الواجب ليس بمعلوم كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه ويشك فى فعلها
وهذا أصل ينبغى معرفته فإنه يحسم مادة المنازع الذى يقول إن هذا يسمى ساجدا وراكعا فى اللغة فإنه قال بلا علم ولا حجة وإذا طولب بالدليل إنقطع وكانت الحجة لمن يقول ما نعلم براءة ذمته إلا بالسجود والركوع المعروفين
ثم يقال لو وجد إستعمال لفظ ( الركوع والسجود ( فى لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة لكان المعفر خده ساجدا ولكان الراغم أنفه وهو الذى لصق أنفه بالرغام وهو التراب ساجدا لا سيما عند المنازع الذى يقول يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة فيكون نقر الأرض بالأنف سجودا ومعلوم أن هذا ليس من لغة القوم كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب ونحوها سجودا ولو كان ذلك كذلك لكان يقال للذى يضع وجهه على الأرض ليمص شيئا على الأرض أو يعضه أو ينقله ونحو ذلك ساجدا
وأيضا فإن الله أوجب المحافظة والإدامة على الصلاة وذم إضاعتها والسهو عنها فقال فى أول سورة المؤمنين { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون }
____________________
(22/570)
وقد سبق بيان أن هذه الخصال واجبة وكذلك فى سورة سأل سائل قال ( { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون } فذم الإنسان كله إلا ما إستثناه فمن لم يكن متصفا بما إستثناه كان مذموما كما فى قوله تعالى { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وقال تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقال تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } وقال تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين }
____________________
(22/571)
وهذه الآيات تقتضى ذم من ترك شيئا من واجبات الصلاة وإن كان فى الظاهر مصليا مثل أن يترك الوقت الواجب أو يترك تكميل الشرائط والأركان من الأعمال الظاهرة والباطنة وبذلك فسرها السلف ففى تفسير عبد بن حميد وذكره عن إبن المنذر فى تفسيره من حديث عبد حدثنا روح عن سعيد عن قتادة { والذين هم على صلواتهم يحافظون } على وضوئها ومواقيتها وركوعها وروى أبوبكر بن المنذر فى تفسيره من حديث أبى عبد الرحمن عن عبد الله قال قيل لعبد الله إن الله أكثر ذكر الصلاة فى القرآن { الذين هم على صلاتهم دائمون } و { الذين هم في صلاتهم خاشعون } و { والذين هم على صلاتهم يحافظون } فقال عبد الله ذلك على مواقيتها فقالوا ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك قال تركها كفر وروى سعيد بن منصور حدثنا أبومعاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق فى قول الله { والذين هم على صلاتهم يحافظون } قال على مواقيتها فقالوا ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك قال تركها كفر وروى من حديث سعيد بن أبى مريم { الذين هم عن صلاتهم ساهون } بتضييع ميقاتها وروى عن أبى ثور عن إبن جريج فى قوله { والذين هم على صلواتهم يحافظون } المكتوبة والتى فى سأل سائل التطوع وهذا قول ضعيف
____________________
(22/572)
فصل (
وأما القدر المشروع للإمام فهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فى صحيح البخارى عن أبى قلابة عن مالك بن الحويرث أنه قال إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ثم صلوا كما رأيتمونى أصلى (
وأما ( القيام ( ففى صحيح مسلم عن جابر بن سمرة ( ان النبى كان يقرأ فى الفجر ب ( ق والقرآن المجيد ( ونحوها وكانت صلاته بعد إلى تخفيف ( أى يجعل صلاته بعد الفجر خفيفة كما فى صحيح مسلم أيضا عنه قال كان رسول الله يقرأ فى الظهر بالليل إذا يغشى وفى العصر نحو ذلك وفى الصبح أطول من ذلك وفى الصحيحين عن أبى برزة الأسلمى قال ( كان رسول الله يصلى الهجير التى تدعونها الأولى لحين تدحض الشمس ويصلى العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحلة فى أقصى المدينة والشمس حية قال الراوى ونسيت ما قال فى المغرب وكان يستحب أن يؤخر العشاء التى تدعونها العتمة
____________________
(22/573)
وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ فيها بالستين إلى المائة (
وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال ( حزرنا قيام رسول الله فى الظهر والعصر فحزرنا قيامه فى الركعتين الأولتين من الظهر قدر ثلاثين آية قدر ( ألم السجدة ( وحزرنا قيامه فى الأولتين من العصر على قدر الآخرتين من الظهر وحزرنا قيامه فى الآخرتين من العصر على النصف من ذلك ( رواه مسلم وأبو داود والنسائى وفى الصحيحين وغيرهما عن جابر بن سمرة قال قال عمر لسعد بن أبى وقاص لقد شكاك الناس فى كل شيء حتى فى الصلاة قال أما أنا فأمد فى الأوليين وأحذف فى الأخريين ولا آلو ما إقتديت به من صلاة رسول الله قال ذاك الظن بك يا أبا إسحاق وفى صحيح مسلم أيضا عن أبى سعيد رضى الله عنه قال ( لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته ثم يتوضأ ثم يأتى ورسول الله فى الركعة الأولى مما يطيلها ( وفى صحيح مسلم أيضا عن أبى وائل قال خطبنا عمار بن ياسر يوما فأوجز وأبلغ فقلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست فقال إنى سمعت رسول الله يقول إن طول صلاة الرجل وقصر
____________________
(22/574)
خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وإقصروا الخطبة وإن من البيان سحرا (
وفى صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال ( كنت أصلى مع النبى الصلوات فكانت صلاته قصدا ( أى وسطا
وفعله الذى سنة لأمته هو من التخفيف الذى أمر به الأئمة إذ التخفيف من الأمور الإضافية فالمرجع فى مقداره إلى السنة وذلك كما خرجاه فى الصحيحين عن جابر رضى الله عنه قال ( كان معاذ يصلى مع النبى ثم يرجع فيؤمنا وقال مرة ثم يرجع فيصلى بقومه فأخبر النبى وقال مرة العشاء فصلى معاذ مع النبى ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فإعتزل رجل من القوم فصلى فقيل نافقت فقال ما نافقت فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال إن معاذا يصلى معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله إنما نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا وأنه جاء يؤمنا فقرأ سورة البقرة فقال أفتان أنت يا معاذ اقرأ بكذا اقرأ بكذا قال أبوالزبير { سبح اسم ربك الأعلى } { والليل إذا يغشى } وفى رواية للبخارى عن جابر رضى الله عنه قال ( أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذا
____________________
(22/575)
يصلى وذكر نحوه فقال فى آخره فلولا صليت بسبح إسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى فإنه يصلى وراءك الضعيف والكبير وذو الحاجة ( وفى الصحيحين عن إبن مسعود رضى الله عنه قال ( جاء رجل إلى رسول الله فقال إنى لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله غضب فى موعظة قط أشد مما غضب يومئذ قال أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة ( وفى رواية ( فإن فيهم الضعيف والكبير ( وفى رواية ( فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة (
وفى صحيح البخارى من حديث أبى قتادة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إنى لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبى فأتجوز كراهية أن أشق على أمه (
وأما ( مقدار بقية الأركان مع القيام ( فقد أخرجاه فى الصحيحين عن شريك بن عبد الله بن ابى نمر عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال ( ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبى صلى الله عليه وسلم وفى رواية عن شريك عنه ( وإن كان ليسمع بكاء الصبى فيخفف مخافة أن تفتتن أمه ( وأخرجا فيهما من حديث
____________________
(22/576)
عبد العزيز بن صهيب عن انس بن مالك رضى الله عنه قال ( كان النبى يوجز الصلاة ويكملها ( وفى لفظ ( يوجز الصلاة ويتم (
واخرجا أيضا عن أبى قتادة عن أنس رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إنى لأدخل فى الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبى فأتجوز من صلاتى مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه ( رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس رضى الله عنه قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبى مع أمه وهو فى الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة (
وروى مسلم أيضا عن أنس رضى الله عنه قال ( ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول الله وكانت صلاته متقاربة وصلاة أبى بكر متقاربة فلما كان عمر رضى الله عنه مد فى صلاة الصبح ( وعن قتادة عن انس رضى الله عنه ( أن رسول الله كان من أخف الناس صلاة فى تمام (
فقول أنس رضى الله عنه ( ما صليت وراء إمام قط أخف ولا أتم صلاة من رسول الله ( يريد أنه كان أخف
____________________
(22/577)
الأئمة صلاة واتم الأئمة صلاة وهذا لإعتدال صلاته وتناسبها كما فى اللفظ الآخر ( وكانت صلاته معتدلة وفي اللفظ الآخر وكانت صلاته متقاربة ( لتخفيف قيامها وقعودها وتكون أتم صلاة لإطالة ركوعها وسجودها ولو أراد أن يكون نفس الفعل الواحد كالقيام هو أخف وهو أتم لناقض ذلك ولهذا بين التخفيف الذى كان يفعله إذا بكى الصبى وهو قراءة سورة قصيرة وبين أن عمر بن الخطاب مد فى صلاة الصبح وإنما مد فى القراءة فإن عمر رضى الله عنه كان يقرأ فى الفجر بسورة يونس وسورة هود وسورة يوسف
والذى يبين ذلك ما رواه أبو داود فى سننه عن انس بن مالك رضى الله عنه قال ( ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله فى تمام وكان رسول الله إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول ( قد أوهم ثم يكبر ويسجد وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم ( كما اخرجا فى الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت عن انس قال ( إنى لا آلو أن اصلى بكم كما كان رسول الله يصلى بنا ( قال ثابت ( فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع إنتصب قائما حتى يقول القائل قد نسى ( وللبخارى من حديث
____________________
(22/578)
شعبة عن ثابت قال قال أنس رضى الله عنه ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وكان يصلى فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسى (
فهذه أحاديث أنس الصحيحة تصرح أن صلاة النبى التى كان يوجزها ويكملها والتى كانت أخف الصلاة وأتمها أنه كان يقوم فيها من الركوع حتى يقول القائل أنه قد نسى ويقعد بين السجدتين حتى يقول القائل قد نسى وإذا كان فى هذا يفعل ذلك فمن المعلوم بإتفاق المسلمين والسنة المتواترة أن الركوع والسجود لا ينقصان عن هذين الإعتدالين بل كثير من العلماء يقول لا يشرع ولا يجوز أن يجعل هذين الإعتدالين بقدر الركوع والسجود بل ينقصان عن الركوع والسجود
وفى الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم قال ( غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن إبن الأشعث وسماه غندر فى رواية مطر بن ناجية فأمر أبا عبيدة بن عبد الله أن يصلى بالناس فكان يصلى فإذا رفع رأسه من الركوع قام قدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ( قال الحكم فذكرت ذلك لعبدالرحمن بن أبى
____________________
(22/579)
ليلى قال سمعت البراء بن عازب يقول ( كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه وركوعه وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة فذكرته لعمرو إبن مرة فقال ( قد رأيت عبد الرحمن بن أبى ليلى فلم تكن صلاته هكذا ( ولفظ مطر عن شعبة ( كان ركوع النبى وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء ( وهو فى الصحيح والسنن من حديث هلال بن أبى حميد عن بن أبى ليلى عن البراء بن عازب قال ( رمقت الصلاة مع محمد فوجدت قيامه فركوعه فإعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والإنصراف قريبا من السواء (
ويشهد لهذا ما رواه مسلم وأبو داود والنسائى عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن رسول الله ( كان يقول حين يرفع رأسه من الركوع سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد احق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما اعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (
وقوله ( أحق ما قال العبد ( هكذا هو فى الحديث وهو
____________________
(22/580)
خبر مبتدا محذوف وأما ما ذكره بعض المصنفين من الفقهاء والصوفية من قوله ( حق ما قال العبد ( فهو تحريف بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والسنة ليس له اصل فى الأثر ومعناه أيضا فاسد فإن العبد يقول الحق والباطل وأما الرب سبحانه وتعالى فهو يقول الحق ويهدى السبيل كما قال تعالى { فالحق والحق أقول }
وايضا فليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على الله عز وجل
وروى مسلم وغيره عن عطاء عن إبن عباس رضى الله عنهما ( أن النبى كان إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ماشئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما اعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (
وروى مسلم وغيره عن عبد الله بن ابى أوفى قال ( كان رسول الله إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ( وفى رواية أخرى لمسلم زاد بعد هذا أنه
____________________
(22/581)
كان يقول ( اللهم طهرنى من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس (
فإن قيل فإذا كانت هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التى إتفق الصحابة رضى الله عنهم على نقلها عنه وقد نقلها أهل الصحاح والسنن والمسانيد من هذه الوجوه وغيرها والصلاة عمود الدين فكيف خفى ذلك على طائفة من فقهاء العراق وغيرهم حتى لم يجعلوا الإعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين من ألافعال المقاربة للركوع والسجود ولا إستحبوا فى ذلك ذكرا أكثر من التحميد بقول ( ربنا لك الحمد ( حتى إن بعض المتفقهة قال إذا طال ذلك طولا كثيرا بطلت صلاته (
قيل سبب ذلك وغيره أن الذى مضت به السنة أن الصلاة يصليها بالمسلمين الأمراء وولاة الحرب فوالى الجهاد كان هو أمير الصلاة على عهد النبى وخلفائه الراشدين وما بعد ذلك إلى أثناء دوله بنى العباس والخليفة هو الذى يصلى بالناس الصلوات الخمس والجمعة لا يعرف المسلمون غير ذلك وقد أخبر النبى بما سيكون بعده من تغير الأمراء حتى قال ( سيكون من بعدى أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها وإجعلوا صلاتكم معهم نافلة ( فكان من هؤلاء من يؤخرها
____________________
(22/582)
عن وقتها حتى يضيع الوقت المشروع فيها كما أن بعضهم كان لا يتم التكبير أى لا يجهر بالتكبير فى إنتقالات الركوع وغيره ومنهم من لا يتم الإعتدالين وكان هذا يشيع فى الناس فيربو فى ذلك الصغير ويهرم فيه الكبير حتى إن كثيرا من خاصة الناس لا يظن السنة إلا ذلك فإذا جاء أمراء أحيوا السنة عرف ذلك كما رواه البخارى فى صحيحه عن قتادة عن عكرمة قال ( صليت خلف شيخ بمكة فكبر إثنتين وعشرين تكبيرة فقلت لإبن عباس إنه لأحمق فقال ثكلتك أمك سنة أبى القاسم (
وفى رواية ابى بشر عن عكرمة قال ( رأيت رجلا عند المقام يكبر فى كل خفض ورفع وإذا قام وإذا وضع فأخبرت إبن عباس فقال أو ليس تلك صلاة رسول الله لا أم لك ( وهذا يعنى به أن ذلك الإمام كان يجهر بالتكبير فكان الأئمة الذين يصلى خلفهم عكرمة لا يفعلون ذلك وإبن عباس لم يكن إماما حتى يعرف ذلك منه فأنكر ذلك عكرمة حتى أخبره إبن عباس وأما نفس التكبير فلم يكن يشتبه أمره على احد وهذا كما أن عامة الأئمة المتأخرين لا يجهرون بالتكبير بل يفعل ذلك المؤذن ونحوه فيظن أكثر الناس أن هذه هي السنة
ولا خلاف
____________________
(22/583)
بين اهل العلم أن هذه ليست هي السنة بل هم متفقون على ما ثبت عندهم بالتواتر عن النبى أن المؤذن وغيره من المأمومين لا يجهرون بالتكبير دائما كما أن بلالا لم يكن يجهر بذلك خلف النبى لكن إذا إحتيج إلى ذلك لضعف صوت الإمام أو بعد المكان فهذا قد إحتجوا لجوازه بأن أبا بكر الصديق رضى الله عنه كان يسمع الناس التكبير خلف النبى فى مرضه حتى تنازع الفقهاء فى جهر المأموم لغير حاجة هل يبطل صلاته أم لا
ومثل ذلك ما أخرجاه فى الصحيحين والسنن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال ( صليت خلف على بن أبى طالب أنا وعمران بن حصين فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما قضى الصلاة أخذ عمران بن حصين بيدي فقال قد ذكرنى هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال لقد صلى بنا صلاة محمد ( ولهذا لما جهر بالتكبير سمعه عمران ومطرف كما سمعه غيرهما
ومثل هذا ما فى الصحيحين والسنن أيضا عن ابى هريرة رضى الله عنه ( أنه كان يكبر فى كل صلاة من المكتوبة وغيرها يكبر
____________________
(22/584)
حين يقوم ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يقوم من الجلوس من الثنتين يفعل ذلك فى كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة ثم يقول حين ينصرف والذى نفسى بيده إنى لأقربكم شبها بصلاة رسول الله إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا )
وهذا كان يفعله أبوهريرة رضى الله عنه لما كان أميرا على المدينة فإن معاوية كان يعاقب بينه وبين مروان بن الحكم فى إمارة المدينة فيولى هذا تارة ويولى هذا تارة وكان مروان يستخلف وكان أبوهريرة يصلى بهم بما هو اشبه بصلاة رسول الله من صلاة مروان وغيره من امراء المدينة
وقوله ( فى المكتوبة وغيرها ( يعنى ما كان من النوافل مثل قيام رمضان كما أخرجه البخارى من حديث الزهري عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبى سلمة ( أن أبا هريرة رضى الله عنه كان يكبر فى صلاة من المكتوبة وغيرها فى رمضان وغيره فيكبر حين يقوم ويكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول ربنا لك الحمد (
وذكر نحوه وكان الناس قد إعتادوا ما يفعله غيره فلم يعرفوا ذلك حتى سألوه كما رواه مسلم من حديث يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة
____________________
(22/585)
أن أبا هريرة رضى الله عنه كان يكبر فى الصلاة كلما رفع ووضع فقلت يا أبا هريرة ما هذا التكبير قال أنها لصلاة رسول الله وهذا كله معناه جهر الإمام بالتكبير ولهذا كانوا يسمونه إتمام التكبير لما فيه من إتمامه برفع الصوت وفعله فى كل خفض ورفع
يبين ذلك أن البخارى ذكر فى ( باب التكبير عند النهوض من الركعتين ( قال وكان إبن الزبير يكبر فى نهضته ثم روى البخارى من حديث فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث قال ( صلى لنا أبوسعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين رفع وحين قام من الركعتين وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ثم أردفه البخارى بحديث مطرف قال ( صليت أنا وعمران بن حصين خلف على بن أبى طالب رضى الله عنه فكان إذا سجد كبر وإذا رفع كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما سلم أخذ عمران بن حصين بيدي فقال لقد صلى بنا هذا صلاة محمد أو قال لقد ذكرنى هذا صلاة محمد
فهذا يبين أن الكلام إنما هو فى الجهر بالتكبير وأما اصل التكبير فلم يكن مما يخفى على أحد وليس هذا أيضا مما يجهل
____________________
(22/586)
هل يفعله الإمام أم لا يفعله ( فلا يصح لهم نفيه عن الأئمة كما لا يصح نفى القراءة فى صلاة المخافتة ونفى التسبيح فى الركوع والسجود ونفى القراءة فى الركعتين الآخرتين ونحو ذلك
ولهذا إستدل بعض من كان لا يتم التكبير ولا يجهر به بما روى عن سعيد بن عبد الرحمن بن ابزى عن أبيه أنه صلى مع رسول الله وكان لا يتم التكبير ( رواه ابو داود والبخارى فى التاريخ الكبير وقد حكى أبوداود الطيالسى أنه قال هذا عندنا باطل وهذا إن كان محفوظا فلعل إبن ابزى صلى خلف النبى صلى الله عليه وسلم فى مؤخر المسجد وكان النبى صوته ضعيفا فلم يسمع تكبيره فإعتقد أنه لم يتم التكبير وإلا فالأحاديث المتواترة عنه بخلاف ذلك فلو خالفها كان شاذا لا يلتفت إليه ومع هذا فإن كثيرا من الفقهاء المتأخرين يعتقدون أن إتمام التكبير هو نفس فعله ولو سرا وأن على بن أبى طالب وابا هريرة وغيرهما من الأئمة إنما أفادوا الناس نفس فعل التكبير فى الإنتقالات ولازم هذا أن عامة المسلمين ما كانوا يعرفون أن الصلاة لا يكبر فى خفضها ولا رفعها
وهذا غلط بلا ريب ولا نزاع بين من يعرف كيف كانت الأحوال ولو كان المراد التكبير سرا لم يصح نفى ذلك ولا إثباته فإن المأموم
____________________
(22/587)
لا يعرف ذلك من إمامه ولا يسمى ترك التكبير بالكلية تركا لأن الأئمة كانوا يكبرون عند الإفتتاح دون الإنتقالات وليس كذلك السنة بل الأحاديث المروية تبين ان رفع الإمام وخفضه كان فى جميعها التكبير وقد قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل ما الذى نقصوا من التكبير قال إذا إنحط إلى السجود من الركوع وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة
فقد بين الإمام أحمد أن الأئمة لم يكونوا يتمون التكبير بل نقصوا التكبير فى الخفض من القيام ومن القعود وهو كذلك والله أعلم لأن الخفض يشاهد بالأبصار فظنوا لذلك أن المأموم لا يحتاج إلى أن يسمع تكبيرة الإمام لأنه يرى ركوعه ويرى سجوده بخلاف الرفع من الركوع والسجود فإن المأموم لا يرى الإمام فيحتاج أن يعلم رفعه بتكبيره
ويدل على صحة ما قاله أحمد من حديث إبن أبزى أنه صلى خلف النبى فلم يتم التكبير وكان لا يكبر إذا خفض هكذا رواه أبوداود الطيالسى عن شعبة عن الحسن بن عمران عن سعيد بن عبد الرحمن بن ابزى عن ابيه
وقد ظن أبوعمر بن عبدالبر كما ظن غيره أن هؤلاء
____________________
(22/588)
السلف ما كانوا يكبرون فى الخفض والرفع وجعل ذلك حجة على أنه ليس بواجب لأنهم لا يقرون الأمة على ترك واجب حتى أنه قد روى عن إبن عمر ( أنه كان يكبر إذا صلى وحده فى الفرض وأما التطوع فلا ( قال أبوعمر لا يحكى أحمد عن إبن عمر إلا ما صح عنده إن شاء الله
قال وأما رواية مالك عن نافع عن إبن عمر ( أنه كان يكبر فى الصلاة كلما خفض ورفع ( فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إماما وغير إمام
قلت ما روى مالك لا ريب فيه والذى ذكره أحمد لا يخالف ذلك ولكن غلط إبن عبدالبر فيما فهم من كلام أحمد فإن كلامه إنما كان فى التكبير دبر الصلاة أيام العيد الأكبر لم يكن التكبير فى الصلاة ولهذا فرق احمد بين الفرض والنفل فقال أحب إلى أن يكبر فى الفرض دون النفل ولم يكن أحمد ولا غيره يفرقون فى تكبير الصلاة بين الفرض والنفل بل ظاهر مذهبه أن تكبير الصلاة واجب فى النفل كما أنه واجب فى الفرض وإن قيل هو سنة في الفرض قيل هو سنة في النفل فأما التفريق بينهما فليس قولا له ولا لغيره
واما الذى ذكره عن إبن عمر فى تكبيره دبر الصلاة إذا كان منفردا
____________________
(22/589)
فهو مشهور عنه وهى مسألة نزاع بين العلماء مشهورة وقد قال إبن عبدالبر لما ذكر حديث ابى سلمة أن أبا هريرة رضى الله عنه كان يصلى لهم فيكبر كلما خفض ورفع فلما إنصرف قال والله إنى لأشبهكم صلاة برسول الله فقال إبن عبدالبر إن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك ويدل عليه ما رواه إبن ابى ذئب فى موطئه عن سعيد بن سمعان عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال ( ثلاث كان رسول الله يفعلهن وتركهن الناس كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا وكان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله وكان يكبر كلما رفع وخفض ( قلت هذه الثلاثة تركها طائفة من الأئمة والفقهاء ممن لا يرفع اليدين ولا يوجب التكبير ومن لا يستحب الإستفتاح والإستعاذة ومن لا يجهر من الائمة بتكبير الإنتقال
قال وقد قال قوم من أهل العلم إن التكبير إنما هو إيذان بحركات الإمام وشعار للصلاة وليس بسنة إلا فى الجماعة أما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر ولهذا ذكر مالك هذا الحديث وحديث إبن شهاب عن على بن حسين قال ( كان رسول الله يكبر فى الصلاة كلما خفض ورفع فلم تزل تلك صلاته حتى لقى الله عز وجل ( وحديث إبن عمر وجابر رضى الله عنهم
____________________
(22/590)
( أنهما كانا يكبران كلما خفضا ورفعا فى الصلاة فكان جابر يعلمهم ذلك قال ( فذكر مالك هذه الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة
قلت ما ذكره مالك فكما ذكره وأما ما ذكره إبن عبد البر من الخلاف فلم أجده ذكر لذلك أصلا إلا ما ذكره أحمد عن علماء المسلمين أن التكبير مشروع فى الصلوات وإنما ذكر ذلك مالك وغيره والله أعلم لأجل ما كره من فعل الأئمة الذين كانوا لا يتمون التكبير وقد قال إبن عبدالبر روى إبن وهب أخبرنى عياض بن عبد الله الفهرى أن عبد الله بن عمر كان يقول ( لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدى فيها ( وإذا كان إبن عمر يقول ذلك فكيف يظن به أنه لا يكبر إذا صلى وحده هذا لا يظنه عاقل بإبن عمر
قال إبن عبدالبر وقد روى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وغيرهم ( أنهم كانوا لا يتمون التكبير ( وذكر ذلك أيضا عن القاسم وسالم وسعيد بن جبير وروى عن أبى سلمة عن أبى هريرة ( أنه كان يكبر هذا التكبير ويقول أنها لصلاة رسول الله ( قال وهذا يدل على أن التكبير فى كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه وفى ترك الناس
____________________
(22/591)
له من غير نكير من واحد منهم ما يدل على أن الأمر محمول عندهم على الإباحة
قلت لا يمكن أن يعلم إلا ترك الجهر به فأما ترك الإمام التكبير سرا فلا يجوز أن يدعى تركه إن لم يصل الإمام إلى فعله فهذا لم يقله أحد من الأئمة ولم يقل أحد إنهم كانوا يتركون فى كل خفض ورفع بل قالوا كانوا لا يتمونه ومعنى ( لايتمونه ( لا ينقصونه ونقصه عدم فعله فى حال الخفض كما تقدم من كلامه وهو نقص بترك رفع الصوت به أو نقص له بترك ذلك فى بعض المواضع
وقد روى إبن عبدالبر عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال ( صليت خلف رسول الله وأبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم فكلهم كان يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفض ( قال وهذا معارض لما روى عن عمر ( أنه كان لا يتم التكبير ( وروى عن سعيد بن عبد العزيز عن الزهري قال قلت لعمر بن عبد العزيز ( ما منعك أن تتم التكبير وهذا عاملك عبد العزيز يتمه فقال تلك صلاة الأول وأبى أن يقبل منى (
قلت وإنما خفى على عمر بن عبد العزيز وعلى هؤلاء الجهر بالتكبير كما خفى ذلك على طوائف من أهل زماننا وقبله ما ذكره [ إبن ]
____________________
(22/592)
أبى شيبة اخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال ( أول من نقص التكبير زياد (
قلت زياد كان أميرا فى زمن عمر فيمكن أن يكون ذلك صحيحا ويكون زياد قد سن ذلك حين تركه غيره وروى عن الأسود إبن يزيد عن أبى موسى الأشعرى قال ( لقد ذكرنا على صلاة كنا نصليها مع رسول الله إما نسيناها وإما تركناها عمدا وكان يكبر كلما رفع وكلما وضع وكلما سجد (
ومعلوم أن الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه امراء البلد وهم أئمة ولم يبلغهم خلاف ذلك عن رسول الله رأوا من شاهدوهم من أهل العلم والدين لا يعرفون غير ذلك فظنوا أن ذلك هو من أصل السنة وحصل بذلك نقصان فى وقت الصلاة وفعلها فإعتقدوا أن تأخير الصلاة أفضل من تقديمها كما كان الأئمة يفعلون ذلك وكذلك عدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما كان عليه رسول الله حتى كان إبن مسعود يتأول فى بعض الأمراء الذين كانوا على عهده أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } فكان يقول ( كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير إذا ترك فيها
____________________
(22/593)
شيء قيل تركت السنة فقيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن فقال ذلك إذا ذهب علماؤكم وقلت فقهاؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين ( وكان عبد الله بن مسعود يقول أيضا ( أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم فأيما رجل أو امرأة أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فالسمت الأول
ومن هذا الباب أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة فى خلافة الوليد بن عمه وعمر هذا هو الذى بنى الحجرة النبوية إذ ذاك صلى خلفه أنس بن مالك رضى الله عنه فقال ما رواه أبوداود والنسائى عن أنس بن مالك رضى الله عنه ( ما صليت وراء أحد بعد رسول الله أشبه صلاة برسول الله من هذا الفتى يعنى عمر بن عبد العزيز ( قال فحزرنا فى ركوعه عشر تسبيحات وفى سجوده عشر تسبيحات ( وهذا كان فى المدينة مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من امراء بقية الأمصار فإن الأمصار كانت تساس برأى الملوك والمدينة إنما كانت تساس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحو هذا ولكن كانوا قد غيروا أيضا بعض السنة ومن إعتقد أن هذا كان فى خلافة عمر بن عبد العزيز فقد غلط فإن أنس بن مالك رضى
____________________
(22/594)
الله عنه لم يدرك خلافة عمر بن عبد العزيز بل مات قبل ذلك بسنتين (
وهذا يوافق الحديث المشهور الذى فى سنن أبى داود والترمذى وإبن ماجه عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله ( إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربى العظيم وذلك أدناه وإذا سجد فليقل سبحان ربى الأعلى ثلاثا وذلك أدناه ( قال أبو داود هذا مرسل عون لم يدرك عبد الله بن مسعود وكذلك قال البخارى فى تاريخه وقال الترمذى ليس إسناده بمتصل عون بن عبد الله لم يدرك إبن مسعود عون هو من علماء الكوفة المشهورين وهو من أهل بيت عبد الله وقيل إنما تلقاه من علماء أهل بيته فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث فى التسبيحات لما له من الشواهد حتى صاروا يقولون فى الثلاث إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع وذلك يدل على أن أعلاه أكثر من هذا
فقول من يقول من الفقهاء إن السنة للإمام أن يقتصر على ثلاث تسبيحات من أصل الشافعى واحمد رضى الله عنهما وغيرهم هو من جنس قول من يقول من السنة أن لا يطيل الإعتدال بعد الركوع أو أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت أو نحو ذلك فإن
____________________
(22/595)
الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من السنة أصلا بل الأحاديث المستفيضة عن النبى الثابتة فى الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها تبين أنه كان يسبح فى أغلب صلاته أكثر من ذلك كما تقدم دلالة الأحاديث عليه ولكن هذا قالوه لما سمعوا أن النبى قال ( إذا أم أحدكم الناس فليخفف وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ( ولم يعرفوا مقدار التطويل ولا علموا التطويل الذى نهى عنه لما قال لمعاذ ( أفتان أنت يا معاذ ( فجعلوا هذا برأيهم قدرا للمستحب ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة فإن هذا من العلم الذى لم يكله الله ورسوله إلى آراء العباد إذ النبى كان يصلى بالمسلمين فى كل يوم خمس صلوات وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالإقتداء بهم فيجب البحث عما سنة رسول الله ولا ينبغى أن يوضع فيه حكم بالرأى وإنما يكون إجتهاد الرأى فيما لم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأى والقياس
ومما يبين هذا أن التخفيف أمر نسبي إضافى ليس له حد فى اللغة ولا فى العرف إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ويستخف
____________________
(22/596)
هؤلاء ما يستطيله هؤلاء فهو أمر يختلف بإختلاف عادات الناس ومقادير العبادات ولا فى كل من العبادات التى ليست شرعية
فعلم أن الواجب على المسلم أن يرجع فى مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة وبهذا يتبين أن أمره بالتخفيف لا ينافى أمره بالتطويل أيضا فى حديث عمار الذى فى الصحيح لما قال ( إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ( وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة فى زمانه من قراءة البقرة فى العشاء الآخرة ولهذا قال ( فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء
فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة بخلاف الإمام لأجل مراعاة المأمومين فإن خلفه السقيم والكبير وذو الحاجة ولهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض كما قال ( إنى لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبى فأخفف لما أعلم من وجد أمه ( وبذلك علل النبى فيما تقدم من حديث إبن مسعود
____________________
(22/597)
وكذلك فى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى قال ( إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ( وفى رواية ( فإن فيهم السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة (
ولهذا كان النبى يقصرها أحيانا عما كان يفعل غالبا كما روى مسلم فى صحيحه عن عمرو بن حريث رضى الله عنه قال ( كأنى اسمع صوت النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ فى صلاة الغداة ( فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ( وروى أنه قرأ فى صلاة الفجر فى بعض اسفاره بسورة الزلزلة وكان يطول أحيانا حتى ثبت فى الصحيح عن إبن عباس رضى الله عنهما ( أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ { والمرسلات عرفا } فقالت يا بنى لقد أذكرتنى بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فى المغرب ( وفى الصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله يقرأ بالطور فى المغرب ( وفى البخارى والسنن عن مروان بن الحكم قال قال لى زيد بن ثابت ( مالك تقرأ فى المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله يقرأ فى المغرب بطولى الطوليين قال قلت ما طولى الطوليين قال الأعراف
____________________
(22/598)
فهذه الأحاديث من اصح الأحاديث وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ فى المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور وتارة بالمرسلات مع إتفاق الفقهاء على أن القراءة فى المغرب سنتها أن تكون أقصر من القراءة فى الفجر فكيف تكون القراءة فى الفجر وغيرها (
ومن هذا الباب ما روى وكيع عن منصور عن إبراهيم النخعى قال كان أبوعبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع فكانوا يعيبون ذلك عليه ( قال أبو محمد بن حزم العيب على من عاب عمل رسول الله وعول على من لا حجة فيه
قلت قد تقدم فعل أبى عبيدة الذى فى الصحيح وموافقته لفعل رسول الله وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين فى زمن الحجاج وفتنة إبن الأشعث لم يكونوا من الصحابة ولا عرف أنهم من أعيان التابعين وإن كان قد يكون فيهم من ادرك إبن مسعود فإبن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب فى زمنه بل الإمام الراتب كان غيره وإبن بن مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين
فهؤلاء الذين انكروا على أبى عبيدة إنما انكروا عليه لمخالفته العادة
____________________
(22/599)
التى اعتادوها وإن خالفت السنة النبوية ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء
يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعى هو علقمة وتوفى قبل فتنة إبن الأشعث التى صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله فإن علقمة توفى سنة إحدى أو إثنتين وستين فى أوائل إمارة يزيد وفتنة إبن الأشعث كانت فى إمارة عبد الملك وكذلك مسروق قيل إنه توفى قبل السبعين أيضا وقيل فيهما كما قيل فى مسروق ونحوه
فتبين أن أكابر الفقهاء من اصحاب عبد الله بن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك مع أن من الناس إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعى وقد عرفت أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك وهم رأوا ذلك وهم اخذوا العلم عن عبد الله ونحوه فقد تبين أن الأمر ليس كذلك
____________________
(22/600)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله (
عن رجل لا يطمئن فى صلاته (
فاجاب (
الطمأنينة فى الصلاة واجبة وتاركها مسىء بإتفاق الأئمة بل جمهور أئمة الإسلام كمالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى يوسف صاحب أبى حنيفة وابوحنيفة ومحمد لا يخالفون فى أن تارك ذلك مسىء غير محسن بل هو آثم عاص تارك للواجب
وغيرهم يوجبون الإعادة على من ترك الطمأنينة ودليل وجوب الإعادة ما فى الصحيحين ( أن رجلا صلى فى المسجد ركعتين ثم جاء فسلم على النبى فقال النبى إرجع فصل فإنك لم تصل مرتين أو ثلاثا فقال والذى بعثك بالحق ما احسن غير هذا فعلمنى ما يجزئنى فى صلاتى فقال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم إركع حتى تطمئن راكعا ثم إرفع حتى تعتدل قائما ثم إسجد حتى تطمئن ساجدا ثم إجلس حتى تطمئن جالسا ثم إفعل ذلك فى صلاتك كلها ( فهذا كان رجلا جاهلا ومع هذا فأمره النبى صلى الله
____________________
(22/601)
عليه وسلم أن يعيد الصلاة واخبره انه لم يصل فتبين بذلك أن من ترك الطمأنينة فقد أخبر الله ورسوله أنه لم يصل فقد أمره الله ورسوله بالإعادة ومن يعص الله ورسوله فله عذاب أليم
وفى السنن عن النبى قال ( لا يقبل الله صلاة رجل لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود ( يعنى يقيم صلبه إذا رفع من الركوع وإذا رفع من السجود وفى الصحيح ( أن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه راى رجلا لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود فقال منذ كم تصلى هذه الصلاة قال منذ كذا وكذا فقال أما انك لو مت لمت على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمدا (
وقد روى هذا المعنى بن خزيمة فى صحيحه مرفوعا إلى النبى وأنه قال لمن نقر فى الصلاة ( أما إنك لو مت على هذا مت على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم ( نحو هذا وقال ( مثل الذى يصلى ولا يتم ركوعه وسجوده ( مثل الذى يأكل لقمة أو لقمتين فما تغنى عنه (
وفى صحيح مسلم عن النبى أنه قال ( تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى
____________________
(22/602)
شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ( وقد كتبنا فى ذلك من دلائل الكتاب والسنة فى غير هذا الموضع ما يطول ذكره هنا والله أعلم
وسئل ( رحمه الله (
عمن يحصل له الحضور فى الصلاة تارة ويحصل له الوسواس تارة فما الذى يستعين به على دوام الحضور فى الصلاة وهل تكون تلك الوساوس مبطلة للصلاة أو منقصة لها أم لا وفى قول عمر إنى لأجهز جيشى وانا فى الصلاة هل كان ذلك يشغله عن حاله فى جمعيته أو لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين الوسواس لا يبطل الصلاة إذا كان قليلا بإتفاق أهل العلم بل ينقص الأجر كما قال إبن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها
وفى السنن عن النبى أنه قال ( إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها إلا سبعها إلا ثمنها إلا تسعها إلا عشرها
____________________
(22/603)
ويقال إن النوافل شرعت لجبر النقص الحاصل فى الفرائض كما فى السنن عن النبى أنه قال ( أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة فإن أكملها وإلا قيل إنظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع بسائر أعماله ( وهذا إلا كمال يتناول ما نقص مطلقا
وأما الوسواس الذى يكون غالبا على الصلاة فقد قال طائفة منهم أبو عبد الله بن حامد وأبوحامد الغزالى وغيرهما أنه يوجب الإعادة أيضا لما أخرجاه فى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى قال ( إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيقول أذكر كذا إذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدرى كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ( وقد صح عن النبى ( الصلاة مع الوسواس مطلقا ( ولم يفرق بين القليل والكثير
ولا ريب أن الوسواس كلما قل فى الصلاة كان أكمل كما فى الصحيحين من حديث عثمان رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أن من توضأ نحو وضوئى هذا ثم صلى ركعتين لم يحدث
____________________
(22/604)
فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ( وكذلك فى الصحيح أنه قال ( من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بوجهه وقلبه غفر له ما تقدم من ذنبه (
وما زال فى المصلين من هو كذلك كما قال سعد بن معاذ رضى الله عنه فى ثلاث خصال لو كنت فى سائر أحوالى أكون فيهن كنت أنا أنا إذا كنت فى الصلاة لا أحدث نفسى بغير ما أنا فيه وإذا سمعت من رسول الله حديثا لا يقع فى قلبى ريب أنه الحق وإذا كنت فى جنازة لم أحدث نفسى بغير ما تقول ويقال لها وكان مسلمة بن بشار يصلى فى المسجد فإنهدم طائفة منه وقام الناس وهو فى الصلاة لم يشعر وكان عبد الله بن الزبير رضى الله عنه يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو فى الصلاة لا يرفع رأسه وقالوا لعامر بن عبدالقيس أتحدث نفسك بشيء فى الصلاة فقال أو شيء أحب إلى من الصلاة أحدث به نفسى قالوا أنا لنحدث أنفسنا فى الصلاة فقال أبا لجنة والحور ونحو ذلك فقالوا لا ولكن بأهلينا وأموالنا فقال لأن تختلف إلا سنة فى أحب إلى وأمثال هذا متعدد
والذى يعين على ذلك شيئان قوة المقتضى وضعف الشاغل
أما الأول فإجتهاد العبد فى أن يعقل ما يقوله ويفعله ويتدبر
____________________
(22/605)
القراءة والذكر والدعاء ويستحضر أنه مناج لله تعالى كأنه يراه فإن المصلى إذا كان قائما فإنما يناجى ربه والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان إنجذابه إليها أوكد وهذا يكون بحسب قوة الإيمان والأسباب المقوية للإيمان كثيرة ولهذا كان النبى يقول ( حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عينى فى الصلاة ( وفى حديث آخر أنه قال ( أرحنا يا بلال بالصلاة ( ولم يقل أرحنا منها وفى أثر آخر ليس بمستكمل للإيمان من لم يزل مهموما حتى يقوم إلى الصلاة ( أو كلام يقارب هذا وهذا باب واسع
فإن ما فى القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته وإخلاص الدين له وخوفه ورجائه والتصديق بأخباره وغير ذلك مما يتباين الناس فيه ويتفاضلون تفاضلا عظيما ويقوى ذلك كلما إزداد العبد تدبرا للقرآن وفهما ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته وتفقره إليه فى عبادته وإشتغاله به بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون تعالى معبوده ومستغاثه أعظم من إضطراره إلى الأكل والشرب فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذى يطمئن إليه ويأنس به ويلتذ بذكره ويستريح به ولا حصول لهذا إلا بإعانة الله ومتى كان
____________________
(22/606)
للقلب إله غير الله فسد وهلك هلاكا لا صلاح معه ومتى لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه ولا حول ولا قوة إلا به ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه
ولهذا يروى أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع علمها فى الكتب الأربعة وجمع الكتب الأربعة فى القرآن وجمع علم القرآن فى المفصل وجمع علم المفصل فى فاتحة الكتاب وجمع علم فاتحة الكتاب فى قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } ونظير ذلك قوله { فاعبده وتوكل عليه } وقوله { عليه توكلت وإليه متاب } وقوله { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقد قال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ولهذا قال النبى رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله ( وبسط هذا طويل لا يحتمله هذا الموضع
وأما زوال العارض فهو الإجتهاد فى دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعينه وتدبر الجواذب التى تجذب القلب عن مقصود الصلاة وهذا في كل عبد بحسبه فإن كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات وتعليق القلب بالمحبوبات التى ينصرف القلب إلى طلبها والمكروهات التى ينصرف القلب إلى دفعها
____________________
(22/607)
والوساوس إما من قبيل الحب من أن يخطر بالقلب ما قد كان أو من قبيل الطلب وهو أن يخطر فى القلب ما يريد أن يفعله ومن الوساوس ما يكون من خواطر الكفر والنفاق فيتألم لها قلب المؤمن تألما شديدا كما قال الصحابة ( يا رسول الله إن أحدنا ليجد فى نفسه ما لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به فقال أوجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان ( وفى لفظ ( إن أحدنا ليجد فى نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به فقال الحمد لله الذى رد كيده إلى الوسوسة
قال كثير من العلماء فكراهة ذلك وبغضه وفرار القلب منه هو صريح الإيمان والحمد لله الذى كان غاية كيد الشيطان الوسوسة فإن شيطان الجن إذا غلب وسوس وشيطان الإنس إذا غلب كذب والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره لابد له من ذلك فينبغى للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ولا يضجر فانه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان ( إن كيد الشيطان كان ضعيفا ( وكلما أراد العبد توجها إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوسواس أمور أخرى فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق كلما أراد العبد يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه ولهذا قيل لبعض السلف أن اليهود والنصارى يقولون لا
____________________
(22/608)
نوسوس فقال صدقوا وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب وتفاصيل ما يعرض للسالكين طويل موضعه
وأما ما يروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه من قوله إنى لأجهز جيشى وأنا فى الصلاة فذاك لأن عمر كان مأمورا بالجهاد وهو أمير المؤمنين فهو أمير الجهاد فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلى الذى يصلى صلاة الخوف حال معاينة العدو إما حال القتال وإما غير حال القتال فهو مأمور بالصلاة ومامور بالجهاد فعليه أن يؤدى الواجبين بحسب الإمكان وقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }
ومعلوم أن طمأنينة القلب حال الجهاد لا تكون كطمأنينتة حال الأمن فإذا قدر أنه نقص من الصلاة شيء لأجل الجهاد لم يقدح هذا فى كمال إيمان العبد وطاعته ولهذا تخفف صلاة الخوف عن صلاة الأمن ولما ذكر سبحانه وتعالى صلاة الخوف قال { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } فالإقامة المأمور بها حال الطمأنينة لا يؤمر بها حال الخوف
ومع هذا فالناس متفاوتون فى ذلك فإذا قوى إيمان العبد كان حاضر القلب فى الصلاة مع تدبره للأمور بها وعمر قد
____________________
(22/609)
ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وهو المحدث الملهم فلا ينكر لمثله أن يكون له مع تدبيره جيشه فى الصلاة من الحضور ماليس لغيره لكن لا ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى ولا ريب أن صلاة رسول الله حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف فى الأفعال الظاهرة فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة فكيف بالباطنة
وبالجملة فتفكر المصلى فى الصلاة فى أمر يجب عليه قد يضيق وقته ليس كتفكره فيما ليس بواجب أو فيما لم يضق وقته وقد يكون عمر لم يمكنه التفكر فى تدبير الجيش إلا فى تلك الحال وهو أمام الأمة والواردات عليه كثيرة ومثل هذا يعرض لكل أحد بحسب مرتبته والإنسان دائما يذكر فى الصلاة مالا يذكره خارج الصلاة ومن ذلك ما يكون من الشيطان كما يذكر أن بعض السلف ذكر له رجل أنه دفن ما لا وقد نسى موضعه فقال قم فصل فقام فصلى فذكره فقيل له من أين علمت ذلك قال علمت أن الشيطان لا يدعه في الصلاة حتى يذكره بما يشغله ولا أهم عنده من أن ذكر موضع الدفن لكن العبد الكيس يجتهد فى كمال الحضور مع كمال فعل بقية المأمور ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم
____________________
(22/610)
وسئل (
عن وسواس الرجل فى صلاته وما حد المبطل للصلاة وما حد المكروه منه وهل يباح منه شيء فى الصلاة وهل يعذب الرجل فى شيء منه وما حد الإخلاص فى الصلاة وقول النبى ( ليس لأحدكم من صلاته إلا ما عقل منها (
فأجاب (
الحمد لله الوسواس نوعان
أحدهما لا يمنع ما يؤمر به من تدبر الكلم الطيب والعمل الصالح الذى فى الصلاة بل يكون بمنزلة الخواطر فهذا لا يبطل الصلاة لكن من سلمت صلاته منه فهو أفضل ممن لم تسلم منه صلاته الأول شبه حال المقربين والثانى شبه حال المقتصدين
وأما الثالث فهو ما منع الفهم وشهود القلب بحيث يصير الرجل غافلا فهذا لا ريب أنه يمنع الثواب كما روى أبو داود فى سننه عن عمار بن ياسر عن النبى قال ( إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها
____________________
(22/611)
إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها حتى قال إلا عشرها ( فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه قد لا يكتب له منها إلا العشر
وقال إبن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها ولكن هل يبطل الصلاة ويوجب الإعادة فيه تفصيل فإنه إن كانت الغفلة فى الصلاة أقل من الحضور والغالب الحضور لم تجب الإعادة وإن كان الثواب ناقصا فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطل الصلاة وإنما يجبر بعضه بسجدتى السهو وإما إن غلبت الغفلة على الحضور ففيه للعلماء قولان
أحدهما لا تصح الصلاة فى الباطن وإن صحت فى الظاهر كحقن الدم لأن مقصود الصلاة لم يحصل فهو شبيه صلاة المرائى فإنه بالإتفاق لا يبرأ بها فى الباطن وهذا قول أبى عبد الله إبن حامد وأبى حامد الغزالى وغيرهما
والثانى تبرأ الذمة فلا تجب عليه الإعادة وإن كان لا أجر له فيها ولا ثواب بمنزلة صوم الذى لم يدع قول الزور والعمل به فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش وهذا هو المأثور عن الامام أحمد وغيره من الأئمة وإستدلوا بما فى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبى أنه قال ( إذا أذن المؤذن
____________________
(22/612)
بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين اقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول أذكر كذا أذكر كذا مالم يكن يذكر حتى يظل لا يدرى كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين ( فقد أخبر النبى أن الشيطان يذكره بأمور حتى لا يدرى كم صلى وأمره بسجدتين للسهو ولم يأمره بالإعادة ولم يفرق بين القليل والكثير
وهذا القول أشبه وأعدل فإن النصوص والآثار إنما دلت على أن الأجر والثواب مشروط بالحضور لا تدل على وجوب الإعادة لا باطنا ولا ظاهرا والله أعلم
(
وسئل رحمه الله (
( عما إذا أحدث المصلى قبل السلام (
فأجاب (
إذا أحدث المصلى قبل السلام بطلت مكتوبة كانت أو غير مكتوبة
____________________
(22/613)
وسئل (
عن رجل ضحك فى الصلاة فهل تبطل صلاته أم لا (
فأجاب (
أما التبسم فلا يبطل الصلاة وأما إذا قهقه فى الصلاة فإنها تبطل ولا ينتقض وضوءه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد لكن يستحب له أن يتوضا فى أقوى الوجهين لكونه أذنب ذنبا وللخروج من الخلاف فإن مذهب أبى حنيفة ينتقض وضوءه والله أعلم
____________________
(22/614)
وسئل رحمه الله (
عن النحنحة والسعال والنفخ والأنين وما أشبه ذلك فى الصلاة فهل تبطل بذلك ام لا وأى شيء الذى تبطل الصلاة به من هذا أو غيره وفى أي مذهب وايش الدليل على ذلك (
فأجاب (
الحمد لله رب العالمين الأصل فى هذا الباب أن النبى قال ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ( وقال ( إن الله يحدث من أمره ما يشاء ومما أحدث أن لا تكلموا فى الصلاة ( قال زيد بن أرقم فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وهذا مما إتفق عليه المسلمون قال إبن المنذر وأجمع أهل العلم على أن من تكلم فى صلاته عامدا وهو لا يريد اصلاح شيء من امرها أن صلاته فاسدة والعامد من يعلم أنه فى صلاة وأن الكلام محرم
(
قلت ( وقد تنازع العلماء فى الناسى والجاهل والمكره والمتكلم لمصلحة الصلاة وفى ذلك كله نزاع فى مذهب أحمد وغيره من العلماء
____________________
(22/615)
إذا عرف ذلك فاللفظ على ثلاث درجات (
أحدها ( أن يدل على معنى بالوضع أما بنفسه وإما مع لفظ غيره كفى وعن فهذا الكلام مثل يد ودم وفم وخد (
الثانى ( أن يدل على معنى بالطبع كالتأوه والأنين والبكاء ونحو ذلك (
الثالث ( ان لا يدل على معنى لا بالطبع ولا بالوضع كالنحنحة فهذا القسم كان أحمد يفعله فى صلاته وذكر اصحابه عنه روايتين فى بطلان الصلاة بالنحنحة فإن قلنا تبطل ففعل ذلك لضرورة فوجهان فصارت الأقوال فيها ثلاثة (
أحدها ( أنها لا تبطل بحال وهو قول أبى يوسف وإحدى الروايتين عن مالك بل ظاهر مذهبه (
والثانى ( تبطل بكل حال وهو قول الشافعى وأحد القولين فى مذهب أحمد ومالك و (
الثالث ( إن فعله لعذر لم تبطل وإلا بطلت وهو قول أبى حنيفة ومحمد وغيرهما وقالوا إن فعله لتحسين الصوت وإصلاحه
____________________
(22/616)
لم تبطل قالوا لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرا فرخص فيه للحاجة ومن أبطلها قال أنه يتضمن حرفين وليس من جنس أذكار الصلاة فأشبه القهقهة والقول الأول أصح وذلك أن النبى إنما حرم التكلم فى الصلاة وقال ( أنه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ( وأمثال ذلك من الألفاظ التى تتناول الكلام والنحنحة لا تدخل فى مسمى الكلام أصلا فإنها لا تدل بنفسها ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى ولا يسمى فاعلها متكلما وإنما يفهم مراده بقرينة فصارت كالإشارة
وأما القهقهة ونحوها ففيها جوابان (
أحدهما ( أن تدل على معنى بالطبع و (
الثانى ( أنا لا نسلم أن تلك أبطلت لأجل كونها كلاما يدل على ذلك أن القهقهة تبطل بالإجماع ذكره إبن المنذر
وهذه الأنواع فيها نزاع بل قد يقال أن القهقهة فيها أصوات عالية تنافى حال الصلاة وتنافى الخشوع الواجب فى الصلاة فهي كالصوت العالى الممتد الذى لا حرف معه وأيضا فإن فيها من الإستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما يناقض مقصودها فأبطلت لذلك
____________________
(22/617)
لا لكونه متكلما
وبطلانها بمثل ذلك لا يحتاج إلى كونه كلاما وليس مجرد الصوت كلاما وقد روى عن على رضى الله عنه قال ( كان لى من رسول الله مدخلان بالليل والنهار وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلى يتنحنح لى ( رواه الإمام أحمد وإبن ماجه والنسائى بمعناه
وأما ( النوع الثانى ( وهو ما يدل على المعنى طبعا لا وضعا فمنه النفخ وفيه عن مالك وأحمد روايتان أيضا (
احداهما ( لا تبطل وهو قول إبراهيم النخعى وإبن سيرين وغيرهما من السلف وقول أبى يوسف وإسحاق و (
الثانية ( أنها تبطل وهو قول أبى حنيفة ومحمد والثوري والشافعى وعلى هذا فالمبطل فيه ما أبان حرفين
وقد قيل عن أحمد أن حكمه حكم الكلام وإن لم يبن حرفين وإحتجوا لهذا القول بما روى عن أم سلمة عن النبى أنه قال ( من نفخ فى الصلاة فقد تكلم ( رواه الخلال لكن مثل هذا الحديث لا يصح مرفوعا فلا يعتمد عليه لكن حكى احمد هذا اللفظ عن إبن عباس وفى لفظ عنه النفخ فى الصلاة كلام رواه سعيد فى سننه
قالوا ولأنه تضمن حرفين وليس هذا من جنس أذكار
____________________
(22/618)
الصلاة فاشبه القهقهة والحجة مع القول كما فى النحنحة والنزاع كالنزاع فإن هذا لا يسمى كلاما فى اللغة التى خاطبنا بها النبى فلا يتناوله عموم النهى عن الكلام فى الصلاة ولو حلف لا يتكلم لم يحنث بهذه الأمور ولو حلف ليتكلمن لم يبر بمثل هذه الأمور والكلام لا بد فيه من لفظ دال على المعنى دلالة وضعية تعرف بالعقل فأما مجرد الأصوات الدالة على أحوال المصوتين فهو دلالة طبعية حسية فهو وإن شارك الكلام المطلق فى الدلالة فليس كل ما دل منهيا عنه فى الصلاة كالإشارة فإنها تدل وتقوم مقام العبارة بل تدل بقصد المشير وهى تسمى كلاما ومع هذا لا تبطل فإن النبى كان إذا سلموا عليه رد عليهم بالإشارة فعلم أنه لم ينه عن كل ما يدل ويفهم وكذلك إذا قصد التنبيه بالقرآن والتسبيح جاز كما دلت عليه النصوص
ومع هذا فلما كان مشروعا فى الصلاة لم يبطل فإذا كان قد قصد إفهام المستمع ومع هذا لم تبطل فكيف بما دل بالطبع وهو لم يقصد به إفهام أحد ولكن المستمع يعلم منه حاله كما يعلم ذلك من حركته ومن سكوته فإذا رآه يرتعش أو يضطرب أو يدمع أو يبتسم علم حاله وإنما إمتاز هذا بأنه من نوع الصوت هذا لو لم يرد به سنة فكيف وفي المسند عن المغيرة بن شعبة ) ( أن النبى صلى
____________________
(22/619)
الله عليه وسلم كان فى صلاة الكسوف فجعل ينفخ فلما إنصرف قال إن النار أدنيت منى حتى نفخت حرها عن وجهي وفى المسند وسنن أبى داود عن عبد الله بن عمرو ( أن النبى صلى الله عليه وسلم فى صلاة كسوف الشمس نفخ فى آخر سجوده فقال أف أف أف رب ألم تعدنى أن لا تعذبهم وأنا فيهم وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا بأنه محمول على أنه فعله قبل تحريم الكلام أو فعله خوفا من الله أو من النار قالوا فإن ذلك لا يبطل عندنا نص عليه أحمد كالتأوه والأنين عنده والجوابان ضعيفان (
أما الأول ( فإن صلاة الكسوف كانت فى آخر حياة النبى يوم مات إبنه إبراهيم وإبراهيم كان من مارية القبطية ومارية أهداها له المقوقس بعد أن أرسل إليه المغيرة وذلك بعد صلح الحديبية فإنه بعد الحديبية أرسل رسله إلى الملوك ومعلوم أن الكلام حرم قبل هذا بإتفاق المسلمين لا سيما وقد أنكر جمهور العلماء على من زعم أن قصة ذى اليدين كانت قبل تحريم الكلام لأن أبا هريرة شهدها فكيف يجوز أن يقال بمثل هذا فى صلاة الكسوف بل قد قيل الشمس كسفت بعد حجة الوداع قبل موته بقليل
وأما كونه من الخشية ففيه أنه نفخ حرها عن وجهه وهذا نفخ لدفع ما يؤذى من خارج كما ينفخ الإنسان فى المصباح ليطفئة
____________________
(22/620)
أو ينفخ فى التراب ونفخ الخشية من نوع البكاء والأنين وليس هذا ذاك
وأما السعال والعطاس والتثاؤب والبكاء الذى يمكن دفعه والتأوه والأنين فهذه الأشياء هي كالنفخ فإنها تدل على المعنى طبعا وهى أولى بأن لا تبطل فإن النفخ أشبه بالكلام من هذه إذ النفخ يشبه التأفيف كما قال ( ولا تقل لهما أف
) لكن الذين ذكروا هذه الأمور من أصحاب أحمد كأبى الخطاب ومتبعيه ذكروا أنها تبطل إذا أبان حرفين ولم يذكروا خلافا
ثم منهم من ذكر نصه فى النحنحة ومنهم من ذكر الرواية الأخرى عنه فى النفخ فصار ذلك موهما أن النزاع فى ذلك فقط وليس كذلك بل لا يجوز أن يقال أن هذه تبطل والنفخ لا يبطل وأبو يوسف يقول فى التأوه والأنين لا يبطل مطلقا على أصله وهو أصح الأقوال فى هذه المسألة
ومالك مع الإختلاف عنه فى النحنحة والنفخ قال الأنين لا يقطع صلاة المريض وأكرهه للصحيح ولا ريب أن الأنين من غير حاجة مكروه ولكنه لم يره مبطلا
____________________
(22/621)
وأما الشافعى فجرى على أصله الذى وافقه عليه كثير من متأخرى أصحاب أحمد وهو أن ما أبان حرفين من هذه الأصوات كان كلاما مبطلا وهو أشد الأقوال فى هذه المسألة وابعدها عن الحجة فإن الإبطال أن أثبتوه بدخولها فى مسمى الكلام فى لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم الضرورى أن هذه لا تدخل فى مسمى الكلام وإن كان بالقياس لم يصح ذلك فإن فى الكلام يقصد المتكلم معانى يعبر عنها بلفظه وذلك يشغل المصلى كما قال النبى ( إن فى الصلاة لشغلا ( وأما هذه الأصوات فهي طبيعية كالتنفس ومعلوم أنه لو زاد فى التنفس على قدر الحاجة لم تبطل صلاته وإنما تفارق التنفس بأن فيها صوتا وإبطال الصلاة بمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل ولا نظير
وأيضا فقد جاءت أحاديث بالنحنحة والنفخ كما تقدم وأيضا فالصلاة صحيحة بيقين فلا يجوز إبطالها بالشك ونحن لا نعلم أن العلة فى تحريم الكلام هو ما يدعى من القدر المشترك بل هذا إثبات حكم بالشك الذى لا دليل معه وهذا النزاع إذا فعل ذلك لغير خشية الله فإن فعل ذلك لخشية الله فمذهب أحمد وابى حنيفة أن صلاته لا تبطل ومذهب الشافعى أنها تبطل لأنه كلام والأول أصح فإن هذا إذا كان من خشية الله كان من جنس ذكر الله ودعائه فإنه كلام
____________________
(22/622)
يقتضى الرهبة من الله والرغبة إليه وهذا خوف الله فى الصلاة وقد مدح الله إبراهيم بأنه أواه وقد فسر بالذى يتأوه من خشية الله ولو صرح بمعنى ذلك بأن إستجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته بخلاف الأنين والتأوه فى المرض والمصيبة فإنه لو صرح بمعناه كان كلاما مبطلا
وفى الصحيحين أن عائشة قالت للنبى أن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء قال ( مروه فليصل أنكن لأنتن صواحب يوسف ( وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ ( إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله ( والنشيج رفع الصوت بالبكاء كما فسره أبوعبيد وهذا محفوظ عن عمر ذكره مالك وأحمد وغيرهما وهذا النزاع فيما إذا لم يكن مغلوبا
فأما ما يغلب عليه المصلى من عطاس وبكاء وتثاؤب فالصحيح عند الجمهور أنه لا يبطل وهو منصوص أحمد وغيره وقد قال بعض أصحابه إنه يبطل وإن كان معذورا كالناسى وكلام الناسى فيه روايتان عن أحمد
أحدهما وهو مذهب أبى حنيفة أنه يبطل
____________________
(22/623)
والثانى وهو مذهب مالك والشافعى أنه لا يبطل وهذا أظهر وهذا اولى من الناسى لأن هذه أمور معتادة لا يمكنه دفعها وقد ثبت أن النبى قال ( التثاؤب من الشيطان ( فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما إستطاع (
وأيضا فقد ثبت حديث الذى عطس فى الصلاة وشمته معاوية بن الحكم السلمى فنهى النبى صلى الله عليه وسلم معاوية عن الكلام فى الصلاة ولم يقل للعاطس شيئا والقول بأن العطاس يبطل تكليف من الأقوال المحدثة التى لا أصل لها عن السلف رضى الله عنهم
وقد تبين أن هذه الأصوات الحلقية التى لا تدل بالوضع فيها نزاع فى مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد وأن الاظهر فيها جميعا أنها لا تبطل فإن الأصوات من جنس الحركات وكما أن العمل اليسير لا يبطل فالصوت اليسير لا يبطل بخلاف صوت القهقهة فإنه بمنزلة العمل اليسير وذلك ينافى الصلاة بل القهقهة تنافى مقصود الصلاة أكثر ولهذا لا تجوز فيها بحال بخلاف العمل الكثير فإنه يرخص فيه للضرورة والله أعلم
____________________
(22/624)
وسئل عما إذا قرأ القرآن ويعد فى الصلاة بسبحة هل تبطل صلاته ام لا (
فأجاب (
إن كان المراد بهذا السؤال أن يعد الآيات أو يعد تكرار السورة الواحدة مثل قوله { قل هو الله أحد } بالسبحة فهذا لا بأس به وإن أريد بالسؤال شيء آخر فليبينه والله اعلم
(
وسئل (
هل للإنسان إذا دخل المسجد والناس فى الصلاة أن يجهر بالسلام أو لا خشية أن يرد عليه من هو جاهل بالسلام (
فأجاب (
الحمد لله إن كان المصلى يحسن الرد بالإشارة فإذا سلم عليه فلا بأس كما كان الصحابة يسلمون على النبى وهو يرد عليهم بالإشارة وإن لم يحسن الرد بل قد يتكلم فلا ينبغى إدخاله فيما يقطع صلاته أو يترك به الرد الواجب عليه والله أعلم
____________________
(22/625)
وسئل (
عن المرور بين يدى المأموم هل هو فى النهى كغيره مثل الإمام والمنفرد أم لا (
فأجاب (
المنهى عنه إنما هو بين يدى الإمام والمنفرد وإستدلوا بحديث إبن عباس رضى الله عنهما والله أعلم
____________________
(22/626)
بسم الله الرحمن الرحيم باب سجود السهو
قال الشيخ رحمه الله
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما ( فصل فى سجود السهو (
والمهم منه أمور منها مسائل الشك ومنها محله هل هو قبل السلام أو بعده ومنها
وجوبه فنقول ولا حول ولا قوة الا بالله أما الشك ففيه عن النبى ( ( أحاديث صحيحة وهى كلها متفقة ولله الحمد وانما تنازع الناس لكون بعضهم لم يفهم مراده ففى الصحيحين عن أبى
____________________
(23/5)
هريرة أن رسول الله ( ( قال ( ان أحدكم اذا قام يصلى جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدرى كم صلى فاذا وجد احدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس (
وفى الصحيحين أيضا عنه أن رسول الله ( ( قال ( اذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الاذان فاذا قضى الاذان أقبل فاذا ثوب بها أدبر فاذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدرى كم صلى فاذا لم يدر أحدكم كم صلى فليسجد سجدتين وهو جالس ( وفى لفظ للبخارى ( فاذا لم يدر أحدكم كم صلى ثلاثا أو أربعا فليسجد سجدتين وهو جالس ( وفى لفظ ( يسجد سجدتى السهو ( ففى هذا الحديث الصحيح الأمر بسجدتى السهو اذا لم يدر كم صلى وهو يقتضى وجوب السجود كقول الجمهور وفيه أنه سماهما سجدتى السهو فدل على أنهما لا يشرعان الا للسهو كقول الجمهور
وقوله ( فليسجد سجدتين وهو جالس ( مطلق لم يعين فيه لا قبل السلام ولا بعده لكن أمر بهما قبل قيامه ففى صحيح مسلم وغيره عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( اذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا
____________________
(23/6)
فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فان كان صلى خمسا شفعتا له صلاته وان كان صلى تماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان ( ففى هذا الحديث أنه اذا شك فلم يدر فليطرح الشك وفيه الأمر بسجدتين قبل السلام وقوله ( اذا شك هو موضع اختلاف فهم الناس
منهم من فهم أن كل من لم يقطع فهو شاك وان كان أحد الجانبين راجحا عنده فجعلوا من غلب على ظنه وان وافقه المأمومون شاكا وأمروه أن يطرح ما شك فيه ويبنى على ما استيقن وقالوا الأصل عدم ما شك فيه فرجحوا استصحاب الحال مطلقا وان قامت الشواهد والدلائل بخلافه ولم يعتبروا التحرى بحال
ومنهم من فسر قول النبى ( ( فى الحديث الآخر ( فليتحر ( أنه البناء على اليقين ومنهم طائفة قالوا ان كان اماما فالمراد به الشك المتساوى وان كان منفردا فالمراد به ما قاله أولئك
وقالت طائفة ثالثة بل المراد بالشك ما استوى فيه الطرفان أو تقاربا وأما اذا ترجح أحدهما فانه يعمل بالراجح وهو التحرى وعن الامام أحمد ثلاث روايات كالاقوال الثلاثة
والأول هو قول مالك والشافعى واختيار كثير من أصحاب أحمد
____________________
(23/7)
والثانى قول الخرقى وأبى محمد وقال انه المشهور عن أحمد
والثالث قول كثير من السلف والخلف ويروى عن على وبن مسعود وغيرهما وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه فيما اذا تكرر السهو قال أحمد فى رواية الاثرم بين التحرى واليقين فرق أما حديث عبد الرحمن بن عوف فيقول ( اذا لم يدر أثلاثا صلى أو اثنتين جعلهما اثنتين ( قال فهذا عمل على اليقين فبنى عليه والذى يتحرى يكون قد صلى ثلاثا فيدخل قلبه شك انه انما صلى اثنتين الا ان اكثر ما فى نفسى أنه قد صلى ثلاثا وقد دخل قلبه شيء فهذا يتحرى اصوب ذلك ويسجد بعد السلام قال فبينهما فرق
قلت حديث عبد الرحمن بن عوف الذى ذكره أحمد هو نظير حديث أبى سعيد وهو فى السنن وقد صححهما الترمذى وغيره وعن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ( ( قال ( اذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدر أزاد أم نقص فان كان شك فى الواحدة والثنتين فليجعلهما واحدة فان لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثا فليجعلهما اثنتين فان لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليجعلهما ثلاثا حتى يكون الشك فى الزيادة ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم ثم يسلم
____________________
(23/8)
ومن أصح أحاديث الباب حديث بن مسعود فى التحرى فانه أخرجاه فى الصحيحين وحديث أبى سعيد انفرد به مسلم لكن حديث عبد الرحمن بن عوف شاهد له فهما نظير حديث بن مسعود فى الصحيحين عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال ( صلى رسول الله ( ( قال ابراهيم زاد أو نقص فلما سلم قيل له يا رسول الله أحدث فى الصلاة شيء قال وما ذاك قالوا صليت كذا وكذا قال فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم ثم أقبل علينا بوجهه فقال أنه لو حدث فى الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن انما أنا بشر أنسى كما تنسون فاذا نسيت فذكرونى واذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين
وللبخارى فى بعض طرقه ( قيل يا رسول الله اقصرت الصلاة أم نسيت قال وما ذاك قالوا صليت كذا وكذا قال فسجد بهم سجدتين ثم قال هاتان السجدتان لمن لا يدرى زاد فى صلاته أو نقص فيتحرى الصواب فيتم عليه ثم يسجد سجدتين ( وفى رواية له ( فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين ( وفى رواية لمسلم ( فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب ( وفى رواية له ( فليتحر الذى يرى أنه صواب ( وفى رواية ( فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب
____________________
(23/9)
وفى
الصحيحين عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله قال ( صلينا مع رسول الله ( ( فاما زاد أو نقص قال ابراهيم وايم الله ما ذاك الا من قبلى فقلنا يا رسول الله أحدث فى الصلاة شيء فقال لا فقلنا له الذى صنع فقال اذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين قال ثم سجد سجدتين ( وقد تأوله بعض أهل القول على أن التحرى هو طرح المشكوك فيه والبناء على اليقين وهذا ضعيف لوجوه
منها أن فى سنن أبى داود والمسند وغيرهما ( اذا كنت فى صلاة فشككت فى ثلاث وأربع وأكثر من أربع تشهدت ثم سجدت وأنت جالس (
ومنها أن الألفاظ صريحة فى أنه يتحرى ما يرى أنه الصواب سواء كان هو الزائد أو الناقص ولو كان مأمورا مطلقا بطرح المشكوك فيه لم يكن هناك تحرى للصواب
ومنها أن بن مسعود هو راوى الحديث وبذلك فسره وعنه أخذ ذلك أهل الكوفة قرنا بعد قرن كابراهيم وأتباعه وعنه أخذ ذلك أبو حنيفة وأصحابه
ومنها أنه هنا أمر بالسجدتين بعد السلام وفى حديث أبى
____________________
(23/10)
سعيد أمر بالسجدتين قبل السلام ومنها أنه قال هناك ( ان كان صلى خمسا شفعتا له صلاته وان كان صلى اتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان ( فتبين أنه يبنى على اليقين وهو شاك هل زاد أو نقص هل صلى أربعا أو خمسا وبين مصلحة السجدتين على تقدير النقيضين
وفي حديث بن مسعود قال ( فيتحرى الصواب فيتم عليه ثم يسجد سجدتين ( وفى لفظ ( فيتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين ( فجعل ما فعله بعد التحرى تماما لصلاته وجعله هنا متما لصلاته ليس شاكا فيها لكن لفظ الشك يراد به تارة ما ليس بيقين وان كان هناك دلائل وشواهد عليه حتى قد قيل فى قوله ( نحن أحق بالشك من ابراهيم ( أنه جعل ما دون طمأنينة القلب التى طلبها ابراهيم شكا وان كان ابراهيم موقنا ليس عنده شك يقدح فى يقينه ولهذا لما قال له ربه ( أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى ( وقال تعالى ( وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (
فاذا كان قد سمى مثل هذا شكا فى قوله ( نحن أحق بالشك من ابراهيم ( فكيف بمن لا يقين عنده فمن عمل بأقوى الدليلين
____________________
(23/11)
فقد عمل بعلم لم يعمل بظن ولا شك وان كان لا يوقن أن ليس هناك دليل أقوى من الدليل الذى عمل به واجتهاد العلماء من هذا الباب والحاكم اذا حكم بشهادة العدلين حكم بعلم لا بظن وجهل وكذلك اذا حكم باقرار المقر وهو شهادته على نفسه ومع هذا فيجوز أن يكون الباطن بخلاف ما ظهر كما قال النبى ( ( فى الحديث الصحيح ( انكم تختصمون إلى ولعل بعضكم ان يكون ألحن بحجته من بعض وانما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فانما أقطع له قطعة من النار (
واذا كان لديك معلوم أن مثل هذا الشك لم يرده النبى ( ( بقوله ( اذا شك أحدكم ( بل أكثر الخلق لا يجزمون جزما يقينيا لا يحتمل الشك بعد لكل صلاة صلاها ولكن يعتقدون عدد الصلاة اعتقادا راجحا وهذا ليس بشك وقوله ( ( اذا شك أحدكم ( انما هو حال من ليس له اعتقاد راجح وظن غالب فهذا اذا تحرى وارتأى وتأمل فقد يظهر له رجحان أحد الامرين فلا يبقى شاكا وهو المذكور فى حديث بن مسعود فانه كان شاكا قبل التحرى وبعد التحرى ما بقى شاكا مثل سائر مواضع التحرى كما اذا شك فى القبلة فتحرى حتى ترجح عنده أحد الجهات فانه لم يبق شاكا وكذلك العالم المجتهد والناسى اذا ذكر وغير ذلك
____________________
(23/12)
وقوله فى حديث أبى سعيد ( اذا شك أحدكم ( خطاب لمن استمر الشك فى حقه بأن لا يكون قادرا على التحرى اذ ليس عنده امارة ودلالة ترجح أحد الامرين او تحرى وارتأى فلم يترجح عنده شيء ومن قال ليس هنا دلالة تبين أحد الأمرين غلط فقد يستدل على ذلك بموافقة المأمومين اذا كان اماما وقد يستدل بمخبر يخبره وان لم يكن معه فى الصلاة فيحصل له بذلك اعتقاد راجح وقد يتذكر ما قرأ به فى الصلاة فيذكر أنه قرأ بسورتين فى ركعتين فيعلم أنه صلى ركعتين لا ركعة وقد يذكر أنه تشهد التشهد الأول فيعلم أنه صلى ثنتين لا واحدة وأنه صلى ثلاثا لا اثنتين وقد يذكر أنه قرأ الفاتحة وحدها فى ركعة ثم فى ركعة فيعلم أنه صلى أربعا لا ثلاثا وقد يذكر أنه صلى بعد التشهد الأول ركعتين فيعلم أنه صلى أربعا لاثلاثا واثنتين لا واحدة وقد يذكر أنه تشهد التشهد الأول والشك بعده فى ركعة فيعلم أنه صلى ثلاثا لا اثنتين
ومنها أنه قد يعرض له فى بعض الركعات اما من دعاء وخشوع واما من سعال ونحوه واما من غير ذلك ما يعرف به تلك الركعة ويعلم أنه قد صلى قبلها واحدة أو اثنتين أو ثلاثا فيزول الشك وهذا باب لا ينضبط فان الناس دائما يشكون فى أمور هل كانت أم لم تكن ثم يتذكرون ويستدلون بأمور على أنها كانت فيزول
____________________
(23/13)
الشك فاذا تحرى الذى هو أقرب للصواب أزال الشك ولا فرق فى هذا بين أن يكون اماما أو منفردا
ثم اذا تحرى الصواب ورأى أنه صلى أربعا كان اذا صلى خامسة قد صلى فى اعتقاده خمس ركعات وهو لم يؤمر بذلك بخلاف الشك المتساوى فانه لابد معه من الشك فى الزيادة والنقص والشك فى الزيادة أولى فان ما زاده مع الشك مثل ما زاده سهوا وذلك لا يبطل صلاته وأما اذا شك فى النقص فهو شاك فى فعل ما أمر به فلم تبرأ ذمته منه
وأيضا فالأقوال الممكنة فى هذا الباب اما أن يقال يطرح الشك مطلقا ولا يتحرى أو يحمل التحرى على طرح الشك فهذا مخالفة صريحة لحديث بن مسعود واما أن يستعمل هذا فى حق الامام وهذا فى حق المنفرد ومعلوم أن كلا الحديثين خطاب للمصلين لم يخاطب بأحدهما الائمة وبالاخر المنفردين ولا فى لفظ واحد من الحديثين ما يدل على ذلك فجعل هذا هو مراد الرسول من غير أن يكون فى كلامه ما يدل عليه نسبة له إلى التدليس والتلبيس وهو منزه عن ذلك وأيضا فان حديث أبى سعيد مع تساوى الشك متناول للجميع
____________________
(23/14)
بالاتفاق فاخراج الائمة منه غير جائز وحديث بن مسعود متناول لما تناوله حديث أبى سعيد فلم يبق الا القسم الثالث
وهو أن كلاهما خطاب للشاك فذاك أمر له بالتحرى اذا أمكنه فيزول الشك والثانى أمر له اذا لم يزل الشك ماذا يصنع
وهذا كما يقال للحاكم احكم بالبينة واحكم بالشهود ونحو ذلك فهذا مع الامكان فاذا لم يمكن ذلك رجع إلى الاستصحاب وهو البراءة كذلك المصلى الشاك يعمل بما يبين له الصواب فان تعذر ذلك رجع إلى الاستصحاب والله أعلم
ولأن العمل بالتحرى يقطع وسواس الشيطان او يقلله بخلاف ما اذا لم يتحر فلا يزال الشيطان يشككه فيما فعله أنه لم يفعله وقد قالوا أنه لو شك بعد السلام هل ترك واجبا لم يلتفت إليه وما ذاك الا لأن الظاهر أنه سلم بعد اتمامها فعلم أن الظاهر يقدم على الاستصحاب وعلى هذا عامة امور الشرع
ومثل هذا يقال فى عدد الطواف والسعى ورمى الجمار وغير ذلك ومما يبين ذلك أن التمسك بمجرد استصحاب حال العدم اضعف الادلة مطلقا وادنى دليل يرجح عليه كاستصحاب براءة الذمة
____________________
(23/15)
فى نفى الايجاب والتحريم فهذا باتفاق الناس أضعف الادلة ولا يجوز المصير إليه باتفاق الناس الا بعد البحث التام هل أدلة الشرع ما تقتضى الايجاب أو التحريم
ومن الناس من لا يجوز التمسك به فى نفى الحكم بل فى دفع الخصم ومنعه فيقول أنا لا أثبت الايجاب ولا أنفيه بل أطالب من يثبته بالدليل أو أمنعه أو أدفعه عن اثبات ايجاب بلا دليل كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبى حنيفة وأما أهل الظاهر فهو عمدتهم لكن بعد البحث عن الادلة الشرعية ولا يجوز الاخبار بانتفاء الاشياء وعدم وجودها بمجرد هذا لاستصحاب من غير استدلال بما يقتضى عدمها ومن فعل ذلك كان كاذبا متكلما بلا علم وذلك لكثرة ما يوجد فى العالم والانسان لا يعرفه فعدم علمه ليس علما بالعدم ولا مجرد كون الاصل عدم الحوادث يفيد العلم بانتفاء شيء منها الا بدليل يدل على النفى لكن الاستصحاب يرجح به عند التعارض وما دل على الاثبات من أنواع الادلة فهو راجح على مجرد استصحاب النفى وهذا هوالصواب الذى أمر المصلى أن يتحراه فان ما دل على أنه صلى أربعا من أنواع الادلة راجح على استصحاب عدم الصلاة وهذا حقيقة هذه المسألة
____________________
(23/16)
( فصل (
وأما ( المسألة الثانية ( وهى محل السجود هل هو قبل السلام أو بعده ففى ذلك أقوال مشهورة قيل كله قبل السلام وقيل كله بعده وقيل بالفرق بين الزيادة والنقصان وعلى هذا ففى الشك نزاع
وقيل بأن الأصل أن تسجد قبل السلام لكن ما جاءت السنة بالسجود فيه بعد السلام سجد بعده لأجل النص والباقى على الأصل وهذا هو المشهور عن أحمد
والاول قول الشافعى والثانى قول أبى حنيفة والثالث قول مالك وأحمد واختلف عنه فروى عنه فيما اذا صلى خمسا هل يسجد قبل السلام أو بعده على روايتين وقد حكى عنه رواية بأنه كله قبل السلام لكن لم نجد بهذا لفظا عنه وحكى عنه أنه كله بعد السلام وهذا غلط محض
والقاضى وغيره يقولون لم يختلف كلام الامام أحمد ان بعضه
____________________
(23/17)
قبل السلام وبعضه بعده قال القاضي أبو يعلى لا يختلف قول أحمد فى هذين الموضعين أن يسجد لهما بعد السلام اذا سلم وقد بقى عليه ركعة أو اكثر واذا شك وتحرى قال أحمد فى رواية الاثرم أنا اقول كل سهو جاء عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه سجد فيه بعد السلام فانه يسجد فيه بعد السلام وسائر السجود يسجد فيه قبل السلام هو أصح فى المعنى وذلك أنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل أن يسلم ثم قال فسجد النبى ( صلى الله عليه وسلم ( فى ثلاثة مواضع بعد السلام وفى غيرها قبل السلام قلت اشرح المواضع الثلاثة التى بعد السلام قال سلم من ركعتين فسجد بعد السلام هذا حديث ذى اليدين وسلم من ثلاث فسجد بعد السلام هذا حديث عمران بن حصين وحديث بن مسعود فى التحرى سجد بعد السلام
قال أبو محمد قال القاضي لا يختلف قول أحمد فى هذين الموضعين أنه يسجد لهما بعد السلام قال واختلف قوله فى من سهى فصلى خمسا هل يسجد قبل السلام أو بعده على روايتين وما عدا هذه المواضع الثلاثة يسجد لها قبل السلام رواية واحدة وبهذا قال سليمان بن داود وأبو خيثمة وبن المنذر قال وحكى أبو الخطاب روايتين أخريين
____________________
(23/18)
( احداهما ( أن السجود كله قبل السلام وهو مذهب الشافعى
( والثانية ( ان ما كان من نقص يسجد له قبل السلام لحديث بن بحينة وما كان من زيادة سجد له بعد السلام لحديث ذى اليدين وحديث بن مسعود حين صلى خمسا وهذا مذهب مالك وأبى ثور وقال أبو حنيفة وأصحابه وطائفة كله بعد السلام
قلت أحمد يقول فى الشك اذا طرحه وبنى على اليقين أنه يسجد له قبل السلام كما ثبت فى الحديث الصحيح فعلى قوله الموافق لمالك ما كان من نقص وشك فقبله وما كان من زيادة فبعده وحكى عن مالك أنه يسجد بعد السلام لأنه يحتمل للزيادة لا للنقص والزيادة التى اختلف فيها كلام أحمد هي ما اذا صلى خمسا فقد ثبت فى الصحيح أنه يسجد بعد السلام لكن هناك كان قد نسى وفى الصحيحين عن بن مسعود قال ( صلى بنا رسول الله ( ( خمسا فلما انفتل شوش القوم بينهم فقال ما شأنكم قالوا يا رسول الله زيد فى الصلاة قال لا قالوا فانك قد صليت خمسا فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلم ثم قال انما أنا بشر أنسى كما تنسون ( وفى رواية أنه قال ( انما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون فاذا نسى أحدكم فليسجد
____________________
(23/19)
سجدتين وهو جالس ثم تحول رسول الله ( ( فسجد سجدتين (
وللبخارى عن بن مسعود ( أن النبى ( ( صلى الظهر خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلم ( وفى الصحيحين عن بن مسعود ( أن النبى ( ( سجد سجدتى السهو بعد السلام والكلام
فهذا الموضع اختلف فيه كلام أحمد هل يسجد بعد السلام كما سجد النبى ( ( أم يسجد قبله اذا ذكر قبل السلام والنبى ( ( انما سجد بعد السلام لكونه لم يذكر حتى سلم وذكروه على احدى الروايتين عنده لا يكون السجود بعد السلام مختصا بمورد النص كما قاله الاكثرون كأبى حنيفة ومالك وغيرهما كما لا يكون السجود قبل السلام مختصا بمورد النص كما قاله الاكثرون أبو حنيفة ومالك وغيرهما بل الصواب أن السجود بعضه قبل السلام وبعضه بعده كما ثبتت بذلك الاحاديث الصحيحة
ومن قال كله قبل السلام واحتج بحديث الزهري كان آخر الامرين السجود قبل السلام فقد ادعى النسخ وهو ضعيف فان السجود بعد السلام فى حديث ذى اليدين فمالك والشافعى والجمهور
____________________
(23/20)
يقولون أنه ليس بمنسوخ وانما يقول أنه منسوخ من يحتج بقول الزهري ان ذى اليدين مات قبل بدر وان هذه القصة كانت متقدمة فقول الزهري بنسخه مبنى على هذا وهو ضعيف فان أبا هريرة صلى خلف النبى ( ( فى حديث ذى اليدين وانما أسلم عام خيبر فالذين يحتجون بقول الزهري هنا قد ردوا قوله بالنسخ هناك والذين يقولون بنسخ حديث ذى اليدين هم يأمرون بالسجود بعد السلام فكل من الطائفتين ادعت نسخ الحديث فيما يخالف قولها بلا حجة والحديث محكم فى أن الصلاة لا تبطل وفى أنه يسجد بعد السلام ليس لواحد منهما عن النبى ( ( معارض ينسخه
وأيضا فالنسخ انما يكون بما يناقض المنسوخ والنبى ( ( سجد بعد السلام ولم ينقل مسلم أنه نهى عن ذلك فبطل النسخ
واذا قيل انه سجد بعد ذلك قبل السلام فان كان فى غير هذه الصورة كما فى حديث بن بحينة لما قام من الركعتين وفى حديث الشك فلا منافاة لكن هذا الظان ظن أنه اذا سجد فى صورة قبل السلام كان هذا نسخا للسجود بعده فى صورة اخرى وهذا غلط منه ولم ينقل عنه فى صورة واحدة أنه سجد تارة قبل
____________________
(23/21)
السلام وتارة بعده ولو نقل ذلك لدل على جواز الامرين فدعوى النسخ فى هذا الباب باطل
وكيف يجوز أن يبطل بأمره بالسجود بعد السلام فى صورة وفعله له مما لا يناقض ذلك ومن قال السجود كله بعد السلام واحتج بما فى السنن من حديث ثوبان ( لكل سهو سجدتان بعد التسليم ( فهو ضعيف لأنه من رواية بن عياش عن أهل الحجاز وذلك ضعيف باتفاق أهل الحديث وبحديث بن جعفر ( من شك فى صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم ( ففيه بن أبى ليلى قال الاثرم لا يثبت واحد منهما مع أن هذا قد يكون مثل حديث بن مسعود ( واذا شك فيتحرى ( ويكون هذا مختصرا من ذاك
ومثل هذا لا يعارض الحديث الصحيح حديث أبى سعيد فى الشك ( أنه أمر بسجدتين قبل السلام ( وحديث بن بحينة الذى فى الصحيحين الذى هو أصل من أصول مسائل السهو لما ترك التشهد الاول وسجد قبل السلام فهذه الاحاديث الصحيحة تبين ضعف قول كل من عمم فجعله كله قبله أو جعله كله بعده
بقى التفصيل فيقال الشارع حكيم لا يفرق بين الشيئين بلا فرق فلا يجعل بعض السجود بعده وبعضه قبله الا لفرق بينهما
____________________
(23/22)
وقول من يقول القياس يقتضى أنه كله قبله لكن خولف القياس فى مواضع للنص فبقى فيما عداه على القياس يحتاج فى هذا إلى شيئين إلى أن يبين الدليل المقتضى لكونه كله قبله ثم إلى بيان أن صورة الاستثناء اختصت بمعنى يوجب الفرق بينها وبين غيرها والا فاذا كان المعنى الموجب للسجود قبل السلام شاملا للجميع امتنع من الشارع أن يجعل بعض ذلك بعد السلام وان كان قد فرق لمعنى فلابد أن يكون المعنى مختصا بصورة الاستثناء فاذا لم يعرف الفرق بين ما استثنى وبين ما استبقى كان تفريقا بينهما بغير حجة
واذا قال علمت أن الموجب للسجود قبل السلام عام لكن لما استثنى النص ما استثناه علمت وجود المعنى المعارض فيه
فيقال له فما لم يرد فيه نص جاز أن يكون فيه الموجب لما قبل السلام وجاز أن يكون فيه الموجب لما بعد السلام فانك لا تعلم أن المعنى الذى أوجب كون تلك الصور بعد السلام منتفيا عن غيرها ومع كون نوع من السجود بعد السلام يمتنع أن يكون الموجب التام له قبل السلام عاما فما بقى معك معنى عام يعتمد عليه فى الجزم بأن المشكوك قبل السلام ولا بأن المقتضى له بعد السلام مختص بمورد النص فنفى التفريق قول بلا دليل يوجب الفرق وهو قول بتخصيص العلة من غير بيان فوات شرط أو وجود مانع وهو الاستحسان المحض
____________________
(23/23)
الذى لم يتبين فيه الفرق بين صورة الاستحسان وغيرها
وحينئذ فأظهر الاقوال الفرق بين الزيادة والنقص وبين الشك مع التحرى والشك مع البناء على اليقين وهذا احدى الروايات عن أحمد وقول مالك قريب منه وليس مثله فان هذا مع ما فيه من استعمال النصوص كلها فيه الفرق المعقول وذلك أنه اذا كان فى نقص كترك التشهد الأول احتاجت الصلاة إلى جبر وجابرها يكون قبل السلام لتتم به الصلاة فان السلام هو تحليل من الصلاة واذا كان من زيادة كركعة لم يجمع فى الصلاة بين زيادتين بل يكون السجود بعد السلام لأنه ارغام للشيطان بمنزلة صلاة مستقلة جبر بها نقص صلاته فان النبى ( ( جعل السجدتين كركعة
وكذلك اذا شك وتحرى فانه أتم صلاته وانما السجدتان لترغيم الشيطان فيكون بعد السلام ومالك لا يقول بالتحرى ولا بالسجود بعد السلام فيه وكذلك اذا سلم وقد بقى عليه بعض صلاته ثم أكملها فقد اتمها والسلام منها زيادة والسجود فى ذلك بعد السلام لأنه ارغام للشيطان
____________________
(23/24)
وأما اذا شك ولم يتبين له الراجح فهنا اما أن يكون صلى أربعا أو خمسا فان كان صلى خمسا فالسجدتان يشفعان له صلاته ليكون كأنه قد صلى ستا لا خمسا وهذا انما يكون قبل السلام ومالك هنا يقول يسجد بعد السلام فهذا القول الذى نصرناه هو الذى يستعمل فيه جميع الاحاديث لا يترك منها حديث مع استعمال القياس الصحيح فيما لم يرد فيه نص والحاق ما ليس بمنصوص بما يشبهه من المنصوص
ومما يوضح هذا أنه اذا كان مع السلام سهو سجد بعد السلام فيقال اذا زاد غير السلام من جنس الصلاة كركعة ساهيا أو ركوع أو سجود ساهيا فهذه زيادة لو تعمدها بطلت صلاته كالسلام فالحاقها بالسلام أولى من الحاقها بما اذا ترك التشهد الاول أو شك وبنى على اليقين
وقول القائل أن السجود من شأن الصلاة فيقضيه قبل السلام يقال له لو كان هذا صحيحا لوجب أن يكون كله قبل السلام فلما ثبت أن بعضه بعد السلام علم أنه ليس جنسه من شأن الصلاة الذى يقضيه قبل السلام وهذا معارض بقول من يقول السجود ليس من موجب تحريم الصلاة فان التحريم انما أوجب الصلاة السليمة وهذه الامور دعاوى لا يقوم عليها دليل بل يقال التحريم أوجب
____________________
(23/25)
السجود الذى يجبر به الصلاة
ويقال من السجود ما يكون جبره للصلاة اذا كان بعد السلام لئلا يجتمع فيها زيادتان ولأنه مع تمام الصلاة ارغام للشيطان ومعارضة له بنقيض قصده فانه قصد نقص صلاة العبد بما أدخل فيها من الزيادة فأمر العبد أن يرغمه فيأتى بسجدتين زائدتين بعد السلام ليكون زيادة فى عبادة الله والسجود لله والتقرب إلى الله الذى أراد الشيطان أن ينقصه على العبد فأراد الشيطان أن ينقص من حسناته فأمره الله أن يتم صلاته وأن يرغم الشيطان وعفا الله للانسان عما زاده فى الصلاة نسيانا من سلام وركعة زائدة وغير ذلك فلا يأثم بذلك لكن قد يكون تقربه ناقصا لنقصه فيما ينساه فأمره الله أن يكمل ذلك بسجدتين زائدتين على الصلاة والله أعلم
( فصل (
وأما وجوبه فقد أمر به النبى ( ( فى حديث أبى هريرة المتقدم لمجرد الشك فقال ( اذا قام أحدكم يصلى جاءه الشيطان فلبس عليه صلاته حتى لا يدرى كم صلى فاذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس ( وأمر به فيما اذا طرح الشك
____________________
(23/26)
فقال فى حديث أبى سعيد ( فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل ان يسلم فان كان صلى خمسا شفعتا له صلاته وان كان صلى تماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان (
وكذلك فى حديث عبد الرحمن ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم ثم يسلم ( وأمر به فى حديث بن مسعود حديث التحرى قال ( فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين وفى لفظ هاتان السجدتان لمن لا يدرى ازاد فى صلاته أم نقص فيتحرى الصواب فيتم عليه ثم يسجد سجدتين ( وفى الحديث الآخر المتفق عليه لابن مسعود ( فقلنا يا رسول الله أحدث فى الصلاة شيء فقال لا فقلنا له الذى صنع فقال اذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين قال ثم سجد سجدتين ( فقد أمر بالسجدتين اذا زاد أو اذا نقص ومراده اذا زاد ما نهى عنه أو نقص ما أمر به
ففى هذا ايجاب السجود لكل ما يترك مما امر به اذا تركه ساهيا ولم يكن تركه ساهيا موجبا لاعادته بنفسه واذا زاد ما نهى عنه ساهيا فعلى هذا كل مأمور به فى الصلاة اذا تركه ساهيا فاما أن يعيده اذا ذكره واما أن يسجد للسهو لابد من أحدهما
____________________
(23/27)
فالصلاة نفسها اذا نسيها صلاها اذا ذكرها لا كفارة لها الا ذلك وكذلك اذا نسى طهارتها كما أمر الذى ترك موضع لمعة من قدمه لم يصبها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة وكذلك اذا نسى ركعة كما فى حديث ذى اليدين فانه لابد من فعل ما نسيه اما مضموما إلى ما صلى وأما أن يبتدئ الصلاة فهذه خمسة أحاديث صحيحة فيها كلها يأمر الساهى بسجدتى السهو وهو لما سهى عن التشهد الأول سجدهما بالمسلمين قبل السلام ولما سلم فى الصلاة من ركعتين أو من ثلاث صلى ما بقى وسجدهما بالمسلمين بعد الصلاة ولما أذكروه أنه صلى خمسا سجدهما بعد السلام والكلام
وهذا يقتضى مداومته عليهما وتوكيدهما وأنه لم يدعهما فى السهو المقتضى لها قط وهذه دلائل بينة واضحة على وجوبهما وهو قول جمهور العلماء وهو مذهب مالك وأحمد وأبى حنيفة وليس مع من لم يوجبهما حجة تقارب ذلك
والشافعى انما لم يوجبهما لأنه ليس عنده فى الصلاة واجب تصح الصلاة مع تركه لا عمدا ولا سهوا وجمهور العلماء الثلاثة وغيرهم يجعلون من واجبات الصلاة ما لا يبطل تركه الصلاة لكن مالك وأحمد وغيرهما يقولون لا تبطل الصلاة بعمده وعليه الاعادة ويجب بتركه سهوا سجود السهو وأبو حنيفة يقول اذا تركه عمدا كان مسيئا
____________________
(23/28)
وكانت صلاته ناقصة ولا اعادة عليه وأما ما يزيده عمدا فكلهم يقول ان فيه ما تبطل الصلاة مع عمده دون سهوه لكن هو فى حال العمد مبطل فلا سجود وفى حال السهو يقولون قد عفى عنه فلا يجب السجود
وقد احتج بعضهم بما روى أن النبى ( ( قال فى حديث الشك ( كانت الركعة والسجدتان نافلة ( وهذا لفظ ليس فى الصحيح ولفظ الصحيح ( فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فان كان صلى خمسا شفعتا له صلاته وان كان صلى تماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان ( فقد أمر فيه بالسجود وبين حكمته سواء كان صلى خمسا أو أربعا فقال ( فان كان صلى خمسا شفعتا له صلاته ( وهذا يقتضى أن التطوع بالوتر لا يجوز بل قد أمر الله أن يوتر صلاة النهار بالمغرب وصلاة الليل بالوتر
وهنا لما كان مع الشك قد صلى خمسا وهو لا يعلم جعل السجدتين قائمة مقام ركعة فشفعتا له صلاته قال ( وان كان صلى تماما لأربع فلم يزد فى الصلاة شيئا كانتا ترغيما للشيطان ( فهذا اللفظ وهو قوله ( كانت الركعة والسجدتان نافلة له ( لا يمكن أن يستدل به حتى يثبت أنه من قول النبى
____________________
(23/29)
فكيف ولفظه الذى فى الصحيح يقتضى وجوبهما وجوب الركعة والسجدتين والركعة قد اتفق العلماء على وجوبها فحيث قيل أن الشاك يطرح الشك ويبنى على ما استيقن كانت الركعة المشكوك فيها واجبة
واذا كانت واجبة بالنص والاتفاق واللفظ المروى هوفيها وفى السجود مع أن السجود أيضا مأمور به كما أمر بالركعة علم أن ما ذكر لا ينافى وجوب السجدتين كما لا ينافى وجوب الركعة وان كان هذا اللفظ قد قاله الرسول فمعناه أنه مأمور بذلك مع الشك فعلى تقدير أن تكون صلاته تامة فى نفس الأمر لم ينقص منها شيء يكون ذلك زيادة فى عمله وله فيه أجر كما فى النافلة وهذا فعل كل من احتاط فأدى ما يشك فى وجوبه إن كان واجبا والا كانت نافلة له فهو انما جعلها نافلة فى نفس الأمر على تقدير اتمام الاربع ولكن هو لما شك حصل بنفس شكه نقص فى صلاته فأمر بهما وان كان صلى أربعا ترغيما للشيطان
وهذا كما يأمرون من يشك فى غير الواجب بأن يفعل ما يتبين به براءة الذمة والواجب فى نفس الامر واحد والزيادة نافلة وكذلك يؤمر من اشتبهت أخته من الرضاع بأجنبية باجتنابهما والمحرم فى نفس الأمر واحد فذلك المشكوك فيه يسمى واجبا باعتبار أن عليه
____________________
(23/30)
أن يفعله ويسمى نافلة على تقدير أى هو مثاب عليه مأجور عليه ليس هو عملا ضائعا كالنوافل وأنه لم يك فى نفس الأمر واجبا عليه لكن وجب لأجل الشك مع أن احدى الروايتين عن أحمد أنه يجبر المعادة مع امام الحى
ويسمى نافلة لأمر النبى ( ( بذلك وكذلك قوله فى حديث أبى ذر ( صل الصلاة لوقتها ثم اجعل صلاتك معهم نافلة ولا تقل انى قد صليت ( فهي نافلة أي زائدة على الفرائض الخمس الاصلية وان كانت واجبة بسبب آخر كالواجب بالنذر
وكثير من السلف يريدون بلفظ النافلة ما كان زيادة فى الحسنات وذلك لمن لا ذنب له ولهذا قالوا فى قوله ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ( ان النافلة مختصة برسول الله ( لأن الله غفر له وغيره له ذنوب فالصلوات تكون سببا لمغفرتها وهذا القول وان كان فيه كلام ليس هذا موضعه فالمقصود ان لفظ النافلة توسع فيه فقد يسمى به ما أمر به وقد ينفى عن التطوع
فقد تبين وجوب سجود السهو وسببه اما نقص واما زيادة كما قال فى الصحيحين ( اذا زاد او نقص فليسجد سجدتين ( فالنقص كما فى حديث بن بحينة لما ترك التشهد الأول سجد والزيادة
____________________
(23/31)
كما سجد لما صلى خمسا وامر به الشاك الذى لا يدرى ازاد أم نقص فهذه أسبابه فى كلام النبى ( ( اما الزيادة واما النقص واما الشك وقد تبين أنه فى النقص والشك يسجد قبل السلام وفى الزيادة بعده ( فصل (
واذا كان واجبا فتركه عمدا أو سهوا ترك الذى قبل السلام أو بعده ففيه اقوال متعددة فى مذهب أحمد وغيره
قيل ان ترك ما قبل السلام عمدا بطلت صلاته وان تركه سهوا لم تبطل كالتشهد الاول وغيره من الواجبات وما بعده لا يبطل بحال لأنه جبران بعد السلام فلا يبطلها وهذا اختيار كثير من اصحاب أحمد
وقيل ان ترك ما قبل السلام يبطل مطلقا فان تركه سهوا فذكر قريبا سجد وان طال الفصل أعاد الصلاة وهو منقول رواية عن أحمد وهو قول مالك وأبى ثور وغيرهما وهذا القول أصح من الذى قبله فانه اذا كان واجبا فى الصلاة فلم يأت به سهوا لم تبرأ ذمته منه وان كان لا يأثم كالصلاة نفسها فانه اذا نسيها صلاها
____________________
(23/32)
اذا ذكرها فهكذا ما ينساه من واجباتها لابد من فعله اذا ذكر اما بأن يفعله مضافا إلى الصلاة واما بأن يبتدئ الصلاة فلا تبرأ الذمة من الصلاة ولا من اجزائها الواجبة الا بفعلها والواجبات التى قيل أنها تسقط بالسهو كالتشهد الأول لم يقل أنها تسقط إلى غير بدل بل سقطت إلى بدل وهو سجود السهو بخلاف الأركان التى لا بدل لها كالركوع والسجود فاما أن يقال انها واجبة فى الصلاة وانها تسقط إلى غير بدل فهذا ما علمنا أحدا قاله وان قاله قائل فهو ضعيف مخالف للأصول فهذان قولان فى الواجب قبل السلام اذا تركه سهوا
وأما الواجب بعده فالنزاع فيه قريب فمال كثير ممن قال ان ذلك واجب إلى أن ترك هذا لا يبطل لأنه جبر للعبادة خارج عنها فلم تبطل كجبران الحج ونقل عن أحمد ما يدل على بطلان الصلاة اذا ترك السجود المشروع بعد السلام وقد نقل الاثرم عن أحمد الوقف فى هذه المسألة فنقل عنه فيمن نسى سجود السهو فقال اذا كان فى سهو خفيف فأرجو أن لا يكون عليه قلت فان كان فيما سهى فيه النبى ( ( فقال هاه ولم يجب قال فبلغنى عنه أنه يستحب أن يعيده و ( مسائل الوقف ( يخرجها أصحابه على وجهين
____________________
(23/33)
وفى
الجملة فقيل يعيد اذا تركه عامدا وقيل اذا تركه عامدا أو ساهيا والصحيح أنه لابد من هذا السجود أو من اعادة الصلاة فانه قد تنوزع إلى متى يسجد فقيل يسجد ما دام فى المسجد ما لم يطل الفصل وقيل يسجد وان طال الفصل ما دام فى المسجد وقيل يسجد وان خرج وتعدى
والمقصود أنه لابد منه أو من اعادة الصلاة لأنه واجب أمر به النبى ( ( لتمام الصلاة فلا تبرأ ذمة العبد الا به واذا امر به بعد السلام من الصلاة وقيل ان فعلته والا فعليك اعادة الصلاة لم يكن ممتنعا والمراد تكون الصلاة باطلة أنه لم تبرأ بها الذمة ولا فرق فى ذلك بين ما قبل السلام وما بعده والله تعالى انما أباح له التسليم منها بشرط أن يسجد سجدتى السهو فاذا لم يسجدهما لم يكن قد أباح الخروج منها فيكون قد سلم من الصلاة سلاما لم يؤمر به فيبطل صلاته كما تقول فى فاسخ الحج إلى التمتع انما ابيح له التحلل اذا قصد أن يتمتع فيحج من عامه فاما ان قصد التحلل مطلقا لم يكن له ذلك وكان باقيا على احرامه ولم يصح تحلله لكن الاحرام لا يخرج منه برفض المحرم ولا بفعل شيء من محظوراته ولا بافساده بل هو باق فيه وان كان فاسدا بخلاف الصلاة فانها تبطل بفعل ما ينافيها وما حرم فيها
____________________
(23/34)
وقياسهم الصلاة على الحج باطل فان الواجبات التى يجبرها دم لو تعمد تركها فى الحج لم تبطل بل يجبرها والجبران فى ذمته لا يسقط بحال والصلاة اذا ترك واجبا فيها بطلت واذا قيل انه مجبور بالسجود فيقتضى أن السجود فى ذمته كما يجب فى ذمته جبران الحج اما سقوط الواجب وبدله فهذا لا أصل له فى الشرع فقياس الحج أن يقال هذا السجود بعد السلام يبقى فى ذمته إلى أن يفعله وهذا القول غير ممتنع بخلاف قولهم يسقط إلى بدل لكن جبران الحج وهو الدم يفعل مفردا بلا نزاع وأما هذا السجود فهل يفعل مفردا بعد طول الفصل فيه نزاع
ونحن قلنا لابد منه أو من اعادة الصلاة فاذا قيل انه يفعل وان طال الفصل كالصلاة المنسية فهذا متوجه قوى ودونه أن يقال وان تركه عمدا يفعله فى وقت آخر وان اثم بالتأخير كما لو أخر الصلاة المنسية بعد الذكر عمدا فليصلها ويستغفر الله من تأخيرها وكذلك المفوتة عمدا عند من يقول بامكان اعادتها يصليها ويستغفر الله من تأخيرها فهكذا السجدتان يصليهما حيث ذكرهما ويستغفر الله من التأخير فهذا أيضا قول متوجه فان التحديد بطول الفصل وبغيره غير مضبوط بالشرع
وكذلك الفرق بين المسجد وغيره ليس عليه دليل شرعى وكذلك
____________________
(23/35)
الفرق بين ما قبل الحدث وبعده بل عليه أن يسجدهما بحسب الامكان والله أعلم
( فصل
وما شرع قبل السلام أو بعده فهل ذلك على وجه الوجوب أو الاستحباب فيه قولان فى مذهب أحمد وغيره
ذهب كثير من أتباع الأئمة الأربعة إلى أن النزاع انما هو فى الاستحباب وأنه لو سجد للجميع قبل السلام أو بعده جاز
والقول الثانى ان ما شرعه قبل السلام يجب فعله قبله وما شرعه بعده لا يفعل الا بعده وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة وهو الصحيح قال النبى ( ( فى حديث طرح الشك قال ( وليسجد سجدتين قبل أن يسلم ( وفى الرواية الأخرى ( قبل أن يسلم ثم يسلم ( وفى حديث التحرى قال ( فليتحر الصواب فليبن عليه ثم ليسجد سجدتين ( وفى رواية للبخارى ( فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين ( فهذا أمر فيه بالسلام ثم بالسجود وذاك أمر فيه بالسجود قبل السلام وكلاهما أمر منه يقتضى الايجاب
____________________
(23/36)
ولما ذكر ما يعم القسمين قال ( اذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين ( وقال ( فاذا لم يدر أحدكم كم صلى فليسجد سجدتين وهو جالس ( فلما ذكر النقص مطلقا والزيادة مطلقا والشك أمر بسجدتين مطلقا ولم يقيدهما بما قبل السلام ولما أمر بالتحرى أمر بالسجدتين بعد السلام فهذه أوامره ( ( فى هذه الابواب لا تعدل عنها ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ( ولكن من سجد قبل السلام مطلقا او بعد السلام مطلقا متأولا فلا شيء عليه وان تبين له فيما بعد السنة استأنف العمل فيما تبين له ولا اعادة عليه
وكذلك كل من ترك واجبا لم يعلم وجوبه فاذا علم وجوبه فعله ولا تلزمه الاعادة فيما مضى فى أصح القولين فى مذهب أحمد وغيره
وكذلك من فعل محظورا فى الصلاة لم يعلم أنه محظور ثم علم كمن كان يصلى فى أعطان الابل أو لا يتوضأ الوضوء الواجب الذى لم يعلم وجوبه كالوضوء من لحوم الابل وهذا بخلاف الناسى فان العالم بالوجوب اذا نسى صلى متى ذكر كما قال ( صلى الله عليه وسلم ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها ( وأما من لم يعلم الوجوب فاذا علمه صلى صلاة الوقت وما بعدها ولا اعادة عليه كما ثبت فى الصحيحين أن النبى ( ( قال للأعرابى
____________________
(23/37)
المسيء فى صلاته ( ارجع فصل فانك لم تصل ( قال والذى بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمنى ما يجزينى فى صلاتى فعلمه ( ( وقد أمره باعادة صلاة الوقت ولم يأمره باعادة ما مضى من الصلاة مع قوله ( لا أحسن غير هذا (
وكذلك لم يامر عمر وعمارا بقضاء الصلاة وعمر لما أجنب لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة ولم يأمر أبا ذر بما تركه من الصلاة وهو جنب ولم يأمر المستحاضة أن تقضى ما تركت مع قولها انى أستحاض حيضة شديدة منعتنى الصوم والصلاة
ولم يأمر الذين أكلوا فى رمضان حتى تبين لهم الحبال البيض من السود بالاعادة والصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين ركعتين ثم لما هاجر زيد فى صلاة الحضر ففرضت أربعا وكان بمكة وارض الحبشة والبوادى كثير من المسلمين لم يعلموا بذلك الا بعد مدة وكانوا يصلون ركعتين فلم يأمرهم باعادة ما صلوا
كما لم يأمر الذين كانوا يصلون إلى القبلة المنسوخة بالاعادة مدة صلاتهم اليها قبل أن يبلغهم الناسخ فعلم أنه لا فرق بين الخطاب المبتدأ والخطاب الناسخ والركعتان الزائدتان ايجابهما مبتدأ وايجاب الكعبة ناسخ وكذلك التشهد وغيره إنما وجب فى اثناء الأمر وكثير
____________________
(23/38)
من المسلمين لم يبلغهم الوجوب إلا بعد مدة
ومن المنسوخ أن جماعة من أكابر الصحابة كانوا لا يغتسلون من الأقحاط بل يرون الماء من الماء حتى ثبت عندهم النسخ ومنهم من لم يثبت عنده النسخ وكانوا يصلون بدون الطهارة الواجبة شرعا لعدم علمهم بوجوبها ويصلى أحدهم وهو جنب
( فصل (
اذا نسى السجود حتى فعل ما ينافى الصلاة من كلام وغيره فقد ثبت فى الصحيحين عن بن مسعود عن النبى ( ( أنه سجد بعد السلام والكلام ( فقد بين ذلك فى الصحيحين أنه صلى بهم الظهر خمسا فلما انفتل توشوش القوم فيما بينهم فقال ما شأنكم قالوا يا رسول الله زيد فى الصلاة قال لا قالوا فانك صليت خمسا فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلم ( وهذا قول جمهور العلماء وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد وغيره
وعن أبى حنيفة أنه ان تكلم بعد السلام سقط عنه سجود السهو لأن الكلام ينافيها فهو كالحدث وعن الحسن ومحمد اذا صرف وجهه عن
____________________
(23/39)
القبلة لم يبن ولم يسجد والصواب قول الجمهور كما نطقت به السنة فانه ( ( سجد بعد انصرافه وانفتاله واقباله عليهم وبعد تحدثهم وبعد سؤاله لهم واجابتهم اياه وحديث ذى اليدين أبلغ فى هذا فانه صلى ركعتين ثم قام إلى خشبة معروضة فى المسجد فاتكأ عليها ثم قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت وأجابه ثم سأل الصحابة فصدقوا ذا اليدين فعاد إلى مكانه فصلى الركعتين ثم سجد بعد السلام سجدتى السهو وقد خرج السرعان من الناس يقولون قصرت الصلاة قصرت الصلاة
وفى حديث عمران وهو فى الصحيحين ( أنه سلم فى ثلاث من العصر ثم دخل منزله وقام إليه الخرباق فذكر له صنيعه وأنه خرج يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال أصدق هذا قالوا نعم ( وهذه القصة اما أن تكون غير الأولى واما أن تكون هي اياها لكن اشتبه على احدى الراويين هل سلم من ركعتين أو من ثلاث وذكر أحدهما قيامه إلى الخشبة المعروضة فى المسجد والآخر دخوله منزله ثم من بعد هذا القول والعمل وخروجه من المسجد والسرعان من الناس لا ريب أنه امرهم بما يعملون
فاما أن يكونوا عادوا أو بعضهم إلى المسجد فأتموا معه الصلاة بعد خروجهم من المسجد وقولهم قصرت الصلاة قصرت الصلاة
____________________
(23/40)
واما أن يكونوا أتموا لأنفسهم لما علموا السنة وعلى التقديرين فقد أتموا بعد العمل الكثير والخروج من المسجد
واما أن يقال انهم أمروا باستئناف الصلاة فهذا لم ينقله أحد ولو أمر به لنقل ولا ذنب لهم فيما فعلوا وهو فى احدى صلوات الخوف يصلى بطائفة ركعة والأخرى بازاء العدو ثم يمضون إلى مصاف أصحابهم وهم فى الصلاة فيعملون عملا ويستدبرون القبلة ثم يأتى أولئك فيصلى بهم ركعة ثم يمضون إلى مصاف أصحابهم ثم يصلى هؤلاء لأنفسهم ركعة أخرى وهؤلاء ركعة أخرى وفى ذلك مشى كثير واستدبار للقبلة وهم فى الصلاة وقد يتأخر كل طائفة من هؤلاء وهؤلاء فى الركعة الاولى والثانية بمشيها إلى مصاف أصحابها ثم يجيء أصحابها إلى خلف الامام ثم بصلاتهم خلف الامام ثم برجوعهم إلى مصاف اولئك ثم بعد هذا كله يصلون الركعة الثانية وهم قيام فيها مع هذا العمل والانتظار لكن لا يصلون الركعة الا بعد هذا كله فعلم أن الموالاة بين ركعات الصلاة لا تجب مع العدو وموالاة السجدتين مع الصلاة أولى بخلاف الموالاة بين أبعاض الركعة وهذا مذهب مالك وأحمد
ولهذا اذا نسى ركنا كالركوع مثلا فان ذكر فى الأولى مثل أن يذكر بعد أن يسجد السجدتين فانه يأتى بالركوع وما بعده
____________________
(23/41)
ويلغو ما فعله قبل الركوع لأن الفصل يسير وهذا قول الجماعة وان شرع فى الثانية اما فى قراءتها عندهم واما فى ركوعها على قول الجماعة وان شرع فى الثانية اما فى قراءتها عندهم واما فى ركوعها على قول مالك فعند الشافعى يلغو ما فعله بعد الركوع إلى أن يركع فى الثانية فيقوم مقام ركوع الأولى وان طال الفصل ويلفق الركعة من ركعتين وقد رجح أحمد هذا على قول الكوفيين وحكى رواية عنه والمشهور عنه وعن مالك أنهما لا يلفقان بل تلغو تلك الركعة المنسى ركنها وتقوم هذه مقامهما فيكون ترك الموالاة مبطلا للركعة على أصلهما لا يفصل بين ركوعها وسجودها بفاصل أجنبى عنها فان أدنى الصلاة ركعة وقد قال النبى ( ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك (
والركعة انما تكون ركعة مع الموالاة اما اذا ركع ثم فعل أفعالا أجنبية عن الصلاة ثم سجد لم تكن هذه ركعة مؤلفة من ركوع وسجود بل يكون ركوع مفرد وسجود مفرد وهذا ليس بصلاة والسجود تابع للركوع فلا تكون صلاة الا بركوع يتبعه سجود وسجود يتبعه ركوع وبسط هذا له موضع آخر
لكن هؤلاء لهم عذر الخوف وأولئك لهم عذر السهو وعدم العلم
____________________
(23/42)
وقد اختلف فى السجود والبناء بعد طول الفصل فقيل اذا طال الفصل لم يسجد ولم يبن ولم يحد هؤلاء طول الفصل بغير قولهم وهذا قول كثير من اصحاب الشافعى وأحمد كالقاضى أبى يعلى وغيره وهؤلاء يقولون قد تقصر المدة وان خرج وقد تطول وان قعد
وقيل يسجد ما دام فى المسجد فان خرج انقطع وهذا هو الذى ذكره الخرقى وغيره وهو منصوص عن أحمد وهو قول الحكم وبن شبرمة وهذا حد بالمكان لا بالزمان لكنه حد بمكان العبادة
وقيل كل منهما مانع من السجود طول الفصل والخروج من المسجد
وعن أحمد رواية أخرى أنه يسجد وان خرج من المسجد وتباعد وهو قول للشافعى وهذا هو الأظهر فان تحديد ذلك بالمكان أو بزمان لا أصل له فى الشرع لا سيما اذا كان الزمان غير مضبوط فطول الفصل وقصره ليس له حد معروف فى عادات الناس ليرجع إليه ولم يدل على ذلك دليل شرعى ولم يفرق الدليل الشرعى فى السجود والبناء بين طول الفصل وقصره ولا بين الخروج من المسجد والمكث فيه بل قد دخل هو ( ( إلى منزله
____________________
(23/43)
وخرج السرعان من الناس كما تقدم ولو لم يرد بذلك شرع فقد علم أن ذلك السلام لم يمنع بناء سائر الصلاة عليها فكذلك سجدتا السهو يسجدان متى ما ذكرهما
وان تركهما عمدا فاما أن يقال يسجدهما أيضا مع اثمه بالتأخير كما تفعل جبرانات الحج وهى فى ذمته إلى أن يفعلها فالموالاة فيها ليست شرطا كما يشترط مع القدرة فى الركعات فلو سلم من الصلاة عمدا بطلت صلاته باتفاق الناس لأن الصلاة فى نفسها عبادة واحدة لها تحليل وتحريم بخلاف السجدتين بعد السلام فانهما يفعلان بعد تحليل الصلاة كما يفعل طواف الافاضة بعد التحلل الأول
واما أن يقال الموالاة شرط فيها مع القدرة وانما تسقط بالعذر كالنسيان والعجز كالموالاة بين ركعات الصلاة وعلى هذا فمتى أخرهما لغير عذر بطلت صلاته اذ لم يشرع فصلهما عن الصلاة الا بالسلام فقط وأمر بهما عقب السلام فمتى تكلم عمدا أو قام أو غير ذلك مما يقطع التتابع عالما عامدا بلا عذر بطلت صلاته كما تبطل اذا ترك السجدتين قبل السلام
____________________
(23/44)
( فصل (
فأما التكبير فى سجود السهو ففى الصحيحين فى حديث بن بحينة ( فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه مكان ما نسى من الجلوس ( هذا فى السجود قبل السلام وأما بعده فحديث ذى اليدين الذى فى الصحيحين عن أبى هريرة قال ( فصلى ركعتين وسلم ثم كبر وسجد ثم كبر فرفع ثم كبر وسجد ثم كبر فرفع ( والتكبير قول عامة اهل العلم ولكن تنازعوا فى التشهد والتسليم على ثلاثة أقوال
فروى عن أنس والحسن وعطاء أنه ليس فيهما تشهد ولا تسليم ومن قال هذا قاله تشبيها بسجود التلاوة لأنه سجود مفرد فلم يكن فيه تشهد ولا تسليم كسجود التلاوة فانه لم ينقل أحد فيه عن النبى ( ( تسليما وكذلك قال أحمد وغيره وقال أحمد أما التسليم فلا أدري ما هو وجمهور السلف على أنه لا تسليم فيه ومن أثبت التسليم فيه أثبته قياسا وهو قياس ضعيف لأنه
____________________
(23/45)
جعله صلاة وأضعف منه من أثبت فيه التشهد قياسا
والقول الثانى أن فيهما تشهد يتشهد ويسلم اذا سجدهما بعد السلام وهذا مروى عن بن عباس والنخعى والحكم وحماد والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وأصحاب الرأى
والثالث فيهما تسليم بغير تشهد وهو قول بن سيرين قال بن المنذر التسليم فيهما ثابت من غير وجه وفى ثبوت التشهد نظر وعن عطاء ان شاء تشهد وسلم وان شاء لم يفعل
قال أبو محمد ويحتمل أن لا يجب التشهد لأن ظاهر الحديثين الاولين أنه سلم من غير تشهد وهى أصح من هذه الرواية ولأنه سجود مفرد فلم يجب له تشهد كسجود التلاوة قلت أما التسليم فيهما فهو ثابت فى الأحاديث الصحيحة حديث بن مسعود وحديث عمران ففى الصحيحين من حديث بن مسعود كما تقدم ( قال صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( قال ابراهيم زاد أو نقص فلما سلم قيل له يا رسول الله أحدث فى الصلاة شيء قال وما ذاك قالوا صليت كذا وكذا قال فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم ثم اقبل علينا بوجهه ( الحديث
____________________
(23/46)
وفى الصحيحين أيضا من حديث عمران بن حصين قال ( فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم ( وكذلك ذكر محمد بن سيرين لما روى حديث أبى هريرة قال وثبت أن عمران بن حصين قال ثم سلم وبن سيرين ما كان يروى الا عن ثقة والفرق بين هاتين وبين سجود التلاوة ان هاتين صلاة وأنهما سجدتان وقد أقيمتا مقام ركعة وجعلتا جابرتين لنقص الصلاة فجعل لهما تحليل كما لهما تحريم وهذه هي الصلاة كما قال ( مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم (
وأما ( سجود التلاوة ( فهو خضوع لله وكان بن عمر وغيره يسجدون على غير وضوء وعن عثمان بن عفان فى الحائض تسمع السجدة قال تومئ برأسها وكذلك قال سعيد بن المسيب قال ويقول اللهم لك سجدت وقال الشعبى من سمع السجدة وهو على غير وضوء يسجد حيث كان وجهه وقد سجد رسول الله ( ( وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس ففعله الكافر والمسلم وسجد سحرة فرعون وعلى هذا فليس بداخل فى مسمى الصلاة
ولكن سجدتا السجود يشبهان صلاة الجنازة فانها قيام مجرد لكن هي صلاة فيها تحريم وتحليل ولهذا كان الصحابة يتطهرون لها
____________________
(23/47)
ورخص بن عباس فى التيمم لها اذا خشى الفوات وهو قول أبى حنيفة وأحمد فى احدى الروايتين وهى كسجدتى السهو يشترط لها استقبال الكعبة والاصطفاف كما فى الصلاة والمؤتم فيه تبع للامام لا يكبر قبله ولا يسلم قبله كما فى الصلاة بخلاف سجود التلاوة فانه عند كثير من أهل العلم يسجد وان لم يسجد القارئ
والحديث الذى يروى ( انك امامنا فلو سجدت لسجدنا ( من مراسيل عطاء وهو من أضعف المراسيل قاله أحمد وغيره ومن قال إنه لا يسجد الا اذا سجد لم يجعله مؤتما به من كل وجه فلا يشترط أن يكون المستمعون يسجدون جميعا صفا كما يسجدون خلف الامام للسهو ولا يشترط أن يكون الامام امامه كما فى الصلاة وللمأموم أن يرفع قبل إمامه فعلم أنه ليس بمؤتم به فى صلاة وان قيل أنه مؤتم به فى غير صلاة كائتمام المؤمن على الدعاء بالداعى وائتمام المستمع بالقارئ
( فصل (
وأما التشهد فى سجدتى السهو فاعتمد من اثبته على ما روى من حديث عمران بن حصين ( أن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( صلى بهم
____________________
(23/48)
فسهى فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم ( رواه أبو داود والترمذى وقال حديث حسن غريب
قلت كونه غريبا يقتضى أنه لا متابع لمن رواه بل قد انفرد به وهذا يوهى هذا الحديث فى مثل هذا فان رسول الله ( ( قد ثبت عنه أنه سجد بعد السلام غير مرة كما فى حديث بن مسعود لما صلى خمسا وفى حديث أبى هريرة حديث ذى اليدين وعمران بن حصين لما سلم سواء كانت قضيتين أو قضية واحدة وثبت عنه أنه قال ( اذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين ( وقال فى حديث أبى هريرة الصحيح ( فاذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين ( وليس فى شيء من اقواله امر بالتشهد بعد السجود ولا فى الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول أنه يتشهد بعد السجود بل هذا التشهد بعد السجدتين عمل طويل بقدر السجدتين او أطول ومثل هذا مما يحفظ ويضبط وتتوفر الهمم والدواعى على نقله فلو كان قد تشهد لذكر ذلك من ذكر أنه سجد وكان الداعى إلى ذكر ذلك أقوى من الداعى إلى ذكر السلام وذكر التكبير عند الخفض والرفع فان هذه أقوال خفيفة والتشهد عمل طويل فكيف ينقلون هذا ولا ينقلون هذا
وهذا التشهد عند من يقول به كالتشهد الاخير فانه يتعقبه السلام
____________________
(23/49)
فتسن معه الصلاة على النبى ( ( والدعاء كما اذا صلى ركعتى الفجر أو ركعة الوتر وتشهد ثم الذى فى الصحيح من حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد فانفراد واحد بمثل هذه الزيادة التى تتوفر الهمم والدواعى على نقلها يضعف أمرها ثم هذا المنفرد بها يجب أن ينظر لو انفرد بحديث هل يثبت أنه شريعة للمسلمين
وأيضا فالتشهد انما شرع فى صلاة تامة ذات ركوع وسجود لم يشرع فى صلاة الجنازة مع أنه يقرأ فيها بأم القرآن وسجدتا السهو لا قراءة فيهما فاذا لم يشرع فى صلاة فيها قراءة وليست بركوع وسجود فكذلك فى صلاة ليس فيها قيام ولا قراءة ولا ركوع
وقد يقال انه أولى وأنفع فليس هو مشروعا عقب سجدتى الصلب بل انما يتشهد بعد ركعتين لا بعد كل سجدتين فاذا لم يتشهد عقب سجدتى الصلب وقد حصل بهما ركعة تامة فان لا يتشهد عقب سجدتى السهو أولى وذلك أن عامة سجدتى السهو أن يقوما مقام ركعة كما قال ( ( فان كان قد صلى خمسا شفعتا له صلاته وان كان صلى لتمام كانتا ترغيما للشيطان ( فجعلهما كركعة لا كركعتين وهى ركعة متصلة بغيرها ليست كركعة الوتر المستقلة بنفسها ولهذا وجبت فيها الموالاة ان يسجدهما عقب السلام
____________________
(23/50)
لا يتعمد تأخيرهما فهو كما لو سجدهما قبل السلام وقبل السلام لا يعيد التشهد بعدهما فكذلك لا يعيد بعد السلام
ولأن المقصود أن يختم صلاته بالسجود لا بالتشهد بدليل أن السجود قبل السلام لم يشرع قبل التشهد بل انما شرع بعد التشهد فعلم أنه جعل خاتما للصلاة ليس بعده الا الخروج منها ولأن اعادة التشهد والدعاء يقتضى تكرير ذلك مع قرب الفصل بينهما فلم يكن ذلك مشروعا كاعادته اذا سجد قبل السلام ولأنه لو كان بعدهما تشهد لم يكن المشروع سجدتين
والنبى ( صلى الله عليه وسلم ( انما أمر بسجدتين فقط لا بزيادة على ذلك وسماهما المرغمتين للشيطان فزيادة التشهد بعد السجود كزيادة القراءة قبل السجود وزيادة تكبيرة الاحرام ومعلوم أنه لا افتتاح لهما بل يكبر للخفض لا يكبر وهو قاعد فعلم أنهما داخلتان فى تحريم الصلاة فيكونان جزءا من الصلاة كما لو سجدهما قبل السلام فلا يختصان بتشهد ولكن يسلم منهما لأن السلام الأول سقط فلم يكن سلاما منهما فان السلام انما يكون عند الخروج
وقد نفى بعض الصحابة والتابعين السلام منهما كما أنه لا تحريم لهما لكن الصواب الفرق كما وردت به السنة الصحيحة والله أعلم
____________________
(23/51)
وسئل رحمه الله
عمن صلى بجماعة رباعية فسهى عن التشهد وقام فسبح بعضهم فلم يقعد وكمل صلاته وسجد وسلم فقال جماعة كان ينبغى اقعاده وقال آخرون لو قعد بطلت صلاته فأيهما على الصواب
فأجاب أما الامام الذى فاته التشهد الاول حتى قام فسبح به فلم يرجع وسجد للسهو قبل السلام فقد احسن فيما فعل هكذا صح عن النبى ( صلى الله عليه وسلم (
ومن قال كان ينبغى له أن يقعد أخطأ بل الذى فعله هو الأحسن ومن قال لو رجع بطلت صلاته فهذا فيه قولان للعلماء (
أحدهما ( لو رجع بطلت صلاته وهو مذهب الشافعى وأحمد فى رواية ( والثانى ( اذا رجع قبل القراءة لم تبطل صلاته وهى الرواية المشهورة عن أحمد والله اعلم
____________________
(23/52)
وسئل رحمه الله
عن إمام قام إلى خامسة فسبح به فلم يلتفت لقولهم وظن أنه لم يسه فهل يقومون معه أم لا
فأجاب ان قاموا معه جاهلين لم تبطل صلاتهم لكن مع العلم لا ينبغى لهم أن يتابعوه بل ينتظرونه حتى يسلم بهم أو يسلموا قبله والانتظار أحسن والله اعلم
____________________
(23/53)
( باب صلاة التطوع ( سئل شيخ الإسلام
أيما طلب القرآن أو العلم أفضل فأجاب أما العلم الذى يجب على الإنسان عينا كعلم ما امر الله به وما نهى الله عنه فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن فان طلب العلم الأول واجب وطلب الثانى مستحب والواجب مقدم على المستحب
وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما وهو اما باطل أو قليل النفع وهو ايضا مقدم فى التعلم فى حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع فان المشروع فى حق مثل هذا فى هذه الاوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فانه اصل علوم الدين بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم من الكلام أو الجدال
____________________
(23/54)
والخلاف أو الفروع النادرة أو التقليد الذى لا يحتاج إليه أو غرائب الحديث التى لا تثبت ولا ينتفع بها وكثير من الرياضيات التى لا تقوم عليها حجة ويترك حفظ القرآن الذى هو أهم من ذلك كله فلابد فى مثل ( هذه ( المسألة من التفصيل
والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فان لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من اهل العلم والدين والله سبحانه أعلم
وسئل
عن تكرار القرآن والفقه أيهما أفضل وأكثر أجرا
فأجاب الحمد لله خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد ( ( وكلام الله لا يقاس به كلام الخلق فان فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه
وأما الأفضل فى حق الشخص فهو بحسب حاجته ومنفعته فان كان يحفظ القرآن وهو محتاج إلى تعلم غيره فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التى لا يحتاج إلى تكرارها وكذلك ان كان حفظ من القرآن ما يكفيه وهو محتاج إلى علم آخر
____________________
(23/55)
وكذلك ان كان قد حفظ القرآن أو بعضه وهو لا يفهم معانيه فتعلمه لما يفهمه من معانى القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه
وأما من تعبد بتلاوة الفقه فتعبده بتلاوة القرآن أفضل وتدبره لمعانى القرآن أفضل من تدبره لكلام لا يحتاج لتدبره والله أعلم
وسئل
عمن يحفظ القرآن أيما أفضل له تلاوة القرآن مع أمن النسيان أو التسبيح وما عداه من الاستغفار والاذكار فى سائر الاوقات مع علمه بما ورد فى ( الباقيات الصالحات ( و ( التهليل ( و ( لا حول ولا قوة الا بالله ( و ( سيد الاستغفار ( و ( سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم (
فأجاب الحمد لله جواب هذه المسألة ونحوها مبنى على أصلين فالأصل الاول ان جنس تلاوة القرآن افضل من جنس الاذكار كما أن جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء كما فى الحديث الذى فى صحيح مسلم عن النبى ( ( أنه قال ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر
____________________
(23/56)
وفى الترمذى عن أبى سعيد عنه ( ( أنه قال ( من شغله قراءة القرآن عن ذكرى ومسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ( وكما فى الحديث الذى فى السنن فى الذى سأل النبى ( صلى الله عليه وسلم ( فقال انى لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمنى ما يجزئنى فى صلاتى قال ( قل سبحان الله ولا اله الا الله والله أكبر ( ولهذا كانت القراءة فى الصلاة واجبة فان الائمة لا تعدل عنها إلى الذكر الا عند العجز والبدل دون المبدل منه
وأيضا فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى دون الذكر والدعاء وما لم يشرع الا على الحال الأكمل فهو أفضل كما أن الصلاة لما اشترط لها الطهارتان كانت افضل من مجرد القراءة كما قال النبى ( ( ( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ( ولهذا نص العلماء على أن افضل تطوع البدن الصلاة
وأيضا فما يكتب فيه القرآن لا يمسه الا طاهر وقد حكى اجماع العلماء على أن القراءة أفضل لكن طائفة من الشيوخ رجحوا الذكر ومنهم من زعم أنه أرجح فى حق المنتهى المجتهد كما ذكر ذلك أبو حامد فى كتبه ومنهم من قال هو أرجح فى حق المبتدئ السالك وهذا أقرب إلى الصواب
____________________
(23/57)
وتحقيق ذلك يذكر فى الاصل الثانى وهو أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصيره أفضل من ذلك وهو نوعان
( أحدهما ( ما هو مشروع لجميع الناس
( والثانى ( ما يختلف باختلاف أحوال الناس أما الاول فمثل ان يقترن اما بزمان أو بمكان أو عمل يكون أفضل مثل ما بعد الفجر والعصر ونحوهما من أوقات النهى عن الصلاة فان القراءة والذكر والدعاء أفضل فى هذا الزمان وكذلك الامكنة التى نهى عن الصلاة فيها كالحمام وأعطان الابل والمقبرة فالذكر والدعاء فيها أفضل وكذلك الجنب الذكر فى حقه افضل والمحدث القراءة والذكر فى حقه افضل فاذا كره الافضل فى حال حصول مفسدة كان المفضول هناك افضل بل هو المشروع
وكذلك حال الركوع والسجود فانه قد صح عن النبى ( ( أنه قال ( نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا اما الركوع فعظموا فيه الرب واما السجود فاجتهدوا فى الدعاء فقمن ان يستجاب لكم ( وقد اتفق العلماء على كراهة القراءة فى الركوع والسجود وتنازعوا فى بطلان الصلاة بذلك على قولين هما وجهان فى مذهب الامام أحمد وذلك تشريفا للقرآن وتعظيما له ان لا يقرأ
____________________
(23/58)
فى حال الخضوع والذل كما كره أن يقرأ مع الجنازة وكما كره أكثر العلماء قراءته فى الحمام
وما بعد التشهد هو حال الدعاء المشروع بفعل النبى ( ( وامره والدعاء فيه أفضل بل هو المشروع دون القراءة والذكر وكذلك الطواف وبعرفة ومزدلفة وعند رمى الجمار المشروع هناك هو الذكر والدعاء وقد تنازع العلماء فى القراءة فى الطواف هل تكره أم لا تكره على قولين مشهورين
( والنوع الثانى ( أن يكون العبد عاجزا عن العمل الأفضل اما عاجزا عن اصله كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه كالأعرابى الذى سأل النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أو عاجزا عن فعله على وجه الكمال مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال ومن هنا قال من قال ان الذكر أفضل من القرآن فان الواحد من هؤلاء قد يخبر عن حاله وأكثر السالكين بل العارفين منهم انما يخبر أحدهم عما ذاقه ووجده لا يذكر أمرا عاما للخلق اذ المعرفة تقتضى امورا معينة جزئية والعلم يتناول أمرا عاما كليا فالواحد من هؤلاء يجد فى الذكر من اجتماع قلبه وقوة ايمانه واندفاع الوسواس عنه ومزيد السكينة والنور والهدى ما لا يجده فى قراءة القرآن بل اذا قرأ القرآن لا يفهمه أو لا يحضر قلبه وفهمه ويلعب عليه الوسواس
____________________
(23/59)
والفكر كما أن من الناس من يجتمع قلبه فى قراءة القرآن وفهمه وتدبره ما لا يجتمع فى الصلاة بل يكون فى الصلاة بخلاف ذلك وليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو افضل له
فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام وبالعكس وان كان جنس الصدقة أفضل ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد كالنساء وكمن يعجز عن الجهاد وان كان جنس الجهاد أفضل قال النبى ( ( الحج جهاد كل ضعيف ( ونظائر هذا متعددة
اذا عرف هذان الاصلان عرف بهما جواب هذه المسائل اذا عرف هذا فيقال الاذكار المشروعة فى أوقات معينة مثل ما يقال عند جواب المؤذن هو افضل من القراءة فى تلك الحال وكذلك ما سنه النبى ( صلى الله عليه وسلم ( فيما يقال عند الصباح والمساء واتيان المضجع هو مقدم على غيره واما اذا قام من الليل فالقراءة له افضل ان اطاقها والا فليعمل ما يطيق والصلاة أفضل منهما ولهذا نقلهم عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة فقال ( ان ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فأقرأوا ما تيسر من القرآن ( الآية والله أعلم
____________________
(23/60)
وسئل
أيما افضل قارئ القرآن الذى لا يعمل أو العابد
فأجاب ان كان العابد يعبد بغير علم فقد يكون شرا من العالم الفاسق وقد يكون العالم الفاسق شرا منه
وان كان يعبد الله بعلم فيؤدى الواجبات ويترك المحرمات فهو خير من الفاسق الا أن يكون للعالم الفاسق حسنات تفضل على سيئاته بحيث يفضل له منها أكثر من حسنات ذلك العابد والله اعلم
وسئل
أيما أفضل استماع القرآن أو صلاة النفل وهل تكره القراءة عند الصلاة غير الفرض أم لا
فأجاب من كان يقرأ القرآن والناس يصلون تطوعا فليس له أن يجهر جهرا يشغلهم به فان النبى ( صلى الله عليه وسلم ( خرج على أصحابه
____________________
(23/61)
وهم يصلون من السحر فقال ( يا ايها الناس كلكم يناجى ربه فلا يجهر بعضكم على بعض فى القراءة ( والقراءة فى الصلاة النافلة أفضل فى الجملة لكن قد تكون القراءة وسماعها أفضل لبعض الناس والله اعلم
وسئل
أيما أفضل اذا قام من الليل الصلاة أم القراءة فأجاب بل الصلاة أفضل من القراءة فى غير الصلاة نص على ذلك أئمة العلماء وقد قال ( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء الا مؤمن ( لكن من حصل له نشاط وتدبر وفهم للقراءة دون الصلاة فالأفضل فى حقه ما كان انفع له
وسئل
عن رجل أراد تحصيل الثواب هل الافضل له قراءة القرآن أو الذكر والتسبيح
____________________
(23/62)
فأجاب قراءة القرآن افضل من الذكر والذكر أفضل من الدعاء من حيث الجملة لكن قد يكون المفضول أفضل من الفاضل فى بعض الاحوال كما أن الصلاة افضل من ذلك كله
ومع هذا فالقراءة والذكر والدعاء فى أوقات النهى عن الصلاة كالأوقات الخمسة ووقت الخطبة هي افضل من الصلاة والتسبيح فى الركوع والسجود أفضل من القراءة والتشهد الأخير أفضل من الذكر
وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالمفضول أكثر بحسب حاله اما لاجتماع قلبه عليه وانشراح صدره له ووجود قوته له مثل من يجد ذلك فى الذكر احيانا دون القراءة فيكون العمل الذى أتى به على الوجه الكامل أفضل فى حقه من العمل الذى يأتى به على الوجه الناقص وان كان جنس هذا وقد يكون الرجل عاجزا عن الأفضل فيكون ما يقدر عليه فى حقه أفضل له والله اعلم
____________________
(23/63)
وسئل رحمه الله
ما يقول سيدنا فيمن يجهر بالقراءة والناس يصلون فى المسجد السنة أو التحية فيحصل لهم بقراءته جهرا أذى فهل يكره جهر هذا بالقراءة أم لا فأجاب ليس لأحد أن يجهر بالقراءة لا فى الصلاة ولا فى غير الصلاة اذا كان غيره يصلى فى المسجد وهو يؤذيهم بجهره بل قد خرج النبى ( صلى الله عليه وسلم ( على الناس وهم يصلون فى رمضان ويجهرون بالقراءة فقال ( ايها الناس كلكم يناجى ربه فلا يجهر بعضكم على بعض فى القراءة
وأجاب أيضا رحمه الله تعالى وليس لأحد أن يجهر بالقراءة بحيث يؤذى غيره كالمصلين
____________________
(23/64)
وسئل رحمه الله
عن القيام للمصحف وتقبيله وهل يكره ايضا أن يفتح فيه الفأل فأجاب الحمد لله القيام للمصحف وتقبيله لا نعلم فيه شيئا مأثورا عن السلف وقد سئل الامام أحمد عن تقبيل المصحف فقال ما سمعت فيه شيئا ولكن روى عن عكرمة بن أبى جهل أنه كان يفتح المصحف ويضع وجهه عليه ويقول ( كلام ربى كلام ربى ( ولكن السلف وان لم يكن من عادتهم القيام له فلم يكن من عادتهم قيام بعضهم لبعض اللهم الا لمثل القادم من مغيبه ونحو ذلك ولهذا قال أنس ( لم يكن شخص أحب اليهم من رسول الله ( ( وكانوا اذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك ( والأفضل للناس أن يتبعوا طريق السلف فى كل شيء فلا
____________________
(23/65)
يقومون الا حيث كانوا يقومون
فأما اذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض فقد يقال لو تركوا القيام للمصحف مع هذه العادة لم يكونوا محسنين فى ذلك ولا محمودين بل هم إلى الذم اقرب حيث يقوم بعضهم لبعض ولا يقومون للمصحف الذى هو أحق بالقيام حيث يجب من احترامه وتعظيمه ما لا يجب لغيره حتى ينهى أن يمس القرآن الا طاهر والناس يمس بعضهم بعضا مع الحدث لا سيما وفى ذلك من تعظيم حرمات الله وشعائره ما ليس فى غير ذلك وقد ذكر من ذكر من الفقهاء الكبار قيام الناس للمصحف ذكر مقرر له غير منكر له
وأما استفتاح الفأل فى المصحف فلم ينقل عن السلف فيه شيء وقد تنازع فيه المتأخرون وذكر القاضي أبو يعلى فيه نزاعا ذكر عن بن بطة أنه فعله وذكر عن غيره أنه كرهه فان هذا ليس الفأل الذى يحبه رسول الله ( ( فانه كان يحب الفأل ويكره الطيرة
والفأل الذى يحبه هو أن يفعل أمرا أو يعزم عليه متوكلا على الله فيسمع الكلمة الحسنة التى تسره مثل أن يسمع يا نجيح يا مفلح يا سعيد يا منصور ونحو ذلك كما لقى فى سفر الهجرة
____________________
(23/66)
رجلا فقال ( ما اسمك قال يزيد قال يا ابا بكر يزيد امرنا ( وأما الطيرة بأن يكون قد فعل أمرا متوكلا على الله أو يعزم عليه فيسمع كلمة مكروهة مثل ما يتم أو ما يفلح ونحو ذلك فيتطير ويترك الأمر فهذا منهى عنه كما فى الصحيح عن معاوية بن الحكم السلمى قال ( قلت يا رسول الله منا قوم يتطيرون قال ذلك شيء يجده أحدكم فى نفسه فلا يصدنكم ( فنهى النبى ( ( أن تصد الطيرة العبد عما أراد فهو فى كل واحد من محبته للفأل وكراهته للطيرة انما يسلك مسلك الاستخارة لله والتوكل عليه والعمل بما شرع له من الاسباب لم يجعل الفأل آمرا له وباعثا له على الفعل ولا الطيرة ناهية له عن الفعل وانما يأتمر وينتهى عن مثل ذلك أهل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام وقد حرم الله الاستقسام بالأزلام فى آيتين من كتابه وكانوا اذا أرادوا أمرا من الامور أحالوا به قداحا مثل السهام أو الحصى أو غير ذلك وقد علموا على هذا علامة الخير وعلى هذا علامة الشر وآخر غفل فاذا خرج هذا فعلوا واذا خرج هذا تركوا واذا خرج الغفل أعادوا الاستقسام
فهذه الانواع التى تدخل فى ذلك مثل الضرب بالحصى والشعير واللوح والخشب والورق المكتوب عليه حروف أبجد أو أبيات من
____________________
(23/67)
الشعر أو نحو ذلك مما يطلب به الخيرة فما يفعله الرجل ويتركه ينهى عنها لأنها من باب الاستقسام بالأزلام وانما يسن له استخارة الخالق واستشارة المخلوق والاستدلال بالأدلة الشرعية التى تبين ما يحبه الله ويرضاه وما يكرهه وينهى عنه
وهذه الأمور تارة يقصد بها الاستدلال على ما يفعله العبد هل هو خير أم شر وتارة الاستدلال على ما يكون فيه نفع فى الماضى والمستقبل وكلا غير مشروع والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(23/68)
وقال شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله ( فصل (
تنازع الناس أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام وقد ذكر عن أحمد فى ذلك ثلاث روايات
( احداهن ( أن كثرة الركوع والسجود افضل وهى التى اختارها طائفة من أصحابه
( والثانية ( أنهما سواء
( والثالثة ( أن طول القيام افضل وهذا يحكى عن الشافعى
فنقول هذه المسألة لها صورتان
( احداهما ( ان يطيل القيام مع تخفيف الركوع والسجود فيقال
____________________
(23/69)
أيما افضل هذا أم تكثير الركوع والسجود مع تخفيف القيام ويكون هذا قد عدل بين القيام وبين الركوع والسجود فخفف الجميع
( والصورة الثانية ( أن يطيل القيام فيطيل معه الركوع والسجود فيقال ايما أفضل هذا أم أن يكثر من الركوع والسجود والقيام وهذا قد عدل بين القيام والركوع والسجود فى النوعين لكن أيما افضل تطويل الصلاة قياما وركوعا وسجودا أم تكثير ذلك مع تخفيفها فهذه الصورة ذكر أبو محمد وغيره فيها ثلاث روايات وكلام غيره يقتضى أن النزاع فى الصورة الاولى أيضا
والصواب فى ذلك أن الصورة الاولى تقليل الصلاة مع كثرة الركوع والسجود وتخفيف القيام أفضل من تطويل القيام وحده مع تخفيف الركوع والسجود ومن فضل تطويل القيام احتجوا بالحديث الصحيح أن رسول الله ( ( سئل أى الصلاة افضل فقال ( طول القنوت ( وظنوا أن المراد بطول القنوت طول القيام وان كان مع تخفيف الركوع والسجود وليس كذلك فان القنوت هو دوام العبادة والطاعة ويقال لمن أطال السجود أنه قانت قال تعالى ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ( فجعله قانتا فى حال السجود كما هو قانت فى حال القيام وقدم السجود على القيام
____________________
(23/70)
وفى الآية الاخرى قال ( والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ( ولم يقل قنوتا فالقيام ذكره بلفظ القيام لا بلفظ القنوت وقال تعالى ( وقوموا لله قانتين ( فالقائم قد يكون قانتا وقد لا يكون وكذلك الساجد فالنبى ( ( بين أن طول القنوت أفضل الصلاة وهو يتناول القنوت فى حال السجود وحال القيام وهذا الحديث يدل على الصورة الثانية وان تطويل الصلاة قياما وركوعا وسجودا أولى من تكثيرها قياما وركوعا وسجودا لأن طول القنوت يحصل بتطويلها لا بتكثيرها وأما تفضيل طول القيام مع تخفيف الركوع والسجود على تكثير الركوع والسجود فغلط
فان جنس السجود أفضل من جنس القيام من وجوه متعددة
( أحدها ( أن السجود بنفسه عبادة لا يصلح أن يفعل الا على وجه العبادة لله وحده والقيام لا يكون عبادة الا بالنية فان الانسان يقوم فى أمور دنياه ولا ينهى عن ذلك
( الثانى ( أن الصلاة المفروضة لابد فيها من السجود وكذلك كل صلاة فيها ركوع لابد فيها من سجود لا يسقط السجود فيها بحال من الاحوال فهو عماد الصلاة وأما القيام فيسقط فى التطوع دائما وفى الصلاة على الراحلة فى السفر وكذلك يسقط القيام فى الفرض عن المريض وكذلك عن المأموم اذا صلى امامه جالسا كما
____________________
(23/71)
جاءت به الاحاديث الصحيحة وسواء قيل انه عام للأمة أو مخصوص بالرسول فقد سقط القيام عن المأموم فى بعض الاحوال والسجود لا يسقط لا عن قائم ولا قاعد والمريض اذا عجز عن ايمائه أتى منه بقدر الممكن وهو الايماء برأسه وهو سجود مثله ولو عجز عن الايماء برأسه ففيه قولان هما روايتان عن أحمد
( أحدهما ( أنه يومئ بطرفه فجعلوا ايماءه بطرفه هو ركوعه وسجوده فلم يسقطوه
( والثانى ( انه تسقط الصلاة فى هذه الحال ولا تصح على هذا الوجه وهو قول أبى حنيفة وهذا القول أصح فى الدليل لأن الايماء بالعين ليس من اعمال الصلاة ولا يتميز فيه الركوع عن السجود ولا القيام عن القعود بل هو من نوع العبث الذى لم يشرعه الله تعالى
واما الايماء بالرأس فهو خفضه وهذا بعض ما امر به المصلى وقد قال النبى ( ( فى الحديث المتفق على صحته ( اذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ( وهو لا يستطيع من السجود الا
____________________
(23/72)
هذا الايماء وأما تحريك العين فليس من السجود فى شيء
وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه لابد فى الصلاة من السجود وهذا يقول الايماء بطرفه هو سجود وهذا يقول ليس بسجود فلا يصلى فلو كانت الصلاة تصح مع القدرة بلا سجود لأمكن أن يكبر ويقرأ ويتشهد ويسلم فيأتى بالأقوال دون الأفعال وما علمت أحدا قال ان الصلاة تصح بمجرد الاقوال بل لابد من السجود واما القيام والقراءة فيسقطان بالعجز باتفاق الائمة فعلم أن السجود هو أعظم أركان الصلاة القولية والفعلية
( الوجه الثالث ( أن القيام انما صار عبادة بالقراءة أو بما فيه من ذكر ودعاء كالقيام فى الجنازة فاما القيام المجرد فلم يشرع قط عبادة مع امكان الذكر فيه بخلاف السجود فانه مشروع بنفسه عبادة حتى خارج الصلاة شرع سجود التلاوة والشكر وغير ذلك
وأما المأموم اذا لم يقرأ فانه يستمع قراءة امامه واستماعه عبادة وان لم يسمع فقد اختلف فى وجوب القراءة عليه والافضل له ان يقرأ والذين قالوا لا قراءة عليه أو لا تستحب له القراءة قالوا قراءة الامام له قراءة فانه تابع للامام
____________________
(23/73)
فان قيل اذا عجز الامى عن القراءة والذكر قيل هذه الصورة نادرة أو ممتنعة فان أحدا لا يعجز عن ذكر الله وعليه أن يأتى بالتكبير وما يقدر عليه من تحميد وتهليل وعلى القول بتكرار ذلك هل يكون بقدر الفاتحة فيه وجهان لقول النبى ( صلى الله عليه وسلم ( اذا قمت إلى الصلاة فان كان معك قرآن فاقرأ به والا فاحمد الله وكبره وهلله ثم اركع ( رواه أبو داود والترمذى
قال أحمد انه اذا قام إلى الثانية وقد نسى بعض أركان الاولى ان ذكر قبل الشروع فى القراءة مضى وصارت هذه بدل تلك فان المقصود بالقيام هو القراءة ولهذا قالوا ما كان عبادة بنفسه لم يحتج إلى ركن قولى كالركوع والسجود وما لم يكن عبادة بنفسه احتاج إلى ركن قولى كالقيام والقعود واذا كان السجود عبادة بنفسه علم أنه افضل من القيام (
الوجه الرابع ( أن يقال القيام يمتاز بقراءة القرآن فانه قد نهى عن القراءة فى الركوع والسجود وقراءة القرآن أفضل من التسبيح فمن هذا الوجه تميز القيام وهو حجة من سوى بينهما فقال السجود بنفسه افضل وذكر القيام أفضل فصار كل منهما أفضل من وجه أو تعادلا لكن يقال قراءة القرآن تسقط فى مواضع وتسقط عن المسبوق القراءة والقيام أيضا كما فى حديث أبى بكرة وفى السنن
____________________
(23/74)
( من ادرك الركعة فقد أدرك السجدة ( وهذا قول جماهير العلماء والنزاع فيه شاذ
وايضا فالأمى تصح صلاته بلا قراءة باتفاق العلماء كما فى السنن أن رجلا قال يا رسول الله انى لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمنى ما يجزينى منه فقال ( قل سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة الا بالله ( فقال هذا لله فما لى قال ( تقول اللهم اغفر لى وارحمنى وارزقنى واهدنى (
وأيضا فلو نسى القراءة فى الصلاة قد قيل تجزيه الصلاة وروى ذلك عن الشافعى وقيل اذا نسيها فى الأولى قرأ فى الثانية قراءة الركعتين وروى هذا عن أحمد وأما السجود فلا يسقط بحال فعلم أن السجود أفضل من القراءة كما أنه أفضل من القيام والمسبوق فى الصلاة يبنى على قراءة الامام الذى استخلفه كما قد بنى النبى ( ( على قراءة أبى بكر
( الوجه الخامس ( أنه قد ثبت فى الصحيح ( أن النار تأكل من بن آدم كل شيء الا موضع السجود ( فتأكل القدم وان كان موضع القيام
____________________
(23/75)
( الوجه السادس ( ان الله تعالى قال ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ( وقد ثبت فى الاحاديث الصحيحة ( أنه اذا تجلى لهم يوم القيامة سجد له المؤمنون ومن كان يسجد فى الدنيا رياء يصير ظهره مثل الطبق (
فقد أمروا بالسجود فى عرصات القيامة دون غيره من أجزاء الصلاة فعلم أنه افضل من غيره
( الوجه السابع ( أنه قد ثبت فى الاحاديث الصحيحة أن الرسول اذا طلب منه الناس الشفاعة يوم القيامة قال ( فأذهب فاذا رأيت ربى خررت له ساجدا وأحمد ربى بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن ( فهو اذا رآه سجد وحمد وحينئذ يقال له ( أى محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع ( فعلم أنه أفضل من غيره
( الوجه الثامن ( أن الله تعالى قال ( كلا لا تطعه واسجد واقترب ( وقد ثبت فى الحديث الصحيح عن النبى ( ( أنه قال ( اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ( وهذا نص فى أنه فى حال السجود أقرب إلى الله منه فى غيره وهذا صريح فى فضيلة السجود على غيره والحديث رواه مسلم فى صحيحه عن ابى هريرة
____________________
(23/76)
أن رسول الله ( ( قال ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاكثروا الدعاء ( الوجه التاسع ( ما رواه مسلم فى صحيحه عن معدان بن أبى طلحة قال لقيت ثوبان مولى رسول الله ( ( فقلت أخبرنى بعمل يدخلنى الله به الجنة أو قال بأحب الاعمال إلى الله فسكت ثم سألته الثانية فقال سألت عن ذلك رسول الله ( ( فقال ( عليك بكثرة السجود لله فانك لا تسجد لله سجدة الا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ( قال معدان ثم لقيت ابا الدرداء فسألته فقال لى مثلما قال لى ثوبان فان كان سأله عن احب الأعمال فهو صريح فى أن السجود احب إلى الله من غيره وان كان سأله عما يدخله الله به الجنة فقد دله على السجود دون القيام فدل على أنه اقرب إلى حصول المقصود
وهذا الحديث يحتج به من يرى أن كثرة السجود افضل من تطويله لقوله ( فانك لا تسجد لله سجدة الا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ( ولا حجة فيه لأن كل سجدة يستحق بها ذلك لكن السجدة أنواع فاذا كانت احدى السجدتين أفضل من الأخرى كان ما يرفع به من الدرجة أعظم وما يحط به عنه من الخطايا أعظم كما أن السجدة التى يكون فيها اعظم خشوعا وحضورا هي افضل
____________________
(23/77)
من غيرها فكذلك السجدة الطويلة التى قنت فيها لربه هي افضل من القصيرة
( الوجه العاشر ( ما روى مسلم أيضا عن ربيعة بن كعب قال ( كنت أبيت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( فآتيه بوضوئه وحاجته فقال لى سل فقلت اسألك مرافقتك فى الجنة فقال أو غير ذلك فقلت هو ذاك قال فاعنى على نفسك بكثرة السجود ( فهذا قد سأل عن مرتبة علية وانما طلب منه كثرة السجود وهذا ادل على أن كثرة السجود ( أفضل ( لكن يقال المكثر من السجود قد يكثر من سجود طويل وقد يكثر من سجود قصير وذاك أفضل
وايضا فالاكثار من السجود لابد فاذا صلى احدى عشرة ركعة طويلة كما كان النبى ( ( يصلى فاذا صلى المصلى فى مثل زمانهن عشرين ركعة فقد أكثر السجود لكن سجود ذاك أفضل وأتم وهذا أكثر من ذاك وليس لأحد أن يقول انما كان أكثر مع قصرها فهو أفضل مما هو كثير ايضا وهو أتم وأطول كصلاة النبى
____________________
(23/78)
الوجه الحادى عشر ( أن مواضع الساجد تسمى مساجد كما قال تعالى ( وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ( وقال تعالى ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ( وقال تعالى ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ( وقال تعالى ( قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ( ولا تسمى مقامات الا بعد فعل السجود فيها فعلم أن أعظم افعال الصلاة هو السجود الذى عبر عن مواضع السجود بأنها مواضع فعله
