الأولى إلى موقفها فأتمت الصلاة ثم الثانية والصفة في الصحيحين وهي جائزة غير مكروهة عند أئمة الحديث كأحمد وغيره وهي الصلاة المختارة في الخوف عند أبي حنيفة إذ ليس فيها مخالفة لصلاة الأمن إلا في استدبار القبلة والعمل الكثير وهذان يجوزان للعذر كمن سبقه الحدث فانه عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايات يقول إنه يتوضأ ويبني على ما مضى إذا لم تبطل صلاته بكلام عمد ونحوه وهذا مأثور عن أكثر الصحابة وفيه حديثان مرسلان عن النبي والمرسل إذا عمل به جمهور الصحابة يحتج به الشافعي وغيره
وأيضا فاذا سلم من صلاته ساهيا كما فعل النبي في حديث ذي اليدين وفصل بين ابعاض الصلاة بالقيام إلى الخشبة والاتكاء عليها وتشبيك أصابعه ووضع خده عليها والكلام منه ومن المنبه له السائل له المخبر له أنه لم ينس ولم تقصر والمجيبين له الموافقين للمنبه ثم أتم الصلاة لم يكن هذا التفريق والفصل مانعا من الاتمام
ومعلوم أنه لو فعل ذلك عمدا لأبطل الصلاة بلا نزاع فاذا كانت الصلاة التي لم تشرع إلا متصلة لا يستوي تفريقها في حال العذر وعدمه فكيف يستوي تفريق الوضوء في حال العذر وعدمه مع أن الوضوء
____________________
(21/143)
أفعال منفصلة لا يجب اتصالها بالاتفاق وليس لقائل أن يقول إذا عمل عملا كثيرا لعذر كما في صلاة الخوف والساهي إذا سلم فانه في حكم المصلي بدليل أنه لو تعمد حينئذ الحدث أو الكلام المبطل أو العمل الكثير الذي لا يحتاج إليه أو استدبار القبلة الذي لا يحتاج إليه أو كشف العورة بطلت صلاته ولو كان في غير صلاة لم تبطل صلاته بذلك فلا يكون هذا تركا للموالاة الواجبة لأنه يقال بل هذا من أوكد الأدلة على ما قلناه فانه من المعلوم أن هذه الأفعال والفصل الطويل المعفو له عنه مثل الذهاب إلى العدو ثم الرجوع إلى موقفه ومثل قيام المسلم سهوا إلى ناحية المسجد واتكائه عليه ليس هو من أفعال الصلاة الواجبة ولا المستحبة ولا داخلا في ذلك كما يدخل ما يدخل في تطويل القيام والركوع والسجود والقعود فان هذه الأربعة من جنس أفعال الصلاة فاذا أطالها أو أدخل فيها ما لا يشرع في الصلاة من العمل اليسير لم يمنع أن تكون هي من الصلاة
وأما تلك فليست من أفعال الصلاة وإنما أمر المصلي بالعمل الكثير في صلاة الخوف لأجل الجهاد وغفر له عن نحو ذلك من السهو لأن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان فصار الفصل بين ابعاض الصلاة المتابع تارة بفعل يوجب تغييرها وتارة بفعل لا جناح على فاعله
____________________
(21/144)
لكونه ليس مكلفا بتركه يشبهه الفصل بين الصيام المتتابع تارة بصوم أو فطر واجب وتارة بحيض أو نفاس أو مرض يعجز معه عن الصوم
ولهذا طرد أحمد ذلك ولو وقع هذا التفريق لغير عذر أبطل الصلاة بالاتفاق فالوضوء أولى أن لا يسوى بين تفريقه لعذر ولغير عذر وأما كونه في حكم المصلي فمعنى ذلك أنه ليس له أن يفرق الصلاة إلا بما يعفي عنه فيه فاذا أتى بما ينافيها من كلام عمد أو عمل كثير أو استدبار قبله لغير عذر كان قد فصل بين أبعاضها وفرق بينها بما ينافيها لغير عذر فتبطل صلاته كما لو صلى ركعتين فسلم عمدا فانه ليس له أن يأتي بالركعتين الأخيرتين بل يستأنف الصلاة ولو سلم سهوا بنى على الأول بالسنة المتواترة عند العلماء واتفاقهم على ذلك والمسلم إنما هو خارج من الصلاة وزائد على الفعل المأمور به فاذا فعل ذلك عمدا لم يكن له ذلك ولا محذور في ذلك إلا قطع الصلاة ألا ترى أنه لا فرق بين الوتر بثلاث متصلة وثلاث يفصل فيها بين الشفع والوتر إلا بمجرد الفصل
ولهذا يقولون يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة أو لا يفصل بتسليمة فمن أهل العراق من لا يسوغ الفصل كالمغرب ويجعل وتر الليل لا يكون إلا كوتر النهار متصلا غير منفصل ومن أهل الحجاز من لا يسوغ إلا الفصل لقوله صلاة الليل
____________________
(21/145)
مثنى مثنى فاذا خشيت الصبح فأوتر بركعة
وفقهاء أهل الحديث يختارون الفصل لصحة الآثار وكثرتها به وإن جوزوا الوصل
والمقصود هنا أنهم لا يذكرون بين صورتي الوتر فرقا إلا كون هذا متصلا وهذا منفصلا وهذا هو الموالاة والتفريق فتبين ان السلام العمد إنما أبطل الصلاة المكتوبة ونحوها مما سنته الاتصال لأجل تفريق بعض الصلاة عن بعض وهو اذا فعل ذلك سهوا لم تبطل وكل ما ينافي الصلاة من فعل أو عمل كثير أو تعمد كلام وترك شرط من شروطها من استقبال القبلة أو ستر عورته ونحو ذلك فانه مع منافاته يفرق بين ابعاض الصلاة ويمكن أن يخرج منها كما يخرج بالسلام ولهذا ذهب بعض أهل العراق إلى أنه يخرج منها بكل ما ينافيها كما يخرج بالسلام لكن فقهاء الحديث وأهل الحجاز منعوا ذلك لقول النبي مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ولغير ذلك من الأمور التي يتبين أنه لا يدخل فيها إلا بالمشروع ولا يخرج إلا بالمشروع
ومما يوضح الكلام في هذا امور
أحدها أن من يجوز الوتر بثلاث مفصولة كالشافعي وأحمد
____________________
(21/146)
وغيرهما يجوز عندهم أن تكون الصلاة التي لها اسم واحد يفصل بين ابعاضها بالسلام العمد كالوتر والضحى وقيام رمضان والأربع قبل الظهر واختيارهم في جميع الصلوات أن تكون مثنى مثنى إلا ما استثناه أحمد من الصور التي ثبت عن النبي فيها الفصل كالوتر بخمس أو سبع أو تسع فانه يختار فيها ما ثبت عن النبي فعله ويقولون أدنى الوتر ثلاث مفصولة وقد ثبت في الصحيح من غير وجه عن عائشة أن النبي كان يوتر من الليل باحدى عشرة ركعة يفصل بين كل ركعتين فسمت الجميع وترا مع الفصل
وقد ينازعهم في هذا أصحاب أبي حنيفة إذ المسنون عندهم في الأربع قبل الظهر الوصل وكذلك في الوتر بثلاث وكذلك إذا جاء ذكر صلاة أربع أو ثمان يجعلونها بتسليمة
الثاني إذا تكلم بعد سلامه من الصلاة سهوا كما في حديث ذي اليدين فقد علم ما فيه من الفقه والمنازع يقول هو منسوخ كما يقوله أصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وهم الذين يقولون ان الكلام يبطل الصلاة مطلقا ولو كان بعد السلام سهوا بناء على أنه في الصلاة
والجمهور على أنه محكم وهو الصواب وهو المنصوص عن أحمد في
____________________
(21/147)
عامة أجوبته فانه أخذ به وتفقه فيه ولم يترك الأخذ به ولا قال هو منسوخ وقد ثبت أن المشهور بروايته الذي ذكر أنه صلاها مع النبي هو أبو هريرة قال وذكر فيها أن النبي صلى بهم الصلاة وهو إنما سلم ورأى النبي وصلى خلفه من عام خيبر والقضية كانت في مسجده وذلك بعد رجوعه من خيبر بيقين وهذا يقين بعد تحريم الكلام فانه قد ثبت في الصحيحين عن بن مسعود أنه قال كنا نسلم على رسول الله وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمت عليه فلم يرد علي فقلنا يا رسول الله إنا كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال إن في الصلاة شغلا
فهذا يبين أن الكلام حرم عليهم لما رجعوا من عند النجاشي وعبد الله بن مسعود شهد بدرا مع النبي بلا خلاف وهو الذي أجهز على أبي جهل بن هشام فهذا يقتضي ان تحريم الكلام قبل بدر سواء كان بن مسعود رجع من الحبشة إلى مكة ثم هاجر أو قدم من الحبشة إلى المدينة بعد هجرة النبي فان هذا قد تنوزع فيه فذكر بن إسحاق في السيرة القول الأول وعلى هذا فيكون تحريم الكلام بمكة وهو مقيد كما في
____________________
(21/148)
مسند أبي داود الطيالسي عن عبد الله بن عقبة عن بن مسعود قال بعثنا رسول الله إلى النجاشي ونحن ثمانون رجلا ومعنا جعفر بن أبي طالب فذكر الحديث في دخولهم على النجاشي وفي آخره فجاء بن مسعود فبادر فشهد بدرا
وللناس في هذا المقام المشتبه ثلاثة أقوال يقولها من يقولها من أصحاب احمد وغيرهم
أحدها وهو قول اصحاب ابي حنيفة والقاضي أبي يعلى وطائفة من أتباعهم أن حديث ذي اليدين متقدم على تحريم الكلام وظنوا أن قضيته كانت قبل بدر واحتجوا بأن ذا اليدين قتل يوم بدر فلا بد أن تكون القضية قبل ذلك قالوا وتحريم الكلام كان بالمدينة بعد ذلك كما في الصحيحين عن زيد بن أرقم قال إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وليس للبخاري ونهينا عن الكلام وفي رواية للترمذي كنا نتكلم خلف رسول الله في الصلاة
وزيد بن أرقم من صغار الأنصار وهو صاحب الاذن الذي وفى
____________________
(21/149)
الله باذنه لما بلغ النبي قول بن ابي من المنافقين { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } وكذبه من كذبه ولامه من لامه من المؤمنين حتى أنزل الله قوله { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة } فقال النبي هذا الذي وفى الله باذنه وهو لم يصل مع النبي الا بعد الهجرة فعلم أنهم كانوا يتكلمون بعد الهجرة وذكر أن النسخ حصل بآية المحافظة وهي مدنية بالاتفاق بل قد يقال إنها إنما نزلت عام الخندق لما شغله المشركون عن صلاة العصر حتى قال ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر كما ثبت ذلك في الصحيح فقال هؤلاء إذا كانت قصة ذي اليدين قبل بدر ولم يثبت ان الكلام كان قد حرم أو ثبت انه إنما حرم بعد ذلك بل بعد عام الخندق التي هي بعد بدر بأكثر من سنتين كان منسوخا واقصى ما يقال إنه يحتمل أنه كان قبل النسخ ويحتمل أنه بعده فلا يبقى فيه حجة
ونجد كثيرا من الناس ممن يخالف الحديث الصحيح من أصحاب أبي حنيفة أو غيرهم يقول هذا منسوخ وقد اتخذوا هذا محنة كل حديث لا يوافق مذهبهم يقولون هو منسوخ من غير أن يعلموا أنه منسوخ ولا يثبتوا ما الذي نسخه
____________________
(21/150)
وكذلك كثير ممن يحتج بالعمل من أهل المدينة اصحاب مالك وغيرهم يقولون هذا منسوخ لكن هؤلاء قد يقولون إن وجود علم اهل المدينة بخلافه دليل نسخه وهذا كثير وما ذكروه في حديث ذي اليدين هو من أبلغ ما قرروه وادعوا أن تحريم الكلام كان بعد ذلك عام الخندق أو نحوه ويقولون في القنوت انه منسوخ وفي دعائه لمعين او غير معين إنه منسوخ وإن هذا من كلام الآدميين الذي قال فيه رسول الله ان صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين حتى يبالغوا فيما يبطل الصلاة من هذا النحو كالتنبيه بالقرآن وغيره
وقد ثبت في الصحيحين ايضا عن أبي هريرة أن النبي قنت بعد الركوع في صلاة الصبح شهرا إذا قال سمع الله لمن حمده يقول في قنوته اللهم نج الوليد بن الوليد اللهم نج سلمة بن هشام اللهم نج عياش بن أبي ربيعة اللهم نج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف قال أبو هريرة ثم رأيت رسول الله قد ترك الدعاء لهم بعد فقلت أرى رسول الله قد ترك الدعاء لهم قال فقيل أو ما تراهم قد قدموا
وهذا الحديث فيه أنواع من الفقه فان أبا هريرة لم يصل خلف
____________________
(21/151)
النبي الا بعد خيبر وخيبر بعد الحديبية وكانت الهدنة التي بينه وبين المشركين في الحديبية على أن لا يدع أحدا منهم يهاجر إليه ولا يرد إليه من ذهب مرتدا منه إليهم فهؤلاء وأمثالهم كانوا من المستضعفين بمكة الذين قهرهم أهلوهم والمسلمون كلهم من بني مخزوم وهم بنو عبد مناف أشرف قبائل قريش وبنو مخزوم كانوا هم الذين ينادون عبد مناف والمحاسدة التي بينهم هي احدى ما منعت أشرافهم كالوليد وأبي جهل وغيرهما من الاسلام فلما قدم بعد الحديبية من قدم من المهاجرين ولحقوا بسيف البحر على الساحل كابي بصير وابي جندل بن سهيل بن عمرو فان النبي لم يجرهم بالشرط فصاروا بأيدي أنفسهم بالساحل يقطعون على اهل مكة حتى أرسل اهل مكة حينئذ إلى النبي يسألونه أن يأذن لهم في المقام عنده ليأمنوا قطعهم فقدموا حينئذ أولئك المستضعفون فترك النبي القنوت
وهذا القنوت بعد القنوت الذي رواه أنس أن النبي قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم تركه فان ذلك القنوت كان في أوائل الأمر لما ارسل القراء السبعين أصحاب بئر معونة وذلك متقدم قبل الخندق التي هي قبل الحديبية كما
____________________
(21/152)
ثبت ذلك في الصحيح فتبين ان تركه للقنوت لم يكن ترك نسخ إذ قد ثبت أنه قنت بعد ذلك وإنما قنت لسبب فلما زال السبب ترك القنوت كما بين في هذا الحديث أنه ترك الدعاء لهم لما قدموا وليس ايضا قوله في حديث أنس المتفق عليه أن رسول الله قنت شهرا بعد الركوع يدعو على احياء من أحياء العرب ثم تركه أنه ترك الدعاء فقط كما يظنه من ظن أن النبي كان مداوما على القنوت في الفجر بعد الركوع أو قبلة بل ثبت في أحاديث انس التي في الصحيحين أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا وغير ذلك مما يبين ان المتروك كان القنوت
وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع وبينا ان من تأمل الأحاديث علم علما يقينا ان النبي لم يداوم على القنوت في شيء من الصلوات لا الفجر ولا غيرها ولهذا لم ينقل هذا أحد من الصحابة بل انكروه ولم ينقل احد عن النبي حرفا واحدا مما يظن انه كان يدعو به في القنوت الراتب وانما المنقول عنه ما يدعو به في العارض كالدعاء لقوم وعلى قوم فاما ما يدعو به من يستحب المداومة على قنوت الفجر من قول اللهم اهدنا فيمن هديت فهذا انما في السنن انه علمه للحسن يدعو به في قنوت الوتر
____________________
(21/153)
ثم من العجب انه لا يستحب المداومة عليه في الوتر الذي هو من متن الحديث ويداوم عليه في الفجر ولم ينقل عن النبي انه قاله في الفجر ومن المعلوم باليقين الضروري ان القنوت لو كان مما داوم عليه لم يكن هذا مما يهمل ولتوفرت دواعي الصحابة ثم التابعين على نقله فانهم لم يهملوا شيئا من أمر الصلاة التي كان يداوم عليها إلا نقلوه بل نقلوا ما لم يكن يداوم عليه كالدعاء في القنوت لمعين وعلى معين وغير ذلك
ودعوى هذا ايضا هي من بعض الوجوه ما يدعيه بعض أهل الأهواء في النص الجلي على معين في الامامة او من زيادة في القرآن وغير ذلك ولهذا كان المصنفون يفرقون بين بيان ما يمتنع من الكذب وما يمتنع من الكتمان فاذا تكلموا في الأخبار الصادقة التي يمتنع أن تكون كذبا من الأخبار المتواترة تكلموا فيما يمتنع أن يكون من الأخبار للعادة العامة أو الخاصة أو للأدلة الشرعية الدالة على حفظ هذا الدين وأمثال ذلك وبسط هذا له موضع آخر
وأما الدعاء على أهل الكتاب كما يتخذه من يتخذه سنة راتبة في دعاء القنوت في النصف الأخير من شهر رمضان أو غيره فهذا انما هو منقول عن عمر بن الخطاب أنه كان يدعو به لما كان يجاهد اهل الكتاب بالشام وكان يدعو به في المكتوبة وهو موافق لسنة رسول
____________________
(21/154)
الله فان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقنت أحيانا يدعو للمؤمنين ويلعن الكافرين ويذكر قبائل المشركين الذين يحاربونه كمضر ورعل وذكوان وعصية وعمر لما قاتل أهل الكتاب قنت عليهم في المكتوبة فالسنة أن يقنت عند النازلة ويدعو فيها بما يناسب أولئك القوم المحاربين فأما أن يتخذ قنوت عمر في المكتوبة سنة في الوتر وقنوت الحسن في الوتر سنة في المكتوبة راتبة فهو كما تراه وكذلك في هذا الحديث أنه دعا لأقوام سماهم بأسمائهم بعد خيبر وذلك بعد تحريم الكلام بالاتفاق وان اقتضى ما يقال في تأخر تحريم الكلام في الصلاة أنه تأخر إلى عام الخندق وخيبر بعد الخندق بأكثر من سنتين فان خيبر كانت بالاتفاق بعد الحديبية والحديبية كانت بالاتفاق سنة ست وكان النبي صلى الله عليه وسلم أيضا إنما إعتمر في ذي القعدة فلما صالحهم رجع إلى المدينة فكانت غزوة الغابة غزوة ذي قرد التي ذكرها مسلم في صحيحه من حديث سلمة بن الأكوع لما جعل يقول ** خذها وأنا بن الأكوع ** واليوم يوم الرضع **
لما أغارت فزارة على لقاح رسول الله وكانت خيبر عقب ذلك في أواخر ست وأوائل سبع وهذا متفق عليه
وأما الخندق فقبل ذلك إما في أوائل خمس أو أواخر أربع كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال عرضت على النبي
____________________
(21/155)
يوم أحد وأنا بن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا بن خمس عشرة سنة فأجازني
وليس لأحد أن يحتج على النسخ بما في الصحيحين عن بن عمر أنه سمع رسول الله إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } فان هذا انما يدل على ترك اللعنة لهم لكونه ليس له من الأمر شيء لجواز توبتهم وهذا اذا كان نهيا فلا فرق فيه بين الصلاة وخارج الصلاة والكلام انما هو في الدعاء الجائز خارج الصلاة كالدعاء لمعينين مستضعفين والدعاء على معينين من الكفار بالنصرة عليهم لا باللعنة ونحو ذلك
والقول الثاني قول من يقول من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم ان تحريم الكلام كان بمكة بناء على أن النسخ ثبت بحديث بن مسعود بناء على ما ذكره بن إسحاق في السيرة قال وبلغ اصحاب رسول الله الذين خرجوا إلى أرض الحبشة اسلام أهل مكة فاقبلوا لما بلغهم من ذلك اسلام أهل مكة الذي كان باطلا فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيا فكان من قدم
____________________
(21/156)
منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة شهد معه بدرا وأحدا فذكر منهم عبد الله بن مسعود
وهؤلاء يجيبون عن حديث زيد بن أرقم بجوابين
أحدهما انه يحتمل أنه كان نهى عنه متقدما ثم أذن فيه ثم نهى عنه لما نزلت الآية
الثاني أنه يحتمل أن يكون زيد بن ارقم ومن كان يتكلم في الصلاة لم يبلغهم نهي النبي فلما نزلت الآية انتهوا
فاما القول الأول فضعيف لوجوه قاطعة
منها ان حديث بن مسعود صحيح صريح وقد علم بالتواتر عند أهل العلم أن بن مسعود شهد بدرا وهو لما رجع من الحبشة أخبر أنه سلم على النبي وأنه لم يرد عليه بعد ما كان يرد عليهم قبل أن يذهبوا إلى الحبشة وانه قال لهم ان في الصلاة لشغلا وفي رواية ان الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة
____________________
(21/157)
الثاني أن أبا هريرة لم يصحب النبي ولم يصل خلفه إلا بعد عام خيبر باتفاق أهل العلم كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وهو أشهر من روى حديث ذي اليدين وهو ان النبي صلى تلك الصلاة بهم كما في الصحيحين عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم احدى صلاتي العشى الظهر أو العصر فعلم أنها لم تكن قبل عام خيبر بل بعد فتح خيبر فكيف تكون قبل بدر بل خيبر بعد الخندق فلو ثبت أن الكلام لم يحرم إلا عام الخندق لكان حديث ذي اليدين بعد ذلك فلا يكون منسوخا
الثالث أن من رواة حديث ذي اليدين عمران بن حصين كما رواه مسلم وغيره قالوا واسلام عمران كان بعد بدر وقد روى نحوا منه أهل السنن من حديث معاوية بن خديج وقد قيل إنه اسلم قبل موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بشهرين وقد روى حديث ذي اليدين كما رواه أبو هريرة وعبد الله بن عمر رواه أهل السنن قالوا واسناده على شرط الصحيح وبن عمر قبل بدر كان صغيرا فانه عام أحد كان بن أربع عشرة سنة ولا يكاد بن عمر يروي ما كان حينئذ مما كان مثل ذلك كما لم يرو حديث بناء المسجد ونحوه
____________________
(21/158)
الرابع ان قولهم ذو اليدين قبل بدر غلط قالوا فان المقتول ببدر هو ذو الشمالين هو بن عمرو من نضلة بن عبسان حليف لبني زهرة من خزاعة قتل ببدر وأما ذو اليدين فاسمه الخرباق ويكنى أبا العريان بقي بعد النبي وروى حديثه في السهو كما ذكره عبد الله بن احمد في مسند أبيه عن نصر بن معدي بن سليمان ثقة قال أتيت مطرا لأسأله عن حديث ذي اليدين فأتيته فسألته فاذا هو شيخ كبير لا ينفذ الحديث من الكبر فقال ابنه شعيب بلى يا أبت حدثتني أن ذا اليدين لقيك بذي خشب فحدثك أن رسول الله صلى بهم احدى صلاتي العشي وهي العصر ركعتين ثم سلم فخرج سرعان الناس فقالوا قصرت الصلاة وفي القوم أبو بكر وعمر فقال ذو اليدين اقصرت الصلاة ام نسيت فقال ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم اقبل على أبي بكر وعمر فقال ما يقول ذو اليدين فقالا صدق يا رسول الله فرجع رسول الله وثاب الناس وصلى بهم ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو
ورواه عبد الله بن أحمد ايضا عن محمد بن المثني عن معدي بن سليمان عن شعيب بن مطر ومطر جاء من يصدقه بمقالته وهذا السياق موافق لسياق أبي هريرة وبن عمر في ان السلام كان من
____________________
(21/159)
ركعتين وفي حديث عمران أنه من ثلاث وكذلك في حديث رافع وفيه الجزم بأنها العصر كما في حديث عمران وغيره وهل كانت القصة مرة أو مرتين هذا فيه نزاع ليس هذا موضعه
والمقصود هنا أنه اذا ثبت أن حديث ذي اليدين محكم ثبت به ان مثل ذلك الكلام والفعال لا يبطل الصلاة وهنا أقوال في مذهب أحمد وغيره فعنه أن كلام الناسي والمخطئ لا يبطل وهذا قول مالك والشافعي وهو أقوى الأقوال ومما يؤيده حديث معاوية بن الحكم السلمي لما شمت العاطس في الصلاة فلما سمعه النبي قال له ان صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ولم يأمره بالاعادة وهذا كان جاهلا بتحريم الكلام وفي الجاهل لأصحاب أحمد طريقان
أحدهما أنه كالناسي
والثاني أنه لا تبطل صلاته وان بطلت صلاة الناسي لأن النسخ لا يثبت حكمه إلا بعد العلم بالناسخ
وهذا الفرق ضعيف هنا لأن هذا إنما يكون فيمن تمسك بالمنسوخ ولم يبلغه الناسخ كما كان أهل قباء وأما هنا فلم يكن بلغه المنسوخ
____________________
(21/160)
بحال فالنهي في حقه حكم مبتدا لكن هل يثبت الحكم في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب فيه ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد وغيرهم
أحدها انه يثبت مطلقا
والثاني لا يثبت مطلقا
والثالث الفرق بين الحكم الناسخ والحكم المبتدأ
وعلى هذا يقال الجاهل لم يبلغه حكم الخطاب وقد يفرق بين الناسي والجاهل ألا ترى من نام عن صلاة او نسيها فانه يعيدها باتفاق المسلمين وكذلك من ترك شيئا من فروضها نسيانا ثم ذكر قبل أن يذكر أنه صلى بلا وضوء أو ترك القراءة أو الركوع ونحو ذلك فانه يعيد وأما من نسي واجبا كالتشهد الأول فانه يسجد قبل السلام فان تعمد تركه ففي بطلان صلاته وجهان أشهرهما تبطل ولو نسيه مطلقا لم تبطل صلاته فهنا قد أثر النسيان في سقوط الواجب مطلقا
وأما الجاهل فلو صلى غير عالم بوجوب الوضوء من لحم الابل أو صلى في مباركها غير عالم بالنهي ثم بلغه ففي الاعادة روايتان لكن الأظهر في الحجة أنه لا يعيد كما قد بسطناه في غير هذا الموضع
____________________
(21/161)
ومما يقرر هذا في كلام الجاهل في الصلاة أحاديث
منها حديث بن مسعود حديث التشهد المستفيض انه قال كنا نقول في الصلاة السلام على الله من عباده السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وفلان فنهاهم النبي عن ذلك وقال ان الله هو السلام ولم يأمرهم باعادة الصلوات التي قالوا ذلك فيها مع أن هذا الكلام حرام في نفسه فانه لا يجوز ان يدعى لله بالسلام بل هو المدعو ولما كانوا جهالا بتحريم ذلك لم يأمرهم بالاعادة ومن ذلك الأعرابي الذي قال اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا وقال لقد تحجرت واسعا يريد رحمة الله وهذا الدعاء حرام فانه سؤال الله أن لا يرحم من خلقه غيرهما ومن ذلك قول القائل لما صلى بهم أبو موسى أقرنت الصلاة بالبر والزكاة فقال ابو موسى يا حطان لعلك قلتها فقلت ما قلتها ولقد خشيت أن تنكعني بها ولم يأمرني أبو موسى بالاعادة
وعلى هذا فكلام العامد في مصلحتها فيه روايتان عن أحمد
إحداهما يجوز وهو قول مالك
والثانية لا يجوز وهو قول الشافعي
____________________
(21/162)
وفيه رواية ثالثة ان الكلام يبطل إلا إذا كان لمصلحتها سواء كان عمدا أو سهوا
وفيه رواية رابعة إلا لمصلحتها سهوا وهو اختيار جدي
وفيه رواية خامسة تبطل إلا صلاة إمام تكلم لمصلحتها سواء كان عمدا أو سهوا
ومنشأ التردد أنه تكلم ذو اليدين ابتداء وتكلم جوابا للنبي بقوله بلى قد نسيت بعد قول النبي لم أنس ولم تقصر وتكلم النبي بذلك وبقوله احق ما يقول ذو اليدين وتكلم المخاطبون بتصديق ذي اليدين فقيل إنما جاز ذلك لكونه لم يعتقد أنه في الصلاة وكذلك ذو اليدين سؤاله له هو بمنزلة سلامه والمؤمنين معه اتباعا له فانهم لم يكونوا يعلمون أنه نسي بل جوز أن تكون الصلاة قصرت وكذلك سائر الصحابة لو علموا أنه نسي وأن متابعة الناسي في السلام لا تجوز لسبحوا به لكن لم يعلموا بجميع الأمرين قطعا بل جوزوا أحدهما أو كلاهما بل كانوا يعتقدون وجوب المتابعة له في الصلاة مطلقا حتى يتبين لهم
فقيل لهؤلاء فالمصلون أجابوه بتصديق ذي اليدين مع علمهم بأنها
____________________
(21/163)
لم تقصر وأنه نسي فظن بعضهم ذلك لأن جوابه واجب لا يبطل الصلاة لحديث سعد بن المعلى وظن آخرون أن ذلك لمصلحة الصلاة فجوزوا الكلام لمصلحة الصلاة عمدا وظن آخرون أن ذلك إنما كان سهوا لأنهم لم يكونوا يعلمون أنه قد بقي عليهم بقية من الصلاة وأن من بقي عليه بقية لا يتكلم
ثم قال آخرون هذا الكلام وكلام النبي وذي اليدين مع كون ذلك سهوا فانما كان لمصلحة الصلاة والمقصود هنا أن من تكلم في صلب الصلاة عالما أنه في صلاته بنحو هذا سهوا وعمدا لمصلحة الصلاة هل يكون بمنزلة هذا هذا فيه قولان في مذهب أحمد وغيره فمن لم يسو بينهما قال هذه الحال لم يكونوا في صلاة لخروجهم منها سهوا وإن كانوا في حكمها كما ذكرنا فلهذا شاع هذا ومن يسوي بينهما قال سائر محظورات الصلاة هي في مثل هذه الحال كما هي في الصلاة نفسها فان التفريق هنا انما جاز لعذر السهو فلا يفيد فعل شيء مما ينافي الصلاة ولهذا اتفقوا على أنه اذا تعمد في مثل هذه الحال ما يبطل الصلاة لغير مصلحة بطلت صلاته وإن كانت لا تبطل إذا فعل ذلك بعد سلام الامام وذلك أن المصلي صلى الصلاة وترك منافيها فاذا عفي عنه في أحدهما لعذر لم يجز أن يعفى عنه في الآخر لغير عذر كما لو زاد الفعل عمدا فانه بعد
____________________
(21/164)
الذكر لو أطال الفصل عمدا لم يكن له البناء بل يبتدئ الصلاة ولهذا لو فعل منافيها سهوا من كلام أو عمل كثير ونحو ذلك لم يكن له مع ذلك أن يفرقها عمدا
فتبين بهذا كله وجوب الموالاة في الصلاة إلا في حال العذر المسوغ لذلك فالوضوء أولى بذلك
فان قيل فما تقولون في الغسل
قيل المشهور عند أصحاب أحمد الفرق بينهما وعمدة ذلك ما روى أن النبي رأى على يده لمعة لم يصبها الماء فعصر عليها شعره وعن بن عباس أن النبي اغتسل من جنابة فرأى لمعة لم يصبها الماء فقال بجمته قبلها عليها رواه أحمد وبن ماجة من حديث أبي علي السروجي وقد ضعف أحمد وغيره حديثه وروى بن ماجة عن علي قال جاء رجل إلى النبي فقال إني إغتسلت من الجنابة فصليت الفجر ثم أصبحت فرأيت موضعا قدر الظفر لم يصبه ماء فقال رسول الله لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك وعن بن مسعود أن رجلا سأل النبي عن الرجل يغتسل من الجنابة فيخطئ بعض جسده فقال رسول الله
____________________
(21/165)
يغسل ذلك المكان ثم يصلي رواه البيهقي من رواية عاصم بن عبد العزيز الأشجعي قال البخاري فيه نظر وقال بن حبان يخطئ كثيرا وقال الدارقطني ليس بالقوي
والفرق المعنوي أن أعضاء الوضوء متعددة يجب فيها الترتيب عندهم فوجبت فيها الموالاة والبدن في الغسل كالعضو الواحد لا يجب فيه ترتيب فلا يجب فيه موالاة أيضا فان حكم الوضوء يتعدى محله فانه يغسل أربعة اعضاء فيطهر جميع البدن وأما الجنابة فتشبه إزالة النجاسة لا يتعدى حكمه محله فكل ما غسل شيئا ارتفع عنه الجنابة كما ترتفع النجاسة عن محل الغسل فاذا غسل بعض أعضاء الوضوء لم يرتفع شيء من الحدث لا عنه ولا عن غيره بدليل أنه لايباح له مس المصحف به
وقد يقال هذا لا يؤثر في الموالاة فان وجوب الموالاة في الشيء الواحد أقوى من وجوبها في الاثنين بخلاف الترتيب فانه لا يكون الا بين شيئين ولا بد أن يكونا مختلفين إذ المتماثلات كالطوافات والسعيات لا يكون بينهما ترتيب ولهذا لم يجب الترتيب عند أحمد ومالك في الركعات بل من نسي ركنا من ركعة فلم يذكر حتى قرأ في الثانية قامت مقامها وغسل الجنابة عبادة واحدة الاتصال فيها اظهر منه في الوضوء وهي عبادة في نفسها
____________________
(21/166)
تعتبر لها النية بخلاف إزالة النجاسة فانها لا تتعين لها النية إلا في وجه ضعيف التزموه في الخلاف الجدلي كما ذكره أبو الخطاب ومن تبعه وليس بشيء فيمكن أن يقال الموالاة فيهما واحدة
وإذا كان النبي قد عصر على اللمعة بعد جفافها في الزمن المعتدل وأن الوضوء لا يجوز فيه ذلك فالفرق أن تارك اللمعة في الرجل مفرط بخلاف المغتسل من الجنابة فانه لا يرى بدنه كما يرى رجليه فاللمعة اذا كانت في ظهره أو حيث لا يراه ولا يمكنه مسه كان معذورا في تركها فلهذا لم تجب فيه الموالاة بخلاف ما لا يعذر فيه والله أعلم
وعلى هذا فلو قيل بسقوط الترتيب بالعذر لتوجه وقد يخرج حديث تأخير المضمضة والاستنشاق عن غسل الوجه وهو احدى الروايتين المنصوصتين على هذا وأن تاركهما لم يعلم وجوبهما فكان معذورا بالترك فلم يجب الترتيب في ذلك بخلاف من لم يعذر كمنكس الأعضاء الظاهرة ولكن نظيره حديث العهد بالاسلام إذا اعتقد أن الوضوء غسل اليدين والرجلين فغسلهما فقط أو من ترك غسل وجهه أو يديه لجرح أو مرض وغسل سائر أعضاء الوضوء ثم زال العذر قبل انتقاض الوضوء فهنا اذا قيل يغسل ما ترك أولا ولا يضره ترك الترتيب كان متوجها على هذا الأصل والله أعلم
____________________
(21/167)
وسئل
عمن يغسل اطرافه فوق الخمس مرات وإذا اتى المسجد يبسط سجادته تحت قدميه إلى آخر السؤال
فأجاب ما ذكره من الوسوسة في الطهارة مثل غسل العضو أكثر من ثلاث مرات والامتناع من الصلاة على حصر المسجد ونحو ذلك هو أيضا بدعة وضلالة باتفاق المسلمين ليس ذلك مستحبا ولا طاعة ولا قربة
ومن فعل ذلك على أنه عبادة وطاعة فانه ينهى عن ذلك فان امتنع عزر على ذلك فقد كان عمر رضي الله عنه يعزر الناس على الصلاة بعد العصر مع أن جماعة فعلوه لما روي عن النبي أنه فعله وداوم عليه لكن لما كان ذلك من خصائصه وكان النبي قد نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الفجر حتى تطلع الشمس كان عمر يضرب من فعل هذه الصلاة فضرب هؤلاء المبتدعين في الطهارة والصلاة لكونها بدعة مذمومة باتفاق المسلمين أولى وأحرى والله أعلم
