا القول بأن هذا مصلحة للناس بالمنع من اغلاء
____________________
(28/93)
السعر عليهم ولا فساد عليهم قالوا ولا يجبر الناس على البيع انما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولى الامر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشترى ولا يمنع البائع ربحا ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس
وأما الجمهور فاحتجوا بما تقدم من حديث النبى وقد رواه ايضا أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة أنه قال جاء رجل إلى النبى فقال له يا رسول الله سعر لنا فقال ( بل أدعو الله ( ثم جاء رجل فقال يا رسول الله سعر لنا فقال ( بل الله يرفع ويخفض وإنى لآرجو ان القى الله وليست لأحد عندى مظلمة ( قالوا ولأن اجبار الناس على بيع لا يجب او منعهم مما يباح شرعا ظلم لهم والظلم حرام
وأما صفة ذلك عند من جوزه فقال بن حبيب ينبغى للامام أن يجمع وجوه اهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا ولا يجبرون على التسعير ولكن عن رضا قال وعلى هذا أجازه من أجازه قال أبو الوليد ووجه ذلك أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين ويجعل للباعة
____________________
(28/94)
فى ذلك من الربح ما يقوم بهم ولا يكون فيه اجحاف بالناس واذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار واخفاء الأقوات واتلاف اموال الناس قلت فهذا الذى تنازع فيه العلماء وأما اذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب ويعاقبون على تركه وكذلك من وجب عليه ان يبيع بثمن المثل فامتنع ان يبيع الا بأكثر منه فهنا يؤمر بما يجب عليه ويعاقب على تركه بلا ريب
ومن منع التسعير مطلقا محتجا بقول النبى ( ان الله هو المسعر القابض الباسط وانى لأرجو ان ألقى الله وليس أحد منكم يطالبنى بمظلمة فى دم ولا مال ( فقد غلط فان هذه قضية معينة ليست لفظا عاما وليس فيها ان أحدا امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه او طلب فى ذلك اكثر من عوض المثل
ومعلوم ان الشيء اذا رغب الناس فى المزايدة فيه فاذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم والمدينة كما ذكرنا انما كان الطعام الذى يباع فيها غالبا من الجلب وقد يباع فيها شيء يزرع فيها وانما كان يزرع فيها
____________________
(28/95)
الشعير فلم يكن البائعون ولا المشترون ناسا معينين ولم يكن هناك احد يحتاج الناس إلى عينه او إلى ماله ليجبر على عمل او على بيع بل المسلمون كلهم من جنس واحد كلهم يجاهد فى سبيل الله ولم يكن من المسلمين البالغين القادرين على الجهاد الا من يخرج فى الغزو وكل منهم يغزو بنفسه وماله او بما يعطاه من الصدقات او الفيء او ما يجهزه به غيره وكان إكراه البائعين على ان لا يبيعوا سلعهم الا بثمن معين اكراها بغير حق وإذا لم يكن يجوز إكراههم على أصل البيع فاكراههم على تقدير الثمن كذلك لا يجوز
واما من تعين عليه ان يبيع فكالذى كان النبى قدر له الثمن الذى يبيع به ويسعر عليه كما فى الصحيحين عن النبى انه قال ( من اعتق شركا له فى عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ( فهذا لما وجب عليه أن يملك شريكه عتق نصيبه الذى لم يعتقه ليكمل الحرية فى العبد قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل لا وكس ولا شطط ويعطى قسطه من القسمة فان حق الشريك فى نصف القيمة لا فى قيمة النصف عند جماهير العلماء كمالك وأبى حنيفة وأحمد ولهذا قال هؤلاء كل ما لا يمكن قسمه فانه يباع ويقسم ثمنه اذا طلب احد الشركاء ذلك
____________________
(28/96)
ويجبر الممتنع على البيع وحكى بعض المالكية ذلك اجماعا لأن حق الشريك فى نصف القيمة كما دل عليه هذا الحديث الصحيح ولا يمكن اعطاؤه ذلك الا ببيع الجميع فاذا كان الشارع يوجب اخراج الشئ من ملك مالكه بعوض المثل لحاجة الشريك إلى اعتاق ذلك وليس للمالك المطالبة بالزيادة على نصف القيمة فكيف بمن كانت حاجته اعظم من الحاجة إلى اعتاق ذلك النصيب مثل حاجة المضطر إلى الطعام واللباس وغير ذلك
وهذا الذى امر به النبى من تقويم الجميع بقيمة المثل هو حقيقة التسعير وكذلك يجوز للشريك ان ينزع النصف المشفوع من يد المشترى بمثل الثمن الذى اشتراه به لا بزيادة للتخلص من ضرر المشاركة والمقاسمة وهذا ثابت بالسنة المستفيضة واجماع العلماء وهذا الزام له بان يعطيه ذلك الثمن لا بزيادة لأجل تحصيل مصلحة التكميل لواحد فكيف بما هو اعظم من ذلك ولم يكن له ان يبيعه للشريك بما شاء بل ليس له أن يطلب من الشريك زيادة على الثمن الذى حصل له به وهذا فى الحقيقة من نوع التولية فان التولية أن يعطى المشترى السلعة لغيره بمثل الثمن الذى اشتراها به وهذا ابلغ من البيع بثمن المثل ومع هذا فلا يجبر المشترى على أن يبيعه لأجنبى غير الشريك الا بما شاء اذ لا حاجة بذاك إلى