( الوجه الثانى عشر ( أنه تعالى قال ( انما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ( وهذا وان تناول سجود التلاوة فتناوله لسجود الصلاة أعظم فان احتياج الانسان إلى هذا السجود أعظم على كل حال فقد جعل الخرور إلى السجود مما لا يحصل الايمان الا به وخصه بالذكر وهذا مما تميز به وكذلك أخبر عن أنبيائه أنهم ( اذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ( وقال فى تلك الآية ( تتجافى جنوبهم على المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا (
والدعاء فى السجود أفضل من غيره كما ثبت فى الأحاديث الصحيحة مثل قوله فى حديث أبى هريرة ( اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء ( ومثل ما روى مسلم فى صحيحه عن
____________________
(23/79)
بن عباس قال كشف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( الستارة والناس صفوف خلف أبى بكر فقال ( ايها الناس أنه لم يبق من مبشرات النبوة الا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له الا وانى نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فاما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فى الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ( وقد ثبت عن النبى ( ( الدعاء فى السجود فى عدة أحاديث وفى غير حديث تبين أن ذلك فى صلاته بالليل فعلم أن قوله ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ( وان كان يتناول الدعاء فى جميع أحوال الصلاة فالسجود له مزية على غيره كما لآخر الصلاة مزية على غيرها ولهذا جاء فى السنن ( أفضل الدعاء جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات ( فهذه الوجوه وغيرها مما يبين أن جنس السجود أفضل من جنس القيام والقراءة ولو أمكن أن يكون أطول من القيام لكان ذلك أفضل لكن هذا يشق مشقة عظيمة فلهذا خفف السجود عن القيام مع أن السنة تطويله اذا طول القيام كما كان النبى ( ( يصلى فروى ( أنه كان يخفف القيام والقعود ويطيل الركوع والسجود ( ولما أطال القيام فى صلاة الكسوف أطال الركوع والسجود
وكذلك فى حديث حذيفة الصحيح أنه لما قرأ بالبقرة والنساء
____________________
(23/80)
وآل عمران قال ركع نحوا من قيامه وسجد نحوا من ركوعه ( وفى حديث البراء الصحيح أنه قال ( كان قيامه فركعته فاعتداله فسجدته فجلوسه بين السجدتين فجلسته ما بين السلام والانصراف قريبا من السواء ( وفى رواية ( ما خلا القيام والقعود (
وثبت فى الصحيح عن عائشة ( أنه كان يسجد السجدة بقدر ما يقرأ الانسان خمسين آية ( فهذه الاحاديث تدل على أن تطويل الصلاة قيامها وركوعها وسجودها أفضل من تكثير ذلك مع تخفيفه وهو القول الثالث فى الصورة الثانية ومن سوى بينهما قال ان الاحاديث تعارضت فى ذلك وليس كذلك فان قوله ( افضل الصلاة طول القنوت ( يتناول التطويل فى القيام والسجود وكذلك ما رواه مسلم فى صحيحه عن عمار عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قال ( ان طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فاطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ( وقال ( من أم الناس فليخفف فاذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ( وأحاديث تفضيل السجود قد بينا أنها لا تنافى ذلك ومعلوم أن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد ( (
وأيضا فانه لما صلى الكسوف كان يمكنه أن يصلى عشر ركعات أو عشرين ركعة يكثر فيها قيامها وسجودها فلم يفعل بل صلى
____________________
(23/81)
ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود وجعل فى كل ركعة قيامين وركوعين وعلى هذا فكثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام الذى ليس فيه تطويل الركوع والسجود
واما اذا أطال القيام والركوع والسجود فهذا افضل من اطالة القيام فقط وأفضل من تكثير الركوع والسجود والقيام بقدر ذلك والكلام انما هو فى الوقت الواحد كثلث الليل أو نصفه أو سدسه أو الساعة هل هذا أفضل من هذا أو هذا افضل من هذا
وفى الصحيحين عن أم هانئ لما صلى الثمانى ركعات يوم الفتح قالت ( ما رأيته صلى صلاة قط اخف منها غير أنه كان يتم الركوع والسجود ( وفى رواية لمسلم ( ثم قام فركع ثمانى ركعات لا أدري اقيامه فيها اطول أم ركوعه أم سجوده كل ذلك متقارب ( فهذا يبين أنه طول الركوع والسجود قريبا من القيام وان قولها ( لم أره صلى صلاة أخف منها ( أخبار منها عما رأته وام هانئ لم تكن مباشرة له فى جميع الاحوال ولعلها أرادت منع كثرة الركعات فانه لم يصل ثمانيا جميعا أخف منها فان صلاته بالليل كانت أطول من ذلك وهو بالنهار لم يصل ثمانيا متصلة قط بل انما كان يصلى المكتوبة والظهر كان يصلى بعدها ركعتين وقبلها أربعا أو ركعتين أو لعله خففها لضيق الوقت فانه صلاها بالنهار وهو مشتغل بامور فتح مكة
____________________
(23/82)
كما كان يخفف المكتوبة فى السفر حتى يقرأ فى الفجر بالمعوذتين وروى أنه قرأ فى الفجر بالزلزلة فى الركعتين فهذا التخفيف لعارض
وقد احتج من فضل التكثير على التطويل بحديث بن مسعود قال ( انى لأعرف السور التى كان رسول الله ( ( يقرأ بهن من المفصل كل سورتين فى ركعة ( يدل على أنه لم يكن يطيل القيام وهذا لا حجة فيه لأنه أولا جمع بين سورتين من المفصل وأيضا فانه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها
وأيضا فان حذيفة روى عنه أنه قام بالبقرة والنساء وآل عمران فى ركعة وبن مسعود ذكر أنه طول حتى هممت بأمر سوء أن أجلس وأدعه ومعلوم أن هذا لا يكون بسورتين فعلم أنه كان يفعله أحيانا ولا ريب انه كان يطيل بعض الركعات أطول من بعض كما روت عائشة وغيرها والله أعلم
____________________
(23/83)
وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه ( فصل (
قد ذكر الله قيام الليل فى عدة آيات تارة بالمدح وتارة بالأمر أمر ايجاب ثم نسخه بأمر الاستحباب اذا لم تدخل صلاة العشاء فيه بل أريد القيام بعد النوم فانه قد قال سعيد بن المسيب وغيره من صلى العشاء فى جماعة فقد أخذ بنصيبه من قيام ليلة القدر فقد جعل ذلك من القيام
وقد روى عن عبيدة السلمانى أن قيام الليل واجب لم ينسخ ولو كحلب شاة وهذا اذا أريد به ما يتناول صلاة الوتر فهو قول كثير من العلماء
والدليل عليه أن فى حديث بن مسعود لما قال ( اوتروا يا اهل القرآن قال أعرابى ما يقول رسول الله فقال انها ليست لك ولا لأصحابك ( فقد خاطب أهل القرآن من قيام الليل بما لم يخاطب به غيرهم
____________________
(23/84)
وعلى هذا قوله ( فاقرأوا ما تيسر منه ( فسر بقراءته بالليل لئلا ينساه وقال ( نظرت فى سيئات امتى فوجدت فيها الرجل يؤتيه الله آية فينام عنها حتى ينساها ( وفى الصحيح عن النبى ( ( أنه قال ( من صلى العشاء فى جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح فى جماعة فكأنما قام الليل كله ( أى الصبح مع العشاء فهذا يدل على أنهما ليسا من قيام الليل ولكن فاعلهما كمن قام الليل قال تعالى ( ان المتقين فى جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم انهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالاسحار هم يستغفرون ( وقال ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ( وهذا على أصح الأقوال معناه كانوا يهجعون قليلا ف ( قليلا ( منصوب ب ( يهجعون ( و ( ما ( مؤكدة وهذا مثل قوله ( بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ( وقوله ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( هو مفسر فى سورة المزمل بقوله ( قم الليل الا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ( فهذا المستثنى من الأمر هو القليل المذكور فى تلك السورة وهو قليل بالنسبة إلى مجموع الليل والنهار فانهم اذا هجعوا ثلثه أو نصفه أو ثلثاه فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يهجعوه من الليل والنهار وسواء ناموا بالنهار أو لم يناموا
____________________
(23/85)
وقد قيل لم يأت عليهم ليلة الا قاموا فيها فالمراد هجوع جميع الليلة وهذا ضعيف لأن هجوع الليل محرم فان صلاة العشاء فرض وقال تعالى ( انما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ( وفى حديث معاذ الذى قال فيه يا رسول الله أخبرنى بعمل يدخلنى الجنة ويباعدنى من النار قال ( لقد سألت عن عظيم وانه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل من جوف الليل ثم تلى ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون حتى بلغ يعملون ( ثم قال لا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه رأس الأمر الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله ثم قال الا اخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى قال فأخذ بلسانه فقال اكفف عليك هذا فقلت يا رسول الله وانا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس فى النار على وجوههم أو قال على مناخرهم الا حصائد السنتهم
____________________
(23/86)
وقال تعالى ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون انما يتذكر اولوا الالباب ( وقال تعالى ( من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ( وقال تعالى بعد قوله ( اقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ان قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( وقال فى سورة المزمل ( قم الليل الا قليلا إلى قوله ان ناشئة الليل هي اشد وطئا واقوم قيلا ( واذا نسخ الوجوب بقى الاستحباب قال أحمد وغيره و ( الناشئة ( لا تكون الا بعد نوم يقال نشأ اذا قام وقال تعالى ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ( وقوله تعالى ( انا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ( فان هذا يتناول صلاة العشاء والوتر وقيام الليل لقوله ( وسبحه ليلا طويلا (
وقوله تعالى ( ولقد نعلم أنك بضيق صدرك بما يقولون فسبح
____________________
(23/87)
بحمد ربك وكن من الساجدين ( مطلق لم يخصه بوقت آخر والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم تسليما
وسئل
عن رجل لم يصل وتر العشاء الآخرة فهل يجوز له تركه فأجاب الحمد لله الوتر سنة مؤكدة باتفاق المسلمين ومن اصر على تركه فانه ترد شهادته
وتنازع العلماء فى وجوبه فأوجبه أبو حنيفة وطائفة من اصحاب أحمد والجمهور لا يوجبونه كمالك والشافعى وأحمد لأن النبى ( ( كان يوتر على راحلته والواجب لا يفعل على الراحلة لكن هو باتفاق المسلمين سنة مؤكدة لا ينبغى لأحد تركه
والوتر أوكد من سنة الظهر والمغرب والعشاء والوتر أفضل من جميع تطوعات النهار كصلاة الضحى بل أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل وأوكد ذلك الوتر وركعتا الفجر والله أعلم
____________________
(23/88)
وسئل
عما اذا كان الرجل مسافرا وهو يقصر هل عليه أن يصلى الوتر أم لا افتونا مأجورين فأجاب نعم يوتر فى السفر فقد كان النبى ( ( يوتر سفرا وحضرا ( وكان يصلى على دابته قبل أى وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلى عليها المكتوبة (
وسئل
عمن نام عن صلاة الوتر
فأجاب يصلى ما بين طلوع الفجر وصلاة الصبح كما فعل ذلك عبد الله بن عمر وعائشة وغيرهما وقد روى أبو داود فى سننه عن أبى سعيد قال قال رسول الله ( ( من نام عن وتره أو نسيه فليصله اذا أصبح او ذكر
____________________
(23/89)
واختلفت الرواية عن أحمد هل يقضى شفعه معه والصحيح أنه يقضى شفعه معه وقد صح عنه ( ( أنه قال ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها فان ذلك وقتها ( وهذا يعم الفرض وقيام الليل والوتر والسنن الراتبة قالت عائشة ( كان رسول الله ( ( اذا منعه من قيام الليل نوم أو وجع صلى من النهار اثنتى عشرة ركعة ( رواه مسلم
وروى عمر بن الخطاب عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قال ( من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه بين صلاة الصبح وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ( رواه مسلم وهكذا السنن الراتبة
وقد صح عن النبى ( ( أنه لما نام هو وأصحابه عن صلاة الصبح فى السفر صلى سنة الصبح ركعتين ثم صلى الصبح بعد طلوع الشمس ( ولما فاتته سنة الظهر التى بعدها صلاها بعد العصر ( وقالت عائشة ( كان رسول الله ( ( اذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها ( رواه الترمذى وروى ابو هريرة عنه أنه قال ( من لم يصل ركعتى الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس ( رواه الترمذى وصححه بن خزيمة
____________________
(23/90)
وفيه قول آخر ان الوتر لا يقضى وهو رواية عن أحمد لما روى عنه انه قال ( اذا طلع الفجر فقد ذهبت صلاة الليل والوتر ( قالوا فان المقصود بالوتر أن يكون آخر عمل الليل كما أن وتر عمل النهار المغرب ولهذا كان النبى ( ( اذا فاته عمل الليل صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة ولو كان الوتر فيهن لكان ثلاث عشرة ركعة والصحيح أن الوتر يقضى قبل صلاة الصبح فانه اذا صليت لم يبق فى قضائه الفائدة التى شرع لها والله أعلم
وسئل شيخ الاسلام
عن امام شافعى يصلى بجماعة حنفية وشافعية وعند الوتر الحنفية وحدهم فأجاب قد ثبت فى الصحيحين عن النبى ( ( أنه قال ( صلاة الليل مثنى مثنى فاذا خشيت الصبح فصل واحدة توتر لك ما صليت ( وثبت فى الصحيح عن النبى ( ( أنه كان يوتر بواحدة مفصولة عما قبلها وأنه كان يوتر بخمس وسبع لا يسلم الا فى آخرهن
____________________
(23/91)
والذى عليه جماهير أهل العلم أن ذلك كله جائز وأن الوتر بثلاث بسلام واحد جائز ايضا كما جاءت به السنة
ولكن هذه الاحاديث لم تبلغ جميع الفقهاء فكره بعضهم الوتر بثلاث متصلة كصلاة المغرب كما نقل عن مالك وبعض الشافعية والحنبلية وكره بعضهم الوتر بغير ذلك كما نقل عن أبى حنيفة وكره بعضهم الوتر بخمس وسبع وتسع متصلة كما قاله بعض أصحاب الشافعى وأحمد ومالك
والصواب أن الامام اذا فعل شيئا مما جاءت به السنة واوتر على وجه من الوجوه المذكورة يتبعه المأموم فى ذلك والله اعلم
وسئل
عن صلاة ركعتين بعد الوتر فأجاب وأما صلاة الركعتين بعد الوتر فهذه روى فيها مسلم فى صحيحه إلى النبى ( ( أنه كان يصلى بعد الوتر ركعتين وهو جالس ( وروى ذلك من حديث أم سلمة فى بعض الطرق الصحيحة ( انه كان يفعل ذلك اذا أوتر بتسع ( فانه كان يوتر
____________________
(23/92)
باحدى عشرة ثم كان يوتر بتسع ويصلى بعد الوتر ركعتين وهو جالس وأكثر الفقهاء ما سمعوا بهذا الحديث ولهذا ينكرون هذه وأحمد وغيره سمعوا هذا وعرفوا صحته
ورخص أحمد أن تصلى هاتين الركعتين وهو جالس كما فعل ( صلى الله عليه وسلم ( فمن فعل ذلك لم ينكر عليه لكن ليست واجبة بالاتفاق ولا يذم من تركها ولا تسمى ( زحافة ( فليس لأحد الزام الناس بها ولا الانكار على من فعلها
ولكن الذى ينكر ما يفعله طائفة من سجدتين مجردتين بعد الوتر فان هذا يفعله طائفة من المنسوبين إلى العلم والعبادة من اصحاب الشافعى وأحمد ومستندهم ( أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى بعد الوتر سجدتين ( رواه أبو موسى المدينى وغيره فظنوا أن المراد سجدتان مجردتان وغلطوا فان معناه أنه كان يصلى ركعتين كما جاء مبينا فى الاحاديث الصحيحة فان السجدة يراد بها الركعة كقول بن عمر ( حفظت من رسول الله ( ( سجدتين قبل الظهر ( الحديث والمراد بذلك ركعتان كما جاء مفسرا فى الطرق الصحيحة وكذلك قوله ( من أدرك سجدة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد ادرك الفجر ( أراد به ركعة كما جاء ذلك مفسرا فى الرواية المشهورة
____________________
(23/93)
وظن بعض أن المراد بها سجدة مجردة وهو غلط فان تعليق الادراك بسجدة مجردة لم يقل به أحد من العلماء بل لهم فيما تدرك به الجمعة والجماعة ثلاثة اقوال
اصحها أنه لا يكون مدركا للجمعة ولا الجماعة الا بادراك ركعة لا يكون مدركا للجماعة بتكبيرة وقد استفاض عن الصحابة أن من أدرك من الجمعة أقل من ركعة صلى أربعا وفى الصحيح عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قال ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد ادرك الصلاة ( وعلى هذا اذا أدرك المسافر خلف المقيم ركعة فهل يتم أو يقصر فيها قولان
والمقصود هنا أن لفظ ( السجدة ( المراد به الركعة فان الصلاة يعبر عنها بابعاضها فتسمى قياما وقعودا وركوعا وسجودا وتسبيحا وقرآنا
وأنكر من هذا ما يفعله بعض الناس من أنه يسجد بعد السلام سجدة مفردة فان هذه بدعة ولم ينقل عن أحد من الأئمة استحباب ذلك والعبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فان الاسلام مبنى على أصلين أن لا نعبد الا الله وحده وأن نعبده بما شرعه على لسان رسوله ( ( لا نعبده بالأهواء والبدع
____________________
(23/94)
( فصل (
وأما الصلاة ( الزحافة ( وقولهم من لم يواظب عليها فليس من أهل السنة ومرادهم الركعتان بعد الوتر جالسا فقد أجمع المسلمون على أن هذه ليست واجبة وان تركها طول عمره وان لم يفعلها ولا مرة واحدة فى عمره لا يكون بذلك من أهل البدع ولا ممن يستحق الذم والعقاب ولا يهجر ولا يوسم بميسم مذموم أصلا بل لو ترك الرجل ما هو أثبت منها كتطويل قيام الليل كما كان النبى ( ( يطوله وكقيام احدى عشرة ركعة كما كان النبى ( ( يفعل ذلك ونحو ذلك لم يكن بذلك خارجا عن السنة ولا مبتدعا ولا مستحقا للذم مع اتفاق المسلمين على أن قيام الليل احدى عشرة ركعة طويلة كما كان النبى ( صلى الله عليه وسلم ( يفعل أفضل من أن يدع ذلك ويصلى بعد الوتر ركعتين وهو جالس
فان الذى ثبت فى صحيح مسلم عن عائشة ( أن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( كان يصلى من الليل احدى عشرة ركعة وهو جالس ( ثم صار يصلى تسعا يجلس عقيب الثامنة والتاسعة ولا يسلم الا عقيب
____________________
(23/95)
التاسعة ثم يصلى بعدها ركعتين وهو جالس ثم صار يوتر بسبع وبخمس فاذا أوتر بخمس لم يجلس الا عقيب الخامسة ثم يصلى بعدها ركعتين وهو جالس واذا أوتر بسبع فقد روى أنه لم يكن يجلس الا عقيب السابعة وروى أنه كان يجلس عقيب السادسة والسابعة ثم يصلى ركعتين بعد الوتر وهو جالس وهذا الحديث الصحيح دليل على أنه لم يكن يداوم عليها فكيف يقال ان من لم يداوم عليها فليس من أهل السنة
والعلماء متنازعون فيها هل تشرع أم لا فقال كثير من العلماء انها لا تشرع بحال لقوله ( ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ( ومن هؤلاء من تاول الركعتين اللتين روى أنه كان يصليهما بعد الوتر على ركعتى الفجر لكن الأحاديث صحيحة صريحة بأنه كان يصلى بعد الوتر ركعتين وهو جالس غير ركعتى الفجر وروى فى بعض الألفاظ أن كان يصلى سجدتين بعد الوتر فظن بعض الشيوخ أن المراد سجدتان مجردتان فكانوا يسجدون بعد الوتر سجدتين مجردتين وهذه بدعة لم يستحبها أحد من علماء المسلمين بل ولا فعلها أحد من السلف وانما غرهم لفظ السجدتين والمراد بالسجدتين الركعتان كما قال بن عمر حفظت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها وسجدتين بعد المغرب وسجدتين بعد العشاء
____________________
(23/96)
وسجدتين قبل الفجر أى ركعتين
ولعل بعض الناس يقول هاتان الركعتان اللتان كان النبى ( ( يصليهما بعد الوتر جالسا نسبتها إلى وتر الليل نسبة ركعتى المغرب إلى وتر النهار فان النبى ( ( قال ( المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل ( رواه أحمد فى المسند
فاذا كانت المغرب وتر النهار فقد كان النبى ( ( يصلى بعد المغرب ركعتين ولم يخرج المغرب بذلك عن أن يكون وترا لأن تلك الركعتين هما تكميل الفرض وجبر لما يحصل منه من سهو ونقص كما جاءت السنن عن النبى ( ( أنه قال ( إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها الا نصفها الا ثلثها الا ربعها الا خمسها حتى قال الا عشرها ( فشرعت السنن جبرا لنقص الفرائض فالركعتان بعد المغرب لما كانتا جبرا للفرض لم يخرجها عن كونها وترا كما لو سجد سجدتى السهو فكذلك وتر الليل جبره النبى ( ( بركعتين بعده ولهذا كان يجبره اذا أوتر بتسع أو سبع أو خمس لنقص عدده عن احدى عشرة فهنا نقص العدد نقص ظاهر
وان كان يصليهما اذا أوتر باحدى عشرة كان هناك جبرا لصفة
____________________
(23/97)
الصلاة وان كان يصليهما جالسا لأن وتر الليل دون وتر النهار فينقص عنه فى الصفة وهى مرتبة بين سجدتى السهو وبين الركعتين الكاملتين فيكون الجبر على ثلاث درجات جبر للسهو سجدتان لكن ذاك نقص فى قدر الصلاة ظاهر فهو واجب متصل بالصلاة وأما الركعتان المستقلتان فهما جبر لمعناها الباطل فلهذا كانت صلاته تامة كما فى السنن ( ان اول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة فان أكملها والا قيل أنظروا هل له من تطوع ( ثم يصنع بسائر أعماله كذلك والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى
عن قنوت رسول الله ( ( هل كان فى العشاء الآخرة أو الصبح وما توفى رسول الله ( ( والعمل عليه عند الصحابة
فأجاب أما القنوت فى صلاة الصبح فقد ثبت فى الصحيح عن النبى ( ( أنه كان يقنت فى النوازل قنت مرة شهرا يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من اصحابه ثم تركه وقنت مرة أخرى يدعو لأقوام من اصحابه كانوا مأسورين عند اقوام يمنعونهم من الهجرة إليه
____________________
(23/98)
وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده كانوا يقنتون نحو هذا القنوت فما كان يداوم عليه وما كان يدعه بالكلية وللعلماء فيه ثلاثة أقوال
قيل إن المداومة عليه سنة
وقيل القنوت منسوخ وأنه كله بدعة
والقول الثالث وهو الصحيح أنه يسن عند الحاجة إليه كما قنت رسول الله ( ( وخلفاؤه الراشدون وأما القنوت فى الوتر فهو جائز وليس بلازم فمن اصحابه من لم يقنت ومنهم من قنت فى النصف الأخير من رمضان ومنهم من قنت السنة كلها
والعلماء منهم من يستحب الاول كمالك ومنهم من يستحب الثانى كالشافعى وأحمد فى رواية ومنهم من يستحب الثالث كأبى حنيفة والامام أحمد فى رواية والجميع جائز فمن فعل شيئا من ذلك فلا لوم عليه والله أعلم
____________________
(23/99)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله ( فصل (
وأما القنوت فالناس فيه طرفان ووسط منهم من لا يرى القنوت الا قبل الركوع ومنهم من لا يراه الا بعده وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما وان اختاروا القنوت بعده لأنه أكثر واقيس فان سماع الدعاء مناسب لقول العبد سمع الله لمن حمده فانه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بنيت فاتحة الكتاب على ذلك اولها ثناء وآخرها دعاء
وأيضا فالناس فى شرعه فى الفجر على ثلاثة اقوال بعد اتفاقهم على أن النبى ( ( قنت فى الفجر
منهم من قال إنه منسوخ فانه قنت ثم ترك كما جاءت به الأحاديث الصحيحة
____________________
(23/100)
ومن قال المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار فلم تبلغه ألفاظ الحديث أو بلغته فلم يتأملها فان فى الصحيحين عن عاصم الأحول قال ( سألت انس بن مالك عن القنوت هل كان قبل الركوع أو بعده فقال قبل الركوع قال فان فلانا أخبرنى أنك قلت بعد الركوع قال كذب انما قنت رسول الله ( ( قبل الركوع أراه بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد وقنت ( ( شهرا يدعو عليهم وكذلك الحديث الذى رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس عن أنس أنه قال ( ما زال رسول الله ( ( يقنت حتى فارق الدنيا ( جاء لفظه مفسرا ( أنه ما زال يقنت قبل الركوع ( والمراد هنا بالقنوت طول القيام لا الدعاء كذلك جاء مفسرا ويبينه ما جاء فى الصحيحين عن محمد بن سيرين قال ( قلت لأنس قنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( فى صلاة الصبح قال نعم بعد الركوع يسيرا ( فأخبر أن قنوته كان يسيرا وكان بعد الركوع فلما كان لفظ القنوت هو ادامة الطاعة سمى كل تطويل فى قيام أو ركوع أو سجود قنوتا كما قال تعالى ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ( ولهذا لما سئل بن عمر رضى الله عنهما عن القنوت الراتب قال ( ما سمعنا ولا رأينا ( وهذا قول
ومنهم من قال بل القنوت سنة راتبة حيث قد ثبت عن النبى
____________________
(23/101)
( ( أنه قنت وروى عنه ( أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا ( وهذا قول الشافعى ثم من هؤلاء من استحبه فى جميع الصلوات لما صح عن النبى ( ( أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه فى المغرب والعشاء الآخرة والظهر لكن لم يرو أحد أنه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذى علمه النبى ( ( للحسن بن على وهو ( اللهم اهدني فيمن هديت ( إلى آخره
وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيره فقالوا قد ثبت أن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( قنت للنوازل التى نزلت به من العدو فى قتل أصحابه أو حبسهم ونحو ذلك فانه قنت مستنصرا كما استسقى حين الجدب فاستنصاره عند الحاجة كاسترزاقه عند الحاجة اذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس كما قال تعالى ( الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( وكما قال النبى ( ( وهل تنصرون وترزقون الا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم ( وكما قال فى صفة الابدال ( بهم ترزقون وبهم تنصرون ( وكما ذكر الله هذين النوعين فى سورة الملك وبين أنهما بيده سبحانه فى قوله ( أمن هذا الذى هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ان الكافرون الا فى غرور أمن هذا الذى يرزقكم ان أمسك رزقه ( ثم ترك القنوت وجاء مفسرا أنه تركه لزوال ذلك السبب
____________________
(23/102)
وكذلك كان عمر رضى الله عنه اذا أبطأ عليه خبر جيوش المسلمين قنت وكذلك على رضى الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم
قالوا وليس الترك نسخا فان الناسخ لابد أن ينافى المنسوخ واذا فعل الرسول ( ( أمرا لحاجة ثم تركه لزوالها لم يكن ذلك نسخا بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على النهى عن الفعل
قالوا ونعلم مطلقا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا فان مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله فانه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا فى قنوته فى الفجر ونحوها الا لقوم أو على قوم ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع ولا أنه قنت دائما يدعو قبله وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب فاذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم ( ان حى على خير العمل ( لم يكن من الأذان الراتب وانما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة فهذا القول أوسط الأقوال وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة
وهذا أصل آخر فى الواجبات والمستحبات كالأصل الذى تقدم فى ما يسقط بالعذر فان كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة
____________________
(23/103)
يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا مستحبا كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات
وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب للاسباب العارضة ما لا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا فالعبادات فى ثبوتها وسقوطها
تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء فى ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه وانما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا أو تجعل الراتب لا يتغير بحال ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه هذه المشكلات كثيرا
وسئل
هل قنوت الصبح دائما سنة ومن يقول إنه من أبعاض الصلاة التى تجبر بالسجود وما يجبر الا الناقص والحديث ( ما زال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( يقنت حتى فارق الدنيا ( فهل هذا الحديث من الأحاديث الصحاح وهل هو هذا القنوت وما اقوال العلماء فى ذلك وما حجة كل منهم وان قنت لنازلة فهل يتعين قوله أو يدعو بما شاء
____________________
(23/104)
فأجاب الحمد لله رب العالمين قد ثبت فى الصحيح عن النبى ( ( أنه قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية ( ثم تركه وكان ذلك لما قتلوا القراء من الصحابة
وثبت عنه أنه قنت بعد ذلك بمدة بعد صلح الحديبية وفتح خيبر يدعو للمستضعفين من اصحابه الذين كانوا بمكة ويقول فى قنوته ( اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبى ربيعة وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف ( وكان يقنت يدعو للمؤمنين ويلعن الكفار وكان قنوته فى الفجر
وثبت عنه فى الصحيح أنه قنت فى المغرب والعشاء وفى الظهر وفى السنن أنه قنت فى العصر أيضا فتنازع المسلمون فى القنوت على ثلاثة اقوال
( أحدها ( أنه منسوخ فلا يشرع بحال بناء على أن النبى ( ( قنت ثم ترك والترك نسخ للفعل كما أنه لما كان يقوم للجنازة ثم قعد جعل القعود ناسخا للقيام وهذا قول طائفة من أهل العراق كأبى حنيفة وغيره
____________________
(23/105)
( والثانى ( أن القنوت مشروع دائما وان المداومة عليه سنة وان ذلك يكون فى الفجر
ثم من هؤلاء من يقول السنة أن يكون قبل الركوع بعد القراءة سرا وان لا يقنت بسوى ( اللهم انا نستعينك ( إلى آخرها و ( اللهم اياك نعبد ( إلى آخرها كما يقوله مالك
ومنهم من يقول السنة أن يكون بعد الركوع جهرا ويستحب أن يقنت بدعاء الحسن بن على الذى رواه عن النبى ( ( فى قنوته ( اللهم اهدني فيمن هديت ( إلى آخره وان كانوا قد يجوزون القنوت قبل وبعد وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ( ويقولون الوسطى هي الفجر والقنوت فيها وكلتا المقدمتين ضعيفة
أما الأولى فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أن ( الصلاة الوسطى ( هي العصر وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم وان كان للصحابة والعلماء فى ذلك مقالات متعددة فانهم تكلموا بحسب اجتهادهم
____________________
(23/106)
وأما
الثانية فالقنوت هو المداومة على الطاعة وهذا يكون فى القيام والسجود كما قال تعالى ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ( ولو أريد به ادامة القيام كما قيل فى قوله ( يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى ( فحمل ذلك على اطالته القيام للدعاء دون غيره لا يجوز لأن الله أمر بالقيام له قانتين والأمر يقتضى الوجوب وقيام الدعاء المتنازع فيه لا يجب بالاجماع ولأن القائم فى حال قراءته هو قانت لله أيضا ولأنه قد ثبت فى الصحيح ( أن هذه الآية لما نزلت أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام ( فعلم أن السكوت هو من تمام القنوت المأمور به
ومعلوم أن ذلك واجب فى جميع أجزاء القيام ولأن قوله ( وقوموا لله قانتين ( لا يختص بالصلاة الوسطى سواء كانت الفجر أو العصر بل هو معطوف على قوله ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ( فيكون أمرا بالقنوت مع الأمر بالمحافظة والمحافظة تتناول الجميع فالقيام يتناول الجميع
واحتجوا أيضا بما رواه الامام أحمد فى مسنده والحاكم فى صحيحه عن أبى جعفر الرازى عن الربيع بن أنس عن أنس ( أن النبى ( ( ما زال يقنت حتى فارق الدنيا ( قالوا وقوله فى الحديث الآخر ( ثم تركه ( أراد ترك الدعاء على تلك
____________________
(23/107)
القبائل لم يترك نفس القنوت
وهذا بمجرده لا يثبت به سنة راتبة فى الصلاة وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذى وكثيرا ما يصحح الموضوعات فانه معروف بالتسامح فى ذلك ونفس هذا الحديث لا يخص القنوت قبل الركوع أو بعده فقال ( ما قنت رسول الله ( ( بعد الركوع الا شهرا ( فهذا حديث صحيح صريح عن أنس أنه لم يقنت بعد الركوع الا شهرا فبطل ذلك التأويل
والقنوت قبل الركوع قد يراد به طول القيام قبل الركوع سواء كان هناك دعاء زائد أو لم يكن فحينئذ فلا يكون اللفظ دالا على قنوت الدعاء وقد ذهب طائفة إلى أنه يستحب القنوت الدائم فى الصلوات الخمس محتجين بأن النبى ( ( قنت فيها ولم يفرق بين الراتب والعارض وهذا قول شاذ
والقول الثالث أن النبى ( ( قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به فيكون القنوت مسنونا عند النوازل وهذا القول هو الذى عليه فقهاء أهل الحديث وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم
فان عمر رضى الله عنه لما حارب النصارى قنت عليهم القنوت
____________________
(23/108)
المشهور اللهم عذب كفرة أهل الكتاب إلى آخره وهو الذى جعله بعض الناس سنة فى قنوت رمضان وليس هذا القنوت سنة راتبة لا فى رمضان ولا غيره بل عمر قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة ودعا فى قنوته دعاء يناسب تلك النازلة كما أن النبى ( ( لما قنت أولا على قبائل بنى سليم الذين قتلوا القراء دعا عليهم بالذى يناسب مقصوده ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من اصحابه دعا بدعاء يناسب مقصوده فسنة رسول الله ( ( وخلفائه الراشدين تدل على شيئين
( أحدهما ( أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذى يقتضيه ليس بسنة دائمة فى الصلاة
( الثانى ( أن الدعاء فيه ليس دعاء راتبا بل يدعو فى كل قنوت بالذى يناسبه كما دعا النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أولا وثانيا وكما دعا عمر وعلى رضى الله عنهم لما حارب من حاربه فى الفتنة فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده والذى يبين هذا أنه لو كان النبى ( ( يقنت دائما ويدعو بدعاء راتب لكان المسلمون ينقلون هذا عن نبيهم فان هذا من الأمور التى تتوفر الهمم والدواعى على نقلها وهم الذين نقلوا عنه فى قنوته ما لم يداوم عليه وليس بسنة راتبة كدعائه على الذين قتلوا أصحابه ودعائه للمستضعفين من
____________________
(23/109)
اصحابه ونقلوا قنوت عمر وعلي على من كانوا يحاربونهم
فكيف يكون النبى ( ( يقنت دائما فى الفجر أو غيرها ويدعو بدعاء راتب ولم ينقل هذا عن النبى ( ( لا فى خبر صحيح ولا ضعيف بل أصحاب النبى ( ( الذين هم أعلم الناس بسنته وأرغب الناس فى اتباعها كابن عمر وغيره أنكروا حتى قال بن عمر ( ما رأينا ولا سمعنا ( وفى رواية ( أرأيتكم قيامكم هذا تدعون ما رأينا ولا سمعنا ( أفيقول مسلم ان النبى ( ( كان يقنت دائما وبن عمر يقول ما رأينا ولا سمعنا وكذلك غير بن عمر من الصحابة عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة
ومن تدبر هذه الأحاديث فى هذا الباب علم علما يقينا قطعيا ان النبى ( ( لم يكن يقنت دائما فى شيء من الصلوات كما يعلم علما ( يقينيا ( أنه لم يكن يداوم على القنوت فى الظهر والعشاء والمغرب فان من جعل القنوت فى هذه الصلوات سنة راتبة يحتج بما هو من جنس حجة الجاعلين له فى الفجر سنة راتبة ولا ريب أنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قنت فى هذه الصلوات لكن الصحابة بينوا الدعاء الذى كان يدعو به والسبب الذى قنت له وأنه ترك ذلك عند حصول المقصود نقلوا ذلك فى
____________________
(23/110)
قنوت الفجر وفى قنوت العشاء أيضا
والذى يوضح ذلك أن الذين جعلوا من سنة الصلاة أن يقنت دائما بقنوت الحسن بن على أو بسورتى أبى ليس معهم الا دعاء عارض والقنوت فيها اذا كان مشروعا كان مشروعا للامام والمأموم والمنفرد بل وأوضح من هذا أنه لو جعل جاعل قنوت الحسن أو سورتى أبى سنة راتبة فى المغرب والعشاء لكان حاله شبيها بحال من جعل ذلك سنة راتبة فى الفجر اذ هؤلاء ليس معهم فى الفجر الا قنوت عارض بدعاء يناسب ذلك العارض ولم ينقل مسلم دعاء فى قنوت غير هذا كما لم ينقل ذلك فى المغرب والعشاء وإنما وقعت الشبهة لبعض العلماء فى الفجر لأن القنوت فيها كان أكثر وهى أطول والقنوت يتبع الصلاة وبلغهم أنه داوم عليه فظنوا أن السنة المداومة عليه ثم لم يجدوا معهم سنة بدعائه فسنوا هذه الادعية المأثورة فى الوتر مع أنهم لا يرون ذلك سنة راتبة فى الوتر
وهذا النزاع الذى وقع فى القنوت له نظائر كثيرة فى الشريعة فكثيرا ما يفعل النبى ( ( لسبب فيجعله بعض الناس سنة ولا يميز بين السنة الدائمة والعارضة وبعض الناس يرى أنه لم يكن يفعله فى أغلب الأوقات فيراه بدعة ويجعل فعله فى بعض الأوقات مخصوصا أو منسوخا ان كان قد بلغه ذلك مثل صلاة التطوع فى جماعة فانه قد ثبت عنه فى الصحيح ( أنه صلى بالليل وخلفه بن
____________________
(23/111)
عباس مرة ( و ( حذيفة بن اليمان مرة ( وكذلك غيرهما وكذلك صلى بعتبان بن مالك فى بيته التطوع جماعة وصلى بأنس بن مالك وأمه واليتيم فى داره فمن الناس من يجعل هذا فيما يحدث من ( صلاة الالفية ( ليلة نصف شعبان والرغائب ونحوهما مما يداومون فيه على الجماعات
ومن الناس من يكره التطوع لأنه رأى أن الجماعة انما سنت فى الخمس كما أن الأذان انما سن فى الخمس ومعلوم أن الصواب هو ما جاءت به السنة فلا يكره أن يتطوع فى جماعة كما فعل النبى ( ( ولا يجعل ذلك سنة راتبة كمن يقيم للمسجد اماما راتبا يصلى بالناس بين العشائين أو فى جوف الليل كما يصلى بهم الصلوات الخمس كما ليس له أن يجعل للعيدين وغيرهما اذانا كأذان الخمس ولهذا أنكر الصحابة على من فعل هذا من ولاة الأمور اذ ذاك
ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء فى مقدار القيام فى رمضان فانه قد ثبت أن أبى بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة فى قيام رمضان ويوتر بثلاث فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة لأنه أقامه بين المهاجرين والانصار ولم ينكره منكر واستحب آخرون تسعة وثلاثين ركعة بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم
____________________
(23/112)
وقال طائفة قد ثبت فى الصحيح عن عائشة ( أن النبى ( ( لم يكن يزيد فى رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة ( واضطرب قوم فى هذا الأصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين
والصواب أن ذلك جميعه حسن كما قد نص على ذلك الامام أحمد رضى الله عنه وأنه لا يتوقت فى قيام رمضان عدد فان النبى ( ( لم يوقت فيها عددا وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره فان النبى ( ( كان يطيل القيام بالليل حتى إنه قد ثبت عنه فى الصحيح من حديث حذيفة ( أنه كان يقرأ فى الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران فكان طول القيام يغنى عن تكثير الركعات ( وأبى بن كعب لما قام بهم وهم جماعة واحدة لم يمكن أن يطيل بهم القيام فكثر الركعات ليكون ذلك عوضا عن طول القيام وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته فانه كان يقوم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعا وثلاثين
____________________
(23/113)
ومما يناسب هذا أن الله تعالى لما فرض الصلوات الخمس بمكة فرضها ركعتين ركعتين ثم أقرت فى السفر وزيد فى صلاة الحضر كما ثبت ذلك فى الصحيح عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت ( لما هاجر إلى المدينة زيد فى صلاة الحضر وجعلت صلاة المغرب ثلاثا لأنها وتر النهار وأما صلاة الفجر فأقرت ركعتين لأجل تطويل القراءة فيها فاغنى ذلك عن تكثير الركعات (
وقد تنازع العلماء أيما أفضل اطالة القيام أم تكثير الركوع والسجود أم هما سواء على ثلاثة أقوال وهى ثلاث روايات عن أحمد
وقد ثبت عنه فى الصحيح ( أى الصلاة أفضل قال طول القنوت ( وثبت عنه أنه قال ( إنك لن تسجد لله سجدة الا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ( وقال لربيعة بن كعب ( أعنى على نفسك بكثرة السجود (
ومعلوم أن السجود فى نفسه أفضل من القيام ولكن ذكر القيام أفضل وهو القراءة وتحقيق الأمر أن الأفضل فى الصلاة أن تكون معتدلة فاذا أطال القيام يطيل الركوع والسجود كما كان النبى ( صلى الله عليه وسلم ( يصلى بالليل كما رواه حذيفة وغيره وهكذا
____________________
(23/114)
كانت صلاته الفريضة وصلاة الكسوف وغيرهما كانت صلاته معتدلة فان فضل مفضل اطالة القيام والركوع والسجود مع تقليل الركعات وتخفيف القيام والركوع والسجود مع تكثير الركعات فهذان متقاربان وقد يكون هذا أفضل فى حال كما أنه لما صلى الضحى يوم الفتح صلى ثمانى ركعات يخففهن ولم يقتصر على ركعتين طويلتين وكما فعل الصحابة فى قيام رمضان لما شق على المأمومين اطالة القيام
وقد تبين بما ذكرناه أن القنوت يكون عند النوازل وان الدعاء فى القنوت ليس شيئا معينا ولا يدعو بما خطر له بل يدعو من الدعاء المشروع بما يناسب سبب القنوت كما أنه اذا دعا فى الاستسقاء دعا بما يناسب المقصود فكذلك اذا دعا فى الاستنصار دعا بما يناسب المقصود كما لو دعا خارج الصلاة لذلك السبب فانه كان يدعو بما يناسب المقصود فهذا هو الذى جاءت به سنة رسول الله ( ( وسنة خلفائه الراشدين
ومن قال إنه من أبعاض الصلاة التى يجبر بسجود السهو فانه بنى ذلك على أنه سنة يسن المداومة عليه بمنزلة التشهد الأول ونحوه وقد تبين أن الأمر ليس كذلك فليس بسنة راتبة ولا يسجد له لكن من اعتقد ذلك متأولا فى ذلك له تأويله كسائر موارد الاجتهاد
ولهذا ينبغى للمأموم أن يتبع امامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد
____________________
(23/115)
فاذا قنت قنت معه وان ترك القنوت لم يقنت فان النبى ( ( قال ( انما جعل الامام ليؤتم به ( وقال ( لا تختلفوا على أئمتكم ( وثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( يصلون لكم فان أصابوا فلكم ولهم وان أخطأوا فلكم وعليهم ( الا ترى أن الامام لو قرأ فى الأخيرتين بسورة مع الفاتحة وطولهما على الأوليين لوجبت متابعته فى ذلك فأما مسابقة الامام فانها لا تجوز
فاذا قنت لم يكن للمأموم أن يسابقه فلابد من متابعته ولهذا كان عبد الله بن مسعود قد أنكر على عثمان التربيع بمنى ثم أنه صلى خلفه أربعا فقيل له فى ذلك فقال الخلاف شر وكذلك أنس بن مالك لما سأله رجل عن وقت الرمى فأخبره ثم قال افعل كما يفعل إمامك والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن قوله ( ( لا يحل لرجل يؤم قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم فان فعل فقد خانهم ( فهل يستحب للامام أنه كلما دعا الله عز وجل أن يشرك المأمومين وهل صح عن النبى ( ( أنه كان يخص نفسه بدعائه فى صلاته دونهم
____________________
(23/116)
فكيف الجمع بين هذين فأجاب الحمد لله رب العالمين قد ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة أنه قال للنبى ( ( أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول قال ( أقول اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقنى من خطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلنى من خطاياى بالماء والثلج والبرد ( فهذا حديث صحيح صريح فى أنه دعا لنفسه خاصة وكان اماما وكذلك حديث على فى الاستفتاح الذى أوله ( وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض فيه فاغفر لى فانه لا يغفر الذنوب الا أنت واهدنى لاحسن الاخلاق لا يهدى لا حسنها الا أنت واصرف عنى سيئها فانه لا يصرف عنى سيئها الا أنت (
وكذلك ثبت فى الصحيح أنه كان يقول بعد رفع رأسه من الركوع بعد قوله ( لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ( اللهم طهرنى من خطاياى بالماء والثلج والبرد اللهم نقنى من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ( وجميع هذه الأحاديث المأثورة فى دعائه بعد التشهد من فعله ومن أمره لم ينقل فيها الا لفظ الافراد كقوله ( اللهم انى أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ( وكذا دعاؤه بين
____________________
(23/117)
السجدتين وهو فى السنن من حديث حذيفة ومن حديث بن عباس وكلاهما كان النبى ( ( فيه اماما أحدهما بحذيفة والآخر بابن عباس وحديث حذيفة ( رب اغفر لى رب اغفر لى ( وحديث بن عباس فيه ( اغفر لى وارحمنى واهدنى وعافنى وارزقنى ( ونحو هذا فهذه الأحاديث التى فى الصحاح والسنن تدل على أن الامام يدعو فى هذه الامكنة بصيغة الافراد وكذلك اتفق العلماء على مثل ذلك حيث يرون أنه يشرع مثل هذه الأدعية
واذا عرف ذلك تبين أن الحديث المذكور ان صح فالمراد به الدعاء الذى يؤمن عليه المأموم كدعاء القنوت فان المأموم اذا أمن كان داعيا قال الله تعالى لموسى وهارون ( قد أجيبت دعوتكما ( وكان أحدهما يدعو والآخر يؤمن واذا كان المأموم مؤمنا على دعاء الامام فيدعو بصيغة الجمع كما فى دعاء الفاتحة فى قوله ( اهدنا الصراط المستقيم ( فان المأموم انما أمن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما جميعا فان لم يفعل فقد خان الامام المأموم
فأما المواضع التى يدعو فيها كل انسان لنفسه كالاستفتاح وما بعد التشهد ونحو ذلك فكما أن المأموم يدعو لنفسه فالامام يدعو لنفسه كما يسبح المأموم فى الركوع والسجود اذا سبح الامام فى
____________________
(23/118)
الركوع والسجود وكما يتشهد اذا تشهد ويكبر اذا كبر فان لم يفعل المأموم ذلك فهو المفرط
وهذا الحديث لو كان صحيحا صريحا معارضا للأحاديث المستفيضة المتواترة ولعمل الأمة والأئمة لم يلتفت إليه فكيف وليس من الصحيح ولكن قد قيل أنه حسن ولو كان فيه دلالة لكان عاما وتلك خاصة والخاص يقضى على العام ثم لفظه ( فيخص نفسه بدعوة دونهم ( يراد بمثل هذا اذا لم يحصل لهم دعاء وهذا لا يكون مع تأمينهم وأما مع كونهم مؤمنين على الدعاء كلما دعا فيحصل لهم كما حصل له بفعلهم ولهذا جاء دعاء القنوت بصيغة الجمع ( اللهم انا نستعينك ونستهديك ( إلى آخره ففى مثل هذا يأتى بصيغة الجمع ويتبع السنة على وجهها والله أعلم وسئل رحمه الله
عمن يصلى التراويح بعد المغرب هل هو سنة أم بدعة
وذكروا ان الامام الشافعى صلاها بعد المغرب وتممها بعد العشاء الآخرة فأجاب الحمد لله رب العالمين السنة فى التراويح أن تصلى بعد العشاء الآخرة كما اتفق على ذلك السلف والأئمة والنقل المذكور عن
____________________
(23/119)
الشافعى رضى الله عنه باطل فما كان الأئمة يصلونها الا بعد العشاء على عهد النبى ( ( وعهد خلفائه الراشدين وعلى ذلك أئمة المسلمين لا يعرف عن أحد أنه تعمد صلاتها قبل العشاء فان هذه تسمى قيام رمضان كما قال النبى ( ( ان الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه ( وقيام الليل فى رمضان وغيره انما يكون بعد العشاء وقد جاء مصرحا به فى السنن ( أنه لما صلى بهم قيام رمضان صلى بعد العشاء (
وكان النبى ( ( قيامه بالليل هو وتره يصلى بالليل فى رمضان وغير رمضان احدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة لكن كان يصليها ( طوالا ( فلما كان ذلك يشق على الناس قام بهم أبى بن كعب فى زمن عمر بن الخطاب عشرين ركعة يوتر بعدها ويخفف فيها القيام فكان تضعيف العدد عوضا عن طول القيام وكان بعض السلف يقوم أربعين ركعة فيكون قيامها أخف ويوتر بعدها بثلاث وكان بعضهم يقوم بست وثلاثين ركعة يوتر بعدها وقيامهم المعروف عنهم بعد العشاء الآخرة
ولكن الرافضة تكره صلاة التراويح فاذا صلوها قبل العشاء الآخرة لا تكون هي صلاة التراويح كما أنهم اذا توضئوا يغسلون
____________________
(23/120)
أرجلهم أول الوضوء ويمسحونها فى آخره فمن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة والله أعلم
وسئل
عما يصنعه أئمة هذا الزمان من قراءة سورة الأنعام فى رمضان فى ركعة واحدة ليلة الجمعة هل هي بدعة أم لا
فأجاب نعم بدعة فانه لم ينقل عن النبى ( ( ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ولا غيرهم من الأئمة أنهم تحروا ذلك وانما عمدة من يفعله ما نقل عن مجاهد وغيره من أن سورة الأنعام نزلت جملة مشيعة بسبعين ألف ملك فاقرأوها جملة لأنها نزلت جملة وهذا استدلال ضعيف وفى قراءتها جملة من الوجوه المكروهة أمور منها أن فاعل ذلك يطول الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلا فاحشا والسنة تطويل الأولى على الثانية كما صح عن النبى ( ( ومنها تطويل آخر قيام الليل على أوله وهو خلاف السنة فانه كان يطول أوائل ما كان يصليه من الركعات على أواخرها والله أعلم
____________________
(23/121)
وسئل
عن قوم يصلون بعد التراويح ركعتين فى الجماعة ثم فى آخر الليل يصلون تمام مائة ركعة ويسمون ذلك صلاة القدر وقد امتنع بعض الأئمة من فعلها فهل الصواب مع من يفعلها أو مع من يتركها وهل هي مستحبة عند أحد من الأئمة أو مكروهة وهل ينبغى فعلها والأمر بها أو تركها والنهى عنها
فأجاب الحمد لله بل المصيب هذا الممتنع من فعلها والذى تركها فان هذه الصلاة لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين بل هي بدعة مكروهة باتفاق الأئمة ولا فعل هذه الصلاة لا رسول الله ( ( ولا أحد من الصحابة ولا التابعين ولا يستحبها أحد من أئمة المسلمين والذى ينبغى أن تترك وينهى عنها
وأما قراءة القرآن فى التراويح فمستحب باتفاق أئمة المسلمين بل من اجل مقصود التراويح قراءة القرآن فيها ليسمع المسلمون كلام الله فان شهر رمضان فيه نزل القرآن وفيه كان جبريل يدارس النبى ( صلى
____________________
(23/122)
الله عليه وسلم ( القرآن وكان النبى ( ( أجود الناس وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن
وسئل
عن سنة العصر هل ورد عن النبى ( ( فيها حديث والخلاف الذى فيها ما الصحيح منه
فأجاب الحمد لله أما الذى صح عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( فحديث بن عمر ( حفظت عن رسول الله ( ( عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر ( وفى الصحيح أيضا عن النبى ( ( أنه قال ( من صلى فى يوم وليلة اثنتى عشرة ركعة تطوعا بنى الله له بيتا فى الجنة ( وجاء فى السنن تفسيره ( اربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر ( وثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة ثم قال فى الثالثة لمن شاء ( كراهية ان يتخذها الناس سنة ففى هذا الحديث أنه يصلى
____________________
(23/123)
قبل العصر وقبل المغرب وقبل العشاء وقد صح أن أصحاب النبى ( ( كانوا يصلون بين أذان المغرب واقامتها ركعتين والنبى ( ( يراهم فلا ينهاهم ولم يكن يفعل ذلك فمثل هذه الصلوات حسنة ليست سنة فان النبى ( صلى الله عليه وسلم ( كره أن تتخذ سنة
ولم يكن النبى ( ( يصلى قبل العصر وقبل المغرب وقبل العشاء فلا تتخذ سنة ولا يكره أن يصلى فيها بخلاف ما فعله ورغب فيه فان ذلك أوكد من هذا وقد روى ( أنه كان يصلى قبل العصر أربعا ( وهو ضعيف وروى ( أنه كان يصلى ركعتين ( والمراد به الركعتان قبل الظهر والله أعلم
وسئل
هل للعصر سنة راتبة أم لا أفتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله الذى ثبت فى الصحيح عن النبى ( ( أنه كان يصلى مع المكتوبات عشر ركعات أو اثنى عشرة ركعة ركعتين قبل الظهر أو اربعا وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين وقبل الفجر ركعتين وكذلك ثبت فى الصحيح أن
____________________
(23/124)
النبى ( ( قال ( من صلى فى يوم وليلة ثنتى عشرة ركعة تطوعا غير فريضة بنى الله له بيتا فى الجنة ورويت فى السنن أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر ( وليس فى الصحيح سوى هذه الأحاديث الثلاثة حديث بن عمر وعائشة وأم حبيبة وأما قبل العصر فلم يقل أحد أن النبى ( ( كان يصلى قبل العصر الا وفيه ضعف بل خطأ كحديث يروى عن على أنه كان يصلى نحو ستة عشر ركعة منها قبل العصر وهو مطعون فيه فان الذين اعتنوا بنقل تطوعاته كعائشة وبن عمر بينوا ما كان يصليه وكذلك الصلاة قبل المغرب وقبل العشاء لم يكن يصليها لكن كان اصحابه يصلون قبل المغرب بين الأذان والاقامة وهو يراهم فلا ينكر ذلك عليهم وثبت عنه فى الصحيح أنه قال بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة ثم قال فى الثالثة لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة فهذا يبين أن الصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء حسنة وليست بسنة فمن أحب أن يصلى قبل العصر كما يصلى قبل المغرب والعشاء على هذا الوجه فحسن واما ان يعتقد أن ذلك سنة راتبة كان يصليها النبى ( ( كما يصلى قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب فهذا خطأ والصلاة مع المكتوبة ثلاث درجات ( إحداها ( سنة الفجر والوتر فهاتان أمر بهما النبى ( ( ولم يأمر بغيرهما وهما سنة باتفاق الأئمة وكان النبى ( صلى الله
____________________
(23/125)
عليه وسلم ( يصليهما فى السفر والحضر ولم يجعل مالك سنة راتبة غيرهما ( والثانية ( ما كان يصليه مع المكتوبة فى الحضر وهو عشر ركعات وثلاث عشرة ركعة وقد اثبت أبو حنيفة والشافعى وأحمد مع المكتوبات سنة مقدرة بخلاف مالك ( والثالثة ( التطوع الجائز فى هذا الوقت من غير أن يجعل سنة لكون النبى ( صلى الله عليه وسلم ( لم يداوم عليه ولا قدر فيه عددا والصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء من هذا الباب وقريبا من ذلك صلاة الضحى والله أعلم وسئل
هل سنة العصر مستحبة
فأجاب لم يكن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( يصلى قبل العصر شيئا وانما كان يصلى قبل الظهر اما ركعتين واما اربعا وبعدها وكان يصلى بعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين وقبل الفجر ركعتين
وأما قبل العصر وقبل المغرب وقبل العشاء فلم يكن يصلى لكن ثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( بين كل أذانين صلاة ثم قال فى الثالثة لمن شاء ( كراهية أن يتخذها الناس سنة فمن شاء أن يصلى تطوعا قبل العصر فهو حسن لكن لا يتخذ ذلك سنة والله أعلم
____________________
(23/126)
وسئل رحمه الله
هل تقضى السنن الرواتب
فأجاب أما اذا فاتت السنة الراتبة مثل سنة الظهر فهل تقضى بعد العصر على قولين هما روايتان عن أحمد
( أحدهما ( لا تقضى وهو مذهب أبى حنيفة ومالك
( والثانى ( تقضى وهو قول الشافعى وهو أقوى والله أعلم
وسئل رحمه الله
عمن لا يواظب على السنن الرواتب
فأجاب من أصر على تركها دل ذلك على قلة دينه وردت شهادته فى مذهب أحمد والشافعى وغيرهما
____________________
(23/127)
وسئل رحمه الله
عن صلاة المسافر هل لها سنة فان الله جعل الرباعية ركعتين رحمة منه على عباده فما حجة من يدعى السنة وقد أنكر عمر على من سبح بعد الفريضة فهل فى بعض المذاهب تأكد السنة فى السفر كأبى حنيفة وهل نقل هذا عن أبى حنيفة أم لا
فأجاب أما الذى ثبت عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه كان يصلى فى السفر من التطوع فهو ركعتا الفجر حتى إنه لما نام عنها هو وأصحابه منصرفه من خيبر قضاهما مع الفريضة هو وأصحابه وكذلك قيام الليل والوتر فانه قد ثبت عنه فى الصحيح ( أنه كان يصلى على راحلته قبل أى وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلى عليها المكتوبة (
وأما الصلاة قبل الظهر وبعدها فلم ينقل عنه أنه فعل ذلك فى السفر ولم يصل معها شيئا وكذلك كان يصلى بمنى ركعتين ركعتين ولم ينقل عنه أحد أنه صلى معها شيئا
____________________
(23/128)
وبن عمر كان أعلم الناس بالسنة واتبعهم لها وأما العلماء فقد تنازعوا فى استحباب ذلك والله أعلم
وسئل
عن الصلاة بعد أذان المغرب وقبل الصلاة فأجاب كان بلال كما أمره النبى ( ( يفصل بين أذانه واقامته حتى يتسع لركعتين فكان من الصحابة من يصلى بين الأذانين ركعتين والنبى ( ( يراهم ويقرهم وقال ( بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة ثم قال فى الثالثة لمن شاء ( مخافة أن تتخذ سنة
فاذا كان المؤذن يفرق بين الأذانين مقدار ذلك فهذه الصلاة حسنة واما ان كان يصل الأذان بالاقامة فالاشتغال باجابة المؤذن هو السنة فان النبى ( ( قال ( اذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول (
ولا ينبغى لأحد أن يدع اجابة المؤذن ويصلى هاتين الركعتين فان السنة لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول ثم يصلى على
____________________
(23/129)
النبى ( ( ويقول ( اللهم رب هذه الدعوة التامة ( إلى آخره ثم يدعو بعد ذلك وسئل
عن امرأة لها ورد بالليل تصليه فتعجز عن القيام فى بعض الأوقات فقيل لها ان صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم فهل هو صحيح
فأجاب نعم صحيح عن النبى ( ( أنه قال ( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم ( لكن اذا كان عادته أنه يصلى قائما وانما قعد لعجزه فان الله يعطيه أجر القائم لقوله ( صلى الله عليه وسلم ( اذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم ( فلو عجز عن الصلاة كلها لمرض كان الله يكتب له أجرها كله لأجل نيته وفعله بما قدر عليه فكيف اذا عجز عن أفعالها
____________________
(23/130)
وسئل
عن معنى قول النبى ( ( لا تجعلوا بيوتكم قبورا ( فأجاب وأما لفظ الحديث ( اجعلوا من صلاتكم فى بيوتكم ( واذا لم تذكروا الله فيها كنتم كالميت وكانت كالقبور فان فى الصحيح عن النبى ( ( أنه قال ( مثل الذى يذكر ربه والذى لا يذكر ربه كمثل الحى والميت وفى لفظ مثل البيت الذى يذكر الله فيه والذى لا يذكر الله فيه مثل الحى والميت وسئل
عن صلاة نصف شعبان
فأجاب اذا صلى الانسان ليلة النصف وحده أو فى جماعة خاصة كما كان يفعل طوائف من السلف فهو أحسن وأما الاجتماع فى المساجد على صلاة مقدرة كالاجتماع على مائة ركعة بقراءة ألف ( قل هو الله أحد ( دائما فهذا بدعة لم يستحبها أحد من الأئمة والله أعلم
____________________
(23/131)
وقال شيخ الإسلام
وأما صلاة الرغائب فلا أصل لها بل هي محدثة فلا تستحب لا جماعة ولا فرادى فقد ثبت فى صحيح مسلم أن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام أو يوم الجمعة بصيام والأثر الذى ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلا وأما ليلة النصف فقد روى فى فضلها أحاديث وآثار ونقل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يصلون فيها فصلاة الرجل فيها وحده قد تقدمه فيه سلف وله فيه حجة فلا ينكر مثل هذا وأما الصلاة فيها جماعة فهذا مبنى على قاعدة عامة فى الاجتماع على الطاعات والعبادات فانه نوعان أحدهما سنة راتبة اما واجب واما مستحب كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين
وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح فهذا سنة راتبة ينبغى المحافظة عليها والمداومة والثانى ما ليس بسنة راتبة مثل الاجتماع لصلاة تطوع مثل قيام الليل أو على قراءة قرآن أو ذكر الله أو دعاء فهذا لا بأس به اذا لم يتخذ عادة راتبة فان النبى
____________________
(23/132)
صلى التطوع فى جماعة أحيانا ولم يداوم عليه الا ما ذكر وكان أصحابه اذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم أن يقرأ والباقى يستمعون وكان عمر بن الخطاب يقول لأبى موسى ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون وقد روى أن النبى ( ( خرج على أهل الصفة ومنهم واحد يقرأ فجلس معهم وقد روى فى الملائكة السيارين الذين يتبعون مجالس الذكر الحديث المعروف فلو أن قوما اجتمعوا بعض الليالى على صلاة تطوع من غير أن يتخذوا ذلك عادة راتبة تشبه السنة الراتبة لم يكره لكن اتخاذه عادة دائرة بدوران الاوقات مكروه لما فيه من تغيير الشريعة وتشبيه غير المشروع بالمشروع ولو ساغ ذلك لساغ أن يعمل صلاة أخرى وقت الضحى أو بين الظهر والعصر أو تراويح فى شعبان أو أذان فى العيدين أو حج إلى الصخرة ببيت المقدس وهذا تغيير لدين الله وتبديل له وهكذا القول فى ليلة المولد وغيرها والبدع المكروهة ما لم تكن مستحبة فى الشريعة وهى أن يشرع ما لم يأذن به الله فمن جعل شيئا دينا وقربة بلا شرع من الله فهو مبتدع ضال وهو الذى عناه النبى ( ( بقوله ( كل بدعة ضلالة ( فالبدعة ضد الشرعة والشرعة ما أمر الله به ورسوله أمر ايجاب أو أمر استحباب وان لم يفعل على عهده كالاجتماع فى التراويح على امام واحد وجمع القرآن فى المصحف وقتل أهل الردة والخوارج ونحو ذلك وما لم يشرعه الله ورسوله فهو بدعة وضلالة مثل تخصيص
____________________
(23/133)
مكان أو زمان بإجتماع على عبادة فيه كما خص الشارع أوقات الصلوات وأيام الجمع والأعياد وكما خص مكة بشرفها والمساجد الثلاثة وسائر المساجد بما شرعه فيها من الصلوات وأنواع العبادات كل بحسبه وبهذا التفسير يظهر الجمع بين أدلة الشرع من النصوص والإجماعات فإن المراد بالبدعة ضد الشرعة وهو مالم يشرع فى الدين فمتى ثبت بنص أو إجماع فى فعل أنه مما يحبه الله ورسوله خرج بذلك عن أن يكون بدعة وقد قررت ذلك مبسوطا في قاعدة كبيرة من القواعد الكبار
وقال رحمه الله
( صلاة الرغائب ( بدعة بإتفاق ائمة الدين لم يسنها رسول الله ( ( ولا أحد من خلفائه ولا أستحبها أحد من أئمة الدين كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والثورى والأوزاعى والليث وغيرهم والحديث المروي فيها كذب بإجماع أهل المعرفة بالحديث وكذلك الصلاة التى تذكر أول ليلة جمعة من رجب وفي ليلة المعراج والفية نصف شعبان والصلاة يوم الأحد والأثنين وغير هذا من أيام الأسبوع وان كان قد ذكرها طائفة من المصنفين فى الرقائق فلا نزاع بين أهل المعرفة بالحديث أن أحاديثه كلها موضوعة ولم يستحبها أحد من أئمة الدين وفى صحيح مسلم
____________________
(23/134)
عن أبي هريرة عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قال ( لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام ولا يوم الجمعة بصيام ( والأحاديث التى تذكر فى صيام يوم الجمعة وليلة العيدين كذب على النبى ( ( والله أعلم
وسئل
عن صلاة الرغائب هل هي مستحبة أم لا
فأجاب هذه الصلاة لم يصلها رسول الله ( ( ولا أحد من أصحابه ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ولا رغب فيها رسول الله ( ( ولا أحد من السلف ولا الأئمة ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها والحديث المروى في ذلك عن النبى ( ( كذب موضوع بإتفاق أهل المعرفة بذلك ولهذا قال المحققون أنها مكروهة غير مستحبة والله أعلم
____________________
(23/135)
وقال شيخ الإسلام ( فصل (
فى ( سجود القرآن ( وهو نوعان خبر عن أهل السجود ومدح لهم أو أمر به وذم على تركه فالأول سجدة الأعراف ( ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ( وهذا ذكره بعد الأمر بإستماع القرآن والذكر
وفى الرعد ( ولله يسجد من فى السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ( وفى النحل ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما فى الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون
____________________
(23/136)
يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ( وفى سبحان ( إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا أن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ( وهذا خبر عن سجود مع من سمع القرآن فسجد
وكذلك فى مريم ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا وإجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ( فهؤلاء الأنبياء سجدوا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن وأولئك الذين أوتوا العلم من قبل القرآن إذا يتلى عليهم القرآن يسجدون
وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة وكقوله ( أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ( وإن كان المراد به الركوع فالسجود هو خضوع له وذل له ولهذا يعبر به عن الخضوع كما قال الشاعر ** ترى الأكم فيها سجدا للحوافر **
قال جماعة من أهل اللغة السجود التواضع والخضوع وأنشدوا
____________________
(23/137)
** ساجد المنخر ما يرفعه خاشع الطرف أصم المسمع **
قيل لسهل بن عبد الله أيسجد القلب قال نعم سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا وفى ( سورة الحج ( الأولى خبر ( ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم ان الله يفعل ما يشاء ( والثانية أمر مقرون بالركوع ولهذا صار فيها نزاع
وسجدة الفرقان ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ( خبر مقرون بذم من أمر بالسجود فلم يسجد ليس هو مدحا وكذلك سجدة ( النمل ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون أن لا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا اله الا هو رب العرش العظيم ( خبر يتضمن ذم من يسجد لغير الله ولم يسجد لله ومن قرأ ألا يا اسجدوا كانت أمرا
وفى ( الم تنزيل السجدة ( إنما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكروا
____________________
(23/138)
بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ( وهذا من ابلغ الأمر والتخصيص فانه نفى الايمان عمن ذكر بآيات ربه ولم يسجد اذا ذكر بها
وفى ( ص ( خبر عن سجدة داود وسماها ركوعا و ( حم تنزيل ( أمر صريح ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن ان كنتم اياه تعبدون فان استكبروا فالذين عند ربهم يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ( و ( النجم ( أمر صريح ( فاسجدوا لله واعبدوا ( و ( الانشقاق ( أمر صريح عند سماع القرآن ( فما لهم لا يؤمنون واذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ( و ( اقرأ باسم ربك الذى خلق ( امر مطلق ( واسجد واقترب ( فالستة الأول إلى الأولى من الحج خبر ومدح والتسع البواقى من الثانية من الحج أمر وذم لمن لم يسجد
الا ( ص ( فنقول قد تنازع الناس فى وجوب سجود التلاوة قيل يجب وقيل لا يجب وقيل يجب اذا قرئت السجدة فى الصلاة وهو رواية عن أحمد والذى يتبين لى أنه واجب فان الآيات التى فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال إنه محمول على الصلاة كالثانية من الحج والفرقان واقرأ وهذا ضعيف فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله
____________________
(23/139)
( إنما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ( فهذا نفى للايمان بالآيات عمن لا يخر ساجدا اذا ذكر بها واذا كان سامعا لها فقد ذكر بها
وكذلك ( سورة الانشقاق ( فما لهم لا يؤمنون واذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ( وهذا ذم لمن لا يسجد اذا قرئ عليه القرآن كقوله ( فما لهم عن التذكرة معرضين ( وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ( ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ( وكذلك ( سورة النجم ( قوله ( أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا ( أمر بالغا عقب ذكر الحديث الذى هو القرآن يقتضى أن سماعه سبب الأمر بالسجود لكن السجود المأمور به عند سماع القرآن كما أنه ليس مختصا بسجود الصلاة فليس هو مختصا بسجود التلاوة فمن ظن هذا أو هذا فقد غلط بل هو متناول لهما جميعا كما بينه الرسول ( (
فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة سواء تليت مع سائر القرآن أو وحدها ليس هو سجودا عند تلاوة مطلق القرآن فهو سجود عند جنس القرآن وعند خصوص الأمر بالسجود فالأمر يتناوله وهو أيضا متناول لسجود القرآن أيضا وهو أبلغ فانه سبحانه وتعالى
____________________
(23/140)
قال ( إنما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ( فهذا الكلام يقتضى أنه لا يؤمن بآياته الا من اذا ذكر بها خر ساجدا وسبح بحمد ربه وهو لا يستكبر
ومعلوم أن قوله ( بآياتنا ( ليس ( يعنى ( بها آيات السجود فقط بل جميع القرآن فلابد أن يكون اذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجدا وهذا حال المصلى فانه يذكر بآيات الله بقراءة الامام والامام يذكر بقراءة نفسه فلا يكونون مؤمنين حتى يخروا سجدا وهو سجودهم فى الصلاة وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود والسجود مثنى كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران خرور من قيام وهو السجدة الأولى وخرور من قعود وهو السجدة الثانية وهذا مما يستدل به على وجوب قعدة الفصل والطمأنينة فيها كما مضت به السنة فان الخرور ساجدا لا يكون الا من قعود أو قيام واذا فصل بين السجدتين كحد السيف أو كان إلى القعود أقرب لم يكن هذا خرورا
ولكن الذى جوزه ظن أن السجود يحصل بوضع الرأس على الأرض كيف ما كان وليس كذلك بل هو مأمور به كما قال ( إذا ذكروا بها خروا سجدا ( ولم يقل سجدوا فالخرور مأمور
____________________
(23/141)
به كما ذكره فى هذه الآية ونفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة كما أن وضع الجبهة على الأرض عبادة مقصودة يدل على ذلك قوله تعالى ( ان الذين أوتوا العلم من قبله اذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا ان كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ( فمدح هؤلاء واثنى عليهم بخرورهم للأذقان أى على الأذقان سجدا والثانى بخرورهم للأذقان أى عليها يبكون
فتبين أن نفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة يحبها الله وليس المراد بالخرور إلصاق الذقن بالأرض كما تلصق الجبهة والخرور على الذقن هو مبدأ الركوع والسجود منتهاه فان الساجد يسجد على جبهته لا على ذقنه لكنه يخر على ذقنه والذقن آخر حد الوجه وهو أسفل شيء منه وأقر به إلى الأرض فالذى يخر على ذقنه يخر وجهه ورأسه خضوعا لله ومن حينئذ قد شرع فى السجود فكما أن وضع الجبهة هو آخر السجود فالخرور على الذقن أول السجود وتمام الخرور أن يكون من قيام أو قعود وقد روى عن بن عباس ( يخرون للأذقان ( أى للوجوه قال الزجاج الذى يخر وهو قائم انما يخر لوجهه والذقن مجتمع اللحيين وهو غضروف أعضاء الوجه فاذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن
____________________
(23/142)
وقال بن الأنبارى أول ما يلقى الأرض من الذى يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه فلذلك قال ( للأذقان ( ويجوز أن يكون المعنى يخرون للوجوه فاكتفى بالذقن من الوجه كما يكتفى بالبعض من الكل وبالنوع من الجنس
قلت والذى يخر على الذقن لا يسجد على الذقن فليس الذقن من أعضاء السجود بل أعضاء السجود سبعة كما قال النبى ( ( أمرت أن اسجد على سبعة أعضاء الجبهة وأشار بيده إلى الأنف واليدين والركبتين والقدمين ( ولو سجد على ذقنه ارتفعت جبهته والجمع بينهما متعذر أو متعسر لأن الأنف بينهما وهو ناتئ يمنع الصاقهما معا بالأرض فى حال واحدة فالساجد يخر على ذقنه ويسجد على جبهته فهذا خرور السجود ثم قال ( ويخرون للأذقان يبكون ( فهذا خرور البكاء قد يكون معه سجود وقد لا يكون
فالأول كقوله ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ( فهذا خرور وسجود وبكاء
والثانى كقوله ( ويخرون للأذقان يبكون ( فقد يبكى الباكى من خشية الله مع خضوعه بخروره وان لم يصل إلى حد السجود
____________________
(23/143)
وهذا عبادة أيضا لما فيه من الخرور لله والبكاء له وكلاهما عبادة لله فان بكاء الباكى لله كالذى يبكى من خشية الله من افضل العبادات وقد روى ( عينان لا تمسهما النار عين باتت تحرس فى سبيل الله وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله ( وفى الصحيحين عن النبى ( ( أنه قال ( سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل الا ظله امام عادل وشاب نشأ فى عبادة الله ورجلان تحابا فى الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل قلبه معلق بالمسجد اذا خرج منه حتى يعود إليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال انى أخاف الله رب العالمين
فذكر ( ( هؤلاء السبعة اذ كل منهم كمل العبادة التى قام بها وقد صنف مصنف فى نعتهم سماه ( اللمعة فى أوصاف السبعة ( فالامام العادل كمل ما يجب من الامارة والشاب الناشئ فى عبادة الله كمل ما يجب من عبادة الله والذى قلبه معلق بالمساجد كمل عمارة المساجد بالصلوات الخمس لقوله ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ( والعفيف كمل الخوف من الله والمتصدق كمل الصدقة لله والباكى كمل الاخلاص
____________________
(23/144)
وأما قوله عن داود عليه السلام ( وخر راكعا وأناب ( لا ريب أنه سجد كما ثبت بالسنة واجماع المسلمين أنه سجد لله والله سبحانه مدحه بكونه خر راكعا وهذا أول السجود وهو خروره فذكر سبحانه أول فعله وهو خروره راكعا ليبين أن هذا عبادة مقصودة وان كان هذا الخرور كان ليسجد كما اثنى على النبيين بأنهم كانوا ( اذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ( والذين أوتوا العلم من قبله ( انهم ( اذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ( ويخرون للأذقان يبكون ( وذلك لأن الخرور هو أول الخضوع المنافى للكبر فان المتكبر يكره أن يخر ويحب أن لا يزال منتصبا مرتفعا اذا كان الخرور فيه ذل وتواضع وخشوع ولهذا يأنف منه أهل الكبر من العرب وغير العرب فكان أحدهم اذا سقط منه الشيء لا يتناوله لئلا يخر وينحنى
فان الخرور انخفاض الوجه والرأس وهو أعلى ما فى الانسان وأفضله وهو قد خلق رفيعا منتصبا فاذا خفضه لا سيما بالسجود كان ذلك غاية ذله ولهذا لم يصلح السجود الا لله فمن سجد لغيره فهو مشرك ومن لم يسجد له فهو مستكبر عن عبادته وكلاهما كافر من أهل النار قال تعالى ( وقال ربكم ادعونى أستجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين (
وقال
____________________
(23/145)
تعالى ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن ان كنتم اياه تعبدون ( وقال فى قصة بلقيس ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون الا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا اله الا هو رب العرش العظيم ( والشمس أعظم ما يرى فى عالم الشهادة وأعمه نفعا وتاثيرا فالنهى عن السجود لها نهى عما هو دونها بطريق الأولى من الكواكب والاشجار وغير ذلك
وقوله ( واسجدوا لله الذى خلقهن ( دلالة على أن السجود للخالق لا للمخلوق وان عظم قدره بل لمن خلقه وهذا لمن يقصد عبادته وحده كما قال ( إن كنتم إياه تعبدون ( لا يصلح له أن يسجد لهذه المخلوقات قال تعالى ( فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ( فانه قد علم سبحانه أن فى بنى آدم من يستكبر عن السجود له فقال الذين هم أعظم من هؤلاء لا يستكبرون عن عبادة ربهم بل يسبحون له بالليل والنهار ولا يحصل لهم سآمة ولا ملالة بخلاف الآدميين فوصفهم هنا بالتسبيح له ووصفهم بالتسبيح والسجود جميعا فى قوله ( ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون
____________________
(23/146)
وهم يصفون له صفوفا كما قالوا ( وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ( وفى الصحيح عن النبى ( ( أنه قال ( الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها قال يسدون الأول فالأول ويتراصون فى الصف (
( فصل (
فآياته سبحانه توجب شيئين
( أحدهما ( فهمها وتدبرها ليعلم ما تضمنته
( والثانى ( عبادته والخضوع له اذا سمعت فتلاوته اياها وسماعها يوجب هذا وهذا فلو سمعها السامع ولم يفهمها كان مذموما ولو فهمها ولم يعمل بما فيها كان مذموما بل لابد لكل أحد عند سماعها من فهمها والعمل بها كما أنه لابد لكل أحد من استماعها فالمعرض عن استماعها كافر والذى لا يفهم ما أمر به فيها كافر والذى يعلم ما أمر به فلا يقر بوجوبه ويفعله كافر وهو سبحانه يذم الكفار بهذا وهذا وهذا كقوله ( فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ( وقوله ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ( وقوله ( كتاب
____________________
(23/147)
فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ( ونظائره كثيرة
وقال فيمن لم يفهمها ويتدبرها ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون ( فذمهم على أنهم لا يفهمون ولو فهموا لم يعملوا بعلمهم وقال تعالى ( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ( وقال ( والذين اذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (
قال بن قتيبة لم يتغافلوا عنها فكأنهم صم لم يسمعوها عمن لم يروها وقال غيره من أهل اللغة لم يبقوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يروا وان لم يكونوا خروا حقيقة تقول العرب شتمت فلانا فقام يبكى وقعد يندب وأقبل يعتذر وظل يفتخر وان لم يكن قام ولا قعد
قلت فى ذكره سبحانه لفظ الخرور دون غيره حكمة فانهم لو خروا وكانوا صما وعميانا لم يكن ذلك ممدوحا بل معيبا فكيف اذا كانوا صما وعميانا بلا خرور فلابد من شيئين من الخرور والسجود ولابد من السمع والبصر لما فى آياته من النور والهدى
____________________
(23/148)
والبيان وكذلك لما شرعت الصلاة شرع فيها القراءة فى القيام ثم الركوع والسجود
فأول ما أنزل الله من القرآن ( اقرأ باسم ربك الذى خلق ( فافتتحها بالأمر بالقراءة وختمها بالأمر بالسجود فقال ( واسجد واقترب ( فقوله تعالى ( انما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم ( يدل على أن التذكير بها كقراءتها فى الصلاة موجب للسجود والتسبيح وأنه من لم يكن اذا ذكر بها يخر ساجدا ويسبح بحمد ربه فليس بمؤمن وهذا متناول الآيات التى ليس فيها سجود وهى جمهور آيات القرآن ففى القرآن أكثر من ستة آلاف آية وأما آيات السجدة فبضع عشرة آية
وقوله ( ذكروا بها ( يتناول جميع الآيات فالتذكير بها جميعها موجب للتسبيح والسجود وهذا مما يستدل به على وجوب التسبيح والسجود وعلى هذا تدل عامة أدلة الشريعة من الكتاب والسنة تدل على وجوب جنس التسبيح فمن لم يسبح فى السجود فقد عصى الله ورسوله واذا أتى بنوع من أنواع التسبيح المشروع أجزأه
وللفقهاء فى هذه المسألة ثلاثة اقوال قيل لا يجب ذكر بحال
____________________
(23/149)
وقيل يجب ويتعين قوله ( سبحان ربى الأعلى ( لا يجزئ غيره وقيل يجب جنس التسبيح وان كان هذا النوع أفضل من غيره لأنه أمر به ان يجعل فى السجود وقد ثبت عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( فى الصحيح أنواع أخر وقوله ( اجعلوها فى سجودكم ( فيه كلام ليس هذا موضعه اذ قد يقال المسبح لربه بأى اسم سبحه فقد سبح اسم ربه الأعلى كما أنه بأى اسم دعاه فقد دعا ربه الذى له الأسماء الحسنى كما قال ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى ( وقال ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها (
فاذا كان يدعى بجميع أسمائه الحسنى وبأى اسم دعاه فقد دعا الذى له الأسماء الحسنى وهو يسبح بجميع أسمائه الحسنى وبأى اسم سبح فقد سبح الذى له الأسماء الحسنى ولكن قد يكون بعض الأسماء أفضل من بعض وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن الأمر بالسجود تابع لقراءة القرآن كله كما فى هذه الآية وفى قوله تعالى ( فما لهم لا يؤمنون واذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ( فهذا يتناول جميع القرآن وأنه من قرئ عليه القرآن فهو مأمور بالسجود والمصلى قد قرئ عليه القرآن وذلك سبب للأمر بالسجود فلهذا يسمع القرآن ويسجد الامام والمنفرد يسمع قراءة نفسه وهو يقرأ على نفسه القرآن وقد
____________________
(23/150)
يقال لا يصلون لكن قوله ( خروا سجدا ( صريح فى السجود المعروف لاقترانه بلفظ الخرور وأما هذه الآية ففيها نزاع قال ابو الفرج ( واذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ( فيه قولان
( أحدهما ( لا يصلون قاله عطاء وبن السائب
( والثانى ( لا يخضعون له ولا يستكينون له قاله بن جرير واختاره القاضي أبو يعلى قال واحتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة وليس فيها دلالة على ذلك وانما المعنى لا يخشعون الا ترى أنه اضاف السجود إلى جميع القرآن والسجود يختص بمواضع منه
قلت القول الأول هو الذى يذكره كثير من المفسرين لا يذكرون غيره كالثعلبى والبغوى وحكوه عن مقاتل والكلبى وهو المنقول عن مفسرى السلف وعليه عامة العلماء
وأما القول الثانى فما علمت أحدا نقله عن أحد من السلف والذين قالوه انما قالوه لما رأوا أنه لا يجب على كل من سمع شيئا من القرآن أن يسجد فأرادوا أن يفسروا الآية بمعنى يجب فى كل حال فقالوا يخضعون ويستكينون فان هذا يؤمر
____________________
(23/151)
به كل من قرئ عليه القرآن
ولفظ السجود يراد به مطلق الخضوع والاستكانة كما قد بسط هذا فى مواضع لكن يقال لهم الخضوع مأمور به وخضوع الانسان وخشوعه لا يتم الا بالسجود المعروف وهو فرض فى الجملة على كل أحد وهو المراد من السجود المضاف إلى بنى آدم حيث ذكر فى القرآن اذهو خضوع الآدمى للرب والرب لا يرضى من الناس بدون هذا الخضوع اذهو غاية خضوع العبد ولكل مخلوق خضوع بحسبه هو سجوده
وأما ان يكون سجود الانسان لا يراد به الا خضوع ليس فيه سجود الوجه فهذا لا يعرف بل يقال هم مأمورون اذا قرئ عليهم القرآن بالسجود وان لم يكن السجود التام عقب استماع القرآن فانه لابد أن يكون بين صلاتين فاذا قاموا إلى الصلاة فقد أتوا بالسجود الواجب عليهم وهم لما قرئ عليهم حصل لهم نوع من الخضوع والخشوع باعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال فاذا اعتقدوا وجوب الصلاة وعزموا على الامتثال فهذا مبدأ السجود المأمور به ثم اذا صلوا فهذا تمامه كما قال فى المشركين ( فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ( فهم اذا تابوا والتزموا الصلاة كف عن قتالهم فهذا مبدأ اقامتها ثم اذا فعلوها فقد أتموا اقامتها وأما اذا التزموها
____________________
(23/152)
بالكلام ولم يفعلوا فانهم يقاتلون
ومما يدل على ذلك ما ثبت فى الصحيحين عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه سجد بها فى الصلاة ففى الصحيحين عن أبى رافع قال صليت مع أبى هريرة العتمة فقرأ ( اذا السماء انشقت ( فسجد فقلت ما هذه قال سجدت بها خلف أبى القاسم ولا أزال اسجد بها حتى ألقاه وهذا الحديث قد اتفق العلماء على صحته
وأما سجوده فيها فرواه مسلم دون البخارى والسجود فيها قول جمهور العلماء كأبى حنيفة والشافعى وأحمد بن حنبل وغيرهم وهو قول بن وهب وغيره من اصحاب مالك فكيف يقال ان لفظ السجود فيها لم يرد به الا مطلق الخضوع والاستكانة وأما السجود المعروف فلم يدل عليه اللفظ ولو كان هذا صحيحا لم يكن السجود الخاص مشروعا اذا تليت لا سيما فى الصلاة وبهذا يظهر جواب من أجاب من احتج بها على وجوب سجود التلاوة بأن المراد الخضوع
فان قيل فاذا فسر السجود بالصلاة كما قاله الاكثرون لم يجب سجود التلاوة قيل الصلاة مرادة من جنس قراءة القرآن كما تقدم وهذه الآية توجب على من قرئ عليه القرآن أن يسجد
____________________
(23/153)
فان قرئ عليه خارج الصلاة فعليه أن يسجد قريبا اذا حضر وقت الصلاة فانه ما من ساعة يقرأ عليه فيها القرآن الا هو وقت صلاة مفروضة فعليه أن يصليها اذ بينه وبين وقت الصلاة المفروضة أقل من نصف يوم فاذا لم يصل فهو ممن اذا قرئ عليه القرآن لا يسجد فان قرئ عليه القرآن فى الصلاة فعليه أن يسجد سجدة يخر فيها من قيام وسجدة يخر فيها من قعود وكل منهما بعد ركوع كما بينه الرسول ( (
وأما السجود عند تلاوة هذه الآية فهو السجود الخاص وهو سجود التلاوة وهذا سجود مبادر إليه عند سماع هذه الآية فانها أمرته أن يسجد اذا قرئ عليه القرآن فمن تمام المبادرة أن يسجد عند سماعها سجود التلاوة ثم يسجد عند تلاوة غيرها كما تقدم فان هذه الآية تأمر بالسجود اذا قرئ عليه هي أو غيرها فهي الآمرة بالسجود عند قراءة القرآن دون سائر الآيات التى لا يسجد عندها فكان لها حض من الأمر بالسجود مع عموم كونها من القرآن فتخص بالسجود لها ويسجد فى الصلاة اذا قرئت كما يسجد اذا قرئ غيرها
وبهذا فسرها النبى ( ( فانه سجد بها فى الصلاة وفعله اذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرا لمجمل كان حكمه حكمه فدل
____________________
(23/154)
ذلك على وجوب السجود الذى سجده عند قراءة هذه السورة لا سيما وهو فى الصلاة والصلاة مفروضة واتمامها مفروض فلا تقطع الا بعمل هو أفضل من اتمامها فعلم أن سجود التلاوة فيها أفضل من اتمامها بلا سجود ولو زاد فى الصلاة فعلا من جنسها عمدا بطلت صلاته وهنا سجود التلاوة مشروع فيها وعن أحمد فى وجوب هذا السجود فى الصلاة روايتان والأظهر الوجوب كما قدمناه لوجوه متعددة
منها أن نفس الأئمة يؤمرون أن يصلوا كما صلى النبى ( ( وهو هكذا صلى والله أعلم
وقوله ( لا يسجدون ( ولم يقل لا يصلون يدل على أن السجود مقصود لنفسه وأنه يتناول السجود فى الصلاة وخارج الصلاة فيتناول أيضا الخضوع والخشوع كما مثل فالقرآن موجب لمسمى السجود الشامل لجميع أنواعه فما من سجود الا والقرآن موجب له ومن لم يسجد اذا قرئ عليه مطلقا فهو كافر ولكن لا يجب كل سجود فى كل وقت بل هو بحسب ما بينه رسول الله ( ( ولكن الآية دلت على تكرار السجود عند تكرار قراءة القرآن عليه
____________________
(23/155)
وهذا واجب اذا قرئ عليه القرآن فى الصلاة وخارج الصلاة كما تقدم والله أعلم
وأما الأمر المطلق بالسجود فلا ريب أنه يتناول الصلوات الخمس فانها فرض بالاتفاق ويتناول سجود القرآن لأن النبى ( ( سن السجود فى هذه المواضع فلابد أن يكون ما تلى سببا له والا كان أجنبيا والمذكور انما هو الأمر فدل على أن هذا السجود من السجود المأمور به والا فكيف يخرج السجود المقرون بالأمر عن الأمر وهذا كسجود الملائكة لآدم لما أمروا
وهكذا جاء فى الحديث الصحيح ( اذا قرأ بن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكى يقول يا ويله أمر بن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلى النار ( رواه مسلم والنبى ( ( ذكر هذا ترغيبا فى هذا السجود فدل على أن هذا السجود مأمور به كما كان السجود لآدم لأن كلاهما أمر وقد سن السجود عقبه فمن سجد كان متشبها بالملائكة ومن أبى تشبه بابليس بل هذا سجود لله فهو أعظم من السجود لآدم
وهذا الحديث كاف فى الدلالة على الوجوب وكذلك الآيات التى فيها الأمر المقيد والأمر المطلق أيضا
____________________
(23/156)
وايضا
فان النبى ( ( لما قرأ ( والنجم ( سجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس كما ثبت ذلك فى الصحيح عن بن عباس وفى الصحيح عن بن مسعود ( أنهم سجدوا الا رجلا من المشركين أخذ كفا من حصا وقال يكفينى هذا قال فلقد رأيته بعد قتل كافرا ( وهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بهذا السجود وان تاركه كان مذموما وليس هو سجود الصلاة بل كان خضوعا لله وفيهم كفار وفيهم من لم يكن متوضيا لكن سجود الخضوع اذا تلى كلامه
كما أثنى على من اذا سمعه سجد فقال ( اذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ( وقال ( ان الذين أوتوا العلم من قبله اذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا ان كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ( وهذا وان قيل انه متناول سجود الصلاة فانهم اذا سمعوا القرآن ركعوا وسجدوا فلا ريب أنه متناول سجود القرآن بطريق الأولى لأن هناك السجود بعض الصلاة وهنا ذكر سجودا مجردا على الأذقان فما بقى يمكن حمله على الركوع لأن الركوع لا يكون على الأذقان
وقوله ( للأذقان ( أى على الأذقان كما قال ( وتله للجبين ( أى على الجبين وقوله ( للأذقان ( يدل على تمام السجود
____________________
(23/157)
وانهم سجدوا على الأنف مع الجبهة حتى التصقت الأذقان بالأرض ليسوا كمن سجد على الجبهة فقط والساجد على الأنف قد لا يلصق الذقن بالأرض الا اذا زاد انخفاضه
واما احتجاج من لم يوجبه بكون النبى ( ( لم يسجد لما قرأ عليه زيد ( النجم ( وبقول عمر ( لما قرأ على المنبر سورة النحل حتى جاء السجدة فنزل فسجد وسجد الناس حتى اذا كانت الجمعة القابلة قرأها حتى جاء السجدة قال يا ايها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا اثم عليه وفى لفظ فلما كان فى الجمعة الثانية تشرفوا فقال انا نمر بالسجدة ولم تكتب علينا ولكن قد تشوفتم ثم نزل فسجد
فيقال تلك قضية معينة ولعله لما لم يسجد زيد لم يسجد هو كما قال بن مسعود أنت امامنا فان سجدت سجدنا وقال عثمان انما السجدة على من جلس اليها واستمع وهذا يدل على أنها تجب على المستمع ولا تجب على السامع وكذلك حديث بن مسعود يدل على أنها لا تجب اذا لم يسجد القارئ
وقد يقال كان للنبى ( ( عذر عند من يقول ان السجود فيها مشروع فمن الناس من يقول يمكن أنه لم يكن على
____________________
(23/158)
طهارة لكن قد يرجح جواز السجود على غير طهارة
وقد قيل ان السجود فى ( النجم ( وحدها منسوخ بخلاف ( اقرأ ( و ( الانشقاق ( فقد ثبت فى الصحيح عن النبى ( ( أنه سجد فيهما وسجد معه ابو هريرة وهو أسلم بعد خيبر وهذا يبطل قول من يقول لم يسجد فى المفصل بعد الهجرة وأما سورة النجم
بل حديث زيد صريح فى أنه لم يسجد فيها قال هؤلاء فيكون النسخ فيها خاصة لا فى غيرها لما كان الشيطان قد ألقاه حين ظن من ظن أنه وافقهم ترك السجود فيها بالكلية سدا لهذه الذريعة وهى فى الصلاة تأتى فى آخر القيام وسجدة الصلاة تغنى عنها فهذا القول اقرب من غيره والله أعلم
وأما حديث عمر فلو كان صريحا لكان قوله واقرار من حضر وليسوا كل المسلمين وقول عثمان وغيره يدل على الوجوب ثم يقال قد يكون مراد عمر أنه لم يكتب علينا السجود فى هذه الحال وهو اذا قرأها الامام على المنبر يبين ذلك أن السجود فى هذه الحال
____________________
(23/159)
ليس كالسجود المطلق لأنه يقطع فيه الامام الخطبة ويعمل عملا كثيرا والسنة فى الخطبة الموالاة فلما تعارض هذا وهذا صار السجود غير واجب لأن القارئ يشتغل بعبادة أفضل منه وهو خطبة الناس وان سجد جاز
ولهذا يقول مالك وغيره أن هذا السجود لا يستحب قال وليس العمل عندنا على أن يسجد الامام اذا قرأ على المنبر كما أنه لم يستحب السجود فى الصلاة لا السر ولا الجهر وأحمد فى احدى الروايتين وأبو حنيفة وغيرهما يقولون لا يستحب فى صلاة السر مع أن أبا حنيفة يوجب السجود وأحمد فى احدى الروايتين يوجبه فى الصلاة ثم لم يستحبوه فى هذه الحال بل اتصال الصلاة عندهم أفضل فكذلك قد يكون مراد عمر أنه لم يكتب فى مثل هذه الحال كما يقول من يقول لا يستحب أيضا فى هذه الحال
وهذا كما أن الدعاء بعرفة لما كانت سنته الاتصال لم يقطع بصلاة العصر بل صليت قبله فكذلك الخاطب يوم الجمعة مقصوده خطابهم وأمرهم ونهيهم ثم الصلاة عقب ذلك فلا يجب أن يشتغلوا عن هذا المقصود مع أن عقبه يحصل السجود
وهذا يدل على أن سجود التلاوة يسقط لما هو أفضل منه الا
____________________
(23/160)
ترى أن الانسان لو قرأ لنفسه يوم الجمعة قد يقال إنه لم يستحب له أن يسجد دون الناس كما لا يشرع للمأموم أن يسجد لسهوه لأن متابعة الامام أولى من السجود وهو مع البعد وان قلنا يستحب له أن يقرأ فهو كما يستحب للمأموم أن يقرأ خلف امامه ولو قرأ بالسجدة لم يسجد بها دون الامام وما أعلم فى هذا نزاعا فهنا محافظته على متابعة الامام فى الفعل الظاهر أفضل من سجود التلاوة ومن سجود السهو بل هو منهى عن ذلك ويوم الجمعة انما سجد الناس لما سجد عمر ولو لم يسجد لم يسجدوا حينئذ فاذا كان حديث عمر قد يراد به أنه لم يكتب علينا فى هذه الحال لم يبق فيه حجة ولو كان مرفوعا
وأيضا فسجود القرآن هو من شعائر الاسلام الظاهرة اذا قرئ القرآن فى الجامع سجد الناس كلهم لله رب العالمين وفى ترك ذلك اخلال بذلك ولهذا رجحنا أن صلاة العيد واجبة على الأعيان كقول أبى حنيفة وغيره وهو أحد أقوال الشافعى وأحد القولين فى مذهب أحمد
وقول من قال لا تجب فى غاية البعد فانها من أعظم شعائر الاسلام والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة وقد شرع فيها التكبير وقول من قال هي فرض على الكفاية لا ينضبط فانه لو حضرها فى
____________________
(23/161)
المصر العظيم أربعون رجلا لم يحصل المقصود وانما يحصل بحضور المسلمين كلهم كما فى الجمعة
وأما الأضحية فالأظهر وجوبها أيضا فانها من أعظم شعائر الاسلام وهى النسك العام فى جميع الأمصار والنسك مقرون بالصلاة فى قوله ( ان صلاتى ونسكي ومحياي ومماتى لله رب العالمين ( وقد قال تعالى ( فصل لربك وانحر ( فأمر بالنحر كما أمر بالصلاة وقد قال تعالى ( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فالهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين ( وقال ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فأذكروا إسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ( وهى من ملة إبراهيم الذي أمرنا بإتباع ملته وبها يذكر قصة الذبيح فكيف يجوز أن المسلمين كلهم يتركون هذا لا يفعله أحد منهم وترك المسلمين كلهم هذا أعظم من ترك الحج فى بعض السنين
وقد قالوا إن الحج كل عام فرض على الكفاية لأنه من شعائر الإسلام والضحايا فى عيد النحر كذلك بل هذه تفعل فى كل بلد
____________________
(23/162)
هي والصلاة فيظهر بها عبادة الله وذكره والذبح له والنسك له ما لا يظهر بالحج كما يظهر ذكر الله بالتكبير في الأعياد وقد جاءت الأحاديث بالأمر بها وقد خرج وجوبها قولا فى مذهب أحمد وهو قول أبي حنيفة وأحد القولين فى مذهب مالك أو ظاهر مذهب مالك
ونفاة الوجوب ليس معهم نص فإن عمدتهم قوله ( من أراد أن يضحى ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره قالوا والواجب لا يعلق بالإرادة وهذا كلام مجمل فإن الواجب لا يوكل إلى إرادة العبد فيقال أن شئت فأفعله بل قد يعلق الواجب بالشرط لبيان حكم من الأحكام كقوله ( إذا قمتم إلى الصلاة فأغسلوا ) وقد قدروا فيه إذا أردتم القيام وقدروا إذا أردت القراءة فإستعذ والطهارة واجبة والقراءة فى الصلاة واجبة وقد قال ( إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم ) ومشيئة الإستقامة واجبة
وأيضا فليس كل أحد يجب عليه أن يضحى وإنما تجب على القادر فهو الذي يريد أن يضحى كما قال ( من أراد الحج فليتعجل فإنه قد تضل الضالة وتعرض الحاجة والحج فرض على المستطيع فقوله ( من أراد أن يضحى ( كقوله ( من أراد الحج
____________________
(23/163)
فليتعجل ( ووجوبها حينئذ مشروط بأن يقدر عليها فاضلا عن حوائجه الأصلية كصدقة الفطر
ويجوز أن يضحى بالشاة عن أهل البيت صاحب المنزل ونسائه وأولاده ومن معهم كما كان الصحابة يفعلون وما نقل عن بعض الصحابة من أنه لم يضح بل إشترى لحما فقد تكون مسألة نزاع كما تنازعوا في وجوب العمرة وقد يكون من لم يضح لم يكن له سعة فى ذلك العام وأراد بذلك توبيخ أهل المباهاة الذين يفعلونها لغير الله أو أن يكون قصد بتركها ذلك العام توبيخهم فقد ترك الواجب لمصلحة راجحة كما قال ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم إنطلق معي برجال معهم حزم حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار لولا ما فى البيوت من النساء والذرية ( فكان يدع الجمعة والجماعة الواجبة لأجل عقوبة المتخلفين فإن هذا من باب الجهاد الذي قد يضيق وقته فهو مقدم على الجمعة والجماعة
ولو أن ولى الأمر كالمحتسب وغيره تخلف بعض الأيام عن الجمعة لينظر من لا يصليها فيعاقبه جاز ذلك وكان هذا من الأعذار المبيحة لترك الجمعة فإن عقوبة أولئك واجب متعين لا يمكن إلا بهذا الطريق والنبى قد بين أنه لولا النساء والصبيان
____________________
(23/164)
لحرق البيوت على من فيها لكن فيها من لا تجب عليه جمعة ولا جماعة من النساء والصبيان فلا تجوز عقوبته كما لا ترجم الحامل حتى تضع حملها لأن قتل الجنين لا يجوز كما فى حديث الغامدية
( فصل (
وسجود القرآن لا يشرع فيه تحريم ولا تحليل هذا هو السنة المعروفة عن النبى وعليه عامة السلف وهو المنصوص عن الأئمة المشهورين وعلى هذا فليست صلاة فلا تشترط لها شروط الصلاة بل تجوز على غير طهارة كما كان إبن عمر يسجد على غير طهارة لكن هي بشروط الصلاة أفضل ولا ينبغى أن يخل بذلك إلا لعذر
فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به لكن قد يقال إنه لا يجب فى هذه الحال كما لا يجب على السامع ولا على من لم يسجد قارئه وإن كان ذلك السجود جائزا عند جمهور العلماء
وكما يجب على المؤتم فى الصلاة تبعا لإمامه بالإتفاق وإن قالوا لا يجب في غير هذه الحال وقد حمل بعضهم حديث زيد على أن
____________________
(23/165)
النبى لم يكن متطهرا وكما لا تجب الجمعة على المريض والمسافر والعبد وإن جاز له فعلها لا سيما وأكثر العلماء لا يجوزون فعلها إلا مع الطهارة ولكن الراجح أنه يجوز فعلها للحديث والمروى فيها عن النبى صلى الله عليه وسلم تكبيرة واحدة فإنه لا ينتقل من عبادة إلى عبادة وعلى هذا ترجم البخارى فقال ( باب سجدة المسلمين مع المشركين ) والمشرك نجس ليس له وضوء قال وكان إبن عمر يسجد على غير وضوء وذكر سجود النبى بالنجم لما سجد وسجد معه المسلمون والمشركون وهذا الحديث فى الصحيحين من وجهين من حديث إبن مسعود وحديث إبن عباس وهذا فعلوه تبعا للنبى لما قرأ قوله ( فأسجدوا لله وأعبدوا )
ومعلوم أن جنس العبادة لا تشترط له الطهارة بل إنما تشترط للصلاة فكذلك جنس السجود يشترط لبعضه وهو السجود الذي لله كسجود الصلاة وسجدتى السهو بخلاف سجود التلاوة وسجود الشكر وسجود الآيات
ومما يدل على ذلك أن الله أخبر عن سجود السحرة لما آمنوا بموسى على وجه الرضا بذلك السجود ولا ريب أنهم لم يكونوا متوضئين ولا يعرفون الوضوء فعلم أن السجود المجرد لله مما يحبه
____________________
(23/166)
الله ويرضاه وإن لم يكن صاحبه متوضأ وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه وهذا سجود إيمان ونظيره الذين أسلموا فإعتصموا بالسجود ولم يقبل ذلك منهم خالد فقتلهم فأرسل النبى عليا فوداهم بنصف دية ولم ينكر عليهم ذلك السجود ولم يكونوا بعد قد أسلموا ولا عرفوا الوضوء بل سجدوا لله سجود الإسلام كما سجد السحرة
ومما يدل على ذلك أن الله أمر بنى إسرائيل أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة ومعلوم أنه لم يأمرهم بوضوء ولا كان الوضوء مشروعا لهم بل هو من خصائص أمة محمد وسواء أريد السجود بالأرض أو الركوع فإنه إن أريد الركوع فهو عبادة مفردة يتضمن الخضوع لله وهو من جنس السجود لكن شرعنا شرع فيه سجود مفرد وأما ركوع مفرد ففيه نزاع جوزه بعض العلماء بدلا عن سجود التلاوة
وأيضا فقد أخبر الله عن الأنبياء بالسجود المجرد في مثل قوله ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) ولم يكونوا مأمورين بالوضوء فإن الوضوء من خصائص أمة محمد كما جاءت الأحاديث الصحيحة ( أنهم
____________________
(23/167)
يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء وإن الرسول يعرفهم بهذه السيماء ( فدل على أنه لا يشركهم فيها غيرهم والحديث الذي رواه إبن ماجه وغيره أنه توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا وقال ( هذا وضوئى ووضوء الأنبياء قبلي ( حديث ضعيف عند أهل العلم بالحديث لا يجوز الإحتجاج بمثله وليس عند أهل الكتاب خبر عن أحد من الأنبياء أنه كان يتوضأ وضوء المسلمين بخلاف الإغتسال من الجنابة فإنه كان مشروعا ولكن لم يكن لهم تيمم إذا عدموا الماء وهذه الأمة مما فضلت به التيمم مع الجنابة والحدث الأصغر والوضوء
فإن قيل أولئك الأنبياء إنما سجدوا على غير وضوء لأن الصلاة كانت تجوز لهم بغير وضوء
قيل لم يقص الله علينا فى القرآن أن أحدا منهم صلى بغير وضوء ونحن إنما نتبع من شرع الأنبياء ما قصه الله علينا وما أخبرنا به نبينا فإنه قص ذلك علينا لنعتبر به وقال ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده وكذلك ذكر عن الذين أوتوا العلم من قبله أنهم ( إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا
____________________
(23/168)
وقد
أوجب الله تعالى الطهارة للصلاة كما أمر بذلك فى القرآن وكما ثبت عن النبى أنه قال ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا احدث حتى يتوضأ ( أخرجاه فى الصحيحين وفى الصحيح عن النبى أنه قال ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول وقد أجمع المسلمون على وجوب الطهارة للصلاة
يبقى الكلام في مسمى ( الصلاة ( فإن الذين أوجبوا الطهارة للسجود المجرد إختلفوا فيما بينهم فقالوا يسلم منه وقال بعضهم يكبر تكبيرتين تكبيرة للإفتتاح وتكبيرة للسجود وقال بعضهم يتشهد فيه وليس معهم لشيء من هذه الأقوال أثر لا عن النبى ولا عن أحد من الصحابة بل هو مما قالوه برأيهم لما ظنوه صلاة
وقال بعضهم لا تكون الصلاة إلا ركعتين وما دون ذلك لايكون صلاة إلا ركعة الوتر وإحتج بما فى السنن عن إبن عمر أن النبى قال ( صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ( وهذا القول قاله إبن حزم ولم يشترط الطهارة لما دون ذلك لا لصلاة الجنازة ولا لغيرها وهذا أيضا ضعيف فإن الحديث ضعيف والحديث الذى فى الصحاح الذى رواه الثقاة قوله ( صلاة الليل مثنى مثنى ( وأما قوله و ( النهار ( فزيادة إنفرد بها البارقى وقد ضعفها أحمد
____________________
(23/169)
وغيره والمرجع فى مسمى الصلاة إلى الرسول
وفى السنن حديث على عن النبى صلى الله عليه وسلم ( مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ( وهذا محفوظ عن إبن مسعود من قوله فهذا يبين أن الصلاة التى مفتاحها الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم وهذا يتناول كل ما تحريمه التكبير وتحليله التسليم كالصلاة التى فيها ركوع وسجود سواء كانت مثنى أو واحدة أو كانت ثلاثا متصلة أو أكثر من ذلك وهو يتناول صلاة الجنازة فإن تحريمها التكبير وتحليلها التسليم
والصحابة أمروا بالطهارة لما فرقوا بينها وبين سجود التلاوة وهو الذى ذكره البخارى في صحيحه فقال فى ( باب سنة الصلاة على الجنازة ) وقال النبى صلى الله عليه وسلم ( من صلى على الجنازة وقال ( صلوا على صاحبكم ( وقال ( صلوا على النجاشي ( سماها صلاة وليس فيها ركوع ولا سجود ولا يتكلم فيها وفيها تكبير وتسليم وكان إبن عمر لا يصلى إلا طاهرا ولا يصلى عند طلوع الشمس ولا غروبها ويرفع يديه وقال تعالى ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) وفيها صفوف وإمام
وهذه الأمور التى ذكرها كلها منتفية فى سجود التلاوة والشكر
____________________
(23/170)
وسجود الآيات فان النبى ( ( لم يسم ذلك صلاة ولم يشرع لها الاصطفاف وتقدم الامام كما يشرع فى صلاة الجنازة وسجدتى السهو بعد السلام وسائر الصلوات ولا سن فيها النبى ( ( سلاما لم يرو ذلك عنه لا باسناد صحيح ولا ضعيف بل هو بدعة ولا جعل لها تكبير افتتاح وانما روى عنه أنه كبر فيها اما للرفع واما للخفض والحديث فى السنن
وبن عباس جوز التيمم للجنازة عند عدم الماء وهذا قول كثير من العلماء وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد فى احدى الروايتين فدل على أن الطهارة تشترط لها عنده وكذلك هذه الصفات منتفية فى الطواف فليس فيه تسليم والكلام جائز فيه وليس فيه اصطفاف وامام وقد قرن الله فى كتابه وسنة رسوله بين الطائف والمصلى ولم يرد عن النبى ( ( أنه امر بالطهارة للطواف لكنه كان يطوف متطهرا هو والصحابة وكانوا يصلون ركعتى الطواف بعد الطواف ولا يصلى الا متطهرا والنهى انما جاء فى طواف الحائض فقال ( الحائض تقضى المناسك كلها الا الطواف بالبيت ( وقد قيل ان ذلك لأجل المسجد وقيل لأجل الطواف وقيل لهما
والله تعالى قال لابراهيم عليه السلام ( وطهر بيتى للطائفين ( فاقتضى ذلك تطهيره من دم الحيض وغيره
____________________
(23/171)
وأيضا فابراهيم والنبيون بعده كانوا يطوفون بغير وضوء كما كانوا يصلون بغير وضوء وشرعهم شرعنا الا فيما نسخ فالصلاة قد أمرنا بالوضوء لها ولم يفرض علينا الوضوء لغيرها كما جعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا فحيث ما ادركت المسلم الصلاة فعنده مسجده وطهوره وان كان جنبا تيمم وصلى ومن قبلنا لم يكن لهم ذلك بل كانوا ممنوعين من الصلاة مع الجنابة حتى يغتسلوا كما يمنع الجنب من اللبث فى المسجد ومن قراءة القرآن
ويجوز للمحدث اللبث فى المسجد معتكفا وغير معتكف ويجوز له قراءة القرآن والمروى فيها عن النبى ( ( تكبيرة واحدة فانه لم ينتقل من عبادة إلى عبادة
____________________
(23/172)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن الرجل اذا كان يتلو الكتاب العزيز بين جماعة فقرأ سجدة فقام على قدميه وسجد فهل قيامه أفضل من سجوده وهو قاعد أم لا وهل فعله ذلك رياء ونفاق
فأجاب بل سجود التلاوة قائما أفضل منه قاعدا كما ذكر ذلك من ذكره من العلماء من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهما وكما نقل عن عائشة بل وكذلك سجود الشكر كما روى أبو داود فى سننه عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( من سجوده للشكر قائما وهذا ظاهر فى الاعتبار فان صلاة القائم أفضل من صلاة القاعد
وقد ثبت عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه كان أحيانا يصلى قاعدا فاذا قرب من الركوع فانه يركع ويسجد وهو قائم وأحيانا يركع ويسجد وهو قاعد فهذا قد يكون للعذر أو للجواز ولكن تحريه مع قعوده أن يقوم ليركع ويسجد وهو قائم دليل على أنه أفضل اذ هو أكمل وأعظم خشوعا لما فيه من هبوط رأسه وأعضائه الساجدة لله من القيام
____________________
(23/173)
ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى أو قيام ليل أو غير ذلك فانه يصليه حيث كان ولا ينبغى له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس اذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرا لله مع اجتهاده فى سلامته من الرياء ومفسدات الاخلاص ولهذا قال الفضيل بن عياض ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجل الناس شرك وفعله فى مكانه الذى تكون فيه معيشته التى يستعين بها على عبادة الله خير له من أن يفعله حيث تتعطل معيشته ويشتغل قلبه بسبب ذلك فان الصلاة كلما كانت أجمع للقلب وأبعد من الوسواس كانت أكمل
ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء
فنهيه مردود عليه من وجوه
( أحدها ( أن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوفا من الرياء بل يؤمر بها وبالاخلاص فيها ونحن اذا رأينا من يفعلها أقررناه وان جزمنا أنه يفعلها رياء فالمنافقون الذين قال الله فيهم ( ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم واذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله الا قليلا ( فهؤلاء كان النبى ( صلى الله عليه وسلم ( والمسلمون يقرونهم على ما يظهرونه من الدين وان كانوا مرائين ولا ينهونهم عن الظاهر لأن الفساد فى ترك اظهار
____________________
(23/174)
المشروع أعظم من الفساد فى اظهاره رياء كما أن فساد ترك اظهار الايمان والصلوات أعظم من الفساد فى اظهار ذلك رياء ولان الانكار انما يقع على الفساد فى اظهار ذلك رئاء الناس
( الثانى ( لأن الانكار انما يقع على ما أنكرته الشريعة وقد قال رسول الله ( ( ( انى لم اومر أن انقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم وقد قال عمر بن الخطاب من أظهر لنا خيرا أحببناه وواليناه عليه وان كانت سريرته بخلاف ذلك ومن أظهر لنا شرا أبغضناه عليه وان زعم أن سريرته صالحة
( الثالث ( أن تسويغ مثل هذا يفضى إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين اذا رأوا من يظهر أمرا مشروعا مسنونا قالوا هذا مراء فيترك أهل الصدق والاخلاص اظهار الأمور المشروعة حذرا من لمزهم وذمهم فيتعطل الخير ويبقى لأهل الشرك شوكة يظهرون الشر ولا أحد ينكر عليهم وهذا من أعظم المفاسد
( الرابع ( أن مثل هذا من شعائر المنافقين وهو يطعن على من يظهر الأعمال المشروعة قال الله تعالى ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين فى الصدقات والذين لا يجدون الا جهدهم فيسخرون منهم
____________________
(23/175)
سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ( فان النبى ( ( لما حض على الانفاق عام تبوك جاء بعض الصحابة بصرة كادت يده تعجز من حملها فقالوا هذا مراء وجاء بعضهم بصاع فقالوا لقد كان الله غنيا عن صاع فلان فلمزوا هذا وهذا فأنزل الله ذلك وصار عبرة فيمن يلمز المؤمنين المطيعين لله ورسوله والله أعلم
وسئل
عن الرجل اذا تلى عليه القرآن فيه سجدة سجد على غير وضوء فهل يأثم أو يكفر أو تطلق عليه زوجته
فأجاب لا يكفر ولا تطلق عليه زوجته ولكن يأثم عند أكثر العلماء ولكن ذكر بعض أصحاب أبى حنيفة أن من صلى بلا وضوء فيما تشترط له الطهارة بالاجماع كالصلوات الخمس أنه يكفر بذلك واذا كفر كان مرتدا والمرتد عند أبى حنيفة تبين منه زوجته ولكن تكفير هذا ليس منقولا عن أبى حنيفة نفسه ولا عن صاحبيه وانما هو عن اتباعه وجمهور العلماء على أنه يعزر ولا يكفر الا اذا استحل ذلك واستهزأ بالصلاة
وأما سجدة التلاوة فمن العلماء من ذهب إلى أنها تجوز بغير
____________________
(23/176)
طهارة وما تنازع العلماء فى جوازه لا يكفر فاعله بالاتفاق وجمهور العلماء على أن المرتد لا تبين منه زوجته الا اذا انقضت عدتها ولم يرجع إلى الاسلام والله أعلم
وسئل
عن دعاء الاستخارة هل يدعو به فى الصلاة أم بعد السلام
فأجاب يجوز الدعاء فى صلاة الاستخارة وغيرها قبل السلام وبعده والدعاء قبل السلام أفضل فان النبى ( ( اكثر دعائه كان قبل السلام والمصلى قبل السلام لم ينصرف فهذا أحسن والله تعالى أعلم
____________________
(23/177)
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله ( فصل (
فى أوقات النهى والنزاع فى ذوات الأسباب وغيرها فان للناس فى هذا الباب اضطرابا كثيرا
فنقول قد ثبت بالنص والاجماع أن النهى ليس عاما لجميع الصلوات فانه قد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك وفى لفظ فليصل إليها أخرى وفى لفظ فيتم صلاته وفى لفظ سجدة وكلها صحيحة وكذلك قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك وفى لفظ فليتم صلاته وفى لفظ فليصل اليها أخرى وفى لفظ سجدة ( وفى هذا أمره بالركعة الثانية من الفجر عند طلوع الشمس
وفيه أنه اذا صلى ركعة من العصر عند غروب الشمس صحت
____________________
(23/178)
تلك الركعة وهو مأمور بأن يصل اليها أخرى وهذا الثانى مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء
وأما الأول فهو قول جمهور العلماء يروى عن على وغير واحد من الصحابة والتابعين وعلى هذا مجموع الصحابة فقد ثبت أن ابا بكر الصديق قرأ فى الفجر بسورة البقرة فلما سلم قيل له كادت الشمس تطلع فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين
فهذا خطاب الصديق للصحابة يبين أنها لو طلعت لم يضرهم ذلك ولم تجدهم غافلين بل وجدتهم ذاكرين الله ممتثلين لقوله ( واذكر ربك فى نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ( وهذا القول مذهب مالك والشافعى وأحمد واسحق وأبى ثور وبن المنذر
وهؤلاء يقولون يقضى ما نام عنه أو نسيه فى أوقات النهى ولكن ابو حنيفة ومن وافقه يقولون تفسد صلاته لأنها صارت فائتة والفوات عندهم لا يقضى فى أوقات النهى بخلاف عصر يومه فانها حاضرة مفعولة فى وقتها
واحتجوا بتأخير الصلاة يوم نام هو وأصحابه عنها حتى طلعت
____________________
(23/179)
الشمس وأجاب الجمهور بوجوه
( أحدها ( أن التأخير كان لأجل المكان لأن النبى ( ( قال ( هذا واد حضرنا فيه الشيطان ( الثانى ( أنه دليل على الجواز لا على الوجوب
( الثالث ( أن هذا غايته أن يكون فيمن ابتدأ قضاء الفائتة أما من صلى ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الوقت كما قال ( فقد ادرك ( والثانية تفعل تبعا كما يفعله المسبوق اذا أدرك ركعة قالوا وهذا أولى بالعذر من العصر إلى الغروب لأن الغروب مشهود يمكنه أن يصلى قبله وأما الطلوع فهو قبل أن تطلع لا يعلم متى تطلع فاذا صلى صلى فى الوقت ولهذا لا يأثم من أخر الصلاة حتى يفرغ منها قبل الطلوع كما ثبت عن النبى ( ( فى أحاديث المواقيت ( أنه سلم فى اليوم الثانى والقائل يقول قد طلعت الشمس أو كادت ( وقال فى الحديث الصحيح ( وقت الفجر ما لم تطلع الشمس ( وقال ( وقت العصر ما لم تصفر الشمس وفى لفظ ما لم تضيف للغروب ( فمن صلى قبل طلوع الشمس جميع صلاة الفجر فلا اثم عليه ومن صلى العصر وقت الغروب من غير عذر فهو آثم كما فى الحديث الصحيح ( تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى
____________________
(23/180)
اذا كانت بين قرنى شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها الا قليلا (
لكن جعله الرسول مدركا للوقت وهو وقت الضرورة فى مثل النائم اذا استيقظ والحائض اذا طهرت والكافر اذا أسلم والمجنون والمغمى عليه اذا أفاقا فأما من أمكنه قبل ذلك فهو آثم بالتأخير إليه وهو من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ولكن فعلها فى ذلك الوقت خير من تفويتها فان تفويتها من الكبائر
وفى الصحيحين عنه أنه قال ( من فاتته الصلاة صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ( وأما المصلى قبل طلوع الشمس فلا اثم عليه فاذا كان من صلى ركعة بعد غروب الشمس
فمن صلى ركعة قبل طلوعها أو قد صلاها قبل أن يطلع شيء منها فهو وقولهم ان ذلك يصلى الثانية فى وقت جواز بعد الغروب بخلاف الأول فانه يصلى الثانية وقت نهى يقال الكلام فى الأمرين لم جوزتم له أن يصلى العصر وقت النهى مع أن النبى ( صلى الله عليه
____________________
(23/181)
وسلم ( انما جعل وقت العصر ما لم تغرب الشمس أو تضيف للغروب ولم تجوزوا فعل الفجر وقت النهى
الثانى ان مصلى العصر وان صلى الثانية فى غير وقت نهى فمصلى الفجر صلى الأولى فى غير وقت نهى ثم انه ترجح عليه بأنه صلى الأولى فى وقتها بلا ذم ولا نهى بخلاف مصلى العصر فانه انما صلى الأولى مع الذم والنهى
وبكل حال فقد دل الحديث واتفاقهم على أنه لم ينه عن كل صلاة بل عصر يومه تفعل وقت النهى بالنص واتفاقهم وكذلك الثانية من الفجر تفعل بالنص مع قول الجمهور فان قيل فهو مذموم على صلاة العصر وقت النهى فكيف يقولون لم ينه قبل الذم انما هو لتأخيرها إلى هذا الوقت ثم اذا عصى بالتأخير أمر أن يصليها فى هذا الوقت ولا يفوتها فان التفويت أعظم اثما ولا يجوز بحال من الأحوال وكان أن يصليها مع نوع من الاثم خيرا من أن يفوتها فيلزمه من الاثم ما هو أعظم من ذلك
والشارع دائما يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما وهذا كمن معه ماء فى السفر هو محتاج إليه لطهارته يؤمر بأن يتطهر به فان اراقه عصى وأمر بالتيمم وكانت صلاته
____________________
(23/182)
بالتيمم خيرا من تفويت الصلاة لكن فى وجوب الاعادة عليه قولان هما وجهان فى مذهب أحمد وغيره
ومفوت الوقت لا تمكنه الاعادة كما قد بسط فى غير هذا الموضع وبكل حال فقد دل النص مع اتفاقهم على أن النهى ليس شاملا لكل صلاة وقد احتج الجمهور على قضاء الفوائت فى وقت النهى بقوله فى الحديث الصحيح المتفق عليه ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها لا كفارة لها الا ذلك ( وفى حديث أبى قتادة المتفق عليه واللفظ لمسلم ( ليس فى النوم تفريط انما التفريط فى اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فاذا كان الغد فليصلها عند وقتها ( فقد أمره بالصلاة حين ينتبه وحين يذكر وهذا يتناول كل وقت
وهذا العموم أولى من عموم النهى لأنه قد ثبت أن ذاك لم يتناول الفرض لا أداء ولا قضاء لم يتناول عصر يومه ولم يتناول الركعة الثانية من الفجر ولأنه اذا استيقظ أو ذكر فهو وقت تلك الصلاة فكان فعلها فى وقتها كفعل عصر يومه فى وقتها مع أن هذا معذور وذاك غير معذور لكن يقال هذا المفوت لو اخرها حتى يزول وقت النهى لم يحصل له تفويت ثان بخلاف العصر فانه لو لم يصلها لفاتت وكذلك الثانية من الفجر
____________________
(23/183)
فيقال هذا يقتضى جواز تأخيرها لمصلحة راجحة كما أخرها النبى ( ( وقال ( هذا واد حضرنا فيه الشيطان ( ومثل أن يؤخرها حتى يتطهر غيره ويصلوها جماعة كما صلوا خلف النبى ( ( صلاة الفجر لما ناموا عنها بخلاف الفجر والعصر الحاضرة فانه لا يجوز تفويتها بحال من الأحوال
وهذا الذى بيناه يقتضى أنه لا عموم لوقت طلوع الشمس ووقت غروبها فغيرهما من المواقيت أولى وأحرى
( فصل (
وروى جبير بن مطعم أن رسول الله ( ( قال ( يا بنى عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى اية ساعة شاء من ليل أو نهار ( رواه أهل السنن وقال الترمذى حديث صحيح واحتج به الأئمة الشافعى وأحمد وابو ثور وغيرهم وأخذوا به وجوزوا الطواف والصلاة بعد الفجر والعصر كما روى عن بن عمر وبن الزبير وغيرهما من الصحابة والتابعين
واما فى الأوقات الثلاثة فعن أحمد فيه روايتان وآخرون من أهل العلم كأبى حنيفة ومالك وغيرهما لا يرون ركعتى الطواف فى
____________________
(23/184)
وقت النهى والحجة مع أولئك من وجوه
( أحدها ( أن قوله ( لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى اية ساعة شاء من ليل أو نهار ( عموم مقصود فى الوقت فكيف يجوز أن يقال انه لم يدخل فى ذلك المواقيت الخمسة
( الثانى ( أن هذا العموم لم يخص منه صورة لا بنص ولا اجماع وحديث النهى مخصوص بالنص والاجماع والعموم المحفوظ راجح على العموم المخصوص
( الثالث ( أن البيت ما زال الناس يطوفون به ويصلون عنده من حين بناه ابراهيم الخليل وكان النبى ( ( واصحابه قبل الهجرة يطوفون به ويصلون عنده وكذلك لما فتحت مكة كثر طواف المسلمين به وصلاتهم عنده ولو كانت ركعتا الطواف منهيا عنها فى الأوقات الخمسة لكان النبى ( ( ينهى عن ذلك نهيا عاما لحاجة المسلمين إلى ذلك ولكان ذلك ينقل ولم ينقل مسلم أن النبى ( ( نهى عن ذلك مع أن الطواف طرفى النهار أكثر وأسهل
( الرابع ( أن فى النهى تعطيلا لمصالح ذلك من الطواف والصلاة
____________________
(23/185)
( الخامس ( أن النهى انما كان لسد الذريعة وما كان لسد الذريعة فانه يفعل للمصلحة الراجحة وذلك أن الصلاة فى نفسها من افضل الأعمال وأعظم العبادات كما قال النبى ( صلى الله عليه وسلم ( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ( فليس فيها نفسها مفسدة تقتضى النهى ولكن وقت الطلوع والغروب الشيطان يقارن الشمس وحينئذ يسجد لها الكفار فالمصلى حينئذ يتشبه بهم فى جنس الصلاة
فالسجود وان لم يكونوا يعبدون معبودهم ولا يقصدون مقصودهم لكن يشبههم فى الصورة فنهى عن الصلاة فى هاتين الوقتين سدا للذريعة حتى ينقطع التشبه بالكفار ولا يتشبه بهم المسلم فى شركهم كما نهى عن الخلوة بالأجنبية والسفر معها والنظر اليها لما يفضى إليه من الفساد ونهاها أن تسافر الا مع زوج أو ذى محرم وكما نهى عن سب آلهة المشركين لئلا يسبوا الله بغير علم وكما نهى عن أكل الخبائث لما يفضى إليه من حيث التغذية الذى يقتضى الأعمال المنهى عنها وأمثال ذلك
ثم إن ما نهى عنه لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة كما يباح النظر إلى المخطوبة والسفر بها اذا خيف ضياعها كسفرها من دار الحرب مثل سفر أم كلثوم وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان بن
____________________
(23/186)
المعطل فانه لم ينه عنه الا لأنه يفضى إلى المفسدة فاذا كان مقتضيا للمصلحة الراجحة لم يكن مفضيا إلى المفسدة
وهذا موجود فى التطوع المطلق فانه قد يفضى إلى المفسدة وليس الناس محتاجين إليه فى أوقات النهى لسعة الأوقات التى تباح فيها الصلاة بل فى النهى عنه بعض الأوقات مصالح أخر من اجمام النفوس بعض الأوقات من ثقل العبادة كما يجم بالنوم وغيره ولهذا قال معاذ انى لأحتسب نومتى كما أحتسب قومتى ومن تشويقها وتحبيب الصلاة اليها اذا منعت منها وقتا فانه يكون أنشط وأرغب فيها فان العبادة اذا خصت ببعض الاوقات نشطت النفوس لها أعظم مما تنشط للشيء الدائم ومنها أن الشيء الدائم تسأم منه وتمل وتضجر فاذا نهى عنه بعض الأوقات زال ذلك الملل إلى أنواع أخر من المصالح فى النهى عن التطوع المطلق ففى النهى دفع لمفاسد وجلب لمصالح من غير تفويت مصلحة
واما ما كان له سبب فمنها ما اذا نهى عنه فاتت المصلحة وتعطل على الناس من العبادة والطاعة وتحصيل الاجر والثواب والمصلحة العظيمة فى دينهم ما لا يمكن استدراكه كالمعادة مع امام الحى وكتحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف ونحو ذلك
____________________
(23/187)
ومنها ما تنقص به المصلحة كركعتى الطواف لا سيما للقادمين وهم يريدون أن يغتنموا الطواف فى تلك الأيام والطواف لهم ولأهل البلد طرفى النهار
( الوجه السادس ( أن يقال ذوات الأسباب انما دعا اليها داع لم تفعل لأجل الوقت بخلاف التطوع المطلق الذى لا سبب له وحينئذ فمفسدة النهى انما تنشأ مما لا سبب له دون ما له السبب ولهذا قال فى حديث بن عمر ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ( وهذه الوجوه التى ذكرناها تدل أيضا على قضاء الفوائت فى أوقات النهى
( فصل (
والمعادة اذا أقيمت الصلاة وهو فى المسجد تعاد فى وقت النهى عند الجمهور كمالك والشافعى وأحمد وأبى ثور وغيرهم وأبو حنيفة وغيره جعلوها مما نهى عنه واحتج الأكثرون بثلاثة أحاديث
____________________
(23/188)
( أحدها ( حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن ابيه قال ( شهدت مع رسول الله ( ( حجته فصليت معه صلاة الفجر فى مسجد الخيف وأنا غلام شاب فلما قضى صلاته اذا هو برجلين فى آخر القوم لم يصليا معه فقال على بهما فأتى بهما ترعد فرائصهما فقال ما منعكما أن تصليا معنا قالا يا رسول الله قد صلينا فى رحالنا قال لا تفعلا اذا صليتما فى رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فانها لكما نافلة ( رواه اهل السنن كأبى داود والترمذى وغيرهما وأحمد والأثرم
( والثانى ( ما رواه مالك فى الموطأ عن زيد بن أسلم عن بشر بن محجن عن أبيه ( أنه كان جالسا مع النبى ( ( فأذن للصلاة فقام رسول الله ( ( فصلى ثم رجع ومحجن فى مجلسه فقال النبى ( ( ما منعك أن تصلى مع الناس ألست برجل مسلم قال بلى يا رسول الله ولكن قد صليت فى أهلى فقال له رسول الله ( ( اذا جئت فصل مع الناس وان كنت قد صليت ( وهذا يدل بعمومه والأول صريح فى الاعادة بعد الفجر
( الثالث ( ما روى مسلم فى الصحيح عن أبى ذر قال قال لى رسول الله ( ( كيف أنت اذا كانت عليك أمراء
____________________
(23/189)
يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها قال قلت فما تأمرنى قال صل الصلاة لوقتها فان أدركتها معهم فصل فانها لك نافلة ( وفى رواية له قال رسول الله ( ( وضرب فخذى كيف أنت اذا بقيت فى قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها قال فما تأمرنى قال صل الصلاة لوقتها ثم اذهب لحاجتك فان أقيمت الصلاة وأنت فى المسجد فصل ( وفى رواية لمسلم أيضا ( صل الصلاة لوقتها فان أدركت الصلاة فصل ولا تقل انى قد صليت فلا أصلى ( وهذه النصوص تتناول صلاة الظهر والعصر قطعا فانهما هما اللتان كان الأمراء يؤخرونهما بخلاف الفجر فانهم لم يكونوا يصلونها بعد طلوع الشمس وكذلك المغرب لم يكونوا يؤخرونها ولكن كانوا يؤخرون العصر أحيانا إلى شروع الغروب وحينئذ فقد امره أن يصلى الصلاة لوقتها ثم يصليها معهم بعد أن صلاها ويجعلها نافلة وهو فى وقت نهى لأنه قد صلى العصر ولأنهم قد يؤخرون العصر إلى الاصفرار فهذا صريح بالاعادة فى وقت النهى
____________________
(23/190)
( فصل (
والصلاة على الجنازة بعد الفجر وبعد العصر قال بن المنذر اجماع المسلمين فى الصلاة على الجنازة بعد الفجر وبعد العصر وتلك الأنواع الثلاثة لم يختلف فيها قول أحمد أنها تفعل فى أوقات النهى لأن فيها أحاديث خاصة تدل على جوازها فى وقت النهى فلهذا استثناها واستثنى الجنازة فى الوقتين لاجماع المسلمين
وأما سائر ذوات الأسباب مثل تحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف ومثل ركعتى الطواف فى الأوقات الثلاثة ومثل الصلاة على الجنازة فى الأوقات الثلاثة فاختلف كلامه فيها والمشهور عنه النهى وهو اختيار كثير من أصحابه كالخرقى والقاضى وغيرهما وهو مذهب مالك وأبى حنيفة لكن أبو حنيفة يجوز السجود بعد الفجر والعصر لا واجب عنده
( والرواية الثانية ( جواز جميع ذوات الأسباب وهى اختيار أبى الخطاب وهذا مذهب الشافعى وهو الراجح فى هذا الباب لوجوه
____________________
(23/191)
منها أن تحية المسجد قد ثبت الأمر بها فى الصحيحين عن ابى قتادة أن رسول الله ( ( قال ( اذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ( وعنه قال ( دخلت المسجد ورسول الله ( ( جالس بين ظهرانى الناس قال فجلست فقال رسول الله ( ( ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس فقلت يا رسول الله رأيتك جالسا والناس جلوس قال فاذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين ( فهذا فيه الأمر بركعتين قبل أن يجلس والنهى عن أن يجلس حتى يركعهما وهو عام فى كل وقت عموما محفوظا لم يخص منه صورة بنص ولا اجماع وحديث النهى قد عرف أنه ليس بعام والعام المحفوظ مقدم على العام المخصوص فان هذا قد علم أنه ليس بعام بخلاف ذلك فان المقتضى لعمومه قائم لم يعلم أنه خرج منه شيء
( الوجه الثانى ( ما اخرجا فى الصحيحين عن جابر قال جاء رجل والنبى ( ( يخطب الناس فقال ( صليت يا فلان قال لا قال قم فاركع ( وفى رواية ( فصل ركعتين ( ولمسلم قال ثم قال ( اذا جاء أحدكم يوم الجمعة والامام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ( وأحمد أخذ بهذا الحديث بلا خلاف عنه هو وسائر فقهاء الحديث كالشافعى واسحاق وأبى ثور
____________________
(23/192)
وبن المنذر كما روى عن غير واحد من السلف مثل الحسن ومكحول وغيرهما
وكثير من العلماء لم يعرفوا هذا الحديث فنهوا عن الصلاة وقت الخطبة لأنه وقت نهى كما نقل عن شريح والنخعى وبن سيرين وهو قول أبى حنيفة والليث ومالك والثورى
وهو قياس قول من منع تحية المسجد وقت النهى فان الصلاة والخطيب على المنبر أشد نهيا بل هو منهى عن كل ما يشغله عن الاستماع واذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا فاذا كان قد أمر بتحية المسجد فى وقت الخطبة فهو فى سائر الأوقات أولى بالأمر
وقد احتج بعض أصحابنا أنه اذا دخل المسجد فى غير وقت النهى عن الصلاة يسن له الركوع لقوله ( اذا دخل أحدكم المسجد والامام يخطب فلا يجلس حتى يصلى ركعتين ( وقالوا تنقطع الصلاة بجلوس الامام على المنبر فلا يصلى أحد غير الداخل يصلى تحية المسجد ويوجز وهذا تناقض بين بل اذا كان النبى ( ( أمر بالتحية فى هذا الموضع وهو وقت نهى عن الصلاة وغيرها مما يشغل عن الاستماع فأوقات النهى الباقية أولى بالجواز
يبين ذلك أنه فى هذه الحال لا يصلى على جنازة ولا يطاف
____________________
(23/193)
بالبيت ولا يصلى ركعتا الطواف والامام يخطب فدل على أن النهى هنا أوكد وأضيق منه بعد الفجر والعصر فاذا أمر هنا بتحية المسجد فالأمر بها هناك أولى وأحرى وهذا بين واضح ولا حول ولا قوة الا بالله
( الوجه الثالث ( أن يقال قد ثبت استثناء بعض الصلوات من النهى كالعصر الحاضرة وركعتى الفجر والفائتة وركعتى الطواف والمعادة فى المسجد فقد ثبت انقسام الصلاة أوقات النهى إلى منهى عنه ومشروع غير منهى عنه فلابد من فرق بينهما اذا كان الشارع لا يفرق بين المتماثلين فيجعل هذا مأمورا وهذا محظورا والفرق بينهما اما أن يكون المأذون فيه له سبب فالمصلى صلاة السبب صلاها لأجل السبب لم يتطوع تطوعا مطلقا ولو لم يصلها لفاته مصلحة الصلاة كما يفوته اذا دخل المسجد ما فى صلاة التحية من الأجر وكذلك يفوته ما فى صلاة الكسوف وكذلك يفوته ما فى سجود التلاوة وسائر ذوات الأسباب
واما أن يكون الفرق شيئا آخر فان كان الأول حصل المقصود من الفرق بين ذوات الأسباب وغيرها وان كان الثانى قيل لهم فأنتم لا تعلمون الفرق بل قد علمتم أنه نهى عن بعض ورخص فى بعض ولا تعلمون الفرق فلا يجوز لكم أن تتكلموا فى سائر موارد
____________________
(23/194)
النزاع لا بنهى ولا باذن لأنه يجوز أن يكون الفرق الذى فرق به الشارع فى صورة النص فأباح بعضا وحرم بعضا متناولا لموارد النزاع اما نهيا عنه واما اذنا فيه وأنتم لا تعلمون واحدا من النوعين فلا يجوز لكم أن تنهوا الا عما علمتم أنه نهى عنه لانتفاء الوصف المبيح عنه ولا تأذنوا الا فيما علمتم أنه أذن فيه لشمول الوصف المبيح له وأما التحليل والتحريم بغير أصل مفرق عن صاحب الشرع فلا يجوز
فان قيل أحاديث النهى عامة فنحن نحملها على عمومها الا ما خصه الدليل فما علمنا أنه مخصوص لمجيء نص خاص فيه خصصناها به والا أبقيناها على العموم
قيل هذا انما يستقيم أن لو كان هذا العام المخصوص لم يعارضه عمومات محفوظة أقوى منه وأنه لما خص منه صور علم اختصاصها بما يوجب الفرق فلو ثبت أنه عام خص منه صور لمعنى منتف من غيرها بقى ما سوى ذلك على العموم فكيف وعمومه منتف وقد عارضه أحاديث خاصة وعامة عموما محفوظا وما خص منه لم يختص بوصف يوجب استثناءه دون غيره بل غيره مشارك له فى الوصف الموجب لتخصيصه أو أولى منه بالتخصيص
____________________
(23/195)
وحاجة المسلمين العامة إلى تحية المسجد أعظم منها إلى ركعتى الطواف فانه يمكن تأخير الطواف بخلاف تحية المسجد فانها لا تمكن ثم الرجل اذا دخل وقت نهى ان جلس ولم يصل كان مخالفا لأمر النبى ( ( مفوتا هذه المصلحة ان لم يكن آثما بالمعصية وان بقى قائما أو امتنع من دخول المسجد فهذا شر عظيم ومن الناس من يصلى سنة الفجر فى بيته ثم يأتى إلى المسجد فالذين يكرهون التحية منهم من يقف على باب المسجد حتى يقيم فيدخل يصلى معهم ويحرم نفسه دخول بيت الله فى ذلك الوقت الشريف وذكر الله فيه ومنهم من يدخل ويجلس ولا يصلى فيخالف الأمر وهذا ونحوه مما يبين قطعا أن المسلمين مأمورون بالتحية فى كل وقت وما زال المسلمون يدخلون المسجد طرفى النهار ولو كانوا منهيين عن تحية المسجد حينئذ لكان هذا مما يظهر نهى الرسول عنه فكيف وهو قد أمرهم اذا دخل أحدهم المسجد والخطيب على المنبر فلا يجلس حتى يصلى ركعتين أليس فى أمرهم بها فى هذا الوقت تنبيها على غيره من الأوقات (
الوجه الرابع ( ما قدمناه من أن النهى كان لسد ذريعة الشرك وذوات الاسباب فيها مصلحة راجحة والفاعل يفعلها لأجل السبب لا يفعلها مطلقا فتمتنع فيه المشابهة
____________________
(23/196)
( الوجه الخامس ( أنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى ( ( أنه قضى ركعتى الظهر بعد العصر وهو قضاء النافلة فى وقت النهى مع امكان قضائها فى غير ذلك الوقت فالنوافل التى اذا لم تفعل فى أوقات النهى تفوت هي أولى بالجواز من قضاء نافلة فى هذا الوقت مع امكان فعلها فى غيره لا سيما اذا كانت مما أمر به كتحية المسجد وصلاة الكسوف وقد اختار طائفة من أصحاب أحمد منهم أبو محمد المقدسى أن السنن الراتبة تقضى بعد العصر ولا تقضى فى سائر أوقات النهى كالأوقات الثلاثة
وذكر أن مذهب أحمد أن قضاء سنة الفجر جائز بعدها الا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحى وقال الامام أحمد ان صلاهما بعد الفجر أجزأه وأما أنا فاختار ذلك وذكر فى قضاء الوتر بعد طلوع الفجر ان المنصوص عن أحمد أنه يفعله قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل ايوتر الرجل بعد ما يطلع الفجر قال نعم قال وروى ذلك عن بن مسعود وبن عمر وبن عباس وحذيفة وأبى الدرداء وعبادة بن الصامت وفضالة بن عبيد وعائشة وعبد الله بن عامر بن ربيعة وهو أيضا مروى عن على بن أبى طالب وأنه لما ذكر له عن أبى موسى أنه قال من أوتر بعد المؤذن لاوتر له وسألوا عليا قال أعرف يوتر ما بينه وبين الصلاة وأنكر
____________________
(23/197)
ذلك ولم يذكر نزاعا الا عن أبى موسى مع أنه لا ينبغى بعد الفجر
قال وأحاديث النهى الصحيحة ليست صريحة فى النهى قبل صلاة الفجر وانما فيه حديث أبى وقد احتج أحمد بحديث أبى نضرة الغفارى عن النبى ( ( أنه قال ( إن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح الوتر ( وهذا مذهب مالك والشافعى والجمهور قال مالك من فاتته صلاة الليل فله أن يصلى بعد الفجر قبل أن يصلى الصبح قال وحكاه بن أبى موسى الخرقى فى ( الارشاد ( مذهبا لأحمد قياسا على الوتر
قلت وهذا الذى اختاره لا يناقض ما ذكره الخرقى وغيره من قدماء الأصحاب فانه ذكر اباحة الأنواع الأربعة فى جميع أوقات النهى قضاء الفوائت وركعتى الطواف واذا أقيمت الصلاة وهو فى المسجد وصلاة الجنازة ولكن ذكر النهى عن الكسوف وسجود التلاوة فى بابهما فلم ينه عن قضاء السنن فى أوقات النهى
فاختار الشيخ أبو محمد وطائفة من أصحاب أحمد أن السنن الراتبة تقضى بعد العصر ولا تقضى فى سائر اوقات النهى ولا يفعل غيرها من ذوات الأسباب كالتحية وصلاة الكسوف وصلاة الاستخارة
____________________
(23/198)
وصلاة التوبة وسنة الوضوء وسجود التلاوة لا فى هذا الوقت ولا فى غيره لأنهم وجدوا القضاء فيها قد ثبت بالأحاديث الصحيحة قالوا والنهى فى هذا الوقت اخف من غيره لاختلاف الصحابة فيه فلا يلحق به سائر الأوقات والرواتب لها مزية وهذا الفرق ضعيف فان أمر النبى ( ( بتحية المسجد وأمره بصلاة الكسوف وسجود التلاوة أقوى من قضاء سنة فائتة فاذا جاز هذا فذاك أجوز فان قضاء السنن ليس فيه أمر من النبى ( ( بل ولا أمر بنفس السنة سنة الظهر لكنه فعلها وداوم عليها وقضاها لما فاتته وما أمر به أمته لا سيما وكان هو أيضا يفعله فهو أوكد مما فعله ولم يأمرهم به
فاذا جاز لهم فعل هذا فى أوقات النهى ففعل ذاك أولى واذا جاز قضاء سنة الظهر بعد العصر فقضاء سنة الفجر بعد الفجر أولى فان ذاك وقتها واذا أمكن تأخيرها إلى طلوع الشمس أمكن تأخير تلك إلى غروب الشمس وقد كانوا يصلون بين أذان المغرب واقامتها وهو ( ( يراهم ويقرهم على ذلك وقال ( بين كل اذانين صلاة ثم قال فى الثالثة لمن شاء ( كراهية أن يتخذها الناس سنة
____________________
(23/199)
( فصل (
والنهى فى العصر معلق بصلاة العصر فاذا صلاها لم يصل بعدها وان كان غيره لم يصل وما لم يصلها فله أن يصلى وهذا ثابت بالنص والاتفاق فان النهى معلق بالفعل
وأما الفجر ففيها نزاع مشهور وفيه عن أحمد روايتان
قيل إنه معلق بطلوع الفجر فلا يتطوع بعده بغير الركعتين وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبى حنيفة قال النخعى كانوا يكرهون التطوع بعد الفجر
وقيل انه معلق بالفعل كالعصر وهو قول الحسن والشافعى فانه لم يثبت النهى الا بعد الصلاة كما فى العصر وأحاديث النهى تسوى بين الصلاتين كما فى الصحيحين عن بن عباس قال ( شهد عندى رجال مرضيون وأرضاهم عندى عمر ( أن رسول الله ( ( نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب
____________________
(23/200)
وكذلك فيهما عن أبى هريرة ولفظه ( وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب ( وفيهما عن أبى سعيد قال قال رسول الله ( ( ( لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس ( ولمسلم ( لا صلاة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر ( وفى صحيح مسلم حديث عمرو بن عبسة قال قلت يا رسول الله أخبرنى عن الصلاة قال ( صل صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس فانها تطلع حين تطلع بين قرنى شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فان الصلاة محضورة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح ثم اقصر عن الصلاة فانه حينئذ تسجر جهنم فاذا أقبل الفيء فصل فان الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فانها تغرب بين قرنى شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار (
والأحاديث المختصة بوقت الطلوع والغروب وبالاستواء حديث بن عمر قال قال رسول الله ( ( اذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز واذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب ( هذا اللفظ لمسلم وفى صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال ( ثلاث ساعات كان رسول الله ( ( ينهانا أن نصلى فيهن أو نقبر فيهن موتانا حين تطلع
____________________
(23/201)
الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب ( ووقت الزوال ليس فى عامة الأحاديث ولم يذكر حديثه البخارى لكن رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر ومن حديث عمرو بن عبسة وتابعهما الصنابحى وعلى هذه الثلاثة اعتمد أحمد ولما ذكر له الرخصة فى الصلاة نصف النهار يوم الجمعة قال فى حديث النبى ( ( من ثلاثة أوجه حديث عقبة بن عامر وحديث عمرو بن عبسة وحديث الصنابحى
والخرقى لم يذكره فى أوقات النهى بل قال ويقضى الفوائت من الصلوات الفرض ويركع للطواف وان كان فى المسجد وأقيمت الصلاة وقد كان صلى فى كل وقت نهى عن الصلاة فيه وهو بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب
وهذا يقتضى أنه ليس وقت نهى الا هذان ويقتضى ان ما اباحه يفعل فى أوقات النهى كاحدى الروايتين ويقتضى أن النهى معلق بالفعل فانه قال بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولم يقل الفجر ولو كان النهى من حين طلوع الفجر لاستثنى الركعتين بل استثنى الفرض والنفل وهذه ألفاظ الرسول فانه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس كما نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس
____________________
(23/202)
ومعلوم أنه لو أراد الوقت لاستثنى ركعتى الفجر والفرض كما ورد استثناء ذلك فى ما نهى عنه حيث قال ( لا صلاة بعد الفجر الا سجدتين ( فلما لم يذكر ذلك فى الأحاديث علم أنه أراد فعل الصلاة كما جاء مفسرا فى أحاديث صحيحة ولأنه يمتنع أن تكون أوقات الصلاة المكتوبة فرضها وسنتها وقت نهى وما بعد الفجر وقت صلاة الفجر سنتها وفرضها فكيف يجوز أن يقال ان هذا وقت نهى وهل يكون وقت نهى سن فيه الصلاة دائما بلا سبب وأمر بتحرى الصلاة فيه هذا تناقض مع أن هذا الوقت جعل وقتا للصلاة إلى طلوع الشمس ليس كوقت العصر الذى جعل آخر الوقت فيه اذا اصفرت الشمس
والنهى هو لأن الكفار يسجدون لها وهذا لا يكون من طلوع الفجر ولهذا كان الأصل فى النهى عند الطلوع والغروب كما فى حديث بن عمر لكن نهى عن الصلاة بعد الصلاتين سدا للذريعة فان المتطوع قد يصلى بعدهما حتى يصلى وقت الطلوع والغروب والنهى فى هذين أخف ولهذا كان يداوم على الركعتين بعد العصر حتى قبضه الله فأما قبل صلاة الفجر فلا وجه للنهى لكن لا يسن ذلك الوقت الا الفجر سنتها وفرضها ولهذا كان النبى ( ( يصلى بالليل ويوتر ثم اذا طلع الفجر صلى الركعتين ثم صلى الفرض وكان يضطجع أحيانا
____________________
(23/203)
ليستريح اما بعد الوتر واما بعد ركعتى الفجر وكان اذا غلبه من الليل نوم أو وجع صلى من النهار اثنتى عشرة ركعة بدل قيامه من الليل ولم يكن يقضى ذلك قبل صلاة الفجر لأنه لم يكن يتسع لذلك فان هذه الصلاة فيها طول وكان يغلس بالفجر وفى الصحيح ( من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ومعلوم أنه لو أمكن قراءة شيء منه قبل صلاة الفجر كان أبلغ لكن اذا قرأه قبل الزوال كتب له كأنما قرأه من الليل فان هذا الوقت تابع لليلة الماضية ولهذا يقال فيما قبل الزوال فعلناه الليلة ويقال بعد الزوال فعلناه البارحة وهو وقت الضحى وهو خلف عن قيام الليل
ولهذا كان النبى ( صلى الله عليه وسلم ( اذا نام عن قيامه قضاه من الضحى فيصلى اثنتى عشرة ركعة وقد جاء هذا عن عمر وغيره من الصحابة فى قوله ( وهو الذى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( فما بعد طلوع الفجر انما سن للمسلمين السنة الراتبة وفرضها الفجر وما سوى ذلك لم يسن ولم يكن منهيا عنه اذا لم يتخذ سنة كما فى الحديث الصحيح ( بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة ثم قال فى الثالثة لمن شاء ( كراهية أن يتخذها الناس سنة
____________________
(23/204)
فهذا فيه اباحة الصلاة بين كل أذانين كما كان الصحابة يصلون ركعتين بين أذانى المغرب والنبى ( ( يراهم ويقرهم على ذلك فكذلك الصلاة بين أذانى العصر والعشاء وكذلك بين أذانى الفجر والظهر لكن بين أذانى الفجر الركعتان سنة بلا ريب وما سواها يفعل ولا يتخذ سنة فلا يداوم عليه ويؤمر به جميع المسلمين كما هو حال السنة فان السنة تعم المسلمين ويداوم عليها كما أنهم كلهم مسنون لهم ركعتا الفجر والمداومة عليها
فاذا قيل لا سنة بعد طلوع الفجر الا ركعتان فهذا صحيح وأما النهى العام فلا والانسان قد لا يقوم من الليل فيريد أن يصلى فى هذا الوقت وقد استحب السلف له قضاء وتره بل وقيامه من الليل فى هذا الوقت وذلك عندهم خير من أن يؤخره إلى الضحى
فصل (
وللناس فى الصلاة نصف النهار يوم الجمعة وغيرها أقوال
قيل بالنهى مطلقا وهو المشهور عن أحمد وقيل الاذن مطلقا كما اقتضاه كلام الخرقى ويروى عن مالك وقيل بالفرق بين الجمعة وغيرها وهو مذهب الشافعى وأباحه فيها عطاء فى الشتاء دون الصيف لأن النبى ( ( قال فى حديث عمرو بن عبسة ( ثم بعد طلوعها صل فان الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل
____________________
(23/205)
الظل بالرمح ثم اقصر عن الصلاة فانه حينئذ تسجر جهنم فاذا أقبل الفيء فصل (
فعلل النهى حينئذ بأنه حينئذ تسجر جهنم وفى الطلوع والغروب بمقارنة الشيطان فقال ( ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع فانها تطلع بين قرنى شيطان ( وفى الغروب قال ( ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب فانها تغرب بين قرنى شيطان ( وأما مقارنة الشيطان لها حين الاستواء فليس فى شيء من الحديث الا فى حديث الصنابحى قال ( انها تطلع ومعها قرن الشيطان فاذا ارتفعت قارنها ثم اذا استوت قارنها فاذا زالت قارنها واذا دنت للغروب قارنها فاذا غربت قارنها ( فنهى رسول الله ( ( عن الصلاة فى تلك الساعات لكن الصنابحى قد قيل انه لم تثبت له صحبة فلم يسمع هذا من النبى ( ( بخلاف حديث عمرو بن عبسة فانه صحيح سمعه منه
ويؤيد هذا أن عامة الأحاديث ليس فيها الا النهى وقت الطلوع ووقت الغروب أو بعد الصلاتين فدل على أن النهى نصف النهار نوع آخر له علة غير علة ذينك الوقتين
يوضح هذا أن الكفار يسجدون لها وقت الطلوع ووقت
____________________
(23/206)
الغروب كما اخبر به النبى ( ( فأما سجودهم لها قبل الزوال فهذا لم يذكره النبى ( صلى الله عليه وسلم ( عنهم ولم يعلل به
وايضا فان ضبط هذا الوقت متعسر فقد ثبت فى الصحيح أنه قال ( ( اذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فان شدة الحر من فيح جهنم ( وهذا حديث اتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول فأخبر أن شدة الحر من فيح جهنم وهذا موافق لقوله ( فانه حينئذ تسجر جهنم ( وامر بالابراد فدل على أن الصلاة منهى عنها عند شدة الحر لأنه من فيح جهنم
ففى الصيف تسجر نصف النهار فيكون النهى عن الصلاة نصف النهار فى الحر وهو يؤمر بأن يؤخر الصلاة عن الزوال حتى يبرد لكن اذا زالت الشمس فاءت الأفياء فطالت الأظلة بعد تناهى قصرها وهذا مشروع فى الابراد فلهذا كانت الصلاة جائزة من حين الزوال كما فى حديث عمرو بن عبسة ( ثم اقصر عن الصلاة فانه حينئذ تسجر جهنم فاذا أقبل الفيء فصل ( فدل على أن الصلاة مشروعة من حين يقبل الفيء فيفيء الظل أى يرجع من جهة المغرب إلى جهة المشرق ويرجع فى الزيادة بعد النقصان
ولهذا قالوا ان لفظ الفيء مختص بما بعد الزوال لما فيه من
____________________
(23/207)
معنى الرجوع ولفظ الظل يتناول هذا وهذا فانه قبل طلوع الشمس يكون الظل ممتدا كما قال تعالى ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ( ثم اذا طلعت الشمس كانت عليه دليلا فتميز الظل عن الضحى ونسخت الشمس الظل لا تزال تنسخه وهو يقصر إلى الزوال فاذا زالت فانه يعاد ممتدا إلى المشرق حيث ابتدأ بعد أن كان أول ما نسخته عن المشرق ثم عن المغرب ثم تفيء إلى المشرق ثم المغرب ولم يزل يمتد ويطول إلى أن تغرب فينسخ الظل جميع الشمس فلهذا قال فى حديث عمرو بن عبسة ( ثم اقصر عن الصلاة فانه حينئذ تسجر جهنم فاذا أقبل الفيء فصل (
وعلى هذا فمن رخص فى الصلاة يوم الجمعة قال انها لا تسجر يوم الجمعة كما قد روى وقالوا انه لا يستحب الابراد يوم الجمعة بل يجوز عقب الزوال بالسنة الصحيحة واتفاق الناس وفي الابراد مشقة للخلق ويجوز عند أحمد وغيره أن يصلى وقت الزوال كما فعله غير واحد من الصحابة فكيف يكون وقت نهى والجمعة جائزة فيه والفرائض المؤداة لا تشرع فى وقت النهى لغير عذر كما قلنا فى الفجر فان هذا تناقض
وبالجملة جواز الصلاة وقت الزوال يوم الجمعة على أصل أحمد أظهر منه على أصل غيره فانه يجوز الجمعة وقت الزوال ولا يجعل
____________________
(23/208)
ذلك وقت نهى بل قد قيل فى مذهبه انها لا تجوز الا فى ذلك الوقت وهو الوقت الذى هو وقت نهى فى غيرها فعلم الفرق بين الجمعة وغيرها وكما أن الابراد المأمور به فى غيرها لا يؤمر به فيها بل ينهى عنه وهو معلل بأن شدة الحر من فيح جهنم فكذلك قد علل بأنه حينئذ تسجر جهنم وهذا من جنس قوله ( فان شدة الحر من فيح جهنم (