____________________
(21/168)
وسئل
أيما أفضل المداومة على الوضوء أم ترك المداومة
فاجاب أما الوضوء عند كل حدث ففيه حديث بلال المعروف عن بريدة بن حصيب قال أصبح رسول الله فدعا بلالا فقال يا بلال بم سبقتني إلى الجنة ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب فقلت لمن هذا القصر فقالوا لرجل عربي فقلت أنا عربي لمن هذا القصر فقالوا لرجل من قريش قلت أنا رجل من قريش لمن هذا القصر فقالوا لعمر بن الخطاب فقال بلال يا رسول الله ما أذنت قط إلا صليت ركعتين وما أصابني حدث قط الا توضأت عندها فرأيت أن لله علي ركعتين فقال رسول الله بهما قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وهذا يقتضي استحباب الوضوء عند كل حدث ولا يعارض ذلك الحديث الذي في الصحيح عن بن عباس قال كنا عند النبي
____________________
(21/169)
فجاء من الغائط فأتى بطعام فقيل له ألا تتوضأ قال لم أصل فأتوضأ فان هذا ينفي وجوب الوضوء وينفي أن يكون مأمورا بالوضوء لأجل مجرد الأكل ولم نعلم احدا استحب الوضوء للأكل وهل يكره أو يستحب على قولين هما روايتان عن أحمد فمن استحب ذلك احتج بحديث سلمان أنه قال للنبي قرأت في التوراة إن من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ومن كرهه قال لأن هذا خلاف سنة المسلمين فانهم لم يكونوا يتوضؤون قبل الأكل وإنما كان هذا من فعل اليهود فيكره التشبه بهم وأما حديث سلمان فقد ضعفه بعضهم
وقد يقال كان هذا في أول الاسلام لما كان النبي يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ولهذا كان يسدل شعره موافقة لهم ثم فرق بعد ذلك ولهذا صام عاشوراء لما قدم المدينة ثم انه قال قبل موته لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع يعني مع العاشر لأجل مخالفة اليهود
____________________
(21/170)
وسئل رحمه الله تعالى
عن قول النبي إنكم تأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء وهذه صفة المصلين فبم يعرف غيرهم من المكلفين التاركين والصبيان
فأجاب الحمد لله رب العالمين هذا الحديث دليل على أنه إنما يعرف من كان أغر محجلا وهم الذين يتوضؤون للصلاة وأما الأطفال فهم تبع للرجال وأما من لم يتوضأ قط ولم يصل فانه دليل على أنه لا يعرف يوم القيامة
____________________
(21/171)
& باب المسح على الخفين سئل رحمه الله
عن أقوال العلماء في المسح على الخفين هل من شرطه أن يكون الخف غير مخرق حتى لا يظهر شيء من القدم وهل للتخريق حد وما القول الراجح بالدليل كما قال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فان الناس يحتاجون إلى ذلك
فأجاب هذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء فمذهب مالك وأبي حنيفة وبن المبارك وغيرهم أنه يجوز المسح على ما فيه خرق يسير مع اختلافهم في حد ذلك واختار هذا بعض أصحاب أحمد
ومذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أنه لا يجوز المسح إلا على ما يستر جميع محل الغسل قالوا لأنه إذا ظهر بعض القدم كان فرض ما ظهر الغسل وفرض ما بطن المسح فيلزم أن يجمع بين الغسل
____________________
(21/172)
والمسح أي بين الأصل والبدل وهذا لا يجوز لأنه إما أن يغسل القدمين وأما أن يمسح على الخفين
والقول الأول أصح وهو قياس أصول أحمد ونصوصه في العفو عن يسير العورة وعن يسير النجاسة ونحو ذلك فان السنة وردت بالمسح على الخفين مطلقا قولا من النبي وفعلا كقول صفوان بن عسال أمرنا رسول الله إذا كنا سفرا أو مسافرين أن لا ننزع أخفافنا ثلاثة ايام ولياليهن إلا من جنابة ولكن لا ننزع من غائط وبول ونوم رواه اهل السنن وصححه الترمذي فقد بين أن رسول الله أمر أمته أن لا ينزعوا أخفافهم في السفر ثلاثة أيام من الغائط والبول والنوم ولكن ينزعوها من الجنابة
وكذلك أمره لأصحابه أن يمسحوا على التساخين والعصائب والتساخين هي الخفان فانها تسخن الرجل وقد استفاض عنه في الصحيح أنه مسح على الخفين وتلقى أصحابه عنه ذلك فاطلقوا القول بجواز المسح على الخفين ونقلوا أيضا امره مطلقا كما في صحيح مسلم عن شريح بن هانئ قال أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت عليك بابن أبي طالب فاسأله فانه كان يسافر مع النبي فسألناه فقال جعل النبي ثلاثة ايام
____________________
(21/173)
للمسافر ويوما وليلة للمقيم أي جعل له المسح على الخفين فاطلق ومعلوم أن الخفاف في العادة لا يخلو كثير منها عن فتق أو خرق لا سيما مع تقادم عهدها وكان كثير من الصحابة فقراء لم يكن يمكنهم تجديد ذلك ولما سئل النبي عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أو لكلكم ثوبان وهذا كما ان ثيابهم كان يكثر فيها الفتق والخرق حتى يحتاج لترقيع فكذلك الخفاف
والعادة في الفتق اليسير في الثوب والخف أنه لا يرقع وإنما يرقع الكثير وكان أحدهم يصلي في الثوب الضيق حتى أنهم كانوا إذا سجدوا تقلص الثوب فظهر بعض العورة وكان النساء نهين عن أن يرفعن رؤوسهن حتى يرفع الرجال رؤوسهم لئلا يرين عورات الرجال من ضيق الأزر مع أن ستر العورة واجب في الصلاة وخارج الصلاة بخلاف ستر الرجلين بالخف فلما اطلق الرسول الأمر بالمسح على الخفاف مع علمه بما هي عليه في العادة ولم يشترط ان تكون سليمة من العيوب وجب حمل أمره على الاطلاق ولم يجز أن يقيد كلامه إلا بدليل شرعي
وكان مقتضى لفظه أن كل خف يلبسه الناس ويمشون فيه فلهم أن يمسحوا عليه وان كان مفتوقا أو مخروقا من غير تحديد لمقدار ذلك فان التحديد لا بد له من دليل وأبو حنيفة يحده بالربع كما يحد مثل
____________________
(21/174)
ذلك في مواضع قالوا لأنه يقال رأيت الانسان اذا رأيت أحد جوانبه الأربع فالربع يقوم مقام الجميع وأكثر الفقهاء ينازعون في هذا ويقولون التحديد بالربع ليس له أصل من كتاب ولا سنة
وأيضا فأصحاب النبي الذين بلغوا سنته وعملوا بها لم ينقل عن أحد منهم تقييد الخف بشيء من القيود بل أطلقوا المسح على الخفين مع علمهم بالخفاف وأحوالها فعلم أنهم كانوا قد فهموا عن نبيهم جواز المسح على الخفين مطلقا
وأيضا فكثير من خفاف الناس لا يخلو من فتق أو خرق يظهر منه بعض القدم فلو لم يجز المسح عليها بطل مقصود الرخصة لا سيما والذين يحتاجون إلى لبس ذلك هم المحتاجون وهم أحق بالرخصة من غير المحتاجين فان سبب الرخصة هو الحاجة ولهذا قال النبي لما سئل عن الصلاة في الثوب الواحد أو لكلكم ثوبان بين أن فيكم من لا يجد الا ثوبا واحدا فلو أوجب الثوبين لما امكن هؤلاء أداء الواجب
ثم انه أطلق الرخصة فكذلك هنا ليس كل انسان يجد خفا سليما فلو لم يرخص إلا لهذا لزم المحاويج خلع خفافهم وكان الزام غيرهم بالخلع أولى ثم إذا كان إلى الحاجة فالرخصة عامة وكل من
____________________
(21/175)
لبس خفا وهو متطهر فله المسح عليه سواء كان غنيا أو فقيرا وسواء كان الخف سليما أو مقطوعا فانه اختار لنفسه ذلك وليس هذا مما يجب فعله لله تعالى كالصدقة والعتق حتى تشترط فيه السلامة من العيوب
وأما قول المنازع ان فرض ما ظهر الغسل وما بطن المسح فهذا خطأ بالاجماع فانه ليس كل ما بطن من القدم يمسح على الظاهر الذي يلاقيه من الخف بل اذا مسح ظهر القدم أجزأه وكثير من العلماء لا يستحب مسح أسفله وهو إنما يمسح خططا بالأصابع فليس عليه أن يمسح جميع الخف كما عليه أن يمسح الجبيرة فان مسح الجبيرة يقوم مقام غسل نفس العضو فانها لما لم يمكن نزعها الا بضرر صارت بمنزلة الجلد وشعر الرأس وظفر اليد والرجل بخلاف الخف فانه يمكنه نزعه وغسل القدم ولهذا كان مسح الجبيرة واجبا ومسح الخفين جائزا ان شاء مسح وان شاء خلع
ولهذا فارق مسح الجبيرة الخف من خمسة أوجه
أحدها ان هذا واجب وذلك جائز
الثاني ان هذا يجوز في الطهارتين الصغرى والكبرى فانه لا يمكنه الا ذلك ومسح الخفين لا يكون في الكبرى بل عليه أن
____________________
(21/176)
يغسل القدمين كما عليه أن يوصل الماء إلى جلد الرأس والوجه وفي الوضوء يجزئه المسح على ظاهر شعر الرأس وغسل ظاهر اللحية الكثيفة فكذلك الخفاف يمسح عليها في الصغرى فانه لما احتاج إلى لبسها صارت بمنزلة ما يستر البشرة من الشعر الذي يمكن ايصال الماء إلى باطنه ولكن فيه مشقة والغسل لا يتكرر
الثالث ان الجبيرة يمسح عليها إلى ان يحلها ليس فيها توقيت فان مسحها للضرورة بخلاف الخف فان مسحه مؤقت عند الجمهور فان فيه خمسة أحاديث عن النبي لكن لو كان في خلعه بعد مضي الوقت ضرر مثل أن يكون هناك برد شديد متى خلع خفيه تضرر كما يوجد في أرض الثلوج وغيرها أو كان في رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه فينقطع عنهم فلا يعرف الطريق أو يخاف اذا فعل ذلك من عدو أو سبع أو كان اذا فعل ذلك فاته واجب ونحو ذلك فهنا قيل انه يتيمم وقيل انه يمسح عليهما للضرورة وهذا اقوى لأن لبسهما هنا صار كلبس الجبيرة من بعض الوجوه فأحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوما وليلة وثلاثة أيام ولياليهن وليس فيها النهي عن الزيادة الا بطريق المفهوم والمفهوم لا عموم له فاذا كان يخلع بعد الوقت عند امكان ذلك عمل بهذه الأحاديث
____________________
(21/177)
وعلى هذا يحمل حديث عقبة بن عامر لما خرج من دمشق إلى المدينة يبشر الناس بفتح دمشق ومسح أسبوعا بلا خلع فقال له عمر أصبت السنة وهو حديث صحيح وليس الخف كالجبيرة مطلقا فانه لا يستوعب بالمسح بحال ويخلع في الطهارة الكبرى ولا بد من لبسه على طهارة لكن المقصود انه اذا تعذر خلعه فالمسح عليه أولى من التيمم وان قدر أنه لا يمكن خلعه في الطهارة الكبرى فقد صار كالجبيرة يمسح عليه كله كما لو كان على رجله جبيرة يستوعبها
وأيضا فان المسح على الخفين أولى من التيمم لأنه طهارة بالماء في ما يغطي موضع الغسل وذاك مسح بالتراب في عضوين آخرين فكان هذا البدل أقرب إلى الأصل من التيمم ولهذا لو كان جريحا وأمكنه مسح جراحه بالماء دون الغسل فهل يمسح بالماء أو يتيمم فيه قولان هما روايتان عن أحمد ومسحهما بالماء أصح لأنه إذا جاز مسح الجبيرة ومسح الخف وكان ذلك أولى من التيمم فلأن يكون مسح العضو بالماء أولى من التيمم بطريق الأولى
الرابع ان الجبيرة يستوعبها بالمسح كما يستوعب الجلد لأن مسحها كغسله وهذا أقوى على قول من يوجب مسح جميع الرأس
____________________
(21/178)
الخامس ان الجبيرة يمسح عليها وان شدها على حدث عند أكثر العلماء وهو احدى الروايتين عن أحمد وهو الصواب
ومن قال لا يمسح عليها الا اذا لبسها على طهارة ليس معه الا قياسها على الخفين وهو قياس فاسد فان الفرق بينهما ثابت من هذه الوجوه ومسحها كمسح الجلدة ومسح الشعر ليس كمسح الخفين وفي كلام الامام أحمد ما يبين ذلك وانها ملحقة عنده بجلدة الانسان لا بالخفين وفي ذلك نزاع لأن من أصحابه من يجعلها كالخفين ويجعل البرء كانقضاء مدة المسح فيقول ببطلان طهارة المحل كما قالوا في الخف والأول أصح وهو انها اذا سقطت سقوط برء كان بمنزلة حلق شعر الرأس وتقليم الأظفار وبمنزلة كشط الجلد لا يوجب اعادة غسل الجنابة عليها اذا كان قد مسح عليها من الجنابة وكذلك في الوضوء لا يجب غسل المحل ولا اعادة الوضوء كما قيل أنه يجب في خلع الخف والطهارة وجبت في المسح على الخفين ليكون اذا أحدث يتعلق الحدث بالخفين فيكون مسحهما كغسل الرجلين بخلاف ما اذا تعلق الحدث بالقدم فانه لا بد من غسله
ثم قيل ان المسح لا يرفع الحدث عن الرجل فاذا خلعها كان كأنه لا يمسح عليها فيغسلها عند من لا يشترط الموالاة ومن يشترط الموالاة يعيد الوضوء وقيل بل حدثه ارتفع رفعا مؤقتا
____________________
(21/179)
إلى حين انقضاء المدة وخلع الخف لكن لما خلعه انقضت الطهارة فيه والطهارة الصغرى لا تتبعض لا في ثبوتها ولا في زوالها فان حكمها يتعلق بغير محلها فانها غسل أعضاء أربعة والبدن كله يصير طاهرا فاذا غسل عضو أو عضوان لم يرتفع الحدث حتى يغسل الأربعة وإذا انتقض الوضوء في عضو انتقض في الجميع
ومن قال هذا قال انه يعيد الوضوء ومثل هذا منتف في الجبيرة فان الجبيرة يمسح عليها في الطهارة الكبرى ولا يجزئ فيها البدل فعلم أن المسح عليها كالمسح على الجلد والشعر
ومن قال من أصحابنا أنه اذا سقطت لبرء بطلت الطهارة أو غسل محلها واذا سقطت لغير برء فعلى وجهين فانهم جعلوها مؤقتة بالبرء وجعلوا سقوطها بالبرء كانقطاع مدة المسح
وأما اذا سقطت قبل البرء فقيل هي كما لو خلع الخف قبل المدة وقيل لا تبطل الطهارة هنا لأنه لا يمكن غسلها قبل البرء بخلاف الرجل فانه يمكن غسلها إذا خلع الخف فلهذا فرقوا بينها وبين الخف في أحد الوجهين فانه اذا تعذر غسلها بقيت الطهارة بخلاف ما بعد البرء فانه يمكن غسل محلها
____________________
(21/180)
والقول بأن البرء كالوقت في الخفين ضعيف فان طهارة الجبيرة لا توقيت فيها أصلا حتى يقال اذا انقضى الوقت بطلت الطهارة بخلاف المسح على الخفين فانه مؤقت ونزعها مشبه بخلع الخف وهو أيضا تشبيه فاسد فانه ان شبه بخلعه قبل انقضاء المدة ظهر الفرق وإنما يشبه هذا نزعها قبل البرء وفيه الوجهان وان شبه بخلعه قبل انقضاء المدة فوجود الخلع كعدمه فانه لا يجوز له حينئذ ان يمسح على الخفين لأن الشارع أمره بخلعها في هذه الحال بخلاف الجبيرة فان الشارع لم يجعل لها وقتا بل جعلها بمنزلة ما يتصل بالبدن من جلد وشعر وظفر وذاك اذا احتاج الرجل إلى ازالته ازاله ولم تبطل طهارته
وقد ذهب بعض السلف إلى بطلانها وانه يطهر موضعه وهذا مشبه قول من قال مثل ذلك في الجبيرة
ومن الناس من يقول خلع الخف لا يبطل الطهارة والقول الوسط أعدل الأقوال والحاق الجبيرة بما يتصل بالبدن أولى كالوسخ الذي على يده والحناء والمسح على الجبيرة واجب لا يمكنه تخيير بينه وبين الغسل فلو لم يجز المسح عليها اذا شدها وهو محدث نقل إلى التيمم وقد قدمنا أن طهارة المسح بالماء في محل الغسل الواجب عليه أولى من طهارة المسح بالتراب في غير محل الغسل الواجب لأن الماء
____________________
(21/181)
أولى من التراب وما كان في محل الفرض فهو أولى به مما يكون في غيره فالمسح على الخفين وعلى الجبيرة وعلى نفس العضو كل ذلك خير من التيمم حيث كان ولأنه اذا شدها على حدث مسح عليها في الجنابة ففي الطهارة الصغرى أولى
وان قيل انه لا يمسح عليها من الجنابة حتى يشدها على الطهارة كان هذا قولا بلا أصل يقاس عليه وهو ضعيف جدا
وان قيل بل اذا شدها على الطهارة من الجنابة مسح عليها بخلاف ما اذا شدها وهو جنب
قيل هو محتاج إلى شدها على الطهارة من الجنابة فانه قد يجنب والماء يضر جراحه ويضر العظم المكسور ويضر الفصاد فيحتاج حينئذ ان يشده بعد الجنابة ثم يمسح عليها وهذه من أحسن المسائل
والمقصود هنا ان مسح الخف لا يستوعب فيه الخف بل يجزئ فيه مسح بعضه كما وردت به السنة وهو مذهب الفقهاء قاطبة فعلم بذلك أنه ليس كل ما بطن من القدم مسح ما يليه من الخف بل اذا مسح ظهر القدم كان هذا المسح مجزئا عن باطن القدم وعن العقب
____________________
(21/182)
وحينئذ فاذا كان الخرق في موضع ومسح موضعا آخر كان ذلك مسحا مجزئا عن غسل جميع القدم لا سيما اذا كان الخرق في مؤخر الخف وأسفله فان مسح ذلك الموضع لا يجب بل ولا يستحب ولو كان الخرق في المقدم فالمسح خطوط بين الأصابع
فان قيل مرادنا أن ما بطن يجزئ عنه المسح وما ظهر يجب غسله
قيل هذا دعوى محل النزاع فلا تكون حجة فلا نسلم أن ما ظهر من الخف المخرق فرضه غسله فهذا رأس المسألة فمن احتج به كان مثبتا للشيء بنفسه
وان قالوا بأن المسح انما يكون على مستور أو مغطى ونحو ذلك كانت هذه كلها عبارات عن معنى واحد وهو دعوى رأس المسألة بلا حجة أصلا والشارع أمرنا بالمسح على الخفين مطلقا ولم يقيده والقياس يقتضي أنه لا يقيد
والمسح على الخفين قد اشترط فيه طائفة من الفقهاء شرطين
هذا أحدهما وهو أن يكون ساترا لمحل الفرض وقد تبين ضعف هذا الشرط
____________________
(21/183)
والثاني أن يكون الخف يثبت بنفسه وقد اشترط ذلك الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فلو لم يثبت الا بشده بشيء يسير أو خيط متصل به أو منفصل عنه ونحو ذلك لم يمسح وان ثبت بنفسه لكنه لا يستر جميع المحل الا بالشد كالزربول الطويل المشقوق يثبت بنفسه لكن لا يستر إلى الكعبين الا بالشد ففيه وجهان أصحهما أنه يمسح عليه وهذا الشرط لا أصل له في كلام أحمد بل المنصوص عنه في غير موضع انه يجوز المسح على الجوربين وإن لم يثبتا بأنفسهما بل بنعلين تحتهما وأنه يمسح على الجوربين ما لم يخلع النعلين فإذا كان أحمد لا يشترط في الجوربين أن يثبتا بأنفسهما بل اذا ثبتا بالنعلين جاز المسح عليهما فغيرهما بطريق الأولى وهنا قد ثبتا بالنعلين وهما منفصلان عن الجوربين فاذا ثبت الجوربان بشدهما بخيوطهما كان المسح عليهما أولى بالجواز
واذا كان هذا في الجوربين فالزربول الذي لا يثبت الا بسير يشده به متصلا به أو منفصلا عنه أولى بالمسح عليه من الجوربين
وهكذا ما يلبس على الرجل من فرو وقطن وغيرهما اذا ثبت ذلك بشدهما بخيط متصل أو منفصل مسح عليهما بطريق الأولى
فان قيل فيلزم من ذلك جواز المسح على اللفائف وهو ان
____________________
(21/184)
يلف على الرجل لفائف من البرد أو خوف الحفاء أو من جراح بهما ونحو ذلك
قيل في هذا وجهان ذكرهما الحلواني والصواب أنه يمسح على اللفائف وهي بالمسح أولى من الخف والجورب فان تلك اللفائف انما تستعمل للحاجة في العادة وفي نوعها ضرر إما إصابة البرد وإما التأذي بالحفاء وإما التأذي بالجرح فاذا جاز المسح على الخفين والجوربين فعلى اللفائف بطريق الأولى
ومن ادعى في شيء من ذلك اجماعا فليس معه الا عدم العلم ولا يمكنه أن ينقل المنع عن عشرة من العلماء المشهورين فضلا عن الاجماع والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره وذلك أن أصل المسح على الخفين خفي على كثير من السلف والخلف حتى أن طائفة من الصحابة أنكروه وطائفة من فقهاء أهل المدينة وأهل البيت انكروه مطلقا وهو رواية عن مالك والمشهور عنه جوازه في السفر دون الحضر
وقد صنف الامام أحمد كتابا كبيرا في الأشربة في تحريم المسكر ولم يذكر فيه خلافا عن الصحابة فقيل له في ذلك فقال هذا صح فيه الخلاف عن الصحابة بخلاف المسكر ومالك مع سعة علمه وعلو
____________________
(21/185)
قدره قال في كتاب السر لأقولن قولا لم أقله قبل ذلك في علانية وتكلم بكلام مضمونه انكاره اما مطلقا واما في الحضر وخالفه أصحابه في ذلك وقال بن وهب هذا ضعف له حيث لم يقله قبل ذلك علانية
والذين جوزوه منع كثير منهم من المسح على الجرموقين الملبوسين على الخفين والثلاثة منعوا المسح على الجوربين وعلى العمامة فعلم أن هذا الباب مما هابه كثير من السلف والخلف حيث كان الغسل هو الفرض الظاهر المعلوم فصاروا يجوزون المسح حيث يظهر ظهورا لا حيلة فيه ولا يطردون فيه قياسا صحيحا ولا يتمسكون بظاهر النص المبيح والا فمن تدبر ألفاظ الرسول وأعطى القياس حقه علم أن الرخصة منه في هذا الباب واسعة وان ذلك من محاسن الشريعة ومن الحنيفية السمحة التي بعث بها
وقد كانت أم سلمة زوج النبي تمسح على خمارها فهل تفعل ذلك بدون اذنه وكان أبو موسى الأشعري وأنس بن مالك يمسحان على القلانس ولهذا جوز أحمد هذا وهذا في احدى الروايتين عنه وجوز أيضا المسح على العمامة لكن أبو عبد الله بن حامد رأى أن العمامة التي ليست محنكة المقتطعة كان أحمد يكره لبسها وكذا مالك يكره لبسها أيضا لما جاء
____________________
(21/186)
في ذلك من الآثار وشرط في المسح عليها أن تكون محنكة واتبعه على ذلك القاضي وأتباعه وذكروا فيها إذا كان لها ذؤابة وجهين
وقال بعض أصحاب أحمد إذا كان أحمد في احدى الروايتين يجوز المسح على القلانس الدنيات وهي القلانس الكبار فلأن يجوز ذلك على العمامة بطريق الأولى والأحرى والسلف كانوا يحنكون عمائمهم لأنهم كانوا يركبون الخيل ويجاهدون في سبيل الله فان لم يربطوا العمائم بالتحنيك والا سقطت ولم يمكن معها طرد الخيل ولهذا ذكر أحمد عن أهل الشام أنهم كانوا يحافظون على هذه السنة لأجل أنهم كانوا في زمنه هم المجاهدون وذكر إسحاق بن راهويه باسناده أن أولاد المهاجرين والأنصار كانوا يلبسون العمائم بلا تحنيك وهذا لأنهم كانوا في الحجاز في زمن التابعين لا يجاهدون ورخص إسحاق وغيره في لبسها بلا تحنيك والجند المقاتلة لما احتاجوا إلى ربط عمائمهم صاروا يربطونها اما بكلاليب واما بعصابة ونحو ذلك وهذا معناه معنى التحنيك كما أن من السلف من كان يربط وسطه بطرف عمامته والمناطق يحصل بها هذا المقصود وفي نزع العمامة المربوطة بعصابة وكلاليب من المشقة ما في نزع المحنكة
وقد ثبت المسح على العمامة عن النبي من وجوه
____________________
(21/187)
صحيحة لكن العلماء فيها على ثلاثة اقوال
منهم من يقول الفرض سقط بمسح ما بدا من الرأس والمسح على العمامة مستحب وهذا قول الشافعي وغيره
ومنهم من يقول بل الفرض سقط بمسح العمامة ومسح ما بدا من الرأس كما في حديث المغيرة وهل هو واجب لأنه فعله في حديث المغيرة أو ليس بواجب لأنه لم يأمر به في سائر الأحاديث على روايتين وهذا قول أحمد المشهور عنه
ومنهم من يقول بل انما كان المسح على العمامة لأجل الضرر وهو ما اذا حصل بكشف الرأس ضرر من برد ومرض فيكون من جنس المسح على الجبيرة كما جاء أنهم كانوا في سرية فشكوا البرد فأمرهم أن يمسحوا على التساخين والعصائب والعصائب هي العمائم ومعلوم أن البلاد الباردة يحتاج فيها من يمسح التساخين والعصائب ما لا يحتاج إليه في أرض الحجاز فأهل الشام والروم ونحو هذه البلاد أحق بالرخصة في هذا وهذا من أهل الحجاز والماشون في الأرض الحزنة والوعرة أحق بجواز المسح على الخف من الماشين في الأرض السهلة وخفاف هؤلاء في العادة لا بد أن يؤثر فيها الحجر فهم برخصة المسح على الخفاف المخرقة أولى من غيرهم
____________________
(21/188)
ثم المانع من ذلك يقول إذا ظهر بعض القدم لم يجز المسح فقد يظهر شيء يسير من القدم كموضع الخرز وهذا موجود في كثير من الخفاف فان منعوا من المسح عليها ضيقوا تضييقا يظهر خلافه للشريعة بلا حجة معهم أصلا
فان قيل هذا لا يمكن غسله حتى يقولوا فرضه الغسل وان قالوا هذا يعفى عنه لم يكن لهم ضابط فيما يمنع وفيما لا يمنع
والذي يوضح هذا أن قولهم إذا ظهر بعض القدم ان أرادوا ظهوره للبصر فابصار الناس مع اختلاف ادراكها قد يظهر لها من القدم ما لا يمكن غسله وان أرادوا ما يظهر ويمكن مسه باليد فقد يمكن غسله بلا مس وان قالوا ما يمكن غسله فالامكان يختلف قد يمكن مع الجرح ولا يمكن بدونه فان سم الخياط يمكن غسله إذا وضع القدم في مغمزه وصبر عليه حتى يدخل الماء في سم الخياط مع أنه قد لا يتيقن وصول الماء عليه إلا بخضخضة ونحوها ولا يمكن غسله كما يغسل القدم وهذا على مذهب أحمد أقوى فانه يجوز المسح على العمامة اذا لبست على الوجه المعتاد وان ظهر من جوانب الرأس ما يمسح عليه ولا يجب مسح ذلك
وهل يجوز المسح على الناصية مع ذلك فيه عنه روايتان فلم
____________________
(21/189)
يشترط في الممسوح أن يكون ساترا لجميع محل الفرض وأوجب الجمع بين الأصل والبدل على احدى الروايتين والشافعي ايضا يستحب ذلك كما يستحبه احمد في الرواية الأخرى فعلم أن المعتبر في اللباس أن يكون على الوجه المعتاد سواء ستر جميع محل الفرض أو لم يستره والخفاف قد اعتيد فيها أن تلبس مع الفتق والخرق وظهور بعض الرجل وأما ما تحت الكعبين فذاك ليس بخف أصلا ولهذا يجوز للمحرم لبسه مع القدرة على النعلين في أظهر قولي العلماء كما سنذكره ان شاء الله تعالى ونبين نسخ الأمر بالقطع وانه انما أمر به حين لم يشرع البدل أيضا
فالمقدمة الثانية من دليلهم وهو قولهم يمكن الجمع بين الأصل والبدل ممنوع على أصل الشافعي وأحمد فان عندهما يجمع بين التيمم والغسل فيما اذا أمكن غسل بعض البدن دون البعض لكون الباقي جريحا أو لكون الماء قليلا ويجمع بين مسح بعض الرأس مع العمامة كما فعل النبي عام تبوك فلو قدر أن الله تعالى أوجب مسح الخفين كما أوجب غسل جميع البدن أمكن أن يغسل ما ظهر ويمسح ما بطن كما يفعل مثل ذلك في الجبيرة فانه اذا ربطها على بعض مكان مسح الجبيرة وغسل او مسح ما بينهما فجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد فتبين أن سقوط غسل ما ظهر
____________________
(21/190)
من القدم لم يمكن لأنه لا يجمع بين الأصل والبدل بل لأن مسح ظهر الخف ولو خطا بالأصابع يجزئ عن جميع القدم فلا يجب غسل شيء منه لا ما ظهر ولا ما بطن كما أمر صاحب الشرع لأمته إذ أمرهم إذا كانوا مسافرين ان لا ينزعوا خفافهم ثلاثة أيام ولياليهن لا من غائط ولا بول ولا نوم فأي خف كان على أرجلهم دخل في مطلق النص
كما ان قوله لما سئل ما يلبس المحرم من الثياب فقال لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين هكذا رواه بن عمر وذكر أن النبي خطب بذلك لما كان بالمدينة ولم يكن حينئذ قد شرعت رخصة البدل فلم يرخص لهم لا في لبس السراويل إذا لم يجدوا الإزار ولا في لبس الخف مطلقا
ثم انه في عرفات بعد ذلك قال السراويل لمن لم يجد الإزار والخفاف لمن لم يجد النعلين هكذا رواه بن عباس وحديثه في الصحيحين ورواه جابر وحديثه في مسلم فأرخص لهم بعرفات في البدل فأجاز لهم لبس السراويل إذا لم يجدوا الازار بلا فتق وعليه جمهور العلماء فمن اشترط فتقه خالف النص وأجاز لهم حينئذ لبس الخفين
____________________
(21/191)
اذا لم يجدوا النعلين بلا قطع فمن اشترط القطع فقد خالف النص فان السراويل المفتوق والخف المقطوع لا يدخل في مسمى السراويل والخف عند الاطلاق كما أن القميص إذا فتق وصار قطعا لم يسم سراويل وكذلك البرنس وغير ذلك فانما أمر بالقطع أولا لأن رخصة البدل لم تكن شرعت فأمرهم بالقطع حينئذ لأن المقطوع يصير كالنعلين فانه ليس بخف ولهذا لا يجوز المسح عليه باتفاق المسلمين فلم يدخل في إذنه في المسح على الخفين
ودل هذا على أن كل ما يلبس تحت الكعبين من مداس وجمجم وغيرهما كالخف المقطوع تحت الكعبين أولى بالجواز فتكون اباحته أصلية كما تباح النعلان لا أنه أبيح على طريق البدل وإنما المباح على طريق البدل هو الخف المطلق والسراويل
ودلت نصوصه الكريمة وألفاظه الشريفة التي هي مصابيح الهدى على أمور يحتاج الناس إلى معرفتها قد تنازع فيها العلماء
منها أنه لما أذن للمحرم إذا لم يجد النعلين يلبس الخف إما مطلقا واما مع القطع كان ذلك اذنا في كل ما يسمى خفا سواء كان سليما أو معيبا وكذلك لما أذن في المسح على الخفين كان ذلك إذنا في كل خف وليس المقصود قياس حكم على حكم حتى يقال ذاك أباح له لبسه وهذا أباح المسح عليه بل المقصود أن لفظ الخف في كلامه يتناول هذا بالاجماع فعلم ان لفظ
____________________
(21/192)
الخف يتناول هذا وهذا فمن ادعى في أحد الموضعين انه اراد بعض أنواع الخفاف فعليه البيان وإذا كان الخف في لفظه مطلقا حيث أباح لبسه للمحرم وكل خف جاز للمحرم لبسه وان قطعه جاز له ان يمسح عليه إذا لم يقطعه
الثاني ان المحرم إذا لم يجد نعلين ولا ما يشبه النعلين من خف مقطوع أو جمجم أو مداس أو غير ذلك فانه يلبس أي خف شاء ولا يقطعه هذا اصح قولي العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد وغيره فان النبي أذن بذلك في عرفات بعد نهيه عن لبس الخف مطلقا وبعد أمره من لم يجد أن يقطع ولم يامرهم بعرفات بقطع مع أن الذين حضروا بعرفات كان كثير منهم أو أكثرهم لم يشهدوا كلامه بالمدينة بل حضر من مكة واليمن والبوادي وغيرها خلق عظيم حجوا معه لم يشهدوا جوابه بالمدينة على المنبر بل أكثر الذين حجوا معه لم يشهدوا ذلك الجواب
وذلك الجواب لم يذكره ابتداء لتعليم جميع الناس بل سأله سائل وهو على المنبر ما يلبس المحرم من الثياب فقال لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف الا من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين وبن عمر لم يسمع منه الا هذا كما أنه في المواقيت لم
____________________
(21/193)
يسمع الا ثلاث مواقيت قوله أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام الجحفة وأهل نجد قرن قال بن عمر وذكر لي ولم أسمع ان النبي وقت لأهل اليمن يلملم وهذا الذي ذكر له صحيح قد ثبت في الصحيحين عن النبي من رواية بن عباس فابن عباس أخبر أن النبي وقت لأهل اليمن يلملم ولأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم وقال هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة فكان عند بن عباس من العلم بهذه السنة ما لم يكن عند بن عمر وفي حديثه ذكر أربع مواقيت وذكر أحكام الناس كلهم إذا مروا عليها أو احرموا من دونها
والنبي كان يبلغ الدين بحسب ما أمر الله به فلما كان اهل المدينة قد أسلموا وأسلم أهل نجد وأسلم من كان من ناحية الشام وقت الثلاث وأهل اليمن انما أسلموا بعد ذلك ولهذا لم ير أكثرهم النبي بل كانوا مخضرمين فلما اسلموا وقت النبي وقال أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوبا والين أفئدة الايمان يماني والفقه يماني والحكمة يمانية
____________________
(21/194)
ثم قد روى عنه أنه لما فتحت أطراف العراق وقت لهم ذات عرق كما روى مسلم هذا من حديث جابر لكن قال بن الزبير فيه أحسبه عن النبي وقطع به غيره وروى ذلك من حديث عائشة فكان ما سمعه هؤلاء أكثر مما سمعه غيرهم
وكذلك بن عباس وجابر في ترخيصه في الخف والسراويل ففي الصحيحين عن بن عباس قال سمعت رسول الله وهو يخطب بعرفات يقول السراويلات لمن لم يجد الازار والخفان لمن لم يجد النعلين
وفي صحيح مسلم عن جابر من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد ازارا فليلبس سراويل فهذا كلام مبتدأ منه بين فيه في عرفات وهو أعظم مجمع كان له ان من لم يجد ازارا فليلبس السراويل ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين ولم يأمر بقطع ولا فتق وأكثر الحاضرين بعرفات لم يشهدوا خطبته وما سمعوا أمره بقطع الخفين وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فعلم ان هذا الشرع الذي شرعه الله على لسانه بعرفات لم يكن شرع بعد بالمدينة وانه بالمدينة انما أرخص في لبس النعلين وما يشبههما من المقطوع فدل ذلك على أن من عدم ما يشبه الخفين يلبس الخف