____________________
(28/97)
شرائه كحاجة الشريك
فأما اذا قدر ان قوما اضطروا إلى سكنى فى بيت انسان اذا لم يجدوا مكانا يأوون إليه الا ذلك البيت فعليه ان يسكنهم وكذلك لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثيابا يستدفئون بها من البرد او إلى الات يطبخون بها او يبنون او يسقون يبذل هذا مجانا واذا احتاجوا إلى ان يعيرهم دلوا يستقون به او قدرا يطبخون فيها أو فأسا يحفرون به فهل عليه بذله باجرة المثل لا بزيادة فيه قولان للعلماء فى مذهب احمد وغيره والصحيح وجوب بذل ذلك مجانا اذا كان صاحبها مستغنيا عن تلك المنفعة وعوضها كما دل عليه الكتاب والسنة
قال الله تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون } وفى السنن عن بن مسعود قال كنا نعد ( الماعون ( عارية الدلو والقدر والفاس
وفى الصحيحين عن النبى انه لما ذكر الخيل قال ( هي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فاما الذى هي له أجر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله فى رقابها ولا ظهورها ( وفى الصحيحين عن النبى أنه قال ( من حق الابل اعارة دلوها واضراب فحلها ( وثبت عنه ( أنه نهى عن عسب الفحل ( وفى الصحيحين عنه انه
____________________
(28/98)
قال ( لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة فى جداره ( وايجاب بذل هذه المنفعة مذهب أحمد وغيره
ولو احتاج إلى إجراء ماء فى أرض غيره من غير ضرر بصاحب الأرض فهل يجبر على قولين للعلماء هما روايتان عن احمد والأخبار بذلك مأثورة عن عمر بن الخطاب قال للمهنع والله لنجرينها ولو على بطنك ومذهب غير واحد من الصحابة والتابعين ان زكاة الحلى عاريته وهو احد الوجهين فى مذهب احمد وغيره
والمنافع التى يجب بذلها نوعان منها ما هو حق المال كما ذكره فى الخيل والابل وعارية الحلي ومنها ما يجب لحاجة الناس
وايضا فان بذل منافع البدن يجب عند الحاجة كما يجب تعليم العلم وافتاء الناس وأداء الشهادة والحكم بينهم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد وغير ذلك من منافع الابدان فلا يمنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج وقد قال تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } ) وقال { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله }
وللفقهاء فى أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال هي أربعة أوجه فى مذهب أحمد وغيره
( أحدها ( أنه لا يجوز مطلقا و ( الثانى ( لا يجوز الا عند الحاجة
____________________
(28/99)
و ( الثالث ( يجوز إلا أن يتعين عليه و ( الرابع ( يجوز فان أخذ أجرا عند العمل لم ياخذ عند الأداء وهذه المسائل لبسطها مواضع أخر
والمقصود هنا انه إذا كانت السنة قد مضت فى مواضع بأن على المالك ان يبيع ماله بثمن مقدر اما بثمن المثل واما بالثمن الذى اشتراه به لم يحرم مطلقا تقدير الثمن ثم ان ما قدر به النبى فى شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية وذلك حق الله وما إحتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله ولهذا يجعل العلماء هذه حقوقا لله تعالى وحدودا لله بخلاف حقوق الأدميين وحدودهم وذلك مثل حقوق المساجد ومال الفيء والصدقات والوقف على أهل الحاجات والمنافع العامة ونحو ذلك ومثل حد المحاربة والسرقة والزنا وشرب الخمر فان الذى يقتل شخصا لأجل المال يقتل حتما باتفاق العلماء وليس لورثة المقتول العفو عنه بخلاف من يقتل شخصا لغرض خاص مثل خصومة بينهما فان هذا حق لأولياء المقتول ان أحبوا قتلوا وان أحبوا عفوا باتفاق المسلمين
وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة ليس الحق فيها لواحد بعينة فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب
____________________
(28/100)
الشريك الآخر ما شاء وهنا عموم الناس عليهم شراء الطعام والثياب لا نفسهم فلو مكن من يحتاج إلى سلعته أن لا يبيع الا بما شاء لكان ضرر الناس أعظم
ولهذا قال الفقهاء اذا اضطر الانسان إلى طعام الغير كان عليه بذله له بثمن المثل فيجب الفرق بين من عليه ان يبيع وبين من ليس عليه ان يبيع وأبعد الأئمة عن ايجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعى ومع هذا فانه يوجب على من أضطر الأنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل
وتنازع اصحابه فى جواز التسعير للناس اذا كان بالناس حاجة ولهم فيه وجهان وقال أصحاب أبى حنيفة لا ينبغى للسلطان ان يسعر على الناس الا اذا تعلق به حق ضرر العامة فاذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على أعتبار السعر فى ذلك فنهاه عن الاحتكار فان رفع التاجر فيه إليه ثانيا حبسه وعزره على مقتضى رايه زجرا له او دفعا للضرر عن الناس فان كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين الا بالتسعير سعر حينئذ بمشورة اهل الراى والبصيرة واذا تعدى احد بعد ما فعل ذلك أجبره القاضي وهذا على قول ابى حنيفة ظاهر حيث لايرى الحجر على الحر وكذا عندهما أي عند ابى
____________________
(28/101)
يوسف ومحمد الا ان يكون الحجر على قوم معينين ومن باع منهم بما قدره الامام صح لانه غير مكره عليه
وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه قيل هو ( على ) الاختلاف المعروف فى مال المديون وقيل يبيع ها هنا بالاتفاق لان ابا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام والسعر لما غلا فى عهد النبى وطلبوا منه التسعير فامتنع لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام إمتنع من بيعه بل عامة من كانوا يبيعون الطعام انما هم جالبون يبيعونه اذا هبطوا السوق
لكن نهى النبى أن يبيع حاضر لباد نهاه أن يكون له سمسارا وقال ( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ( وهذا ثابت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم من غير وجه فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادى الجالب للسلعة لانه اذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس إليه أغلى الثمن على المشترى فنهاه عن التوكل له مع أن جنس الوكالة مباح لما فى ذلك من زيادة السعر على الناس
ونهى النبى عن تلقى الجلب وهذا ايضا ثابت فى الصحيح من غير وجه وجعل للبائع إذا هبط إلى السوق الخيار ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع بدون ثمن المثل وغبنه فأثبت النبى الخيار لهذا
____________________
(28/102)
البائع وهل هذا الخيار فيه ثابت مطلقا أو اذا غبن قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد اظهرهما أنه انما يثبت له الخيار اذا غبن والثانى يثبت له الخيار مطلقا وهو ظاهر مذهب الشافعى
وقال طائفة بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشتري اذا تلقاه المتلقى فاشتراه ثم باعه
وفى الجملة فقد نهى النبى عن البيع والشراء الذى جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر وهو ثمن المثل ويعلم المشترى بالسلعة وصاحب القياس الفاسد يقول للمشترى أن يشترى حيث شاء وقد اشترى من البائع كما يقول وللبادى أن يوكل الحاضر
ولكن الشارع رأى المصلحة العامة فان الجالب اذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل فيكون المشترى غارا له ولهذا ألحق مالك واحمد بذلك كل مسترسل
والمسترسل الذى لا يماكس والجاهل بقيمة المبيع فانه بمنزلة الجالبين الجاهلين بالسعر فتبين أنه يجب على الإنسان أن لايبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف وهو ثمن المثل وأن لم يكن هؤلاء محتاجين إلى الابتياع من ذلك البائع لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو مسلمين إلى البائع غير مما كسين له والبيع يعتبر فيه الرضا والرضا يتبع العلم ومن لم يعلم انه غبن فقد يرضى وقد لا
____________________
(28/103)
يرضى فاذا علم أنه غبن ورضى فلا بأس بذلك واذا لم يرض بثمن المثل لم يلتفت إلى سخطه
ولهذا اثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس فان الأصل فى البيع الصحة وان يكون الباطن كالظاهر فاذا أشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك فاذا تبين ان فى السلعة غشا أو عيبا فهو كما لو وصفها بصفة وتبينت بخلافها فقد يرضى وقد لا يرضى فان رضى والا فسخ البيع وفى الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فان صدقا وبينا بورك لهما فى بيعهما وان كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ( وفى السنن ان رجلا كانت له شجرة فى أرض غيره وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة فشكا ذلك إلى النبى فأمره أن يقبل منه بدلها أو يتبرع له بها فلم يفعل فأذن لصاحب الأرض فى قلعها وقال لصاحب الشجرة ( انما أنت مضار ( فهنا أوجب عليه اذا لم يتبرع بها أن يبيعها فدل على وجوب البيع عند حاجة المشترى وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام
ونظير هؤلاء الذين يتجرون فى الطعام بالطحن والخبز ونظير هؤلاء صاحب الخان والقيسارية والحمام اذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك وهو انما ضمنها ليتجر فيها فلو امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء وهم
____________________
(28/104)