واذا كانت مختصة بما سوى يوم الجمعة فكذلك الأخرى وعلى مقتضى هذه العلة لا ينهى عن الصلاة وقت الزوال لا فى الشتاء ولا يوم الجمعة ويؤيد ذلك ما فى السنن عن النبى ( ( أنه نهى عن الصلاة نصف النهار الا يوم الجمعة ( وهو أرجح مما احتجوا به على أن النهى فى الفجر معلق بالوقت والله اعلم
وقال شيخ الإسلام
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
____________________
(23/209)
( فصل (
فى أن ذوات الأسباب تفعل فى أوقات النهى فقد كتبنا فيما تقدم فى الاسكندرية وغيرها كلاما مبسوطا فى أن هذا أصح قولى العلماء وهو مذهب الشافعى وأحمد فى احدى الروايتين عنه اختارها أبو الخطاب
وكنا قبل متوقفين لبعض الأدلة التى احتج بها المانعون فلما بحثنا عن حقيقتها وجدناها أحاديث ضعيفة أو غير دالة وذكرنا أن الدلائل على ذلك متعددة
منها أن أحاديث الأمر بذوات الأسباب كقوله ( اذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين عام محفوظ لا خصوص فيه وأحاديث النهى ليس فيها حديث واحد عام بل كلها مخصوصة فوجب تقديم العام الذى لا خصوص فيه فانه حجة باتفاق السلف والجمهور القائلين بالعموم بخلاف الثانى وهو أقوى منه بلا ريب
ومنها أنه قد ثبت أن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أمر بصلاة
____________________
(23/210)
تحية المسجد للداخل عند الخطبة هنا بلا خلاف عنه لثبوت النص به والنهى عن الصلاة فى هذا الوقت أشد بلا ريب فاذا فعلت هناك فهنا أولى
ومنها أن حديث بن عمر فى الصحيحين لفظه ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ( والتحرى هو التعمد والقصد وهذا انما يكون فى التطوع المطلق فأما ما له سبب فلم يتحره بل فعله لأجل السبب والسبب ألجأه إليه وهذا اللفظ المقيد المفسر يفسر سائر الألفاظ ويبين أن النهى انما كان عن التحرى ولو كان عن النوعين لم يكن للتخصيص فائدة ولكان الحكم قد علق بلفظ عديم التأثير
ومنها أنه قد ثبت جواز بعض ذوات الأسباب بعضها بالنص كالركعة الثانية من الفجر وكركعتى الطواف وكالمعادة مع إمام الحى وبعضها بالنص والاجماع كالعصر عند الغروب وكالجنازة بعد العصر واذا نظر فى المقتضى للجواز لم توجد له علة صحيحة الا كونها ذات سبب فيجب تعليق الحكم بذلك والا فما الفرق بين المعادة وبين تحية المسجد والأمر بهذه أصح وكذلك الكسوف قد أمر بها فى أحاديث كثيرة صحيحة
____________________
(23/211)
والمقصود هنا أن نقول الصلاة فى وقت النهى لا تخلو أن تكون مفسدة محضة لا تشرع بحال كالسجود للشمس نفسها أو يكون مما يشرع فى حال دون حال والأول باطل لأنه قد ثبت بالنص والاجماع أن العصر تصلى وقت الغروب قبل سقوط القرص كله وثبت فى الصحيحين قوله ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك ( والأول قد اتفق عليه والثانى قول الجمهور
وأبو حنيفة يفرق بين الفجر والعصر ويقول اذا طلعت الشمس بطلت الصلاة لأنها تبقى منهيا عنها فائتة والعصر اذا غربت الشمس دخل فى وقت الجواز لا فى وقت النهى وقد ضعف أحمد والجمهور هذا الفرق وقالوا الكلام فى العصر وقت الغروب فانه وقت نهى كما أن ما بعد الطلوع وقت نهى وليس له أن يؤخر العصر إلى هذا الوقت لكن يكون له عذر كالحائض تطهر والنائم يستيقظ ولو قدر أنه أخرها من غير عذر فهو مأمور بفعلها فى وقت النهى مع امكان أن يصليها بعد الغروب فاذا قيل صلاتها فى الوقت فرض قيل وقضاء الفائتة على الفور فرض لقوله ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها لا كفارة لها الا ذلك
____________________
(23/212)
وأيضا فاذا صلى ركعة من الفجر قبل الطلوع فقد شرع فيها قبل وقت النهى فهو أخف من ابتدائها وقت النهى مع أن هذا جائز عند الجمهور واذا ثبت أن الصلاة فى أغلظ أوقات النهى وهو وقت الطلوع والغروب ليس مفسدة محضة لا تشرع بحال بل تشرع فى بعض الأحوال علم أن وجود بعض الصلوات فى هذه الأوقات لا يوجب مفسدة النهى اذ لو وجدت لما جاز شيء من الصلوات
واذا كان كذلك فالشرع قد استقر على أن الصلاة بل العبادة التى تفوت اذا أخرت تفعل بحسب الامكان فى الوقت ولو كان فى فعلها من ترك الواجب وفعل المحظور ما لا يسوغ عند امكان فعله فى الوقت مثل الصلاة بلا قراءة وصلاة العريان وصلاة المريض وصلاة المستحاضة ومن به سلس البول والصلاة مع الحدث بلا اغتسال ولا وضوء والصلاة إلى غير القبلة وأمثال ذلك من الصلوات التى لا يحرم فعلها اذا قدر أن يفعلها على الوجه المأمور به فى الوقت ثم انه يجب عليه فعلها فى الوقت مع النقص لئلا يفوت وان أمكن فعلها بعد الوقت على وجه الكمال فعلم أن اعتبار الوقت فى الصلاة مقدم على سائر واجباتها وهذا فى التطوع كذلك فانه اذا لم يمكنه أن يصلى الا عريانا أو إلى غير القبلة أو مع سلس البول صلى كما
____________________
(23/213)
يصلى الفرض لأنه لو لم يفعل الا مع الكمال تعذر فعله فكان فعله مع النقص خيرا من تعطيله
واذا كان كذلك فذوات الأسباب ان لم تفعل وقت النهى فاتت وتعطلت وبطلت المصلحة الحاصلة به بخلاف التطوع المطلق فان الأوقات فيها سعة فاذا ترك فى أوقات النهى حصلت حكمة النهى وهو قطع للتشبه بالمشركين الذين يسجدون للشمس فى هذا الوقت وهذه الحكمة لا يحتاج حصولها إلى المنع من جميع الصلوات كما تقدم بل يحصل المنع من بعضها فيكفى التطوع المطلق
وأيضا فالنهى عن الصلاة فيها هو من باب سد الذرائع لئلا يتشبه بالمشركين فيفضى إلى الشرك وما كان منهيا عنه لسد الذريعة لا لأنه مفسدة فى نفسه يشرع اذا كان فيه مصلحة راجحة ولا تفوت المصلحة لغير مفسدة راجحة والصلاة لله فيه ليس فيها مفسدة بل هي ذريعة إلى المفسدة فاذا تعذرت المصلحة الا بالذريعة شرعت واكتفى منها اذا لم يكن هناك مصلحة وهو التطوع المطلق فانه ليس فى المنع منه مفسدة ولا تفويت مصلحة لامكان فعله فى سائر الأوقات
وهذا أصل لأحمد وغيره فى أن ما كان من ( باب سد الذريعة ( انما ينهى عنه اذا لم يحتج إليه وأما مع الحاجة للمصلحة التى لا تحصل الا به وقد ينهى عنه ولهذا يفرق فى العقود بين الحيل وسد الذرائع فالمحتال
____________________
(23/214)
يقصد المحرم فهذا ينهى عنه واما الذريعة فصاحبها لا يقصد المحرم لكن اذا لم يحتج اليها نهى عنها وأما مع الحاجة فلا
وأما مالك فانه يبالغ فى سد الذرائع حتى ينهى عنها مع الحاجة اليها
و ( ذوات الأسباب ( كلها تفوت اذا أخرت عن وقت النهى مثل سجود التلاوة وتحية المسجد وصلاة الكسوف ومثل الصلاة عقب الطهارة كما فى حديث بلال وكذلك صلاة الاستخارة اذا كان الذى يستخير له يفوت اذا أخرت الصلاة وكذلك صلاة التوبة فاذا أذنب فالتوبة واجبة على الفور وهو مندوب إلى أن يصلى ركعتين ثم يتوب كما فى حديث أبى بكر الصديق ونحو قضاء السنن الرواتب كما قضى النبى ( ( ركعتى الظهر بعد العصر وكما أقر الرجل على قضاء ركعتى الفجر بعد الفجر مع أنه يمكن تأخيرها لكن تفوت مصلحة المبادرة إلى القضاء فان القضاء مأمور به على الفور فى الواجب واجب وفى المستحب مستحب
والشافعى يجوز القضاء فى وقت النهى وان كان لا يوجب تعجيله لأنها من ذوات الأسباب وهى مع هذا لا تفوت بفوات
____________________
(23/215)
الوقت لكن يفوت فضل تقديمها وبراءة الذمة كما جاز فعل الصلاة فى أول الوقت للعريان والمتيمم وان أمكن فعلها آخر الوقت بالوضوء والسترة لكن هو محتاج إلى براءة ذمته فى الواجب ومحتاج فى السنن الرواتب إلى تكميل فرضه فان الرواتب مكملات للفرض ومحتاج إلى أن لا يزيد التفويت فانه مأمور بفعلها فى الوقت فكلما قرب كان أقرب إلى الأمر مما يبعد منه
وقد قال النبى ( ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ( فيقربها من الوقت ما استطاع والشيخ أبو محمد المقدسى يجوز فعل الرواتب فى أوقات النهى موافقة لأبى الخطاب لكن ابو الخطاب يعمم كالشافعى وهو الصواب
فان قيل فالتطوع المطلق يفوت من قصده عمارة الأوقات كلها بالصلاة قيل هذا ليس بمشروع بل هو منهى عنه ولا يمكن بشرا أن يصلى دائما جميع النهار والليل بل لابد له من وقت راحة ونوم وقد ثبت فى الصحيحين أن رجالا قال أحدهم أنا أصوم ولا أفطر وقال الآخر وأنا أقوم لا أنام وقال الآخر لا أتزوج النساء وقال الآخر لا آكل اللحم فقال النبى
____________________
(23/216)
( لكنى أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى ( بل قد قيل إن من جملة حكمة النهى عن التطوع المطلق فى بعض الأوقات اجمام النفوس فى وقت النهى لتنشط للصلاة فانها تنبسط إلى ما كانت ممنوعة منه وتنشط للصلاة بعد الراحة والله أعلم
____________________
(23/217)
وسئل
عمن رأى رجلا يتنفل فى وقت نهى فقال نهى النبى ( ( عن الصلاة فى هذا الوقت وذكر له الحديث الوارد فى الكراهة فقال هذا لا أسمعه وأصلى كيف شئت فما الذى يجب عليه
فأجاب الحمد لله أما التطوع الذى لا سبب له فهو منهى عنه بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس باتفاق الأئمة وكان عمر بن الخطاب يضرب من يصلى بعد العصر فمن فعل ذلك فانه يعزر اتباعا لما سنه عمر بن الخطاب أحد الخلفاء الراشدين اذ قد تواترت الأحاديث عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( بالنهى عن ذلك
وأما ما له سبب كتحية المسجد وصلاة الكسوف فهذا فيه نزاع وتأويل فان كان يصلى صلاة يسوغ فيها الاجتهاد لم يعاقب
واما رده الأحاديث بلا حجة وشتم الناهى وقوله للناهى
____________________
(23/218)
أصلى كيف شئت فانه يعزر على ذلك اذ الرجل عليه أن يصلى كما يشرع له لا كما يشاء هو والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن الرجل اذا دخل المسجد فى وقت النهى هل يجوز أن يصلى تحية المسجد
فأجاب الحمد لله هذه المسألة فيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد
( أحدهما ( وهو قول أبى حنيفة ومالك أنه لا يصليها ( والثانى ( وهو قول الشافعى أنه يصليها وهذا أظهر فان النبى ( ( قال ( اذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين ( وهذا أمر يعم جميع الأوقات ولم يعلم أنه خص منه صورة من الصور واما نهيه عن الصلاة بعد طلوع الفجر وبعد غروبها فقد خص منه صور متعددة منها قضاء الفوائت ومنها ركعتا الطواف ومنها المعادة مع إمام الحى وغير ذلك والعام المحفوظ مقدم على العام المخصوص
____________________
(23/219)
وايضا فان الصلاة وقت الخطبة منهى عنها كالنهى فى هذين الوقتين أو أوكد ثم قد ثبت فى الصحيح عن النبى ( ( أنه قال ( اذا دخل أحدكم المسجد والخطيب على المنبر فلا يجلس حتى يصلى ركعتين ( فاذا كان قد أمر بالتحية فى هذا الوقت وهو وقت نهى فكذلك الوقت الآخر بطريق الأولى ولم يختلف قول أحمد فى هذا لمجيء السنة الصحيحة به بخلاف أبى حنيفة ومالك فان مذهبهما فى الموضعين النهى فانه لم تبلغهما هذه السنة الصحيحة والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن تحية المسجد ( هل تفعل ( فى أوقات النهى أم لا فأجاب قال النبى ( صلى الله عليه وسلم ( اذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين ( فاذا دخل وقت نهى فهل يصلى على قولين للعلماء لكن أظهرهما أنه يصلى فان نهى النبى ( ( عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر قد خص من صور كثيرة وخص من نظيره وهو وقت الخطبة بان النبى ( ( قال ( اذا دخل أحدكم المسجد والامام يخطب فلا
____________________
(23/220)
يجلس حتى يصلى ركعتين ( فاذا أمر بالتحية وقت الخطبة ففى هذه الأوقات أولى والله أعلم
وسئل
عن رجل اذا توضأ قبل طلوع الشمس وقبل الغروب وقد صلى الفجر فهل يجوز له أن يصلى شكرا للوضوء فأجاب هذا فيه نزاع والأشبه أن يفعل لحديث بلال
____________________
(23/221)
باب صلاة الجماعة سئل رحمه الله عن صلاة الجماعة هل هي فرض عين أم فرض كفاية أم سنة فان كانت فرض عين وصلى وحده من غير عذر فهل تصح صلاته أم لا وما أقوال العلماء فى ذلك وما حجة كل منهم وما الراجح من أقوالهم
فأجاب الحمد لله رب العالمين اتفق العلماء على أنها من أوكد العبادات وأجل الطاعات وأعظم شعائر الاسلام وعلى ما ثبت فى فضلها عن النبى ( ( حيث قال ( تفضل صلاة الرجل فى الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة ( هكذا فى حديث أبى هريرة وأبى سعيد بخمس وعشرين ومن حديث بن عمر بسبع وعشرين والثلاثة فى الصحيح
وقد جمع بينهما بأن حديث الخمس والعشرين ذكر فيه الفضل
____________________
(23/222)
الذى بين صلاة المنفرد والصلاة فى الجماعة والفضل خمس وعشرون وحديث السبعة والعشرين ذكر فيه صلاته منفردا وصلاته فى الجماعة والفضل بينهما فصار المجموع سبعا وعشرين ومن ظن من المتنسكة أن صلاته وحده أفضل اما فى خلوته واما فى غير خلوته فهو مخطىء ضال وأضل منه من لم ير الجماعة الا خلف الامام المعصوم
فعطل المساجد عن الجمع والجماعات التى أمر الله بها ورسوله وعمر المساجد بالبدع والضلالات التى نهى الله عنها ورسوله وصار مشابها لمن نهى عن عبادة الرحمن وأمر بعبادة الأوثان
فان الله سبحانه شرع الصلاة وغيرها فى المساجد كما قال تعالى ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى فى خرابها ( وقال تعالى ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد ( وقال تعالى ( قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ( وقال تعالى ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ( إلى قوله ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ( وقال تعالى ( فى بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ( الآية وقال تعالى ( وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا
____________________
(23/223)
( وقال تعالى ( ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا (
وأما مشاهد القبور ونحوها فقد اتفق ائمة المسلمين على أنه ليس من دين الاسلام أن تخص بصلاة أو دعاء أو غير ذلك ومن ظن أن الصلاة والدعاء والذكر فيها أفضل منه فى المساجد فقد كفر بل قد تواترت السنن فى النهى عن اتخاذها لذلك كما ثبت فى الصحيحين أنه قال ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( يحذر ما فعلوا قالت عائشة ( ولولا ذلك لابرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا ( وفى الصحيحين ايضا أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الحسن والتصاوير فقال ( أولئك اذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ( وثبت عنه فى صحيح مسلم من حديث جندب أنه قال قبل أن يموت بخمس ( ان من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد الا فلا تتخذوا القبور مساجد فانى أنهاكم عن ذلك (
وفى المسند عنه أنه قال ( ان من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد ( وفى موطأ مالك عنه أنه قال ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( وفى السنن عنه أنه قال ( لا تتخذوا
____________________
(23/224)
قبرى عيدا وصلوا على حيثما كنتم فان صلاتكم تبلغنى (
والمقصود هنا أن أئمة المسلمين متفقون على أن اقامة الصلوات الخمس فى المساجد هي من أعظم العبادات وأجل القربات ومن فضل تركها عليها ايثارا للخلوة والانفراد على الصلوات الخمس فى الجماعات أو جعل الدعاء والصلاة فى المشاهد أفضل من ذلك فى المساجد فقد انخلع من ربقة الدين واتبع غير سبيل المؤمنين ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (
ولكن تنازع العلماء بعد ذلك فى كونها واجبة على الاعيان أو على الكفاية أو سنة مؤكدة على ثلاثة أقوال
فقيل هي سنة مؤكدة فقط وهذا هو المعروف عن أصحاب أبى حنيفة وأكثر أصحاب مالك وكثير من أصحاب الشافعى ويذكر رواية عن أحمد
وقيل هي واجبة على الكفاية وهذا هو المرجح فى مذهب الشافعى وقول بعض أصحاب مالك وقول فى مذهب أحمد
وقيل هي واجبة على الاعيان وهذا هو المنصوص عن أحمد
____________________
(23/225)
وغيره من أئمة السلف وفقهاء الحديث وغيرهم وهؤلاء تنازعوا فيما اذا صلى منفردا لغير عذر هل تصح صلاته على قولين
( أحدهما ( لا تصح وهو قول طائفة من قدماء اصحاب أحمد ذكره القاضي أبو يعلى فى شرح المذهب عنهم وبعض متأخريهم كابن عقيل وهو قول طائفة من السلف واختاره بن حزم وغيره
( والثانى ( تصح مع اثمه بالترك وهذا هو المأثور عن أحمد وقول أكثر اصحابه
والذين نفوا الوجوب احتجوا بتفضيل النبى ( ( صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده قالوا ولو كانت واجبة لم تصح صلاة المنفرد ولم يكن هناك تفضيل وحملوا ما جاء من هم النبى ( ( بالتحريق على من ترك الجمعة أو على المنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة مع النفاق وان تحريقهم كان لأجل النفاق لا لأجل ترك الجماعة مع الصلاة فى البيوت
وأما الموجبون فاحتجوا بالكتاب والسنة والآثار
( أما الكتاب ( فقوله تعالى ( واذا كنت فيهم فاقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ( الآية وفيها دليلان
____________________
(23/226)
( أحدهما ( أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه فى صلاة الخوف وذلك دليل على وجوبها حال الخوف وهو يدل بطريق الأولى على وجوبها حال الأمن
( الثانى ( أنه سن صلاة الخوف جماعة وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر كاستدبار القبلة والعمل الكثير فانه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق وكذلك مفارقة الامام قبل السلام عند الجمهور وكذلك التخلف عن متابعة الامام كما يتأخر الصف المؤخر بعد ركوعه مع الامام اذا كان العدو أمامهم قالوا وهذه الأمور تبطل الصلاة لو فعلت لغير عذر فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبة لكان قد التزم فعل محظور مبطل للصلاة وتركت المتابعة الواجبة فى الصلاة لأجل فعل مستحب مع أنه قد كان من الممكن أن يصلوا وحدانا صلاة تامة فعلم أنها واجبة
وايضا فقوله تعالى ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ( اما أن يراد به المقارنة بالفعل وهى الصلاة جماعة واما أن يراد به ما يراد بقوله ( وكونوا مع الصادقين ( فان أريد الثانى لم يكن فرق بين قوله صلوا مع المصلين وصوموا مع الصائمين ( واركعوا مع الراكعين ( والسياق يدل على اختصاص الركوع بذلك
____________________
(23/227)
فان قيل فالصلاة كلها تفعل مع الجماعة قيل خص الركوع بالذكر لأنه تدرك به الصلاة فمن ادرك الركعة فقد أدرك السجدة فامر بما يدرك به الركعة كما قال لمريم ( اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين ( فانه لو قيل اقنتى مع القانتين لدل على وجوب ادراك القيام ولو قيل اسجدى لم يدل على وجوب ادراك الركوع بخلاف قوله ( واركعى مع الراكعين ( فانه يدل على الأمر بادراك الركوع وما بعده دون ما قبله وهو المطلوب
( وأما السنة ( فالأحاديث المستفيضة فى الباب مثل حديث أبى هريرة المتفق عليه عنه ( ( أنه قال ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلى بالناس ثم أنطلق إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ( فهم بتحريق من لم يشهد الصلاة وفى لفظ قال ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر ولو يعلمون ما فيهما لأوتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ( الحديث
وفى المسند وغيره ( لولا ما فى البيوت من النساء والذرية لأمرت أن تقام الصلاة ( الحديث فبين ( ( أنه هم بتحريق البيوت على من لم يشهد الصلاة وبين أنه انما منعه من ذلك من فيها من النساء والذرية فانهم لا يجب عليهم شهود الصلاة وفى تحريق البيوت قتل من لا يجوز قتله وكان ذلك بمنزلة اقامة الحد على الحبلى
____________________
(23/228)
وقد قال سبحانه وتعالى ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله فى رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ( ومن حمل ذلك على ترك شهود الجمعة فسياق الحديث يبين ضعف قوله حيث ذكر صلاة العشاء والفجر ثم أتبع ذلك بهمه بتحريق من لم يشهد الصلاة
وأما من حمل العقوبة على النفاق لا على ترك الصلاة فقوله ضعيف لأوجه ( أحدها ( أن النبى ( ( ما كان يقيل المنافقين الا على الأمور الباطنة وانما يعاقبهم على ما يظهر منهم من ترك واجب أو فعل محرم فلولا أن فى ذلك ترك واجب لما حرقهم
( الثانى ( أنه رتب العقوبة على ترك شهود الصلاة فيجب ربط الحكم بالسبب الذى ذكره
( الثالث ( أنه سيأتى ان شاء الله حديث بن أم مكتوم حيث استاذنه أن يصلى فى بيته فلم يأذن له وبن أم مكتوم رجل مؤمن من خيار المؤمنين أثنى عليه القرآن وكان النبى ( صلى الله عليه وسلم ( يستخلفه على المدينة وكان يؤذن للنبى ( صلى الله عليه
____________________
(23/229)
وسلم ( الرابع ( أن ذلك حجة على وجوبها أيضا كما قد ثبت فى صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال ( من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فان الله شرع لنبيه سنن الهدى وان هذه الصلوات الخمس فى المساجد التى ينادى بهن من سنن الهدى وانكم لو صليتم فى بيوتكم كما صلى هذا المتخلف فى بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها الا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام فى الصف (
فقد أخبر عبد الله بن مسعود أنه لم يكن يتخلف عنها الا منافق معلوم النفاق وهذا دليل على استقرار وجوبها عند المؤمنين ولم يعلموا ذلك الا من جهة النبى ( صلى الله عليه وسلم ( اذ لو كانت عندهم مستحبة كقيام الليل والتطوعات التى مع الفرائض وصلاة الضحى ونحو ذلك كان منهم من يفعلها ومنهم من لا يفعلها مع ايمانه كما قال له الأعرابى والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص منه فقال ( افلح ان صدق ( ومعلوم أن كل أمر كان لا يتخلف عنه الا منافق كان واجبا على الأعيان كخروجهم إلى غزوة تبوك فان النبى ( صلى
____________________
(23/230)
الله عليه وسلم ( أمر به المسلمين جميعا لم ياذن لأحد فى التخلف الا من ذكر أن له عذرا فاذن له لأجل عذره ثم لما رجع كشف الله أسرار المنافقين وهتك أستارهم وبين أنهم تخلفوا لغير عذر والذين تخلفوا لغير عذر مع الايمان عوقبوا بالهجر حتى هجران نسائهم لهم حتى تاب الله عليهم
( فان قيل ( فأنتم اليوم تحكمون بنفاق من تخلف عنها وتجوزون تحريق البيوت عليه اذا لم يكن فيها ذرية
قيل له من الأفعال ما يكون واجبا ولكن تأويل المتأول يسقط الحد عنه وقد صار اليوم كثير ممن هو مؤمن لا يراها واجبة عليه فيتركها متأولا وفى زمن النبى ( ( لم يكن لأحد تأويل لأن النبى ( ( قد باشرهم بالايجاب
وأيضا كما ثبت فى الصحيح والسنن ( ان اعمى استأذن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أن يصلى فى بيته فأذن له فلما ولى دعاه فقال هل تسمع النداء قال نعم قال فأجب ( فأمره بالاجابة اذا سمع النداء ولهذا أوجب أحمد الجماعة على من سمع النداء وفى لفظ فى السنن ( ان بن أم مكتوم قال يا رسول الله انى رجل شاسع الدار وان المدينة كثيرة الهوام ولى قائد لا يلائمنى فهل تجد لى رخصة ان
____________________
(23/231)
أصلى فى بيتى فقال ( هل تسمع النداء قال نعم قال لا أجد لك رخصة ( وهذا نص فى الايجاب للجماعة مع كون الرجل مؤمنا
وأما احتجاجهم بتفضيل صلاة الرجل فى الجماعة على صلاته وحده فعنه جوابان مبنيان على صحة صلاة المنفرد لغير عذر فمن صحح صلاته قال الجماعة واجبة وليست شرطا فى الصحة كالوقت فانه لو أخر العصر إلى وقت الاصفرار كان آثما مع كون الصلاة صحيحة بل وكذلك لو أخرها إلى أن يبقى مقدار ركعة كما ثبت فى الصحيح ( من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر ( قال والتفضيل لا يدل على أن المفضول جائز فقد قال تعالى ( اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ( فجعل السعى إلى الجمعة خيرا من البيع والسعى واجب والبيع حرام وقال تعالى ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم (
ومن قال لا تصح صلاة المنفرد الا لعذر احتج بأدلة الوجوب قال وما ثبت وجوبه فى الصلاة كان شرطا فى الصحة كسائر الواجبات
____________________
(23/232)
وأما الوقت فانه لا يمكن تلافيه فاذا فات لم يمكن فعل الصلاة فيه فنظير ذلك فوت الجمعة وفوت الجماعة التى لا يمكن استدراكها فاذا فوت الجمعة الواجبة كان آثما وعليه الظهر إذ لا يمكن سوى ذلك وكذلك من فوت الجماعة الواجبة التى يجب عليه شهودها وليس هناك جماعة أخرى فانه يصلى منفردا وتصح صلاته هنا لعدم امكان صلاته جماعة كما تصح الظهر ممن تفوته الجمعة
وليس وجوب الجماعة بأعظم من وجوب الجمعة وانما الكلام فيمن صلى فى بيته منفردا لغير عذر ثم اقيمت الجماعة فهذا عندهم عليه أن يشهد الجماعة كمن صلى الظهر قبل الجمعة عليه أن يشهد الجمعة
واستدلوا على ذلك بحديث أبى هريرة الذى فى السنن عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له ( ويؤيد ذلك قوله ( لا صلاة لجار المسجد الا فى المسجد ( فان هذا معروف من كلام على وعائشة وأبى هريرة وبن عمر وقد رواه الدارقطنى مرفوعا إلى النبى ( ( وقوى ذلك بعض الحفاظ قالوا ولا يعرف فى كلام الله ورسوله حرف النفى دخل على فعل شرعى الا لترك واجب فيه كقوله ( لا صلاة الا بأم القرآن ( و ( لا ايمان لمن لا أمانة له ( ونحو ذلك
____________________
(23/233)
وأجاب هؤلاء عن حديث التفضيل بأن قالوا هو محمول على المعذور كالمريض ونحوه فان هذا بمنزلة قوله ( ( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد ( وان تفضيله صلاة الرجل فى جماعة على صلاته وحده كتفضيله صلاة القائم على صلاة القاعد ومعلوم أن القيام واجب فى صلاة الفرض دون النفل كما أن الجماعة واجبة فى صلاة الفرض دون النفل
وتمام الكلام فى ذلك أن العلماء تنازعوا فى هذا الحديث وهو هل المراد بهما المعذور أو غيره على قولين
فقالت طائفة المراد بهما غير المعذور قالوا لأن المعذور أجره تام بدليل ما ثبت فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قال ( اذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم ( قالوا فاذا كان المريض والمسافر يكتب لهما ما كانا يعملان فى الصحة والاقامة فكيف تكون صلاة المعذور قاعدا أو منفردا دون صلاته فى الجماعة قاعدا وحمل هؤلاء تفضيل صلاة القائم على النفل دون الفرض لأن القيام فى الفرض واجب
ومن قال هذا القول لزمه أن يجوز تطوع الصحيح مضطجعا لأنه قد ثبت أنه قال ( ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ( وقد
____________________
(23/234)
طرد هذا الدليل طائفة من متأخرى أصحاب الشافعى وأحمد وجوزوا أن يتطوع الرجل مضطجعا لغير عذر لأجل هذا الحديث ولتعذر حمله على المريض كما تقدم
ولكن أكثر العلماء أنكروا ذلك وعدوه بدعة وحدثا فى الاسلام وقالوا لا يعرف أن أحدا قط صلى فى الاسلام على جنبه وهو صحيح ولو كان هذا مشروعا لفعله المسلمون على عهد نبيهم ( ( أو بعده ولفعله النبى ( ( ولو مرة لتبيين الجواز فقد كان يتطوع قاعدا ويصلى على راحلته قبل أى وجه توجهت ويوتر عليها غير أنه لا يصلى عليها المكتوبة فلو كان هذا سائغا لفعله ولو مرة أو لفعله أصحابه وهؤلاء الذين أنكروا هذا مع ظهور حجتهم قد تناقض من لم يوجب الجماعة منهم حيث حملوا قوله ( تفضل صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة ( على أنه أراد غير المعذور فيقال لهم لم كان التفضيل هنا فى حق غير المعذور والتفضيل هناك فى حق المعذور وهل هذا الا تناقض
وأما من أوجب الجماعة وحمل التفضيل على المعذور فطرد دليله وحينئذ فلا يكون فى الحديث حجة على صحة صلاة المنفرد لغير عذر
____________________
(23/235)
وأما ما احتج به منازعهم من قوله ( اذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم ( فجوابهم عنه أن هذا الحديث دليل على أنه يكتب له مثل الثواب الذى كان يكتب له فى حال الصحة والاقامة لأجل نيته له وعجزه عنه بالعذر
وهذه ( قاعدة الشريعة ( أن من كان عازما على الفعل عزما جازما وفعل ما يقدر عليه منه كان بمنزلة الفاعل فهذا الذى كان له عمل فى صحته واقامته عزمه أنه يفعله وقد فعل فى المرض والسفر ما أمكنه فكان بمنزلة الفاعل كما جاء فى السنن فيمن تطهر فى بيته ثم ذهب إلى المسجد يدرك الجماعة فوجدها قد فاتت أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة وكما ثبت فى الصحيح من قوله ( ( ( إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا الا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر ( وقد قال تعالى ( لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ( الآية فهذا ومثله يبين أن المعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح اذا كانت نيته أن يفعل وقد عمل ما يقدر عليه وذلك لا يقتضى أن يكون نفس عمله مثل عمل الصحيح فليس فى الحديث أن صلاة المريض نفسها فى الأجر مثل صلاة الصحيح ولا أن صلاة المنفرد المعذور فى نفسها مثل صلاة الرجل فى الجماعة
____________________
(23/236)
وانما فيه أن يكتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم كما يكتب له أجر صلاة الجماعة اذا فاتته مع قصده لها
وأيضا فليس كل معذور يكتب له مثل عمل الصحيح وانما يكتب له اذا كان يقصد عمل الصحيح ولكن عجز عنه فالحديث يدل على أنه من كان عادته الصلاة فى جماعة والصلاة قائما ثم ترك ذلك لمرضه فانه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم وكذلك من تطوع على الراحلة فى السفر وقد كان يتطوع فى الحضر قائما يكتب له ما كان يعمل فى الاقامة فأما من لم تكن عادته الصلاة فى جماعة ولا الصلاة قائما اذا مرض فصلى وحده أو صلى قاعدا فهذا لا يكتب له مثل صلاة المقيم الصحيح
ومن حمل الحديث على غير المعذور يلزمه أن يجعل صلاة هذا قاعدا مثل صلاة القائم وصلاته منفردا مثل الصلاة فى جماعة وهذا قول باطل لم يدل عليه نص ولا قياس ولا قاله أحد
وأيضا فيقال تفضيل النبى ( ( لصلاة الجماعة على صلاة المنفرد ولصلاة القائم على القاعد والقاعد على المضطجع انما دل على فضل هذه الصلاة على هذه الصلاة حيث يكون كل من الصلاتين صحيحة
____________________
(23/237)
أما كون هذه الصلاة المفضولة تصح حيث تصح تلك أو لا تصح فالحديث لم يدل عليه بنفى ولا اثبات ولا سيق الحديث لأجل بيان صحة الصلاة وفسادها بل وجوب القيام والقعود وسقوط ذلك ووجوب الجماعة وسقوطها يتلقى من أدلة أخر وكذلك أيضا كون هذا المعذور يكتب له تمام عمله أو لا يكتب له لم يتعرض له هذا الحديث بل يتلقى من أحاديث أخر وقد بينت سائر النصوص أن تكميل الثواب هو لمن كان يعمل العمل الفاضل وهو صحيح مقيم لا لكل أحد
وتثبت نصوص أخر وجوب القيام فى الفرض كقوله ( ( لعمران بن حصين ( صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطع فعلى جنب ( وبين جواز التطوع قاعدا لما رآهم وهم يصلون قعودا فأقرهم على ذلك وكان يصلى قاعدا مع كونه كان يتطوع على الراحلة فى السفر كذلك تثبت نصوص أخر وجوب الجماعة فيعطى كل حديث حقه فليس بينها تعارض ولا تناف وانما يظن التعارض والتنافى من حملها ما لا تدل عليه ولم يعطها حقها بسوء نظره وتأويله والله أعلم
____________________
(23/238)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله
عن مسائل يكثر وقوعها ويحصل الابتلاء بها والضيق والحرج على رأى امام بعينه منها ( مسألة الجماعة للصلاة ( هل هي واجبة أم سنة واذا قلنا واجبة هل تصح الصلاة بدونها مع القدرة عليها
فأجاب وأما الجماعة فقد قيل انها سنة وقيل انها واجبة على الكفاية وقيل انها واجبة على الأعيان وهذا هو الذى دل عليه الكتاب والسنة فان الله أمر بها فى حال الخوف ففى حال الأمن أولى وآكد
وأيضا فقد قال تعالى ( واركعوا مع الراكعين ( وهذا أمر بها
وأيضا فقد ثبت فى الصحيح أن بن أم مكتوم سأل النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أن يرخص له أن يصلى فى بيته فقال ( هل تسمع النداء قال نعم قال فأجب ( وفى رواية ( ما أجد لك رخصة ( وبن أم مكتوم كان رجلا صالحا وفيه نزل قوله تعالى
____________________
(23/239)
( عبس وتولى أن جاءه الأعمى ( وكان من المهاجرين ولم يكن من المهاجرين من يتخلف عنها الا منافق فعلم أنه لا رخصة لمؤمن فى تركها وأيضا فقد ثبت عنه فى الصحاح أنه قال ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا يصلى بالناس ثم أنطلق معى برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ( وفى رواية ( لولا ما فى البيوت من النساء والذرية ( فبين أنه انما يمنعه من تحريق المتخلفين عن الجماعة من فى البيوت من النساء والأطفال فان تعذيب أولئك لا يجوز لأنه لا جماعة عليهم
ومن قال إن هذا كان فى الجمعة أو كان لأجل نفاقهم فقوله ضعيف فان المنافقين لم يكن النبى ( ( يقتلهم لأجل النفاق بل لا يعاقبهم الا بذنب ظاهر فلولا أن التخلف عن الجماعة ذنب يستحق صاحبه العقاب لما عاقبهم والحديث قد بين فيه التخلف عن صلاة العشاء والفجر وقد تقدم حديث بن أم مكتوم وانه لم يرخص له فى التخلف عن الجماعة وأيضا فان الجماعة يترك لها أكثر واجبات الصلاة فى صلاة الخوف وغيرها فلولا وجوبها لم يؤمر بترك بعض الواجبات لها لأنه لا يؤمر بترك الواجبات لما ليس بواجب
____________________
(23/240)
( فصل (
واذا ترك الجماعة من غير عذر ففيه قولان فى مذهب أحمد وغيره (
أحدهما ( تصح صلاته لقول النبى ( ( تفضل صلاة الرجل فى الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة (
( والثانى ( لا تصح لما فى السنن عن النبى ( ( أنه قال ( من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له ( ولقوله ( لا صلاة لجار المسجد الا فى المسجد ( وقد قواه عبد الحق الاشبيلى
وأيضا فاذا كانت واجبة فمن ترك واجبا فى الصلاة لم تصح صلاته
وحديث التفضيل محمول على حال العذر كما فى قوله ( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة القائم على النصف من صلاة
____________________
(23/241)
القاعد ( وهذا عام فى الفرض والنفل
والانسان ليس له أن يصلى الفرض قاعدا أو نائما الا فى حال العذر وليس له أن يتطوع نائما عند جماهير السلف والخلف الا وجها فى مذهب الشافعى وأحمد
ومعلوم أن التطوع بالصلاة مضطجعا بدعة لم يفعلها أحد من السلف وقوله ( ( اذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ( يدل على أنه يكتب له لأجل نيته وان كان لا يعمل عادته قبل المرض والسفر فهذا يقتضى أن من ترك الجماعة لمرض أو سفر وكان يعتادها كتب له أجر الجماعة وان لم يكن يعتادها لم يكن يكتب له وان كان فى الحالين ان ما له بنفس الفعل صلاة منفرد وكذلك المريض اذا صلى قاعدا أو مضطجعا وعلى هذا القول فاذا صلى الرجل وحده وأمكنه أن يصلى بعد ذلك فى جماعة فعل ذلك وان لم يمكنه فعل الجماعة استغفر الله كمن فاتته الجمعة وصلى ظهرا وان قصد الرجل الجماعة ووجدهم قد صلوا كان له أجر من صلى فى الجماعة كما وردت به السنة عن النبى ( (
واذا أدرك مع الامام ركعة فقد أدرك الجماعة وان أدرك أقل
____________________
(23/242)
من ركعة فله بنيته أجر الجماعة ولكن هل يكون مدركا للجماعة أو يكون بمنزلة من صلى وحده فيه قولان للعلماء فى مذهب الشافعى وأحمد
( أحدهما ( أنه يكون كمن صلى فى جماعة كقول أبى حنيفة
( والثانى ( يكون كمن صلى منفردا كقول مالك وهذا أصح لما ثبت فى الصحيح عن النبى ( ( أنه قال ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ( ولهذا قال الشافعى وأحمد ومالك وجمهور العلماء إنه لا يكون مدركا للجمعة الا بادراك ركعة من الصلاة ولكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون إنه يكون مدركا لها اذا أدركهم فى التشهد
ومن فوائد النزاع فى ذلك أن المسافر اذا صلى خلف المقيم أتم الصلاة اذا ادرك ركعة فان أدرك أقل من ركعة فعلى القولين المتقدمين
والصحيح أنه لا يكون مدركا للجمعة ولا للجماعة الا بادراك ركعة وما دون ذلك لا يعتد له به وانما يفعله متابعة للامام ولو بعد السلام كالمنفرد باتفاق الأئمة
____________________
(23/243)
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه ( فصل (
فأما صلاة الجماعة فاتبع ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة من وجوبها مع عدم العذر وسقوطها بالعذر
وتقديم الأئمة بما قدم به النبى ( ( حيث قال ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فان كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة ( فيفرق بين العلم بالكتاب أو العلم بالسنة كما دل عليه الحديث وانما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض اذ استووا فى المعرفة باقام الصلاة على الوجه المشروع وفعلها على السنة وفى دين الامام الذى يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه فاذا استويا فى كمال الصلاة منهما وخلفهما قدم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة والا ففضل الصلاة فى نفسها مقدم على صفة امامها وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك
____________________
(23/244)
وغيره قد يقول هي سنة مؤكدة وقد يقول هي فرض على الكفاية ولهم فى تقديم الأئمة خلاف ويأمرهم باقامة الصفوف فيها كما أمر به النبى ( صلى الله عليه وسلم ( من سننها الخمس وهى تقويم الصفوف ورصها وتقاربها وسد الأول فالأول وتوسيط الامام حتى ينهى عما نهى عنه النبى ( صلى الله عليه وسلم ( من صلاة المنفرد خلف الصف ويأمره بالاعادة كما أمر به النبى ( ( فى حديثين ثابتين عنه فانه أمر المنفرد خلف الصف بالاعادة كما أمر المسيء فى صلاته بالاعادة وكما أمر المسيء فى وضوئه الذى ترك موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء بالاعادة فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة والاصطفاف فى الصلاة والاتيان باركانها
والذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبى حنيفة ومالك والشافعى منهم من لم يبلغه أو لم يثبت عنده والشافعى رآه معارضا بكون الامام يصلى وحده وبكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم وبحديث أبى بكرة لما ركع دون الصف
وأما أحمد فأصله فى الأحاديث اذا تعارضت فى قضيتين متشابهتين غير متماثلتين فانه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يرد أحدهما
____________________
(23/245)
بالآخر فيقول فى مثل هذه المرأة اذا كانت مع النساء صلت بينهن وأما اذا كانت مع الرجال لم تصل الا خلفهم وان كانت وحدها لأنها منهية عن مصافة الرجال فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم كما أنها اذا صلت بالنساء صلت بينهن لأنه أستر لها كما يصلى امام العراة بينهم وان كانت سنة الرجل الكاسى اذا أم أن يتقدم بين يدى الصف
ونقول ان الامام لا يشبه المأموم فان سنته التقدم لا المصافة وسنة المؤتمين الاصطفاف نعم يدل انفراد الامام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة وهو ما اذا لم يحصل له مكان يصلى فيه الا منفردا فهذا قياس قول أحمد وغيره ولأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالاعذار فليس الاصطفاف الا بعض واجباتها فسقط بالعجز فى الجماعة كما يسقط غيره فيها وفى متن الصلاة
ولهذا كان تحصيل الجماعة فى صلاة الخوف والمرض ونحوهما مع استدبار القبلة والعمل الكثير ومفارقة الامام ومع ترك المريض القيام أولى من أن يصلوا وحدانا ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على الامام عند الحاجة كحال الزحام ونحوه وان كان لا يجوز لغير حاجة وقد روى فى بعض صفات صلاة الخوف
ولهذا سقط عنده وعند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من
____________________
(23/246)
عدل الامام وحل البقعة ونحو ذلك للحاجة فجوزوا بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين وفى الأمكنة المغصوبة اذا أفضى ترك ذلك إلى ترك الجمعة والجماعة أو إلى فتنة فى الأمة ونحو ذلك كما جاء فى حديث جابر ( لا يؤمن فاجر مؤمنا الا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه ( لأن غاية ذلك أن يكون عدل الامام واجبا فيسقط بالعذر كما سقط كثير من الواجبات فى جماعة الخوف بالعذر
ومن اهتدى لهذا الأصل وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر فكذلك الواجبات فى الجماعات ونحوها فقد هدى لما جاءت به السنة من التوسط بين اهمال بعض واجبات الشريعة رأسا كما قد يبتلى به بعضهم وبين الاسراف فى ذلك الواجب حتى يفضى إلى ترك غيره من الواجبات التى هي أوكد منه عند العجز عنه وان كان ذلك الأوكد مقدورا عليه كما قد يبتلى به آخرون فان فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين
وعلى هذا الأصل تنبنى مسائل الهجرة والعزم التى هي أصل ( مسألة الامامة ( بحيث لا يفعل ولا تسع القدرة ولهذا كان أحمد فى المنصوص عنه وطائفة من أصحابه يقول يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل للحاجة كما فى صلاة الخوف وكما لو كان المفترض غير قارئ كما فى
____________________
(23/247)
حديث عمرو بن سلمة ومعاذ ونحو ذلك وان كان لا يجوزه لغير حاجة على احدى الروايتين عنه فأما اذا جوزه مطلقا فلا كلام وان كان من اصحابه من لا يجوزه بحال فصارت الأقوال فى مذهبه وغير مذهبه ثلاثة والمنع مطلقا هو المشهور عن أبى حنيفة ومالك كما أن الجواز مطلقا هو قول الشافعى
ويشبه هذا مفارقة المأموم امامه قبل السلام فعنه ثلاث روايات أوسطها جواز ذلك للحاجة كما تفعل الطائفة الأولى فى صلاة الخوف وكما فعل الذى طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة لما شق عليه طول الصلاة
والثانية المنع مطلقا كقول أبى حنيفة
والثالثة الجواز مطلقا كقول الشافعى ولهذا جوز أحمد على المشهور عنه أن تؤم المرأة الرجال لحاجة مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين فتصلى بهم التراويح كما اذن النبى ( ( لأم ورقة أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذنا وتتأخر خلفهم وان كانوا مأمومين بها للحاجة وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة هذا مع ما روى عنه ( ( من قوله ( لا تؤمن امرأة
____________________
(23/248)
رجلا ( وان المنع من امامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء ولهذا الأصل استعمل أحمد ما استفاض عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( من قوله فى الامام ( اذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ( وأنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض فسقط عن المأمومين القيام لما فى القيام من المفسدة التى أشار اليها النبى ( ( من مخالفة الامام والتشبه بالأعاجم فى القيام له وكذلك عمل أئمة الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودا والناس خلفهم قعود كأسيد بن الحضير ولكن كره هذا لغير الامام الراتب اذ لا حاجة إلى نقص الصلاة فى الائتمام به ولهذا كرهه أيضا اذا مرض الامام الراتب مرضا مزمنا لأنه يتعين حينئذ انصرافه عن الامامة ولم ير هذا منسوخا بكونه فى مرضه صلى فى أثناء الصلاة قاعدا وهم قيام لعدم المنافاة بين ما أمر به وبين ما فعله ولأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته مع شهودهم لفعله
فيفرق بين القعود من أول الصلاة والقعود فى أثنائها اذ يجوز الأمران جميعا اذ ليس فى الفعل تحريم للمأمور به بحال مع ما فى هذه المسائل من الكلام الدقيق الذى ليس هذا موضعه
وانما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التى تعرفها القلوب الصحيحة
____________________
(23/249)
التى دل عليها قوله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ( وقوله ( ( اذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ( وأنه اذا تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما وسقط الآخر بالوجه الشرعى والتنبيه على ضوابط من مآخذ العلماء رضى الله عنهم وسئل
عن أقوام يسمعون الداعى ولم يجيبوا وفيهم من يصلى فى بيته وفيهم من لا تراه يصلى ويراه جماعة من الناس ولا يرونه بالصلاة وحاله لم ترض الله ولا رسوله من جهة الصلاة وغيرها فهل يجوز لمن يراه فى هذه الحالة أن يولى عنه أو يسلم عليه أفتونا مأجورين
وأيضا هل يجوز لرجل اذا كان اماما فى المسجد الذى هو فيه لم يصل فيه الا نفران أو ثلاثة فى بعض الأيام هو يصلى فيه احتسابا وأيضا ان كان يصلى فيه بأجرة لا ما يطلب الصلاة فى غيره الا لأجل فضل الجماعة وهل يجوز ذلك أفتونا يرحمكم الله
فأجاب الصلاة فى الجماعات التى تقام فى المساجد من شعائر الاسلام الظاهرة وسنته الهادية كما فى الصحيح عن بن مسعود أنه قال ( ان هذه الصلوات الخمس فى المسجد الذى تقام فيه الصلاة
____________________
(23/250)
من سنن الهدى وان الله شرع لنبيكم سنن الهدى وانكم لو صليتم فى بيوتكم كما صلى هذا المتخلف فى بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم وما يتخلف عنها الا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجال حتى يقام فى الصف
وفى الصحيح عن النبى ( ( أنه قال ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أنطلق معى برجال معهم حزم من الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ( وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال أتى النبى ( ( رجل أعمى فقال يا رسول الله ليس لى قائد يقودنى إلى المسجد فسأله أن يرخص له أن يصلى فى بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال اتسمع النداء بالصلاة قال نعم قال أجب وفى رواية فى السنن قال أتسمع النداء قال نعم قال لا أجد لك رخصة (
وفى السنن عن بن عباس قال قال رسول الله ( ( من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر قالوا ما العذر قال خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التى صلى ( رواه أبو داود
وصلاة الجماعة من الأمور المؤكدة فى الدين باتفاق المسلمين
____________________
(23/251)
وهى فرض على الأعيان عند أكثر السلف وأئمة أهل الحديث كأحمد واسحاق وغيرهما وطائفة من أصحاب الشافعى وغيرهم وهى فرض على الكفاية عند طوائف من اصحاب الشافعى وغيرهم وهو المرجح عند أصحاب الشافعى
والمصر على ترك الصلاة فى الجماعة رجل سوء ينكر عليه ويزجر على ذلك بل يعاقب عليه وترد شهادته وان قيل انها سنة مؤكدة وأما من كان معروفا بالفسق مضيعا للصلاة فهذا داخل فى قوله ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ( وتجب عقوبته على ذلك بما يدعوه إلى ترك المحرمات وفعل الواجبات
ومن كان اماما راتبا فى مسجد فصلاته فيه اذا لم تقم الجماعة الا به أفضل من صلاته فى غيره وان كان أكثر جماعة
ومن عرف منه التظاهر بترك الواجبات أو فعل المحرمات فانه يستحق أن يهجر ولا يسلم عليه تعزيرا له على ذلك حتى يتوب والله سبحانه أعلم
____________________
(23/252)
وسئل
عن رجل يقتدى به فى ترك صلاة الجماعة
فأجاب من اعتقد أن الصلاة فى بيته أفضل من صلاة الجماعة فى مساجد المسلمين فهو ضال مبتدع باتفاق المسلمين فان صلاة الجماعة اما فرض على الأعيان واما فرض على الكفاية
والادلة من الكتاب والسنة أنها واجبة على الأعيان ومن قال انها سنة مؤكدة ولم يوجبها فانه يذم من داوم على تركها حتى ان من داوم على ترك السنن التى هي دون الجماعة سقطت عدالته عندهم ولم تقبل شهادته فكيف بمن يداوم على ترك الجماعة فانه يؤمر بها باتفاق المسلمين ويلام على تركها فلا يمكن من حكم ولا شهادة ولا فتيا مع اصراره على ترك السنن الراتبة التى هي دون الجماعة فكيف بالجماعة التى هي أعظم شعائر الاسلام والله أعلم
____________________
(23/253)
وسئل
عن رجل جار للمسجد ولم يحضر مع الجماعة الصلاة ويحتج بدكانه فأجاب الحمد لله يؤمر بالصلاة مع المسلمين فان كان لا يصلى فانه يستتاب فان تاب والا قتل واذا ظهر منه الاهمال للصلاة لم يقبل قوله اذا فرغت صليت بل من ظهر كذبه لم يقبل قوله ويلزم بما أمر الله به ورسوله
وسئل
عن رجلين تنازعا فى ( صلاة الفذ ( فقال أحدهما قال ( صلى الله عليه وسلم ( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين ( وقال الآخر ( متى كانت الجماعة فى غير مسجد فهي كصلاة الفذ (
فأجاب ليست الجماعة كصلاة الفذ بل الجماعة أفضل ولو كانت فى غير المسجد لكن تنازع العلماء فيمن صلى جماعة فى بيته هل
____________________
(23/254)
يسقط عنه حضور الجماعة فى المسجد أم لابد من حضور الجماعة فى المسجد والذى ينبغى له أن لا يترك حضور الجماعة فى المسجد الا لعذر كما دلت على ذلك السنن والآثار والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى
عن رجل أدرك آخر جماعة وبعد هذه الجماعة جماعة أخرى فهل يستحب له متابعة هؤلاء فى آخر الصلاة أو ينتظر الجماعة الأخرى
فأجاب أما اذا أدرك أقل من ركعة فهذا مبنى على أنه هل يكون مدركا للجماعة بأقل من ركعة أم لابد من ادراك ركعة فمذهب أبى حنيفة أنه يكون مدركا وطرد قياسه فى ذلك حتى قال فى الجمعة يكون مدركا لها بادراك القعدة فيتمها جمعة ومذهب مالك أنه لا يكون مدركا الا بادراك ركعة وطرد المسألة فى ذلك حتى فيمن أدرك من آخر الوقت فان المواضع التى تذكر فيها هذه المسألة أنواع
( أحدها ( الجمعة
( والثانى ( فضل الجماعة
____________________
(23/255)
( والثالث ( ادراك المسافر من صلاة المقيم
( والرابع ( ادراك بعض الصلاة قبل خروج الوقت كادراك بعض الفجر قبل طلوع الشمس ( والخامس ( ادراك آخر الوقت كالحائض تطهر والمجنون يفيق والكافر يسلم فى آخر الوقت
( والسادس ( ادراك ذلك من أول الوقت عند من يقول ان الوجوب بذلك فان فى هذا الأصل السادس نزاعا وأما مذهب الشافعى وأحمد فقالا فى الجمعة بقول مالك لاتفاق الصحابة على ذلك فانهم قالوا فيمن أدرك من الجمعة ركعة يصلى اليها أخرى ومن أدركهم فى التشهد صلى أربعا
وأما سائر المسائل ففيها نزاع فى مذهب الشافعى وأحمد وهما قولان للشافعى وروايتان عن أحمد وكثير من اصحابهما يرجح قول أبى حنيفة
والأظهر هو مذهب مالك كما ذكره الخرقى فى بعض الصور وذلك أنه قد ثبت فى الصحيح عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى ( ( أنه قال ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك
____________________
(23/256)
الصلاة ( فهذا نص عام فى جميع صور ادراك ركعة من الصلاة سواء كان ادراك جماعة أو ادراك الوقت وفى الصحيحين عنه ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قال ( من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ( وهذا نص فى ركعة فى الوقت
وقد عارض هذا بعضهم بأن فى بعض الطرق ( من أدرك سجدة ( وظنوا أن هذا يتناول ما اذا أدرك السجدة الأولى وهذا باطل فان المراد بالسجدة الركعة كما فى حديث بن عمر ( حفظت عن رسول الله ( ( سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها وسجدتين بعد المغرب ( إلى آخره وفى اللفظ المشهور ( ركعتين ( وكما روى ( أنه كان يصلى بعد الوتر سجدتين ( وهما ركعتان كما جاء ذلك مفسرا فى الحديث الصحيح ومن سجد بعد الوتر سجدتين مجردتين عملا بهذا فهو غالط باتفاق الأئمة
وأيضا فان الحكم ع 6 ندهم ليس متعلقا بادراك سجدة من السجدتين فعلم أنهم لم يقولوا بالحديث فعلى هذا اذا كان المدرك اقل من ركعة وكان بعدها جماعة أخرى فصلى معهم فى جماعة صلاة تامة فهذا أفضل فان هذا يكون مصليا فى جماعة بخلاف الأول وان كان المدرك ركعة أو كان اقل من ركعة وقلنا انه يكون به مدركا للجماعة فهنا قد تعارض ادراكه
____________________
(23/257)
لهذه الجماعة وإدراكه للثانية من أولها فإن إدراك الجماعة من أولها أفضل كما جاء فى إدراكها بحدها فإن كانت الجماعتان سواء فالثانية أفضل وإن تميزت الأولى بكمال الفضيلة أو كثرة الجمع أو فضل الإمام أو كونها الراتبة فهي في هذه الجهة أفضل وتلك من جهة إدراكها بحدها أفضل وقد يترجح هذا تارة وهذا تارة وأما أن قدر أن الثانية أكمل أفعالا وإماما أو جماعة فهنا قد ترجحت من وجه آخر
ومثل هذه المسألة لم تكن تعرف في السلف إلا إذا كان مدركا لمسجد آخر فإنه لم يكن يصلي فى المسجد الواحد امامان راتبان وكانت الجماعة تتوفر مع الإمام الراتب ولا ريب أن صلاته مع الإمام الراتب فى المسجد جماعة ولو ركعة خير من صلاته فى بيته ولو كان جماعة والله أعلم
وسئل
عن رجل صلى فرضه ثم أتى مسجد جماعة فوجدهم يصلون فهل له أن يصلي مع الجماعة من الفائت
فأجاب إذا صلى الرجل الفريضة ثم أتى مسجدا تقام فيه تلك
____________________
(23/258)
الصلاة فليصلها معهم سواء كان عليه فائتة أو لم يكن كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك حيث قال لرجلين لم يصليا مع الناس فقال ( ما لكما لم تصليا ألستما مسلمين فقالا يارسول الله صلينا فى رحالنا فقال إذا صليتما فى رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة (
ومن عليه فائتة فعليه أن يبادر إلى قضائها على الفور سواء فاتته عمدا أو سهوا عند جمهور العلماء كمالك وأحمد وأبى حنيفة وغيرهم وكذلك الراجح فى مذهب الشافعى أنها إذا فاتت عمدا كان قضاؤها واجبا على الفور
وإذا صلى مع الجماعة نوى بالثانية معادة وكانت الأولى فرضا والثانية نفلا على الصحيح كما دل عليه هذا الحديث وغيره وقيل الفرض أكملهما وقيل ذلك إلى الله تعالى والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن حديث يزيد بن الأسود قال ( شهدت حجة رسول الله وصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف فلما قضى الصلاة وإنحرف فإذا هو برجلين فى أخريات القوم لم يصليا فقال
____________________
(23/259)
علي بهما فإذا بهما ترعد فرائصهما فقال ما منعكما أن تصليا معنا فقالا يا رسول الله إنا كنا صلينا فى رحالنا قال فلا تفعلا إذا صليتما فى رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة (
والثاني عن سلمان بن سالم قال ( رأيت عبد الله بن عمر جالسا على البلاط والناس يصلون فقلت يا عبد الله مالك لا تصلى فقال إنى قد صليت وإنى سمعت رسول الله يقول لا تعاد صلاة مرتين ( فما الجمع بين هذا وهذا
فأجاب الحمد لله أما حديث إبن عمر فهو فى الإعادة مطلقا من غير سبب ولا ريب أن هذا منهي عنه وأنه يكره للرجل أن يقصد إعادة الصلاة من غير سبب يقتضي الإعادة إذ لو كان مشروعا للصلاة الشرعية عدد معين كان يمكن الإنسان أن يصلى الظهر مرات والعصر مرات ونحو ذلك ومثل هذا لا ريب فى كراهته
وأما حديث إبن الأسود فهو إعادة مقيدة بسبب إقتضى الإعادة وهو قوله ( إذا صليتما فى رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ( فسبب الإعادة هنا حضور الجماعة الراتبة ويستحب لمن صلى ثم حضر جماعة راتبة أن يصلى معهم
____________________
(23/260)
لكن من العلماء من يستحب الإعادة مطلقا كالشافعى وأحمد ومنهم من يستحبها إذا كانت الثانية أكمل كمالك فإذا أعادها فالأولى هي الفريضة عند أحمد وأبى حنيفة والشافعى فى أحد القولين لقوله فى هذا الحديث ( فإنها لكما نافلة ( وكذلك قال فى الحديث الصحيح ( أنه سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم إجعلوا صلاتكم معهم نافلة ( وهذا أيضا يتضمن إعادتها لسبب ويتضمن أن الثانية نافلة وقيل الفريضة أكملهما وقيل ذلك إلى الله
ومما جاء في الإعادة لسبب الحديث الذي فى سنن أبى داود لما قال النبى ( ألا رجل يتصدق على هذا يصلى معه ( فهنا هذا المتصدق قد أعاد الصلاة ليحصل لذلك المصلي فضيلة الجماعة ثم الإعادة المأمور بها مشروعة عند الشافعى وأحمد ومالك وقت النهي وعند أبى حنيفة لا تشرع وقت النهي
وأما المغرب فهل تعاد على صفتها أم تشفع بركعة أم لا تعاد على ثلاثة أقوال مشهورة للفقهاء
ومما جاء فيه الإعادة لسبب ما ثبت أن النبى في بعض صلوات الخوف صلى بهم الصلاة مرتين صلى بطائفة ركعتين
____________________
(23/261)
ثم سلم ثم صلى بطائفة أخرى ركعتين ثم سلم ومثل هذا حديث معاذ بن جبل لما كان يصلى خلف النبى فهنا إعادة أيضا وصلاة مرتين
والعلماء متنازعون فى مثل هذا وهى مسألة إقتداء المفترض بالمتنفل على ثلاثة أقوال
فقيل لا يجوز كقول أبى حنيفة وأحمد فى إحدى الروايات وقيل يجوز كقول الشافعى وأحمد فى رواية ثانية وقيل يجوز للحاجة مثل حال الخوف والحاجة إلى الإئتمام بالمتطوع ولا يجوز لغيرها كرواية ثالثة عن أحمد ويشبه هذا إعادة صلاة الجنازة لمن صلى عليها أولا فإن هذا لا يشرع بغير سبب بإتفاق العلماء بل لو صلى عليها مرة ثانية ثم حضر من لم يصل فهل يصلي عليها على قولين للعلماء قيل يصلى عليها وهو مذهب الشافعى وأحمد ويصلى عندهما على القبر لما ثبت عن النبى وعن غير واحد من الصحابة أنهم صلوا على جنازة بعد ما صلى عليها غيرهم وعند أبى حنيفة ومالك ينهى عن ذلك كما ينهيان عن إقامة الجماعة فى المسجد مرة بعد مرة قالوا لأن الفرض يسقط بالصلاة الأولى فتكون الثانية نافلة والصلاة على الجنازة لا يتطوع بها وهذا بخلاف من يصلى الفريضة فإنه يصليها بإتفاق المسلمين لأنها واجبة
____________________
(23/262)
عليه وأصحاب الشافعى وأحمد يجيبون بجوابين
أحدهما أن الثانية تقع فرضا عمن فعلها وكذلك يقولون فى سائر فروض الكفايات أن من فعلها أسقط بها فرض نفسه وإن كان غيره قد فعلها فهو مخير بين أن يكتفى بإسقاط ذلك وبين أن يسقط الفرض بفعل نفسه وقيل بل هي نافلة ويمنعون قول القائل إن صلاة الجنازة لا يتطوع بها بل قد يتطوع بها إذا كان هناك سبب يقتضى ذلك
وينبني على هذين المأخذين أنه إذا حضر الجنازة من لم يصل أولا فهل لمن صلى عليها أولا أن يصلى معه تبعا كما يفعل مثل هذا فى المكتوبة على وجهين قيل لا يجوز هنا لأن فعله هنا نفل بلا نزاع وهي لا يتنفل بها وقيل بل له الإعادة فإن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( لما صلى على القبر صلى خلفه من كان قد صلى أولا وهذا أقرب فإن هذه الإعادة بسبب إقتضاه لا إعادة مقصودة وهذا سائغ فى المكتوبة والجنازة والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
____________________
(23/263)
وسئل شيخ الإسلام
عمن يجد الصلاة قد اقيمت فأيما أفضل صلاة الفريضة أو يأتى بالسنة ويلحق الإمام ولو فى التشهد وهل ركعتا الفجر سنة للصبح أم لا
فأجاب قد صح عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قال ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ( وفى رواية ( فلا صلاة إلا التى أقيمت ( فإذا أقيمت الصلاة فلا يشتغل بتحية المسجد ولا بسنة الفجر وقد إتفق العلماء على أنه لا يشتغل عنها بتحية المسجد
ولكن تنازعوا في سنة الفجر والصواب أنه إذا سمع الإقامة فلا يصلي السنة لا في بيته ولا فى غير بيته بل يقضيها إن شاء بعد الفرض والسنة أن يصلى بعد طلوع الفجر ركعتين سنة والفريضة ركعتان وليس بين طلوع الفجر والفريضة سنة إلا ركعتان والفريضة تسمى صلاة الفجر وصلاة الغداة وكذلك السنة تسمى سنة الفجر وسنة الصبح وركعتى الفجر ونحو ذلك والله أعلم
____________________
(23/264)
وسئل
عن ( القراءة خلف الإمام ( فأجاب الحمد لله للعلماء فيه نزاع وإضطراب مع عموم الحاجة إليه وأصول الأقوال ثلاثة طرفان ووسط
فأحد الطرفين أنه لا يقرأ خلف الإمام بحال
( والثانى ( إنه يقرأ خلف الإمام بكل حال
( والثالث ( وهو قول أكثر السلف إنه إذا سمع قراءة الإمام أنصت ولم يقرأ فان إستماعه لقراءة الإمام خير من قراءته وإذا لم يسمع قراءته قرأ لنفسه فإن قراءته خير من سكوته فالإستماع لقراءة الإمام أفضل من القراءة والقراءة أفضل من السكوت هذا قول جمهور العلماء كمالك وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابهما وطائفة من أصحاب الشافعى وأبى حنيفة وهو القول القديم للشافعى وقول محمد بن الحسن
____________________
(23/265)
وعلى هذا القول فهل القراءة حال مخافتة الإمام بالفاتحة واجبة على المأموم أو مستحبة على قولين فى مذهب أحمد
أشهرهما أنها مستحبة وهو قول الشافعى فى القديم والإستماع حال جهر الإمام هل هو واجب أو مستحب والقراءة إذا سمع قراءة الإمام هل هي محرمة أو مكروهة وهل تبطل الصلاة إذا قرأ على قولين في مذهب أحمد وغيره
( أحدهما ( إن القراءة حينئذ محرمة وإذا قرأ بطلت صلاته وهذا أحد الوجهين اللذين حكاهما أبو عبد الله إبن حامد فى مذهب أحمد ( والثانى ( أن الصلاة لا تبطل بذلك وهو قول الأكثرين وهو المشهور من مذهب أحمد ونظير هذا إذا قرأ حال ركوعه وسجوده هل تبطل الصلاة على وجهين في مذهب أحمد لأن النبى ( ( نهى أن يقرأ القرآن راكعا أو ساجدا
والذين قالوا يقرأ حال الجهر والمخافتة انما يأمرونه أن يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة وما زاد على الفاتحة فان المشروع أن يكون فيه مستمعا لا قارئا
____________________
(23/266)
وهل قراءته للفاتحة مع الجهر واجبة أو مستحبة على قولين ( أحدهما ( أنها واجبة وهو قول الشافعى في الجديد وقول إبن حزم
( والثانى ( أنها مستحبة وهو قول الأوزاعى والليث بن سعد وإختيار جدي أبى البركات ولا سبيل إلى الإحتياط في الخروج من الخلاف فى هذه المسألة كما لا سبيل إلى الخروج من الخلاف فى وقت العصر وفى فسخ الحج ونحو ذلك من المسائل
يتعين فى مثل ذلك النظر فيما يوجبه الدليل الشرعى وذلك ان كثيرا من العلماء يقول صلاة العصر يخرج وقتها اذا صار ظل كل شيء مثليه كالمشهور من مذهب مالك والشافعى وهو إحدى الروايتين عن أحمد
وأبو حنيفة يقول حينئذ يدخل وقتها ولم يتفقوا على وقت تجوز فيه صلاة العصر بخلاف غيرها فانه اذا صلى الظهر بعد الزوال بعد مصير ظل كل شيء مثله سوى ظل الزوال صحت صلاته والمغرب أيضا تجزئ باتفاقهم اذا صلى بعد الغروب والعشاء تجزئ باتفاقهم اذا صلى بعد مغيب الشفق الأبيض إلى ثلث الليل والفجر
____________________
(23/267)
تجزئ باتفاقهم اذا صلاها بعد طلوع الفجر إلى الاسفار الشديد وأما العصر فهذا يقول تصلى إلى المثلين وهذا يقول لا تصلى الا بعد المثلين والصحيح أنها تصلى من حين يصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس فوقتها أوسع كما قاله هؤلاء وهؤلاء وعلى هذا تدل الأحاديث الصحيحة المدنية وهو قول أبى يوسف ومحمد بن الحسن وهو الرواية الأخرى عن أحمد
والمقصود هنا أن من المسائل مسائل لا يمكن أن يعمل فيها بقول يجمع عليه لكن ولله الحمد القول الصحيح عليه دلائل شرعية تبين الحق
ومن ذلك فسخ الحج إلى العمرة فان الحج الذى اتفق الأمة على جوازه ان يهل متمتعا يحرم بعمرة ابتداء ويهل قارنا وقد ساق الهدى فاما إن أفرد أو قرن ولم يسق الهدى ففى حجه نزاع بين السلف والخلف
والمقصود هنا القراءة خلف الامام فنقول اذا جهر الامام استمع لقراءته فان كان لا يسمع لبعده فانه يقرأ فى أصح القولين وهو قول أحمد وغيره وان كان لا يسمع لصممه أو كان يسمع
____________________
(23/268)
همهمة الامام ولا يفقه ما يقول ففيه قولان فى مذهب أحمد وغيره
والأظهر أنه يقرأ لأن الأفضل أن يكون اما مستمعا واما قارئا وهذا ليس بمستمع ولا يحصل له مقصود السماع فقراءته أفضل من سكوته فنذكر الدليل على الفصلين على أنه فى حال الجهر يستمع وأنه فى حال المخافتة يقرأ
فالدليل على الأول الكتاب والسنة والاعتبار
( أما الأول ( فانه تعالى قال ( واذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ( وقد استفاض عن السلف أنها نزلت فى القراءة فى الصلاة وقال بعضهم فى الخطبة وذكر أحمد بن حنبل الاجماع على أنها نزلت فى ذلك وذكر الاجماع على أنه لا تجب القراءة على المأموم حال الجهر
ثم يقول قوله تعالى ( واذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ( لفظ عام فاما أن يختص القراءة فى الصلاة أو فى القراءة فى غير الصلاة أو يعمهما والثانى باطل قطعا لأنه لم يقل أحد من المسلمين انه يجب الاستماع خارج الصلاة ولا يجب في
____________________
(23/269)
الصلاة ولأن استماع المستمع إلى قراءة الامام الذي يأتم به ويجب عليه متابعته اولى من استماعه إلى قراءة من يقرأ خارج الصلاة داخلة فى الآية إما على سبيل الخصوص وإما على سبيل العموم وعلى التقديرين فالآية دالة على أمر المأموم بالانصات لقراءة الامام وسواء كان أمر ايجاب أو استحباب
فالمقصود حاصل فان المراد أن الاستماع أولى من القراءة وهذا صريح فى دلالة الآية على كل تقدير والمنازع يسلم ان الاستماع مأمور به دون القراءة فيما زاد على الفاتحة والآية أمرت بالانصات إذا قرئ القرآن والفاتحة أم القرآن وهي التي لابد من قراءتها في كل صلاة والفاتحة أفضل سور القرآن وهي التى لم ينزل فى التوراة ولا فى الانجيل ولا فى الزبور ولا فى القرآن مثلها فيمتنع أن يكون المراد بالآية الاستماع إلى غيرها دونها مع اطلاق لفظ الآية وعمومها مع أن قراءتها اكثر وأشهر وهي أفضل من غيرها فان قوله ( إذا قرئ القرآن ( يتناولها كما يتناول غيرها وشموله لها أظهر لفظا ومعنى والعادل عن استماعها إلى قرائتها إنما يعدل لأن قراءتها عنده أفضل من الاستماع وهذا غلط يخالف النص والاجماع فان الكتاب والسنة أمرت المؤتم بالاستماع دون القراءة والأمة متفقة على أن استماعه لما زاد على الفاتحة أفضل من قراءته لما زاد عليها
____________________
(23/270)
فلو كانت القراءة لما يقرأه الامام أفضل من الاستماع لقراءته لكان قراءة المأموم أفضل من قراءته لما زاد على الفاتحة وهذا لم يقل به احد وإنما نازع من نازع فى الفاتحة لظنه أنها واجبة على المأموم مع الجهر أو مستحبة له حينئذ
وجوابه أن المصلحة الحاصلة له بالقراءة يحصل بالاستماع ما هو أفضل منها بدليل استماعه لما زاد على الفاتحة فلولا أنه يحصل له بالاستماع ما هو أفضل من القراءة لكان الأولى أن يفعل أفضل الأمرين وهو القراءة فلما دل الكتاب والسنة والاجماع على ان الاستماع أفضل له من القراءة علم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ وهذا المعنى موجود في الفاتحة وغيرها فالمستمع لقراءة الامام يحصل له أفضل مما يحصل بالقراءة وحينئذ فلا يجوز أن يؤمر بالأدنى وينهى عن الأعلى
وثبت أنه في هذه الحال قراءة الامام له قراءة كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم باحسان وفى ذلك الحديث المعروف عن النبى ( ( أنه قال ( من كان له إمام فقراءة الامام له قراءة (
وهذا الحديث روي مرسلا ومسندا لكن اكثر الأئمة الثقاة رووه مرسلا عن عبد الله بن شداد عن النبى وأسنده بعضهم ورواه بن ماجه مسندا وهذا المرسل قد عضده
____________________
(23/271)
ظاهر القرآن والسنة وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين ومرسله من اكابر التابعين ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل
فتبين أن الاستماع إلى قراءة الامام أمر دل عليه القرآن دلالة قاطعة لأن هذا من الأمور الظاهرة التى يحتاج اليها جميع الأمة فكان بيانها فى القرآن مما يحصل به مقصود البيان وجاءت السنة موافقة للقرآن ففى صحيح مسلم عن أبى موسى الأشعرى قال ( ان رسول الله خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال أقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فاذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا ( وهذا من حديث أبى موسى الطويل المشهور لكن بعض الرواة زاد فيه على بعض فمنهم من لم يذكر قوله ( وإذا قرأ فانصتوا ( ومنهم من ذكرها وهي زيادة من الثقة لا تخالف المزيد بل توافق معناه ولهذا رواها مسلم فى صحيحه
فإن الانصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام به فان من قرأ على قوم لا يستمعون لقراءته لم يكونوا مؤتمين به وهذا مما يبين حكمة سقوط القراءة على المأموم فان متابعته لامامه مقدمة على غيرها حتى فى الأفعال فاذا أدركه ساجدا سجد معه وإذا أدركه فى وتر من صلاته
____________________
(23/272)
تشهد عقب الوتر وهذا لو فعله منفردا لم يجز وإنما فعله لأجل الائتمام فيدل على أن الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد ويسقط به ما يجب على المنفرد
وعن أبى هريرة قال قال رسول الله ( إنما جعل الامام ليؤتم به فاذا كبر فكبروا وإذا قرأ فانصتوا ( رواه أحمد وأبو داود والنسائي وبن ماجه قيل لمسلم بن الحجاج حديث أبى هريرة صحيح يعنى ( وإذا قرأ فأنصتوا ( قال هو عندي صحيح فقيل له لما لا تضعه ها هنا يعنى فى كتابه فقال ليس كل شيء عندى صحيح وضعته ها هنا إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه
وروى الزهري عن بن اكيمة الليثى عن ابى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها فقال ( هل قرأ معي أحد منكم آنفا فقال رجل نعم يارسول الله قال إني أقول مالي أنازع القرآن ( قال فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما جهر فيه النبى بالقراءة فى الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله رواه أحمد وأبو داود وبن ماجه والنسائى والترمذي وقال حديث حسن قال أبو داود سمعت محمد بن يحيى بن فارس يقول قوله ( فانتهى الناس ( من كلام الزهري
____________________
(23/273)
وروى عن البخارى نحو ذلك فقال فى الكنى من التاريخ وقال أبو صالح حدثنى الليث حدثنى يوسف عن بن شهاب سمعت بن اكيمة الليثى يحدث ان سعيد بن المسيب سمع أبا هريرة يقول صلى لنا النبى صلاة جهر فيها بالقراءة ثم قال ( هل قرأ منكم أحد معي قلنا نعم قال إنى اقول مالي أنازع القرآن ( قال فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر الامام قال الليث حدثني بن شهاب ولم يقل فانتهى الناس وقال بعضهم هو قول الزهري وقال بعضهم هو قول بن أكيمة والصحيح أنه قول الزهري
وهذا إذا كان من كلام الزهري فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرؤون فى الجهر مع النبى فان الزهري من أعلم أهل زمانه او أعلم أهل زمانه بالسنة وقراءة الصحابة خلف النبى إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة تكون من الاحكام العامة التى يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم باحسان فيكون الزهري من أعلم الناس بها فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفائها فكيف إذا قطع الزهري بان الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبى فى الجهر
فان قيل قال البيهقى بن اكيمة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث وحده ولم يحدث عنه غير الزهري
____________________
(23/274)
قيل ليس كذلك بل قد قال ابو حاتم الرازى فيه صحيح الحديث حديثه مقبول وحكى عن ابي حاتم البستى أنه قال روي عنه الزهري وسعيد بن ابى هلال وبن ابيه عمر وسالم بن عمار بن اكيمة بن عمر وقد روى مالك في موطئه عن وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول ( من صلى ركعة لم يقرأ فيها لم يصل الا وراء الامام ( وروى ايضا عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل هل يقرأ خلف الامام يقول إذا صلى احدكم خلف الامام تجزئه قراءة الامام وإذا صلى وحده فليقرأ قال وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الامام وروى مسلم فى صحيحه عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الامام فقال لا قراءة مع الامام فى شيء
وروى البيهقى عن ابى وائل أن رجلا سأل بن مسعود عن القراءة خلف الامام فقال انصت للقرآن فان في الصلاة شغلا وسيكفيك ذلك الامام وبن مسعود وزيد بن ثابت هما فقيها اهل المدينة واهل الكوفة من الصحابة وفى كلامهما تنبيه على ان المانع إنصاته لقراءة الامام
____________________
(23/275)
وكذلك البخارى فى ( كتاب القراءة خلف الامام ( عن علي بن ابى طالب قال وروى الحارث عن على يسبح فى الأخريين قال ولم يصح وخالفه عبيد الله بن ابى رافع حدثنا عثمان بن سعيد سمع عبيد الله بن عمرو عن إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبيد الله بن ابى رافع مولى بنى هاشم حدثه عن على بن ابى طالب إذا لم يجهر الامام فى الصلوات فاقرأ بأم الكتاب وسورة اخرى فى الاوليين من الظهر والعصر وفاتحة الكتاب فى الأخريين من الظهر والعصر وفى الآخرة من المغرب وفى الأخريين من العشاء
وأيضا ففى إجماع المسلمين على أنه فيما زاد على الفاتحة يؤمر بالاستماع دون القراءة دليل على أن استماعه لقراءة الامام خير له من قراءته معه بل على أنه مأمور بالاستماع دون القراءة مع الامام
وأيضا فلو كانت القراءة فى الجهر واجبة على المأموم للزم أحد أمرين إما أن يقرأ مع الامام وإما أن يجب على الامام أن يسكت له حتى يقرأ ولم نعلم نزاعا بين العلماء أنه لا يجب على الامام أن يسكت لقراءة المأموم بالفاتحة ولا غيرها وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة فثبت أنه لاتجب عليه القراءة معه فى حال الجهر بل نقول لو كانت قراءة المأموم فى حال الجهر والاستماع مستحبة لاستحب للامام أن يسكت لقراءة المأموم ولا يستحب للامام
____________________
(23/276)
السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العلماء وهذا مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم
وحجتهم فى ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون ولا نقل هذا أحد عنه بل ثبت عنه في الصحيح سكوته بعد التكبير للاستفتاح وفي السنن ( أنه كان له سكتتان سكتة في أول القراءة وسكتة بعد الفراغ من القراءة وهى سكتة لطيفة للفصل لاتتسع لقراءة الفاتحة وقد روى أن هذه السكتة كانت بعد الفاتحة ولم يقل أحد إنه كان له ثلاث سكتات ولا أربع سكتات فمن نقل عن النبى ثلاث سكتات أو أربع فقد قال قولا لم ينقله عن أحد من المسلمين والسكتة التى عقب قوله ( ولا الضالين ) من جنس السكتات التى عند رؤوس الآي ومثل هذا لايسمى سكوتا ولهذا لم يقل أحد من العلماء إنه يقرأ فى مثل هذا
وكان بعض من أدركنا من أصحابنا يقرأ عقب السكوت عند رؤوس الآي فاذا قال الامام ( الحمد لله رب العالمين ) قال ( الحمد لله رب العالمين ) وإذا قال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وهذا لم يقله أحد من العلماء
____________________
(23/277)
وقد اختلف العلماء فى سكوت الامام على ثلاثة أقوال فقيل لاسكوت فى الصلاة بحال وهو قول مالك وقيل فيها سكتة واحدة للاستفتاح كقول أبي حنيفة وقيل فيها سكتتان وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث سمرة بن جندب ( أن رسول الله كان له سكتتان سكتة حين يفتتح الصلاة وسكتة إذا فرغ من السورة الثانية قبل أن يركع ( فذكر ذلك لعمران بن حصين فقال كذب سمرة فكتب في ذلك إلى المدينة إلى أبى بن كعب فقال صدق سمرة رواه أحمد واللفظ له وأبو داود وبن ماجه والترمذي وقال حديث حسن
وفي رواية أبى داود ( سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) وأحمد رجح الرواية الأولى واستحب السكتة الثانية لأجل الفصل ولم يستحب أحمد أن يسكت الإمام لقراءة المأموم ولكن بعض أصحابه استحب ذلك ومعلوم أن النبى لو كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله فلما لم ينقل هذا أحد علم أنه لم يكن
والسكتة الثانية فى حديث سمرة قد نفاها عمران بن حصين وذلك أنها سكتة يسيرة قد لا ينضبط مثلها وقد روي أنها بعد
____________________
(23/278)
الفاتحة ومعلوم أنه لم يسكت الا سكتتين فعلم ان احداهما طويلة والأخرى بكل حال لم تكن طويلة متسعة لقراءة الفاتحة
وأيضا فلو كان الصحابة كلهم يقرؤون الفاتحة خلفه اما فى السكتة الأولى وإما فى الثانية لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فكيف ولم ينقل هذا أحد عن أحد من الصحابة أنهم كانوا فى السكتة الثانية خلفه يقرؤون الفاتحة مع أن ذلك لو كان مشروعا لكان الصحابة أحق الناس بعلمه وعمله فعلم أنه بدعة
وأيضا فالمقصود بالجهر استماع المأمومين ولهذا يؤمنون على قراءة الامام فى الجهر دون السر فاذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد أمر أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءته وهو بمنزلة أن يحدث من لم يستمع لحديثه ويخطب من لم يستمع لخطبته وهذا سفه تنزه عنه الشريعة ولهذا روى فى الحديث ( مثل الذي يتكلم والامام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارا ( فهكذا اذا كان يقرأ والامام يقرأ عليه
____________________
(23/279)
( فصل (
واذا كان المأموم مأمورا بالإستماع والإنصات لقراءة الامام لم يشتغل عن ذلك بغيرها لا بقراءة ولا ذكر ولا دعاء ففى حال جهر الامام لايستفتح ولا يتعوذ وفى هذه المسألة نزاع وفيها ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد قيل إنه حال الجهر يستفتح ويتعوذ ولا يقرأ لأنه بالاستماع يحصل له مقصود القراءة بخلاف الاستفتاح والاستعاذة فانه لايسمعهما
وقيل يستفتح ولا يتعوذ لأن الاستفتاح تابع لتكبيرة الاحرام بخلاف التعوذ فانه تابع للقراءة فمن لم يقرأ لايتعوذ
وقيل لايستفتح ولا يتعوذ حال الجهر وهذا أصح فان ذلك يشغل عن الاستماع والانصات المأمور به وليس له أن يشتغل عما أمر به بشيء من الأشياء
ثم اختلف أصحاب أحمد فمنهم من قال هذا الخلاف إنما هو فى حال سكوت الامام هل يشتغل بالاستفتاح او الاستعاذة او بأحدهما
____________________
(23/280)
او لا يشتغل الا بالقراءة لكونها مختلفا فى وجوبها واما فى حال الجهر فلا يشتغل بغير الانصات والمعروف عند أصحابه ان هذا النزاع هو فى حال الجهر لما تقدم من التعليل وأما فى حال المخافتة فالأفضل له ان يستفتح واستفتاحه حال سكوت الامام افضل من قراءته فى ظاهر مذهب احمد وأبى حنيفة وغيرهما لأن القراءة يعتاض عنها بالاستماع بخلاف الاستفتاح
واما قول القائل ان قراءة المأموم مختلف فى وجوبها فيقال وكذلك الاستفتاح هل يجب فيه قولان مشهوران فى مذهب احمد ولم يختلف قوله انه لا يجب على المأموم القراءة فى حال الجهر واختار بن بطة وجوب الاستفتاح وقد ذكر ذلك روايتين عن احمد
فعلم أن من قال من اصحابه كأبى الفرج بن الجوزى ان القراءة حال المخافتة افضل فى مذهبه من الاستفتاح فقد غلط على مذهبه ولكن هذا يناسب قول من استحب قراءة الفاتحة حال الجهر وهذا ما علمت احدا قاله من اصحابه قبل جدي أبى البركات وليس هو مذهب احمد ولا عامة اصحابه مع ان تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة فى نفس الأمر فان الخلاف ليس من الصفات التى يعلق الشارع بها الأحكام فى نفس الأمر فان ذلك وصف حادث بعد النبى ولكن يسلكه من لم يكن عالما بالأدلة الشرعية فى
____________________
(23/281)
نفس الأمر لطلب الاحتياط
وعلى هذا ففي حال المخافتة هل يستحب له مع الاستفتاح الاستعاذة اذا لم يقرأ على روايتين
والصواب ان الاستعاذة لا تشرع الا لمن قرأ فان اتسع الزمان للقراءة استعاذ وقرأ وإلا أنصت
( فصل (
وأما ( الفصل الثانى ( وهو القراءة اذا لم يسمع قراءة الامام كحال مخافتة الامام وسكوته فان الأمر بالقراءة والترغيب فيها يتناول المصلى اعظم مما يتناول غيره فان قراءة القرآن فى الصلاة افضل منها خارج الصلاة وما ورد من الفضل لقارئ القرآن يتناول المصلي اعظم مما يتناول غيره لقوله ( من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات اما إنى لا اقول ( الم ) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ( قال الترمذي حديث صحيح
وقد ثبت فى خصوص الصلاة قوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن ابي هريرة عن النبى قال ( من
____________________
(23/282)
صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا ( اي غير تمام فقيل لأبى هريرة انى اكون وراء الامام فقال اقرأ بها فى نفسك فانى سمعت رسول الله يقول ( قال الله قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل فاذا قال العبد ( الحمد لله رب العالمين ) قال الله حمدنى عبدى فاذا قال ( الرحمن الرحيم ) قال الله أثنى على عبدي فاذا قال ( مالك يوم الدين ) قال مجدني عبدي وقال مرة فوض الي عبدي فاذا قال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال هذا بينى وبين عبدي ولعبدي ما سأل فاذا قال ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) قال هذا لعبدي ولعبدى ما سأل (
(
وروى مسلم فى صحيحه عن عمران بن حصين ان رسول الله صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه بسبح اسم ربك الأعلى فلما انصرف قال ( أيكم قرأ او ايكم القارئ قال رجل انا قال قد ظننت ان بعضكم خالجنيها ( رواه مسلم فهذا قد قرأ خلفه فى صلاة الظهر ولم ينهه ولا غيره عن القراءة لكن قال ( قد ظننت ان بعضكم خالجنيها ( اي نازعنيها كما قال فى الحديث الآخر ( إنى اقول مالي انازع القرآن
____________________
(23/283)
وفى المسند عن بن مسعود قال كانوا يقرؤون خلف النبى فقال ( خلطتم على القرآن ( فهذا كراهة منه لمن نازعه وخالجه وخلط عليه القرآن وهذا لايكون ممن قرأ فى نفسه بحيث لايسمعه غيره وإنما يكون ممن اسمع غيره وهذا مكروه لما فيه من المنازعة لغيره لا لأجل كونه قارئا خلف الامام وأما مع مخافتة الامام فان هذا لم يرد حديث بالنهي عنه ولهذا قال ( ايكم القارئ ( اي القارئ الذى نازعنى لم يرد بذلك القارئ فى نفسه فان هذا لاينازع ولا يعرف انه خالج النبى صلى الله عليه وسلم وكراهة القراءة خلف الامام إنما هي اذا امتنع من الانصات المأمور به او اذا نازع غيره فاذا لم يكن هناك إنصات مأمور به ولا منازعة فلا وجه للمنع من تلاوة القرآن فى الصلاة والقارئ هنا لم يعتض عن القراءة باستماع فيفوته الاستماع والقراءة جميعا مع الخلاف المشهور فى وجوب القراءة في مثل هذه الحال بخلاف وجوبها فى حال الجهر فانه شاذ حتى نقل احمد الاجماع على خلافه
وأبو هريرة وغيره من الصحابة فهموا من قوله ( قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فاذا قال ( العبد الحمد لله رب العالمين ) أن ذلك يعم الامام والمأموم
وأيضا فجميع الأذكار التى يشرع للامام أن يقولها سرا يشرع للمأموم
____________________
(23/284)
أن يقولها سرا كالتسبيح فى الركوع والسجود وكالتشهد والدعاء ومعلوم أن القراءة أفضل من الذكر والدعاء فلأي معنى لاتشرع له القراءة فى السر وهو لايسمع قراءة السر ولا يؤمن على قراءة الامام فى السر
وأيضا فان الله سبحانه لما قال ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) وقال ( واذكر ربك فى نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ) وهذا أمر للنبى ولأمته فانه ما خوطب به خوطبت به الأمة ما لم يرد نص بالتخصيص كقوله ( فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ) وقوله ( وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل ) وقوله ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ) ونحو ذلك وهذا أمر يتناول الامام والمأموم والمنفرد بأن يذكر الله فى نفسه بالغدو والآصال وهو يتناول صلاة الفجر والظهر والعصر فيكون المأموم مأمورا بذكر ربه فى نفسه لكن إذا كان مستمعا كان مأمورا بالاستماع وإن لم يكن مستمعا كان مأمورا بذكر ربه فى نفسه والقرآن أفضل الذكر كما قال تعالى ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) وقال تعالى ( وقد آتيناك من لدنا ذكرا ) وقال تعالى ( ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) وقال ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث )
وأيضا فالسكوت بلا قراءة ولا ذكر ولا دعاء ليس عبادة
____________________
(23/285)
ولا مأمورا به بل يفتح باب الوسوسة فالاشتغال بذكر الله أفضل من السكوت وقراءة القرآن من أفضل الخير وإذا كان كذلك فالذكر بالقرآن أفضل من غيره كما ثبت فى الحديث الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ( رواه مسلم فى صحيحه وعن عبد الله بن أبى أوفى قال ( جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال إنى لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمنى ما يجزئنى منه فقال ( قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ( فقال يا رسول الله هذا لله فمالى قال قل ( اللهم ارحمنى وارزقنى وعافنى واهدنى ( فلما قام قال هكذا بيديه فقال رسول الله ( ( أما هذا فقد ملأ يديه من الخير ( رواه أحمد وأبو داود والنسائى
والذين أوجبوا القراءة فى الجهر احتجوا بالحديث الذى فى السنن عن عبادة أن النبى ( ( قال ( إذا كنتم ورائى فلا تقرؤوا الا بفاتحة الكتاب فانه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ( وهذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة ضعفه أحمد وغيره من الأئمة وقد بسط الكلام على ضعفه فى غير هذا الموضع وبين أن الحديث الصحيح قول النبى ( ( لا صلاة الا
____________________
(23/286)
بأم القرآن ( فهذا هو الذى أخرجاه فى الصحيحين ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين وأصله أن عبادة كان يؤم ببيت المقدس فقال هذا فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة
وأيضا فقد تكلم العلماء قديما وحديثا فى هذه المسألة وبسطوا القول فيها وفى غيرها من المسائل وتارة أفردوا القول فيها فى مصنفات مفردة وانتصر طائفة للاثبات فى مصنفات مفردة كالبخارى وغيره وطائفة للنفى كأبى مطيع البلخى وكرام وغيرهما
ومن تأمل مصنفات الطوائف تبين له القول الوسط فان عامة المصنفات المفردة تتضمن صور كل من القولين المتباينين قول من ينهى عن القراءة خلف الإمام حتى فى صلاة السر وقول من يأمر بالقراءة خلفه مع سماع جهر الامام والبخارى ممن بالغ فى الانتصار للاثبات بالقراءة حتى مع جهر الامام بل يوجب ذلك كما يقوله الشافعى فى الجديد وبن حزم ومع هذا فحججه ومصنفه انما تتضمن تضعيف قول أبى حنيفة فى هذه المسألة وتوابعها مثل كونه
____________________
(23/287)
وقال أيضا رحمه الله
فى القراءة خلف الإمام بعد كلام والنبى ( ( قال ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ( وهذا أخرجه أصحاب الصحيح كالبخارى ومسلم فى صحيحيهما وعليه اعتمد البخارى فى مصنفه فقال ( باب وجوب القراءة فى كل ركعة ( وروى هذا الحديث من طرق مثل رواية بن عيينة وصالح بن كيسان ويوسف بن زيد قال البخارى وقال معمر عن الزهري ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا ( وعامة الثقاة لم يتابع معمرا فى قوله ( فصاعدا ( مع أنه قد أثبت فاتحة الكتاب وقوله ( فصاعدا ( غير معروف ما أراد به حرفان أو أكثر من ذلك الا أن يكون كقوله ( لا تقطع اليد إلا فى ربع دينار فصاعدا ( فقد تقطع اليد فى ربع دينار وفى أكثر من دينار قال البخارى ويقال إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمرا وأن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره ولا يعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا
قلت معنى هذا حديث صحيح كما رواه أهل السنن وقد
____________________
(23/288)
رواه البخارى فى هذا المصنف حدثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد ثنا أبو عثمان النهدى عن أبى هريرة ( أن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أمره فنادى ان لا صلاة الا بفاتحة الكتاب وما زاد ( وقال أيضا حدثنا محمد بن يوسف ثنا سفيان عن بن جريج عن عطاء عن أبى هريرة قال ( تجزئ بفاتحة الكتاب فان زاد فهو خير ( وذكر الحديث الآخر عن أبى سعيد فى السنن قال البخارى حدثنا ابو الوليد حدثنا همام عن قتادة عن أبى نضرة قال ( أمرنا نبينا ( صلى الله عليه وسلم ( أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر (
قلت وهذا يدل على أنه ليس المراد به قراءة المأموم حال سماعه لجهر الامام فان أحدا لا يقول ان زيادته على الفاتحة وترك انصاته لقراءة الامام فى هذه الحال خير ولا أن المأموم مأمور حال الجهر بقراءة زائدة على الفاتحة وكذلك عللها البخارى فى حديث عبادة فانها تدل على أن المأموم المستمع لم يدخل فى الحديث ولكن هب أنها ليست فى حديث عبادة فهي فى حديث أبى هريرة
وأيضا فالكتاب والسنة يأمر بانصات المأموم لقراءة الامام ومن العلماء من أبطل صلاته اذا لم ينصت بل قرأ معه
وحينئذ يقال تعارض عموم قوله ( لا صلاة الا بأم القرآن
____________________
(23/289)
وعموم الأمر بالانصات فهؤلاء يقولون ينصت الا فى حال قراءة الفاتحة وأولئك يقولون قوله ( لا صلاة الا بأم القرآن ( يستثنى منه المأمور بالانصات ان سلموا شمول اللفظ له فانهم يقولون ليس فى الحديث دلالة على وجوب القراءة على المأموم فانه انما قال ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ( وقد ثبت بالكتاب والسنة وبالاجماع أن انصات المأموم لقراءة امامه يتضمن معنى القراءة معه وزيادة فان استماعه فيما زاد على الفاتحة أولى به بالقراءة باتفاقهم فلو لم يكن المأموم المستمع لقراءة امامه أفضل من القارئ لكان قراءته أفضل له ولأنه قد ثبت الأمر بالانصات لقراءة القرآن ولا يمكنه الجمع بين الانصات والقراءة ولولا أن الانصات يحصل به مقصود القراءة وزيادة لم يأمر الله بترك الأفضل لأجل المفضول
وأيضا فهذا عموم قد خص منه المسبوق بحديث أبى بكرة وغيره وخص منه الصلاة بامامين فان النبى ( ( لما صلى بالناس وقد سبقه أبو بكر ببعض الصلاة قرأ من حيث انتهى أبو بكر ولم يستأنف قراءة الفاتحة لأنه بنى على صلاة أبى بكر فاذا سقطت عنه الفاتحة فى هذا الموضع فعن المأموم أولى
وخص منه حال العذر وحال استماع الامام حال عذر فهو مخصوص وأمر المأموم بالانصات لقراءة الامام لم يخص معه شيء لا بنص
____________________
(23/290)
خاص ولا اجماع واذا تعارض عمومان أحدهما محفوظ والآخر مخصوص وجب تقديم المحفوظ
وأيضا فان الأمر بالانصات داخل فى معنى اتباع المأموم وهو دليل على أن المنصت يحصل له بانصاته واستماعه ما هو أولى به من قراءته وهذا متفق عليه بين المسلمين فى الخطبة وفى القراءة فى الصلاة فى غير محل النزاع فالمعنى الموجب للانصات يتناول الانصات عن الفاتحة وغيرها
وأما وجوب قراءتها فى كل صلاة فاذا أنصت إلى الإمام الذى يقرأها كان خيرا مما يقرأ لنفسه وهو لو نذر أن يصلى فى المسجد الأقصى لكان صلاته فى المسجد الحرام ومسجد النبى ( ( تجزئه بل هو أفضل له كما دلت على ذلك السنة وهو لم يوجب على نفسه الا الصلاة فى البيت المقدس لكن هذا أفضل منه فاذا كان هذا فى ايجابه على نفسه جعل الشارع الأفضل يقوم مقام المنذور والغاء تعيينه هو بالنذر فكيف يوجب الشارع شيئا ولا يجعل أفضل منه يقوم مقامه والشارع حكيم لا يعين شيئا قط وغيره أولى بالفعل منه بخلاف الانسان فانه قد يخص بنذره ووقفه ووصيته ما غيره أولى منه وقد أمر النبى ( ( المصلى اذا سهى بسجود السهو فى غير حديث
____________________
(23/291)
ثم المأموم اذا سهى يتحمل امامه عنه سهوه لأجل متابعته له مع امكانه أن يسجد بعد سلامه وانصاته لقراءته أدخل فى المتابعة فان الامام انما يجهر لمن يستمع قراءته فاذا اشتغل أحد من المصلين بالقراءة لنفسه كان كالمخاطب لمن لا يستمع إليه كالخطيب الذى يخطب الناس وكلهم يتحدثون ومن فعل هذا فهو كما جاء فى الحديث ( كحمار يحمل أسفارا ( فانه لم يفقه معنى المتابعة كالذى يرفع راسه قبل الامام فانه كالحمار ولهذا قال النبى ( ( اما يخشى الذى يرفع رأسه قبل الامام أن يحول رأسه رأس حمار ( فانه متبع للامام فكيف يسابقه ولهذا ضرب عمر من فعل ذلك وقال لا وحدك صليت ولا بامامك اقتديت وأمر اذا رفع رأسه سهوا أن يعود فيتخلف بقدر ما سبق به الامام وقد نص أحمد وغيره على ذلك وذكر هو وغيره الآثار فى ذلك عن الصحابة
فقول النبى ( ( من صلى صلاة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ( وفى تمامه فقلت يا أبا هريرة انى أكون أحيانا وراء الامام قال اقرأ بها فى نفسك يا فارسى فانى سمعت النبى ( صلى الله عليه وسلم ( يقول ( قال الله قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ( الحديث إلى آخره وهو حديث صحيح رواه مسلم فى صحيحه
____________________
(23/292)
والبخارى احتج به فى هذا المصنف وان كان لم يخرجه فى صحيحه على عادته فى مثل ذلك واسناده المشهور الذى رواه مسلم حديث العلاء عن بن السائب عن أبى هريرة وبعضهم يقول عن أبيه عن أبى هريرة ورواه من حديث عائذ وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال البخارى ثنا محمد بن عبد الله الرقاشى ثنا يزيد بن زريع ثنا محمد بن إسحاق ثنا يحيى بن عباد عن أبيه عن عائشة سمعت رسول الله ( ( يقول ( كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ( قال البخارى وزاد يزيد بن هارون بفاتحة الكتاب قال وحدثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبان ثنا عامر الأحول عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى ( ( قال ( كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي مخدجة (
وقال حدثنا هلال بن بشر ثنا يوسف بن يعقوب السلعى ثنا حسن المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله ( ( كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج
____________________
(23/293)
وقال البخارى ثنا موسى ثنا داود بن أبى الفرات عن ابراهيم الصائغ عن عطاء عن أبى هريرة فى كل صلاة قراءة ولو بفاتحة الكتاب فما أعلن لنا النبى ( ( فنحن نعلنه وما اسر فنحن نسره وروي من طريقين عن أبى الزاهرية ثنا كثير بن مرة سمع أبا الدرداء يقول ( سئل رسول الله ( ( أفى كل صلاة قراءة قال نعم فقال رجل من الأنصار وجبت هذه ( وهذه الأحاديث بمنزلة قوله ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ( فان المستمع المنصت قارئ بل أفضل من القارئ لنفسه ويدل على ذلك ( لا صلاة الا بفاتحة الكتاب وما زاد ( وقوله ( أمرنا أن نقرأ بها وما تيسر ( فان المستمع المنصت ليس مأمورا بقراءة الزيادة
وأيضا فقول أبى هريرة ما اسمعنا أسمعناكم وما أخفى علينا أخفينا عليكم دليل على أن المراد به الامام والا فالمأموم لا يسمع أحدا قراءته
وأما قوله ( أفى كل صلاة قراءة ( وقوله ( لا صلاة الا بأم القرآن ( فصلاة المأموم المستمع لقراءة الإمام فيها قراءة بل الأكثرون يقولون الامام ضامن لصلاته فصلاته فى ضمن صلاة الامام ففيها القراءة وجمهورهم يقولون اذا كان الامام أميا لم يقتد به القارئ فلو كانت قراءة الامام لا تغنى عن
____________________
(23/294)
المأموم شيئا بل كل يقرأ لنفسه لم يكن فرق بين عجزه عن القراءة وعجزه عن غير ذلك من الواجبات ولأن الامام مأمور باستماع ما زاد على الفاتحة وليست قراءة واجبة فكيف لا يؤمر بالاستماع لقراءة الامام الفاتحة وهى الفرض وكيف يؤمر باستماع التطوع دون استماع الفرض واذا كان الاستماع للقراءة الزائدة على الفاتحة واجبا بالكتاب والسنة والاجماع فالاستماع لقراءة الفاتحة أوجب
ثم قال البخارى وقيل له احتجاجك بقول الله ( واذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ( أرأيت اذا لم يجهر الامام ايقرأ خلفه فان قال لا تبطل دعواه لأن الله قال ( فاستمعوا له وأنصتوا ( وانما يستمع لما يجهر مع أنا نستعمل قول الله تعالى ( فاستمعوا له ( نقول يقرأ خلف الامام عند السكتات قال سمرة كان للنبى ( صلى الله عليه وسلم ( سكتات سكتة حين يكبر وسكتة حين يفرغ من قراءته وقال بن خثيم قلت لسعيد بن جبير أقرأ خلف الامام قال نعم وان سمعت قراءته فانهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه ان السلف كان اذا أم أحدهم الناس كبر ثم أنصت حتى يظن أن من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب ثم قرأ وأنصت وقال أبو هريرة كان رسول الله ( ( اذا أراد أن يقرأ سكت سكتة قال
____________________
(23/295)
وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن وميمون بن مهران وغيرهم وسعيد بن جبير يرون القراءة عند سكوت الامام ليكون مقتديا بقول النبى ( ( لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ( فتكون قراءته فى السكتة فاذا قرأ الامام أنصت حتى يكون متبعا لقول الله تعالى ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ( وقوله ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (
واذا ترك الامام شيئا من حق الصلاة فحق على من خلفه أن يتموا قال علقمة إن لم يتم الامام أتممنا وقال الحسن وسعيد بن جبير وحميد بن هلال أقرأ بالحمد يوم الجمعة قال وقال آخرون من هؤلاء يجزئه أن يقرأ بالفارسية ويجزئه أن يقرأ بآية ينقض آخرهم على أولهم بغير كتاب ولا سنة
وقيل له من أباح لك الثناء والامام يقرأ بخبر أو قياس وحظر على غيرك الفرض وهى القراءة ولا خبر عندك ولا اتفاق لأن عدة من أهل المدينة لم يروا الثناء للإمام ولا لغيره يكبرون ثم يقرؤون فتحير عندهم فى ريبهم يترددون مع أن هذا صنعه فى أشياء من الفرض فجعل الواجب أهون من التطوع
____________________
(23/296)
زعمت أنه اذا لم يقرأ فى الركعتين من الظهر أو العصر أو العشاء يجزئه واذا لم يقرأ فى ركعة من أربع من التطوع لم يجزئه
قلت واذا لم يقرأ فى ركعة من المغرب أجزأه واذا لم يقرأ فى ركعة من الوتر لم يجزه فكأنه يريد أن يجمع بين ما فرق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( أو يفرق بين ما جمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم (
قلت أما سكتة النبى ( ( حين يكبر فقد بين أبو هريرة فى حديثه المتفق على صحته أنه كان يذكر فيها دعاء الاستفتاح لم يكن سكوتا محضا لأجل قراءة المأمومين وثبت فى الصحيح أن عمر كان يكبر ويجهر بدعاء الاستفتاح يعلمه الناس وأما احتجاجه على من استفتح حال الجهر فهذا فيه نزاع معروف هل يستفتح فى حال الجهر ويتعوذ أو يستفتح ولا يتعوذ الا إذا قرأ أولا يستفتح حال الجهر ولا يتعوذ فيه فيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد
لكن الأظهر ما احتج به البخارى فان الأمر بالانصات يقتضى الانصات عن كل ما يمنعه من استماع القراءة من ثناء وقراءة ودعاء كما ينصت للخطبة بل الانصات للقراءة أوكد ولكن اذا سكت
____________________
(23/297)
الامام السكتة الأولى للثناء فهنا عند أحمد وأبى حنيفة وغيرهما استفتاح المأموم أولى من قراءة الفاتحة فى هذه السكتة لأن مقصود القراءة تحصل له باستماعه لقراءة الامام وأما مقصود الاستفتاح فلا يحصل له الا باستفتاحه لنفسه ولأن النبى ( ( كان يسكت مستفتحا وعمر كان يجهر بالاستفتاح ليعلمه المأمومين فعلم أنه مشروع للمأموم ولو اشتغل عنه بالقراءة لفاته الاستفتاح والنبى ( ( لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون فى حال سكوته وهذا مذهب جمهور العلماء لا يستحبون للامام سكوتا لقراءة المأموم وهو مذهب أحمد وأبى حنيفة ومالك وغيرهم
ومن أصحاب أحمد من استحب له السكوت لقراءة المأموم ومنهم من استحب له فى حال سكوت الامام أن يقرأ ولا يستفتح وهو اختيار أبى بكر الدينورى وأبى الفرج بن الجوزى
ومنهم من استحب له القراءة بالفاتحة فى حال جهر الامام كما اختاره جدى أبو البركات وهو مذهب الليث والأوزاعى وغيرهما
ثم من هؤلاء من يستحب له أن يستفتح فى حال سكوته ويقرأ ليجمع بينهما ومنهم من يستحب له القراءة دون السكوت
كما أن الذين يكرهون قراءته حال الجهر منهم من يستحب له
____________________
(23/298)
الاستفتاح حال الجهر ومنهم من يكرهه وهو روايتان عن أحمد ومذهب أحمد وأبى حنيفة وغيرهما أنه فى حال سكوته للاستفتاح يستفتح وهو الأظهر
وما ذكره البخارى من أن عدة من أهل المدينة لم يروا الاستفتاح كمذهب مالك هو حجة للجمهور لأنهم يقولون الامام هنا لا سكوت له وحينئذ فان قرأنا معه خالفنا الكتاب والسنة لكن ما ذكره البخارى حجة على من يستفتح حينئذ فيشتغل بالاستفتاح عن استماع القراءة
وهؤلاء نظروا إلى أن الامام يحمل القراءة عن المأموم ولا يحمل عنه الاستفتاح لكن هذا انما يدل على عدم وجوب القراءة والمأموم مأمور بالاستماع والانصات فلا يشتغل عن ذلك بثناء كما لا يشتغل عنه بقراءة والقراءة أفضل من الثناء فان كان الامام يسكت للثناء وأدركه المأموم أثنى معه وان كان لا يسكت أو أدرك المأموم وهو يقرأ فهو مأمور بالانصات والاستماع فلا يعدل عما أمر به
فان قيل فى وجوب الثناء قولان فى مذهب أحمد قيل فى وجوب القراءة على المأموم قولان فى مذهب أحمد واذا نهى عن القراءة لاستماع قراءة الامام فلأن ينهى عن الثناء أولى لقوله
____________________
(23/299)
( فاستمعوا له وأنصتوا ( والا تناقضوا كما ذكره البخارى
وأما قول أبى هريرة اقرأ بها فى نفسك يا فارسى فانى سمعت رسول الله ( ( يقول ( قال الله قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ( إلى آخره فقد يقال ان أبا هريرة انما أمره بالقراءة لما فى ذلك من الفضيلة المذكورة فى حديث القسمة لا لقوله ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ( فانه لو كان صلاة المأموم خداجا اذا لم يقرأ لأمره بذلك لأجل ذلك الحديث ولم يعلل الأمر بحديث القسمة اللهم الا أن يقال ذكره توكيدا أو لأنه لما قسم القراءة قسم الصلاة فدل على أنه لابد منها فى الصلاة اذ لو خلت عنها لم تكن القسمة موجودة وعلى هذا يبقى الحديثان مدلولهما واحد
وقوله اقرأ بها فى نفسك مجمل فان أراد ما أراد غيره من القراءة فى حال المخافتة أو سكوت الامام لم يكن ذلك مخالفا لقول أولئك يؤيد هذا أن أبا هريرة ممن روى قوله ( واذا قرأ فأنصتوا ( وروى قوله ( لا صلاة الا بفاتحة الكتاب وما زاد ( وقال ( تجزئ فاتحة الكتاب واذا زاد فهو خير ( ومعلوم أن هذا لم يتناول المأموم المستمع لقراءة الامام فان هذا لا تكون الزيادة على الفاتحة خيرا له بل الاستماع والانصات خيرا له فلا يجزم حينئذ بأنه أمره
____________________
(23/300)
أن يقرأ حال استماعه لقراءة الامام بلفظ مجمل
قال البخارى وروى بن صالح عن الاصفهانى عن المختار عن عبد الله بن أبى ليلى عن أبيه عن على ( من قرأ خلف الامام فقد أخطأ الفطرة ( قال وهذا لم يصح لأنه لا يعرف المختار ولا يدرى أنه سمع من ابنه ولا أبيه من على ولا يحتج أهل الحديث بمثله وحديث الزهري عن عبد الله بن أبى رافع عن على أولى وأصح
قلت حديث الزهري بين فى أنه أمره بالقراءة فى صلاة المخافتة لا فى صلاة الجهر وعلى هذا فيكون ان كان قد قال هذا قاله فى صلاة الجهر اذا سمع الامام فلا منافاة بين القولين كما تقدم مثل ذلك عن بن مسعود وبن عمر وغيرهما
قال البخارى وروى داود بن قيس عن أبى نجاد رجل من ولد سعد عن سعد ( وددت أن الذى يقرأ خلف الإمام فى فيه جمر ( قال وهذا مرسل وبن نجاد لم يعرف ولا سمى ولا يجوز لأحد أن يقول فى في القارئ خلف الامام جمرة لأن الجمرة من عذاب الله وقال النبى ( ( ( لا تعذبوا بعذاب الله ( ولا ينبغى لأحد أن يتوهم ذلك على سعد مع ارساله وضعفه قال
____________________
(23/301)
وروى بن حبان عن سلمة بن كهيل عن ابراهيم قال قال عبد الله ( وددت أن الذى يقرأ خلف الامام ملئ فوه تبنا ( قال وهذا مرسل لا يحتج به وخالفه بن عون عن ابراهيم عن الأسود وقال رضفا وليس هذا من كلام أهل العلم لوجوه
أما ( أحدها ( قال النبى ( ( لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بالنار ولا تعذبوا بعذاب الله ( والوجه الآخر ( أنه لا ينبغى لأحد أن يتمنى أن يملأ أفواه أصحاب النبى ( ( عمر بن الخطاب وأبى بن كعب وحذيفة ومن ذكرنا رضفا ولا تبنا ولا ترابا
( والوجه الثالث ( اذا ثبت الخبر عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( وعن أصحابه فليس فى ( قول ( الأسود ونحوه حجة قال بن عباس ومجاهد ليس أحد بعد النبى ( ( الا ويؤخذ من قوله ويترك وقال حماد بن سلمة ( وددت أن الذى يقرأ خلف الامام ملئ فوه سكرا (
قال البخارى وروى عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد بن ثابت قال ( من قرأ خلف الامام فلا صلاة له ( ولا يعرف لهذا
____________________
(23/302)
الاسناد سماع بعضهم من بعض ولا يصح مثله قال وكان سعيد بن المسيب وعروة والشعبى وعبيدالله بن عبد الله ونافع بن جبير وأبو المليح والقاسم بن محمد وابو مجلز ومكحول ومالك وبن عون وسعيد بن أبى عروبة يرون القراءة وكان أنس وعبد الله بن يزيد الأنصارى يستحبان ( القراءة ( خلف الامام
قلت قد روى مسلم فى صحيحه عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت الأنصارى عن القراءة مع الامام فقال لا قراءة مع الامام فى شيء وهذا يتناول القراءة معه فى الجهر كما قال الزهري فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( فيما يجهر فيه
وأما فى صلاة المخافتة فلا يقال قرأ معه كما لا يقال أن أحد المأمومين يقرأ مع الآخر وكما لا يقال أنه استفتح معه وتشهد معه وسبح معه فى الركوع والسجود
وكذلك بن مسعود قد تقدمت الرواية عنه بأنه كان يأمر بانصات المأموم لقراءة الامام وكان يقرأ خلف الامام وعلى هذا فقوله ان كان قاله أو قول أصحابه الذين نقلوا عنه كالأسود
____________________
(23/303)
( وددت أن الذى يقرأ خلف الإمام ملئ فوه رضفا أو تبنا أو ترابا ( يتناول من قرأ وهو يسمع الامام يقرأ فترك ما أمر به من الانصات والاستماع وهذا هو الذى يتناوله قول سعد ان كان قاله ( وددت أن فى فيه جمرا ( لا سيما اذا نازع الامام القراءة بأن يكون الامام أو من يسمع قراءة الامام يسمع حسه فيكون ممن قال النبى ( ( فيه ( مالى أنازع القرآن ( وقال فيه ( علمت أن بعضكم خالجنيها ( وكذلك لو قرأ فى السر ورفع صوته بحيث يخالج الامام وينازعه أو يخالج وينازع غيره من المأمومين لكان مسيئا فى ذلك
وقول حماد بن سلمة وغيره ( وددت أنه ملئ فوه سكرا ( اذا قرأ حيث يستحب له القراءة لقراءته خلف الامام فى صلاة السر وكذلك ما نقل عن زيد بن ثابت أنه قال ( من قرأ خلف الامام فلا صلاة له ( يتناول من ترك ما أمر به وفعل ما نهى عنه فقرأ وهو يسمع قراءة الامام وفى بطلان صلاة هذا وجهان فى مذهب أحمد ومن قال هذا من السلف من صحابى أو تابعى فقد يريد به معنى صحيحا كما فى قول النبى ( ( لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخلص إلى جلده فتحرق ثيابه خير له من أن يجلس على قبر ( وتعذيب الانسان بعذاب فى الدنيا أيسر عليه من ركوب
____________________
(23/304)
ما نهى الله عنه
فمن اعتقد أن قراءته حال استماع امامه معصية لله ورسوله ترك بها ما أمره الله وفعل ما نهى الله عنه جاز أن يقول لأن يحصل بفيه شيء يؤذيه فيمنعه عن المعصية خير له من أن يفعل ما نهى عنه كما قد يقال لمن تكلم بكلمة محرمة لو كنت أخرس لكان خيرا لك ولا يراد بذلك أنا نحن نعذبه بذلك لكن يراد لو ابتلاه الله بهذا لكان خيرا له من أن يقع فى الذنب
وقد قال النبى ( صلى الله عليه وسلم ( للمتلاعنين ( عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ( والواحد من السلف قد يذكر ما فى الفعل من الوعيد وان فعله غيره متأولا لقول عائشة ( اخبرى زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ( ( الا أن يتوب ( وليس فى هذا تلاعن بلعنة الله ولا بالنار ولا تعذيب بعذاب الله بل فيه تمنى أن يبتلى بما يمنعه عن المعصية وان كان فيه أذى له والعالم قد يذكر الوعيد فيما يراه ذنبا مع علمه بأن المتأول مغفور له لا يناله الوعيد لكن يذكر ذلك ليبين أن هذا الفعل مقتضى لهذه العقوبة عنده فكيف وهو لم يذكر الا ما يمنعه عما يراه ذنبا
____________________
(23/305)
وكذلك قول من قال ( وددت أنه ملئ فوه سكرا ( يتناول من فعل ما أمر الله به من القراءة ومع هذا فمن فعل القراءة المنهى عنها معتقدا أنه مأمور به أو ترك المأمور به معتقدا أنه منهى عنه كان مثابا على اجتهاده وخطؤه مغفور له وان كان العالم يقول فى الفعل الذى يرى أنه واجب أو محرم ما يناسب الوجوب والتحريم وليس فى ذلك تمنى أن يملأ أفواه أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( ولا أحدا من المؤمنين رضفا ولا تبنا لأن أولئك عامة ما نقل عنهم من القراءة خلف الامام فى السر وذم الذامين لمن يقرأ فى الجهر فلم يتوارد الذم والفعل وان قدر أنهما تواردا من السلف فهو كتواردهما من الخلف
وحينئذ فهذا يتكلم باجتهاده وهذا باجتهاده وليس ذلك بأعظم من قول بعض أكابر الصحابة لبعض أكابرهم قدام النبى ( ( إنك منافق تجادل عن المنافقين وقول القائل دعنى أضرب عنق هذا المنافق وليس ذلك بأعظم مما وقع بينهم من التأويل فى القتال فى الفتن والدعاء فى القنوت باللعن وغيره مع ما ثبت عن النبى ( ( من قوله ( لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ( وقوله ( اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار ( فاذا كان هذا الوعيد يندفع عنهم بالتأويل
____________________
(23/306)
فى الدماء فلأن يندفع بالتأويل فيما دون ذلك أولى وأحرى
وقد ثبت عن على أنه حرق بالنار المرتدين وكذلك الصديق روى عنه أنه حرق فاذا جاز هذا على الخلاف مع ثبوت النص بخلافه لأجل التأويل لم يمتنع أن يغلط بعضهم فيما يراه ذنبا ومعصية بمثل هذا الكلام
ومعلوم أن النهى عن القراءة خلف الامام فى الجهر متواتر عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم كما أن القراءة خلف الامام فى السر متواترة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم بل ونفى وجوب القراءة على المأموم مطلقا مما هو معروف عنهم
وقد روى البخارى فى هذا الكتاب حدثنا عبد الله بن منير سمع يزيد بن هارون ثنا زياد وهو الجصاص ثنا الحسن حدثنى عمران بن حصين قال ( لا تزكو صلاة مسلم الا بطهور وركوع وسجود وراء الامام وان كان وحده بفاتحة وآيتين أو ثلاث فلم يوجب الفاتحة عليه اذا كان اماما كما أوجب عليه الطهارة والركوع والسجود بل أوجبها مع الانفراد
____________________
(23/307)
ثم روى البخارى قوله ( لا تقرأوا خلفي الا بأم القرآن ( وذكر طرقه وما فيه من الاختلاف فقال حدثنا شجاع بن الوليد ثنا النضر ثنا عكرمة ثنا عمرو بن سعد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال
____________________
(23/308)
(
وقال شيخ الإسلام ( فصل (
الناس فى القراءة خلف الامام متنازعون فى الوجوب والاستحباب فقيل تكره مطلقا كما هو قول أبى حنيفة وغيره
وقيل بل تجب بالفاتحة مطلقا كما هو قول الشافعى فى الجديد وغيره وهو قول بن حزم وزاد لا تشرع بغير ذلك بحال
وقيل بل تجب بها فى صلاة السر فقط كقوله القديم والامام أحمد ذكر اجماع الناس على أنها لا تجب فى صلاة الجهر
والجمهور على أنها لا تجب ولا تكره مطلقا بل تستحب القراءة فى صلاة السر وفى سكتات الامام بالفاتحة وغيرها كما هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما واما اذا لم يكن للامام سكتات فقرأ فيها فهل تكره القراءة أم تستحب بالفاتحة فيه قولان فمذهب أحمد وجمهور أصحابه أنها تكره بالفاتحة وغيرها واختار طائفة أنها تستحب
____________________
(23/309)
حينئذ بالفاتحة وهو اختيار جدى وهو قول الليث والأوزاعى وحجة هذا القول شيئان
( أحدهما ( أن فى قراءتها خروجا من الاختلاف فى وجوبها فانه اذا لم يقرأ ففى صحة صلاته خلاف بخلاف ما اذا قرأ فانما يفوته الاستماع حين قراءتها فقط
( الثانى ( الحديث الذى فى السنن حديث عبادة ( اذا كنتم ورائى أو وراء الامام فلا تقرأوا الا بأم الكتاب فانه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ( وهو حجة الموجبين وهؤلاء يقولون النهى انما هو حال استماع قراءة الامام فقط فاما فى غير ذلك فالقراءة مشروعة فعلم أنه يستثنى الفاتحة حال النهى عن غيرها وهذا يفيد قراءتها حال استماع الجهر ثم هنا ثلاثة أقوال
قيل انها واجبة وأنه لا يقرأ بغيرها بحال كما قاله بن حزم
وقيل بل هي واجبة والنهى عن القراءة بغيرها حال الجهر فلا يفيد النهى مطلقا
وقيل بل يفيد استثناء قراءتها من النهى والاستثناء من النهى
____________________
(23/310)
لا يفيد الوجوب وقوله ( فانه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ( تعليل بوجوب قراءتها فى الصلاة فان كونها ركنا اقتضى أن تستثنى فى هذه الحال للمأموم وان لم تكن مفروضة عليه كفرائض الكفايات اذا قام بها طائفة سقط بها الفرض ثم قام بها آخرون فانه يقال هي فرض على الكفاية وان كان لهم اسقاطها بفعل الغير
ولهذا يقال الجنازة تفعل فى أوقات النهى لأنها فرض وان فعلت مرة ثانية فى أصح الوجهين لأنها تفعل فرضا فى حق هؤلاء وان كان لهم اسقاطها بفعل الغير
وقراءة الفاتحة هي ركن وللمأموم أن يجتزئ بقراءة امامه وله أن يسقطها بنفسه
(
وهذا كما فى صدقة الفطر التى يتحملها الانسان عن غيره كصدقة الزوجة فانها هل تجب على الزوج ابتداء أو تحملا على وجهين أصحهما أنها تحمل فلو أخرجتها الزوجة لجاز فتكون الزوجة مخيرة بين أن تخرجها وبين أن تلزم الزوج باخراجها فلو أخرجها الزوج ثم أخرجتها هي ولم تعتد بذلك الاخراج لكان لكن الامام لابد له من قراءة وهو يتحمل القراءة عن المأموم فالقراءة الواحدة تجزي عن امامه وعنه وان قرأ هو عن نفسه فحسن كسائر فروض الكفايات لكن هذا فرض عين على الأئمة
____________________
(23/311)
وأما الذين كرهوا القراءة فى حال استماع قراءة الامام مطلقا وهم الجمهور فحجتهم قوله تعالى ( واذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ( فأمر بالانصات مطلقا ومن قرأ وهو يستمع فلم ينصت
(
ومن أجاب عن هذا بأن الآية مخصوصة بغير حال قراءة الفاتحة فجوابه من وجوه
( أحدها ( ما ذكره الامام أحمد من اجماع الناس على أنها نزلت فى الصلاة وفى الخطبة وكذلك قوله ( واذا قرأ فانصتوا (
وأيضا فالمستمع للفاتحة هو كالقارئ ولهذا يؤمن على دعائها وقال ( اذا أمن القارئ فأمنوا فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ( وأما الانصات المأمور به حال قراءة الامام فهو من باب المتابعة للامام فهو فاعل للاتباع المأمور به أى بمقصود القراءة واذا قرأ الفاتحة ترك المتابعة المأمور بها بالانصات وترك الانصات المأمور به فى القرآن ولم يعتض عن هذين الأمرين الا بقراءة الفاتحة التى حصل المقصود منها باستماعه قراءة الامام وتأمينه عليها وكان قد ترك الانصات المأمور به إلى غير بدل ففاته هذا الواجب ولم يعتض عنه الا ما حصل مقصوده بدونه ومعلوم أنه اذا دار
____________________
(23/312)
الأمر بين تفويت أحد أمرين على وجه يتضمن تحصيل أحدهما كان تحصيل ما يفوت إلى غير بدل أولى من تحصيل ما يقوم بدله مقامه
وأيضا فلو لم يكن المستمع كالقارئ لكان المستحب حال جهره بغير الفاتحة أن يقرأ المأموم فلما اتفق المسلمون على أن المشروع للمأموم حال سماع القراءة المستحبة أن يستمع ولا يقرأ علم أنه يحصل له مقصود القراءة بالاستماع والا كان المشروع فى حقه التلاوة بل أوجبوا عليه الانصات حال القراءة المستحبة فالانصات حال القراءة الواجبة أولى وأما الحديث فقد طعن فيه الامام أحمد وغيره ولفظ الحديث الذى فى الصحيحين ليس فيه الا قول مطلق
وأيضا فان صح حمل على الامام الذى له سكتات يقرر ذلك أن لفظه ليس فيه عموم فانه قد روى أنه قال ( اذا كنتم ورائى فلا تقرأوا الا بأم الكتاب ( وهذا استثناء من النهى لهم عن القراءة خلفه فالنبى ( ( كان له سكتتان كما روى ذلك سمرة وأبى بن كعب كما ثبت سكوته بين التكبير والقراءة بحديث أبى هريرة المتفق عليه فى الصحيحين والدعاء الذى روى أبو هريرة فى هذا السكوت يمكن فيه قراءة الفاتحة فكيف اذا قرأ بعضها فى سكتة وبعضها فى سكتة أخرى فحينئذ لا يكون فى قوله ( اذا كنتم ورائى فلا تقرأوا الا بأم القرآن ( دليل على أنه يقرأ بها فى حال الجهر
____________________
(23/313)
فان هذا استثناء من النهى فلا يفيد الا الاذن المطلق بمعنى أنهم ليسوا منهيين عن القراءة بها لا يمكن قراءتها فى حال سكتاته
يؤيد هذا أن جمهور المنازعين يسلمون أنه فى صلاة السر يقرأ بالفاتحة وغيرها ويسلمون أنه اذا أمكن أن يقرأ بما زاد على الفاتحة فى سكتات الامام قرأ وأن البعيد الذى لا يسمع يقرأ بالفاتحة وبما زاد فحينئذ يكون هذا النهى خاصا فيمن صلى خلفه فى صلاة الجهر واستثناء قراءة الفاتحة لامكان قراءتها فى سكتاته
يبين هذا أن لفظ الحديث فى الصحيحين من رواية الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ( ( قال ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ( وفى رواية ( بفاتحة الكتاب ( وأما الزيادة فرواها عن عبادة بن الصامت قال كنا خلف رسول الله ( ( فى صلاة الفجر فقرأ رسول الله ( ( فثقلت عليه القراءة فلما فرغ قال ( لعلكم تقرؤون خلف امامكم قلنا نعم يا رسول الله قال لا تفعلوا الا بفاتحة الكتاب فانه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ( رواه أبو داود والترمذى وقال حديث حسن والدارقطنى وقال اسناده حسن
____________________
(23/314)
ورواها عن عبادة بن الصامت قال صلى بنا رسول الله ( ( بعض الصلوات التى يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه القراءة فلما انصرف اقبل علينا بوجهه وقال ( هل تقرؤون اذا جهرت بالقراءة ( فقال بعضنا إنا لنصنع ذلك قال فلا وأنا اقول ما لى أنازع القرآن فلا تقرأوا بشيء من القرآن اذا جهرت بالقراءة الا بأم القرآن ( رواه أبو داود واللفظ له والنسائى والدارقطنى وله أيضا ( لا يجوز صلاة لا يقرأ الرجل فيها فاتحة الكتاب ( وقال اسناد حسن ورجاله كلهم ثقات
ففى هذا الحديث بيان أن النبى ( ( لم يكن يعلم هل يقرؤون وراءه بشيء أم لا ومعلوم أنه لو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان قد أمرهم بذلك وان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولو بين ذلك لهم لفعله عامتهم لم يكن يفعله الواحد أو الاثنان منهم ولم يكن يحتاج إلى استفهامه فهذا دليل على أنه لم يوجب عليهم قراءة خلفه حال الجهر ثم انه لما علم أنهم يقرؤون نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر سواء كان بالفاتحة أو غيرها فالعلة متناولة للأمرين فان ما يوجب ثقل القراءة والتباسها على الامام منهى عنه
____________________
(23/315)
وهذا يفعله كثير من المؤتمين الذين يرون قراءة الفاتحة حال جهر الامام واجبة أو مستحبة فيثقلون القراءة على الامام ويلبسونها عليه ويلبسون على من يقاربهم الاصغاء والاستماع الذى أمروا به فيفوتون مقصود جهر الامام ومقصود استماع المأموم
ومعلوم أن مثل هذا يكون مكروها ثم اذا فرض أن جميع المأمومين يقرؤون خلفه فنفس جهره لا لمن يستمع فلا يكون فيه فائدة لقوله ( اذا أمن فأمنوا ( ويكونون قد أمنوا على قرآن لم يستمعوه ولا استمعه أحد منهم الا أن يقال ان السكوت يجب على الامام بقدر ما يقرؤون وهم لا يوجبون السكوت الذى يسع قدر القراءة وانما يستحبونه فعلم أن استحباب السكوت يناسب استحباب القراءة فيه ولو كانت القراءة على المأموم واجبة لوجب على الامام أن يسكت بقدرها سكوتا فيه ذكر أو سكوتا محضا ولا أعلم أحدا أوجب السكوت لأجل قراءة المأموم
يحقق ذلك أنه قد أوجب الانصات حال قراءة الامام كما فى صحيح مسلم عن أبى موسى قال أن رسول الله ( ( خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال ( أقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فاذا كبر فكبروا واذا قرأ فانصتوا ( ورواه من حديث أبى هريرة أيضا قال قال رسول الله ( صلى الله
____________________
(23/316)
عليه وسلم ( انما جعل الامام ليؤتم به فاذا كبر فكبروا واذا قرأ فانصتوا ( رواه الامام أحمد وأبو داود وبن ماجه والنسائى قيل لمسلم بن الحجاج حديث أبى هريرة هو صحيح يعنى ( اذا قرأ فانصتوا ( قال عندى صحيح قيل له لم لا تضعه ها هنا يعنى فى كتابه قال ليس كل شيء عندى صحيح وضعته ها هنا انما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه يعنى من طريق أبى هريرة لم يجمع عليها وأجمع عليها من رواية أبى موسى ورواها من طريق أبى موسى مسلم ولم يروها مسلم من طريق أبى هريرة
وعن بن أكيمة الليثى عن أبى هريرة أن رسول الله ( ( انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال ( هل قرأ يعنى أحدا منا آنفا قال رجل نعم يا رسول الله قال ( انى أقول مالى أنازع القرآن ( فانتهى الناس عن القراءة معه ( ( ( صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم ( بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك منه ( صلى الله عليه وسلم ( رواه أحمد وأبو داود وبن ماجه والنسائى والترمذى وقال حديث حسن قال أبو داود سمعت محمد بن يحيى بن فارس قال قوله فانتهى الناس عن القراءة إلى آخره من قول الزهري وروى البخارى نحو ذلك فقد قال البيهقى بن أكيمة رجل مجهول لم يحدث الا بهذا الحديث
____________________
(23/317)
وحده ولم يحدث عنه غير الزهري وجواب ذلك من وجوه
( أحدها ( أنه قد قال فيه أبو حاتم الرازى صحيح الحديث حديثه مقبول وتزكية أبى حاتم هو فى الغاية وحكى عن أبى حاتم البستى أنه قال روى عنه الزهري وسعيد بن أبى هلال وبن ابنه عمرو بن مسلم بن عمارة بن أكيمة بن عمر
( الثانى ( أن يقال ليس فى حديث بن أكيمة الا ما فى حديث عبادة الذى اعتمده البيهقى ونحوه من أنهم قرأوا خلف النبى ( ( وأنه قال ( مالى أنازع القرآن (
( الثالث ( ان حديث بن أكيمة رواه أهل السنن الأربعة فاذا كان هذا الحديث هو مسلم صحة متنه وأن الحديث الذى احتج به والذى احتج به منازعوه قد اتفقا على هذه الرواية كان ما اتفقا عليه معمولا به بالاتفاق وما فى حديثه من الزيادة قد انفرد بها من ذلك الطريق ولم يروها الا بعض أهل السنن وطعن فيها الأئمة وكانت الزيادة المختلف فيها أحق بالقدح فى الأصل المتفق على روايته
وأما قوله فانتهى الناس فهذا اذا كان من كلام الزهري كان تابعا فان الزهري أعلم التابعين فى زمنه بسنة رسول الله ( صلى الله
____________________
(23/318)
عليه وسلم ( وهذه المسألة مما تتوفر الدواعى والهمم على نقل ما كان يفعل فيها خلف النبى ( ( ليس ذلك مما ينفرد به الواحد والاثنان فجزم الزهري بهذا من أحسن الأدلة على أنهم تركوا القراءة خلفه حال الجهر بعد ما كانوا يفعلونه وهذا يؤيد ما تقدم ذكره ويوافق قوله ( واذا قرأ فانصتوا ( ولم يستثن فاتحة ولا غيرها وتحقق ان تلك الزيادة اما ضعيفة الأصل أو لم يحفظ راويها لفظها وان معناها كان مما يوافق سائر الروايات والا فلا يمكن تغيير الأصول الكلية الثابتة فى الكتاب والسنة فى هذا الأمر المحتمل والله أعلم
وتمام القول فى ذلك يتضح بما رواه مسلم فى صحيحه عن عمران بن حصين ( أن رسول الله ( ( صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه بسبح اسم ربك الأعلى فلما انصرف قال أيكم قرأ أو أيكم القارئ قال رجل أنا فقال قد ظننت أن بعضكم خالجنيها ( ففى هذا الحديث ان منهم من قرأ خلفه فى صلاة السر بزيادة على الفاتحة ومع ذلك لم ينههم عن ذلك وذلك اقرار منه لهم على القراءة خلفه بالزيادة على الفاتحة فى صلاة السر خلافا لمن قال لا يقرأ خلفه بحال أو لا يقرأ بزيادة على الفاتحة
(
وقوله ( قد ظننت أن بعضكم خالجنيها ( ليس فيه نهى عن اصل
____________________
(23/319)
القراءة وانما يفهم منه أنه لا ينبغى للمأموم أن يرفع حسه بحيث يخالج الامام كما يفعل بعض المأمومين وكما قد يفعل الامام كما قال أبو قتادة كان يسمعنا الآية أحيانا
وفيه أيضا دليل على أنه لم يأمرهم بالقراءة خلفه فى السر لا بالفاتحة ولا غيرها اذ لو كان أمرهم بذلك لم ينكر القراءة خلفه وهو لم ينكر قراءة سورة معينة بل قال ( أيكم قرأ أو أيكم القارئ ( بل من المعلوم فى العادة أن القارئ خلفه لم يقرأ بسبح الا بعد الفاتحة فهذا يدل على أنه لا تجب القراءة على المأموم فى السر لا بالفاتحة ولا غيرها
كما يدل على ذلك حديث أبى بكر لما استخلفه النبى ( صلى الله عليه وسلم ( فى الصلاة حين ذهب يصلح بين بنى عمرو بن عوف ثم رجع يقرأ من حيث انتهى أبو بكر وكما فى حديث أبى بكرة الذى رواه البخارى فى صحيحه لما ركع دون الصف ثم دخل فى الصلاة وقال له النبى ( صلى الله عليه وسلم ( زادك الله حرصا ولا تعد ( ولو كانت قراءة الفاتحة فرضا على المأموم مطلقا لم تسقط بسبق ولا جهل كما أن الأعرابى المسيء فى صلاته قال له ( ارجع فصل فانك لم تصل ( وأمر الذى صلى خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة
____________________
(23/320)
وأيضا فتحمل الامام القراءة عن المأموم لا يمنع أن يكون للمأموم أن يقرأ فيأتى هو بالكمال فى ذلك فان ذلك خير من السكوت الذى لا استماع معه وهذا أمر معلوم متيقن من الشريعة أن القارئ للقرآن افضل من الساكت الذى لا يستمع قراءة غيره وهو داخل فى قوله ( من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات أما انى لا أقول ( ألم ( حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ( فكراهة هذا العمل الصالح الذى يحبه الله ورسوله لا وجه له أصلا وهذا بخلاف المستمع فان استماعه يقوم مقام قراءته
ودليل ذلك اتفاقهم على أنه مأمور حال القراءة المستحبة بالانصات اما أمر ايجاب واما أمر استحباب وأنه مكروه لهم القراءة حال الاستماع فلولا أن الاستماع كالقراءة بل وأفضل لم يكن مأمورا بالانصات منهيا عن القراءة فان الله لا يأمر بالأدنى وينهى عن الأفضل
ومما يؤيد ذلك قوله فى حديث عبادة ( فلا تقرأوا بشيء من القرآن اذا جهرت بالقراءة الا بأم القرآن ( فانما نهاهم عن القراءة اذا جهر وكذلك قول الزهري فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله ( ( فيما جهر فيه رسول الله ( ( حين سمعوا ذلك من رسول الله
____________________
(23/321)
وهذا المفسر يقيد المطلق فى اللفظ الآخر قال ( تقرؤون خلف امامكم قلنا نعم قال فلا تفعلوا الا بفاتحة الكتاب ( يعنى فى الجهر ويبين أيضا ما رواه أحمد فى المسند عن عبد الله بن مسعود قال كانوا يقرؤون خلف النبى ( ( فقال ( خلطتم على القرآن ( فهذا لا يكون فى صلاة جهر أو فى صلاة سر رفع المأموم فيها صوته حتى سمعه الامام والا فالمأموم الذى يقرأ سرا فى نفسه لا يخلط على الامام ولا يخلط عليه الامام بخلاف المأموم الذى يقرأ حال قراءة الامام فان الامام قطعا يخلط عليه حتى ان من المأمومين من يعيد الفاتحة مرات لأن صوت الامام يشغله قطعا
بل اذا كان النبى ( ( قد جعل المأموم يخلط عليه ويلبس ويخالج الامام فكيف بالامام فى حال جهره مع المأموم والمأموم يلبس على المأموم حال الجهر لأنه اذا جهر وحده كان أدنى حس يلبس عليه ويثقل عليه القراءة فان لم تكن الأصوات هادئة هدوءا تاما والا ثقلت عليه القراءة ولبس عليه وهذا أمر محسوس
ولهذا تجد الذين يشهدون سماع القصائد سماع المكاء والتصدية يشوشون بأدنى حس وينكرون على من يشوش وكذلك من قرأ القرآن خارج الصلاة فانه يشوش عليه بأدنى حس فكيف من يقرأ فى الصلاة ولو قرأ قارئ خارج الصلاة على جماعة وهم لا ينصتون له بل
____________________
(23/322)
يقرؤون لأنفسهم لتشوش عليه فقد تبين بالأدلة السمعية والقياسية القول المعتدل فى هذه المسألة والله أعلم
والآثار المروية عن الصحابة فى هذا الباب تبين الصواب فعن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الامام فقال ( لا قراءة مع الامام فى شيء ( رواه مسلم ومعلوم أن زيد بن ثابت من أعلم الصحابة بالسنة وهو عالم أهل المدينة فلو كانت القراءة بالفاتحة أو غيرها حال الجهر مشروعة لم يقل لا قراءة مع الامام فى شيء
وقوله ( مع الامام ( انما يتناول من قرأ معه حال الجهر فأما حال المخافتة فلا هذا يقرأ مع هذا ولا هذا مع هذا وكلام زيد هذا ينفى الايجاب والاستحباب ويثبت النهى والكراهة
وعن وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل الا وراء الامام رواه مالك فى الموطأ وجابر آخر من مات من الصحابة بالمدينة وهو من أعيان تلك الطبقة وروى مالك أيضا عن نافع عن عبد الله بن عمر كان اذا سئل هل يقرأ أحد خلف الامام يقول اذا صلى أحدكم
____________________
(23/323)
خلف الامام فحسبه قراءة الامام واذا صلى وحده فليقرأ قال وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الامام وبن عمر من أعلم الناس بالسنة وأتبعهم لها
ولو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان هذا من العلم العام الذى بينه النبى ( ( بيانا عاما ولو بين ذلك لهم لكانوا يعملون به عملا عاما ولكان ذلك فى الصحابة لم يخف مثل هذا الواجب على بن عمر حتى يتركه مع كونه واجبا عام الوجوب على عامة المصلين قد بين بيانا عاما بخلاف ما يكون مستحبا فان هذا قد يخفى
وروى البيهقى عن أبى وائل أن رجلا سأل بن مسعود عن القراءة خلف الامام فقال انصت للقرآن فان فى الصلاة لشغلا وسيكفيك ذاك الامام فقول بن مسعود هذا يبين أنه انما نهاه عن القراءة خلف الامام لأجل الانصات والاشتغال به لم ينهه اذا لم يكن مستمعا كما فى صلاة السر وحال السكتات فان المأموم حينئذ لا يكون منصتا ولا مشتغلا بشيء وهذا حجة على من خالف بن مسعود من الكوفيين ومبين لما رواه عن النبى ( ( كما تقدم
____________________
(23/324)
وحديث جابر الذى تقدم قد روى مرفوعا ومسندا ومرسلا فأما الموقوف على جابر فثابت بلا نزاع وكذلك المرسل ثابت بلا نزاع من رواية الأئمة عن عبد الله بن شداد عن النبى ( ( أنه قال ( من كان له امام فقراءة الامام له قراءة ( وأما المسند فتكلم فيه رواه بن ماجه من حديث جابر الجعفى عن جابر بن عبد الله وجابر الجعفى كذبه أيوب وزائدة ووثقه الثورى وسعيد وقال بن معين لا يكتب حديثه ولا كرامة ليس بشيء وقال النسائى متروك وروى أبو داود عن أحمد أنه قال لم يتكلم فى جابر لحديثه انما تكلم فيه لرأيه قال أبو داود ليس عندى بالقوى من حديثه وقوله ( فقراءة الامام له قراءة ( لا تدل على أنه لا يستحب للمأموم القراءة كما احتج بذلك من احتج به من الكوفيين فان قوله ( قراءة الامام له قراءة ( دليل على أن له أن يجتزئ بذلك وان الواجب يسقط عنه بذلك لا يدل على أنه ليس له أن يقرأ كما فى مواضع كثيرة وله أن يسقط الواجب بفعل غيره وله أن يفعله هو بنفسه وكذلك المستحب واقصى ما يقدر أن يكون هو كأنه قد قرأ
ثم ان أذكار الصلاة واجبها ومستحبها اذا فعلها العبد مرة
____________________
(23/325)
لم يكره له ان يفعلها فى محلها مرة ثانية لغرض صحيح مع أنه قد ثبت عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( انه كان يقول ( الله اكبر كبيرا الله اكبر كبيرا الله اكبركبيرا ( وكان النبى يردد الآية الواحدة كما ردد قوله ( إن تعذبهم فانهم عبادك ( آخر ما وجد والحمد لله وحده وصلى الله على محمد النبى وآله وسلم
____________________
(23/326)
وقال أيضا ( فصل (
وأما القراءة خلف الامام فالناس فيها طرفان ووسط
منهم من يكره القراءة خلف الامام حتى يبلغ بها بعضهم إلى التحريم سواء فى ذلك صلاة السر والجهر وهذا هو الغالب على أهل الكوفة ومن اتبعهم كأصحاب أبى حنيفة
ومنهم من يؤكد القراءة خلف الامام حتى يوجب قراءة الفاتحة وإن سمع الامام يقرأ وهذا هو الجديد من قولى الشافعى وقول طائفة معه
ومنهم من يأمر بالقراءة فى صلاة السر وفى حال سكتات الامام فى صلاة الجهر والبعيد الذى لا يسمع الامام وأما القريب الذى يسمع قراءة الامام فيأمرونه بالانصات لقراءة امامه اقامة للاستماع مقام التلاوة وهذا قول الجمهور كمالك وأحمد وغيرهم
____________________
(23/327)
من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار وعليه يدل عمل أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث
(
وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم فى صلاة المأموم هل هي مبنية على صلاة الامام أم كل واحد منهما يصلى لنفسه كما تقدم التنبيه عليه فأصل أبى حنيفة أنها داخلة فيها ومبنية عليها مطلقا حتى أنه يوجب الاعادة على المأموم حيث وجبت الاعادة على الامام وأصل الشافعى ان كل رجل يصلى لنفسه لا يقوم مقامه لا فى فرض ولا سنة ولهذا أمر المأموم بالتسميع وأوجب عليه القراءة ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الامام الا فى مواضع مستثناة كتحمل الامام عن المأموم سجود السهو وتحمل القراءة اذا كان المأموم مسبوقا وابطال صلاة القارئ خلف الأمى ونحو ذلك واما مالك وأحمد فانها مبنية عليها من وجه دون وجه كما ذكرناه من الاستماع للقراءة فى حال الجهر والمشاركة فى حال المخافتة ولا يقول المأموم عندهما سمع الله لمن حمده بل يحمد جوابا لتسميع الامام كما دلت عليه النصوص الصحيحة وهى مبنية عليها فيما يعذران فيه دون ما لا يعذران كما تقدم فى الامامة
____________________
(23/328)
وسئل
عن قراءة المؤتم خلف الامام جائزة أم لا واذا قرأ خلف الامام هل عليه اثم فى ذلك أم لا
فأجاب القراءة خلف الامام فى الصلاة لا تبطل عند الأئمة رضوان الله عليهم لكن تنازع العلماء أيما أفضل فى حق المأموم
فمذهب مالك والشافعى وأحمد أن الأفضل له أن يقرأ فى حال سكوت الامام كصلاة الظهر والعصر والأخيرتين من المغرب والعشاء وكذلك يقرأ فى صلاة الجهر اذا لم يسمع قراءته ومذهب أبى حنيفة أن الأفضل أن لا يقرأ خلفه بحال والسلف رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين منهم من كان يقرأ ومنهم من كان لا يقرأ خلف الامام
وأما اذا سمع المأموم قراءة الامام فجمهور العلماء على أنه يستمع ولا يقرأ بحال وهذا مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم ومذهب الشافعى أنه يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة ومذهب
____________________
(23/329)
طائفة كالأوزاعى وغيره من الشاميين يقرأها استحبابا وهو اختيار جدنا
والذى عليه جمهور العلماء هو الفرق بين حال الجهر وحال المخافتة فيقرأ فى حال السر ولا يقرأ فى حال الجهر وهذا أعدل الأقوال لأن الله تعالى قال ( واذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ( فاذا قرأ الامام فليستمع واذا سكت فليقرأ فان القراءة خير من السكوت الذى لا استماع معه ومن قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات كما قال النبى ( ( فلا يفوت هذا الأجر بلا فائدة بل يكون اما مستمعا واما قارئا والله سبحانه وتعالى أعلم
وسئل
عما تدرك به الجمعة والجماعة
فأجاب اختلف الفقهاء فيما تدرك به الجمعة والجماعة على ثلاثة اقوال
( أحدها ( أنهما لا يدركان الا بركعة وهو مذهب مالك
____________________
(23/330)
وأحمد فى احدى الروايتين عنه اختارها جماعة من أصحابه وهو وجه فى مذهب الشافعى واختاره بعض أصحابه أيضا كأبى المحاسن الريانى وغيره
( والقول الثانى ( أنهما يدركان بتكبيرة وهو مذهب أبى حنيفة
( والقول الثالث ( أن الجمعة لا تدرك الا بركعة والجماعة تدرك بتكبيرة وهذا القول هو المشهور من مذهب الشافعى وأحمد والصحيح هو القول الأول لوجوه
( أحدها ( أن قدر التكبيرة لم يعلق به الشارع شيئا من الأحكام لا فى الوقت ولا فى الجمعة ولا الجماعة ولا غيرها فهو وصف ملغى فى نظر الشارع فلا يجوز اعتباره
( الثانى ( أن النبى ( ( انما علق الأحكام بادراك الركعة فتعليقها بالتكبيرة الغاء لما اعتبره واعتبار لما ألغاه وكل ذلك فاسد فيما اعتبر فيه الركعة وعلق الادراك بها فى الوقت ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول الله ( ( اذا أدرك أحدكم ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب
____________________
(23/331)
الشمس فليتم صلاته واذا أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته (
وأما ما فى بعض طرقه ( اذا أدرك أحدكم سجدة ( فالمراد بها الركعة التامة كما فى اللفظ الآخر ولأن الركعة التامة تسمى باسم الركوع فيقال ركعة وباسم السجود فيقال سجدة وهذا كثير فى ألفاظ الحديث مثل هذا الحديث وغيره
( الثالث ( أن النبى ( ( علق الادراك مع الامام بركعة وهو نص فى المسألة ففى الصحيحين من حديث أبى هريرة عن النبى ( ( من أدرك ركعة من الصلاة مع الامام فقد أدرك الصلاة ( وهذا نص رافع للنزاع
( الرابع ( أن الجمعة لا تدرك الا بركعة كما أفتى به أصحاب رسول الله ( ( منهم بن عمر وبن مسعود وأنس وغيرهم ولا يعلم لهم فى الصحابة مخالف وقد حكى غير واحد أن ذلك اجماع الصحابة والتفريق بين الجمعة والجماعة غير صحيح ولهذا أبو حنيفة طرد أصله وسوى بينهما ولكن الأحاديث الثابتة وآثار الصحابة تبطل ما ذهب إليه
( الخامس ( أن ما دون الركعة لا يعتد به من الصلاة فانه يستقبلها
____________________
(23/332)
جميعها منفردا فلا يكون قد أدرك مع الامام شيئا يحتسب له به فلا يكون قد اجتمع هو والامام فى جزء من أجزاء الصلاة يعتد له به فتكون صلاته جميعا صلاة منفرد يوضح هذا أنه لا يكون مدركا للركعة الا اذا أدرك الامام فى الركوع واذا أدركه بعد الركوع لم يعتد له بما فعله معه مع أنه قد أدرك معه القيام من الركوع والسجود وجلسة الفصل ولكن لما فاته معظم الركعة وهو القيام والركوع فاتته الركعة فكيف يقال مع هذا أنه قد أدرك الصلاة مع الجماعة وهو لم يدرك معهم ما يحتسب له به فادراك الصلاة بادراك الركعة نظير ادراك الركعة بادراك الركوع لأنه فى الموضعين قد أدرك ما يعتد له به واذا لم يدرك من الصلاة ركعة كان كمن لم يدرك الركوع مع الامام فى فوت الركعة لأنه فى الموضعين لم يدرك ما يحتسب له به وهذا من أصح القياس
( السادس ( أنه ينبنى على هذا أن المسافر اذا ائتم بمقيم وادرك معه ركعة فما فوقها فانه يتم الصلاة وان أدرك معه أقل من ركعة صلاها مقصورة نص عليه الامام أحمد فى احدى الروايتين عنه وهذا لأنه بادراك الركعة قد ائتم بمقيم فى جزء من صلاته فلزمه الاتمام واذا لم يدرك معه ركعة فصلاته صلاة منفرد فيصليها مقصورة
____________________
(23/333)
وينبنى عليه أيضا أن المرأة الحائض اذا طهرت قبل غروب الشمس بقدر ركعة لزمها العصر وان طهرت قبل الفجر بقدر ركعة لزمها العشاء وان حصل ذلك بأقل من مقدار ركعة لم يلزمها شيء وأما الظهر والمغرب فهل يلزمها بذلك فيه خلاف مشهور فقيل لا يلزمها وهو قول أبى حنيفة وقيل يلزمها وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد ورواه الامام أحمد عن بن عباس وعبد الرحمن بن عوف
ثم اختلف هؤلاء فيما تلزم به الصلاة الأولى على قولين
( أحدهما ( تجب بما تجب به الثانية وهل هو ركعة أو تكبيرة على قولين ( والثانى ( لا تجب الا بأن تدرك زمنا يتسع لفعلها وهو أصح
وقريب من هذا اختلافهم فيما اذا دخل عليها الوقت وهى طاهرة ثم حاضت هل يلزمها قضاء الصلاة أم لا على قولين
( أحدهما ( لا يلزمها كما يقوله مالك وابو حنيفة
( والثانى ( يلزمها كما يقوله الشافعى وأحمد
____________________
(23/334)
ثم اختلف الموجبون عليها الصلاة فيما يستقر به الوجوب على قولين ( أحدهما ( قدر تكبيرة وهو المشهور فى مذهب أحمد
( والثانى ( أن يمضى عليها زمن تتمكن فيه من الطهارة وفعل الصلاة وهو القول الثانى فى مذهب أحمد والشافعى
ثم اختلفوا بعد ذلك هل يلزمها فعل الثانية من المجموعتين مع الأولى على قولين وهما روايتان عن الامام أحمد والأظهر فى الدليل مذهب أبى حنيفة ومالك أنها لا يلزمها شيء لأن القضاء انما يجب بأمر جديد ولا أمر هنا يلزمها بالقضاء ولأنها أخرت تأخيرا جائزا فهي غير مفرطة وأما النائم أو الناسى وان كان غير مفرط أيضا فان ما يفعله ليس قضاء بل ذلك وقت الصلاة فى حقه حين يستيقظ ويذكر كما قال النبى ( ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها فان ذلك وقتها ( وليس عن النبى ( ( حديث واحد بقضاء الصلاة بعد وقتها وانما وردت السنة بالاعادة فى الوقت لمن ترك واجبا من واجبات الصلاة كأمره للمسيء فى صلاته بالاعادة لما ترك الطمأنينة المأمور بها وكأمره لمن صلى خلف الصف منفردا بالاعادة لما ترك المصافة الواجبة وكأمره
____________________
(23/335)
لمن ترك لمعة من قدمه لم يصبها الماء بالاعادة لما ترك الوضوء المأمور به وأمر النائم والناسى بأن يصليا اذا ذكرا وذلك هو الوقت فى حقهما والله سبحانه وتعالى أعلم
وسئل رحمه الله
عمن يرفع قبل الامام ويخفض ونهى فلم ينته فما حكم صلاته وما يجب عليه فأجاب اما مسابقة الامام فحرام باتفاق الأئمة لا يجوز لأحد أن يركع قبل امامه ولا يرفع قبله ولا يسجد قبله وقد استفاضت الأحاديث عن النبى ( ( بالنهى عن ذلك كقوله فى الحديث الصحيح ( لا تسبقونى بالركوع ولا بالسجود فانى مهما أسبقكم به اذا ركعت تدركونى به اذا رفعت انى قد بدنت ( وقوله ( إنما جعل الامام ليؤتم به فاذا كبر فكبروا واذا ركع فاركعوا فان الامام يركع قبلكم ويرفع قبلكم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( فتلك بتلك واذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم واذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فان الامام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم فتلك بتلك
____________________
(23/336)
وكقوله ( ( ( أما يخشى الذى يرفع رأسه قبل الامام أن يحول الله رأسه راس حمار ( وهذا لأن المؤتم متبع للامام مقتد به والتابع المقتدى لا يتقدم على متبوعه وقدوته فاذا تقدم عليه كان كالحمار الذى لا يفقه ما يراد بعمله كما جاء فى حديث آخر ( مثل الذى يتكلم والخطيب يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارا (
ومن فعل ذلك استحق العقوبة والتعزير الذى يردعه وأمثاله كما روى عن عمر أنه رأى رجلا يسابق الامام فضربه وقال لا وحدك صليت ولا بامامك اقتديت
واذا سبق الامام سهوا لم تبطل صلاته لكن يتخلف عنه بقدر ما سبق به الامام كما أمر بذلك أصحاب رسول الله ( ( لأن صلاة المأموم مقدرة بصلاة الامام وما فعله قبل الامام سهوا لا يبطل صلاته لأنه زاد فى الصلاة ما هو من جنسها سهوا فكان كما لو زاد ركوعا أو سجودا سهوا وذلك لا يبطل بالسنة والاجماع ولكن ما يفعله قبل الامام لا يعتد به على الصحيح لأنه فعله فى غير محله لأن ما قبل فعل الامام ليس وقتا لفعل المأموم فصار بمنزلة من صلى قبل الوقت أو بمنزلة من كبر قبل تكبير الامام فان هذا لا يجزئه عما أوجب الله عليه بل لابد أن يحرم اذا حل الوقت لا قبله وان يحرم المأموم اذا أحرم الامام لا قبله فكذلك المأموم
____________________
(23/337)
لابد أن يكون ركوعه وسجوده اذا ركع الامام وسجد لا قبل ذلك فما فعله سابقا وهو ساه عفى له عنه ولم يعتد له به فلهذا أمره الصحابة والأئمة أن يتخلف بمقداره ليكون فعله بقدر فعل الامام
وأما اذا سبق الامام عمدا ففى بطلان صلاته قولان معروفان فى مذهب أحمد وغيره ومن أبطلها قال ان هذا زاد فى الصلاة عمدا فتبطل كما لو فعل قبله ركوعا أو سجودا عمدا فان الصلاة تبطل بلا ريب وكما لو زاد فى الصلاة ركوعا أو سجودا عمدا وقد قال الصحابة للمسابق لا وحدك صليت ولا بامامك اقتديت ومن لم يصل وحده ولا مؤتما فلا صلاة له وعلى هذا ( فعلى ( المصلى أن يتوب من المسابقة ويتوب من نقر الصلاة وترك الطمأنينة فيها وان لم ينته فعلى الناس كلهم أن يأمروه بالمعروف الذى أمره الله به وينهوه عن المنكر الذى نهاه الله عنه فان قام بذلك بعضهم والا أثموا كلهم
ومن كان قادرا على تعزيره وتأديبه على الوجه المشروع فعل ذلك ومن لم يمكنه الا هجره وكان ذلك مؤثرا فيه هجره حتى يتوب والله أعلم
____________________
(23/338)
وسئل
عن المصافحة عقيب الصلاة هل هي سنة أم لا
فأجاب الحمد لله المصافحة عقيب الصلاة ليست مسنونة بل هي بدعة والله أعلم
____________________
(23/339)
& باب الإمامة سئل رحمه الله عن الامامة هل فعلها أفضل أم تركها
فأجاب بل يصلى بهم وله أجر بذلك كما جاء فى الحديث ( ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة رجل أم قوما وهم له راضون ( الحديث والله أعلم
وسئل رحمه
الله عن رجلين أحدهما حافظ للقرآن وهو واعظ يحضر الدف والشبابة والآخر عالم متورع فأيهما أولى بالإمامة فأجاب ثبت فى صحيح مسلم عن أبى مسعود البدرى أن النبى ( ( قال ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فان كانوا
____________________
(23/340)
فى القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة فان كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم سنا (
فاذا كان الرجلان من أهل الديانة فأيهما كان أعلم بالكتاب والسنة وجب تقديمه على الآخر متعينا فان كان أحدهما فاجرا مثل أن يكون معروفا بالكذب والخيانة ونحو ذلك من أسباب الفسوق والآخر مؤمنا من أهل التقوى فهذا الثانى أولى بالامامة اذا كان من أهلها وان كان الأول اقرأ وأعلم فان الصلاة خلف الفاسق منهى عنها نهى تحريم عند بعض العلماء ونهى تنزيه عند بعضهم وقد جاء فى الحديث ( لا يؤمن فاجر مؤمنا الا أن يقهره بسوط أو عصا ( ولا يجوز تولية الفاسق مع امكان تولية البر والله أعلم
____________________
(23/341)
وقال شيخ الإسلام ( فصل (
وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع وخلف أهل الفجور ففيه نزاع مشهور وتفصيل ليس هذا موضع بسطه
لكن أوسط الأقوال فى هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء فى الامامة لا يجوز مع القدرة على غيره فان من كان مظهرا للفجور أو البدع يجب الانكار عليه ونهيه عن ذلك وأقل مراتب الانكار هجره لينتهى عن فجوره وبدعته ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية فان الداعية أظهر المنكر فاستحق الانكار عليه بخلاف الساكت فانه بمنزلة من أسر بالذنب فهذا لا ينكر عليه فى الظاهر فان الخطيئة اذا خفيت لم تضر الا صاحبها ولكن اذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم وتوكل سرائرهم إلى الله تعالى بخلاف من أظهر الكفر