____________________
(21/195)
الثالث أنه دل على انه يلبس سراويل بلا فتق وهو قول الجمهور والشافعي وأحمد
الرابع انه دل على ان المقطوع كالنعلين يجوز لبسهما مطلقا ولبس ما أشبههما من جمجم ومداس وغير ذلك وهذا مذهب ابي حنيفة ووجه في مذهب احمد وغيره وبه كان يفتي جدي أبو البركات رحمه الله في آخر عمره لما حج
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى تبين له من حديث بن عمر ان المقطوع لبسه أصل لا بدل له فيجوز لبسه مطلقا وهذا فهم صحيح منه دون فهم من فهم أنه بدل
والثلاثة تبين لهم أن النبي أرخص في البدل وهو الخف ولبس السراويل فمن لبس السراويل اذا عدم الأصل فلا فدية عليه وهذا فهم صحيح
وأحمد فهم من النص المتأخر الذي شرع فيه البدلان انه ناسخ للقطع المتقدم وهذا فهم صحيح
وابو حنيفة لم يبلغه هذا فأوجب الفدية على كل من لبس خفا أو سراويل اذا لم يفتقه وان عدم كما قال ذلك بن عمر وغيره
____________________
(21/196)
وزاد أن الرخصة في ذلك انما هي للحاجة والمحرم اذا احتاج إلى محظور فعله وافتدى
وأما الأكثرون فقالوا من لبس البدل فلا فدية عليه كما أباح ذلك النبي بعرفات ولم يأمر معه بفدية ولا فتق قالوا والناس كلهم محتاجون إلى لبس ما يسترون به عوراتهم وما يلبسونه في أرجلهم فالحاجة إلى ذلك عامة وما احتاج إليه العموم لم يحظر عليهم ولم يكن عليهم فيه فدية بخلاف ما احتيج إليه لمرض أو برد ومن ذلك حاجة لعارض ولهذا ارخص النبي للنساء في اللباس مطلقا من غير فدية ونهى المحرمة عن النقاب والقفازين فان المرأة لما كانت محتاجة إلى ستر بدنها لم يكن عليها في ستره فدية
وكذلك حاجة الرجال إلى السراويل والخفاف اذا لم يجدوا الازار والنعال وبن عمر رضي الله عنه لما لم يسمع الا حديث القطع اخذ بعمومه فكان يأمر النساء بقطع الخفاف حتى أخبروه بعد هذا أن النبي رخص للنساء في لبس ذلك كما أنه لما سمع قوله لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت أخذ بعمومه في حق الرجال والنساء فكان يأمر الحائض أن لا تنفر حتى تطوف وكذلك زيد بن ثابت كان يقول ذلك حتى أخبروهما ان النبي
____________________
(21/197)
رخص للحيض أن ينفرن بلا وداع
وتناظر في ذلك زيد وبن عباس وبن الزبير لما سمعا نهي النبي عن لبس الحرير أخذا بالعموم فكان بن الزبير يأمر الناس بمنع نسائهم من لبس الحرير وكان بن عمر ينهى عن قليله وكثيره فينزع خيوط الحرير من الثوب وغيرهما سمع الرخصة للحاجة وهو الارخاص للنساء وللرجال في اليسير وفيما يحتاجون إليه للتداوي وغيره لأن ذلك حاجة عامة
وهكذا اجتهاد العلماء رضي الله عنهم في النصوص يسمع أحدهم النص المطلق فيأخذ به ولا يبلغه ما يبلغ مثله من تقييده وتخصيصه والله لم يحرم على الناس في الاحرام ولا غيره ما يحتاجون إليه حاجة عامة ولا أمر مع هذه الرخصة في الحاجة العامة أن يفسد الانسان خفه أو سراويله بقطع أو فتق كما افتى بذلك بن عباس وغيره ممن سمع السنة المتأخرة وإنما أمر بالقطع أولا ليصير المقطوع كالنعل فأمر بالقطع قبل أن يشرع البدل لأن المقطوع يجوز لبسه مطلقا وانما قال لمن لم يجد لأن القطع مع وجود النعل افساد للخف وافساد المال من غير حاجة منهى عنه بخلاف ما اذا عدم الخف فلهذا جعل بدلا في هذه الحال لأجل فساد المال كما في الصحيحين عن النبي قال اذا قام احدكم في الصلاة فانه
____________________
(21/198)
يناجي ربه فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن شماله أو تحت قدمه هذه رواية أنس وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال رأى النبي نخامة في قبلة المسجد فأقبل على الناس فقال ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه أيحب احدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فان لم يجد قال هكذا وتفل في ثوبه ووضع بعضه على بعض فأمر بالبصاق في الثوب اذا تعذر لا لأن البصاق في الثوب بدل شرعي لكن مثل ذلك يلوث الثوب من غير حاجة
وفي الاستجمار أمر بثلاثة أحجار فمن لم يجد فثلاث حثيات من تراب لأن التراب لا يتمكن به كما يتمكن بالحجر لا لأنه بدل شرعي ونظائره كثيرة فدلت نصوصه الكريمة على أن الصواب في هذه المسائل توسعة شريعته الحنيفية وانه ما جعل على أمته من حرج وكل قول دلت عليه نصوصه قالت به طائفة من العلماء رضي الله عنهم فلم تجمع الأمة ولله الحمد على رد شيء من ذلك إذ كانوا لا يجتمعون على ضلالة بل عليهم أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والى الرسول واذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول تبين كمال دينه وتصديق بعضه لبعض وان من افتى من السلف والخلف بخلاف ذلك مع اجتهاده وتقواه لله بحسب استطاعته فهو مأجور في ذلك لا اثم عليه وان
____________________
(21/199)
كان الذي أصاب الحق فيعرفه له أجران وهو أعلم منه كالمجتهدين في جهة الكعبة
وبن عمر رضي الله عنه كان كثير الحج وكان يفتي الناس في المناسك كثيرا وكان في آخر عمره قد احتاج إليه الناس وإلى علمه ودينه إذ كان بن عباس مات قبله وكان بن عمر يفتي بحسب ما سمعه وفهمه فلهذا يوجد في مسائله أقوال فيها ضيق لورعه ودينه رضي الله عنه وأرضاه وكان قد رجع عن كثير منها كما رجع عن أمر النساء بقطع الخفين وعن الحائض أمر أن لا تنفر حتى تودع وغير ذلك وكان يأمر الرجال بالقطع إذ لم يبلغه الخبر الناسخ
وأما بن عباس فكان يبيح للرجال لبس الخف بلا قطع إذا لم يجدوا النعلين لما سمعه من النبي بعرفات وكذلك كان بن عمر ينهى المحرم من الطيب حتى يطوف اتباعا لعمر وأما سعد وبن عباس وغيرهما من الصحابة فبلغتهم سنة رسول الله من طريق عائشة رضي الله عنها أنه تطيب لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت فأخذوا بذلك
وكذلك بن عمر رضي الله عنه كان إذا مات المحرم يرى أحرامه قد انقطع فلما مات ابنه كفنه في خمسة أثواب واتبعه على ذلك
____________________
(21/200)
كثير من الفقهاء وبن عباس علم حديث الذي وقصته ناقته وهو محرم فقال النبي اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تقربوه طيبا ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا فأخذ بذلك وقال الإحرام باق يجتنب المحرم إذا مات ما يجتنبه غيره وعلى ذلك فقهاء الحديث وغيرهم
وكذلك الشهيد روي عن بن عمر أنه سئل عن تغسيله فقال غسل عمر وهو شهيد والأكثرون بلغهم سنة النبي في شهداء أحد وقوله زملوهم بكلومهم ودمائهم فإن أحدهم يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون دم والريح ريح مسك والحديث في الصحاح فأخذوا بذلك في شهيد المعركة إذا مات قبل أن يرتث ونظائر ذلك كثيرة
واتفق العلماء على أن المحرم يعقد الإزار إذا احتاج إلى ذلك لأنه إنما يثبت بالعقد وكره بن عمر للمحرم أن يعقد الرداء كأنه رأى أنه إذا عقد عقدة صار يشبه القميص الذي ليس له يدان واتبعه على ذلك أكثر الفقهاء فكرهوه كراهة تحريم فيوجبون الفدية إذا فعل ذلك وأما كراهة تنزيه فلا يوجبون الفدية وهذا أقرب ولم ينقل أحد من الصحابة كراهة عقد الرداء الصغير الذي لا يلتحف ولا يثبت بالعادة إلا بالعقد أو ما يشبهه مثل الخلال وربط الطرفين على حقوه
____________________
(21/201)
ونحو ذلك وأهل الحجاز أرضهم ليست باردة فكانوا يعتادون لبس الأزر والأردية ولبس السراويل قليل فيهم حتى إن منهم من كان لا يلبس السراويل قط منهم عثمان بن عفان وغيره بخلاف أهل البلاد الباردة لو اقتصروا على الأزر والأردية لم يكفهم ذلك بل يحتاجون إلى القميص والخفاف والفراء والسراويلات ولهذا قال الفقهاء يستحب مع الرداء الإزار لأنه يستر الفخذين ويستحب مع القميص السراويل لأنه أستر ومع القميص لا يظهر تقاطيع الخلق والقميص فوق السراويل يستر بخلاف الرداء فوق السراويل فإنه لا يستر تقاطيع الخلق
وأما الرداء فوق السراويل فمن الناس من يستحبه تشبها بهم ومنهم من لا يستحبه لعدم المنفعة فيه ولأن عادتهم المعروفة لبسه مع الإزار ومن اعتاد الرداء ثبت على جسده بعطف أحد طرفيه وإذا حج من لم يتعود لبسه وكان رداؤه صغيرا لم يثبت إلا بعقده وكانت حاجتهم إلى عقده كحاجة من لم يجد النعلين إلى الخفين فإن الحاجة إلى ستر البدن قد تكون أعظم من الحاجة إلى ستر القدمين والتحفي في المشي يفعله كثير من الناس وأما إظهار بدنه للحر والبرد والريح والشمس فهذا يضر غالب الناس
وأيضا فإن النبي أمر المصلي بستر ذلك
____________________
(21/202)
فقال لا يصلين بالثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وتجوز الصلاة حافيا فعلم أن ستر هذا إلى الله أحب من ستر القدمين بالنعلين فإذا كان ذلك للحاجة العامة رخص فيه في البدن من غير فدية فلأن يرخص في هذا بطريق الأولى والأحرى
فإن قيل فينبغي أن يرخص في لبس القميص والجبة ونحوهما لمن لم يجد الرداء
قيل الحاجة تندفع بأن يلتحف بذلك عرضا مع ربطه وعقد طرفيه فيكون كالرداء بخلاف ما إذا لم يمكنه الربط فإن طرفي القميص والجبة ونحوهما لا يثبت على منكبيه وكذلك الأردية الصغار فما وجده المحرم من قميص وما يشبهه كالجبة ومن برنس وما يشبهه من ثياب مقطعة أمكنه أن يرتدي بها إذا ربطها فيجب أن يرخص له في ذلك لو كان العقد في الأصل محظورا وكذلك إن كان مكروها فعند الحاجة تزول الكراهة كما رخص له أن يلبس الهميان لحفظ ماله ويعقد طرفيه إذا لم يثبت إلا بالعقد وهو إلى ستر منكبيه أحوج فرخص له عقد ذلك عند الحاجة بلا ريب والنبي لم يذكر فيما يحرم على المحرم وما ينهى عنه لفظا عاما يتناول عقد الرداء بل سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال لا يلبس القميص ولا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات
____________________
(21/203)
ولا الخفاف إلا من لم يجد نعلين الحديث
فنهى عن خمسة أنواع من الثياب التي تلبس على البدن وهي القميص وفي معناه الجبة وأشباهها فإنه لم يرد تحريم هذه الخمسة فقط بل أراد تحريم هذه الأجناس ونبه على كل جنس بنوع منها وذكر ما احتاج المخاطبون إلى معرفته وهو ما كانوا يلبسونه غالبا والدليل على ذلك ما ثبت عنه في الصحيحين أنه سئل قبل ذلك عمن أحرم بالعمرة وعليه جبة فقال انزع عنك الجبة واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك ما كنت صانعا في حجك وكان هذا في عمرة القضية فعلم أن تحريم الجبة كان مشروعا قبل هذا ولم يذكرها بلفظها في الحديث
وأيضا فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال في المحرم الذي وقصته ناقته ولا تخمروا رأسه وفي مسلم ووجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا فنهاهم عن تخمير رأسه لبقاء الإحرام عليه لكونه يبعث يوم القيامة ملبيا كما أمرهم أن لا يقربوه طيبا فعلم أن المحرم ينهى عن هذا وهذا وإنما في هذا الحديث النهي عن لبس العمائم فعلم أنه أراد النهي عن ذلك وعما يشبهه في تخمير الرأس فذكر ما يخمر الرأس وما يلبس على البدن كالقميص والجبة وما يلبس عليهما جميعا وهو البرنس وذكر ما يلبس في النصف الأسفل من البدن
____________________
(21/204)
وهو السراويل والثياب والتبان في معناه وكذلك ما يلبس في الرجلين وهو الخف ومعلوم أن الجرموق والجورب في معناه فهذا ينهى عنه المحرم فكذلك يجوز عليه المسح للحلال والمحرم الذي جاز له لبسه فإن الذي نهي عنه المحرم أمر بالمسح عليه
وهذا كما أنه لما أمر بالاستجمار بالأحجار لم يختص الحجر إلا لأنه كان الموجود غالبا لا لأن الاستجمار بغيره لا يجوز بل الصواب قول الجمهور في جواز الاستجمار بغيره كما هو أظهر الروايتين عن أحمد لنهيه عن الاستجمار بالروث والرمة وقال إنهما طعام إخوانكم من الجن فلما نهى عن هذين تعليلا بهذه العلة علم أن الحكم ليس مختصا بالحجر وإلا لم يحتج إلى ذلك
وكذلك أمره بصدقة الفطر بصاع من تمر أو شعير هو عند أكثر العلماء لكونه كان قوتا للناس فأهل كل بلد يخرجون من قوتهم وإن لم يكن من الأصناف الخمسة كالذين يقتاتون الرز أو الذرة يخرجون من ذلك عند أكثر العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد
وليس نهيه عن الاستجمار بالروث والرمة إذنا في الاستجمار بكل شيء بل الاستجمار بطعام الآدميين وعلف دوابهم أولى بالنهي عنه من
____________________
(21/205)
طعام الجن وعلف دوابهم ولكن لما كان من عادة الناس أنهم لا يتوقون الاستجمار بما نهي عنه من ذلك بخلاف طعام الإنس وعلف دوابهم فإنه لا يوجد من يفعله في العادة الغالبة
وكذلك هذه الأصناف الخمسة نهي عنها وقد سئل ما يلبس المحرم من الثياب وظاهر لفظه أنه أذن فيما سواها لأنه سئل عما يلبس لا عما لا يلبس فلو لم يفد كلامه الإذن فيما سواها لم يكن قد أجاب السائل لكن كان الملبوس المعتاد عندهم مما يحرم على المحرم هذه الخمسة والقوم لهم عقل وفقه فيعلم أحدهم أنه إذا نهي عن القميص وهو طاق واحد فلأن ينهى عن المبطنة وعن الجبة المحشوة وعن الفروة التي هي كالقميص وما شاكل ذلك بطريق الأولى والأحرى لأن هذه الأمور فيها ما في القميص وزيادة فلا يجوز أن يأذن فيها مع نهيه عن القميص
وكذلك التبان أبلغ من السراويل والعمامة تلبس في العادة فوق غيرها إما قلنسوة أو كلثة أو نحو ذلك فإذا نهي عن العمامة التي لا تباشر الرأس فنهيه عن القلنسوة والكلثة ونحوها مما يباشر الرأس أولى فإن ذلك أقرب إلى تخمير الرأس والمحرم أشعث أغبر
ولهذا قال في الحديث الصحيح حديث المباهاة إنه
____________________
(21/206)
يدنو عشية عرفة فيباهي الملائكة بأهل الموقف فيقول انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ما أراد هؤلاء وشعث الرأس واغبراره لا يكون مع تخميره فإن المخمر لا يصيبه الغبار ولا يشعث بالشمس والريح وغيرهما ولهذا كان من لبد رأسه يحصل له نوع متعة بذلك يؤمر بالحلق فلا يقصر وهذا بخلاف القعود في ظل أو سقف أو خيمة أو شجر أو ثوب يظلل به فإن هذا جائز بالكتاب والسنة والإجماع لأن ذلك لا يمنع الشعث ولا الاغبرار وليس فيه تخمير الرأس
وإنما تنازع الناس فيمن يستظل بالمحمل لأنه ملازم للراكب كما تلازمه العمامة لكنه منفصل عنه فمن نهي عنه اعتبر ملازمته له ومن رخص فيه اعتبر انفصاله عنه فأما المنفصل الذي لا يلازم فهذا يباح بالإجماع والمتصل الملازم منهي عنه باتفاق الأئمة
ومن لم يلحظ المعاني من خطاب الله ورسوله ولا يفهم تنبيه الخطاب وفحواه من أهل الظاهر كالذين يقولون إن قوله { فلا تقل لهما أف } لا يفيد النهي عن الضرب وهو إحدى الروايتين عن داود واختاره بن حزم وهذا في غاية الضعف بل وكذلك قياس الأولى وإن لم يدل عليه الخطاب لكن عرف أنه أولى بالحكم من المنطوق بهذا فإنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحد من السلف فما زال السلف يحتجون بمثل هذا وهذا
____________________
(21/207)
كما أنه إذا قال في الحديث الصحيح والذي نفسي بيده لا يؤمن كررها ثلاثا قالوا من يا رسول الله قال من لا يأمن جاره بوائقه فإذا كان هذا بمجرد الخوف من بوائقه فكيف من فعل البوائق مع عدم أمن جاره منه كما في الصحيح عنه أنه قيل له أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم ماذا قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قيل ثم أي قال أن تزاني بحليلة جارك ومعلوم أن الجار لا يعرف هذا في العادة فهذا أولى بسلب الإيمان ممن لا تؤمن بوائقه ولم يفعل مثل هذا
وكذلك إذا قال { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } فإذا كان هؤلاء لا يؤمنون فالذين لا يحكمونه ويردون حكمه ويجدوا حرجا مما قضى لاعتقادهم أن غيره أصح منه أو أنه ليس بحكم سديد أشد وأعظم
وكذلك إذا قال { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } فإذا كان بموادة المحاد لا يكون مؤمنا فأن لا يكون مؤمنا إذا حاد بطريق الأولى والأحرى وكذلك إذا نهي الرجل أن يستنجي بالعظم والروثة لأنهما طعام الجن وعلف دوابهم فإنهم يعلمون أن نهيه عن الاستنجاء بطعام الإنس وعلف دوابهم أولى
____________________
(21/208)
وإن لم يدل ذلك اللفظ عليه وكذلك إذا نهي عن قتل الأولاد مع الإملاق فنهيه عن ذلك مع الغنى واليسار أولى وأحرى
فالتخصيص بالذكر قد يكون للحاجة إلى معرفته وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم فتخصيص القميص دون الجباب والعمائم دون القلانس والسراويلات دون التبابين هو من هذا الباب لا لأن كل ما لا يتناوله اللفظ فقد أذن فيه
وكذلك أمره بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي مع ما فيه من اختلاط الماء بالبول وسريان ذلك لكن قصد به تعجيل التطهير لا لأن النجاسة لا تزول بغير ذلك بل الشمس والريح والاستحالة تزيل النجاسة أعظم من هذا ولهذا كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك
وكذلك اتفق الفقهاء على أن من توضأ وضوءا كاملا ثم لبس الخفين جاز له المسح بلا نزاع ولو غسل إحدى رجليه وأدخلها الخف ثم فعل بالأخرى مثل ذلك ففيه قولان هما روايتان عن أحمد
إحداهما يجوز المسح وهو مذهب أبي حنيفة
____________________
(21/209)
والثانية لا يجوز وهو مذهب مالك والشافعي قال هؤلاء لأن الواجب ابتداء اللبس على الطهارة فلو لبسهما وتوضأ وغسل رجليه فيهما لم يجز له المسح حتى يخلع ما لبس قبل تمام طهرهما فيلبسه بعده وكذلك في تلك الصورة قالوا يخلع الرجل الأولى ثم يدخلها في الخف واحتجوا بقوله إني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان قالوا وهذا أدخلهما وليستا طاهرتين
والقول الأول هو الصواب بلا شك وإذا جاز المسح لمن توضأ خارجا ثم لبسهما فلأن يجوز لمن توضأ فيهما بطريق الأولى فإن هذا فعل الطهارة فيهما واستدامها فيهما وذلك فعل الطهارة خارجا عنهما وإدخال هذا قدميه الخف مع الحدث وجوده كعدمه لا ينفعه ولا يضره وإنما الاعتبار بالطهارة الموجودة بعد ذلك فإن هذا ليس بفعل محرم كمس المصحف مع الحدث
وقول النبي إني أدخلتهما الخف وهما طاهرتان حق فإنه بين أن هذا علة لجواز المسح فكل من أدخلهما طاهرتين فله المسح وهو لم يقل إن من لم يفعل ذلك لم يمسح لكن دلالة اللفظ عليه بطريق المفهوم والتعليل فينبغي أن ينظر حكمة التخصيص هل بعض المسكوت أولى بالحكم ومعلوم أن ذكر إدخالهما طاهرتين لأن هذا هو المعتاد وليس غسلهما في الخفين معتاد وإلا فإذا غسلهما
____________________
(21/210)
في الخف فهو أبلغ وإلا فأي فائدة في نزع الخف ثم لبسه من غير إحداث شيء فيه منفعة وهل هذا إلا عبث محض ينزه الشارع عن الأمر به ولو قال الرجل لغيره أدخل مالي وأهلي إلى بيتي وكان في بيته بعض أهله وماله هل يؤمر بأن يخرجه ثم يدخله
ويوسف لما قال لأهله { ادخلوا مصر إن شاء الله } وقال موسى { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة } وقال الله تعالى { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } فإذا قدر أنه كان بمصر بعضهم أو كان بالأرض المقدسة بعض أو كان بعض الصحابة قد دخل الحرم قبل ذلك هل كان هؤلاء يؤمرون بالخروج ثم الدخول
فإذا قيل هذا لم يقع قيل وكذلك غسل الرجل قدميه في الخف ليس واقعا في العادة فلهذا لم يحتج إلى ذكره لأنه ليس إذا فعل يحتاج إلى إخراج وإدخال فهذا وأمثاله من باب الأولى
وقد تنازع العلماء فيما إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار أو استجمر بمنهي عنه كالروث والرمة وباليمين هل يجزئه ذلك والصحيح أنه إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار فعليه تكميل المأمور به وأما إذا استجمر بالعظم واليمين فإنه يجزئه فإنه قد حصل المقصود بذلك وإن كان عاصيا والإعادة لا فائدة فيها ولكن قد يؤمر بتنظيف
____________________
(21/211)
العظم مما لوثه به كما لو كان عنده خمر فأمر بإتلافها فأراقها في المسجد فقد حصل المقصود من إتلافها لكن هو آثم بتلويث المسجد فيؤمر بتطهيره بخلاف الاستجمار بتمام الثلاث فإن فيه فعل تمام المأمور وتحصيل المقصود وسئل
عن الخف إذا كان فيه خرق يسير هل يجوز المسح عليه أم لا
فأجاب وأما الخف إذا كان فيه خرق يسير ففيه نزاع مشهور فأكثر الفقهاء على أنه يجوز المسح عليه كقول أبي حنيفة ومالك والقول الثاني لا يجوز كما هو المعروف من مذهب الشافعي وأحمد قالوا لأن ما ظهر من القدم فرضه الغسل وما استتر فرضه المسح ولا يمكن الجمع بين البدل والمبدل منه
والقول الأول هو الراجح فإن الرخصة عامة ولفظ الخف يتناول ما فيه من الخرق وما لا خرق فيه لا سيما والصحابة كان فيهم فقراء كثيرون وكانوا يسافرون وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون في بعض خفافهم خروق والمسافرون قد يتخرق خف أحدهم ولا
____________________
(21/212)
يمكنه إصلاحه في السفر فإن لم يجز المسح عليه لم يحصل مقصود الرخصة
وأيضا فإن جمهور العلماء يعفون عن ظهور يسير العورة وعن يسير النجاسة التي يشق الاحتراز عنها فالخرق اليسير في الخف كذلك
وقول القائل إن ما ظهر فرضه الغسل ممنوع فإن الماسح على الخف لا يستوعبه بالمسح كالمسح على الجبيرة بل يمسح أعلاه دون أسفله وعقبه وذلك يقوم مقام غسل الرجل فمسح بعض الخف كاف عما يحاذي الممسوح ومالا يحاذيه فإذا كان الخرق في العقب لم يجب غسل ذلك الموضع ولا مسحه ولو كان على ظهر القدم لا يجب مسح كل جزء من ظهر القدم وباب المسح على الخفين مما جاءت السنة فيه بالرخصة حتى جاءت بالمسح على الجوارب والعمائم وغير ذلك فلا يجوز أن يتناقض مقصود الشارع من التوسعة بالحرج والتضييق وسئل
هل يجوز المسح على الجورب كالخف أم لا وهل يكون الخرق الذي فيه الطعن مانعا من المسح فقد يصف بشرة شيء من محل
____________________
(21/213)
الفرض وإذا كان في الخف خرق بقدر النصف أو أكثر هل يعفى عن ذلك أم لا
فأجاب نعم يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواء كانت مجلدة أو لم تكن في أصح قولي العلماء ففي السنن أن النبي مسح على جوربيه ونعليه وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف وهذا من جلود ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة فلا فرق بين أن يكون جلودا أو قطنا أو كتانا أو صوفا كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه ومحظوره ومباحه وغايته أن الجلد أبقى من الصوف فهذا لا تأثير له كما لا تأثير لكون الجلد قويا بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى
وأيضا فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقا بين المتماثلين وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة وما أنزل الله به كتبه وارسل به رسله ومن فرق بكون هذا ينفذ الماء منه وهذا لا ينفذ منه فقد ذكر فرقا طرديا عديم التأثير
____________________
(21/214)
ولو قال قائل يصل الماء إلى الصوف أكثر من الجلد فيكون المسح عليه أولى للصوق الطهور به أكثر كان هذا الوصف أولى بالاعتبار من ذلك الوصف وأقرب إلى الأوصاف المؤثرة وذلك أقرب إلى الأوصاف الطردية وكلاهما باطل
وخروق الطعن لا تمنع جواز المسح ولو لم تستر الجوارب إلا بالشد جاز المسح عليها على الصحيح وكذلك الزربول الطويل الذي لا يثبت بنفسه ولا يستر إلا بالشد والله أعلم وقال رحمه الله
لما ذهبت على البريد وجد بنا السير وقد انقضت مدة المسح فلم يمكن النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة أو حبسهم على وجه يتضررون بالوقوف فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة كما قلنا في الجبيرة ونزلت حديث عمر وقوله لعقبة بن عامر أصبت السنة على هذا توفيقا بين الآثار ثم رأيته مصرحا به في مغازي بن عائد أنه كان قد ذهب على البريد كما ذهبت لما فتحت دمشق ذهب بشيرا بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة فقال له عمر منذ كم لم تنزع خفيك فقال منذ يوم الجمعة قال أصبت فحمدت الله على الموافقة
____________________
(21/215)
وهذا أظنه أحد القولين لأصحابنا وهو أنه إذا كان يتضرر بنزع الخف صار بمنزلة الجبيرة وفي القول الآخر أنه إذا خاف الضرر بالنزع تيمم ولم يمسح وهذا كالروايتين لنا إذا كان جرحه بارزا يمكنه مسحه بالماء دون غسله فهل يمسحه أو يتيمم له على روايتين والصحيح المسح لأن طهارة المسح بالماء أولى من طهارة المسح بالتراب ولأنه إذا جاز المسح على حائل العضو فعليه أولى
وذلك أن طهارة المسح على الخفين طهارة اختيارية وطهارة الجبيرة طهارة اضطرارية فماسح الخف لما كان متمكنا من الغسل والمسح وقت له المسح وماسح الجبيرة لما كان مضطرا إلى مسحها لم يوقت وجاز في الكبرى فالخف الذي يتضرر بنزعه جبيرة وضرره يكون بأشياء إما أن يكون في ثلج وبرد عظيم إذا نزعه ينال رجليه ضرر أو يكون الماء باردا لا يمكن معه غسلهما فإن نزعهما تيمم فمسحهما خير من التيمم أو يكون خائفا إذا نزعهما وتوضأ من عدو أو سبع أو انقطاع عن الرفقة في مكان لا يمكنه السير وحده ففي مثل هذه الحال له ترك طهارة الماء إلى التيمم فلأن يجوز ترك طهارة الغسل إلى المسح أولى ويلحق بذلك إذا كان عادما للماء ومعه قليل يكفي لطهارة المسح لا لطهارة الغسل فإن نزعهما تيمم فالمسح عليهما خير من التيمم
____________________
(21/216)
وأصل ذلك أن قوله يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن منطوقه إباحة المسح هذه المدة والمفهوم لا عموم له بل يكفي أن لا يكون المسكوت كالمنطوق فإذا خالفه في صورة حصلت المخالفة فإذا كان فيما سوى هذه المدة لا يباح مطلقا بل يحظر تارة ويباح أخرى حصل العمل بالحديث وهذا واضح وهي مسألة نافعة جدا
فإنه من باشر الأسفار في الحج والجهاد والتجارة وغيرها رأى أنه في أوقات كثيرة لا يمكن نزع الخفين والوضوء إلا بضرر يباح التيمم بدونه واعتبر ذلك بما لو انقضت المدة والعدو بإزائه ففائدة النزع الوضوء على الرجلين فحيث يسقط الوضوء على الرجلين يسقط النزع وقد يكون الوضوء واجبا لو كانا بارزتين لكن مع استتارهما يحتاج إلى قلعهما وغسل الرجلين ثم لبسهما ثانيا إذا لم تتم مصلحته إلا بذلك بخلاف ما إذا استمر فإن طهارته باقية وبخلاف ما إذا توضأ ومسح عليهما فإن ذلك قد لا يضره
ففي هذين الموضعين لا يتوقت إذا كان الوضوء ساقطا فينتقل إلى التيمم فإن المسح المستمر أولى من التيمم وإذا كان في النزع واللبس ضرر يبيح التيمم فلأن يبيح المسح أولى والله أعلم
____________________
(21/217)
وسئل رضي الله عنه
عن قلع الجبيرة بعد الوضوء هل ينقض الوضوء أم لا
فأجاب الحمد لله هذا فيه نزاع والأظهر أنه لا ينتقض الوضوء كما أنه لا يعيد الغسل لأن الجبيرة كالجزء من العضو والله أعلم وسئل
عن المسح فوق العصابة
فأجاب الحمد لله إن خافت المرأة من البرد ونحوه مسحت على خمارها فإن أم سلمة كانت تمسح خمارها وينبغي أن تمسح مع هذا بعض شعرها وأما إذا لم يكن بها حاجة إلى ذلك ففيه نزاع بين العلماء
____________________
(21/218)
& باب نواقض الوضوء سئل رحمه الله
عن رجل يخرج من ذكره قيح لا ينقطع فهل تصح صلاته مع خروج ذلك أفتونا مأجورين
فأجاب لا يجوز أن يبطل الصلاة بل يصلي بحسب إمكانه فإن لم تنقطع النجاسة قدر ما يتوضأ ويصلي صلى بحسب حاله بعد أن يتوضأ وإن خرجت النجاسة في الصلاة لكن يتخذ حفاظا يمنع من انتشار النجاسة والله أعلم وسئل رحمه الله
عما إذا توضأ وقام يصلي وأحس بالنقطة في صلاته فهل تبطل صلاته أم لا
____________________
(21/219)
فأجاب مجرد الإحساس لا ينقض الوضوء ولا يجوز له الخروج من الصلاة الواجبة بمجرد الشك فإنه قد ثبت عن النبي أنه سئل عن الرجل يجد الشيء في الصلاة فقال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا
وأما إذا تيقن خروج البول إلى ظاهر الذكر فقد انتقض وضوؤه وعليه الاستنجاء إلا أن يكون به سلس البول فلا تبطل الصلاة بمجرد ذلك إذا فعل ما أمر به والله أعلم وسئل أيضا رحمه الله
عن رجل كلما شرع في الصلاة يحدث له رياح كثيرة حتى في الصلاة يتوضأ أربع مرات أو أكثر إلى حين يقضي الصلاة يزول عنه العارض ثم لا يعود إليه إلا في أوقات الصلاة وهو لا يعلم ما سبب ذلك هل هو من شدة حرصه على الطهارة وقد يشق عليه كثرة الوضوء وما يعلم هل حكمه حكم صاحب الأعذار أم لا لسبب أنه لا يعاوده إلا في وقت الصلاة وما تطيب نفسه أن يصلي بوضوء واحد
____________________
(21/220)
فأجاب رضي الله عنه نعم حكمه حكم أهل الأعذار مثل الاستحاضة وسلس البول والمذي والجرح الذي لا يرقأ ونحو ذلك فمن لم يمكنه حفظ الطهارة مقدار الصلاة فإنه يتوضأ ويصلي ولا يضره ما خرج منه في الصلاة ولا ينتقض وضوؤه بذلك باتفاق الأئمة وأكثر ما عليه أن يتوضأ لكل صلاة
وقد تنازع العلماء في المستحاضة ومن به سلس البول وأمثالهما مثل من به ريح يخرج على غير الوجه المعتاد وكل من به حدث نادر فمذهب مالك إن ذلك ينقض الوضوء بالحدث المعتاد ولكن الجمهور كأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل يقولون إنه يتوضأ لكل صلاة أو لوقت كل صلاة رواه أهل السنن وصحح ذلك غير واحد من الحفاظ فلهذا كان أظهر قولي العلماء أن مثل هؤلاء يتوضؤون لكل صلاة أو لوقت كل صلاة
وأما ما يخرج في الصلاة دائما فهذا لا ينقض الوضوء باتفاق العلماء وقد ثبت في الصحيح أن بعض أزواج النبي كانت تصلي والدم يقطر منها فيوضع لها طست يقطر فيه الدم وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب دما وما زال المسلمون على عهد النبي يصلون في جراحاتهم
____________________
(21/221)
وقد تنازع العلماء في خروج النجاسة من غير السبيلين كالجرح والفصاد والحجامة والرعاف والقيء فمذهب مالك والشافعي لا ينقض ومذهب أبي حنيفة وأحمد ينقض لكن أحمد يقول إذا كان كثيرا