____________________
(23/342)
فاذا كان داعية منع من ولايته وامامته وشهادته وروايته لما فى ذلك من النهى عن المنكر لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه فى شهادته وروايته فاذا أمكن لانسان الا يقدم مظهرا للمنكر فى الامامة وجب ذلك لكن اذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الامامة أو كان هو لا يتمكن من صرفه الا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهره من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين فان الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الامكان ومطلوبها ترجيح خير الخيرين اذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين اذا لم يندفعا جميعا
فاذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور الا بضرر زائد على ضرر امامته لم يجز ذلك بل يصلى خلفه ما لا يمكنه فعلها الا خلفه كالجمع والأعياد والجماعة اذا لم يكن هناك امام غيره ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج والمختار بن أبى عبيد الثقفى وغيرهما الجمعة والجماعة فان تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بامام فاجر لا سيما اذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقا معدودين عند
____________________
(23/343)
السلف والأئمة من أهل البدع
واما اذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهو اولى من فعلها خلف الفاجر وحينئذ فاذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد للعلماء
منهم من قال انه يعيد لأنه فعل ما لا يشرع بحيث ترك ما يجب عليه من الانكار بصلاته خلف هذا فكانت صلاته خلفه منهيا عنها فيعيدها
ومنهم من قال لا يعيد قال لأن الصلاة فى نفسها صحيحة وما ذكر من ترك الانكار هو أمر منفصل عن الصلاة وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة
وأما اذا لم يمكنه الصلاة الا خلفه كالجمعة فهنا لا تعاد الصلاة واعادتها من فعل أهل البدع وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه اذا قيل ان الصلاة خلف الفاسق لا تصح أعيدت الجمعة خلفه والا لم تعد وليس كذلك بل النزاع فى الاعادة حيث ينهى الرجل عن الصلاة فاما اذا أمر بالصلاة خلفه فالصحيح هنا أنه لا اعادة عليه لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين
____________________
(23/344)
(
وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء فهناك قد تنازعوا فى نفس صلاة الجمعة خلفه ومن قال انه يكفر أمر بالاعادة لأنها صلاة خلف كافر لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء والناس مضطربون فى هذه المسألة وقد حكى عن مالك فيها روايتان وعن الشافعى فيها قولان وعن الامام أحمد أيضا فيها روايتان وكذلك أهل الكلام فذكروا للأشعرى فيها قولان وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل
وحقيقة الأمر فى ذلك ان القول قد يكون كفرا فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذى قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر تاركها
وهذا كما فى نصوص الوعيد فان الله سبحانه وتعالى يقول ( ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ( فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع فقد لا يكون التحريم بلغه وقد يتوب من فعل المحرم وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه وقد يشفع فيه شفيع مطاع
____________________
(23/345)
وهكذا الأقوال التى يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها فمن كان من المؤمنين مجتهدا فى طلب الحق وأخطأ فان الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان فى المسائل النظرية أو العملية هذا الذى عليه أصحاب النبى ( صلى الله عليه وسلم ( وجماهير أئمة الاسلام
وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بانكارها ومسائل فروع لا يكفر بانكارها
فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع فهذا الفرق ليس له اصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم باحسان ولا أئمة الاسلام وانما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء فى كتبهم وهو تفريق متناقض فانه يقال لمن فرق بين النوعين ما حد مسائل الأصول التى يكفر المخطئ فيها وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع فان قال مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل قيل له فتنازع الناس فى محمد ( ( هل رأى ربه أم لا وفى أن عثمان افضل من على أم على افضل وفى كثير من معانى القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق
____________________
(23/346)
ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية والمنكر لها يكفر بالاتفاق
وان قال الأصول هي المسائل القطعية قيل له كثير من مسائل العمل قطعية وكثير من مسائل العلم ليست قطعية وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الاضافية وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له كمن سمع النص من الرسول ( ( وتيقن مراده منه وعند رجل لا تكون ظنية فضلا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص اياه أو لعدم ثبوته عنده أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته
وقد ثبت فى الصحاح عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( حديث الذى قال لأهله ( اذا أنا مت فاحرقونى ثم اسحقونى ثم ذرونى فى اليم فوالله لئن قدر الله على ليعذبنى الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين فامر الله البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه وقال ما حملك على ما صنعت قال خشيتك يا رب فغفر الله له ( فهذا شك فى قدرة الله وفى المعاد بل ظن أنه لا يعود وأنه لا يقدر الله عليه اذا فعل ذلك وغفر الله له وهذه المسائل مبسوطة فى غير هذا الموضع
____________________
(23/347)
ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف فى ذلك ولم يفهموا غور قولهم فطائفة تحكى عن أحمد فى تكفير أهل البدع روايتين مطلقا حتى تجعل الخلاف فى تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلى وربما رجحت التكفير والتخليد فى النار وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الاسلام بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون الايمان قول بلا عمل ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم وانما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته لأن مناقضة اقوالهم لما جاء به الرسول ( ( ظاهرة بينة ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق وكان قد ابتلى بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة
لكن ما كان يكفر أعيانهم فان الذى يدعو إلى القول أعظم من الذى يقول به والذى يعاقب مخالفه أعظم من الذى يدعو فقط والذى يكفر مخالفه أعظم من الذى يعاقبه ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية ان القرآن مخلوق وأن الله لا يرى فى الآخرة وغير ذلك ويدعون الناس إلى ذلك
____________________
(23/348)
ويمتحنونهم ويعاقبونهم اذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم حتى أنهم كانوا اذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية ان القرآن مخلوق وغير ذلك ولا يولون متوليا ولا يعطون رزقا من بيت المال الا لمن يقول ذلك ومع هذا فالامام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لمن يبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به ولكن تأولوا فأخطأوا وقلدوا من قال لهم ذلك
وكذلك الشافعى لما قال لحفص الفرد حين قال القرآن مخلوق كفرت بالله العظيم بين له أن هذا القول كفر ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك لأنه لم يتبين له الحجة التى يكفر بها ولو اعتقد أنه مرتد لسعى فى قتله وقد صرح فى كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم
وكذلك قال مالك رحمه الله والشافعى وأحمد فى القدرى ان جحد علم الله كفر ولفظ بعضهم ناظروا القدرية بالعلم فان أقروا به خصموا وان جحدوه كفروا
وسئل أحمد عن القدرى هل يكفر فقال ان جحد العلم كفر وحينئذ فجاحد العلم هو من جنس الجهمية وأما قتل الداعية إلى
____________________
(23/349)
البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس كما يقتل المحارب وان لم يكن فى نفس الأمر كافرا فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته وعلى هذا قتل غيلان القدرى وغيره قد يكون على هذا الوجه وهذه المسائل مبسوطة فى غير هذا الموضع وانما نبهنا عليها تنبيها
( فصل (
وأما من لا يقيم قراءة الفاتحة فلا يصلى خلفه الا من هو مثله فلا يصلى خلف الألثغ الذى يبدل حرفا بحرف الا حرف الضاد اذا أخرجه من طرف الفم كما هو عادة كثير من الناس فهذا فيه وجهان
منهم من قال لا يصلى خلفه ولا تصح صلاته فى نفسه لأنه أبدل حرفا بحرف لأن مخرج الضاد الشدق ومخرج الظاء طرف الأسنان فاذا قال ( ولا الظالين ( كان معناه ظل يفعل كذا
( والوجه الثانى ( تصح وهذا أقرب لأن الحرفين فى السمع شيء واحد وحس أحدهما من جنس حس الآخر لتشابه المخرجين والقارئ انما يقصد الضلال المخالف للهدى وهو الذى يفهمه المستمع فاما المعنى المأخوذ من ظل فلا يخطر ببال أحد وهذا بخلاف الحرفين
____________________
(23/350)
المختلفين صوتا ومخرجا وسمعا كابدال الراء بالغين فان هذا لا يحصل به مقصود القراءة
وسئل رحمه الله
عن الصلاة خلف المرازقة وعن بدعتهم
فأجاب يجوز للرجل أن يصلى الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد امامه ولا أن يمتحنه فيقول ماذا تعتقد بل يصلى خلف مستور الحال
ولو صلى خلف من يعلم أنه فاسق أو مبتدع ففى صحة صلاته قولان مشهوران فى مذهب أحمد ومالك ومذهب الشافعى وأبى حنيفة الصحة
وقول القائل لا أسلم مالى الا لمن أعرف ومراده لا أصلى خلف من لا أعرفه كما لا أسلم مالى الا لمن أعرفه كلام جاهل لم يقله أحد من أئمة الإسلام فان المال اذا أودعه الرجل المجهول فقد يخونه
____________________
(23/351)
فيه وقد يضيعه وأما الامام فلو أخطأ أو نسى لم يؤاخذ بذلك المأموم كما فى البخارى وغيره أن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( قال ( أئمتكم يصلون لكم ولهم فان اصابوا فلكم ولهم وان أخطأوا فلكم وعليهم ( فجعل خطأ الامام على نفسه دونهم وقد صلى عمر وغيره من الصحابة رضى الله عنهم وهو جنب ناسيا للجنابة فأعاد ولم يأمر المأمومين بالاعادة وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك والشافعى وأحمد فى المشهور عنه
وكذلك لو فعل الامام ما يسوغ عنده وهو عند المأموم يبطل الصلاة مثل أن يفتصد ويصلى ولا يتوضأ أو يمس ذكره أو يترك البسملة وهو يعتقد أن صلاته تصح مع ذلك والمأموم يعتقد أنها لا تصح مع ذلك فجمهور العلماء على صحة صلاة المأموم كما هو مذهب مالك وأحمد فى أظهر الروايتين بل فى أنصهما عنه وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعى اختاره القفال وغيره
ولو قدر أن الامام صلى بلا وضوء متعمدا والمأموم لم يعلم حتى مات المأموم لم يطالب الله المأموم بذلك ولم يكن عليه اثم باتفاق المسلمين بخلاف ما اذا علم أنه يصلى بلا وضوء فليس له أن يصلى خلفه فان هذا ليس بمصل بل لاعب ولو علم بعد الصلاة أنه صلى بلا وضوء ففى الاعادة نزاع ولو علم المأموم أن الامام
____________________
(23/352)
مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق وهو الامام الراتب الذى لا تمكن الصلاة الا خلفه كامام الجمعة والعيدين والامام فى صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك فان المأموم يصلى خلفه عند عامة السلف والخلف وهو مذهب أحمد والشافعى وأبى حنيفة وغيرهم
ولهذا قالوا فى العقائد انه يصلى الجمعة والعيد خلف كل امام برا كان أو فاجرا وكذلك اذا لم يكن فى القرية الا امام واحد فانها تصلى خلفه الجماعات فان الصلاة فى جماعة خير من صلاة الرجل وحده وان كان الامام فاسقا هذا مذهب جماهير العلماء أحمد بن حنبل والشافعى وغيرهما بل الجماعة واجبة على الأعيان فى ظاهر مذهب أحمد ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الامام الفاجر فهو مبتدع عند الامام أحمد وغيره من أئمة السنة كما ذكره فى رسالة عبدوس وبن مالك والعطار
والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها فان الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون كما كان بن عمر يصلى خلف الحجاج وبن مسعود وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة وكان يشرب الخمر حتى أنه صلى بهم مرة الصبح أربعا ثم قال أزيدكم فقال بن مسعود ما زلنا معك منذ اليوم فى زيادة ولهذا رفعوه إلى عثمان وفى صحيح البخارى أن عثمان رضى الله عنه
____________________
(23/353)
لما حصر صلى بالناس شخص فسأل سائل عثمان فقال انك امام عامة وهذا ( الذى ( يصلى بالناس امام فتنة فقال يا بن أخى ان الصلاة من أحسن ما يعمل الناس فاذا أحسنوا فأحسن معهم واذا أساؤا فاجتنب اساءتهم ومثل هذا كثير والفاسق والمبتدع صلاته فى نفسه صحيحة فاذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته لكن انما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجورا لا يرتب اماما للمسلمين فانه يستحق التعزير حتى يتوب فاذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا واذا كان بعض الناس اذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره آثر ذلك حتى يتوب أو يعزل أو ينتهى الناس عن مثل ذنبه فمثل هذا اذا ترك الصلاة خلفه كان فيه مصلحة ولم يفت المأموم جمعة ولا جماعة وأما اذا كان ترك الصلاة يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفهم الا مبتدع مخالف للصحابة رضى الله عنهم
وكذلك اذا كان الامام قد رتبه ولاة الأمور ولم يكن فى ترك الصلاة خلفه مصلحة فهنا ليس عليه ترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلف الامام الأفضل أفضل وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق أو بدعة تظهر مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الرافضة والجهمية
____________________
(23/354)
ونحوهم ومن أنكر مذهب الروافض وهو لا يصلى الجمعة والجماعة بل يكفر المسلمين فقد وقع فى مثل مذهب الروافض فان من أعظم ما أنكره أهل السنة عليهم تركهم الجمعة والجماعة وتكفير الجمهور
( فصل (
وأما ( الصلاة خلف المبتدع ( فهذه المسألة فيها نزاع وتفصيل فاذا لم تجد اماما غيره كالجمعة التى لا تقام الا بمكان واحد وكالعيدين وكصلوات الحج خلف امام الموسم فهذه تفعل خلف كل بر وفاجر باتفاق أهل السنة والجماعة وانما تدع مثل هذه الصلوات خلف الأئمة أهل البدع كالرافضة ونحوهم ممن لا يرى الجمعة والجماعة اذا لم يكن فى القرية الا مسجد واحد فصلاته فى الجماعة خلف الفاجر خير من صلاته فى بيته منفردا لئلا يفضى إلى ترك الجماعة مطلقا
وأما اذا أمكنه أن يصلى خلف غير المبتدع فهو أحسن وأفضل بلا ريب لكن ان صلى خلفه ففى صلاته نزاع بين العلماء ومذهب الشافعى وأبى حنيفة تصح صلاته وأما مالك وأحمد ففى مذهبهما نزاع وتفصيل
____________________
(23/355)
وهذا انما هو فى البدعة التى يعلم أنها تخالف الكتاب والسنة مثل بدع الرافضة والجهمية ونحوهم فاما مسائل الدين التى يتنازع فيها كثير من الناس فى هذه البلاد مثل ( مسألة الحرف والصوت ( ونحوها فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعا وكلاهما جاهل متأول فليس امتناع هذا من الصلاة خلف هذا بأولى من العكس فاما اذا ظهرت السنة وعلمت فخالفها واحد فهذا هو الذى فيه النزاع والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
وسئل
عن رجل استفاض عنه أنه يأكل الحشيشة وهو امام فقال رجل لا تجوز الصلاة خلفه فأنكر عليه رجل وقال تجوز واحتج بقول النبى ( ( تجوز الصلاة خلف البر والفاجر ( فهذا الذى أنكر مصيب أم مخطئ وهل يجوز لآكل الحشيشة أن يؤم بالناس واذا كان المنكر مصيبا فما يجب على الذى قام عليه وهل يجوز للناظر فى المكان أن يعزله أم لا
فأجاب لا يجوز أن يولى فى الامامة بالناس من يأكل الحشيشة أو يفعل من المنكرات المحرمة مع امكان تولية من هو خير منه
____________________
(23/356)
كيف وفى الحديث ( من قلد رجلا عملا على عصابة وهو يجد فى تلك العصابة من هو أرضى لله فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين ( وفى حديث آخر ( اجعلوا أئمتكم خياركم فانهم وفدكم فيما بينكم وبين الله ( وفى حديث آخر ( اذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا فى سفال ( وقد ثبت فى الصحيح أن النبى ( ( قال ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فان كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة فان كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم سنا ( فأمر النبى ( ( بتقديم الأفضل بالعلم بالكتاب ثم بالسنة ثم الأسبق إلى العمل الصالح بنفسه ثم بفعل الله تعالى
وفى سنن أبى داود وغيره ( أن رجلا من الأنصار كان يصلى بقوم اماما فبصق فى القبلة فأمرهم النبى ( ( أن يعزلوه عن الامامة ولا يصلوا خلفه فجاء إلى النبى ( صلى الله عليه وسلم ( فسأله هل أمرهم بعزله فقال نعم انك آذيت الله ورسوله ( فاذا كان المرء يعزل لأجل اساءته فى الصلاة وبصاقه فى القبلة فكيف المصر على أكل الحشيشة لا سيما ان كان مستحلا للمسكر منها كما عليه طائفة من الناس فان مثل هذا ينبغى ان يستتاب فان تاب والا قتل اذ السكر منها حرام بالاجماع واستحلال ذلك كفر بلا نزاع
____________________
(23/357)
واما احتجاج المعارض بقوله ( تجوز الصلاة خلف كل بر وفاجر ( فهذا غلط منه لوجوه
( أحدها ( ان هذا الحديث لم يثبت عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( بل فى سنن بن ماجه عنه ( لا يؤمن فاجر مؤمنا الا أن يقهره بسوط أو عصا ( وفى اسناد الآخر مقال أيضا
( الثانى ( أنه يجوز للمأموم أن يصلى خلف من ولى وان كان تولية ذلك المولى لا تجوز فليس للناس أن يولوا عليهم الفساق وان كان قد ينفذ حكمه أو تصح الصلاة خلفه
( الثالث ( ان الأئمة متفقون على كراهة الصلاة خلف الفاسق لكن اختلفوا فى صحتها فقيل لا تصح كقول مالك وأحمد فى احدى الروايتين عنهما وقيل بل تصح كقول أبى حنيفة والشافعى والرواية الأخرى عنهما ولم يتنازعوا أنه لا ينبغى توليته
( الرابع ( أنه لا خلاف بين المسلمين فى وجوب الانكار على هؤلاء الفساق الذين يسكرون من الحشيشة بل الذى عليه جمهور الأئمة أن قليلها وكثيرها حرام بل الصواب أن آكلها يحد وانها نجسة فاذا كان آكلها لم يغسل منها فمه كانت صلاته باطلة ولو غسل فمه
____________________
(23/358)
منها أيضا فهي خمر وفى الحديث ( من شرب الخمر لم تقبل منه صلاة أربعين يوما فان تاب تاب الله عليه فان عاد فشربها لم تقبل له صلاة أربعين يوما فان تاب تاب الله عليه فان عاد فشربها فى الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قيل يا رسول الله وما طينة الخبال قال عصارة أهل النار ( واذا كانت صلاته تارة باطلة وتارة غير مقبولة فانه يجب الانكار عليه باتفاق المسلمين فمن لم ينكر عليه كان عاصيا لله ورسوله
ومن منع المنكر عليه فقد حاد الله ورسوله ففى سنن أبى داود عن النبى ( ( أنه قال ( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله فى أمره ومن قال فى مؤمن ما ليس فيه حبس فى ردغة الخبال حتى يخرج مما قال ومن خاصم فى باطل وهو يعلم لم يزل فى سخط الله حتى ينزع ( فالمخاصمون ( عنه مخاصمون ( فى باطل وهم فى سخط الله والحائلون ذلك الانكار عليه مضادون لله فى أمره وكل من علم حاله ولم ينكر عليه بحسب قدرته فهو عاص لله ورسوله والله أعلم
____________________
(23/359)
وسئل
عن خطيب قد حضر صلاة الجمعة فامتنعوا عن الصلاة خلفه لأجل بدعة فيه فما هي البدعة التى تمنع الصلاة خلفه
فأجاب ليس لهم أن يمنعوا أحدا من صلاة العيد والجمعة وان كان الامام فاسقا وكذلك ليس لهم ترك الجمعة ونحوها لأجل فسق الامام بل عليهم فعل ذلك خلف الامام وان كان فاسقا وان عطلوها لأجل فسق الامام كانوا من أهل البدع وهذا مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما
وانما تنازع العلماء فى الامام اذا كان فاسقا أو مبتدعا وأمكن أن يصلى خلف عدل فقيل تصح الصلاة خلفه وان كان فاسقا وهذا مذهب الشافعى وأحمد فى احدى الروايتين وأبى حنيفة وقيل لا تصح خلف الفاسق اذا أمكن الصلاة خلف العدل وهو احدى الروايتين عن مالك وأحمد والله أعلم
____________________
(23/360)
وسئل
عن امام يقول يوم الجمعة على المنبر فى خطبته ان الله تكلم بكلام أزلى قديم ليس بحرف ولا صوت فهل تسقط الجمعة خلفه أم لا وما يجب عليه
فأجاب الذى اتفق عليه أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق وان هذا القرآن الذى يقرأه الناس هو كلام الله يقرأه الناس بأصواتهم فالكلام كلام البارى والصوت صوت القارئ والقرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه
واذا كان الامام مبتدعا فانه يصلى خلفه الجمعة وتسقط بذلك والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن امام قتل بن عمه فهل تصح الصلاة خلفه أم لا
فأجاب اذا كان هذا الرجل قد قتل مسلما متعمدا بغير حق
____________________
(23/361)
فينبغى أن يعزل عن الامامة ولا يصلى خلفه الا لضرورة مثل أن لا يكون هناك امام غيره لكن اذا تاب وأصلح فان الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات فاذا تاب التوبة الشرعية جاز أن يقر على امامته والله أعلم
وسئل أيضا
عن امام مسجد قتل فهل يجوز أن يصلى خلفه
فأجاب اذا كان قد قتل القاتل أو لا ثم عمدوا أقارب المقتول إلى أقارب القاتل فقتلوهم فهؤلاء عداة من أظلم الناس وفيهم نزل قوله تعالى ( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ( ولهذا قالت طائفة من السلف ان هؤلاء القاتلين يقتلهم السلطان حدا ولا يعفى عنهم وجمهور العلماء يجعلون أمرهم إلى أولياء المقتول ومن كان من الخطباء يدخل فى مثل هذه الدماء فانه من أهل البغى والعدوان الذين يتعين عزلهم ولا يصلح أن يكون اماما للمسلمين بل يكون اماما للظالمين المعتدين والله أعلم
____________________
(23/362)
وسئل رحمه الله تعالى
عن امام المسلمين خبب امرأة على زوجها حتى فارقته وصار يخلو بها فهل يصلى خلفه وما حكمه
فأجاب فى المسند عن النبى ( ( أنه قال ( ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبدا على مواليه ( فسعى الرجل فى التفريق بين المرأة وزوجها من الذنوب الشديدة وهو من فعل السحرة وهو من أعظم فعل الشياطين لا سيما اذا كان يخببها على زوجها ليتزوجها هو مع اصراره على الخلوة بها ولا سيما اذا دلت القرائن على غير ذلك ومثل هذا لا ينبغى أن يولى امامة المسلمين الا أن يتوب فان تاب تاب الله عليه فاذا أمكن الصلاة خلف عدل مستقيم السيرة فينبغى أن يصلى خلفه فلا يصلى خلف من ظهر فجوره لغير حاجة والله أعلم
____________________
(23/363)
وسئل رحمه الله
عن امام يقرأ على الجنائز هل تصح الصلاة خلفه فأجاب اذا أمكنه أن يصلى خلف من يصلى صلاة كاملة وهو من أهل الورع فالصلاة خلفه أولى من الصلاة خلف من يقرأ على الجنائز فان هذا مكروه من وجهين من وجه أن القراءة على الجنائز مكروهة فى المذاهب الأربعة وأخذ الأجرة عليها أعظم كراهة فان الاستئجار على التلاوة لم يرخص فيه أحد من العلماء والله أعلم
وسئل
عن امام يبصق فى المحراب هل تجوز الصلاة خلفه أم لا
فأجاب الحمد لله ينبغى أن ينهى عن ذلك وفى سنن أبى داود عن النبى ( ( أنه عزل اماما لأجل بصاقه فى القبلة وقال لأهل المسجد لا تصلوا خلفه فجاء إلى النبى ( صلى الله
____________________
(23/364)
عليه وسلم ( فقال يا رسول الله أنت نهيتهم أن يصلوا خلفى قال نعم انك قد آذيت الله ورسوله ( فان عزل عن الامامة لأجل ذلك أو انتهى الجماعة أن يصلوا خلفه لأجل ذلك كان ذلك سائغا والله أعلم
وسئل
عن رجل فقيه عالم خاتم للقرآن وبه عذر يده الشمال خلفه من حد الكتف وله أصابع لحم وقد قالوا ان الصلاة غير جائزة خلفه
فأجاب اذا كانت يداه يصلان إلى الأرض فى السجود فانه تجوز الصلاة خلفه بلا نزاع وانما النزاع فيما اذا كان أقطع اليدين والرجلين ونحو ذلك واما اذا أمكنه السجود على الأعضاء السبعة التى قال فيها النبى ( ( ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم الجبهة واليدين والركبتين والقدمين ( فان السجود تام وصلاة من خلفه تامة والله أعلم
____________________
(23/365)
وسئل رحمه الله
عن الخصى هل تصح الصلاة خلفه
فأجاب الحمد لله تصح خلفه كما تصح خلف الفحل باتفاق أئمة المسلمين وهو أحق بالامامة ممن هو دونه فاذا كان أفضل من غيره فى العلم والدين كان مقدما عليه فى الامامة وان كان المفضول فحلا والله أعلم
وسئل
عن رجل ما عنده ما يكفيه وهو يصلى بالأجرة فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب الاستئجار على الامامة لا يجوز فى المشهور من مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد وقيل يجوز وهو مذهب الشافعى ورواية عن أحمد وقول فى مذهب مالك والخلاف فى الأذان أيضا
____________________
(23/366)
لكن المشهور من مذهب مالك أن الاستئجار يجوز على الأذان وعلى الامامة معه ومنفردة وفى الاستئجار على هذا ونحوه كالتعليم على قول ثالث فى مذهب أحمد وغيره أنه يجوز مع الحاجة ولا يجوز بدون حاجة والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل معرف على المراكب وبنى مسجدا وجعل للامام فى كل شهر أجرة من عنده فهل هو حلال أم حرام وهل تجوز الصلاة فى المسجد أم لا
فأجاب ان كان يعطى هذه الدراهم من أجرة المراكب التى له جاز أخذها وان كان يعطيها مما يأخذ من الناس بغير حق فلا والله أعلم
وسئل
عن رجل امام بلد وليس هو من أهل العدالة وفى البلد رجل آخر يكره الصلاة خلفه فهل تصح صلاته خلفه أم لا واذا لم يصل
____________________
(23/367)
خلفه وترك الصلاة مع الجماعة هل يأثم بذلك والذى يكره الصلاة خلفه يعتقد أنه لا يصحح الفاتحة وفى البلد من هو أقرأ منه وأفقه
فأجاب رحمه الله الحمد لله أما كونه لا يصحح الفاتحة فهذا بعيد جدا فان عامة الخلق من العامة والخاصة يقرؤون الفاتحة قراءة تجزئ بها الصلاة فان اللحن الخفى واللحن الذى لا يحيل المعنى لا يبطل الصلاة وفى الفاتحة قراءات كثيرة قد قرئ بها فلو قرأ ( عليهم ( و ( عليهم ( عليهم أو قرأ ( الصراط ( والسراط والزراط ( فهذه قراءات مشهورة
ولو قرأ ( الحمد لله ( و ( الحمد لله ( أو قرأ ( رب العالمين ( أو ( رب العالمين ( أو قرأ بالكسر ونحو ذلك لكانت قراءات قد قرئ بها وتصح الصلاة خلف من قرأ بها ولو قرأ ( رب العالمين ( بالضم أو قرأ ( مالك يوم الدين ( بالفتح لكان هذا لحنا لا يحيل المعنى ولا يبطل الصلاة
وان كان اماما راتبا وفى البلد من هو أقرأ منه صلى خلفه فان النبى ( ( قال ( لا يؤمن الرجل فى سلطانه ( وان كان متظاهرا بالفسق وليس هناك من يقيم الجماعة غيره صلى
____________________
(23/368)
خلفه أيضا ولم يترك الجماعة وان تركها فهو آثم مخالف للكتاب والسنة ولما كان عليه السلف
وسئل
عن رجل صلى بغير وضوء اماما وهو لا يعلم أو عليه نجاسة لا يعلم بها فهل صلاته جائزة أم لا وان كانت صلاته جائزة فهل صلاة المأمومين خلفه تصح أفتونا مأجورين
فأجاب أما المأموم اذا لم يعلم بحدث الامام أو النجاسة التى عليه حتى قضيت الصلاة فلا اعادة عليه عند الشافعى وكذلك عند مالك وأحمد اذا كان الامام غير عالم ويعيد وحده اذا كان محدثا وبذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين فانهم صلوا بالناس ثم رأوا الجنابة بعد الصلاة فأعادوا ولم يأمروا الناس بالاعادة والله أعلم
____________________
(23/369)
وقال شيخ الإسلام ( فصل (
فى انعقاد صلاة المأموم بصلاة الامام الناس فيه على ثلاثة أقوال
( أحدها ( أنه لا ارتباط بينهما وان كل امرئ يصلى لنفسه وفائدة الائتمام فى تكثير الثواب بالجماعة وهذا هو الغالب على أصل الشافعى لكن قد عورض بمنعه اقتداء القارئ بالأمى والرجل بالمرأة وابطال صلاة المؤتم بمن لا صلاة له كالكافر والمحدث وفى هذه المسائل كلام ليس هذا موضعه ومن الحجة فيه قول النبى ( صلى الله عليه وسلم ( فى الآئمة ( إن أحسنوا فلكم ولهم وإن اساؤا فلكم وعليهم (
( والقول الثانى ( انها منعقدة بصلاة الامام وفرع عليها مطلقا فكل خلل حصل فى صلاة الامام يسرى إلى صلاة المأموم لقوله ( ( الامام ضامن ( وعلى هذا فالمؤتم بالمحدث
____________________
(23/370)
الناسى لحدثه يعيد كما يعيد امامه وهذا مذهب أبى حنيفة ورواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب حتى اختار بعض هؤلاء كمحمد بن الحسن أن لا يأتم المتوضئ بالمتيمم لنقص طهارته عنه
( والقول الثالث ( أنها منعقدة بصلاة الامام لكن انما يسرى النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما فأما مع العذر فلا يسرى النقص فاذا كان الامام يعتقد طهارته فهو معذور فى الامامة والمأموم معذور فى الائتمام وهذا قول مالك وأحمد وغيرهما وعليه يتنزل ما يؤثر عن الصحابة فى هذه المسألة وهو أوسط الأقوال كما ذكرنا فى نفس صفة الامام الناقص ان حكمه مع الحاجة يخالف حكمه مع عدم الحاجة فحكم صلاته كحكم نفسه
وعلى هذا أيضا ينبنى اقتداء المؤتم بامام قد ترك ما يعتقده المأموم من فرائض الصلاة اذا كان الامام متأولا تأويلا يسوغ كأن لا يتوضأ من خروج النجاسات ولا من مس الذكر ونحو ذلك فان اعتقاد الامام هنا صحة صلاته كاعتقاده صحتها مع عدم العلم بالحدث وأولى فانه هناك تجب عليه الاعادة وهذا أصل نافع أيضا
ويدل على صحة هذا القول ما أخرجه البخارى فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله ( ( قال ( يصلون
____________________
(23/371)
لكم فان أصابوا فلكم ولهم وان أخطأوا فلكم وعليهم ( فهذا نص فى أن الامام اذا أخطأ كان درك خطئه عليه لا على المأمومين فمن صلى معتقدا لطهارته وكان محدثا أو جنبا أو كانت عليه نجاسة وقلنا عليه الاعادة للنجاسة كما يعيد من الحدث فهذا الامام مخطئ فى هذا الاعتقاد فيكون خطؤه عليه فيعيد صلاته وأما المأمومون فلهم هذه الصلاة وليس عليهم من خطئه شيء كما صرح به رسول الله ( ( وهذا نص فى اجزاء صلاتهم وكذلك لو ترك الامام بعض فرائض الصلاة بتأويل أخطأ فيه عند المأموم مثل أن يمس ذكره ويصلى أو يحتجم ويصلى أو يترك قراءة البسملة أو يصلى وعليه نجاسة لا يعفى عنها عند المأموم ونحو ذلك فهذا الامام أسوأ أحواله أن يكون مخطئا إن لم يكن مصيبا فتكون هذه الصلاة للمأموم وليس عليه من خطأ امامه شيء
وكذلك روى أحمد وأبو داود عن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال سمعت رسول الله ( ( يقول ( من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم ( لكن لم يذكر أبو داود ( وأتم الصلاة ( فهذا الانتقاص يفسره الحديث الأول أنه الخطأ ومفهوم قوله ( وإن أخطأ فعليه ولا عليهم ( أنه اذا تعمد لم يكن كذلك ولاتفاق المسلمين على أن من يترك الأركان المتفق عليها لا تنبغى الصلاة خلفه
____________________
(23/372)
وسئل
عن رجل يؤم قوما وأكثرهم له كارهون
فأجاب ان كانوا يكرهون هذا الامام لأمر فى دينه مثل كذبه أو ظلمه أو جهله أو بدعته ونحو ذلك ويحبون الآخر لأنه أصلح فى دينه منه مثل أن يكون أصدق وأعلم وأدين فانه يجب أن يولى عليهم هذا الامام الذى يحبونه وليس لذلك الامام الذى يكرهونه أن يؤمهم كما فى الحديث عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قال ( ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم رجل أم قوما وهم له كارهون ورجل لا يأتى الصلاة الا دبارا ورجل اعتبد محررا ( والله أعلم
(
وسئل عن أهل المذاهب الأربعة هل تصح صلاة بعضهم خلف بعض أم لا وهل قال أحد من السلف إنه لا يصلى بعضهم خلف بعض ومن قال ذلك فهل هو مبتدع أم لا واذا فعل الامام ما يعتقد
____________________
(23/373)
ان صلاته معه صحيحة والمأموم يعتقد خلاف ذلك مثل ان يكون الامام تقيأ او رعف او احتجم أو مس ذكره او مس النساء بشهوة او بغير شهوة او قهقه فى صلاته او أكل لحم الابل وصلى ولم يتوضأ والمأموم يعتقد وجوب الوضوء من ذلك او كان الامام لا يقرأ البسملة او لم يتشهد التشهد الآخر أو لم يسلم من الصلاة والمأموم يعتقد وجوب ذلك فهل تصح صلاة المأموم والحال هذه واذا شرط فى إمام المسجد أن يكون على مذهب معين فكان غيره أعلم بالقرآن والسنة منه وولى فهل يجوز ذلك وهل تصح الصلاة خلفه أم لا
فأجاب الحمد لله نعم تجوز صلاة بعضهم خلف بعض كما كان الصحابة والتابعون لهم باحسان ومن بعدهم من الأئمة الأربعة يصلى بعضهم خلف بعض مع تنازعهم فى هذه المسائل المذكورة وغيرها ولم يقل أحد من السلف انه لا يصلى بعضهم خلف بعض ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة واجماع سلف الأمة وأئمتها
وقد كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم منهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرأها ومنهم من يجهر بها ومنهم من لا يجهر بها وكان منهم من يقنت فى الفجر ومنهم من لا يقنت ومنهم
____________________
(23/374)
من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من يتوضأ من مس الذكر ومس النساء بشهوة ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من يتوضأ من القهقهة فى صلاته ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الابل ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومع هذا فكان بعضهم يصلى خلف بعض
مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعى وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية وان كانوا لا يقرؤون البسملة لا سرا ولا جهرا وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بانه لا يتوضأ فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد
وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له فان كان الامام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ تصلى خلفه فقال كيف لا أصلى خلف سعيد بن المسيب ومالك
وبالجملة فهذه المسائل لها صورتان
( احداهما ( أن لا يعرف المأموم أن امامه فعل ما يبطل الصلاة فهنا يصلى المأموم خلفه باتفاق السلف والأئمة الأربعة وغيرهم وليس فى هذا خلاف متقدم وانما خالف بعض المتعصبين من المتأخرين فزعم
____________________
(23/375)
أن الصلاة خلف الحنفى لا تصح وان أتى بالواجبات لأنه اداها وهو لا يعتقد وجوبها وقائل هذا القول إلى أن يستتاب كما يستتاب أهل البدع أحوج منه إلى أن يعتد بخلافه فانه ما زال المسلمون على عهد النبى ( ( وعهد خلفائه يصلى بعضهم ببعض وأكثر الأئمة لا يميزون بين المفروض والمسنون بل يصلون الصلاة الشرعية ولو كان العلم بهذا واجبا لبطلت صلوات أكثر المسلمين ولم يمكن الاحتياط فان كثيرا من ذلك فيه نزاع وأدلة ذلك خفية وأكثر ما يمكن المتدين أن يحتاط من الخلاف وهو لا يجزم بأحد القولين فان كان الجزم بأحدهما واجبا فأكثر الخلق لا يمكنهم الجزم بذلك وهذا القائل نفسه ليس معه الا تقليد بعض الفقهاء ولو طولب بأدلة شرعية تدل على صحة قول امامه دون غيره لعجز عن ذلك ولهذا لا يعتد بخلاف مثل هذا فانه ليس من أهل الاجتهاد
( الصورة الثانية ( أن يتيقن المأموم أن الامام فعل ما لا يسوغ عنده مثل أن يمس ذكره أو النساء لشهوة أو يحتجم أو يفتصد أو يتقيأ ثم يصلى بلا وضوء فهذه الصورة فيها نزاع مشهور
فأحد القولين لا تصح صلاة المأموم لأنه يعتقد بطلان صلاة امامه كما قال ذلك من قاله من أصحاب أبى حنيفة والشافعى وأحمد
____________________
(23/376)
( والقول الثانى ( تصح صلاة المأموم وهو قول جمهور السلف وهو مذهب مالك وهو القول الآخر فى مذهب الشافعى وأحمد بل وأبى حنيفة وأكثر نصوص أحمد على هذا وهذا هو الصواب لما ثبت فى الصحيح وغيره عن النبى ( ( أنه قال ( يصلون لكم فان أصابوا فلكم ولهم وان أخطئوا فلكم وعليهم ( فقد بين ( ( أن خطأ الامام لا يتعدى إلى المأموم ولأن المأموم يعتقد أن ما فعله الامام سائغ له وأنه لا اثم عليه فيما فعل فانه مجتهد أو مقلد مجتهد وهو يعلم أن هذا قد غفر الله له خطأه فهو يعتقد صحة صلاته وأنه لا يأثم اذا لم يعدها بل لو حكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه بل كان ينفذه واذا كان الامام قد فعل باجتهاده فلا يكلف الله نفسا الا وسعها والمأموم قد فعل ما وجب عليه كانت صلاة كل منهما صحيحة وكان كل منهما قد أدى ما يجب عليه وقد حصلت موافقة الامام فى الأفعال الظاهرة
وقول القائل ان المأموم يعتقد بطلان صلاة الامام خطأ منه فان المأموم يعتقد أن الامام فعل ما وجب عليه وأن الله قد غفر له ما أخطأ فيه وأن لا تبطل صلاته لأجل ذلك
ولو أخطأ الامام والمأموم فسلم الامام خطأ واعتقد المأموم جواز
____________________
(23/377)
متابعته فسلم كما سلم المسلمون خلف النبى ( ( لما سلم من اثنتين سهوا مع علمهم بأنه انما صلى ركعتين وكما لو صلى خمسا سهوا فصلوا خلفه خمسا كما صلى الصحابة خلف النبى ( ( لما صلى بهم خمسا فتابعوه مع علمهم بأنه صلى خمسا لاعتقادهم جواز ذلك فانه تصح صلاة المأموم فى هذه الحال فكيف اذا كان المخطئ هو الامام وحده وقد اتفقوا كلهم على أن الامام لو سلم خطأ لم تبطل صلاة المأموم اذا لم يتابعه ولو صلى خمسا لم تبطل صلاة المأموم اذا لم يتابعه فدل ذلك على أن ما فعله الامام خطأ لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم والله أعلم
وسئل رحمه الله
هل تصح صلاة المأموم خلف من يخالف مذهبه
فأجاب وأما صلاة الرجل خلف من يخالف مذهبه فهذه تصح باتفاق الصحابة والتابعين لهم باحسان والأئمة الأربعة ولكن النزاع فى صورتين
( إحداهما ( خلافها شاذ وهو ما اذا أتى الامام بالواجبات كما يعتقده
____________________
(23/378)
المأموم لكن لا يعتقد وجوبها مثل التشهد الأخير اذا فعله من لم يعتقد وجوبه والمأموم يعتقد وجوبه فهذا فيه خلاف شاذ والصواب الذى عليه السلف وجمهور الخلف صحة الصلاة
( والمسألة الثانية ( فيها نزاع مشهور اذا ترك الامام ما يعتقد المأموم وجوبه مثل أن يترك قراءة البسملة سرا وجهرا والمأموم يعتقد وجوبها أو مثل أن يترك الوضوء من مس الذكر أو لمس النساء أو أكل لحم الابل أو القهقهة أو خروج النجاسات أو النجاسة النادرة والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك فهذا فيه قولان أصحهما صحة صلاة المأموم وهو مذهب مالك وأصرح الروايتين عن أحمد فى مثل هذه المسائل وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعى بل هو المنصوص عنه فانه كان يصلى خلف المالكية الذين لا يقرؤون البسملة ومذهبه وجوب قراءتها والدليل على ذلك ما رواه البخارى وغيره عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قال ( يصلون لكم فان أصابوا فلكم ولهم وان أخطأوا فلكم وعليهم ( فجعل خطأ الامام عليه دون المأموم وهذه المسائل ان كان مذهب الامام فيها هو الصواب فلا نزاع وان كان مخطئا فخطؤه مختص به والمنازع يقول المأموم يعتقد بطلان صلاة امامه وليس كذلك بل يعتقد أن الامام يصلى
____________________
(23/379)
باجتهاد أو تقليد ان اصاب فله أجران وان أخطأ فله أجر وهو ينفذ حكم الحاكم فى مسائل الاجتهاد وهذا أعظم من اقتدائه به فان كان المجتهد حكمه باطلا لم يجز انفاذ الباطل ولو ترك الامام الطهارة ناسيا لم يعد المأموم عند الجمهور كما ثبت عن الخلفاء الراشدين مع أن الناسى عليه اعادة الصلاة والمتأول لا اعادة عليه
فاذا صحت الصلاة خلف من عليه الاعادة فلأن تصح خلف من لا اعادة عليه أولى والامام يعيد اذا ذكر دون المأموم ولم يصدر من الامام ولا من المأموم تفريط لأن الامام لا يرجع عن اعتقاده بقوله بخلاف ما اذا رأى على الامام نجاسة ولم يحذره منها فان المأموم هنا مفرط فاذا صلى يعيد لأن ذلك لتفريطه وأما الامام فلا يعيد فى هذه الصورة فى أصح قولى العلماء كقول مالك والشافعى فى القديم وأحمد فى أصح الروايتين عنه وعلم المأموم بحال الامام فى صورة التأويل يقتضى أنه يعلم أنه مجتهد مغفور له خطؤه فلا تكون صلاته باطلة وهذا القول هو الصواب المقطوع به والله أعلم
____________________
(23/380)
وسئل
هل يقلد الشافعى حنفيا وعكس ذلك فى الصلاة الوترية وفى جمع المطر أم لا
فأجاب الحمد لله نعم يجوز للحنفى وغيره أن يقلد من يجوز الجمع من المطر لا سيما وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك والشافعى وأحمد
وقد كان عبد الله بن عمر يجمع مع ولاة الأمور بالمدينة اذا جمعوا فى المطر وليس على أحد من الناس أن يقلد رجلا بعينه فى كل ما يأمر به وينهى عنه ويستحبه الا رسول الله ( ( وما زال المسلمون يستفتون علماء المسلمين فيقلدون تارة هذا وتارة هذا فاذا كان المقلد يقلد فى مسألة يراها اصلح فى دينه أو القول بها أرجح أو نحو ذلك جاز هذا باتفاق جماهير علماء المسلمين لم يحرم ذلك لا أبو حنيفة ولا مالك ولا الشافعى ولا أحمد
وكذلك الوتر وغيره ينبغى للمأموم أن يتبع فيه امامه فان
____________________
(23/381)
قنت قنت معه وان لم يقنت لم يقنت وان صلى بثلاث ركعات موصولة فعل ذلك وان فصل فصل أيضا ومن الناس من يختار للمأموم أن يصل اذا فصل امامه والأول أصح والله أعلم
وسئل
عما اذا أدرك مع الامام بعض الصلاة وقام ليأتى بما فاته فائتم به آخرون هل يجوز أم لا
فأجاب اذا أدرك مع الامام بعضا وقام يأتى بما فاته فائتم به آخرون جاز ذلك فى أظهر قولى العلماء
وسئل
عن امام يصلى صلاة الفرض بالناس ثم يصلى بعدها صلاة أخرى ويقول هذه عن صلاة فاتتكم هل يسوغ هذا فأجاب الحمد لله ليس للامام الراتب أن يعتاد أن يصلى بالناس الفريضة مرتين فان هذه بدعة مخالفة لسنة رسول الله ( صلى الله
____________________
(23/382)
عليه وسلم ( وسنة خلفائه الراشدين ولم يستحب ذلك أحد من أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم لا أبى حنيفة ولا مالك ولا الشافعى ولا أحمد بن حنبل بل هم متفقون على أن الامام اذا أعاد بأولئك المأمومين الصلاة مرتين دائما ان هذا بدعة مكروهة ومن فعل ذلك على وجه التقرب كان ضالا
وانما تنازعوا فى الامام اذا صلى مرة ثانية بقوم آخرين غير الأولين
منهم من يجيز ذلك كالشافعى وأحمد بن حنبل فى احدى الروايتين ومنهم من يحرم ذلك كأبى حنيفة ومالك وأحمد فى الرواية الأخرى عنه
ومن عليه فوائت فانه يقضيها بحسب الامكان أما كون الامام يعيد الصلاة دائما مع الصلاة الحاضرة وأن يصلوا خلفه فهذا ليس بمشروع وان قال انى أفعل ذلك لأجل ما عليهم من الفوائت وأقل ما فى هذا أنه ذريعة إلى أن يتشبه به الأئمة فتبقى به سنة يربو عليها الصغير وتغير بسببها شريعة الاسلام فى البوادى ومواضع الجهل والله أعلم
____________________
(23/383)
وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه ( فصل (
وأما من أدى فرضه اماما أو مأموما أو منفردا فهل يجوز أن يؤم فى تلك الصلاة لمن يؤدى فرضه مثل أن يصلى الامام مرتين هذه فيها نزاع مشهور وفيها ثلاث روايات عن أحمد
( احداها ( أنه لا يجوز وهى اختيار كثير من أصحابه ومذهب أبى حنيفة ومالك
( والثانية ( يجوز مطلقا وهى اختيار بعض أصحابه كالشيخ أبى محمد المقدسى وهى مذهب الشافعى ( والثالثة ( يجوز عند الحاجة كصلاة الخوف قال الشيخ وهو اختيار جدنا أبى البركات لأن النبى ( ( صلى بأصحابه بعض الأوقات صلاة الخوف مرتين وصلى بطائفة وسلم ثم صلى بطائفة أخرى وسلم
____________________
(23/384)
ومن جوز ذلك مطلقا احتج بحديث معاذ المعروف ( أنه كان يصلى خلف النبى ( ( ثم ينطلق فيؤم قومه ( وفى رواية ( فكانت الأولى فرضا له والثانية نفلا (
والذين منعوا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة فانهم احتجوا بلفظ لا يدل على محل النزاع كقوله ( انما جعل الامام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ( وبأن الامام ضامن ( فلا تكون صلاته أنقص من صلاة المأموم وليس فى هذين ما يدفع تلك الحجج والاختلاف المراد به الاختلاف فى الأفعال كما جاء مفسرا والا فيجوز للمأموم أن يعيد الصلاة فيكون متنفلا خلف مفترض كما هو قول جماهير العلماء وقد دل على ذلك قوله فى الحديث الصحيح ( يكون بعدى امراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة ( وأيضا فانه صلى بمسجد الخيف فرأى رجلين لم يصليا فقال ( ما منعكما أن تصليا معنا قالا قد صلينا فى رحالنا فقال اذا صليتما فى رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فانها لكما نافلة ( وفى السنن أنه رأى رجلا يصلى وحده فقال ( ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه ( فقد ثبت صلاة المتنفل خلف المفترض فى عدة أحاديث وثبت أيضا بالعكس فعلم أن موافقة الامام فى نية الفرض أو
____________________
(23/385)
النفل ليست بواجبة والامام ضامن وان كان متنفلا
ومن هذا الباب صلاة العشاء الآخرة خلف من يصلى قيام رمضان يصلى خلفه ركعتين ثم يقوم فيتم ركعتين فأظهر الأقوال جواز هذا كله لكن لا ينبغى أن يصلى بغيرهم ثانيا الا لحاجة أو مصلحة مثل أن يكون ليس هناك من يصلح للامامة غيره أو هو أحق الحاضرين بالامامة لكونه أعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله أو كانوا مستوين فى العلم وهو أسبقهم إلى هجرة ما حرم الله ورسوله أو أقدمهم سنا فانه قد ثبت فى الصحيح عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( أنه قال ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فان كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة فان كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم سنا ( فقدم النبى ( ( بالفضيلة فى العلم بالكتاب والسنة فان استووا فى العلم قدم بالسبق إلى العمل الصالح وقدم السابق باختياره وهو المهاجر على من سبق بخلق الله له وهو الكبير السن
وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى ( ( أنه قال ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ( فمن سبق إلى هجر السيئات بالتوبة منها فهو أقدمهم هجرة فيقدم فى الامامة فاذا حضر من هو أحق بالامامة وكان قد صلى
____________________
(23/386)
فرضه فانه يؤمهم كما أم النبى ( ( لطائفة بعد طائفة من أصحابه مرتين وكما كان معاذ يصلى ثم يؤم قومه أهل قباء لأنه كان أحقهم بالامامة وقد ادعى بعضهم أن حديث معاذ منسوخ ولم يأتوا على ذلك بحجة صحيحة وما ثبت من الأحكام بالكتاب والسنة لا يجوز دعوى نسخه بأمور محتملة للنسخ وعدم النسخ وهذا باب واسع قد وقع فى بعضه كثير من الناس كما هو مبسوط فى غير هذا الموضع
وكذلك الصلاة على الجنازة اذا صلى عليها الرجل اماما ثم قدم آخرون فله أن يصلى بالطائفة الثانية اذا كان أحقهم بالامامة وله اذا صلى غيره على الجنازة مرة ثانية أن يعيدها معهم تبعا كما يعيد الفريضة تبعا مثل أن يصلى فى بيته ثم يأتى مسجدا فيه امام راتب فيصلى معهم فان هذا مشروع فى مذهب الامام أحمد بلا نزاع وكذلك مذهبه فيمن لم يصل على الجنازة فله أن يصلى عليها بعد غيره وله أن يصلى على القبر اذ فاتته الصلاة هذا مذهب فقهاء الحديث قاطبة كالشافعى وأحمد واسحق وغيرهم ومالك لا يرى الاعادة وأبو حنيفة لا يراها الا للولى
وأما اذا صلى هو على الجنازة ثم صلى عليها غيره فهل له أن يعيدها مع الطائفة الثانية فيه وجهان فى مذهب أحمد قيل
____________________
(23/387)
لا يعيدها قالوا لأن الثانية نفل وصلاة الجنازة لا يتنفل بها وقيل بل له أن يعيدها وهو الصحيح فان النبى ( ( لما صلى على قبر منبود صلى معه من كان صلى عليها أولا واعادة صلاة الجنازة من جنس اعادة الفريضة فتشرع حيث شرعها الله ورسوله وعلى هذا فهل يؤم على الجنازة مرتين على روايتين والصحيح أن له ذلك والله أعلم
وسئل
عن رجل صلى مع الامام ثم حضر جماعة أخرى فصلى بهم اماما فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب هذه المسألة هي ( مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل ( فان الامام كان قد أدى فرضه فاذا صلى بغيره اماما فهذا جائز فى مذهب الشافعى وأحمد فى احدى الروايتين عنه وفيها قول ثالث فى مذهب أحمد أنه يجوز للحاجة ولا يجوز لغير حاجة فاذا كان ذلك الامام هو القارئ وهو المستحق للامامة دونهم ففعل ذلك فى مثل هذه الحال حسن والله أعلم
____________________
(23/388)
(
وسئل
عن امام مسجدين هل يجوز الاقتداء به أم لا
فأجاب اذا أمكن أن يرتب فى كل مسجد امام راتب فلا يصلح أن يرتب امام فى مسجدين فاذا صلى اماما فى موضعين ففى صحة الصلاة الثانية لمن يؤدى فريضته خلاف بين العلماء فمذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد فى احدى الروايتين أن الفرض لا يسقط عن أهل المسجد الثانى والله أعلم
(
وسئل
عمن يصلى الفرض خلف من يصلى نفلا
فأجاب يجوز ذلك فى أظهر قولى العلماء وهو مذهب الشافعى وأحمد فى احدى الروايتين عنه
____________________
(23/389)
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
عما يفعله الرجل شاكا فى وجوبه على طريق الاحتياط هل يأتم به المفترض
فأجاب قياس المذهب أنه يصح لأن الشاك يؤديها بنية الوجوب اذا كما قلنا فى نية الاغماء وان لم نقل بوجوب الصوم كما قلنا فيمن شك فى انتقاض وضوئه يتوضأ
وكذلك صور الشك فى وجوب طهارة أو صيام أو زكاة أو صلاة أو نسك أو كفارة أو غير ذلك بخلاف ما لو اعتقد الوجوب ثم تبين له عدمه فان هذه خرج فيها خلاف لأنها فى الحقيقة نفل لكنها فى اعتقاده واجبة والمشكوك فيها هي فى قصده واجبة والاعتقاد متردد
____________________
(23/390)
وسئل رحمه الله
عمن وجد جماعة يصلون الظهر فأراد أن يقضى معهم الصبح فلما قام الامام للركعة الثالثة فارقه بالسلام فهل تصح هذه الصلاة وعلى أى مذهب تصح
فأجاب هذه الصلاة لا تصح فى مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد فى احدى الروايتين عنه وتصح فى مذهب الشافعى وأحمد فى الرواية الأخرى والله أعلم
(
وسئل
عمن وجد الصلاة قائمة فنوى الإئتمام وظن أن إمامه زيد فتبين أنه عمرو هل يضره ذلك وكذلك لو ظن الإمام فى المأموم مثل ذلك
فأجاب إذا كان مقصوده أن يصلي خلف إمام تلك الجماعة كائنا
____________________
(23/391)
من كان وظن أنه زيد فتبين أنه عمرو صحت صلاته كما لو إعتقد أنه أبيض فتبين أنه أسود او إعتقد أن عليه كساء فتبين أنه عباءة ونحو ذلك من خطأ الظن الذى لا يقدح فى الإئتمام
وإن كان مقصوده أن يصلى خلف زيد ولو علم أنه عمرو لم يصل خلفه وكان عمرو فهذا لم يأتم به وإنما الأعمال بالنيات
وهل هو بمنزلة من صلى بلا إئتمام أو تبطل صلاته فيه نزاع كما لو كانت صلاة الإمام باطلة والمأموم لا يعلم فلا يضر المؤتم الجهل بعين الإمام إذا كان مقصوده أن يصلي خلف الإمام الذى يصلي بتلك الجماعة وكذلك الإمام لم يضره الجهل بعين المأمومين بل إذا نوى الصلاة بمن خلفه جاز
وقد قيل أنه إذا عين فأخطأ بطلت صلاته مطلقا والصواب الفرق بين تعيينه بالقصد بحيث يكون قصده أن لا يصلي إلا خلفه وبين تعيين الظن بحيث يكون قصده الصلاة خلف الإمام مطلقا لكن ظن أنه زيد والله أعلم
____________________
(23/392)
وسئل رحمه الله
عمن صلى خلف الصف منفردا هل تصح صلاته أم لا والأحاديث الواردة فى ذلك هل هي صحيحه أم لا والأئمة القائلون بهذا من غير الأئمة الأربعة كحماد بن أبى سليمان وبن المبارك وسفيان الثورى والأوزاعى قد قال عنهم رجل أعنى عن هؤلاء الأئمة المذكورين هؤلاء لا يلتفت اليهم فصاحب هذا الكلام ما حكمه وهل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة لمن يجوز له التقليد كما يجوز تقليد الأئمة الأربعة أم لا
فأجاب الحمد لله من قول العلماء انه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف لأن فى ذلك حديثين عن النبى ( ( أنه أمر المصلى خلف الصف بالاعادة وقال ( لا صلاة لفذ خلف الصف ( وقد صحح الحديثين غير واحد من أئمة الحديث وأسانيدهما مما تقوم بهما الحجة بل المخالفون لهما يعتمدون فى كثير من المسائل على ما هو أضعف اسنادا منهما وليس فيهما ما يخالف الأصول بل ما فيهما هو مقتضى النصوص المشهورة والأصول المقررة فان صلاة الجماعة سميت جماعة
____________________
(23/393)
لاجتماع المصلين فى الفعل مكانا وزمانا فاذا اخلوا بالاجتماع المكانى أو الزمانى مثل أن يتقدموا أو بعضهم على الامام أو يتخلفوا عنه تخلفا كثيرا لغير عذر كان ذلك منهيا عنه باتفاق الأئمة وكذلك لو كانوا مفترقين غير منتظمين مثل أن يكون هذا خلف هذا وهذا خلف هذا كان هذا من أعظم الأمور المنكرة بل قد أمروا بالاصطفاف بل أمرهم النبى ( ( بتقويم الصفوف وتعديلها وتراص الصفوف وسد الخلل وسد الأول فالأول كل ذلك مبالغة فى تحقيق اجتماعهم على أحسن وجه بحسب الامكان ولو لم يكن الاصطفاف واجبا لجاز أن يقف واحد خلف واحد وهلم جرا وهذا مما يعلم كل أحد علما عاما أن هذه ليست صلاة المسلمين ولو كان هذا مما يجوز لفعله المسلمون ولو مرة بل وكذلك اذا جعلوا الصف غير منتظم مثل أن يتقدم هذا على هذا ويتأخر هذا عن هذا لكان ذلك شيئا قد علم نهى النبى ( ( عنه والنهى يقتضى التحريم بل اذا صلوا قدام الامام كان أحسن من مثل هذا
فاذا كان الجمهور لا يصححون الصلاة قدام الامام اما مطلقا واما لغير عذر فكيف تصح الصلاة بدون الاصطفاف فقياس الأصول يقتضى وجوب الاصطفاف وان صلاة المنفرد لا تصح كما جاء به هذان الحديثان ومن خالف ذلك من العلماء فلا ريب أنه لم تبلغه هذه السنة
____________________
(23/394)
من وجه يثق به بل قد يكون لم يسمعها وقد يكون ظن أن الحديث ضعيف كما ذكر ذلك بعضهم
والذين عارضوه احتجوا بصحة صلاة المرأة منفردة كما ثبت فى الصحيح ( ان انسا واليتيم صفا خلف النبى ( ( وصفت العجوز خلفهما ( وقد اتفق العلماء على صحة وقوفها منفردة اذا لم يكن فى الجماعة امرأة غيرها كما جاءت به السنة واحتجوا أيضا بوقوف الامام منفردا واحتجوا بحديث أبى بكرة لما ركع دون الصف ثم دخل فى الصف فقال له النبى ( ( زادك الله حرصا ولا تعد ( وهذه حجة ضعيفة لا تقاوم حجة النهى عن ذلك
وذلك من وجوه
( أحدها ( أن وقوف المرأة خلف صف الرجال سنة مأمور بها ولو وقفت فى صف الرجال لكان ذلك مكروها وهل تبطل صلاة من يحاذيها فيه قولان للعلماء فى مذهب أحمد وغيره
( أحدهما ( تبطل كقول أبى حنيفة وهو اختيار أبى بكر وأبى حفص من أصحاب أحمد
( والثانى ( لا تبطل كقول مالك والشافعى وهو قول بن
____________________
(23/395)
حامد والقاضى وغيرهما مع تنازعهم فى الرجل الواقف معها هل يكون فذا أم لا والمنصوص عن أحمد بطلان صلاة من يليها فى الموقف
وأما وقوف الرجل وحده خلف الصف فمكروه وترك للسنة باتفاقهم فكيف يقاس المنهى بالمأمور به وكذلك وقوف الامام امام الصف هو السنة فكيف يقاس المأمور به بالمنهى عنه والقياس الصحيح انما هو قياس المسكوت على المنصوص أما قياس المنصوص على منصوص يخالفه فهو باطل باتفاق العلماء كقياس الربا على البيع وقد أحل الله البيع وحرم الربا
( والثانى ( ان المرأة وقفت خلف الصف لأنه لم يكن لها من تصافه ولم يمكنها مصافة الرجال ولهذا لو كان معها فى الصلاة امرأة لكان من حقها أن تقوم معها وكان حكمها حكم الرجل المنفرد عن صف الرجال
ونظير ذلك أن لا يجد الرجل موقفا الا خلف الصف فهذا فيه نزاع بين المبطلين لصلاة المنفرد والا ظهر صحة صلاته فى هذا الموضع لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز وطرد هذا صحة صلاة المتقدم على الامام للحاجة كقول طائفة وهو قول فى مذهب أحمد
____________________
(23/396)
واذا كان القيام والقراءة واتمام الركوع والسجود والطهارة بالماء وغير ذلك يسقط بالعجز فكذلك الاصطفاف وترك التقدم وطرد هذا بقية مسائل الصفوف كمسئلة من صلى ولم ير الامام ولا من وراءه ( مع ( سماعه للتكبير وغير ذلك وأما الامام فانما قدم ليراه المأمومون فيأتمون به وهذا منتف فى المأموم
وأما حديث أبى بكرة فليس فيه أنه صلى منفردا خلف الصف قبل رفع الامام رأسه من الركوع فقد أدرك من الاصطفاف المأمور به ما يكون به مدركا للركعة فهو بمنزلة أن يقف وحده ثم يجيء آخر فيصافه فى القيام فان هذا جائز باتفاق الأئمة وحديث أبى بكرة فيه النهى بقوله ( ولا تعد ( وليس فيه أنه أمره باعادة الركعة كما فى حديث الفذ فانه أمره باعادة الصلاة وهذا مبين مفسر وذلك مجمل حتى لو قدر أنه صرح فى حديث أبى بكرة بأنه دخل فى الصف بعد اعتدال الامام كما يجوز ذلك فى أحد القولين فى مذهب أحمد وغيره لكان سائغا فى مثل هذا دون ما أمر فيه بالاعادة فهذا له وجه وهذا له وجه
وأما التفريق بين العالم والجاهل كقول فى مذهب أحمد فلا يسوغ فان المصلى المنفرد لم يكن عالما بالنهى وقد أمره بالاعادة كما أمر الاعرابى المسيء فى صلاته بالاعادة
____________________
(23/397)
وأما الأئمة المذكورون فمن سادات أئمة الاسلام فان الثورى امام أهل العراق وهو عند اكثرهم أجل من اقرانه كابن أبى ليلى والحسن بن صالح بن حى وأبى حنيفة وغيره وله مذهب باق إلى اليوم بأرض خراسان والأوزاعى امام أهل الشام وما زالوا على مذهبه إلى المائة الرابعة بل أهل المغرب كانوا على مذهبه قبل أن يدخل اليهم مذهب مالك وحماد بن أبى سليمان هو شيخ أبى حنيفة ومع هذا فهذا القول هو قول أحمد بن حنبل واسحق بن راهويه وغيرهما ومذهبه باق إلى اليوم وهو مذهب داود بن على وأصحابه ومذهبهم باق إلى اليوم فلم يجمع الناس اليوم على خلاف هذا القول بل القائلون به كثير فى المشرق والمغرب
وليس فى الكتاب والسنة فرق فى الأئمة المجتهدين بين شخص وشخص فمالك والليث بن سعد والأوزاعى والثورى هؤلاء أئمة فى زمانهم وتقليد كل منهم كتقليد الآخر لا يقول مسلم إنه يجوز تقليد هذا دون هذا ولكن من منع من تقليد أحد هؤلاء فى زماننا فانما يمنعه لأحد شيئين
( أحدهما ( اعتقاده أنه لم يبق من يعرف مذاهبهم وتقليد الميت فيه نزاع مشهور فمن منعه قال هؤلاء موتى ومن سوغه قال لابد أن يكون فى الاحياء من يعرف قول الميت
____________________
(23/398)
( والثانى ( أن يقول الاجماع اليوم قد انعقد على خلاف هذا القول وينبنى ذلك على مسألة معروفة فى أصول الفقه وهى أن الصحابة مثلا أو غيرهم من أهل الاعصار اذا اختلفوا فى مسألة على قولين ثم أجمع التابعون أو أهل العصر الثانى على أحدهما فهل يكون هذا اجماعا يرفع ذلك الخلاف وفى المسألة نزاع مشهور فى مذهب أحمد وغيره من العلماء فمن قال ان مع اجماع أهل العصر الثانى لا يسوغ الأخذ بالقول الآخر واعتقد أن أهل العصر أجمعوا على ذلك يركب من هذين الاعتقادين المنع
ومن علم أن الخلاف القديم حكمه باق لأن الأقوال لا تموت بموت قائليها فانه يسوغ الذهاب إلى القول الآخر للمجتهد الذى وافق اجتهاده
وأما التقليد فينبنى على مسألة تقليد الميت وفيها قولان مشهوران أيضا فى مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما
وأما اذا كان القول الذى يقول به هؤلاء الأئمة أو غيرهم قد قال به بعض العلماء الباقية مذاهبهم فلا ريب أن قوله مؤيد بموافقة هؤلاء ويعتضد به ويقابل بهؤلاء من خالفهم من أقرانهم فيقابل بالثورى والأوزاعى أبا حنيفة ومالك اذ الأمة متفقة على أنه اذا اختلف مالك
____________________
(23/399)
والأوزاعى والثورى وأبو حنيفة لم يجز أن يقال قول هذا هو الصواب دون هذا الا بحجة والله أعلم
وسئل رحمه الله تعالى
هل التبليغ وراء الامام كان على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( أو فى شيء من زمن الخلفاء الراشدين فان لم يكن فمع الأمن من اخلال شيء من متابعة الامام والطمأنينة المشروعة واتصال الصفوف والاستماع للامام من وراءه ان وقع خلل مما ذكر هل يطلق على فاعله البدعة وهل ذهب أحد من علماء المسلمين إلى بطلان صلاته بذلك وما حكم من اعتقد ذلك قربة فعله أو لم يفعله بعد التعريف
فأجاب لم يكن التبليغ والتكبير ورفع الصوت بالتحميد والتسليم على عهد رسول الله ( ( ولا على عهد خلفائه ولا بعد ذلك بزمان طويل الا مرتين مرة صرع النبى ( ( عن فرس ركبه فصلى فى بيته قاعدا فبلغ أبو بكر عنه التكبير كذا رواه مسلم فى صحيحه ومرة أخرى فى مرض موته بلغ عنه أبو بكر وهذا مشهور
____________________
(23/400)
مع أن ظاهر مذهب الامام أحمد أن هذه الصلاة كان أبو بكر مؤتما فيها بالنبى ( ( وكان اماما للناس فيكون تبليغ أبى بكر اماما للناس وان كان مؤتما بالنبى ( ( وهكذا قالت عائشة رضى الله عنها ( كان الناس يأتمون بأبى بكر وأبو بكر يأتم بالنبى ( ( ولم يذكر أحد من العلماء تبليغا على عهد رسول الله ( ( الا هاتين المرتين لمرضه
والعلماء المصنفون لما احتاجوا أن يستدلوا على جواز التبليغ لحاجة لم يكن عندهم سنة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ( الا هذا وهذا يعلمه علما يقينيا من له خبرة بسنة رسول الله ( (
ولا خلاف بين العلماء ان هذا التبليغ لغير حاجة ليس بمستحب بل صرح كثير منهم أنه مكروه ومنهم من قال تبطل صلاة فاعله وهذا موجود فى مذهب مالك وأحمد وغيره وأما الحاجة لبعد المأموم أو لضعف الامام وغير ذلك فقد اختلفوا فيه فى هذه والمعروف عند أصحاب أحمد أنه جائز فى هذا الحال وهو أصح قولى أصحاب مالك وبلغنى أن أحمد توقف فى ذلك وحيث جاز ولم يبطل فيشترط أن لا يخل بشيء من واجبات الصلاة
____________________
(23/401)
فاما ان كان المبلغ لا يطمئن بطلت صلاته عند عامة العلماء كما دلت عليه السنة وان كان أيضا يسبق الامام بطلت صلاته فى ظاهر مذهب أحمد وهو الذى دلت عليه السنة وأقوال الصحابة وان كان يخل بالذكر المفعول فى الركوع والسجود والتسبيح ونحوه ففى بطلان الصلاة خلاف وظاهر مذهب أحمد أنها تبطل ولا ريب أن التبليغ لغير حاجة بدعة ومن اعتقده قربة مطلقة فلا ريب انه اما جاهل واما معاند والا فجميع العلماء من الطوائف قد ذكروا ذلك فى كتبهم حتى فى المختصرات قالوا ولا يجهر بشيء من التكبير الا ان يكون اماما ومن أصر على اعتقاد كونه قربة فانه يعزر على ذلك لمخالفته الاجماع هذا أقل أحواله والله أعلم
وسئل
هل يجوز أن يكبر خلف الامام
فأجاب لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الامام الذى هو المبلغ لغير حاجة باتفاق الأئمة فان بلالا لم يكن يبلغ خلف النبى ( صلى الله عليه وسلم ( هو ولا غيره ولم يكن يبلغ خلف الخلفاء الراشدين لكن لما مرض النبى ( ( صلى بالناس مرة وصوته ضعيف وكان أبو بكر يصلى إلى جنبه يسمع الناس التكبير فاستدل العلماء بذلك
____________________
(23/402)
على أنه يشرع التكبير عند الحاجة مثل ضعف صوته فاما بدون ذلك فاتفقوا على أنه مكروه غير مشروع
وتنازعوا فى بطلان صلاة من يفعله على قولين والنزاع فى الصحة معروف فى مذهب مالك وأحمد وغيرهما غير أنه مكروه باتفاق المذاهب كلها والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن التبليغ خلف الامام هل هو مستحب أو بدعة فأجاب أما التبليغ خلف الامام لغير حاجة فهو بدعة غير مستحبة باتفاق الأئمة وانما يجهر بالتكبير الامام كما كان النبى ( ( وخلفاؤه يفعلون ولم يكن أحد يبلغ خلف النبى ( ( لكن لما مرض النبى ( ( ضعف صوته فكان أبو بكر رضى الله عنه يسمع بالتكبير
وقد اختلف العلماء هل تبطل صلاة المبلغ على قولين فى مذهب مالك وأحمد وغيرهما
____________________
(23/403)
وسئل رحمه الله
هل تجزئ الصلاة قدام الامام أو خلفه فى المسجد وبينهما حائل أم لا فأجاب
أما صلاة المأموم قدام الامام ففيها ثلاثة أقوال للعلماء ( أحدها ( أنها تصح مطلقا وان قيل انها تكره وهذا القول هو المشهور من مذهب مالك والقول القديم للشافعى
( والثانى ( أنها لا تصح مطلقا كمذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد فى المشهور من مذهبهما
( والثالث ( أنها تصح مع العذر دون غيره مثل ما اذا كان زحمة فلم يمكنه أن يصلى الجمعة أو الجنازة الا قدام الامام فتكون صلاته قدام الامام خيرا له من تركه للصلاة وهذا قول طائفة من العلماء وهو قول فى مذهب أحمد وغيره وهو أعدل الأقوال وأرجحها
____________________
(23/404)
وذلك لأن ترك التقدم على الامام غايته أن يكون واجبا من واجبات الصلاة فى الجماعة والواجبات كلها تسقط بالعذر وان كانت واجبة فى أصل الصلاة فالواجب فى الجماعة أولى بالسقوط ولهذا يسقط عن المصلى ما يعجز عنه من القيام والقراءة واللباس والطهارة وغير ذلك
وأما الجماعة فانه يجلس فى الأوتار لمتابعة الامام ولو فعل ذلك منفردا عمدا بطلت صلاته وان أدركه ساجدا أو قاعدا كبر وسجد معه وقعد معه لأجل المتابعة مع أنه لا يعتد له بذلك ويسجد لسهو الامام وان كان هو لم يسه
وأيضا ففى صلاة الخوف لا يستقبل القبلة ويعمل العمل الكثير ويفارق الامام قبل السلام ويقضى الركعة الأولى قبل سلام الامام وغير ذلك مما يفعله لأجل الجماعة ولو فعله لغير عذر بطلت صلاته
(
وأبلغ من ذلك أن مذهب أكثر البصريين وأكثر أهل الحديث أن الامام الراتب اذا صلى جالسا صلى المأمومون جلوسا لأجل متابعته فيتركون القيام الواجب لأجل المتابعة كما استفاضت
____________________
(23/405)
السنن عن النبى ( ( أنه قال ( واذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون (
والناس فى هذه المسألة على ثلاثة اقوال
قيل لا يؤم القاعد القائم وأن ذلك من خصائص النبى ( صلى الله عليه وسلم ( كقول مالك ومحمد بن الحسن
وقيل بل يؤمهم ويقومون وأن الأمر بالقعود منسوخ كقول أبى حنيفة والشافعى
وقيل بل ذلك محكم وقد فعله غير واحد من الصحابة بعد موت النبى ( ( كأسيد بن حضير وغيره وهذا مذهب حماد بن زيد وأحمد بن حنبل وغيرهما وعلى هذا فلو صلوا قياما ففى صحة صلاتهم قولان والمقصود هنا أن الجماعة تفعل بحسب الامكان فاذا كان المأموم لا يمكنه الائتمام بامامه الا قدامه كان غاية ( ما ( فى هذا أنه قد ترك الموقف لأجل الجماعة وهذا أخف من غيره ومثل هذا أنه منهى عن الصلاة خلف الصف وحده فلو لم يجد من يصافه ولم يجذب أحدا يصلى معه صلى وحده خلف الصف ولم يدع الجماعة كما أن
____________________
(23/406)
المرأة اذا لم تجد امرأة تصافها فانها تقف وحدها خلف الصف باتفاق الأئمة وهو انما أمر بالمصافة مع الامكان لا عند العجز عن المصافة
(
( فصل (
وأما صلاة المأموم خلف الامام خارج المسجد أو فى المسجد وبينهما حائل فان كانت الصفوف متصلة جاز باتفاق الأئمة وان كان بينهما طريق أو نهر تجرى فيه السفن ففيه قولان معروفان هما روايتان عن أحمد
( أحدهما ( المنع كقول أبى حنيفة
( والثانى ( الجواز كقول الشافعى
وأما اذا كان بينهما حائل يمنع الرؤية والاستطراق ففيها عدة أقوال فى مذهب أحمد وغيره قيل يجوز وقيل لا يجوز وقيل يجوز فى المسجد دون غيره وقيل يجوز مع الحاجة ولا يجوز بدون الحاجة ولا ريب أن ذلك جائز مع الحاجة مطلقا مثل أن تكون أبواب المسجد مغلقة أو تكون المقصورة التى فيها الامام
____________________
(23/407)
مغلقة أو نحو ذلك
فهنا لو كانت الرؤية واجبة لسقطت للحاجة كما تقدم فانه قد تقدم أن واجبات الصلاة والجماعة تسقط بالعذر وأن الصلاة فى الجماعة خير من صلاة الانسان وحده بكل حال
وسئل
عمن يصلى مع الامام وبينه وبين الامام حائل بحيث لا يراه ولا يرى من يراه هل تصح صلاته أم لا
فأجاب الحمد لله نعم تصح صلاته عند أكثر العلماء وهو المنصوص الصريح عن أحمد فانه نص على أن المنبر لا يمنع الاقتداء والسنة فى الصفوف أن يتموا الأول فالأول ويتراصون فى الصف
فمن صلى فى مؤخر المسجد مع خلو ما يلى الامام كانت صلاته مكروهة والله أعلم
____________________
(23/408)
وسئل رحمه الله
عن امام يصلى خلفه جماعة وقدامه جماعة فهل تصح صلاة المتقدمين على الامام أم لا فأجاب الحمد لله اما الذين خلف الامام فصلاتهم صحيحة بلا ريب وأما الذين قدامه فللعلماء فيهم ثلاثة اقوال قيل تصح وقيل لا تصح وقيل تصح اذا لم يمكنهم الصلاة معه الا تكلفا وهذا أولى الاقوال والله أعلم
وسئل عن الحوانيت المجاورة للجامع من أرباب الأسواق اذا اتصلت بهم الصفوف فهل تجوز صلاة الجمعة فى حوانيتهم
فأجاب اما صلاة الجمعة وغيرها فعلى الناس أن يسدوا الأول فالأول كما فى الصحيحين عن النبى ( ( أنه قال
____________________
(23/409)
( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها قال يسدون الأول فالأول ويتراصون فى الصف ( فليس لأحد أن يسد الصفوف المؤخرة مع خلو المقدمة ولا يصف فى الطرقات والحوانيت مع خلو المسجد ومن فعل ذلك استحق التأديب ولمن جاء بعده تخطيه ويدخل لتكميل الصفوف المقدمة فان هذا لا حرمة له
كما أنه ليس لأحد أن يقدم ما يفرش له فى المسجد ويتأخر هو وما فرش له لم يكن له حرمة بل يزال ويصلى مكانه على الصحيح بل اذا امتلأ المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد فاذا اتصلت الصفوف حينئذ فى الطرقات والأسواق صحت صلاتهم
وأما اذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشى الناس فيه لم تصح صلاتهم فى أظهر قولى العلماء
وكذلك اذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة فانه لا تصح صلاتهم فى أظهر قولى العلماء
وكذلك من صلى فى حانوته والطريق خال لم تصح صلاته وليس
____________________
(23/410)
له أن يقعد فى الحانوت وينتظر اتصال الصفوف به بل عليه أن يذهب إلى المسجد فيسد الأول فالأول والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن صلاة الجمعة فى الأسواق وفى الدكاكين والطرقات اختيارا هل تصح صلاته أم لا
فأجاب ان اتصلت الصفوف فلا بأس بالصلاة لمن تأخر ولم يمكنه الا ذلك
وأما اذا تعمد الرجل أن يقعد هناك ويترك الدخول إلى المسجد كالذين يقعدون فى الحوانيت فهؤلاء مخطئون مخالفون للسنة فان النبى ( ( قال ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها قال يكملون الأول فالأول ويتراصون فى الصف ( وقال ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها (
وأما اذا لم تتصل الصفوف بل كان بين الصفوف طريق ففى صحة الصلاة قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد
____________________
(23/411)
( أحدهما ( لا تصح كقول أبى حنيفة ( والثانى ( تصح كقول الشافعى والله أعلم وسئل
عن جامع بجانب السوق بحيث يسمع التكبير منه هل تجوز صلاة الجمعة فى السوق أو على سطح السوق أو فى الدكاكين أم لا
فأجاب الحمد لله اذا امتلأ الجامع جاز أن يصلى فى الطرقات فاذا امتلأت صلوا فيما بينها من الحوانيت وغيرها وأما اذا لم تتصل الصفوف فلا وكذلك فوق الأسطحة والله أعلم
____________________
(23/412)
(
وسئل رحمه الله
عن رجل جمع جماعة على نافلة وأمهم من أول رجب إلى آخر رمضان يصلى بهم بين العشائين عشرين ركعة بعشر تسليمات يقرأ فى كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثلاث مرات ويتخذ ذلك شعارا ويحتج بأن النبى ( ( أم بن عباس والأنصارى الذى قال له السيول تحول بينى وبينك فهل هذا موافق للشريعة أم لا وهل يؤجر على ذلك أم لا والحالة هذه
فأجاب الحمد لله رب العالمين صلاة التطوع فى جماعة نوعان
( أحدهما ( ما تسن له الجماعة الراتبة كالكسوف والاستسقاء وقيام رمضان فهذا يفعل فى الجماعة دائما كما مضت به السنة
( الثانى ( ما لا تسن له الجماعة الراتبة كقيام الليل والسنن الرواتب وصلاة الضحى وتحية المسجد ونحو ذلك
____________________
(23/413)
فهذا اذا فعل جماعة أحيانا جاز
وأما الجماعة الراتبة فى ذلك فغير مشروعة بل بدعة مكروهة فان النبى ( صلى الله عليه وسلم ( والصحابة والتابعين لم يكونوا يعتادون الاجتماع للرواتب على ما دون هذا والنبى ( ( انما تطوع فى ذلك فى جماعة قليلة أحيانا فانه كان يقوم الليل وحده لكن لما بات بن عباس عنده صلى معه وليلة أخرى صلى معه حذيفة وليلة أخرى صلى معه بن مسعود وكذلك صلى عند عتبان بن مالك الأنصارى فى مكان يتخذه مصلى صلى معه وكذلك صلى بأنس وأمه واليتيم
وعامة تطوعاته انما كان يصليها مفردا وهذا الذى ذكرناه فى التطوعات المسنونة فاما انشاء صلاة بعدد مقدر وقراءة مقدرة فى وقت معين تصلى جماعة راتبة كهذه الصلوات المسؤول عنها ( كصلاة الرغائب ( فى أول جمعة من رجب ( والألفية ( فى أول رجب ونصف شعبان وليلة سبع وعشرين من شهر رجب وأمثال ذلك فهذا غير مشروع باتفاق أئمة الاسلام كما نص على ذلك العلماء المعتبرون ولا ينشئ مثل هذا الا جاهل مبتدع وفتح مثل هذا الباب يوجب تغيير شرائع الإسلام وأخذ نصيب من حال الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله والله أعلم
____________________
(23/414)
& باب صلاة أهل الاعذار (
( سئل شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله ( عن رجل شيخ كبير وقد انحلت اعضاؤه لا يستطيع أن يأكل أو يشرب ولا يتحرك ولا يستنجي بالماء وإذا سجد ما يستطيع الرفع فكيف يصلى فأجاب أما الصلاة فانه يفعل ما يقدر عليه ويصلى قاعدا إذا لم يستطع القيام ويومئ برأسه إيماء بحسب حاله وان سجد على فخذه جاز ويمسح بخرقة إذا تخلى ويوضئه غيره إذا أمكن ويجمع بين الصلاتين فيوضيه فى آخر وقت الظهر فيصلى الظهر والعصر بلا قصر ثم إذا دخل وقت المغرب صلى المغرب والعشاء ويوضيه الفجر وان لم يستطع الصلاة قاعدا صلى على جنبه ووجهه إلى القبلة
____________________
(24/5)
وان لم يكن عنده من يوضئه ولا ييممه صلى على حسب حاله سواء كان على قفاه ورجلاه إلى القبلة أو على جنبه ووجهه إلى القبلة
وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة صلى إلى أي جهة توجه شرقا أو غربا والله سبحانه وتعالى أعلم وسئل شيخ الاسلام
هل تجوز صلاة المرأة قاعدة مع قدرتها على القيام
فأجاب فصل
وأما صلاة الفرض قاعدا مع القدرة على القيام فلا تصح لامن رجل ولا امرأة بل قد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك (
ولكن يجوز التطوع جالسا ويجوز التطوع على الراحلة فى السفر قبل أي جهة توجهت بصاحبها فإن النبى صلى الله عليه
____________________
(24/6)
وسلم كان يصلى على دابته قبل أي جهة توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة
ويجوز للمريض إذا شق عليه القيام أن يصلي قاعدا فإن لم يستطع صلى على جنبه وكذلك إذا كان رجل لا يمكنه النزول إلى الأرض صلى على راحلته والخائف من عدوه إذا نزل يصلي على راحلته والله أعلم وسئل شيخ الاسلام
هل القصر فى السفر سنة أو عزيمة وعن صحة الحديث الذى رواه الشافعى عن إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبى رباح عن عائشة قالت كل ذلك قد فعل النبي قصر الصلاة وأتم فأجاب أما القصر فى السفر فهو سنة النبي وسنة خلفائه الراشدين فان النبى لم يصل فى السفر قط إلا ركعتين وكذلك أبو بكر وعمر وكذلك عثمان في السنة
____________________
(24/7)
الأولى من خلافته لكنه فى السنة الثانية أتمها بمنى لأعذار مذكورة في غير هذا الموضع
وأما الحديث المذكور فلا ريب أنه خطأ على عائشة وإبراهيم بن محمد هو إبن أبى يحيى المدنى القدري وهو وطلحة بن عمرو المكى ضعيفان باتفاق أهل الحديث لا يحتج بواحد منهما فيما هو دون هذا وقد ثبت فى الصحيح عن عائشة أنها قالت ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فاقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ( وقيل لعروة فلم أتمت عائشة الصلاة قال تأولت كما تأول عثمان فهذه عائشة تخبر بأن صلاة السفر ركعتان وبن أختها عروة أعلم الناس بها يذكر أنها أتمت بالتأويل لم يكن عندها بذلك سنة وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال ( صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم (
وأيضا فإن المسلمين قد نقلوا بالتواتر أن النبي لم يصل في السفر إلا ركعتين ولم ينقل عنه أحد أنه صلى أربعا قط ولكن الثابت عنه أنه صام فى السفر وأفطر وكان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر
____________________
(24/8)
وأما القصر فكل الصحابة كانوا يقصرون منهم أهل مكة وغير أهل مكة بمنى وعرفة وغيرهما وقد تنازع العلماء فى التربيع هل هو محرم أو مكروه أو ترك للأولى أو مستحب أو هما سواء على خمسة أقوال
أحدها قول من يقول أن الإتمام أفضل كقول للشافعي
والثانى قول من يسوى بينهما كبعض أصحاب مالك
والثالث قول من يقول القصر أفضل كقول الشافعي الصحيح وإحدى الروايتين عن
أحمد والرابع قول من يقول الإتمام مكروه كقول مالك فى احدى الروايتين وأحمد فى الرواية الأخرى
والخامس قول من يقول ان القصر واجب كقول أبى حنيفة ومالك في رواية
وأظهر الأقوال قول من يقول إنه سنة وان الإتمام مكروه ولهذا لا تجب نية القصر عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد فى أحد القولين عنه فى مذهبه
____________________
(24/9)
وسئل هل لمسافة القصر قدر محدود عن الشارع
فأجاب السنة أن يقصر المسافر الصلاة فيصلى الرباعية ركعتين هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جميع أسفاره هو وأصحابه ولم يصل فى السفر أربعا قط وما روى عنه ( انه صلى فى السفر أربعا فى حياته ( فهو حديث باطل عند أئمة الحديث
وقد تنازع العلماء فى المسافر إذا صلى أربعا فقيل لا يجوز ذلك كما لا يجوز أن يصلي الفجر والجمعة والعيد أربعا وقيل يجوز ولكن القصر أفضل عند عامتهم ليس فيه إلا خلاف شاذ ولا يفتقر القصر إلى نية بل لو دخل فى الصلاة وهو ينوى أن يصلي أربعا اتباعا لسنة رسول الله وقد كان لما حج بالمسلمين حجة الوداع يصلى بهم ركعتين ركعتين إلى أن رجع وجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة والمسلمون خلفه ويصلى بصلاته أهل مكة وغيرهم جمعا وقصرا ولم يأمر أحدا ان ينوى لاجمعا ولا قصرا
____________________
(24/10)
وأقام بمنى يوم العيد وإمام منى يصلي بالمسلمين ركعتين ركعتين والمسلمون خلفه يصلى بصلاته أهل مكة وغيرهم وكذلك أبو بكر وعمر بعده ولم يأمر النبى ولا أبو بكر ولا عمر أحدا من أهل مكة أن يصلى أربعا لا بمنى ولا بغيرها فلهذا كان أصح قولى العلماء أن أهل مكة يجمعون بعرفة ومزدلفة ويقصرون بها وبمنى وهذا قول عامة فقهاء الحجاز كمالك وبن عيينة وهو قول إسحاق بن راهويه واختيار طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد كأبى الخطاب فى عباداته
وقد قيل يجمعون ولا يقصرون وهو قول أبى حنيفة وهو المنصوص عن أحمد وقيل لا يقصرون ولا يجمعون كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعى وأحمد وهو أضعف الأقوال
والصواب المقطوع به أن أهل مكة يقصرون ويجمعون هناك كما كانوا يفعلون هناك مع النبى وخلفائه ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه قال لهم هناك اتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ولكن نقل أنه قال ذلك فى غزوة الفتح لما صلى بهم داخل مكة وكذلك كان عمر يأمر أهل مكة بالاتمام إذا صلى بهم فى البلد وأما بمنى فلم يكن يأمرهم بذلك
____________________
(24/11)
وقد تنازع العلماء فى قصر أهل مكة خلفه فقيل كان ذلك لأجل النسك فلا يقصر المسافر سفرا قصيرا هناك وقيل بل كان ذلك لأجل السفر وكلا القولين قاله بعض أصحاب أحمد والقول الثانى هو الصواب وهو أنهم قصروا لأجل سفرهم ولهذا لم يكونوا يقصرون بمكة وكانوا محرمين والقصر معلق بالسفر وجودا وعدما فلا يصلى ركعتين إلا مسافر وكل مسافر يصلى ركعتين كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ( صلاة المسافر ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة النحر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير نقص ( أى غير قصر على لسان نبيكم وفى الصحيح عن عائشة رضى الله عنها انها قالت ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ثم زيد فى صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر (
وقد تنازع العلماء هل يختص بسفر دون سفر أم يجوز فى كل سفر وأظهر القولين أنه يجوز فى كل سفر قصيرا كان أو طويلا كما قصر أهل مكة خلف النبى بعرفة ومنى وبين مكة وعرفة نحو بريد أربع فراسخ
وأيضا فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر لا بقصر ولا بفطر ولا تيمم ولم يحد النبى مسافة القصر بحد لا زمانى ولا مكانى والأقوال المذكورة فى ذلك متعارضة
____________________
(24/12)
ليس على شيء منها حجة وهى متناقضة ولا يمكن ان يحد ذلك بحد صحيح
فإن الأرض لا تذرع بذرع مضبوط فى عامة الأسفار وحركة المسافر تختلف والواجب ان يطلق ما أطلقه صاحب الشرع ويقيد ما قيده فيقصر المسافر الصلاة فى كل سفر وكذلك جميع الأحكام المتعلقة بالسفر من القصر والصلاة على الراحلة والمسح على الخفين
ومن قسم الأسفار إلى قصير وطويل وخص بعض الأحكام بهذا وبعضها بهذا وجعلها متعلقة بالسفر الطويل فليس معه حجة يجب الرجوع إليها والله سبحانه وتعالى أعلم وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
إذا سافر إنسان سفرا مقدار ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ هل يباح له الجمع والقصر أم لا
فأجاب وأما الجمع والقصر فى السفر القصير ففيه ثلاثة أقوال بل أربعة بل خمسة فى مذهب أحمد
____________________
(24/13)
احدها انه لا يباح لا الجمع ولا القصر
والثانى يباح الجمع دون القصر
والثالث يباح الجمع بعرفة ومزدلفة خاصة للمكى وان كان سفره قصيرا
والرابع يباح الجمع والقصر بعرفة ومزدلفة
والخامس يباح ذلك مطلقا والذى يجمع للسفر هل يباح له الجمع مطلقا أو لا يباح إلا اذا كان مسافرا فيه روايتان عن أحمد مقيما أو مسافرا ولهذا نص أحمد على أنه يجمع اذا كان له شغل قال القاضي أبو يعلى كل عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة يبيح الجمع ولهذا يجمع للمطر والوحل وللريح الشديدة الباردة فى ظاهر مذهب الامام أحمد ويجمع المريض والمستحاضة والمرضع فاذا جد السير بالمسافر جمع سواء كان سفره طويلا أو قصيرا كما مضت سنة رسول الله يجمع الناس بعرفة ومزدلفة المكى وغير المكى مع أن أهل مكة سفرهم قصير
وكذلك جمع وخلفاؤه الراشدون بعرفة ومزدلفة ومتى قصروا يقصر خلفهم أهل مكة وغير أهل مكة وعرفة من مكة
____________________
(24/14)
بريد أربعة فراسخ ولهذا قال مالك وبعض أصحاب أحمد كأبى الخطاب فى العبادات الخمس إن أهل مكة يقصرون بعرفة ومزدلفة وهذا القول هو الصواب وإن كان المنصوص عن الأئمة الثلاثة بخلافه أحمد والشافعى وأبى حنيفة
ولهذا قال طائفة أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم إنه يقصر فى السفر الطويل والقصير لأن النبى لم يوقت للقصر مسافة ولا وقتا وقد قصر خلفه أهل مكة بعرفة ومزدلفة وهذا قول كثير من السلف والخلف وهو أصح الأقوال فى الدليل ولكن لابد ان يكون ذلك مما يعد فى العرف سفرا مثل ان يتزود له ويبرز للصحراء فأما إذا كان فى مثل دمشق وهو ينتقل من قراها الشجرية من قرية إلى قرية كما ينتقل من الصالحية إلى دمشق فهذا ليس بمسافر كما أن مدينة النبى كانت بمنزلة القرى المتقاربة عند كل قوم نخيلهم ومقابرهم ومساجدهم قباء وغير قباء ولم يكن خروج الخارج إلى قباء سفرا ولهذا لم يكن النبى وأصحابه يقصرون فى مثل ذلك فإن الله تعالى قال ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ( فجميع الأبنية تدخل فى مسمى المدينة وما خرج عن أهلها فهو من الاعراب أهل العمود والمنتقل من المدينة من ناحية إلى ناحية ليس بمسافر ولا يقصر الصلاة ولكن هذه مسائل اجتهاد
____________________
(24/15)
فمن فعل منها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر
وهكذا اختلفوا فى الجمع والقصر هل يشترط له نية فالجمهور لا يشترطون النية كمالك وأبى حنيفة وهو أحد القولين فى مذهب أحمد وهو مقتضى نصوصه
والثانى تشترط كقول الشافعى وكثير من أصحاب أحمد كالخرقى وغيره والأول أظهر ومن عمل باحد القولين لم ينكر عليه وسئل
عن سفر يوم من رمضان هل يجوز ان يقصر فيه ويفطر أم لا
فأجاب هذا فيه نزاع بين العلماء والأظهر أنه يجوز له القصر والفطر فى يوم من رمضان كما قصر أهل مكة خلف النبى بعرفة ومزدلفة وعرفة عن المسجد الحرام مسيرة بريد ولأن السفر مطلق فى الكتاب والسنة
____________________
(24/16)
وسئل
عن رجل مسافر إلى بلد ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر فهل يتم الصلاة أم لا
فأجاب اذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة كما فعل النبى لما دخل مكة فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة وإن كان أكثر ففيه نزاع والاحوط أن يتم الصلاة
وأما إن قال غدا اسافر أو بعد غد أسافر ولم ينو المقام فانه يقصر ابدا فان النبى صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضعة عشر يوما يقصر الصلاة وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة والله أعلم وسئل
عن رجل جرد إلى الخربة لأجل الحمى وهو يعلم أنه يقيم مدة شهرين فهل يجوز له القصر وإذا جاز القصر فالإتمام أفضل أم القصر
____________________
(24/17)
فأجاب الحمد لله هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء منهم من يوجب الاتمام ومنهم من يوجب القصر والصحيح أن كلاهما سائغ فمن قصر لا ينكر عليه ومن أتم لا ينكر عليه
وكذلك تنازعوا فى الأفضل فمن كان عنده شك فى جواز القصر فاراد الاحتياط فالاتمام أفضل واما من تبينت له السنة وعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسافر أن يصلى إلا ركعتين ولم يحد السفر بزمان أو بمكان ولا حد الاقامة أيضا بزمن محدود لا ثلاثة ولا أربعة ولا اثنا عشر ولا خمسة عشر فانه يقصر كما كان غير واحد من السلف يفعل حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها فأقام سنين يقصر الصلاة
وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضى فى أربعة أيام ولا أكثر كما أقام النبى وأصحابه بعد فتح مكة قريبا من عشرين يوما يقصرون الصلاة وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون فى رمضان وكان النبى لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام واذا كان التحديد لا أصل له فما دام المسافر مسافرا يقصر الصلاة ولو أقام فى مكان شهورا والله أعلم كتبه أحمد بن تيمية
____________________
(24/18)
وسئل
هل الجمع بين الصلاتين فى السفر أفضل أم القصر وما أقوال العلماء فى ذلك وما حجة كل منهم وما الراجح من ذلك
فأجاب الحمد لله بل فعل كل صلاة فى وقتها أفضل إذا لم يكن به حاجة إلى الجمع فان غالب صلاة النبى التى كان يصليها فى السفر إنما يصليها فى أوقاتها وإنما كان الجمع منه مرات قليلة
وفرق كثير من الناس بين الجمع والقصر وظنهم أن هذا يشرع سنة ثابتة والجمع رخصة عارضة وذلك أن النبى فى جميع اسفاره كان يصلي الرباعية ركعتين ولم ينقل أحد أنه صلى فى سفره الرباعية أربعا بل وكذلك أصحابه معه
والحديث الذى يروى عن عائشة ( أنها أتمت معه وافطرت ( حديث ضعيف بل قد ثبت عنها فى الصحيح ( أن الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين ركعتين ثم زيد فى صلاة الحضر وأقرت
____________________
(24/19)
صلاة السفر ( وثبت فى الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال ( صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم
وأما قوله تعالى ( واذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ( فان نفي الجناح لبيان الحكم وإزالة الشبهة لا يمنع ان يكون القصر هو السنة كما قال ( ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما ( نفى الجناح لأجل الشبهة التى عرضت لهم من الطواف بينهما لأجل ما كانوا عليه فى الجاهلية من كراهة بعضهم للطواف بينهما والطواف بينهما مأمور به باتفاق المسلمين وهو إما ركن وإما واجب واما سنة مؤكدة
وهو سبحانه ذكر الخوف والسفر لأن القصر يتناول قصر العدد وقصر الأركان فالخوف يبيح قصر الأركان والسفر يبيح قصر العدد فإذا اجتمعا أبيح القصر بالوجهين وإن انفرد السفر أبيح أحد نوعى القصر والعلماء متنازعون فى المسافر هل فرضه الركعتان ولا يحتاج قصره إلى نية أم لا يقصر إلا بنية على قولين
____________________
(24/20)
والأول قول أكثرهم كأبى حنيفة ومالك وهو أحد القولين فى مذهب أحمد اختاره أبو بكر وغيره
والثانى قول الشافعى وهو القول الآخر فى مذهب أحمد اختاره الخرقى
وغيره والأول هو الصحيح الذى تدل عليه سنة النبى صلى الله عليه وسلم فانه كان يقصر بأصحابه ولا يعلمهم قبل الدخول فى الصلاة أنه يقصر ولا يأمرهم بنية القصر ولهذا لما سلم من ركعتين ناسيا قال له ذو اليدين ( أقصرت الصلاة أم نسيت فقال لم أنس ولم تقصر قال بلى قد نسيت وفى رواية لو كان شيء لأخبرتكم به ( ولم يقل لو قصرت لأمرتكم ان تنووا القصر وكذلك لما جمع بهم لم يعلمهم أنه جمع قبل الدخول بل لم يكونوا يعلمون أنه يجمع حتى يقضى الصلاة الأولى فعلم أيضا أن الجمع لا يفتقر إلى أن ينوى حين الشروع فى الأولى كقول الجمهور والمنصوص عن أحمد يوافق ذلك وقد تنازع العلماء فى التربيع فى السفر هل هو حرام أو مكروه أو ترك الأولى أو هو الراجح فمذهب أبى حنيفة وقول فى مذهب مالك أن القصر واجب وليس له أن يصلى أربعا
____________________
(24/21)
ومذهب مالك فى الرواية الأخرى وأحمد فى أحد القولين بل نصهما ان الإتمام مكروه ومذهبه فى الرواية الأخرى ومذهب الشافعى فى أظهر قوليه أن القصر هو الأفضل والتربيع ترك الأولى وللشافعى قول ان التربيع أفضل وهذا أضعف الأقوال
وقد ذهب بعض الخوارج إلى أنه لا يجوز القصر الا مع الخوف ويذكر هذا قولا للشافعى وما أظنه يصح عنه فإنه قد ثبت بالسنة المتواترة ( ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى بأصحابه بمنى ركعتين ركعتين آمن ما كان الناس ( وكذلك بعده أبو بكر وكذلك بعده عمر
واذا كان كذلك فكيف يسوى بين الجمع والقصر وفعل كل صلاة فى وقتها أفضل اذا لم يكن حاجة عند الأئمة كلهم وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعى وأحمد فى ظاهر مذهبيهما بل تنازعوا فى جواز الجمع على ثلاثة أقوال
فمذهب أبى حنيفة أنه لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة ومذهب مالك وأحمد فى احدى الروايتين أنه لا يجمع المسافر اذا كان نازلا وإنما يجمع اذا كان سائرا بل عند مالك اذا جد به السير ومذهب الشافعى وأحمد فى الرواية الأخرى انه يجمع المسافر وإن كان نازلا
____________________
(24/22)
وسبب هذا النزاع ما بلغهم من أحاديث الجمع فإن أحاديث الجمع قليلة فالجمع بعرفة ومزدلفة متفق عليه وهو منقول بالتواتر فلم يتنازعوا فيه وأبو حنيفة لم يقل بغيره لحديث إبن مسعود الذى فى الصحيح أنه قال ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة وصلاة المغرب ليلة جمع ( وأراد بقوله ( فى الفجر لغير وقتها ( التى كانت عادته أن يصليها فيه فإنه جاء فى الصحيح عن جابر ( أنه صلى الفجر بمزدلفة بعد أن برق الفجر ( وهذا متفق عليه بين المسلمين ان الفجر لا يصلى حتى يطلع الفجر لا بمزدلفة ولا غيرها لكن بمزدلفة غلس بها تغليسا شديدا
وأما أكثر الأئمة فبلغتهم أحاديث فى الجمع صحيحة كحديث أنس وإبن عباس وإبن عمر ومعاذ وكلها من الصحيح ففى الصحيحين عن أنس ( أن النبى كان إذا ارتحل قبل ان تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فصلاهما جميعا وإذا ارتحل بعد ان تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب ( وفى لفظ فى الصحيح ( كان النبى اذا أراد أن يجمع بين الصلاتين فى السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما ( وفى الصحيحين عن إبن عمر ( أن النبى كان اذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء ( وفى لفظ فى الصحيح ( ان
____________________
(24/23)
إبن عمر كان اذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ( بعد ان يغيب الشفق ويقول ( أن رسول الله كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء (
وفى صحيح مسلم عن إبن عباس ( أن النبى جمع بين الصلاتين فى سفرة سافرها فى غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ( قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس ما حمله على ذلك قال أراد أن لا يحرج أمته وكذلك فى صحيح مسلم عن أبى الطفيل عن معاذ بن جبل قال ( جمع رسول الله فى غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء قال فقلت ما حمله على ذلك قال أراد أن لا يحرج أمته ( بل قد ثبت عنه أنه جمع فى المدينة كما فى الصحيحين عن إبن عباس قال ( صلى لنا رسول الله الظهر والعصر جميعا من غير خوف ولا سفر ( وفى لفظ فى الصحيحين عن إبن عباس ( أن النبى صلى بالمدينة سبعا وثمانيا جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ( قال أيوب لعله فى ليلة مطيرة وكان أهل المدينة يجمعون فى الليلة المطيرة بين المغرب والعشاء ويجمع معهم عبد الله بن عمر وروى ذلك مرفوعا إلى النبى وهذا العمل من الصحابة
____________________
(24/24)
وقولهم ( أراد ان لا يحرج أمته ( يبين انه ليس المراد بالجمع تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية فى أول وقتها فان مراعاة مثل هذا فيه حرج عظيم ثم أن هذا جائز لكل أحد فى كل وقت ورفع الحرج انما يكون عند الحاجة فلابد أن يكون قد رخص لأهل الأعذار فيما يرفع به عنهم الحرج دون غير أرباب الأعذار وهذا ينبنى على أصل كان عليه رسول الله وهو أن المواقيت لأهل الأعذار ثلاثة ولغيرهم خمسة فإن الله تعالى قال ( أقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل ( فذكر ثلاثة مواقيت والطرف الثانى يتناول الظهر والعصر والزلف يتناول المغرب والعشاء وكذلك قال ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ( والدلوك هو الزوال فى أصح القولين يقال دلكت الشمس وزالت وزاغت ومالت فذكر الدلوك والغسق وبعد الدلوك يصلى الظهر والعصر وفى الغسق تصلى المغرب والعشاء ذكر أول الوقت وهو الدلوك وآخر الوقت وهو الغسق والغسق اجتماع الليل وظلمته
ولهذا قال الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وغيره ان المرأة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء وإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر وهذا مذهب جمهور الفقهاء كمالك والشافعى وأحمد
____________________
(24/25)
وأيضا فجمع النبى بعرفة ومزدلفة يدل على جواز الجمع بغيرهما للعذر فانه قد كان من الممكن أن يصلي الظهر ويؤخر العصر إلى دخول وقتها ولكن لأجل النسك والاشتغال بالوقوف قدم العصر ولهذا كان القول المرضى عند جماهير العلماء انه يجمع بمزدلفة وعرفة من كان أهله على مسافة القصر ومن لم يكن أهله كذلك فإن النبى لما صلى صلى معه جميع المسلمين أهل مكة وغيرهم ولم يأمر أحدا منهم بتأخير العصر ولا بتقديم المغرب فمن قال من أصحاب الشافعى وأحمد أن أهل مكة لا يجمعون فقوله ضعيف فى غاية الضعف مخالف للسنة البينة الواضحة التى لا ريب فيها وعذرهم فى ذلك أنهم اعتقدوا أن سبب الجمع هو السفر الطويل والصواب أن الجمع لا يختص بالسفر الطويل بل يجمع للمطر ويجمع للمرض كما جاءت بذلك السنة فى جمع المستحاضة فإن النبى أمرها بالجمع فى حديثين
وأيضا فكون الجمع يختص بالطويل فيه قولان للعلماء وهما وجهان فى مذهب أحمد
أحدهما يجمع فى القصير وهو المشهور ومذهب الشافعى لا
والأول أصح لما تقدم والله أعلم
____________________
(24/26)
وسئل
عن الجمع وما كان النبى يفعله
فأجاب وأما الجمع فانما كان يجمع بعض الأوقات اذا جد به السير وكان له عذر شرعى كما جمع بعرفة ومزدلفة وكان يجمع فى غزوة تبوك أحيانا كان إذا ارتحل قبل الزوال أخر الظهر إلى العصر ثم صلاهما جميعا وهذا ثابت فى الصحيح
وأما اذا ارتحل بعد الزوال فقد روى أنه كان صلى الظهر والعصر جميعا كما جمع بينهما بعرفة وهذا معروف فى السنن وهذا اذا كان لا ينزل إلى وقت المغرب كما كان بعرفة لا يفيض حتى تغرب الشمس واما اذا كان ينزل وقت العصر فإنه يصليها فى وقتها فليس القصر كالجمع بل القصر سنة راتبة وأما الجمع فانه رخصة عارضة ومن سوى من العامة بين الجمع والقصر فهو جاهل بسنة رسول الله وبأقوال علماء المسلمين
فإن سنة رسول الله فرقت بينهما والعلماء
____________________
(24/27)
اتفقوا على أن أحدهما سنة واختلفوا فى وجوبه وتنازعوا فى جواز الآخر فأين هذا من هذا
وأوسع المذاهب فى الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد فإنه نص على أنه يجوز الجمع للحرج والشغل بحديث روى فى ذلك قال القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا يعنى اذا كان هناك شغل يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز له الجمع ويجوز عنده وعند مالك وطائفة من أصحاب الشافعى الجمع للمرض ويجوز عند الثلاثة الجمع للمطر بين المغرب والعشاء وفى صلاتى النهار نزاع بينهم ويجوز فى ظاهر مذهب أحمد ومالك الجمع للوحل والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك
ويجوز للمرضع أن تجمع اذا كان يشق عليها غسل الثوب فى وقت كل صلاة نص عليه أحمد وتنازع العلماء فى الجمع والقصر هل يفتقر إلى نية فقال جمهورهم لا يفتقر إلى نية وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة وأحد القولين فى مذهب أحمد وعليه تدل نصوصه وأصوله
وقال الشافعى وطائفة من أصحاب أحمد أنه يفتقر إلى نية وقول الجمهور هو الذى تدل عليه سنة رسول الله كما قد بسطت هذه المسألة فى موضعها والله أعلم
____________________
(24/28)
وسئل رحمه الله
عن صلاة الجمع فى المطر بين العشائين هل يجوز من البرد الشديد أو الريح الشديدة أم لا يجوز إلا من المطر خاصة
فأجاب الحمد لله رب العالمين يجوز الجمع بين العشائين للمطر والريح الشديدة الباردة والوحل الشديد وهذا أصح قولى العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك وغيرهما والله أعلم وسئل رحمه الله
عن رجل يؤم قوما وقد وقع المطر والثلج فأراد أن يصلى بهم المغرب فقالوا له يجمع فقال لا أفعل فهل للمأمومين أن يصلوا فى بيوتهم أم لا
فاجاب الحمد لله نعم يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة فى الليلة الظلماء ونحو ذلك وإن لم يكن المطر
____________________
(24/29)
نازلا فى أصح قولى العلماء وذلك أولى من أن يصلوا فى بيوتهم بل ترك الجمع مع الصلاة فى البيوت بدعة مخالفة للسنة إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس فى المساجد جماعة وذلك أولى من الصلاة فى البيوت باتفاق المسلمين
والصلاة جمعا فى المساجد أولى من الصلاة فى البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع كمالك والشافعى وأحمد والله تعالى أعلم قال رحمه الله فصل
وأما الصلوات فى الأحوال العارضة كالصلاة المكتوبة فى الخوف والمرض والسفر ومثل الصلاة لدفع البلاء عند أسبابه كصلوات الآيات فى الكسوف ونحوه أو الصلاة لاستجلاب النعماء كصلاة الاستسقاء ومثل الصلاة على الجنازة ففقهاء الحديث كأحمد وغيره متبعون لعامة الحديث الثابت عن النبى وأصحابه فى هذا الباب فيجوزون فى صلاة الخوف جميع الأنواع المحفوظة عن النبى
____________________
(24/30)
ويختارون قصر الصلاة فى السفر اتباعا لسنة النبى صلى الله عليه وسلم فإنه لم يصل فى السفر قط رباعية إلا مقصورة ومن صلى أربعا لم يبطلوا صلاته لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك منهم بل منهم من يكره ذلك ومنهم من لا يكرهه وإن رأى تركه أفضل وفى ذلك عن أحمد روايتان
وهذا بخلاف الجمع بين الصلاتين فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا مرات قليلة فإنهم يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه اقتداء بالنبى حين جد به السير حتى اختلف عن أحمد هل يجوز الجمع للمسافر النازل الذى ليس بسائر أم لا ولهذا كان أهل السنة مجمعين على جواز القصر فى السفر مختلفين فى جواز الاتمام ومجمعين على جواز التفريق بين الصلاتين مختلفين فى جواز الجمع بينهما
ويجوزون جميع الأنواع الثابتة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ( صلاة الكسوف ( فاصحهأ واشهرها أن يكون فى كل ركعة ركوعان وفى الصحيح أيضا فى كل ركعة ثلاث ركوعات وأربعة ويجوزون حذف الركوع الزائد كما جاء عن النبى ويطيلون السجود فيها كما صح عن النبى ويجهرون فيها بالقراءة كما ثبت فى الصحيح عن النبى
____________________
(24/31)
وكذلك ( الاستسقاء ( يجوزون الخروج إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء والدعاء كما ثبت ذلك عن النبى ويجوزون الخروج والدعاء بلا صلاة كما فعله عمر رضى الله عنه بمحضر من الصحابة ويجوزون الاستسقاء بالدعاء تبعا للصلوات الراتبة كخطبة الجمعة ونحوها كما فعله النبى
وكذلك ( الجنازة ( فان اختيارهم أنه يكبر عليها أربعا كما ثبت عن النبى وأصحابه أنهم كانوا يفعلونه غالبا ويجوز على المشهور عند أحمد التخميس فى التكبير ومتابعة الإمام فى ذلك لما ثبت عن النبى أنه كبر خمسا وفعله غير واحد من الصحابة مثل على بن أبى طالب وغيره ويجوز أيضا على الصحيح عنده التسبيع ومتابعة الإمام فيه لما ثبت عن الصحابة أنهم كانوا يكبرون أحيانا سبعا بعد موت النبى ولما فى ذلك من الرواية عن النبى
____________________
(24/32)
وقال شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
أما بعد فهذه ( قاعدة فى الأحكام التى تختلف بالسفر والاقامة ) مثل قصر الصلاة والفطر فى شهر رمضان ونحو ذلك وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهم جعلوها نوعين نوعا يختص بالسفر الطويل وهو القصر والفطر ونوعا يقع فى الطويل والقصير كالتيمم والصلاة على الراحلة وأكل الميتة هو من هذا القسم وأما المسح على الخفين والجمع بين الصلاتين فمن الأول وفى ذلك نزاع
والكلام فى مقامين
____________________
(24/33)
أحدهما
الفرق بين السفر الطويل والقصير فيقال هذا الفرق لا أصل له فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله بل الأحكام التى علقها الله بالسفر علقها به مطلقا كقوله تعالى فى آية الطهارة ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط ) وقوله تعالى فى آية الصيام ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) وقوله تعالى ( وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا )
وقول النبى ( إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ( وقول عائشة فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت فى الحضر وقول عمر ( صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ( وقوله صلى الله عليه وسلم ( يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ( وقول صفوان بن عسال
____________________
(24/34)
( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرا أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط أو بول أو نوم ) وقول النبى صلى الله عليه وسلم ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ) وقوله ( السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليتعجل الرجوع إلى أهله (
فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقا لا أصل له فى كتاب الله ولا سنة رسوله وهذا الذى ذكر من تعليق الشارع الحكم بمسمى الاسم المطلق وتفريق بعض الناس بين نوع ونوع من غير دلالة شرعية له نظائر
منها أن الشارع علق الطهارة بمسمى الماء فى قوله ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) ولم يفرق بين ماء وماء ولم يجعل الماء نوعين طاهرا وطهورا
ومنها أن الشارع علق المسح بمسمى الخف ولم يفرق بين خف وخف فيدخل فى ذلك المفتوق والمخروق وغيرهما من غير تحديد ولم يشترط أيضا أن يثبت بنفس
____________________
(24/35)
ه
ومن ذلك أنه أثبت الرجعة فى مسمى الطلاق بعد الدخول ولم يقسم طلاق المدخول بها إلى طلاق بائن ورجعى
ومن ذلك أنه أثبت الطلقة الثالثة بعد طلقتين وافتداء والافتداء الفرقة بعوض وجعلها موجبة للبينونة بغير طلاق يحسب من الثلاث وهذا الحكم معلق بهذا المسمى لم يفرق فيه بين لفظ ولفظ ومن ذلك أنه علق الكفارة بمسمى أيمان المسلمين فى قوله تعالى ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) وقوله ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) ولم يفرق بين يمين ويمين من أيمان المسلمين فجعل أيمان المسلمين المنعقدة تنقسم إلى مكفرة وغير مكفرة مخالف لذلك
ومن ذلك أنه علق التحريم بمسمى الخمر وبين أن الخمر هي المسكر فى قوله ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ( ولم يفرق بين مسكر ومسكر
ومن ذلك أنه علق الحكم بمسمى الإقامة كما علقه بمسمى السفر ولم يفرق بين مقيم ومقيم فجعل المقيم نوعين نوعا تجب عليه الجمعة بغيره ولا تنعقد به ونوعا تنعقد به لا أصل له
بل الواجب أن هذه الأحكام لما علقها الشارع بمسمى السفر فهي
____________________
(24/36)
تتعلق بكل سفر سواء كان ذلك السفر طويلا أو قصيرا ولكن ثم أمور ليست من خصائص السفر بل تشرع فى السفر والحضر فإن المضطر إلى أكل الميتة لم يخص الله حكمه بسفر لكن الضرورة أكثر ما تقع به فى السفر فهذا لا فرق فيه بين الحضر والسفر الطويل والقصير فلا يجعل هذا معلقا بالسفر
وأما الجمع بين الصلاتين فهل يجوز فى السفر القصير فيه وجهان فى مذهب أحمد
( أحدهما ( لا يجوز كمذهب الشافعى قياسا على القصر
و ( الثانى ( يجوز كقول مالك لأن ذلك شرع فى الحضر للمرض والمطر فصار كأكل الميتة إنما علته الحاجة لا السفر وهذا هو الصواب فإن الجمع بين الصلاتين ليس معلقا بالسفر وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر
وأما الصلاة على الراحلة فقد ثبت فى الصحيح بل استفاض عن النبى انه كان يصلى على راحلته فى السفر قبل أى وجه توجهت به ويوتر عليها غير انه لا يصلى عليها المكتوبة وهل يسوغ ذلك فى الحضر فيه قولان فى مذهب أحمد وغيره فإذا جوز
____________________
(24/37)
فى الحضر ففى القصر أولى وأما إذا منع فى الحضر فالفرق بينه وبين القصر والفطر يحتاج إلى دليل المقام الثانى
حد السفر الذى علق الشارع به الفطر والقصر
وهذا مما اضطرب الناس فيه قيل ثلاثة أيام وقيل يومين قاصدين وقيل أقل من ذلك حتى قيل ميل والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من قال ثمانية وأربعون ميلا وقيل ستة وأربعون وقيل خمسة وأربعون وقيل أربعون وهذه أقوال عن مالك وقد قال أبو محمد المقدسى لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجها وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتا بنص ولا إجماع ولا قياس وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير ويجعلون ذلك حدا للسفر الطويل ومنهم من لا يسمى سفرا إلا ما بلغ هذا الحد وما دون ذلك لا يسميه سفرا
فالذين قالوا ثلاثة أيام احتجوا بقوله ( يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ( وقد ثبت عنه فى الصحيحين أنه قال ( لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم ( وقد ثبت عنه فى الصحيحين أنه
____________________
(24/38)
قال ( مسيرة يومين ( وثبت فى الصحيح ( مسيرة يوم ( وفى السنن ( بريدا ( فدل على أن ذلك كله سفر وإذنه له فى المسح ثلاثة أيام إنما هو تجويز لمن سافر ذلك وهو لا يقتضى أن ذلك أقل السفر كما أذن للمقيم أن يمسح يوما وليلة وهو لا يقتضى أن ذلك أقل الاقامة
والذين قالوا يومين اعتمدوا على قول إبن عمر وإبن عباس والخلاف فى ذلك مشهور عن الصحابة حتى عن إبن عمر وإبن عباس وما روى ( يا أهل مكة لا تقصروا فى أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان ( إنما هو من قول إبن عباس ورواية إبن خزيمة وغيره له مرفوعا إلى النبى باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث وكيف يخاطب النبى أهل مكة بالتحديد وإنما أقام بعد الهجرة زمنا يسيرا وهو بالمدينة لا يحد لأهلها حدا كما حده لأهل مكة وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين
وأيضا فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليدا وليس هو مما يقطع به والنبى لم يقدر الأرض بمساحة أصلا فكيف يقدر الشارع لأمته حدا لم يجر
____________________
(24/39)
له ذكر فى كلامه وهو مبعوث إلى جميع الناس فلابد أن يكون مقدار السفر معلوما علما عاما وذرع الأرض مما لا يمكن بل هو إما متعذر وإما متعسر لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما يمسحونه على خط مستو أو خطوط منحنية انحناء مضبوطا ومعلوم أن المسافرين قد يعرفون غير تلك الطريق وقد يسلكون غيرها وقد يكون فى المسافة صعود وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته والسبب الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض
والموجود فى كلام النبى والصحابة فى تقدير الأرض بالأزمنة كقوله فى الحوض ( طوله شهر وعرضه شهر ) وقوله ( بين السماء والأرض خمسمائة سنة ) وفى حديث آخر ( إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ( فقيل الأول بالسير المعتاد سير الإبل والاقدام والثانى سير البريد فانه فى العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات وكذلك الصحابة يقولون يوم تام ويومان ولهذا قال من حده بثمانية وأربعين ميلا مسيرة يومين قاصدين بسير الابل والاقدام لكن هذا لا دليل عليه
وإذا كان كذلك فنقول كل اسم ليس له حد فى اللغة ولا فى الشرع فالمرجع فيه إلى العرف فما كان سفرا فى عرف الناس فهو
____________________
(24/40)
السفر الذى علق به الشارع الحكم وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسنة والبريد هو نصف يوم بسير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة يومين وليلتين وهو الذى قد يسمى مسافة القصر وهو الذى يمكن الذاهب إليها أن يرجع من يومه
وأما ما دون هذه المسافة إن كانت مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل يقصر فى ميل وروى عن إبن عمر أنه قال لو سافرت ميلا لقصرت قال إبن حزم لم نجد أحدا يقصر فى أقل من ميل ووجد إبن عمر وغيره يقصرون فى هذا القدر ولم يحد الشارع فى السفر حدا فقلنا بذلك اتباعا للسنة المطلقة ولم نجد أحدا يقصر بما دون الميل ولكن هو على أصله وليس هذا اجماعا فإذا كان ظاهر النص يتناول ما دون ذلك لم يضره أن لا يعرف أحدا ذهب إليه كعادته فى أمثاله
وأيضا فليس فى قول إبن عمر أنه لا يقصر فى أقل من ذلك
وأيضا فقد ثبت عن إبن عمر أنه كان لا يقصر فى يوم أو يومين فإما أن تتعارض أقواله أو تحمل على اختلاف الاحوال والكلام فى مقامين
( المقام الأول ( أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات
____________________
(24/41)
يقصر وأما إذا قيل ليست محدودة بالمسافة بل الاعتبار بما هو سفر فمن سافر ما يسمى سفرا قصر وإلا فلا
وقد يركب الرجل فرسخا يخرج به لكشف أمر وتكون المسافة أميالا ويرجع فى ساعة أو ساعتين ولا يسمى مسافرا وقد يكون غيره فى مثل تلك المسافة مسافرا بأن يسير على الإبل والأقدام سيرا لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه والدليل على ذلك من وجوه
( أحدها ) أنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أن النبى فى حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة وفى أيام منى وكذلك أبو بكر وعمر بعده وكان يصلى خلفهم أهل مكة ولم يأمروهم بإتمام الصلاة ولا نقل أحد لا باسنإد صحيح ولا ضعيف أن النبى قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصرا وجمعا ثم العصر ركعتين يا أهل مكة أتموا صلاتكم ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر ولا نقل أحد أن أحدا من الحجيج لا أهل مكة ولا غيرهم صلى خلف النبى خلاف ما صلى بجمهور المسلمين أو نقل أن النبى أو عمر قال فى هذا اليوم ( يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ( فقد غلط وإنما نقل أن
____________________
(24/42)
النبى صلى الله عليه وسلم قال هذا فى جوف مكة لأهل مكة عام الفتح وقد ثبت أن عمر بن الخطاب ( قاله ) لأهل مكة لما صلى فى جوف مكة ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة قاموا فاتموا وصلوا أربعا وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله بالضرورة بل لو أخروا صلاة العصر ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصرا لنقل ذلك فكيف إذا أتموا الظهر أربعا دون سائر المسلمين
وأيضا فإنهم إذا أخذوا فى إتمام الظهر والنبى قد شرع فى العصر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام وإما أن يفوتهم معه بعض العصر بل أكثرها فكيف إذا كانوا يتمون الصلوات وهذا حجة على كل أحد وهو على من يقول إن أهل مكة جمعوا معه أظهر وذلك أن العلماء تنازعوا فى أهل مكة هل يقصرون ويجمعون بعرفة على ثلاثة أقوال
فقيل لا يقصرون ولا يجمعون وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعى وطائفة من أصحاب أحمد كالقاضى فى ( المجرد ( وإبن عقيل فى ( الفصول ( لاعتقادهم أن ذلك معلق بالسفر الطويل وهذا قصير
____________________
(24/43)
والثانى أنهم يجمعون ولا يقصرون وهذا مذهب أبى حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد ومن أصحاب الشافعى والمنقولات عن أحمد توافق هذا فإنه أجاب فى غير موضع بأنهم لا يقصرون ولم يقل لا يجمعون وهذا هو الذى رجحه أبو محمد المقدسى فى الجمع وأحسن فى ذلك
والثالث أنهم يجمعون ويقصرون وهذا مذهب مالك وإسحاق بن راهويه وهو قول طاووس وإبن عيينة وغيرهما من السلف وقول طائفة من أصحاب أحمد والشافعى كأبى الخطاب فى ( العبادات الخمس ( وهو الذى رجحه أبو محمد المقدسى وغيره من أصحاب أحمد فإن أبا محمد وموافقيه رجحوا الجمع للمكى بعرفة
وأما ( القصر ( فقال أبو محمد الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الاجماع على خلافه والمعلوم أن الاجماع لم ينعقد على خلافه وهو اختيار طائفة من علماء أصحاب أحمد كان بعضهم يقصر الصلاة فى مسيرة بريد وهذا هو الصواب الذى لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبرها فإن من تأمل الأحاديث فى حجة الوداع وسياقها علم علما يقينا أن الذين كانوا مع النبى من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصرا وجمعا ولم يفعلوا خلاف ذلك ولم ينقل أحد قط عن النبى أنه قال لا بعرفة ولا
____________________
(24/44)
مزدلفة ولا منى ( يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ( وإنما نقل أنه قال ذلك فى نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه وقوله ذلك فى داخل مكة دون عرفة ومزدلفة ومنى دليل على الفرق وقد روى من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان يقول بمنى ( يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ( وليس له إسناد
وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال أنه لأجل النسك كما تقوله الحنفية وطائفة من أصحاب أحمد وهو مقتضى نصه فإنه يمنع المكى من القصر بعرفة ولم يمنعه من الجمع وقال فى جمع المسافر أنه يجمع فى الطويل كالقصر عنده وإذا قيل الجمع لأجل النسك ففيه قولان
أحدهما لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة كما تقوله الحنفية
والثانى أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع وإن لم يكن سفرا وهو مذهب الثلاثة مالك والشافعى وأحمد
وقد يقال لأن ذلك سفر قصير وهو يجوز الجمع فى السفر القصير كما قال هذا وهذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك والشافعى وأحمد فان الجمع لا يختص بالسفر والنبى صلى الله عليه وسلم لم
____________________
(24/45)
يجمع فى حجته إلا بعرفة ومزدلفة ولم يجمع بمنى ولا فى ذهابه وإيابه ولكن جمع قبل ذلك فى غزوة تبوك والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر كما قصر للسفر بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة وكان جمع عرفة لأجل العبادة وجمع مزدلفة لأجل السير الذى جد فيه وهو سيره إلى مزدلفة وكذلك كان يصنع فى سفره كان إذا جد به السير أخر الأولى إلى وقت الثانية ثم ينزل فيصليهما جميعا كما فعل بمزدلفة وليس فى شريعته ما هو خارج عن القياس بل الجمع الذى جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره كما يقوله الأكثرون ولكن أبو حنيفة يقول هو خارج عن القياس وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن لفوات شرط أو وجود مانع دل على فسادها وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا تناقض بل حكم الشيء حكم مثله والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها
وأما ( القصر ( فلا ريب أنه من خصائص السفر ولا تعلق له بالنسك ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنهم بسفر وعرفة عن المسجد بريد كما ذكره الذين مسحوا ذلك وذكره الأزرقى فى ( أخبار مكة ( فهذا قصر فى سفر قدره بريد وهم لما رجعوا إلى منى كانوا فى الرجوع من السفر وإنما كان غاية قصدهم
____________________
(24/46)
بريدا وأى فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم والله لم يرخص فى الصلاة ركعتين إلا لمسافر فعلم أنهم كانوا مسافرين والمقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه يصلى أربعا كما قال النبى لأهل مكة فى مكة ( أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ( وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء ولكن فى مذهب مالك نزاع
الدليل الثانى أنه قد نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذى محرم أو زوج تارة يقدر وتارة يطلق وأقل ما روى فى التقدير بريد فدل ذلك على أن البريد يكون سفرا كما أن الثلاثة الأيام تكون سفرا واليومين تكون سفرا واليوم يكون سفرا هذه الأحاديث ليس لها مفهوم بل نهى عن هذا وهذا
وهذا الدليل الثالث أن السفر لم يحده الشارع وليس له حد فى اللغة فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه فما كان عندهم سفرا فهو سفر والمسافر يريد أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه وأقل ذلك مرحلة يذهب فى نصفها ويرجع فى نصفها وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة ( الشهادة على الشهادة ( و ( كتاب القاضي إلى القاضي ( و ( العدو على الخصم ( و ( الحضانة ( وغير ذلك مما هو معروف فى موضعه وهو أحد القولين فى مذهب أحمد فلو كانت المسافة
____________________
(24/47)
محدودة لكان حدها بالبريد أجود لكن الصواب أن السفر ليس محددا بمسافة بل يختلف فيكون مسافرا فى مسافة بريد وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرا
الدليل الرابع أن المسافر رخص الله له أن يفطر فى رمضان وأقل الفطر يوم ومسافة البريد يذهب إليها ويرجع فى يوم فيحتاج إلى الفطر فى شهر رمضان ويحتاج أن يقصر الصلاة بخلاف ما دون ذلك فإنه قد لا يحتاج فيه إلى قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال وإذا كان غدوه يوما ورواحه يوما فإنه يحتاج إلى القصر والفطر وهذا قد يقتضى أنه قد يرخص له أن يقصر ويفطر فى بريد وإن كان قد لا يرخص له فى أكثر منه إذا لم يعد مسافرا
الدليل الخامس أنه ليس تحديد من حد المسافة بثلاثة أيام بأولى ممن حدها بيومين ولا اليومان بأولى من يوم فوجب أن لا يكون لها حد بل كل ما يسمى سفرا يشرع وقد ثبت بالسنة القصر فى مسافة بريد فعلم أن فى الاسفار ما قد يكون بريدا وأدنى ما يسمى سفرا فى كلام الشارع البريد
وأما ما دون البريد كالميل فقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى
____________________
(24/48)
الله عليه وسلم ( أنه كان يأتى قباء كل سبت وكان يأتيه راكبا وماشيا ( ولا ريب ( أن ) أهل قباء وغيرهم من أهل العوالى كانوا يأتون إلى النبى بالمدينة ولم يقصر الصلاة هو ولا هم وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة والجمعة على من سمع النداء والنداء قد يسمع من فرسخ وليس كل من وجبت عليه الجمعة أبيح له القصر والعوالى بعضها من المدينة وإن كان إسم المدينة يتناول جميع المساكن كما قال تعالى ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ( وقال ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله )
وأما ما نقل عن إبن عمر فينظر فيه هل هو ثابت أم لا فإن ثبت فالرواية عنه مختلفة وقد خالفه غيره من الصحابة ولعله أراد إذا قطعت من المسافة ميلا ولا ريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل وما كان إبن عمر ولا غيره يقصرون الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة وعدم قصر أهل المدينة الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق والله أعلم والصلاة على الراحلة إذا كانت مختصة بالسفر لا تفعل إلا فيما يسمى سفرا ولهذا لم يكن النبى يصلى على راحلته فى
____________________
(24/49)
خروجه إلى مسجد قباء مع أنه كان يذهب إليه راكبا وماشيا ولا كان المسلمون الداخلون من العوالى يفعلون ذلك وهذا لأن هذه المسافة قريبة كالمسافة فى المصر واسم ( المدينة ( يتناول المساكن كلها فلم يكن هناك إلا أهل المدينة والأعراب كما دل عليه القرآن فمن لم يكن من الأعراب كان من أهل المدينة وحينئذ فيكون مسيره إلى قباء كأنه فى المدينة فلو سوغ ذلك سوغت الصلاة فى المصر على الراحلة وإلا فلا فرق بينهما
والنبى صلى الله عليه وسلم لما كان يصلى بأصحابه جمعا وقصرا لم يكن يأمر أحدا منهم بنية الجمع والقصر بل خرج من المدينة إلى مكة يصلى ركعتين من غير جمع ثم صلى بهم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلى العصر بعدها ثم صلى بهم العصر ولم يكونوا نووا الجمع وهذا جمع تقديم وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذى الحليفة العصر ركعتين ولم يأمرهم بنية قصر وفى الصحيح أنه لما صلى أحدى صلاتى العشى وسلم من اثنتين قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت قال ( لم أنس ولم تقصر ( قال بلى قد نسيت قال ( أكما يقول ذو اليدين ( قالوا نعم فأتم الصلاة ولو كان القصر لا يجوز إلا إذا نووه لبين ذلك ولكانوا يعلمون ذلك
والامام أحمد لم ينقل عنه فيما أعلم أنه اشترط النية فى جمع ولا
____________________
(24/50)
قصر ولكن ذكره طائفة من أصحابه كالخرقى والقاضى وأما أبو بكر عبد العزيز وغيره فقالوا إنما يوافق مطلق نصوصه
وقالوا لا يشترط للجمع ولا للقصر نية وهو قول الجمهور من العلماء كمالك وأبى حنيفة وغيرهما بل قد نص أحمد على أن المسافر له أن يصلى العشاء قبل مغيب الشفق وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع كما نقله عنه أبو طالب والمروذى وذكر ذلك القاضي فى ( الجامع الكبير ( فعلم أنه لا يشترط فى الجمع نية
ولا تشترط أيضا ( المقارنة ( فإنه لما أباح أن تصلى العشاء قبل مغيب الشفق وعلله بأنه يجوز له الجمع لم يجز أن يراد به الشفق الأبيض لأن مذهبه المتواتر عنه أن المسافر يصلى العشاء بعد مغيب الشفق الأحمر وهو أول وقتها عنده وحينئذ يخرج وقت المغرب عنده فلم يكن مصليا لها فى وقت المغرب بل فى وقتها الخاص وأما فى الحضر فاستحب تأخيرها إلى أن يغيب الأبيض قال لأن الحمرة قد تسترها الحيطان فيظن أن الأحمر قد غاب ولم يغب فإذا غاب البياض تيقن مغيب الحمرة فالشفق عنده فى الموضعين الحمرة لكن لما كان الشك فى الحضر لاستتار الشفق بالحيطان احتاط بدخول الأبيض فهذا مذهبه المتواتر من نصوصه الكثيرة
____________________
(24/51)
وقد حكى بعضهم رواية عنه أن الشفق فى الحضر الأبيض وفى السفر الأحمر وهذه الرواية حقيقتها كما تقدم وإلا فلم يقل أحمد ولا غيره من علماء المسلمين أن الشفق فى نفس الأمر يختلف بالحضر والسفر وأحمد قد علل الفرق فلو حكى عنه لفظ مجمل كان المفسر من كلامه يبينه وقد حكى بعضهم رواية عنه أن الشفق مطلق البياض وما أظن هذا إلا غلطا عليه وإذا كان مذهبه أن أول الشفق إذا غاب فى السفر خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء وهو يجوز للمسافر أن يصلى العشاء قبل مغيب الشفق وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع علم أنه صلاها قبل مغيبها لا بعد مغيب الأحمر فانه حينئذ لا يجوز التعليل بجواز الجمع
الثانى أن ذلك من كلامه يدل على أن الجمع عنده هو الجمع فى الوقت وإن لم يصل إحداهما بالأخرى كالجمع فى وقت الثانية على المشهور من مذهبه ومذهب غيره وأنه إذا صلى المغرب فى أول وقتها والعشاء فى آخر وقت المغرب حيث يجوز له الجمع جاز ذلك وقد نص أيضا على نظير هذا فقال إذا صلى أحدى صلاتى الجمع فى بيته والأخرى فى المسجد فلا بأس وهذا نص منه على أن الجمع هو جمع فى الوقت لا تشترط فيه المواصلة وقد تأول ذلك بعض أصحابه على قرب الفصل وهو خلاف النص ولأن النبى
____________________
(24/52)
لما صلى بهم بالمدينة ثمانيا جميعا وسبعا جميعا لم ينقل أنه أمرهم ابتداء بالنية ولا السلف بعده وهذا قول الجمهور كأبى حنيفة ومالك وغيرهما وهو فى القصر مبنى على فرض المسافر
فصارت الأقوال للعلماء فى اقتران الفعل ثلاثة
أحدها أنه لا يجب الاقتران لا فى وقت الأولى ولا الثانية كما قد نص عليه أحمد كما ذكرناه فى السفر وجمع المطر
والثانى أنه يجب الاقتران فى وقت الأولى دون الثانية وهذا هو المشهور عند أكثر أصحابه المتأخرين وهو ظاهر مذهب الشافعى فإن كان الجمع فى وقت الأولى اشترط الجمع وإن كان فى وقت الآخرة فإنه يصلى الأولى فى وقت الثانية وأما الثانية فيصليها فى وقتها فتصح صلاته لها وإن أخرها ولا يأثم بالتأخير وعلى هذا تشترط الموالاة فى وقت الأولى دون الثانية
والثالث تشترط الموالاة فى الموضعين كما يشترط الترتيب وهذا وجه فى مذهب الشافعى وأحمد ومعنى ذلك انه إذا صلى الأولى وآخر الثانية أثم وإن كانت وقعت صحيحة لأنه لم يكن له إذا أخر الأولى إلا أن يصلى الثانية معها فإذا لم يفعل ذلك كان بمنزلة من
____________________
(24/53)
أخرها إلى وقت الضرورة ويكون قد صلاها فى وقتها مع الاثم
والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال لا فى وقت الأولى ولا فى وقت الثانية فإنه ليس لذلك حد فى الشرع ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة وهو شبيه بقول من حمل الجمع على الجمع بالفعل وهو أن يسلم من الأولى فى آخر وقتها ويحرم بالثانية فى أول وقتها كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها فإنه يريد أن يبتدئ فيها إذا بقى من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث فى المغرب ويريد مع ذلك أن لا يطيلها وإن كان بنية الإطالة تشرع فى الوقت الذي يحتمل ذلك وإذا دخل فى الصلاة ثم بدا له أن يطيلها أو أن ينتظر أحدا ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع ذلك ويجتهد فى أن يسلم قبل خروج الوقت ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء علما وعملا وهو يشغل قلب المصلى عن مقصود الصلاة والجمع شرع رخصة ودفعا للحرج عن الأمة فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد ومع ما ينقض مقصود الصلاة
فعلم أنه كان إذا أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء يفعل ذلك على الوجه الذى يحصل به التيسير ورفع الحرج له ولأمته ولا يلتزم انه لا يسلم من الأولى إلا
____________________
(24/54)
قبل خروج وقتها الخاص وكيف يعلم ذلك المصلى فى الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل والمصلى فى الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبى صلى الله عليه وسلم آلات حسابية يعرف بها الوقت ولا موقت يعرف ذلك بالآلات الحسابية والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بمغيب الشفق فيحتاج أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض والمصلى فى الصلاة منهى عن مثل ذلك
وإذا كان يصلي فى بيت أو فسطاط أو نحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه فى الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه فى هذه الحال ان يتحرى السلام فى آخر وقت المغرب بل لابد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل خروج الوقت
ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبى أنه كان يراعيه بل ولا أصحابه فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم فى غالب الأوقات لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران الفعل وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين فى وقت واحد أو وقتين وأولئك قالوا لا يكون
____________________
(24/55)
الجمع إلا فى وقتين وذلك يحتاج إلى تفريق الفعل وكلا القولين ضعيف
والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا والجمع جائز فى الوقت المشترك فتارة يجمع فى أول الوقت كما جمع بعرفة وتارة يجمع فى وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفى بعض أسفاره وتارة يجمع فيما بينهما فى وسط الوقتين وقد يقعان معا فى آخر وقت الأولى وقد يقعان معا فى أول وقت الثانية وقد تقع هذه فى هذا وهذه فى هذا وكل هذا جائز لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة ففى عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة وكذلك جمع المطر السنة أن يجمع للمطر فى وقت المغرب حتى اختلف مذهب أحمد هل يجوز أن يجمع للمطر فى وقت الثانية على وجهين وقيل إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير وهو غلط مخالف للسنة والإجماع القديم وصاحب هذا القول ظن أن التأخير فى الجمع أفضل مطلقا لأن الصلاة يجوز فعلها بعد الوقت عند النوم والنسيان ولا يجوز فعلها قبل الوقت بحال بل لو صلاها قبل الزوال وقبل الفجر أعادها وهذا غلط فإن الجمع بمزدلفة إنما المشروع فيه تأخير المغرب إلى
____________________
(24/56)
وقت العشاء بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين وما علمت احدا من العلماء سوغ له هناك أن يصلى العشاء فى طريقه وإنما اختلفوا فى المغرب هل له أن يصليها فى طريقه على قولين وأما التأخير فهو كالتقديم بل صاحبه أحق بالذم ومن نام عن صلاة أو نسيها فإن وقتها فى حقه حين يستيقظ ويذكرها وحينئذ هو مأمور بها لا وقت لها إلا ذلك فلم يصلها إلا فى وقتها
وأما من صلى قبل الزوال وطلوع الفجر الذى يحصل به فإن كان متعمدا فهذا فعل ما لم يؤمر به وأما إن كان عاجزا عن معرفة الوقت كالمحبوس الذى لا يمكنه معرفة الوقت فهذا فى إجزائه قولان للعلماء وكذلك فى صيامه إذا صام حيث لا يمكنه معرفة شهور رمضان كالأسير إذا صام بالتحرى ثم تبين له أنه قبل الوقت ففى إجزائه قولان للعلماء وأما من صلى فى المصر قبل الوقت غلطا فهذا لم يفعل ما أمر به وهل تنعقد صلاته نفلا أو تقع باطلة على وجهين فى مذهب أحمد وغيره
والمقصود أن الله لم يبح لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها بحال كما لم يبح له أن يفعلها قبل وقتها بحال فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم بل ذاك بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل وقد يكون هذا أفضل وهذا مذهب جمهور العلماء وهو
____________________
(24/57)
ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره ومن أطلق من أصحابه القول بتفضيل أحدهما مطلقا فقد أخطأ على مذهبه وأحاديث الجمع الثابتة عن النبى مأثورة من حديث إبن عمر وبن عباس وانس ومعاذ وأبى هريرة وجابر وقد تأول هذه الأحاديث من أنكرالجمع على تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول وقتها وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن الجمع كان يكون فى وقت الثانية وفى وقت الأولى وجاء الجمع مطلقا والمفسر يبين المطلق ففى الصحيحين من حديث سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه ( أن النبى كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ( وروى مالك عن نافع عن إبن عمر قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء ( رواه مسلم وروى مسلم من حديث يحيى بن سعيد حدثنا عبيد الله أخبرنى نافع عن إبن عمر أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق ويذكر ( أن رسول الله كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء (
قال الطحاوى حديث إبن عمر إنما فيه الجمع بعد مغيب الشفق من فعله وذكر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين
____________________
(24/58)
ولم يذكر كيف كان جمعه وهذا إنما فيه التأخير من فعل إبن عمر لا فيما رواه عن النبى فذكر المثبتون ما رواه محمد بن يحيى الذهلى حدثنا حماد بن مسعدة عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن عبد الله بن عمر أسرع السير فجمع بين المغرب والعشاء فسألت نافعا فقال بعد ما غاب الشفق بساعة وقال إني رأيت رسول الله يفعل ذلك إذا جد به السير ورواه سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن إبن عمر استصرخ على صفية بنت أبى عبيد وهو بمكة وهى بالمدينة فأقبل فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم فقال رجل كان يصحبه الصلاة الصلاة فسار إبن عمر فقال له سالم الصلاة فقال ( ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به أمر فى سفر جمع بين هاتين الصلاتين ( فسار حتى إذا غاب الشفق جمع بينهما وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثا
وروى البيهقى هذين بإسناد صحيح مشهور قال ورواه معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع وقال فى الحديث فأخر المغرب بعد ذلك الشفق حتى ذهب هوى من الليل ثم نزل فصلى المغرب والعشاء قال ( وكان رسول الله يفعل ذلك إذا جد به السير أو حزبه أمر ( قال ورواه يزيد بن هارون عن يحيى
____________________
(24/59)
بن سعيد الأنصارى عن نافع فذكر أنه سار قريبا من ربع الليل ثم نزل فصلى ورواه من طريق الدار قطنى حدثنا إبن صاعد والنيسابورى حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد أخبرنى عمر بن محمد بن زيد حدثنى نافع مولى عبد الله بن عمر عن إبن عمر أنه أقبل من مكة وجاءه خبر صفية بنت أبى عبيد فأسرع السير فلما غابت الشمس قال له إنسان من أصحابه الصلاة فسكت ثم سار ساعة فقال له صاحبه الصلاة فقال الذى قال له ( الصلاة ( أنه ليعلم من هذا علما لا أعلمه فسار حتى إذا كان بعد ما غاب الشفق بساعة نزل فأقام الصلاة وكان لا ينادى لشيء من الصلاة فى السفر فأقام فصلى المغرب والعشاء جميعا جمع بينهما ثم قال ( ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد ان يغيب الشفق بساعة ( وكان يصلى على ظهر راحلته أين توجهت به السبحة فى السفر ويخبر أن رسول الله كان يصنع ذلك قال البيهقى اتفقت رواية يحيى بن سعيد الأنصارى وموسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر وأيوب السختيانى وعمر بن محمد بن زيد على أن جمع عبد الله بن عمر بين الصلاتين بعد غيبوبة الشفق وخالفهم من لا يدانيهم فى حفظ أحاديث نافع وذكر أن إبن جابر رواه عن نافع
____________________
(24/60)
ولفظه حتى إذا كان فى آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى بنا ثم أقبل علينا فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به الأمر صنع هكذا وقال وبمعناه رواه فضيل بن غزوان وعطاف بن خالد عن نافع ورواية الحفاظ من أصحاب نافع أولى بالصواب فقد رواه سالم بن عبد الله وأسلم مولى عمر وعبد الله بن دينار واسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب عن إبن عمر نحو روايتهم أما حديث سالم فرواه عاصم بن محمد عن أخيه عمر بن محمد عن سالم وأما حديث أسلم فأسنده من حديث بن أبى مريم أنا محمد بن جعفر أخبرنى زيد بن أسلم عن أبيه قال كنت مع بن عمر فبلغه عن صفية شدة وجع فأسرع السير حتى ( إذا ) كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما وقال انى رأيت رسول الله إذا جد به السير أخر المغرب وجمع بينهما رواه البخارى فى صحيحه عن إبن أبى مريم
وأسند أيضا من كتاب يعقوب بن سفيان أنا أبو صالح وإبن بكير قالا حدثنا الليث قال قال ربيعة بن أبى عبد الرحمن حدثنى عبد الله بن دينار وكان من صالحى المسلمين صدقا ودينا قال غابت الشمس ونحن مع عبد الله بن عمر فسرنا فلما رأيناه قد أمسى قلنا له الصلاة فسكت حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم فنزل فصلى الصلاتين جميعا ثم قال
____________________
(24/61)
رأيت رسول الله إذا جد به السير صلى صلاتى هذه يقول جمع بينهما بعد ليل
وأما حديث إسماعيل بن عبد الرحمن فأسند من طريق الشافعى وأبى نعيم عن بن عيينة عن أبى نجيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال صحبت إبن عمر فلما غابت الشمس هبنا أن نقول له قم إلى الصلاة فلما ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء نزل فصلى ثلاث ركعات وركعتين ثم التفت إلينا فقال هكذا رأيت رسول الله يفعل
وأما حديث أنس ففى الصحيحين عن إبن شهاب عن أنس قال ( كان رسول الله إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما فان زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب ( هذا لفظ الفعل عن عقيل عنه ورواه مسلم من حديث إبن وهب حدثنى جابر بن إسماعيل عن عقيل عن إبن شهاب عن أنس عن رسول الله ( أنه كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق ( ورواه مسلم من حديث شبابة حدثنا الليث بن سعد عن عقيل عن بن شهاب عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه
____________________
(24/62)
وسلم إذا أراد أن يجمع بين الظهر والعصر فى السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما ورواه من حديث الإسماعيلى أنا الفريابى أنا إسحاق بن راهويه أنا شبابة بن سوار عن ليث عن عقيل عن أنس ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان فى السفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم أرتحل ( قلت هكذا فى هذه الرواية وهى مخالفة للمشهور من حديث أنس
وأما حديث معاذ فمن افراد مسلم رواه من حديث مالك وزهير بن معاوية وقرة بن خالد وهذا لفظ مالك عن أبى الزبير المكي عن أبى الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبرهم ( أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء
قلت الجمع على ثلاث درجات أما إذا كان سائرا فى وقت الأولى فإنما ينزل فى وقت الثانية فهذا هو الجمع الذى ثبت فى الصحيحين من حديث أنس وإبن عمر وهو نظير جمع مزدلفة وأما إذا كان وقت الثانية سائرا أو راكبا فجمع فى وقت الأولى فهذا نظير الجمع بعرفة وقد روى ذلك فى السنن كما سنذكره إن شاء الله وأما إذا كان نازلا فى وقتهما جميعا نزولا مستمرا فهذا ما علمت روى ما يستدل
____________________
(24/63)
به عليه الا حديث معاذ هذا فإن ظاهره أنه كان نازلا فى خيمة فى السفر وانه أخر الظهر ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل إلى بيته ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا فإن الدخول والخروج انما يكون فى المنزل وأما السائر فلا يقال دخل وخرج بل نزل وركب وتبوك هي آخر غزوات النبى صلى الله عليه وسلم ولم يسافر بعدها الا حجة الوداع وما نقل أنه جمع فيها إلا بعرفة ومزدلفة وأما بمنى فلم ينقل أحد أنه جمع هناك بل نقلوا أنه كان يقصر الصلاة هناك ولا نقلوا أنه كان يؤخر الأولى إلى آخر وقتها ولا يقدم الثانية إلى أول وقتها وهذا دليل على أنه كان يجمع احيانا فى السفر وأحيانا لا يجمع وهو الاغلب على أسفاره أنه لم يكن يجمع بينهما
وهذا يبين ان الجمع ليس من سنة السفر كالقصر بل يفعل للحاجة سواء كان فى السفر أو الحضر فإنه قد جمع أيضا فى الحضر لئلا يحرج أمته فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع سواء كان ذلك لسيره وقت الثانية أو وقت الأولى وشق النزول عليه أو كان مع نزوله لحاجة أخرى مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر ووقت العشاء فينزل وقت الظهر وهو تعبان سهران جائع محتاج إلى راحة وأكل ونوم فيؤخر الظهر إلى وقت العصر
____________________
(24/64)
ثم يحتاج أن يقدم العشاء مع المغرب وينام بعد ذلك ليستيقظ نصف الليل لسفره فهذا ونحوه يباح له الجمع
وأما النازل أياما فى قرية أو مصر وهو فى ذلك كأهل المصر فهذا وإن كان يقصر لأنه مسافر فلا يجمع كما أنه لا يصلى على الراحلة ولا يصلى بالتيمم ولا يأكل الميتة فهذه الأمور أبيحت للحاجة ولا حاجة به إلى ذلك بخلاف القصر فإنه سنة صلاة السفر
والجمع فى وقت الأولى كما فعله النبى بعرفة مأثور فى السنن مثل الحديث الذى رواه أبو داود والترمذى وغيرهما من حديث المفضل بن فضالة عن الليث بن سعد عن هاشم بن سعد عن أبى الزبير عن أبى الطفيل عن معاذ بن جبل ( أن رسول الله كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر وان ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر وفى المغرب مثل ذلك إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وان ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم نزل فجمع بينهما ( قال الترمذى حديث معاذ حديث حسن غريب
قلت وقد رواه قتيبة عن الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن
____________________
(24/65)
أبى الطفيل لكن انكروه على قتيبة قال البيهقى تفرد به قتيبة عن الليث وذكر عن البخارى قال قلت لقتيبة مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبى حبيب عن أبى الطفيل فقال كتبته مع خالد المدائنى قال البخارى وكان خالد هذا يدخل الأحاديث على الشيوخ قال البيهقى وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبى حبيب عن أبى الطفيل فأما رواية أبى الزبير عن أبى الطفيل فهي محفوظة صحيحة
قلت وهذا الجمع الذى فسره هشام بن سعد عن أبى الزبير والذى ذكره مالك يدخل فى الجمع الذى أطلقه الثورى وغيره فمن روى عن أبى الزبير عن أبى الطفيل عن معاذ ( أن رسول الله جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء عام تبوك ( وهذا الجمع الأول ليس فى المشهور من حديث أنس لأن المسافر إذا أرتحل بعد زيغ الشمس ولم ينزل وقت العصر فهذا مما لا يحتاج إلى الجمع بل يصلى العصر فى وقتها وقد يتصل سيره إلى الغروب فهذا يحتاج إلى الجمع بمنزلة جمع عرفة لما كان الوقوف متصلا إلى الغروب صلى العصر مع الظهر إذ كان الجمع بحسب الحاجة
وبهذا تتفق أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم والا فالنبى لا يفرق بين متماثلين ولم ينقل أحد عنه أنه جمع بمنى
____________________
(24/66)
ولا بمكة عام الفتح ولا فى حجة الوداع مع أنه أقام بها بضعة عشر يوما يقصر الصلاة ولم يقل أحد إنه جمع فى حجته إلا بعرفة ومزدلفة فعلم أنه لم يكن جمعه لقصره وقد روى الجمع فى وقت الأولى فى المصر من حديث بن عباس أيضا موافقة لحديث معاذ ذكره أبو داود فقال وروى هشام بن عروة عن حسين بن عبد الله عن كريب عن إبن عباس عن النبى نحو حديث الفضل
قلت هذا الحديث معروف عن حسين وحسين هذا ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به ولا يعتمد عليه وحده فقد تكلم فيه على إبن المدينى والنسائى ورواه البيهقى من حديث عثمان بن عمر عن إبن جريج عن حسين عن عكرمة عن إبن عباس عن النبى ( صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا زالت الشمس وهو فى منزله جمع بين الظهر والعصر وإذا لم تزل حتى يرتحل سار حتى إذا دخل وقت العصر نزل فجمع الظهر والعصر وإذا غابت الشمس وهو فى منزله جمع بين المغرب والعشاء وإذا لم تغب حتى يرتحل سار حتى ( إذا ) أتت العتمة نزل فجمع بين المغرب والعشاء ) قال البيهقى ورواه حجاج بن محمد عن بن جريج أخبرنى حسين عن كريب وكان حسين سمعه منهما جميعا وأستشهد على ذلك برواية عبد الرزاق عن إبن جريج وهي معروفة وقد رواها الدارقطنى وغيره
____________________
(24/67)
وهى من كتب عبد الرزاق
قال عبد الرزاق عن بن جريج حدثنى حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة وعن كريب عن بن عباس أن إبن عباس قال ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السفر قلنا بلى قال ( كان إذا زاغت له الشمس فى منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب وإذا لم تزغ له فى منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وإذا حانت له المغرب فى منزله جمع بينها وبين العشاء وإذا لم تحن فى منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما ( قال الدارقطنى ورواه عبد المجيد بن عبد العزيز عن بن جريج عن هشام بن عروة عن حسين عن كريب فاحتمل أن يكون بن جريج سمعه أولا من هشام بن عروة عن حسين كقول عبد المجيد عنه ثم لقى إبن جريج حسينا فسمعه منه كقول عبد الرزاق وحجاج عن بن جريج قال البيهقى وروى عن محمد بن عجلان ويزيد بن الهادى وأبي رويس المدنى عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن بن عباس وهو بما تقدم من شواهده يقوى وذكر ما ذكره البخارى تعليقا حديث إبراهيم بن طهمان عن الحسين عن يحيى بن أبى كثيرعن عكرمة عن بن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر فى السفر إذا كان على ظهر مسيره وجمع بين المغرب والعشاء ( أخرجه البخارى فى صحيحه فقال وقال
____________________
(24/68)
إبراهيم بن طهمان فذكره
قلت قوله ( على ظهر مسيره ) قد يراد به على ظهر سيره فى وقت الأولى وهذا مما لاريب ( فيه ) ويدخل فيه ما إذا كان على ظهر سيره فى وقت الثانية كما جاء صريحا عن بن عباس قال البيهقى وقد روى أيوب عن أبى قلابة عن بن عباس لا نعلمه إلا مرفوعا بمعنى رواية الحسين وذكر ما رواه إسماعيل بن إسحاق ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبى قلابة عن بن عباس ولا أعلمه الا مرفوعا وإلا فهو عن إبن عباس ( أنه كان إذا نزل منزلا فى السفر فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر ( قال إسماعيل حدثنا عارم حدثنا حماد فذكره قال عارم هكذا حدث به حماد قال ( كان إذا سافر فنزل منزلا فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر ( ورواه حماد بن سلمة عن أيوب من قول بن عباس قال إسماعيل ثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن إبن عباس قال إذا كنتم سائرين فنبا بكم المنزل فسيروا حتى تصيبوا تجمعون بينهما وإن كنتم نزولا فعجل بكم أمر فاجمعوا بينهما ثم ارتحلوا
قلت فحديث إبن عباس فى الجمع بالمدينة صحيح من مشاهير الصحاح كما سيأتى ان شاء الله
____________________
(24/69)
وأما حديث جابر ففى سنن أبي داود وغيره من حديث عبد العزيز إبن محمد عن أبى الزبير عن جابر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غابت له الشمس بمكة فجمع بينهما بسرف ( قال البيهقى ورواه من حديث الحمانى عن عبد العزيز ورواه الأجلح عن أبى الزبير كذلك قال أبو داود حدثنا محمد بن هشام جار أحمد بن حنبل حدثنا جعفر بن عون عن هشام بن سعد قال بينهما عشرة أميال يعنى بين مكة وسرف
قلت عشرة أميال ثلاثة فراسخ وثلث والبريد أربعة فراسخ وهذه المسافة لا تقطع فى السير الحثيث حتى يغيب الشفق فإن الناس يسيرون من عرفة عقب المغرب ولا يصلون إلى جمع إلا وقد غاب الشفق ومن عرفة إلى مكة 2 بريد فجمع دون هذه المسافة وهم لا يصلون اليها إلا بعد غروب الشفق فكيف بسرف وهذا يوافق حديث بن عمر وأنس وبن عباس أنه إذا كان سائرا أخر المغرب إلى أن يغرب الشفق ثم يصليهما جميعا
قال البيهقى والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين مع الثابت عن رسول الله ثم عن أصحابه ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة وذكر ما رواه البخارى من حديث سعيد
____________________
(24/70)
عن الزهري أخبرنى سالم عن عبد الله بن عمر قال ( رأيت رسول الله إذا أعجله السير فى السفر يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء (
قال سالم وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك إذا أعجله السير فى السفر يقيم صلاة المغرب فيصليها ثلاثا ثم يسلم ثم قلما يلبث حتى يقيم صلاة العشاء ويصليها ركعتين ثم يسلم ولا يسبح بينهما بركعة ولا يسبح بعد العشاء بسجدة حتى يقوم من جوف الليل
وروى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال لسالم بن عبد الله بن عمر ما أشد ما رأيت أباك عبد الله بن عمر أخر المغرب فى السفر قال غربت له الشمس بذات الجيش فصلاها بالعقيق قال البيهقى رواه الثورى عن يحيى بن سعيد وزاد فيه ثمانية أميال ورواه بن جريج عن يحيى بن سعيد وزاد فيه قال قلت أي ساعة تلك قال قد ذهب ثلث الليل أو ربعه قال ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن نافع قال فسار أميالا ثم نزل فصلى قال يحيى وذكر لى نافع هذا الحديث مرة أخرى فقال سار قريبا من ربع الليل ثم نزل فصلى
وروى من مصنف سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن
____________________
(24/71)
زيد عن بن عباس أنه كان يجمع بين الصلاتين فى السفر ويقول هي سنة ومن حديث على بن عاصم أخبرنى الجريرى وسلمان التيمي عن أبى عثمان النهدي قال كان سعيد بن زيد وأسامة بن زيد إذا عجل بهما السير جمعا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء
وروينا في ذلك عن سعد بن أبى وقاص وأنس بن مالك وروى عن عمر وعثمان وذكر ما ذكره مالك في الموطأ عن بن شهاب أنه قال سألت سالم بن عبد الله هل يجمع بين الظهر والعصر فى السفر فقال نعم لا بأس بذلك ألا ترى إلى صلاة الناس بعرفة وذكر فى كتاب يعقوب بن سفيان ثنا عبد الملك بن أبى سلمة ثنا الدراوردي عن زيد بن أسلم وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومحمد بن المنكدر وأبي الزناد فى أمثال لهم خرجوا إلى الوليد وكان أرسل إليهم يستفتيهم فى شيء فكانوا يجمعون بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس
قلت فهذا استدلال من السلف بجمع عرفة على نظيره وأن الحكم ليس مختصا وهو جمع تقديم للحاجة فى السفر وأما الجمع بالمدينة لأجل المطر أو غيره فقد روى مسلم وغيره من حديث أبى الزبير عن سعيد بن جبير عن إبن عباس أنه قال ( صلى
____________________
(24/72)
رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا من غير خوف ولا سفر ( وممن رواه عن ابى الزبير مالك فى موطأه وقال أظن ذلك كان فى مطر قال البيهقى وكذلك رواه زهير بن معاوية وحماد بن سلمة عن أبى الزبير ( فى غير خوف ولا سفر ( ألا أنهما لم يذكرا المغرب والعشاء وقالا ( بالمدينة ( ورواه أيضا بن عيينة وهشام بن سعد عن أبى الزبير بمعنى رواية مالك وساق البيهقى طرقها وحديث زهير رواه مسلم فى صحيحه ثنا أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال ( صلى رسول الله الظهر والعصر جميعا بالمدينة فى غير خوف ولا سفر (
قال أبو الزبير فسألت سعيدا لم فعل ذلك قال سألت بن عباس كما سألتنى فقال أراد أن لا يحرج أحدا من أمته قال وقد خالفهم قرة فى الحديث فقال ( فى سفرة سافرها إلى تبوك ( وقد رواه مسلم من حديث قرة عن أبى الزبير عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال ( جمع رسول الله فى سفرة سافرها فى غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ( فقلت لابن عباس ما حمله على ذلك قال أراد أن لا يحرج أمته
قال البيهقى وكان قرة أراد حديث أبى الزبير عن أبى الطفيل
____________________
(24/73)
عن معاذ فهذا لفظ حديثه وروى سعيد بن جبير الحديثين جميعا فسمع قرة أحدهما ومن تقدم ذكره الآخر قال وهذا أشبه فقد روى قرة حديث أبى الطفيل أيضا
قلت وكذا رواه مسلم فروى هذا المتن من حديث معاذ ومن حديث بن عباس فإن قرة ثقة حافظ وقد روى الطحاوى حديث قرة عن أبى الزبير فجعله مثل حديث مالك عن أبى الزبير حديث أبى الطفيل وحديثه هذا عن سعيد فدل ذلك على أن أبا الزبير حدث بهذا وبهذا قال البيهقى ورواه حبيب بن أبى ثابت عن سعيد بن جبير فخالف أبا الزبير فى متنه وذكره من حديث الأعمش عن حبيب بن أبى ثابت عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال ( جمع رسول الله بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر ( قيل له فما أراد بذلك قال أراد أن لا يحرج أمته وفى رواية وكيع قال سعيد قلت لإبن عباس لم فعل ذلك رسول الله قال كيلا يحرج أمته ورواه مسلم فى صحيحه
قال البيهقى ولم يخرجه البخارى مع كون حبيب بن أبى ثابت من شرطه ولعله إنما أعرض عنه والله أعلم لما فيه من الاختلاف على سعيد بن جبير قال ورواية الجماعة عن أبى الزبير أولى أن
____________________
(24/74)
تكون محفوظة فقد رواه عمرو بن دينار عن أبى الشعثاء عن إبن عباس بقريب من معنى رواية مالك عن أبى الزبير
قلت تقديم رواية أبى الزبير على رواية حبيب بن أبى ثابت لاوجه له فإن حبيب بن أبى ثابت من رجال الصحيحين فهو أحق بالتقديم من أبى الزبير وأبو الزبير من أفراد مسلم وأيضا فأبو الزبير اختلف عنه عن سعيد بن جبير فى المتن تارة يجعل ذلك فى السفر كما رواه عنه قرة موافقة لحديث أبى الزبير عن أبى الطفيل وتارة يجعل ذلك فى المدينة كما رواه الأكثرون عنه عن سعيد
فهذا أبو الزبير قد روى عنه ثلاثة أحاديث حديث أبى الطفيل عن معاذ فى جمع السفر وحديث سعيد بن جبير عن بن عباس مثله وحديث سعيد بن جبير عن بن عباس الذى فيه جمع المدينة ثم قد جعلوا هذا كله صحيحا لأن أبا الزبير حافظ فلم لا يكون حديث حبيب بن أبى ثابت أيضا ثابتا عن سعيد بن جبير وحبيب أوثق من أبي الزبير وسائر أحاديث بن عباس الصحيحة تدل على ما رواه حبيب فإن الجمع الذى ذكره بن عباس لم يكن لأجل المطر وأيضا فقوله ( بالمدينة ( يدل على أنه لم يكن فى السفر فقوله ( جمع بالمدينة فى غير خوف ولا مطر ( أولى بان يقال من غير خوف ولا سفر ومن قال ( أظنه فى المطر ( فظن ظنه ليس هو فى الحديث بل مع
____________________
(24/75)
حفظ الرواة فالجمع صحيح قال ( من غير خوف ولا مطر ( وقال ( ولا سفر ( والجمع الذى ذكره بن عباس لم يكن بهذا ولا بهذا وبهذا استدل أحمد به على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى وهذا من باب التنبيه بالفعل فإنه إذا جمع ليرفع الحرج الحاصل بدون الخوف والمطر والسفر فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع والجمع لها أولى من الجمع لغيرها
ومما يبين أن بن عباس لم يرد الجمع للمطر وإن كان الجمع للمطر أولى بالجواز بما رواه مسلم من حديث حماد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن عبد الله بن شقيق قال خطبنا بن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم فجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة قال فجاء رجل من بنى تيم لا يفتر الصلاة الصلاة فقال اتعلمنى بالسنة لا أم لك ثم قال ( رأيت رسول الله يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ( قال عبد الله بن شقيق فحاك فى صدرى من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته
ورواه مسلم أيضا من حديث عمران بن حدير عن بن شقيق قال قال رجل لابن عباس الصلاة فسكت ثم قال الصلاة
____________________
(24/76)
فسكت ثم قال لا أم لك أتعلمنا بالصلاة وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله
فهذا بن عباس لم يكن فى سفر ولا فى مطر وقد استدل بما رواه على ما فعله فعلم أن الجمع الذى رواه لم يكن فى مطر ولكن كان بن عباس فى أمر مهم من أمور المسلمين يخطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته ورأى أنه إن قطعه ونزل فاتت مصلحته فكان ذلك عنده من الحاجات التى يجوز فيها الجمع فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجمع بالمدينة لغير خوف ولا مطر بل للحاجة تعرض له كما قال ( أراد أن لا يحرج أمته ( ومعلوم أن جمع النبى صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة لم يكن لخوف ولا مطر ولا لسفر أيضا فإنه لو كان جمعه للسفر لجمع فى الطريق ولجمع بمكة كما كان يقصر بها ولجمع لما خرج من مكة إلى منى وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ولم يجمع بمنى قبل التعريف ولا جمع بها بعد التعريف أيام منى بل يصلى كل صلاة ركعتين غير المغرب ويصليها فى وقتها ولا جمعه أيضا كان للنسك فانه لو كان كذلك لجمع من حين أحرم فإنه من حينئذ صار محرما فعلم أن جمعه المتواتر بعرفة ومزدلفة لم يكن لمطر ولا خوف ولا لخصوص النسك ولا لمجرد السفر فهكذا جمعه بالمدينة الذى رواه إبن عباس وإنما
____________________
(24/77)
كان الجمع لرفع الحرج عن أمته فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا
قال البيهقى ليس فى رواية بن شقيق عن بن عباس من هذين الوجهين الثابتين عنه نفى المطر ولا نفى السفر فهو محمول على أحدهما أو على ما أوله عمرو بن دينار وليس فى روايتهما ما يمنع ذلك التأويل فيقال يا سبحان الله بن عباس كان يخطب بهم بالبصرة فلم يكن مسافرا ولم يكن هناك مطر وهو ذكر جمعا يحتج به على مثل ما فعله فلو كان ذلك لسفر أو مطر كان بن عباس أجل قدرا من أن يحتج على جمعه بجمع المطر أو السفر
وأيضا فقد ثبت فى الصحيحين عنه أن هذا الجمع كان بالمدينة فكيف يقال لم ينف السفر وحبيب بن أبى ثابت من أوثق الناس وقد روى عن سعيد أنه قال ( من غير خوف ولا مطر (
وأما قوله ان البخارى لم يخرجه فيقال هذا من أضعف الحجج فهو لم يخرج أحاديث أبى الزبير وليس كل من كان من شرطه يخرجه
وأما قوله ورواية عمرو بن دينار عن أبى الشعثاء قريب من رواية أبى الزبير فإنه ذكر ما اخرجاه فى الصحيحين من حديث حماد
____________________
(24/78)
إبن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن بن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء ( وفى رواية البخارى عن حماد بن زيد فقال لأيوب لعله فى ليلة مطيرة فقال عسى
فيقال هذا الظن من أيوب وعمرو فالظن ليس من مالك وسبب ذلك أن اللفظ الذى سمعوه لا ينفى المطر فجوزوا أن يكون هو المراد ولو سمعوا رواية حبيب بن أبى ثابت الثقة التثبت لم يظنوا هذا الظن ثم رواية بن عباس هذه حكاية فعل مطلق لم يذكر فيها نفى خوف ولا مطر فهذا يدلك على أن بن عباس كان قصده بيان جواز الجمع بالمدينة فى الجملة ليس مقصوده تعيين سبب واحد فمن قال إنما أراد جمع المطر وحده فقد غلط عليه ثم عمرو بن دينار تارة يجوز أن يكون للمطر موافقة لأيوب وتارة يقول هو وأبو الشعثاء أنه كان جمعا فى الوقتين كما فى الصحيحين عن بن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت جابر بن زيد يقول سمعت بن عباس يقول ( صليت مع رسول الله ثمانيا جميعا وسبعا جميعا ( قال قلت يا أبا الشعثاء أراه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال وأنا أظن ذلك
فيقال ليس الأمر كذلك لأن إبن عباس كان أفقه وأعلم
____________________
(24/79)
من أن يحتاج إذا كان قد صلى كل صلاة فى وقتها الذى تعرف العامة والخاصة جوازه أن يذكر هذا الفعل المطلق دليلا على ذلك وأن يقول أراد بذلك ان لا يحرج أمته وقد علم أن الصلاة فى الوقتين قد شرعت بأحاديث المواقيت وبن عباس هو ممن روى أحاديث المواقيت وإمامة جبريل له عند البيت وقد صلى الظهر فى اليوم الثانى حين صار ظل كل شيء مثله وصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه فإن كان النبى انما جمع على هذا الوجه فأى غرابة فى هذا المعنى ومعلوم انه كان قد صلى فى اليوم الثانى كلا الصلاتين فى آخر الوقت وقال ( الوقت ما بين هذين ( فصلاته للأولى وحدها فى آخر الوقت أولى بالجواز
وكيف يليق بابن عباس ان يقول فعل ذلك كيلا يحرج أمته والوقت المشهور هو أوسع وأرفع للحرج من هذا الجمع الذى ذكروه وكيف يحتج على من أنكر عليه التأخير لو كان النبى إنما صلى فى الوقت المختص بهذا الفعل وكان له فى تأخيره المغرب حين صلاها قبل مغيب الشفق وحدها وتأخير العشاءإلى ثلث الليل أو نصفه ما يغنيه عن هذا وإنما قصد بن عباس بيان جواز تأخير المغرب إلى وقت العشاء ليبين أن الأمر فى حال الجمع أوسع منه فى غيره وبذلك يرتفع الحرج عن الأمة ثم بن عباس قد ثبت عنه
____________________
(24/80)
فى الصحيح أنه ذكر الجمع فى السفر وأن النبى صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر فى السفر إذا كان على ظهر سيره وقد تقدم ذلك مفصلا فعلم أن لفظ الجمع فى عرفة وعادته إنما هو الجمع فى وقت إحداهما وأما الجمع فى الوقتين فلم يعرف أنه تكلم به فكيف يعدل عن عادته التى يتكلم بها إلى ما ليس كذلك
وأيضا فابن شقيق يقول حاك فى صدرى من ذلك شيء فاتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته أتراه حاك فى صدره أن الظهر لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت وأن العصر لا يجوز تقديمها إلى أول الوقت وهل هذا مما يخفى على أقل الناس علما حتى يحيك فى صدره منه وهل هذا مما يحتاج أن ينقله إلى أبى هريرة أو غيره حتى يسأله عنه إن هذا مما تواتر عند المسلمين وعلموا جوازه وإنما وقعت شبهة لبعضهم فى المغرب خاصة وهؤلاء يجوزون تأخيرها إلى آخر وقتها فالحديث حجة عليهم كيفما كان وجواز تأخيرها ليس معلقا بالجمع بل يجوز تأخيرها مطلقا إلى آخر الوقت حين يؤخر العشاء أيضا وهكذا فعل النبى حين بين أحاديث المواقيت وهكذا فى الحديث الصحيح ( وقت المغرب ما لم يغب نور الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل ( كما قال ( وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ( فهذا
____________________
(24/81)
الوقت المختص الذى بينه بقوله وفعله وقال ( الوقت ما بين هذين ( ليس له اختصاص بالجمع ولا تعلق به
ولو قال قائل قوله جمع بينهما بالمدينة من غير خوف ولا سفر المراد به الجمع فى الوقتين كما يقول ذلك من يقوله من الكوفيين لم يكن بينه وبينهم فرق فلماذا يكون الإنسان من المطففين لا يحتج لغيره كما يحتج لنفسه ولا يقبل لنفسه ما يقبله لغيره
وأيضا فقد ثبت هذا من غير حديث بن عباس ورواه الطحاوى حدثنا بن خزيمة وإبراهيم بن أبى داود وعمران إبن موسى قال أنا الربيع بن يحيى الأشنانى حدثنا سفيان الثورى عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة للرخصة من غير خوف ولا علة لكن ينظر حال هذا الاشناني وجمع المطر عن الصحابة فما ذكره مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ليلة المطر جمع معهم في ليلة المطر قال البيهقي ورواه العمري عن نافع فقال قبل الشفق وروى الشافعي في القديم أنبأنا بعض أصحابنا عن أسامة بن زيد عن معاذ بن عبد الله بن حبيب ان بن عباس جمع بينهما في
____________________
(24/82)
المطر قبل الشفق وذكر ما رواه ابو الشيخ الاصبهاني بالاسناد الثابت عن هشام بن عروة وسعيد بن المسيب وأبى بكر بن عبد الرحمن إبن الحارث بن هشام كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء فى الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين ولا ينكر ذلك وبإسناده عن موسى بن عقبة أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر وان سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك
فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين مع أنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة والتابعين أنكر ذلك فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك لكن لا يدل على أن النبى لم يجمع إلا للمطر بل إذا جمع لسبب هو دون المطر مع جمعه أيضا للمطر كان قد جمع من غير خوف ولا مطر كما أنه إذا جمع فى السفر وجمع فى المدينة كان قد جمع فى المدينة من غير خوف ولا سفر فقول بن عباس جمع من غير كذا ولا كذا ليس نفيا منه للجمع بتلك الأسباب بل إثبات منه لأنه جمع بدونها وإن كان قد جمع بها أيضا
ولو لم ينقل انه جمع بها فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى فيدل ذلك على الجمع للخوف والمطر وقد جمع بعرفة
____________________
(24/83)
ومزدلفة من غير خوف ولا مطر فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع فى الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته فيباح الجمع إذا كان فى تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة وذلك يدل على الجمع للمرض الذى يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة فى الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور
وقد روى عن عمر بن الخطاب انه قال ( الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر وروى الثورى فى جامعه عن سعيد عن قتادة عن أبى العالية عن عمر ورواه يحيى بن سعد عن يحيى بن صبح حدثنى حميد بن هلال عن أبى قتادة يعنى العدوى أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل له ثلاث من الكبائر الجمع بين صلاتين إلا من عذر والفرار من الزحف والنهب قال البيهقى أبو قتادة أدرك عمر فإن كان شهده كتب فهو موصول وإلا فهو إذا انضم إلى الأول صار قويا وهذا اللفظ يدل على إباحة الجمع للعذر ولم يخص عمر عذرا من عذر قال البيهقى وقد روى فيه حديث موصول عن النبى فى اسناده من لا يحتج به وهو من رواية سلمان التيمي عن حنش الصنعائى عن عكرمة عن بن عباس ا ه
____________________
(24/84)
فصل
فى تمام الكلام فى القصر وسبب اتمام عثمان الصلاة بمنى وقد تقدم فيها بعض أقوال الناس والقولان الأولان مرويان عن الزهري وقد ذكرهما أحمد روى عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري قال إنما صلى عثمان بمنى أربعا لأنه قد عزم على المقام بعد الحج ورجح الطحاوى هذا الوجه مع أنه ذكر الوجهين الآخرين فذكر ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن الزهري قال إنما صلى عثمان بمنى أربعا لأن الأعراب كانوا كثروا فى ذلك العام فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربع قال الطحاوى فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليعلم الأعراب به أن الصلاة أربعا فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يريهم ذلك نوى الإقامة فصار مقيما فرضه أربع فصلى بهم أربعا للسبب الذى حكاه معمر عن الزهري ويحتمل أن يكون فعل ذلك وهو مسافر لتلك العلة قال والتأويل الأول أشبه عندنا لأن الأعراب كانوا بالصلاة وأحكامها فى زمن رسول الله أجهل منهم بها وبحكمها فى زمن عثمان وهم بأمر الجاهلية حينئذ أحدث عهدا إذ كانوا فى زمن رسول الله إلى العلم بفرض الصلوات أحوج منهم إلى ذلك فى زمن عثمان فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(24/85)
لم يتم الصلاة لتلك العلة ولكنه قصرها ليصلوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الاقامة على حكمها كان عثمان أحرى أن لا يتم بهم الصلاة لتلك العلة
قال الطحاوى وقد قال آخرون إنما أتم الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا من حل وارتحل واحتجوا بما رواه عن حماد بن سلمة عن قتادة قال قال عثمان بن عفان إنما يقصر الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل وروى باسناده المعروف عن سعيد بن أبى عروبة وقد رواه غيره باسناد صحيح عن عثمان بن سعد عن سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن عباس بن عبد الله بن أبى ربيعة أن عثمان بن عفان كتب إلى عماله ألا لا يصلين الركعتين جاب ولا تان ولا تاجر إنما يصلى الركعتين من كان معه الزاد والمزاد وروى أيضا من طريق حماد بن سلمة أن أيوب السختيانى أخبرهم عن أبى قلابة الجرفى عن عمه أبى المهلب قال كتب عثمان أنه قال بلغنى أن قوما يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم ثم يقصرون الصلاة وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو قال بن حزم وهذان الإسنادان فى غاية الصحة
قال الطحاوى قالوا وكان مذهب عثمان أن لا يقصر الصلاة إلا من يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصا فاما من كان
____________________
(24/86)
فى مصر يستغنى به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يتم الصلاة قالوا ولهذا أتم عثمان بمنى لأن أهلها فى ذلك الوقت كثروا حتى صارت مصرا يستغنى من حل به عن حمل الزاد والمزاد قال الطحاوى وهذا المذهب عندنا فاسد لأن منى لم تصر فى زمن عثمان أعمر من مكة فى زمن رسول الله وقد كان رسول الله يصلى بها ركعتين ثم صلى بها أبو بكر بعده كذلك ثم صلى بها عمر بعد أبي بكر كذلك فإذا كانت مع عدم احتياج من حل بها إلى حمل الزاد والمزاد تقصر فيها الصلاة فما دونها من المواطن أحرى أن يكون كذلك قال فقد انتفت هذه المذاهب كلها لفسادها عن عثمان أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة غير المذهب الأول الذى حكاه معمر عن الزهري فإنه يحتمل أن يكون من أجلها اتمها وفى الحديث أن إتمامه كان لنيته الاقامة على ما روينا فيه وعلى ما كشفنا من معناه
قلت الطحاوى مقصوده أن يجعل ما فعله عثمان موافقا لأصله وهذا غير ممكن فإن عثمان من المهاجرين والمهاجرون كان يحرم عليهم المقام بمكة ولم يرخص النبى لهم اذا قدموا مكة للعمرة أن يقيموا بها أكثر من ثلاث بعد قضاء العمرة كما فى الصحيحين عن العلاء بن الحضرمى ( أن النبى
____________________
(24/87)
رخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثا ( ولهذا لما توفى بن عمر بها أمر أن يدفن بالحل ولا يدفن بها وفى الصحيحين أن النبى لما عاد سعد بن أبى وقاص وقد كان مرض فى حجة الوداع خاف سعد أن يموت بمكة فقال يا رسول الله أخلف عن هجرتى فبشره النبى بأنه لا يموت بها وقال ( إنك لن تموت حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون لكن البائس سعد بن خولة يرثى له رسول الله أن مات بمكة (
ومن المعروف عن عثمان أنه كان اذا اعتمر ينيخ راحلته فيعتمر ثم يركب عليها راجعا فكيف يقال إنه نوى المقام بمكة ثم هذا من الكذب الظاهر فإن عثمان ما أقام بمكة قط بل كان إذا حج يرجع إلى المدينة وقد حمل الشافعى وأصحابه وطائفة من متأخرى أصحاب أحمد كالقاضى وأبى الخطاب وبن عقيل وغيرهم فعل عثمان على قولهم فقالوا لما كان المسافر مخيرا بين الإتمام والقصر كان كل منهما جائزا وفعل عثمان هذا لأن القصر جائز والاتمام جائز وكذلك حملوا فعل عائشة واستدلوا بما رووه من جهتها وذكر البيهقى قول من قال أتمها لأجل الأعراب ورواه من سنن أبى داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد عن أيوب عن الزهري أن عثمان بن عفان أتم الصلاة
____________________
(24/88)
بمنى من أجل الأعراب لأنهم كثروا عامين فصلى بالناس أربعا ليعلمهم أن الصلاة أربع
وروى البيهقى من حديث إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا يعقوب عن حميد ثنا سليمان بن سالم مولى عبد الرحمن بن حميد عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن عثمان بن عفان أنه أتم الصلاة بمنى ثم خطب الناس فقال أيها الناس إن السنة سنة رسول الله وسنة صاحبيه ولكنه حدث العام من الناس فخفت أن تعيبوا قال البيهقى وقد قيل غير هذا والأشبه أن يكون رآه رخصة فرأى الإتمام جائزا كما رأته عائشة
قلت وهذا بعيد فإن عدول عثمان عما داوم عليه رسول الله وخليفتاه بعده مع انه أهون عليه وعلى المسلمين ومع ما علم من حلم عثمان واختياره له ولرعيته أسهل الأمور وبعده عن التشديد والتغليظ لا يناسب أن يفعل الأمر الأثقل الأشد مع ترك ما داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفتاه بعده ومع رغبة عثمان فى الإقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم وخليفته بعده لمجرد كون هذا المفضول جائزا إن لم ير أن فى فعل ذلك مصلحة راجحة بعثته على أن يفعله وهب أن له أن يصلى اربعا فكيف يلزم بذلك من يصلى خلفه فإنهم إذا ائتموا به صلوا بصلاته
____________________
(24/89)
فيلزم المسلمين بالفعل الأثقل مع خلاف السنة لمجرد كون ذلك جائزا وكذلك عائشة وقد وافق عثمان على ذلك غيره من السلف امراؤهم وغير امرائهم وكانوا يتمون وأئمة الصحابة لا يختارون ذلك كما روى مالك عن الزهري أن رجلا أخبره عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانا جميعا فى سفر وكان سعد بن أبى وقاص يقصر الصلاة ويفطر وكانا يتمان الصلاة ويصومان فقيل لسعد نراك تقصر من الصلاة وتفطر ويتمان فقال سعد نحن أعلم وروى شعبة عن حبيب بن أبى ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال كنا مع سعد بن أبى وقاص فى قرية من قرى الشام فكان يصلي ركعتين فنصلى نحن أربعا فنسأله عن ذلك فيقول سعد نحن أعلم وروى مالك عن بن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان فصلى بنا ركعتين ثم انصرف فأتممنا لأنفسنا
قلت عبد الله بن صفوان كان مقيما بمكة فلهذا أتموا خلف بن عمر وروى مالك عن نافع ان بن عمر كان يصلى وراء الأمام بمنى اربعا وإذا صلى لنفسه صلى ركعتين قال البيهقى والأشبه أن يكون عثمان رأى القصر رخصة فرأى الأتمام جائزا كما رأته عائشة قال وقد روى ذلك عن غير واحد من الصحابة مع اختيارهم القصر ثم
____________________
(24/90)
روى الحديث المعروف من رواية عبد الرزاق عن إسرائيل عن أبى إسحاق السبيعى عن أبى ليلى قال اقبل سلمان فى اثنى عشر راكبا من أصحاب النبى فحضرت الصلاة فقالوا تقدم يا أبا عبد الله فقال انا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم أن الله هدانا بكم قال فتقدم رجل من القوم فصلى بهم أربعا قال فقال سلمان مالنا ولا لمربعة إنما كان يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج قال فبين سلمان بمشهد هؤلاء الصحابة أن القصر رخصة
قلت هذه القضية كانت فى خلافة وسلمان قد أنكر التربيع وذلك أنه كان خلاف السنة المعروفة عندهم فإنه لم تكن الأئمة يربعون فى السفر وقوله ونحن إلى الرخصة أحوج يبين أنها رخصة وهى رخصة مأمور بها كما أن أكل الميتة فى المخمصة رخصة وهى مأمور بها وفطر المريض رخصة وهو مأمور به والصلاة بالتيمم رخصة مأمور بها والطواف بالصفا والمروة قد قال الله فيه ( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) وهو مأمور به إما ركن وإما واجب وإما سنة والذى صلى بسلمان أربعا يحتمل أنه كان لا يرى القصر لمثله اما لأن سفره كإن قصرا عنده
____________________
(24/91)
وإما لأن سفره لم يكن عنده مما تقصر فيه الصلاة فان من الصحابة من لا يرى القصر الا فى حج أو عمرة أو غزو وكان لكثير من السلف والخلف نزاع فى جنس سفر القصر وفى قدره فهذه القضية المعينة لم يتبين فيها حال الإمام ومتابعة سلمان له تدل على أن الإمام إذا فعل شيئا متأولا اتبع عليه كما إذا قنت متأولا أو كبر خمسا أو سبعا متأولا والنبى صلى خمسا واتبعه أصحابه ظانين أن الصلاة زيد فيها فلما سلم ذكروا ذلك له فقال ( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكرونى (
وقد تنازع العلماء فى الامام إذا قام إلى خامسة هل يتابعه المأموم أو يفارقه ويسلم أو يفارقه وينتظره أو يخير بين هذا وهذا على أقوال معروفة وهى روايات عن أحمد
أو رأى ان التربيع مكروه وتابع الإمام عليه فإن المتابعة واجبة ويجوز فعل المكروه لمصلحة راجحة ولا ريب أن تربيع المسافر ليس كصلاة الفجر أربعا فإن المسافر لو اقتدى بمقيم لصلى خلفه أربعا لأجل متابعة إمامه فهذه الصلاة تفعل فى حال ركعتين وفى حال أربعا بخلاف الفجر فجاز أن تكون متابعة الامام المسافر كمتابعة المسافر للمقيم لأن كلاهما اتبع إمامه
____________________
(24/92)
وهذا القول وهو القول بكراهة التربيع أعدل الأقوال وهو الذى نص عليه أحمد فى رواية الأثرم وقد سأله هل للمسافر أن يصلى أربعا فقال لا يعجبنى ولكن السفر ركعتان وقد نقل عنه المروذى انه قال إن شاء صلى أربعا وان شاء صلى ركعتين ولا يختلف قول أحمد أن الأفضل هو القصر بل نقل عنه إذا صلى أربعا أنه توقف فى الإجزاء ومذهب مالك كراهية التربيع وأنه يعيد فى الوقت ولهذا يذكر فى مذهبه هل تصح الصلاة أربعا على قولين ومذهب الشافعى جواز الأمرين وأيهما أفضل فيه قولان أصحهما أن القصر أفضل كإحدى الروايتين عن أحمد وهو اختيار كثير من أصحابه وتوقف أحمد عن القول بالإجزاء يقتضى أنه يخرج على قوله فى مذهبه وذلك ان غايته أنه زاد زيادة مكروهة وهذا لا يبطل الصلاة فانه أتى بالواجب وزيادة والزيادة إذا كانت سهوا لا تبطل الصلاة باتفاق المسلمين وكذلك الزيادة خطأ إذا اعتقد جوازها وهذه الزيادة لا يفعلها من يعتقد تحريمها وإنما يفعلها من يعتقدها جائزة ولا نص بتحريمها بل الأدلة دالة على كون ذلك مخالفا للسنة لا أنه محرم كالصلاة بدون رفع اليدين ومع الالتفات ونحو ذلك من المكروهات وسنتكلم إن شاء الله على تمام ذلك
وأما إتمام عثمان فالذى ينبغى أن يحمل حاله على ما كان يقول
____________________
(24/93)
لا على ما لم يثبت عنه فقوله إنه بلغنى أن قوما يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم يقصرون الصلاة وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو وقوله بين فيه مذهبه وهو أنه لا يقصر الصلاة من كان نازلا فى قرية أو مصر إلا إذا كان خائفا بحضرة عدو وإنما يقصر من كان شاخصا أى مسافرا وهو الحامل للزاد والمزاد أى للطعام والشراب والمزاد وعاء الماء يقول إذا كان نازلا مكانا فيه الطعام والشراب كان مترفها بمنزلة المقيم فلا يقصر لأن القصر إنما جعل للمشقة التى تلحق الانسان وهذا لا تلحقه مشقة فالقصر عنده للمسافر الذى يحمل الزاد والمزاد وللخائف
ولما عمرت منى وصار بها زاد ومزاد لم ير القصر بها لا لنفسه ولا لمن معه من الحاج وقوله فى تلك الرواية ولكن حدث العام لم يذكر فيها ما حدث فقد يكون هذا هو الحادث وإن كان قد جاءت الجهال من الأعراب وغيرهم يظنون أن الصلاة أربع فقد خاف عليهم أن يظنوا أنها تفعل فى مكان فيه الزاد والمزاد أربعا وهذا عنده لا يجوز وإن كان قد تأهل بمكة فيكون هذا أيضا موافقا فانه إنما تأهل بمكان فيه الزاد والمزاد وهو لا يرى القصر لمن كان نازلا بأهله فى مكان فيه الزاد والمزاد وعلى هذا فجميع ما ثبت فى هذا الباب من عذره يصدق بعضه بعضا
____________________
(24/94)
وأما ما اعتذر به الطحاوى من أن مكة كانت على عهد النبى صلى الله عليه وسلم أعمر من منى فى زمن عثمان فجواب عثمان له ان النبى فى عمرة القضية ثم فى غزوة الفتح ثم فى عمرة الجعرانة كان خائفا من العدو وعثمان يجوز القصر لمن كان خائفا وإن كان نازلا فى مكان فيه الزاد والمزاد فانه يجوزه للمسافر ولمن كان بحضرة العدو وأما فى حجة الوداع فقد كان النبى آمنا لكنه لم يكن نازلا بمكة وإنما كان نازلا بالأبطح خارج مكة هو وأصحابه فلم يكونوا نازلين بدار إقامة ولا بمكان فيه الزاد والمزاد وقد قال أسامة أين ننزل غدا هل تنزل بدارك بمكة فقال ( وهل ترك لنا عقيل من دار ننزل بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر وهذا المنزل بالابطح بين المقابر ومنى (
وكذلك عائشة رضي الله عنها أخبرت عن نفسها أنها انما تتم لأن القصر لأجل المشقة وإن الإتمام لا يشق عليها والسلف والخلف تنازعوا فى سفر القصر فى جنسه وفى قدره فكان قول عثمان وعائشة أحد أقوالهم فيها
وللناس فى جنس سفر القصر أقوال أخر مع أن عثمان قد خالفه على وبن مسعود وعمران بن حصين وسعد بن أبى وقاص وبن عمر وبن عباس وغيرهم من علماء الصحابة فروى سفيان
____________________
(24/95)
بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال اعتل عثمان وهو بمنى فأتى على فقيل له صل بالناس فقال إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قالوا لا إلا صلاة أمير المؤمنين يعنون أربعا فأبى وفى الصحيحين عن بن مسعود
وقد تنازع الناس فى الأربع فى السفر على أقوال
أحدها أن ذلك بمنزلة صلاة الصبح أربعا وهذا مذهب طائفة من السلف والخلف وهو مذهب أبى حنيفة وبن حزم وغيره من أهل الظاهر ثم عند أبى حنيفة إذا جلس مقدار التشهد تمت صلاته والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها وإن لم يقعد مقدار التشهد بطلت صلاته ومذهب بن حزم وغيره أن صلاته باطلة كما لو صلى عندهم الفجر أربعا
وقد روى سعيد فى سننه عن الضحاك بن مزاحم قال قال بن عباس من صلى فى السفر أربعا كمن صلى فى الحضر ركعتين قال بن حزم وروينا عن عمر بن عبد العزيز وقد ذكر له الإتمام فى السفر لمن شاء فقال لا الصلاة فى السفر ركعتان حتمان لا يصح غيرهما
____________________
(24/96)
وحجة هؤلاء أنه قد ثبت أن الله إنما فرض فى السفر ركعتين والزيادة على ذلك لم يأت بها كتاب ولا سنة وكل ما روى عن النبى من أنه صلى أربعا أو أقر من صلى أربعا فانه كذب
وأما فعل عثمان وعائشة فتأويل منهما أن القصر إنما يكون فى بعض الأسفار دون بعض كما تأول غيرهما أنه لا يكون إلا فى حج أو عمرة أو جهاد ثم قد خالفهما أئمة الصحابة وأنكروا ذلك قالوا لأن النبى قال ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ( فأمر بقبولها والأمر يقتضى الوجوب
ومن قال يجوز الأمران فعمدتهم قوله تعالى ( وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) قالوا وهذه العبارة إنما تستعمل فى المباح لا فى الواجب كقوله ( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم ) وقوله { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } ونحو ذلك واحتجوا من السنة بما تقدم من أن النبى حسن لعائشة اتمامها وبما روى من أنه فعل ذلك واحتجوا بأن عثمان أتم
____________________
(24/97)
الصلاة بمنى بمحضر الصحابة فأتموا خلفه وهذه كلها حجج ضعيفة
أما الآية فنقول قد علم بالتواتر أن النبى إنما كان يصلي فى السفر ركعتين وكذلك أبو بكر وعمر بعده وهذا يدل على أن الركعتين أفضل كما عليه جماهير العلماء وإذا كان القصر طاعة لله ورسوله وهو أفضل من غيره لم يجز أن يحتج بنفى الجناح على أنه مباح لا فضيلة فيه ثم ما كان عذرهم عن كونه مستحبا هو عذر لغيرهم عن كونه مأمورا به أمر إيجاب وقد قال تعالى فى السعى { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } والطواف بين الصفا والمروة هو السعى المشروع باتفاق المسلمين وذلك إما ركن وإما واجب وإما سنة
وأيضا فالقصر وإن كان رخصة استباحة المحظور فقد تكون واجبة كأكل الميتة للمضطر والتيمم لمن عدم الماء ونحو ذلك هذا إن سلم أن المراد به قصر العدد فان للناس فى الآية ثلاثة أقوال
قيل المراد به قصر العدد فقط وعلى هذا فيكون التخصيص بالخوف غير مفيد
____________________
(24/98)
والثانى أن المراد به قصر الأعمال فإن صلاة الخوف تقصر عن صلاة الأمن والخوف يبيح ذلك وهذا يرد عليه أن صلاة الخوف جائزة حضرا وسفرا والآية أفادت القصر فى السفر
والقول الثالث وهو الاصح أن الآية أفادت قصر العدد وقصر العمل جميعا ولهذا علق ذلك بالسفر والخوف فإذا اجتمع الضرب فى الأرض والخوف أبيح القصر الجامع لهذا ولهذا وإذا انفرد السفر فإنما يبيح قصر العدد وإذا انفرد الخوف فانما يفيد قصر العمل
ومن قال إن الفرض فى الخوف والسفر ركعة كأحد القولين فى مذهب أحمد وهو مذهب بن حزم فمراده إذا كان خوف وسفر فيكون السفر والخوف قد أفادا القصر إلى ركعة كما روى أبو داود الطيالسي ثنا المسعودى هو عبد الرحمن بن عبد الله عن يزيد الفقير قال سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين فى السفر أقصرهما قال جابر لا فإن الركعتين فى السفر ليستا بقصر إنما القصر ركعة عند القتال
وفى صحيح مسلم عن بن عباس قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين وفى الخوف ركعة قال
____________________
(24/99)
إبن حزم ورويناه أيضا من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبى هريرة وبن عمر عن النبى بأسانيد فى غاية الصحة قال بن حزم وبهذه الآية قلنا إن صلاة الخوف فى السفر إن شاء ركعة وإن شاء ركعتين لأنه جاء فى القرآن بلفظ { لا جناح } لا بلفظ الأمر والإيجاب وصلاها الناس مع النبى مرة ركعة فقط ومرة ركعتين فكان ذلك على الاختيار كما قال جابر
وأما صلاة عثمان فقد عرف انكار أئمة الصحابة عليه ومع هذا فكانوا يصلون خلفه بل كان بن مسعود يصلى أربعا وان انفرد ويقول الخلاف شر وكان إبن عمر إذا انفرد صلى ركعتين وهذا دليل على أن صلاة السفر أربعا مكروهة عندهم ومخالفة للسنة ومع ذلك فلا اعادة على من فعلها وإذا فعلها الإمام اتبع فيها وهذا لأن صلاة المسافر ليست كصلاة الفجر بل هي من جنس الجمعة والعيدين ولهذا قرن عمر بن الخطاب فى السنة التى نقلها بين الأربع فقال صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى رواه أحمد والنسائى من حديث عبد الرحمن بن أبى ليلى عن كعب بن عجرة قال قال عمر ورواه يزيد بن زياد
____________________
(24/100)
إبن أبى الجعد عن زبيد اليامى عن عبد الرحمن فهذه الأربعة ليست من جنس الفجر
ومعلوم أنه يوم الجمعة يصلى ركعتين تارة ويصلى أربعا أخرى ومن فاتته الجمعة إنما يصلى أربعا لا يصلى ركعتين وكذلك من لم يدرك منها ركعة عند الصحابة وجمهور العلماء كما ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها ( وإذا حصلت شروط الجمعة خطب خطبتين وصلى ركعتين فلو قدر أنه خطب وصلى الظهر أربعا لكان تاركا للسنة ومع هذا فليسوا كمن صلى الفجر أربعا ولهذا يجوز للمريض والمسافر والمرأة وغيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة أن يصلى الظهر أربعا أن يأتم به فى الجمعة فيصلى ركعتين فكذلك المسافر له أن يصلى ركعتين وله أن يأتم بمقيم فيصلى خلفه أربعا
فإن قيل الجمعة يشترط لها الجماعة فلهذا كان حكم المنفرد فيها خلاف حكم المؤتم وهذا الفرق ذكره أصحاب الشافعى وطائفة من أصحاب أحمد
قيل لهم اشتراط الجماعة فى الصلوات الخمس فيه نزاع فى مذهب أحمد وغيره والأقوى أنه شرط مع القدرة وحينئذ المسافر لما ائتم
____________________
(24/101)
بالمقيم دخل فى الجماعة الواجبة فلزمه اتباع الامام كما فى الجمعة وإن قيل فللمسافرين أن يصلوا جماعة قيل ولهم أن يصلوا يوم الجمعة جماعة ويصلوا أربعا وصلاة العيد قد ثبت عن على أنه استخلف من صلى بالناس فى المسجد أربعا ركعتين للسنة وركعتين لكونهم لم يخرجوا إلى الصحراء فصلاة الظهر يوم الجمعة وصلاة العيدين تفعل تارة اثنتين وتارة أربعا كصلاة المسافر بخلاف صلاة الفجر وعلى هذا تدل آثار الصحابة فإنهم كانوا يكرهون من الإمام أن يصلى أربعا ويصلون خلفه كما فى حديث سلمان وحديث بن مسعود وغيره مع عثمان ولو كان ذلك عندهم كمن يصلى الفجر أربعا لما استجازوا أن يصلوا أربعا كما لا يستجيز مسلم أن يصلى الفجر أربعا
ومن قال أنهم لما قعدوا قدر التشهد أدوا الفرض والباقى تطوع قيل له من المعلوم أنه لم ينقل عن أحدهم انه قال نوينا التطوع بالركعتين
وأيضا فإن ذلك ليس بمشروع فليس لأحد أن يصلي بعد الفجر ركعتين بل قد أنكر النبى على من صلى بعد الإقامة السنة وقال 4 الصبح أربعا وقد صلى قبل الإمام فكيف إذا وصل الصلاة بصلاة وقد ثبت فى الصحيح ( أن النبى
____________________
(24/102)
نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بكلام أو قيام (
وقد كان الصحابة ينكرون على من يصل الجمعة وغيرها بصلاة تطوع فكيف يسوغون أن يصل الركعتين فى السفر أن كان لا يجوز الا ركعتان بصلاة تطوع وأيضا فلماذا وجب على المقيم خلف المسافر أن يصلى أربعا كما ثبت ذلك عن الصحابة وقد وافق عليه أبو حنيفة وأيضا فيجوز أن يصلي المقيم أربعا خلف المسافر ركعتين كما كان النبى وخلفاؤه يفعلون ذلك ويقولون أتموا صلاتكم فانا قوم سفر
وهذا مما يبين أن صلاة المسافر من جنس صلاة المقيم فانه قد سلم جماهير العلماء أن يصلي هذا خلف هذا كما يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة وليس هذا كمن صلى الظهر قضاء خلف من يصلي الفجر
وأما من قال أن المسافر فرضه أربع وله أن يسقط ركعتين بالقصر فقوله مخالف للنصوص وإجماع السلف والأصول وهو قول متناقض فإن هاتين الركعتين يملك المسافر اسقاطهما لا إلى بدل ولا إلى نظيره وهذا يناقض الوجوب فإنه يمتنع أن يكون الشيء واجبا
____________________
(24/103)
على العبد ومع هذا لا يلزمه فعله ولا فعل بدله ولا نظيره فعلم بذلك أن الفرض على المسافر الركعتان فقط وهذا الذى يدل عليه كلام أحمد وقدماء أصحابه فانه لم يشترط فى القصر نية وقال لا يعجبنى الأربع وتوقف فى اجزاء الأربع
ولم ينقل أحد عن أحمد انه قال لا يقصر الا بنية وانما هذا من قول الخرقى ومن أتبعه ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة فى ذلك كما قاله جماهير العلماء وهو اختيار أبى بكر موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره بل والأثرم وأبى داود وإبراهيم الحربى وغيرهم فإنهم لم يشترطوا النية لا فى قصر ولا فى جمع وإذا كان فرضه ركعتين فإذا أتى بهما أجزأه ذلك سواء نوى القصر أو لم ينوه وهذا قول الجماهير كمالك وأبى حنيفة وعامة السلف وما علمت أحدا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان اشترط نية لا فى قصر ولا فى جمع ولو نوى المسافر الاتمام كانت السنة فى حقه الركعتين ولو صلى أربعا كان ذلك مكروها كما لم ينوه
ولم ينقل قط أحد عن النبى انه أمر أصحابه لا بنية قصر ولا نية جمع ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك من يصلى خلفهم مع ان المأمومين أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام فإن النبى لما خرج فى حجته صلى بهم
____________________
(24/104)
الظهر بالمدينة أربعا وصلى بهم العصر بذى الحليفة ركعتين وخلفه أمم لا يحصى عددهم الا الله كلهم خرجوا يحجون معه وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر أما لحدوث عهده بالاسلام وإما لكونه لم يسافر بعد لا سيما النساء صلوا معه ولم يأمرهم بنية القصر وكذلك جمع بهم بعرفة ولم يقل لهم انى أريد ان أصلى العصر بعد الظهر حتى صلاها فصل
السفر فى كتاب الله وسنة رسوله فى القصر والفطر مطلق ثم قد تنازع الناس فى جنس السفر وقدره أما جنسه فاختلفوا فى نوعين
أحدهما حكمه فمنهم من قال لا يقصر الا فى حج أو عمرة أو غزو وهذا قول داود وأصحابه إلا بن حزم قال بن حزم وهو قول جماعة من السلف كما روينا من طريق إبن أبى عدى حدثنا جرير عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود عن بن مسعود قال لا يقصر الصلاة إلا حاج أو مجاهد وعن طاوس انه كان يسأل عن قصر الصلاة فيقول إذا خرجنا حجاجا أو عمارا صلينا ركعتين
____________________
(24/105)
وعن إبراهيم التيمي أنه كان لا يرى القصر إلا فى حج أو عمرة أو جهاد وحجة هؤلاء انه ليس معنا نص يوجب عموم القصر للمسافر فإن القرآن ليس فيه الا قصر المسافر إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا وهذا سفر الجهاد وأما السنة فإن النبى قصر فى حجه وعمره وغزواته فثبت جواز هذا والأصل فى الصلاة الإتمام فلا تسقط إلا حيث أسقطتها السنة
ومنهم من قال لا يقصر الا فى سفر يكون طاعة فلا يقصر فى مباح كسفر التجارة وهذا يذكر رواية عن أحمد والجمهور يجوزون القصر فى السفر الذى يجوز فيه الفطر وهو الصواب لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( أن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ( رواه عنه أنس بن مالك الكعبى وقد رواه أحمد وغيره باسناد جيد
وأيضا فقد ثبت فى صحيح مسلم وغيره عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله عن ذلك فقال ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ( وهذا يبين أن سفر الأمن يجوز فيه قصر العدد وإن كان ذلك صدقة من الله علينا امرنا
____________________
(24/106)
بقبولها وقد قال طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد ان شئنا قبلناها وان شئنا لم نقبلها فإن قبول الصدقة لا يجب ليدفعوا بذلك الأمر بالركعتين وهذا غلط فان النبى صلى الله عليه وسلم امرنا ان نقبل صدقة الله علينا والأمر للايجاب وكل احسانه الينا صدقة علينا فان لم نقبل ذلك هلكنا
وأيضا فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى كما قال صلاة الجمعة ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وهذا نقل عن النبى أنه سن للمسلمين الصلاة فى جنس السفر ركعتين كما سن الجمعة والعيدين ولم يخص ذلك بسفر نسك أو جهاد
وأيضا فقد ثبت فى الصحيحين عن عائشة أنها قالت فرضت الصلاة ركعتين فزيد فى صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر وهذا يبين أن المسافر لم يؤمر بأربع قط وحينئذ فما أوجب الله على المسافر أن يصلى أربعا وليس فى كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ يدل على أن المسافر فرض عليه أربع وحينئذ فمن أوجب على مسافر أربعا فقد أوجب مالم يوجبه الله ورسوله
____________________
(24/107)
فإن قيل قوله ( وضع ( يقتضى أنه كان واجبا قبل هذا كما قال ( إنه وضع عنه الصوم ( ومعلوم أنه لم يجب على المسافر صوم رمضان قط لكن لما انعقد سبب الوجوب فأخرج المسافر من ذلك سمى وضعا ولأنه كان واجبا فى المقام فلما سافر وضع بالسفر كما يقال من أسلم وضعت عنه الجزية مع أنها لا تجب على مسلم بحال
وأيضا فقد قال صفوان بن محرز قلت لإبن عمر حدثنى عن صلاة السفر قال اتخشى أن يكذب علي قلت لا قال ركعتان من خالف السنة كفر وهذا معروف رواه أبو التياح عن مورق العجل عنه وهو مشهور فى كتب الآثار وفى لفظ صلاة السفر ركعتان ومن خالف السنة كفر وبعضهم رفعه إلى النبى فبين أن صلاة السفر ركعتان وإن ذلك من السنة التى من خالفها فاعتقد خلافها فقد كفر وهذه الأدلة دليل على أن من قال انه لا يقصر الا فى سفر واجب فقوله ضعيف
ومنهم من قال لا يقصر فى السفر المكروه ولا المحرم ويقصر فى المباح وهذا أيضا رواية عن أحمد وهل يقصر فى سفر النزهة فيه عن أحمد روايتان
وأما السفر المحرم فمذهب الثلاثة مالك والشافعى وأحمد لا يقصر فيه وأما أبو حنيفة وطوائف من السلف والخلف فقالوا يقصر فى
____________________
(24/108)
جنس الأسفار وهو قول بن حزم وغيره وأبو حنيفة وبن حزم وغيرهما يوجبون القصر فى كل سفر وإن كان محرما كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء فى السفر المحرم وبن عقيل رجح فى بعض المواضع القصر والفطر فى السفر المحرم
والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعا فى جنس السفر ولم يخص سفرا من سفر وهذا القول هو الصحيح فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر قال تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } كما قال فى آية التيمم { وإن كنتم مرضى أو على سفر } الآية وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين ولم ينقل قط أحد عن النبى أنه خص سفرا من سفر مع علمه بأن السفر يكون حراما ومباحا ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من الواجبات ولو بين ذلك لنقلته الأمة وما علمت عن الصحابة فى ذلك شيئا
وقد علق الله ورسوله أحكاما بالسفر كقوله تعالى فى التيمم { وإن كنتم مرضى أو على سفر } وقوله فى الصوم { فمن كان منكم مريضا أو على سفر } وقوله { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وقول النبى ( يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن وقوله
____________________
(24/109)
( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذى محرم ) وقوله ( ان الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ) ولم يذكر قط فى شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع فكيف يجوز أن يكون الحكم معلقا بأحد نوعى السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك بل يكون بيان الله ورسوله متناولا للنوعين
وهكذا فى تقسيم السفر إلى طويل وقصير وتقسيم الطلاق بعد الدخول إلى بائن ورجعى وتقسيم الأيمان إلى يمين مكفرة وغير مكفرة وأمثال ذلك مما علق الله ورسوله الحكم فيه بالجنس المشترك العام فجعله بعض الناس نوعين نوعا يتعلق به ذلك الحكم ونوعا لا يتعلق من غير دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة لا نصا ولا استنباطا
والذين قالوا لا يثبت ذلك فى السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى فى الميتة { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن ( الباغي ( هو الباغى على الإمام الذى يجوز قتاله و ( العادى ( هو العادى على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق قالوا فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى وقالوا اذا اضطر العاصى بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له اتلاف نفسه وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعى وأحمد
____________________
(24/110)
وأما أحمد ومالك فجوزا له أكل الميتة دون القصر والفطر قالوا ولأن السفر المحرم معصية والرخص للمسافر إعانة على ذلك فلا تجوز الإعانة على المعصية
وهذه حجج ضعيفة أما الآية فأكثر المفسرين قالوا المراد بالباغي الذى يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال والعادى الذى يتعدى القدر الذى يحتاج إليه وهذا التفسير هو الصواب دون الأول لأن الله أنزل هذا فى السور المكية الأنعام والنحل وفى المدنية ليبين ما يحل وما يحرم من الاكل والضرورة لا تختص بسفر ولو كانت فى سفر فليس السفر المحرم مختصا بقطع الطريق والخروج على الإمام ولم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم امام يخرج عليه ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرا والبغاة الذين أمر الله بقتالهم فى القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولا مسافرين بل كانوا من أهل العوالى مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر وليس فيها كل سفر محرم فالمذكور فى الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقا للسفر المحرم فانه قد يكون بلا سفر وقد يكون السفر المحرم بدونه
وأيضا فقوله { غير باغ } حال من ( اضطر ) فيجب أن يكون حال
____________________
(24/111)
اضطراره وأكله الذى يأكل فيه غير باغ ولا عاد فإنه قال ( فلا اثم عليه ) ومعلوم أن الإثم انما ينفى عن الأكل الذى هو الفعل لا عن نفس الحاجة إليه فمعنى الآية فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد وهذا يبين ان المقصود أنه لا يبغي فى أكله ولا يتعدى والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان فالبغى ما جنسه ظلم والعدوان مجاوزة القدر المباح كما قرن بين الاثم والعدوان فى قوله { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } فالإثم جنس الشر والعدوان مجاوزة القدر المباح فالبغى من جنس الإثم قال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } وقال تعالى { فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه } فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد لكن قال كثير من المفسرين الجنف الخطأ والإثم العمد لأنه لما خص الإثم بالذكر وهو العمد بقى الداخل فى الجنف الخطأ ولفظ العدوان من باب تعدى الحدود كما قال تعالى { تلك حدود الله فلا تعتدوها } { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } والإسراف مجاوزة الحد المباح وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم
وأما قولهم إن هذا إعانة على المعصية فغلط لأن المسافر مأمور
____________________
(24/112)
بأن يصلي ركعتين كما هو مأمور أن يصلى بالتيمم وإذا عدم الماء فى السفر المحرم كان عليه أن يتيمم ويصلى وما زاد على الركعتين ليست طاعة ولا مأمورا بها احد من المسافرين وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهيا عنه فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن فهل يصليها الا ركعتين وان كان عاصيا بسفره وان كان إذا صلى وحده صلى أربعا
وكذلك صومه فى السفر ليس برا ولا مأمورا به فإن النبى ثبت عنه أنه قال ( ليس من البر الصيام فى السفر ( وصومه إذا كان مقيما أحب إلى الله من صيامه فى سفر محرم ولو أراد أن يتطوع على الراحلة فى السفر المحرم لم يمنع من ذلك وإذا اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلى ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عريانا فإن قيل هذا لا يمكنه إلا هذا قيل والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين والمشروع فى حقه أن لا يصوم وقد اختلف الناس لو صام هل يسقط الفرض عنه واتفقوا على أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه وهذه المسألة ليس فيها احتياط فإن طائفة يقولون من صلى أربعا أو صام رمضان فى السفر المحرم لم يجزئه ذلك كما لو فعل ذلك فى السفر المباح عندهم
وطائفة يقولون لا يجزيه إلا صلاة أربع وصوم رمضان وكذلك
____________________
(24/113)
أكل الميتة واجب على المضطر سواء كان فى السفر أو الحضر وسواء كانت ضرورته بسبب مباح أو محرم فلو ألقى ماله فى البحر واضطر إلى أكل الميتة كان عليه أن يأكلها ولو سافر سفرا محرما فأتعبه حتى عجز عن القيام صلى قاعدا ولو قاتل قتالا محرما حتى أعجزته الجراح عن القيام صلى قاعدا
فإن قيل فلو قاتل قتالا محرما هل يصلى صلاة الخوف قيل يجب عليه ان يصلى ولا يقاتل فإن كان لا يدع القتال المحرم فلا نبيح له ترك الصلاة بل إذا صلى صلاة خائف كان خيرا من ترك الصلاة بالكلية ثم هل يعيد هذا فيه نزاع ثم إن أمكن فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة فى الوقت وجب ذلك عليه لأنه مأمور بها وأما إن خرج الوقت ولم يفعل ذلك ففى صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع
النوع الثانى ) من موارد النزاع أن عثمان كان لا يرى مسافرا الا من حمل الزاد والمزاد دون من كان نازلا فكان لا يحتاج فيه إلى ذلك كالتاجر والتانى والجابى الذين يكونون فى موضع لا يحتاجون فيه إلى ذلك ولم يقدر عثمان للسفر قدرا بل هذا الجنس عنده ليس بمسافر وكذلك قيل إنه لم ير نفسه والذين معه مسافرين بمنى لما صارت منى معمورة وذكر بن أبى شيبة عن بن سيرين أنه قال كانوا يقولون السفر الذى تقصر فيه الصلاة الذى يحمل فيه الزاد والمزاد ومأخذ هذا القول والله أعلم أن القصر إنما
____________________
(24/114)
كان فى السفر لا فى المقام والرجل إذا كان مقيما فى مكان يجد فيه الطعام والشراب لم يكن مسافرا بل مقيما بخلاف المسافر الذى يحتاج أن يحمل الطعام والشراب فإن هذا يلحقه من المشقة ما يلحق المسافر من مشقة السفر وصاحب هذا القول كأنه رأى الرخصة إنما تكون للمشقة والمشقة إنما تكون لمن يحتاج إلى حمل الطعام والشراب
وقد نقل عن غيره كلام يفرق فيه بين جنس وجنس روى بن أبى شيبة عن على بن مسهر عن ابى إسحاق الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم فإنه من مصركم فقوله من ( مصركم ( يدل على انه جعل السواد بمنزلة المصر لما كان تابعا له وروى عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال كنت مع حذيفة بالمدائن فاستاذنته أن آتى أهلى بالكوفة فأذن لى وشرط على ان لا أفطر ولا أصلى ركعتين حتى أرجع إليه وبينهما نيف وستون ميلا وعن حذيفة أن لا يقصر إلى السواد وبين الكوفة والسواد تسعون ميلا وعن معاذ بن جبل وعقبة بن عامر لا يطأ أحدكم بماشية أحداب الجبال أو بطون الأودية وتزعمون أنكم سفر لا ولاكرامة إنما التقصير فى السفر من الباءات من الأفق إلى الأفق
____________________
(24/115)
قلت هؤلاء لم يذكروا مسافة محدودة للقصر لا بالزمان ولا بالمكان لكن جعلوا هذا الجنس من السير ليس سفرا كما جعل عثمان السفر ما كان فيه حمل زاد ومزاد فإن كانوا قصدوا ما قصده عثمان من ان هذا لا يزال يسير فى مكان يحمل فيه الزاد والمزاد فهو كالمقيم فقد وافقوا عثمان لكن بن مسعود خالف عثمان فى اتمامه بمنى وإن كان قصدهم ان اعمال البلد تبع له كالسواد مع الكوفة وإنما المسافر من خرج من عمل إلى عمل كما فى حديث معاذ من أفق إلى افق فهذا هو الظاهر ولهذا قال بن مسعود عن السواد فإنه من مصركم وهذا كما أن ما حول المصر من البساتين والمزارع تابعة له فهم يجعلون ذلك كذلك وإن طال ولا يحدون فيه مسافة وهذا كما ان ( المخاليف ( وهى الأمكنة التى يستخلف فيها من هو خليفة عن الأمير العام بالمصر الكبير وفى حديث معاذ من خرج من مخلاف إلى مخلاف
يدل على ذلك ما رواه محمد بن بشار حدثنا أبو عامر العقدى حدثنا شعبة سمعت قيس بن عمران بن عمير يحدث عن أبيه عن جده أنه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على بغلة له مسيرة أربعة فراسخ فصلى الظهر ركعتين قال شعبة أخبرنى بهذا قيس بن عمران وأبوه عمران بن عمير شاهد وعمير مولى بن مسعود
____________________
(24/116)
فهذا يدل على ان بن مسعود لم يحد السفر بمسافة طويلة ولكن اعتبر أمرا آخر كالأعمال وهذا أمر لا يحد بمسافة ولا زمان لكن بعموم الولايات وخصوصها مثل من كان بدمشق فاذا سافر إلى ما هو خارج عن أعمالها كان مسافرا وأصحاب هذه الأقوال كأنهم رأوا ما رخص فيه للمسافر إنما رخص فيه للمشقة التى تلحقه فى السفر واحتياجه إلى الرخصة وعلموا أن المتنقل فى المصر الواحد من مكان إلى مكان ليس بمسافر وكذلك الخارج إلى ما حول المصر كما كان النبى يخرج إلى قباء كل سبت راكبا وماشيا ولم يكن يقصر وكذلك المسلمون كانوا ينتابون الجمعة من العوالى ولم يكونوا يقصرون فكان المتنقل فى العمل الواحد بهذه المثابة عندهم
وهؤلاء يحتج عليهم بقصر أهل مكة مع النبى صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ومنى مع أن هذه تابعة لمكة ومضافة إليها وهى أكثر تبعا لها من السواد للكوفة وأقرب إليها منها فإن بين باب بنى شيبة وموقف الامام بعرفة عند الصخرات التى فى اسفل جبل الرحمة يريد بهذه المسافة وهذا السير وهم مسافرون وإذا قيل المكان الذى يسافرون إليه ليس بموضع مقام قيل بل كان هناك قرية نمرة والنبى لم ينزل بها وكان بها أسواق وقريب منها عرنة التى تصل واديها بعرفة ولأنه لا فرق بين السفر
____________________
(24/117)
إلى بلد يقام فيه وبلد لا يقام فيه إذا لم يقصد الإقامة فإن النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين سافروا إلى مكة وهى بلد يمكن الإقامة فيه وما زالوا مسافرين فى غزوهم وحجهم وعمرتهم وقد قصر النبى الصلاة فى جوف مكة عام الفتح وقال ( يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ( وكذلك عمر بعده فعل ذلك رواه مالك بإسناد صحيح ولم يفعل ذلك رسول الله ولا ابو بكر ولا عمر بمنى ومن نقل ذلك عنهم فقد غلط وهذا بخلاف خروج النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء كل سبت راكبا وماشيا وخروجه إلى الصلاة على الشهداء فإنه قبل أن يموت بقليل صلى عليهم وبخلاف ذهابه إلى البقيع وبخلاف قصد أهل العوالي المدينة ليجمعوا بها فإن هذا كله ليس بسفر فإن اسم المدينة متناول لهذا كله وإنما الناس قسمان الأعراب وأهل المدينة ولأن الواحد منهم يذهب ويرجع إلى أهله فى يومه من غير أن يتاهب لذلك أهبة السفر فلا يحمل زادا ولا مزادا لا فى طريقه ولا فى المنزل الذى يصل إليه ولهذا لا يسمى من ذهب إلى ربض مدينته مسافرا ولهذا تجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء وهو يقدر بسماع النداء وبفرسخ ولو كان ذلك سفرا لم تجب الجمعة على من ينشئ لها سفرا فإن الجمعة لا تجب على مسافر فكيف يجب أن يسافر لها
____________________
(24/118)
وعلى هذا فالمسافر لم يكن مسافرا لقطعه مسافة محدودة ولا لقطعه أياما محدودة بل كان مسافرا لجنس العمل الذى هو سفر وقد يكون مسافرا من مسافة قريبة ولا يكون مسافرا من أبعد منها مثل أن يركب فرسا سابقا ويسير مسافة بريد ثم يرجع من ساعته إلى بلده فهذا ليس مسافرا وان قطع هذه المسافة فى يوم وليلة ويحتاج فى ذلك إلى حمل زاد ومزاد كان مسافرا كما كان سفر أهل مكة إلى عرفة ولو ركب رجل فرسا سابقا إلى عرفة ثم رجع من يومه إلى مكة لم يكن مسافرا
يدل على ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قال ( يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن والمقيم يوما وليلة ( فلو قطع بريدا فى ثلاثة أيام كان مسافرا ثلاثة أيام ولياليهن فيجب أن يمسح مسح سفر ولو قطع البريد فى نصف يوم لم يكن مسافرا فالنبى إنما اعتبر أن يسافر ثلاثة أيام سواء كان سفره حثيثا أو بطيئا سواء كانت الأيام طوالا أو قصارا ومن قدره بثلاثة أيام أو يومين جعلوا ذلك بسير الإبل والإقدام وجعلوا المسافة الواحدة حدا يشترك فيه جميع الناس حتى لو قطعها فى يوم جعلوه مسافرا ولو قطع ما دونها فى عشرة أيام لم يجعلوه مسافرا وهذا مخالف لكلام النبى
____________________
(24/119)
وأيضا فالنبى صلى الله عليه وسلم فى ذهابه إلى قباء والعوالى واحد ومجيء أصحابه من تلك المواضع إلى المدينة إنما كانوا يسيرون فى عمران بين الأبنية والحوائط التى هي النخيل وتلك مواضع الإقامة لا مواضع السفر والمسافر لا بد ان يسفر أى يخرج إلى الصحراء فإن لفظ ( السفر ( يدل على ذلك يقال سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته فإذا لم يبرز إلى الصحراء التى ينكشف فيها من بين المساكن لا يكون مسافرا قال تعالى { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق } وقال تعالى { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } فجعل الناس قسمين أهل المدينة والأعراب والأعراب هم أهل العمود وأهل المدينة هم أهل المدر
فجميع من كان ساكنا فى مدر كان من أهل المدينة ولم يكن للمدينة سور يتميز به داخلها من خارجها بل كانت محال محال وتسمى المحلة دارا والمحلة القرية الصغيرة فيها المساكن وحولها النخل والمقابر ليست أبنية متصلة فبنو مالك بن النجار فى قريتهم حوالى دورهم أموالهم ونخيلهم وبنو عدى بن النجار دارهم كذلك وبنو مازن بن النجار كذلك وبنو سالم كذلك وبنو ساعدة كذلك وبنو الحارث بن الخزرج كذلك وبنو عمرو بن عوف كذلك وبنو عبد
____________________
(24/120)
الاشهل كذلك وسائر بطون الأنصار كذلك كما قال النبى ( خير دور الأنصار دار بنى النجار ثم دار بنى عبد الاشهل ثم دار بنى الحارث ثم دار بنى ساعدة وفى كل دور الانصار خير ( وكان النبى قد نزل فى بنى مالك بن النجار وهناك بنى مسجده وكان حائطا لبعض بنى النجار فيه نخل وخرب وقبور فأمر بالنخل فقطعت وبالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبنى مسجده هناك وكانت سائر دور الأنصار حول ذلك قال بن حزم ولم يكن هناك مصر قال وهذا أمر لا يجهله أحد بل هو نقل الكوافى عن الكوافى وذلك كله مدينة واحدة كما جعل الله الناس نوعين أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فمن ليس من الأعراب فهو من أهل المدينة لم يجعل للمدينة داخلا وخارجا وسورا وربضا كما يقال مثل ذلك فى المدائن المسورة وقد جعل النبى حرم المدينة بريدا فى بريد والمدينة بين لابتين واللابة الأرض التى ترابها حجارة سود وقال ( ما بين لابتيها حرم ( فما بين لابتيها كله من المدينة وهو حرم فهذا بريد لا يكون الضارب فيه مسافرا وان كان المكى إذا خرج إلى عرفات مسافرا فعرفة ومزدلفة ومنى صحارى خارجة عن مكة ليست كالعوالي
____________________
(24/121)
من المدينة وهذا أيضا مما يبين أنه لا اعتبار بمسافة محدودة فإن المسافر فى المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة لم يكن مسافرا والمسافر عن القرية الصغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافرا فعلم أنه لابد أن يقصد بقعة يسافر من مكان إلى مكان فإذا كان ما بين المكانين صحراء لا مساكن فيها يحمل فيها الزاد والمزاد فهو مسافر وان وجد الزاد والمزاد بالمكان الذى يقصده
وكان عثمان جعل حكم المكان الذى يقصده حكم طريقه فلابد ان يعدم فيه الزاد والمزاد وخالفه أكثر علماء الصحابة وقولهم أرجح فإن النبى قصر بمكة عام فتح مكة وفيها الزاد والمزاد وإذا كانت منى قرية فيها زاد ومزاد فبينها وبين مكة صحراء يكون مسافرا من يقطعها كما كان بين مكة وغيرها ولكن عثمان قد تأول فى قصر النبى بمكة انه كان خائفا لأنه لما فتح مكة والكفار كثيرون وكان قد بلغه أن هوازن جمعت له وعثمان يجوز القصر لمن كان بحضرة عدو وهذا كما يحكى عن عثمان أنه يعنى النبى إنما أمرهم بالمتعة لأنهم كانوا خائفين وخالفه على وعمران بن حصين وبن عمر وبن عباس وغيرهم من الصحابة وقولهم هو الراجح فإن النبى فى حجة الوداع كان آمنا لا يخاف إلا الله وقد أمر أصحابه بفسخ الحج
____________________
(24/122)
إلى العمرة والقصر وقصر العدد إنما هو معلق بالسفر ولكن إذا اجتمع الخوف والسفر ابيح قصر العدد وقصر الركعات وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم هو وعمر بعده لما صليا بمكة يا أهل مكة ( أتموا صلاتكم فانا قوم سفر ( بين أن الواجب لصلاتهم ركعتين مجرد كونهم سفرا فلهذا الحكم تعلق بالسفر ولم يعلقه بالخوف فعلم أن قصر العدد لا يشترط فيه خوف بحال وكلام الصحابة أو أكثرهم فى هذا الباب يدل على أنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترك فيه جميع الناس بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل فمن رأوه مسافرا أثبتوا له حكم السفر وإلا فلا
ولهذا اختلف كلامهم فى مقدار الزمان والمكان فروى وكيع عن الثورى عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن بن عباس قال إذا سافرت يوما إلى العشاء فإن زدت فاقصر ورواه الحجاج إبن منهال ثنا أبو عوانة عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن بن عباس قال لا يقصر المسافر فى مسيرة يوم إلى العتمة إلا فى أكثر من ذلك وروى وكيع عن شعبة عن شبيل عن أبى جمرة الضبعي قال قلت لابن عباس أقصر إلى الأيلة قال تذهب وتجيء فى يوم قلت نعم قال لا إلا يوم تام فهنا قد نهى أن يقصر إذا رجع إلى أهله فى يوم وهذه مسيرة بريد وأذن فى يوم
____________________
(24/123)
وفى الأول نهاه أن يقصر إلا فى أكثر من يوم وقد روى نحو الأول عن عكرمة مولاه قال إذا خرجت من عند أهلك فاقصر فإذا أتيت أهلك فأتمم وعن الأوزاعى لا قصر إلا فى يوم تام وروى وكيع عن هشام بن ربيعة بن الغاز الجرشي عن عطاء بن أبى رباح قلت لابن عباس أقصر إلى عرفة قال لا ولكن إلى الطائف وعسفان فذلك ثمانية وأربعون ميلا وروى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء قلت لإبن عباس اقصر إلى منى أو عرفة قال لا ولكن إلى الطائف أو جدة أو عسفان فإذا وردت على ماشية لك أو أهل فأتم الصلاة وهذا الاثر قد اعتمده أحمد والشافعى قال بن حزم من عسفان إلى مكة بسير الخلفاء الراشدين 2 اثنان وثلاثون ميلا قال واخبرنا الثقاة ان من جدة إلى مكة أربعين ميلا
قلت نهيه عن القصر إلى منى وعرفة قد يكون لمن يقصد ذلك لحاجة ويرجع من يومه إلى مكة حتى يوافق ذلك ما تقدم من الروايات عنه ويؤيد ذلك أن بن عباس لا يخفى عليه أن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبى وأبى بكر وعمر فى الحج إذا خرجوا إلى عرفة ومزدلفة ومنى وبن عباس من أعلم الناس بالسنة فلا يخفى عليه مثل ذلك وأصحابه المكيون كانوا يقصرون فى الحج
____________________
(24/124)
إلى عرفة ومزدلفة كطاووس وغيره وبن عيينة نفسه الذى روى هذا الأثر عن بن عباس كان يقصر إلى عرفة فى الحج وكان أصحاب بن عباس كطاووس يقول أحدهم أترى الناس يعنى أهل مكة صلوا فى الموسم خلاف صلاة رسول الله وهذه حجة قاطعة فإنه من المعلوم أن أهل مكة لما حجوا معه كانوا خلقا كثيرا وقد خرجوا معه إلى منى يصلون خلفه وإنما صلى بمنى أيام منى قصرا والناس كلهم يصلون خلفه أهل مكة وسائر المسلمين لم يأمر أحدا منهم ان يتم صلاته ولم ينقل ذلك احد لإباسناد صحيح ولا ضعيف ثم أبو بكر وعمر بعده كانا يصليان فى الموسم بأهل مكة وغيرهم كذلك ولا يأمران أحدا باتمام مع انه قد صح عن عمر بن الخطاب انه لما صلى بمكة قال يا أهل مكة اتموا صلاتكم فإنا قوم سفر وهذا مروى عن النبى فى أهل مكة عام الفتح لا فى حجة الوداع فإنه فى حجة الوداع لم يكن يصلي فى مكة بل كان يصلي بمنزله وقد رواه أبو داود وغيره وفى اسناده
مقال والمقصود أن من تدبر صلاة النبى بعرفة ومزدلفة ومنى بأهل مكة وغيرهم وانه لم ينقل مسلم قط عنه أنه أمرهم بإتمام علم قطعا أنهم كانوا يقصرون خلفه وهذا من العلم العام الذى لا يخفى على بن عباس ولا غيره ولهذا لم يعلم أحد من الصحابة أمر أهل مكة ان
____________________
(24/125)
يتموا خلف الإمام إذا صلى ركعتين فدل هذا على ان بن عباس إنما أجاب به من سأله إذا سافر إلى منى أو عرفة سفرا لا ينزل فيه بمنى وعرفة بل يرجع من يومه فهذا لا يقصر عنده لأنه قد بين أن من ذهب ورجع من يومه لا يقصر وإنما يقصر من سافر يوما ولم يقل مسيرة يوم بل اعتبر أن يكون السفر يوما وقد استفاض عنه جواز القصر إلى عسفان وقد ذكر بن حزم انها اثنان وثلاثون ميلا وغيره يقول أربعة برد ثمانية وأربعون ميلا
والذين حدوها ثمانية وأربعين ميلا عمدتهم قول بن عباس وبن عمر وأكثر الروايات عنهم تخالف ذلك فلو لم يكن إلا قولهما لم يجز أن يؤخذ ببعض أقوالهما دون بعض بل أما أن يجمع بينهما وإما أن يطلب دليل آخر فكيف والآثار عن الصحابة أنواع أخر ولهذا كان المحددون بستة عشر فرسخا من أصحاب مالك والشافعى وأحمد إنما لهم طريقان بعضهم يقول لم أجد أحدا قال بأقل من القصر فيما دون هذا فيكون هذا إجماعا وهذه طريقة الشافعى وهذا أيضا منقول عن الليث بن سعد فهذان الامامان بينا عذرهما أنهما لم يعلما من قال بأقل من ذلك وغيرهما قد علم من قال بأقل من
ذلك والطريقة الثانية أن يقولوا هذا قول إبن عمر وبن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فصار إجماعا وهذا باطل فإنه نقل عنهما
____________________
(24/126)
هذا وغيره وقد ثبت عن غيرهما من الصحابة ما يخالف ذلك
وثم طريقة ثالثة سلكها بعض أصحاب الشافعى وأحمد وهى أن هذا التحديد مأثور عن النبى كما رواه بن خزيمة فى ( مختصر المختصر ) عن بن عباس عن النبى أنه قال ( يا أهل مكة لا تقصروا فى أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان ( وهذا ما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنه كذب على النبى صلى الله عليه وسلم ولكن هو من كلام بن عباس أفترى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حد مسافة القصر لأهل مكة دون أهل المدينة التى هي دار السنة والهجرة والنصرة ودون سائر المسلمين وكيف يقول هذا وقد تواتر عنه أن أهل مكة صلوا خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى ولم يحد النبى صلى الله عليه وسلم قط السفر بمسافة لا بريد ولا غير بريد ولا حدها بزمان
ومالك قد نقل عنه أربعة برد كقول الليث والشافعى وأحمد وهو المشهور عنه قال فإن كانت أرض لا أميال فيها فلا يقصرون فى أقل من يوم وليلة للثقل قال وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلى وقد ذكر عنه لاقصر إلا فى خمسة وأربعين ميلا فصاعدا وروى عنه لا قصر إلا فى اثنين وأربعين ميلا فصاعدا وروى عنه لا قصر إلا فى أربعين ميلا فصاعدا وروى عنه إسماعيل بن أبى أويس
____________________
(24/127)
لا قصر إلا فى ستة وأربعين ميلا قصدا ذكر هذه الروايات القاضي إسماعيل بن إسحاق فى كتابه ( المبسوط ) ورأى لأهل مكة خاصة أن يقصروا الصلاة فى الحج خاصة إلى منى فما فوقها وهى أربعة أميال وروى عنه بن القاسم أنه قال فيمن خرج ثلاثة أميال كالرعاء وغيرهم فتأول فأفطر فى رمضان لا شيء عليه إلا القضاء فقط وروى عن الشافعى أنه لا قصر فى أقل من ستة وأربعين ميلا بالهاشمى
والآثار عن بن عمر أنواع فروى محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدى حدثنا سفيان الثورى سمعت جبلة بن سحيم يقول سمعت 1 بن عمر يقول لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة وروى إبن أبى شيبة حدثنا وكيع حدثنا مسعر عن محارب بن زياد سمعت بن عمر يقول انى لأسافر الساعة من النهار فأقصر يعنى الصلاة محارب قاضى الكوفة من خيار التابعين أحد الأئمة ومسعر أحد الأئمة وروى بن أبى شيبة حدثنا على بن مسهر عن أبى إسحاق الشيبانى عن محمد بن زيد بن خليدة عن إبن عمر قال تقصر الصلاة فى مسيرة ثلاثة أميال قال بن حزم محمد بن زيد هو طائى ولاه محمد بن أبى طالب القضاء بالكوفة مشهور من كبار التابعين
وروى مالك عن نافع عن بن عمر انه قصر إلى ذات النصب
____________________
(24/128)
قال وكنت أسافر مع بن عمر البريد فلا يقصر قال عبد الرزاق ذات النصب من المدينة على ثمانية عشر ميلا فهذا نافع يخبر عنه أنه قصر فى ستة فراسخ وانه كان يسافر بريدا وهو أربعة فراسخ فلا يقصر وكذلك روى عنه ما ذكره غندر حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قال خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب وهى من المدينة على ثمانية عشر ميلا فلما أتاها قصر الصلاة وروى معمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر انه كان يقصر الصلاة فى مسيرة أربعة برد
وما تقدم من الروايات يدل على انه كان يقصر فى هذا وفى ما هو أقل منه وروى وكيع عن سعيد بن عبيد الطائى عن على بن ربيعة الوالبى الاسدى قال سألت بن عمر عن تقصير الصلاة قال حاج أو معتمرأو غاز فقلت لا ولكن أحدنا يكون له الضيعة فى السواد فقال تعرف السويداء فقلت سمعت بها ولم أرها قال فإنها ثلاث وليلتان وليلة للمسرع إذا خرجنا اليها قصرنا قال بن حزم من المدينة إلى السويداء اثنان وسبعون ميلا أربعة وعشرون فرسخا
قلت فهذا مع ما تقدم يبين أن بن عمر لم يذكر ذلك تحديدا
____________________
(24/129)
لكن بين بهذا جواز القصر فى مثل هذا لأنه كان قد بلغه أن أهل الكوفة لا يقصرون فى السواد فأجابه بن عمر بجواز القصر وأما ما روى من طريق بن جريج أخبرنى نافع أن بن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر وهى مسيرة ثلاث قواصد لم يقصر فيما دونه وكذلك ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب بن حميد كلاهما عن نافع عن بن عمر انه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة وخيبر وهى بقدر الأهواز من البصرة لا يقصر فيما دون ذلك قال بن حزم بين المدينة وخيبر كما بين البصرة والأهواز وهى مائة ميل غير أربعة أميال قال وهذا مما اختلف فيه على بن عمر ثم على نافع أيضا عن بن عمر
قلت هذا النفى وهو انه لم يقصر فيما دون ذلك غلط قطعا ليس هذا حكاية عن قوله حتى يقال انه اختلف اجتهاده بل نفى لقصره فيما دون ذلك وقد ثبت عنه بالرواية الصحيحة من طريق نافع وغيره انه قصر فيما دون ذلك فهذا قد يكون غلطا فمن روى عن أيوب ان قدر أن نافعا روى هذا فيكون حين حدث بهذا قد نسى أن بن عمر قصر فيما دون ذلك فإنه قد ثبت عن نافع عنه أنه قصر فيما دون ذلك
____________________
(24/130)
وروى حماد بن زيد حدثنا أنس بن سيرين قال خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه وهى على رأس خمسة فراسخ فصلى بنا العصر فى سفينة وهى تجرى بنا فى دجلة قاعدا على بساط ركعتين ثم سلم ثم صلى بنا ركعتين ثم سلم وهذا فيه أنه إنما خرج إلى أرضه المذكورة ولم يكن سفره إلى غيرها حتى يقال كانت من طريقه فقصر فى خمسة فراسخ وهى بريد وربع
وفى صحيح مسلم حدثنا بن ابى شيبة وبن بشار كلاهما عن غندر عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائى سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال ( كان رسول الله إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ شعبة شك صلى ركعتين ( ولم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا لأن السائل سأله عن قصر الصلاة وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالا عن أول صلاة يقصرها ثم انه لم يقل أحد إن أول صلاة لا يقصرها إلافى ثلاثة أميال أو أكثر من ذلك فليس فى هذا جواب لو كان المراد ذلك ولم يقل ذلك أحد فدل على أن أنسا أراد انه من سافر هذه المسافة قصر ثم ما أخبر به عن النبى صلى الله عليه وسلم فعل من النبى لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر أو كان ذلك هو الذى قطعه من السفر فإن
____________________
(24/131)
كان اراد به ان ذلك كان سفره فهو نص وان كان ذلك الذى قطعه من السفر فانس بن مالك استدل بذلك على انه يقصر إليه إذا كان هو السفر يقول انه لا يقصر الا فى السفر فلولا ان قطع هذه المسافة سفر لما قصر
وهذا يوافق قول من يقول لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفرا لايكفى مجرد قصده المسافة التى هي سفر وهذا قول بن حزم وداود وأصحابه وبن حزم يحد مسافة القصر بميل لكن داود وأصحابه يقولون لا يقصر إلا فى حج أو عمرة أو غزو وبن حزم يقول إنه يقصر فى كل سفر وبن حزم عنده انه لا يفطر إلا فى هذه المسافة وأصحابه يقولون إنه يفطر فى كل سفر بخلاف القصر لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع وإنما فيه فعله انه قصر فى السفر ولم يجدوا احدا قصر فيما دون ميل ووجدوا الميل منقولا عن بن عمر
وبن حزم يقول السفر هو البروز عن محلة الاقامة لكن قد علم أن النبى خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولم يفطروا فخرج هذا عن أن يكون سفرا ولم يجدوا أقل من ميل يسمى سفرا فان بن عمر قال لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة فلما ثبت أن هذه المسافة
____________________
(24/132)
جعلها سفرا ولم نجد أعلا منها يسمى سفرا جعلنا هذا هو الحد قال وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر فلا يقصر فيه ولا يفطر وإذا بلغ الميل فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة ويفطر فيه فمن حينئذ يقصر ويفطر وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم ليس فى سفر يقصر
فيه قلت جعل هؤلاء السفر محدودا فى اللغة قالوا وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفرا هو الميل وأولئك جعلوه محدودا بالشرع وكلا القولين ضعيف أما الشارع فلم يحده وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا الفرق بين ما يسمى سفرا وما لا يسمى سفرا هو مسافة محدودة بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل فى الشرع واللغة ثم لو كان محدودا بمسافة ميل فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به فقد كان النبى يخرج أكثر من ميل من محله فى الحجاز ولايقصر ولا يفطر وإن أراد من المكان المجتمع الذى يشمله اسم مدينة ميلا قيل له فلا حجة لك فى خروجه إلى المقابر والغائط لأن تلك لم تكن خارجا عن آخر حد المدينة ففى الجملة كان يخرج إلى العوالى وإلى أحد كما كان يخرج إلى المقابر والغائط وفى ذلك ما هو أبعد من ميل وكان النبى وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل ويأتون إليها أبعد من ميل ولا يقصرون
____________________
(24/133)
كخروجهم إلى قباء والعوالى وأحد ودخولهم للجمعة وغيرها من هذه الأماكن
وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل فإن حرم المدينة بريد فى بريد حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يوماوهذا يوما كما كان عمر بن الخطاب وصاحبه الأنصارى يدخل هذا يوما وهذا يوما وقول بن عمر لو خرجت ميلا قصرت الصلاة هو كقوله إنى لأسافر الساعة من النهار فأقصر وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التى يقصدها فيكون قصده إنى لا أؤخر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول إذا سافر نهارا لم يقصر إلى الليل
وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبى صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذى الحليفة ركعتين وقد يحمل حديث أنس على هذا لكن فعله يدل على المعنى الأول أو يكون مراد بن عمر من سافر قصر ولو كان قصده هذه المسافة إذا كان فى صحراء بحيث يكون مسافرا لا يكون متنقلا بين المساكن فإن هذا ليس بمسافر باتفاق الناس وإذا قدر أن هذا مسافر فلو قدر أنه مسافر أقل من الميل بعشرة أذرع فهو أيضا مسافر فالتحديد بالمسافة
____________________
(24/134)
لا أصل له فى شرع ولا لغة ولا عرف ولا عقل ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقا بشيء لا يعرفونه ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبى ولا قدر النبى الأرض لا بأميال ولا فراسخ والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتى به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرا وإن كانت المسافة أقل من ميل بخلاف من يذهب ويرجع من يومه فإنه لا يكون فى ذلك مسافرا فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثانى فالمسافة القريبة فى المدة الطويلة تكون سفرا والمسافة البعيدة فى المدة القليلة لا تكون سفرا
فالسفر يكون بالعمل الذى سمى سفرا لأجله والعمل لا يكون إلا فى زمان فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد سمى مسافرا وإن لم تكن المسافة بعيدة وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد لم يسم سفرا وإن بعدت المسافة فالأصل هو العمل الذى يسمى سفرا ولايكون العمل الا فى زمان فيعتبر العمل الذى هو سفر ولا يكون ذلك إلا فى مكان يسفر عن الأماكن وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم ليس له حد فى الشرع ولا اللغة بل ما سموه سفرا فهو سفر
____________________
(24/135)
فصل
وأما ( الإقامة ( فهي خلاف السفر فالناس رجلان مقيم ومسافر ولهذا كانت أحكام الناس فى الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين إما حكم مقيم وإما حكم مسافر وقد قال تعالى { يوم ظعنكم ويوم إقامتكم } فجعل للناس يوم ظعن ويوم اقامة والله تعالى أوجب الصوم وقال { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فمن ليس مريضا ولا على سفر فهو الصحيح المقيم ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم ( ان الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ( فمن لم يوضع عنه الصوم وشطر الصلاة فهو المقيم
وقد أقام النبى صلى الله عليه وسلم فى حجته بمكة أربعة أيام ثم ستة أيام بمنى ومزدلفة وعرفة يقصر الصلاة هو وأصحابه فدل على أنهم كانوا مسافرين وأقام فى غزوة الفتح تسعة عشر يوما يقصر الصلاة وأقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ومعلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضى فى ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال
____________________
(24/136)
إنه كان يقول اليوم أسافر غدا أسافر بل فتح مكة وأهلها وما حولها كفار محاربون له وهى أعظم مدينة فتحها وبفتحها ذلت الأعداء وأسلمت العرب وسرى السرايا إلى النواحى ينتظر قدومهم ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا تنقضى فى أربعة أيام فعلم أنه اقام لأمور يعلم أنها لا تنقضى فى أربعة وكذلك فى تبوك
وأيضا فمن جعل للمقام حدا من الأيام إما ثلاثة وإما أربعة وإما عشرة واما اثنى عشر وإما خمسة عشر فإنه قال قولا لا دليل عليه من جهة الشرع وهى تقديرات متقابلة فقد تضمنت هذه الأقوال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام إلى مسافر وإلى مقيم مستوطن وهو الذى ينوى المقام فى المكان وهذا هو الذى تنعقد به الجمعة وتجب عليه وهذا يجب عليه اتمام الصلاة بلا نزاع فإنه المقيم المقابل للمسافر والثالث مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه اتمام الصلاة والصيام وأوجبوا عليه الجمعة وقالوا لا تنعقد به الجمعة وقالواإنما تنعقد الجمعة بمستوطن
وهذا التقسيم وهو تقسيم المقيم إلى مستوطن وغير مستوطن تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع ولادليل على انها تجب على من لاتنعقد به بل من وجبت عليه انعقدت به وهذا انما قالوه لما أثبتوا مقيما يجب عليه الإتمام والصيام ووجدوه غير مستوطن فلم يمكن
____________________
(24/137)
أن يقولوا تنعقد به الجمعة فان الجمعة إنما تنعقد بالمستوطن لكن إيجاب الجمعة على هذا وإيجاب الصيام والإتمام على هذا هو الذى يقال انه لا دليل عليه بل هو مخالف للشرع فإن هذه حال النبى بمكة فى غزوة الفتح وفى حجة الوداع وحاله بتبوك بل وهذه حال جميع الحجيج الذين يقدمون مكة ليقضوا مناسكهم ثم يرجعوا وقد يقدم الرجل بمكة رابع ذى الحجة وقد يقدم قبل ذلك بيوم أو أيام وقد يقدم بعد ذلك وهم كلهم مسافرون لا تجب عليهم جمعة ولا اتمام والنبى صلى الله عليه وسلم قدم صبح رابعة من ذى الحجة وكان يصلى ركعتين لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم ويأمر أصحابه بالاتمام ليس فى قوله وعمله ما يدل على ذلك ولو كان هذا حدا فاصلا بين المقيم والمسافر لبينه للمسلمين كما قال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها ليس هو أمرا معلوما لا بشرع ولا لغة ولا عرف وقد رخص النبى للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا والقصر فى هذا جائز عند الجماعة وقد سماه اقامة ورخص للمهاجر أن يقيمها فلو أراد المهاجر أن يقيم أكثر من ذلك بعد قضاء النسك لم يكن
____________________
(24/138)
له ذلك وليس فى هذا ما يدل على أن هذه المدة فرق بين المسافر والمقيم بل المهاجر ممنوع أن يقيم بمكة أكثر من ثلاث بعد قضاء المناسك
( فعلم ) أن الثلاث مقدار يرخص فيه فيما كان محظور الجنس قال ( لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث الا على زوج ( وقال ( لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) وجعل ما تحرم المرأة بعده من الطلاق ثلاثا فإذا طلقها ثلاث مرات حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره لأن الطلاق فى الأصل مكروه فأبيح منه للحاجة ما تدعو إليه الحاجة وحرمت عليه بعد ذلك إلى الغاية المذكورة ثم المهاجر لو قدم مكة قبل الموسم بشهر أقام إلى الموسم فإن كان لم يبح له الافيما يكون سفرا كانت اقامته إلى الموسم سفرا فتقصر فيه الصلاة
وايضا فالنبى وأصحابه قدموا صبح رابعة من ذى الحجة فلو أقاموا بمكة بعد قضاء النسك ثلاثا كان لهم ذلك ولو أقاموا أكثر من ثلاث لم يجز لهم ذلك وجاز لغيرهم أن يقيم أكثر من ذلك وقد أقام المهاجرون مع النبى عام الفتح قريبا من عشرين يوما بمكة ولم يكونوا بذلك مقيمين اقامة خرجوا بها عن السفر ولا كانوا ممنوعين لأنهم كانوا مقيمين لأجل تمام
____________________
(24/139)
الجهاد وخرجوا منها إلى غزوة حنين وهذا بخلاف من لا يقدم إلا للنسك فانه لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث فعلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر ولا بتحديد السفر
والذين حدوا ذلك بأربعة منهم من احتج بإقامة المهاجر وجعل يوم الدخول والخروج غير محسوب ومنهم من بنى ذلك على ان الأصل فى كل من قدم المصر أن يكون مقيما يتم الصلاة لكن ثبتت الأربعة بإقامة النبى صلى الله عليه وسلم فى حجته فانه اقامها وقصر وقالوا فى غزوة الفتح وتبوك أنه لم يكن عزم على اقامة مدة لأنه كان يريد عام الفتح غزو حنين وهذا الدليل مبنى على انه من قدم المصر فقد خرج عن حد السفر وهو ممنوع بل هو مخالف للنص والاجماع والعرف فإن التاجر الذى يقدم ليشترى سلعة أو يبيعها ويذهب هو مسافر عند الناس وقد يشترى السلعة ويبيعها فى عدة أيام ولا يحد الناس فى ذلك حدا
والذين قالوا يقصر إلى خمسة عشر قالوا هذا غاية ما قيل وما زاد على ذلك فهو مقيم بالإجماع وليس الأمر كما قالوه وأحمد أمر بالاتمام فيما زاد على الأربعة احتياطا واختلفت الرواية عنه إذا نوى اقامة احدى وعشرين هل يتم أو يقصر لتردد الاجتهاد فى صلاة النبى صلى الله عليه وسلم يوم الرابع فان كان صلى الفجر بمبيته وهو
____________________
(24/140)
ذو طوى فانما صلى بمكة عشرين صلاة وان كان صلى الصبح بمكة فقد صلى بها احدى وعشرين صلاة والصحيح أنه انما صلى الصبح يومئذ بذى طوى ودخل مكة ضحى كذلك جاء مصرحا به فى أحاديث قال أحمد فى رواية الاثرم إذا عزم على ان يقيم أكثر من ذلك أتم واحتج بان النبى قدم لصبح رابعة قال فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن وكان يقصر الصلاة فى هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبى قصر فإذا اجمع على أكثر من ذلك اتم قال الأثرم قلت له فلم لم يقصر على ما زاد من ذلك قال لأنهم اختلفوا فيأخذ بالاحوط فيتم قال قيل لأبى عبد الله يقول أخرج اليوم أخرج غدا ايقصر فقال هذا شيء آخر هذا لم يعزم
فأحمد لم يذكر دليلا على وجوب الإتمام إنما أخذ بالاحتياط وهذا لا يقتضى الوجوب
وأيضا فانه معارض بقول من يوجب القصر ويجعله عزيمة فى الزيادة وقد روى الأثرم حدثنا الفضل بن دكين حدثنا مسعر عن حبيب بن أبى ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال أقمنا مع سعد بعمان أو بعمان شهرين فكان يصلي ركعتين ونصلى أربعا فذكرنا ذلك له فقال
____________________
(24/141)
نحن أعلم قال الأثرم حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن نافع أن إبن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلى ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول قال بعضهم والثلج الذى يتفق فى هذه المدة يعلم أنه لا يذوب فى أربعة أيام فقد اجمع اقامة أكثر من أربع قال الأثرم حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا يحيي عن حفص بن عبيد الله أن أنس بن مالك أقام بالشام سنتين يقصر الصلاة قال الأثرم حدثنا الفضل بن دكين حدثنا هشام حدثنا بن شهاب عن سالم قال كان بن عمر إذا اقام بمكة قصر الصلاة الا ان يصلى مع الامام وان اقام شهرين الا أن يجمع الاقامة وبن عمر كان يقدم قبل الموسم بمدة طويلة حتى انه كان احيانا يحرم بالحج من هلال ذى الحجة وهو كان من المهاجرين فما كان يحل له المقام بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاث ولهذا أوصى لما مات ان يدفن بسرف لكونها من الحل حتى لا يدفن فى الأرض التى هاجر منها وقال الأثرم حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع قال ما كان بن عمر يصلى بمكة الا ركعتين إلا أن يرفع المقام ولهذا أقام مرة ثنتى عشرة يصلى ركعتين وهو يريد الخروج وهذا يبين انه كان يصلى قبل الموسم ركعتين مع انه نوى الإقامة إلى الموسم وكان بن عمر كثير الحج وكان كثيرا ما يأتى مكة قبل الموسم بمدة طويلة قال الأثرم حدثنا بن
____________________
(24/142)
الطباع حدثناالقاسم بن موسى الفقير عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن بن محيريز أن أبا أيوب الأنصارى وأبا صرمة الأنصارى وعقبة بن عامر شتوا بأرض الروم فصاموا رمضان وقاموه واتموا الصلاة قال الأثرم حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن منصور عن أبى وائل قال خرج مسروق إلى السلسلة فقصر الصلاة فاقام سنين يقصر حتى رجع وهو يقصر قيل يا أبا عائشة ما يحملك على هذا قال اتباع السنة فصل
والذين لم يكرهوا أن يصلى المسافر أربعا ظنوا ان النبى صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو فعله بعض أصحابه على عهده فاقره عليه وظنوا أن صلاة المسافر ركعتين وأربعا بمنزل الصوم والفطر فى رمضان وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة بأنهم كانوا يسافرون مع النبى صلى الله عليه وسلم فمنهم الصائم ومنهم المفطر وهذا مما اتفق أهل العلم على صحته وأما ما ذكروه من التربيع فحسبه بعض أهل العلم صحيحا وبذلك استدل الشافعى وبعض أصحاب أحمد قال الشافعى لما ذكر قول النبى صلى الله عليه وسلم ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ( فدل على ان القصر فى السفر بلا خوف صدقة من الله والصدقة
____________________
(24/143)
رخصة لا حتم من الله ان يقصر ودل على ان ( له ان ) يقصر فى السفر بلا خوف ان شاء المسافر أن عائشة قالت ( كل ذلك فعل رسول الله اتم فى السفر وقصر )
قلت وهذا الحديث رواه الدارقطنى وغيره من حديث ابى عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء بن ابى رباح عن عائشة ( ان النبى كان يقصر فى السفر ويتم ويفطر ويصوم ( قال الدارقطنى هذااسناد صحيح قال البيهقى ولهذا شاهد من حديث دلهم بن صالح والمغيرة بن زياد وطلحة بن عمر وكلهم ضعيف وروى حديث دلهم من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا دلهم بن صالح الكندى عن عطاء عن عائشة قالت ( كنا نصلى مع النبى إذا خرجنا إلى مكة أربعا حتى نرجع (
وروى حديث المغيرة وهو أشهرها عن عطاء عن عائشة ( أن النبى كان يقصر فى السفر ويتم ( وروى حديث طلحة بن عمر عن عطاء عن عائشة قالت ( كل ذلك قد فعل رسول الله قد أتم وقصر وصام فى السفر وأفطر ( قال البيهقى وقد قال عمر بن ذر كوفى ثقة أنا عطاء بن أبى رباح ( أن عائشة كانت تصلى فى السفر المكتوبة أربعا ( وروى ذلك باسناده ثم قال وهو كالموافق لرواية دلهم بن صالح وان كان
____________________
(24/144)
فى رواية دلهم زيادة سند
قلت أما ما رواه الثقة عن عطاء عن عائشة من ( أنها كانت تصلى أربعا ( فهذا ثابت عن عائشة معروف عنها من رواية عروة وغيره عن عائشة وإذا كان إنما اسنده هؤلاء الضعفاء والثقاة وقفوه على عائشة دل ذلك على ضعف المسند ولم يكن ذلك شاهدا للمسند قال بن حزم فى هذا الحديث انفرد به المغيرة بن زياد ولم يروه غيره وقد قال فيه أحمد بن حنبل ضعيف كل حديث اسنده منكر
قلت فقد روى من غير طريقه لكنه ضعيف أيضا وقد ذكر عبد الله بن احمد بن حنبل أن أباه 1 سئل عن هذا الحديث فقال هذا حديث منكر وهو كما قال الإمام أحمد وإن كان طائفة من أصحابه قد احتجوا به موافقة لمن احتج به كالشافعى ولا ريب أن هذا حديث مكذوب على النبى مع أن من الناس من يقول لفظه ( كان يقصر فى السفر وتتم ويفطر وتصوم ( بمعنى أنها هي التى كانت تتم وتصوم وهذا أشبه بما روى عنها من غير هذا الوجه مع أنه كذب عليها أيضا قال البيهقى وله شاهد قوى باسناد صحيح وروى من طريق الدارقطنى من طريق محمد بن يوسف حدثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت ( خرجت مع رسول الله فى
____________________
(24/145)
عمرة فى رمضان فأفطر رسول الله وصمت وقصر وأتممت فقلت يا رسول الله بأبى أنت وأمى أفطرت وصمت وقصرت وأتممت قال ( أحسنت يا عائشة (
ورواه البيهقى من طريق آخر عن القاسم بن الحكم ثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة لم يذكر أباه قال الدارقطنى الأول متصل وهو إسناد حسن وعبد الرحمن قد أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق ورواه البيهقى من وجه ثالث من حديث أبى بكر النيسابورى ثنا عباس الدورى ثنا أبو نعيم حدثنا العلاء بن زهير ثنا عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله من المدينة إلى مكة حتى اذا قدمت قالت يا رسول الله بأبى أنت وأمى قصرت وأتممت وأفطرت وصمت فقال ( أحسنت يا عائشة ( وما عاب على قال أبو بكر النيسابورى هكذا قال أبو نعيم عن عبد الرحمن عن عائشة ومن قال عن أبيه فى هذا الحديث فقد أخطأ
قلت أبو بكر النيسابورى إمام فى الفقه والحديث وكان له عناية بالأحاديث الفقهية وما فيها من اختلاف الألفاظ وهو أقرب إلى طريقة أهل الحديث والعلم التى لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث المشهورين ولهذا رجح هذه الطريق وكذلك أهل
____________________
(24/146)
السنن المشهورة لم يروه أحد منهم الا النسائى ولفظه عن عائشة ( أنها اعتمرت مع رسول الله من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت يا رسول الله بأبى أنت وأمى قصرت وأتممت وأفطرت وصمت فقال ( أحسنت يا عائشة ( وما عاب على وهذا بخلاف من قد يقصد نصر قول شخص معين فتنطق له من الأدلة ما لو خلا عن ذلك القصد لم يتكلفه ولحكم ببطلانها
والصواب ما قاله أبو بكر وهو أن هذا الحديث ليس بمتصل وعبد الرحمن إنما دخل على عائشة وهو صبى ولم يضبط ما قالته وقال فيه أبو محمد بن حزم هذا الحديث تفرد به العلاء بن زهير الازدى لم يروه غيره وهو مجهول وهذا الحديث خطأ قطعا فانه قال فيه انها خرجت مع رسول الله فى عمرة فى رمضان ومعلوم باتفاق أهل العلم أن رسول الله لم يعتمر فى رمضان قط ولا خرج من المدينة فى عمرة فى رمضان بل ولا خرج إلى مكة فى رمضان قط إلا عام الفتح فإنه كان حينئذ مسافرا فى رمضان وفتح مكة فى شهر رمضان سنة ثمان باتفاق أهل العلم وفى ذلك السفر كان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر فلم يكن يصلى بهم الا ركعتين ولا نقل أحد من أصحابه عنه أنه صلى فى السفر أربعا والحديث المتقدم خطأ كما سنبينه إن شاء الله تعالى
____________________
(24/147)
وعام فتح مكة لم يعتمر بل ثبت بالنقول المستفيضة التى اتفق عليها أهل العلم به انه انما اعتمر بعد الهجرة اربع عمر منها ثلاث فى ذى القعدة والرابعة مع حجته عمرة الحديبية لما صده المشركون فحل بالحديبية بالإحصار ولم يدخل مكة وكانت فى ذى القعدة ثم اعتمر فى العام القابل عمرة القضية وكانت فى ذى القعدة أيضا ثم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة اعتمر من الجعرانة وكانت عمرته فى ذى القعدة أيضا والرابعة مع حجته ولم يعتمر بعد حجه لا هو ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لما كانت قد حاضت وأمرها أن تهل بالحج ثم أعمرها مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم
ولهذا قيل لما بني هناك من المساجد مساجد عائشة فإنه لم يعتمر أحد من الصحابة على عهد النبى لا قبل الفتح ولا بعده عمرة من مكة الا عائشة فهذا كله مما تواترت به الأحاديث الصحيحة مثل ما فى الصحيحين عن أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن فى ذى القعدة إلا التى مع حجه عمرة من الحديبية فى ذى القعدة وعمرة من العام المقبل فى ذى القعدة وعمرة من الجعرانة فى ذى القعدة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته ( وهذا لفظ مسلم ولفظ البخارى ( اعتمر أربعا عمرة الحديبية فى ذى القعدة حيث صده المشركون وعمرة فى العام المقبل فى
____________________
(24/148)
ذى القعدة حيث صالحهم وعمرة حنين من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته
وفى الصحيحين عن البراء بن عازب قال ( اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذى القعدة قبل أن يحج مرتين ( وهذا لفظ البخارى وأراد بذلك العمرة التى أتمها وهى عمرة القضية والجعرانة وأماالحديبية فلم يمكن اتمامها بل كان محصرا لما صده المشركون وفيها أنزل الله آية الحصار باتفاق اهل العلم وقد ثبت فى الصحيح عن عائشة لما قيل لها إن بن عمر قال ان رسول الله اعتمر فى رجب فقالت يغفر الله لأبى عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه وما اعتمر فى رجب قط وفى رواية عن عائشة قالت لم يعتمر رسول الله الا فى ذى القعدة وكذلك عن بن عباس رواهما بن ماجه وقد روى أبو داود عنها قالت اعتمر رسول الله عمرتين عمرة فى ذى القعدة وعمرة فى شوال وهذا إن كان ثابتا عنها فلعله ابتداء سفره كان فى شوال ولم تقل قط أنه اعتمر فى رمضان فعلم أن ذلك خطأ محض
وإذا ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه لم يعتمر إلا فى ذى القعدة وثبت أيضا أنه لم يسافر من المدينة إلى مكة ودخلها إلا ثلاث
____________________
(24/149)
مرات عمرة القضية ثم غزوة الفتح ثم حجة الوداع وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة وأحوال رسول الله ولم يسافر فى رمضان إلى مكة الا غزوة الفتح كان كل من هذين دليلا قاطعا على أن هذا الحديث الذى فيه أنها اعتمرت معه فى رمضان وقالت أتممت وصمت فقال ( احسنت ( خطأ محض فعلم قطعا انه باطل لا يجوز لمن علم حاله أن يرويه عن النبى لقوله ( من روى عنى حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ( ولكن من حدث من العلماء الذين لا يستحلون هذا فلم يعلموا أنه كذب ( لم يأثم (
فإن قيل فيكون قوله ( فى رمضان ( خطأ وسائر الحديث يمكن صدقه قيل بل جميع طرقه تدل على ان ذلك كان فى رمضان لأنها قالت قلت أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال ( أحسنت يا عائشة ( وهذا إنما يقال فى الصوم الواجب وأما السفر فى غير رمضان فلا يذكر فيه مثل هذا لأنه معلوم أن الفطر فيه جائز وأيضا فقد روى البيهقى وغيره بالإسناد الثابت عن الشعبى عن عائشة أنها قالت ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلاالمغرب ففرضت ثلاثا فكان رسول الله إذا سافر صلى الصلاة
____________________
(24/150)
الأولى وإذا أقام زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب لأنها وتر النهار والصبح لأنها تطول فيها القراءة ( فقد أخبرت عائشة أنه كان اذا سافر صلى الصلاة الأولى ركعتين ركعتين فلو كان تارة يصلي أربعا لأخبرت بذلك وهذا يناقض تلك الرواية المكذوبة على عائشة
وأيضا فعائشة كانت حديثة السن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات وعمرها أقل من عشرين سنة فإنه لما بنى بها بالمدينة كان لها تسع سنين وإنما أقام بالمدينة عشرا فاذا كان قد بنى بها فى أول الهجرة كان عمرها قريبا من عشرين ولو قدر أنه بنى بها بعد ذلك لكان عمرها حينئذ أقل
وأيضا فلو كانت كبيرة فهي إنما تتعلم الإسلام وشرائعه من النبى فكيف يتصور أن تصوم وتصلى معه فى السفر خلاف ما يفعله هو وسائر المسلمين وسائر أزواجه ولا تخبره بذلك حتى تصل إلى مكة هل يظن مثل هذا بعائشة أم المؤمنين وما بالها فعلت هذا فى هذه السفرة دون سائر أسفارها معه وكيف تطيب نفسها بخلافه من غير استئذانه وقد ثبت عنها فى الصحيحين بالأسانيد الثابتة باتفاق أهل العلم أنها قالت ( فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها فى الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة
____________________
(24/151)
وهذا من رواية الزهري عن عروة عن عائشة ورواية أصحابه الثقات ومن رواية صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة يرويه مثل ربيعة ومن رواية الشعبى عن عائشة وهذا مما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه صحيح ثابت عن عائشة فكيف تقدم مع رسول الله على أن تصلي فى السفر قبل أن تستأذنه وهى تراه والمسلمين معه لا يصلون الا ركعتين
وأيضا فهي لما أتمت الصلاة بعد موت النبى لم تحتج بأنها فعلت ذلك على عهد النبى ولا ذكر ذلك أخبر الناس بها عروة بن أختها بل اعتذرت بعذر من جهة الإجتهاد كما رواه النيسابورى والبيهقى وغيرهما بالأسانيد الثابتة عن وهب بن جرير ثنا شعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تصلي فى السفر أربعا فقلت لها لو صليت ركعتين فقالت يا بن أختى إنه لا يشق على
وأيضا فالحديث الثابت عن صالح بن كيسان أن عروة بن الزبير حدثه عن عائشة ( أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين فى الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر على ركعتين وأتمت فى الحضر أربعا ( قال صالح فأخبر بها عمر بن عبد العزيز فقال إن عروة أخبرنى أن عائشة تصلى أربع ركعات فى السفر قال فوجدت عروة يوما عنده
____________________
(24/152)
فقلت كيف أخبرتنى عن عائشة فحدث بما حدثنى به فقال عمر أليس حدثتنى أنها كانت تصلى أربعا فى السفر قال بلى وفى الصحيحين عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت ( أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد فى صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ( قال الزهري قلت فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة قال أنها تأولت كما تأول عثمان فهذا عروة يروى عنها أنها اعتذرت عن اتمامها بأنها قالت لا يشق على وقال انها تأولت كما تأول عثمان فدل ذلك على ان اتمامها كان بتأويل من اجتهادها ولو كان النبى قد حسن لها الإتمام أو كان هو قد أتم لكانت قد فعلت ذلك اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك عثمان ولم يكن ذلك مما يتأول بالاجتهاد ثم إن هذا الحديث أقوى ما اعتمد عليه من الحديث من قال بالإتمام فى السفر وقد عرف أنه باطل فكيف بما هو ابطل منه وهو كون النبى كان يتم فى السفر ويقصر وهذا خلاف المعلوم بالتواتر من سنته التى اتفق عليها أصحابه نقلا عنه وتبليغا إلى أمته لم ينقل عنه قط أحد من أصحابه أنه صلى فى السفر أربعا بل تواترت الأحاديث عنهم انه كان يصلى فى السفر ركعتين هو وأصحابه
والحديث الذى يرويه زيد العمى عن أنس بن مالك قال ( أنا
____________________
(24/153)
معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ومنا المتم ومنا المقصر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المتم على المقصر ( هو كذب بلا ريب وزيد العمى ممن اتفق العلماء على انه متروك والثابت عن أنس إنما هو فى الصوم ومما يبين ذلك أنهم فى السفر مع النبى لم يكونوا يصلون فرادى بل كانوا يصلون بصلاته بخلاف الصوم فإن الإنسان قد يصوم وقد يفطر فهذا الحديث من الكذب وإن كان البيهقى روى هذا فهذا مما أنكر عليه ورآه أهل العلم لا يستوفى الآثار التى لمخالفيه كما يستوفى الآثار التى له وانه يحتج بآثار لو احتج بها مخالفوه لأظهر ضعفها وقدح فيها وإنما أوقعه فى هذا مع علمه ودينه ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبى موافقة لقول واحد من العلماء دون آخر فمن سلك هذه السبيل دحضت حججه وظهر عليه نوع من التعصب بغير الحق كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ويتأولها فى كثير من المواضع بتأويلات يبين فسادها لتوافق القول الذى ينصره كما يفعله صاحب شرح الآثار أبو جعفر مع أنه يروى من الآثار أكثر مما يروى البيهقى لكن البيهقى ينقى الآثار ويميز بين صحيحها وسقيمها أكثر من الطحاوى
والحديث الذى فيه ( أنه كان يقصر ويتم
____________________
(24/154)
ويفطر ويصوم ) قد قيل إنه مصحف وإنما لفظه ( كان يقصر وتتم ( هي بالتاء ( ويفطر وتصوم ( هي ليكون معنى هذا الحديث معنى الحديث الآخر الذى اسناده أمثل منه فإنه معروف عن عبد الرحمن بن الأسود لكنه لم يحفظ عن عائشة وأما نقل هذا الآخر عن عطاء فغلط على عطاء قطعا وإنما الثابت عن عطاء ( أن عائشة كانت تصلى فى السفر أربعا ( كما رواه غيره ولو كان عند عائشة عن النبى فى ذلك سنة لكانت تحتج بها
ولو كان ذلك معروفا من فعله لم تكن عائشة أعلم بذلك من أصحابه الرجال الذين كانوا يصلون خلفه دائما فى السفر فإن هذا ليس مما تكون عائشة أعلم به من غيرها من الرجال كقيامه بالليل واغتساله من الأكسال فضلا عن أن تكون مختصة بعلمه بل أمور السفر أصحابه أعلم بحاله فيها من عائشة لأنها لم تكن تخرج معه فى كل اسفاره فإنه قد ثبت فى الصحيح عنها أنها قالت ( كان رسول الله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فإيهن خرج سهمها خرج بها معه ( فإنما كان يسافر بها أحيانا وكانت تكون مخدرة فى خدرها وقد ثبت عنها فى الصحيح أنها لما سألها شريح بن هانئ عن ( المسح على الخفين ( قالت سل عليا فإنه كان يسافر مع النبى صلى الله عليه وسلم هذا والمسح على الخفين أمر قد يفعله النبى صلى الله عليه
____________________
(24/155)
وسلم فى منزله في الحضرفتراه دون الرجال بخلاف الصلاة المكتوبة فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليها فى الحضر ولا فى السفر إلا إماما بأصحابه إلا ان يكون له عذر من مرض أو غيبة لحاجة كما غاب يوم ذهب ليصلح بين أهل قباء وكما غاب فى السفر للطهارة فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم الصبح ولما حضر النبى حسن ذلك وصوبه
وإذا كان الإتمام إنما كان والرجال يصلون خلفه فهذا مما يعلمه الرجال قطعا وهو مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله فإن ذلك مخالف لعادته فى عامة أسفاره فلو فعله أحيانا لتوفرت هممهم ودواعيهم على نقله كما نقلوا عنه المسح على الخفين لما فعله وإن كان الغالب عليه الوضوء وكما نقلوا عنه الجمع بين الصلاتين احيانا وان كان الغالب عليه ان يصلي كل صلاة فى وقتها الخاص مع ان مخالفة سنته اظهر من مخالفة بعض الوقت لبعض فإن الناس لا يشعرون بمرور الأوقات كما يشعرون بما يشاهدونه من اختلاف العذر فإن هذا أمر يرى بالعين لا يحتاج إلى تأمل واستدلال بخلاف خروج وقت الظهر وخروج وقت المغرب فإنه يحتاج إلى تأمل
ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن جمعه إنما كان فى غير عرفة ومزدلفة بأن يقدم الثانية ويؤخر الأولى إلى آخر وقتها وقد
____________________
(24/156)
روى أنه كان يجمع كذلك فهذا مما يقع فيه شبهة بخلاف الصلاة أربعا لو فعل ذلك فى السفر فإن هذا لم يكن يقع فيه شبهة ولا نزاع بل كان ينقله المسلمون ومن جوز عليه ان يصلى فى السفر أربعا ولا ينقله أحد من الصحابة ولا يعرف قط إلا من رواية واحد مضعف عن آخر عن عائشة والروايات الثابتة عن عائشة لا توافقه بل تخالفه فانه لو روى له بإسناد من هذا الجنس أن النبى صلى الفجر مرة أربعا لصدق ذلك ومثل هذا ينبغى أن يصدق بكل الأخبار التى من هذا الجنس التى ينفرد فيها الواحد مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله ويعلم أنه لو كان حقا لكان ينقل ويستفيض وهذا فى الضعف مثل أن ينقل عنه أنه قال لأهل مكة بعرفة ومزدلفة ومنى ( أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ( وينقل ذلك عن عمر ولا ينقل إلا من طريق ضعيف مع العلم بأن ذلك لو كان حقا لكان مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله وذلك مثل ما روى ابو داود الطيالسى حدثنا حماد بن سلمة عن على بن زيد عن أبى نضرة قال سأل سائل عمران بن الحصين عن صلاة رسول الله فى السفر فقال ان هذا الفتى يسألنى عن صلاة رسول الله فى السفر فاحفظوهن عنى ما سافرت مع رسول الله سفرا
____________________
(24/157)
قط الا صلى ركعتين حتى يرجع وشهدت مع رسول الله حنينا والطائف فكان يصلي ركعتين ثم حججت معه واعتمرت فصلى ركعتين ثم قال ( يا أهل مكة اتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ) ثم حججت مع أبى بكر واعتمرت فصلي ركعتين ركعتين ثم قال ( يا أهل مكة أتموا صلاتكم فانا قوم سفر ( ثم حججت مع عمر واعتمرت فصلى ركعتين وقال ( اتموا صلاتكم فانا قوم سفر ( ثم حججت مع عثمان واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين ثم ان عثمان أتم فما ذكره فى هذا الحديث من أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يصل فى السفر قط الا ركعتين هو مما اتفقت عليه سائر الروايات فان جميع الصحابة إنما نقلوا عن النبى انه صلى فى السفر ركعتين
وأما ما ذكره من قوله ( يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ) فهذا مما قاله بمكة عام الفتح لم يقله فى حجته وإنما هذا غلط وقع فى هذه الرواية وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن حميد عن حماد بإسناده رواه البيهقى من طريقه ولفظه ما سافر رسول الله سفرا إلا صلى ركعتين حتى يرجع ويقول ( يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين فإنا قوم سفر ) وغزا الطائف وحنينا فصلى ركعتين واتى الجعرانة فاعتمر منها وحججت مع أبى بكر
____________________
(24/158)
واعتمرت فكان يصلى ركعتين وحججت مع عمر بن الخطاب فكان يصلي ركعتين فلم يذكر قوله إلا عام الفتح قبل غزوة حنين والطائف ولم يذكر ذلك عن أبى بكر وعمر وقد رواه أبو داود فى سننه صريحا من حديث بن علية حدثنا على بن زيد عن أبى نضرة عن عمران بن حصين قال عرفت مع النبى وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثمانى عشرة ليلة يصلي ركعتين يقول ( يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر ) وهذا إنما كان فى غزوة الفتح فى نفس مكة لم يكن بمنى وكذلك الثابت عن عمر أنه صلى باهل مكة فى الحج ركعتين ثم قال عمر بعد ما سلم أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا قوم سفر
هذا ومما يبين ذلك ان هذا لم ينقله عن النبى أحد من الصحابة لا ممن نقل صلاته ولا ممن نقل نسكه وحجه مع توفر الهمم والدواعى على نقله مع أن أئمة فقهاء الحرمين كانوا يقولون إن المكيين يقصرون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى أفيكون كان معروفا عندهم عن النبى خلاف ذلك أم كانوا جهالا بمثل هذا الأمر الذى يشيع ولا يجهله أحد ممن حج مع النبى وفى الصحيحين عن حارثة بن خزاعة قال ( صلينا مع النبى بمنى أكثر ما كنا وآمنه ركعتين ( حارثة هذا
____________________
(24/159)
خزاعى وخزاعة منزلها حول مكة وفى الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع وقال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبى بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بمنى ركعتين فليت حظى من أربع ركعات ركعتين متقبلتين (
واتمام عثمان رضى الله عنه قد قيل انه كان لأنه تأهل بمكة فصار مقيما وفى المسند عن عبد الرحمن بن أبى ذئاب أن عثمان صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال ياأيها الناس انى تأهلت بمكة منذ قدمت وإنى سمعت رسول الله يقول ( من تأهل فى بلد فليصل صلاة مقيم بمكة ثلاثة أيام ويقصر الرابعة ( فإنه يقصر كما فعل النبى وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذاك فإن عثمان كان من المهاجرين وكان المقام بمكة حراما عليهم
وفى الصحيحين ( أن النبى رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وكان عثمان إذا اعتمر يأمر براحلته فتهيأ له فيركب عليها عقب العمرة لئلا يقيم بمكة
____________________
(24/160)
فكيف يتصور أنه يعتقد أنه صار مستوطنا بمكة إلا أن يقال إنه جعل التأهل اقامة لا استيطانا فيقال معلوم أن من أقام بمكة ثلاثة أيام فإنه يقصر كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذلك لكن قد يكون نفس التأهل مانعا من القصر وهذا أيضا بعيد فإن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبى وخلفائه بمنى
وأيضا فالأمراء بعد عثمان من بنى أمية كانوا يتمون اقتداء به ولو كان عذره مختصا به لم يفعلوا ذلك وقيل إنه خشى أن الأعراب يظنون أن الصلاة أربع وهذا أيضا ضعيف فان الأعراب كانوا فى زمن النبى أجهل منهم فى زمن عثمان ولم يتمم الصلاة
وأيضا فهم يرون صلاة المسلمين فى المقام أربع ركعات
وأيضا فظنهم أن السنة فى صلاة المسافر أربع خطأ منهم فلا يسوغ مخالفة السنة ليحصل بالمخالفة ما هو بمثل ذلك وعروة قد قال أن عائشة تأولت كما تأول عثمان وعائشة اخبرت أن الإتمام لا يشق عليها
____________________
(24/161)
أو يكون ذلك كما رآه من رآه لأجل شقة السفر ورأوا أن الدنيا لما اتسعت عليهم لم يحصل لهم من المشقة ما كان يحصل على من كان صلى أربعا كما قد جاء عن عثمان من نهيه عن المتعة التى هي الفسخ ان ذلك كان لأجل حاجتهم إذ ذاك إلى هذه المتعة فتلك الحاجة قد زالت
____________________
(24/162)
باب صلاة الجمعة وقال شيخ الاسلام رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
من أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية إلى من يصل إليه كتابه من المؤمنين والمسلمين من أهل البحرين وغيرهم عامة ولأهل العلم والدين خاصة سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير وأسأله أن يصلى على خيرته من خلقه محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه الذى بعثه بالبينات والهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا
____________________
(24/163)
أما بعد فإن وفدا قدموا من نحو أرضكم فأخبرونا بنحو مما كنا نسمع عن أهل ناحيتكم من الإعتصام بالسنة والجماعة والتزام شريعة الله التى شرعها على لسان رسوله ومجانبة ما عليه كثير من الأعراب من الجاهلية التى كانوا عليها قبل الإسلام من سفك بعضهم دماء بعض ونهب أموالهم وقطيعة الأرحام والإنسلال عن ربقة الإسلام وتوريث الذكور دون الإناث واسبال الثياب والتعزى بعزاء الجاهلية وهو قولهم يالبنى فلان أو يالفلان والتعصب للقبيلة بالباطل وترك ما فرضه الله فى النكاح من العدة ونحوها ثم ما زينه الشيطان لفريق منهم من الأهواء التى باينوا بها عقائد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وخالفوا شريعة الله لهم من الاستغفار للأولين بقوله تعالى { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } ووقعوا فى أصحاب رسول الله بالوقيعة التى لا تصدر ممن وقر الإيمان فى قلبه
فالحمد لله الذى عافانا وإياكم مما ابتلى به كثيرا من خلقه وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا ونسأل الله العظيم المنان بديع السماوات والأرض أن يتمم علينا وعليكم نعمته ويوفقنا وإياكم لما يحب ويرضاه من القول والعمل ويجعلنا من التابعين بإحسان للسابقين الأولين
____________________
(24/164)
وليس هذا ببدع فإن أهل البحرين ما زالوا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل إسلام وفضل قد قدم وفدهم من عبد القيس على رسول الله وفيهم الأشج فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى ( فقالوا يا رسول الله ان بيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر وانا لانصل إليك إلا فى شهر حرام فمرنا بأمر فصل نعمل به ونأمر به من وراءنا فقال ( آمركم بالإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وان تؤدوا خمس ما غنمتم ( ولم يكن قد فرض الحج إذ ذاك وقال للأشج ( ان فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناءة ( قال خلقين تخلقت بهما أو خلقين جبلت عليهما قال ( خلقين جبلت عليهما ( فقال الحمد لله الذى جبلنى على خلقين يحبهما الله
ثم انهم أقاموا الجمعة بأرضهم فأول جمعة جمعت فى الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بجواثى قرية من قرى البحرين
ثم إنهم ثبتوا على الإسلام لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب وقاتل بهم أميرهم العلاء بن
____________________
(24/165)
الحضرمى الرجل الصالح أهل الردة ولهم فى السيرة أخبار حسان فالله سبحانه وتعالى يوفق آخرهم لما وفق له أولهم انه ولى ذلك والقادر عليه
وقد حدثنا بعض الوفد أنهم كانوا يجمعون ببعض أرضكم ثم إن بعض أهل العراق أفتاهم بترك الجمعة فسألناه عن صفة المكان فقال هنالك مسجد مبنى بمدر وحوله أقوام كثيرون مقيمون مستوطنون لا يظعنون عن المكان شتاء ولا صيفا إلا أن يخرجهم أحد بقهر بل هم وآباؤهم واجدادهم مستوطنون بهذا المكان كاستيطان سائر أهل القرى لكن بيوتهم ليست مبنية بمدر إنما هي مبنية بجريد النخل ونحوه
فاعلموا رحمكم الله أن مثل هذه الصورة تقام فيها الجمعة فان كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا تقام فيه الجمعة إذ كان مبنيا بما جرت به عادتهم من مدر وخشب أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك فإن اجزاء البناء ومادته لا تأثير لها فى ذلك إنما الأصل ان يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون فى الغالب مواقع القطر ويتنقلون فى البقاع وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا وهذا مذهب جمهور العلماء
____________________
(24/166)
وبقصة أرضكم احتج الجمهور على أبى حنيفة حيث قال لا تقام الجمعة فى القرى بالحديث المأثور عن بن عباس رضى الله عنهما ( أن أول جمعة جمعت فى الاسلام بعد جمعة المدينة جمعة بالبحرين بقرية يقال لها جواثى من قرى البحرين ( وبأن أبا هريرة رضى الله عنه وكان عامل عمر رضي الله عنه على البحرين فكتب إلى أمير المؤمنين عمر يستأذنه فى إقامة الجمعة بقرى البحرين فكتب إليه عمر أقيموا الجمعة حيث كنتم
ولعل الذين قالوا لكم إن الجمعة لا تقام قد تقلدوا قول من يرى الجمعة لا تقام فى القرى أو اعتقدوا أن معنى قول الفقهاء فى الكتب المختصرة ( إنما تقام بقرية مبنية بناء متصلا أو متقاربا بحيث يشمله اسم واحد فاعتقدوا أن البناء لا يكون إلا بالمدر من طين أو كلس أو حجارة أو لبن وهذا غلط منهم بل قد نص العلماء على أن البناء إنمايعتبر بما جرت به عادة أولئك المستوطنين من أى شيء كان قصب أو خشب ونحوه
ولهذا فالعلماء الأئمة إنما فرقوا بين الأعراب أهل العمد وبين المقيمين بأن أولئك يتنقلون ولا يستوطنون بقعة بخلاف المستوطنين وقد كان قوم من السلف يبنون لهم بيوتا من قصب والنبى صلى الله عليه وسلم سقف مسجده بجريد النخل حتى كان يكف المسجد
____________________
(24/167)
إذا نزل المطر قالوا يا رسول الله لو بنينا لك يعنون بناء مشيدا فقال ( بل عريش كعريش موسى (
وقد نص على مسألتكم بعينها وهى البيوت المصنوعة من جريد أو سعف غير واحد من العلماء منهم أصحاب الإمام أحمد كالقاضى أبى يعلى وأبى الحسن الآمدى وبن عقيل وغيرهم فإنهم ذكروا أن كل بيوت مبنية من آجر أو طين أو حجارة أو خشب أو قصب أو جريد أو سعف فانه تقام عندهم الجمعة وكذلك ذكرها غير واحد من أصحاب الشافعى رضي الله عنهم من الخراسانيين كصاحب ( الوسيط ( فيما أظن ومن العراقيين أيضا أن بيوت السعف تقام فيها الجمعة
وخالف هؤلاء الماوردى فى الحاوي فذكر أن بيوت القصب والجريد لا تقام فيها الجمعة بل تقام فى بيوت الخشب الوثيقة وهذا الفرق ضعيف مخالف لما عليه الجمهور والقياس ولما دلت عليه الآثار وكلام الأئمة فإن أبا هريرة كتب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنهما يسأله عن الجمعة وهو بالبحرين فكتب إليه عمر بن الخطاب ان جمعوا حيثما كنتم وذهب الإمام أحمد إلى حديث عمر هذا
وعن نافع أن بن عمر رضي الله عنهما كان يمر بالمياه التى
____________________
(24/168)
بين مكة والمدينة وهم يجمعون فى تلك المنازل فلا ينكر عليهم فهذا عمر يأمر أهل البحرين بالتجميع حيث استوطنوا مع العلم بإن بعض البيوت تكون من جريد ولم يشترط بناء مخصوصا وكذلك بن عمر أقر أهل المنازل التى بين مكة والمدينة على التجميع ومعلوم انها لم تكن من مدر وإنما هي إما من جريد أو سعف
وقال الإمام احمد ليس على البادية جمعة لأنهم ينتقلون فعلل سقوطها بالإنتقال فكل من كان مستوطنا لا ينتقل باختياره فهو من أهل القرى والفرق بين هؤلاء وبين أهل الخيام من وجهين
أحدهما أن أولئك فى العادة الغالبة لايستوطنون مكانا بعينه وان استوطن فريق منهم مكانا فهم فى مظنة الإنتقال عنه بخلاف هؤلاء المستوطنين الذين يحترثون ويزدرعون ولا ينتقلون إلا كما ينتقل أهل ابنية المدر إما لحاجة تعرض أو ليد غالبة تنقلهم كما تفعله الملوك مع الفلاحين
الثانى أن بيوت أهل الخيام ينقلونها معهم إذا انتقلوا فصارت من المنقول لا من العقار بخلاف الخشب والقصب والجريد فإن أصحابها لا ينقلونها ليبنوا بها فى المكان الذى ينتقلون إليه وإنما يبنون
____________________
(24/169)
فى كل مكان بما هو قريب منه مع أن هذا ليس موضع استقصاء الأدلة فى المسألة وهذه المسألة ( إقامة الجمعة بالقرى ( أول ما ابتدأت من ناحيتكم فلا تقطعوا هذه الشريعة من أرضكم فان الله يجمع لكم جوامع الخير
ثم اعلموا رحمكم الله وجمع لنا ولكم خير الدنيا والآخرة ان الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب وكان قد بعث إلى ذوى أهواء متفرقة وقلوب متشتتة وآراء متباينة فجمع به الشمل وألف به بين القلوب وعصم به من كيد الشيطان
ثم إنه سبحانه وتعالى بين أن هذا الأصل وهو الجماعة عماد لدينه فقال سبحانه { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون }
____________________
(24/170)
قال بن عباس رضى الله عنهما تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة
فانظروا رحمكم الله كيف دعا الله إلى الجماعة ونهى عن الفرقة وقال فى الآية الأخرى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } فبرأ نبيه من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما نهانا عن التفرق والاختلاف بقوله ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ( وقد كره النبى من المجادلة ما يفضي إلى الإختلاف والتفرق فخرج على قوم من أصحابه وهم يتجادلون فى القدر فكأنما فقئ فى وجهه حب الرمان وقال ( أبهذا أمرتم أم إلى هذا دعيتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ( قال عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما فما اغبط نفسى كما غبطتها ألا أكون فى ذلك المجلس روى هذا الحديث أبو داود فى سننه وغيره وأصله فى الصحيحين والحديث المشهور عنه صلى الله عليه وسلم فى السنن وغيرها انه قال ( تفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة
____________________
(24/171)
كلهم فى النار إلا واحدة ( قيل يا رسول الله ومن هي قال ( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابى ( وفى رواية ( هي الجماعة ( وفى رواية ( يد الله على الجماعة ( فوصف الفرقة الناجية بأنهم المستمسكون بسنته وأنهم هم الجماعة
وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا فى الأمر اتبعوا أمر الله تعالى فى قوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وكانوا يتناظرون فى المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة وربما اختلف قولهم فى المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة واخوة الدين نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع
فعائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قد خالفت إبن عباس وغيره من الصحابة فى أن محمدا رأى ربه وقالت ( من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية وجمهور الأمة على قول بن 2 عباس مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضى الله عنها وكذلك أنكرت ان يكون الأموات يسمعون دعاء الحى لما قيل لها أن النبى قال
____________________
(24/172)
ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ( فقالت إنما قال أنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم حق ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال كما ثبت عن رسول الله ( وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه الا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ( 2 صح ذلك عن النبى إلى غير ذلك من الأحاديث وأم المؤمنين تأولت والله يرضى عنها وكذلك معاوية نقل عنه فى أمر المعراج أنه قال إنما كان بروحه والناس على خلاف معاوية رضي الله عنه ومثل هذا كثير
وأما الاختلاف فى ( الأحكام ( فأكثر من أن ينضبط ولو كان كل ما اختلف مسلمان فى شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ولقد كان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان فى أشياء لا يقصدان الا الخير وقد قال النبى لأصحابه يوم بنى قريظة ( لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة فأدركتهم العصر فى الطريق فقال قوم لا نصلى الا فى بنى قريظة وفاتتهم العصر وقال قوم لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا فى الطريق فلم يعب واحدا من الطائفتين ( أخرجاه فى الصحيحين من حديث بن عمر وهذا وإن كان فى الأحكام فما لم
____________________
(24/173)
يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام
وقد قال ( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ( رواه أبو داود من حديث الزبير بن العوام رضى الله عنه
وصح عنه أنه قال ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذى يبدأ بالسلام (
نعم صح عنه أنه هجر كعب بن مالك وصاحبيه رضى الله عنهم لما تخلفوا عن غزوة تبوك وظهرت معصيتهم وخيف عليهم النفاق فهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم حتى أمرهم باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة إلى أن نزلت توبتهم من السماء وكذلك أمر عمر رضي الله عنه المسلمين بهجر صبيغ بن عسل التميمى لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب إلى أن مضى عليه حول وتبين صدقه فى التوبة فأمر المسلمين بمراجعته فبهذا ونحوه
____________________
(24/174)
رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع الداعين إليها والمظهرين للكبائر فأما من كان مستترا بمعصية أو مسرا لبدعة غير مكفرة فان هذا لا يهجر وإنما يهجر الداعى إلى البدعة إذ الهجر نوع من العقوبة وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولا أو عملا
وأما من أظهر لنا خيرا فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى الله تعالى فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبى صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله لما جاؤوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون
ولهذا كان الإمام احمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعى إلى بدعة ولا يجالسونه بخلاف الساكت وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع
والذى أوجب هذا الكلام أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم حتى ذكروا ان الأمر آل إلى قريب المقاتلة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم والله هو المسؤول أن يؤلف بين قلوبنا وقلوبكم ويصلح ذات بيننا ويهدينا سبل السلام ويخرجنا
____________________
(24/175)
من الظلمات إلى النور ويجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويبارك لنا فى اسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا ما أبقانا ويجعلنا شاكرين لنعمه مثنين بها عليه قابليها ويتممها علينا
وذكروا ان سبب ذلك الاختلاف فى ( مسألة رؤية الكفار ربهم ( وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد فالأمر فى ذلك خفيف ( ثم ذكر الجواب وتقدم فى ( كتاب الأسماء والصفات
____________________
(24/176)
وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه فصل
تنازع الناس فى ( صلاة الجمعة والعيدين ( هل تشترط لهما الإقامة أم تفعل فى السفر على ثلاثة أقوال
أحدها من شرطهما جميعا الإقامة فلا يشرعان فى السفر هذا قول الأكثرين وهو مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد فى أظهر الروايتين عنه
والثانى يشترط ذلك فى الجمعة دون العيد وهو قول الشافعى وأحمد فى الرواية الثانية عنه
والثالث لا يشترط لا فى هذا ولا هذا كما يقوله من يقوله من الظاهرية وهؤلاء عمدتهم مطلق الأمر ولقوله ( إذا نودي ) ونحو ذلك وزعموا أنه ليس فى الشرع ما يوجب الاختصاص بالمقيم والذين فرقوا بين الجمعة والعيد قالوا العيد إما نفل وإما فرض على
____________________
(24/177)
الكفاية ولا يسقط به فرض آخر كما تسقط الظهر بالجمعة والنوافل مشروعة للمقيم والمسافر كصلاة الضحى وقيام الليل والسنن الرواتب وكذلك فرض الكفاية كصلاة الجنائز
والصواب بلا ريب هو القول الأول وهو أن ذلك ليس بمشروع للمسافر فإن رسول الله كان يسافر أسفارا كثيرة قد اعتمر ثلاث عمر سوى عمرة حجته وحج حجة الوداع ومعه ألوف مؤلفة وغزا أكثر من عشرين غزاة ولم ينقل عنه أحد قط أنه صلى فى السفر لا جمعة ولا عيدا بل كان يصلي ركعتين ركعتين فى جميع أسفاره ويوم الجمعة يصلي ركعتين كسائر الأيام ولم ينقل عنه أحد قط أنه خطب يوم الجمعة وهو مسافر قبل الصلاة لا وهو قائم على قدميه ولا على راحلته كما كان يفعله فى خطبة العيد ولا على منبر كما كان يخطب يوم الجمعة وقد كان أحيانا يخطب بهم فى السفر خطبا عارضة فينقلونها كما فى حديث عبد الله بن عمرو ولم ينقل عنه قط أحد أنه خطب يوم الجمعة فى السفر قبل الصلاة بل ولا نقل عنه أحد أنه جهر بالقراءة يوم الجمعة ومعلوم أنه لو غير العادة فجهر وخطب لنقلوا ذلك ويوم عرفة خطب بهم ثم نزل فصلى بهم ركعتين ولم ينقل أحد أنه جهر ولم تكن تلك الخطبة للجمعة
____________________
(24/178)
فإنها لو كانت للجمعة لخطب فى غير ذلك اليوم من أيام الجمع وإنما كانت لأجل النسك
ولهذا كان علماء المسلمين قاطبة على انه يخطب بعرفة وان لم يكن يوم جمعة فثبت بهذا النقل المتواتر انها خطبة لأجل يوم عرفة وان لم يكن يوم جمعة لا ليوم الجمعة وكذلك أيضا لم يصل العيد بمنى لا هو ولا أحد من خلفائه الراشدين فقد دخل مكة عام الفتح ودخلها فى شهر رمضان فأدرك فيها عيد الفطر ولم يصل بها يوم العيد صلاة العيد ولم ينقل ذلك مسلم ومن المعلوم أنهم لو كان صلى بهم صلاة العيد بمكة مع كثرة المسلمين معه كانوا أكثر من عشرة آلاف لكان هذا من أعظم ماتتوفر الهمم والدواعى على نقله وكذلك بدر كانت فى شهر رمضان وأدركه يوم العيد فى السفر ولم يصل صلاة عيد فى السفر
وأيضا فانه لم يكن احد يصلي صلاة العيد بالمدينة الا معه كما لم يكونوا يصلون الجمعة الا معه وكان بالمدينة مساجد كثيرة لكل دار من دور الأنصار مسجد ولهم امام يصلي بهم والأئمة يصلون بهم الصلوات الخمس ولم يكونوا يصلون بهم لا جمعة ولا عيدا فعلم أن العيد كان عندهم من جنس الجمعة لا من جنس التطوع المطلق ولا من جنس صلاة الجنازة وقول القائل أن صلاة العيد تطوع ممنوع
____________________
(24/179)
ولو سلم قيل له هذه مخصوصة بخصائص لا يشركها فيها غيرها والسنة مضت بان المسلمين كلهم يجتمعون خلف النبى وخلفائه بعده ولم يكونوا فى سائر التطوع يفعلون هذا وكان يخرج بهم إلى الصحراء ويكبر فيها ويخطب بعدها وهذا مشروع فى كل يوم عيد شريعة راتبة والاستسقاء لم يختص بالصلاة بل كان مرة يستسقى بالدعاء فقط وهو فى المدينة ومرة يخرج إلى الصحراء ويستسقى بصلاة وبغير صلاة حتى أن من العلماء من لم يعرف فى الاستسقاء صلاة كأبي حنيفة فلما كان الاستسقاء يشرع بغير صلاة ولا خطبة ولآحاد الناس لم يلحق بالعيد الذى لا يكون الا بصلاة وخطبة وهو شريعة راتبة ليس مشروعا لأمر عارض كالكسوف والاستسقاء
وأيضا فان على بن أبى طالب لما استخلف للناس من يصلي العيد بالضعفاء فى المسجد الجامع أمره أن يصلي أربع ركعات كما أن من لم يصل الجمعة صلى أربعا ولم يكن الناس يعرفون قبل على ان يصلي أحد العيد الا مع الامام فى الصحراء فاذا كانت سنة رسول الله وخلفائه لم يكن فيها صلاة عيد الا مع الإمام بطل أن يكون بمنزلة ما كانوا يفعلونه وحدانا وجماعة
وأيضا فإن النبى لم يشرعها للنساء بل أمرهن أن يخرجن يوم العيد حتى أمر باخراج الحيض فقالوا له ان لم
____________________
(24/180)
يكن للمرأة جلباب قال ( لتلبسها اختها من جلبابها ( وهذا توكيد لخروجهن يوم العيد مع انه فى الجمعة والجماعة قال ( وبيوتهن خير لهن ( وذلك لأنه كان يمكنهن أن يصلين فى البيوت يوم الجمعة كسائر الأيام فيصلين ظهرا فلو كانت صلاة العيد مشروعة لهن فى البيوت لأغنى ذلك عن توكيد خروجهن
وأيضا لو كان ذلك جائزا لفعله النساء على عهده كما كن يصلين التطوعات فلما لم ينقل أحد أن أحدا من النساء صلى العيد على عهده فى البيت ولا من الرجال بل كن يخرجن بأمره إلى المصلى علم أن ذلك ليس من شرعه
وأيضافعلى بن أبى طالب رضى الله عنه قيل له إن بالمدينة ضعفاء لا يمكنهم الخروج معك فلو استخلفت من يصلي بهم فاستخلف من صلى بهم فلو كان الواحد يفعلها لم يحتج إلى الاستخلاف الذى لم تمض به السنة ودل ما فعله أمير المؤمنين علي على الفرق بين القادر على الخروج إلى المصلى والعاجز عنه فالقادر يخرج والنساء قادرات على الخروج فيخرجن ولا يصلين وحدهن وكذلك من كان من المسافرين فى البلد فانه يمكنهم أن يصلوا مع الامام فلا يصلون وحدهم بإمام بخلاف الجمعة فإنهم اذا لم يصلوها صلوا وحدهم وإذا كانوا فى بيوتهم صلوا بإمام كما يصلون فى الصحراء واما من كان
____________________
(24/181)
يوم العيد مريضا أو محبوسا وعادته يصلي العيد فهذا لا يمكنه الخروج فهؤلاء بمنزلة الذين استخلف على من يصلي بهم فيصلون جماعة وفرادى ويصلون اربعا كما يصلون يوم الجمعة بلا تكبير ولاجهر بالقراءة ولا أذان واقامة لأن العيد ليس له أذان وإقامة فلا يكون فى المبدل عنه بخلاف الجمعة فإن فيها وفى الظهر أذان وإقامة والجمعة كل من فاتته صلى الظهر لأن الظهر واجبة فلا تسقط الا عمن صلى الجمعة فلابد لكل من كان من أهل وجوب الصلاة أن يصلي يوم الجمعة إما الجمعة وإما الظهر ولهذا كان النساء والمسافرون وغيرهم إذا لم يصلوا الجمعة صلوا ظهرا وأما يوم العيد فليس فيه صلاة مشروعة غير صلاة العيد وإنما تشرع مع الإمام فمن كان قادرا على صلاتها مع الإمام من النساء والمسافرين فعلوها معه وهم مشروع لهم ذلك بخلاف الجمعة فإنهم إن شاؤوا صلوها مع الامام وان شاؤوا صلوها ظهرا بخلاف العيد فإنهم إذا فوتوه فوتوه إلى غير بدل فكان صلاة العيد للمسافر والمرأة أوكد من صلاة يوم الجمعة والجمعة لها بدل بخلاف العيد وكل من العيدين إنما يكون فى العام مرة والجمعة تتكرر فى العام خمسين جمعة وأكثر فلم يكن تفويت بعض الجمع كتفويت العيد
ومن يجعل العيد واجبا على الأعيان لم يبعد أن يوجبه على من
____________________
(24/182)
كان فى البلد من المسافرين والنساء كما كان فإن جميع المسلمين الرجال والنساء كانوا يشهدون العيد مع رسول الله والقول بوجوبه على الأعيان أقوى من القول بأنه فرض على الكفاية
وأما قول من قال أنه تطوع فهذا ضعيف جدا فإن هذا مما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم وداوم عليه هو وخلفاؤه والمسلمون بعده ولم يعرف قط دار إسلام يترك فيها صلاة العيد وهو من أعظم شعائر الإسلام وقوله تعالى { ولتكبروا الله على ما هداكم } ونحو ذلك من الأمر بالتكبير فى العيدين أمر بالصلاة المشتملة على التكبير الراتب والزائد بطريق الأولى والأحرى وإذا لم يرخص النبى فى تركه للنساء فكيف للرجال
ومن قال هو فرض على الكفاية قيل له هذا إنما يكون فيما تحصل مصلحته بفعل البعض كدفن الميت وقهر العدو وليس يوم العيد مصلحة معينة يقوم بها البعض بل صلاة يوم العيد شرع لها الإجتماع أعظم من الجمعة فإنه أمر النساء بشهودها ولم يؤمرن بالجمعة بل أذن لهن فيها وقال ( صلاتكن فى بيوتكن خير لكن ( ثم هذه المصلحة بأى عدد تحصل فمهما قدر من ذلك كان تحكما سواء قيل بواحد أو اثنين أو ثلاثة وإذا قيل بأربعين فهو قياس على الجمعة وهو فرض على الأعيان فليس لأحد أن يتخلف عن العيد
____________________
(24/183)
إلا لعجزه عنه وان تخلف عن الجمعة لسفر أو انوثة والله أعلم
وكذلك يحتمل أن يقال بوجوب الجمعة على من فى المصر من المسافرين وان لم يجب عليهم الإتمام كما لو صلوا خلف من يتم فان عليهم الإتمام تبعا للإمام كذلك تجب عليهم الجمعة تبعا للمقيمين كما أوجبها على المقيم غير المستوطن تبعا من أثبت نوعا ثالثا بين المقيم المستوطن وبين المسافر وهو المقيم غير المستوطن فقال تجب عليه ولا تنعقد به وقد بين فى غير هذا الموضع أنه ليس فى كتاب الله ولا سنة رسوله إلا مقيم ومسافر والمقيم هو المستوطن ومن سوى هؤلاء فهو مسافر يقصر الصلاة وهؤلاء تجب عليهم الجمعة لأن قوله { إذا نودي للصلاة } ونحوها يتناولهم وليس لهم عذر ولا ينبغى أن يكون فى مصر المسلمين من لا يصلى الجمعة إلا من هوعاجز عنها كالمريض والمحبوس وهؤلاء قادرون عليها لكن المسافرون لا يعقدون جمعة لكن إذا عقدها أهل المصر صلوا معهم وهذا أولى من إتمام الصلاة خلف الامام المقيم
وكذلك وجوبها على العبد قوى اما مطلقا واما إذا أذن له السيد والمسافر فى المصر لا يصلي على الراحلة وان كان يقصر الصلاة فكذلك الجمعة وإما افطاره فالنبى دخل مكة فى شهر رمضان وكان هو والمسلمون مفطرين وما نقل أنهم أمروا بابتداء
____________________
(24/184)
الصوم فالفطر كالقصر لأن الفطر مشروع للمسافر فى الإقامات التى تتخلل السفر كالقصر بخلاف الصلاة على الراحلة فإنه لا يشرع إلا فى حال السير ولأن الله علق الفطر والقصر بمسمى السفر بخلاف الصلاة على الراحلة فليس فيه لفظ إتمام بل فيه الفعل الذى لا عموم له فهو من جنس الجمع بين الصلاتين الذى يباح للعذر مطلقا كما أن الصلاة على الراحلة تباح للعذر فى السفر فى الفريضة مع العذر المانع من النزول والمتطوع محتاج إلى دوام التطوع وهذا لا يمكن مع النزول والسفر وإذا جاز التطوع قاعدا مع إمكان القيام فعلى الراحلة للمسافر أجوز
وكانوا فى العيد يأخذون من الصبيان من يأخذوه كما شهد بن عباس العيد مع رسول الله ولم يكن قد احتلم وأما من كان عاجزا عن شهودها مع الإمام فهذا أهل أن يفعل ما يقدر عليه فإن الشريعة فرقت فى المأمورات كلها بين القادر والعاجز فالقادر عليها إذا لم يأت بشروطها لم يكن له فعلها والعاجز إذا عجز عن بعض الشروط سقط عنه فمن كان قادرا على الصلاة إلى القبلة قائما بطهارة لم يكن له أن يصلي بدون ذلك بخلاف العاجز فإنه يصلى بحسب حاله كيف ما أمكنه فيصلى عريانا وإلى غير القبلة وبالتيمم إذا لم يمكنه إلا ذلك فهكذا يوم العيد إذا لم يمكنه الخروج مع الإمام سقط عنه ذلك وجوز له أن
____________________
(24/185)
يفعل ما يقدر عليه ليحصل له من العبادة فى هذا اليوم ما يقدر عليه فيصلي أربعا وتكون الركعتان بدل الخطبة التى لم يصل بها كما كانت الخطبة يوم الجمعة قائمة مقام ركعتين والتكبير إنما شرع فى الصلاة الثنائية التى تكون معها خطبة وكذلك الجهر بالقراءة كما أنه فى الجمعة يجهر الإمام فى الثنائية ولا يجهر من يصلي الأربع كذلك يوم العيد لا يجهر من يصلي الأربع فالمحبوس والمريض والذى خرج ليصلى ففاتته الصلاة مع الإمام يصلون يوم العيد بخلاف من تعمد الترك فهذا أصل عظيم مضت به السنة فى الفرق بين الجمعة والعيد وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن فاته العيد هل يصلي أربعا أو ركعتين أو يخير بينهما على ثلاث روايات
____________________
(24/186)
وسئل
عن قوم مقيمين بقرية وهم دون أربعين ماذا يجب عليهم أجمعة أم ظهر
فأجاب أما إذا كان فى القرية أقل من أربعين رجلا فانهم يصلون ظهرا عند أكثر العلماء كالشافعى وأحمد فى المشهور عنه وكذلك أبو حنيفة لكن الشافعى وأحمد وأكثر العلماء يقولون إذا كانوا أربعين صلوا جمعة
____________________
(24/187)
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