وتنازعوا في مس النساء ومس الذكر هل ينقض فمذهب أبي حنيفة لا ينقض ومذهب الشافعي ينقض ومذهب مالك الفرق بين المس لشهوة وغيرها وقد اختلفت الرواية عنه هل يعتبر ذلك في مس الذكر واختلف في ذلك عن أحمد وعنه كقول أبي حنيفة أنه لا ينقض شيء من ذلك وروايتان كقول مالك والشافعي
واختلف السلف في الوضوء من ما مست النار هل يجب أم لا واختلفوا في القهقهة في الصلاة فمذهب أبي حنيفة تنقض ومن قال إن هذه الأمور لا تنقض فهل يستحب الوضوء منها على قولين وهما قولان في مذهب أحمد وغيره
والأظهر في جميع هذه الأنواع أنها لا تنقض الوضوء ولكن يستحب الوضوء منها فمن صلى ولم يتوضأ منها صحت صلاته ومن توضأ منها فهو أفضل وأدلة ذلك مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن كلهم يأمر بإزالة النجاسة ولكن إن كانت من الدم أكثر من ربع
____________________
(21/222)
المحل فهذه تجب إزالتها عند عامة الأمة ومع هذا إن كان الجرح لا يرقأ مثل ما أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه يصلي باتفاقهم سواء قيل إنه ينقض الوضوء أو قيل لا ينقض سواء كان كثيرا أو قليلا لأن الله تعالى يقول { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبي إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
وكلما عجز عنه العبد من واجبات الصلاة سقط عنه فليس له أن يؤخر الصلاة عن وقتها بل يصلي في الوقت بحسب الإمكان لكن يجوز له عند أكثر العلماء أن يجمع بين الصلاتين لعذر حتى إنه يجوز الجمع للمريض والمستحاضة وأصحاب الأعذار في أظهر قولي العلماء كما استحب النبي للمستحاضة أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد فهذا للمعذور سواء أمكنه أن يجمع بين الصلاتين بطهارة واحدة من غير أن يخرج منه شيء في الصلاة جاز له الجمع في أظهر قولي العلماء
وكذلك يجمع المريض بطهارة واحدة إذا كانت الطهارة لكل صلاة تزيد في مرضه ولا بد من الصلاة في الوقت إما بطهارة إن أمكنه وإلا بالتيمم فإنه يجوز لمن عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله إما لمرض وإما لشدة البرد أن يتيمم وإن كان جنبا ولا قضاء عليه في أظهر قولي
____________________
(21/223)
العلماء وإذا تيمم في السفر لعدم الماء لم يعد باتفاق الأئمة
وكذلك المريض إذا صلى قاعدا أو صلى على جنب لم يعد باتفاق العلماء
وكذلك العريان كالذي تنكسر به السفينة أو يأخذ القطاع ثيابه فإنه يصلي عريانا ولا إعادة عليه باتفاق العلماء
وكذلك من اشتبهت عليه القبلة وصلى ثم تبين له فيما بعد لا يعيد باتفاق العلماء وإن أخطأ مع اجتهاده لم يعد أيضا عند جمهورهم كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والمشهور في مذهب الشافعي أنه يعيد
وقد تنازع العلماء في التيمم لخشية البرد هل يعيد وفيمن صلى في ثوب نجس لم يجد غيره هل يعيد وفي مواضع أخر
والصحيح في جميع هذا النوع أنه لا إعادة على أحد من هؤلاء بل يصلي كل واحد على حسب استطاعته ويسقط عنه ما عجز عنه ولا إعادة عليه ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله أحدا أن يصلي الفرض مرتين مطلقا بل من لم يفعل ما أمر به فعليه أن يصلي إذا ذكر بوضوء باتفاق المسلمين كمن نسي الصلاة فإن النبي قال
____________________
(21/224)
من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان أن الله تعالى ما جعل على المسلمين من حرج في دينهم بل هو سبحانه يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ومسألة هذا السائل أولى بالرخصة ولهذا كانت متفقا عليها بين العلماء وهذه المسائل مبسوطة في مواضع أخر والله أعلم وسئل
عن رجل يصلي الخمس لا يقطعها ولم يحضر صلاة الجمعة وذكر أن عدم حضوره لها أنه يجد ريحا في جوفه تمنعه عن انتظار الجمعة وبين منزله والمكان الذي تقام فيه الجمعة قدر ميلين أو دونهما فهل العذر الذي ذكره كاف في ترك الجمعة مع قرب منزله أفتونا مأجورين
فأجاب بل عليه أن يشهد الجمعة ويتأخر بحيث يحضر ويصلي مع بقاء وضوئه وإن كان لا يمكنه الحضور إلا مع خروج الريح فليشهدها وإن خرجت منه الريح فإنه لا يضره ذلك والله أعلم
____________________
(21/225)
وسئل
عمن به قروح في بعض أعضاء الوضوء ويخرج من تلك القروح قيح ينتشر على محل الفرض في غير موضع القروح ولا يمكن إزالة ذلك إلا إذا أزاله عن القروح أيضا وهو يجد المشقة في إزالتها والأطباء لا يرون في إزالتها مضرة على صاحب هذه القروح غير أنه هو يجد الألم والمشقة في إزالة ذلك بسبب تكرار الوضوء فهل يجب عليه إزالة ذلك ليصل الماء إلى ما تستر من محل الفرض وإن كان عليه مشقة مع غلبة ظنه بعد تلك القروح أم لا
فأجاب الحمد لله إذا كانت إزالته توجب زيادة المرض او تأخر البرء لم يجب عليه إزالته وإن لم يكن فيه هذا ولا هذا أزاله اللهم إلا أن يكون شيئا يسيرا من جنس الوسخ الذي على العين ونحو ذلك فليس عليه أن يزيل ذلك والله أعلم
____________________
(21/226)
وسئل
عمن يرى أن القيء ينقض الوضوء واستدل على ذلك أن النبي قاء مرة وتوضأ وروى حديثا آخر أنه قاء مرة فغسل فمه وقال هكذا الوضوء من القيء فهل يعمل بالحديث الأول أم الثاني
فأجاب أما الحديث الثاني فما سمعت به
وأما الأول فهو في السنن لكن لفظه أنه قاء فأفطر فذكر ذلك لثوبان فقال صدق أنا صببت له وضوءه ولفظ الوضوء لم يجئ في كلام النبي إلا والمراد به الوضوء الشرعي ولم يرد لفظ الوضوء بمعنى غسل اليد والفم إلا في لغة اليهود فإنه قد روي أن سلمان الفارسي قال للنبي إنا نجد في التوراة أن من بركة الطعام الوضوء قبله فقال من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده والله أعلم
____________________
(21/227)
وسئل عن الرعاف
هل ينقض الوضوء أم لا
فأجاب إذا توضأ منه فهو أفضل ولا يجب عليه في أظهر قولي العلماء وسئل
هل ينقض الوضوء النوم جالسا أم لا وإذا كان الرجل جالسا محتبيا بيديه فنعس وانفلتت حبوته وسقطت يده على الأرض ومال لكنه لم يسقط جنبه إلى الأرض هل يجب عليه الوضوء أم لا
فأجاب الحمد لله أما النوم اليسير من المتمكن بمقعدته فهذا لا ينقض الوضوء عند جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم فإن النوم عندهم ليس بحدث في نفسه لكنه مظنة الحدث كما دل عليه الحديث الذي في السنن العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء وفي
____________________
(21/228)
رواية فمن نام فليتوضأ
ويدل على هذا ما في الصحيحين أن النبي كان ينام حتى ينفخ ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ لأنه كان تنام عيناه ولا ينام قلبه فكان يقظان فلو خرج منه شيء لشعر به وهذا يبين أن النوم ليس بحدث في نفسه إذ لو كان حدثا لم يكن فيه فرق بين النبي وغيره كما في البول والغائط وغيرهما من الأحداث
وأيضا فإنه ثبت في الصحيح أن النبي كان يؤخر العشاء حتى كان أصحاب رسول الله يخفقون برؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون فهذا يبين أن جنس النوم ليس بناقض إذ لو كان ناقضا لانتقض بهذا النوم الذي تخفق فيه رؤوسهم
ثم بعد هذا للعلماء ثلاثة أقوال
قيل ينقض ما سوى نوم القاعد مطلقا كقول مالك وأحمد في رواية
وقيل لا ينقض نوم القائم والقاعد وينقض نوم الراكع والساجد
____________________
(21/229)
لأن القائم والقاعد لا ينفرج فيهما مخرج الحدث كما ينفرج من الراكع والساجد
وقيل لا ينقض نوم القائم والقاعد والراكع والساجد بخلاف المضطجع وغيره كقول أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثالثة لكن مذهب أحمد التقييد بالنوم اليسير
وحجة هؤلاء حديث في السنن ليس الوضوء على من نام قائما أو قاعدا أو راكعا أو ساجدا لكن على من نام مضطجعا فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله فيخرج الحدث بخلاف القيام والقعود والركوع والسجود فإن الأعضاء متماسكة غير مسترخية فلم يكن هناك سبب يقتضي خروج الخارج
وأيضا فإن النوم في هذه الأحوال يكون يسيرا في العادة إذ لو استثقل لسقط والقاعد إذا سقطت يداه إلى الأرض فيه قولان والأظهر في هذا الباب أنه إذا شك المتوضئ هل نومه مما ينقض أو ليس مما ينقض فإنه لا يحكم بنقض الوضوء لأن الطهارة ثابتة بيقين فلا تزول بالشك والله أعلم
____________________
(21/230)
وسئل
هل لمس كل ذكر ينقض الوضوء من الآدميين والحيوان وهل باطن الكف هو ما دون باطن الأصابع
فأجاب لمس فرج الحيوان غير الإنسان لا ينقض الوضوء حيا ولا ميتا باتفاق الأئمة وذكر بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي فيه وجهين وإنما تنازعوا في مس فرج الإنسان خاصة
وبطن الكف يتناول الباطن كله بطن الراحة والأصابع ومنهم من يقول لا ينقض بحال كأبي حنيفة وأحمد في رواية وسئل
عن رجل وقعت يده بباطن كفه وأصابعه على ذكره فهل ينتقض وضوؤه أم لا
فأجاب إذا لم يتعمد ذلك لم ينتقض وضوؤه
____________________
(21/231)
وسئل
عما إذا قبل زوجته أو ضمها فأمذى هل يلزمه وضوء أم لا
فأجاب أما الوضوء فينتقض بذلك وليس عليه إلا الوضوء لكن يغسل ذكره وأنثييه وسئل
عن لمس النساء هل ينقض الوضوء أم لا
فأجاب الحمد لله أما نقض الوضوء بلمس النساء فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال طرفان ووسط
أضعفها أنه ينقض اللمس وإن لم يكن لشهوة إذا كان الملموس مظنة للشهوة وهو قول الشافعي تمسكا بقوله تعالى { أو لامستم النساء } وفي القراءة الأخرى / < أو لمستم > /
____________________
(21/232)
القول الثاني إن اللمس لا ينقض بحال وإن كان لشهوة كقول أبي حنيفة وغيره وكلا القولين يذكر رواية عن أحمد لكن ظاهر مذهبه كمذهب مالك والفقهاء السبعة أن اللمس إن كان لشهوة نقض وإلا فلا وليس في المسألة قول متوجه إلا هذا القول أو الذي قبله
فأما تعليق النقض بمجرد اللمس فهذا خلاف الأصول وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار وليس مع قائله نص ولا قياس فإن كان اللمس في قوله تعالى { أو لامستم النساء } إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك كما قاله بن عمر وغيره فقد علم أنه حيث ذكر مثل ذلك في الكتاب والسنة فإنما يراد به ما كان لشهوة مثل قوله في آية الاعتكاف { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه بخلاف المباشرة لشهوة وكذلك المحرم الذي هو أشد لو باشر المرأة لغير شهوة لم يحرم عليه ولم يجب عليه به دم
وكذلك قوله { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } وقوله { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } فإنه لو مسها مسيسا خاليا من غير شهوة لم يجب به عدة ولا يستقر به مهر ولا تنتشر به حرمة المصاهرة باتفاق العلماء بخلاف ما لو مس المرأة لشهوة
____________________
(21/233)
ولم يخل بها ولم يطأها ففي استقرار المهر بذلك نزاع معروف بين العلماء في مذهب أحمد وغيره
فمن زعم أن قوله { أو لامستم النساء } يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن بل وعن لغة الناس في عرفهم فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم
وأيضا فإنه لا يقول إن الحكم معلق بلمس النساء مطلقا بل بصنف من النساء وهو ما كان مظنة الشهوة فأما مس من لا يكون مظنة كذوات المحارم والصغيرة فلا ينقض بها فقد ترك ما ادعاه من الظاهر واشترط شرطا لا أصل له بنص ولا قياس فإن الأصول المنصوصة تفرق بين اللمس لشهوة واللمس لغير شهوة لا تفرق بين أن يكون الملموس مظنة الشهوة أو لا يكون وهذا هو المس المؤثر في العبادات كلها كالإحرام والاعتكاف والصيام وغير ذلك وإذا كان هذا القول لا يدل عليه ظاهر اللفظ ولا القياس لم يكن له أصل في الشرع
وأما من علق النقض بالشهوة فالظاهر المعروف في مثل ذلك دليل
____________________
(21/234)
له وقياس أصول الشريعة دليل ومن لم يجعل اللمس ناقضا بحال فإنه يجعل اللمس إنما أريد به الجماع كما في قوله تعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } ونظائره كثيرة وفي السنن أن النبي قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ لكن تكلم فيه
وأيضا فمن المعلوم أن مس الناس نساءهم مما تعم به البلوى ولا يزال الرجل يمس امرأته فلو كان هذا مما ينقض الوضوء لكان النبي بينه لأمته ولكان مشهورا بين الصحابة ولم ينقل أحد أن أحدا من الصحابة كان يتوضأ بمجرد ملاقاة يده لامرأته أو غيرها ولا نقل أحد في ذلك حديثا عن النبي فعلم أن ذلك قول باطل والله أعلم وسئل
عن مس النساء هل ينقض الوضوء أم لا
فأجاب فيه ثلاثة أقوال للفقهاء
أحدها أنه لا ينقض بحال كقول أبي حنيفة وغيره
____________________
(21/235)
والثاني أنه إن كان له شهوة نقض وإلا فلا وهو قول مالك وغيره من أهل المدينة
والثالث ينقض في الجملة وإن لم يكن بشهوة وهو قول الشافعي وغيره
وعن أحمد بن حنبل ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة لكن المشهور عنه قول مالك
والصحيح في المسألة أحد قولين إما الأول وهو عدم النقض مطلقا وإما القول الثاني وهو النقض إذا كان بشهوة وأما وجوب الوضوء من مجرد مس المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال ولا يعرف هذا القول عن أحد من الصحابة ولا روى أحد عن النبي أنه أمر المسلمين أن يتوضئوا من ذلك مع أن هذا الأمر غالب لا يكاد يسلم فيه أحد في عموم الأحوال فإن الرجل لا يزال يناول امرأته شيئا وتأخذه بيدها وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به فلو كان الوضوء من ذلك واجبا لكان النبي يأمر بذلك مرة بعد مرة ويشيع ذلك ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد فلما لم ينقل عنه أحد من المسلمين أنه أمر أحدا من المسلمين بشيء من ذلك مع عموم البلوى به علم أن ذلك غير واجب
____________________
(21/236)
وأيضا فلو أمرهم بذلك لكانوا ينقلونه ويأمرون به ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه أمر بالوضوء من مجرد المس العاري عن شهوة بل تنازع الصحابة في قوله تعالى { أو لامستم النساء } فكان بن عباس وطائفة يقولون الجماع ويقولون الله حيي كريم يكني بما يشاء عما شاء وهذا أصح القولين
وقد تنازع عبد الله بن عمر والعرب وعطاء بن أبي رباح والموالي هل المراد به الجماع أو ما دونه فقالت العرب هو الجماع وقالت الموالي هو ما دونه وتحاكموا إلى بن عباس فصوب العرب وخطأ الموالي
وكان بن عمر يقول قبلة الرجل امرأته ومسها بيده من الملامسة وهذا قول مالك وغيره من أهل المدينة ومن الناس من يقول إن هذا قول بن عمر وبن مسعود لكونهما كانا لا يريان التيمم للجنب فيتأولان الآية على نقض الوضوء ولكن قد صرح في الآية أن الجنب يتيمم
وقد ناظر أبو موسى بن مسعود بالآية فلم يجبه بن مسعود بشيء وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه فعلم أن ذلك كان من عدم استحضاره لموجب الآية
____________________
(21/237)
ومعلوم أن الصحابة الأكابر الذين أدركوا النبي لو كانوا يتوضؤون من مس نسائهم مطلقا ولو كان النبي أمرهم بذلك لكان هذا مما يعلمه بعض الصغار كابن عمر وبن عباس وبعض التابعين فإذا لم ينقل ذلك صاحب ولا تابع كان ذلك دليلا على أن ذلك لم يكن معروفا بينهم وإنما تكلم القوم في تفسير الآية والآية إن كان المراد بها الجماع فلا كلام وإن كان أريد بها ما هو أعم من الجماع فيقال حيث ذكر الله تعالى في كتابه مس النساء ومباشرتهن ونحو ذلك فلا يريد به إلا ما كان على وجه الشهوة واللذة وأما اللمس العاري عن ذلك فلا يعلق الله به حكما من الأحكام أصلا وهذا كقوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فنهى العاكف عن مباشرة النساء مع أن العلماء يعلمون أن المعتكف لو مس امرأته بغير شهوة لم يحرم ذلك عليه وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه كان يدني رأسه إلى عائشة رضي الله عنها فترجله وهو معتكف ومعلوم أن ذلك مظنة مسه لها ومسها له
وأيضا فالإحرام أشد من الاعتكاف ولو مسته المرأة لغير شهوة لم يأثم بذلك ولم يجب عليه دم وهذا الوجه يستدل به من وجهين من جهة ظاهر الخطاب ومن جهة المعنى والاعتبار فإن خطاب الله تعالى
____________________
(21/238)
في القرآن بذكر اللمس والمس والمباشرة للنساء ونحو ذلك لا يتناول ما تجرد عن شهوة أصلا ولم يتنازع المسلمون في شيء من ذلك إلا في آية الوضوء والنزاع فيها متأخر فيكون ما أجمعوا عليه قاضيا على ما تنازع فيه متأخروهم
وأما طريق الاعتبار فإن اللمس المجرد لم يعلق الله به شيئا من الأحكام ولا جعله موجبا لأمر ولا منهيا عنه في عبادة ولا اعتكاف ولا إحرام ولا صلاة ولا صيام ولا غير ذلك ولا جعله ينشر حرمة المصاهرة ولا يثبت شيئا غير ذلك بل هذا في الشرع كما لو مس المرأة من وراء ثوبها ونحو ذلك من المس الذي لم يجعله الله سببا لإيجاب شيء ولا تحريم شيء
وإذا كان كذلك كان إيجاب الوضوء بهذا مخالفا للأصول الشرعية المستقرة مخالفا للمنقول عن الصحابة وكان قولا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة بل المعلوم من السنة مخالفته بل هذا أضعف ممن جعل المني نجسا فإن القول بنجاسة المني ضعيف فإذا كان النبي لم يأمر أحدا بغسل ما يصيب بدنه أو ثيابه من المني مع كثرة ما كان يصيب الناس من ذلك في حياته وقد أمر الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من الدم مع أن ذلك قليل بالنسبة لإصابة المني للرجال ولو كان ذلك واجبا لبينه بل كان يغسل ويمسح تقذرا
____________________
(21/239)
كما كانت عائشة رضي الله عنها تارة تغسله وتارة تفركه من ثوبه
وكان سعد بن أبي وقاص وبن عباس يقولان أمطه عنك ولو بإذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق وكانت عمرة تغسله من ثوبه فإن كان في اعتقاده نجاسة المني فهذا نزاع بين الصحابة والسنة تفصل بينهم فإذا كانت نجاسة المني ضعيفة في السنة لكون النبي لم يأمر بذلك لعموم البلوى به لكن هذا أضعف لكون الصحابة لم يحك أحد منهم مجرد اللمس العاري عن الشهوة ناقضا وإنما تنازعوا في اللمس المعتاد للشهوة كالقبلة والغمز باليد ونحو ذلك
وأيضا فإيجاب الوضوء من جنس اللمس كمس النساء ومس الذكر إن لم يعلل بكونه مظنة تحريك الشهوة وإلا كان مخالفا للأصول فأما إذا علل بتحريك الشهوة كان مناسبا للأصول وهنا للفقهاء طريقان
أحدهما قول من يقول إن ذلك مظنة خروج الناقض فأقيمت المظنة مقام الحقيقة وهذا قول ضعيف فإن المظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية وكانت المظنة تفضي إليها غالبا وكلاهما معدوم فإن الخارج لو خرج لعلم به الرجل وأيضا فإن مس الذكر لا يوجب خروج شيء في العادة أصلا فإن المني إنما يخرج بالاستمناء
____________________
(21/240)
وذلك يوجب الغسل والمذي يخرج عقيب تفكر ونظر ومس المرأة لا الذكر فإذا كانوا لا يوجبون الوضوء بالنظر الذي هو أشد إفضاء إلى خروج المني فبمس الذكر أولى
والقول الثاني أن يقال اللمس سبب تحريك الشهوة كما في مس المرأة وتحريك الشهوة يتوضأ منه كما يتوضأ من الغضب وأكل لحم الإبل لما في ذلك من أثر الشيطان الذي يطفأ بالوضوء ولهذا قال طائفة من أصحاب أبي حنيفة إنما يتوضأ إذا انتشر انتشارا شديدا وكذلك قال طائفة من أصحاب مالك يتوضأ إذا انتشر لكن هذا الوضوء من اللمس هل هو واجب أو مستحب فيه نزاع بين الفقهاء ليس هذا موضع ذكره فإن مسألة الذكر لها موضع آخر وإنما المقصود هنا مسألة مس النساء
والأظهر أيضا أن الوضوء من مس الذكر مستحب لا واجب وهكذا صرح به الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وبهذا تجتمع الأحاديث والآثار بحمل الأمر به على الاستحباب ليس فيه نسخ قوله وهل هو إلا بضعة منك وحمل الأمر على الاستحباب أولى من النسخ
وكذلك الوضوء مما مست النار مستحب في أحد القولين في
____________________
(21/241)
مذهب أحمد وغيره وبذلك يجمع بين أمره وبين تركه فأما النسخ فلا يقوم عليه دليل بل الدليل يدل على نقيضه وكذلك خروج النجاسات من سائر البدن غير السبيلين كالوضوء من القيء والرعاف والحجامة والفصاد والجراح مستحب كما جاء عن النبي والصحابة أنهم توضؤوا من ذلك وأما الواجب فليس عليه في الكتاب والسنة ما يوجب ذلك
وكذلك الوضوء من القهقهة مستحب في أحد القولين في مذهب أحمد والحديث المأثور في أمر الذين قهقهوا بالوضوء وجهه أنهم أذنبوا بالضحك ومستحب لكل من أذنب ذنبا يتوضأ ويصلي ركعتين كما جاء في السنن عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي أنه قال ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له والله أعلم وسئل
عن الرجل يمس المرأة هل ينقض الوضوء أم لا
فأجاب إن توضأ من ذلك المس فحسن وإن صلى ولم يتوضأ صحت صلاته في أظهر قولي العلماء
____________________
(21/242)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله
إذا مس يد الصبي الأمرد فهل هو من جنس النساء في نقض الوضوء وما جاء في تحريم النظر إلى وجه الأمرد الحسن وهل هذا الذي يقوله بعض المخالفين للشريعة إن النظر إلى وجه الصبي الأمرد عبادة وإذا قال لهم أحد هذا النظر حرام يقول إنا إذا نظرت إلى هذا أقول سبحان الذي خلقه لا أزيد على ذلك
فأجاب
الحمد لله إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره
أحدهما أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء وهو المشهور من مذهب مالك ذكره القاضي أبو يعلى في شرح المذهب
والثاني أنه لا ينقض الوضوء وهو المشهور من مذهب الشافعي
والقول الأول أظهر فإن الوطء في الدبر يفسد العبادات التي تفسد بالوطء في القبل كالصيام والإحرام والاعتكاف ويوجب الغسل
____________________
(21/243)
كما يوجبه هذا فتكون مقدمات هذا في باب العبادات كمقدمات هذا فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم فعليه دم كما لو مس أجنبية لشهوة وكذلك إذا مسه لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة في نقض الوضوء
والذي لم ينقض الوضوء بمسه يقول إنه لم يخلق محلا لذلك فيقال له لا ريب أنه لم يخلق لذلك وإن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات لكن هذا القدر لم يعتبر في باب الوطء فإن وطىء في الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام وإن كان الدبر لم يخلق محلا للوطء مع أن نفرة الطباع عن الوطء في الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة ونقض الوضوء بالمس يراعى فيه حقيقة الحكمة وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين كمالك وأحمد وغيرهما كما يراعى مثل ذلك في الأحرام والاعتكاف وغير ذلك وعلى هذا القول فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم حتى لو مس أمه وأخته وبنته لشهوة انتقض وضوؤه فكذلك الأمرد
وأما الشافعي وأحمد في رواية فيعتبر المظنة وهو أن النساء مظنة الشهوة فينقض الوضوء سواء بشهوة أو بغير شهوة ولهذا لا ينقض لمس المحارم لكن لو لمس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة
____________________
(21/244)
والتلذذ بمس الأمرد كمصافحته ونحو ذلك حرام بإجماع المسلمين كما يحرم التلذذ بمس ذوات محارمه والمرأة الأجنبية بل الذي عليه أكثر العلماء أن ذلك أعظم إثما من التلذذ بالمرأة الأجنبية كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطي أعظم من عقوبة الزنى بالأجنبية فيجب قتل الفاعل والمفعول به سواء كان أحدهما محصنا أو لم يكن وسواء كان أحدهما مملوكا للآخر أو لم يكن كما جاء ذلك في السنن عن النبي وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم وقتله بالرجم كما قتل الله قوم لوط بالرجم وبذلك جاءت الشريعة في قتل الزاني أنه يرجم فرجم النبي ماعز بن مالك والغامدية واليهوديين والمرأة التي أرسل إليها أنيسا وقال اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها
والنظر إلى وجه الأمرد لشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم والمرأة الأجنبية بالشهوة سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو شهوة التلذذ بالنظر فلو نظر إلى أمه وأخته وابنته يتلذذ بالنظر إليها كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية كان معلوما لكل أحد أن هذا حرام فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة
وقول القائل إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة كقوله إن النظر إلى وجوه النساء أو النظر إلى وجوه محارم الرجل كبنت الرجل
____________________
(21/245)
وأمه وأخته عبادة ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة كان بمنزلة من جعل الفواحش عبادة قال تعالى { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }
ومعلوم أنه قد يكون في صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما في صورة المرد فهل يقول مسلم إن للإنسان أن ينظر بهذا الوجه إلى صور نساء العالم وصور محارمه ويقول إن ذلك عبادة بل من جعل مثل هذا النظر عبادة فإنه كافر مرتد يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفواحش عبادة أو جعل تناول يسير الخمر عبادة أو جعل السكر بالحشيشة عبادة فمن جعل المعاونة على الفاحشة بقيادة أو غيرها عبادة أو جعل شيئا من المحرمات التي يعلم تحريمها من دين الإسلام عبادة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو مضاه للمشركين الذين { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }
وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة وكانوا يقولون لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية وقد ذكر عنهم ما ذكر فكيف بمن يجعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة
____________________
(21/246)
والله سبحانه قد أمر في كتابه بغض البصر وهو نوعان غض البصر عن العورة وغضها عن محل الشهوة
فالأول كغض الرجل بصره عن عورة غيره كما قال النبي لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ويجب على الإنسان أن يستر عورته كما قال النبي لمعاوية بن حيدة احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت فإذا كان أحدنا مع قومه قال إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها قلت فإذا كان أحدنا خاليا قال فالله أحق أن يستحيى منه من الناس ويجوز أن يكشف بقدر الحاجة كما يكشف عند التخلي وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده بجنب ما يستره فله أن يغتسل عريانا كما اغتسل موسى عريانا وأيوب وكما في اغتساله يوم الفتح واغتساله في حديث ميمونة
وأما النوع الثاني من النظر كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية فهذا أشد من الأول كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير وعلى صاحبها الحد وتلك المحرمات إذا تناولها غير مستحل لها كان عليه التعزير لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهي الخمر وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظر إلى
____________________
(21/247)
النساء ونحوهن وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم لشهوة والخالق سبحانه يسبح عند رؤية مخلوقاته كلها وليس خلق الأمرد بأعجب في قدرته من خلق ذي اللحية ولا خلق النساء بأعجب في قدرته من خلق الرجال بل تخصيص الإنسان التسبيح بحال نظره إلى الأمرد دون غيره كتخصيصه التسبيح بنظره إلى المرأة دون الرجل وما ذاك لأنه دل على عظمة الخالق عنده ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله وقد يذهله ما رآه فيكون تسبيحه بما يحصل في نفسه من الهوى كما أن النسوة لما رأين يوسف { أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم }
وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وإذا كان الله لا ينظر إلى الصور والأموال وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به وقد قال تعالى { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا } وقال في المنافقين { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون }
____________________
(21/248)
فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم لما فيهم من البهاء والرواء والزينة الظاهرة وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة قد ذكر الله عنهم ما ذكر فكيف بمن ينظر إليه لشهوة وذلك ان الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور فهذا حسن وقد ينظر إليه من جهة استحسان خلقه كما ينظر إلى الجبل والبهائم وكما ينظر إلى الأشجار فهذا أيضا إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة والمال فهو مذموم لقوله تعالى { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه }
وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين وإنما فيه راحة النفس فقط كالنظر إلى الأزهار فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق
وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حراما بلا ريب سواء كانت شهوة تمتع بنظر الشهوة أو كان نظرا بشهوة الوطء وفرق بين ما يجده الإنسان عند نظره الأشجار والأزهار وما يجده عند نظره النسوان والمردان فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعي فصار النظر إلى المرد ثلاثة أقسام
____________________
(21/249)
أحدها ما يقرن به الشهوة فهو حرام بالاتفاق
والثاني ما يجزم أنه لا شهوة معه كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن وابنته الحسنة وأمه فهذا لا يقرن به شهوة إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس ومتى اقترنت به الشهوة حرم
وعلى هذا من لا يميل قلبه إلى المرد كما كان الصحابة وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق بين هذاالوجه وبين نظره إلى ابنه وبن جاره وصبي أجنبي ولا يخطر بقلبه شيء من الشهوة لأنه لم يعتد ذلك وهو سليم القلب من مثل ذلك وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات وهن متكشفات الرؤوس وتخدم الرجال مع سلامة القلوب فلو أراد الرجال أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد
وكذلك المرد الحسان لا يصلح أن يخرجوا في الأمكنة والأزمنة التي يخاف فيها الفتنة بهم إلا بقدر الحاجة فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج ولا من الجلوس في الحمام بين الأجانب ولا من رقصه بين الرجال ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس والنظر إليه كذلك
وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالث من النظر وهو
____________________
(21/250)
النظر إليه لغير شهوة لكن مع خوف ثورانها فيه وجهان في مذهب أحمد أصحهما وهو المحكي عن نص الشافعي أنه لا يجوز والثاني يجوز لأن الأصل عدم ثورانها فلا يحرم بالشك بل قد يكره
والأول هو الراجح كما أن الراجح في مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية لكن لأنه يخاف ثورانها ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة ولهذا كان النظر الذي يفضي إلى الفتنة محرما إلا إذا كان لمصلحة راجحة مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما فإنه يباح النظر للحاجة لكن مع عدم الشهوة
وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز
ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه أو أدامه وقال إني لا أنظر لشهوة كذب في ذلك فإنه إذا لم يكن معه داع يحتاج معه إلى النظر لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك وأما نظرة الفجأة فهي عفو إذا صرف بصره كما ثبت في الصحيح عن جرير قال سألت رسول الله عن نظرة الفجأة فقال
____________________
(21/251)
اصرف بصرك وفي السنن انه قال لعلي رضي الله عنه يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية
وفي الحديث الذي في المسند وغيره النظر سهم مسموم من سهام إبليس وفيه من نظر إلى محاسن إمرأة ثم غض بصره عنها أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة أو كما قال ولهذا يقال إن غض البصر عن الصورة التي نهى عن النظر إليها كالمرأة والأمرد الحسن يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر
إحداها حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب ما تركه لله فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه والنفس تحب النظر إلى هذه الصور لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا فإنه يبقى فيها رقة تجتذب بسببها إلى الصور حتى تبقى تجذب أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع ولهذا قال بعض التابعين ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه وقال بعضهم إتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن لهم فتنة كفتنة العذارى
وما زال أئمة العلم والدين كشيوخ الهدى وشيوخ الطريق يوصون بترك صحبة الأحداث حتى يروى عن فتح الموصلي أنه قال
____________________
(21/252)
صحبت ثلاثين من الأبدال كلهم يوصيني عند فراقه بترك صحبة الأحداث وقال بعضهم ما سقط عبد من عين الله إلا بصحبة هؤلاء الأنتان
ثم النظر يؤكد المحبة فيكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب ثم صبابة لإنصباب القلب إليه ثم غراما للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه ثم عشقا إلى أن يصير تتيما والمتيم المعبد وتيم الله عبد الله فيبقى القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون أخا بل ولا خادما وهذا إنما يبتلى به أهل الاعراض عن الاخلاص لله كما قال تعالى في حق يوسف { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة وعقوبتها له بالحبس على العفة عصمه الله بإخلاصه لله تحقيقا لقوله { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } قال تعالى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } والغي هو إتباع الهوى
وهذا الباب من اعظم أبواب إتباع الهوى ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة كابن سينا وذويه أو من الفرس كما يذكر عن بعضهم أو من جهال المتصوفة فانهم أهل ضلال وغي فهم مع مشاركة اليهود في الغي والنصارى في الضلال زادوا على الأمتين في ذلك فإن
____________________
(21/253)
هذا وان ظن أن فيه منفعة للعاشق كتطليق نفسه وتهذيب أخلاقه وللمعشوق من الشفاء في مصالحه وتعليمه وتأديبه وغير ذلك فمضرة ذلك أضعاف منفعته وأين إثم ذلك من منفعته وإنما هذا كما يقال إن في الزنى منفعة لكل منهما بما يحصل له من التلذذ والسرور ويحصل لها من الجعل وغير ذلك وكما يقال إن في شرب الخمر منافع بدنية ونفسية وقد قال في الخمر والميسر { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } وهذا قبل التحريم دع ما قاله عند التحريم وبعده
وباب التعلق بالصور هو من جنس الفواحش وباطنه من باطن الفواحش وهو من باطن الإثم قال تعالى { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } وقال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } وقد قال { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }
وليس بين أئمة الدين نزاع في أن هذا ليس بمستحب كما أنه ليس بواجب فمن جعله ممدوحا وأثنى عليه فقد خرج من إجماع المسلمين بل واليهود والنصارى بل وعما عليه عقلاء بني آدم من جميع الأمم وهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وقد قال
____________________
(21/254)
تعالى { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } وقال تعالى { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب }
وأما من نظر إلى المرد ظانا أنه ينظر إلى الجمال الإلهي وجعل هذا طريقا له إلى الله كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة فقوله هذا أعظم كفرا من قول عباد الأصنام ومن كفر قوم لوط فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين الذين يجب قتلهم بإجماع كل الأمة فإن عباد الأصنام قالوا { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وهؤلاء يجعلون الله موجودا في نفس الأصنام وحالا فيها فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه في المخلوقات إنها دالة عليه وآيات لهم بل يريدون أنه سبحانه هو ظهر فيها وتجلى فيها ويشبهون ذلك بظهور الماء في الزجاجة والزبد في اللبن والزيت في الزيتون والدهن في السمسم ونحو ذلك مما يقتضي حلول نفس ذاته في مخلوقاته أو اتحاده بها في جميع المخلوقات نظير ما قالته النصارى في المسيح خاصة يجعلون المرد مظاهر الجمال فيقررون هذا الشرك الأعظم طريقا إلى استحلال الفواحش بل إلى استحلال كل محرم كما قيل لأفضل متأخريهم التلمساني إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق فما الفرق بين أمي وأختي
____________________
(21/255)
وابنتي تكون هذه حلالا وهذه حراما فقال الجميع عندنا سواء لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم
ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص إما ببعض الأنبياء كالمسيح أو ببعض الصحابة كقول الغالية في علي أو ببعض الشيوخ كالحلاجية ونحوهم أو ببعض الملوك أو ببعض الصور كصور المرد ويقول أحدهم أنا أنظر إلى صفات خالقي وأشهدها في هذه الصورة
والكفر في هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن بالله ورسوله ولو قال مثل هذا الكلام في نبي كريم لكان كافرا فكيف إذا قاله في صبي أمرد فقبح الله طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها وقد قال تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون لله كفارا فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا مع قوله إن الله فيها أو متحد بها فوجودها وجوده ونحو ذلك من المقالات
وأما الفائدة الثانية في غض البصر فهو أنه يورث نور القلب والفراسة قال تعالى عن قوم لوط { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون }
____________________
(21/256)
فالتعلق في الصور يوجب فساد العقل وعمى البصيرة وسكر القلب بل جنونه كما قيل ** سكران سكر هوى وسكر مدامة ** فمتى إفاقة من به سكران **
وقيل ** قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانين ** ** العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ** وإنما يصرع المجنون في الحين **
وذكر سبحانه آية النور عقيب آيات غض البصر فقال { الله نور السماوات والأرض } وكان شاه بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة وكان يقول من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات وذكر خصلة خامسة وهي أكل الحلال لم تخطئ له فراسة والله تعالى يجزئ العبد على عمله بما هو من جنس عمله فغض بصره عما حرم يعوضه الله عليه من جنسه بما هو خير منه فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه
____________________
(21/257)
& باب العلم والمعرفة والكشوف ونحو ذلك مما ينال بصيرة القلب &
والفائدة الثالثة قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل الله له سلطان النصرة مع سلطان الحجة وفي الأثر الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ولهذا يوجد في المتبع لهواه من الذل ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه فإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه قال تعالى { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } وقال تعالى { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }
ولهذا كان في كلام الشيوخ الناس يطلبون العز من أبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله وكان الحسن البصري يقول وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال فإن ذل المعصية في رقابهم يأبى الله إلا أن يذل من عصاه ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه وفي دعاء القنوت إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت
والصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم لسان صدق في الأمة لم يكونوا يستحبون مثل هذا بل ينهون عنه ولهم في الكلام في ذم صحبة الأحداث وفي الرد على أهل الحلول وبيان مباينة الخالق للمخلوق
____________________
(21/258)
مالا يتسع هذا الموضع لذكره وإنما استحسنه من تشبه بهم ممن هو عاص أو فاسق أو كافر فتظاهر بدعوى الولاية لله وتحقيق الإيمان والعرفان وهو من شر أهل العداوة لله وأهل النفاق والبهتان
والله تعالى يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة ويجعل لأعدائه الصفقة الخاسرة والله أعلم
____________________
(21/259)
وسئل
عن أكل لحم الإبل هل ينقض الوضوء أم لا وهل حديثه منسوخ
فأجاب الحمد لله قد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي أنتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال أنتوضأ من لحوم الإبل قال نعم توضأ من لحوم الإبل قال أصلي في مرابض الغنم قال نعم قال أصلي في مبارك الإبل قال لا
وثبت ذلك في السنن من حديث البراء بن عازب قال أحمد فيه حديثان صحيحان حديث البراء وحديث جابر بن سمرة وله شواهد من وجوه أخر
منها ما رواه بن ماجه عن عبد الله بن عمر سمعت رسول الله يقول توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا من
____________________
(21/260)
لحوم الغنم وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل وروي ذلك من غير وجه وهذا باتفاق أهل المعرفة بالحديث أصح وأبعد عن المعارض من أحاديث مس الذكر وأحاديث القهقهة
وقد قال بعض الناس إنه منسوخ بقول جابر كان آخر الأمرين من النبي ترك الوضوء مما مست النار لم يفرق بين لحم الإبل والغنم إذ كلاهما في مس النار سواء فلما فرق بينهما فأمر بالوضوء من هذا وخير في الوضوء من الآخر علم بطلان هذا التعليل
وإذا لم تكن العلة مس النار فنسخ التوضؤ من ذلك لأمر لا يوجب نسخ التوضؤ من جهة أخرى بل يقال كانت لحوم الإبل أو لا يتوضأ منها كما يتوضأ من لحوم الغنم وغيرها ثم نسخ هذا الأمر العام المشترك فأما ما يختص به لحم الإبل فلو كان قبل النسخ لم يكن منسوخا فكيف وذلك غير معلوم
يؤيد ذلك الوجه الثاني وهو أن الحديث كان بعد نسخ الوضوء مما مست النار فإنه بين فيه أنه لا يجب الوضوء من لحوم الغنم وقد أمر فيه بالوضوء من لحوم الإبل فعلم أن الأمر بذلك بعد النسخ
____________________
(21/261)
الثالث أنه فرق بينهما في الوضوء وفي الصلاة في المعاطن أيضا وهذا التفريق ثابت محكم لم يأت عنه نص بالتسوية بينهما في الوضوء والصلاة فدعوى النسخ باطل بل عمل المسلمين بهذا الحديث في الصلاة يوجب العمل فيه بالوضوء إذ لا فرق بينهما
الرابع أنه أمر بالوضوء من لحم الإبل وذلك يقتضي الوضوء منه نيا ومطبوخا وذلك يمنع كونه منسوخا
الخامس أنه لو أتى عن النبي نص عام بقوله لا وضوء مما مست النار لم يجز جعله ناسخا لهذا الحديث من وجهين
أحدهما أنه لا يعلم أنه قبله وإذا تعارض العام والخاص ولم يعلم التاريخ فلم يقل أحد من العلماء أنه ينسخه بل إما أن يقال الخاص هو المقدم كما هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه وإما أن يتوقف بل لو علم أن العام بعد الخاص لكان الخاص مقدما
الثاني أنه قد بينا أن هذا الخاص بعد العام فإن كان نسخ كان الخاص
____________________
(21/262)
ناسخا وقد اتفق العلماء على أن الخاص المتأخر هو المقدم على العام المتقدم فعلم باتفاق المسلمين على أنه لا يجوز تقديم مثل هذا العام على الخاص لو كان هنا لفظ عام كيف ولم يرد عن النبي حديث عام ينسخ الوضوء من كل ما مسته النار وإنما ثبت في الصحيح أنه أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ وكذلك أتي بالسويق فأكل منه ثم لم يتوضأ وهذا فعل لا عموم له فإن التوضؤ من لحم الغنم لا يجب باتفاق الأئمة المتبوعين والحديث المتقدم دليل ذلك
وأما جابر فإنما نقل عن النبي أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار وهذا نقل لفعله لا لقوله فإذا شاهدوه قد أكل لحم غنم ثم صلى ولم يتوضأ بعد أن كان يتوضأ منه صح أن يقال الترك آخر الأمرين والترك العام لا يحاط به إلا بدوام معاشرته وليس في حديث جابر ما يدل على ذلك بل المنقول عنه الترك في قضية معينة ثم ترك الوضوء مما مست النار لا يوجب تركه من جهة أخرى ولحم الإبل لم يتوضأ منه لأجل مس النار كما تقدم بل المعنى يختص به ويتناوله نيا ومطبوخا فبين الوضوء من لحم الإبل والوضوء ممامست النار عموم وخصوص هذا أعم من وجه وهذا أخص من وجه وقد يتفق الوجهان فيكون للحكم علتان وقد ينفرد أحدهما عن الآخر بمنزلة التوضؤ من خروج
____________________
(21/263)
النجاسة مع الوضوء من القبلة فإنه قد يقبل فيمذي وقد يقبل فلا يمذي وقد يمذي من غير مباشرة
فإذا قدر أنه لا وضوء من مس النساء لم ينف الوضوء من المذي وكذلك بالعكس وهذا بين
وأضعف من ذلك قول بعضهم إن المراد بذلك الوضوء اللغوي وهو غسل اليد أو اليد والفم فإن هذا باطل من وجوه
أحدها إن الوضوء في كلام رسولنا لم يرد به قط إلا وضوء الصلاة وإنما ورد بذلك المعنى في لغة اليهود كما روي أن سلمان قال يا رسول الله إنه في التوراة من بركة الطعام الوضوء قبله فقال من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده فهذا الحديث قد تنوزع في صحته وإذا كان صحيحا فقد أجاب سلمان باللغة التي خاطبه بها لغة أهل التوراة وأما اللغة التي خاطب رسول الله بها أهل القرآن فلم يرد فيها الوضوء إلا في الوضوء الذي يعرفه المسلمون
الثاني أنه قد فرق بين اللحمين ومعلوم أن غسل اليد والفم من الغمر مشروع مطلقا بل قد ثبت عنه أنه تمضمض من لبن
____________________
(21/264)
شربه وقال إن له دسما وقال من بات وبيده غمر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه فإذا كان قد شرع ذلك من اللبن والغمر فكيف لا يشرعه من لحم الغنم
الثالث أن الأمر بالتوضؤ من لحم الإبل إن كان أمر إيجاب امتنع حمله على غسل اليد والفم وإن كان أمر استحباب امتنع رفع الاستحباب عن لحم الغنم والحديث فيه أنه رفع عن لحم الغنم ما أثبته للحم الإبل وهذا يبطل كونه غسل اليد سواء كان حكم الحديث إيجابا أو استحبابا
الرابع أنه قد قرنه بالصلاة في مباركها مفرقا بين ذلك وهذا مما يفهم منه وضوء الصلاة قطعا والله أعلم وسئل
عن رجل يقرأ القرآن وليس له على الوضوء قدرة في كل وقت فهل له أن يكتب في اللوح ويقرؤه إن كان على وضوء وغير وضوء أم لا وقد ذكر بعض المالكية أن معنى قوله { لا يمسه إلا المطهرون } تطهير القلب وأن المسلم لا ينجس وقال بعض الشافعية لا يجوز
____________________
(21/265)
له أن يمس اللوح أو المصحف على غير وضوء أبدا فهل بين الأئمة خلاف في هذا أم لا
فأجاب الحمد لله إذا قرأ في المصحف أو اللوح ولم يمسه جاز ذلك وإن كان على غير طهور ويجوز له أن يكتب في اللوح وهو على غير وضوء والله أعلم وسئل
هل يجوز مس المصحف بغير وضوء أم لا
فأجاب مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس المصحف إلا طاهر كما قال في الكتاب الذي كتبه رسول الله لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر
قال الإمام أحمد لا شك أن النبي كتبه له وهو أيضا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن عمر وغيرهما ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف
____________________
(21/266)
وسئل
عن الإنسان إذا كان على غير طهر وحمل المصحف بأكمامه ليقرأ به ويرفعه من مكان إلى مكان هل يكره ذلك
فأجاب وأما إذا حمل الإنسان المصحف بكمه فلا بأس ولكن لا يمسه بيديه وسئل
عمن معه مصحف وهو على غير طهارة كيف يحمله
فأجاب ومن كان معه مصحف فله أن يحمله بين قماشه وفي خرجه وحمله سواء كان ذلك القماش لرجل أو امرأة أو صبي وإن كان القماش فوقه أو تحته والله أعلم
____________________
(21/267)
وسئل شيخ الإسلام
عما تجب له الطهارتان الغسل والوضوء
فأجاب ذلك واجب للصلاة بالكتاب والسنة والإجماع فرضها ونفلها واختلف في الطواف ومس المصحف واختلف أيضا في سجود التلاوة وصلاة الجنازة هل تدخل في مسمى الصلاة التي تجب لها الطهارة
وأما الاعتكاف فما علمت أحدا قال إنه يجب له الوضوء وكذلك الذكر والدعاء فإن النبي أمر الحائض بذلك
وأما القراءة ففيها خلاف شاذ
فمذهب الأربعة تجب الطهارتان لهذا كله إلا الطواف مع الحدث الأصغر فقد قيل فيه نزاع والأربعة أيضا لا يجوزون للجنب قراءة القرآن ولا اللبث في المسجد إذا لم يكن على وضوء وتنازعوا في قراءة الحائض وفي قراءة الشيء اليسير وفي هذا نزاع في مذهب
____________________
(21/268)
الإمام أحمد وغيره كما قد ذكر في غير هذا الموضع
ومذهب أهل الظاهر يجوز للجنب أن يقرأ القرآن واللبث في المسجد هذا مذهب داود وأصحابه وبن حزم وهذا منقول عن بعض السلف
وأما مذهبهم فيما تجب له الطهارتان فالذي ذكره بن حزم أنها لا تجب إلا لصلاة هي ركعتان أو ركعة الوتر أو ركعة في الخوف أو صلاة الجنازة ولا تجب عنده الطهارة لسجدتي السهو فيجوز عنده للجنب والمحدث والحائض قراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف قال لأن هذه الأفعال خير مندوب إليها فمن ادعى منع هؤلاء منها فعليه الدليل
وأما الطواف فلا يجوز للحائض بالنص والإجماع
وأما الحدث ففيه نزاع بين السلف وقد ذكر عبد الله بن الإمام أحمد في المناسك بإسناده عن النخعي وحماد بن أبي سليمان أنه يجوز الطواف مع الحدث الأصغر وقد قيل إن هذا قول الحنفية أو بعضهم وأما مع الجنابة والحيض فلا يجوز عند الأربعة لكن مذهب أبي حنيفة أن ذلك واجب فيه لا فرض وهو قول في مذهب أحمد
____________________
(21/269)
وظاهر مذهبه كمذهب مالك والشافعي أنه ركن فيه والصحيح في هذا الباب ما ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة وهو أن مس المصحف لا يجوز للمحدث ولا يجوز له صلاة جنازة ويجوز له سجود التلاوة فهذه الثلاثة ثابتة عن الصحابة
وأما الطواف فلا أعرف الساعة فيه نقلا خاصا عن الصحابة لكن إذا جاز سجود التلاوة مع الحدث فالطواف أولى كما قاله من قاله من التابعين قال البخاري في باب سجدة المسلمين مع المشركين والمشرك نجس ليس له وضوء وكان بن عمر يسجد على غير وضوء ووقع في بعض نسخ البخاري يسجد على وضوء قال بن بطال في شرح البخاري الصواب إثبات غير لأن المعروف عن بن عمر أنه كان يسجد على غير وضوء ذكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشار حدثنا زكريا بن أبي زائدة حدثنا أبو الحسن يعني عبيد بن الحسن عن رجل زعم أنه نسيه عن سعيد بن جبير قال كان عبد الله بن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ وذكر عن وكيع عن زكريا عن الشعبي في الرجل يقرأ السجدة على غير وضوء قال يسجد حيث كان وجهه
قال بن المنذر واختلفوا في الحائض تسمع السجدة فقال عطاء وأبو قلابة والزهري وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم
____________________
(21/270)
وقتادة ليس عليها أن تسجد وبه قال مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وقد روينا عن عثمان بن عفان قال تومئ برأسها وبه قال سعيد بن المسيب قال تومئ وتقول لك سجدت
وقال بن المنذر ذكر من سمع السجدة وهو على غير وضوء قال أبو بكر واختلفوا في ذلك فقالت طائفة يتوضأ ويسجد هكذا قال النخعي وسفيان الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وقد روينا عن النخعي قولا ثالثا أنه يتيمم ويسجد وروينا عن الشعبي قولا ثالثا أنه يسجد حيث كان وجهه وقال بن حزم وقد روي عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب تومئ الحائض بالسجود وقال سعيد وتقول رب لك سجدت وعن الشعبي جواز سجود التلاوة إلى غير القبلة
وأما صلاة الجنازة فقد قال البخاري قال النبي من صلى على الجنازة وقال صلوا على صاحبكم وقال صلوا على النجاشي سماها صلاة وليس فيها ركوع ولا سجود ولا يتكلم فيها وفيها تكبير وتسليم قال وكان بن عمر لا يصلي إلا طاهرا ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ويرفع يديه
____________________
(21/271)
قال بن بطال عرض البخاري للرد على الشعبي فإنه أجاز الصلاة على الجنازة بغير طهارة قال لأنها دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود والفقهاء مجمعون من السلف والخلف على خلاف قوله فلا يلتفت إلى شذوذه وأجمعوا أنها لا تصلى إلا إلى القبلة ولو كانت دعاء كما زعم الشعبي لجازت إلى غير القبلة قال واحتجاج البخاري في هذا الباب حسن
قلت فالنزاع في سجود التلاوة وفي صلاة الجنازة قيل هما جميعا ليسا صلاة كما قال الشعبي ومن وافقه وقيل هما جميعا صلاة تجب لهما الطهارة والمأثور عن الصحابة وهو الذي تدل عليه النصوص والقياس الفرق بين الجنازة والسجود المجرد سجود التلاوة والشكر وذلك لأنه قد ثبت بالنص لا صلاة إلا بطهور كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وفي صحيح مسلم عن بن عمر عن النبي أنه قال لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول
وهذا قد دل عليه القرآن بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } الآية وقد حرم الصلاة مع الجنابة والسكر في قوله { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا }
____________________
(21/272)
وثبت أيضا أن الطهارة لا تجب لغير الصلاة لما ثبت في صحيح مسلم من حديث بن جريج ثنا سعيد بن الحارث عن بن عباس أن النبي قضى حاجته من الخلاء فقرب له طعام فأكل ولم يمس ماء قال بن جريج وزادني عمرو بن دينار عن سعيد بن الحارث أن النبي قيل له إنك لم تتوضأ قال ما أردت صلاة فأتوضأ قال عمرو سمعته من سعيد بن الحارث
والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة أصلا فإنه لم ينقل أحد عن النبي لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف مع العلم بأنه قد حج معه خلائق عظيمة وقد اعتمر عمرا متعددة والناس يعتمرون معه فلو كان الوضوء فرضا للطواف لبينه النبي بيانا عاما ولو بينه لنقل ذلك المسلمون عنه ولم يهملوه ولكن ثبت في الصحيح أنه لما طاف توضأ وهذا وحده لا يدل على الوجوب فإنه قد كان يتوضأ لكل صلاة وقد قال إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر فيتيمم لرد السلام
____________________
(21/273)
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه لما خرج من الخلاء وأكل وهو محدث قيل له ألا تتوضأ قال ما أردت صلاة فأتوضأ يدل على أنه لم يجب عليه الوضوء إلا إذا أراد صلاة وأن وضوءه لما سوى ذلك مستحب ليس بواجب وقوله ما أردت صلاة فأتوضأ ليس إنكارا للوضوء لغير الصلاة لكن إنكار لإيجاب الوضوء لغير الصلاة فإن بعض الحاضرين قال له ألا تتوضأ فكأن هذا القائل ظن وجوب الوضوء للأكل فقال ما أردت صلاة فأتوضأ فبين له أنه إنما فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة
والحديث الذي يروى الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير قد رواه النسائي وهو يروى موقوفا ومرفوعا وأهل المعرفة بالحديث لا يصححونه إلا موقوفا ويجعلونه من كلام بن عباس لا يثبتون رفعه وبكل حال فلا حجة فيه لأنه ليس المراد به أن الطواف نوع من الصلاة كصلاة العيد والجنائز ولا أنه مثل الصلاة مطلقا فإن الطواف يباح فيه الكلام بالنص والإجماع ولا تسليم فيه ولا يبطله الضحك والقهقهة ولا تجب فيه القراءة باتفاق المسلمين فليس هو مثل الجنازة فإن الجنازة فيها تكبير وتسليم فتفتح بالتكبير وتختم بالتسليم
____________________
(21/274)
وهذا حد الصلاة التي أمر فيها بالوضوء كما قال مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم والطواف ليس له تحريم ولا تحليل وإن كبر في أوله فكما يكبر على الصفا والمروة وعند رمي الجمار من غير أن يكون ذلك تحريما ولهذا يكبر كلما حاذى الركن والصلاة لها تحريم لأنه بتكبيرها يحرم على المصلي ما كان حلالا له من الكلام أو الأكل أو الضحك أو الشرب أو غير ذلك والطواف لا يحرم شيئا بل كل ما كان مباحا قبل الطواف في المسجد فهو مباح في الطواف وإن كان قد يكره ذلك لأنه يشغل عن مقصود الطواف كما يكره في عرفة وعند رمي الجمار ولا يعرف نزاعا بين العلماء أن الطواف لا يبطل بالكلام والأكل والشرب والقهقهة كما لا يبطل غيره من مناسك الحج بذلك وكما لا يبطل الاعتكاف بذلك
والاعتكاف يستحب له طهارة الحدث ولا يجب فلو قعد المعتكف وهو محدث في المسجد لم يحرم بخلاف ما إذا كان جنبا أو حائضا فإن هذا يمنعه منه الجمهور كمنعهم الجنب والحائض من اللبث في المسجد لا لأن ذلك يبطل الاعتكاف ولهذا إذا خرج المعتكف للاغتسال كان حكم اعتكافه عليه في حال خروجه فيحرم عليه مباشرة النساء في غير المسجد ومن جوز له اللبث مع الوضوء جوز للمعتكف أن يتوضأ
____________________
(21/275)
ويلبث في المسجد وهو قول أحمد بن حنبل وغيره
والذي ثبت عن النبي أنه نهى الحائض عن الطواف وبعث أبا بكر أميرا على الموسم فأمر أن ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وكان المشركون يحجون وكانوا يطوفون بالبيت عراة فيقولون ثياب عصينا الله فيها فلا نطوف فيها إلا الحمس ومن دان دينها وفي ذلك أنزل الله { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } وقوله { وإذا فعلوا فاحشة } مثل طوافهم بالبيت عراة { قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }
ومعلوم أن ستر العورة يجب مطلقا خصوصا إذا كان في المسجد الحرام والناس يرونه فلم يجب ذلك لخصوص الطواف لكن الاستتار في حال الطواف أوكد لكثرة من يراه وقت الطواف فينبغي النظر في معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله وهو أن يعرف مسمى الصلاة التي لا يقبلها الله إلا بطهور التي أمر بالوضوء عند القيام إليها وقد فسر ذلك النبي بقوله في الحديث الذي في السنن عن علي عن النبي أنه قال مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ففي هذا الحديث دلالتان
____________________
(21/276)
إحداهما أن الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم فما لم يكن تحريمه التكبير وتحليله التسليم لم يكن من الصلاة
والثانية إن هذه هي الصلاة التي مفتاحها الطهور فكل صلاة مفتاحها الطهور فتحريمها التكبير وتحليلها التسليم فما لم يكن تحريمه التكبير وتحليله التسليم فليس مفتاحه الطهور فدخلت صلاة الجنازة في هذا فإن مفتاحها الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم
وأما سجود التلاوة والشكر فلم ينقل أحد عن النبي ولا عن أصحابه أن فيه تسليما ولا أنهم كانوا يسلمون منه ولهذا كان أحمد بن حنبل وغيره من العلماء لا يعرفون فيه التسليم وأحمد في إحدى الروايتين عنه لا يسلم فيه لعدم ورود الأثر بذلك وفي الرواية الأخرى يسلم واحدة أو اثنتين ولم يثبت ذلك بنص بل بالقياس وكذلك من رأى فيه تسليما من الفقهاء ليس معه نص بل القياس أو قول بعض التابعين
وقد تكلم الخطابي على حديث نافع عن بن عمر قال كان رسول الله يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه قال فيه بيان أن السنة أن يكبر
____________________
(21/277)
للسجود وعلى هذا مذاهب أكثر أهل العلم وكذلك يكبر إذا رفع رأسه من السجود قال وكان الشافعي وأحمد يقولان يرفع يديه إذا أراد أن يسجد وعن بن سيرين وعطاء إذا رفع رأسه من السجود يسلم وبه قال إسحاق بن راهويه
قال واحتج لهم في ذلك بقول النبي تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وكان أحمد لا يعرف وفي لفظ لا يرى التسليم في هذا
قلت وهذه الحجة إنما تستقيم لهم إن ذلك داخل في مسمى الصلاة لكن قد يحتجون بهذا على من يسلم أنها صلاة فيتناقض قوله وحديث بن عمر رواه البخاري في صحيحه وليس فيه التكبير قال كان النبي يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته وفي لفظ حتى ما يجد أحدنا مكانا لجبهته