عن الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة هل فعله النبى صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة والتابعين والأئمة أم لا وهل هو منصوص فى مذهب من مذاهب الأئمة المتفق عليهم وقول النبى ( بين كل أذانين صلاة ( هل هو مخصوص بيوم الجمعة أم هو عام فى جميع الأوقات
فأجاب رضى الله عنه الحمد لله رب العالمين أما النبى فإنه لم يكن يصلى قبل الجمعة بعد الأذان شيئا ولا نقل هذا عنه أحد فان النبى صلى الله عليه وسلم كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر ويؤذن بلال ثم يخطب النبى الخطبتين ثم يقيم بلال فيصلى النبى بالناس فما كان يمكن أن يصلى بعد الأذان لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه ولا نقل عنه أحد أنه صلى فى بيته قبل الخروج يوم الجمعة ولا وقت بقوله صلاة
____________________
(24/188)
مقدرة قبل الجمعة بل الفاظه فيها الترغيب فى الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت كقوله ( من بكر وابتكر ومشى ولم يركب وصلى ما كتب له (
وهذا هو المأثور عن الصحابة كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر فمنهم من يصلي عشر ركعات ومنهم من يصلى اثنتي عشرة ركعة ومنهم من يصلى ثمان ركعات ومنهم من يصلى أقل من ذلك ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد لأن ذلك إنما يثبت بقول النبى أو فعله وهو لم يسن فى ذلك شيئا لا بقوله ولا فعله وهذا مذهب مالك ومذهب الشافعى وأكثر أصحابه وهو المشهور فى مذهب أحمد
وذهب طائفة من العلماء إلى أن قبلها سنة فمنهم من جعلها ركعتين كما قاله طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد ومنهم من جعلها أربعا كما نقل عن أصحاب أبى حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد وقد نقل عن الامام أحمد ما استدل به على ذلك
وهؤلاء منهم من يحتج بحديث ضعيف ومنهم من يقول هي
____________________
(24/189)
ظهر مقصورة وتكون سنة الظهر سنتها وهذا خطأ من وجهين
( أحدهما ) أن الجمعة مخصوصة باحكام تفارق بها ظهر كل يوم باتفاق المسلمين وان سميت ظهرا مقصورة فإن الجمعة يشترط لها الوقت فلا تقضى والظهر تقضى والجمعة يشترط لها العدد والاستيطان واذن الإمام وغير ذلك والظهر لا يشترط لها شيء من ذلك فلا يجوز أن تتلقى أحكام الجمعة من أحكام الظهر مع اختصاص الجمعة بأحكام تفارق بها الظهر فإنه إذا كانت الجمعة تشارك الظهر فى حكم وتفارقها فى حكم لم يمكن الحاق مورد النزاع باحدهما إلا بدليل فليس جعل السنة من موارد الإشتراك بأولى من جعلها من موارد الإفتراق
( الوجه الثانى ) أن يقال هب أنها ظهر مقصورة فالنبى لم يكن يصلى فى سفره سنة الظهر المقصورة لا قبلها ولا بعدها وإنما كان يصليها إذا أتم الظهر فصلى اربعا فإذا كانت سنته التى فعلها فى الظهر المقصورة خلاف التامة كان ما ذكروه حجة عليهم لا لهم وكان السبب المقتضى لحذف بعض الفريضة أولى بحذف السنة الراتبة كما قال بعض الصحابة لو كنت متطوعا لأتممت الفريضة فانه لو استحب للمسافر أن يصلي أربعا لكانت صلاته للظهر أربعا أولى من أن يصلي ركعتين فرضا وركعتين سنة
____________________
(24/190)
وهذا لأنه قد ثبت بسنة رسول الله المتواترة أنه كان لا يصلى فى السفر الا ركعتين الظهر والعصر والعشاء وكذلك لما حج بالناس عام حجة الوداع لم يصل بهم بمنى وغيرها الا ركعتين وكذلك أبو بكر بعده لم يصل الا ركعتين وكذلك عمر بعده لم يصل الا ركعتين
ومن نقل عن النبى أنه صلى الظهر أو العصر أو العشاء فى السفر أربعا فقد أخطأ والحديث المروى فى ذلك عن عائشة هو حديث ضعيف فى الأصل مع ما وقع فيه من التحريف فان لفظ الحديث أنها قالت للنبى ( افطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال اصبت يا عائشة ( فهذا مع ضعفه وقيام الأدلة على انه باطل روي أن عائشة روت أن النبى كان يفطر ويصوم ويقصر ويتم فظن بعض الأئمة أن الحديث فيه أنها روت الأمرين عن رسول الله وهذا مبسوط فى موضعه
والمقصود هنا أن السنة للمسافر ان يصلى ركعتين والأئمة متفقون على ان هذا هو الأفضل إلا قولا مرجوحا للشافعى وأكثر الأئمة يكرهون التربيع للمسافر كما هو مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد فى أنص الروايتين عنه ثم من هؤلاء من يقول لا يجوز التربيع
____________________
(24/191)
كقول ابى حنيفة ومنهم من يقول يجوز مع الكراهة كقول مالك وأحمد فيقال لو كان الله يحب للمسافر أن يصلى ركعتين ثم ركعتين لكان يستحب له أن يصلي الفرض أربعا فإن التقرب إليه ببعض الظهر أفضل من التقرب إليه بالتطوع مع الظهر ولهذا أوجب على المقيم أربعا فلو أراد المقيم أن يصلي ركعتين فرضا وركعتين تطوعا لم يجز له ذلك والله تعالى لا يوجب عليه وينهاه عن شيء الا والذى أمره به خير من الذى نهاه عنه فعلم أن صلاة الظهر أربعا خير عند الله من أن يصليها ركعتين مع ركعتين تطوعا فلما كان سبحانه لم يستحب للمسافر التربيع بخير الأمرين عنده فلأن لا يستحب التربيع بالأمر المرجوح عنده أولى
فثبت بهذا الاعتبار الصحيح أن فعل رسول الله هو أكمل الأمور وأن هديه خير الهدى وان المسافر إذا اقتصر على ركعتى الفرض كان أفضل له من أن يقرن بهما ركعتى السنة
وبهذا يظهر أن الجمعة إذا كانت ظهرا مقصورة لم يكن من السنة أن يقرن بها سنة ظهر المقيم بل تجعل كظهر المسافر المقصورة وكان النبى صلى الله عليه وسلم يصلي فى السفر ركعتى الفجر والوتر ويصلى على راحلته قبل أى وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه
____________________
(24/192)
لا يصلى عليها المكتوبة وهذا لأن الفجر لم تقصر فى السفر فبقيت سنتها على حالها بخلاف المقصورات فى السفر والوتر مستقل بنفسه كسائر قيام الليل وهو أفضل الصلاة بعد المكتوبة وسنة الفجر تدخل فى صلاة الليل من بعض الوجوه فلهذا كان النبى يصليه فى السفر لاستقلاله وقيام المقتضى له والصواب ان يقال ليس قبل الجمعة سنة راتبة مقدرة ولو كان الأذانان على عهده فإنه قد ثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة ثم قال فى الثالثة لمن شاء ( كراهية أن يتخذها الناس سنة فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الصلاة مشروعة قبل العصر وقبل العشاء الآخرة وقبل المغرب وإن ذلك ليس بسنة راتبة وكذلك قد ثبت أن أصحابه كانوا يصلون بين أذانى المغرب وهو يراهم فلا ينهاهم ولا يأمرهم ولا يفعل هو ذلك فدل على أن ذلك فعل جائز
وقد احتج بعض الناس على الصلاة قبل الجمعة بقوله ( بين كل اذانين صلاة ( وعارضه غيره فقال الأذان الذى على المنائر لم يكن على عهد رسول الله ولكن عثمان أمر به لما كثر الناس على عهده ولم يكن يبلغهم الأذان حين خروجه وقعوده على المنبر ويتوجه أن يقال هذا الأذان لما سنه عثمان
____________________
(24/193)
واتفق المسلمون عليه صار أذانا شرعيا وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثانى جائزة حسنة وليست سنة راتبة كالصلاة قبل صلاة المغرب وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه ومن ترك ذلك لم ينكر عليه وهذا أعدل الأقوال وكلام الامام أحمد يدل عليه
وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يظنون أن هذه سنة راتبة أو أنها واجبة فتترك حتى يعرف الناس أنها ليست سنة راتبة ولا واجبة لا سيما إذا داوم الناس عليها فينبغى تركها أحيانا حتى لا تشبه الفرض كما استحب أكثر العلماء أن لا يداوم على قراءة السجدة يوم الجمعة مع أنه قد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم فعلها فإذا كان يكره المداومة على ذلك فترك المداومة على ما لم يسنه النبى أولى وان صلاها الرجل بين الأذانين احيانا لأنها تطوع مطلق أو صلاة بين الأذانين كما يصلي قبل العصر والعشاء لا لأنها سنة راتبة فهذا جائز وان كان الرجل مع قوم يصلونها فإن كان مطاعا إذا تركها وبين لهم السنة لم ينكروا عليه بل عرفوا السنة فتركها حسن وإن لم يكن مطاعا ورأى أن فى صلاتها تأليفا لقلوبهم إلى ما هو أنفع أو دفعا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم وقبولهم له
____________________
(24/194)
ونحو ذلك فهذا أيضا حسن
فالعمل الواحد يكون فعله مستحبا تارة وتركه تارة باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية والمسلم قد يترك المستحب إذا كان فى فعله فساد راجح على مصلحته كما ترك النبى بناء البيت على قواعد إبراهيم وقال لعائشة ( لولا ان قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه ( والحديث فى الصحيحين فترك النبى هذا الأمر الذى كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما فى ذلك من التنفير لهم فكانت المفسدة راجحة على المصلحة
ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل بأن يسلم فى الشفع ثم يصلي ركعة الوتر وهو يؤم قوما لا يرون الا وصل الوتر فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر ارجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل أو الجهر بها وكان المأمومون على خلاف رأيه
____________________
(24/195)
ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التى هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزا حسنا
وكذلك لو فعل خلاف الأفضل لأجل بيان السنة وتعليمها لمن لم يعلمها كان حسنا مثل أن يجهر بالاستفتاح أو التعوذ أو البسملة ليعرف الناس أن فعل ذلك حسن مشروع فى الصلاة كما ثبت فى الصحيح أن عمر بن الخطاب جهر بالاستفتاح فكان يكبر ويقول ( سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ( قال الأسود بن يزيد صليت خلف عمر أكثر من سبعين صلاة فكان يكبر ثم يقول ذلك رواه مسلم فى صحيحه ولهذا شاع هذا الاستفتاح حتى عمل به أكثر الناس وكذلك كان بن عمر وبن عباس يجهران بالإستعاذة وكان غير واحد من الصحابة يجهر بالبسملة وهذا عند الأئمة الجمهور الذين لا يرون الجهر بها سنة راتبة كان ليعلم الناس أن قراءتها فى الصلاة سنة كما ثبت فى الصحيح أن بن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرا وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس انها سنة وذلك أن الناس فى صلاة الجنازة على قولين
منهم من لا يرى فيها قراءة بحال كما قاله كثير من السلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك
____________________
(24/196)
ومنهم من يرى القراءة فيها سنة كقول الشافعى وأحمد لحديث بن عباس هذا وغيره
ثم من هؤلاء من يقول القراءة فيها واجبة كالصلاة
ومنهم من يقول بل هي سنة مستحبة ليست واجبة وهذا اعدل الأقوال الثلاثة فإن السلف فعلوا هذا وهذا وكان كلا الفعلين مشهورا بينهم كانوا يصلون على الجنازة بقراءة وغير قراءة كما كانوا يصلون تارة بالجهر بالبسملة وتارة بغير جهر بها وتارة باستفتاح وتارة بغير استفتاح وتارة برفع اليدين فى المواطن الثلاثة وتارة بغير رفع اليدين وتارة يسلمون تسليمتين وتارة تسليمة واحدة وتارة يقرؤون خلف الإمام بالسر وتارة لا يقرؤون وتارة يكبرون على الجنازة أربعا وتارة خمسا وتارة 2 سبعا كان فيهم من يفعل هذا وفيهم من يفعل هذا كل هذا ثابت عن الصحابة
كما ثبت عنهم أن منهم من كان يرجع فى الأذان ومنهم من لم يرجع
فيه ومنهم من كان يوتر الاقامة ومنهم من كان يشفعها وكلاهما ثابت عن النبى
____________________
(24/197)
فهذه الأمور وإن كان احدها ارجح من الآخر فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانا لمصلحة راجحة وهذا واقع فى عامة الأعمال فإن العمل الذى هو فى جنسه أفضل قد يكون فى مواطن غيره أفضل منه كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء ثم الصلاة بعد الفجر والعصر منهى عنها والقراءة والذكر والدعاء أفضل منها فى تلك الأوقات وكذلك القراءة فى الركوع والسجود منهى عنها والذكر هناك أفضل منها والدعاء فى آخر الصلاة بعد التشهد أفضل من الذكر وقد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المعين لكونه عاجزا عن الأفضل أو لكون محبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أكثر فيكون أفضل فى حقه لما يقترن به من مزيد عمله وحبه وارادته وانتفاعه كما ان المريض ينتفع بالدواء الذي يشتهيه ما لا ينتفع بما لا يشتهيه وإن كان جنس ذلك أفضل
ومن هذا الباب صار الذكر لبعض الناس فى بعض الأوقات خيرا من القراءة والقراءة لبعضهم فى بعض الأوقات خيرا من الصلاة وأمثال ذلك لكمال انتفاعه به لا لأنه فى جنسه أفضل
____________________
(24/198)
وهذا الباب ( باب تفضيل بعض الأعمال على بعض ( إن لم يعرف فيه التفضيل وأن ذلك قد يتنوع بتنوع الأحوال فى كثير من الأعمال وإلا وقع فيها اضطراب كثير فإن فى الناس من إذا اعتقد استحباب فعل ورجحانه يحافظ عليه ما لا يحافظ على الواجبات حتى يخرج به الأمر إلى الهوى والتعصب والحمية الجاهلية كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور فيراها شعارا لمذهبه
ومنهم من إذا رأى ترك ذلك هو الأفضل يحافظ أيضا على هذا الترك أعظم من محافظته على ترك المحرمات حتى يخرج به الأمر إلى اتباع الهوى والحمية الجاهلية كما تجده فيمن يرى الترك شعارا لمذهبه وأمثال ذلك وهذا كله خطأ
والواجب أن يعطى كل ذى حق حقه ويوسع ما وسعه الله ورسوله ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله ويراعى فى ذلك ما يحبه الله ورسوله من المصالح الشرعية والمقاصد الشرعية ويعلم أن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وان الله بعثه رحمة للعالمين بعثه بسعادة الدنيا والآخرة فى كل أمر من الأمور وأن يكون مع الانسان من التفصيل ما يحفظ به هذا الاجمال وإلافكثير من الناس يعتقد هذا مجملا ويدعه عند التفصيل 2 إما جهلا وإما ظلما وإما اتباعا للهوى فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
____________________
(24/199)
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فصل
وأما السنة بعد الجمعة فقد ثبت فى الصحيحين عن النبى ( أنه كان يصلى بعد الجمعة ركعتين ( كما ثبت عنه فى الصحيحين ( أنه كان يصلى قبل الفجر ركعتين وبعد الظهر ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين (
وأما الظهر ففى حديث بن عمر ( أنه كان يصلى قبلها ركعتين (
وفى الصحيحين عن عائشة ( أنه كان يصلى قبلها أربعا (
وفى الصحيح عن أم حبيبة ان النبى قال ( من صلى فى يوم وليلة ثنتى عشرة ركعة تطوعا غير فريضة بنى الله له بيتا فى الجنة ( وجاء مفسرا فى السنن ( أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر ( فهذه هي السنن الراتبة التى ثبتت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله مدارها على هذه الأحاديث الثلاثة حديث بن عمر وعائشة وأم حبيبة
وكان النبى يقوم بالليل إما احدى عشرة ركعة وإما ثلاث عشرة ركعة فكان مجموع صلاته بالليل والنهار فرضه ونفله نحوا من أربعين ركعة
____________________
(24/200)
والناس فى هذه السنن الرواتب على ثلاثة أقوال
منهم من لا يوقت فى ذلك شيئا كقول مالك فانه لا يرى سنة إلا الوتر وركعتى الفجر وكان يقول إنما يوقت أهل العراق ومنهم من يقدر فى ذلك أشياء بأحاديث ضعيفة بل باطلة كما يوجد فى مذاهب أهل العراق وبعض من وافقهم من أصحاب الشافعى وأحمد فإن هؤلاء يوجد فى كتبهم من الصلوات المقدرة والأحاديث فى ذلك ما يعلم أهل المعرفة بالسنة أنه مكذوب على النبى كمن روى عنه ( أنه صلى قبل العصر أربعا ( أو أنه قضى سنة العصر ( أو ( أنه صلى قبل الظهر ستا ( أو ( بعدها أربعا ( أو ( أنه كان يحافظ على الضحى ( وأمثال ذلك من الأحاديث المكذوبة على النبى
وأشد من ذلك ما يذكره بعض المصنفين فى ( الرقائق والفضائل ( فى الصلوات الأسبوعية والحولية كصلاة يوم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت المذكورة فى كتاب أبي طالب وأبى حامد وعبد القادر وغيرهم وكصلاة ( الألفية ( التى فى أول رجب ونصف شعبان والصلاة ( الاثني عشرية ( التى فى أول ليلة جمعة من رجب والصلاة التى فى ليلة سبع وعشرين من
____________________
(24/201)
رجب وصلوات أخر تذكر فى الأشهر الثلاثة وصلاة ليلتى العيدين وصلاة يوم عاشوراء وأمثال ذلك من الصلوات المروية عن النبى صلى الله عليه وسلم مع اتفاق أهل المعرفة بحديثه أن ذلك كذب عليه ولكن بلغ ذلك أقواما من أهل العلم والدين فظنوه صحيحا فعملوا به وهم مأجورون على حسن قصدهم واجتهادهم لا على مخالفة السنة
وأما من تبينت له السنة فظن أن غيرها خير منها فهو ضال مبتدع بل كافر
والقول الوسط العدل هو ما وافق السنة الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه أنه كان يصلى بعد الجمعة ركعتين وفى صحيح مسلم عنه أنه قال ( من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل بعدها أربعا ( وقد روى الست عن طائفة من الصحابة جمعا بين هذا وهذا
والسنة أن يفصل بين الفرض والنفل فى الجمعة وغيرها كما ثبت عنه فى الصحيح ( أنه نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بقيام أو كلام ( فلا يفعل ما يفعله كثير من الناس يصل السلام بركعتى السنة فان هذا ركوب لنهى النبى صلى الله
____________________
(24/202)
عليه وسلم وفى هذامن الحكمة التمييز بين الفرض وغير الفرض كما يميز بين العبادة وغير العبادة
ولهذا استحب تعجيل الفطور وتأخير السحور والأكل يوم الفطر قبل الصلاة ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين فهذا كله للفصل بين المأمور به من الصيام وغير المأمور به والفصل بين العبادة وغيرها وهكذا تمييز الجمعة التى أوجبها الله من غيرها
وأيضا فإن كثيرا من أهل البدع كالرافضة وغيرهم لا ينوون الجمعة بل ينوون الظهر ويظهرون أنهم سلموا وما سلموا فيصلون ظهرا ويظن الظان أنهم يصلون السنة فإذا حصل التمييز بين الفرض والنفل كان فى هذا منع لهذه البدعة وهذا له نظائر كثيرة والله سبحانه أعلم
____________________
(24/203)
وسئل
عن رجل خرج إلى صلاة الجمعة وقد أقيمت الصلاة فهل يجرى إلى أن يأتى الصلاة أو يأتى هونا ولو فاتته
فأجاب الحمد لله إذا خشى فوت الجمعة فانه يسرع حتى يدرك منها ركعة فأكثر وأما إذا كان يدركها مع المشي وعليه السكينة فهذا أفضل بل هو السنة والله أعلم وسئل
عن الصلاة يوم الجمعة بالسجدة هل تجب المداومة عليها أم لا
فأجاب الحمد لله ليست قراءة ( الم تنزيل ) التى فيها السجدة ولا غيرها من ذوات السجود واجبة فى فجر الجمعة باتفاق الأئمة ومن اعتقد ذلك واجبا أو ذم من ترك ذلك فهو ضال مخطئ يجب عليه
____________________
(24/204)
أن يتوب من ذلك باتفاق الأئمة وإنما تنازع العلماء فى استحباب ذلك وكراهيته فعند مالك يكره أن يقرأ بالسجدة فى الجهر والصحيح أنه لا يكره كقول أبى حنيفة والشافعى وأحمد لأنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه سجد فى العشاء ب ( إذا السماء انشقت ) وثبت عنه فى الصحيحين أنه كان يقرأ فى الفجر يوم الجمعة ( الم تنزيل ( و ( هل أتى ) وعند مالك يكره أن يقصد سورة بعينها وأما الشافعى وأحمد فيستحبون ما جاءت به السنة مثل الجمعة والمنافقين فى الجمعة والذاريات واقتربت فى العيد والم تنزيل وهل أتى فى فجر الجمعة
لكن هنا مسألتان نافعتان
( احداهما ) أنه لا يستحب أن يقرأ بسورة فيها سجدة أخرى باتفاق الأئمة فليس الاستحباب لأجل السجدة بل للسورتين والسجدة جاءت اتفاقا فإن هاتين السورتين فيهما ذكر ما يكون فى يوم الجمعة من الخلق والبعث
( الثانية ) أنه لا ينبغى المداومة عليها بحيث يتوهم الجهال أنها واجبة وأن تاركها مسيء بل ينبغى تركها أحيانا لعدم وجوبها والله أعلم
____________________
(24/205)
وسئل
عمن قرأ ( سورة السجدة ( يوم الجمعة هل المطلوب السجدة فيجزئ بعض السورة والسجدة فى غيرها أم المطلوب السورة
فأجاب الحمد لله بل المقصود قراءة السورتين ( الم تنزيل ) و ( هل أتى على الانسان ) لما فيهما من ذكر خلق آدم وقيام الساعة وما يتبع ذلك فإنه كان يوم الجمعة وليس المقصود السجدة فلو قصد الرجل قراءة سورة سجدة أخرى كره ذلك والنبى صلى الله عليه وسلم يقرأ السورتين كلتاهما فالسنة قراءتهما بكما لهما ولا ينبغى المداومة على ذلك لئلا يظن الجاهل ان ذلك واجب بل يقرأ أحيانا غيرهما من القرآن والشافعى وأحمد اللذان يستحبان قراءتهما وأما مالك وأبو حنيفة فعندهما يكره قصد قراءتهما
____________________
(24/206)
وسئل ( عمن أدرك ركعة من صلاة الجمعة ثم قام ليقضى ما عليه فهل يجهر بالقراءة أم لا
فأجاب بل يخافت بالقراءة ولا يجهر لأن المسبوق إذا قام يقضى فانه منفرد فيما يقضيه حكمه حكم المنفرد وهو فيما يدركه فى حكم المؤتم ولهذا يسجد المسبوق إذا سها فيما يقضيه وإذا كان كذلك فالمسبوق إنما يجهر فيما يجهر فيه المنفرد فمن كان من العلماء مذهبه أن يجهر المنفرد فى العشائين والفجر فانه يجهر إذا قضى الركعتين الأوليين ومن كان مذهبه أن المنفرد لا يجهر فإنه لا يجهر المسبوق عنده والجمعة لا يصليها أحد منفردا فلا يتصور أن يجهر فيها المنفرد والمسبوق كالمنفرد فلا يجهر لكنه مدرك للجمعة ضمنا وتبعا ولا يشترط فى التابع ما يشترط فى المتبوع ولهذا لا يشترط لما يقضيه المسبوق العدد ونحو ذلك
لكن مضت السنة ان من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة فهو مدرك للجمعة كمن أدرك ركعة من العصر قبل ان تغرب الشمس
____________________
(24/207)
ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فانه مدرك وإن كانت بقية الصلاة فعلت خارج الوقت والله أعلم وسئل رحمه الله
عن صلاة الجمعة فى جامع القلعة هل هي جائزة مع أن فى البلد خطبة أخرى مع وجود سورها وغلق أبوابها أم لا
فأجاب نعم يجوز ان يصلي فيها جمعة لأنها مدينة أخرى كمصر والقاهرة ولو لم تكن كمدينة أخرى 2 فاقامة الجمعة فى المدينة الكبيرة فى موضعين للحاجة يجوز عند أكثر العلماء ولهذا لما بنيت بغداد ولها جانبان أقاموا فيها جمعة فى الجانب الشرقى وجمعة فى الجانب الغربى وجوز ذلك أكثر العلماء وشبهوا ذلك بان النبى فى مدينته إلا فى موضع يخرج بالمسلمين فيصلي العيد بالصحراء وكذلك كان الأمر فى خلافة أبى بكر وعمر وعثمان فلما تولى على بن أبى طالب وصار بالكوفة وكان الخلق بها كثيرا قالوا يا أمير المؤمنين ان بالمدينة شيوخا وضعفاء يشق عليهم الخروج إلى الصحراء فاستخلف
____________________
(24/208)
على بن أبى طالب رجلا يصلي بالناس العيد فى المسجد وهو يصلى بالناس خارج الصحراء ولم يكن هذا يفعل قبل ذلك وعلى من الخلفاء الراشدين وقد قال النبى ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ( فمن تمسك بسنة الخلفاء الراشدين فقد أطاع الله ورسوله والحاجة فى هذه البلاد وفى هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم ولا يمكنهم جمعة واحدة إلا بمشقة عظيمة
وهنا وجه ثالث وهو أن يجعل القلعة كأنها قرية خارج المدينة والذى عليه الجمهور كمالك والشافعى وأحمد أن الجمعة تقام فى القرى لأن فى الصحيح عن بن عباس أنه قال ( أول جمعة جمعت في الاسلام بعد جمعة المدينة جمعة ( بجواثى ( قرية من قرى البحرين ( وكان ذلك على عهد رسول الله حين قدم عليه وفد عبد القيس وكذلك كتب عمر بن الخطاب إلى المسلمين يأمرهم بالجمعة حيث كانوا وكان عبد الله بن عمر يمر بالمياه التى بين مكة والمدينة وهم يقيمون الجمعة فلا ينكر عليهم
وأما قول على رضى الله عنه لا جمعة ولا تشريق إلا فى مصر جامع فلو لم يكن له مخالف لجاز أن يراد به أن كل قرية مصر جامع كما أن المصر الجامع يسمى قرية وقد سمى الله مكة قرية بل سماها
____________________
(24/209)
( أم القرى ( بل وما هو أكبر من مكة كما فى قوله ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التى أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ) وسمى مصر القديمة قرية بقوله { واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها } ومثله فى القرآن كثير والله أعلم وسئل رحمه الله
عن رجلين تنازعا فى العيد إذا وافق الجمعة فقال أحدهما يجب أن يصلي العيد ولا يصلي الجمعة وقال الآخر يصليها فما الصواب فى ذلك
فأجاب الحمد لله إذا اجتمع الجمعة والعيد فى يوم واحد فللعلماء فى ذلك ثلاثة أقوال
أحدها أنه تجب الجمعة على من شهد العيد كما تجب سائر الجمع للعمومات الدالة على وجوب الجمعة
والثانى تسقط عن أهل البر مثل أهل العوالى والشواذ لأن عثمان بن عفان أرخص لهم فى ترك الجمعة لما صلى بهم العيد
____________________
(24/210)
والقول الثالث وهو الصحيح أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة لكن على الامام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد وهذا هو المأثور عن النبى وأصحابه كعمر وعثمان وبن مسعود وبن عباس وبن الزبير وغيرهم ولا يعرف عن الصحابة فى ذلك خلاف
وأصحاب القولين المتقدمين لم يبلغهم ما فى ذلك من السنة عن النبى لما اجتمع فى يومه عيدان صلى العيد ثم رخص فى الجمعة وفى لفظ أنه قال ( أيها الناس إنكم قد أصبتم خيرا فمن شاء أن يشهد الجمعة فليشهد فإنا مجمعون (
وأيضا فإنه إذا شهد العيد حصل مقصود الإجتماع ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهدالجمعة فتكون الظهر فى وقتها والعيد يحصل مقصود الجمعة وفى ايجابها على الناس تضييق عليهم وتكدير لمقصود عيدهم وما سن لهم من السرور فيه والانبساط
فإذا حبسوا عن ذلك عاد العيد على مقصوده بالابطال ولأن يوم الجمعة عيد ويوم الفطر والنحر عيد ومن شأن الشارع إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد أدخل احداهما فى الأخرى كما يدخل الوضوء فى الغسل وأحد الغسلين فى الآخر والله أعلم
____________________
(24/211)
وسئل رحمه الله
عن رجل قال إذا جاء يوم الجمعة يوم العيد وصلى العيد إن اشتهى أن يصلي الجمعة وإلا فلا فهل هو فيما قال مصيب أم مخطئ
فأجاب الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إذا اجتمع يوم الجمعة ويوم العيد ففيها ثلاثة أقوال للفقهاء
( أحدها ) أن الجمعة على من صلى العيد ومن لم يصله كقول مالك وغيره ( والثانى ) أن الجمعة سقطت عن السواد الخارج عن المصر كما يروى ذلك عن عثمان بن عفان رضى الله عنه أنه صلى العيد ثم أذن لأهل القرى فى ترك الجمعة واتبع ذلك الشافعى
( والثالث ( أن من صلى العيد سقطت عنه الجمعة لكن ينبغى
____________________
(24/212)
للإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من أحب كما فى السنن عن النبى أنه اجتمع فى عهده عيدان فصلى العيد ثم رخص فى الجمعة
وفى لفظ أنه صلى العيد وخطب الناس فقال ( أيها الناس إنكم قد أصبتم خيرا فمن شاء منكم أن يشهد الجمعة فليشهد فإنا مجمعون ( وهذا الحديث روى فى السنن من وجهين أنه صلى العيد ثم خير الناس فى شهود الجمعة وفى السنن حديث ثالث فى ذلك أن بن الزبير كان على عهده عيدان فجمعهما أول النهار ثم لم يصل الا العصر وذكر أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فعل ذلك وذكر ذلك لابن عباس رضى الله عنه فقال قد أصاب السنة
وهذا المنقول هو الثابت عن رسول الله وخلفائه وأصحابه وهو قول من بلغه من الأئمة كأحمد وغيره والذين خالفوه لم يبلغهم ما فى ذلك من السنن والآثار والله أعلم
____________________
(24/213)
وسئل رحمه الله
عن خطبة بين صلاتين كلاهما فرض لوقتها فى ساعة مشكلة العين واعتبار الشرط فيها كما فى غيرها من هيئة الدين كالظهر والسنن والوقت والقبلة أيضا بالتأذين
فأجاب الحمد لله هذه المسألة قد تنزل على عدة مسائل بعضها متفق عليه وبعضها متنازع فيه
منها إذا اجتمع عيد وجمعة فمن قال إن العيد فرض يقول إن خطبة الجمعة هي خطبة بين صلاتين كلاهما فرض بخلاف خطبة العيد فإنه يقول ليست فرضا
وإما أن تنزل على ما إذا اعتقد جمعتان فى موضع لا تصح فيه جمعتان فإنه تصح الأولى وتبطل الثانية إذا كانا بإذن الإمام فإن أشكل عين السابقة بطلتا جميعا وصلوا ظهرا فالخطبة التى قبل الثانية خطبة بين صلاتين كلاهما فرض إذا كان الإمام قد أذن فى كل منهما
____________________
(24/214)
واعتقدوا أن الجمعة لا تقام عندهم وكلاهما يعتقد أن جمعته فرض
ويمكن أن يريد السائل الفجر والجمعة فان الفجر فرض فى وقتها والجمعة فرض لوقتها وبينهما خطبة هي خطبة الجمعة ومنها خطب الحج فإن خطبة عرفة تكون بين الصلاة بعرفة وبين صلاة المغرب فكلاهما فرض والخطبة يوم النحر تكون بين الفجر والظهر فكلاهما فرض وسئل
هل قراءة الكهف بعد عصر الجمعة جاء فيه حديث أم لا
فأجاب الحمد لله قراءة سورة الكهف يوم الجمعة فيها آثار ذكرها أهل الحديث والفقه لكن هي مطلقة يوم الجمعة ما سمعت أنها مختصة بعد العصر والله أعلم
____________________
(24/215)
وسئل
عن فرش السجادة فى الروضة الشريفة هل يجوز أم لا فأجاب ليس لأحد أن يفرش شيئا ويختص به مع غيبته ويمنع به غيره هذا غصب لتلك البقعة ومنع للمسلمين مما أمر الله تعالى به من الصلاة
والسنة أن يتقدم الرجل بنفسه وأما من يتقدم بسجادة فهو ظالم ينهى عنه ويجب رفع تلك السجاجيد ويمكن الناس من مكانها
هذا مع أن أصل الفرش بدعة لا سيما فى مسجد النبى فإن رسول الله وأصحابه كانوا يصلون على الأرض والخمرة التى كان يصلي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرة ليست بقدر السجادة
قلت فقد نقل بن حزم فى المحلى عن عطاء بن أبى رباح أنه
____________________
(24/216)
لا يجوز الصلاة فى مسجد الا على الأرض ولما قدم عبد الرحمن بن مهدى من العراق وفرش فى المسجد أمر مالك بن أنس بحبسه تعزيرا له حتى روجع فى ذلك فذكر أن فعل هذا فى مثل هذاالمسجد بدعة يؤدب صاحبها
وعلى الناس الانكار على من يفعل ذلك والمنع منه لا سيما ولاة الأمر الذين لهم هنالك ولاية على المسجد فانه يتعين عليهم رفع هذه السجاجيد ولو عوقب أصحابه بالصدقة بها لكان هذا مما يسوغ فى الاجتهاد انتهى وسئل رحمه الله عن قول المؤذن يوم الجمعة وقت دخول الإمام المسجد ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم ورضى الله عن أصحاب رسول الله أجمعين ( وفى دعاءالإمام بعد صعوده على المنبر وفى قول المؤذن بعد الأذان الثانى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت ( أذلك مسنون أو مستحب أو مكروه فى صلاة الجمعة
____________________
(24/217)
فأجاب الحمد لله ليس هذا من سنة رسول الله ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين العلماء لكن تبليغ الحديث فعله من فعله لأمر الناس بالانصات وهو من نوع الخطبة
وأما دعاء الامام بعد صعوده ورفع المؤذنين أصواتهم بالصلاة فهذا لم يذكره العلماء وإنما يفعله من يفعله بلا أصل شرعى
وأما رفع المؤذنين أصواتهم وقت الخطبة بالصلاة وغيرها فهذا مكروه باتفاق الأئمة وسئل
عن رجل مؤذن يقول عند دخول الخطيب إلى الجامع ( إن الله وملائكته يصلون على النبى ) فقال رجل هذا بدعة فما يجب عليه
فأجاب جهر المؤذن بذلك كجهره بالصلاة والترضى عند رقي الخطيب المنبر أو جهره بالدعاء للخطيب والامام ونحو ذلك لم يكن على عهد رسول الله وخلفائه الراشدين ولا استحبه أحد من الأئمة
وأشد من ذلك الجهر بنحو ذلك فى الخطبة وكل ذلك بدعة والله أعلم
____________________
(24/218)
باب صلاة العيدين سئل شيخ الاسلام
هل يتعين قراءة بعينها فى صلاة العيدين وما يقول الإنسان بين كل تكبيرتين
فأجاب الحمد لله مهما قرأ به جاز كما تجوز القراءة فى نحوها من الصلوات لكن إذا قرأ بقاف واقتربت أو نحو ذلك مما جاء فى الأثر كان حسنا
وأما بين التكبيرات فانه يحمد الله ويثنى عليه ويصلي على النبى ويدعو بما شاء هكذا روى نحو هذا العلماء عن عبد الله بن مسعود وان قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر اللهم صل على محمد وعلى آل محمد اللهم اغفر لي وارحمنى كان حسنا وكذلك إن قال الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ونحو ذلك
____________________
(24/219)
وليس فى ذلك شيء مؤقت عن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والله أعلم وسئل
عن صفة التكبير فى العيدين ومتى وقته
فأجاب الحمد لله أصح الأقوال فى التكبير الذى عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد وهذا بإتفاق الأئمة الأربعة
وصفة التكبير المنقول عند أكثر الصحابة قد روى مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ( الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ( وان قال الله أكبر ثلاثا جاز ومن الفقهاء من يكبر ثلاثا فقط ومنهم من يكبر ثلاثا ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
وأما التكبير فى الصلاة فيكبر المأموم تبعا للامام وأكثر الصحابة رضى الله عنهم والأئمة يكبرون سبعا فى الأولى وخمسا فى الثانية
____________________
(24/220)
وإن شاء أن يقول بين التكبيرتين سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر اللهم اغفر لي وارحمنى كان حسنا كما جاء ذلك عن بعض السلف والله أعلم وسئل
هل التكبير يجب فى عيد الفطر أكثر من عيد الأضحى بينوا لنا مأجورين فأجاب أما التكبير فإنه مشروع فى عيد الأضحى بالإتفاق وكذلك هو مشروع فى عيد الفطر عند مالك والشافعى وأحمد وذكر ذلك الطحاوى مذهبا لأبي حنيفة وأصحابه والمشهور عنهم خلافه لكن التكبير فيه هو المأثور عن الصحابة رضوان الله عليهم والتكبير فيه أو كد من جهة أن الله أمر به بقوله { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } والتكبير فيه أوله من رؤية الهلال وآخره انقضاء العيد وهو فراغ الإمام من الخطبة على الصحيح
وأما التكبير فى النحر فهو أوكد من جهة أنه يشرع أدبار الصلوات
____________________
(24/221)
وانه متفق عليه وان عيد النحر يجتمع فيه المكان والزمان وعيد النحر أفضل من عيد الفطر ولهذا كانت العبادة فيه النحر مع الصلاة والعبادة فى ذاك الصدقة مع الصلاة والنحر أفضل من الصدقة لأنه يجتمع فيه العبادتان البدنية والمالية فالذبح عبادة بدنية ومالية والصدقة والهدية عبادة مالية ولأن الصدقة فى الفطر تابعة للصوم لأن النبى فرضها طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ولهذا سن أن تخرج قبل الصلاة كما قال تعالى { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } وأما النسك فانه مشروع فى اليوم نفسه عبادة مستقلة ولهذا يشرع بعد الصلاة كما قال تعالى { فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر } فصلاة الناس فى الأمصار بمنزلة رمي الحجاج جمرة العقبة وذبحهم فى الأمصار بمنزلة ذبح الحجاج هديهم
وفى الحديث الذى فى السنن ( أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر ( وفى الحديث الآخر الذى فى السنن وقد صححه الترمذى ( يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الاسلام وهي أيام أكل وشرب وذكر لله ( ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أن أهل الأمصار يكبرون من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق لهذا الحديث ولحديث آخر رواه الدارقطنى عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم ولأنه إجماع من أكابر الصحابة والله أعلم
____________________
(24/222)
وقال شيخ الاسلام فصل
قال الله تعالى { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } و ( اللام ( إما متعلقة بمذكور أي { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة } كما قال { يريد الله ليبين لكم } أو بمحذوف أي ولتكملوا العدة شرع ذلك
وهذا أشهر لأنه قال { ولعلكم تشكرون } فيجب على الأول أن يقال ويريد لعلكم تشكرون وفيه وهن
لكن يحتج للأول بقوله تعالى فى آية الوضوء ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ولعلكم تشكرون ) فإن آية الصيام وآية الطهارة متناسبتان فى اللفظ والمعنى فقوله ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) بمنزلة قوله ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) وقوله
____________________
(24/223)
{ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } ) كقوله { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون }
والمقصود هنا أن الله سبحانه أراد شرعا التكبير على ما هدانا ولهذا قال من قال من السلف كزيد بن أسلم هو التكبير تكبير العيد واتفقت الأمة على أن صلاة العيد مخصوصة بتكبير زائد ولعله يدخل فى التكبير صلاة العيد كما سميت الصلاة تسبيحا وقياما وسجودا وقرآنا وكما ادخلت صلاتا الجمع فى ذكر الله فى قوله { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } وأريد الخطبة والصلاة بقوله { فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } ويكون لأجل أن الصلاة لما سميت تكبيرا خصت بتكبير زائد كما أن صلاة الفجر لما سميت قرآنا خصت بقرآن زائد وجعل طول القراءة فيها عوضا عن الركعتين فى الصلاة الرباعية وكذلك ( صلاة الليل ( لما سميت قياما بقوله { قم الليل } ) خصت بطول القيام فكان النبى يطيل القيام والركوع والسجود بالليل ما لا يطيله بالنهار ولهذا قال بعض السلف إن التطويل بالليل أفضل وإن تكثير الركوع والسجود بالنهار
____________________
(24/224)
أفضل وكان التكبير أيضا مشروعا فى خطبة العيد زيادة على الخطب الجمعية وكان التكبير أيضا مشروعا عندنا وعند أكثر العلماء من حين اهلال العيد إلى انقضاء العيد إلى آخر الصلاة والخطبة لكن هل يقطعه المؤتم إذا شهد المصلى لكونه مشغولا بعد ذلك بانتظار الصلاة أو يقطعه بالشروع فى الصلاة للاشتغال عنه بعد ذلك بالصلاة والخطبة أو لا يقطعه إلى انقضاء الخطبة فيه خلاف عن أحمد وغيره والصحيح أنه إلى آخر العيد
وقد قال تعالى فى الحج { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } فقيل الأيام المعلومات هي أيام الذبح وذكر اسم الله التسمية على الأضحية والهدى وهو قول مالك فى رواية
وقيل هي أيام العشر وهو المشهور عن أحمد وقول الشافعى وغيره ثم ذكر اسم الله فيها هو ذكره فى العشر بالتكبير عندنا وقيل هو ذكره عند رؤية الهدى واظنه مأثورا عن الشافعى وفى صحيح البخارى أن بن عمر وبن عباس كانا يخرجان إلى السوق فى أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما وفى الصحيح عن أنس أنهم كانوا غداة عرفة وهم ذاهبون من منى إلى عرفة يكبر منهم المكبر فلا ينكر عليه ويلبى الملبى فلا ينكر عليه وفى
____________________
(24/225)
أمثلة الأحاديث المرفوعة مثل قوله فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد وعلى قول أصحابنا يكون ذكر اسم الله على ما رزقهم كقوله { على ما هداكم } وكقوله { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم } وكقوله { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم } إلى قوله { فاذكروني أذكركم }
وعلى القول الآخر يكون مثل قوله { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } وقوله { فاذكروا اسم الله عليها صواف } ويدل عليه قوله { من بهيمة الأنعام } فيدل على ان ( ما ) موصولة لا مصدرية بمعنى على الذى رزقهم من بهيمة الأنعام وكذلك قوله ( { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وعلى قولنا يكون ذكر اسم الله عليها وقت الذبح ووقت السوق بالتلبية عندها وبالتكبير يدل عليه أنه لو أراد مجرد التسمية لم يكن للأضحية بذلك اختصاص فان اسمه مذكور عند كل ذبح لا فرق فى ذلك بين الأضحية وغيرها فما وجب فيها وجب فى غيرها وما لم يجب لم يجب
____________________
(24/226)
وأيضا فإنه لا يكون لقوله { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر } إلى قوله { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله } فجعل اتيانهم إلى المشاعر ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات ولو أراد الأضحية فقط لم يكن للمشاعر بهذا اختصاص فإن الأضحية مشروعة فى جميع الأرض إلا أن هذا الوجه يرد على قولنا بذكر اسم الله فى جميع العشر فى الأمصار فيقال لم خص ذلك بالاتيان إلى المشاعر وقد يحتج به من يرى ذكر الله عند رؤية الهدي لأن الهدى يساق إلى مكة لكن عنده يجوز ذبح الهدى متى وصل فاي فائدة لتوقيته بالأيام المعلومات ويجاب عن هذا بوجهين
أحدهما أن الذبح بالمشاعر أصل وبقية الأمصار تبع لمكة ولهذا كان عيد النحر العيد الأكبر ويوم النحر يوم الحج الأكبر لأنه يجتمع فيه عيد المكان والزمان
الثانى أن ذكر الله هناك على ما رزقهم من الأضحية والهدى جميعا بخلاف غير مكة فإنه ليس فيها الا الأضحية وهى مختصة بالأيام المعلومات فإن الهدى عندنا مؤقت فإذا ساق الهدى لم ينحره إلا عند الإحلال ولا يجوز له أن يحل حتى ينحر هديه كما قال تعالى { حتى يبلغ الهدي محله } وأمر النبى أصحابه فى حجة
____________________
(24/227)
الوداع أن يحلوا إلا من ساق الهدى فلا يحل حتى ينحره وهذا إذا قدم به فى العشر بلا نزاع واما إذا قدم به قبل العشر ففيه روايتان
فإن قيل فإذا كان الكتاب والسنة قد أمرا بذكره فى الأيام المعلومات فهلا شرع التكبير فيها فى أدبار الصلوات كما شرع فى أيام العيد
قيل كما شرع التكبير فى ليلة الفطر إلى حين انقضاء العيد ولم يشرع عقب الصلاة لأن التكبير عقب الصلاة أوكد فاختص به العيد الكبير وأيام العيد خمسة هي أيام الاجتماع كما قال النبى ( يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الاسلام وهى أيام أكل وشرب ( وقد قال تعالى { واذكروا الله في أيام معدودات } وهى أيام التشريق فى المشهور عندنا وقول الشافعى وغيره وفيه قول آخر أنهاأيام الذبح فعلى الأول يكون من ذكر الله فيها التكبير فى أدبار الصلوات والتكبير عند رمى الجمار كما قال النبى ( إنما جعل السعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار لإقامة ذكر الله ( فالذكر فى هذه الآيات مطلق وإن كانت السنة قد جاءت بالتكبير فى عيد النحر فى صلاته وخطبته ودبر صلواته ورمى جمراته والذكر فى آية الصيام يعني بالتكبير على الهداية فهذا
____________________
(24/228)
ذكر الله وتكبير له على الهداية وهناك على الرزق
وقد ثبت عن النبى أنه لما أشرف على خيبر قال ( الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ( وكان يكبر على الأشراف مثل التكبير إذا ركب دابة وإذا علا نشزا من الأرض وإذا صعد على الصفا والمروة وقال جابر ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك ( رواه أبو داود وجاء التكبير مكررا فى الأذان فى أوله وفى آخره والأذان هو الذكر الرفيع وفى أثناء الصلاة وهو حال الرفع والخفض والقيام إليها كما قال ( تحريمها التكبير ( وروى ( أن التكبير يطفئ الحريق (
فالتكبير شرع أيضا لدفع العدو من شياطين الانس والجن والنار التى هي عدو لنا وهذا كله يبين أن التكبير مشروع فى المواضع الكبار لكثرة الجمع أو لعظمة الفعل أو لقوة الحال أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة ليبين أن الله أكبر وتستولى كبرياؤه فى القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار فيكون الدين كله لله ويكون العباد له مكبرون فيحصل لهم مقصودان مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله ومقصود الإستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه ولهذا شرع التكبير ع 4 لى الهداية والرزق والنصر لأن هذه الثلاث
____________________
(24/229)
أكبر ما يطلبه العبد وهى جماع مصالحه والهدى أعظم من الرزق والنصر لأن الرزق والنصر قد لا ينتفع بهما إلا فى الدنيا وأما الهدى فمنفعته فى الآخرة قطعا وهو المقصود بالرزق والنصر فخص بصريح التكبير لأنه أكبر نعمة الحق وذانك دونه فوسع الأمر فيهما بعموم ذكر إسم الله
فجماع هذا أن التكبير مشروع عند كل أمر كبير من مكان وزمان وحال ورجال فتبين أن الله أكبر لتستولى كبرياؤه في القلوب على كبرياء ما سواه ويكون له الشرف على كل شرف قال تعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ( العظمة ازارى والكبرياء ردائى فمن نازعنى واحدا منهما عذبته
ولما قال سبحانه { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } ذكر التكبير والشكر كما فى قوله { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } والشكر يكون بالقول وهو الحمد ويكون بالعمل كما قال تعالى { اعملوا آل داود شكرا } فقرن بتكبير الأعياد الحمد فقيل الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد لأنه قد طلب فيه التكبير والشكر ولهذا روى فى الأثر أنه يقال فيه ( الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا ( ليجمع بين التكبير والحمد حمد الشكر كما جمع
____________________
(24/230)
بين التحميد تحميد الثناء والتكبير فى قوله { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا } فامر بتحميده وتكبيره
ومعلوم أن الكلمات التى هي أفضل الكلام بعد القرآن أربع ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ( وهى شطران فالتسبيح قرين التحميد ولهذا قال النبى ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ( اخرجاه فى الصحيحين عن أبى هريرة
وقال فيما رواه مسلم عن أبى ذر ( أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده (
وفى القرآن { ونحن نسبح بحمدك } { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } فكان النبى يقول فى ركوعه ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ) يتأول القرآن هكذا فى الصحاح عن عائشة فجعل قوله ( سبحانك اللهم وبحمدك ( تأويل { فسبح بحمد ربك } وقد قال تعالى { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار }
____________________
(24/231)
وقال ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد فى السماوات والأرض ( والآثار فى اقترانهما كثيرة
وأما التهليل فهو قرين التكبير كما فى كلمات الأذان الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم بعد دعاء العباد إلى الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فهو مشتمل على التكبير والتشهد أوله وآخره وهو ذكر لله تعالى وفى وسطه دعاء الخلق إلى الصلاة والفلاح فالصلاة هي العمل والفلاح هو ثواب العمل لكن جعل التكبير شفعا والتشهد وترا فمع كل تكبيرتين شهادة وجعل أوله مضاعفا على آخره ففى ( أول ) الأذان يكبر أربعا ويتشهد مرتين والشهادتان جميعا باسم الشهادة وفى آخره التكبير مرتان فقط مع التهليل الذى لم يقترن به لفظ الشهادة ولا الشهادة الأخرى
وهذا والله أعلم بمنزلة الركعتين الأولتين من الصلاة مع الركعتين الأخريين فإن الأولتان فضلتا بقراءة السورة وبالجهر فى القراءة فحصل الفضل فى قدر القراءة ووصفها كما أن الشطر الأول من الأذان فضل فى قدر الذكر وفى وصفه لكن الوصف هنا كون التوحيد قرن به لفظ اشهد ولهذا حذف فى الاقامة عند من يختار إيتارها وهي إقامة بلال ما فضل به من القدر كما يخفض
____________________
(24/232)
من صوت الإقامة لأن هذا المزيد من جنس الأصل فأشبه حذف الركعتين الأخريين فى صلاة المسافر وأما الكلمات الاصول فلم يحذف منها شيء
وهكذا سنة النبى صلى الله عليه وسلم فى قيام الليل وصلاة الكسوف وغيرهما تطويل أول العبادة على آخرها لأسباب تقتضى ذلك
وكما جمع بين التكبير والتهليل فى الأذان جمع بينهما فى تكبير الاشراف فكان على الصفا والمروة وإذا علا شرفا فى غزوة أو حجة أو عمرة يكبر ثلاثا ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الاحزاب وحده ( يفعل ذلك ثلاثا وهذا فى الصحاح وكذلك على الدابة كبر ثلاثا وهلل ثلاثا فجمع بين التكبير والتهليل وكذلك حديث عدى بن حاتم الذى رواه أحمد والترمذى فيه أن النبى قال ( له يا عدى ما يفرك ايفرك ان يقال لا إله إلا الله فهل تعلم من إله إلا الله يا عدى ما يفرك أيفرك أن يقال الله أكبر فهل من شيء أكبر من الله ( فقرن النبى بين التهليل والتكبير
____________________
(24/233)
وفى صحيح مسلم حديث أبى مالك الأشعرى عن النبى أنه قال ( الطهور شطر الايمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو قال تملأ ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ( فأخبر أنه يملأ ما بين السماء والأرض وهذا أعظم من ملئه للميزان
وفى الحديث الذى فى الموطأ حديث طلحة بن عبد الله بن كريز أن النبى قال ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ( فجمع فى هذا الحديث بين ( أفضل الدعاء وأفضل الثناء فان الذكر نوعان دعاء وثناء فقال أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت هذا الكلام ( ولم يقل أفضل ما قلت يوم عرفة هذا الكلام وإنما هو أفضل ما قلت مطلقا وكذلك فى حديث رواه بن ابى الدنيا ( أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله (
وأيضا ففي الصحيح عن أبى هريرة عن النبى انه قال ( الايمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها اماطة الأذى عن الطريق ( فقد صرح بان أعلى شعب
____________________
(24/234)
الإيمان هي هذه الكلمة
وأيضا ففي صحيح مسلم أن النبى قال ( يا أبى أتدري أى آية فى كتاب الله أعظم قال { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فقال رسول الله ليهنك العلم أبا المنذر ( فاخبر فى هذا الحديث الصحيح أنها أعظم آية فى القرآن وفى ذاك أنها أعلا شعب الإيمان وهذا غاية الفضل فإن الأمر كله مجتمع فى القرآن والإيمان فإذا كانت أعظم القرآن واعلا الإيمان ثبت لها غاية الرجحان
وأيضا فإن التوحيد أصل الإيمان وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار وهو ثمن الجنة ولا يصح اسلام أحد إلا به ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وكل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء فمنزلته منزلة الأصل ومنزلة التحميد والتسبيح منزلة الفرع
وأيضا فإنه مشروع على وجه التعظيم والجهر وعند الأمور العظيمة مثل الأذان الذى ترفع به الأصوات وعند الصعودعلى الأماكن العالية لما فى ذلك من العلو والرفعة ويجهر بالتكبير فى الصلوات وهو المشروع فى الأعياد
____________________
(24/235)
وقال جابر ( كنا مع رسول الله إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك ( رواه أبو داود وغيره فبين أن التكبير مشروع عند العلو من الأمكنة والأفعال كما فى الصلاة والأذان والتسبيح مشروع عند الإنخفاض فى الأمكنة والأفعال كما فى السجود والركوع ولهذا كانت السنة فى التسبيح الإخفاء حين شرع فلم يشرع من الجهر به والإعلان ما شرع من ذلك فى التكبير والتهليل ومعلوم أن الزيادة فى وصف الذكر إنما هو للزيادة فى أمره
وأما حديث أبى ذر ( أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده ( فيشبه والله أعلم أن يكون هذا فى الكلام الذى لا يسن فيه الجهر كما فى الركوع والسجود ونحوه ولا يلزم ان يكون أفضل مطلقا بدليل أن قراءة القرآن أفضل من الذكر وقد نهى النبى عنها فى الركوع والسجود وقال اني نهيت أن اقرأ القرآن راكعا أو ساجدا أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فى الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (
وهنا أصل ينبغي أن نعرفه وهو أن الشيء إذا كان أفضل من حيث الجملة لم يجب أن يكون أفضل فى كل حال ولا لكل أحد بل
____________________
(24/236)
المفضول فى موضعه الذى شرع فيه أفضل من الفاضل المطلق كما أن التسبيح فى الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن ومن التهليل والتكبير والتشهد فى آخر الصلاة والدعاء بعده أفضل من قراءة القرآن وهذا كما قال النبى ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فإن كانوا فى القراءة سواء فاعلمهم بالسنة فإن كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا فى الهجرة سواء فاقدمهم سنا أو إسلاما ( ثم اتبع ذلك بقوله ( ولا يؤمن الرجل فى سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا باذنه ) فذكر الأفضل فالأفضل فى الإمامة ثم بين أن صاحب المرتبة ذو السلطان مثل الإمام الراتب كأمير الحرب فى العهد القديم وكأئمة المساجد ونحوهم مقدمون على غيرهم وإن كان غيرهم أفضل منهم وهذا كما أن الذهب أفضل من الحديد والنورة وقد تكون هذه المعادن مقدمة على الذهب عند الحاجة اليها دونه وهذا ظاهر
وكذلك أيضا أكثر الناس يعجزون عن أفضل الأعمال فلو أمروا بها لفعلوها على وجه لا ينتفعون به أو ينتفعون انتفاعا مرجوحا فيكون فى حق أحد هؤلاء العمل الذى يناسبه وينتفع به أفضل له مما ليس كذلك ولهذا يكون الذكر لكثير من الناس أفضل من قراءة القرآن لأن الذكر يورثه الإيمان والقرآن يورثه العلم والعلم بعد الايمان قال الله تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا }
____________________
(24/237)
العلم درجات والقرآن يحتاج إلى فهم وتدبر وقد يكون عاجزا عن ذلك لكن هؤلاء يغلطون فيعتقد أحدهم أن الذكر أفضل مطلقا وليس كذلك بل قراءة القرآن فى نفس الأمر أفضل من الذكر باجماع المسلمين قال النبى ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ( رواه مسلم وقال له رجل إنى لا أستطيع أن أحمل من القرآن شيئا فعلمنى ما يجزئنى فى صلاتى فقال ( قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ( ولهذا كان العلماء على أن الذكر فى الصلاة بدل عن القراءة لا يجوز الانتقال إليه إلا عند العجز عن القراءة بمنزلة التيمم مع الوضوء وبمنزلة صيام الشهرين مع العتق والصيام مع الهدى
وفى الحديث الذي فى الترمذى ( ما تقرب العباد إلى الله بإفضل مما خرج منه ( يعنى القرآن وفى حديث بن عباس الذى رواه أبو داود والترمذى وصححه عن النبى قال ( ان لله أهلين من الناس قيل من هم يا رسول الله قال أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ( وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقدم أهل القرآن فى المواطن كما قدمهم يوم أحد فى القبور فأذن لهم أن يدفنوا الرجلين والثلاثة فى القبر الواحد وقال قدموا إلى القبلة أكثرهم قرآنا
____________________
(24/238)
فقول النبى فى حديث أبى ذر لما سئل أي الكلام أفضل ( فقال سبحان الله وبحمده ( هذا خرج على سؤال سائل فربما علم من حال السائل حالا مخصوصة كما أنه لما قال ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله ( إلى آخره أراد بذلك من الذكر لا من القراءة فإن قراءة القرآن أفضل من جنس الذكر من حيث الجملة وإن كان هذا الكلام قد يكون أفضل من القراءة كما أن الشهادتين فى وقت الدخول فى الاسلام أو تجديده أو عندما يقتضى ذكرهما مثل عقب الوضوء ودبر الصلاة والأذان وغير ذلك أفضل من القراءة وكذلك فى موافقة المؤذن فإنه إذا كان يقرأ وسمع المؤذن فإن موافقته فى ذكر الأذان أفضل له حينئذ من القراءة حتى يستحب له قطع القراءة لأجل ذلك لان هذا وقت هذه العبادة يفوت بفوتها والقراءة لا تفوت
فنقول الأحوال ثلاثة حال يستحب فيها الإسرار ويكره فيها الجهر لأنها حال انخفاض كالركوع والسجود فهنا التسبيح أفضل من التهليل والتكبير وكذلك فى بطون الأودية وأما ما السنة فيه الجهر والإعلان كالاشراف والأذان فالسنة فيه التهليل والتكبير وأما ما يشرع فيه الأمران فقد يكون هذا
____________________
(24/239)
فصل
وإذا عرف أن التحميد قرين التسبيح وان التهليل قرين التكبير ففي تكبير الأعياد جمع بين القرينين فجمع بين التكبير والتهليل وبين التكبير والتحميد لقوله { ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } فإن الهداية اقتضت التكبير عليها فضم إليه قرينه وهو التهليل والنعمة اقتضت الشكر عليها فضم إليه أيضا التحميد وهذا كما ان ركوب الدابة لما اجتمع فيه أنه شرف من الإشراف وانه موضع نعمة كان النبى صلى الله عليه وسلم يجمع عليها بين الأمرين فانه قال سبحانه { لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } فأمر بذكر نعمة الله عليه وذكرها بحمدها وأمر بالتسبيح الذى هو قرين الحمد فكان النبى صلى الله عليه وسلم لما أتى بالدابة فوضع رجله فى الغرز قال { بسم الله } فلما استوى على ظهرها قال { الحمد لله } ثم قال { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } ثم ( حمد ثلاثا وكبر ثلاثا ( ثم قال ( لا إله إلا أنت
____________________
(24/240)
سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك وقال ضحكت من ضحك الرب إذا قال العبد ذلك يقول الله علم عبدي انه لا يغفر الذنوب غيري (
فذكر بعد ذلك ذكر الأشراف وهو التكبير مع التهليل وختمه بالاستغفار لأنه مقرون بالتوحيد كما قد رتب اقتران الاستغفار بالتوحيد فى غير موضع كقوله { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } وقوله { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم } وقوله { فاستقيموا إليه واستغفروه } فكان ذكره على الدابة مشتملا على الكلمات الأربع الباقيات الصالحات مع الاستغفار
فهكذا ذكر الأعياد اجتمع فيه التعظيم والنعمة فجمع بين التكبير والحمد فالله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا وقد روى عن بن عمر انه كان يكبر ثلاثا ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فيشبهه بذكر الاشراف فى تثليثه وضم التهليل إليه وهذا اختيار الشافعي وأما أحمد وأبو حنيفة وغيرهما فاختاروا فيه ما رووه عن طائفة
____________________
(24/241)
من الصحابة ورواه الدارقطنى من حديث جابر مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ) فيشفعونه مرتين ويقرنون به فى إحداهما التهليل وفى الأخرى الحمد تشبيها له بذكر الأذان فإن هذا به أشبه لأنه متعلق بالصلاة ولأنه فى الأعياد التى يجتمع فيها اجتماعا عاما كما أن الأذان لاجتماع الناس فشابه الأذان فى أنه تكبير اجتماع لا تكبير مكان وانه متعلق بالصلاة لا بالشرف فشرع تكريره كما شرع تكرير تكبير الأذان وهو فى كل مرة مشفوع وكل المأثور
حسن ومن الناس من يثلثه أول مرة ويشفعه ثانى مرة وطائفة من الناس تعمل بهذا
وقاعدتنا فى هذا الباب أصح القواعد إن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك بل يشرع ذلك كله كما قلنا فى أنواع صلاة الخوف وفى نوعى الأذان الترجيع وتركه ونوعى الاقامة شفعها وإفرادها وكما قلنا فى أنواع التشهدات وأنواع الاستفتاحات وأنواع الإستعاذات وأنواع القراءات وأنواع تكبيرات العيد الزوائد وأنواع صلاة الجنازة وسجود السهو والقنوت قبل الركوع وبعده والتحميد باثبات الواو
____________________
(24/242)
وحذفها وغير ذلك لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات ويفضل على بعض اذا قام دليل يوجب التفضيل ولا يكره الآخر
ومعلوم أنه لا يمكن المكلف ان يجمع فى العبادة المتنوعة بين النوعين فى الوقت الواحد لا يمكنه أن يأتى بتشهدين معا ولا بقراءتين معا ولا بصلاتى خوف معا وان فعل ذلك مرتين كان ذلك منهيا عنه فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة ومكروه أخرى ولا تنظر إلى من قد يستحب الجمع فى بعض ذلك مثل ما رأيت بعضهم قد لفق ألفاظ الصلوات على النبى المأثورة عن النبى واستحب فعل ذلك الدعاء الملفق وقال فى حديث أبى بكر الصديق المتفق عليه لما قال للنبى صلى الله عليه وسلم علمنى دعاء أدعو به فى صلاتى فقال ( قل اللهم اني ظلمت نفسى ظلما كبيرا وفى رواية كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم ( فقال يستحب ان يقول كثيرا كبيرا وكذلك يقول فى أشباه هذا فإن هذا ضعيف فإن هذا أولا ليس سنة بل خلاف المسنون فإن النبى لم يقل ذلك جميعه جميعا وإنما كان يقول هذا تارة وهذا تارة إن كان الأمران ثابتين عنه فالجمع بينهما ليس سنة بل بدعة وإن كان جائزا
____________________
(24/243)
الثانى أن جمع ألفاظ الدعاء والذكر الواحد على وجه التعبد مثل جمع حروف القراء كلهم لا على سبيل الدرس والحفظ لكن على سبيل التلاوة والتدبر مع تنوع المعانى مثل أن يقرأ فى الصلاة { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } { بما كانوا يكذبون } { ربنا باعد بين أسفارنا } بعد بين أسفارنا { وما الله بغافل عما تعملون } عما يعملون ويضع عنهم إصرهم ( آصارهم ) ( وأرجلكم إلى الكعبين ) ( وأرجلكم ) ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) ( حتى يطهرن ) ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الا أن يخافا ) ( الا أن يخافا ) ( أو لامستم النساء ) ( أو لمستم ) ومعلوم ان هذا بدعة مكروهة قبيحة
الثالث ان الاذكار المشروعة أيضا لو لفق الرجل له تشهدا من التشهدات المأثورة فجمع بين حديث إبن مسعود وو صلواته وبين زاكيات تشهد عمر ومباركات بن عباس بحيث يقول التحيات لله والصلوات والطيبات والمباركات والزاكيات لم يشرع له ذلك ولم يستحب فغيره أولى بعدم الاستحباب
____________________
(24/244)
الرابع ان هذا إنما يفعله من ( ذهب ) إلى كثرة الحروف والألفاظ وقد ينقص 2 المعنى أو يتغير بذلك ولو تدبر القول لعلم أن كل واحد من المأثور يحصل المقصود وإن كان بعضها يحصله أكمل فإنه إذا قال ظلما كثيرا فمتى كثر فهو كبير فى المعنى ومتى كبر فهو كثير فى المعنى
وإذا قال ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ( أو قال ( اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ( فأزواجه وذريته من آله بلا شك أو هم آله فإذا جمع بينهما وقال ( على آل محمد وعلى أزواجه وذريته ( لم يكن قد تدبر المشروع فالحاصل أن أحد الذكرين ان وافق الآخر فى أصل المعنى كان كالقراءتين اللتين معناهما واحد وان كان المعنى متنوعا كان كالقراءتين المتنوعتى المعنى وعلى التقديرين فالجمع بينهما فى وقت واحد لا يشرع
وأما الجمع فى صلوات الخوف أو التشهدات أو الاقامة أو نحو ذلك بين نوعين فمنهى عنه باتفاق المسلمين وإذا كانت هذه العبادات القولية أو الفعلية لابد من فعلها على بعض الوجوه كما لابد من قراءة القرآن على بعض القراءات لم يجب أن يكون كل من فعل ذلك على بعض الوجوه إنما يفعله على الوجه الأفضل عنده أو قد لا يكون
____________________
(24/245)
فيها أفضل وإنما ذلك بمنزلة الطرق إلى مكة فكل أهل ناحية يحجون من طريقهم وليس اختيارهم لطريقهم لأنها أفضل بحيث يكون حجهم أفضل من حج غيرهم بل لأنه لابد من طريق يسلكونها فسلكوا هذه اما ليسرها عليهم وإما لغير ذلك وإن كان الجميع سواء فينبغى أن يفرق بين اختيار بعض الوجوه المشروعة لفضله فى نفسه عند مختاره وبين كون اختيار واحد منها ضرورى والمرجح له عنده سهولته عليه أو غير ذلك
والسلف كان كل منهم يقرأ ويصلي ويدعو ويذكر على وجه مشروع وأخذ ذلك الوجه عنه أصحابه وأهل بقعته وقد تكون تلك الوجوه سواء وقد يكون بعضها أفضل فجاء فى الخلف من يريد أن يجعل اختياره لما اختاره لفضله فجاء الآخر فعارضه فى ذلك ونشأ من ذلك اهواء مردية مضلة فقد يكون النوعان سواء عند الله ورسوله فترى كل طائفة طريقها أفضل وتحب من يوافقها على ذلك وتعرض عمن يفعل ذلك الآخر فيفضلون ما سوى الله بينه ويسوون ما فضل الله بينه وهذا باب من أبواب التفرق والاختلاف الذى دخل على الأمة وقد نهى عنه الكتاب والسنة وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن عين هذا الاختلاف فى الحديث الصحيح كما قررت مثل ذلك فى { الصراط المستقيم } حيث قال اقرأوا كما علمتم
____________________
(24/246)
فالواجب ان هذه الأنواع لا يفضل بعضها على بعض الا بدليل شرعي لا يجعل نفس تعيين واحد منها لضرورة أداء العبادة موجبا لرجحانه فإن الله إذا أوجب علي عتق رقبة أو صلاة جماعة كان من ضرورة ذلك أن أعتق رقبة وأصلي جماعة ولا يجب أن تكون أفضل من غيرها بل قد لا تكون أفضل بحال فلابد من نظر فى الفضل ثم إذا فرض ان الدليل الشرعى يوجب الرجحان لم يعب على من فعل الجائز ولا ينفر عنه لأجل ذلك ولا يزاد الفضل على مقدار ما فضلته الشريعة فقد يكون الرجحان يسيرا
لكن هنا مسألة تابعة وهو أنه مع التساوي أو الفضل ايما أفضل للانسان المداومة على نوع واحد من ذلك أو أن يفعل هذا تارة وهذا تارة كما كان النبى يفعل فمن الناس من يداوم على نوع من ذلك مختارا له أو معتقدا انه أفضل ويرى أن مداومته على ذلك النوع أفضل وأما أكثرهم فمداومته عادة ومراعاة لعادة أصحابه وأهل طريقته لا لاعتقاد الفضل
والصواب أن يقال التنوع فى ذلك متابعة للنبى فان فى هذا اتباعا للسنة والجماعة وإحياء لسنته وجمعا بين قلوب الأمة وأخذا بما فى كل واحد من الخاصة أفضل من المداومة على نوع معين لم يداوم عليه النبى لوجوه
____________________
(24/247)
أحدها أن هذا هو اتباع السنة والشريعة فإن النبى صلى الله عليه وسلم إذا كان قد فعل هذا تارة وهذا تارة ولم يداوم على احدهما كان موافقته فى ذلك هو التأسي والاتباع المشروع وهو أن يفعل ما فعل على الوجه الذى فعل لأنه فعله
الثانى أن ذلك يوجب إجتماع قلوب الأمة وائتلافها وزوال كثرة التفرق والاختلاف والاهواء بينها وهذه مصلحة عظيمة ودفع مفسدة عظيمة ندب الكتاب والسنة إلى جلب هذه ودرء هذه قال الله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وقال تعالى { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقال تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء }
الثالث أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن ان يشبه بالواجب فان المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب ولهذا أكثر هؤلاء المداومين على بعض الأنواع الجائزة أو المستحبة لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه وقلب غيره أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات لأجل العادة التى جعلت الجائز كالواجب
الرابع إن فى ذلك تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع فان كل نوع لابد له من خاصة وان كان مرجوحا فكيف إذا كان
____________________
(24/248)
مساويا وقد قدمنا ان المرجوح يكون راجحا فى مواضع
الخامس أن فى ذلك وضعا لكثير من الآصار والأغلال التى وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله ولا أثاره من علم فإن مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحا له على غيره ترجيحا يحب من يوافقه عليه ولا يحب من لم يوافقه عليه بل ربما ابغضه بحيث ينكر عليه تركه له ويكون ذلك سببا لترك حقوق له وعليه يوجب ان ذلك يصير إصرا عليه لا يمكنه تركه وغلا فى عنقه يمنعه أن يفعل بعض ما أمر به وقد يوقعه فى بعض ما نهى عنه
وهذا القدر الذى قد ذكرته واقع كثيرا فإن مبدأ المداومة على ذلك يورث اعتقادا ومحبة غير مشروعين ثم يخرج إلى المدح والذم والأمر والنهى بغير حق ثم يخرج ذلك إلى نوع من الموالاة والمعاداة غير المشروعين من جنس اخلاق الجاهلية كأخلاق الأوس والخزرج فى الجاهلية وأخلاق
ثم يخرج من ذلك إلى العطاء والمنع فيبذل ماله على ذلك عطية ودفعا وغير ذلك من غير استحقاق شرعى ويمنع من أمر الشارع
____________________
(24/249)
باعطائه إيجابا أو إستحبابا ثم يخرج من ذلك إلى الحرب والقتال كما وقع فى بعض أرض المشرق ومبدأ ذلك تفضيل مالم تفضله الشريعة والمداومة عليه وان لم يعتقد فضله سبب لاتخاذه فاضلا اعتقادا وارادة فتكون المداومة 2 على ذلك إما منهيا عنها وإما مفضولة والتنوع فى المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول أفضل وأكمل
السادس ان فى المداومة على نوع دون غيره هجران لبعض المشروع وذلك سبب لنسيانه والإعراض عنه حتى يعتقد أنه ليس من الدين بحيث يصير فى نفوس كثير من العامة انه ليس من الدين وفى نفوس خاصة هذه العامة عملهم مخالف علمهم فإن علماءهم يعلمون أنه من الدين ثم يتركون بيان ذلك إما خشية من الخلق وإما اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا من الرئاسة والمال كما كان عليه أهل الكتاب كما قد رأينا من تعود أن لا يسمع اقامة الا موترة أو مشفوعة فإذا سمع الإقامة الأخرى نفر عنها وانكرها ويصير كأنه سمع أذانا ليس اذان المسلمين وكذلك من اعتاد القنوت قبل الركوع أو بعده
وهجران بعض المشروع سبب لوقوع العداوة والبغضاء بين الأمة قال الله تعالى { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة }
____________________
(24/250)
فأخبر سبحانه ان نسيانهم حظا مما ذكروا به سبب لإغراء العداوة والبغضاء بينهم فإذا اتبع الرجل جميع المشروع المسنون واستعمل الأنواع المشروعة هذا تارة وهذا تارة كان قد حفظت السنة علما وعملا وزالت المفسدة المخوفة من ترك ذلك
ونكته هذا الوجه انه وان جاز الاقتصار على فعل نوع لكن حفظ النوع الآخر من الدين ليعلم انه جائز مشروع وفى العمل به تارة حفظ للشريعة وترك ذلك قد يكون سببا لإضاعته ونسيانه
السابع ان الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل التسوية بين المتماثلين وحرم الظلم على نفسه وجعله محرما بين عباده ومن أعظم العدل العدل فى الأمور الدينية فإن العدل فى أمر الدنيا من الدماء والأموال كالقصاص والمواريث وإن كان واجبا وتركه ظلم فالعدل فى أمر الدين أعظم منه وهو العدل بين شرائع الدين وبين أهله
فإذا كان الشارع قد سوى بين عملين أو عاملين كان تفضيل احدهما من الظلم العظيم وإذا فضل بينهما كانت التسوية كذلك والتفضيل أو التسوية بالظن وهوى النفوس من جنس دين الكفار فإن جميع أهل الملل والنحل يفضل أحدهم دينه إما ظنا وإما هوى اما اعتقادا واما اقتصادا وهو سبب التمسك به وذم غيره
____________________
(24/251)
فإذا كان رسول الله قد شرع تلك الأنواع إما بقوله وإما بعمله وكثير منها لم يفضل بعضها على بعض 2 كانت التسوية بينها من العدل والتفضيل من الظلم وكثير مما تتنازع الطوائف من الأمة فى تفاضل أنواعه لا يكون بينها تفاضل بل هي متساوية وقد يكون ما يختص به أحدهما مقاوما لما يختص به الآخر ثم تجد أحدهم يسأل أيما أفضل هذا أو هذا وهى مسألة فاسدة فان السؤال عن التعيين فرع ثبوت الأصل فمن قال ان بينهما تفاضلا حتى نطلب عين الفاضل
والواجب أن يقال هذان متماثلان أو متفاضلان وإن كانا متفاضلين فهل التفاضل مطلقا أو فيه تفصيل بحيث يكون هذا أفضل فى وقت وهذاأفضل فى وقت ثم إذا كانت المسألة كما ترى فغالب الأجوبة صادرة عن هوى وظنون كاذبة خاطئة ومن أكبر أسباب ذلك المداومة على ما لم تشرع المداومة عليه والله أعلم
____________________
(24/252)
وسئل رحمه الله تعالى
هل التهنئة فى العيد وما يجرى على ألسنة الناس ( عيدك مبارك ( وما أشبهه هل له أصل فى الشريعة أم لا وإذا كان له أصل فى الشريعة فما الذي يقال أفتونا مأجورين
فأجاب أما التهنئة يوم العيد يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد تقبل الله منا ومنكم وأحاله الله عليك ونحو ذلك فهذا قد روى عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ورخص فيه الأئمة كأحمد
وغيره لكن قال أحمد أنا لا أبتدىء أحدا فإن ابتدأني أحد أجبته وذلك لأن جواب التحية واجب وأما الابتداء بالتهنئة فليس سنة مأمورا بها ولا هو أيضا مما نهى عنه فمن فعله فله قدوة ومن تركه فله قدوة والله أعلم
____________________
(24/253)
باب صلاة الكسوف سئل شيخ الاسلام
عن قول أهل التقاويم فى أن الرابع عشر من هذا الشهر يخسف القمر وفى التاسع والعشرين تكسف الشمس فهل يصدقون فى ذلك وإذا خسفا هل يصلي لهما أم يسبح واذا صلى كيف صفة الصلاة ويذكر لنا أقوال العلماء فى ذلك
فأجاب الحمد لله الخسوف والكسوف لهما أوقات مقدرة كما لطلوع الهلال وقت مقدر وذلك ما أجرى الله عادته بالليل والنهار والشتاء والصيف وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر
وذلك من آيات الله تعالى كما قال تعالى { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } وقال تعالى { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق } وقال تعالى
____________________
(24/254)
( والشمس والقمر بحسبان ) وقال تعالى { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم } وقال تعالى { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } وقال تعالى { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم } وقال تعالى { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون }
وكما أن العادة التى أجراها الله تعالى أن الهلال لا يستهل الا ليلة ثلاثين من الشهر أو ليلة احدى وثلاثين وان الشهر لا يكون الا ثلاثين أو تسعة وعشرين فمن ظن أن الشهر يكون أكثر من ذلك أو أقل فهو غالط
فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف الا وقت الاستسرار وأن القمر لا يخسف الا وقت الابدار ووقت إبداره هي الليالي البيض التى يستحب صيام أيامها ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فالقمر لا يخسف الا فى هذه الليالي
____________________
(24/255)
والهلال يستسر أخر الشهر اما ليلة واما ليلتين كما يستسر ليلة تسع وعشرين وثلاثين والشمس لا تكسف الا وقت استسراره وللشمس والقمر ليالي معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف كما أن من علم كم مضى من الشهر يعلم أن الهلال يطلع فى الليلة الفلانية أو التى قبلها
لكن العلم بالعادة فى الهلال علم عام يشترك فيه جميع الناس وأما العلم بالعادة فى الكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التى يكون كذبه فيها أعظم من صدقه فإن ذلك قول بلا علم ثابت وبناء على غير أصل صحيح وفى
سنن أبى داود عن النبى انه قال ( من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ( وفى صحيح مسلم عن النبى انه قال ( من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم يقبل الله صلاته أربعين يوما ( والكهان أعلم بما يقولونه من المنجمين فى الأحكام ومع هذا صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن اتيانهم ومسألتهم فكيف بالمنجم وقد بسطنا هذا فى غير هذا الموضع عن هذا الجواب
____________________
(24/256)
وأما ما يعلم بالحساب فهو مثل العلم بأوقات الفصول كأول الربيع والصيف والخريف والشتاء لمحاذاة الشمس أوائل البروج التى يقولون فيها أن الشمس نزلت فى برج كذا أى حاذته
ومن قال من الفقهاء ان الشمس تكسف فى غير وقت الاستسرار فقد غلط وقال ما ليس له به علم وما يروى عن الواقدى من ذكره أن إبراهيم بن النبى مات يوم العاشر من الشهر وهو اليوم الذى صلى فيه النبى صلاة الكسوف غلط والواقدى لا يحتج بمسانيده فكيف بما أرسله من غير أن يسنده إلى أحد وهذا فيما لم يعلم أنه خطأ فأما هذا فيعلم أنه خطأ ومن جوز هذا فقد قفا ما ليس له به علم ومن حاج فى ذلك فقد حاج فى ما ليس له به علم
وأما ما ذكره طائفة من الفقهاء من اجتماع صلاة العيد والكسوف فهذا ذكروه فى ضمن كلامهم فيما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها من الصلوات فقد رأوا اجتماعها مع الوتر والظهر وذكروا صلاة العيد مع عدم استحضارهم هل يمكن ذلك فى العادة أو لا يمكن فلا يوجد فى تقديرهم ذلك العلم بوجود ذلك فى الخارج لكن استفيد من ذلك العلم علم ذلك على تقدير وجوده كما يقدرون مسائل يعلم انها لا تقع لتحرير القواعد وتمرين الأذهان على ضبطها
____________________
(24/257)
وأما تصديق المخبر بذلك وتكذيبه فلا يجوز أن يصدق الا ان يعلم صدقه ولا يكذب إلا ان يعلم كذبه كما قال النبى ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما ان يحدثوكم بحق فتكذبوهم وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوهم (
والعلم بوقت الكسوف والخسوف وان كان ممكنا لكن هذا المخبر المعين قد يكون عالما بذلك وقد لا يكون وقد يكون ثقة فى خبره وقد لا يكون وخبر المجهول الذي لا يوثق بعلمه وصدقه ولا يعرف كذبه موقوف ولو أخبر مخبر بوقت الصلاة وهو مجهول لم يقبل خبره ولكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعى فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى الا إذا شاهدنا ذلك وإذا جوز الإنسان صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنه فنوى أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك كان هذا حثا من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته فان الصلاة عند الكسوف متفق عليها بين المسلمين وقد تواترت بها السنن عن النبى ورواها أهل الصحيح والسنن والمسانيد من وجوه كثيرة واستفاض عنه أنه صلى بالمسلمين صلاة الكسوف يوم مات ابنه إبراهيم
____________________
(24/258)
وكأن بعض الناس ظن أن كسوفها كان لأن إبراهيم مات فخطبهم النبى وقال ( ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة ( وفى رواية فى الصحيح ( ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده ( وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنهما سبب لنزول عذاب بالناس فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه وعصوا رسله وإنما يخاف الناس مما يضرهم فلولاإمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفا قال تعالى { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } وأمر النبى بما يزيل الخوف أمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق حتى يكشف ما بالناس وصلى بالمسلمين فى الكسوف صلاة طويلة
وقد روى فى صفة صلاة الكسوف أنواع لكن الذي استفاض عند أهل العلم بسنة رسول الله ورواه البخاري ومسلم من غير وجه وهو الذى استحبه أكثر أهل العلم كمالك والشافعى وأحمد أنه صلى بهم ركعتين فى كل ركعة ركوعان يقرأ قراءة طويلة ثم يركع ركوعا طويلا دون القراءة ثم يقوم فيقرأ قراءة طويلة دون القراءة الأولى ثم يركع ركوعا دون الركوع
____________________
(24/259)
الأول ثم يسجد سجدتين طويلتين وثبت عنه فى الصحيح أنه جهر بالقراءة فيها
والمقصود ان تكون الصلاة وقت الكسوف إلى أن يتجلى فان فرغ من الصلاة قبل التجلي ذكر الله ودعاه إلى أن
يتجلى والكسوف يطول زمانه تارة ويقصر أخرى بحسب ما يكسف منها فقد تكسف كلها وقد يكسف نصفها أو ثلثها فإذا عظم الكسوف طول الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها فى أول ركعة وبعد الركوع الثانى يقرأ بدون ذلك
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن النبى بما ذكرناه كله مثل ما فى الصحيحين عن أبى مسعود الأنصارى قال ( انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن النبى فقال الناس انكسفت الشمس لموت إبراهيم فقال رسول الله ( ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة ( وفى الصحيح عن أبى موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال ( هذه الآيات التى يرسلها الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يخوف بها عباده فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكره
____________________
(24/260)
ودعائه واستغفاره ( وفى الصحيحين من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس فاذا رأيتم شيئا من ذلك فصلوا حتى ينجلي ( وفى رواية عن إبن مسعود ( فإذا رأيتم شيئا منها فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم ( وفى رواية لعائشة ( فصلوا حتى يفرج الله ما بكم (
وفى الصحيحين عن عائشة ( أن الشمس خسفت على عهد رسول الله فخرج رسول الله إلى المسجد فقام وكبر وصف الناس وراءه فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة ثم كبر فركع ركوعا طويلا ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من الركوع الأول ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم سجد ثم فعل فى الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف (
وقد جاء إطالته للسجود فى حديث صحيح وكذلك الجهر بالقراءة لكن روى فى القراءة المخافتة والجهر أصح وأما تطويل السجود فلم
____________________
(24/261)
يختلف فيه الحديث لكن فى كل حديث زيادة ليست فى الآخر والأحاديث الصحيحة كلها متفقة لا تختلف والله أعلم وسئل رحمه الله
عن المطر والرعد والزلازل على قول أهل الشرع وعلى قول الفلاسفة
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما المطر فإن الله يخلقه فى السماء من السحاب ومن السحاب ينزل كما قال تعالى { أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون } وقال تعالى { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا } وقال تعالى { فترى الودق يخرج من خلاله } أي من خلال السحاب
وقوله فى غير موضع من السماء أي من العلو والسماء اسم جنس للعالي قد يختص بما فوق العرش تارة وبالأفلاك تارة وبسقف البيت تارة لما يقترن باللفظ والمادة التى يخلق منها المطر هي الهواء الذى فى الجو تارة وبالبخار المتصاعد من الأرض تارة وهذا ما ذكره علماء المسلمين والفلاسفة يوافقون عليه
____________________
(24/262)
فصل
وأما ( الرعد والبرق ( ففي الحديث المرفوع فى الترمذى وغيره أنه سئل عن الرعد قال ( ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ( وفى مكارم الأخلاق للخرائطي عن علي أنه سئل عن الرعد فقال ( ملك وسئل عن البرق فقال مخاريق بأيدى الملائكة وفى رواية عنه مخاريق من حديد بيده ( وروى فى ذلك آثار كذلك
وقد روى عن بعض السلف أقوال لا تخالف ذلك كقول من يقول أنه اصطكاك أجرام السحاب بسبب انضغاط الهواء فيه فإن هذا لا يناقض ذلك فإن الرعد مصدر رعد يرعد رعدا وكذلك الراعد يسمى رعدا كما يسمى العادل عدلا والحركة توجب الصوت والملائكة هي التى تحرك السحاب وتنقله من مكان إلى مكان وكل حركة فى العالم العلوي والسفلي فهي عن الملائكة وصوت الإنسان هو عن اصطكاك أجرامه الذى هو شفتاه ولسانه وأسنانه
____________________
(24/263)
ولهاته وحلقه وهو مع ذلك يكون مسبحا للرب وآمرا بمعروف وناهيا عن منكر
فالرعد إذا صوت يزجر السحاب وكذلك البرق قد قيل لمعان الماء أو لمعان النار وكونه لمعان النار أو الماء لا ينافى أن يكون اللامع مخراقا بيد الملك فإن النار التى تلمع بيد الملك كالمخراق مثل مزجى المطر والملك يزجى السحاب كما يزجى السائق للمطى
والزلازل من الآيات التى يخوف الله بها عباده كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات والحوادث لها أسباب وحكم فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك
وأما أسبابه فمن أسبابه انضغاط البخار فى جوف الأرض كما ينضغط الريح والماء فى المكان الضيق فإذا انضغط طلب مخرجا فيشق ويزلزل ما قرب منه من الأرض
وأما قول بعض الناس إن الثور يحرك رأسه فيحرك الأرض فهذا جهل وإن نقل عن بعض الناس وبطلانه ظاهر فإنه لو كان كذلك لكانت الأرض كلها تزلزل وليس الأمر كذلك والله أعلم
____________________
(24/264)
كتاب الجنائز
سئل رحمه الله تعالى
عن قوم مسلمين مجاوري النصارى فهل يجوز للمسلم إذا مرض النصرانى أن يعوده وإذا مات أن يتبع جنازته وهل على من فعل ذلك من المسلمين وزر أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين لا يتبع جنازته وأما عيادته فلا بأس بها فانه قد يكون فى ذلك مصلحة لتأليفه على الإسلام فإذا مات كافرا فقد وجبت له النار ولهذا لا يصلى عليه والله أعلم وسئل
عن مرارة ما يذبح وغيره مما يحل أكله أو يحرم هل يجوز التداوى بمرارته أم لا
____________________
(24/265)
فأجاب الحمد لله إن كان المذبوح مما يباح أكله جاز التداوي بمرارته وإلا فلا وسئل
هل يجوز التداوي بالخمر
فأجاب التداوى بالخمر حرام بنص رسول الله وعلى ذلك جماهير أهل العلم ثبت عنه فى الصحيح أنه سئل عن الخمر تصنع للدواء فقال ( إنها داء وليست بدواء ( وفي السنن عنه أنه نهى عن الدواء بالخبيث وقال بن مسعود إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وروى بن حبان فى صحيحه عن النبى أنه قال ( إن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها ( وفى السنن أنه سئل عن ضفدع تجعل فى دواء فنهى عن قتلها وقال ( إن نقيقها تسبيح (
وليس هذا مثل أكل المضطر للميتة فإن ذلك يحصل به المقصود قطعا وليس له عنه عوض والأكل منها واجب فمن اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات دخل النار وهنا لا يعلم
____________________
(24/266)
حصول الشفاء ولا يتعين هذا الدواء بل الله تعالى يعافى العبد بأسباب متعددة والتداوى ليس بواجب عند جمهور العلماء ولا يقاس هذا بهذا والله أعلم وسئل رحمه الله
عن المداواة بالخمر وقول من يقول انها جائزة فما معنى قول النبى صلى الله عليه وسلم ( إنها داء وليست بدواء ( فالذي يقول تجوز للضرورة فما حجته وقالوا إن الحديث الذى قال فيه ( ان الله لم يجعل شفاء امتى فيما حرم عليها ( ضعيف والذي يقول بجواز المداواة به فهو خلاف الحديث والذي يقول ذلك ما حجته
فأجاب وأما التداوي بالخمر فإنه حرام عند جماهير الأئمة كمالك وأحمد وأبي حنيفة وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعى لأنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم انه سئل عن الخمر تصنع للدواء فقال ( انها داء وليست بدواء ( وفى سنن أبي داود عن النبى ( انه نهى عن الدواء الخبيث ( والخمر أم الخبائث وذكر البخارى وغيره عن بن مسعود أنه قال ( ان الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها ( ورواه أبو حاتم بن حبان
____________________
(24/267)
فى صحيحه مرفوعا إلى النبى
والذين جوزوا التداوى بالمحرم قاسوا ذلك على اباحة المحرمات كالميتة والدم للمضطر وهذا ضعيف لوجوه
أحدها ان المضطر يحصل مقصوده يقينا بتناول المحرمات فإنه إذا أكلها سدت رمقه وأزالت ضرورته وأما الخبائث بل وغيرها فلا يتيقن حصول الشفاء بها فما أكثر من يتداوى ولا يشفى ولهذا اباحوا دفع الغصة بالخمر لحصول المقصود بها وتعينها له بخلاف شربها للعطش فقد تنازعوا فيه فإنهم قالوا انها لا تروى
الثانى ان المضطر لا طريق له إلى إزالة ضرورته الا الأكل من هذه الأعيان وأما التداوي فلا يتعين تناول هذا الخبيث طريقا لشفائه فإن الأدوية أنواع كثيرة وقد يحصل الشفاء بغير الأدوية كالدعاء والرقية وهو أعظم نوعى الدواء حتى قال بقراط نسبة طبنا إلى طب أرباب الهياكل كنسبة طب العجائز إلى طبنا
وقد يحصل الشفاء بغير سبب اختيارى بل بما يجعله الله فى الجسم من القوى الطبيعية ونحو ذلك
____________________
(24/268)
الثالث أن أكل الميتة للمضطر واجب عليه فى ظاهر مذهب الأئمة وغيرهم كما قال مسروق من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار وأما التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمة وإنما أوجبه طائفة قليلة كما قاله بعض أصحاب الشافعى وأحمد بل قد تنازع العلماء أيما أفضل التداوى أم الصبر للحديث الصحيح حديث بن عباس عن الجارية التى كانت تصرع وسألت النبى ان يدعو لها فقال ( إن أحببت أن تصبرى ولك الجنة وإن احببت دعوت الله أن يشفيك ( فقالت بل أصبر ولكنى اتكشف فادع الله لي ان لا اتكشف فدعا لها أن لا تتكشف ولأن خلقا من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون بل فيهم من اختار المرض كأبى بن كعب وأبي ذر ومع هذا فلم ينكر عليهم ترك التداوى
وإذا كان أكل الميتة واجبا والتداوى ليس بواجب لم يجز قياس أحدهما على الآخر فإن ما كان واجبا قد يباح فيه ما لا يباح فى غير الواجب لكون مصلحة أداء الواجب تغمر مفسدة المحرم والشارع يعتبر المفاسد والمصالح فإذا اجتمعا قدم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة ولهذا أباح فى الجهاد الواجب ما لم يبحه فى غيره حتى أباح رمي العدو بالمنجنيق وان أفضى ذلك إلى قتل
____________________
(24/269)
النساء والصبيان وتعمد ذلك يحرم ونظائر ذلك كثيرة فى الشريعة والله أعلم وسئل رحمه الله
عن رجل وصف له شحم الخنزير لمرض به هل يجوز له ذلك أم لا
فأجاب وأما التداوى بأكل شحم الخنزير فلا يجوز
وأما التداوى بالتلطخ به ثم يغسله بعد ذلك فهذا ينبنى على جواز مباشرة النجاسة فى غير الصلاة وفيه نزاع مشهور والصحيح أنه يجوز للحاجة كما يجوز استنجاء الرجل بيده وإزالة النجاسة بيده وما أبيح للحاجة جاز التداوى به كما يجوز التداوي بلبس الحرير على أصح القولين وما أبيح للضرورة كالمطاعم الخبيثة فلا يجوز التداوى بها كما لا يجوز التداوى بشرب الخمر لا سيما على قول من يقول إنهم كانوا ينتفعون بشحوم الميتة فى طلي السفن ودهن الجلود
____________________
(24/270)
والاستصباح به وأقرهم النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك وإنما نهاهم عن ثمنه
ولهذا رخص من لم يقل بطهارة جلود الميتة بالدباغ فى الانتفاع بها فى اليابسات فى أصح القولين وفى المائعات التى لا تنجسها وسئل
عمن يتداوى بالخمر ولحم الخنزير وغير ذلك من المحرمات هل يباح للضرورة أم لا وهل هذه الآية ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ( فى إباحة ما ذكر أم لا
فأجاب لا يجوز التداوى بذلك بل قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه سئل عن الخمر يتداوى بها فقال ( إنها داء وليست بدواء ( وفى السنن عنه أنه نهى عن الدواء بالخبيث وقال ( ان الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها (
وليس ذلك بضرورة فإنه لا يتيقن الشفاء بها كما يتيقن الشبع باللحم المحرم ولأن الشفاء لا يتعين له طريق بل يحصل بأنواع
____________________
(24/271)
من الأدوية وبغير ذلك بخلاف المخمصة فإنها لا تزول إلا بالأكل وسئل
عن المريض إذا قالت له الأطباء مالك دواء غير أكل لحم الكلب أو الخنزير فهل يجوز له أكله مع قوله تعالى { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } وقول النبى ( ان الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها ( وإذا وصف له الخمر أو النبيذ هل يجوز شربه مع هذه النصوص أم لا
فأجاب لا يجوز التداوي بالخمر وغيرها من الخبائث لما رواه وائل بن حجر ان طارق بن سويد الجعفي سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها فقال إنما أصنعها للدواء فقال ( انه ليس بدواء ولكنه داء ( رواه الإمام أحمد ومسلم فى صحيحه وعن أبى الدرداء قال قال رسول الله ( ان الله أنزل الدواء وأنزل الداء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بحرام ( رواه أبو داود وعن أبى هريرة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء بالخبيث ( وفى لفظ يعنى السم رواه
____________________
(24/272)
أحمد وبن ماجه والترمذى وعن عبد الرحمن بن عثمان قال ( ذكر طبيب عند رسول الله دواء وذكر الضفدع تجعل فيه فنهى رسول الله عن قتل الضفدع ( رواه أحمد وأبو داود والنسائى وقال عبد الله بن مسعود فى السكر ( ان الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ( ذكره البخارى فى صحيحه وقد رواه أبو حاتم بن حبان فى صحيحه مرفوعا إلى النبى فهذه النصوص وأمثالها صريحة فى النهى عن التداوى بالخبائث مصرحة بتحريم التداوى بالخمر إذ هي أم الخبائث وجماع كل إثم
والخمر اسم لكل مسكر كما ثبت بالنصوص عن النبى كما رواه مسلم فى صحيحه عن 1 بن عمر عن النبى انه قال ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ( وفى رواية ( كل مسكر حرام ( وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري قال قلت يا رسول الله افتنا فى شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد وكان رسول الله قد اعطى جوامع الكلم فقال ( كل مسكر حرام (
وكذلك فى الصحيحين عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى
____________________
(24/273)
الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال ( كل شراب اسكر فهو حرام ( ورواه مسلم فى صحيحه والنسائى وغيرهما عن جابر أن رجلا من حبشان من اليمن ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال أمسكر هو قال نعم فقال ( كل مسكر حرام ان على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ( الحديث فهذه الأحاديث المستفيضة صريحة بان كل مسكر حرام وأنه خمر من أي شيء كان ولا يجوز التداوى بشيء من ذلك
وأما قول الأطباء أنه لا يبرأ منهذا المرض إلا بهذا الدواء المعين فهذا قول جاهل لا يقوله من يعلم الطب أصلا فضلا عمن يعرف الله ورسوله فإن الشفاء ليس فى سبب معين يوجبه فى العادة كما للشبع سبب معين يوجبه فى العادة إذ من الناس من يشفيه الله بلا دواء ومنهم من يشفيه الله بالأدوية الجثمانية حلالها وحرامها وقد يستعمل فلا يحصل الشفاء لفوات شرط أو لوجود مانع وهذا بخلاف الأكل فانه سبب للشبع ولهذا أباح الله للمضطر الخبائث أن يأكلها عند الاضطرار إليها فى المخمصة فان الجوع يزول بها ولا يزول بغيرها بل يموت أو يمرض من الجوع فلما تعينت طريقا
____________________
(24/274)
إلى المقصود أباحها الله بخلاف الأدوية الخبيثة
بل قد قيل من استشفى بالأدوية الخبيثة كان دليلا على مرض فى قلبه وذلك فى ايمانه فإنه لو كان من أمة محمد المؤمنين لما جعل الله شفاءه فيما حرم عليه ولهذا إذا اضطر إلى الميتة ونحوها وجب عليه الأكل فى المشهور من مذاهب الأئمة الأربعة وأما التداوى فلا يجب عند أكثر العلماء بالحلال وتنازعوا هل الأفضل فعله أو تركه على طريق التوكل
ومما يبين ذلك ان الله لما حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها لم يبح ذلك الا لمن اضطر اليها غير باغ ولا عاد وفى آية أخرى { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } ومعلوم أن المتداوى غير مضطر إليها فعلم أنها لم تحل له
وأما ما أبيح للحاجة لا لمجرد الضرورة كلباس الحرير فقد ثبت فى الصحيح ( أن النبى رخص للزبير وعبد الرحمن بن عوف فى لبس الحرير لحكة كانت بهما ( وهذا جائز على أصح قولي العلماء لأن لبس الحرير إنما حرم عند الإستغناء عنه ولهذا أبيح للنساء لحاجتهن إلى التزين به وأبيح لهن التستر به مطلقا فالحاجة إلى التداوى به كذلك بل أولى وهذه حرمت لما فيها من
____________________
(24/275)
السرف والخيلاء والفخر وذلك منتف إذا احتيج إليه وكذلك لبسها للبرد أو إذا لم يكن عنده ما يستتر به غيرها وسئل رحمه الله
هل الشرع المطهر ينكر ما تفعله الشياطين الجانة من مسها وتخبيطها وجولان بوارقها على بني آدم واعتراضها فهل لذلك معالجة بالمخرقات والأحراز والعزائم والأقسام والرقى والتعوذات والتمائم وأن بعض الناس قال لا يحكم عليهم لأن الجن يرجعون إلى الحقائق عند عامرة الأجساد بالبوار وان هذه الخواتم المتخذة مع كل انسان من سريانى وعبرانى وعجمى وعربى ليس لها برهان وانها من مختلق الأقاويل وخرافات الأباطيل وانه ليس لأحد من بنى آدم من القوة ولا من القبض بحيث يفعل ما ذكرنا من متولى هذا الشأن على ممر الدهور والأوقات
فأجاب الحمد لله وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها وكذلك دخول الجنى فى بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة قال الله تعالى { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وفى
____________________
(24/276)
الصحيح عن النبى ( أن الشيطان يجرى من بن آدم مجرى الدم ( وقال عبد الله بن الامام أحمد بن حنبل قلت لأبي إن أقواما يقولون إن الجني لا يدخل فى بدن المصروع فقال يا بنى يكذبون هذا يتكلم على لسانه
وهذا الذى قاله أمر مشهور فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذى يقوله وقد يجر المصروع وغير المصروع ويجر البساط الذى يجلس عليه ويحول آلات وينقل من مكان إلى مكان ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الانسى والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان
وليس فى أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني فى بدن المصروع وغيره ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع وليس فى الأدلة الشرعية ما ينفى ذلك
وأما معالجة المصروع بالرقى والتعوذات فهذا على
____________________
(24/277)
وجهين فإن كانت الرقى والتعاويذ مما يعرف معناها ومما يجوز فى دين الاسلام أن يتكلم بها الرجل داعيا لله ذاكرا له ومخاطبا لخلقه ونحو ذلك فإنه يجوز أن يرقى بها المصروع ويعوذ فانه قد ثبت فى الصحيح عن النبى ( أنه أذن فى الرقى ما لم تكن شركا ( وقال ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل (
وان كان فى ذلك كلمات محرمة مثل أن يكون فيها شرك أو كانت مجهولة المعنى يحتمل أن يكون فيها كفر فليس لأحد أن يرقى بها ولا يعزم ولا يقسم وان كان الجنى قد ينصرف عن المصروع بها فإنما حرمه الله ورسوله ضرره أكثر من نفعه كالسيما وغيرها من أنواع السحر فإن الساحر السيماوى وان كان ينال بذلك بعض أغراضه كما ينال السارق بالسرقة بعض أغراضه وكما ينال الكاذب بكذبه وبالخيانة بعض أغراضه وكما ينال المشرك بشركه وكفره بعض أغراضه وهؤلاء وان نالوا بعض أغراضهم بهذه المحرمات فإنها تعقبهم من الضرر عليهم فى الدنيا والآخرة أعظم مما حصلوه من أغراضهم فإن الله بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فكل ما أمر الله به ورسوله فمصلحته راجحة على مفسدته ومنفعته راجحة على المضرة وان كرهته النفوس كما قال تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم }
____________________
(24/278)
الآية فأمر بالجهاد وهو مكروه للنفوس لكن مصلحته ومنفعته راجحة على ما يحصل للنفوس من ألمه بمنزلة من يشرب الدواء الكريه لتحصل له العافية فإن مصلحة حصول العافية له راجحة على ألم شرب الدواء وكذلك التاجر الذى يتغرب عن وطنه ويسهر ويخاف ويتحمل هذه المكروهات مصلحة الربح الذى يحصل له راجحة على هذه المكاره وفى الصحيحين عن النبى أنه قال ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات
وقد قال تعالى فى حق الساحر
ولا يفلح الساحر حيث أتى وقال تعالى
وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر إلى قوله ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) فبين سبحانه أن هؤلاء يعلمون أن الساحر ماله فى الآخرة من نصيب وإنما يطلبون بذلك بعض أغراضهم فى الدنيا ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ) آمنوا واتقوا بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه لكان ما يأتيهم به على ذلك فى الدنيا والآخرة خير لهم مما يحصل لهم بالسحر قال الله تعالى { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وقال { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } وقال { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة }
____________________
(24/279)
الآيتين وقال { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا }
والأحاديث فيما يثيب الله عبده المؤمن على الأعمال الصالحة فى الدنيا والآخرة كثيرة جدا وليس للعبد أن يدفع كل ضرر بما شاء ولا يجلب كل نفع بما شاء بل لا يجلب النفع إلا بما فيه تقوى الله ولا يدفع الضرر إلا بما فيه تقوى الله فإن كان ما يفعله من العزائم والأقسام والدعاء والخلوة والسهر ونحو ذلك مما أباحه الله ورسوله فلا بأس به وان كان مما نهى الله عنه ورسوله لم يفعله
فمن كذب بما هو موجود من الجن والشياطين والسحر وما يأتون به على اختلاف أنواعه كدعاء الكواكب وتخريج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية وما ينزل من الشياطين على كل أفاك أثيم فالشياطين التى تنزل عليهم ويسمونها روحانية الكواكب وأنكروا دخول الجن فى أبدان الإنس وحضورها بما يستحضرون به من العزائم والأقسام وأمثال ذلك كما هو موجود فقد كذب بما لم يحط به علما
ومن جوز أن يفعل الانسان بما رآه مؤثرا من هذه الأمور من غير أن يزن ذلك بشريعة الإسلام فيفعل ما أباحه الله ويترك
____________________
(24/280)
ماحرم الله وقد دخل فيما حرمه الله ورسوله إما من الكفر وإما من الفسوق وإما العصيان بل على كل أحد أن يفعل ما أمر الله به ورسوله ويترك ما نهى الله عنه ورسوله
ومما شرعه النبى من التعوذ فانه قد ثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( من قرأ آية الكرسى إذا أوى إلى فراشه لم يزل عليه من الله حافظ ولم يقربه شيطان حتى يصبح ( وفى السنن أنه كان يعلم أصحابه أن يقول أحدهم ( أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ( ولما جاءته الشياطين بلهب من نار أمر بهذا التعوذ ( أعوذ بكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ فى الأرض وما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن (
فقد جمع العلماء من الأذكار والدعوات التى يقولها العبد إذا أصبح وإذا أمسى وإذا نام وإذا خاف شيئا وأمثال ذلك من الأسباب ما فيه بلاغ فمن سلك مثل هذه السبيل فقد سلك سبيل أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ومن دخل فى سبيل أهل الجبت والطاغوت الداخلة فى الشرك والسحر فقد خسر الدنيا والآخرة وبذلك ذم
____________________
(24/281)
الله من ذمه من مبدلة أهل الكتاب حيث قال { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين على } إلى قوله { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } والله سبحانه وتعالى أعلم وقال أيضا رحمه الله فى موضع آخر فصل
وأما كونه لم يتبين له كيفية الجن ومقالتهم بعدم علمه لم ينكر وجودهم إذ وجودهم ثابت بطرق كثيرة غير دلالة الكتاب والسنة فإن من الناس من رآهم وفيهم من رأى من رآهم وثبت ذلك عنده بالخبر واليقين ومن الناس من كلمهم وكلموه ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم وهذا يكون لصالحين وغير صالحين
ولو ذكرت ما جرى لي ولأصحابى معهم لطال الخطاب وكذلك
____________________
(24/282)
ما جرى لغيرنا لكن الاعتماد فى الأجوبة العلمية على ما يشترك الناس فى علمه لا يكون لما يختص بعلمه المجيب إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به وسئل
عمن يقول يا أزران يا كيان هل صح أن هذه أسماء وردت بها السنة لم يحرم قولها
فأجاب الحمد لله لم ينقل هذه عن الصحابة أحد لا بإسناد صحيح ولا بإسناد ضعيف ولا سلف الأمة ولا أئمتها وهذه الألفاظ لا معنى لها فى كلام العرب فكل اسم مجهول ليس لأحد أن يرقى به فضلا عن أن يدعو به ولو عرف معناها وأنه صحيح لكره أن يدعو الله بغير الأسماء العربية وسئل
عمن أصيب بمرض فإذا اشتد عليه الوجع استغاث بالله تعالى ويبكى فهل تكون استغاثته مما ينافى الصبر المأمور به أو هو
____________________
(24/283)
تضرع والتجاء
فأجاب دعاء الله واستغاثته به واشتكاؤه إليه لا ينافى الصبر المأمور به وإنما ينافيه فى ذلك الاشتكاء إلى المخلوق ولقد قال يعقوب عليه السلام ( فصبر جميل ) وقال ( إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله )
وقد روى عن طاووس أنه كره أنين المريض وقال إنه شكوى وقرئ ذلك على أحمد بن حنبل فى مرض موته فما أن حتى مات ويروى عن السرى السقطى أنه جعل قول المريض آه من ذكر الله وهذا إذا كان بينه وبين الله وهذا كما يروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قرأ فى صلاة الفجر ( إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله ) ثم بكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف فالأنين والبكاء من خشية الله والتضرع والشكاية إلى الله عز وجل حسن وأما المكروه فيكره والله أعلم وسئل
عن رجل مبتلى سكن فى دار بين قوم أصحاء فقال بعضهم لا يمكننا مجاورتك ولا ينبغي أن تجاور الأصحاء فهل يجوز إخراجه
____________________
(24/284)
فأجاب نعم لهم أن يمنعوه من السكن بين الأصحاء فإن النبى قال ( لا يورد ممرض على مصح ( فنهى صاحب الإبل المراض أن يوردها على صاحب الإبل الصحاح مع قوله ( لا عدوى ولا طيرة ( وكذلك روى أنه لما قدم مجذوم ليبايعه أرسل إليه بالبيعة ولم يأذن له فى دخول المدينة وسئل رحمه الله
عن الصلاة على الميت الذي كان لا يصلي هل لأحد فيها أجر أم لا وهل عليه إثم إذا تركها مع علمه أنه كان لا يصلي وكذلك الذى يشرب الخمر وما كان يصلي هل يجوز لمن كان يعلم حاله أن يصلي عليه أم لا
فأجاب أما من كان مظهرا للاسلام فإنه تجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة من المناكحة والموارثة وتغسيله والصلاة عليه ودفنه فى مقابر المسلمين ونحو ذلك لكن من علم منه النفاق والزندقة فإنه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه وإن كان مظهرا للإسلام فإن الله نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين فقال ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله
____________________
(24/285)
{ وماتوا وهم فاسقون } وقال { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم }
وأما من كان مظهرا للفسق مع ما فيه من الايمان كأهل الكبائر فهؤلاء لابد أن يصلى عليهم بعض المسلمين ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجرا لأمثاله عن مثل ما فعله كما امتنع النبى عن الصلاة على قاتل نفسه وعلى الغال وعلى المدين الذى لا وفاء له وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع كان عمله بهذه السنة حسنا وقد قال لجندب بن عبد الله البجلى ابنه إني لم أنم البارحة بشما فقال أما انك لو مت لم أصل عليك كانه يقول قتلت نفسك بكثرة الأكل وهذا من جنس هجر المظهرين للكبائر حتى يتوبوا فإذا كان فى ذلك مثل هذه المصلحة الراجحة كان ذلك حسنا ومن صلى على أحدهم يرجو له رحمة الله ولم يكن فى امتناعه مصلحة راجحة كان ذلك حسنا ولو امتنع فى الظاهر ودعا له فى الباطن ليجمع بين المصلحتين كان تحصيل المصلحتين أولى من تفويت أحداهما
وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الاستغفار له والصلاة عليه بل يشرع ذلك ويؤمر به كما قال تعالى { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وكل من أظهر الكبائر فإنه تسوغ عقوبته بالهجر
____________________
(24/286)
وغيره حتى ممن فى هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية فى ذلك بحسب الامكان والله أعلم وسئل
عن رجل يصلي وقتا ويترك الصلاة كثيرا أو لا يصلي هل يصلي عليه
فأجاب مثل هذا ما زال المسلمون يصلون عليه بل المنافقون الذين يكتمون النفاق يصلي المسلمون عليهم ويغسلون وتجرى عليهم أحكام الإسلام كما كان المنافقون على عهد رسول الله
وإن كان من علم نفاق شخص لم يجز له أن يصلي عليه كما نهى النبى عن الصلاة على من علم نفاقه
وأما من شك فى حاله فتجوز الصلاة عليه إذا كان ظاهر الإسلام كما صلى النبى على من لم ينه عنه وكان فيهم من لم يعلم نفاقه كما قال تعالى { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } ومثل هؤلاء لا يجوز النهي
____________________
(24/287)
عنه ولكن صلاة النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على المنافق لا تنفعه كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لما ألبس بن أبى قميصه ( وما يغنى عنه قميصي من الله ( وقال تعالى { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } وتارك الصلاة أحيانا وأمثاله من المتظاهرين بالفسق فأهل العلم والدين إذا كان فى هجر هذا وترك الصلاة عليه منفعة للمسلمين بحيث يكون ذلك باعثا لهم على المحافظة على الصلاة عليه ( هجروه ولم يصلوا عليه ( كما ترك النبى الصلاة على قاتل نفسه والغال والمدين الذى لا وفاء له وهذا شر منهم وقال شيخ الإسلام رحمه الله
فصل
قد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه إمتنع عن الصلاة على من عليه دين حتى يخلف وفاء قبل أن يتمكن من وفاءالدين عنه فلما تمكن صار هو يوفيه من عنده فصار المدين يخلف وفاء
____________________
(24/288)
هذا مع قوله فيما رواه أبو موسى عنه ( إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه عبد بها بعد الكبائر التى نهى عنها أن يموت الرجل وعليه دين لا يدع قضاء ( رواه أحمد فثبت بهذا أن ترك الدين بعد الكبائر فإذا كان قد ترك الصلاة على المدين الذى لا قضاء له فعلى فاعل الكبائر أولى ويدخل فى ذلك قاتل نفسه والغال لما لم يصل عليهما ويستدل بذلك على أنه يجوز لذوى الفضل ترك الصلاة على ذوى الكبائر الظاهرة والدعاة إلى البدع وإن كانت الصلاة عليهم جائزة فى الجملة
فأما قوله ( الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين ( فأراد به أن صاحبه يوفاه وسئل
عن رجل له مملوك هرب ثم رجع فلما رجع أخذ سكينته وقتل نفسه فهل يأثم سيده وهل تجوز عليه الصلاة
فأجاب الحمد لله لم يكن له أن يقتل نفسه وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى عليه بل كان عليه إذا لم يمكنه رفع الظلم عن نفسه
____________________
(24/289)
أن يصبر إلى أن يفرج الله
فإن كان سيده ظلمه حتى فعل ذلك مثل أن يقتر عليه فى النفقة أو يعتدى عليه فى الاستعمال أو يضربه بغير حق أو يريد به فاحشة ونحو ذلك فإن على سيده من الوزر بقدر ما نسب إليه من المعصية
ولم يصل النبى على من قتل نفسه فقال لأصحابه ( صلوا عليه ( فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه وأما أئمة الدين الذين يقتدى بهم فإذا تركوا الصلاة عليه زجرا لغيره اقتداء بالنبى فهذا حق والله أعلم وسئل رحمه الله
عن رجل يدعى المشيخة فرأى ثعبانا فقام بعض من حضر ليقتله فمنعه عنه وأمسكه بيده على معنى الكرامة له فلدغه الثعبان فمات فهل تجوز الصلاة عليه أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين ينبغى لأهل العلم والدين أن يتركوا الصلاة على هذا ونحوه وإن كان يصلي عليه عموم الناس كما امتنع النبى من الصلاة على قاتل نفسه وعلى
____________________
(24/290)
الغال من الغنيمة وقال ( صلوا على صاحبكم ( وقالوا لسمرة بن جندب إن إبنك البارحة لم يبت فقال بشما قالوا نعم قال أما إنه لو مات لم أصل عليه فبين سمرة أنه لو مات بشما لم يصل عليه لأنه يكون قاتلا لنفسه بكثرة الأكل
فهذا الذى منع من قتل الحية وأمسكها بيده حتى قتلته أولى أن يترك أهل العلم والدين الصلاة عليه لأنه قاتل نفسه بل لو فعل هذا غيره به لوجب القود عليه
وإن قيل إنه ظن أنها لا تقتل فهذا شبيه عمله بمنزلة الذى أكل حتى بشم فإنه لم يقصد قتل نفسه فمن جنى جناية لا تقتل غالبا كان شبه عمد وإمساك الحيات من نوع الجنايات فإنه فعل غير مباح وهذا لم يقصد بهذا الفعل إلا إظهار خارق العادة ولم يكن معه ما يمنع انخراق العادة
كيف وغالب هؤلاء كذابون ملبسون خارجون عن أمر الله تعالى ونهيه يخرجون الناس عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان ويفسدون عقل الناس ودينهم ودنياهم فيجعلون العاقل مولها كالمجنون أو متولها بمنزلة الشيطان المفتون ويخرجون الإنسان عن الشريعة التى بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم إلى بدع مضادة لها فيفتلون الشعور
____________________
(24/291)
ويكشفون الرؤوس بدلا عن سنة رسول الله من ترجيل الشعر وتغطية الرأس ويجتمعون على المكاء والتصدية بدلا عن سنة الله ورسوله من الإجتماع على الصلوات الخمس وغيرها من العبادات ويصلون صلاة ناقصة الأركان والواجبات ويجتمعون على بدعهم المنكرة على أتم الحالات ويصنعون اللاذن وماء الورد والزعفران لإمساك الحيات ودخول النار بأنواع من الحيل الطبيعية والأحوال الشيطانية بدلا عما جعله الله لأوليائه المتقين من الطرق الشرعية والأحوال الرحمانية ويفسدون من يفسدونه من النساء والصبيان بدلا عما أمر الله به من العفة وغض البصر وحفظ الفرج وكف اللسان
ومن كان مبتدعا ظاهر البدعة وجب الإنكار عليه ومن الانكار المشروع أن يهجر حتى يتوب ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه لينزجر من يتشبه بطريقته ويدعو إليه وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة والله أعلم
____________________
(24/292)
وسئل
عن رجل ركب البحر للتجارة فغرق فهل مات شهيدا
فأجاب نعم مات شهيدا إذا لم يكن عاصيا بركوبه فإنه قد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الغريق شهيد والمبطون شهيد والحريق شهيد والميت بالطاعون شهيد والمرأة تموت فى نفاسها شهيدة وصاحب الهدم شهيد ( وجاء ذكر غير هؤلاء
وركوب البحر للتجارة جائز إذا غلب على الظن السلامة وأما بدون ذلك فليس له أن يركبه للتجارة فإن فعل فقد أعان على قتل نفسه ومثل هذا لا يقال إنه شهيد والله أعلم وسئل عن رفع الصوت فى الجنازة
فأجاب الحمد لله لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة لا بقراءة
____________________
(24/293)
ولا ذكر ولا غير ذلك هذا مذهب الأئمة الأربعة وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين ولا أعلم فيه مخالفا بل قد روى عن النبى ( أنه نهى أن يتبع بصوت أو نار ( رواه أبو داود وسمع عبد الله بن عمر رضى الله عنهما رجلا يقول فى جنازة استغفروا لأخيكم فقال إبن عمر لاغفر الله بعد وقال قيس بن عباد وهو من أكابر التابعين من أصحاب على بن أبي طالب رضى الله عنه كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند القتال
وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون الثلاثة المفضلة
وأما قول السائل ان هذا قد صار إجماعا من الناس فليس كذلك بل ما زال فى المسلمين من يكره ذلك وما زالت جنائز كثيرة تخرج بغير هذا فى عدة أمصار من أمصار المسلمين
وأما كون أهل بلد أو بلدين أو عشر تعودوا ذلك فليس هذا بإجماع بل أهل مدينة النبى التى نزل فيها القرآن والسنة وهي دار الهجرة والنصرة والإيمان والعلم لم يكونوا يفعلون ذلك بل لو اتفقوا فى مثل زمن مالك وشيوخه على شيء ولم ينقلوه عن
____________________
(24/294)
النبى صلى الله عليه وسلم أو خلفائه لم يكن إجماعهم حجة عند جمهور المسلمين وبعد زمن مالك وأصحابه ليس اجماعهم حجة باتفاق المسلمين فكيف بغيرهم من أهل الأمصار
وأما قول القائل ان هذا يشبه بجنائز اليهود والنصارى فليس كذلك بل أهل الكتاب عادتهم رفع الأصوات مع الجنائز وقد شرط عليهم فى شروط أهل الذمة أن لا يفعلوا ذلك ثم إنما نهينا عن التشبه بهم فيما ليس هو من طريق سلفنا الأول وأما إذا اتبعنا طريق سلفنا الأول كنا مصيبين وان شاركنا فى بعض ذلك من شاركنا كما أنهم يشاركوننا فى الدفن فى الأرض وفى غير ذلك وسئل رحمه الله
عن امرأة نصرانية بعلها مسلم توفيت وفى بطنها جنين له سبعة أشهر فهل تدفن مع المسلمين أو مع النصارى
فأجاب لا تدفن فى مقابر المسلمين ولا مقابر النصارى لأنه اجتمع مسلم وكافر فلا يدفن الكافر مع المسلمين ولا المسلم مع الكافرين بل تدفن منفردة ويجعل ظهرها إلى القبلة لأن
____________________
(24/295)
وجه الطفل إلى ظهرها فإذا دفنت كذلك كان وجه الصبى المسلم مستقبل القبلة والطفل يكون مسلما بإسلام أبيه وان كانت أمه كافرة باتفاق العلماء وسئل رحمه الله
مفتى الأنام بقية السلف الكرام تقى الدين بقية المجتهدين أثابه الله وأحسن إليه
عن تلقين الميت فى قبره بعد الفراغ من دفنه هل صح فيه حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته وهل إذا لم يكن فيه شيء يجوز فعله أم لا
فأجاب هذا التلقين المذكور قد نقل عن طائفة من الصحابة أنهم أمروا به كأبى أمامة الباهلى وغيره وروى فيه حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم لكنه مما لا يحكم بصحته ولم يكن كثير من الصحابة يفعل ذلك فلهذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء أن هذا التلقين لا بأس به فرخصوا فيه ولم يأمروا به واستحبه طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد وكرهه طائفة من العلماء من أصحاب مالك وغيرهم
____________________
(24/296)
والذى فى السنن عن النبى أنه كان يقوم على قبر الرجل من أصحابه إذا دفن ويقول ( سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ( وقد ثبت فى الصحيحين ان النبى قال ( لقنوا أمواتكم لا إله إلا الله ( فتلقين المحتضر سنة مأمور بها
وقد ثبت ان المقبور يسأل ويمتحن وأنه يؤمر بالدعاء له فلهذا قيل ان التلقين ينفعه فان الميت يسمع النداء كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( انه ليسمع قرع نعالهم ( وأنه قال ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ( وأنه أمرنا بالسلام على الموتى فقال ( ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه الا رد الله روحه حتى يرد عليه السلام ( والله أعلم وسئل رحمه الله
هل يجب تلقين الميت بعد دفنه أم لا وهل القراءة تصل إلى الميت
فأجاب تلقينه بعد موته ليس واجبا بالإجماع ولا كان من
____________________
(24/297)
عمل المسلمين المشهور بينهم على عهد النبى وخلفائه بل ذلك مأثور عن طائفة من الصحابة كأبى أمامة وواثلة بن الأسقع
فمن الأئمة من رخص فيه كالإمام أحمد وقد استحبه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعى ومن العلماء من يكرهه لاعتقاده أنه بدعة فالأقوال فيه ثلاثة الاستحباب والكراهة والإباحة وهذا أعدل الأقوال
فامأ المستحب الذى أمر به وحض عليه النبى فهو الدعاء للميت
وأما القراءة على القبر فكرهها أبو حنيفة ومالك وأحمد فى إحدى الروايتين ولم يكن يكرهها فى الأخرى وإنما رخص فيها لأنه بلغه أن بن عمر أوصى أن يقرأ عند قبره بفواتح البقرة وخواتيمها وروى عن بعض الصحابة قراءة سورة البقرة فالقراءة عند الدفن مأثورة فى الجملة وأما بعد ذلك فلم ينقل فيه أثر والله أعلم
____________________
(24/298)
وسئل
هل يشرع تلقين الميت الكبير والصغير أو لا
فأجاب وأما تلقين الميت فقد ذكره طائفة من الخراسانيين من أصحاب الشافعى واستحسنوه أيضا ذكره المتولى والرافعى وغيرهما وأما الشافعى نفسه فلم ينقل عنه فيه شيء
ومن الصحابة من كان يفعله كأبى أمامة الباهلى وواثلة بن الإسقع وغيرهما من الصحابة
ومن أصحاب أحمد من استحبه والتحقيق أنه جائز وليس بسنة راتبة والله أعلم وسئل
عن الختمة التى تعمل على الميت والمقرئين بالأجرة هل قراءتهم تصل إلى الميت وطعام الختمة يصل إلى الميت أم لا وإن كان
____________________
(24/299)
ولد الميت يداين لأجل الصدقة إلى الميسور تصل إلى الميت
فأجاب استئجار الناس ليقرأوا ويهدوه إلى الميت ليس بمشروع ولا استحبه أحد من العلماء فإن القرآن الذى يصل ما قرئ لله فإذا كان قد استؤجر للقراءة لله والمستأجر لم يتصدق عن الميت بل استأجر من يقرأ عبادة لله عز وجل لم يصل إليه
لكن إذا تصدق عن الميت على من يقرأ القرآن أو غيرهم ينفعه ذلك باتفاق المسلمين وكذلك من قرأ القرآن محتسبا وأهداه إلى الميت نفعه ذلك والله أعلم وسئل
عن جعل المصحف عند القبر ووقيد قنديل فى موضع يكون من غير أن يقرأ فيه مكروه أم لا
فأجاب وأما جعل المصحف عند القبور وايقاد القناديل هناك فهذا مكروه منهى عنه ولو كان قد جعل للقراءة فيه هنالك فكيف إذا لم يقرأ فيه فإن النبى قال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( فإيقاد السرج من قنديل
____________________
(24/300)
وغيره على القبور منهى عنه مطلقا لأنه أحد الفعلين اللذين لعن رسول الله من يفعلهما
كما قال ( لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عوراتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك ( رواه أبو داود وغيره ومعلوم انه ينهى عن كشف العورة وحده وعن التحدث وحده وكذلك قوله تعالى { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } فتوعد على مجموع أفعال وكل فعل منها محرم وذلك لأن ترتيب الذم على المجموع يقتضى أن كل واحد له تأثير فى الذم ولو كان بعضها مباحا لم يكن له تأثير فى الذم والحرام لا يتوكد بانضمام المباح المخصص إليه
والأئمة قد تنازعوا فى القراءة عند القبر فكرهها أبو حنيفة ومالك وأحمد فى أكثر الروايات ورخص فيها فى الرواية الأخرى عنه هو وطائفة من أصحاب أبى حنيفة وغيرهم
وأما جعل المصاحف عند القبور لمن يقصد قراءة القرآن هناك
____________________
(24/301)
وتلاوته فبدعة منكرة لم يفعلها أحد من السلف بل هي تدخل فى معنى ( اتخاذ المساجد على القبور ( وقد استفاضت السنن عن النبى ( فى النهى ( عن ذلك حتى قال ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( يحذر ما صنعوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وقال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فانى أنهاكم عن ذلك ( ولا نزاع بين السلف والأئمة فى النهي عن اتخاذ القبور مساجد
ومعلوم أن المساجد بنيت للصلاة والذكر وقراءة القرآن فإذا اتخذ القبر لبعض ذلك كان داخلا فى النهى فاذا كان هذا مع كونهم يقرؤون فيها فكيف إذا جعلت المصاحف بحيث لا يقرأ فيها ولا ينتفع بها لا حي ولا ميت فان هذا لا نزاع فى النهى عنه
ولو كان الميت ينتفع بمثل ذلك لفعله السلف فإنهم كانوا أعلم بما يحبه الله ويرضاه واسرع إلى فعل ذلك وتحريه
____________________
(24/302)
وسئل
عن الميت هل يجوز نقله أم لا وأرواح الموتى هل تجتمع بعضها ببعض أم لا وروح الميت هل تنزل فى القبر أم لا ويعرف الميت من يزوره أم لا
فأجاب الحمد لله لا ينبش الميت من قبره الا لحاجة مثل ان يكون المدفن الأول فيه ما يؤذى الميت فينقل إلى غيره كما نقل بعض الصحابة فى مثل ذلك
وأرواح الأحياء إذا قبضت تجتمع بأرواح الموتى ويسأل الموتى القادم عليهم عن حال الإحياء فيقولون ما فعل فلان فيقولون فلان تزوج فلان على حال حسنة ويقولون ما فعل فلان فيقول ألم يأتكم فيقولون لا ذهب به إلى أمه الهاوية
وأما أرواح الموتى فتجتمع الأعلى ينزل إلى الأدنى والأدنى لا يصعد إلى الأعلى والروح تشرف على القبر وتعاد إلى اللحد أحيانا كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( ما من رجل يمر بقبر الرجل
____________________
(24/303)
كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام (
والميت قد يعرف من يزوره ولهذا كانت السنة أن يقال السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا ان شاء الله بكم لا حقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ( والله أعلم وسئل رحمه الله
عن قوم لهم تربة وهى فى مكان منقطع وقتل فيها قتيل وقد بنوا لهم تربة أخرى هل يجوز نقل موتاهم إلى التربة المستجدة أم لا
فأجاب لا ينبش الميت لأجل ما ذكر والله أعلم وسئل
عما يقوله بعض الناس ان لله ملائكة ينقلون من مقابر المسلمين إلى مقابر اليهود والنصارى وينقلون من مقابر اليهود والنصارى إلى مقابر المسلمين ومقصودهم أن من ختم له بشر فى علم الله وقد مات فى الظاهر مسلما أو كان
____________________
(24/304)
كتابيا وختم له بخير فمات مسلما فى علم الله وفى الظاهر مات كافرا فهؤلاء ينقلون فهل ورد فى ذلك خبر أم لا وهل لذلك حجة أم لا
فأجاب الحمد لله أما الأجساد فإنها لا تنقل من القبور لكن نعلم أن بعض من يكون ظاهره الإسلام ويكون منافقا إما يهوديا أو نصرانيا أو مرتدا معطلا فمن كان كذلك فإنه يكون يوم القيامة مع نظرائه كما قال تعالى { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } أي أشباههم ونظراءهم
وقد يكون فى بعض من مات وظاهره كافرا أن يكون آمن بالله قبل أن يغرغر ولم يكن عنده مؤمن وكتم أهله ذلك إما لأجل ميراث أو لغير ذلك فيكون مع المؤمنين وان كان مقبورا مع الكفار
وأما الأثر فى نقل الملائكة فما سمعت فى ذلك أثرا
____________________
(24/305)
وسئل رحمه الله تعالى
عن قوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقوله صلى الله عليه وسلم ( إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ( فهل يقتضى ذلك إذا مات لا يصل إليه شيء من أفعال البر
فأجاب الحمد لله رب العالمين ليس فى الآية ولا فى الحديث أن الميت لا ينتفع بدعاء الخلق له وبما يعمل عنه من البر بل أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بذلك وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فمن خالف ذلك كان من أهل البدع
قال الله تعالى { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته }
____________________
(24/306)
فقد أخبر سبحانه أن الملائكة يدعون للمؤمنين بالمغفرة ووقاية العذاب ودخول الجنة ودعاء الملائكة ليس عملا للعبد
وقال تعالى { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقال الخليل عليه السلام ( رب اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) وقال نوح عليه السلام ( رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ) فقد ذكر استغفار الرسل للمؤمنين أمرا بذلك وإخبارا عنهم بذلك
ومن السنن المتواترة التى من جحدها كفر صلاة المسلمين على الميت ودعاؤهم له فى الصلاة وكذلك شفاعة النبى يوم القيامة فإن السنن فيها متواترة بل لم ينكر شفاعته لأهل الكبائر إلا أهل البدع بل قد ثبت أنه يشفع لأهل الكبائر وشفاعته دعاؤه وسؤاله الله تبارك وتعالى فهذا وأمثاله من القرآن والسنن المتواترة وجاحد مثل ذلك كافر بعد قيام الحجة عليه
والأحاديث الصحيحة فى هذا الباب كثيرة مثل ما فى الصحاح عن إبن عباس رضي الله عنهما ( أن رجلا قال للنبى إن أمي توفيت أفينفعها أن أتصدق عنها قال نعم
____________________
(24/307)
قال ان لي مخرفا أى بستانا أشهدكم أنى تصدقت به عنها ( وفى الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ( أن رجلا قال للنبى أن أمى افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم ( وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه ( أن رجلا قال للنبى إن أبى مات ولم يوص أينفعه إن تصدقت عنه قال نعم (
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ( أن العاص بن وائل نذر فى الجاهلية أن يذبح مائة بدنة وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين وان عمرا سأل النبى عن ذلك فقال أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت عنه أو تصدقت عنه نفعه ذلك (
وفى سنن الدارقطنى أن رجلا سأل النبى فقال يا رسول الله إن لي أبوان وكنت أبرهما حال حياتهما فكيف بالبر بعد موتهما فقال النبى ( ان من بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صيامك وأن تصدق لهما مع صدقتك (
وقد ذكر مسلم فى أول كتابه عن أبى إسحاق الطالقانى قال
____________________
(24/308)
قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن الحديث الذى جاء ( إن البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صيامك قال عبد الله يا أبا إسحاق عمن هذا قلت له هذا من حديث شهاب بن حراس قال ثقة قلت عمن قال عن الحجاج بن دينار فقال ثقة عمن قلت عن رسول الله قال يا أبا إسحاق إن بين الحجاج وبين رسول الله مفاوز تقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس فى الصدقة اختلاف والأمر كما ذكره عبد الله بن المبارك فإن هذا الحديث مرسل
والأئمة اتفقوا على أن الصدقة تصل إلى الميت وكذلك العبادات المالية كالعتق
وإنما تنازعوا فى العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقراءة ومع هذا ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبى قال ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ( وفى الصحيحين عن إبن عباس رضى الله عنه ( أن امرأة قالت يا رسول الله إن أمى ماتت وعليها صيام نذر قال أرأيت إن كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها قالت نعم قال فصومي عن أمك
____________________
(24/309)
وفى الصحيح عنه ( أن امرأة جاءت إلى رسول الله فقالت إن أختى ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين قال أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه قالت نعم قال فحق الله أحق ( وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن بريدة بن حصيب عن أبيه ( أن امرأة أتت رسول الله فقالت إن أمى ماتت وعليها صوم شهر أفيجزى عنها أن أصوم عنها قال نعم (
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة فى أنه يصام عن الميت ما نذر وأنه شبه ذلك بقضاء الدين
والأئمة تنازعوا فى ذلك ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة من بلغته وإنما خالفها من لم تبلغه وقد تقدم حديث عمرو بأنهم إذا صاموا عن المسلم نفعه وأما الحج فيجزى عند عامتهم ليس فيه إلا اختلاف شاذ
وفى الصحيحين عن بن عباس رضى الله عنهما ( إن امرأة من جهينة جاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها فقال حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته عنها اقضو الله فالله أحق
____________________
(24/310)
بالوفاء ( وفى رواية البخارى ( إن أختى نذرت أن تحج ( وفى صحيح مسلم عن بريدة ( أن امرأة قالت يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج افيجزى أو يقضى أن أحج عنها قال نعم (
ففى هذه الأحاديث الصحيحة ( أنه أمر بحج الفرض عن الميت وبحج النذر ( كما أمر بالصيام وان المأمور تارة يكون ولدا وتارة يكون أخا وشبه النبى ذلك بالدين يكون على الميت والدين يصح قضاؤه من كل أحد فدل على أنه يجوز أن يفعل ذلك من كل أحد لا يختص ذلك بالولد كما جاء مصرحا به فى الأخ
فهذا الذي ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم مفصل مبين فعلم أن ذلك لا ينافى قوله { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } ( إذا مات إبن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ) بل هذا حق وهذا حق
أما الحديث فإنه قال ( انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ( فذكر الولد ودعاؤه له خاصين لأن الولد من كسبه كما قال { ما أغنى عنه ماله وما كسب } قالوا إنه ولده وكما قال النبى ( ان
____________________
(24/311)
أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ( فلما كان هو الساعي فى وجود الولد كان عمله من كسبه بخلاف الأخ والعم والأب ونحوهم فإنه ينتفع أيضا بدعائهم بل بدعاء الأجانب لكن ليس ذلك من عمله والنبى قال ( انقطع عمله إلا من ثلاث ( لم يقل إنه لم ينتفع بعمل غيره فإذا دعا له ولده كان هذا من عمله الذى لم ينقطع وإذا دعا له غيره لم يكن من عمله لكنه ينتفع به
وأما الآية فللناس عنها أجوبة متعددة كما قيل إنها تختص بشرع من قبلنا وقيل إنها مخصوصة وقيل إنها منسوخة وقيل إنها تنال السعى مباشرة وسببا والإيمان من سعيه الذى تسبب فيه ولا يحتاج إلى شيء من ذلك بل ظاهر الآية حق لا يخالف بقية النصوص فإنه قال ( ليس للانسان إلا ما سعى ( وهذا حق فإنه إنما يستحق سعيه فهو الذى يملكه ويستحقه كما أنه إنما يملك من المكاسب ما اكتسبه هو وأما سعى غيره فهو حق وملك لذلك الغير لاله لكن هذا لا يمنع أن ينتفع بسعى غيره كما ينتفع الرجل بكسب غيره
فمن صلى على جنازة فله قيراط فيثاب المصلى على سعيه الذى هو صلاته والميت أيضا يرحم بصلاة الحى عليه كما قال ( ما من
____________________
(24/312)
مسلم يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة ويروى أربعين ويروى ثلاثة صفوف ويشفعون فيه إلا شفعوا فيه أو قال الا غفر له ( فالله تعالى يثيب هذا الساعى على سعيه الذى هو له ويرحم ذلك الميت بسعي هذا الحى لدعائه له وصدقته عنه وصيامه عنه وحجه عنه
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( ما من رجل يدعو لأخيه دعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك الموكل به آمين ولك بمثله ( فهذا من السعى الذى ينفع به المؤمن أخاه يثيب الله هذا ويرحم هذا ( وان ليس للانسان إلا ما سعى ) وليس كل ما ينتفع به الميت أو الحى أو يرحم به يكون من سعيه بل أطفال المؤمنين يدخلون الجنة مع آبائهم بلا سعي فالذى لم يجز الا به أخص من كل انتفاع لئلا يطلب الانسان الثواب على غير عمله وهو كالدين يوفيه الإنسان عن غيره فتبرأ ذمته لكن ليس له ما وفى به الدين وينبغى له أن يكون هو الموفي له والله أعلم
____________________
(24/313)
وسئل رحمه الله
ما تقول السادة الفقهاء وأئمة الدين وفقهم الله تعالى لمرضاته فى القراءة للميت هل تصل إليه أم لا والأجرة على ذلك وطعام أهل الميت لمن هو مستحق وغير ذلك والقراءة على القبر والصدقة عن الميت أيهما المشروع الذى أمرنا به والمسجد الذى فى وسط القبور والصلاة فيه وما يعلم هل بنى قبل القبور أو القبور قبله وله ثلاث رزق وأربعمائة اصددمون قديمة من زمان الروم ما هو له بل للمسجد وفيه الخطبة كل جمعة والصلاة أيضا فى بعض الأوقات وله كل سنة موسم يأتى إليه رجال كثير ونساء ويأتون بالنذور معهم فهل يجوز للإمام أن يتناول من ذلك شيئا لمصالح المسجد الذى فى البلد أفتونا يرحمكم الله مأجورين
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما الصدقة عن الميت فإنه ينتفع بها باتفاق المسلمين وقد وردت بذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة مثل قول سعد ( يا رسول الله إن أمى افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدقت فهل ينفعها أن أتصدق عنها
____________________
(24/314)
فقال نعم ( وكذلك ينفعه الحج عنه والأضحية عنه والعتق عنه والدعاء والاستغفار له بلا نزاع بين الأئمة
وأما الصيام عنه وصلاة التطوع عنه وقراءة القرآن عنه فهذا فيه قولان للعلماء
أحدهما ينتفع به وهو مذهب أحمد وأبى حنيفة وغيرهما وبعض أصحاب الشافعى وغيرهم
والثانى لا تصل إليه وهو المشهور فى مذهب مالك والشافعى
وأما الاستئجار لنفس القراءة والإهداء فلا يصح ذلك فإن العلماء إنما تنازعوا فى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والأذان والإمامة والحج عن الغير لأن المستأجر يستوفى المنفعة فقيل يصح لذلك كما هو المشهور من مذهب مالك والشافعى وقيل لا يجوز لأن هذه الأعمال يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فإنها إنما تصح من المسلم دون الكافر فلا يجوز إيقاعها إلا على وجه التقرب إلى الله تعالى وإذا فعلت بعروض لم يكن فيها أجر بالاتفاق لأن الله إنما يقبل من العمل ما أريد به وجهه لا ما فعل لأجل عروض الدنيا
____________________
(24/315)
وقيل يجوز أخذ الأجرة عليها للفقير دون الغنى وهو القول الثالث فى مذهب أحمد كما أذن الله لولي اليتيم أن يأكل مع الفقر ويستغنى مع الغنى وهذا القول أقوى من غيره على هذا فإذا فعلها الفقير لله وإنما أخذ الأجرة لحاجته إلى ذلك وليستعين بذلك على طاعة الله فالله يأجره على نيته فيكون قد أكل طيبا وعمل صالحا
وأما إذا كان لا يقرأ القرآن الا لأجل العروض فلا ثواب لهم على ذلك وإذا لم يكن فى ذلك ثواب فلا يصل إلى الميت شيء لأنه إنما يصل إلى الميت ثواب العمل لا نفس العمل فإذا تصدق بهذا المال على من يستحقه وصل ذلك إلى الميت وان قصد بذلك من يستعين على قراءة القرآن وتعليمه كان أفضل وأحسن فإن إعانة المسلمين بأنفسهم وأموالهم على تعلم القرآن وقراءته وتعليمه من أفضل الأعمال
وأما صنعة أهل الميت طعاما يدعون الناس إليه فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة بل قد قال جرير بن عبد الله كنا نعد الإجتماع إلى أهل الميت وصنعتهم الطعام للناس من النياحة
وإنما المستحب إذا مات الميت أن يصنع لأهله طعام كما قال
____________________
(24/316)
النبى لما جاء نعى جعفر بن أبى طالب ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم (
وأما القراءة الدائمة على القبور فلم تكن معروفة عند السلف وقد تنازع الناس فى القراءة على القبر فكرهها أبو حنيفة ومالك وأحمد فى أكثر الروايات عنه ورخص فيها فى الرواية المتأخرة لما بلغه أن عبد الله بن عمر أوصى أن يقرأ عند دفنه بفواتح البقرة وخواتمها
وقد نقل عن بعض الأنصار أنه أوصى عند قبره بالبقرة وهذا إنما كان عند الدفن فأما بعد ذلك فلم ينقل عنهم شيء من ذلك ولهذا فرق فى القول الثالث بين القراءة حين الدفن والقراءة الراتبة بعد الدفن فإن هذا بدعة لا يعرف لها أصل
ومن قال ان الميت ينتفع بسماع القرآن ويؤجر على ذلك فقد غلط لأن النبى قال ( إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ( فالميت بعد الموت لا يثاب على سماع ولا غيره وإن كان الميت يسمع قرع نعالهم ويسمع سلام الذى يسلم عليه ويسمع غير ذلك لكن لم يبق له عمل غير ما استثنى
____________________
(24/317)
وأما بناء المساجد على القبور وتسمى ( مشاهد ( فهذا غير سائغ بل جميع الأمة ينهون عن ذلك لما ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ( قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفى الصحيح أيضا عنه أنه قال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ) وفى السنن عنه قال ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج
) وقد اتفق أئمة المسلمين على أن الصلاة فى المشاهد ليس مأمورا بها لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب ولا فى الصلاة فى المشاهد التى على القبور ونحوها فضيلة على سائر البقاع فضلا عن المساجد باتفاق أئمة المسلمين فمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها فضل على الصلاة على غيرها أو أنها أفضل من الصلاة فى بعض المساجد فقد فارق جماعة المسلمين ومرق من الدين بل الذى عليه الأمة أن الصلاة فيها منهى عنه نهى تحريم وإن كانوا متنازعين فى الصلاة فى المقبرة هل هي محرمة أو مكروهة أو مباحة أو يفرق بين المنبوشة والقديمة فذلك لأجل تعليل النهى بالنجاسة لاختلاط التراب بصديد الموتى
____________________
(24/318)
وأما هذا فإنه نهى عن ذلك لما فيه من التشبه بالمشركين وأن ذلك أصل عبادة الأصنام قال تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قال غير واحد من الصحابة والتابعين هذه أسماء قوم كانوا قوما صالحين فى قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ولهذا قال النبى ما ذكره مالك فى الموطأ ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ( ولهذا لا يشرع باتفاق المسلمين أن ينذر للمشاهد التى على القبور لا زيت ولا شمع ولا دراهم ولا غير ذلك وللمجاورين عندها وخدام القبور فإن النبى صلى الله عليه وسلم قد لعن من يتخذ عليها المساجد والسرج ومن نذر ذلك فقد نذر معصية وفى الصحيح عن النبى أنه قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه )
وأما الكفارة فهي على قولين فمذهب أحمد وغيره عليه كفارة يمين لقول النبى صلى الله عليه وسلم ( كفارة النذر كفارة اليمين ( رواه مسلم وفى السنن عنه أنه قال ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ( ومذهب مالك والشافعى وغيرهما لا شيء عليه لكن إن تصدق بالنذر
____________________
(24/319)
فى المشاهد على من يستحق ذلك من فقراء المسلمين الذين يستعينون بذلك على طاعة الله ورسوله فقد أحسن فى ذلك وأجره على الله
ولا يجوز لأحد باتفاق المسلمين أن ينقل صلاة المسلمين وخطبهم من مسجد يجتمعون فيه إلى مشهد من مشاهد القبور ونحوها بل ذلك من أعظم الضلالات والمنكرات حيث تركوا ما أمر الله به ورسوله وفعلوا ما نهى الله عنه ورسوله وتركوا السنة وفعلوا البدعة تركوا طاعة الله ورسوله وارتكبوا معصية الله ورسوله بل يجب إعادة الجمعة والجماعة إلى المسجد الذى هو بيت من بيوت الله ( أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) وقد قال تعالى { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين }
وأما القبور التى فى المشاهد وغيرها فالسنة لمن زارها أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على الجنائز كما كان النبى يعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم عن قريب لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين
____________________
(24/320)
نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم (
وأما التمسح بالقبر أو الصلاة عنده أو قصده لأجل الدعاء عنده معتقدا أن الدعاء هناك أفضل من الدعاء فى غيره أو النذر له ونحو ذلك فليس هذا من دين المسلمين بل هو مما أحدث من البدع القبيحة التى هي من شعب الشرك والله أعلم وأحكم وسئل
عمن يقرأ القرآن العظيم أو شيئا منه هل الأفضل أن يهدى ثوابه لوالديه ولموتى المسلمين أو يجعل ثوابه لنفسه خاصة
فأجاب أفضل العبادات ما وافق هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة كما صح عن النبى أنه كان يقول فى خطبته ( خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ( وقال ( خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم (
وقال بن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد
____________________
(24/321)
مات فإن الحى لا تومن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد
فإذا عرف هذا الأصل فالأمر الذى كان معروفا بين المسلمين فى القرون المفضلة أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها من الصلاة والصيام والقراءة والذكر وغير ذلك وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك لأحيائهم وأمواتهم فى صلاتهم على الجنازة وعند زيارة القبور وغير ذلك
وروي عن طائفة من السلف عند كل ختمة دعوة مجابة فإذا دعا الرجل عقيب الختم لنفسه ولوالديه ولمشائخه وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات كان هذا من الجنس المشروع وكذلك دعاؤه لهم فى قيام الليل وغير ذلك من مواطن الإجابة
وقد صح عن النبى أنه أمر بالصدقة على الميت وأمر أن يصام عنه الصوم فالصدقة عن الموتى من الأعمال الصالحة وكذلك ما جاءت به السنة فى الصوم عنهم وبهذا وغيره احتج من قال من العلماء إنه يجوز إهداء ثواب العبادات المالية والبدنية إلى موتى المسلمين كما هو مذهب أحمد وأبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعى
فإذا اهدى لميت ثواب صيام أو صلاة أو قراءة جاز ذلك
____________________
(24/322)
وأكثر أصحاب مالك والشافعى يقولون إنما يشرع ذلك فى العبادات المالية ومع هذا فلم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا وصاموا وحجوا أو قرأوا القرآن يهدون ثواب ذلك لموتاهم المسلمين ولا لخصوصهم بل كان عادتهم كما تقدم فلا ينبغى للناس أن يعدلوا عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل والله أعلم وسئل
عمن ( هلل سبعين ألف مرة وأهداه للميت يكون براءة للميت من النار ( حديث صحيح أم لا وإذا هلل الإنسان وأهداه إلى الميت يصل إليه ثوابه أم لا
فأجاب إذا هلل الإنسان هكذا سبعون ألفا أو أقل أو أكثر وأهديت إليه نفعه الله بذلك وليس هذا حديثا صحيحا ولا ضعيفا والله أعلم
____________________
(24/323)
وسئل
عن قراءة أهل الميت تصل إليه والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير إذا أهداه إلى الميت يصل إليه ثوابها أم لا
فأجاب يصل إلى الميت قراءة أهله وتسبيحهم وتكبيرهم وسائر ذكرهم لله تعالى إذا أهدوه إلى الميت وصل إليه والله أعلم وسئل
هل القراءة تصل إلى الميت من الولد أولا على مذهب الشافعى
فأجاب أما وصول ثواب العبادات البدنية كالقراءة والصلاة والصوم فمذهب أحمد وأبى حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعى إلى أنها تصل وذهب أكثر أصحاب مالك والشافعى إلى أنها لا تصل والله أعلم
____________________
(24/324)
وسئل رحمه الله
عمن ترك والديه كفارا ولم يعلم هل أسلموا هل يجوز أن يدعو لهم فأجاب الحمد لله من كان من أمة أصلها كفار لم يجز أن يستغفر لأبويه إلا أن يكونا قد أسلما كما قال تعالى ( ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم
____________________
(24/325)
باب زيارة القبور سئل رحمه الله
عن المشروع فى زيارة القبور فأجاب أما زيارة القبور فهي على وجهين شرعية وبدعية
فالشرعية مثل الصلاة على الجنازة والمقصود بها الدعاء للميت كما يقصد بذلك الصلاة على جنازته كما كان النبى يزور أهل البقيع ويزور شهداء أحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبورأن يقولوا ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم (
وهكذا كل ما فيه دعاء للمؤمنين من الأنبياء وغيرهم كالصلاة على النبى والسلام كما فى الصحيح عنه أنه قال
____________________
(24/326)
( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على فإنه من صلى على مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها درجة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لى الوسيلة حلت له شفاعتى يوم القيامة وما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحى حتى أرد عليه السلام (
وأما الزيارة البدعية وهى زيارة أهل الشرك من جنس زيارة النصارى الذين يقصدون دعاء الميت والإستعانة به وطلب الحوائج عنده فيصلون عند قبره ويدعون به فهذا ونحوه لم يفعله أحد من الصحابة ولا أمر به رسول الله ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها بل قد سد النبى ( باب الشرك ( فى الصحيح أنه قال فى مرض موته ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ( قالت عائشة رضى الله عنها ولولا ذلك لا برز قبره لكن كره أن يتخذ مسجدا وقال قبل أن يموت بخمس ( أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك (
فالزيارة الأولى من جنس عبادة الله والإحسان إلى خلق الله
____________________
(24/327)
وذلك من جنس الزكاة التى أمر الله بها