فابن عمر قد أخبر أنهم كانوا يسجدون مع النبي ولم يذكر تسليما وكان بن عمر يسجد على غير وضوء ومن المعلوم أنه لو كان النبي بين لأصحابه أن السجود لا يكون إلا على وضوء لكان هذا مما يعلمه عامتهم لأنهم كلهم
____________________
(21/278)
كانوا يسجدون معه وكان هذا شائعا في الصحابة فإذا لم يعرف عن أحد منهم أنه أوجب الطهارة لسجود التلاوة وكان بن عمر من أعلمهم وأفقههم وأتبعهم للسنة وقد بقي إلى آخر الأمر ويسجد للتلاوة على غير طهارة كان هو مما يبين أنه لم يكن معروفا بينهم أن الطهارة واجبة لها ولو كان هذا مما أوجبه النبي لكان ذلك شائعا بينهم كشياع وجوب الطهارة للصلاة وصلاة الجنازة وبن عمر لم يعرف أن غيره من الصحابة أوجب الطهارة فيها ولكن سجودها على الطهارة أفضل باتفاق المسلمين
وقد يقال إنه يكره سجودها على غير طهارة مع القدرة على الطهارة فإن النبي لما سلم عليه مسلم لم يرد عليه حتى تيمم وقال كرهت أن أذكر الله إلا على طهر فالسجود أوكد من رد السلام لكن كون الإنسان إذا قرأ وهو محدث يحرم عليه السجود ولا يحل له أن يسجد لله إلا بطهارة قول لا دليل عليه وما ذكر أيضا يدل على أن الطواف ليس من الصلاة ويدل على ذلك أن النبي قال لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب والطواف والسجود لا يقرأ فيهما بأم الكتاب وقد قال إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة والكلام يجوز في الطواف
____________________
(21/279)
والطواف أيضا ليس فيه تسليم لكن يفتتح بالتكبير كما يسجد للتلاوة بالتكبير ومجرد الإفتتاح بالتكبير لا يوجب أن يكون المفتتح صلاة فقد ثبت في الصحيح أن النبي طاف على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيء بيده وكبر وكذلك ثبت عنه أنه كبر على الصفا والمروة وعند رمي الجمار ولأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه
وأما الحائض فقد قيل إنما منعت من الطواف لأجل المسجد كما تمنع من الإعتكاف لأجل المسجد والمسجد الحرام أفضل المساجد وقد قال تعالى لإبراهيم { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } فأمر بتطهيره فتمنع منه الحائض من الطواف وغير الطواف وهذا من سر قول من يجعل الطهارة واجبة فيه ويقول إذا طافت وهي حائض عصت بدخول المسجد مع الحيض ولا يجعل طهارتها للطواف كطهارتها للصلاة بل يجعله من جنس منعها أن تعتكف في المسجد وهي حائض ولهذا لم تمنع الحائض من سائر المناسك كما قال النبي الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وقال لعائشة إفعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولما قيل له عن صفية أنها حائض قال أحابستنا هي قيل له أنها قد افاضت قال فلا إذا متفق عليه
____________________
(21/280)
وقد إعترض بن بطال على إحتجاج البخاري بجواز السجود على غير وضوء بحديث بن عباس أن النبي قرأ النجم فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس وهذا السجود متواتر عند أهل العلم وفي الصحيح أيضا من حديث بن مسعود قال قرأ النبي بمكة النجم فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا قال فرأيته بعد قتل كافرا
قال بن بطال هذا لا حجة فيه لأن سجود المشركين لم يكن على وجه العبادة لله والتعظيم له وإنما كان لما ألقى الشيطان على لسان النبي من ذكر آلهتهم في قوله { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } فقال تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن قد ترتجى فسجدوا لما سمعوا من تعظيم آلهتهم فلما علم النبي ما ألقى الشيطان على لسانه من ذلك أشفق وحزن له فأنزل الله تعالى تأنيسا له وتسلية عما عرض له { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } إلى قوله { والله عليم حكيم } أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته
فلا يستنبط من سجود المشركين جواز السجود على غير
____________________
(21/281)
وضوء لأن المشرك نجس لا يصح له وضوء ولا سجود إلا بعد عقد الإسلام
فيقال هذا ضعيف فإن القوم إنما سجدوا لما قرأ النبي { أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا } فسجد النبي ومن معه إمتثالا لهذا الأمر وهو السجود لله والمشركون تابعوه في السجود لله
وما ذكر من التمني إذا كان صحيحا فإنه هو كان سبب موافقتهم له في السجود لله ولهذا لما جرى هذا بلغ المسلمين بالحبشة ذلك فرجع منهم طائفة إلى مكة والمشركون ما كانوا ينكرون عبادة الله وتعظيمه ولكن كانوا يعبدون معه آلهة أخرى كما أخبر الله عنهم بذلك فكان هذا السجود من عبادتهم لله وقد قال سجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس
وأما قوله لا سجود إلا بعد عقد الإسلام فسجود الكافر بمنزلة دعائه لله وذكره له وبمنزلة صدقته وبمنزلة حجهم لله وهم مشركون فالكفار قد يعبدون الله وما فعلوه من خير أثيبوا عليه في الدنيا فإن ماتوا على الكفر حبطت أعمالهم في الآخرة وإن ماتوا على الإيمان فهل
____________________
(21/282)
يثابون على ما فعلوه في الكفر فيه قولان مشهوران والصحيح أنهم يثابون على ذلك لقول النبي لحكيم بن حزام أسلمت على ما أسلفت من خير وغير ذلك من النصوص ومعلوم أن اليهود والنصارى لهم صلاة وسجود وإن كان ذلك لا ينفعهم في الآخرة إذا ماتوا على الكفر
وأيضا فقد أخبر الله في غير موضع من القرآن عن سجود سحرة فرعون كما قال تعالى { فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون } وذلك سجود مع إيمانهم وهو مما قبله الله منهم وأدخلهم به الجنة ولم يكونوا على طهارة وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه ولو قرئ القرآن على كفار فسجدوا لله سجود إيمان بالله ورسوله محمد أو رأوا آية من آيات الإيمان فسجدوا لله مؤمنين بالله ورسوله لنفعهم ذلك
ومما يبين هذا أن السجود يشرع منفردا عن الصلاة كسجود التلاوة وسجود الشكر وكالسجود عند الآيات فإن بن عباس لما بلغه موت بعض أمهات المؤمنين سجد وقال ان رسول الله أمرنا إذا رأينا آية ان نسجد
____________________
(21/283)
وقد تنازع الفقهاء في السجود المطلق لغير سبب هل هو عبادة أم لا ومن سوغه يقول هو خضوع لله والسجود هو الخضوع قال تعالى { وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة } قال أهل اللغة السجود في اللغة هو الخضوع وقال غير واحد من المفسرين أمروا أن يدخلوا ركعا منحنين فان الدخول مع وضع الجبهة على الأرض لا يمكن وقد قال تعالى { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس } وقال تعالى { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها } ومعلوم أن سجود كل شيء بحسبه ليس سجود هذه المخلوقات وضع جباهها على الأرض وقد قال النبي في حديث أبي ذر لما غربت الشمس إنها تذهب فتسجد تحت العرش رواه البخاري ومسلم
فعلم ان السجود اسم جنس وهو كمال الخضوع لله وأعز ما في الإنسان وجهه فوضعه على الأرض لله غاية خضوعه ببدنه وهو غاية ما يقدر عليه من ذلك ولهذا قال النبي أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وقال تعالى { واسجد واقترب } فصار من جنس أذكار الصلاة التي تشرع خارج الصلاة كالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وقراءة القرآن وكل ذلك يستحب له الطهارة
____________________
(21/284)
ويجوز للمحدث فعل ذلك بخلاف ما لا يفعل إلا في الصلاة كالركوع فإن هذا لا يكون إلا جزءا من الصلاة وأفضل افعال الصلاة السجود وأفضل اقوالها القراءة وكلاهما مشروع في غير الصلاة فيسرت العبادة لله لكن الصلاة أفضل الأعمال فاشترط لها أفضل الأحوال
واشترط للفرض ما لم يشترط للنفل من القيام والاستقبال مع القدرة وجاز التطوع على الراحلة في السفر كما مضت به سنة النبي فإنه قد ثبت في الصحاح أنه كان يتطوع على راحلته في السفر قبل اي وجه توجهت به وهذا مما اتفق العلماء على جوازه وهو صلاة بلا قيام ولا استقبال للقبلة فإنه لا يمكن المتطوع على الراحلة أن يصلي إلا كذلك فلو نهى عن التطوع أفضى إلى تفويت عبادة الله التي لا يقدر عليها إلا كذلك بخلاف الفرض فإنه شيء مقدر يمكنه أن ينزل له ولا يقطعه ذلك عن سفره ومن لم يمكنه النزول لقتال أو مرض أو وحل صلى على الدابة أيضا
ورخص في التطوع جالسا لكن يستقبل القبلة فان الاستقبال يمكنه مع الجلوس فلم يسقط عنه بخلاف تكليفه القيام فانه قد يشق عليه ترك التطوع وكان ذلك تيسيرا للصلاة بحسب الإمكان فأوجب الله في الفرض ما لا يجب في النفل
____________________
(21/285)
وكذلك السجود دون صلاة النفل فانه يجوز فعله قاعدا وإن كان القيام أفضل وصلاة الجنازة أكمل من النفل من وجه فاشترط لها القيام بحسب الامكان لأن ذلك لا يتعذر وصلاة النافلة فيها ركوع وسجود فهي أكمل من هذا الوجه والمقصود الأكبر من صلاة الجنازة هو الدعاء للميت ولهذا كان عامة ما فيها من الذكر دعاء
واختلف السلف والعلماء هل فيها قراءة على قولين مشهورين ولم يوقت النبي فيها دعاء بعينه فعلم انه لا يتوقت فيها وجوب شيء من الاذكار وإن كانت قراءة الفاتحة فيها سنة كما ثبت ذلك عن بن عباس فالناس في قراءة الفاتحة فيها على اقوال قيل تكره وقيل تجب والأشبه إنها مستحبة لا تكره ولا تجب فانه ليس فيها قرآن غير الفاتحة فلو كانت الفاتحة واجبة فيها كما تجب في الصلاة التامة لشرع فيها قراءة زائدة على الفاتحة ولأن الفاتحة نصفها ثناء على الله ونصفها دعاء للمصلي نفسه لا دعاء للميت والواجب فيها الدعاء للميت وما كان تتمة كذلك
والمشهور عن الصحابة أنه إذا سلم فيها سلم تسليمة واحدة لنقصها عن الصلاة التامة
وقوله من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج
____________________
(21/286)
يقال الصلاة المطلقة هي التي فيها ركوع وسجود بدليل ما لو نذر أن يصلي صلاة وهذه صلاة تدخل في قوله مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم لكنها تقيد يقال صلاة الجنازة ويقال صلوا على الميت كما قال تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره }
والصلاة على الميت قد بينها الشارع أنها دعاء مخصوص بخلاف قوله { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } تلك قد بين انها الدعاء المطلق الذي ليس له تحريم وتحليل ولا يشترط له إستقبال القبلة ولا يمنع فيه من الكلام والسجود المجرد لا يسمى صلاة لا مطلقا ولا مقيدا ولهذا لا يقال صلاة التلاوة ولا صلاة الشكر فلهذا لم تدخل في قوله لا يقبل الله صلاة بغير طهور وقوله لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فان السجود مقصوده الخضوع والذل له وقيل لسهل بن عبد الله التستري أيسجد القلب قال نعم سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا
ومسمى الصلاة لا بد فيه من الدعاء فلا يكون مصليا إلا بدعاء بحسب إمكانه والصلاة التي يقصد بها التقرب إلى الله لا بد فيها من قرآن وقد قال النبي إني نهيت أن
____________________
(21/287)
أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فالسجود لا يكون فيه قرآن وصلاة التقرب لا بد فيها من قرآن بخلاف الصلاة التي مقصودها الدعاء للميت فإنها بقرآن أكمل ولكن مقصودها يحصل بغير قرآن
وأما مس المصحف فالصحيح انه يجب له الوضوء كقول الجمهور وهذا هو المعروف عن الصحابة سعد وسلمان وبن عمر وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي لا يمس القرآن إلا طاهر وذلك ان النبي نهى ان يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة ان تناله ايديهم وقد أقر المشركين على السجود لله ولم ينكره عليهم فان السجود لله خضوع { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها }
وأما كلامه فله حرمة عظيمة ولهذا ينهى أن يقرأ القرآن في حال الركوع والسجود فاذا نهى أن يقرأ في السجود لم يجز ان يجعل المصحف مثل السجود وحرمة المصحف أعظم من حرمة المسجد والمسجد يجوز أن يدخله المحدث ويدخله الكافر للحاجة وقد كان الكفار يدخلونه واختلف في نسخ ذلك بخلاف المصحف فلا يلزم إذا جاز الطواف مع الحدث أن يجوز للمحدث مس المصحف لأن حرمة المصحف أعظم وعلى هذا فما روي عن عثمان وسعيد من أن الحائض تومئ بالسجود هو لأن حدث الحائض أغلظ والركوع هو
____________________
(21/288)
سجود خفيف كما قال تعالى { ادخلوا الباب سجدا } قالوا ركعا فرخص لها في دون كمال السجود
وأما احتجاج بن حزم على ان ما دون ركعتين ليس بصلاة بقوله صلاة الليل والنهار مثنى مثنى فهذا يرويه الأزدي عن علي بن عبد الله البارقي عن بن عمر وهو خلاف ما رواه الثقات المعروفون عن بن عمر فانهم رووا ما في الصحيحين أنه سئل عن صلاة الليل فقال صلاة الليل مثنى مثنى فاذا خفت الفجر فأوتر بواحدة ولهذا ضعف الامام أحمد وغيره من العلماء حديث البارقي ولا يقال هذه زيادة من الثقة فتكون مقبولة لوجوه
أحدها أن هذا متكلم فيه
الثاني أن ذلك إذا لم يخالف الجمهور والا فاذا انفرد عن الجمهور ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره
الثالث أن هذا إذا لم يخالف المزيد عليه وهذا الحديث قد ذكر بن عمر أن رجلا سأل النبي عن صلاة الليل فقال صلاة الليل مثنى مثنى فاذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ومعلوم أنه لو قال صلاة الليل والنهار مثنى مثنى فاذا خفت الصبح
____________________
(21/289)
فأوتر بواحدة لم يجز ذلك وانما يجوز اذا ذكر صلاة الليل منفردة كما ثبت في الصحيحين والسائل إنما سأله عن صلاة الليل والنبي وان كان قد يجيب عن أعم مما سئل عنه كما في حديث البحر لما قيل له إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته لكن يكون الجواب منتظما كما في هذا الحديث
وهناك إذا ذكر النهار لم يكن الجواب منتظما لأنه ذكر فيه قوله فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة وهذا ثابت في الحديث لا ريب فيه
فان قيل يحتمل أن يكون هذا قد ذكره النبي في مجلس آخر كلاما مبتدأ لآخر إما لهذا السائل وإما لغيره
قيل كل من روى عن بن عمر إنما رواه هكذا فذكروا في أوله السؤال وفي آخره الوتر وليس فيه إلا صلاة الليل وهذا خالفهم فلم يذكر ما في أوله ولا ما في آخره وزاد في وسطه وليس هو من المعروفين بالحفظ والاتقان ولهذا لم يخرج حديثه أهل الصحيح البخاري ومسلم
وهذه الأمور وما أشبهها متى تأملها اللبيب علم أنه غلط في الحديث
____________________
(21/290)
وان لم يعلم ذلك أوجب ريبة قوية تمنع الاحتجاج به على إثبات مثل هذا الأصل العظيم
ومما يبين ذلك أن الوتر ركعة وهو صلاة وكذلك صلاة الجنازة وغيرها فعلم أن النبي لم يقصد بذلك بيان مسمى الصلاة وتحديدها فان الحد يطرد وينعكس
فان قيل قصد بيان ما يجوز من الصلاة
قيل ما ذكرتم جائز وسجود التلاوة والشكر أيضا جائز فلا يمكن الاستدلال به لا على الاسم ولا على الحكم وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم فانه يكون خطأ كما قال الامام أحمد بن حنبل إياك أن تتكلم في مسالة ليس لك فيها إمام
وأما سجود السهو فقد جوزه بن حزم أيضا على غير طهارة والى غير القبلة كسجود التلاوة بناء على أصله الضعيف ولهذا لا يعرف عن أحد من السلف وليس هو مثل سجود التلاوة والشكر لأن هذا سجدتان يقومان مقام ركعة من الصلاة كما قال النبي في الحديث الصحيح حديث الشك إذا شك أحدكم
____________________
(21/291)
فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم فان صلى خمسا شفعتا له صلاته والا كانتا ترغيما للشيطان وفي لفظ وان كانت صلاته تماما كانتا ترغيما فجعلهما كالركعة السادسة التي تشفع الخامسة المزيدة سهوا
ودل ذلك على انه يؤجر عليها لأنه اعتقد أنها من تمام المكتوبة وفعلها تقربا إلى الله وان كان مخطئا في هذا الاعتقاد وفي هذا ما يدل على أن من فعل ما يعتقده قربة بحسب إجتهاده إن كان مخطئا في ذلك أنه يثاب على ذلك وان كان له علم أنه ليس بقربة يحرم عليه فعله
وأيضا فان سجدتي السهو يفعلان أما قبل السلام وأما قريبا من السلام فهما متصلان بالصلاة داخلان فيها فهما منها
وأيضا فانهما جبران للصلاة فكانتا كالجزء من الصلاة
وأيضا فان لهما تحليلا وتحريما فانه يسلم منهما ويتشهد فصارتا أوكد من صلاة الجنازة
وفي الجملة سجدتا السهو من جنس سجدتي الصلاة لا من جنس
____________________
(21/292)
سجود التلاوة والشكر ولهذا يفعلان إلى الكعبة وهذا عمل المسلمين من عهد نبيهم ولم ينقل عن أحد أنه فعلها إلى غير القبلة ولا بغير وضوء كما يفعل ذلك في سجود التلاوة وإذا كان السهو في الفريضة كان عليه أن يسجدهما بالأرض كالفريضة ليس له أن يفعلهما على الراحلة
وأيضا فانهما واجبتان كما دل عليه نصوص كثيرة وهو قول أكثر الفقهاء بخلاف سجود الشكر فانه لا يجب بالاجماع وفي استحبابه نزاع وسجود التلاوة في وجوبه نزاع وان كان مشروعا بالاجماع فسجود التلاوة سببه القراءة فيتبعها
ولما كان المحدث له أن يقرأ فله أن يسجد بطريق الأولى فان القراءة أعظم من مجرد سجود التلاوة
والمشركون قد سجدوا وما كانوا يقرؤون القرآن وقد نهى النبي أن يقرأ القرآن في حال الركوع والسجود فعلم أن القرآن أفضل من هذه الحال
وقوله أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد أي من الأفعال فلم تدخل الأقوال في ذلك ويفرق بين الأقرب والأفضل
____________________
(21/293)
فقد يكون بعض الأعمال أفضل من السجود وإن كان في السجود أقرب كالجهاد فإنه سنام العمل إلا أن يراد السجود العام وهو الخضوع فهذا يحصل له في حال القراءة وغيرها وقد يحصل للرجل في حال القراءة من الخشوع والخضوع ما لا يحصل له في حال السجود
وهذا كقوله أقرب ما يكون الرب تعالى من عبده في جوف الليل وقوله ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل وقوله إنه يدنو عشية عرفة
ومعلوم أن من الأعمال ما هو أفضل من الوقوف بعرفة ومن قيام الليل كالصلوات الخمس والجهاد في سبيل الله وقد قال تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } فهو قريب ممن دعاه وقد يكون غير الداعي أفضل من الداعي كما قال من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين والله أعلم
____________________
(21/294)
& باب الغسل سئل رحمه الله
عن غسل الجنابة هل هو فرض أم لا وهل يجوز لأحد الصلاة جنبا ولا يعيد
فأجاب الطهارة من الجنابة فرض ليس لأحد أن يصلي جنبا ولا محدثا حتى يتطهر ومن صلى بغير طهارة شرعية مستحلا لذلك فهو كافر ولو لم يستحل ذلك فقد اختلف في كفره وهو مستحق للعقوبة الغليظة لكن إن كان قادرا على الاغتسال بالماء اغتسل وإن كان عادما للماء ويخاف الضرر باستعماله بمرض أو خوف برد تيمم وصلى
وإن تعذر الغسل والتيمم صلى بلا غسل ولا تيمم في أظهر أقوال العلماء ولا إعادة عليه والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(21/295)
وسئل
عن رجل يلاعب امرأته ثم بعد ساعة يبول فيخرج شبه المني بألم وعصر فهل يجب عليه الغسل
فأجاب المني الذي يوجب الغسل هو الذي يخرج بشهوة وهو أبيض غليظ تشبه رائحته رائحة الطلع
فأما المني الذي يخرج بلا شهوة إما لمرض أو غيره فهذا فاسد لا يوجب الغسل عند أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد كما أن دم الاستحاضة لا يوجب الغسل والخارج عقيب البول تارة مع ألم أو بلا ألم هو من هذا الباب لا غسل فيه عند جمهور العلماء والله أعلم وسئل
عن امرأة قيل لها إذا كان عليك نجاسة من عذر النساء أو من جنابة لا تتوضئي ألا تمسحي بالماء من داخل الفرج فهل يصح ذلك
____________________
(21/296)
فأجاب الحمد لله لا يجب على المرأة إذا اغتسلت من جنابة أو حيض غسل داخل الفرج في أصح القولين والله أعلم وسئل
عن امرأتين تباحثتا فقالت إحداهما يجب على المرأة أن تدس إصبعها وتغسل الرحم من داخل وقالت الأخرى لا يجب إلا غسل الفرج من ظاهر فأيهما على الصواب
فأجاب الصحيح أنه لا يجب عليها ذلك وإن فعلت جاز وسئل
عن امرأة تضع معها دواء وقت المجامعة تمنع بذلك نفوذ المني في مجاري الحبل فهل ذلك جائز حلال أم لا وهل إذا بقي ذلك الدواء معها بعد الجماع ولم يخرج يجوز لها الصلاة والصوم بعد الغسل أم لا
فأجاب أما صومها وصلاتها فصحيحة وإن كان ذلك الدواء
____________________
(21/297)
في جوفها وأما جواز ذلك ففيه نزاع بين العلماء والأحوط أنه لا يفعل والله أعلم وسئل
هل صح عن النبي أنه كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد وما قدر ذلك وهل تكره الزيادة على هذا مع اختلاف أحوالهم وهل يكرر الصب على وجهه في الوضوء
فأجاب الصاع بالرطل الدمشقي رطل وأوقيتان تقريبا والمد ربع ذلك وهذا مع الاقتصاد والرفق يكفي غالب الناس وإن احتاج إلى الزيادة أحيانا لحاجة فلا بأس بذلك
لكن من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء وما ذكر من تكثير الاغتراف مكروه بل إذا غرف الماء يرسله على وجهه إرسالا من أعالي الوجه إلى أسفله برفق والله أعلم
____________________
(21/298)
وسئل
عن رجل اغتسل ولم يتوضأ فهل يجزيه ذلك أم لا
فأجاب الأفضل أن يتوضأ ثم يغسل سائر بدنه ولا يعيد الوضوء كما كان النبي يفعل
ولو اقتصر على الاغتسال من غير وضوء أجزأه ذلك في المشهور من مذهب الأئمة الأربعة لكن عند أبي حنيفة وأحمد عليه المضمضة والاستنشاق وعند مالك والشافعي ليس عليه ذلك وهل ينوي رفع الحدثين فيه نزاع بين العلماء والله أعلم
____________________
(21/299)
وقال رحمه الله فصل في الحمام
قد كره الإمام أحمد بناء الحمام وبيعه وشراءه وكراءه وذلك لاشتماله على أمور محرمة كثيرا أو غالبا مثل كشف العورات ومسها والنظر إليها والدخول المنهي عنه إليها كنهي النساء وقد تشتمل على فعل فواحش كبيرة وصغيرة بالنساء والرجال وجاء في الحديث الذي رواه الطبراني إن الشيطان قال يا رب اجعل لي بيتا قال بيتك الحمام ومن المنكرات التي يكثر فيها تصوير الحيوان في حيطانها وهذا متفق عليه
قلت قد كتبت في غير هذا الموضع أنه لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم يحتج إليها فأقول هنا إن جوابات أحمد ونصوصه إما أن تكون مقيدة في نفسه بأن يكون خرج كلامه على الحمامات التي يعهدها في العراق والحجاز واليمن وهي جمهور البلاد التي انتابها فإنه لم يذهب
____________________
(21/300)
إلى خراسان ولم يأت إلى غير هذه البلاد إلا مرة في مجيئه إلى دمشق وهذه البلاد المذكورة الغالب عليها الحر وأهلها لا يحتاجون إلى الحمام غالبا ولهذا لم يكن بأرض الحجاز حمام على عهد رسول الله وخلفائه ولم يدخل النبي حماما ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان والحديث الذي يروى أن النبي دخل الحمام موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولكن علي لما قدم العراق كان بها حمامات وقد دخل الحمام غير واحد من الصحابة وبني بالجحفة حمام دخلها بن عباس وهو محرم
وإما أن يكون جواب أحمد كان مطلقا في نفسه وصورة الحاجة لم يستشعرها نفيا ولا إثباتا فلا يكون جوابه متناولا لها فلا يحكى عنه فيها كراهة
وإما أن يكون قصد بجوابه المنع العام عند الحاجة وعدمها وهذا أبعد المحامل الثلاثة أن يحمل عليه كلامه فإن أصوله وسائر نصوصه في نظائر ذلك تأبى ذلك وهو أيضا مخالف لأصول الشريعة وقد نقل عنه أنه لما مرض وصف له الحمام
وكان أبو عبد الله لا يدخل الحمام اقتداء بابن عمر فإنه كان لا يدخلها ويقول هي من رقيق العيش وهذا ممكن في أرض
____________________
(21/301)
يستغنى أهلها عن الحمام كما يمكن الاستغناء عن الفراء والحشايا في مثل تلك البلاد
والكلام في فصلين
أحدهما في تفصيل حكم ما ذكر من بنائها وبيعها وإجارتها والأقسام أربعة
فإنه لا يخلو إما أن يحتاج إليها من غير محظور أو لا يحتاج إليها ولا محظور أو يحتاج إليها مع المحظور أو يكون هناك محظور من غير حاجة
فأما الأول فلا ريب في الجواز مثل أن يبني الرجل لنفسه وأهله حماما في البلاد ا لباردة ولا يفعل فيها ما نهى الله عنه فهنا حاجة أو مثل أن يقدر بناء حمام عامة في بلاد باردة وصيانتها عن كل محظور فإن البناء والبيع والكراء هنا بمنزلة دخول الرجل إلى الحمام الخاصة أو المشتركة مع غض بصره وحفظ فرجه وقيامه بما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا لا ريب في جوازه وقد دخلها غير واحد من الصحابة
وأحاديث الرخصة فيها مشهورة كحديث أبي سعيد الخدري الذي
____________________
(21/302)
رواه أحمد وأبو داود وبن ماجه عن النبي أنه قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام وعلى هذا اعتمدوا في الصلاة في الحمام وقد أرسله طائفة وأسنده آخرون وحكموا له بالثبوت واستثناؤه الحمام من الأرض كاستثنائه المقبرة في كونها مسجدا دليل على إقرارها في الأرض وأنه لا ينهى عن الانتفاع بها مطلقا إذ لو كان يجب إزالتها ويحرم بناؤها ودخولها لم تخص الصلاة بالمنع
والنهي عن الصلاة في الحمام قد قال بعض الأصحاب كأبي بكر والقاضي إنه يعيد قيل لأنه محل الشياطين وفيه وجه وهو التعليل بمظنة النجاسة والمشهور أن المنع يتناول ما يدخل في البيع وهو المشلح والمغتسل والأندر
وقد يقال الحمام فعال من الحم وهو المكان الذي فيه الهواء الحار والماء الحار يتعرضن فيه
فأما المشلح الذي توضع فيه الثياب وهو بارد لا يغتسل فيه ولا يقعد فيه إلا المتلبس فليس هو مكان حمام والدخول في المنع لا يصلح له تعليل
____________________
(21/303)
وقد بينا أن المقبرة وأعطان الإبل تصح الصلاة فيهما على الصحيح لعدم تناول اللفظ والمعنى وإن دخل في المنع إلا أنه يقال لفظ الحمام يعم هذا كله ولا يعرف حمام ليس فيها هذا المكان وتخلع فيه الثياب هذه هي الحمامات المعروفة والحمامات الموجودة على عهد النبي التي يتناولها لفظ الاستثناء الشياطين يتناول ذلك كله كما أن صحن المسجد هو تبع للمسجد ويشبه أن يكون الكلام فيها كالكلام في رحبة المسجد فإن الرحبة الخارجة عن سور المسجد غير الرحبة التي هي صحن مكشوف بجانب المسقوف من المسجد المعد للصلاة فهذا الثاني نسبته إليه تشبه نسبة خارج الحمام إلى داخله
وإذا تبين هذا فنقول إنما تكون الحجة أن لو علم أن النبي وخلفاءه أمكنهم دخوله فلم يدخلوه وإلا فإذا احتمل مع الإمكان الدخول وعدمه لم يكن فيه حجة وأما الصحابة فقد روي عن بن عمر أنه لم يدخلها وكان يقول هي مما أحدث الناس من رقيق العيش وهذا تنبيه على ما أحدثه الناس من أنواع الفضول التي لم تكن على عهد النبي وهذا قاله بن عمر في أرض الحجاز وبهذا اقتدى أحمد وهذا ترك لها من
____________________
(21/304)
باب الزهد في فضول المباح والزهد المشروع هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة ولا ريب أنه إذا لم يكن دخول الحمام مما ينتفع به في أعمال الآخرة كان تركه زهدا مشروعا
ولتركه وجه آخر وهو أن يكون على سبيل الورع والورع المشروع هو ترك ما قد يضر في الدار الآخرة وهذا منه ورع واجب كترك المحرم ومنه ما هو دون ذلك وهو ترك المشتبهات التي لا يعلمها كثير من الناس وغيرها من المكروهات
ولا ريب أن في دخول الحمام ما قد يكون محرما إذا اشتمل على فعل محرم من كشف العورة أو تعمد النظر إلى عورة الغير أو تمكن الأجنبي من مس عورته أو مس عورة الأجنبي أو ظلم الحمامي بمنع حقه وصب الماء الزائد على ما اقتضته المعاوضة أو المكث فوق ما يقابل العوض المبذول له بدون رضاه أو فعل الفواحش فيها أو الأقوال المحرمة التي تفعل كثيرا فيها أو تفويت الصلوات المكتوبات
ومنه ما قد يكون مكروها محرما أو غير محرم مثل صب الماء الكثير واللبث الطويل مع المعاوضة عنهما والإسراف في نفقتها والتعرض للمحرم من غير وقوع فيه وغير ذلك وكذلك التمتع
____________________
(21/305)
والترفه بها من غير حاجة إلى ذلك ولا استعانة به على طاعة الله
وقد يكون دخولها واجبا إذا احتاج إلى طهارة واجبة لا تمكن إلا فيها وقد يكون مستحبا إذا لم يمكن فعل المستحب من الطهارة وغيرها إلا فيها مثل الأغسال المستحبة التي لا يمكن فعلها إلا فيها ومثل نظافة البدن من الأوساخ التي لا تمكن إلا فيها
فإن نظافة البدن من الأوساخ مستحبة كما روى الترمذي عن النبي أنه قال إن الله نظيف يحب النظافة وقد ثبت في الصحيح عن عائشة قالت قال رسول الله عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء قال مصعب ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة قال وكيع انتقاص الماء يعني الاستنجاء وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله قال من الفطرة أو قال الفطرة المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وتقليم الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط والاستحداد والاختتان والانتضاح رواه الإمام أحمد وهذا لفظه وأبو داود وبن ماجه
____________________
(21/306)
وهذه الخصال عامتها إنما هي للنظافة من الدرن فإن الشارب إذا طال يعلق به الوسخ من الطعام والشراب وغير ذلك وكذلك الفم إذا تغير ينظفه السواك والمضمضة والاستنشاق ينظفان الفم والأنف وقص الأظفار ينظفها مما يجتمع تحتها من الوسخ ولهذا روى يدخل أحدكم علي ورفغه تحت أظفاره يعني الوسخ الذي يحكه بأظفاره من أرفاغه
وغسل البراجم وهي عقد الأصابع فإن الوسخ يجتمع عليها ما لا يجتمع بين العقد وكذلك الإبط فإنه يخرج من الشعر عرق الإبط وكذلك العانة إذا طالت وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة فهذا غاية ما يترك الشعر والظفر المأمور بإزالته
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يغسل رأسه وجسده وهذا في أحد قولي العلماء هو غسل راتب مسنون للنظافة في كل أسبوع وإن لم يشهد الجمعة بحيث يفعله من لا جمعة عليه وعن جابر قال قال رسول الله على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة
____________________
(21/307)
رواه أحمد والنسائي وهذا لفظه وأبو حاتم البستي
وأما الأحاديث في الغسل يوم الجمعة متعددة وذاك يعلل باجتماع الناس بدخول المسجد وشهود الملائكة ومع العبد ملائكة وقد ثبت عن النبي أنه قال إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم وعن قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي أن يغتسل بماء وسدر رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن
وهذان غسلان متنازع في وجوبهما حتى في وجوب السدر فقد ذكر أبو بكر في المشتبه وجوب ذلك وهو خلاف ما حكي عنه في موضع آخر
ومن المعلوم أن أمر النبي بالاغتسال بماء وسدر كما أمر بالسدر في غسل المحرم الذي وقصته ناقته وفي غسل ابنته المتوفاة وكما أمر الحائض أيضا أن تأخذ ماءها وسدرها إنما هو لأجل التنظيف فإن السدر مع الماء ينظف ومن المعلوم أن الاغتسال في الحمام أتم تنظيفا فإنها تحلل الوسخ بهوائها الحار ومائها الحار وما كان أبلغ في تحصيل مقصود الشارع كان أحب إذا لم يعارضه ما يقتضي خلاف ذلك
____________________
(21/308)
وأيضا فالرجل إذا شعث رأسه واتسخ وقمل وتوسخ بدنه كان ذلك مؤذيا له ومضرا حتى قد جعل الله هذا مما يبيح للمحرم أن يحلق شعره ويفتدي كما قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في كعب بن عجرة لما مر به النبي عام الحديبية قبل أن يؤذن لهم في الإحلال والقمل يتهافت على رأسه وقد تكون إزالة هذا الأذى والضرر في غير الحمام إما متعذرة أو متعسرة
فالحمام لمثل هذا مشروعة مؤكدة وقد يكون به من المرض ما ينفعه فيه الحمام واستعمال مثل ذلك إما واجب وإما مستحب وإما جائز فإنها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره
وأيضا فالحمام قد يحلل عنه من الأبخرة والأوساخ ويوجب له من الراحة ما يستعين به على ما أمر به من الواجبات والمستحبات ودخولها حينئذ بهذه النية يكون من جنس الاستعانة بسائر ما يستريح به كالمنام والطعام كما قال معاذ لأبي موسى إني أنام وأقوم وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ونظائره في الحديث الصحيح متعددة كما في حديث أبي الدرداء وعبد الله بن عمرو وغيرهما
____________________
(21/309)
القسم الثاني إذا خلت عن محظور في البلاد الباردة أو الحارة فهنا لا ريب أنه لا يحرم بناؤها وقد بنيت الحمامات على عهد الصحابة في الحجاز والعراق على عهد علي وغيره وأقروها وأحمد لم يقل إن ذلك حرام ولكن كره ذلك لاشتماله غالبا على مباح ومحظور
وفي زمن الصحابة كان الناس أتقى لله وأرعى لحدوده من أن يكثر فيها المحظور فلم تكن مكروهة إذ ذاك وإن وقع فيها أحيانا محظور فهذا بمنزلة وقوع المحظور فيما يبنى من الأسواق والدور التي لم ينه عنها وإن كان يمكن الاستغناء عنها
القسم الثالث إذا اشتملت على الحاجة والمحظور غالبا كغالب الحمامات التي في البلاد الباردة فإنه لا بد لأهل تلك الأمصار من الحمام ولا بد في العادة أن يشتمل على محظور فهنا أيضا لا تطلق كراهة بنائها وبيعها وذلك لأن قول النبي الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه
إنما يقتضي اتقاء الشبهات التي يشتبه فيها الحلال بالحرام بخلاف
____________________
(21/310)
ما إذا اشتبه الواجب أو المستحب بالمحظور وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي وبن حامد ولهذا سئل الإمام أحمد عن رجل مات أبوه وعليه دين وله ديون فيها شبهة أيقضيها ولده فقال أيدع ذمة أبيه مرهونة وهذا جواب سديد فإن قضاء الدين واجب وترك الواجب سبب للعقاب فلا يترك لما يحتمل أن يكون فيه عقاب ويحتمل أن لا يكون
ومن المعلوم أن من الأغسال ما هو واجب كغسل الجنابة والحيض والنفاس ومنها ما هو مؤكد قد تنوزع في وجوبه كغسل الجمعة ومنها ما هو مستحب وهذه الأغسال لا تمكن في البلاد الباردة إلا في حمام وإن اغتسل في غير حمام خيف عليه الموت أو المرض فلا يجوز الاغتسال في غير حمام حينئذ
ولا يجوز الانتقال إلى التيمم مع القدرة على الاغتسال بالماء في الحمام ولو قدر أن في ذلك كراهة مثل كون الماء مسخنا بالنجاسة عند من يكرهه مطلقا أو عند من يكرهه إذا لم يكن بين الماء والدخان حاجز حصين كما قد تنازع في ذلك أصحاب أحمد وغيرهم على القول بكراهة المسخن بالنجاسة فإنه بكل حال يجب استعماله إذا لم يمكن استعمال غيره لأن التطهر من الجنابة بالماء واجب مع القدرة وإن اشتمل على وصف مكروه فإنه في هذه الحال لا يبقى مكروها
____________________
(21/311)
وكذلك كل ما كره استعماله مع الجواز فإنه بالحاجة إليه لطهارة واجبة أو شرب واجب لا يبقى مكروها ولكن هل يبقى مكروها عند الحاجة إلى استعماله في طهارة مستحبة هذا محل تردد لتعارض مفسدة الكراهة ومصلحة الاستحباب والتحقيق ترجيح هذا تارة وهذا تارة بحسب رجحان المصلحة تارة والمفسدة أخرى
وإذا تبين ذلك فقد يقال بناء الحمام واجب حينئذ حيث يحتاج إليه لأداء الواجب العام
وقد يقال إنما يجب الاغتسال فيها عند وجودها ولا يجب تحصيلها ابتداء كما لا يجب على الرجل حمل الماء معه للطهارة ولا إعداد الماء المسخن فإذا فتحت مدينة وفيها حمام لم يهدم والحال هذه كما جاءت بذلك سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين وكذلك من انتقلت إليه بإرث ونحوه وأما من ملكها باختياره فالكلام في ملكها ابتداء فإنه بمنزلة ابتداء بنائها
وعلى هذا فقد يقال نحن إنما نكره بناءها ابتداء فأما إذا بناها غيرنا فلا نأمر بهدمها لما في ذلك من الفساد وكلام أحمد المتقدم إنما هو في البناء لا في الإبقاء والاستدامة أقوى من الابتداء ولهذا كان الإحرام والعدة يمنع ابتداء النكاح ولا يمنع دوامه وأهل
____________________
(21/312)
الذمة يمنعون من إحداث معابدهم ولا يمنعون من إبقائها إذا دخل ذلك في عهدهم
وإذا كان المكروه الابتداء فالجنب ونحوه إنما يجب عليه استعمال الحمام إذا أمكن فهذا يفيد وجوب دخول الحمام إذا كانت موجودة واحتيج إليها لطهارة واجبة فلم قلتم إنه يسوغ بناؤها ابتداء لذلك مع اشتماله على محظور فإنما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وأما ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب وهنا الوجوب عند عدم بنائها منتف فإذا توقفتم في الوجوب فتوقفوا في الإباحة
القسم الرابع أن تشتمل على المحظور مع إمكان الاستغناء عنها كما في حمامات الحجاز والعراق واليمن في الأزمان المتأخرة فهذا محل نص أحمد وتجنب بن عمر الفصل الثاني في دخولها
فنقول ليس لأحد أن يحتج على كراهة دخولها أو عدم استحبابه بكون النبي لم يدخلها ولا أبو بكر وعمر فإن
____________________
(21/313)
هذا انما يكون حجة لو امتنعوا من دخول الحمام وقصدوا إجتنابها أو أمكنهم دخولها فلم يدخلوها وقد علم أنه لم يكن في بلادهم حينئذ حمام فليس إضافة عدم الدخول إلى وجود مانع الكراهة أو عدم ما يقتضي الاستحباب بأولى من إضافته إلى فوات شرط الدخول وهو القدرة والإمكان
وهذا كما أن ما خلقه الله في سائر الأرض من القوت واللباس والمراكب والمساكن لم يكن كل نوع منه كان موجودا في الحجاز فلم يأكل النبي من كل نوع من أنواع الطعام القوت والفاكهة ولا لبس من كل نوع من أنواع اللباس ثم ان من كان من المسلمين بأرض أخرى كالشام ومصر والعراق واليمن وخراسان وأرمينية وأذربيجان والمغرب وغير ذلك عندهم أطعمة وثياب مجلوبة عندهم أو مجلوبة من مكان آخر فليس لهم أن يظنوا ترك الإنتفاع بذلك الطعام واللباس سنة لكون النبي لم يأكل مثله ولم يلبس مثله إذ عدم الفعل إنما هو عدم دليل واحد من الأدلة الشرعية وهو أضعف من القول باتفاق العلماء وسائر الأدلة من أقواله كأمره ونهيه وإذنه من قول الله تعالى هي أقوى وأكبر ولا يلزم من عدم دليل معين عدم سائر الأدلة الشرعية
____________________
(21/314)
وكذلك إجماع الصحابة أيضا من أقوى الأدلة الشرعية فنفي الحكم بالاستحباب لانتفاء دليل معين من غير تأمل باقي الأدلة خطأ عظيم فان الله يقول { وقدر فيها أقواتها } وقال تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } وقال تعالى { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } وقال تعالى { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون } ولم تكن البغال موجودة بأرض العرب ولم يركب النبي بغلة إلا البغلة التي أهداها له المقوقس من أرض مصر بعد صلح الحديبية وهذه الآية نزلت بمكة ومثلها في القرآن يمتن الله على عباده بنعمه التي لم تكن بأرض الحجاز كقوله تعالى { فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا } ولم يكن بأرض الحجاز زيتون ولا نقل عن النبي أنه أكل زيتونا ولكن لعل الزيت كان يجلب إليهم
وقد قال تعالى { والتين والزيتون } ولم يكن بأرضهم لا هذا ولا هذا ولا نقل عن النبي أنه أكل منهما وكذلك قوله { وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين } وقد قال النبي كلوا الزيت وادهنوا
____________________
(21/315)
به فانه من شجرة مباركة وقال تعالى { الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } وكذلك قوله { وحدائق غلبا }
وكذلك قوله في البحر { لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } وقوله { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } ولم يركب النبي البحر ولا أبو بكر ولا عمر وقد أخبر بمن يركب البحر من أمته غزاة في سبيل الله كأنهم ملوك على الأسرة لأم حرام بنت ملحان وقالت ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم
وكانت سنة رسول الله أنه يطعم ما يجده في أرضه ويلبس ما يجده ويركب ما يجده مما أباحه الله تعالى فمن استعمل ما يجده في أرضه فهو المتبع للسنة كما أنه حج البيت من مدينته فمن حج البيت من مدينة نفسه فهو المتبع للسنة وإن لم تكن هذه المدينة تلك
____________________
(21/316)
وكان يجاهد من يليه من الكفار من المشركين وأهل الكتاب فمن جاهد من يليه من هؤلاء فقد اتبع السنة وإن كان نوع هؤلاء غير نوع أولئك إذ أولئك كان غالبهم عربا ولهم نوع من الشرك هم عليه فمن جاهد سائر المشركين تركهم وهندهم وغيرهم فقد فعل ما أمر الله به وإن كانت أصنامهم ليست تلك الأصنام
ومن جاهد اليهود والنصارى فقد اتبع السنة وإن كان هؤلاء اليهود والنصارى من نوع آخر غير النوع الذي جاهدهم النبي فانه جاهد يهود المدينة كقريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر وضرب الجزية على نصارى نجران وغزا نصارى الشام عربها ورومها عام تبوك ولم يكن فيها قتال وأرسل إليهم زيدا وجعفرا وعبد الله بن رواحة قاتلوهم في غزوة مؤتة وقال أميركم زيد فان قتل فجعفر فان قتل فعبد الله بن رواحة
وصالح أهل البحرين وكانوا مجوسا على الجزية وهم أهل هجر وفي الصحيح أنه قدم مال البحرين فجعله في المسجد وما ثاب حتى قسمه وهذا باب واسع قد بسطناه في غير هذا الموضع وميزنا بين السنة والبدعة وبينا ان السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله سواء فعله رسول الله أو فعل
____________________
(21/317)
على زمانه أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه لعدم المقتضى حينئذ لفعله أو وجود المانع منه
فانه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة كما أمر باجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب وكما جمع الصحابة القرآن في المصحف وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة وقد قال لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه فشرع كتابة القرآن وأما كتابة الحديث فنهى عنها أولا وذلك منسوخ عند جمهور العلماء باذنه لعبد الله بن عمرو ان يكتب عنه ما سمعه في الغضب والرضا وباذنه لأبي شاه أن تكتب له خطبته عام الفتح وبما كتبه لعمرو بن حزم من الكتاب الكبير الذي كتبه له لما استعمله على نجران وبغير ذلك
والمقصود هنا أن كتابة القرآن مشروعة لكن لم يجمعه في مصحف واحد لأن نزوله لم يكن تم وكانت الآية قد تنسخ بعد نزولها فلوجود الزيادة والنقص لم يمكن جمعه في مصحف واحد حتى مات وكذلك قيام رمضان قد قال إن الرجل إذا قام مع الامام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة وقام في أول الشهر بهم ليلتين وقام في آخر الشهر ليالي وكان الناس يصلون على عهده في المسجد فرادى وجماعات لكن لم يداوم بهم على الجماعة خشية أن
____________________
(21/318)
تفرض عليهم وقد أمن ذلك بموته
وقد قال في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي وغيره عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة فما سنه الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية ينهى عنها وإن كان يسمى في اللغة بدعة لكونه ابتدئ كما قال عمر نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل وقد بسطنا ذلك في قاعدة فصل
الماء الجاري في أرض الحمام خارجا منها أو نازلا في بلاليعها لا يحكم بنجاسته بل بطهارته إلا أن تعلم نجاسة شيء منه ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد أن الحمام لم ينه عن الصلاة فيها لكونها مظنة النجاسة كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء وهو وجه في مذهب أحمد ومن قال هذا قال إذا غسلنا موضعا منها أو تيقنا طهارته جازت الصلاة فيه
____________________
(21/319)
وأما على من قال بالنهي مطلقا كما في حديث أبي سعيد الذي في سنن أبي داود وغيره وقد صححه من صححه من الحفاظ وبينوا أن رواية من أرسله لا تنافي الرواية المسندة الثابتة أن النبي قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام فاستثنى الحمام مطلقا فيتناول الاسم ما دخل في المسمى فلهم طريقان
أحدهما أن النهي تعبد لا يعقل معناه كما ذهب إليه طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي بكر والقاضي أبي يعلى وأتباعه
والثاني أن ذلك لأنها مأوى الشياطين كما في الحديث الذي رواه الطبراني عن بن عباس عن النبي أن الشيطان قال يا رب اجعل لي بيتا قال بيتك الحمام قال اجعل لي قرآنا قال قرآنك الشعر قال اجعل لي مؤذنا قال مؤذنك المزمار
وهذا التعليل كتعليل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل بنحو ذلك كما في الحديث إن على ذروة كل بعير شيطان وإنها جن خلقت من جن إذ لا يصح التعليل هناك بالنجاسة لأنه فرق بين أعطان الإبل ومبارك الغنم وكلاهما في الطهارة والنجاسة سواء كما لا يصح تعليل الأمر بالوضوء من لحومها بأنه لأجل مس النار مع تفريقه بين لحوم الإبل ولحوم الغنم وكلاهما في مس النار وعدمه سواء
____________________
(21/320)
وكذلك تعليل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التراب هو ضعيف فإن النهي عن المقبرة مطلقا وعن اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك مما يبين أن النهي لما فيه من مظنة الشرك ومشابهة المشركين
وأيضا فنجاسة تراب المقبرة فيه نظر فإنه مبني على مسألة الاستحالة ومسجد رسول الله قد كان مقبرة للمشركين وفيه نخل وخرب فأمر النبي بالنخل فقطعت وجعلت قبلة المسجد وأمر بالخرب فسويت وأمر بالقبور فنبشت فهذه مقبرة منبوشة كان فيها المشركون ثم لما نبش الموتى جعلت مسجدا مع بقاء ما بقي فيها من التراب ولو كان ذلك التراب نجسا لوجب أن ينقل من المسجد التراب النجس لا سيما إذا اختلط الطاهر بالنجس فإنه ينبغي أن ينقل ما يتيقن به زوال النجاسة ولم يفعل ذلك ولم يؤمر باجتناب ذلك التراب ولا بإزالة ما يصيب الأبدان والثياب منه
فتبين أن الحكم معلق بظهور القبور لا بظن نجاسة التراب
وأيضا من علل ذلك بالنجاسة فإن غايته أن يكره الصلاة عند الاحتمال كما قاله من كره الصلاة في المقبرة والحمام والأعطان ولم
____________________
(21/321)
يحرمها كما ذهب إليه طائفة من العلماء لكن هذا قول ضعيف لأن السنة فرقت بين معاطن الإبل ومبارك الغنم ولأنه استثنى كونها مسجدا فلم تبق محلا للسجود ولأنه نهى عن ذلك نهيا مؤكدا بقوله قبل أن يموت بخمس إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
ولأنه لعن على ذلك بقوله لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ولأنه جعل مثل هؤلاء شرار الخليقة بقوله إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة
وأيضا فإنه قد ثبت بسنته أن احتمال نجاسة الأرض لا يوجب كراهة الصلاة فيها بل ثبت بسنته أن الأرض تطهر بما يصيبها من الشمس والريح والاستحالة كما هو قول طوائف من العلماء كأبي حنيفة والشافعي في قول ومالك في قول وهو أحد القولين في مذهب أحمد فإنه ثبت أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك وثبت في الصحيح عنه أنه كان يصلي في نعليه وفي السنن عنه أنه قال إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم وقال إذا أتى
____________________
(21/322)
أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن كان فيهما أذى فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور فإذا كان قد جعل التراب يطهر أسفل الخف فلأن يطهر نفسه أولى وأحرى
وأيضا فمن المعلوم أن غالب طرقات الناس تحتمل من النجاسة نحو ما تحتمله المقبرة والحمام أو نحو ذلك أو أكثر من ذلك فلو كان ذلك سبب النهي لنهى عن الصلاة في النعال مطلقا لأن هذا الاحتمال فيها أظهر فهذه السنن تبطل ذلك التعليل من وجهين
من جهة أن هذا الاحتمال لم يلتفت إليه ومن جهة أن التراب مطهر لما يلاقيه في العادة
والمقصود هنا الكلام في الماء الجاري في الحمام فنقول إن كراهة هذا الماء وتوقيه وغسل ما يصيب البدن والثوب منه إما أن يكون على جهة الاستقذار وإما أن يكون على جهة النجاسة
أما الأول فكما يغسل الإنسان بدنه وثيابه من الوسخ والدنس ومن الوحل الذي يصيبه ومن المخاط والبصاق ومن المني على القول بطهارته وأشباه ذلك ومثل هذا قد يكون في المياه المتغيرة بمقرها وممازجها ونحو ذلك وهذا نوع غير النوع الذي نتكلم فيه الآن
____________________
(21/323)
وأما اجتناب ذلك على جهة تنجيسه فحجته أن يقال إن هذا الماء في مظنة أن تخالطه النجاسة وهو ما يكون في الحمام من القيء والبول فإن هذه النجاسة التي قد تكون في الحمام فأما العذرة أو الدم أو غير ذلك فلا تكاد تكون في الحمام وإن كان فيها نادرا تميز وظهر 8
وأيضا فقد يزال به نجاسة تكون على البدن أو الثياب فإن كثيرا ممن يدخل الحمام يكون على بدنه نجاسة إما من تخلي وإما من مرض وإما غير ذلك فيغسلها في الحمام وكذلك بعض الآنية قد يكون نجسا وقد يكون بعض ما يغسل فيها من الثياب نجسا
وأيضا فهذا الماء كثيرا ما يكون فيه الماء المستعمل في رفع الحدث وهو نجس عند من يقول بنجاسته فهذه الحجة المعتمدة
والجواب عنها مبني على أصول ثلاثة
أحدها الجواب فيه من وجوه
أحدها أن يقال الماء الفائض من حياض الحمام والمصبوب على أبدان المغتسلين أو على أرض الحمام طاهر بيقين وما ذكر مشكوك في إصابته لهذا الماء المعين فإنه وإن تيقن أن الحمام يكون فيه
____________________
(21/324)
مثل هذا فلم يتيقن أن هذا الماء المعين أصابه هذا واليقين لا يزول بالشك
الوجه الثاني أن يقال هذا بعينه وارد في طين الشوارع لكثرة ما يصيبه من أبوال الدواب وقد قال أصحاب أحمد وغيرهم بطهارته بل النجاسة في طين الشوارع أكثر وأثبت فإن الحمام وإن خالط بعض مياهها نجاسة فإنه يندفع ولا يثبت بخلاف طين الشوارع
الوجه الثالث أن يقال كما أن الأصل عدم النجاسة فالظاهر موافق للأصل وذلك أنا إذا اعتبرنا ما تلاقيه النجاسة في العادة وما لا تلاقيه كان ما لا تلاقيه أكثر بكثير فإن غالب المياه الجارية في أرض الحمام لا يلاقيها في العادة نجاسة وإذا اتفق الأصل والظاهر لم تبق المسألة من موارد النزاع بل من مواقع الإجماع ولهذا قلت إنه لا يستحب غسل ذلك تنجسا فإنه وسواس
ولنا فيما إذا شك في نجاسة الماء هل يستحب البحث عن نجاسته وجهان أظهرهما لا يستحب البحث لحديث عمر وذلك لأن حكم الغائب إنما يثبت بعد العلم في الصحيح الذي هو ظاهر مذهب أحمد ومذهب مالك وغيرهما ولا إعادة على من لم يعلم أن عليه
____________________
(21/325)
نجاسة وهذا وإن كان في اجتنابها في الصلاة فمسألة إصابتها لنا فيها أيضا وجهان
الوجه الرابع أنا إذا قدرنا أن الغالب التنجس فقد يعارض الأصل والظاهر وفي مثل هذا كثيرا ما يجيء قولان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما كثياب الكفار ونحو ذلك لكن مع مشقة الاحتراز كطين الشوارع يرجحون الطهارة وإذا قيل بالتنجيس في مثل هذا عفي عن يسيره
الأصل الثاني أن نقول هب أن هذا الماء خالطته نجاسة لكنه ماء جار فإنه ساح على وجه الأرض والماء الجاري إذا خالطته نجاسة ففيه للعلماء قولان
أحدهما أنه لا ينجس إلا بالتغير بالنجاسة وهذا أصح القولين وهو مذهب مالك وأحمد في أحد القولين اللذين يدل عليهما نصه وهو مذهب أبي حنيفة مع شدة قوله في الماء الدائم وهو القول القديم للشافعي ونهي النبي عن البول في الماء الدائم والاغتسال فيه دليل على أن الجاري بخلاف ذلك وهو دليل على أنه لا يضره البول فيه والاغتسال فيه
وأيضا فإنه طاهر لم يتغير بالنجاسة وليس في الأدلة الشرعية
____________________
(21/326)
ما يوجب تنجيسه فإن الذين يقولون إن الماء الجاري كالدائم تعتبر فيه القلتان فإذا كانت الجرية أقل من قلتين نجسته كما هو الجديد من قولي الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد فإنه لا حجة لهم في هذا ولا أثر عن أحد من السلف إلا التمسك بقوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث وقياس الجاري على الدائم وكلاهما لا حجة فيه
أما الحديث فمنطوقه لا حجة فيه وإنما الحجة في مفهومه ودلالة مفهوم المخالفة لا تقتضي عموم مخالفة المنطوق في جميع صور المسكوت بل تقتضي أن المسكوت ليس كالمنطوق فإذا كان بينهما نوع فرق ثبت أن تخصيص أحد النوعين بالذكر مع قيام المقتضي للتعميم كان لاختصاصه بالحكم فإذا قال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث دل أنه إذا لم يبلغ قلتين لم يكن حكمه كذلك فإذا كان ما لم يبلغ فرق فيه بين الماء الجاري والدائم حصل المقصود لا سيما والحديث ورد جوابا عن سؤالهم عن الماء الدائم الذي يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب فيبقى قوله الماء طهور لا ينجسه شيء الوارد في بئر بضاعة متناولا للجاري والفرق أن الجاري له قوة دفع النجاسة عن غيره فإنه إذا صب على الأرض النجسة طهرها ولم يتنجس فكيف لا يدفعها عن نفسه ولأن الماء الجاري يحيل النجاسة بجريانه
____________________
(21/327)
وأيضا فإن القياس هل هو تنجيس الماء بمخالطة النجاسة أو عدم تنجيسه حتى تظهر النجاسة فيه قولان للأصحاب وغيرهم
فمن قال بالأول قال العفو عما فوق القلتين كان للمشقة لأنه يشق حفظه من وقوع النجاسة فيه لأنه غالبا يكون في الحياض والغدران والآبار بخلاف القليل فإنه يكون في الأواني وهذا المعنى موجود في الجاري فإن حفظه من النجاسة أصعب من حفظ الدائم الكثير
ومن قال بالثاني وأن الأصل الطهارة حتى تظهر النجاسة كان التطهير على قوله أوكد فإن القليل الدائم نجس لأنه قد يحمل الخبث كما نبه عليه الحديث وأما الجاري فإنه بقوة جريانه يحيل الخبث فلا يحمله كما لا يحمله الكثير
وإذا كان كذلك فهذه المياه الجارية في حمام إذا خالطها بول أو قيء أو غيرهما كانت نجاسة قد خالطت ماء جاريا فلا ينجس إلا بالتغير والكلام فيما لم تظهر فيه النجاسة
وإن قيل إن ماء الحمام يخالطه السدر والخطمي والتراب وغير ذلك مما يغسل به الرأس والأشنان والصابون والحناء
____________________
(21/328)
وغير ذلك من الطاهرات التي تختلط به حتى لا تظهر فيه النجاسة
قيل إذا جاز أن تكون النجاسة ظاهرة فيه وجاز أن لا تكون ظاهرة فالأصل عدم ظهورها وإذا كان قد علم أنه تخالطه الطاهرات ورأيناه متغيرا أحلنا التغير على مخالطة الطاهرات إذ الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم لا إلى المقدر المظنون بل قد ثبت النص بذلك فيما أصله الحظر كالصيد إذا جرح وغاب فإنه ثبت بالنص إباحته وإن جاز أن يكون قد زهق بسبب آخر أصابه فزهوقه إلى السبب المعلوم وهو جرح الصائد أو كلبه وإن كان في المسألة أقوال متعددة فهذا هو الصواب الذي ثبت بالنص الصحيح الصريح
الأصل الثالث أن نقول هب أن الماء تنجس فإنه صار نجاسة على الأرض والنجاسة إذا كانت على الأرض بولا كانت أو غير بول فإنه يطهر بصب الماء عليها إذا لم تبق عينها كما أمر النبي بذلك في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد حيث قال لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله فصبوا على بوله ذنوبا من ماء وقال إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين
ولهذا قال أصحاب أحمد وغيره إن نجاسة الأرض والبرك والحياض المبنية ونحو ذلك مما لا ينقل ويحول يخالف النجاسة على المنقول من الأبدان والثياب والآنية من ثلاثة أوجه
____________________
(21/329)
أحدها أنه لا يشترط فيها العدد لا من ولوغ الكلب ولا غيره
الثاني أنه لا يشترط فيها الانفصال عن موضع النجاسة
الثالث أن الغسالة طاهرة قبل انفصالها عن موضع النجاسة
وإذا كان كذلك فنقول ما كان على أرض الحمام من بول وغيره فإنه قد جرى عليه الماء بعد ذلك فطهرت الأرض مع طهارة الغسالة وإذا كانت غسالة الأرض طاهرة زالت الشبهة بالكلية فإنه إن قال قائل قد يكون من الماء ما تزال به نجاسة عن البدن أو آنية أو ثوب
قيل له فهذه إذا كانت نجسة وأصابت الأرض لم تكن أعظم من البول المصيب الأرض وإذا كانت تلك النجاسة تزول مع طهارة الغسالة قبل الانفصال فهذه أولى وليس له أن يقول النجاسة منتفية ومرور الماء المطهر مشكوك فيه لا سيما وقد يكون ذلك الماء المار مما لا يزيل النجاسة لكونه مستعملا أو لتغيره بالطاهرات لأنه يقال له ليس الكلام في نجاسة معينة منتفية مشكوك في زوالها وإنما الكلام فيما يعتاد
____________________
(21/330)
ومن المعلوم بالعادات أن الماء المطهر والجاري على أرض الحمام أكثر من النجاسات بكثير كثير فيكون ذلك الماء قد طهر ما مر عليه من نجس فإن اغتسال الناس من غير حدث ولا نجس في الحمامات أكثر من اغتسالهم من إحدى هاتين الطهارتين وهم يصبون على أبدانهم من الماء القراح الذي ينفصل غير متغير أكثر من غيره وإن كان فيه تغير يسير بيسير السدر والأشنان فهذا لا يخرجه عن كونه مطهرا بل الراجح من القولين وهو إحدى الروايتين عن أحمد التي نصها في أكثر أجوبته أن الماء المتغير بالطاهر كالحمص والباقلاء لا يخرج عن كونه طهورا ما دام اسم الماء يتناوله كالماء المتغير بأصل الخلقة كماء البحر وغيره وما تغير بما يشق صونه عنه من الطحلب وورق الشجر وغيرهما فإن شمول اسم الماء في اللغة لهذه الأصناف الثلاثة واحد
فإن كان لفظ الماء في قوله { فلم تجدوا ماء } يتناول أحد هذه الأصناف فقد تناول الآخرين وقد ثبت أنه متناول للمتغير ابتداء وطردا لما يشق الاحتراز عنه فيتناول الثالث إذ الفرق إنما يعود إلى أمر معهود وهو أن هذا يمكن الاحتراز عنه وهذا لا يمكن وهذا الفرق غير مؤثر في اللغة ويتناول اللفظ لمعناه وشمول الاسم مسماه فيحتاج المفرق إلى دليل منفصل وقد ثبت
____________________
(21/331)
بالسنة أن النبي قال في الذي وقصته ناقته اغسلوه بماء وسدر وكذلك قال للآتي غسلن ابنته اغسلنها بماء وسدر وللذي أسلم اغتسل بماء وسدر وهذا فيه كلام ليس هذا موضعه
وإذا تبين ما ذكرناه ظهر عظيم البدعة وتغيير السنة والشرعة فيما يفعله طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين من فرط الوسوسة في هذا الباب حتى صاروا إنما يفعلونه مضاهين لليهود بل للسامرية الذين يقولون لا مساس
وباب التحليل والتحريم الذي منه باب التطهير والتنجيس دين الإسلام فيه وسط بين اليهود والنصارى كما هو وسط في سائر الشرائع فلم يشدد علينا في أمر التحريم والنجاسة كما شدد على اليهود الذين حرمت عليهم طيبات أحلت لهم بظلمهم وبغيهم بل وضعت عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم مثل قرض الثوب ومجانبة الحائض في المؤاكلة والمضاجعة وغير ذلك ولم تحلل لنا الخبائث كما استحلها النصارى الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق فلا يجتنبون نجاسة ولا يحرمون خبيثا بل غاية احدهم أن يقول طهر قلبك وصل واليهودي إنما يعتني بطهارة ظاهره
____________________
(21/332)
لا قلبه كما قال تعالى عنهم { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم }
وأما المؤمنون فإن الله طهر قلوبهم وأبدانهم من الخبائث وأما الطيبات فأباحها لهم والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وسئل
عمن يدخل الحمام هل يجوز له كشف العورة في الخلوة وما هو الذي يفعله من آداب الحمام
فأجاب لا يلزم المتطهر كشف عورته لا في الخلوة ولا في غيرها إذا طهر جميع بدنه لكن إن كشفها في الخلوة لأجل الحاجة كالتطهر والتخلي جاز كما ثبت في الصحيح أن موسى عليه السلام اغتسل عريانا وأن أيوب عليه السلام اغتسل عريانا وفي الصحيح أن فاطمة كانت تستر النبي عام الفتح بثوب وهو يغتسل ثم صلى ثماني ركعات وهي التي يقال لها صلاة الضحى ويقال إنها صلاة الفتح وفي الصحيح أيضا أن ميمونة سترته فاغتسل
____________________
(21/333)
وعلى داخل الحمام أن يستر عورته فلا يمكن أحدا من نظرها ولا لمسها سواء كان القيم الذي يغسله أو غيره ولا ينظر إلى عورة أحد ولا يلمسها إذا لم يحتج إلى ذلك لأجل مداواة أو غيرها فذاك شيء آخر وعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب الإمكان كما قال النبي من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فيأمر بتغطية العورات فإن لم يمكنه ذلك وأمكنه أن يكون حيث لا يشهد منكرا فليفعل ذلك إذ شهود المنكر من غير حاجة ولا إكراه منهي عنه