والثانى من جنس الإشراك بالله والظلم فى حق الله وحق عباده وفى الصحيح عن النبى أنه لما أنزل الله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } شق ذلك على أصحاب النبى وقالوا أينا لم يظلم نفسه فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم )
وقال ( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد ( وقد قال الله تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قال طائفة من السلف هؤلاء كانوا قوما صالحين فى قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم فكان هذا أول عبادة الأوثان وهذا من جنس دين النصارى ولم يكن الصحابة رضى الله عنهم والتابعون يقصدون الدعاء عند قبر النبى ولا غيره بل كره الأئمة وقوف الإنسان عند قبر النبى للدعاء وقالوا هذه بدعة لم يفعلها الصحابة والتابعون بل كانوا يسلمون عليه وعلى صاحبيه ثم يذهبون
____________________
(24/328)
وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف وقد نص عليه مالك وغيره من الأئمة ونص أبو يوسف وغيره من العلماء على أنه ليس لأحد أن يسأل الله بمخلوق لا النبى ولا الملائكة ولا غيرهم
وقد أصاب المسلمين جدب وشدة وكانوا يدعون الله ويستسقون ويدعون على الأعداء ويستنصرون ويتوسلون بدعاء الصالحين كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم ( ولم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم ولا صالح ولا الصلاة عنده ولا طلب الحوائج منه ولا الأقسام على الله به مثل أن يقول القائل أسألك بحق فلان وفلان بل كل هذا من البدع المحدثة وقد قال النبى ( خير القرون القرن الذى بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ( وقد اتفق المسلمون على أن أصحاب رسول الله خير طباق الأمة
____________________
(24/329)
وسئل الشيخ عن الزيارة
فأجاب أما الاختلاف إلى القبر بعد الدفن فليس بمستحب وإنما المستحب عند الدفن أن يقام على قبره ويدعى له بالتثبيت كما روى أبو داود فى سننه عن النبى ( أنه كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره ويقول سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ( وهذا من معنى قوله ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) فإنه لما نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين وعن القيام على قبورهم كان دليل الخطاب ان المؤمن يصلي عليه قبل الدفن ويقام على قبره بعد الدفن
فزيارة الميت المشروعة بالدعاء والاستغفار هي من هذا القيام المشروع
____________________
(24/330)
وسئل
عن الأحياء إذا زاروا الأموات هل يعلمون بزيارتهم وهل يعلمون بالميت إذا مات من قرابتهم أو غيره
فأجاب الحمد لله نعم قد جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم وعرض أعمال الأحياء على الأموات كما روى إبن المبارك عن أبى أيوب الأنصارى قال ( إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها الرحمة من عباد الله كما يتلقون البشير فى الدنيا فيقبلون عليه ويسألونه فيقول بعضهم لبعض أنظروا أخاكم يستريح فإنه كان فى كرب شديد قال فيقبلون عليه ويسألونه ما فعل فلان وما فعلت فلانة هل تزوجت ( الحديث
وأما علم الميت بالحي إذا زاره وسلم عليه ففي حديث إبن عباس قال قال رسول الله ( ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ( قال إبن المبارك ثبت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم وصححه عبد الحق صاحب الأحكام
____________________
(24/331)
وأما ما أخبر الله به من حياة الشهيد ورزقه وما جاء فى الحديث الصحيح من دخول أرواحهم الجنة فذهب طوائف إلى أن ذلك مختص بهم دون الصديقين وغيرهم والصحيح الذى عليه الأئمة وجماهير أهل السنة ان الحياة والرزق ودخول الأرواح الجنة ليس مختصا بالشهيد كما دلت على ذلك النصوص الثابتة ويختص الشهيد بالذكر لكون الظان يظن أنه يموت فينكل عن الجهاد فأخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة
كما نهى عن قتل الأولاد خشية الإملاق لأنه هو الواقع وان كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الاملإق
____________________
(24/332)
وسئل شيخ الاسلام
ومفتى الأنام العالم العامل الزاهد الورع ناصر السنة وقامع البدعة تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرانى رحمه الله تعالى عن الحديث المروى عن النبى وهوقوله صلى الله عليه وسلم ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( هل هو منسوخ بقوله ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ( أم لا وهل صح الحديث الأول أم لا وهل يحرم على النساء زيارة القبور أم يكره أم يستحب
وإذا قيل بالكراهة هل تكون كراهة تحريم أم تنزيه وهل صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من زار قبرى وجبت له شفاعتى ( أم لا وهل صح فى فضل زيارة قبر النبى شيء من الأحاديث أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما زيارة القبور فقد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه كان قد نهى عنها نهيا عاما ثم أذن
____________________
(24/333)
فى ذلك فقال ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ( وقال ( استأذنت ربى فى أن أزور قبر أمي فأذن لي واستأذنت فى أن أستغفر لها فلم يأذن لى فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ( وهنا مسألتان
إحداهما متفق عليها والأخرى متنازع فيها
فأما الآولى فأن الزيارة تنقسم إلى قسمين زيارة شرعية وزيارة بدعية
فالزيارة الشرعية السلام على الميت والدعاء له بمنزلة الصلاة على جنازته كما ثبت فى الصحيح أن النبى كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا ( السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين وإنا ان شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ( وهذا الدعاء يروى بعضه فى بعض الأحاديث وهو مروى بعدة ألفاظ كما رويت ألفاظ التشهد وغيره وهذه الزيارة هي التى كان النبى يفعلها إذا خرج لزيارة قبور أهل البقيع
وأما الزيارة البدعية فمن جنس زيارة اليهود والنصارى وأهل
____________________
(24/334)
البدع الذين يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد وقد استفاض عن النبى فى الكتب الصحاح وغيرها أنه قال عند موته ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ( قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وثبت فى الصحيح عنه أنه قال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فانى أنهاكم عن ذلك (
فالزيارة البدعية مثل قصد قبر بعض الأنبياء والصالحين للصلاة عنده أو الدعاء عنده أو به أو طلب الحوائج منه أو من الله تعالى عند قبره أو الإستغاثة به أو الاقسام على الله تعالى به ونحو ذلك هو من البدع التى لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا سن ذلك رسول الله ولا أحد من خلفائه الراشدين بل قد نهى عن ذلك أئمة المسلمين الكبار
والحديث الذى يرويه بعض الناس ( إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي ( هو من المكذوبات التى لم يروها أحد من علماء المسلمين ولا هو فى شيء من كتب الحديث بمنزلة ما يروونه من قوله ( لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به ( فان هذا أيضا من المكذوبات
____________________
(24/335)
وقد نص غير واحد من العلماء على أنه لا يقسم على الله بمخلوق لا نبى ولا غيره فمن ذلك ما ذكره أبو الحسين القدورى فى ( كتاب شرح الكرخى ( عن بشر بن الوليد قال سمعت أبا يوسف قال قال أبو حنيفة لا ينبغى لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك وبحق خلقك وهو قول أبى يوسف وقال أبو يوسف بمعاقد العز من عرشه هو الله تعالى فلا أكره هذا وأكره بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام
قال القدورى شارح الكتاب المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لاحق للمخلوق على الخالق فلا يجوز يعنى وفاقا
قلت وأما الاستشفاع إلى الله تعالى به وهو طلب الشفاعة منه والتوسل إلى الله بدعائه وشفاعته وبالإيمان به وبمحبته وطاعته والتوجه إلى الله تعالى بذلك فهذا مشروع باتفاق المسلمين كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة
وقد ثبت فى صحيح البخارى عن أبى حميد الساعدى رضي الله عنه عن النبى أنه قال ( لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة فيقول يا رسول الله أغثنى فأقول لا أملك
____________________
(24/336)
لك من الله شيئا قد أبلغتك ( وفى الصحيح أنه قال ( يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا سلونى من مالى ما شئتم ( وقال ذلك لعشيرته الأقربين
وروى أنه قال ( غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها ( فبين صلى الله عليه وسلم ما هو موافق لكتاب الله من أنه ليس عليه إلا البلاغ المبين وأما الجزاء بالثواب والعقاب فهو إلى الله تعالى كما قال تعالى { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } وهو قد بلغ البلاغ المبين قد بلغ الرسالة وأشهد الله على أمته أنه بلغهم كما جعل فى حجة الوداع يقول ( ألا هل بلغت فيقولون نعم فيرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول اللهم اشهد ( رواه مسلم فى صحيحه
وأما إجابة الداعى وتفريج الكربات وقضاء الحاجات فهذا لله سبحانه وتعالى وحده لا يشركه فيه أحد
ولهذا فرق الله سبحانه فى كتابه بين ما فيه حق للرسول وبين
____________________
(24/337)
ما هو لله وحده كما فى قوله تعالى { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فبين سبحانه ما يستحقه الرسول من الطاعة فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله وأما الخشية والتقوى فجعل ذلك له سبحانه وحده وكذلك قوله { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فجعل الإيتاء لله والرسول كما فى قوله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وأما التوكل والرغبة فلله وحده كما فى قوله تعالى { وقالوا حسبنا الله } ولم يقل ورسوله وقال { إنا إلى الله راغبون } ولم يقل وإلى الرسول وذلك موافق لقوله تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب }
فالعبادة والخشية والتوكل والدعاء والرجاء والخوف لله وحده لا يشركه فيه أحد وأما الطاعة والمحبة والإرضاء فعلينا أن نطيع الله ورسوله ونحب الله ورسوله ونرضى الله ورسوله لأن طاعة الرسول طاعة لله وإرضاءه إرضاء لله وحبه من حب الله
وكثير من أهل الضلال من الكفار وأهل البدع بدلوا الدين فإن الله تعالى جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط فى تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده فليس لأحد طريق إلى الله الا متابعة
____________________
(24/338)
الرسول بفعل ما أمر وترك ما حذر
ومن جعل إلى الله طريقا غير متابعة الرسول للخاصة والعامة فهو كافر بالله ورسوله مثل من يزعم أن من خواص الأولياء أو العلماء أو الفلاسفة أو أهل الكلام أو الملوك من له طريق إلى الله تعالى غير متابعة رسوله ويذكرون فى ذلك من الأحاديث المفتراة ما هو أعظم الكفر والكذب كقول بعضهم إن الرسول استأذن على أهل الصفة فقالوا اذهب إلى من أنت رسول إليه وقال بعضهم أنهم أصبحوا ليلة المعراج فأخبروه بالسر الذى ناجاه الله به وأن الله أعلمهم بذلك بدون اعلام الرسول وقول بعضهم إنهم قاتلوه فى بعض الغزوات مع الكفار وقالوا من كان الله معه كنا معه وأمثال ذلك من الأمور التى هي من أعظم الكفر والكذب
ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخضر وموسى عليه السلام على أن من الأولياء من يستغنى عن محمد كما استغنى الخضر عن موسى ومثل قول بعضهم ان خاتم الأولياء له طريق إلى الله يستغنى به عن خاتم الأنبياء وأمثال هذه الأمور التى كثرت فى كثير من المنتسبين إلى الزهد والفقر والتصوف والكلام والتفلسف وكفر هؤلاء قد يكون من جنس كفر اليهود والنصارى وقد يكون
____________________
(24/339)
أعظم وقد يكون أخف بحسب أحوالهم
والله سبحانه لم يجعل له أحدا من الأنبياء والمؤمنين واسطة فى شيء من الربوبية والألوهية مثل ما ينفرد به من الخلق والرزق وإجابة الدعاء والنصر على الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات بل غاية ما يكون العبد سببا مثل أن يدعو أو يشفع والله تعالى يقول { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ويقول { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ويقول { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فنهاهم الله عن ذلك فى قوله تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر ولهذا كان الناس فى الشفاعة على ثلاثة أقسام
____________________
(24/340)
فالمشركون أثبتوا الشفاعة التى هي شرك كشفاعة المخلوق عند المخلوق كما يشفع عند الملوك خواصهم لحاجة الملوك إلى ذلك فيسألونهم بغير إذنهم وتجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله تعالى مشركون كفار لأن الله تعالى لا يشفع عنده أحد الا باذنه ولا يحتاج إلى أحد من خلقه بل من رحمته وإحسانه إجابة دعاء الشافعين وهو سبحانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها ولهذا قال تعالى { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } وقال { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } وقال تعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا } وقال تعالى عن صاحب ( يس { أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون }
وأما الخوارج والمعتزلة فانهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فى أهل الكبائر من أمته وهؤلاء مبتدعة ضلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبى ولإجماع خير القرون
والقسم الثالث هم أهل السنة والجماعة وهم سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم باحسان أثبتوا ما أثبته الله فى كتابه وسنة رسوله صلى
____________________
(24/341)
الله عليه وسلم ونفوا ما نفاه الله فى كتابه وسنة رسوله فالشفاعة التى أثبتوها هي التى جاءت بها الأحاديث كشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إذا جاء الناس إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم يأتونه عليه السلام قال ( فأذهب إلى ربى فإذا رأيت ربى خررت له ساجدا فأحمد ربى بمحامد يفتحها على لا احسنها الآن فيقول أى محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع ( فهو يأتى ربه سبحانه فيبدأ بالسجود والثناء عليه فإذا اذن له فى الشفاعة شفع بأبى هو وامى
وأما الشفاعة التى نفاها القرآن كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة فينفيها أهل العلم والإيمان مثل انهم يطلبون من الأنبياء والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم ويقولون إنهم إذا أرادوا ذلك قضوها ويقولون إنهم عند الله تعالى كخواص الملوك عند الملوك يشفعون بغير إذن الملوك ولهم على الملوك أدلال يقضون به حوائجهم فيجعلونهم لله تعالى بمنزلة شركاء الملك وبمنزلة أولاده والله تعالى قد نزه نفسه المقدسة عن ذلك كما قال تعالى ( وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ) ولهذا قال النبى صلى الله
____________________
(24/342)
عليه وسلم ( لا تطرونى كما اطرت النصارى إبن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ( وهذه المسألة مبسوطة فى غير هذا الموضع
( والزيارة البدعية ( هي من أسباب الشرك بالله تعالى ودعاء خلقه وإحداث دين لم يأذن به الله و ( الزيارة الشرعية ( هي من جنس الإحسان إلى الميت بالدعاء له كالإحسان إليه بالصلاة عليه وهى من العبادات لله تعالى التى ينفع الله بها الداعى والمدعو له كالصلاة والسلام على النبى وطلب الوسيلة والدعاء لسائر المؤمنين أحيائهم وأمواتهم
وأما المسألة المتنازع فيها فالزيارة المأذون فيها هل فيها إذن للنساء ونسخ للنهى فى حقهن أو لم يأذن فيها بل هن منهيات عنها وهل النهي نهي تحريم أو تنزيه فى ذلك للعلماء ثلاثة أقوال معروفة والثلاثة أقوال فى مذهب الشافعى وأحمد أيضا وغيرهما وقد حكى فى ذلك ثلاث روايات عن أحمد وهو نظير تنازعهم فى تشييع النساء للجنائز وإن كان فيهم من يرخص فى الزيارة دون التشييع كما اختار ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم
فمن العلماء من اعتقد أن النساء مأذون لهن فى الزيارة وأنه أذن
____________________
(24/343)
لهن كما أذن للرجال وأعتقد أن قوله ( فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ( خطاب عام للرجال والنساء والصحيح أن النساء لم يدخلن فى الإذن فى زيارة القبور لعدة أوجه
أحدها أن قوله صلى الله عليه وسلم ( فزوروها ( صيغة تذكير وصيغة التذكير إنما تتناول الرجال بالوضع وقد تتناول النساء أيضا على سبيل التغليب لكن هذا فيه قولان قيل إنه يحتاج إلى دليل منفصل وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل وقيل انه يحمل على ذلك عند الاطلاق وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف والعام لا يعارض الأدلة الخاصة المستفيضة فى نهى النساء كما سنذكره إن شاء الله تعالى بل ولا ينسخها عند جمهور العلماء وإن علم تقدم الخاص على العام
الوجه الثانى أن يقال لو كان النساء داخلات فى الخطاب لاستحب لهن زيارة القبور كما استحب للرجال عند الجمهور لأن النبى صلى الله عليه وسلم علل بعلة تقتضي الاستحباب وهى قوله ( فإنها تذكركم الآخرة ( ولهذا تجوز زيارة قبور المشركين لهذه العلة كما ثبت فى الصحيح عن النبى أنه زار قبر أمه وقال ( استأذنت ربي فى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لي واستأذنته فى أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة
____________________
(24/344)
وأما زيارته لأهل البقيع فذلك فيه أيضا الاستغفار لهم والدعاء كما علم النبى صلى الله عليه وسلم أمته إذا زاروا قبور المؤمنين أن يسلموا عليهم ويدعوا لهم فلو كانت زيارة القبور مأذونا فيها للنساء لا ستحب لهن كما استحب للرجال لما فيها من الدعاء للمؤمنين وتذكر الموت وما علمنا أن أحدا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور ولا كان النساء على عهد النبى وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور كما يخرج الرجال
والذين رخصوا فى الزيارة اعتمدوا على ما يروى عن عائشة رضى الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وكان قد مات فى غيبتها وقالت لو شهدتك لما زرتك وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال إذ لو كان كذلك لاستحب لها زيارته كما تستحب للرجال زيارته سواء شهدته أو لم تشهده
وأيضا فإن الصلاة على الجنائز أوكد من زيارة القبور ومع هذا فقد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى النساء عن اتباع الجنائز وفي ذلك تفويت صلاتهن على الميت فإذا لم يستحب لهن اتباعها لما فيها من الصلاة والثواب فكيف بالزيارة
____________________
(24/345)
الوجه الثالث أن يقال غاية ما يقال فى قوله ( فزوروا القبور ( خطاب عام ومعلوم أن قوله ( من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان ( هو أدل على العموم من صيغة التذكير فإن لفظ ( من ( يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس وإن خالف فيه من لا يدرى ما يقول ولفظ ( من ( أبلغ صيغ العموم ثم قد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهى النبى لهن عن اتباع الجنائز سواء كان نهي تحريم أو تنزيه فإذا لم يدخلن فى هذا العموم فكذلك فى ذلك بطريق الأولى وكلاهما من جنس واحد فان تشييع الجنازة من جنس زيارة القبور قال الله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } فنهى نبيه عن الصلاة على المنافقين وعن القيام على قبورهم
وكان دليل الخطاب وموجب التعليل يقتضي أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم وذلك كما قال أكثر المفسرين هو القيام بالدعاء والاستغفار وهو مقصود زيارة قبور المؤمنين فإذا كان النساء لم يدخلن فى عموم اتباع الجنائز مع ما فى ذلك من الصلاة على الميت فلأن لا يدخلن فى زيارة القبور التى غايتها دون الصلاة عليه بطريق
____________________
(24/346)
الأولى بخلاف ما إذا أمكن النساء أن يصلين على الميت بلا اتباع كما يصلين عليه فى البيت فإن ذلك بمنزلة الدعاء له والاستغفار فى البيت
وإذا قيل مفسدة الاتباع للجنائز أعظم من مفسدة الزيارة لأن المصيبة حديثة وفي ذلك أذى للميت وفتنة للحى بأصواتهن وصورهن قيل ومطلق الاتباع أعظم من مصلحة الزيارة لأن في ذلك الصلاة عليه التى هي أعظم من مجرد الدعاء ولأن المقصود بالاتباع الحمل والدفن والصلاة فرض على الكفاية وليس شيء من الزيارة فرضا على الكفاية وذلك الفرض يشترك فيه الرجال والنساء بحيث لو مات رجل وليس عنده إلا نساء لكان حمله ودفنه والصلاة عليه فرضا عليهن وفى تغسيلهن للرجال نزاع وتفصيل وكذلك إذا تعذر غسل الميت هل ييمم فيه نزاع معروف وهو قولان فى مذهب أحمد وغيره فإذا كان النساء منهيات عما جنسه فرض على الكفاية ومصلحته أعظم إذا قام به الرجال فما ليس بفرض على أحد أولى
وقول القائل مفسدة التشييع أعظم ممنوع بل إذا رخص للمرأة فى الزيارة كان ذلك مظنة تكرير ذلك فتعظم فيه المفسدة ويتجدد الجزع والأذى للميت فكان ذلك مظنة قصد الرجال لهن والافتتان بهن كما هو الواقع فى كثير من الأمصار فإنه يقع بسبب
____________________
(24/347)
زيارة النساء القبور من الفتنة والفواحش والفساد ما لا يقع شيء منه عند اتباع الجنائز
وهذا كله يبين أن جنس زيارة النساء أعظم من جنس اتباعهن وأن نهي الاتباع إذا كان نهي تنزيه لم يمنع أن يكون نهي الزيارة نهي تحريم وذلك أن نهي المرأة عن الاتباع قد يتعذر لفرط الجزع كما يتعذر تسكينهن لفرط الجزع أيضا فإذا خفف هذه القوة المقتضى لم يلزم تخفيف ما لايقوى المقتضى فيه وإذا عفا الله تعالى للعبد عما لا يمكن تركه الا بمشقة عظيمة لم يلزم ان يعفو له عما يمكنه تركه بدون هذه المشقة الواجبة
الوجه الرابع ان يقال قد جاء عن النبى من طريقين انه لعن زوارات القبور فعن أبى هريرة رضي الله عنه ( أن النبى لعن زائرات القبور ( رواه الإمام أحمد وإبن ماجه والترمذى وصححه وعن إبن عباس رضي الله عنهما ( أن النبى لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائى والترمذى وحسنه وفى نسخ تصحيحه ورواه بن ماجه من ذكر الزيارة
____________________
(24/348)
فإن قيل الحديث الأول رواه عمر بن أبى سلمة وقد قال فيه على بن المدينى تركه شعبة وليس بذاك وقال بن سعد كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه وقال السعدى والنسائى ليس بقوي الحديث والثانى فيه أبو صالح باذام مولى أم هانئ وقد ضعفوه قال أحمد كان بن مهدى ترك حديث أبى صالح وكان أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به وقال بن عدى عامة ما يرويه تفسير وما أقل ماله فى المسند ولم أعلم أحدا من المتقدمين رضيه
قلت الجواب على هذا من وجوه
أحدها أن يقال كل من الرجلين قد عدله طائفة من العلماء كما جرحه آخرون أما عمر فقد قال فيه أحمد بن عبد الله العجلي ليس به بأس وكذلك قال يحيى بن معين ليس به بأس وبن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية
وأما قول من قال تركه شعبة فمعناه انه لم يرو عنه كما قال أحمد بن حنبل لم يسمع شعبة من عمر بن أبى سلمة شيئا وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدى ومالك ونحوهم قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم لا توجب رد
____________________
(24/349)
أخبارهم فهم إذا رووا عن شخص كانت روايتهم تعديلا له وأما ترك الرواية فقد يكون لشبهة لا توجب الجرح وهذا معروف فى غير واحد قد خرج له فى الصحيح
وكذلك قول من قال ليس بقوى فى الحديث عبارة لينة تقتضى أنه ربما كان فى حفظه بعض التغير ومثل هذه العبارة لا تقتضى عندهم تعمد الكذب ولا مبالغة فى الغلط
وأما أبو صالح فقد قال يحيى بن سعيد القطان لم أر أحدا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ وما سمعت أحدا من الناس يقول فيه شيئا ولم يتركه شعبة ولا زائدة فهذه رواية شعبة عنه تعديل له كما عرف من عادة شعبة وترك إبن مهدى له لا يعارض ذلك فإن يحيى بن سعيد أعلم بالعلل والرجال من بن مهدى فإن أهل الحديث متفقون على أن شعبة ويحيى بن سعيد أعلم بالرجال من بن مهدى وأمثاله
وأما قول أبى حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به فأبو حاتم يقول مثل هذا فى كثير من رجال الصحيحين وذلك أن شرطه فى التعديل صعب والحجة فى اصطلاحه ليس هو الحجة فى جمهور أهل العلم
____________________
(24/350)
وهذا كقول من قال لا أعلم أنهم رضوه وهذا يقتضى أنه ليس عندهم من الطبقة العالية ولهذا لم يخرج البخارى ومسلم له ولأمثاله لكن مجرد عدم تخريجهما للشخص لا يوجب رد حديثه وإذا كان كذلك فيقال إذا كان الجارح والمعدل من الأئمة لم يقبل الجرح الا مفسرا فيكون التعديل مقدما على الجرح المطلق
الوجه الثانى ان حديث مثل هؤلاء يدخل فى الحسن الذى يحتج به جمهور العلماء فإذا صححه من صححه كالترمذى وغيره ولم يكن فيه من الجرح إلا ما ذكر كان أقل أحواله أن يكون من الحسن
الوجه الثالث أن يقال قد روى من وجهين مختلفين أحدهما عن بن عباس والآخر عن أبي هريرة ورجال هذا ليس رجال هذا فلم يأخذه أحدهما عن الآخر وليس فى الإسنادين من يتهم بالكذب وإنما التضعيف من جهة سوء الحفظ ومثل هذا حجة بلا ريب وهذا من أجود الحسن الذى شرطه الترمذى فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيها متهم ولم يكن شاذا أى مخالفا لما ثبت بنقل الثقاة وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيه متهم ولا خالفه أحد من الثقاة وذلك أن الحديث إنما يخاف فيه من شيئين إما تعمد الكذب وإما خطأ الراوى فإذا كان من وجهين لم يأخذه أحدهما
____________________
(24/351)
عن الآخر وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوى الكذب فيه علم أنه ليس بكذب لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب
وأما الخطأ فإنه مع التعدد يضعف ولهذا كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يطلبان مع المحدث الواحد من يوافقه خشية الغلط ولهذا قال تعالى فى المرأتين { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } هذا لو كانا عن صاحب واحد فكيف وهذا قد رواه عن صاحب وذلك عن آخر وفى لفظ أحدهما زيادة على لفظ الآخر فهذا كله ونحوه مما يبين أن الحديث فى الأصل معروف
فإن قيل فهب أنه صحيح لكنه منسوخ فإن الأول ينسخه ويدل على ذلك ما رواه الأثرم واحتج به أحمد فى روايته ورواه إبراهيم بن الحارث عن عبد الله بن أبى مليكة أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها يا أم المؤمنين أليس كان نهى رسول الله عن زيارة القبور قالت نعم كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها ( قيل الجواب عن هذا من وجوه
أحدها أنه قد تقدم الخطاب بأن الإذن لم يتناول النساء فلا يدخلن فى الحكم الناسخ
____________________
(24/352)
الثانى خاص فى النساء وهو قوله صلى الله عليه وسلم ( لعن الله زوارات القبور أو زائرات القبور ( وقوله ( فزوروها ( بطريق التبع فيدخلن بعموم ضعيف إما أن يكون مختصا بالرجال وإما أن يكون متناولا للنساء والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخا له عند جمهور العلماء وهو مذهب الشافعى وأحمد فى أشهر الروايتين عنه وهو المعروف عند أصحابه فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص إذ قد يكون قوله ( لعن الله زوارات القبور ( بعد إذنه للرجال فى الزيارة ويدل على ذلك انه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج وذكر هذا بصيغة التذكير التى تتناول الرجال ولعن الزائرات جعله مختصا بالنساء ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج باق محكم كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فكذلك الآخر
واما ما ذكر عن عائشة رضى الله عنها فأحمد احتج به فى إحدى الروايتين عنه لما أداه اجتهاده إلى ذلك والرواية الأخرى عنه تناقض ذلك وهى اختيار الخرقى وغيره من قدماء أصحابه
ولا حجة فى حديث عائشة فإن المحتج عليها 4 احتج بالنهى العام فدفعت ذلك بأن النهى منسوخ وهو كما قالت رضى الله عنها ولم يذكر لها المحتج النهى المختص بالنساء الذى فيه لعنهن على الزيارة يبين ذلك قولها ( قد أمر بزيارتها ( فهذا يبين أنه أمر بها أمرا
____________________
(24/353)
يقتضى الاستحباب والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة ولكن عائشة بينت أن أمره الثانى نسخ نهيه الأول فلم يصلح أن يحتج به وهو النساء على أصل الإباحة ولو كانت عائشة تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال ولم تقل لأخيها لما زرتك
الجواب الثالث جواب من يقول بالكراهة من أصحاب أحمد والشافعى وهو أنهم قالوا حديث اللعن يدل على التحريم وحديث الإذن يرفع التحريم وبقى أصل الكراهة يؤيد هذا قول أم عطية نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا والزيارة من جنس الإتباع فيكون كلاهما مكروها غير محرم
الجواب الرابع جواب طائفة منهم كإسحاق بن راهويه فإنهم يقولون اللعن قد جاء بلفظ الزوارات وهن المكثرات للزيارة فالمرة الواحدة فى الدهر لا تتناول ذلك ولا تكون المرأة زائرة ويقولون عائشة زارت مرة واحدة ولم تكن زوارة
وأما القائلون بالتحريم فيقولون قد جاء بلفظ ( الزوارات ( ولفظ الزوارات قد يكون لتعددهن كما يقال فتحت الأبواب إذ لكل باب فتح يخصه ومنه قوله تعالى { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها }
____________________
(24/354)
ومعلوم أن لكل باب فتحا واحدا قالوا ولأنه لا ضابط فى ذلك بين ما يحرم ومالا يحرم واللعن صريح فى التحريم
ومن هؤلاء من يقول التشييع كذلك ويحتج بما روى فى التشييع من التغليظ كقوله ( ارجعن مأزورات غير مأجورات فإنكن تفتن الحى وتؤذين الميت ( وقوله لفاطمة رضى الله عنها ( أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخل الجنة حتى يكون كذا وكذا ( وهذان يؤيدهما ما ثبت فى الصحيحين من أنه ( نهى النساء عن اتباع الجنائز ( وأما قول أم عطية ولم يعزم علينا فقد يكون مرادها لم يؤكد النهى وهذا لا ينفي التحريم وقد تكون هي ظنت أنه ليس بنهى تحريم والحجة فى قول النبى لا فى ظن غيره
الجواب الخامس أن النبى علل الإذن للرجال بأن ذلك يذكر بالموت ويرقق القلب ويدمع العين هكذا فى مسند أحمد ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذاالباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة لما فيها من الضعف وكثرة الجزع وقلة الصبر
وأيضا فإن ذلك سبب لتأذى الميت ببكائها ولافتتان الرجال
____________________
(24/355)
بصوتها وصورتها كما جاء فى حديث آخر ( فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت ( وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسببا للأمور المحرمة فى حقهن وحق الرجال والحكمة هنا غير مضبوطة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذى لا يفضى إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع
ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو غير منتشرة علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب سدا للذريعة كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما فى ذلك من الفتنة وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك من النظر وليس فى ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة فإنه ليس فى ذلك الا دعاؤها للميت وذلك ممكن فى بيتها ولهذا قال الفقهاء إذا علمت المرأة من نفسها أنها إذا زارت المقبرة بدا منها ما لا يجوز من قول أو عمل لم تجز لها الزيارة بلا نزاع فصل
وأما الحديث المذكور فى زيارة قبر النبى فهو ضعيف وليس فى زيارة قبر النبى صلى الله عليه وسلم حديث حسن ولا صحيح ولا روى أهل السنن المعروفة كسنن أبى داود والنسائى وبن ماجه والترمذى ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد
____________________
(24/356)
ونحوه ولا أهل المصنفات كموطأ مالك وغيره فى ذلك شيئا بل عامة ما يروى فى ذلك أحاديث مكذوبة موضوعة كما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من زارنى وزار أبى إبراهيم فى عام واحد ضمنت له على الله الجنة ( وهذا حديث موضوع كذب باتفاق أهل العلم
وكذلك ما يروى أنه قال ( من زارنى بعد مماتى فكأنما زارني فى حياتى ومن زارنى بعد مماتى ضمنت له على الله الجنة ( ليس لشيء من ذلك أصل وإن كان قد روى بعض ذلك الدارقطنى والبزار فى مسنده فمدار ذلك على عبد الله بن عمر العمرى أو من هو أضعف منه ممن لا يجوز أن يثبت بروايته حكم شرعى
وإنما اعتمد الأئمة فى ذلك على ما رواه أبو داود فى السنن عن أبى هريرة عن النبى أنه قال ( ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ( وكما فى سنن النسائى عن النبى أنه قال ( ان الله وكل بقبرى ملائكة تبلغنى عن أمتى السلام ( فالصلاة والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله فلهذا استحب ذلك العلماء
ومما يبين ذلك أن مالكا رحمه الله كره أن يقول الرجل
____________________
(24/357)
زرت قبر النبى صلى الله عليه وسلم ومالك قد أدرك الناس من التابعين وهم أعلم الناس بهذه المسألة فدل ذلك على أنه لم تكن تعرف عندهم ألفاظ زيارة قبر النبى ولهذا كره من كره من الأئمة أن يقف مستقبل القبر يدعو بل وكره مالك وغيره أن يقوم للدعاء لنفسه هناك وذكر أن هذا لم يكن من عمل الصحابة والتابعين وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها
وقد ذكروا فى أسباب كراهته أن يقول زرت قبر النبى لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية وهي قصد الميت لسؤاله ودعائه والرغبة إليه فى قضاء الحوائج ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة فكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد بخلاف الصلاة عليه والسلام فإن ذلك مما أمر الله به
أما لفظ الزيارة فى عموم القبور فقد لا يفهم منها مثل هذا المعنى ألا ترى إلى قوله ( فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ) مع زيارته لقبر أمه فإن هذا ينتاول زيارة قبور الكفار فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والإستغاثة به ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع بخلاف ما إذا كان المزور معظما فى الدين
____________________
(24/358)
كالأنبياء والصالحين فإنه كثيرا ما يعنى بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية والشركية فلهذا كره مالك ذلك فى مثل هذا وإن لم يكره ذلك فى موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة
فلا يمكن أحدا أن يروى بإسناد ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه شيئا فى زيارة قبر النبى بل الثابت عنه فى الصحيحين يناقض المعنى الفاسد الذى ترويه الجهال بهذا اللفظ كقوله ( لا تتخذوا قبرى عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم ( وقوله ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ( قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وقوله ( ان من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مسإجد فانى أنهاكم عن ذلك ( وقوله ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ( وأشباه هذه الأحاديث التى فى الصحاح والسنن والكتب المعتمدة
فكيف يعدل من له علم وايمان عن موجب هذه النصوص الثابتة باتفاق أهل الحديث إلى ما يناقض معناها من الأحاديث التى لم يثبت منها شيئا أحد من أهل العلم والله سبحانه أعلم وصلى الله على محمد
____________________
(24/359)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله (
عن زيارة النساء القبور هل ورد فى ذلك حديث عن النبى أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين صح عن رسول الله من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال ( لعن الله زوارات القبور ( رواه أحمد وبن ماجه والترمذى وصححه وعن بن عباس رضى الله عنه قال ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( رواه أهل السنن الأربعة أبو داود والنسائى والترمذى وبن ماجه وقال الترمذى حديث حسن وأخرجه أبو حاتم فى صحيحه وعلى هذا العمل فى أظهر قولى أهل العلم أنه نهى زوارات القبور عن ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة (
فإن قيل فالنهى عن ذلك منسوخ كما قال ذلك أهل القول الآخر قيل هذا ليس بجيد لأن قوله ( كنت نهيتكم عن زيارة
____________________
(24/360)
القبور فزوروها ( هذا خطاب للرجال دون النساء فإن اللفظ لفظ مذكر وهو مختص بالذكور أو متناول لغيرهم بطريق التبع فإن كان مختصا بهم فلا ذكر للنساء وإن كان متناولا لغيرهم كان هذا اللفظ عاما وقوله ( لعن الله زوارات القبور ( خاص بالنساء دون الرجال ألا تراه يقول ( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ( فالذين يتخذون عليها المساجد والسرج لعنهم الله سواء كانوا ذكورا أو اناثا وأما الذين يزورون فإنما لعن النساء الزوارات دون الرجال وإذا كان هذا خاصا ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة كان متقدما على العام عند عامة أهل العلم كذلك لو علم أنه كان بعدها
وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم ( من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان ( فهذا عام والنساء لم يدخلن فى ذلك لأنه ثبت عنه فى الصحيح أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز عن عبد الله بن عمر قال سرنا مع رسول الله يعنى ( نشيع ) ميتا فلما فرغنا انصرف رسول الله وانصرفنا معه فلما توسطنا الطريق إذا نحن بامرأة مقبلة فلما دنت إذا هي فاطمة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أخرجك يا فاطمة من بيتك قالت أتيت يا رسول الله أهل هذا
____________________
(24/361)
البيت فعزيناهم بميتهم فقال رسول الله لعلك بلغت معهم الكدى أما إنك لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك ( رواه أهل السنن ورواه أبو حاتم فى صحيحه وقد فسر ( الكدى ( بالقبور والله أعلم وسئل رحمه الله
هل الميت يسمع كلام زائره ويرى شخصه وهل تعاد روحه إلى جسده فى ذلك الوقت أم تكون ترفرف على قبره فى ذلك الوقت وغيره وهل تصل إليه القراءة والصدقة من ناحليه وغيرهم سواء كان من المال الموروث عنه وغيره وهل تجمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه الذين ماتوا قبله سواء كان مدفونا قريبا منهم أو بعيدا وهل تنقل روحه إلى جسده فى ذلك الوقت أو يكون بدنه إذا مات فى بلد بعيد ودفن بها ينقل إلى الأرض التى ولد بها وهل يتأذى ببكاء أهله عليه والمسؤول من أهل العلم رضي الله عنهم الجواب عن هذه الفصول فصلا فصلا جوابا واضحا مستوعبا لما ورد فيه من الكتاب والسنة وما نقل فيه عن الصحابة رضى الله عنهم وشرح مذاهب الأئمة والعلماء أصحاب المذاهب واختلافهم وما الراجح من أقوالهم مأجورين إن شاء الله تعالى
____________________
(24/362)
فأجاب الحمد لله رب العالمين نعم يسمع الميت فى الجملة كما ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه ( وثبت عن النبى ( أنه ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقال يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف ياعتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإنى وجدت ما وعدنى ربى حقا ( فسمع عمر رضي الله عنه ذلك فقال يا رسول الله كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا فقال ( والذى نفسى بيده ما أنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ( ثم أمر بهم فسحبوا فى قليب بدر وكذلك فى الصحيحين عن عبد الله بن عمر ( أن النبى صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا وقال إنهم يسمعون الآن ما أقول (
وقد ثبت عنه فى الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور ويقول ( قولوا السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وانا ان شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ( فهذا خطاب لهم وإنما يخاطب من يسمع وروى بن عبد البر عن النبى
____________________
(24/363)
أنه قال ( ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام (
وفى السنن عنه أنه قال ( اكثروا من الصلاة على يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة على فقالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يعنى صرت رميما فقال إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ( وفى السنن أنه قال ( إن الله وكل بقبرى ملائكة يبلغونى عن أمتى السلام (
فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع فى الجملة كلام الحي ولا يجب أن يكون السمع له دائما بل قد يسمع فى حال دون حال كما قد يعرض للحي فإنه قد يسمع أحيانا خطاب من يخاطبه وقد لا يسمع لعارض يعرض له وهذا السمع سمع إدراك ليس يترتب عليه جزاء ولا هو السمع المنفي بقوله { إنك لا تسمع الموتى } فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال فان الله جعل الكافر كالميت الذى لا يستجيب لمن دعاه وكالبهائم التى تسمع الصوت ولا تفقه المعنى فالميت وان سمع الكلام وفقه المعنى فإنه لا يمكنه إجابة الداعى ولا امتثال ما أمر به ونهى عنه فلا ينتفع بالأمر والنهى وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي وان سمع الخطاب وفهم المعنى كما
____________________
(24/364)
قال تعالى { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم }
وأما رؤية الميت فقد روى فى ذلك آثار عن عائشة وغيرها فصل
وأما قول القائل هل تعاد روحه إلى بدنه ذلك الوقت أم تكون ترفرف على قبره فى ذلك الوقت وغيره فإن روحه تعاد إلى البدن فى ذلك الوقت كما جاء فى الحديث وتعاد أيضا فى غير ذلك وأرواح المؤمنين فى الجنة كما فى الحديث الذى رواه النسائى ومالك والشافعى وغيرهم ( أن نسمة المؤمن طائر يعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ) وفى لفظ ( ثم تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش ) ومع ذلك فتتصل بالبدن متى شاء الله وذلك فى اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع فى الأرض وانتباه النائم
وهذا جاء فى عدة آثار أن الأرواح تكون فى أفنية القبور قال مجاهد الأرواح تكون على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارقه فهذا يكون أحيانا وقال مالك بن أنس بلغنى أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت والله أعلم
____________________
(24/365)
فصل
وأما ( القراءة والصدقة ( وغيرهما من أعمال البر فلا نزاع بين علماء السنة والجماعة فى وصول ثواب العبادات المالية كالصدقة والعتق كما يصل إليه أيضا الدعاء والاستغفار والصلاة عليه صلاة الجنازة والدعاء عند قبره
وتنازعوا فى وصول الأعمال البدنية كالصوم والصلاة والقراءة والصواب أن الجميع يصل إليه فقد ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ( وثبت أيضا ( أنه أمر امرأة ماتت أمها وعليها صوم أن تصوم عن أمها ( وفى المسند عن النبى أنه قال لعمرو بن العاص ( لو أن أباك أسلم فتصدقت عنه أو صمت أو اعتقت عنه نفعه ذلك ( وهذا مذهب أحمد وأبى حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعى
وأما احتجاج بعضهم بقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فيقال له قد ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأمة أنه يصلي
____________________
(24/366)
عليه ويدعى له ويستغفر له وهذا من سعى غيره وكذلك قد ثبت ما سلف من أنه ينتفع بالصدقة عنه والعتق وهو من سعى غيره وما كان من جوابهم فى موارد الاجماع فهو جواب الباقين فى مواقع النزاع وللناس فى ذلك أجوبة متعددة
لكن الجواب المحقق فى ذلك أن الله تعالى لم يقل إن الانسان لا ينتفع الا بسعى نفسه وإنما قال { ليس للإنسان إلا ما سعى } فهو لا يملك الا سعيه ولا يستحق غير ذلك وأما سعى غيره فهو له كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه ونفع نفسه فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز
وهكذا هذا إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه الله بذلك كما ينفعه بدعائه له والصدقة عنه وهو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم سواء كان من أقاربه أو غيرهم كما ينتفع بصلاة المصلين عليه ودعائهم له عند قبره
____________________
(24/367)
فصل
وأما قوله هل تجتمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه ففي الحديث عن أبى أيوب الأنصارى وغيره من السلف ورواه أبو حاتم فى الصحيح عن النبى ( أن الميت إذا عرج بروحه تلقته الأرواح يسألونه عن الأحياء فيقول بعضهم لبعض دعوه حتى يستريح فيقولون له ما فعل فلان فيقول عمل عمل صلاح فيقولون ما فعل فلان فيقول ألم يقدم عليكم فيقولون لا فيقولون ذهب به إلى الهاوية ( ولما كانت أعمال الأحياء تعرض على الموتى كان أبو الدرداء يقول ( اللهم إنى أعوذ بك أن أعمل عملا أخزى به عند عبد الله بن رواحة ( فهذا اجتماعهم عند قدومه يسألونه فيجيبهم
وما استقرارهم فبحسب منازلهم عند الله فمن كان من المقربين كانت منزلته أعلى من منزلة من كان من أصحاب اليمين لكن الأعلى ينزل إلى الاسفل والأسفل لا يصعد إلى الاعلى فيجتمعون إذا شاء الله كما يجتمعون فى الدنيا مع تفاوت منازلهم ويتزاورون
____________________
(24/368)
وسواء كانت المدافن متباعدة فى الدنيا أو متقاربة قد تجتمع الأرواح مع تباعد المدافن وقد تفترق مع تقارب المدافن يدفن المؤمن عند الكافر وروح هذا فى الجنة وروح هذا فى النار والرجلان يكونان جالسين أو نائمين فى موضع واحد وقلب هذا ينعم وقلب هذا يعذب وليس بين الروحين اتصال فالأرواح كما قال النبى ( جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف (
والبدن لا ينقل إلى موضع الولادة بل قد جاء ( أن الميت يذر عليه من تراب حفرته ( ومثل هذا لا يجزم به ولا يحتج به بل أجود منه حديث آخر فيه ( أنه ما من ميت يموت فى غير بلده الا قيس له من مسقط رأسه إلى منقطع أثره فى الجنة ( والانسان يبعث من حيث مات وبدنه فى قبره مشاهد فلا تدفع المشاهدة بظنون لا حقيقة لها بل هي مخالفة فى العقل والنقل فصل
وأما قول السائل هل يؤذيه البكاء عليه فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف والخلف والعلماء والصواب
____________________
(24/369)
أنه يتأذى بالبكاء عليه كما نطقت به الأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ان الميت يعذب ببكاء أهله عليه وفي لفظ من ينح عليه يعذب بما نيح عليه ( وفى الحديث الصحيح أن عبد الله بن رواحة لما أغمي عليه جعلت أخته تندب وتقول واعضداه واناصراه فلما أفاق قال ما قلت لي شيئا إلا قيل لى أكذلك أنت
وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره فهو مخالف لقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ثم تنوعت طرقهم فى تلك الأحاديث الصحيحة
فمنهم من غلط الرواة لها كعمر بن الخطاب وغيره وهذه طريقة عائشة والشافعى وغيرهما
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على ايصائه وهو قول طائفة كالمزنى وغيره
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كانت عادتهم فيعذب على ترك النهى عن المنكر وهو اختيار طائفة منهم جدى أبو البركات وكل
____________________
(24/370)
هذه الأقوال ضعيفة جدا
والأحاديث الصحيحة الصريحة التى يرويها مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي موسى الأشعرى وغيرهم لا ترد بمثل هذا وعائشة أم المؤمنين رضى الله عنها لها مثل هذا نظائر ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ولا يكون الأمر كذلك ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا الا كان مخطئا
وعائشة رضى الله عنها روت عن النبى لفظين وهي الصادقة فيما نقلته فروت عن النبى قوله ( ان الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه ( وهذا موافق لحديث عمر فإنه إذا جاز أن يزيده عذابا ببكاء أهله جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله ولهذا رد الشافعى فى مختلف الحديث هذا الحديث نظرا إلى المعنى وقال الأشبه روايتها الأخرى ( أنهم يبكون عليه وأنه ليعذب فى قبره (
والذين اقروا هذا الحديث على مقتضاه ظن بعضهم ان هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره وان الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد واعتقد هؤلاء أن الله يعاقب الانسان بذنب غيره فجوزوا
____________________
(24/371)
أن يدخلوا أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم وهذا وإن كان قد قاله طوائف منتسبة إلى السنة فالذى دل عليه الكتاب والسنة ان الله لا يدخل النار الا من عصاه كما قال { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } فلابد أن يملأ جهنم من اتباع ابليس فإذا امتلأت لم يكن لغيرهم فيها موضع فمن لم يتبع ابليس لم يدخل النار
وأطفال الكفار أصح الأقوال فيهم أن يقال فيهم الله أعلم بما كانوا عاملين كما قد أجاب بذلك النبى في الحديث الصحيح فطائفة من أهل السنة وغيرهم قالوا أنهم كلهم فى النار واختار ذلك القاضي أبو يعلى وغيره وذكر انه منصوص عن أحمد وهو غلط على أحمد وطائفة جزموا أنهم كلهم فى الجنة واختار ذلك أبو الفرج بن الجوزى وغيره واحتجوا بحديث فيه رؤيا النبى صلى الله عليه وسلم ( لما رأى إبراهيم الخليل وعنده أطفال المؤمنين قيل يا رسول الله وأطفال المشركين قال وأطفال المشركين (
والصواب أن يقال فيهم الله أعلم بما كانوا عاملين ولا يحكم لمعين منهم بجنة ولا نار وقد جاء فى عدة أحاديث أنهم يوم القيامة فى عرصات القيامة يؤمرون وينهون فمن اطاع دخل الجنة ومن
____________________
(24/372)
عصى دخل النار وهذا هو الذى ذكره أبو الحسن الأشعرى عن أهل السنة والجماعة
والتكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء وهى الجنة والنار وأما عرصات القيامة فيمتحنون فيها كما يمتحنون فى البرزخ فيقال لأحدهم من ربك وما دينك ومن نبيك وقال تعالى { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } وقد ثبت فى الصحيح من غير وجه عن النبى أنه قال ( يتجلى الله لعباده فى الموقف إذا قيل ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون فيتبع المشركون آلهتهم وتبقى المؤمنون فيتجلى لهم الرب الحق فى غير الصورة التى كانوا يعرفون فينكرونه ثم يتجلى لهم فى الصورة التى يعرفون فيسجد له المؤمنون وتبقى ظهور المنافقين كقرون البقر فيريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون ) وذلك قوله { يوم يكشف عن ساق } الآية والكلام على هذه الأمور مبسوط فى غير هذا الموضع
والمقصود ها هنا أن الله لا يعذب أحدا فى الآخرة الا بذنبه وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى وقوله ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) ليس فيه أن النائحة لا تعاقب بل النائحة تعاقب على النياحة كما فى
____________________
(24/373)
الحديث الصحيح ( أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران ( فلا يحمل عمن ينوح وزره أحد
وأما تعذيب الميت فهو لم يقل إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه بل قال ( يعذب ( والعذاب أعم من العقاب فإن العذاب هو الألم وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقابا له على ذلك السبب فإن النبى قال ( السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ( فسمى السفر عذابا وليس هو عقابا على ذنب
والانسان يعذب بالأمور المكروهة التى يشعر بها مثل الأصوات الهائلة والأرواح الخبيثة والصور القبيحة فهو يتعذب بسماع هذا وشم هذا ورؤية هذا ولم يكن ذلك عملا له عوقب عليه فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة وإن لم تكن النياحة عملا له يعاقب عليه
وإلانسان فى قبره يعذب بكلام بعض الناس ويتألم برؤية بعضهم وبسماع كلامه ولهذا أفتى القاضي أبو يعلى بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصى فإنهم يتألمون بها كما جاءت بذلك الآثار فتعذيبهم
____________________
(24/374)
بعمل المعاصى عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم ثم النياحة سبب العذاب
وقد يندفع حكم السبب بما يعارضه فقد يكون فى الميت من قوة الكرامة ما يدفع عنه من العذاب كما يكون فى بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة والأرواح والصور القبيحة
وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك إما بتوبة مقبولة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بشفاعة شفيع مطاع وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته فإنه { لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وما يحصل للمؤمن فى الدنيا والبرزخ والقيامة من الألم التى هي عذاب فإن ذلك يكفر الله به خطاياه كما ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه (
وفى المسند لما نزلت هذه الآية { من يعمل سوءا يجز به } قال أبو بكر يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا
____________________
(24/375)
فقال ( يا أبا بكر ألست تحزن ألست يصيبك الأذى فإن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب كما قال تعالى { طبتم فادخلوها خالدين } وفى الحديث الصحيح ( أنهم إذا عبروا على الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول الجنة والكلام فى هذه المسألة مبسوط فى غير هذا الجواب والله أعلم بالصواب
وما ذكرنا فى أن الموتى يسمعون الخطاب ويصل إليهم الثواب ويعذبون بالنياحة بل وما لم يسأل عنه السائل من عقابهم فى قبورهم وغير ذلك فقد يكشف لكثير من أبناء زماننا يقظة ومناما ويعلمون ذلك ويتحققونه وعندنا من ذلك أمور كثيرة لكن الجواب فى المسائل العلمية يعتمد فيه على ما جاء به الكتاب والسنة فإنه يجب على الخلق التصديق به وما كشف للإنسان من ذلك أو أخبره به من هو صادق عنده فهذا ينتفع به من علمه ويكون ذلك مما يزيده إيمانا وتصديقا بما جاءت به النصوص ولكن لا يجب على جميع الخلق الإيمان بغير ما جاءت به الأنبياء فإن الله عز وجل أوجب التصديق بما جاءت به الأنبياء كما فى قوله تعالى { قولوا آمنا بالله } الآية وقال تعالى { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } الآية وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله
____________________
(24/376)
عليه وسلم أنه قال ( قد كان فى الأمم قبلكم محدثون فان يكن فى أمتى أحد فعمر (
فالمحدث الملهم المكاشف من هذه الأمة يجب عليه أن يزن ذلك بالكتاب والسنة فإن وافق ذلك صدق ما ورد عليه وإن خالف لم يلتفت إليه كما كان يجب على عمر رضى الله عنه وهو سيد المحدثين إذا ألقى فى قلبه شيء وكان مخالفا للسنة لم يقبل منه فإنه ليس معصوما وإنما العصمة للنبوة
ولهذا كان الصديق أفضل من عمر فإن الصديق لا يتلقى من قلبه بل من مشكاة النبوة وهى معصومة والمحدث يتلقى تارة عن قلبه وتارة عن النبوة فما تلقاه عن النبوة فهو معصوم يجب اتباعه وما ألهم فى قلبه فإن وافق ما جاءت به النبوة فهو حق وإن خالف ذلك فهو باطل
فلهذا لا يعتمد أهل العلم والإيمان فى مثل مسائل العلم والدين إلا على نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإن كان عندهم فى بعض ذلك شواهد وبينات مما شاهدوه ووجدوه ومما عقلوه وعملوه وذلك ينتفعون به هم فى أنفسهم وأما حجة الله تعالى على عباده فهم رسله وإلا فهذه المسائل فيها من الدلائل والاعتبارات العقلية والشواهد
____________________
(24/377)
الحسية الكشفية ما ينتفع به من وجد ذلك وقياس بنى آدم وكشفهم تابع لما جاءت به الرسل عن الله تعالى فالحق فى ذلك موافق لما جاءت به الرسل عن الله تعالى لا مخالف له ومع كونه حقا فلا يفصل الخلاف بين الناس ولا يجب على من لم يحصل له ذلك التصديق به كما يجب التصديق بما عرف أنه معصوم وهو كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
ولكن من حصل له فى مثل هذه الأمور بصيرة أو قياس أو برهان كان ذلك نورا على نور قال بعض السلف بصيرة المؤمن تنطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر فإذا جاء الأثر كان نورا على نور { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
____________________
(24/378)
وسئل رحمه الله
هل يتكلم الميت فى قبره أم لا
فأجاب يتكلم وقد يسمع أيضا من كلمه كما ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( انهم يسمعون قرع نعالهم ( وثبت عنه فى الصحيح ( أن الميت يسأل فى قبره فيقال له من ربك وما دينك ومن نبيك فيثبت الله المؤمن بالقول الثابت فيقول الله ربى والاسلام دينى ومحمد نبيي ويقال له ما تقول فى هذا الرجل الذى بعث فيكم فيقول المؤمن هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه ( وهذا تأويل قوله تعالى { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } وقد صح عن النبى أنها نزلت فى عذاب القبر
وكذلك يتكلم المنافق فيقول آه آه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيضرب بمزربة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان
____________________
(24/379)
وثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( لولا أن لاتدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر مثل الذى أسمع ( وثبت عنه فى الصحيح أنه نادى المشركين يوم بدر لما ألقاهم فى القليب وقال ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ( والآثار فى هذا كثيرة منتشرة والله أعلم وسئل
عن بكاء الأم والأخوة على الميت هل فيه بأس على الميت
فأجاب
أما دمع العين وحزن القلب فلا اثم فيه لكن الندب والنياحة منهى عنه وأى صدقة تصدق بها عن الميت نفعه ذلك وسئل
عما يتعلق بالتعزية
فأجاب التعزية مستحبة ففي الترمذى عن النبى أنه قال ( من عزى مصابا فله مثل أجره ( وأما قول القائل
____________________
(24/380)
ما نقص من عمره زاد فى عمرك فغير مستحب بل المستحب أن يدعى له بما ينفع مثل أن يقول أعظم الله أجرك وأحسن عزاك وغفر لميتك
وأما نقص العمر وزيادته فمن الناس من يقول انه لا يجوز بحال ويحمل ما ورد على زيادة البركة والصواب أنه يحصل نقص وزيادة عما كتب فى صحف الملائكة وأما علم الله القديم فلا يتغير
وأما اللوح المحفوظ فهل يغير ما فيه على قولين وعلى هذا يتفق ما ورد فى هذا الباب من النصوص
وأما صنعة الطعام لأهل الميت فمستحبة كما قال النبى ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم ( لكن إنما يطيب إذا كان بطيب نفس المهدى وكان على سبيل المعاوضة مثل أن يكون مكافأة عن معروف مثله فإن علم الرجل أنه ليس بمباح لم يأكل منه وان اشتبه أمره فلا بأس بتناول اليسير منه إذا كان فيه مصلحة راجحة مثل تأليف القلوب ونحو ذلك والله أعلم
____________________
(24/381)
وسئل
عمن يقرأ القرآن وينوح على القبر ويذكر شيئا لا يليق والنساء مكشفات الوجوه والرجال حولهم
فأجاب الحمد لله النياحة محرمة على الرجال والنساء عند الأئمة المعروفين
وقد ثبت فى الصحيح عن النبي ( أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران ( وفى السنن عنه ( أنه لعن النائحة والمستمعة ) وفى الصحيح عنه قال ( ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية (
وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز وعلى ولي الأمر الأمر بالمعروف والنهى عن هذا المنكر وغيره ومن لم يرتدع فانه يعاقب على ذلك بما يزجره لا سيما النوح للنساء عند القبور فان ذلك من المعاصى التى يكرهها الله ورسوله من الجزع
____________________
(24/382)
والندب والنياحة وإيذاء الميت وفتنة الحى وأكل أموال الناس بالباطل وترك ما أمر الله به ورسوله من الصبر والاحتساب وفعل أسباب الفواحش وفتح بابها ما يجب على المسلمين أن ينهوا عنه والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(24/383)
قال شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله تسليما
أما بعد فان الله تعالى أنعم على عباده بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو أعظم نعمة عليهم ومن قبلها تمت عليه النعمة وأكمل له الدين وجعله من خير أمة أخرجت للناس فبعثه بالهدى ودين الحق وأنزل عليه الكتاب والحكمة وجعل كتابه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب وأمر فيه
____________________
(25/5)
بعبادة الله وبالأحسان إلى خلق الله فقال تعالى { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا }
وجعل دينه ثلاث درجات إسلام ثم إيمان ثم إحسان
وجعل الاسلام مبنيا على أركان خمسة ومن آكدها الصلاة وهي خمسة فروض وقرن معها الزكاة فمن آكد العبادات الصلاة وتليها الزكاة ففي الصلاة عبادته وفي الزكاة الاحسان إلى خلقه فكرر فرض الصلاة في القرآن في غير آيه ولم يذكرها إلا قرن معها الزكاة
من ذلك قوله تعالى { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقال { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } وقال { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة }
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة رواه مسلم من حديث عمر أن جبريل سأل النبى عن الاسلام
____________________
(25/6)
فقال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وعنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فاذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ولما بعث معاذا إلى اليمن قال له إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فان هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فان هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فان هم أطاعوك لذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب فصل
وجاء ذكر الصلاة والزكاة في القرآن مجملا فبينه الرسول وان بيانه أيضا من الوحي لأنه سبحانه أنزل عليه الكتاب والحكمة
____________________
(25/7)
قال حسان بن عطية كان جبريل ينزل على النبي بالسنة يعلمه إياها كما يعلمه القرآن وقد ذكرت في الصلاة فصلا قبل هذا
والمقصود هنا ذكر الزكاة فنذكر ما تيسر من أحكامها وبعض الأحاديث وشيئا من أقوال الفقهاء فقد سمى الله الزكاة صدقة وزكاة ولفظ الزكاة في اللغة يدل على النمو والزرع يقال فيه زكا إذا نما ولا ينمو إلا إذا خلص من الدغل فلهذا كانت هذه اللفظة في الشريعة تدل على الطهارة { قد أفلح من زكاها } { قد أفلح من تزكى } نفس المتصدق تزكو وماله يزكو يطهر ويزيد في المعنى
وقد أفهم الشرع أنها شرعت للمواساة ولا تكون المواساة إلا فيما له مال من الأموال فحد له أنصبة ووضعها في الأموال النامية فمن ذلك ما ينمو بنفسه كالماشية والحرث وما ينمو بتغير عينه والتصرف فيه كالعين وجعل المال المأخوذ على حساب التعب فما وجد من أموال الجاهلية هو أقله تعبا ففيه الخمس ثم ما فيه التعب من طرف واحد فيه نصف الخمس وهو العشر فيما سقته السماء وما فيه التعب من طرفين فيه ربع الخمس وهو نصف العشر فيما سقى بالنضح وما فيه التعب في طول السنة كالعين ففيه ثمن ذلك وهو ربع العشر
____________________
(25/8)
فصل
وافتتح مالك رحمه الله كتاب الزكاة في موطئه بذكر حديث أبى سعيد لأنه أصح ما روى في الباب وكذلك فعل مسلم في صحيحه وفيه ذكر نصاب الورق ونصاب الابل ونصاب الحب والثمر ثم الماشية والعين لا بد فيها من مرور الحول فثنى بما رواه عن أبى بكر وعمر وبن عمر رضي الله عنهم في اعتبار الحول ولو كان قد خالفهم معاوية وبن عباس فما رواه أو قاله الخلفاء حجة على من خالفهم لا سيما الصديق لقوله عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وقوله إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا
ثم ذكر نصاب الذهب والحجة فيه أضعف من الورق فلهذا أخره
ثم ذكر ما تؤخذ الزكاة منه فذكر الأحاديث والآيات في ذلك وأجودها حديث عمر بن الخطاب وكتابه في الصدقة وذكر عن عمر بن عبد العزيز ان الصدقة لا تكون إلا في العين والحرث
____________________
(25/9)
والماشية واختاره وقال بن عبد البر وهو إجماع أن الزكاة فيما ذكر وقال بن المنذر الامام أبو بكر النيسابوري أجمع أهل العلم على أن الزكاة تجب في تسعة أشياء في الابل والبقر والغنم والذهب والفضة والبر والشعير والتمر والزبيب إذا بلغ من كل صنف منها ما تجب فيه الزكاة فصل
في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة وأشار بخمس أصابعه وفي لفظ ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة وفي لفظ ثمر بالثاء المثلثة وفي لفظ ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ورواه مسلم عن جابر وروى مسلم عن جابر عن النبي أنه قال فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقى بالسانية نصف العشر ورواه البخاري من حديث بن عمر ولفظه فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقى بالنضح نصف العشر
وفي الموطأ العيون والبعل والبعل ما شرب بعروقه ويمتد في الارض
____________________
(25/10)
ولا يحتاج إلى سقي من الكرم والنخل والعثري ما تسقيه السماء وتسميه العامة العدى وقيل يجمع له ماء المطر فيصير سواقيا يتصل الماء بها
قال ابو عمر بن عبد البر في الحديث الأول فوائد
منها إيجاب الصدقة في هذا المقدار ونفيها عما دونه والذود من الابل من الثلاثة إلى العشر والأوقية اسم لوزن اربعين درهما والنش نصف اوقيه والنواة خمسة دراهم قاله أبو عبيد القاسم بن سلام وما زاد على المائتين وهي الخمس الأواقي فظاهر هذا الحديث إيجاب الزكاة فيه لعدم النص بالعفو عما زاد ونصه على العفو فيما دونها وذلك إيجاب لها في الخمس فما فوقها وعليه أكثر العلماء روي ذلك عن علي وبن عمر وهو مذهب مالك والثوري والأوزاعي والليث وبن ابى ليلى والشافعي وابى يوسف ومحمد واحمد واسحق وابى عبيد وأبى ثور
وقالت طائفة لا شيء في الزيادة حتى يبلغ أربعين درهما
وفي الذهب أربعة دنانير يروى هذا عن عمر وبه قال سعيد والحسن وطاووس وعطاء والزهري ومكحول وعمرو بن دينار
____________________
(25/11)
وابو حنيفة وأما ما زاد على الخمسة الأوسق ففيه الزكاة عند الجميع فصل
فنصاب الورق التي تجب زكاته مائتا درهم على ما في هذا الحديث وهو قوله خمس اواق من الورق وهذا مجمع عليه وفي حديث انس في الصحيحين ايضا وفي الرقة ربع العشر وأما نصاب الذهب فقد قال مالك في الموطأ السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا كما تجب في مائتى درهم فقد حكى مالك إجماع اهل المدينة وما حكي خلاف الا عن الحسن انه قال لا شيء في الذهب حتى يبلغ أربعين مثقالا نقله بن المنذر وأما الحديث الذي يروى فيه فضعيف
وما دون العشرين فان لم تكن قيمته مائتى درهم فلا زكاة فيه بالاجماع وان كان اقل من عشرين وقيمته مائتى درهم ففيه الزكاة عند بعض العلماء من السلف
ودل القرآن والحديث على ايجاب الزكاة في الذهب كما وجبت في الفضة قال تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله }
____________________
(25/12)
الآيه وقال النبي ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها زكاتها الحديث وسيأتى أن شاء الله وسواء في ذلك المضروب منها دراهم ودنانير وغير المضروب فصل
وهل يضم الذهب إلى الفضة فيكمل بهما النصاب ويزكى أم لا على ستة أقوال
قيل لا يضم احدهما إلى الآخر وهو قول الشافعي وروي عن شريك والحسن بن صالح
وقيل يضم الذهب لأنه تبع ولا يضم الورق إلى الذهب لأنها أصل
وقيل يضم بشرط أن الأقل يتبع الأكثر وهو قول الشعبي والاوزاعي
وقيل يضم لكن بالقيمة وهو قول أبى حنيفة والثوري
وقيل يضم بالأجزاء وهو قول الحسن وقتادة والنخعي
____________________
(25/13)
وهو مذهب مالك وصاحب أبي حنيفة أبى يوسف فعند هؤلاء من كان معه عشر دنانير ومائة درهم وجبت الزكاة فان كان قيمة العشرة مائة وخمسين ومعه خمسون درهما لم تجب الزكاة لأن الدينار في الزكاة عشرة دراهم والضم بالأجزاء لا بالقيمة فصل
والحول شرط في وجوب الزكاة في العين والماشية كما كان النبي يبعث عما له على الصدقة كل عام وعمل بذلك الخلفاء في الماشية والعين لما علموه من سنته فروى مالك في موطئه عن أبى بكر الصديق وعن عثمان بن عفان وعن عبد الله بن عمر أنهم قالوا هذا شهر زكاتكم وقالوا لا تجب زكاة مال حتى يحول عليه الحول قال أبو عمر بن عبد البر وقد روى هذا عن علي وعبد الله بن مسعود وعليه جماعة الفقهاء قديما وحديثا إلا ما روى عن معاوية وعن بن عباس كما تقدم
فمن ملك نصابا من الذهب أو الورق وأقام في ملكه حولا وجبت فيه الزكاة وان ملك دون النصاب ثم ملك ما يتم النصاب بنى الأول على حول الثاني فالاعتبار من يوم كمل النصاب وان ملك
____________________
(25/14)
نصابا ثم بعد مدة ملك نصابا بنى كل واحد منهما على حوله وربح المال مضموم إلى أصله يزكى الربح لحول الأصل وإذا كان الاصل نصابا عند الجمهور وان كان الأصل دون النصاب فتم عند الحول نصابا بربحه ففيه الزكاة عند مالك رحمه الله وان كان معه عرض للتجارة ثم ملك ما يكمل النصاب فعليه الزكاة فصل
وأما العروض التى للتجارة ففيها الزكاة وقال بن المنذر اجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول روي ذلك عن عمر وابنه وبن عباس وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاووس والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وحكى عن مالك وداود لا زكاة فيها وفي سنن أبى داود عن سمرة قال كان النبي يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع وروى عن حماس قال مر بى عمر فقال أد زكاة مالك فقلت مالي إلا جعاب وأدم فقال قومها ثم أد زكاتها واشتهرت القصة بلا منكر فهي إجماع
____________________
(25/15)
وأما مالك فمذهبه أن التجار على قسمين متربص ومدير
فالمتربص وهو الذي يشتري السلع وينتظر بها الأسواق فربما أقامت السلع عنده سنين فهذا عنده لا زكاة عليه إلا أن يبيع السلعة فيزكيها لعام واحد وحجته أن الزكاة شرعت في الأموال النامية فاذا زكى السلعة كل عام وقد تكون كاسدة نقصت عن شرائها فيتضرر فاذا زكيت عند البيع فان كانت ربحت فالربح كان كامنا فيها فيخرج زكاته ولا يزكي حتى يبيع بنصاب ثم يزكي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل
وأما المدير وهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول فلا يستقر بيده سلعة فهذا يزكى في السنة الجميع يجعل لنفسه شهرا معلوما يحسب ما بيده من السلع والعين والدين الذي على المليء الثقة ويزكي الجميع هذا إذا كان ينض في يده في أثناء السنة ولو درهم فان لم يكن يبيع بعين أصلا فلا زكاة عليه عنده فصل
وأما الحلي فان كان للنساء فلا زكاة فيه عند مالك والليث والشافعي وأحمد وأبى عبيد وروي ذلك عن عائشة واسماء
____________________
(25/16)
وبن عمر وانس وجابر رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين وقيل فيه الزكاة وهو مروي عن عمر وبن مسعود وبن عباس وبن عمر وجماعة من التابعين وهو مذهب أبى حنيفة والثوري والأوزاعي
وأما حلية الرجال فما أبيح منه فلا زكاة فيه كحلية السيف والخاتم الفضة وأما ما يحرم اتخاذه كالأوانى ففيه الزكاة وما اختلف فيه من تحليه المنطقة والخوذة والجوشن ونحو ذلك ففي زكاته خلاف فعند مالك والشافعي فيه الزكاة ولا يجوز اتخاذه وأباحه أبو حنيفة وأحمد إذا كان من فضة وأما حلية الفرس كالسرج واللجام والبرذون فهذا فيه الزكاة عند جمهور العلماء وقد منع من اتخاذه مالك والشافعي وأحمد وكذلك الدواة والمكحلة ونحو ذلك فيه الزكاة عند الجمهور سواء كان فضة أو ذهبا فصل وتجب الزكاة في مال اليتامى عند مالك والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور وهو مروي عن عمر وعائشة وعلي وبن عمر وجابر رضي الله عنهم قال عمر اتجروا في أموال اليتامى
____________________
(25/17)
لا تأكلها الزكاة وقالته عائشة أيضا وروى ذلك عن الحسن بن علي وهو قول عطاء وجابر بن زيد ومجاهد وبن سيرين فصل
المال المغصوب والضائع ونحو ذلك قال مالك ليس فيه زكاة حتى يقبضه فيزكيه لعام واحد وكذلك الدين عنده لا يزكيه حتى يقبضه زكاة واحدة وقول مالك يروى عن الحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز وقيل يزكى كل عام إذا قبضه زكاة عما مضى وللشافعي قولان فصل
والمعادن إذا أخرج منها نصابا من الذهب والفضة ففيه الزكاة عند أخذه عند مالك والشافعي وأحمد وزاد أحمد الياقوت والزبرجد والبلور والعقيق والكحل والسبج والزرنيخ وعند إسحاق وبن المنذر يستقبل به حولا ويزكيه وأبو حنيفة يجعل فيه الخمس وله قول أنه لا يخرج إلا فيما ينطبع كالحديد والرصاص والنحاس دون غيره
____________________
(25/18)
وأما ما يخرجمن البحر كاللؤلو والمرجان فلا زكاة فيه عند الجمهور وقيل فيه الزكاة وهو قول الزهري والحسن البصري ورواية لأحمد فصل
والدين يسقط زكاة العين عند مالك وأبى حنيفة وأحمد وأحد قولي الشافعي وهو قول عطاء والحسن وسليمان بن يسار وميمون بن مهران والنخعي والثوري والاوزاعي والليث وإسحاق وأبى ثور
واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ عن السائب بن يزيد قال سمعت عثمان رضى الله عنه يقول هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخلص أموالكم تؤدون منها الزكاة وعند مالك ان كان عنده عروض توفي الدين ترك العين وجعلها في مقابلة الدين وهي التي يبيعها الحاكم في الدين ما يفضل عن ضرورته وان كان له دين على مليء ثقة جعله في مقابلة دينه أيضا وزكى العين فان لم يكن إلا ما بيده سقطت الزكاة فصل
واختلف هل في العسل زكاة فكان الخلاف فيه بين أهل المدينة
____________________
(25/19)
فرأى الزهري أن فيه الزكاة وهو قول الاوزاعي وأبى حنيفة وأصحابه وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد وهو العشر وعند مالك والشافعي وأحمد لا زكاة فيه فصل
وأما الحديث الثانى وهو قوله فيما سقت السماء والعيون العشر الحديث ففيه ما اتفق العلماء عليه وهو المقدار المأخوذ من المعشرات ولكن اختلفوا في أي شيء يجب العشر ونصفه
فقالت طائفة يجب العشر في كل ما يزرعه الآدميون من الحبوب والبقول وما أن بتته تجاراتهم من الثمار قليل ذلك وكثيره ويروى هذا عن حماد بن أبي سليمان وأبى حنيفة وزفر
وقال أبو يوسف ومحمد لا يجب إلا فيما له ثمرة باقية فيما يبلغ خمسة أوسق وقال أحمد يجب العشر فيما ييبس ويبقى مما يكال ويبلغ خمسة أوسق فصاعدا وسواء عنده أن يكون قوتا كالحنطة والشعير والأرز والذرة أو من القطنيات كالباقلاء والعدس أو من الأبازير كالكسفرة والكمون والكراويا والبزر كبزر الكتان
____________________
(25/20)
والسمسم وسائر الحبوب
وتجب أيضا عنده فيما جمع هذه الأوصاف كالتمر والزبيب واللوز والبندق والفستق ولا تجب في الفواكه ولا في الخضر وهذا قول أبي يوسف ومحمد
ويشبهه قول بن حبيب من المالكية قال مثل قول مالك وزاد عليه فقال تؤخذ الزكاة من الثمار ذوات الأصول كلها ما أدخر منها وما لم يدخر وقال إذا اجتمع للرجل من الصنف الواحد منها ما يبلغ خرص ثمرته خمسة أوسق أن كان مما ييبس كالجوز واللوز والفستق أخرج عشره وأن كانت مما لا ييبس مثل الرمان والتفاح والفرسك والسفرجل وشبهه فبلغ خرصها وهي خضراء خمسة أوسق وجبت فيها الزكاة إن باعه بعشر الثمن وإن لم يبعها فبعشر كيل خرصها
وقال مالك وأصحابه في المشهور من قولهم تجب الزكاة في الحنطة والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والحمص والعدس والجلباب والرش والبسلة والسمسم والماش وحب الفجل وما أشبه هذه الحبوب الماكولة المدخرة
وتجب في ثلاثة أنواع من الثمار وهي التمر والزبيب والزيتون
____________________
(25/21)
وقال الشافعي تجب الزكاة فيما ييبس ويدخر ويقتات مأكولا أو طبيخا أو سويقا وله في الزيتون قولان وتجب الزكاة عنده في التمر والزبيب
وقال الليث بن سعد كل ما يختبز ففيه الصدقة مع انه يوجب الزكاة في التمر والزبيب والزيتون وكذلك الثوري يوجب الزكاة في الزيتون والاوزاعي والزهري ويروى عن بن عباس ايضا وقال الأوزاعي مضت السنة ان الزكاة في الحنطة وفي الشعير والسلت والتمر والعنب والزيتون وقال إسحاق كل ما يختبز ففيه الصدقة وعند بن المنذر تسعة أشياء كما تقدم فقط التمر والزبيب والحنطة والشعير والفضة والذهب والابل والبقر والغنم وكل هؤلاء يعتبر الخمسة الأوسق إلا ما يروى عن مجاهد وأبى حنيفة أنه يوجب الزكاة في القليل ويعتبر أيضا عندهم اليبس والتصفية في الحبوب والجفاف في الثمار وما لا زيت فيه من الزيتون ومالا يزبب من العنب ولا يتمر من الرطب تخرج الزكاة من ثمنه أو من حبه قال مالك أذا بلغ منه خمسة أوسق فبيع اخرج الزكاة من ثمنه
____________________
(25/22)
فصل
ويضم القمح والشعير والسلت في الزكاة وتضم القطافي بعضها إلى بعض ويضم زرع العام بعضه إلى بعض ولو كان بعضه صيفيا وبعضه شتويا وكذلك الثمرة ولو كان في بلدان شتى إذا كان لرجل واحد وأما الشركاء فلا بد أن يكون في حصة كل واحد منهم نصاب فصل والوسق ستون صاعا والصاع أربعة امداد بمد النبي والمد خمسة أرطال وثلث بالبغدادي والرطل البغدادي ثمانية وعشرون درهما والدراهم هي هذه التي هي من زمان عبد الملك كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل فمبلغ النصاب بالرطل البغدادي ألف وستمائة رطل
وتقديره بالدمشقي ثلاثمائة رطل واثنان واربعون رطلا وستة أسباع رطل
____________________
(25/23)
فصل
ومن باع ثمرة أو وهبها أو مات عنها بعد بدو صلاحها فالزكاة عليه وإن كان قبل بدو صلاحها فالزكاة على المشتري والموهوب له والوارث ان كان في حصة كل واحد نصاب ويخرص النخل والكرم على أربابه ويخلى بينهم وبينه فان شاؤوا أكلوا وأن شاؤوا باعوا ويخفف عنهم وما اكل من الزرع او القطافي وهو أخضر صغير فلا زكاة فيه وقال النبي إذا خرصتم فدعوا الثلث فان لم تدعوا الثلث فدعوا الربع رواه أبو داود وقال خففوا على الناس فان في المال الوطية والأكلة والعرية رواه أبو عبيد وقال الوطية السابلة سموا بذلك لوطيهم بلاد الثمار مجتازين والعرية هي هبة ثمرة نخلة أو نخلات لمن يأكله والأكلة أهل المال يأكلون منه فصل
ولا تجب الزكاة إلا في خمسة اوسق من صنف واحد والقمح والشعير والسلت عند مالك صنف واحد فاذا اجتمع من هذه الثلاثة
____________________
(25/24)
نصاب وجبت الزكاة ويخرج كل بحسابه وكذلك القطافي وهي الحمص والباقلاء والعدس ونحو ذلك صنف واحد عنده والقدر المأخوذ بقدر التعب والمؤنة كما في الحديث ما كان يسقى بماء السماء والأنهار والعيون ففيه العشر وما كان يسقى بالنضح أو السانية والدواليب وهي اسماء شيء واحد كالسانية والناضح هي الابل يستقى بها لشرب الماء ففيه نصف العشر وما سقى نصفه بهذا ونصفه بهذا او نصف السنة ففيه ثلاثة ارباع العشر فصل
وكل من نبت الزرع على ملكه فعليه زكاته قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه } الآية وسواء كانت الأرض ملكا له أو استأجرها أو أقطعها له الامام يستغل منفعتها او استعارها أو كانت موقوفة عليه
قال بن المنذر أجمع كل من احفظ عنه من أهل العلم على ان كل أرض اسلم أهلها عليها قبل قهرهم أنها لهم وان عليهم فيما زرعوا فيها الزكاة فأرض الصلح كما قال وكذلك ارض العنوة اذا
____________________
(25/25)
كان عليها خراج أدى الخراج وزكى ما بقى
فمن استأجر أرضا للزرع فعليه الزكاة عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبى يوسف ومحمد وكذلك المقطعين عليهم العشر فان كان الزرع كله له وهو يعطي الفلاح اجره فعليه العشر كله وأن كان الزرع مقاسمة نصفه او ثلثه للفلاح ونصفه او ثلثه للمقطع فعلى كل منهما عشر نصيبه فان الزرع نبت على ملكه وهذا قول علماء الاسلام
وقد كان الصحابة يأخذ منهم النبي صلى الله عليه وسلم العشر يعطيه لمستحقيه ويأمرهم أن يجاهدوا بما يبقى من اموالهم فاذا كان الجند قد أعطوا من بيت المال ما يجاهدون به كان اولى ان يعطوا عشرة فمن اقطعه الامام ارضا للاستغلال والجهاد إذا استغلها ونبت الزرع على ملكه في ارض عشرية فما يقول عالم انه لا عشر عليه
وقد تنازع العلماء فيمن استحق منفعة الارض بعوض كالمستاجر لها بدراهم أو بخدمة نفسه ونحو ذلك فجمهورهم يقول عليه العشر وهو قول صاحبى أبى حنيفة ومالك والشافعي وأحمد واما أبو حنيفة فانه يقول العشر على رب الأرض
فهؤلاء المقطعون إذا قدر أنهم استؤجروا بمنفعة الارض فبذلوا
____________________
(25/26)
خدمة انفسهم كان ع 1 ليهم العشر عند الجمهور وعلى القول الآخر على الذي استأجرهم فمن قال إن العشر الذي اوجبه الله لمستحقي الصدقات يسقط فقد خالف الآجماع
وأيضا فهؤلاء الجند ليسوا كالأجراء وإنما هم جند الله يقاتلون في سبيل الله عباده ويأخذون هذه الأرزاق من بيت المال ليستعينوا بها على الجهاد وما يأخذونه ليس ملكا للسلطان وإنما هو مال الله يقسمه ولي الأمر بين المستحقين فمن جعلهم كالأجراء جعل جهادهم لغير الله وقد جاء في الحديث مثل الذين يغزون من أمتى ويأخذون ما يعطونه مثل أم موسى ترضع ابنها وتاخذ أجرها فصل
فان كان على مالك الزرع والثمار دين فهل تسقط الزكاة فيه ثلاثة أقوال
قيل لا تسقط بحال وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي ورواية عن أحمد
وقيل يسقطها وهو قول عطاء والحسن وسليمان بن يسار
____________________
(25/27)
وميمون بن مهران والنخعي والليث والثوري وإسحاق وكذلك في الماشية الابل والبقر والغنم
وقيل يسقطها الدين الذي أنفقه على زرعه وثمرته ولا يسقطها ما استدانه لنفقة أهله
وقيل يسقطها هذا وهذا الأول قول بن عباس واختاره أحمد بن حنبل وغيره والثاني قول بن عمر فصل
والرطب الذي لا يتمر والزيتون الذي لا يعصروالعنب الذي لا يزبب فقال مالك وغيره تخرج الزكاة من ثمنه إذا بلغ خمسة أوسق وأن لم يبلغ ثمنه مائتى درهم وان كان يتناهى فبيع قبل تناهيه فقيل تخرج الزكاة من ثمنة وقيل تخرج من حبه او دهنه
____________________
(25/28)
فصل
فهذه زكاة العين والحرث التي دلت عليها الأحاديث المتقدمة مع الآيات الكريمة واما زكاة الماشية الابل والبقر والغنم فقد دلت عليها الأحاديث الصحيحة وكتب النبي فيها وكذلك كتب ابو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة ففي الصحيح من حديث أنس بن مالك هذا لفظ البخاري أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله على المسلمين والتي أمر ا لله بها ورسوله فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها ومن سأل فوقها فلا يعطي في أربع وعشرين من الابل فما دونها الغنم في كل خمس شاة فاذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى فاذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس واربعين ففيها بنت لبون أنثى فاذا بلغت ستا واربعين إلى ستين ففيها حقه
____________________
(25/29)
طروقة الجمل فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فاذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون فاذا بلغت احدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل فاذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقه ومن لم يكن معه إلا اربع من الابل فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها فاذا بلغت خمسا من الابل ففيها شاة وفي صدقة الغنم في سأئمتها إذا كانت اربعين إلى عشرين ومائة شاة فاذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان فاذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه فاذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة فاذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها وفي الرقة ربع العشر فان لم يكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها
وعن أنس في هذا الكتاب أيضا من بلغت عنده من الأبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعه وعنده حقة فانها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن تيسرتا له او عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده جذعه فإنها تقبل منه الجذعه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وعنده حقة فانها تقبل منه ويعطيه المصدق
____________________
(25/30)
عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فانها تقبل منه بنت مخاض ويعطى معها عشرين درهما أو شاتين ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فأنهما يتراجعان بينهما بالسوية ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا ان شاء المصدق
وعنه في هذا الكتاب أيضا ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده وعنده بنت لبون فانها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين فان لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده بن لبون فانه يقبل منه وليس معه شيء
وروى مالك بن أنس كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في موطئه بمثل هذا اللفظ او قريب منه إلا ذكر البدل مع العشرين فانه لم يذكره فصل
قال الامام أبو بكر بن المنذر وهذا مجمع عليه إلى عشرين ومائة ولا يصح عن علي ما روى في خمس وعشرين خمس شياه
____________________
(25/31)
وقوله فى هذا الحديث ( فى سائمة الغنم ( موضع خلاف بين العلماء لأن السائمة هي التى ترعى فمذهب مالك ان الابل العوامل والبقر العوامل والكباش المعلوفة فيها الزكاة قال ابو عمر وهذا قول الليث ولا اعلم احدا قال به غيرهما واما الشافعى واحمد وابو حنيفة وكذلك الثورى والاوزاعى وغيرهم فلا زكاة فيها عندهم وروى هذا عن جماعة من الصحابة على وجابر ومعاذ بن جبل وكتب به عمر بن عبد العزيز
وقد روى فى حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبى انه قال ( فى كل سائمة فى كل اربعين بنت لبون ( فقيده بالسائمة والمطلق يحمل على المقيد اذا كان من جنسه بلا خلاف وكذلك حديث ابى بكر فى سائمة الغنم
وقوله ( من بلغت عنده من الابل صدقة الجذعة وليست عنده ( إلى آخره لم يقل به مالك بل قال انه اذا لم يجد السن كالجذعة أو غيرها فانه يبتاعها ولا احب ان يعطيه ثمنها وقال اذا لم يجد السن التى تجب فى المال لم يأخذ ما فوقها ولا ما دونها ولا يزداد دراهم ويبتاع له رب المال مسنا
وقال الثورى والشافعى وأحمد بمثل ما فى الحديث انه اذا لم
____________________
(25/32)
يجد السن اخذ ما وجد وأعطى شاتين او عشرين درهما او اخذ مثل ذلك كما فى الحديث ومذهب ابى حنيفة وصاحبيه ان شاء اخذ القيمة وإن شاء أخذ أفضل منها وأعطى الزيادة ومالك لم يقل بذلك لأن مالكا إنما روى كتاب عمر وليس فيه ما فى كتاب ابى بكر من الزيادة وهذا شأن العلماء
وقوله فى هذا الحديث ( فاذا زادت على عشرين ومائة ففي كل اربعين بنت لبون وفى كل خمسين حقة ( قال ابو عمر هذا موضع خلاف يعنى اذا زادت واحدة قال مالك اذا زادت واحدة على عشرين ومائة فالساعى بالخيار بين ان يأخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون وقال الزهري فيها ثلاث بنات لبون إلى ثلاثين ومائة فيكون فيها حقة وابنتا لبون وبه قال الاوزاعى والشافعى وابو ثور وابو عبيد وهو قول محمد بن إسحاق وهو قول أئمة الحجاز وهو اولى عند العلماء
وأما قول الكوفيين فانه يستقبل الفريضة بعد العشرين ومائة فيكون في كل خمس شاة
____________________
(25/33)
فصل
وقوله ( ولا يؤخذ فى الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس ( عليه جماعة فقهاء الامصار لان الماخوذ فى الصدقات العدل كما قال عمر رضى الله عنه عدل من عدل المال وخياره ( الهرمة ) الشاة الشارف و ( ذات العوار ( بفتح العين التى بها عيب وبالضم التى ذهبت عينها ولا يجزئ ذلك فى الصدقة والشاة المأخوذة فى الابل الجذعة من الضأن والثنية من المعز فان اخرج القيمة فقولان
وقوله ( ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ) يعنى بذلك تفرقة المواشي وجمعها خشية الصدقة واختلف هل المخاطب بذلك ارباب الاموال او هو الساعى او هما جميعا وهذا فى الخلطة فقد يكون على الخلطاء عدد من الغنم فاذا فرقت قل العدد او فى الفرقة عدد فاذا جمعوها قل العدد فنهوا عن ذلك ولهذا نظائر كثلاثة نفر لكل منهم اربعون ففيها حينئذ ثلاث شياه فاذا جمعت صار فيها شاة او يكون لرجلين من الغنم مائتين
____________________
(25/34)
وشاتين لكل واحد منهما مائة وشاة فعليهما فيها ثلاث شياه فاذا تفرق كان على كل واحد منهما شاة ونحو ذلك
وقوله ( وما كان من خليطين فانهما يتراجعان بينهما بالسوية ) يعنى اذا اخذت شاة من غنم احد الخليطين فإنه يرجع على الاخر بقيمة ما يخصه فصل
وقوله فى الحديث ( فى الغنم فى سائمتها اذا كانت اربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة فاذا زادت ففيها شاتان إلى مائتين فاذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه فاذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة ) هذا متفق عليه في صدقة الغنم ايضا والضأن والمعز سواء
والسوم شرط فى الزكاة إلا عند مالك والليث كما تقدم فانهما يوجبان الزكاة فى غير السائمة ولا خلاف بين الفقهاء ان الضأن والمعز يجمعان فى الزكاة وكذلك الابل على اختلاف اصنافها وكذلك البقر والجواميس
____________________
(25/35)
وإختلفوا فيما اذا كان بعض الجنس ارفع من بعض فقيل يأخذ من ايها شاء وقيل من الوسط
فصل
وأما ( صدقة البقر ) فقد ثبت عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ( ان النبى لما بعثه إلى اليمن امره ان يأخذ صدقة البقر من كل ثلاثين تبيعا او تبيعة ومن كل اربعين مسنة وان ياخذ الجزية من كل حالم دينارا ) رواه احمد والنسائي والترمذي عن مسروق عنه وكذلك فى كتاب النبى الذي كتبه لعمرو بن حزم ورواه مالك فى موطئه عن طاووس عن معاذ وحكي ابو عبيد الاجماع عليه وجماهير العلماء على انه ليس فيما دون الثلاثين شيء وحكى عن سعيد والزهرى ان في الخمس شاة كالابل
ومن شرطها ان تكون سائمة كما فى حديث عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده عن النبى قال ( ليس فى العوامل صدقة ) رواه ابو داود وروى عن علي ومعاذ وجابر انهم قالوا لا صدقة فى البقر العوامل ومالك والليث يقولان فيها الصدقة
____________________
(25/36)
ويخرج فى الثلاثين الذكر وفى الاربعين الانثى فان اخرج ذكرا هل يجزئه قولان قال بن القاسم يجزئه وأشهب قال لا يجزئه وهو مذهب أحمد وجماعة من العلماء فان كانت كلها ذكورا اخرج منها واذا بلغت مائة وعشرين خير رب المال بين ثلاث مسنات او اربعة أتبعة والتبيع الذى له سنة ودخل فى الثانية والبقرة المسنة مالها سنتان
فصل
و ( الجواميس ( بمنزلة البقر حكى بن المنذر فيه الاجماع
وأما ( بقر الوحش ( فلا زكاة فيها عند الجمهور وقال بعضهم فيها الزكاة فان تولد من الوحشي والاهلي فقال الشافعي لا زكاة وقال احمد تزكى ومالك يفرق بين الامهات والاباء فان كانت الامهات اهلية أخرج الزكاة والا فلا
وصغار كل صنف من جميع الماشية تبع يعد مع الكبار ولكن لا يؤخذ الا من الوسط فان كان الجميع صغارا فقيل يأخذ منها وقيل يشترى كبارا
____________________
(25/37)
فصل
والخلطاء في الماشية وهو اذا كان مال كل منهما متميزا عن الاخر فان لم يتميز فهما شريكان واذا كانا خليطين زكيا زكاة المال الواحد مثل ان يكون لكل منهما اربعون فعليهما في الخلطة شاة واحدة ويترادان قيمتها وتعتبر الخلطة بثلاثة شروط وقيل بشرطين وقيل بشرط واحد وهو الدلو والحوض والمراح والمبيت والراعى والفحل وقيل بالراعي وحده لانه به يجتمعان ويجتمعون فى غير ذلك وهل من شرط الخلطة ان يكون لكل منهما نصابا ام لا بالاول قال مالك
وقال غيره لا يعتبر ذلك
فصل إذا ملك ماشية فتوالدت فان كانت الامهات نصابا زكى الاولاد تبعا وبنى على حول الامهات عند الجمهور وإن كانت دون النصاب
____________________
(25/38)
فتوالدت ولو قبل الحول بيوم وتم النصاب اخرج الزكاة عند مالك وبنى الاولاد على حول الامهات وان باع النصاب بجنسه بنى الثاني على حول الاول وان اشترى بنصاب من العين نصابا من الماشية وكان الاول لم يتم له حول بنى الماشية على حول العين فى أحد القولين
فصل
وتفرقة زكاة كل بلد فى موضعه فزكاة الشام فى الشام وزكاة مصر فى مصر وهل يجوز نقلها لمصلحة فتنقل من الشام إلى مدينة النبى صلى الله عليه وسلم او غيرها فيه قولان لاهل العلم قال مالك لا بأس بنقلها للحاجة واذا لم يكن اهل البلد مستحقين فتنقل بلا خلاف ولما نقل معاذ بن جبل الصدقة من اليمن إلى المدينة أنكر عمر فقال ما بعثتك جابيا فقال ما وجدت آخذا فعند الشافعى واحمد لا تنقل وعند مالك يجوز نقلها فصل
وأما ( قسمة الصدقات ( فقد بين الله ذلك فى القرآن بقوله ( انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم
____________________
(25/39)
وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وبن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم )
قال الامام ابو جعفر الطبري عامة اهل العلم يقولون للمتولي قسمتها ووضعها فى أي الاصناف الثمانية شاء وانما سمى الله الاصناف الثمانية اعلاما منه ان الصدقة لا تخرج من هذه الاصناف إلى غيرها لا ايجابا لقسمتها بين الاصناف الثمانية وروى باسناده عن حذيفة وعن بن عباس انهما قالا ان شئت جعلته في صنف او صنفين او ثلاثة قال وروى عن عمر أنه قال ايما صنف اعطيته أجزأك وروى عنه انه كان عمر يأخذ الفرض فى الصدقة فيجعله فى الصنف الواحد وهو قول ابى العالية وميمون بن مهران وابراهيم النخعي
قال وكان بعض المتأخرين يقول عليه وضعها فى ستة اصناف لانه يقسمها فسقط العامل والمؤلفة سقطوا قال والصواب ان الله جعل الصدقة فى معنيين
احدهما سد خلة المسلمين والثانى معونة الاسلام وتقويته فما كان معونة للاسلام يعطى منه الغني والفقير كالمجاهد ونحوه ومن هذا الباب يعطى المؤلفة وما كان فى سد خلة المسلمين
____________________
(25/40)
وقال شيخ الاسلام فصل الاصل الثاني الزكاة
وهم أيضا متبعون فيها لسنة النبى وخلفائه آخذين بأوسط الاقوال الثلاثة او بأحسنها فى السائمة فاخذوا فى أوقاص الابل بكتاب الصديق رضى الله عنه ومتابعته المتضمن ان فى الابل الكثيرة فى كل أربعين بنت لبون وفى كل خمسين حقة لانه اخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الكتاب الذى فيه استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين فانه متقدم على هذا لان استعمال عمرو بن حزم على نجران كان قبل موته بمدة واما كتاب الصديق فانه كتبه ولم يخرجه إلى العمال حتى أخرجه أبو بكر
وتوسطوا فى المعشرات بين اهل الحجاز واهل العراق فان اهل
____________________
(25/41)
العراق كابى حنيفة يوجبون العشر فى كل ما أخرجت الارض الا القصب ونحوه في القليل والكثير منه بناء على ان العشر حق الارض كالخراج ولهذا لا يجمعون بين العشر والخراج واهل الحجاز لا يوجبون العشر الا في النصاب المقدر بخمسة اوسق ووافقهم عليه ابو يوسف ومحمد ولا يوجبون من الثمار إلا فى التمر والزبيب وفى الزروع فى الأقوات ولا يوجبون فى عسل ولا غيره والشافعي على مذهب اهل الحجاز
وأما أحمد وغيره من فقهاء الحديث فيوافق في النصاب قول اهل الحجاز لصحة السنن عن النبى بأنه ليس فيما دون خمسة اوسق صدقة ولا يوجبون الزكاة فى الخضراوات لما فى الترك من عمل النبى وخلفائه والاثر عنه لكن يوجبها فى الحبوب والثمار التى تدخر وان لم تكن تمرا او زبيبا كالفستق والبندق جعلا للبقاء في المعشرات بمنزلة الحول فى الماشية والجرين فيفرق بين الخضراوات وبين المدخرات وقد يلحق بالموسق الموزونات كالقطن على احدى الروايتين لما في ذلك من الاثار عن الصحابة رضي الله عنهم
ويوجبها في العسل لما فيه من الاثار التى جمعها هو وان كان غيره لم تبلغه الا من طريق ضعيفة وتسوية بين جنس ما انزله الله من
____________________
(25/42)
السماء وما اخرجه من الارض
ويجمعون بين العشر والخراج لان العشر حق الزرع والخراج حق الارض وصاحبا ابى حنيفة قولهما هو قول أحمد او قريب منه
وأما مقدار الصاع والمد ففيه ثلاثة اقوال
أحدها ان الصاع خمسة أرطال وثلث والمد ربعه وهذا قول اهل الحجاز في الاطعمة والمياه وقصة مالك مع أبى يوسف فيه مشهورة وهو قول الشافعى وكثير من اصحاب احمد او اكثرهم
والثانى أنه ثمانية أرطال والمد ربعه وهو قول اهل العراق فى الجميع
والقول الثالث ان صاع الطعام خمسة ارطال وثلث وصاع الطهارة ثمانية ارطال كما جاء بكل واحد منهما الاثر فصاع الزكوات والكفارات وصدقة الفطر هو ثلثا صاع الغسل والوضوء وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ممن جمع بين الاخبار المأثورة في هذا الباب لمن تأمل الاخبار الواردة فى ذلك
____________________
(25/43)
ومن أصولها ان ابا حنيفة اوسع فى ايجابها من غيره فانه يوجب فى الخيل السائمة المشتملة على الاثار ويوجبها فى جميع انواع الذهب والفضة من الحلي المباح وغيره ويجعل الركاز المعدن وغيره فيوجب فيه الخمس لكنه لا يوجب ما سوى صدقة الفطر والعشر الا على مكلف ويجوز الاحتيال لاسقاطها واختلف أصحابه هل هو مكروه ام لا فكرهه محمد ولم يكرهه ابو يوسف واما مالك والشافعي فاتفقا على انه لا يشترط لها التكليف لما في ذلك من الاثار الكثيرة عن الصحابة
ولم يوجبها فى الخيل ولا فى الحلي المباح ولا فى الخارج الا ما تقدم ذكره وحرم مالك الاحتيال لاسقاطها وأوجبها مع الحيلة وكره الشافعي الحيلة فى اسقاطها
وأما أحمد فهو فى الوجوب بين ابى حنيفة ومالك كما تقدم في المعشرات وهو يوجبها فى مال المكلف وغير المكلف
وإختلف قوله فى الحلي المباح وان كان المنصور عند اصحابه انه لا يجب وقوله فى الاحتيال كقول مالك يحرم الاحتيال لسقوطها
____________________
(25/44)
ويوجبها مع الحيلة كما دلت عليه سورة ( ن ( وغيرها من الدلائل
والأئمة الأربعة وسائر الامة الا من شذ متفقون على وجوبها فى عرض التجارة سواء كان التاجر مقيما أو مسافرا وسواء كان متربصا وهو الذي يشترى التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر او مديرا كالتجار الذين فى الحوانيت سواء كانت التجارة بزا من جديد او لبيس او طعاما من قوت او فاكهة أو أدم أو غير ذلك او كانت آنية كالفخار ونحوه او حيوانا من رقيق او خيل او بغال او حمير او غنم معلوفة أو غير ذلك فالتجارات هي اغلب اموال اهل الامصار الباطنة كما ان الحيوانات الماشية هي اغلب الاموال الظاهرة
فصل ولا بد فى الزكاة من الملك
واختلفوا فى اليد فلهم فى زكاة ما ليس فى اليد كالدين ثلاثة اقوال
أحدها أنها تجب فى كل دين وكل عين وان لم تكن تحت يد
____________________
(25/45)
صاحبها كالمغصوب والضال والدين المجحود وعلى معسر او مماطل وانه يجب تعجيل الاخراج مما يمكن قبضه كالدين على الموسر وهذا احد قولى الشافعى وهو أقواهما
فصل
وللناس فى اخراج القيم فى الزكاة ثلاثة اقوال
أحدها أنه يجزئ بكل حال كما قاله أبو حنيفة
والثانى لا يجزئ بحال كما قاله الشافعى
والثالث أنه لا يجزئ الا عند الحاجة مثل من تجب عليه شاة فى الابل وليست عنده ومثل من يبيع عنبه ورطبه قبل اليبس وهذا هو المنصوص عن أحمد صريحا فانه منع من اخراج القيم وجوزه فى مواضع للحاجة لكن من اصحابه من نقل عنه جوازه فجعلوا عنه فى اخراج القيمة روايتين واختاروا المنع لانه المشهور عنه كقول الشافعى وهذا القول اعدل الاقوال كما ذكرنا مثله فى الصلاة فان الادلة الموجبة للعين نصا وقياسا كسائر ادلة الوجوب
ومعلوم ان مصلحة وجوب العين قد يعارضها احيانا فى القيمة من المصلحة الراجحة وفى العين من المشقة المنفية شرعا
____________________
(25/46)
وسئل رحمه الله
عن صداق المرأة على زوجها تمر عليه السنون المتوالية لا يمكنها مطالبته به لئلا يقع بينهما فرقة ثم انها تتعوض عن صداقها بعقار او يدفع اليها الصداق بعد مدة من السنين فهل تجب زكاة السنين الماضية أم إلى أن يحول الحول من حين قبضت الصداق
فأجاب الحمد لله هذه المسالة فيها للعلماء أقوال
قيل يجب تزكية السنين الماضية سواء كان الزوج موسرا او معسرا كأحد القولين فى مذهب الشافعى وأحمد وقد نصره طائفة من اصحابهما
وقيل يجب مع يساره وتمكنها من قبضها دون ما اذا لم يمكن تمكينه من القبض كالقول الاخر فى مذهبهما
وقيل تجب لسنة واحدة كقول مالك وقول فى مذهب أحمد
وقيل لا تجب بحال كقول أبى حنيفة وقول فى مذهب احمد
____________________
(25/47)
وأضعف الاقوال من يوجبها للسنين الماضية حتى مع العجز عن قبضه فان هذا القول باطل فاما ان يجب لهم ما يأخذونه مع أنه لم يحصل له شيء فهذا ممتنع فى الشريعة ثم اذا طال الزمان كانت الزكاة أكثر من المال ثم إذا نقص النصاب وقيل ان الزكاة تجب فى عين النصاب لم يعلم الواجب الا بحساب طويل يمتنع إتيان الشريعة به
وأقرب الاقوال قول من لا يوجب فيه شيئا بحال حتى يحول عليه الحول او يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض فهذا القول له وجه وهذا وجه وهذا قول ابى حنيفة وهذا قول مالك وكلاهما قيل به فى مذهب أحمد والله أعلم
وسئل
عن رجل له جمال ويشترى لها ايام الرعى مرعى هل فيها زكاة
فأجاب اذا كانت راعية اكثر العام مثل أن يشترى لها ثلاثة اشهر أو أربعة فانه يزكيها هذا أظهر قولى العلماء
____________________
(25/48)
وقال رحمه الله
إذا كانت الغنم أربعين صغارا او كبارا وجبت فيها الزكاة اذا حال عليها الحول وان كانت اقل من اربعين فحال الحول وهى اربعون ففى هذا نزاع والاحوط اداء الزكاة والله اعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل له غنم ولم تبلغ النصاب هل تجب فيها زكاة فى أثناء الحول
فأجاب هذة المسألة فيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد أحدهما أن ابتداء الحول حين صارت اربعين كقول الشافعى
والثانى أن ابتداء الحول من حين ملك الامهات كقول مالك والله أعلم
____________________
(25/49)
وسئل
عن قرية بها فلاحون وهى نصفان أحد فلاحى النصف له غنم تجب فيها الزكاة والنصف الاخر ليس لفلاحيه غنما قدر ما تجب فيه الزكاة فألزم الامام اهل القرية بزكاة الغنم على الفلاحين فهل تجب على من له النصاب وإذا وجبت عليه فهل يجوز للامام أن يأخذ ممن ليس له نصاب
فأجاب إن كان المطلوب هو مقدار ما فرضه الله على من تجب عليه الزكاة اختصوا بأدائه وان كان المطلوب فوق الواجب على سبيل الظلم اشترك فيه الجميع بحسب أموالهم والله أعلم
____________________
(25/50)
= باب زكاة الخارج من الارض سئل رحمة الله
عما يجب من عشر الحبوب ومقداره وهل هو على المالك أو الفلاح أم عليهما
فأجاب الحمد لله رب العالمين النصاب خمسة أوسق والوسق ستون صاعا بصاع النبي وصاع النبي قدره الأئمة لما بنيت بغداد بخمسة أرطال وثلث بالرطل العراقي اذ ذاك فيكون ألفا وستمائة رطل بالعراقي وكان الرطل العراقي اذ ذاك تسعين مثقالا مائة وثمانية وعشرين درهما وأربعة أسباع درهم
ولكن زيد فيه بعد ذلك حتى صار مائة وثلاثين ثم زيد فيه حتى صار مائة وأربعة وأربعين فظن بعض متأخري الفقهاء أن هذا أو هذا هو الرطل الذي قدره به الأئمة غلطا منهم
وإذا كان كذلك فمقداره بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم
____________________
(25/51)
ثلاثمائة رطل واثنان وأربعون رطل وستة أسباع رطل وستة أسباع الرطل هو أربعمائة درهم وثمانية وعشرون وأربعة أسباع وهو ثلثا رطل وأربعة أسباع أوقية
ومن ظن من ا لفقهاء المتأخرين أن الرطل البغدادي مائة وثلاثون درهما زاد في كل رطل بغدادي مثقالا وهو درهم وثلاثة أسباع درهم فيزيد ألفين وخمسة أسباع درهم فيصير النصاب على قوله ثلاثمائة وستة وأربعين رطلا وثلاثمائة درهم وأربعة عشر وسبعي درهم وهو نصف رطل وسبعا أوقية
والعشر على من يملك الزرع فاذا زارع الفلاح ففي صحة المزارعة قولان للعلماء
فمن اعتقد جواز المزارعة أخذ نصيبه وأعطى الفلاح نصيبه وعلى كل منهما زكاة نصيبه ومن لم يصحح المزارعة جعل الزرع كله لصاحب الحب فاذا كان هو الفلاح استحق الزرع كله ولم يكن للمالك إلا أجره الأرض والزكاة حينئذ على الفلاح
ولم يقل أحد من المسلمين إن المقاسمة جائزة والعشر كله على الفلاح بل من قال العشر على الفلاح قال ليس للمالك في الزرع شيء ولا المقطع ولا غيرهما فمن ظن أن العشر على الفلاح
____________________
(25/52)
مع جواز المقاسمة فقد خالف اجماع المسلمين
والعمل في بلاد الشام عند المسلمين على جواز المزارعة كما مضت بذلك سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين وسواء كان البذر من المالك او من العامل فان النبي عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم فكان البذر من عندهم وهذا هو الذي اتفق عليه الصحابة وعليه عمل المسلمين في عامة بلاد الاسلام في زمن نبيهم والى اليوم
فمن كان يعامل بالمزارعة كان عليه زكاة نصيبهم ومن كان يتقلد قول من يبطل هذه المزارعة ويرى أنه لا يستحق من الزرع شيئا وأنه ليس له عند الفلاح إلا الأجره وانه اذا أخذ المقاسمة بغير اختيار الفلاح كان ظالما آكلا للحرام فعليه أن يعطى الزرع للفلاح ويعرفه أنه لا يستحق عليه إلا أجره المثل فان طابت نفس الفلاح بعد هذا بأن يقاسمه ويؤدي الزكاة كان الفلاح حينئذ متفضلا عليه بطيب نفسه ومن المعلوم أن الفلاحين لو علموا هذا لما طابت بذلك نفس أكثرهم فهذا حقيقة هذه المسألة على قول الطائفتين والله اعلم
____________________
(25/53)
وقال رحمه الله فصل
وأما العشر فهو عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم على من نبت الزرع على ملكه كما قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض }
فمن أخرج الله له الحب فعليه العشر فاذا استأجر أرضا ليزرعها فالعشر على المستاجر عند هؤلاء العلماء كلهم وكذلك عند أبى يوسف ومحمد وأبو حنيفة يقول العشر على المؤجر
واذا زارع أرضا على النصف فما حصل للمالك فعليه عشرة وما حصل للعامل فعليه عشره على كل واحد منهما عشر ما أخرجه الله له
____________________
(25/54)
ومن أعير أرضا أو أقطعها أو كانت موقوفة على عينه فازدرع فيها زرعا فعليه عشره وإن آجرها فالعشر على المستاجر وان زارعها فالعشر بينهما
وأصل هؤلاء الأئمة أن العشر حق الزرع ولهذا كان عندهم يجتمع العشر والخراج لأن العشر حق الزرع ومستحقه أهل الزكاة والخراج حق الزرع ومستحقه أهل الفيء فهما حقان لمستحقين بسببين مختلفين فاجتمعا كما لو قتل مسلما خطأ فعليه الدية لأهله والكفارة حق لله وكما لو قتل صيدا مملوكا وهو محرم فعليه البدل لمالكه وعليه الجزاء حقا لله
وأبو حنيفة يقول العشر حق الأرض فلا يجتمع عليها حقان ومما احتج به الجمهور أن الخراج يجب في الأرض التي يمكن أن تزرع سواء زرعت أو لم تزرع وأما العشر فلا يجب إلا في الزرع والحديث المرفوع لا يجتمع العشر والخراج كذب باتفاق أهل الحديث
____________________
(25/55)
وسئل
عمن كانت له أشجار أعناب لا يصير زبيبا ولا يتركه صاحبه إلى الجذاذ كيف يخرج عشره رطبا او يابسا وان أخرج يابسا أخرج من غير ثمر بستانه
فأجاب أما العنب الذي لا يصير زبيبا فاذا أخرج عنه زبيبا بقدر عشره لو كان يصير زبيبا جاز وهو أفضل وأجزاه ذلك بلا ريب ولا يتعين على صاحب المال الاخراج من عين المال لا في هذه الصورة ولا غيرها بل من كان معه ذهب أو فضة او عرض تجارة أو له حب أو ثمر يجب فيه العشر او ماشية تجب فيها الزكاة وأخرج مقدار الواجب المنصوص من غير ذلك المال أجزاه فكيف في هذه الصورة وان أخرج العشر عنبا ففيه قولان في مذهب أحمد
أحدهما وهو المنصوص عنه أنه لا يجزئه
والثانى يجزئه وهو قول القاضي أبى يعلى وهذا قول أكثر العلماء وهو أظهر
____________________
(25/56)
وأما العنب الذي يصير زبيبا لكنه قطعه قبل أن يصير زبيبا فهنا يخرج زبيبا بلا ريب فان النبي كان يبعث سعاته فيخرصون النخل والكرم ويطالب أهله بمقدار الزكاة يابسا وان كان اهل الثمار يأكلون كثيرا منها رطبا ويامر النبي صلى الله عليه وسلم الخارصين ان يدعوا لأهل الأموال الثلث او الربع لا يؤخذ منه عشر ويقول إذا خرصتم فدعوا الثلث فان لم تدعوا الثلث فدعوا الربع وفي رواية فان في المال العرية والوطية والسابلة يعني أن صاحب المال يتبرع بما يعريه من النخل لمن يأكله وعليه ضيف يطؤون حديقته يطعمهم ويطعم السابلة وهم أبناء السبيل وهذا الاسقاط مذهب الامام أحمد وغيره من فقهاء الحديث
وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء وكذلك في الأولى
وأما الثانية فما علمت فيها نزاعا فان حق أهل السهمان لا يسقط باختيار قطعة رطبا إذا كان ييبس نعم لو باع عنبه أو رطبه بعد بدو صلاحه فقد نص أحمد في هذه الصورة على أنه يجزئه أخراج عشر الثمن ولا يحتاج إلى إخراج عنب أو زبيب فان في إخراج القيمة نزاعا في مذهبه ونصوصه الكثيرة تدل على أنه يجوز ذلك للحاجة ولا يجوز بدون الحاجة والمشهور عند كثير من أصحابه لا يجوز مطلقا وخرجت عنه رواية بالجواز مطلقا ونصوصه الصريحه إنما هي بالفرق
____________________
(25/57)
ومثل هذا كثير في مذهبه ومذهب الشافعي وغيرهما من الأئمة قد ينص على مسألتين متشابهتين بجوابين مختلفين ويخرج بعض أصحابه جواب كل واحدة إلى الأخرى ويكون الصحيح إقرار نصوصه بالفرق بين المسالتين كما قد نص على أن الوصية للقاتل تجوز بعد الجرح ونص على أن المدبر إذا قتل سيده بطل التدبير فمن أصحابه من خرج في المسألتين روايتين ومنهم من قال بل إذا قتل بعد الوصية بطلت الوصية كما يمنع قتل الوارث لمورثه أن يرثه وأما إذا أوصى له بعد الجرح فهنا الوصية صحيحة فانه رضى بها بعد جرحه ونظائر هذا كثيرة وسئل
عن مقطع له فلاح والزرع بينهما مناصفة فهل عليه عشر
فأجاب ما نبت على ملك الانسان فعليه عشرة فالأرض المقطعة إذا كانت المقاسمة نصفين فعلى الفلاح تعشير نصفه وعلى المقطع تعشير نصفه هذا على القول الصحيح الذي عليه عمل المسلمين قديما وحديثا وهو قول من قال إن المزارعة صحيحة سواء كان البذر من المالك أو من العامل
____________________
(25/58)
وأما من قال أن المزارعة باطلة فعنده لا يستحق المقطع إلا أجره المثل والزرع كله لرب البذر العامل وحينئذ فالعشر كله على العامل فان أراد المقطع أن يأخذ نصف المغل مقاسمة ويجعل العشر كله على صاحب النصف الآخر لم يكن له هذا باتفاق العلماء والله اعلم وسئل
عن انسان له اقطاع من السلطان فهل الحاصل الذي يحصل له من ذلك الاقطاع تجب فيه الزكاة أم لا
فأجاب الحمد لله نعم ما يثبت على ملكه فعليه عشره سواء كان مقطعا أو مستأجرا أو مالكا او مستعيرا والله أعلم وسئل
عن نصيب العامل في المزرعة هل فيه زكاة
فأجاب اما الزكاة في المساقاة والمزارعة فهذا مبنى على أصل
____________________
(25/59)
وهو أن المزارعة والمساقاة هل هي جائزة أم لا على قولين مشهورين
أحدهما قول من قال إنها لا تجوز واعتقدوا أنها نوع من الاجارة بعوض مجهول ثم من هؤلاء من أبطلها مطلقا كأبي حنيفة ومنهم من استثنى ما تدعو إليه الحاجة فيجوز المساقاة للحاجة لأن الشجر لا يمكن إجارته بخلاف الأرض وجوزوا المزارعة على الأرض التي فيها شجر تبعا للمساقاة أما مطلقا كقول الشافعي وأما إذا كان البياض قدر الثلث فما دونه كقول مالك ثم منهم من جوز المساقاة مطلقا كقول مالك والشافعي في القديم وفي الجديد قصر الجواز على النخل والعنب
والقول الثاني قول من يجوز المساقاة والمزارعة ويقول ان هذه مشاركة وهي جنس غير جنس الاجارة التي يشترط فيها قدر النفع والاجرة فان العمل في هذه العقود ليس بمقصود بل المقصود هو الثمر الذي يشتركان فيه ولكن هذا شارك بنفع ماله وهذا بنفع بدنه وهكذا المضاربة
فعلى هذا فاذا افترق أصحاب هذه العقود وجب للعامل قسط مثله من الربح أما ثلث الربح وإما نصفه ولم تجب أجرة المثل للعامل وهذا القول هو الصواب المقطوع به وعليه إجماع الصحابة
____________________
(25/60)
والقول بجواز المساقاة والمزارعة قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم وهو مذهب الليث بن سعد وبن أبى ليلى وأبى يوسف ومحمد وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وأسحاق بن راهوية ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأبى بكر بن المنذر والخطابى وغيرهم
والصواب أن المزارعة أحل من الاجارة بثمن مسمى لأنها أقرب ألى العدل وأبعد عن الخطر فان الذي نهى عنه النبي من العقود منه ما يدخل في جنس الربا المحرم في القرآن ومنه ما يدخل في جنس الميسر الذي هو القمار وبيع الغرر هو من نوع القمار والميسر فالأجرة والثمن إذا كانت غررا مثل ما لم يوصف ولم ير ولم يعلم جنسه كان ذلك غررا وقمارا
ومعلوم أن المستاجر إنما يقصد الانتفاع بالأرض بحصول الزرع له فاذا أعطى الأجرة المسماة كان المؤجر قد حصل له مقصوده بيقين وأما المستأجر فلا يدري هل يحصل له الزرع أم لا
بخلاف المزارعة فانهما يشتركان في المغنم وفي الحرمان كما في المضاربة فان حصل شيء اشتركا فيه وأن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان وكان ذهاب نفع مال هذا في مقابلة ذهاب نفع بدن هذا
____________________
(25/61)
ولهذا لم يجز أن يشترط لأحدهما شيء مقدر من النماء لا في المضاربة ولا في المساقاة ولا في المزارعة لأن ذلك مخالف للعدل إذ قد يحصل لأحدهما شيء والآخر لا يحصل له شيء وهذا هو الذي نهى عنه رسول الله في الأحاديث التي روى فيها أنه نهى عن المخابرة أو عن كراء الأرض أو عن المزارعة كحديث رافع بن خديج وغيره فان ذلك قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يعملون عليها بزرع بقعة معينة من الأرض للمالك ولهذا قال الليث بن سعد إن الذي نهى عنه رسول الله من ذلك أمر إذا نظر فيه ذو علم بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز
فأما المزارعة فجائزة بلا ريب سواء كان البذر من المالك أو العامل أو منهما وسواء كان بلفظ الاجارة أو المزارعة أو غير ذلك هذا أصح الأقوال في هذه المسألة
وكذلك كل ما كان من هذا الجنس مثل أن يدفع دابته أو سفينته إلى من يكتسب عليها والربح بينهما أو من يدفع ماشيته أو نخله لمن يقوم عليها والصوف واللبن والولد والعسل بينهما
فاذا عرف هذان القولان في المزارعة فمن قال من العلماء إن
____________________
(25/62)
المزارعة باطلة قال الزرع كله لرب الأرض إذا كان البذر منه أو للعامل إذا كان البذر منه ومن قال له الزرع كان عليه العشر وأما من قال ان رب الأرض يستحق جزءا مشاعا من الزرع فان عليه عشره باتفاق الأئمة ولم يقل أحد من المسلمين أن رب الأرض يقاسم العامل ويكون العشر كله على العامل فمن قال هذا فقد خالف اجماع المسلمين وسئل رحمه الله
عن لبس الفضة للرجال من الكلاليب وخاتم وحياصة وحلية على السيف وسائر لبس الفضة هل هي محرمة ولا تجوز الصلاة فيها
فأجاب الحمد لله أما خاتم الفضة فيباح باتفاق الأئمة فانه قد صح عن النبي انه اتخذ خاتما من فضة وان أصحابه اتخذوا خواتيم
بخلاف خاتم الذهب فانها حرام باتفاق الأئمة الأربعة فانه قد صح عن النبي انه نهى عن ذلك
____________________
(25/63)
والسيف يباح تحليته بيسير الفضة فان سيف النبي كان فيه فضة وكذلك يسير الذهب على الصحيح
وأما الحياصة إذا كان فيها فضة يسيرة فانها تباح على أصح القولين وأما الكلاليب التي تمسك بها العمامة وتحتاج إليها إذا كانت بزنة الخواتيم كالمثقال ونحوه فهي أولى بالاباحة من الخاتم فان الخاتم يتخذ للزينة وهذا للحاجة وهذه متصلة باليسير ليست مفردة كالخاتم ويسير الفضة التابع لغيره إذا كان يحتاج إلى جنسه كشعيرة السكين وحلقة الاناء تباح في الآنية وان كره مباشرته بالاستعمال
وباب اللباس أوسع من باب الآنية فان آنية الذهب والفضة تحرم على الرجال والنساء وأما باب اللباس فان لباس الذهب والفضة يباح للنساء بالاتفاق ويباح للرجل ما يحتاج إليه من ذلك ويباح يسير الفضة للزينة وكذلك يسير الذهب التابع لغيره كالطرز ونحوه في أصح القولين في مذهب أحمد وغيره فان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهب إلا مقطعا
فاذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح يسير الفضة للزينة مفردا أو مضافا إلى غيره كحلية السيف وغيره فكيف يحرم
____________________
(25/64)
يسير الفضة للحاجة
وهذا كله لو كان عن النبي لفظ عام بتحريم لبس الفضة كما جاء عنه لفظ عام بتحريم لبس الذهب والحرير على الرجال حيث قال هذان حرام على ذكور أمتى حل لاناثها وكما جاء عنه لفظ عام في تحريم آنية الذهب والفضة
فلما كانت ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم عامة في آنية الذهب والفضة وفي لباس الذهب والحرير استثنى من ذلك ما خصته الأدلة الشرعية كيسير الحرير ويسير الفضة في الآنية للحاجة ونحو ذلك
فأما لبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه فاذا جاءت السنة باباحة خاتم الفضة كان هذا دليلا على إباحة ذلك وما هو في معناه وما هو أولى منه بالاباحة وما لم يكن كذلك فيحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(25/65)
وسئل
عن جندي قال للصانع اعمل لي حياصة من ذهب أو فضة واكتب عليها بسم الله الرحمن الرحيم فهل يجوز ذلك ثم لابد من أعادتها إلى النار لتمام عملها وهل يجوز لأحد أن يلبس حياصة ذهب أو فضة
فأجاب الحمد لله رب العالمين أما حياصة الذهب فمحرمة فان النبي قال الذهب والحرير هذان حرام على ذكور أمتى حل لأناثها
وأما حياصة الفضة ففيها نزاع بين العلماء وقد أباحها الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين
وأما كتابة القرآن عليها فيشبه كتابة القرآن على الدرهم والدينار ولكن يمتاز هذا بأنها تعاد إلى النار بعد الكتابة وهذا كله مكروه فانه يفضي إلى ابتذال القرآن وامتهانه ووقوعه في
____________________
(25/66)
المواضع التي ينزه القرآن عنها فان الحياصة والدرهم والدينار ونحو ذلك هو في معرض الابتذال والامتهان
وان كان من العلماء من رخص في حمل الدراهم المكتوب عليها القرآن فذلك للحاجة ولم يرخص في كتابة القرآن عليها والله أعلم
____________________
(25/67)
= باب صدقة الفطر سئل رحمه الله
عن زكاة الفطر هل تخرج تمرا أو زبيبا أو برا أو شعيرا أو دقيقا وهل يعطى للاقارب ممن لا تجب نفقته أو يجوز إعطاء القيمة
فأجاب الحمد لله أما إذا كان أهل البلد يقتاتون أحد هذه الأصناف جاز الاخراج من قوتهم بلا ريب وهل لهم أن يخرجوا ما يقتاتون من غيرها مثل أن يكونوا يقتاتون الأرز والدخن فهل عليهم أن يخرجوا حنطة أو شعيرا أو يجزئهم الأرز والدخن والذرة فيه نزاع مشهور وهما روايتان عن أحمد إحداهما لا يخرج إلا المنصوص
____________________
(25/68)
والأخرى يخرج ما يقتاته وان لم يكن من هذه الأصناف وهو قول أكثر العلماء كالشافعي وغيره وهو أصح الاقوال فان الاصل في الصدقات أنها تجب على وجه المساواة للفقراء كما قال تعالى { من أوسط ما تطعمون أهليكم }
والنبي فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير لأن هذا كان قوت أهل المدينة ولو كان هذا ليس قوتهم بل يقتاتون غيره لم يكلفهم أن يخرجوا مما لا يقتاتونه كما لم يأمر الله بذلك في الكفارات وصدقة الفطر من جنس الكفارات هذه معلقة بالبدن وهذه معلقة بالبدن بخلاف صدقة المال فانها تجب بسبب المال من جنس ما أعطاه الله
وأما الدقيق فيجوز إخراجه في مذهب أبي حنيفة وأحمد دون الشافعي ويخرجه بالوزن فان الدقيق يربع إذا طحن
والقريب الذي يستحقها إذا كانت حاجته مثل حاجة الأجنبى فهو أحق بها منه فان صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة والله أعلم
____________________
(25/69)
وسئل رحمه الله
عمن عليه زكاة الفطر ويعلم أنها صاع ويزيد عليه ويقول هو نافلة هل يكره
فأجاب الحمد لله نعم يجوز بلا كراهية عند أكثر العلماء كالشافعي وأحمد وغيرهما وإنما تنقل كراهيته عن مالك
وأما النقص عن الواجب فلا يجوز باتفاق العلماء لكن هل الواجب صاع أو نصف صاع أو أكثر فيه قولان والله أعلم
____________________
(25/70)
وسئل شيخ الاسلام
عن صدقة الفطر هل يجب استيعاب الاصناف الثمانية في صرفها أم يجزئ صرفها إلى شخص واحد وما أقوال العلماء في ذلك
فأجاب الحمد لله الكلام في هذا الباب في أصلين
احدهما في زكاة المال كزكاة الماشية والنقد وعروض التجارة والمعشرات فهذه فيها قولان للعلماء
أحدهما أنه يجب على كل مزك أن يستوعب بزكاته جميع الآصناف المقدور عليها وأن يعطي من كل صنف ثلاثة وهذا هو المعروف من مذهب الشافعي وهو رواية عن الامام أحمد
الثاني بل الواجب أن لا يخرج بها عن الاصناف الثمانية ولا يعطي أحدا فوق كفايته ولا يحابى أحدا بحيث يعطي واحدا ويدع
____________________
(25/71)
من هو أحق منه أو مثله مع امكان العدل وعند هؤلاءإذا دفع زكاة ماله جميعها لواحد من صنف وهو يستحق ذلك مثل أن يكون غارما عليه ألف درهم لا يجد لها وفاء فيعطيه زكاته كلها وهي الف درهم اجزأه وهذا قول جمهور أهل العلم كأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه وهو المأثور عن الصحابة كحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس ويذكر ذلك عن عمر نفسه
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي قال لقبيصة بن مخارق الهلالي أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها وفي سنن أبى داود وغيرها انه قال لسلمة بن صخر البياضي أذهب إلى عامل بنى زريق فليدفع صدقتهم اليك ففي هذين الحديثين أنه دفع صدقة قوم لشخص واحد لكن الآمر هو الإمام وفي مثل هذا تنازع وفي المسألة بحث من الطرفين لا تحتمله هذه الفتوى
فإن المقصود هو الاصل الثاني وهو صدقة الفطر فان هذه الصدقة هل تجرى مجرى صدقة الاموال أو صدقة الابدان كالكفارات على قولين فمن قال بالأول وكان من قوله وجوب الاستيعاب أوجب الاستيعاب فيها
____________________
(25/72)
وعلى هذين الاصلين ينبني ما ذكره السائل من مذهب الشافعي رضي الله عنه ومن كان من مذهبه انه لا يجب الاستيعاب كقول جمهور العلماء فانهم يجوزون دفع صدقة الفطر إلى واحد كما عليه المسلمون قديما وحديثا
ومن قال بالثانى ان صدقة الفطر تجرى مجرى كفارة اليمين والظهار والقتل والجماع في رمضان ومجرى كفارة الحج فان سببها هو البدن ليس هو المال كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمه للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات وفي حديث آخر أنه قال إغنوهم في هذا اليوم عن المسالة
ولهذا أوجبها الله طعاما كما أوجب الكفارة طعاما وعلى هذا القول فلا يجزئ إطعامها إلا لمن يستحق الكفارة وهم الأخذون لحاجة أنفسهم فلا يعطي منها في المؤلفة ولا الرقاب ولا غير ذلك وهذا القول أقوى في الدليل
وأضعف الأقوال قول من يقول إنه يجب على كل مسلم أن يدفع
____________________
(25/73)
صدقة فطره إلى اثنى عشر أو ثمانية عشر أو إلى أربعة وعشرين او اثنين وثلاثين أو ثمانية وعشرين ونحو ذلك فان هذا خلاف ما كان عليه المسلمون على عهد رسول الله وخلفائه الراشدين وصحابته أجمعين لم يعمل بهذا مسلم على عهدهم بل كان المسلم يدفع صدقة فطره وصدقة فطر عياله إلى المسلم الواحد
ولو رأوا من يقسم الصاع على بضعة عشر نفسا يعطى كل واحد حفنة لأنكروا ذلك غاية الانكار وعدوه من البدع المستنكرة والافعال المستقبحة فان النبي قدر المأمور به صاعا من تمر أو صاعا من شعير ومن البر إما نصف صاع وأما صاعا على قدر الكفاية التامة للواحد من المساكين وجعلها طعمة لهم يوم العيد يستغنون بها فاذا أخذ المسكين حفنة لم ينتفع بها ولم تقع موقعا
وكذلك من عليه دين وهو بن سبيل اذا اخذ حفنة من حنطة لم ينتفع بها من مقصودها ما يعد مقصود اللعقلاء وان جاز ان يكون ذلك مقصودا في بعض الأوقات كما لو فرض عدد مضطرون
____________________
(25/74)
وان قسم بينهم الصاع عاشوا وان خص به بعضهم مات الباقون فهنا ينبغي تفريقه بين جماعة لكن هذا يقتضي ان يكون التفريق هو المصلحة والشريعة منزهة عن هذه الأفعال المنكرة التي لا يرضاها العقلاء ولم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها
ثم قول النبي طعمة للمساكين نص في أن ذلك حق للمساكين وقوله تعالى في آية الظهار فاطعام ستين مسكينا فاذا لم يجز أن تصرف تلك للاصناف الثمانية فكذلك هذه ولهذا يعتبر في المخرج من المال أن يكون من جنس النصاب والواجب ما يبقى ويستنمى ولهذا كان الواجب فيها الاناث دون الذكور الا في التبيع وبن لبون لان المقصود الدر والنسل وانما هو للاناث وفي الضحايا والهدايا لما كان المقصود الأكل كان الذكر أفضل من الأنثى وكانت الهدايا والضحايا إذا تصدق بها او ببعضها فانما هو للمساكين أهل الحاجة دون استيعاب المصارف الثمانية وصدقة الفطر وجبت طعاما للاكل لا للاستنماء فعلم أنها من جنس الكفارات
وإذا قيل ان قوله انما الصدقات للفقراء والمساكين نص في استيعاب الصدقة قيل هذا خطأ لوجوه
____________________
(25/75)
أحدها أن اللام في هذه إنما هي لتعريف الصدقة المعهودة التي تقدم ذكرها في قوله ومنهم من يلمزك في الصدقات فان أعطوا منها رضوا وهذه إذا صدقات الأموال دون صدقات الابدان باتفاق المسلمين ولهذا قال في أية الفدية ففدية من صيام أو صدقة أو نسك لم تكن هذه الصدقة داخلة في آية براءة واتفق الأئمة على ان فدية الأذى لا يجب صرفها في جميع الأصناف الثمانية وكذلك صدقة التطوع لم تدخل في الآية باجماع المسلمين وكذلك سائر المعروف فانه قد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي انه قال كل معروف صدقة لا يختص بها الاصناف الثمانية باتفاق المسلمين
وهذا جواب من يمنع دخول هذه الصدقة في الآية وهي تعم جميع الفقراء والمساكين والغارمين في مشارق الأرض ومغاربها ولم يقل مسلم انه يجب استيعاب جميع هؤلاء بل غاية ما قيل انه يجب اعطاء ثلاثة من كل صنف وهذا تخصيص اللفظ العام من كل صنف ثم فيه تعيين فقير دون فقير
وأيضا لم يوجب احد التسوية في آحاد كل صنف فالقول عند
____________________
(25/76)
الجمهور في الاصناف عموما وتسوية كالقول في آحاد كل صنف عموما وتسوية
الوجه الثاني أن قوله أنما الصدقات للحصر وانما يثبت المذكور ويبقى ما عداه والمعنى ليست الصدقة لغير هؤلاء بل لهؤلاء فالمثبت من جنس المنفي ومعلوم انه لم يقصد تبيين الملك بل قصد تبيين الحل أي لا تحل الصدقة لغير هؤلاء فيكون المعنى بل تحل لهم وذلك أنه ذكر في معرض الذم لمن سأله من الصدقات وهو لا يستحقها والمذموم يذم على طلب ما لا يحل له لا على طلب ما يحل له وان كان لا يملكه إذ لو كان كذلك لذم هؤلاء وغيرهم اذا سألوها من الامام قبل اعطائها ولو كان الذم عاما لم يكن في الحصر ذم لهؤلاء دون غيرهم وسياق الآية يقتضي ذمهم والذم الذي اختصوا به سؤال ما لا يحل فيكون ذلك الذي نفى ويكون المثبت هذا يحل وليس من الاحلال للاصناف وآحادهم وجود الاستيعاب والتسوية كاللام في قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا وقوله وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه وقوله عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لابيك وأمثال ذلك مما جاءت به اللام للاباحة فقول القائل انه قسمها بينهم بواو التشريك
____________________
(25/77)
ولام التمليك ممنوع لما ذكرناه
الوجه الثالث أن الله لما قال في الفرائض يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين وقال ولكم نصف ما ترك أزواجكم إلى قوله ولهن الربع مما تركتم وقال وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين لما كانت اللام للتمليك وجب استيعاب الأصناف المذكورين وإفراد كل صنف والتسوية بينهم فاذا كان لرجل أربع زوجات وأربعة بنين او بنات او أخوات أو إخوة وجب العموم والتسوية في الافراد لان كلا منهم استحق بالنسب وهم مستوون فيه وهناك لم يكن الامر فيه كذلك ولم يجب فيه ذلك
ولا يقال إفراد الصنف لا يمكن استيعابه لانه يقال بل يجب أن يقال في الافراد ما قيل في الاصناف فاذا قيل يجب استيعابها بحسب الامكان ويسقط المعجوز عنه قيل في الافراد كذلك وليس الامر كذلك لكن يجب تحري العدل بحسب الامكان كما ذكرناه والله اعلم
____________________
(25/78)
= باب اخراج الزكاة سئل شيخ الاسلام
عن تاجر هل يجوز ان يخرج من زكاته الواجبة عليه صنفا يحتاج إليه وهل إذا مات انسان وعليه دين له فهل يجوز أن يعطى أحدا من أقارب الميت إن كان مستحقا للزكاة ثم يستوفيه منه وهل إذا أخرج زكاته على أهل بلد آخر مسافة القصر هل يجزئه أم لا
فأجاب الحمد لله إذا أعطاه دراهم أجزا بلا ريب
وأما إذا أعطاه القيمة ففيه نزاع هل يجوز مطلقا أو لا يجوز مطلقا أو يجوز في بعض الصور للحاجة او المصلحة الراجحة على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيرهوهذا القول أعدل الأقوال
فان كان آخذ الزكاة يريد أن يشتري بها كسوة فاشترى رب
____________________
(25/79)
المال له بها كسوة وأعطاه فقد أحسن إليه وأما إذا قوم هو الثياب التي عنده وأعطاها فقد يقومها بأكثر من السعر وقد يأخذ الثياب من لا يحتاج اليها بل يبيعها فيغرم أجرة المنادي وربما خسرت فيكون في ذلك ضرر على الفقراء
والاصناف التي يتجر فيها يجوز أن يخرج عنها جميعا دراهم بالقيمة فان لم يكن عنده دراهم فأعطى ثمنها بالقيمة فالأظهر أنه يجوز لأنه واسى الفقراء فأعطاهم من جنس ماله
وأما الدين الذي على الميت فيجوز أن يوفى من الزكاة في أحد قولي العلماء وهو أحدى الروايتين عن أحمد لأن الله تعالى قال والغارمين ولم يقل وللغارمين فالغارم لا يشترط تمليكه
وعلى هذا يجوز الوفاء عنه وأن يملك لوارثه ولغيره ولكن الذي عليه الدين لا يعطى ليستوفي دينه
____________________
(25/80)
وسئل رحمه الله
عن زكاة العشر وغيره يأخذها السلطان يصرفها حيث شاء ولا يعطيها للفقراء والمساكين هل يسقط الفرض بذلك أم لا
فأجاب أما ما يأخذه ولاة المسلمين من العشر وزكاة الماشية والتجارة وغير ذلك فانه يسقط ذلك عن صاحبه إذا كان الامام عادلا يصرفه في مصارفه الشرعية باتفاق العلماء فان كان ظالما لا يصرفه في مصارفه الشرعية فينبغي لصاحبه أن لا يدفع الزكاة إليه بل يصرفها هو إلى مستحقيها فان أكره على دفعها إلى الظالم بحيث لو لم يدفعها إليه لحصل له ضرر فانها تجزئه في هذه الصورة عند اكثر العلماء
وهم في هذه الحال ظلموا مستحقيها كولي اليتيم وناظر الوقف إذا قبضوا ماله وصرفوه في غير مصارفه
____________________
(25/81)
وسئل رحمه الله
عمن أخرج القيمة في الزكاة فإنه كثيرا ما يكون أنفع للفقير هل هو جائز أم لا
فأجاب وأما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك فالمعروف من م ذهب مالك والشافعي أنه لا يجوز وعند أبى حنيفة يجوز وأحمد رحمه الله قد منع القيمة في مواضع وجوزها في مواضع فمن أصحابه من أقر النص ومنهم من جعلها على روايتين
والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه ولهذا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الجبران بشاتين أو عشرين درهما ولم يعدل إلى القيمة ولأنه متى جوز إخراج القيمة مطلقا فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة وقد يقع في التقويم ضرر ولأن الزكاة مبناها على المواساة وهذا معتبر في قدر المال وجنسه واما اخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا
____________________
(25/82)
بأس به مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم فهنا اخراج عشر الدراهم يجزئه ولا يكلف أن يشتري ثمرا أو حنطة إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه وقد نص أحمد على جواز ذلك
ومثل أن يجب عليه شاة في خمس من الابل وليس عنده من يبيعه شاة فاخراج القيمة هنا كاف ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشتري شاة ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة لكونها أنفع فيعطيهم إياها أو يرى الساعي أن أخذها أنفع للفقراء كما نقل عن معاذ بن جبل أنه كان يقول لأهل اليمن ائتونى بخميص أو لبيس أسهل عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والانصار
وهذا قد قيل إنه قاله في الزكاة وقيل في الجزية
____________________
(25/83)
وسئل رحمه الله
عن إسقاط الدين عن المعسر هل يجوز أن يحسبه من الزكاة
فأجاب وأما إسقاط الدين عن المعسر فلا يجزئ عن زكاة العين بلا نزاع لكن إذا كان له دين على من يستحق الزكاة فهل يجوز أن يسقط عنه قدر زكاة ذلك الدين ويكون ذلك زكاة ذلك الدين فهذا فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره
أظهرهما الجواز لأن الزكاة مبناها على المواساة وهنا قد أخرج من جنس ما يملك بخلاف ما إذا كان ماله عينا وأخرج دينا فان الذي أخرجه دون الذي يملكه فكان بمنزلة إخراج الخبيث عن الطيب وهذا لا يجوز كما قال تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون الآية
ولهذا كان على المزكى أن يخرج من جنس ماله لا يخرج أدنى منه فاذا كان له ثمر وحنطة جيدة لم يخرج عنها ما هو دونها
____________________
(25/84)
وسئل رحمه الله
عمن له زكاة وله أقارب في بلد تقصر إليه الصلاة وهم مستحقون الصدقة فهل يجوز أن يدفعها اليهم أم لا
فأجاب الحمد لله إذا كانوا محتاجين مستحقين للزكاة ولم تحصل لهم كفايتهم من جهة غيره فانه يعطيهم من الزكاة ولو كانوا في بلد بعيد والله أعلم وسئل شيخ الاسلام
عن المسكين يحتاج إلى الزكاة من الزرع فهل إعطاؤه يسقط الفرض عن صاحب الزرع إذا عجلها له قبل إدراك زرعه أم لا
فأجاب وأما تعجيل الزكاة قبل وجوبها بعد سبب الوجوب فيجوز عند جمهور العلماء كأبى حنيفة والشافعي وأحمد فيجوز
____________________
(25/85)
تعجيل زكاة الماشية والنقدين وعروض التجارة إذا ملك النصاب
ويجوز تعجيل المعشرات قبل وجوبها إذا كان قد طلع الثمر قبل بدو صلاحه ونبت الزرع قبل اشتداد الحب
فاما إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمرة وجبت الزكاة وسئل
عن رجل تحت يده مال فوق النصاب فأخرج منه شيئا من زكاة الفرض ظنا منه أنه قد حال عليه الحول ثم تبين أنه لم يحل الحول وفيمن يخرج الزكاة وفي نفسه إذا كان الحول حالا فهي زكاة وإلا تكون سلفا على ما يجب بعد هل يجزئ في الصورتين
فأجاب نعم يجزئ ذلك في الصورتين جميعا إذا وجبت الزكاة والله أعلم
____________________
(25/86)
وسئل
عن دفع الزكاة إلى قوم منتسبين إلى المشايخ هل يجوز أم لا
فأجاب فصل
وأما الزكاة فينبغي للانسان أن يتحرى بها المستحقين من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم من أهل الدين المتبعين للشريعة فمن أظهر بدعة أو فجورا فانه يستحق العقوبة بالهجر وغيره والاستتابة فكيف يعان على ذلك
وأما من يأخذها وينفقها بحسب اختياره أو ينفقها على عياله مع غناه فهذا لا يجوز دفعها إليه ولا تبرأ ذمة من دفعها إليه بل لا تعطى إلا لمستحقها أو لمن يعطيها لمستحقها مثل من عنده خبرة
____________________
(25/87)
بأهلها وأمانة فيؤديها إليهم كما قال تعالى أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
واذا طلبها من لا يعلم حاجته إليها وهو يعلم حاجة آخر فاعطاء من يعلم حاجته أولى وإعطاء القريب المحتاج الذي ليس من أهل نفقته أولى من إعطاء البعيد المساوى له في الحاجة وسئل
عن رجل عليه زكاة هل يجوز له أن يعطيها لأقاربه المحتاجين أو أن يشتري لهم منها ثيابا أو حبوبا وإذا أخذ 1 السلطان من غنمه هل تسقط زكاتها وهل يلزمه اعطاء الزكاة في بلد القلة والمال أم لا وهل إذا مات فقير وله عليه مال هل له أن يحسبه من الزكاة أو يطلبه من غيره فيأخذ عنه وهل يعطي لمن لا يصلي أم لا
فأجاب الحمد لله يجوز أن يصرف الزكاة إلى من يستحقها وأن كانوا من أقاربه الذين ليسوا في عياله لكن يعطيهم من ماله وهم يأذنون لمن يشتري لهم بها ما يريدون
____________________
(25/88)
وما أخذه السلطان من الزكاة بغير أمر اصحابة احتسب به وجيران المال أحق بصدقته فان استغنوا عنها أعطى البعيد وأن أعطاها الفقراء في غير البلد جاز
وإن كان له دين علي حي أو ميت لم يحتسب به من الزكاة ولا يحتال في ذلك
ومن لم يكن مصليا أمر بالصلاة فان قال أنا أصلي أعطى وإلا لم يعط وسئل قدس الله روحه
عن دفع الزكاة إلى أقاربه المحتاجين الذين لا تلزمه نفقتهم هل هو الآفضل أو دفعها إلى الاجنبى
فأجاب أما دفع الزكاة إلى أقاربه فان كان القريب الذي يجوز دفعها إليه حاجته مثل حاجة الأجنبى اليها فالقريب أولى وان كان البعيد أحوج لم يحاب بها القريب قال أحمد عن سفيان بن عيينة كانوا يقولون لا يحابى بها قريبا ولا يدفع بها مذمة ولا يقي بها ماله
____________________
(25/89)
وسئل رحمه الله
عن دفعها إلى والديه وولده الذين لا تلزمه نفقتهم هل يجوز أم لا
فأجاب الذين يأخذون الزكاة صنفان صنف يأخذ لحاجته كالفقير والغارم لمصلحة نفسه
وصنف يأخذها لحاجة المسلمين كالمجاهد والغارم في اصلاح ذات البين فهؤلاء يجوز دفعها اليهم وان كانوا من أقاربه
وأما دفعها إلى الوالدين إذا كانوا غارمين أو مكاتبين ففيها وجهان والأظهر جواز ذلك
وأما أن كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم فالأقوى جواز دفعها اليهم في هذه الحال لأن المقتضى موجود والمانع مفقود فوجب العمل بالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم
____________________
(25/90)
وسئل
عن إمراة فقيرة وعليها دين ولها أولاد بنت صغار ولهم مال وهم تحت الحجر هل يجوز أن يدفعوا زكاتهم إلى جدتهم أم لا وهل هي أولى من غيرها أم لا
فأجاب أما دفع زكاتهم اليها لقضاء دينها فيجوز في أظهر قولي العلماء وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره وكذلك دفعها إلى سائر الأقارب لأجل الدين
وأما دفعها لآجل النفقة فان كانت مستغنية بنفقتهم أو نفقة غيرهم لم تدفع اليها وان كانت محتاجة إلى زكاتهم دفعت اليها في أظهر قولي العلماء وهي أحق من الأجانب والله أعلم
____________________
(25/91)
وسئل رحمه الله
هل من كان عليه دين يجوز له أن يأخذ من زكاة أبيه لقضاء دينه أم لا
فأجاب إذا كان على الولد دين ولا وفاء له جاز له أن ياخذ من زكاة أبيه في أظهر القولين في مذهب أحمد وغيره وأما أن كان محتاجا إلى النفقة وليس لأبيه ما ينفق عليه ففيه نزاع والأظهر أنه يجوز له أخذ زكاة أبيه
وأما إن كان مستغنيا بنفقة أبيه فلا حاجة به إلى زكاته والله أعلم
____________________
(25/92)
وسئل
هل يجزئ الرجل عن زكاته ما يغرمه ولاة الأمور في الطرقات أم لا
فأجاب ما ياخذه ولاة الأمور بغير اسم الزكاة لا يعتد به من الزكاة والله تعالى أعلم وسئل
عن الصدقة على المحتاجين من الأهل وغيرهم
فأجاب أن كان مال الانسان لا يتسع للأقارب والأباعد فان نفقة القريب واجبة عليه فلا يعطي البعيد ما يضر بالقريب
وأما الزكاة والكفارة فيجوز أن يعطي منها القريب الذي لا ينفق عليه والقريب أولى إذا استوت الحاجة
____________________
(25/93)
وسئل رحمه الله
عن رجل أعطاه أخ له شيئا من الدنيا أيقبله أم يرده وقد ورد من جاءه شيء بغير سؤال فرده فكأنما رده على الله هل هو صحيح أم لا
فأجاب قد ثبت عن النبي أنه قال لعمر ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك وثبت أيضا في الصحيح أن حكيم بن حزام سأله فأعطاه ثم سأله فأعطاه ثم سأله فأعطاه ثم قال يا حكيم ما أكثر مسألتك أن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه باشراف نفس لم يبارك له فيه فكان كالذي يأكل ولا يشبع فقال له حكيم والذي بعثك بالحق لا أرزا بعدك من أحد شيئا فكان أبو بكر وعمر يعطيانه فلا يأخذ فتبين بهذين الحديثين أن الانسان إذا كان سائلا بلسانه او
____________________
(25/94)
مشرفا إلى ما يعطاه فلا ينبغي أن يقبله إلا حيث تباح له المسالة والاستشراف 1 وأما إذا أتاه من غير مسألة ولا إشراف فله أخذه إن كان الذي أعطاه أعطاه حقه كما أعطى النبي عمر من بيت المال فانه قد كانعمل له فأعطاه عمالته وله أن لا يقبله كما فعل حكيم بن حزام مالا يستحقه عليه فان قبله وكان من غير إشراف له عليه فقد أحسن
وأما الغنى فينبغي له أن يكافئ بالمال من أسداه إليه لخبر من أسدي إليكم معروفا فكافئوه فان لم تجدوا له ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا ان قد كافأتموه
____________________
(25/95)
وقال رحمه الله فصل
في الأخذ من غير سؤال في
الصحيح حديث حكيم بن حزام لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد مرة ثم قال يا حكيم أن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه باشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزا احدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى ان يقبله فقال يا معشر المسلمين وفي رواية إنى أشهدكم يا معشر المسلمين إنى أعرض على حكيم حقه الذي قسم الله له في هذا الفيء فيابى أن يأخذه فلم يرزا حكيم احدا من الناس بعد النبي
____________________
(25/96)
قوله لم يرزا أي لم ينقص لا لم يسأل كما يدل عليه السياق
ففيه أن حكيما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل من أحد شيئا واقره النبي على ذلك وكذلك الخلفاء بعده وهذا حجة في جواز الرد وان كان عن غير مسألة ولا إشراف
وقوله اليد العليا خير من اليد السفلى تنبيه له على ان يد الآخذ سفلى وقد سئل احمد عن حجة لذلك من الآية فلم يعرفها وهذه حجة جيدة
وقد روى فيه زيادات مثل قوله إن خيرا لك أن لا تأخذ من أحد شيئا لكن ينظر إسناده فهو صريح في تفضيل عدم الأخذ مطلقا
____________________
(25/97)
= كتاب الصيام سئل شيخ الاسلام رحمه الله
عن صوم يوم الغيم هل هو واجب ام لا وهل هو يوم شك منهى عنه ام لا
فأجاب فصل
وأما صوم يوم الغيم اذا حال دون رؤية الهلال غيم او قتر فللعلماء فيه عدة اقوال وهي في مذهب احمد وغيره
أحدها أن صومه منهى عنه ثم هل هو نهى تحريم او تنزيه على قولين وهذا هو المشهور فى مذهب مالك والشافعي وأحمد في احدى الروايات عنه وإختار ذلك طائفة من اصحابه كأبى الخطاب
____________________
(25/98)
وبن عقيل وأبى القاسم بن منده الأصفهانى وغيرهم
والقول الثانى ان صيامه واجب كاختيار القاضي والخرقى وغيرهما من اصحاب احمد وهذا يقال انه اشهر الروايات عن احمد لكن الثابت عن احمد لمن عرف نصوصه والفاظه انه كان يستحب صيام يوم الغيم اتباعا لعبد الله بن عمر وغيره من الصحابة ولم يكن عبد الله بن عمر يوجبه على الناس بل كان يفعله احتياطا وكان الصحابة فيهم من يصومه احتياطا ونقل ذلك عن عمر وعلى ومعاوية وابى هريرة وبن عمر وعائشة واسماء وغيرهم
ومنهم من كان لا يصومه مثل كثير من الصحابة ومنهم من كان ينهى عنه كعمار بن ياسر وغيره فأحمد رضي الله عنه كان يصومه احتياطا
وأما ايجاب صومه فلا اصل له في كلام احمد ولا كلام احد من اصحابه لكن كثير من اصحابه اعتقدوا ان مذهبه ايجاب صومه ونصروا ذلك القول
والقول الثالث انه يجوز صومه ويجوز فطره وهذا
____________________
(25/99)
مذهب ابى حنيفة وغيره وهو مذهب احمد المنصوص الصريح عنه وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين او اكثرهم وهذا كما ان الامساك عند الحائل عن رؤية الفجر جائز فان شاء امسك وان شاء اكل حتى يتيقن طلوع الفجر وكذلك اذا شك هل احدث ام لا ان شاء توضأ وان شاء لم يتوضأ وكذلك اذا شك هل حال حول الزكاة او لم يحل واذا شك هل الزكاة الواجبة عليه مائة او مائة وعشرون فأدى الزيادة
وأصول الشريعة كلها مستقرة على ان الاحتياط ليس بواجب ولا محرم ثم اذا صامه بنية مطلقة او بنية معلقة بأن ينوى ان كان من شهر رمضان كان عن رمضان والا فلا فان ذلك يجزيه في مذهب ابي حنيفة واحمد فى أصح الروايتين عنه وهي التى نقلها المروذي وغيره وهذا اختيار الخرقى فى شرحه للمختصر واختيار ابي البركات وغيرهما
والقول الثاني انه لا يجزئه الا بنية انه من رمضان كاحدى الروايتين عن احمد اختارها القاضي وجماعة من أصحابه
وأصل هذه المسألة ان تعيين النية لشهر رمضان هل هو واجب فيه ثلاثة اقوال فى مذهب احمد
____________________
(25/100)
أحدها انه لا يجزئه الا ان ينوي رمضان فان صام بنية مطلقة او معلقة او بنية النفل او النذر لم يجزئه ذلك كالمشهور من مذهب الشافعى واحمد فى احدى الروايات
والثانى يجزئه مطلقا كمذهب ابي حنيفة
والثالث انه يجزئه بنية مطلقة لا بنية تعيين غير رمضان وهذه الرواية الثالثة عن احمد وهي اختيار الخرقى وأبى البركات
وتحقيق هذه المسالة ان النية تتبع العلم فان علم ان غدا من رمضان فلابد من التعيين فى هذه الصورة فان نوى نفلا او صوما مطلقا لم يجزه لان الله امره ان يقصد اداء الواجب عليه وهو شهر رمضان الذي علم وجوبه فاذا لم يفعل الواجب لم تبرأ ذمته
وأما إذا كان لا يعلم ان غدا من شهر رمضان فهنا لا يجب عليه التعيين ومن اوجب التعيين مع عدم العلم فقد أوجب الجمع بين الضدين
فاذا قيل انه يجوز صومه وصام فى هذه الصورة بنية مطلقة او معلقة اجزأه واما اذا قصد صوم ذلك تطوعا ثم تبين انه كان
____________________
(25/101)
من شهر رمضان فالاشبه انه يجزئه ايضا كمن كان لرجل عنده وديعة ولم يعلم ذلك فاعطاه ذلك على طريق التبرع ثم تبين انه حقه فانه لا يحتاج إلى اعطائه ثانيا بل يقول ذلك الذي وصل اليك هو حق كان لك عندي والله يعلم حقائق الامور والرواية التى تروى عن احمد ان الناس فيه تبع للامام فى نيته على أن الصوم والفطر بحسب ما يعلمه الناس كما فى السنن عن النبى انه قال ( صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون واضحاكم يوم تضحون (
وقد تنازع الناس في ( الهلال ( هل هو اسم لما يطلع فى السماء وان لم يره احد أو لا يسمى هلالا حتى يستهل به الناس ويعلموه على قولين في مذهب احمد وغيره
وعلى هذا ينبنى النزاع فيما اذا كانت السماء مطبقة بالغيم او فى يوم الغيم مطلقا هل هو يوم شك على ثلاثة أقوال فى مذهب احمد وغيره
أحدها انه ليس بشك بل الشك اذا امكنت رؤيته وهذا قول كثير من اصحاب الشافعي وغيرهم
والثانى أنه شك لامكان طلوعه
____________________
(25/102)
والثالث أنه من رمضان حكما فلا يكون يوم شك وهو اختيار طائفة من اصحاب احمد وغيرهم
وقد تنازع الفقهاء فى المنفرد برؤية هلال الصوم والفطر هل يصوم ويفطر وحده او لا يصوم ولا يفطر الا مع الناس او يصوم وحده ويفطر مع الناس على ثلاثة اقوال معروفة في مذهب احمد وغيره
وقال رحمه الله فصل
مسألة رؤية بعض البلاد رؤية لجميعها فيها اضطراب فانه قد حكى بن عبد البر الاجماع على ان الاختلاف فيما يمكن اتفاق المطالع فيه فاما ما كان مثل الاندلس وخراسان فلا خلاف انه لا يعتبر
قلت أحمد اعتمد فى الباب على حديث الاعرابى الذي شهد انه اهل الهلال البارحة فامر النبى الناس على هذه الرؤية مع انها كانت فى غير البلد وما يمكن ان تكون فوق مسافة القصر ولم يستفصله وهذا الاستدلال لا ينافى ما ذكره بن عبد البر لكن ما حد ذلك
____________________
(25/103)
والذين قالوا لا تكون رؤية لجميعها كأكثر اصحاب الشافعي منهم من حدد ذلك بمسافة القصر ومنهم من حدد ذلك بما تختلف فيه المطالع كالحجاز مع الشام والعراق مع خراسان وكلاهما ضعيف فان مسافة القصر لا تعلق لها بالهلال واما الاقاليم فما حدد ذلك ثم هذان خطأ من وجهين
أحدهما أن الرؤية تختلف باختلاف التشريق والتغريب فانه متى رؤي فى المشرق وجب ان يرى فى المغرب ولا ينعكس لانه يتأخر غروب الشمس بالمغرب عن وقت غروبها بالمشرق فاذا كان قد رؤي ازداد بالمغرب نورا وبعدا عن الشمس وشعاعها وقت غروبها فيكون احق بالرؤية وليس كذلك اذا رؤي بالمغرب لانه قد يكون سبب الرؤية تاخر غروب الشمس عندهم فازداد بعدا وضوءا ولما غربت بالمشرق كان قريبا منها
ثم إنه لما رؤي بالمغرب كان قد غرب عن اهل المشرق فهذا امر محسوس فى غروب الشمس والهلال وسائر الكواكب ولذلك اذا دخل وقت المغرب بالمغرب دخل بالمشرق ولا ينعكس وكذلك الطلوع اذا طلعت بالمغرب طلعت بالمشرق ولا ينعكس فطلوع الكواكب وغروبها بالمشرق سابق
____________________
(25/104)
وأما الهلال فطلوعه ورؤيته بالمغرب سابق لانه يطلع من المغرب وليس فى السماء ما يطلع من المغرب غيره وسبب ظهوره بعده عن الشمس فكلما تأخر غروبها ازداد بعده عنها فمن اعتبر بعد المساكن مطلقا فلم يتمسك بأصل شرعى ولا حسي
وأيضا فان هلال الحج ما زال المسلمون يتمسكون فيه برؤية الحجاج القادمين وان كان فوق مسافة القصر
الوجه الثانى أنه إذا اعتبرنا حدا كمسافة القصر او الاقاليم فكان رجل في آخر المسافة والاقليم فعليه ان يصوم ويفطر وينسك وآخر بينه وبينه غلوة سهم لا يفعل شيئا من ذلك وهذا ليس من دين المسلمين
فالصواب فى هذا والله أعلم ما دل عليه قوله ( صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون ( فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد وجب الصوم
وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب فعليهم إمساك ما بقى سواء كان من إقليم أو اقليمين
____________________
(25/105)
والإعتبار ببلوغ العلم بالرؤية فى وقت يفيد فاما اذا بلغتهم الرؤية بعد غروب الشمس فالمستقبل يجب صومه بكل حال لكن اليوم الماضي هل يجب قضاؤه فانه قد يبلغهم فى اثناء الشهر انه رؤي باقليم آخر ولم ير قريبا منهم الاشبه انه ان رؤي بمكان قريب وهو ما يمكن ان يبلغهم خبره فى اليوم الاول فهو كما لو رؤي فى بلدهم ولم يبلغهم
وأما إذا رؤي بمكان لا يمكن وصول خبره اليهم الا بعد مضى الاول فلا قضاء عليهم لان صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه ولا يمكن ان يصوموا الا اليوم الذي يمكنهم فيه رؤية الهلال وهذا لم يكن يمكنهم فيه بلوغه فلم يكن يوم صومهم وكذلك فى الفطر والنسك لكن هؤلاء هل يفطرون اذا ثبت عندهم فى اثناء الشهر أنه رؤي بناء على تلك الرؤية لكن ان بلغتهم بخبر واحد لم يفطروا لأنه قد ثبت عندهم فى اثنائه ما يفطرون به ولا يقضون اليوم الاول فيكون صومهم تسعة وعشرين كما يقوله من يقول بالمطالع
106
إذا صام برؤية مكان ثم سافر إلى مكان تقدمت رؤيتهم فانه يفطر معهم ولا يقضى اليوم الاول
وإن تأخرت رؤيتهم فهنا اختلفت نقول اصحابنا ان قالوا يفطر
____________________
(25/106)
وحده فهو كما لو رآه عندهم لم يفطر وحده عندنا على المشهور وإن صام معهم فقد صام احدى وثلاثين يوما
والأشبه ان هذه المسألة يخرج فيها لاصحابنا قولان كالمنفرد برؤيته فى الفطر لان انفراد الرجل بالفطر هو المحذور فى الموضعين ورؤية أهل بلد دون غيرهم كرؤيته ورؤية طائفة معه دون غيرهم وأما هلال الفطر فإذا ثبتت رؤيته فى اليوم عملوا بذلك وإن كان بعد ذلك لم يكن فيه فائدة بل العيد هو اليوم الذى عيده الناس ولكن نقل التاريخ
فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله ( صوموا لرؤيته ( فمن بلغه أنه رؤي ثبت فى حقه من غير تحديد بمسافة أصلا وهذا يطابق ما ذكره بن عبد البر فى ان طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما الا بعد شهر فلا فائدة فيه بخلاف الاماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر فانها محل الاعتبار فتدبر هذه المسائل الاربعة وجوب الصوم والامساك ووجوب القضاء ووجوب بناء العيد على تلك الرؤية ورؤية البعيد والبلاغ فى وقت بعد انقضاء العبادة
ولهذا قالوا إذا أخطأ الناس كلهم فوقفوا فى غير يوم عرفة
____________________
(25/107)
أجزأهم اعتبارا بالبلوغ واذا اخطأه طائفة منهم لم يجزهم لا مكان البلوغ فالبلوغ هو المعتبر سواء كان علم به للبعد او للقلة وهذا الذى ذكرته هو الذى ذكره أصحابنا الا وجوب القضاء اذا لم يكن مما يمكنهم فيه بلوغ الخبر
والحجة فيه أنا نعلم بيقين انه ما زال فى عهد الصحابة والتابعين يرى الهلال في بعض امصار المسلمين بعد بعض فان هذا من الامور المعتادة التى لا تبديل لها ولابد ان يبلغهم الخبر في اثناء الشهر فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته فى سائر بلدان الاسلام كتوفرها على البحث عن رؤيته فى بلده ولكان القضاء يكثر فى اكثر الرمضانات ومثل هذا لو كان لنقل ولما لم ينقل دل على انه لا أصل له وحديث بن عباس يدل على هذا
وقد أجاب أصحابنا بانه انما لم يفطر لانه لم يثبت عنده الا بقول واحد فلا يفطر به ولا يقال اصحابنا كذلك أيضا لم ينقل انهم كانوا إذا بلغهم الهلال فى اثناء الشهر بنوا فطرهم عليه
قلنا لأن ذاك امر لا تتعلق الهمم بالبحث عنه لان فيه ترك
____________________
(25/108)
صوم يوم فان ثبت عندهم والا فالاحتياط الصوم لأن ذاك الخبر قد يكون ضعيفا مع ان هذه المسألة فيها نظر
ولو قيل إذا بلغهم الخبر فى أثناء الشهر لم يبنوا الا على رؤيتهم بخلاف ما اذا بلغهم فى اليوم الأول لكان له وجه بل الرؤية القليلة لو لم تبلغ الإنسان الا فى اثناء الشهر ففى وجوب قضاء ذلك اليوم نظر وان كان يفطر بها لأن قوله ( صومكم يوم تصومون ( دليل على ان ذلك لم يكن يوم صومنا ولأن التكليف يتبع العلم ولا علم ولا دليل ظاهر فلا وجوب وطرد هذا ان الهلال اذا ثبت فى اثناء يوم قبل الاكل او بعده اتموا وامسكوا ولا قضاء عليهم كما لو بلغ صبى أو أفاق مجنون على اصح الأقوال الثلاثة
فقد قيل يمسك ويقضى وقيل لا يجب واحد منهما وقيل يجب الامساك دون القضاء
فإن الهلال مأخوذ من الظهور ورفع الصوت فطلوعه فى السماء إن لم يظهر فى الارض فلا حكم له لا باطنا ولا ظاهرا واسمه مشتق من فعل الآدميين يقال اهللنا الهلال واستهللناه فلا هلال الا ما استهل فاذا استهله الواحد والاثنان فلم يخبرا به فلم يكن ذاك هلالا فلا يثبت به حكم حتى يخبرا به فيكون خبرهما هو الاهلال الذى هو رفع الصوت
____________________
(25/109)
بالاخبار به ولأن التكليف يتبع العلم فاذا لم يمكن علمه لم يجب صومه
ووجوب القضاء إذا كان الترك بغير تفريط يفتقر إلى دليل ولانه لو وجب القضاء او استحب اذا بلغ رؤيته المكان البعيد او رؤية النفر القليل فى اثناء الشهر لاستحب الصوم يوم الشك مع الصحو بل يوم الثلاثين مطلقا لانه يمكن ان يخبر القليل او البعيد برؤيته فى اثناء الشهر فيستحب الصوم احتياطا وما من شيء فى الشريعة يمكن وجوبه الا والاحتياط مشروع فى أدائه فلما لم يشرع الاحتياط فى ادائه قطعنا بانه لا وجوب مع بعد الرائى او خفائه حتى يكون الرائى قريبا ظاهرا فتكون رؤيته اهلالا يظهر به الطلوع وقد يحتج بهذا من لم يحتط فى الغيم ولكن يجاب عنه بأن طلوعه هذا مثال ظاهر او مساو وانما الحاجب مانع كما لو كانوا ليلة الثلاثين فى مغارة أو مطمورة وقد تعذر الترائى
ولأن الذين لم يوجبوا التبييت اصل مأخذهم إجزاء يوم الشك فان بلوغ الرؤية قبل الزوال كثير كيوم عاشوراء وايجاب القضاء فيه عسر لكثرة وقوع مثل ذلك وعدم شهرة وجوب القضاء فى السلف
وجواب هذا انه لا يلزم من وجوب الامساك وجوب القضاء
____________________
(25/110)
فانه لا وجوب الا من حين الاهلال والرؤية لا من حين الطلوع ولأن الاجماع الذى حكاه بن عبد البر يدل على هذا لأن ما ذكره اذا لم يبلغ الخبر الا بعد مضى الشهر لم يبق فيه فائدة الا وجوب القضاء فعلم ان القضاء 2 لا يجب برؤية بعيدة مطلقا
فتلخص انه من بلغه رؤية الهلال فى الوقت الذى يؤدى بتلك الرؤية الصوم او الفطر او النسك وجب اعتبار ذلك بلا شك والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك
ومن حدد ذلك بمسافة قصر او اقليم فقوله مخالف للعقل والشرع
ومن لم يبلغه الا بعد الأداء وهو مما لا يقضى كالعيد المفعول والنسك فهذا لا تأثير له وعليه الاجماع الذى حكاه بن عبد البر
واما اذا بلغه فى اثناء المدة فهل يؤثر فى وجوب القضاء وفى بناء الفطر عليه وكذلك فى بقية الأحكام من حلول الدين ومدة الايلاء وانقضاء العدة ونحو ذلك والقضاء يظهر لى انه لا يجب وفى بناء الفطر عليه نظر
فهذا متوسط فى المسألة وما من قول سواه الا وله لوازم شنيعة
____________________
(25/111)
لا سيما من قال بالتعدد فانه يلزمه فى المناسك ما يعلم به خلاف دين الاسلام اذا رأى بعض الوفود او كلهم الهلال وقدموا مكة ولم يكن قد رؤى قريبا من مكة ولما ذكرناه من فساده صار متنوعا والذى ذكرناه يحصل به الاجتماع الشرعى كل قوم على ما أمكنهم الاجتماع عليه واذا خالفهم من لم يشعروا بمخالفته لانفراده من الشعور بما ليس عندهم لم يضر هذا وإنما الشأن من الشعور بالفرقة والاختلاف
وتحقيق
ذلك العلم بالأهلة فقال ( هي مواقيت للناس والحج (
وهذا يدل على انه اراد المعلوم ببصر او سمع ولهذا ذهب الشافعى واحمد فى احدى الروايتين الا انه اذا كانت السماء مصحية ولم يحصل احد على الرؤية أنه ليس بشك لانتفاء الشك فى الهلال وان وقع شك فى الطلوع وذلك من وجهين
أحدهما ان الهلال على وزن فعال وهذا المثال فى كلام العرب لما يفعل به كالازار لما يؤتزر به والرداء لما يرتدى به والركاب لما يركب به والوعاء لما يوعى فيه وبه والسماد لما تسمد به الارض والعصاب لما يعصب به والسداد لما يسد به وهذا كثير مطرد فى الاسماء
____________________
(25/112)
فالهلال اسم لما يهل به أي يصات به والتصويت به لا يكون الا مع ادراكه ببصر او سمع ويدل عليه قول الشاعر ** يهل بالفرقد ركبانها ** كما يهل الراكب المعتمر **
أى يصوتون بالفرقد فجعلهم مهلين به فلذلك سمى هلالا ومنه قوله ( وما اهل به لغير الله ( أي صوت به وسواء كان التصويت به رفيعا او خفيضا فانه مما تكلم به وجهر به لغير الله ونطق به
الوجه الثانى أنه جعلها مواقيت للناس ولا تكون مواقيت لهم الا اذا ادركوها ببصر او سمع فاذا انتفى الادراك انتفى التوقيت فلا تكون أهلة وهو غاية ما يمكن ضبطه من جهة الحس اذ ضبط مكان الطلوع بالحساب لا يصح أصلا وقد صنفت فى ذلك شيئا
وهذه المسألة تنبنى عليه ايضا فانه ليس فى قوى البشر ان يضبطوا للرؤية زمانا ومكانا محدودا وانما يضبطون ما يدركونه بابصارهم او ما يسمعونه بآذانهم فاذا كان الواجب تعليقه فى حق من رأى بالرؤية ففى حق من لم ير بالسماع ومن لا رؤية له ولا سماع فلا اهلال له والله هو المسئول ان يتم نعمته علينا وعلى المسلمين
____________________
(25/113)
وسئل قدس الله روحه
عن رجل رأى الهلال وحده وتحقق الرؤية فهل له ان يفطر وحده او يصوم وحده او مع جمهور الناس
فأجاب الحمد لله اذا رأى هلال الصوم وحده او هلال الفطر وحده فهل عليه ان يصوم برؤية نفسه او يفطر برؤية نفسه ام لا يصوم ولا يفطر الا مع الناس على ثلاثة اقوال هي ثلاث روايات عن احمد
أحدها ان عليه ان يصوم وان يفطر سرا وهو مذهب الشافعى
والثانى يصوم ولا يفطر إلا مع الناس وهو المشهور من مذهب احمد ومالك وابي حنيفة
والثالث يصوم مع الناس ويفطر مع الناس وهذا أظهر
____________________
(25/114)
الاقوال لقول النبى ( صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون واضحاكم يوم تضحون ( رواه الترمذى وقال حسن غريب ورواه ابو داود وبن ماجه وذكر الفطر والاضحى فقط ورواه الترمذى من حديث عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن ابي هريرة ان النبي قال ( الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والاضحى يوم تضحون ( قال الترمذى هذا حديث حسن غريب قال وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال انما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس ورواه ابو داود باسناد آخر فقال حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد من حديث ايوب عن محمد بن المنكدر عن ابى هريرة ذكر النبى فيه فقال ( وفطركم يوم تفطرون واضحاكم يوم تضحون وكل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وكل جمع موقف (
ولأنه لو رأى هلال النحر لما اشتهر والهلال اسم لما استهل به فان الله جعل الهلال مواقيت للناس والحج وهذا انما يكون اذا استهل به الناس والشهر بين وان لم يكن هلالا ولا شهرا
وأصل هذه المسألة ان الله سبحانه وتعالى علق احكاما شرعية
____________________
(25/115)
بمسمى الهلال والشهر كالصوم والفطر والنحر فقال تعالى ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ( فبين سبحانه أن الاهلة مواقيت للناس والحج
قال تعالى ( كتب عليكم الصيام إلى قوله شهر رمضان الذى انزل فيه القرآن هدى للناس ( انه اوجب صوم شهر رمضان وهذا متفق عليه بين المسلمين لكن الذى تنازع الناس فيه ان الهلال هل هو اسم لما يظهر فى السماء وان لم يعلم به الناس وبه يدخل الشهر او الهلال اسم لما يستهل به الناس والشهر لما اشتهر بينهم على قولين
فمن قال بالأول يقول من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم ودخل شهر رمضان فى حقه وتلك الليلة هي فى نفس الأمر من رمضان وان لم يعلم غيره ويقول من لم يره اذا تبين له انه كان طالعا قضى الصوم وهذا هو القياس فى شهر الفطر وفى شهر النحر لكن شهر النحر ما علمت ان احدا قال من رآه يقف وحده دون سائر الحاج وانه ينحر فى اليوم الثانى ويرمى جمرة العقبة ويتحلل دون سائر الحاج وانما تنازعوا فى الفطر فالأكثرون الحقوه بالنحر وقالوا لا يفطر الا مع المسلمين وآخرون قالوا بل الفطر كالصوم ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يوما وتناقض
____________________
(25/116)
هذه الأقوال يدل على ان الصحيح هو مثل ذلك فى ذى الحجة
وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرا شهرته بين الناس واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة اهل البلد لكون شهادتهم مردودة او لكونهم لم يشهدوا به كان حكمهم حكم سائر المسلمين فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد الا مع المسلمين فكذلك لا يصومون الا مع المسلمين وهذا معنى قوله ( صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون واضحاكم يوم تضحون ( ولهذا قال احمد فى روايته يصوم مع الامام وجماعة المسلمين فى الصحو والغيم قال أحمد يد الله على الجماعة
وعلى هذا تفترق احكام الشهر هل هو شهر فى حق اهل البلد كلهم او ليس شهرا فى حقهم كلهم يبين ذلك قوله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ( فانما امر بالصوم من شهد الشهر والشهود لا يكون الا لشهر اشتهر بين الناس حتى يتصور شهوده والغيبة عنه
وقول النبى اذا رأيتموه فصوموا واذا رأيتموه فافطروا وصوموا من الوضح إلى الوضح ( ونحو ذلك خطاب للجماعة لكن من كان فى مكان ليس فيه غيره اذا رآه صامه فانه
____________________
(25/117)
ليس هناك غيره وعلى هذا فلو افطر ثم تبين انه رؤى فى مكان آخر او ثبت نصف النهار لم يجب عليه القضاء وهذا إحدى الروايتين عن أحمد فانه انما صار شهرا فى حقهم من حين ظهر واشتهر ومن حينئذ وجب الامساك كأهل عاشوراء الذين امروا بالصوم فى اثناء اليوم ولم يؤمروا بالقضاء على الصحيح وحديث القضاء ضعيف والله أعلم
____________________
(25/118)
وقال شيخ الاسلام رحمه الله فصل
وأما الأصل الثالث فالصيام
وقد اختلفوا فى تبييت نيته على ثلاثة اقوال
فقالت طائفة منهم ابو حنيفة انه يجزئ كل صوم فرضا كان او نفلا بنية قبل الزوال كما دل عليه حديث عاشوراء وحديث النبى لما دخل على عائشة فلم يجد طعاما فقال ( انى اذا صائم (
وبازائها طائفة اخرى منهم مالك قالت لا يجزئ الصوم الا مبيتا من الليل فرضا كان او نفلا على ظاهر حديث حفصة
____________________
(25/119)
وبن عمر الذى يروى مرفوعا وموقوفا ( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل (
وأما القول الثالث فالفرض لا يجزئ الا بتبييت النية كما دل عليه حديث حفصة وبن عمر لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم والنية لا تنعطف على الماضى واما النفل فيجزئ بنية من النهار كما دل عليه
قوله ( انى اذا صائم ( كما ان الصلاة المكتوبة يجب فيها من الاركان كالقيام والاستقرار على الارض ما لا يجب فى التطوع توسيعا من الله على عباده فى طرق التطوع فان أنواع التطوعات دائما اوسع من انواع المفروضات وصومهم يوم عاشوراء ان كان واجبا فانما وجب عليهم من النهار لأنهم لم يعلموا قبل ذلك وما رواه بعض الخلافيين المتأخرين ان ذلك كان فى رمضان فباطل لا اصل له
وهذا أوسط الاقوال وهو قول الشافعى واحمد واختلف قولهما هل يجزئ التطوع بنية بعد الزوال والأظهر صحته كما نقل عن الصحابة
وإختلف اصحابهما فى الثواب هل هو ثواب يوم كامل او من حين
____________________
(25/120)
نواه والمنصوص عن احمد ان الثواب من حين النية
وكذلك اختلفوا فى التعيين وفيه ثلاثة اقوال فى مذهب احمد وغيره أحدها أنه لابد من نية رمضان فلا تجزئ نية مطلقة ولا معينة لغير رمضان وهذا قول الشافعى واحمد فى إحدى الروايتين اختارها كثير من اصحابه
والثانى انه يجزئ بنية مطلقة ومعينة لغيره كمذهب ابى حنيفة ورواية محكية عن احمد
والثالث انه يجزئ بالنية المطلقة دون نية التطوع او القضاء أو النذر وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه
____________________
(25/121)
فصل
وإختلفوا فى صوم يوم الغيم وهو ما اذا حال دون مطلع الهلال غيم او قتر ليلة الثلاثين من شعبان
فقال قوم يجب صومه بنية من رمضان احتياطا وهذه الرواية عن احمد وهى التى اختارها اكثر متأخرى أصحابه وحكوها عن اكثر متقدميهم بناء على ما تأولوه من الحديث وبناء على ان الغالب على شعبان هو النقص فيكون الأظهر طلوع الهلال كما هو الغالب فيجب بغالب الظن
وقالت طائفة لا يجوز صومه من رمضان وهذه رواية عن احمد اختارها طائفة من اصحابه كابن عقيل والحلوانى وهو قول ابى حنيفة ومالك والشافعى استدلالا بما جاء من الاحاديث وبناء على ان الوجوب لا يثبت بالشك
وهناك قول ثالث وهو أنه يجوز صومه من رمضان ويجوز
____________________
(25/122)
فطره والافضل صومه من وقت الفجر ومعلوم أنه لو عرف وقت الفجر الذى يجوز فيه طلوعه جاز له الامساك والاكل وان امسك وقت الفجر فإنه لا معنى لاستحباب الامساك لكن
وأكثر نصوص احمد انما تدل على هذا القول وأنه كان يستحب صومه ويفعله لا انه يوجبه وانما اخذ فى ذلك بما نقله عن الصحابة فى مسائل ابنه عبد الله والفضل بن زياد القطان وغيرهم اخذ بما نقله عن عبد الله بن عمر ونحوه
والمنقول عنهم انهم كانوا يصومون فى حال الغيم لا يوجبون الصوم وكان غالب الناس لا يصومون ولم ينكروا عليهم الترك
وإنما لم يستحب الصوم فى الصحو بل نهى عنه لأن الأصل والظاهر عدم الهلال فصومه تقديم لرمضان بيوم وقد نهى النبى عن ذلك
واختلفت الرواية عنه هل يسمى يوم الغيم يوم شك على روايتين وكذلك اختلف اصحابه فى ذلك
____________________
(25/123)
وأما يوم الصحو عنده فيوم شك او يقين من شعبان ينهى عن صومه بلا توقف وأصول الشريعة ادل على هذا القول منها على غيره فان المشكوك فى وجوبه كما لو شك فى وجوب زكاة او كفارة او صلاة او غير ذلك لا يجب فعله ولا يستحب تركه بل يستحب فعله إحتياطا فلم تحرم اصول الشريعة الاحتياط ولم توجب بمجرد الشك
وايضا فإن اول الشهر كأول النهار ولو شك فى طلوع النهار لم يجب عليه الامساك ولم يحرم عليه الامساك بقصد الصوم ولأن الاغمام اول الشهر كالاغمام بالشك بل ينهى عن صوم يوم الشك لما يخاف من الزيادة فى الفرض
وعلى هذا القول يجتمع غالب المأثور عن الصحابة فى هذا الباب فان الجماعات الذين صاموا منهم كعمر وعلى ومعاوية وغيرهم لم يصرحوا بالوجوب وغالب الذين افطروا لم يصرحوا بالتحريم ولعل من كره الصوم منهم انما كرهه لمن يعتقد وجوبه خشية ايجاب ما ليس بواجب كما كره من كره منهم الاستنجاء بالماء لمن خيف عليه ان يعتقد وجوبه وكما امر طائفة منهم من صام فى السفر ان يقضى لما ظنوه به من كراهة الفطر فى السفر فتكون الكراهة عائدة إلى حال الفاعل لا إلى نفس الاحتياط بالصوم فان تحريم الصوم أو ايجابه
____________________
(25/124)
كلاهما فيه بعد عن اصول الشريعة
والأحاديث المأثورة فى الباب اذا تؤملت إنما يصرح غالبها بوجوب الصوم بعد اكمال العدة كما دل بعضها على الفعل قبل الاكمال اما الايجاب قبل الاكمال للصوم ففيهما نظر
فهذا القول المتوسط هو الذى يدل عليه غالب نصوص احمد
ولو قيل بجواز الامرين واستحباب الفطر لكان عن التحريم والايجاب ويؤثر عن الصديق رضى الله عنه انهم كانوا يأكلون مع الشك فى طلوع الفجر
____________________
(25/125)
وقال شيخ الاسلام قدس الله روحه
الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب وجعله تبيانا لكل شيء وذكرى لاولى الالباب وامرنا بالاعتصام به إذ هو حبله الذى هو اثبت الاسباب وهدانا به إلى سبل الهدى ومناهج الصواب واخبر فيه انه ( جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب (
وأشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له رب الارباب واشهد ان محمدا عبده ورسوله المبعوث بجوامع الكلم والحكمة وفصل الخطاب صلى الله عليه وعلى آله صلاة دائمة باقية بعد إلى يوم المآب
أما بعد فان الله قد اكمل لنا ديننا واتم علينا نعمته ورضى لنا الاسلام دينا وامرنا ان نتبع صراطه المستقيم ولا نتبع السبل فتفرق بنا عن سبيله وجعل هذه الوصية خاتمة وصاياه العشر التى هي جوامع الشرائع التى تضاهى الكلمات التى انزلها الله على موسى فى
____________________
(25/126)
التوراة وان كانت الكلمات التى انزلت علينا اكمل وابلغ ولهذا قال الربيع بن خثيم من سره ان يقرأ كتاب محمد الذى لم يفض خاتمه بعده فليقرأ آخر سورة الانعام ( قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ( الآيات
وأمرنا ان لا نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات واخبر رسوله ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شيء وذكر انه جعله على شريعة من الامر وامره ان يتبعها ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون وقال تعالى ( وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وان احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم واحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما انزل الله اليك ( فأمره ان لا يتبع اهواءهم عما جاءه من الحق وان كان ذلك شرعا او طريقا لغيره من الانبياء فإنه قد جعل لكل نبى سنة وسبيلا وحذره ان يفتنوه عن بعض ما انزل الله إليه فاذا كان هذا فيما جاءت به شريعة غيره فكيف بما لا يعلم أنه جاءت به شريعة بل هو طريقة من لا كتاب له
____________________
(25/127)
وأمره وايانا فى غير موضع ان نتبع ما انزل الينا دون ما خالفه فقال ( المص كتاب انزل اليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما انزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه اولياء قليلا ما تذكرون (
وبين حال الذين ورثوا الكتاب فخالفوه والذين استمسكوا به فقال ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الادنى ويقولون سيغفر لنا ( إلى قوله ( والذين يمسكون بالكتاب واقاموا الصلاة انا لا نضيع اجر المصلحين ( وقال ( وهذا كتاب انزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ان تقولوا انما انزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ( الآيات وقال ( يا ايها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ان الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى اليك من ربك ان الله كان بما تعملون خبيرا ( وقال ( واعتصموا بحبل الله جميعا ( وحبل الله كتابه كما فسره النبى وقال ( واتبع ما يوحى اليك واصبر حتى يحكم الله ( إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التى اجمع المسلمون على اتباعها وهذا مما لم يختلف المسلمون فيه جملة
ولكن قد يقع التنازع فى تفصيله فتارة يكون بين العلماء المعتبرين فى ( مسائل الاجتهاد ( وتارة يتنازع فيه قوم جهال بالدين او منافقون
____________________
(25/128)
او سماعون للمنافقين فقد اخبر الله سبحانه ان فينا قوما سماعين للمنافقين يقبلون منهم كما قال ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ( وانما عداه باللام لانه متضمن معنى القبول والطاعة كما قال الله على لسان عبده ( سمع الله لمن حمده ( أي استجاب لمن حمده وكذلك ( سماعون لهم ( أي مطيعون لهم فإذا كان فى الصحابة قوم سماعون للمنافقين فكيف بغيرهم
وكذلك أخبر عمن يظهر الانقياد لحكم الرسول حيث يقول ( لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ( إلى قوله ( سماعون للكذب اكالون للسحت ( فان الصواب ان هذه اللام لام التعدية كما فى قوله ( اكالون للسحت ( أي قائلون للكذب مريدون له وسامعون مطيعون لقوم آخرين غيرك فليسوا مفردين لطاعة الله ورسوله ومن قال ان اللام لام كي اي يسمعون ليكذبوا لاجل اولئك فلم يصب فان السياق يدل على ان الاول هو المراد وكثيرا ما يضيع الحق بين الجهال الاميين وبين المحرفين للكلم الذين فيهم شعبة نفاق كما اخبر سبحانه عن اهل الكتاب
____________________
(25/129)
حيث قال ( أفتطمعون ان يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( إلى قوله ( ومنهم اميون لا يعلمون الكتاب الا امانى ( الآية
ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم قد اخبر ان هذه الامة تتبع سنن من قبلها حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وجب ان يكون فيهم من يحرف الكلم عن مواضعه فيغير معنى الكتاب والسنة فيما اخبر الله به او امر به وفيهم اميون لا يفقهون معانى الكتاب والسنة بل ربما يظنون ان ما هم عليه من الأمانى التى هي مجرد التلاوة ومعرفة ظاهر من القول هو غاية الدين
ثم قد يناظرون المحرفين وغيرهم من المنافقين او الكفار مع علم اولئك بما لم يعلمه الاميون فاما ان تضل الطائفتان ويصير كلام هؤلاء فتنة على اولئك حيث يعتقدون ان ما يقوله الاميون هو غاية علم الدين ويصيروا فى طرفى النقيض واما ان يتبع اولئك الاميون اولئك المحرفين فى بعض ضلالهم وهذا من بعض أسباب تغيير الملل الا ان هذا الدين محفوظ كما قال تعالى ( انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون ( ولا تزال فيه طائفة قائمة ظاهرة على الحق فلم ينله ما نال غيره من الاديان من تحريف كتبها وتغيير شرائعها مطلقا لما ينطق
____________________
(25/130)
الله به القائمين بحجة الله وبيناته الذين يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنوره اهل العمى فإن الارض لن تخلو من قائم لله بحجة لكيلا تبطل حجج الله وبيناته
وكان مقتضى تقدم هذه ( المقدمة ) اني رأيت الناس فى شهر صومهم وفى غيره ايضا منهم من يصغى إلى ما يقوله بعض جهال اهل الحساب من ان الهلال يرى او لا يرى ويبنى على ذلك اما في باطنه واما فى باطنه وظاهره حتى بلغنى ان من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب إنه يرى او لا يرى فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه وربما اجاز شهادة غير المرضي لقوله فيكون هذا الحاكم من السماعين للكذب فان الاية تتناول حكام السوء كما يدل عليه السياق حيث يقول ( سماعون للكذب أكالون للسحت ) وحكام السوء يقبلون الكذب ممن لا يجوز قبول قوله من مخبر او شاهد وياكلون السحت من الرشا وغيرها وما أكثر ما يقترن هذان
وفيهم من لا يقبل قول المنجم لا فى الباطن ولا فى الظاهر لكن فى قلبه حسيكة من ذلك وشبهة قوية لثقته به من جهة ان الشريعة لم تلتفت إلى ذلك لا سيما ان كان قد عرف شيئا من حساب النيرين
____________________
(25/131)
وإجتماع القرصين ومفارقة أحدهما الآخر بعدة درجات وسبب الاهلال والابدار والاستتار والكسوف والخسوف فاجرى حكم الحاسب الكاذب الجاهل بالرؤية هذا المجرى ثم هؤلاء الذين يخبرون من الحساب وصورة الافلاك وحركاتها امرا صحيحا قد يعارضهم بعض الجهال من الاميين المنتسبين إلى الايمان او إلى العلم ايضا فيراهم قد خالفوا الدين فى العمل بالحساب فى الرؤية او فى اتباع احكام النجوم فى تأثيراتها المحمودة والمذمومة فيراهم لما تعاطوا هذا وهو من المحرمات فى الدين صار يرد كل ما يقولونه من هذا الضرب ولا يميز بين الحق الذي دل عليه السمع والعقل والباطل المخالف للسمع والعقل مع أن هذا أحسن حالا فى الدين من القسم الاول لان هذا كذب بشيء من الحق متأولا جاهلا من غير تبديل بعض أصول الاسلام والضرب الاول قد يدخلون فى تبديل الاسلام
فانا نعلم بالاضطرار من دين الاسلام ان العمل فى رؤية هلال الصوم او الحج او العدة او الايلاء او غير ذلك من الاحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب انه يرى او لا يرى لا يجوز والنصوص المستفيضة عن النبى بذلك كثيرة وقد اجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم اصلا ولا خلاف حديث الا ان
____________________
(25/132)
بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم انه اذا غم الهلال جاز للحاسب ان يعمل فى حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام والا فلا وهذا القول وان كان مقيدا بالاغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالاجماع على خلافه فأما اتباع ذلك فى الصحو او تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم
وقد يقارب هذا قول من يقول من الاسماعيلية بالعدد دون الهلال وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولا يعمل عليه وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية وهذه الاقوال خارجة عن دين الاسلام وقد برأ الله منها جعفرا وغيره ولا ريب ان احدا لا يمكنه مع ظهور دين الاسلام ان يظهر الاستناد إلى ذلك الا انه قد يكون له عمدة فى الباطن فى قبول الشهادة وردها وقد يكون عنده شبهة فى كون الشريعة لم تعلق الحكم به وانا ان شاء الله ابين ذلك واوضح ما جاءت به الشريعة دليلا وتعليلا شرعا وعقلا
قال الله تعالى ( يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) فاخبر انها مواقيت للناس وهذا عام فى جميع أمورهم وخص الحج بالذكر تمييزا له ولان الحج تشهده الملائكة وغيرهم ولانه يكون في آخر شهور الحول فيكون علما على الحول كما ان الهلال
____________________
(25/133)
علم على الشهر ولهذا يسمون الحول حجة فيقولون له سبعون حجة واقمنا خمس حجج فجعل الله الاهلة مواقيت للناس فى الاحكام الثابتة بالشرع ابتداء او سببا من العبادة وللاحكام التى تثبت بشروط العبد فما ثبت من المؤقتات بشرع او شرط فالهلال ميقات له وهذا يدخل فيه الصيام والحج ومدة الايلاء والعدة وصوم الكفارة وهذه الخمسة فى القرآن
قال الله تعالى ( شهر رمضان ) وقال تعالى ( الحج اشهر معلومات ) وقال تعالى ( للذين يؤلون من نسائهم تربص اربعة اشهر ) وقال تعالى ( فصيام شهرين متتابعين ) وكذلك قوله ( فسيحوا في الارض أربعة اشهر ) وكذلك صوم النذر وغيره وكذلك الشروط من الاعمال المتعلقة بالثمن ودين السلم والزكاة والجزية والعقل والخيار والايمان واجل الصداق ونجوم الكتابة والصلح عن القصاص وسائر ما يؤجل من دين وعقد وغيرهما
وقال تعالى ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) وقال تعالى ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق ) فقوله ( لتعلموا ) متعلق والله أعلم بقوله ( وقدره ) لا بجعل لان كون هذا
____________________
(25/134)
ضياء وهذا نورا لا تأثير له فى معرفة عدد السنين والحساب وانما يؤثر فى ذلك انتقالهما من برج إلى برج ولان الشمس لم يعلق لنا بها حساب شهر ولا سنة وإنما علق ذلك بالهلال كما دلت عليه تلك الاية ولانه قد قال ( ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السماوات والارض منها اربعة حرم ) فاخبر ان الشهور معدودة اثنا عشر والشهر هلالي بالاضطرار فعلم ان كل واحد منها معروف بالهلال
وقد بلغني أن الشرائع قبلنا ايضا انما علقت الاحكام بالاهلة وانما بدل من بدل من اتباعهم كما يفعله اليهود فى إجتماع القرصين وفى جعل بعض اعيادها بحساب السنة الشمسية وكما تفعله النصاري فى صومها حيث تراعي الاجتماع القريب من اول السنة الشمسية وتجعل سائر اعيادها دائرة على السنة الشمسية بحسب الحوادث التى كانت للمسيح وكما يفعله الصابئة والمجوس وغيرهم من المشركين فى اصطلاحات لهم فان منهم من يعتبر بالسنة الشمسية فقط ولهم اصطلاحات فى عدد شهورها لانها وان كانت طبيعية فشهرها عددي وضعي ومنهم من يعتبر القمرية لكن يعتبر اجتماع القرصين وما جاءت به الشريعة هو اكمل الامور واحسنها وأبينها وأصحها وابعدها من الاضطراب
____________________
(25/135)
وذلك أن الهلال امر مشهود مرئي بالابصار ومن اصح المعلومات ما شوهد بالابصار ولهذا سموه هلالا لان هذه المادة تدل على الظهور والبيان اما سمعا واما بصرا كما يقال اهل بالعمرة واهل بالذبيحة لغير الله اذا رفع صوته ويقال لوقع المطر الهلل ويقال استهل الجنين اذا خرج صارخا ويقال تهلل وجهه اذا استنار وأضاء
وقيل أن أصله رفع الصوت ثم لما كانوا يرفعون اصواتهم عند رؤيته سموه هلالا ومنه قوله ** يهل بالفرقد ركبانها ** كما يهل الراكب المعتمر ** ** وتهلل الوجه مأخوذ من استنارة الهلال
فالمقصود ان المواقيت حددت بأمر ظاهر بين يشترك فيه الناس ولا يشرك الهلال فى ذلك شيء فان اجتماع الشمس والقمر الذي هو تحاذيهما الكائن قبل الهلال أمر خفي لا يعرف إلا بحساب ينفرد به بعض الناس مع تعب وتضييع زمان كثير واشتغال عما يعنى الناس وما لابد له منه وربما وقع فيه الغلط والاختلاف
____________________
(25/136)
وكذلك كون الشمس حاذت البرج الفلانى أو الفلانى هذا أمر لا يدرك بالأبصار وإنما يدرك بالحساب الخفى الخاص المشكل الذى قد يغلط فيه وإنما يعلم ذلك بالإحساس تقريبا فانه إذا انصرم الشتاء ودخل الفصل الذى تسميه العرب الصيف ويسميه الناس الربيع كان وقت حصول الشمس فى نقطة الاعتدال الذى هو أول الحمل وكذلك مثله فى الخريف فالذى يدرك بالاحساس الشتاء والصيف وما بينهما من الاعتدالين تقريبا فأما حصولها فى برج بعد برج فلا يعرف إلا بحساب فيه كلفة وشغل عن غيره مع قلة جدواه
فظهر أنه ليس للمواقيت حد ظاهر عام المعرفة إلا الهلال
وقد إنقسمت عادات الامم في شهرهم وسنتهم القسمة العقلية وذلك ان كل واحد من الشهر والسنة اما ان يكونا عدديين او طبيعيين او الشهر طبيعيا والسنة عددية او بالعكس
فالذين يعدونهما مثل من يجعل الشهر ثلاثين يوما والسنة اثني عشر شهرا والذين يجعلونهما طبيعيين مثل من يجعل الشهر قمريا والسنة شمسية ويلحق فى آخر الشهور الايام المتفاوتة بين
____________________
(25/137)
السنتين فان السنة القمرية ثلاثمائة واربعة وخمسون يوما وبعض يوم خمس او سدس وانما يقال فيها ثلاثمائة وستون يوما جبرا للكسر في العادة عادة العرب فى تكميل ما ينقص من التاريخ فى اليوم والشهر والحول وأما
الشمسية فثلاثمائة وخمسة وستون يوما وبعض يوم ربع يوم ولهذا كان التفاوت بينهما احد عشر يوما إلا قليلا تكون فى كل ثلاثة وثلاثين سنة وثلث سنة سنة ولهذا قال تعالى ( ولبثوا فى كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ) قيل معناه ثلاثمائة سنة شمسية ( وازدادوا تسعا ) بحساب السنة القمرية ومراعاة هذين عادة كثير من الامم من اهل الكتابين بسبب تحريفهم واظنه كان عادة المجوس ايضا
واما من يجعل السنة طبيعية والشهر عدديا فهذا حساب الروم والسريانيين والقبط ونحوهم من الصابئين والمشركين ممن يعد شهر كانون ونحوه عددا ويعتبر السنة الشمسية بسير الشمس
فاما القسم الرابع فبأن يكون الشهر طبيعيا والسنة عددية فهو سنة المسلمين ومن وافقهم ثم الذين يجعلون السنة طبيعية لا يعتمدون
____________________
(25/138)
على أمر ظاهر كما تقدم بل لابد من الحساب والعدد وكذلك الذين يجعلون الشهر طبيعيا ويعتمدون على الاجتماع لابد من العدد والحساب ثم ما يحسبونه أمر خفي ينفرد به القليل من الناس مع كلفة ومشقة وتعرض للخطأ
فالذي جاءت به شريعتنا أكمل الامور لأنه وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام يدرك بالابصار فلا يضل احد عن دينه ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه ولا يكون طريقا إلى التلبيس فى دين الله كما يفعل بعض علماء اهل الملل بمللهم
وأما الحول فلم يكن له حد ظاهر في السماء فكان لابد فيه من الحساب والعدد فكان عدد الشهور الهلالية أظهر وأعم من ان يحسب بسير الشمس وتكون السنة مطابقة للشهور ولان السنين اذا اجتمعت فلابد من عددها فى عادة جميع الامم اذ ليس للسنين اذا تعددت حد سماوي يعرف به عددها فكان عدد الشهور موافقا لعدد البروج جعلت السنة اثنى عشر شهرا بعدد البروج التى تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية فاذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية وبهذا كله يتبين معنى قوله ( وقدره منازل لتعلموا عدد السنين
____________________
(25/139)
والحساب ) فان عدد شهور السنة وعدد السنة بعد السنة انما اصله بتقدير القمر منازل وكذلك معرفة الحساب فان حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال ونحوها انما يكون بالهلال وكذلك قوله تعالى ( قل هي مواقيت للناس والحج )
فظهر بما ذكرناه انه بالهلال يكون توقيت الشهر والسنة وأنه ليس شيء يقوم مقام الهلال البتة لظهوره وظهور العدد المبنى عليه وتيسر ذلك وعمومه وغير ذلك من المصالح الخالية عن المفاسد
ومن عرف ما دخل على أهل الكتابين والصابئين والمجوس وغيرهم فى اعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك من امورهم من الاضطراب والحرج وغير ذلك من المفاسد ازداد شكره على نعمة الاسلام مع اتفاقهم أن الانبياء لم يشرعوا شيئا من ذلك وانما دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة الذين أدخلوا فى ملتهم وشرعوا لهم من الدين ما لم ياذن به الله
فلهذا ذكرنا ما ذكرناه حفظا لهذا الدين عن ادخال المفسدين فان هذا مما يخاف تغييره فانه قد كانت العرب فى جاهليتها قد غيرت ملة ابراهيم بالنسيء الذي ابتدعته فزادت به فى السنة شهرا جعلتها كبيسا لاغراض لهم
____________________
(25/140)
وغيروا به ميقات الحج والاشهر الحرم حتى كانوا يحجون تارة في المحرم وتارة في صفر حتى يعود الحج إلى ذى الحجة حتى بعث الله المقيم لملة ابراهيم فوافى حجه حجة الوداع وقد استدار الزمان كما كان ووقعت حجته فى ذي الحجة فقال فى خطبته المشهورة فى الصحيحين وغيرهما ( ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والارض السنة اثنا عشر شهرا منها اربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان ( وكان قبل ذلك الحج لا يقع فى ذي الحجة حتى حجة ابى بكر سنة تسع كان فى ذى القعدة
وهذا من أسباب تأخير النبى الحج وانزل الله تعالى ( ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السماوات والارض منها اربعة حرم ذلك الدين القيم )
فأخبر الله ان هذا هو الدين القيم ليبين ان ما سواه من امر النسيء وغيره من عادات الامم ليس قيما لما يدخله من الانحراف والاضطراب
ونظير الشهر والسنة اليوم والاسبوع فان اليوم طبيعي من طلوع
____________________
(25/141)
الشمس إلى غروبها واما الاسبوع فهو عددي من أجل الايام الستة التى خلق الله فيها السماوات والارض ثم استوى على العرش فوقع التعديل بين الشمس والقمر باليوم والاسبوع بسير الشمس والشهر والسنة بسير القمر وبهما يتم الحساب وبهذا قد يتوجه قوله ( لتعلموا ) إلى ( جعل ) فيكون جعل الشمس والقمر لهذا كله
فأما قوله تعالى ( وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ) وقوله ( والشمس والقمر بحسبان ) فقد قيل هو من الحساب وقيل بحسبان كحسبان الرحا وهو دوران الفلك فان هذا مما لا خلاف فيه بل قد دل الكتاب والسنة وأجمع علماء الامة على مثل ما عليه اهل المعرفة من اهل الحساب من ان الافلاك مستديرة لا مسطحة
____________________
(25/142)
فصل
لما ظهر بما ذكرناه عود المواقيت إلى الاهلة وجب ان تكون المواقيت كلها معلقة بها فلا خلاف بين المسلمين أنه إذا كان مبدأ الحكم في الهلال حسبت الشهور كلها هلالية مثل ان يصوم للكفارة فى هلال المحرم او يتوفى زوج المرأة فى هلال المحرم او يولى من امرأته فى هلال المحرم او يبيعه فى هلال المحرم إلى شهرين أو ثلاثة فان جميع الشهور تحسب بالأهلة وان كان بعضها او جميعها
ناقصا فاما ان وقع مبدأ الحكم فى اثناء الشهر فقد قيل تحسب الشهور كلها بالعدد بحيث لو باعه إلى سنة فى اثناء المحرم عد ثلاثمائة وستين يوما وان كان إلى ستة اشهر عد مائة وثمانين يوما فاذا كان المبتدأ منتصف المحرم كان المنتهى العشرين من المحرم وقيل بل يكمل الشهر بالعدد والباقى بالاهلة وهذان القولان روايتان عن احمد وغيره وبعض الفقهاء يفرق في بعض الاحكام
____________________
(25/143)
ثم لهذا القول تفسيران أحدهما أنه يجعل الشهر الاول ثلاثين يوما وباقى الشهور هلالية فاذا كان الايلاء فى منتصف المحرم حسب باقيه فان كان الشهر ناقصا اخذ منه اربعة عشر يوما وكمله بستة عشر يوما من جمادى الاولى وهذا يقوله طائفة من اصحابنا وغيرهم
والتفسير الثانى هو الصواب الذي عليه عمل المسلمين قديما وحديثا ان الشهر الاول ان كان كاملا كمل ثلاثين يوما وان كان ناقصا جعل تسعة وعشرين يوما فمتى كان الايلاء في منتصف المحرم كملت الاشهر الاربعة في منتصف جمادى الاولى وهكذا سائر الحساب وعلى هذا القول فالجميع بالهلال ولا حاجة إلى ان نقول بالعدد بل ننظر اليوم الذي هو المبدأ من الشهر الاول فتكون النهاية مثله من الشهر الاخر فان كان فى اول ليلة من الشهر الاول كانت النهاية فى مثل تلك الساعة بعد كمال الشهور وهو اول ليلة بعد انسلاخ الشهور وإن كان فى اليوم العاشر من المحرم كانت النهاية فى اليوم العاشر من المحرم او غيره على قدر الشهور المحسوبة وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه ودل عليه قوله ( قل هي مواقيت للناس ) فجعلها مواقيت لجميع الناس مع علمه سبحانه ان الذي يقع فى اثناء الشهور اضعاف اضعاف ما يقع فى اوائلها فلو لم يكن ميقاتا الا لما
____________________
(25/144)
يقع فى اولها لما كانت ميقاتا الا لاقل من ثلث عشر امور الناس ولان الشهر اذا كان ما بين الهلالين فما بين الهلالين مثل ما بين نصف هذا ونصف هذا سواء والتسوية معلومة بالاضطرار والفرق تحكم محض
وأيضا فمن الذي جعل الشهر العددي ثلاثين والنبى قال ( الشهر هكذا وهكذا وهكذا ( وخنس ابهامه فى الثالثة ونحن نعلم ان نصف شهور السنة يكون ثلاثين ونصفها تسعة وعشرين
وأيضا فعامة المسلمين فى عباداتهم ومعاملاتهم اذا اجل الحق إلى سنة فان كان مبدؤه هلال المحرم كان منتهاه هلال المحرم سلخ ذي الحجة عندهم وان كان مبدؤه عاشر المحرم كان منتهاه عاشر المحرم ايضا لا يعرف المسلمون غير ذلك ولا يبنون إلا عليه ومن اخذ ليزيد يوما لنقصان الشهر الاول كان قد غير عليهم ما فطروا عليه من المعروف واتاهم بمنكر لا يعرفونه
فعلم ان هذا غلط ممن توهمه من الفقهاء ونبهنا عليه ليحذر الوقوع فيه وليعلم به حقيقة قوله ( قل هي مواقيت للناس ) وان هذا العموم محفوظ عظيم القدر لا يستثنى منه شيء
____________________
(25/145)
وكذلك قوله ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ) وكذلك قوله ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ) يبين بذلك ان جميع عدد السنين والحساب تابع لتقديره منازل
فصل
ما ذكرناه من ان الاحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالاهلة لا ريب فيه لكن الطريق إلى معرفة طلوع الهلال هو الرؤية لا غيرها بالسمع والعقل
أما السمع فقد اخبرنا غير واحد منهم شيخنا الامام ابو محمد عبد الرحمن بن محمد المقدسي وابو الغنائم المسلم بن عثمان القيسى وغيرهما قالوا انبأنا حنبل بن عبد الله المؤذن انبأنا ابو القاسم عبد الله بن محمد بن الحصين انبأنا ابو علي بن المذهب انبأنا ابو بكر
____________________
(25/146)
احمد بن جعفر بن حمدان انبأنا ابو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل انبأنا ابي حدثنا محمد بن جعفر غندر حدثنا شعبة عن الاسود بن قيس سمعت سعيد بن عمر بن سعيد يحدث انه سمع بن عمر رضى الله عنهما يحدث عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( انا امة امية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا ( وعقد الابهام الابهام فى الثالثة ( والشهر هكذا وهكذا وهكذا ( يعنى تمام الثلاثين
وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان واسحاق يعنى الازرق أنبأنا سفيان عن الاسود بن قيس عن سعيد بن عمر عن بن عمر عن النبى قال ( انا امة امية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا ( يعنى ذكر تسعا وعشرين قال إسحاق وطبق بيديه ثلاث مرات وخنس ابهامه فى الثالثة اخرجه البخارى عن آدم عن شعبة ولفظه انا امة امية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا ( يعنى مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين
وكذلك رواه ابو داود عن سليمان بن حرب عن شعبة ولفظه ( انا امة امية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا ( وخنس سليمان اصعبه فى الثالثة يعنى تسعة وعشرين وثلاثين رواه
____________________
(25/147)
النسائى من طريق عبد الرحمن بن مهدى عن سفيان كما ذكرناه ومن طريق غندر عن شعبة أيضا كما سقناه وقال فى آخره تمام الثلاثين ولم يقل يعنى فروايته من جهة المسند كما سقناه أجل الطرق وأرفعها قدرا إذ غندر أرفع من كل من رواه عن شعبة وأضبط لحديثه والإمام أحمد أجل من رواه عن غندر عن شعبة وهذه الرواية المسندة التى رواها البخارى وأبو داود والنسائى من حديث شعبة تفسر رواية النووى وسائر الروايات عن إبن عمر مما فيه إجمال يوهم بسببه على إبن عمر مثل ما رويناه بالطريق المذكورة إن أحمد قال حدثنا محمد بن جعفر وبهز قالا حدثنا شعبة عن جبلة يقول لنا إبن سحيم
قال بهز أخبرنى جبلة بن سحيم سمعت إبن عمر قال قال رسول الله ( الشهر هكذا ( وطبق بأصابعه مرتين وكسر فى الثالثة الإبهام قال محمد بن جعفر فى حديثه يعنى قوله ( تسعا وعشرين ( هكذا رواه البخارى والنسائى من حديث شعبة ولفظه ( الشهر هكذا وهكذا ( وخنس الإبهام فى الثالثة ومثل ما روى نافع عن إبن عمر كما رويناه بالإسناد المتقدم إلى أحمد حدثنا إسماعيل أنبأنا أيوب عن نافع عن إبن عمر قال قال رسول الله ( إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأقدروا له ( قال نافع وكان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر
____________________
(25/148)
فإن رؤى فذاك فإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما
ورويناه فى سنن أبى داود من حديث حماد بن زيد قال أنبأنا أيوب هكذا سواء ولفظه ( الشهر تسع وعشرون ( قال فى آخره فكان إبن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له فإن رؤى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا فإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما قال فكان إبن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب وروى له باللفظ الأول عبد الرزاق فى مصنفه عن معمر عن أيوب عن نافع عن إبن عمر عن رسول الله قال ( إنما الشهر تسع وعشرون ( وبه عن إبن عمر أنه إذا كان سحاب أصبح صائما وإن لم يكن سحاب أصبح مفطرا
قال وأنبأنا معمر عن إبن طاووس عن أبيه مثله وهكذا رواه عبيد الله بن عمر عن نافع كما رويناه بالإسناد المتقدم إلى أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثنى نافع عن إبن عمر إذا كان ليلة تسع وعشرين وكان فى السماء سحاب أو قتر أصبح صائما رواه النسائى عن عمر وإبن على عن يحيى ولفظه ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه
____________________
(25/149)
فإن غم عليكم فاقدروا له ) وذكر ان عبيد الله بن عمرو روى عنه محمد بن بشر عن ابى الزناد الاعرج عن ابى هريرة رضى الله عنه قال ذكر رسول الله ( الهلال ( فقال إذا رأيتموه فصوموا واذا رأيتموه فافطروا فان غم عليكم فعدوا ثلاثين ( وجعل هذا إختلافا على عبيد الله مثل هذا الاختلاف لا يقدح الا مع قرينة فان الحفاظ كالزهرى وعبيد الله ونحوهما يكون الحديث عندهم من وجهين وثلاثة او اكثر فتارة يحدثون به من وجه وتارة يحدثون به من وجه آخر وهذا يوجد كثيرا فى الصحيحين وغيرهما ويظهر ذلك بأن من الرواة من يفرق بين شيحين او يذكر الحديثين جميعا
وقد روى البخارى
من طريق نافع من حديث مالك بن انس عنه ولفظه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذكر شهر رمضان فقال لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فاقدروا له ( لم يذكر فى أوله قوله ( الشهر تسع وعشرون ( ولا ذكر الزيادة على عادته فى انه كان كثيرا ما يترك التحديث بما لا يعمل به عنده وأما قوله ( الشهر تسع وعشرون ( فرواها مالك من طريق عبد الله بن دينار عن بن عمر ورواها من طريقه البخارى
____________________
(25/150)
عن عبد الله بن مسلمة وهو القعنبى ان النبى صلى الله عليه وسلم قال ( الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فان غم عليكم فاكملوا العدة ثلاثين ( هكذا وقع هذا اللفظ مختصرا فى البخارى وقد رواه عن القعنبى عن مالك وهو ناقص فان الذى فى الموطأ ( يوما ( لان القعنبى لفظه أن رسول الله قال ( الشهر تسع وعشرون يوما فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فاقدروا له ( فذكر قوله ( ولا تفطروا حتى تروه ( وذكره بلفظة ( فاقدروا له ( لا بلفظ ( فاكملوا العدة ( وهكذا فى سائر الموطآت مسبوق بذكر الجملتين ولفظ ( القدر ( حتى قال أبو عمر بن عبد البر لم يختلف عن نافع فى هذا الحديث فى قوله ( فاقدروا له ( قال وكذلك روى سالم عن بن عمر وقد روى حديث مالك وغيره عن عبد الله بن دينار عن إبن عمر قال ورواه الدراوردى عن عبد الله بن دينار فقال فيه ( فإن غم عليكم فاحصوا العدة ( فهذه والله أعلم نقص ورواية بالمعنى وقع فى حديث مالك الذى فى البخارى كما ذكر ابو بكر الاسماعيلى وغيره أن مثل ذلك وقع فى هذا الباب فى لفظ حديث ابي هريرة
ومثل هذا اللفظ المشعر بالحصر ما رويناه أيضا بالاسناد المتقدم إلى
____________________
(25/151)
احمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا شيبان عن يحيى اخبرنى ابو سلمة قال سمعت بن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( الشهر تسع وعشرون ( ورواه النسائى من حديث معاوية عن يحيى هكذا وساقه ايضا من طريق على عن يحيى عن ابى سلمة ان ابا هريرة قال قال رسول الله ( الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين فاذا رآيتموه فافطروا فان غم عليكم فاكملوا العدة ( وجعل النسائى هذا اختلافا على يحيى عن ابى سلمة والصواب ان كلاهما محفوظ عن يحيى عن أبى سلمة لا اختلاف فى اللفظ
وقال أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عقبة بن حريث سمعت بن عمر يقول قال رسول الله ( الشهر تسع وعشرون ( وطبق شعبة يديه ثلاث مرات وكسر الابهام فى الثالثة قال عقبة واحسبه قال ( الشهر ثلاثون ( وطبق كفيه ثلاث مرات ورواه النسائى من حديث بن المثنى عن غندر لكن لفظه الشهر تسع وعشرون ( لم يزد فرواية احمد اكمل واحسن سياقا تقدم فان الرواية المفسرة تبين ان سائر روايات بن عمر التى فيها الشهر تسع وعشرون عنى بها احد شيئين اما ان الشهر
____________________
(25/152)
قد يكون تسعة وعشرين ردا على من يتهم أن الشهر المطلق هو ثلاثون كما توهم من توهم من المتقدمين وتبعهم على ذلك بعض الفقهاء فى الشهر العددي فيجعلونه ثلاثين يوما بكل حال وعارضهم قوم فقالوا الشهر تسعة وعشرون واليوم الآخر زياة وهذا المعنى هو الذى صرح به النبى فقال ( الشهر هكذا وهكذا وهكذا والشهر هكذا وهكذا ( يعنى مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين فمن جزم بكونه ثلاثين او تسعة وعشرين فقد اخطأ
والمعنى الثانى أن يكون أراد ان عدد الشهر اللازم الدائم هو تسعة وعشرون فاما الزائد فأمر جائز يكون فى بعض الشهور ولا يكون فى بعضها
والمقصود أن التسعة والعشرين يجب عددها واعتبارها بكل حال فى كل وقت فلا يشرع الصوم بحال حتى يمضى تسعة وعشرون من شعبان ولابد أن يصام فى رمضان تسعة وعشرون لا يصام اقل منها بحال وهذا المعنى هو الذى يفسر به رواية ايوب عن نافع ( انما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه ( أي انما الشهر اللازم الدائم الواجب تسعة وعشرون ولا يمكن ان يفسر
____________________
(25/153)
هذا اللفظ بالمعنى الاول لما فيه من الحصر
وقد قيل أن ذلك قد يكون اشارة إلى شهر بعينه لا إلى جنس الشهر أي إنما ذلك الشهر تسعة وعشرون كأنه الشهر الذى آلى فيه من أزواجه لكن هذا يدفعه قوله عقبه ( فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فاقدروا له ( فهذا يبين انه ذكر هذا لبيان الشرع العام المتعلق بجنس الشهر لا لشهر معين فانه قد بين انه ذكر هذا لاجل الصوم فلو اراد شهرا بعينه قد علم أنه تسعة وعشرون لكان إذا علم ان ذلك الشهر تسع وعشرون لم يفترق الحال بين الغم وعدمه ولم يقل ( فلا تصوموا حتى تروه ( ولأنه لا يعلم ذلك الا وقد رؤى هلال الصوم وحينئذ فلا يقال ( فان غم عليكم ( ولذلك حمل الأئمة كالامام احمد قوله المطلق على انه لجنس الشهر لا لشهر معين وبنوا عليه احكام الشريعة قال حنبل بن إسحاق حدثنى ابو عبد الله حدثنا يحيى بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن قال ابو عبد الله قلت ليحيى الذين يقولون الملائى قال نعم عن الوليد بن عقبة قال صمنا على عهد على رضى الله عنه ثمان
____________________
(25/154)
وعشرين فأمرنا على ان نتمها يوما ابو عبد الله رحمة الله عليه يقول العمل على هذا الشهر لأن هكذا وهكذا وهكذا تسعة وعشرون فمن صام هذا الصوم قضى يوما ولا كفارة عليه
وبما ذكرناه يتبين الجواب عما روى عن عائشة فى هذا قالت يرحم الله ابا عبد الرحمن وظاهر رسول الله شهرا فنزل لتسع وعشرين فقيل له فقال ( ان الشهر قد يكون تسعا وعشرين ( فعائشة رضي الله عنها ردت ما افهموها عن بن عمر او ما فهمته هي من أن الشهر لا يكون إلا تسعا وعشرين وبن عمر لم يرد هذا بل قد ذكرنا عنه الروايات الصحيحة بان الشهر يكون مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين فثبت بذلك ان بن عمر روى ان الشهر يكون تارة كذلك وتارة كذلك
وما رواه اما ان يكون موافقا لما روته عائشة ايضا من ان الشهر قد يكون تسعا وعشرين واما ان يكون معناه ان الشهر اللازم الدائم الواجب هو تسعة وعشرون ومن كلام العرب وغيرهم انهم ينفون الشيء فى صيغ الحصر او غيرها تارة لانتفاء ذاته وتارة لانتفاء فائدته ومقصوده ويحصرون الشيء فى غيره تارة لانحصار جميع الجنس منه وتارة لانحصار المفيد او الكامل فيه ثم انهم تارة
____________________
(25/155)
يعيدون النفى إلى المسمى وتارة يعيدون النفى إلى الاسم وإن كان ثابتا فى اللغة اذا كان المقصود الحقيقى بالاسم منتفيا عنه ثابتا لغيره كقوله ( يا اهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما انزل اليكم من ربكم ( فنفى عنهم مسمى الشيء مع انه فى الاصل شامل لكل موجود من حق وباطل لما كان مالا يفيد ولا منفعة فيه يؤول إلى الباطل الذى هو العدم فيصير بمنزلة المعدوم بل ما كان المقصود منه اذا لم يحصل مقصوده كان اولى بان يكون معدوما من المعدوم المستمر عدمه لانه قد يكون فيه ضرر
فمن قال الكذب فلم يقل شيئا ومن لم يعمل بما ينفعه فلم يعمل شيئا ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان قال ( ليسوا بشيء ( ففى الصحيحين عن عائشة قالت سئل رسول الله عن ناس من الكهان فقال ( ليسوا بشيء ( ويقول اهل الحديث عن بعض المحدثين ليس بشيء او عن بعض الاحاديث ليس بشيء إذا لم يكن ممن ينتفع به فى الرواية لظهور كذبه عمدا أو خطأ ويقال ايضا لمن خرج عن موجب الانسانية فى الاخلاق ونحوها هذا ليس بآدمى ولا انسان ما فيه انسانية ولا مروءة هذا حمار او كلب كما يقال ذلك لمن اتصف بما هو
____________________
(25/156)
فوقه من حدود الانسانية كما قلن ليوسف ( ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم (
وكذلك قال النبى ( ليس المسكين بهذا الطواف الذى ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان انما المسكين الذى لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس الحافا ( وقال ( ما تعدون المفلس فيكم ( قالوا الذى لا درهم له ولا دينار فقال ( ليس ذلك انما المفلس الذى يجيء يوم القيامة ( الحديث وقال ( ما تعدون الرقوب ( الحديث فهذا نفى لحقيقة الاسم من جهة المعنى الذى يجب اعتباره باعتبار ان الرقوب والمفلس إنما قيد بهذا الاسم لما عدم المال والولد والنفوس تجزع من ذلك فبين النبى صلى الله عليه وسلم ان عدم ذلك حيث يضره عدمه هو احق بهذا الاسم ممن يعدمه حيث قد لا يضره ضررا له اعتبار
ومثال هذا ان يقال لمن يتألم ألما يسيرا ليس هذا بألم انما الألم كذا وكذا ولمن يرى أنه غنى ليس هذا بغنى انما الغنى فلان وكذلك يقال فى العالم والزاهد كقولهم انما العالم من يخشى الله تعالى
____________________
(25/157)
وكقول مالك بن دينار الناس يقولون مالك زاهد انما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذى اتته الدنيا فتركها ونحو ذلك مما تكون القلوب تعظمه لذلك المسمى اعتقادا واقتصادا اما طلبا لوجوده واما طلبا لعدمه معتقدا ان ذلك هو المستحق للاسم فيبين لها ان حقيقة ذلك المعنى ثابتة لغيره دونه على وجه ينبغى تعليق ذلك الاعتقاد والاقتصاد بذلك الغير
ومن هذا الباب قول النبى صلى الله عليه وسلم ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمؤمن من امنه الناس على دمائهم واموالهم والمجاهد من جاهد بنفسه في ذات الله ( ومنه قوله تعالى ( انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم ( إلى قوله ( اولئك هم المؤمنون حقا ( فهؤلاء المستحقون لهذا الاسم على الحقيقة الواجبة لهم ومنه قولهم لا علم الا ما نفع ولا مدينة الا بملك ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( لا ربا الا فى النسيئة ( أو ( إنما الربا فى النسيئة ( فانما الربا العام الشامل للجنسين وللجنس الواحد المتفقة صفاته انما يكون فى النسيئة وأما ربا الفضل فلا يكون الا فى الجنس الواحد ولا يفعله احد الا اذا اختلفت الصفات كالمضروب بالتبر والجيد بالردىء فاما اذا استوت الصفات
____________________
(25/158)
فليس احد يبيع درهما بدرهمين ولهذا شرع القرض هنا لأنه من نوع التبرع فلما كان غالب الربا وهو الذى نزل فيه القرآن اولا وهو ما يفعله الناس وهو ربا النسأ قيل انما الربا فى النسيئة
وأيضا ربا الفضل انما حرم لانه ذريعة إلى ربا النسيئة فالربا المقصود بالقصد الاول هو ربا النسيئة فلا ربا الا فيه واظهر ما تبين فيه الربا الجنس الواحد المتفق فيه الصفات فانه اذا باع مائة درهم بمائة وعشرين ظهر ان الزيادة قابلت الأجل الذى لا منفعة فيه وانما دخل فيه للحاجة ولهذا لا تضمن الآجال باليد ولا بالاتلاف فلو تبقى العين فى يده او المال فى ذمته مدة لم يضمن الأجل بخلاف زيادة الصفة فانها مضمونة فى الاتلاف والغصب وفى البيع إذا قابلت غير الجنس وهذا باب واسع
فإن الكلام الخبري اما إثبات واما نفى فكما انهم فى الاثبات يثبتون للشىء اسم المسمى اذا حصل فيه مقصود الاسم وان انتفت صورة المسمى فكذلك فى النفى فان ادوات النفى تدل على انتفاء الاسم بانتفاء مسماه فكذلك تارة لأنه لم يوجد أصلا وتارة لأنه لم توجد الحقيقة المقصودة بالمسمى وتارة لأنه لم تكمل تلك الحقيقة وتارة لأن ذلك المسمى مما لا ينبغى ان يكون مقصودا بل المقصود غيره
____________________
(25/159)
وتارة لأسباب اخر وهذا كله انما يظهر من سياق الكلام وما اقترن به من القرائن اللفظية التى لا تخرجها عن كونها حقيقة عند الجمهور ولكون المركب قد صار موضوعا لذلك المعنى او من القرائن الحالية التى تجعلها مجازا عند الجمهور
واما اذا اطلق الكلام مجردا عن القرينتين فمعناه السلب المطلق وهو كثير فى الكلام فكذلك قوله ( انما الشهر تسع وعشرون ( وقوله ( الشهر تسع وعشرون ( حيث قصد به الحصر فى النوع لما كان الله تعالى قد علق بالشهر احكاما كقوله ( شهر رمضان ( وقوله ( الحج اشهر معلومات ( وقوله ( شهرين متتابعين ( ونحو ذلك وكان من الافهام ما يسبق إلى ان مطلق الشهر ثلاثون يوما
ولعل بعض من لم يعد أيام الشهر يتوهم ان السنة ثلاثمائة وستون يوما وان كل شهر ثلاثون يوما فقال الشهر الثابت اللازم الذى لابد منه تسع وعشرون وزيادة اليوم قد تدخل فيه وقد تخرج منه كما يقول الاسلام شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله فهذا هو الذى لابد منه وما زاد على ذلك فقد يجب على الانسان وقد يموت قبل الكلام فلا يكون الاسلام فى حقه الا ما تكلم به
____________________
(25/160)
وعلى ما قد ثبت عن بن عمر فيكون قد سمع من النبى كلا الخبرين او ان يكون الذى سمع منه ( ان الشهر يكون تسعة وعشرين ( ويكون ثلاثين ( كما جاء مصرحا به وسمع منه ( ان الشهر انما هو تسع وعشرون ( روى هذا بالمعنى الذى تضمنه الاول وهو بعيد من بن عمر فانه كان لا يروى بالمعنى روى عن النبى المعانى الثلاثة ان قوله ( الشهر تسع وعشرون ( لشهر معين وروى عنه انه قال ( قد يكون ( وروى عنه انه قال ( انما الشهر ( وقد
استفاضت الروايات عن النبى بما يوافق التفسير الاول فى حديث بن عمر مثل ما رواه البخارى من حديث بن جريج عن يحيى بن عبد الله بن صيفى عن عكرمة بن عبد الرحمن عن ام سلمة ان النبى ( آلى من نسائه شهرا ( فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا او راح فقيل له انك حلفت ان لا تدخل شهرا فقال ( ان الشهر يكون تسعة وعشرين يوما ( فيه ما يدل على ان الشهر يكمل بحسبه مطلقا الا ان يكون الايلاء كان فى اول الشهر وهو خلاف الظاهر فمتى كان الايلاء فى اثنائه فهو نص فى مسألة النزاع وروى البخارى ايضا من حديث سليمان بن بلال
____________________
(25/161)
عن حميد عن انس قال آلى رسول الله من نسائه وكانت انفكت رجله فاقام فى مشربة تسعا وعشرين ليلة ثم نزل فقالوا يا رسول الله آليت شهرا فقال ( ان الشهر يكون تسعا وعشرين (
واما الشهر المعين فروى النسائى من حديث شعبة عن سلمة عن ابى الحكم عن بن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( اتانى جبريل فقال ( تم الشهر لتسع وعشرين ( هكذا رواه بهز عنه ورواه من طريق غندر ورواه من طريق غندر عنه ولفظه ( الشهر تسع وعشرون ( فهذه الرواية تبين ان ايلاء النبى صلى الله عليه وسلم كان فيما بين الهلالين فلما مضى تسع وعشرون اخبره جبرائيل ان الشهر تم لتسع وعشرين لأن الشهر الذى آلى فيه كان تسعا وعشرين وكان النبى يظن ان عليه اكمال العدة ثلاثين فاخبره جبرائيل بأنه تم شهر ايلائه لتسع وعشرين ولو كان الايلاء فى اول الهلال لم يحتج إلى ان يخبره جبرائيل بذلك لانه اذا رؤى لتمام تسع وعشرين يعلم أنه قد تم فان هذا امر ظاهر لا شبهة فيه حتى يخبره به جبرائيل
وايضا فلو كان الايلاء بين الهلالين لكان الصحابة يعلمون ان ذلك
____________________
(25/162)
شهر فان هذا امر لم يكن يشكون فيه هم ولا احد ان الشهر ما بين الهلالين والاعتبار بالعدد ولكن لما وقع الايلاء فى اثناء الشهر توهموا انه يجب تكميل العدة ثلاثين فأخبره جبريل بانه قد تم شهر ايلائه لتسع وعشرين وقال لاصحابه ( ان الشهر تسع وعشرون ( أي شهر الايلاء ( وان الشهر يكون تسعة وعشرين (
وأيضا فقول عائشة رضى الله عنها أعدهن ولو كان فى أول الهلال لم تحتج إلى ان تعدهن كما لم يعد رمضان اذا صاموا بالرؤية بل روى عنه ما ظاهره الحصر سعد بن ابى وقاص بالاسناد المتقدم إلى احمد حدثنا محمد بن بشر حدثنا إسماعيل بن ابى خالد عن محمد بن سعد بن ابى وقاص عن ابيه قال خرج علينا رسول الله وهو يضرب باحدى يديه على الاخرى وهو يقول ( الشهر هكذا وهكذا ( ثم يقبض أصبعه فى الثالثة وقال احمد حدثنا معاوية إبن عمر حدثنا زائدة عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن ابيه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( الشهر هكذا وهكذا عشر عشر وتسع مرة ( رواه النسائى من حديث محمد بن بشر كما ذكرناه ورواه هو واحمد ايضا من حديث بن المبارك عن إسماعيل مسندا كما تقدم
____________________
(25/163)
وقد رواه يحيى بن سعيد ووكيع ومحمد بن عبيد عن إسماعيل عن محمد مرسلا وقال يحيى بن سعيد فى روايته قلت لاسماعيل عن ابيه قال لا
وقد صحح أحمد المسند وقال فى حديث إسماعيل بن ابي خالد حديث سعد ( الشهر هكذا وهكذا ( قال يحيى القطان اردنا ان يقول عن ابيه فأبى قال أحمد هذا عن إسماعيل كان يسنده احيانا واحيانا لا يسنده ورواه زائدة عن ابيه قيل له أن وكيعا قد رواه ويحيى يقول ما يقول قال زائدة قد رواه وقال ايضا قد رواه عبد الله عن ابيه وبن بشر وزائدة وغيرهم وهذا الذى قاله بيان ان هذه الزيادة من هؤلاء الثقاة فهي مقبولة وان الذين حدثوا عنه كان تارة يذكرها وتارة يتركها وقد روى ما يفسره فروى ابو بكر الخلال وصاحبه من حديث وكيع عن إسماعيل بن ابى خالد عن محمد بن سعد قال قال رسول الله ( الشهر هكذا وهكذا وهكذا والشهر هكذا وهكذا وهكذا ( واشار وكيع بالعشر الاصابع مرتين وخنس واحدة الابهام فى الثالثة
فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور
أحدها ان قوله ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ( هو خبر
____________________
(25/164)
تضمن نهيا فانه اخبر ان الامة التى اتبعته هي الأمة الوسط امية لا تكتب ولا تحسب فمن كتب او حسب لم يكن من هذه الامة فى هذا الحكم بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الامة فيكون قد فعل ما ليس من دينها والخروج عنها محرم منهى عنه فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهيا عنهما وهذا كقوله ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ( أي هذه صفة المسلم فمن خرج عنها خرج عن الاسلام ومن خرج عن بعضها خرج عن الاسلام فى ذلك البعض وكذلك قوله ( المؤمن من امنه الناس على دمائهم واموالهم (
فإن قيل فهلا قيل ان لفظه خبر ومعناه الطلب كقوله ( والمطلقات يتربصن بانفسهن ( والوالدات يرضعن ( ونحو ذلك فيكون المعنى ان من كان من هذه الأمة فلا ينبغى له ان يكتب ولا يحسب نهاه عن ذلك لئلا يكون خبرا قد خالف مخبره فان منهم من كتب او حسب
قيل هذا معنى صحيح فى نفسه لكن ليس هو ظاهر اللفظ فان ظاهره خبر والصرف عن الظاهر انما يكون لدليل يحوج إلى ذلك ولا حاجة إلى ذلك كما بيناه
____________________
(25/165)
وأيضا فقوله ( انا أمة امية ( ليس هو طلبا فانهم اميون قبل الشريعة كما قال الله تعالى ( هو الذى بعث فى الاميين رسولا منهم ( وقال ( وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم ( فاذا كانت هذه صفة ثابتة لهم قبل المبعث لم يكونوا مامورين بابتدائها نعم قد يؤمرون بالبقاء على بعض احكامها فانا سنبين أنهم لم يؤمروا ان يبقوا على ما كانوا عليه مطلقا
فإن قيل فلم لا يجوز أن يكون هذا إخبارا محضا أنهم لا يفعلون ذلك وليس عليهم ان يفعلوه اذ لهم طريق آخر غيره ولا يكون فيه دليل على ان الكتاب والحساب منهى عنه بل على أنه ليس بواجب فان الاموة صفة نقص ليست صفة كمال فصاحبها بأن يكون معذورا أولى من ان يكون ممدوحا
قيل لا يجوز هذا لأن الامة التى بعثه الله إليها فيهم من يقرأ ويكتب كثيرا كما كان فى اصحابه وفيهم من يحسب وقد بعث بالفرائض التى فيها من الحساب ما فيها وقد ثبت عنه انه لما قدم عامله على الصدقة بن اللتبية حاسبه وكان له كتاب عدة كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وزيد ومعاوية يكتبون الوحي ويكتبون العهود ويكتبون كتبه إلى الناس إلى من بعثه الله
____________________
(25/166)
إليه من ملوك الأرض ورؤوس الطوائف والى عماله وولاته وسعاته وغير ذلك وقد قال الله تعالى فى كتابه ( لتعلموا عدد السنين والحساب ( فى آيتين من كتابه فاخبر انه فعل ذلك ليعلم الحساب
وانما ( الامى ( هو فى الاصل منسوب إلى الامة التى هي جنس الاميين وهو من لم يتميز عن الجنس بالعلم المختص من قراءة او كتابة كما يقال عامي لمن كان من العامة غير متميز عنهم بما يختص به غيرهم من علوم وقد قيل انه نسبة إلى الام أي هو الباقى على ما عودته أمه من المعرفة والعلم ونحو ذلك
ثم التميز الذي يخرج به عن الامية العامة إلى الاختصاص تارة يكون فضلا وكما لا فى نفسه كالتميز عنهم بقراءة القرآن وفهم معانيه وتارة يكون بما يتوصل به إلى الفضل والكمال كالتميز عنهم بالكتابة وقراءة المكتوب فيمدح فى حق من استعمله فى الكمال ويذم فى حق من عطله او استعمله فى الشر ومن استغنى عنه بما هو انفع له كان اكمل وافضل وكان تركه فى حقه مع حصول المقصود به اكمل وافضل
فإذا تبين أن التميز عن الاميين نوعان فالامة التى بعث فيها
____________________
(25/167)
النبى اولاهم العرب وبواستطهم حصلت الدعوة لسائر الامم لأنه انما بعث بلسانهم فكانوا أميين عامة ليست فيهم مزية علم ولا كتاب ولا غيره مع كون فطرهم كانت مستعدة للعلم اكمل من استعداد سائر الامم بمنزلة أرض الحرث القابلة للزرع لكن ليس لها من يقوم عليها فلم يكن لهم كتاب يقرأونه منزل من عند الله كما لأهل الكتاب ولا علوم قياسية مستنبطة كما للصابئة ونحوهم وكان الخط فيهم قليلا جدا وكان لهم من العلم ما ينال بالفطرة التى لا يخرج بها الانسان عن الاموة العامة كالعلم بالصانع سبحانه وتعظيم مكارم الاخلاق وعلم الأنواء والأنساب والشعر فاستحقوا اسم الامية من كل وجه كما قال فيهم ( هو الذى بعث فى الاميين رسولا منهم ( وقال تعالى ( قل للذين أوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم فان اسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فانما عليك البلاغ ( فجعل الأميين مقابلين لأهل الكتاب فالكتابى غير الأمى
فلما بعث فيهم ووجب عليهم اتباع ما جاء به من الكتاب وتدبره وعقله والعمل به وقد جعله تفصيلا لكل شيء وعلمهم نبيهم كل شيء حتى الخراءة صاروا أهل كتاب وعلم بل صاروا أعلم الخلق
____________________
(25/168)
وأفضلهم فى العلوم النافعة وزالت عنهم الامية المذمومة الناقصة وهي عدم العلم العلم والكتاب المنزل إلى ان علموا الكتاب والحكمة وأورثوا الكتاب كما قال فيهم ( هو الذي بعث فى الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ( فكانوا أميين من كل وجه فلما علمهم الكتاب والحكمة قال فيهم ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات باذن الله ( وقال تعالى ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ان تقولوا انما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وان كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا اهدى منهم ( واستجيب فيهم دعوة الخليل حيث قال ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك أنت العزيز الحكيم ( وقال ( لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة (
فصارت هذه الامية منها ما هو محرم ومنها ما هو مكروه ومنها ما هو نقص وترك الافضل فمن لم يقرأ الفاتحة او لم يقرأ شيئا من القرآن تسميه الفقهاء فى باب الصلاة أميا ويقابلونه بالقارىء
____________________
(25/169)
فيقولون لا يصح اقتداء االقارىء بالأمى ويجوز ان يأتم الأمي بالأمي ونحو ذلك من المسائل وغرضهم بالأمى هنا الذي لا يقرأ القراءة الواجبة سواء كان يكتب اولا يكتب يحسب اولا يحسب
فهذه الامية منها ما هو ترك واجب يعاقب الرجل عليه اذا قدر على التعلم فتركه
ومنها ما هو مذموم كالذى وصفه الله عز وجل عن أهل الكتاب حيث قال ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا امانى وان هم الا يظنون ( فهذه صفة من لا يفقه كلام الله ويعمل به وانما يقتصر على مجرد تلاوته كما قال الحسن البصري نزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا فالأمي هنا قد يقرأ حروف القرآن او غيرها ولا يفقه بل يتكلم فى العلم بظاهر من القول ظنا فهذا ايضا أمى مذموم كما ذمه الله لنقص علمه الواجب سواء كان فرض عين ام كفاية
ومنها ما هو الأفضل الأكمل كالذى لا يقرأ من القرآن الا بعضه ولا يفهم منه الا ما يتعلق به ولا يفهم من الشريعة إلا مقدار الواجب
____________________
(25/170)
عليه فهذا أيضا يقال له أمى وغيره ممن أوتى القرآن علما وعملا أفضل منه واكمل
فهذه الأمور المميزة للشخص عن الامور التى هي فضائل وكمال فقدها اما فقد واجب عينا او واجب على الكفاية او مستحب وهذه يوصف الله بها وأنبياؤه مطلقا فان الله عليم حكيم جمع العلم والكلام النافع طلبا وخبرا وإرادة وكذلك انبياؤه ونبينا سيد العلماء والحكماء
واما الأمور المميزة التى هي وسائل وأسباب إلى الفضائل مع امكان الاستغناء عنها بغيرها فهذه مثل الكتاب الذى هو الخط والحساب فهذا إذا فقدها مع أن فضيلته فى نفسه لا تتم بدونها وفقدها نقص إذا حصلها واستعان بها على كماله وفضله كالذى يتعلم الخط فيقرأ به القرآن وكتب العلم النافعة او يكتب للناس ما ينتفعون به كان هذا فضلا فى حقه وكمالا وان استعان به على تحصيل ما يضره او يضر الناس كالذى يقرأ بها كتب الضلالة ويكتب بها ما يضر الناس كالذى يزور خطوط الأمراء والقضاة والشهود كان هذا ضررا فى حقه وسيئة ومنقصة ولهذا نهى عمر أن تعلم النساء الخط
____________________
(25/171)
وان أمكن ان يستغنى عنها بالكلية بحيث ينال كمال العلوم من غيرها وينال كمال التعليم بدونها كان هذا أفضل له وأكمل وهذه حال نبينا الذي قال الله فيه ( الذين يتبعون الرسول النبى الأمي الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل ( فان اموته لم تكن من جهة فقد العلم والقراءة عن ظهر قلب فانه إمام الأئمة فى هذا وانما كان من جهة انه لا يكتب ولا يقرأ مكتوبا كما قال الله فيه ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك (
وقد اختلف الناس هل كتب يوم الحديبية بخطه معجزة له أم لم يكتب وكان انتفاء الكتابة عنه مع حصول اكمل مقاصدها بالمنع من طريقها من أعظم فضائله واكبر معجزاته فان الله علمه العلم بلا واسطة كتاب معجزة له ولما كان قد دخل فى الكتب من التحريف والتبديل وعلم هو امته الكتاب والحكمة من غير حاجة منه إلى أن يكتب بيده وأما سائر أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم فالغالب على كبارهم الكتابة لاحتياجهم اليها اذ لم يؤت احد منهم من الوحى ما أوتيه صارت اموته المختصة به كمالا فى حقه من جهة الغنى بما هو أفضل منها وأكمل ونقصا فى حق غيره من جهة فقده الفضائل التى لا تتم الا بالكتابة
____________________
(25/172)
إذا تبين هذا فكتاب أيام الشهر وحسابه من هذا الباب كما قدمناه فان من كتب مسير الشمس والقمر بحروف ( ابجد ( ونحوها وحسب كم مضى من مسيرها ومتى يلتقيان ليلة الاستسرار ومتى يتقابلان ليلة الابدار ونحو ذلك فليس فى هذا الكتاب والحساب من الفائدة الا ضبط المواقيت التى يحتاج الناس اليها فى تحديد الحوادث والاعمال ونحو ذلك كما فعل ذلك غيرنا من الأمم فضبطوا مواقيتهم بالكتاب والحساب كما يفعلونه بالجداول او بحروف الجمل وكما يحسبون مسير الشمس والقمر ويعدلون ذلك ويقومونه بالسير الأوسط حتى يتبين لهم وقت الاستسرار والابدار وغير ذلك فبين النبى انا أيتها الأمة الأمية لا نكتب هذا الكتاب ولا نحسب هذا الحساب فعاد كلامه إلى نفي الحساب والكتاب فيما يتعلق بأيام الشهر الذي يستدل به على استسرار الهلال وطلوعه
وقد قدمنا فيما تقدم ان النفي وإن كان على اطلاقه يكون عاما فاذا كان فى سياق الكلام ما يبين المقصود علم به المقصود أخاص هو أم عام فلما قرن ذلك بقوله ( الشهر ثلاثون ( و ( الشهر تسعة وعشرون ( بين أن المراد به انا لا نحتاج فى أمر الهلال إلى كتاب ولا
____________________
(25/173)
حساب اذ هو تارة كذلك وتارة كذلك والفارق بينهما هو الرؤية فقط ليس بينهما فرق آخر من كتاب ولا حساب كما سنبينه فان أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على ان يضبطوا الرؤية بضبط مستمر وإنما يقربوا ذلك فيصيبون تارة ويخطئون اخرى
وظهر بذلك ان الأمية المذكورة هنا صفة مدح وكمال من وجوه من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال ومن جهة ان الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط ومن جهة أن فيهما تعبا كثيرا بلا فائدة فان ذلك شغل عن المصالح إذ هذا مقصود لغيره لا لنفسه واذا كان نفى الكتاب والحساب عنهم للاستغناء عنه بخير منه وللمفسدة التى فيه كان الكتاب والحساب فى ذلك نقصا وعيبا بل سيئة وذنبا فمن دخل فيه فقد خرج عن الأمة الأمية فيما هو من الكمال والفضل السالم عن المفسدة ودخل فى امر ناقص يؤديه إلى الفساد والاضطراب
وأيضا فانه جعل هذا وصفا للامة كما جعلها وسطا فى قوله تعالى ( جعلناكم أمة وسطا ( فالخروج عن ذلك اتباع غير سبيل المؤمنين
____________________
(25/174)
وايضا فالشيء إذا كان صفة للامة لأنه اصلح من غيره ولان غيره فيه مفسدة كان ذلك مما يجب مراعاته ولا يجوز العدول عنه إلى غيره لوجهين لما فيه من المفسدة ولأن صفة الكمال التى للامة يجب حفظها عليها فان كان الواحد لا يجب عليه فى نفسه تحصيل المستحبات فان كل ما شرع للامة جميعا صار من دينها وحفظ مجموع الدين واجب على الامة فرض عين أو فرض كفاية ولهذا وجب على مجموع الأمة حفظ جميع الكتاب وجميع السنن المتعلقة بالمستحبات والرغائب وإن لم يجب ذلك على آحادها ولهذا أوجب على الأمة من تحصيل المستحبات العامة ما لا يجب على الافراد وتحصيله لنفسه مثل الذى يؤم الناس فى صلاته فانه ليس له ان يفعل دائما ما يجوز للمنفرد فعله بل يجب عليه أن لا يطول الصلاة تطويلا يضر من خلفه ولا ينقصها عن سننها الراتبة مثل قراءة السورتين الأوليين واكمال الركوع والسجود ونحو ذلك حتى أن النبى أمر الصحابة بعزل امام كان يصلى لبصاقه فى قبلة المسجد وقال ( يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله فان كانوا فى القراءة سواء فاعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء ( الحديث وقال ( اذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا فى سفال (
ولهذا قال الفقهاء ان الامام المقيم بالناس حجهم عليه أن يأتى
____________________
(25/175)
بكمال الحج من تأخير النفر إلى الثالث من منى ولا يتعجل فى النفر الاول ونحو ذلك من سنن الحج التى لو تركها الواحد لم يأثم وليس للامام تركها لأجل مصلحة عموم الحجيج من تحصيل كمال الحج وتمامه ولهذا لما اجتمع على عهد رسول الله عيدان فشهد العيد ثم رخص فى الجمعة قال ( انا مجمعون ( فقال احمد فى المشهور عنه وغيره ان على الامام ان يقيم لهم الجمعة ليحصل الكمال لمن شهدهما وان جاز للآحاد الانصراف
ونظائره كثيرة مما يوجب أن يحفظ للأمة فى أمرها العام فى الازمنة والامكنة والاعمال كمال دينها الذى قال الله فيه ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا ( فما افضى إلى نقص كمال دينها ولو بترك مستحب يفضى إلى تركه مطلقا كان تحصيله واجبا على الكفاية اما على الأئمة واما على غيرهم فالكمال والفضل الذى يحصل برؤية الهلال دون الحساب يزول بمراعاة الحساب لو لم يكن فيه مفسدة
الوجه الثانى ما دلت عليه الاحاديث ما فى قوله ( لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه ( كما ثبت ذلك عنه من حديث بن عمر فنهى عن الصوم قبل رؤيته وعن الفطر قبل
____________________
(25/176)
رؤيته ولا يخلو النهى اما أن يكون عاما فى الصوم فرضا ونفلا ونذرا وقضاء أو يكون المراد فلا تصوموا رمضان حتى تروه وعلى التقديرين فقد نهى ان يصام رمضان قبل الرؤية والرؤية الاحساس والابصار به فمتى لم يره المسلمون كيف يجوز ان يقال قد اخبر مخبر انه يرى واذا رؤى كيف يجوز ان يقال اخبر مخبر أنه لا يرى وقد علم ان قوله ( فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه ( ليس المراد به انه لا يصومه أحد حتى يراه بنفسه بل لا يصومه احد حتى يراه او يراه غيره
وفى الجملة فهو من باب عموم النفى لا نفى العموم أي لا يصومه أحد حتى يرى او حتى يعلم انه قد رؤى أو ثبت أنه قد رؤى ولهذا لما اختلف السلف ومن بعدهم فى صوم يوم الشك من رمضان فصامه بعضهم مطلقا فى الصحو والغيم احتياطا وبعضهم كره صومه مطلقا فى الصحو والغيم كراهة الزيادة فى الشهر وفرق بعضهم بين الصحو والغيم لظهور العدم فى الصحو دون الغيم كان الذى صاموه احتياطا انما صاموه لا مكان أن يكون قد رآه غيرهم فينقصونه فيما بعد وأما لو علموا انه لم يره احد لم يكن احد من الامة يستجيز أن يصومه لكون الحساب قد دل على انه يطلع ولم ير مع ذلك كما
____________________
(25/177)
ان الجمهور الذين كرهوا صومه لم يلتفتوا إلى هذا الجواب اذ الحكم ممدود إلى وقوع الرؤية لا إلى جوازها
وإختلف هؤلاء هل يجوز او يكره او يحرم او يستحب ان يصام بغير نية رمضان اذا لم يوافق عادة على أربعة أقوال هذا يجوزه او يستحبه حملا للنهى عن صوم رمضان ويكرهه ويحظره لنهيه عن التقدم ولخوف الزيادة ولمعان أخر
ثم اذا صامه بغير نية رمضان او بنيته المكروهة فهل يجزئه اذا تبين أو لا يجزئه بل عليه القضاء على قولين للامة واذا لم يتبين انه رؤى الا من النهار فهل يجزئه انشاء النية من النهار على قولين للامة
ولو تبين انه رؤي فى مكان أخر فهل يجب القضاء او لا يجب مطلقا ام اذا كان دون مسافة القصر ام اذا كانت الرؤية فى الاقليم ام اذا كان العمل واحدا وهل تثبت الرؤية بقول الواحد ام الاثنين مطلقا ام لابد فى الصحو من عدد كثير هذا مما تنازع فيه المسلمون فهذه المسائل التى تنازع فيها المسلمون التى تتعلق بيوم الثلاثين وتفرع بسببها مسائل أخر لعموم البلوى بهذا
____________________
(25/178)
الامر ولما فهموه من كلام الله ورسوله ورأوه من اصول شريعته ولما بلغهم عن الصدر الاول
وهى من جنس المسائل التى تنازع فيها اهل الاجتهاد بخلاف من خرج فى ذلك إلى الاخذ بالحساب أو الكتاب كالجداول وحساب التقويم والتعديل المأخوذ من سيرهما وغير ذلك الذى صرح رسول الله بنفيه عن امته والنهى عنه
ولهذا ما زال العلماء يعدون من خرج إلى ذلك قد ادخل فى الاسلام ما ليس منه فيقابلون هذه الاقوال بالانكار الذى يقابل به أهل البدع وهؤلاء الذين ابتدعوا فيه ما يشبه بدع اهل الكتاب والصابئة انواع قوم منتسبة إلى الشيعة من الاسماعيلية وغيرهم يقولون بالعدد دون الرؤية ومبدأ خروج هذه البدعة من الكوفة
فمنهم من يعتمد على جدول يزعمون ان جعفر الصادق دفعه اليهم ولم يأت به الا عبد الله بن معاوية ولا يختلف اهل المعرفة من الشيعة وغيرهم ان هذا كذب مختلق على جعفر اختلقه عليه عبد الله هذا وقد ثبت بالنقل المرضى عن جعفر وعامة أئمة أهل البيت ما عليه المسلمون وهو قول أكثر عقلاء الشيعة
____________________
(25/179)
ومنهم من يعتمد على أن رابع رجب اول رمضان او على ان خامس رمضان الماضى اول رمضان الحاضر
ومنهم من يروى عن النبى حديثا لا يعرف فى شيء من كتب الاسلام ولا رواه عالم قط أنه قال ( يوم صومكم يوم نحركم ) وغالب هؤلاء يوجبون ان يكون رمضان تاما ويمنعون ان يكون تسعة وعشرين
ومنهم من يعتمد على رؤيته بالمشرق قبل الاستسرار فيوجبون استسراره ليلتين ويقولون اول يوم يرى فى أوله فهو من الشهر الماضى واليوم يكون اليوم الذي لا يرى فى طرفيه ثم اليوم الذى يرى فى اخره هو اول الشهر الثانى ويجعلون مبدأ الشهر قبل رؤية الهلال مع العلم بأن الهلال يستسر ليلة تارة وليلتين أخرى وقد يستسر ثلاث ليال
فأما الذين يعتمدون على حساب الشهور وتعديلها فيعتبرونه برمضان الماضى او برجب أو يضعون جدولا يعتمدون عليه فهم مع مخالفتهم لقوله ( لا نكتب ولا نحسب ) إنما عمدتهم
____________________
(25/180)
تعديل سير النيرين والتعديل ان ياخذ اعلى سيرهما وادناه فياخذ الوسط منه ويجمعه
ولما كان الغالب على شهور العام ان الاول ثلاثون والثانى تسعة وعشرون كان جميع انواع هذا الحساب والكتاب مبنية على أن الشهر الاول ثلاثون والثانى تسعة وعشرون والسنة ثلاثمائة واربعة وخمسون ويحتاجون ان يكتبوا فى كل عدة من السنين زيادة يوم تصير فيه السنة ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوما يزيدونه فى ذى الحجة مثلا فهذا أصل عدتهم وهذا القدر موافق فى أكثر الاوقات لان الغالب على الشهور هكذا ولكنه غير مطرد فقد يتوالى شهران وثلاثة واكثر ثلاثين وقد يتوالى شهران وثلاثة وأكثر تسعة وعشرين فينتقض كتابهم وحسابهم ويفسد دينهم الذي ليس بقيم وهذا من الاسباب الموجبة لئلا يعمل بالكتاب والحساب فى الاهلة
فهذه طريقة هؤلاء المبتدعة المارقين الخارجين عن شريعة الاسلام الذين يحسبون ذلك الشهر بما قبله من الشهور أما فى جميع السنين أو بعضها ويكتبون ذلك
وأما الفريق الثانى فقوم من فقهاء البصريين ذهبوا إلى ان قوله
____________________
(25/181)
( فاقدروا له ( تقدير حساب بمنازل القمر وقد روى عن محمد بن سيرين قال خرجت فى اليوم الذى شك فيه فلم ادخل على احد يؤخذ عنه العلم الا وجدته يأكل الا رجلا كان يحسب وياخذ بالحساب ولو لم يعلمه كان خيرا له وقد قيل ان الرجل مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو رجل جليل القدر إلا ان هذا ان صح عنه فهي من زلات العلماء وقد حكى هذا القول عن ابى العباس بن سريج ايضا وحكاه بعض المالكية عن الشافعي ان من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر لم يتبين له من جهة النجوم ان الهلال الليلة وغم عليه جاز له ان يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه وهذا باطل عن الشافعى لا اصل له عنه بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة وانما كان قد حكى بن سريج وهو كان من اكابر اصحاب الشافعى نسبة ذلك إليه اذ كان هو القائم بنصر مذهبه
واحتجاج هؤلاء بحديث بن عمر فى غاية الفساد مع ان بن عمر هو الراوى عن النبى صلى الله عليه وسلم ( انا امة امية لا نكتب ولا نحسب ( فكيف يكون موجب حديثه العمل بالحساب وهؤلاء يحسبون مسيره فى ذلك الشهر ولياليه وليس لاحد منهم طريقة منضبطة اصلا بل اية طريقة سلكوها فان الخطأ واقع فيها ايضا فان الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابا مستقيما بل لا يمكن ان يكون إلى رؤيته
____________________
(25/182)
طريق مطرد الا الرؤية وقد سلكوا طرقا كما سلك الاولون منهم من لم يضبطوا سيره الا بالتعديل الذى يتفق الحساب على انه غير مطرد وانما هو تقريب مثل ان يقال ان رؤي صبيحة ثمان وعشرين فهو تام وان لم ير صبيحة ثمان فهو ناقص وهذا بناء على ان الاستسرار لليلتين وليس بصحيح بل قد يستسر ليلة تارة وثلاث ليال اخرى
وهذا الذي قالوه انما هو بناء على انه كل ليلة لا يمكث في المنزلة الا ستة اسباع ساعة لا اقل ولا اكثر فيغيب ليلة السابع نصف الليل ويطلع ليلة اربعة عشر من اول الليل إلى طلوع الشمس وليلة الحادي والعشرين يطلع من نصف الليل وليلة الثامن والعشرين ان استسر فيها نقص والا كمل وهذا غالب سيره والا فقد يسرع ويبطئ
وأما العقل فاعلم ان المحققين من اهل الحساب كلهم متفقون على انه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بانه يرى لا محالة او لا يرى البتة على وجه مطرد وانما قد يتفق ذلك او لا يمكن بعض الاوقات ولهذا 1 كان المعتنون بهذا الفن من الامم الروم والهند والفرس والعرب وغيرهم مثل بطليموس الذي هو مقدم هؤلاء ومن بعدهم قبل الاسلام وبعده لم ينسبوا إليه فى الرؤية حرفا واحدا ولا حدوه كما حدوا اجتماع القرصين وانما تكلم به قوم منهم فى ابناء الاسلام مثل
____________________
(25/183)
كوشيار الديلمي وعليه وعلى مثله يعتمد من تكلم في الرؤية منهم وقد انكر ذلك عليه حذاقهم مثل ابى علي المروذي القطان وغيره وقالوا انه تشوق بذلك عند المسلمين والا فهذا لا يمكن ضبطه
ولعل من دخل فى ذلك منهم كان مرموقا بنفاق فما النفاق من هؤلاء ببعيد او يتقرب به إلى بعض الملوك الجهال ممن يحسن ظنه بالحساب مع انتسابه إلى الاسلام
وبيان امتناع ضبط ذلك ان الحاسب انما يقدره على ضبط شبح الشمس والقمر وجريهما انهما يتحاذيان في الساعة الفلانية فى البرج الفلانى في السماء المحاذي للمكان الفلانى من الارض سواء كان الاجتماع من ليل او نهار وهذا الاجتماع يكون بعد الاستسرار وقبل الاستهلال فان القمر يجري فى منازله الثمانية والعشرين كما قدره الله منازل ثم يقرب من الشمس فيستسر ليلة او ليلتين لمحاذاته لها فاذا خرج من تحتها جعل الله فيه النور ثم يزداد النور كلما بعد عنها إلى ان يقابلها ليلة الابدار ثم ينقص كلما قرب منها إلى ان يجامعها ولهذا يقولون الاجتماع والاستقبال ولا يقدرون ان يقولوا الهلال وقت المفارقة على كذا يقولون الاجتماع وقت الاستسرار والاستقبال وقت الابدار
____________________
(25/184)
ومن معرفة الحساب الاستسرار والابدار الذي هو الاجتماع والاستقبال فالناس يعبرون عن ذلك بالامر الظاهر من الاستسرار الهلالي فى آخر الشهر وظهوره فى اوله وكمال نوره فى وسطه والحساب يعبرون بالامر الخفي من اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار ومن استقبال الشمس والقمر الذي هو وقت الابدار فان هذا يضبط بالحساب
وأما الاهلال فلا له عندهم من جهة الحساب ضبط لانه لا يضبط بحساب يعرف كما يعرف وقت الكسوف والخسوف فان الشمس لا تكسف في سنة الله التى جعل لها الا عند الاستسرار اذا وقع القمر بينها وبين ابصار الناس على محاذاة مضبوطة وكذلك القمر لا يخسف الا فى ليالي الابدار على محاذاة مضبوطة لتحول الارض بينه وبين الشمس فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه مثل معرفة كل أحد ان ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لابد ان يطلع الهلال وانما يقع الشك ليلة الثلاثين فنقول الحاسب غاية ما يمكنه اذا صح حسابه ان يعرف مثلا ان القرصين اجتمعا في الساعة الفلانية وانه عند غروب الشمس يكون قد فارقها القمر اما بعشر درجات مثلا او اقل او اكثر والدرجة هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا من الفلك
____________________
(25/185)
فانهم قسموه اثنى عشر قسما سموها ( الداخل ( كل برج اثنا عشر درجة وهذا غاية معرفته وهي بتحديدكم بينهما من البعد فى وقت معين في مكان معين هذا الذي يضبطه بالحساب اما كونه يرى او لا يرى فهذا امر حسى طبيعي ليس هو امرا حسابيا رياضيا وانما غايته ان يقول استقرأنا انه اذا كان على كذا وكذا درجة يرى قطعا او لا يرى قطعا فهذا جهل وغلط فان هذا لا يجري على قانون واحد لا يزيد ولا ينقص فى النفي والاثبات بل اذا كان بعده مثلا عشرين درجة فهذا يرى ما لم يحل حائل واذا كان على درجة واحدة فهذا لا يرى
وأما ما حول العشرة فالامر فيه يختلف باختلاف اسباب الرؤية من وجوه
أحدها انها تختلف وذلك لان الرؤية تختلف لحدة البصر وكلاله فمع دقته يراه البصر الحديد دون الكليل ومع توسطه يراه غالب الناس وليست ابصار الناس محصورة بين حاصرين ولا يمكن ان يقال يراه غالب الناس ولا يراه غالبهم لانه لو رآه اثنان علق الشارع الحكم بهما بالاجماع وان كان الجمهور لم يروه فاذا قال لا يرى بناء على ذلك كان مخطئا في حكم الشرع وان قال يرى بمعنى انه يراه البصر الحديد فقد لا يتفق فيمن يتراءى له من يكون بصره حديدا
____________________
(25/186)
فلا يلتفت إلى امكان رؤية من ليس بحاضر
السبب الثانى ان يختلف بكثرة المترائين وقلتهم فانهم اذا كثروا كان اقرب ان يكون فيهم من يراه لحدة بصره وخبرته بموضع طلوعه والتحديق نحو مطلعه واذا قلوا فقد لا يتفق ذلك فاذا ظن انه يرى قد يكونون قليلا فلا يمكن ان يروه واذا قال لا يرى فقد يكون المتراءون كثيرا فيهم من فيه قوة على ادراك ما لم يدركه غيره
السبب الثالث انه يختلف باختلاف مكان الترائى فان من كان اعلى مكانا فى منارة او سطح عال او على رأس جبل ليس بمنزلة من يكون على القاع الصفصف او فى بطن واد كذلك قد يكون امام احد المترائين بناء أو جبل او نحو ذلك يمكن معه ان يراه غالبا وان منعه احيانا وقد يكون لا شيء امامه فاذا قيل يرى مطلقا لم يره المنخفض ونحوه واذا قيل لا يرى فقد يراه المرتفع ونحوه والرؤية تختلف بهذا اختلافا ظاهرا
السبب الرابع انه يختلف باختلاف وقت الترائى وذلك ان عادة الحساب انهم يخبرون ببعده وقت غروب الشمس وفى تلك
____________________
(25/187)
الساعة يكون قريبا من الشمس فيكون نوره قليلا وتكون حمرة شعاع الشمس مانعا له بعض المنع فكلما انخفض إلى الافق بعد عن الشمس فيقوى شرط الرؤية ويبقى مانعها فيكثر نوره ويبعد عن شعاع الشمس فاذا ظن انه لا يرى وقت الغروب او عقبه فانه يرى بعد ذلك ولو عند هوية في المغرب وان قال أنه يضبط حاله من حين وجوب الشمس إلى حين وجوبه فانما يمكنه ان يضبط عدد تلك الدرجات لانه يبقى مرتفعا بقدر ما بينهما من البعد اما مقدار ما يحصل فيه من الضوء وما يزول من الشعاع المانع له فان بذلك تحصل الرؤية بضبطه على وجه واحد يصح مع الرؤية دائما او يمتنع دائما فهذا لا يقدر عليه ابدا وليس هو فى نفسه شيئا منضبطا خصوصا اذا كانت الشمس
السبب الخامس صفاء الجو وكدره لست اعني اذا كان هناك حائل يمنع الرؤية كالغيم والقتر الهائج من الادخنة والابخرة وانما اذا كان الجو بحيث يمكن فيه رؤيته امكن من بعض اذا كان الجو صافيا من كل كدر فى مثل ما يكون فى الشتاء عقب الامطار فى البرية الذي ليس فيه بخار بخلاف ما اذا كان فى الجو بخار بحيث لا يمكن
____________________
(25/188)
فيه رؤيته كنحو ما يحصل فى الصيف بسبب الابخرة والادخنة فانه لا يمكن رؤيته في مثل ذلك كما يمكن فى مثل صفاء الجو
وأما صحة مقابلته ومعرفة مطلعه ونحو ذلك فهذا من الامور التى يمكن المترائي ان يتعلمها او يتحراه فقد يقال هو شرط الرؤية كالتحديق نحو المغرب خلف الشمس فلم نذكره في اسباب اختلاف الرؤية وانما ذكرنا ما ليس فى مقدور المترائين الاحاطة من صفة الابصار واعدادها ومكان الترائى وزمانه وصفاء الجو وكدره
فإذا كانت الرؤية حكما تشترك فيه هذه الاسباب التى ليس شيء منها داخلا فى حساب الحاسب فكيف يمكنه مع ذلك يخبر خبرا عاما انه لا يمكن ان يراه احد حيث رآه على سبع او ثمان درجات او تسع ام كيف يمكنه يخبر خبرا جزما انه يرى اذا كان على تسعة او عشرة مثلا
ولهذا تجدهم مختلفين فى قوس الرؤية كم ارتفاعه منهم من يقول تسعة ونصف ومنهم من يقول ويحتاجون أن يفرقوا بين الصيف
____________________
(25/189)
والشتاء اذا كانت الشمس في البروج الشمالية مرتفعة او فى البروج الجنوبية منخفضة فتبين بهذا البيان ان خبرهم بالرؤية من جنس خبرهم بالاحكام واضعف
وذلك أنه هب انه قد ثبت ان الحركات العلوية سبب الحوادث الارضية فان هذا القدر لا يمكن المسلم ان يجزم بنفيه اذ الله سبحانه جعل بعض المخلوقات اعيانها وصفاتها وحركاتها سببا لبعض وليس فى هذا ما يحيله شرع ولا عقل لكن المسلمون قسمان
منهم من يقول هذا لا دليل على ثبوته فلا يجوز القول به فانه قول بلا علم
وآخر يقول بل هو ثابت فى الجملة لأنه قد عرف بعضه بالتجربة ولأن الشريعة دلت على ذلك بقوله ( ان الشمس والقمر لا يخسفان لموت احد ولا لحياته لكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده ( والتخويف انما يكون بوجود سبب الخوف فعلم ان كسوفهما قد يكون سببا لأمر مخوف وقوله ( لا يخسفان لموت احد ولا لحياته ( رد لما توهمه بعض الناس فان الشمس خسفت يوم موت ابراهيم فاعتقد بعض الناس أنها خسفت من اجل موته تعظيما لموته وان موته سبب خسوفها فاخبر النبى
____________________
(25/190)
انه لا ينخسف لاجل انه مات احد ولا لأجل انه حيي احد
وهذا كما في الصحيحين عن بن عباس قال حدثنى رجال من الأنصار انهم كانوا عند النبى صلى الله عليه وسلم فرمي بنجم فاستنار فقال ( ما كنتم تقولون لهذا فى الجاهلية ( فقالوا كنا نقول ولد الليلة عظيم او مات عظيم فقال ( انه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن الله اذا قضى بالقضاء سبح حملة العرش ( الحديث فأخبر النبى أن الشهب التى يرجم بها لا يكون عن سبب حدث فى الارض وانما يكون عن أمر حدث فى السماء وان الرمي بها لطرد الشياطين المسترقة
وكذلك الشمس والقمر هما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده كما قال الله ( وما نرسل بالآيات الا تخويفا ( فعلم ان هذه الآيات السماوية قد تكون سبب عذاب ولهذا شرع النبى عند وجود سبب الخوف ما يدفعه من الاعمال الصالحة فأمر بصلاة الكسوف الصلاة الطويلة وامر بالعتق والصدقة وأمر بالدعاء والاستغفار كما قال ( ان البلاء والدعاء
____________________
(25/191)
ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والارض ( فالدعاء ونحوه يدفع البلاء النازل من السماء
فإن قلت من عوام الناس وان كان منتسبا إلى علم من يجزم بان الحركات العلوية ليست سببا لحدوث أمر البتة وربما اعتقد ان تجويز ذلك واثباته من جملة التنجيم المحرم الذى قال فيه النبى ( من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ( رواه ابو داود وغيره وربما احتج بعضهم بما فهمه من قوله ( لا يكسفان لموت احد ولا لحياته ( وإعتقد ان العلة هنا هي العلة الغائية أي لا يكسفان ليحدث عن ذلك موت او حياة
قلت قول هذا جهل لأنه قول بلا علم وقد حرم الله على الرجل أن ينفى ما ليس له به علم وحرم عليه ان يقول على الله ما لا يعلم واخبر ان الذى يأمر بالقول بغير علم هو الشيطان فقال ( ولا تقف ما ليس لك به علم ( وقال ( انما يأمركم بالسوء والفحشاء وان تقولوا على الله ما لا تعلمون ( وقال ( قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون ( فانه ليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله ولا قال احد من أهل العلم ذلك
____________________
(25/192)
ولا فى العقل وما يعلم بالعقل ما يعلم به نفى ذلك وانما نفى ذلك جزما بغير مثل نفى بعض الجهال ان تكون الافلاك مستديرة فمنهم من ينفى ذلك جزما ومنهم من ينفى الجزم به على كل احد وكلاهما جهل فمن اين له نفى ذلك او نفى العلم به عن جميع الخلق ولا دليل له على ذلك إلا ما قد يفهمه بفهمه الناقص
هذا وقد ثبت بالكتاب والسنة واجماع علماء الامة ان الافلاك مستديرة قال الله تعالى ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ( وقال ( وهو الذى خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون ( وقال تعالى ( لا الشمس ينبغى لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون (
قال إبن عباس فى فلكة مثل فلكة المغزل وهكذا هو فى لسان العرب الفلك الشيء المستدير ومنه يقال تفلك ثدى الجارية اذا استدار قال تعالى ( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ( والتكوير هو التدوير ومنه قيل كار العمامة وكورها اذا ادارها ومنه قيل للكرة كرة وهى الجسم المستدير ولهذا يقال للأفلاك كروية الشكل لأن أصل الكرة كورة تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت الفا وكورت الكارة اذا دورتها ومنه الحديث ( ان الشمس والقمر يكوران يوم القيامة
____________________
(25/193)
كانهما ثوران فى نار جهنم ( وقال تعالى ( الشمس والقمر بحسبان ( مثل حسبان الرحا
وقال ( ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت ( وهذا انما يكون فيما يستدير من اشكال الاجسام دون المضلعات من المثلث او المربع او غيرهما فانه يتفاوت لان زواياه مخالفة لقوائمه والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحى ليس بعضه مخالفا لبعض
وقال النبى للاعرابى الذى قال انا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فقال ( ويحك ان الله لا يستشفع به على احد من خلقه ان شأنه اعظم من ذلك ان عرشه على سمواته هكذا ( وقال بيده مثل القبة ( وانه ليئط به اطيط الرحل الجديد براكبه ( رواه ابو داود وغيره من حديث جبير بن مطعم عن النبى وفى الصحيحين عن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( اذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فانها اعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن ( فقد أخبر ان الفردوس هي الأعلى والأوسط وهذا لا يكون الا فى الصورة المستديرة فاما المربع ونحوه فليس أوسطه أعلاه بل هو متساو
وأما إجماع العلماء فقال اياس بن معاوية الامام المشهور قاضى
____________________
(25/194)
البصرة من التابعين السماء على الأرض مثل القبة
وقال الامام ابو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي من اعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار فى فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من اصحاب احمد لا خلاف بين العلماء ان السماء على مثال الكرة وانها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدورة الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين احدهما فى ناحية الشمال والآخر فى ناحية الجنوب قال ويدل على ذلك ان الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد فى حركاتها ومقادير أجزائها إلى ان تتوسط السماء ثم تنحدرعلى ذلك الترتيب كأنها ثابتة فى كرة تديرها جميعها دورا واحدا قال وكذلك أجمعوا على ان الارض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة قال ويدل عليه ان الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الارض فى وقت واحد بل على المشرق قبل المغرب
قال فكرة الارض مثبتة فى وسط كرة السماء كالنقطة فى الدائرة يدل على ذلك ان جرم كل كوكب يرى فى جميع نواحى السماء على قدر واحد فيدل ذلك على بعد ما بين السماء والارض من جميع
____________________
(25/195)
الجهات بقدر واحد فاضطرار ان تكون الارض وسط السماء
وقد يظن بعض الناس أن ما جاءت به الآثار النبوية من ان العرش سقف الجنة وان الله على عرشه مع ما دلت عليه من ان الافلاك مستديرة متناقض او مقتض ان يكون الله تحت بعض خلقه كما احتج بعض الجهمية على انكار ان يكون الله فوق العرش باستدارة الافلاك وان ذلك مستلزم كون الرب اسفل وهذا من غلطهم فى تصور الامر ومن علم ان الافلاك مستديرة
وان المحيط الذى هو السقف هو اعلى عليين وان المركز الذي هو باطن ذلك وجوفه وهو قعر الارض هو ( سجين ( واسفل سافلين ( علم من مقابلة الله بين اعلى عليين وبين سجين مع ان المقابلة انما تكون فى الظاهر بين العلو والسفل او بين السعة والضيق وذلك لان العلو مستلزم للسعة والضيق مستلزم للسفول وعلم ان السماء فوق الارض مطلقا لا يتصور ان تكون تحتها قط وان كانت مستديرة محيطة وكذلك كلما علا كان ارفع واشمل
وعلم ان الجهة قسمان قسم ذاتى وهو العلو والسفول فقط وقسم اضافى وهو ما ينسب إلى الحيوان بحسب حركته فما امامه
____________________
(25/196)
يقال له امام وما خلفه يقال له خلف وما عن يمينه يقال له اليمين وما عن يسرته يقال له اليسار وما فوق رأسه يقال له فوق وما تحت قدميه يقال له تحت وذلك امر اضافي ارأيت لو ان رجلا علق رجليه إلى السماء ورأسه إلى الارض اليست السماء فوقه وان قابلها برجليه وكذلك النملة او غيرها لو مشى تحت السقف مقابلا له برجليه وظهره إلى الارض لكان العلو محاذيا لرجليه وان كان فوقه واسفل سافلين ينتهى إلى جوف الارض
والكواكب التى فى السماء وان كان بعضها محاذيا لرؤوسنا وبعضها فى النصف الآخر من الفلك فليس شيء منها تحت شيء بل كلها فوقنا في السماء ولما كان الانسان اذا تصور هذا يسبق إلى وهمه السفل الاضافى كما احتج به الجهمى الذى انكر علو الله على عرشه وخيل على من لا يدرى أن من قال ان الله فوق العرش فقد جعله تحت نصف المخلوقات او جعله فلكا آخر تعالى الله عما يقول الجاهل
فمن ظن أنه لازم لاهل الاسلام من الامور التى لا تليق بالله ولا هي لازمة بل هذا يصدقه الحديث الذي رواه أحمد فى مسنده من حديث الحسن عن ابي هريرة ورواه الترمذى فى حديث الادلاء
____________________
(25/197)
فان الحديث يدل على ان الله فوق العرش ويدل على احاطة العرش وكونه سقف المخلوقات
ومن تأوله على قوله هبط على علم الله كما فعل الترمذى لم يدر كيف الامر ولكن لما كان من اهل السنة وعلم ان الله فوق العرش ولم يعرف صورة المخلوقات وخشى ان يتأوله الجهمي انه مختلط بالخلق قال هكذا والا فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كله حق يصدق بعضه بعضا
وما علم بالمعقول من العلوم الصحيحة يصدق ما جاء به الرسول ويشهد له فنقول اذا تبين انا نعرف ما قد عرف من استدارة الافلاك علم ان المنكر له مخالف لجميع الأدلة لكن المتوقف فى ذلك قبل البيان فعل الواجب وكذلك من لم يزل يستفيد ذلك من جهة لا يثق بها فان النبى صلى الله عليه وسلم قال ( اذا حدثكم اهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ( وان كون بعض الحركات العالية سبب لبعض الحوادث مما لا ينكر بل اما أن يقبل او لا يرد
فالقول بالاحكام النجومية باطل عقلا محرم شرعا وذلك ان حركة الفلك وان كان لها أثر ليست مستقلة بل تأثير الأرواح وغيرها
____________________
(25/198)
من الملائكة اشد من تأثيره وكذلك تأثير الاجسام الطبيعية التى فى الارض وكذلك تأثير قلوب الآدميين بالدعاء وغيره من اعظم المؤثرات باتفاق المسلمين وكالصابئة المشتغلين باحكام النجوم وغيرهم من سائر الأمم فهو فى الامر العام جزء السبب وان فرضنا انه سبب مستقل او انه مستلزم لتمام السبب فالعلم به غير ممكن لسرعة حركته وان فرض العلم به فمحل تأثيره لا ينضبط اذ ليس تأثير خسوف الشمس في الاقليم الفلانى بأولى من الاقليم الآخر وان فرض انه سبب مستقل قد حصل بشروطه وعلم به فلا ريب ان ما يصغر من الاعمال الصالحة من الصلاة والزكاة والصيام والحج وصلة الارحام ونحو ذلك مما أمرت به الشريعة يعارض مقتضى ذلك السبب ولهذا امرنا النبى بالصلاة والدعاء والاستغفار والعتق والصدقة عند الخسوف واخبر ان الدعاء والبلاء يلتقيان فيعتلجان بين السماء والارض
والمنجمون يعترفون بذلك حتى قال كبيرهم ( بطليموس ( ضجيج الاصوات فى هياكل العبادات بفنون الدعوات من جميع اللغات يحلل ما عقدته الافلاك الدائرات فصار ما جاءت به الشريعة ان حدث سبب خير كان ذلك الصلاة والزكاة يقويه ويؤيده وان حدث سبب شر كان ذلك العمل يدفعه وكذلك استخارة العبد لربه اذا هم بأمر كما
____________________
(25/199)
امر النبى صلى الله عليه وسلم بقوله ( اذا هم احدكم بالامر فليركع ركعتين ( الحديث فهذه الاستخارة لله العليم القدير خالق الاسباب والمسببات خير من ان يأخذ الطالع فيما يريد فعله فان الاختيار غايته تحصيل سبب واحد من اسباب النجح ان صح والاستخارة اخذ للنجح من جميع طرقه فان الله يعلم الخيرة فاما ان يشرح صدر الانسان وييسر الاسباب او يعسرها ويصرفه عن ذلك
وقد قال النبى ( من اتى عرافا فسأله ( الحديث رواه مسلم من حديث صفية بنت ابي عبيد عن بعض ازواج النبى والعراف يعم المنجم وغيره إما لفظا واما معنى وقال ( من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ( رواه ابو داود وبن ماجه فقد تبين تحريم الأخذ بأحكام النجوم علما او عملا من جهة الشرع وقد بينا من جهة العقل ان ذلك ايضا متعذر فى الغالب لأن أسباب الحوادث وشروطها وموانعها لا تضبط بضبط حركة بعض الامور وانما يتفق الاصابة فى ذلك اذا كان بقية الاسباب موجودة والموانع مرتفعة لا ان ذلك عن دليل مطرد لازما او غالبا
وحذاق المنجمين يوافقون على ذلك ويعرفون ان طالع البلاد لا
____________________
(25/200)
يستقيم الحكم به غالبا لمعارضة طالع لوقت وغيره من الموانع ويقولون إن الأحكام مبناها على الحدس والوهم فنبين لهم ان قولهم فى رؤية الهلال وفى الاحكام من باب واحد يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك والاستغناء عما نظن من منفعته بما بعث الله به محمدا من الكتاب والحكمة ولهذا قال من قال ان كلام هؤلاء بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وان بعض الظن إثم ولقد صدق
فإن الانسان الحاسب اذا قتل نفسه فى حساب الدقائق والثوانى كان غايته ما لا يفيد وانما تعبوا عليه لأجل الأحكام وهى ظنون كاذبة
أما الكلام فى الشرعيات فان كان علما كان فيه منفعة الدنيا والآخرة وان كان ظنا مثل الحكم بشهادة الشاهدين او العمل بالدليل الظنى الراجح فهو عمل بعلم وهو ظن يثاب عليه فى الدنيا والآخرة فالحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا ان هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق آخر ما وجد وصلى الله على محمد وآله وسلم
____________________
(25/201)
وسئل شيخ الاسلام رحمه الله
عن أهل مدينة رأى بعضهم هلال ذى الحجة ولم يثبت عند حاكم المدينة فهل لهم ان يصوموا اليوم الذى فى الظاهر التاسع وان كان فى الباطن العاشر
فأجاب نعم يصومون التاسع فى الظاهر المعروف عند الجماعة وان كان فى نفس الأمر يكون عاشرا ولو قدر ثبوت تلك الرؤية فان فى السنن عن ابي هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون واضحاكم يوم تضحون ( اخرجه ابو داود وبن ماجه والترمذى وصححه وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت قال رسول الله ( الفطر يوم يفطر الناس والاضحى يوم يضح الناس ( رواه الترمذى وعلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم
فإن الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأ أجزأهم الوقوف
____________________
(25/202)
بالاتفاق وكان ذلك اليوم يوم عرفة فى حقهم
ولو وقفوا الثامن خطأ ففى الاجزاء نزاع والاظهر صحة الوقوف ايضا وهو احد القولين فى مذهب مالك ومذهب أحمد وغيره
قالت عائشة رضي الله عنها ( انما عرفة اليوم الذى يعرفه الناس ( وأصل ذلك أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بالهلال والشهر فقال تعالى ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ( والهلال اسم لما يستهل به أي يعلن به ويجهر به فاذا طلع فى السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالا
وكذا الشهر مأخوذ من الشهرة فان لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل وإنما يغلط كثير من الناس فى مثل هذه المسألة لظنهم انه اذا طلع فى السماء كانت تلك الليلة أول الشهر سواء ظهر ذلك للناس واستهلوا به أولا وليس كذلك بل ظهوره للناس واستهلالهم به لابد منه ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ( صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون ( اي هذا اليوم الذي تعلمون انه وقت الصوم والفطر والأضحى فاذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم وصوم اليوم الذى يشك فيه هل هو تاسع ذي الحجة أو عاشر ذي الحجة جائز بلا نزاع بين العلماء
____________________
(25/203)
لأن الأصل عدم العاشر كما انهم لو شكوا ليلة الثلاثين من رمضان هل طلع الهلال ام لم يطلع فانهم يصومون ذلك اليوم المشكوك فيه باتفاق الأئمة وانما يوم الشك الذى رويت فيه الكراهة الشك فى اول رمضان لأن الاصل بقاء شعبان
وإنما الذى يشتبه فى هذا الباب مسألتان إحداهما لو رأى هلال شوال وحده او اخبره به جماعة يعلم صدقهم هل يفطر ام لا
والثانية لو رأى هلال ذي الحجة او أخبره جماعة يعلم صدقهم هل يكون فى حقه يوم عرفة ويوم النحر هو التاسع والعاشر بحسب هذه الرؤية التى لم تشتهر عند الناس أو هو التاسع والعاشر الذى اشتهر عند الناس
فأما المسألة الأولى فالمنفرد برؤية هلال شوال لا يفطر علانية باتفاق العلماء الا ان يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر وهل يفطر سرا على قولين للعلماء اصحهما لا يفطر سرا وهو مذهب مالك واحمد فى المشهور فى مذهبهما
وفيهما قول انه يفطر سرا كالمشهور فى مذهب ابي حنيفة
____________________
(25/204)
والشافعى وقد روى ان رجلين فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأيا هلال شوال فأفطر احدهما ولم يفطر الآخر فلما بلغ ذلك عمر قال للذى افطر لولا صاحبك لأوجعتك ضربا
والسبب فى ذلك ان الفطر يوم يفطر الناس وهو يوم العيد والذي صامه المنفرد برؤية الهلال ليس هو يوم العيد الذى نهى النبى عن صومه فانه نهى عن صوم يوم الفطر ويوم النحر وقال ( أما أحدهما فيوم فطركم من صومكم واما الآخر فيوم تأكلون فيه من نسككم ( فالذى نهى عن صومه هو اليوم الذى يفطره المسلمون وينسك فيه المسلمون
وهذا يظهر بالمسألة الثانية فانه لو انفرد برؤية ذي الحجة لم يكن له ان يقف قبل الناس فى اليوم الذي هو فى الظاهر الثامن وان كان بحسب رؤيته هو التاسع وهذا لأن فى انفراد الرجل فى الوقوف والذبح من مخالفة الجماعة ما فى إظهاره للفطر
وأما صوم يوم التاسع فى حق من رأى الهلال او اخبره ثقتان انهما رأيا الهلال وهو العاشر بحسب ذلك ولم يثبت ذلك عند العامة وهو العاشر بحسب الرؤية الخفية فهذا يخرج على ما تقدم
____________________
(25/205)
فمن امره بالصوم يوم الثلاثين الذى هو بحسب الرؤية الخفية من شوال ولم يأمره بالفطر سرا سوغ له صوم هذا اليوم واستحبه لأن هذا هو يوم عرفة كما ان ذلك من رمضان وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة والاعتبار
ومن أمره بالفطر سرا لرؤيته نهاه عن صوم هذا اليوم عند هذا القائل كهلال شوال الذي انفرد برؤيته
فإن قيل قد يكون الامام الذى فوض إليه اثبات الهلال مقصرا لرده شهادة العدول إما لتقصيره فى البحث عن عدالتهم واما رد شهادتهم لعداوة بينه وبينهم او غير ذلك من الاسباب التى ليست بشرعية او لاعتماده على قول المنجم الذي زعم انه لا يرى
قيل ما يثبت من الحكم لا يختلف الحال فيه بين الذي يؤتم به فى رؤية الهلال مجتهدا مصيبا كان أو مخطئا أو مفرطا فانه اذا لم يظهر الهلال ويشتهر بحيث يتحرى الناس فيه وقد ثبت فى الصحيح ان النبى قال فى الأئمة ( يصلون لكم فان اصابوا فلكم ولهم وان اخطأوا فلكم وعليهم ( فخطؤه وتفريطه عليه لا على المسلمين الذين لم يفرطوا ولم يخطئوا
____________________
(25/206)
ولا ريب انه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة انه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم كما ثبت عنه فى الصحيحين انه قال ( انا امة امية لا نكتب ولا نحسب صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (
والمعتمد على الحساب فى الهلال كما انه ضال فى الشريعة مبتدع فى الدين فهو مخطئ فى العقل وعلم الحساب فان العلماء بالهيئة يعرفون ان الرؤية لا تنضبط بأمر حسابى وانما غاية الحساب منهم اذا عدل ان يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلا لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة فانها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله وارتفاع المكان الذى يتراءى فيه الهلال وانخفاضه وباختلاف صفاء الجو وكدره وقد يراه بعض الناس لثمان درجات وآخر لا يراه لثنتى عشر درجة ولهذا تنازع اهل الحساب فى قوس الرؤية تنازعا مضطربا وأئمتهم كبطليموس لم يتكلموا فى ذلك بحرف لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابى
وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم مثل كوشيار الديلمي وامثاله لما رأوا الشريعة علقت الاحكام بالهلال فرأوا الحساب طريقا تنضبط فيه
____________________
(25/207)
الرؤية وليست طريقة مستقيمة ولا معتدلة بل خطؤها كثير وقد جرب وهم يختلفون كثيرا هل يرى ام لا يرى
وسبب ذلك انهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب فأخطأوا طريق الصواب وقد بسطت الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع وبينت ان ما جاء به الشرع الصحيح هو الذى يوافقه العقل الصريح كما تكلمت على حد اليوم أيضا وبينت انه لا ينضبط بالحساب لأن اليوم يظهر بسبب الأبخرة المتصاعدة
فمن أراد ان يأخذ حصة العشاء من حصة الفجر إنما يصح كلامه لو كان الموجب لظهور النور وخفائه مجرد محاذاة الأفق التى تعلم بالحساب
فأما إذا كان للأبخرة فى ذلك تأثير والبخار يكون فى الشتاء والارض الرطبة اكثر مما يكون فى الصيف والأرض اليابسة وكان ذلك لا ينضبط بالحساب فسدت طريقة القياس الحسابى
ولهذا توجد حصة الفجر فى زمان الشتاء اطول منها فى زمان الصيف والآخذ بمجرد القياس الحسابى يشكل عليه ذلك لأن حصة الفجر عنده تتبع النهار وهذا ايضا مبسوط فى موضعه والله سبحانه اعلم وصلى الله على محمد
____________________
(25/208)
وسئل رحمه الله
عن المسافر فى رمضان ومن يصوم ينكر عليه وينسب إلى الجهل ويقال له الفطر أفضل وما هو مسافة القصر وهل اذا أنشأ السفر من يومه يفطر وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر وما الفرق بين سفر الطاعة وسفر المعصية
فأجاب الحمد لله الفطر للمسافر جائز بإتفاق المسلمين سواء كان سفر حج أو جهاد أو تجارة أو نحو ذلك من الأسفار التى لا يكرهها الله ورسوله
وتنازعوا فى سفر المعصية كالذى يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك على قولين مشهورين كما تنازعوا فى قصر الصلاة
فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة فانه يجوز فيه الفطر مع القضاء
____________________
(25/209)
باتفاق الأئمة
ويجوز الفطر للمسافر بإتفاق الأمة سواء كان قادرا على الصيام أو عاجزا وسواء شق عليه الصوم او لم يشق بحيث لو كان مسافرا في الظل والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر
ومن قال ان الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام فانه يستتاب فان تاب والا قتل وكذلك من أنكر على المفطر فانه يستتاب من ذلك
ومن قال إن المفطر عليه إثم فانه يستتاب من ذلك فان هذه الأحوال خلاف كتاب الله وخلاف سنة رسول الله وخلاف اجماع الامة
وهكذا السنة للمسافر أنه يصلى الرباعية ركعتين والقصر افضل له من التربيع عند الأئمة الأربعة كمذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد والشافعى فى أصح قوليه
ولم تتنازع الامة فى جواز الفطر للمسافر بل تنازعوا فى جواز الصيام للمسافر فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم فى
____________________
(25/210)
السفر كالمفطر فى الحضر وأنه إذا صام لم يجزه بل عليه ان يقضي ويروى هذا عن عبد الرحمن بن عوف وابي هريرة وغيرهما من السلف وهو مذهب اهل الظاهر وفى الصحيحين عن النبى انه قال ( ليس من البر الصوم فى السفر ( لكن مذهب الأئمة الأربعة انه يجوز للمسافر ان يصوم وان يفطر كما فى الصحيحين عن انس قال ( كنا نسافر مع النبى صلى الله عليه وسلم فى رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ( وقد قال الله تعالى ( فمن كان منكم مريضا او على سفر فعدة من ايام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ( وفى المسند عن النبى انه قال ( ان الله يحب ان يؤخذ برخصه كما يكره ان تؤتى معصيته ( وفى الصحيح ان رجلا قال للنبى انى رجل اكثر الصوم أفأصوم فى السفر فقال ( ان أفطرت فحسن وان صمت فلا بأس ( وفى حديث آخر ( خياركم الذين فى السفر يقصرون ويفطرون (
واما مقدار السفر الذي يقصر فيه ويفطر فمذهب مالك والشافعي واحمد انه مسيرة يومين قاصدين بسير الابل والاقدام وهو ستة عشر فرسخا كما بين مكة وعسفان ومكة وجدة وقال ابو حنيفة مسيرة
____________________
(25/211)
ثلاثة أيام وقال طائفة من السلف والخلف بل يقصر ويفطر فى أقل من يومين وهذا قول قوي فانه قد ثبت أن النبى كان يصلى بعرفة ومزدلفة ومنى يقصر الصلاة وخلفه اهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته لم يأمر أحدا منهم بإتمام الصلاة
وإذا سافر فى أثناء يوم فهل يجوز له الفطر على قولين مشهورين للعلماء هما روايتان عن احمد
أظهرهما أنه يجوز ذلك كما ثبت فى السنن ان من الصحابة من كان يفطر اذا خرج من يومه ويذكر ان ذلك سنة النبى وقد ثبت فى الصحيح عن النبى انه نوى الصوم فى السفر ثم انه دعا بماء فأفطر والناس ينظرون إليه
وأما اليوم الثانى فيفطر فيه بلا ريب وان كان مقدار سفره يومين فى مذهب جمهور الأئمة والامة
وأما اذا قدم المسافر فى اثناء يوم ففى وجوب الامساك عليه نزاع مشهور بين العلماء لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك
____________________
(25/212)
ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوى إليه كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام وغيره من السلع وكالمكارى الذي يكرى دوابه من الجلاب وغيرهم وكالبريد الذى يسافر فى مصالح المسلمين ونحوهم وكذلك الملاح الذي له مكان فى البر يسكنه
فأما من كان معه فى السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر ولا يفطر
وأهل البادية كأعراب العرب والاكراد والترك وغيرهم الذين يشتون فى مكان ويصيفون فى مكان اذا كانوا فى حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف ومن المصيف إلى المشتى فانهم يقصرون واما اذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يفطروا ولم يقصروا وان كانوا يتتبعون المراعى والله أعلم
وسئل رحمه الله
عمن يكون مسافرا فى رمضان ولم يصبه جوع ولا عطش ولا تعب فما الافضل له الصيام ام الافطار
____________________
(25/213)
فأجاب أما المسافر فيفطر بإتفاق المسلمين وان لم يكن عليه مشقة والفطر له افضل وان صام جاز عند اكثر العلماء
ومنهم من يقول لا يجزئه
وسئل
عن إمام جماعة بمسجد مذهبه حنفى ذكر لجماعته ان عنده كتابا فيه ان الصيام فى شهر رمضان اذا لم ينو بالصيام قبل عشاء الآخرة او بعدها او وقت السحور وإلا فماله فى صيامه أجر فهل هذا صحيح ام لا
فأجاب الحمد لله على كل مسلم يعتقد ان الصوم واجب عليه وهو يريد ان يصوم شهر رمضان النية فاذا كان يعلم أن غدا من رمضان فلابد ان ينوى الصوم فان النية محلها القلب وكل من علم ما يريد فلابد أن ينويه
والتكلم بالنية ليس واجبا باجماع المسلمين فعامة المسلمين انما يصومون بالنية وصومهم صحيح بلا نزاع بين العلماء والله أعلم
____________________
(25/214)
وسئل شيخ الاسلام
ما يقول سيدنا فى صائم رمضان هل يفتقر كل يوم إلى نية ام لا
فأجاب كل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى صومه سواء تلفظ بالنية او لم يتلفظ وهذا فعل عامة المسلمين كلهم ينوى الصيام
وسئل
عن غروب الشمس هل يجوز للصائم ان يفطر بمجرد غروبها
فأجاب اذا غاب جميع القرص افطر الصائم ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية فى الافق
____________________
(25/215)
وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق كما قال النبى ( اذا اقبل الليل من ها هنا وادبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم (
وسئل
عما إذا أكل بعد أذان الصبح فى رمضان ماذا يكون
فأجاب الحمد لله أما اذا كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر كما كان بلال يؤذن قبل طلوع الفجر على عهد النبى وكما يؤذن المؤذنون في دمشق وغيرها قبل طلوع الفجر فلا بأس بالأكل والشرب بعد ذلك بزمن يسير
وإن شك هل طلع الفجر او لم يطلع فله ان يأكل ويشرب حتى يتبين الطلوع ولوعلم بعد ذلك انه اكل بعد طلوع الفجر ففى وجوب القضاء نزاع
والأظهر أنه لا قضاء عليه وهو الثابت عن عمر وقال به طائفة
____________________
(25/216)
من السلف والخلف والقضاء هو المشهور فى مذهب الفقهاء الاربعة والله أعلم
وسئل
عن رجل كلما أراد ان يصوم اغمى عليه ويزبد ويخبط فيبقى اياما لا يفيق حتى يتهم انه جنون ولم يتحقق ذلك منه
فأجاب الحمد لله ان كان الصوم يوجب له مثل هذا المرض فانه يفطر ويقضى فان كان هذا يصيبه فى أي وقت صام كان عاجزا عن الصيام فيطعم عن كل يوم مسكينا والله اعلم
وسئل رحمه الله
عن امرأة حامل رأت شيئا شبه الحيض والدم مواظبها وذكر القوابل ان المرأة تفطر لأجل منفعة الجنين ولم يكن بالمرأة الم فهل
____________________
(25/217)
يجوز لها الفطر ام لا
فأجاب ان كانت الحامل تخاف على جنينها فانها تفطر وتقضى عن كل يوم يوما وتطعم عن كل يوم مسكينا رطلا من خبز بأدمه والله أعلم
____________________
(25/218)
وقال شيخ الاسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ونشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما فصل
فيما يفطر الصائم وما لا يفطره
وهذا نوعان منه ما يفطر بالنص والاجماع وهو الاكل والشرب والجماع قال تعالى ( فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم
____________________
(25/219)
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم اتموا الصيام إلى الليل ( فأذن فى المباشرة فعقل من ذلك ان المراد الصيام من المباشرة والاكل والشرب ولما قال أولا
( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ( كان معقولا عندهم ان الصيام هو الامساك عن الاكل والشرب والجماع ولفظ ( الصيام ( كانوا يعرفونه قبل الاسلام ويستعملونه كما في الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها ( ان يوم عاشوراء كان يوما تصومه قريش فى الجاهلية (
وقد ثبت عن غير واحد أنه قبل أن يفرض شهر رمضان أمر بصوم يوم عاشوراء وأرسل مناديا ينادى بصومه فعلم أن مسمى هذا الإسم كان معروفا عندهم
وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين ان دم الحيض ينافى الصوم فلا تصوم الحائض لكن تقضى الصيام
وثبت بالسنة ايضا من حديث لقيط بن صبرة ان النبى قال له ( وبالغ فى الاستنشاق الا أن تكون صائما ( فدل على ان انزال الماء من الانف يفطر الصائم وهو قول جماهير العلماء
____________________
(25/220)
وفى السنن حديثان ( أحدهما ( حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء وان استقاء فليقض ( وهذا الحديث لم يثبت عند طائفة من اهل العلم بل قالوا هو من قول ابي هريرة قال ابو داود سمعت أحمد بن حنبل قال ليس من ذا شيء قال الخطابى يريد ان الحديث غير محفوظ وقال الترمذى سألت محمد بن إسماعيل البخارى عنه فلم يعرفه الا عن عيسى بن يونس قال وما اراه محفوظا قال وروى يحيى بن كثير عن عمر بن الحكم ان ابا هريرة كان لا يرى القيء يفطر الصائم
قال الخطابى وذكر ابو داود ان حفص بن غياث رواه عن هشام كما رواه عيسى بن يونس قال ولا اعلم خلافا بين اهل العلم فى ان من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه ولا فى ان من استقاء عامدا فعليه القضاء ولكن إختلفوا فى الكفارة فقال عامة اهل العلم ليس عليه غير القضاء وقال عطاء عليه القضاء والكفارة وحكى عن الأوزاعى وهو قول ابى ثور
____________________
(25/221)
( قلت )
وهو مقتضى احدى الروايتين عن احمد فى ايجابه الكفارة على المحتجم فانه اذا اوجبها على المحتجم فعلى المستقيء اولى لكن ظاهر مذهبه ان الكفارة لا تجب بغير الجماع كقول الشافعى
والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه وقد اشاروا إلى علته وهو انفراد عيسى بن يونس وقد ثبت انه لم ينفرد به بل وافقه عليه حفص بن غياث والحديث الاخير يشهد له وهو ما رواه احمد واهل السنن كالترمذى عن ابي الدرداء ( ان النبى قاء فافطر ( فذكرت ذلك لثوبان فقال صدق أنا صببت له وضوءا لكن لفظ احمد ( ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ ( رواه احمد عن حسين المعلم
قال الأثرم قلت لأحمد قد اضطربوا فى هذا الحديث فقال حسين المعلم يجوده وقال الترمذى حديث حسين أرجح شيء فى هذا الباب وهذا قد استدل به على وجوب الوضوء من القيء ولا يدل على ذلك فانه اذا أراد بالوضوء الوضوء الشرعى فليس فيه الا انه توضأ والفعل المجرد لا يدل على الوجوب بل يدل على ان الوضوء من ذلك مشروع فاذا قيل انه مستحب كان فيه عمل بالحديث
____________________
(25/222)
وكذلك ما روى عن بعض الصحابة من الوضوء من الدم الخارج ليس فى شيء منه دليل على الوجوب بل يدل على الاستحباب وليس فى الادلة الشرعية ما يدل على وجوب ذلك كما قد بسط فى موضعه بل قد روى الدارقطنى وغيره عن حميد عن انس قال احتجم رسول الله ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه ورواه بن الجوزي في ( حجة المخالف ( ولم يضعفه وعادته الجرح بما يمكن
وأما الحديث الذي يروى ( ثلاث لا تفطر القيء والحجامة والاحتلام ( وفى لفظ ( لا يفطرن لا من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم ( فهذا اسناده الثابت ما رواه الثوري وغيره عن زيد بن اسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من اصحاب النبى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا رواه ابو داود وهذا الرجل لا يعرف وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن اسلم عن ابيه عن عطاء عن ابى سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم لكن عبد الرحمن ضعيف عند اهل العلم بالرجال ( قلت ) روايته عن زيد من وجهين مرفوعا لا يخالف روايته
____________________
(25/223)
المرسلة بل يقويها والحديث ثابت عن زيد بن اسلم لكن هذا فيه ( اذا ذرعه القيء (
وأما حديث الحجامة فاما ان يكون منسوخا واما ان يكون ناسخا لحديث بن عباس ( انه احتجم وهو محرم صائم ( ايضا ولعل فيه القيء ان كان متناولا للاستقاءة هو ايضا منسوخ وهذا يؤيد ان النهى عن الحجامة هو المتأخر فانه اذا تعارض نصان ناقل وباق على الاستصحاب فالناقل هو الراجح فى انه الناسخ ونسخ احدهما يقوى نسخ قرينه ورواه غير واحد عن زيد بن اسلم مرسلا وقال يحيى بن معين حديث زيد بن اسلم ليس بشيء ولو قدر صحته لكان المراد من ذرعه القيء فانه قرنه بالاحتلام ومن احتلم بغير اختياره كالنائم لم يفطر باتفاق الناس
واما من استمنى فأنزل فانه يفطر ولفظ الاحتلام انما يطلق على من احتلم فى منامه
وقد ظن طائفة ان القياس ان لا يفطر شيء من الخارج وان المستقيء انما افطر لانه مظنة رجوع بعض الطعام وقالوا ان فطر الحائض على خلاف القياس وقد بسطنا فى الاصول انه ليس فى الشريعة
____________________
(25/224)
شيء على خلاف القياس الصحيح
فإن قيل فقد ذكرتم ان من افطر عامدا بغير عذر كان فطره من الكبائر وكذلك من فوت صلاة النهار إلى الليل عامدا من غير عذر كان تفويته لها من الكبائر وانها ما بقيت تقبل منه على اظهر قولي العلماء كمن فوت الجمعة ورمى الجمار وغير ذلك من العبادات المؤقتة وهذا قد امره بالقضاء
وقد روى فى حديث المجامع فى رمضان انه امره بالقضاء قيل هذا انما امره بالقضاء لأن الانسان انما يتقيأ لعذر كالمريض يتداوى بالقيء او يتقيأ لانه اكل ما فيه شبهة كما تقيأ ابو بكر من كسب المتكهن
وإذا كان المتقيئ معذورا كان ما فعله جائزا وصار من جملة المرضى الذين يقضون ولم يكن من اهل الكبائر الذين افطروا بغير عذر واما امره للمجامع بالقضاء فضعيف ضعفه غير واحد من الحفاظ وقد ثبت هذا الحديث من غير وجه فى الصحيحين من حديث ابي هريرة ومن حديث عائشة ولم يذكر احد امره بالقضاء ولو كان امره بذلك لما اهمله هؤلاء كلهم وهو حكم شرعى يجب بيانه ولما لم
____________________
(25/225)
يأمره به دل على ان القضاء لم يبق مقبولا منه وهذا يدل على انه كان متعمدا للفطر لم يكن ناسيا ولا جاهلا
والمجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال فى مذهب احمد وغيره ويذكر ثلاث روايات عنه
أحدهما لا قضاء عليه ولا كفارة وهو قول الشافعى وابي حنيفة والاكثرين
والثانية عليه القضاء بلا كفارة وهو قول مالك
والثالثة عليه الأمران وهو المشهور عن احمد
والاول أظهر كما قد بسط فى موضعه فانه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة ان من فعل محظورا مخطئا او ناسيا لم يؤاخذه الله بذلك وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله فلا يكون عليه اثم ومن لا اثم عليه لم يكن عاصيا ولا مرتكبا لما نهى عنه وحينئذ فيكون قد فعل ما امر به ولم يفعل ما نهى عنه ومثل هذا لا يبطل عبادته انما يبطل العبادات اذا لم يفعل ما امر به او فعل ما حظر عليه
وطرد هذا أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسيا ولا مخطئا لا الجماع ولا غيره وهو اظهر قولي الشافعى
____________________
(25/226)
وأما الكفارة والفدية فتلك وجبت لانها بدل المتلف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله كما لو أتلفه صبى او مجنون او نائم ضمنه بذلك
وجزاء الصيد اذا وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب بمنزلة دية المقتول خطأ والكفارة الواجبة بقتله خطأ بنص القرآن واجماع المسلمين
واما سائر المحظورات فليست من هذا الباب وتقليم الاظفار وقص الشارب والترفه المنافى للتفث كالطيب واللباس ولهذا كانت فديتها من جنس فدية المحظورات ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل فأظهر الاقوال فى الناسي والمخطئ اذا فعل محظورا ان لا يضمن من ذلك الا الصيد
وللناس فيه اقوال هذا احدها وهو قول اهل الظاهر
والثانى يضمن الجميع مع النسيان كقول ابى حنيفة واحدى الروايات عن احمد واختاره القاضي واصحابه
والثالث يفرق بين ما فيه اتلاف كقتل الصيد والحلق والتقليم وما ليس فيه اتلاف كالطيب واللباس وهذا قول الشافعى واحمد فى الرواية الثانية واختارها طائفة من اصحابه وهذا القول اجود من
____________________
(25/227)
غيره لكن ازالة الشعر والظفر ملحق باللباس والطيب لا بقتل الصيد هذا اجود
والرابع ان قتل الصيد خطأ لا يضمنه وهو رواية عن احمد فخرجوا عليه الشعر والظفر بطريق الاولى
وكذلك طرد هذا ان الصائم اذا اكل او شرب او جامع ناسيا او مخطئا فلا قضاء عليه وهو قول طائفة من السلف والخلف ومنهم من يفطر الناسى والمخطئ كمالك وقال ابو حنيفة هذا هو القياس لكن خالفه لحديث أبي هريرة فى الناسي ومنهم من قال لا يفطر الناسي ويفطر المخطئ وهو قول ابي حنيفة والشافعى واحمد فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان واما اصحاب الشافعى واحمد فقالوا النسيان لا يفطر لانه لا يمكن الاحتراز منه بخلاف الخطأ فانه يمكنه ان لا يفطر حتى يتيقن غروب الشمس وان يمسك اذا شك فى طلوع الفجر
وهذا التفريق ضعيف والامر بالعكس فان السنة للصائم ان يعجل الفطر ويؤخر السحور ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك الا بعد ان يذهب وقت طويل جدا يفوت مع المغرب
____________________
(25/228)
ويفوت معه تعجيل الفطور والمصلى مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها فاذا غلب على ظنه غروب الشمس امر بتأخير المغرب إلى حد اليقين فربما يؤخرها حتى يغيب الشفق وهو لا يستيقن غروب الشمس
وقد جاء عن ابراهيم النخعى وغيره من السلف وهو مذهب ابى حنيفة انهم كانوا يستحبون فى الغيم تاخير المغرب وتعجيل العشاء وتأخير الظهر وتقديم العصر وقد نص على ذلك احمد وغيره وقد علل ذلك بعض أصحابه بالاحتياط لدخول الوقت وليس كذلك فان هذا خلاف الاحتياط فى وقت العصر والعشاء وانما سن ذلك لأن هاتين الصلاتين يجمع بينهما للعذر وحال الغيم حال عذر فأخرت الاولى من صلاتى الجمع وقدمت الثانية لمصلحتين
إحداهما التخفيف عن الناس حتى يصلوها مرة واحدة لاجل خوف المطر كالجمع بينهما مع المطر
والثانية ان يتيقن دخول وقت المغرب وكذلك يجمع بين الظهر والعصر على اظهر القولين وهو احدى الروايتين عن احمد ويجمع بينهما للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك فى اظهر قولى العلماء وهو قول مالك واظهر القولين فى مذهب احمد
____________________
(25/229)
الثانى ان الخطأ فى تقديم العصر والعشاء اولى من الخطأ فى تقديم الظهر والمغرب فإن فعل هاتين قبل الوقت لا يجوز بحال بخلاف تينك فانه يجوز فعلهما في وقت الظهر والمغرب لان ذلك وقت لهما حال العذر وحال الاشتباه حال عذر فكان الجمع بين الصلاتين مع الاشتباه أولى من الصلاة مع الشك
وهذا فيه ما ذكره أصحاب المأخذ الاول من الاحتياط لكنه احتياط مع تيقن الصلاة فى الوقت المشترك الا ترى ان الفجر لم يذكروا فيها هذا الاستحباب ولا فى العشاء والعصر ولو كان لعلم خوف الصلاة قبل الوقت لطرد هذا فى الفجر ثم يطرد فى العصر والعشاء
وقد جاء الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم بالتبكير بالعصر فى يوم الغيم فقال ( بكروا بالصلاة فى يوم الغيم فانه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ( فان قيل فاذا كان يستحب ان يؤخر المغرب مع الغيم فكذلك يؤخر الفطور قيل إنما يستحب تأخيرها مع تقديم العشاء بحيث يصليهما قبل مغيب الشفق فأما تأخيرها إلى ان يخاف مغيب الشفق فلا يستحب ولا يستحب تأخير الفطور إلى هذه الغاية
ولهذا كان الجمع المشروع مع المطر هو جمع التقديم فى وقت
____________________
(25/230)
المغرب ولا يستحب ان يؤخر بالناس المغرب إلى مغيب الشفق بل هذا حرج عظيم على الناس وانما شرع الجمع لئلا يحرج المسلمون
وأيضا فليس التأخير والتقديم المستحب ان يفعلهما مقترنتين بل ان يؤخر الظهر ويقدم العصر ولو كان بينهما فصل فى الزمان وكذلك فى المغرب والعشاء بحيث يصلون الواحدة وينتظرون الاخرى لا يحتاجون إلى ذهاب إلى البيوت ثم رجوع وكذلك جواز الجمع لا يشترط له الموالاة فى اصح القولين كما قد ذكرناه فى غير هذا الموضع
وأيضا فقد ثبت فى صحيح البخارى عن اسماء بنت ابي بكر قالت ( افطرنا يوما من رمضان فى غيم على عهد رسول الله ثم طلعت الشمس ( وهذا يدل على شيئين على انه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى ان يتيقن الغروب فانهم لم يفعلوا ذلك ولم يأمرهم به النبى والصحابة مع نبيهم اعلم واطوع لله ولرسوله ممن جاء بعدهم
( والثانى ) لا يجب القضاء فان النبى لو امرهم بالقضاء لشاع ذلك كما نقل فطرهم فلما لم ينقل ذلك دل على انه لم يأمرهم به
فان قيل فقد قيل لهشام بن عروة امروا بالقضاء قال أو بد من القضاء
____________________
(25/231)
قيل هشام قال ذلك برأيه لم يرو ذلك فى الحديث ويدل على انه لم يكن عنده بذلك علم ان معمرا روى عنه قال سمعت هشاما قال لا ادرى اقضوا ام لا ذكر هذا وهذا عنه البخارى والحديث رواه عن امه فاطمة بنت المنذر عن اسماء
وقد نقل هشام عن ابيه عروة انهم لم يؤمروا بالقضاء وعروة أعلم من إبنه
وهذا قول إسحاق بن راهويه وهو قرين احمد بن حنبل ويوافقه فى المذهب أصوله وفروعه وقولهما كثيرا ما يجمع بينه والكوسج سأل مسائله لاحمد واسحاق وكذلك حرب الكرمانى سأل مسائله لاحمد واسحاق وكذلك غيرهما ولهذا يجمع الترمذى قول احمد واسحاق فانه روى قولهما من مسائل الكوسج
وكذلك ابو زرعة وابو حاتم وبن قتيبة وغير هؤلاء من أئمة السلف والسنة والحديث وكانوا يتفقهون على مذهب احمد وإسحاق يقدمون قولهما على اقوال غيرهما وأئمة الحديث كالبخارى ومسلم والترمذى والنسائى وغيرهم هم أيضا من أتباعهما وممن يأخذ العلم والفقه عنهما وداود من أصحاب إسحاق
وقد كان احمد بن حنبل اذا سئل عن إسحاق يقول انا أسئل
____________________
(25/232)
عن إسحاق إسحاق يسئل عنى
والشافعى واحمد بن حنبل واسحاق وابو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزى وداود بن علي ونحو هؤلاء كلهم فقهاء الحديث رضى الله عنهم اجمعين
وأيضا فان الله قال فى كتابه ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ( وهذه الآية مع الاحاديث الثابتة عن النبى تبين انه مأمور بالأكل إلى ان يظهر الفجر فهو مع الشك فى طلوعه مأمور بالأكل كما قد بسط فى موضعه
فصل
وأما الكحل والحقنة وما يقطر فى احليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه اهل العلم فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك
____________________
(25/233)
والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فان الصيام من دين المسلمين الذى يحتاج إلى معرفته الخاص والعام فلو كانت هذه الامور مما حرمها الله ورسوله فى الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقل احد من اهل العلم عن النبى صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثا صحيحا ولا ضعيفا ولا مسندا ولا مرسلا علم انه لم يذكر شيئا من ذلك والحديث المروى فى الكحل ضعيف رواه ابو داود فى السنن ولم يروه غيره ولا هو فى مسند احمد ولا سائر الكتب المعتمدة قال ابو داود حدثنا النفيلي ثنا علي بن ثابت حدثنى عبد الرحمن بن النعمان ثنا معبد بن هودة عن ابيه عن جده عن النبى ( انه أمر بالأثمد المروح عند النوم وقال ليتقه الصائم ( قال ابو داود وقال يحيى بن معين هذا حديث منكر قال المنذرى وعبد الرحمن قال يحيى بن معين ضعيف وقال ابو حاتم الرازى هو صدوق لكن من الذى يعرف أباه وعدالته وحفظه
وكذلك حديث معبد قد عورض بحديث ضعيف وهو ما رواه الترمذى بسنده عن انس بن مالك قال جاء رجل إلى النبى صلى
____________________
(25/234)
الله عليه وسلم فقال اشتكيت عيني أفأكتحل وانا صائم قال ( نعم ( قال الترمذى ليس بالقوى ولا يصح عن النبى فى هذا الباب شيء وفيه ابو عاتكة قال البخارى منكر الحديث
والذين قالوا ان هذه الامور تفطر كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة لم يكن معهم حجة عن النبى وانما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس واقوى ما احتجوا به قوله ( وبالغ فى الاستنشاق الا ان تكون صائما ( قالوا فدل ذلك على ان ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم اذا كان بفعله وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك فى موضع الطعام والغذاء او غيره من حشو جوفه
والذين إستثنوا التقطير قالوا التقطير لا ينزل إلى جوفه وانما يرشح رشحا فالداخل إلى احليله كالداخل إلى فمه وأنفه
والذين استثنوا الكحل قالوا العين ليست كالقبل والدبر ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء
والذين قالوا الكحل يفطر قالوا انه ينفذ إلى داخله حتى يتنخمه
____________________
(25/235)