وليس له أن يسرف في صب الماء لأن ذلك منهي عنه مطلقا وهو في الحمام ينهى عنه لحق الحمامي لأن الماء الذي فيها مال من أمواله له قيمة وعليه أن يلزم السنة في طهارته فلا يجفو جفاء النصارى ولا يغلو غلو اليهود كما يفعل أهل الوسوسة بل حياض الحمام طاهرة ما لم تعلم نجاستها سواء كانت فائضة أو لم تكن وسواء كانت الأنبوب تصب فيها أو لم تكن وسواء بات الماء أو لم يبت وسواء تطهر منها الناس أو لم يتطهروا فإذا اغتسل منها جماعة جاز ذلك فقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي كان يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر
____________________
(21/334)
الفرق فهذا إناء صغير لا يفيض ولا أنبوب فيه وهما يغتسلان منه جميعا وفي لفظ فأقول دع لي ويقول دعي لي
وفي صحيح البخاري عن بن عمر أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون على عهد رسول الله من إناء واحد وقد ثبت عنه أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع والصاع عند أكثر العلماء يكون بالرطل المصري أقل من خمسة أرطال نحو خمسة إلا ربعا والمد ربع ذلك وقيل هو نحو من سبعة أرطال بالمصري
وليس للإنسان أن يقول الطاسة إذا وقعت على أرض الحمام تنجست فإن أرض الحمام الأصل فيها الطهارة وما يقع فيها من نجاسة كبول فهو يصب عليه من الماء ما يزيله وهو أحسن حالا من الطرقات بكثير والأصل فيها الطهارة بل كما يتيقن أنه لا بد أن يقع على أرضها نجاسة فكذلك يتيقن أن الماء يعم ما تقع عليه النجاسة ولو لم يعلم ذلك فلا يجزم على بقعة بعينها أنها نجسة إن لم يعلم حصول النجاسة فيها والله أعلم
____________________
(21/335)
ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم أجمعين
فيمن دخل الحمام بلا مئزر مكشوف العورة هل يحرم ذلك أم لا وهل يجب على ولي الأمر منع من يفعل ذلك أم لا وهل يجب على ولي الأمر أيضا أن يلزم مستأجر الحمام أن لا يمكن أحدا من دخول حمامه مكشوف العورة أم لا وفيمن يقعد في الحمام وقت صلاة الجمعة ويترك الصلاة هل يمنع من ذلك أم لا أفتونا وابسطوا القول في ذلك
فأجاب شيخ الإسلام بقية السلف الكرام الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية
الحمد لله نعم يحرم عليه ذلك باتفاق الأئمة وقد صح عن النبي أنه نهى الناس عن الحمام وفي السنن عنه أنه قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يدخل الحمام إلا بمئزر وفي الحديث نهى النساء من الدخول مطلقا إلا لمعذرة وفي الحديث الثابت عنه الذي استشهد به البخاري حديث معاوية بن حيدة القشيري أنه قال له احفظ
____________________
(21/336)
عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قال قلت فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها قال قلت يا رسول الله إذا كان أحدنا خاليا قال فالله أحق أن يستحيى منه من الناس أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن وبن ماجه
وعلى ولاة الأمور النهي عن ذلك وإلزام الناس بأن لا يدخل أحد الحمام مع الناس إلا مستور العورة وإلزام أهل الحمام بأنهم لا يمكنون الناس من دخول حماماتهم إلا مستوري العورة ومن لم يطع الله ورسوله وولاة الأمر من أهل الحمام والداخلين عوقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله من أهل الفواحش الذين لا يستحيون لا من الله ولا من عباده فإن إظهار العورات من الفواحش وقد قال تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } وغض البصر واجب عما لا يحل التمتع بالنظر إليه من النسوة الأجنبيات ونحو ذلك وعن العورات وإن لم يكن بالنظر إليها لذة لفحش ذلك
ولهذا كان على داخل الحمام أن يغض بصره عمن كان مكشوف العورة وإن كان ذلك الرجل قد عصى بكشفها وعليه أن يأمر المكشوف بالاستتار فإن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يجب على الناس وكذلك حفظ الفروج يكون عن الاستمتاع
____________________
(21/337)
المنهي عنه وعن إظهارها لمن ليس له أن يراها كما ينهى الرجل عن مس عورة غيره كما ثبت في الصحيح أن النبي نهى أن يباشر الرجل الرجل في ثوب واحد وأن تباشر المرأة المرأة في ثوب واحد وأمر بالتفريق في المضاجع بين الصبيان إذا بلغوا عشر سنين كما بين ذلك النبي بقوله احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك لما قال له يا رسول الله عوراتنا ما نأتي وما نذر فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها قال قلت فإذا كان أحدنا خاليا قال فالله أحق أن يستحيى منه من الناس فأمر بسترها في الخلوة وهذا واجب عند أكثر العلماء
وأما إذا اغتسل في مكان خال بجنب حائط أو شجرة ونحو ذلك في بيته أو حمام أو نحو ذلك فإنه يجوز له كشفها في هذه الصورة عند الجمهور كما ثبت في الصحيح أن موسى اغتسل عريانا وأن أيوب اغتسل عريانا وأن فاطمة كانت تستر النبي بثوب ثم يغتسل
وهذا كشف للحاجة بمنزلة كشفها عند التخلي والجماع بمقدار الحاجة ولهذا كره العلماء للمتخلي أن يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض
____________________
(21/338)
وتنازعوا في نظر كل من الزوجين إلى عورة الآخر هل يكره أو لا يكره أم يكره وقت الجماع خاصة على ثلاثة أقوال معروفة في مذهب أحمد وغيره
وقد كره غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره النزول في الماء بغير مئزر ورووا عن الحسن والحسين أو أحدهما أنه كره ذلك وقال إن للماء سكانا
وأما فتح الحمام وقت صلاة الجمعة وتمكين المسلمين من دخولها هذا الوقت وقعودهم فيها تاركين لما فرضه الله عليهم من السعي إلى الجمعة فهذا أيضا محرم باتفاق المسلمين وقد حرم الله بعد النداء إلى الجمعة البيع الذي يحتاج إليه الناس في غالب الأوقات وكان هذا تنبيها على ما دونه من قعود في الحمام أو بستان أو غير ذلك والجمعة فرض باتفاق المسلمين فلا يجوز تركها لغير عذر شرعي وليس دخول الحمام من الأعذار باتفاق المسلمين بل إن كان لتنعم كان آثما عاصيا وإن كانت عليه جنابة أمكنه الاغتسال قبل ذلك وليس له أن يؤخر الاغتسال ولا يجوز ترك الصلاة
بل على ولاة الأمور أمر جميع من تجب عليه الجمعة بها من أهل الأسواق والدور وغيرهم ومن تخلف عن هذا الواجب عوقب على
____________________
(21/339)
ذلك عقوبة تحمله وأمثاله على فعل ذلك فقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال لينتهين أقوام عن تركهم الجمعات أو ليطبعن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين وقال من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر طبع الله على قلبه
وهذا الذي ذكرناه من وجوب أمر من تجب عليه الجمعة بها ونهيه عما يمنعه من الجمعة متفق عليه بين الأئمة والله أعلم كتبه أحمد بن تيمية وقال شيخ الإسلام رحمه الله
الحمد لله وحسبي الله ونعم الوكيل يحرم كشف العورة في الحمام وغيره من غير مسوغ شرعي وعلى ولي الأمر أيده الله منع من يفعل ذلك بطريقة شرعية وعليه أيضا إلزام مستأجر الحمام بأن لا يمكن أحدا من دخوله على الوجه الممنوع ولا يحل لأحد ممن خوطب بأداء الجمعة تركها من غير عذر وليس دخول الحمام بمجرده عذرا في تركها والله أعلم
____________________
(21/340)
وسئل
عن ترك دخول الحمام
فأجاب من ترك دخول الحمام لعدم حاجته إليه فقد أحسن ومن دخلها مع كشف عورته والنظر إلى عورات الناس أو ظلم الحمامي فهو عاص مذموم ومن تنعم بها لغير حاجة فهو منقوص مرجوح ومن تركها مع الحاجة إليها حتى يكثر وسخه وقمله فهو جاهل مذموم وسئل
عن رجل عامي سئل عن عبور الحمام ونقل حديثا عن رسول الله وأسند الحديث إلى كتاب مسلم هل صح هذا أو لا
فأجاب ليس لأحد لا في كتاب مسلم ولا غيره من كتب الحديث عن النبي أنه حرم الحمام بل الذي في السنن أنه
____________________
(21/341)
قال ستفتحون أرض العجم وتجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام إلا مريضة أو نفساء
وقد تكلم بعضهم في هذا الحديث
والحمام من دخلها مستور العورة ولم ينظر إلى عورة أحد ولم يترك أحدا يمس عورته ولم يفعل فيها محرما وأنصف الحمامي فلا إثم عليه وأما المرأة فتدخلها للضرورة مستورة العورة
وهل تدخلها إذا تعودتها وشق عليها ترك العادة فيه وجهان في مذهب أحمد وغيره
أحدهما لها أن تدخلها كقول أبي حنيفة واختاره بن الجوزي
والثاني لا تدخلها وهو قول كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وغيره والله أعلم
____________________
(21/342)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله
أيما أفضل للجنب أن ينام على وضوء أو يكره له النوم على غير وضوء وهل يجوز له النوم في المسجد إذا توضأ من غير عذر أم لا
فأجاب الجنب يستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يعاود الوطء لكن يكره له النوم إذا لم يتوضأ فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي سئل هل يرقد أحدنا وهو جنب فقال نعم إذا توضأ للصلاة
ويستحب الوضوء عند النوم لكل أحد فإن النبي قال لرجل إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم قل اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت
____________________
(21/343)
وليس للجنب أن يلبث في المسجد لكن إذا توضأ جاز له اللبث فيه عند أحمد وغيره واستدل بما ذكره بإسناده عن هشام بن سعد أن أصحاب رسول الله كانوا يتوضؤون وهم جنب ثم يجلسون في المسجد ويتحدثون وهذا لأن النبي أمر الجنب بالوضوء عند النوم وقد جاء في بعض الأحاديث أن ذلك كراهة أن تقبض روحه وهو نائم فلا تشهد الملائكة جنازته فإن في السنن عن النبي أنه قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب وهذا مناسب لنهيه عن اللبث في المسجد فإن المساجد بيوت الملائكة كما نهى النبي عن أكل الثوم والبصل عند دخول المسجد وقال إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم
فلما أمر النبي الجنب بالوضوء عند النوم دل ذلك على أن الوضوء يرفع الجنابة الغليظة وتبقى مرتبة بين المحدث وبين الجنب لم يرخص له فيما يرخص فيه للمحدث من القراءة ولم يمنع مما يمنع منه الجنب من اللبث في المسجد فإنه إذا كان وضوؤه عند النوم يقتضي شهود الملائكة له دل على أن الملائكة تدخل المكان الذي هو فيه إذا توضأ ولهذا يجوز الشافعي وأحمد للجنب المرور في المسجد بخلاف قراءة القرآن فإن الأئمة الأربعة متفقون على منعه من ذلك فعلم أن
____________________
(21/344)
منعه من القرآن أعظم من منعه من المسجد
وقد تنازع العلماء في منع الكفار من دخول المسجد والمسلمون خير من الكفار ولو كانوا جنبا فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال لأبي هريرة لما لقيه وهو جنب فانخنس منه فاغتسل ثم أتاه فقال أين كنت قال إني كنت جنبا فكرهت أن أجالسك إلا على طهارة فقال سبحان الله إن المؤمن لا ينجس وقد قال الله تعالى { إنما المشركون نجس } فلبث المؤمن الجنب إذا توضأ في المسجد أولى من لبث الكافر فيه عند من يجوز ذلك ومن منع الكافر لم يجب أن يمنع المؤمن المتوضئ كما نقل عن الصحابة
وإذا كان الجنب يتوضأ عند النوم والملائكة تشهد جنازته حينئذ علم أن النوم لا يبطل الطهارة الحاصلة بذلك وهو تخفيف الجنابة وحينئذ فيجوز أن ينام في المسجد حيث ينام غيره وإذا كان النوم الكثير ينقض الوضوء فذاك هو الوضوء الذي يرفع الحدث الأصغر ووضوء الجنب هو تخفيف الجنابة وإلا فهذا الوضوء لا يبيح له ما يمنعه الحدث الأصغر من الصلاة والطواف ومس المصحف
____________________
(21/345)
باب التيمم قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله تسليما
قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون }
____________________
(21/346)
والتيمم في اللغة هو القصد ومنه قوله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } وقوله { ولا آمين البيت الحرام } ومنه قول امرئ القيس ** تيممت الماء الذي دون ضارج ** يميل عليها الظل عرمضها طامي **
لكن لما قال الله تعالى { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } كان التيمم المأمور به هو تيمم الصعيد الطيب للتمسح به فصار لفظ التيمم إذا أطلق في عرف الفقهاء انصرف إلى هذا التيمم الخاص وقد يراد بلفظ التيمم نفس مسح اليدين والوجه فسمي المقصود بالتيمم تيمما
وهذا التيمم المأمور به في الآية هو من خصائص المسلمين ومما فضلهم الله به على غيرهم من الأمم ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن النبي قال أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وهذا لفظ البخاري
____________________
(21/347)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون
ولمسلم أيضا عن حذيفة بن اليماني أن النبي قال فضلت على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهوا إذا لم نجد الماء وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم
وقوله تعالى { فتيمموا صعيدا طيبا } نكرة في سياق الإثبات كقوله { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } وقوله { فتحرير رقبة } وقوله { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } وقوله { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وهذه تسمى مطلقة وهي تفيد العموم على سبيل البدل لا على سبيل الجمع فيدل ذلك على أنه يتيمم أي صعيد طيب اتفق والطيب هو الطاهر والتراب الذي ينبعث مراد من النص بالإجماع وفيما سواه نزاع سنذكره إن شاء الله تعالى
____________________
(21/348)
وقوله { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } قد اتفق القراء السبعة على قراءة أيديكم بالإسكان بخلاف قوله في الوضوء { وأرجلكم } فإن بعض السبعة قرأوا { وأرجلكم } بالنصب قالوا إنها معطوفة على المغسول تقديره فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين كذلك قال علي بن أبي طالب وغيره من السلف قال أبو عبد الرحمن السلمي قرأ علي الحسن والحسين { وأرجلكم إلى الكعبين } بالخفض فسمع ذلك علي بن أبي طالب وكان يقضي بين الناس فقال وأرجلكم يعني بالنصب وقال هذا من المقدم المؤخر في الكلام وكذلك بن عباس قرأها بالنصب وقال عاد الأمر إلى الغسل ولا يجوز أن يكون ذلك عطفا على المحل كما يظنه بعض الناس كقول بعض الشعراء ** معاوي إننا بشر فأسجح ** فلسنا بالجبال ولا الحديدا **
فإنما يسوغ في حرف التأكيد مثل المباني وأما حروف المعاني فلا يجوز ذلك فيها والباء هنا للإلصاق ليست للتوكيد ولهذا لم يقرأ القراء هنا وأيديكم كما قرأوا هناك وأرجلكم لأنه لو قال فامسحوا وجوهكم وأيديكم أو امسحوا بها لكان يكتفى بمجرد المسح من غير إيصال للطهور إلى الرأس وهو خلاف الإجماع فلما كانت الباء للإلصاق دل على أنه لا بد من إلصاق الممسوح به فدل ذلك على
____________________
(21/349)
استعمال الطهور ولهذا كانت هذه الباء لا تدل على التبعيض عند أحد من السلف وأئمة العربية
ولا قال الشافعي إن التبعيض يستفاد من الباء بل أنكر إمام الحرمين وغيره من أصحابه ذلك وحكوا كلام أئمة العربية في إنكار ذلك ولكن من قال بذلك استند إلى دلالة أخرى
وقوله تعالى { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } دلت هذه الآية على أن التراب طهور كما صرحت بذلك السنة الصحيحة في قول النبي وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وعن أبي ذر أن رسول الله قال إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وهذا لفظه وقال حديث حسن صحيح
وقد اتفق المسلمون على أنه إذا لم يجد الماء في السفر تيمم وصلى إلى أن يجد الماء فإذا وجد الماء فعليه استعماله
وكذلك تيمم الجنب ذهب الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف
____________________
(21/350)
إلى أنه يتيمم إذا عدم الماء في السفر إلى أن يجد الماء فإذا وجده كان عليه استعماله وقد روي عن عمر وبن مسعود إنكار تيمم الجنب وروي عنهما الرجوع عن ذلك وهو قول أكثر الصحابة كعلي وعمار وبن عباس وأبي ذر وغيرهم وقد دل عليه آيات من كتاب الله وخمسة أحاديث عن النبي
منها حديث عمار بن ياسر وعمران بن حصين كلاهما في الصحيحين ومنها حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي ومنها حديث عمرو بن العاص وحديث الذي شج فافتوه فقال النبي قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ففي الصحيح عن عمر أنه قال كنا مع النبي فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم قال ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم قال أصابتني جنابة ولا ماء قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك رواه البخاري ومسلم
وفي الصحيحين عن عمار بن ياسر قال بعثني النبي في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي فذكرت ذلك له فقال إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض
____________________
(21/351)
ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه وهذا لفظ مسلم فصل
وقد تنازع العلماء في التيمم هل يرفع الحدث رفعا مؤقتا إلى حين القدرة على استعمال الماء أم الحدث قائم ولكنه تصح الصلاة مع وجود الحدث المانع وهذه مسألة نظرية
وتنازعوا هل يقوم مقام الماء فيتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت ويصلي به ما شاء من فروض ونوافل كما يصلي بالماء ولا يبطل بخروج الوقت كما لا يبطل الوضوء على قولين مشهورين وهو نزاع عملي
فمذهب أبي حنيفة أنه يتيمم قبل الوقت ويبقى بعد الوقت ويصلي به ما شاء كالماء وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري والزهري والثوري وغيرهم وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل
والقول الثاني أنه لا يتيمم قبل الوقت ولا يبقى بعد خروجه
____________________
(21/352)
ثم من هؤلاء من يقول يتيمم لوقت كل صلاة ومنهم من يقول يتيمم لفعل كل فريضة ولا يجمع به فرضين وغلا بعضهم فقال ويتيمم لكل نافلة وهذا القول في الجملة هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد قالوا لأنه طهارة ضرورية والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها فإذا تيمم في وقت يستغنى عن التيمم فيه لم يصح تيممه كما لو تيمم مع وجود الماء
قالوا ولأن الله أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء فإن لم يجد الماء تيمم وكان ظاهر الخطاب يوجب على كل قائم إلى الصلاة الوضوء والتيمم لكن لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الصلوات كلها بوضوء واحد رواه مسلم في صحيحه دلت السنة على جواز تقديم الوضوء قبل وقت وجوبه وبقي التيمم على ظاهر الخطاب وعلل ذلك بعضهم بأنه مأمور بطلب الماء عند كل صلاة وذلك يبطل تيممه
وورد عن علي وعمرو بن العاص وبن عمر مثل قولهم ولنا أنه قد ثبت بالكتاب والسنة أن التراب طهور كما أن الماء طهور وقد قال النبي الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجدت الماء فامسه بشرتك فإن ذلك خير فجعله مطهرا عند عدم الماء مطلقا فدل على أنه مطهر
____________________
(21/353)
للمتيمم وإذا كان قد جعل المتيمم مطهرا كما أن المتوضئ مطهر ولم يقيد ذلك بوقت ولم يقل إن خروج الوقت يبطله كما ذكر أنه يبطله القدرة على استعمال الماء دل ذلك على أنه بمنزلة الماء عند عدم الماء وهو موجب الأصول
فإن التيمم بدل عن الماء والبدل يقوم مقام المبدل في أحكامه وإن لم يكن مماثلا له في صفته كصيام الشهرين فإنه بدل عن الإعتاق وصيام الثلاث والسبع فإنه بدل عن الهدي في التمتع وكصيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين فإنه بدل عن التكفير بالمال والبدل يقوم مقام المبدل وهذا لازم لمن يقيس التيمم على الماء في صفته فيوجب المسح على المرفقين وإن كانت آية التيمم مطلقة كما قاس عمار لما تمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة فمسح جميع بدنه كما يغسل جميع بدنه وقد بين النبي فساد هذا القياس وأنه يجزئك من الجنابة التيمم الذي يجزئك في الوضوء وهو مسح الوجه واليدين لأن البدل لا تكون صفته كصفة المبدل بل حكمه حكمه فإن التيمم مسح عضوين وهما العضوان المغسولان في الوضوء وسقط العضوان الممسوحان والتيمم عن الجنابة يكون في هذين العضوين بخلاف الغسل
والتيمم ليس فيه مضمضة ولا استنشاق بخلاف الوضوء والتيمم
____________________
(21/354)
لا يستحب فيه تثنية ولا تثليث بخلاف الوضوء والتيمم بفارق صفة الوضوء من وجوه ولكن حكمه حكم الوضوء لأنه بدل منه فيجب أن يقوم مقامه كسائر الأبدال فهذا مقتضى النص والقياس
فإن قيل الوضوء يرفع الحدث والتيمم لا يرفعه
قيل عن هذا جوابان
أحدهما أنه سواء كان يرفع الحدث أو لا يرفعه فإن الشارع جعله طهورا عند عدم الماء يقوم مقامه فالواجب أن يثبت له من أحكام الطهارة ما يثبت للماء ما لم يقم دليل شرعي على خلاف ذلك
الوجه الثاني أن يقال قول القائل يرفع الحدث أو لا يرفعه ليس تحته نزاع عملي وإنما هو نزاع اعتباري لفظي وذلك أن الذين قالوا لا يرفع الحدث قالوا لو رفعه لم يعد إذا قدر على استعمال الماء وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يبطل بالقدرة على استعمال الماء
والذين قالوا يرفع الحدث إنما قالوا برفعه رفعا مؤقتا إلى حين القدرة على استعمال الماء فلم يتنازعوا في حكم عملي شرعي ولكن تنازعهم ينزع إلى قاعدة أصولية تتعلق بمسألة تخصيص العلة وأن
____________________
(21/355)
المناسبة هل تنخرم بالمعارضة وأن المانع المعارض للمقتضى هل يرفعه أم لا يرفعه اقتضاؤه مع بقاء ذاته
وكشف الغطاء عن هيئة النزاع أن لفظ العلة يراد به العلة التامة وهو مجموع ما يستلزم الحكم بحيث إذا وجد وجد الحكم ولا يتخلف عنه فيدخل في لفظ العلة على هذا الاصطلاح جبر العلة وشروطها وعدم المانع إما لكون عدم المانع يستلزم وصفا ثبوتيا على رأي وإما لكون العدم قد يكون جبرا من المقتضى على رأي وهذه العلة متى تخصصت وانتقضت فوجد الحكم بدونها دل على فسادها كما لو علل معلل قصر الصلاة بمطلق العذر قيل له هذا باطل فإن المريض ونحوه من أهل الأعذار لا يقصرون وإنما يقصر المسافر خاصة فالقصر دائر مع السفر وجودا وعدما ودوران الحكم مع الوصف وجودا وعدما دليل على المدار عليه للدائر وكما لو علل وجوب الزكاة بمجرد ملك النصاب قيل له هذا ينتقض بالملك قبل الحول
وقد يراد بلفظ العلة ما يقتضي الحكم وإن توقف على ثبوت شروط وانتفاء موانع
وقد يعبر عن ذلك بلفظ السبب فيقال الأسباب المثبتة للإرث
____________________
(21/356)
ثلاثة رحم ونكاح وولاء وعند أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين يثبت بعقد الموالاة وغيرها فالعلة هنا قد يتخلف عنها الحكم المانع كالرق والقتل واختلاف الدين
فإذا أريد بالعلة هذا المعنى جاز تخصيصها لفوات شرط ووجود مانع فأما إن لم يبين المعلل بين صورة النقض وبين غيرها فرقا مؤثرا بطل تعليله فإن الحكم اقترن بالوصف تارة كما في الأصل وتخلف عنه تارة كما في الأصل ويختلف عنه تارة كما في صورة النقض
والمستدل إن لم يبين أن الفرع مثل الأصل دون صورة النقض فلم يكن إلحاقه بالأصل في ثبوت الحكم أولى من إلحاقه بصورة النقض في انتفائه لأن الوصف موجود في الصور الثلاث وقد اقترن به الحكم في الواحدة دون الأخرى وشككنا في الصورة الثالثة
وهذا كما لو اشترك ثلاثة في القتل فقتل الأولياء واحدا ولم يقتلوا آخر إما لبذل الدية وإما لإحسان كان له عندهم والثالث لم يعرف أهو كالمقتول أو كالمعفو عنه فإنا لا نلحقه بأحدهما إلا بدليل يبين مساواته له دون مساواته للآخر
إذا عرف هذا فالأصوليون والفقهاء متنازعون في استحلال الميتة
____________________
(21/357)
عند الضرورة فمنهم من يقول قد استحل المحظور مع قيام السبب الحاظر وهو ما فيها من حيث التغذية
ومنهم من يقول الضرورة ما أزالت حكم السبب وهو التحريم إزالة اقتضاء للحظر فلم يبق في هذه الحال حاظر إذ يمتنع زوال الحظر مع وجود مقتضيه التام
وفصل النزاع أنه إن أريد بالسبب الحاظر السبب التام وهو ما يستلزم الحظر فهذا يرتفع عند المخمصة فإن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع والحل ثابت في هذه الحال فيمتنع وجود السبب المستلزم له وإن أريد بالسبب المقتضي للحظر لولا المعارض الراجح فلا ريب أن هذا موجود حال الحظر لكن المعارض الراجح أزال اقتضاءه للحظر فلم يبق في هذه الحال مقتضيا فإذا قدر زوال المخمصة عمل السبب عمله لزوال المعارض له
وهكذا القول في كون التيمم يرفع الحدث أو لا يرفعه فإنه فرع على قول من يقول إنه يرفع الحدث فصاحب هذا القول إذا تبين له أنه يرفع الحدث رفعا مؤقتا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود هذا المعنى ليس بممتنع والشرع قد دل عليه فجعل التراب طهورا والماء يكون طهورا إذا أزال الحدث وإلا مع وجود الجنابة
____________________
(21/358)
يمتنع حصول الطهارة فصاحب هذا القول إنما قال إنه يرفع الحدث رفعا مؤقتا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود وهذا ممكن ليس بممتنع والشرع قد دل عليه فجعل التراب طهورا وإنما يكون طهورا إذا أزال الحدث وإلا فمع بقاء الحدث لا يكون طهورا
ومن قال إنه ليس برافع ولكنه مبيح والحدث هو المانع للصلاة وأراد بذلك أنه مانع تام كما يكون مع وجود الماء فهذا غالط فإن المانع التام مستلزم للمنع والمتيمم يجوز له الصلاة ليس بممنوع منها ووجود الملزوم بدون اللازم ممتنع وإن أريد أن سبب المنع قائم ولكن لم يعمل عمله لوجود الطهارة الشرعية الرافعة لمنعه فإذا حصلت القدرة على استعمال الماء حصل منعه في هذه الحال فهذا صحيح
وكذلك من قال هو رافع للحدث إن أراد بذلك أنه يرفعه كما يرفعه الماء فلا يعود إلا بوجود سبب آخر كان غالطا فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله وإن لم يتجدد بعد الجنابة الأولى جنابة ثانية بخلاف الماء
وإن قال أريد برفعه أنه رفع منع المانع فلم يبق مانعا إلى حين وجود الماء فقد أصاب وليس بين القولين نزاع شرعي عملي
____________________
(21/359)
وعلى هذا فيقال على كل من القولين لم يبق الحدث مانعا مع وجود طهارة التيمم والنبي قد جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا لكن جعل طهارته مقيدة إلى أن يجد الماء ولم يشترط في كونه مطهرا شرطا آخر فالمتيمم قد صار طاهرا وارتفع منع المانع للصلاة إلى أن يجد الماء فما لم يجد الماء فالمنع زائل إذا لم يتجدد سبب آخر يوجب الطهارة كما يوجب طهارة الماء وحينئذ فيكون طهورا قبل الوقت وبعد الوقت وفي الوقت كما كان الماء طهورا في هذه الأحوال الثلاثة وليس بين هذا فرق مؤثر إلا إذا قدر على استعمال الماء فمن أبطله بخروج الوقت فقد خالف موجب الدليل
وأيضا فالنبي جعل ذلك رخصة عامة لأمته ولم يفصل بين أن يقصد التيمم بفرض أو نفل أو تلك الصلاة أو غيرها كما لم يفصل في ذلك في الوضوء فيجب التسوية بينهما والوضوء قبل الوقت فيه نزاع لكن النزاع في التيمم أشهر
وإذا دلت السنة الصحيحة على جواز أحد الطهورين قبل الوقت فكذلك الآخر كلاهما متطهر فعل ما أمر الله به ولهذا جاز عند عامة العلماء اقتداء المتوضئ والمغتسل بالمتيمم كما فعل عمرو بن العاص وأقره النبي وكما فعل بن عباس حيث وطىء جارية له ثم صلى بأصحابه بالتيمم وهو مذهب الأئمة الأربعة ومذهب أبي
____________________
(21/360)
يوسف وغيره لكن محمد بن الحسن لم يجوز ذلك لنقص حال المتيمم
وأيضا كان دخول الوقت وخروجه من غير تجدد سبب حادث لا تأثير له في بطلان الطهارة الواجبة إذ كان حال المتطهر قبل دخول الوقت وبعده سواء والشارع حكيم إنما يثبت الأحكام ويبطلها بأسباب تناسبها فكما لا يبطل الطهارة بالأمكنة لا يبطل بالأزمنة وغيرها من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع
فإن قيل هذا ينتقض بطهارة الماسح على الخفين وطهارة المستحاضة وذوي الأحداث الدائمة
قيل أما طهارة الماسح على الخفين فليست واجبة بل هو مخير بين المسح وبين الخلع والغسل ولهذا وقتها الشارع ولم يوقتها بدخول وقت صلاة ولا خروجها ولكن لما كانت رخصة ليست بعزيمة حد لها وقتا محدودا في الزمن ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم ولهذا لم يجز المسح في الطهارة الكبرى ولهذا لما كانت طهارة المسح على الجبيرة عزيمة لم تتوقت بل يمسح عليها إلى أن يحلها ويمسح في الطهارتين الصغرى والكبرى كما يتيمم عن الحدثين الأصغر والأكبر فإلحاق التيمم بالمسح على الجبيرة أولى من إلحاقه بالمسح على الخفين
____________________
(21/361)
وأما ذوو الأحداث الدائمة كالمستحاضة فأولئك وجد في حقهم السبب الموجب للحدث وهو خروج الخارج النجس من السبيلين ولكن لأجل الضرورة رخص لهم الشارع في الصلاة معه فجاز أن تكون الرخصة مؤقتة ولهذا لو تطهرت المستحاضة ولم يخرج منها شيء لم تنتقض طهارتها بخروج الوقت وإنما تنتقض إذا خرج الخارج في الوقت فإنها تصلي به إلى أن يخرج الوقت ثم لا تصلي لوجود الناقض للطهارة بخلاف المتيمم فإنه لم يوجد بعد تيممه ما ينقض طهارته
والتيمم كالوضوء فلا يبطل تيممه إلا ما يبطل الوضوء ما لم يقدر على استعمال الماء وهذا بناء على قولنا وقول من وافقنا على التوقيت في مسح الخفين وعلى انتقاض الوضوء بطهارة المستحاضة فإن هذا مذهب الثلاثة أبي حنيفة والشافعي وأحمد
وأما من لم ينقض الطهارة بهذا أو لم يوقت هذا كمالك فإنه لا يصلح لمن قال بهذا القول المعارضة بهذا وهذا فإنه لا يتوقت عنده لا هذا ولا هذا فالتيمم أولى أن لا يتوقت
وقول القائل إن القائم إلى الصلاة مأمور بإحدى الطهارتين
قيل نعم يجب عليه لكن إذا كان قد تطهر قبل ذلك فقد
____________________
(21/362)
أحسن وأتى بالواجب قبل هذا كما لو توضأ قبل هذا فإن كونه على طهارة قبل الوقت إلى حين الوقت أحسن من أن يبقى محدثا وكذلك المتيمم إذا كان قد أحسن بتقديم طهارته لكونه على طهارة قبل الوقت أحسن من كونه على غير طهارة وقد ثبت بالكتاب والسنة أنها طهارة حتى ثبت في الصحيح أن النبي سلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى تيمم ورد عليه السلام وقال كرهت أن أذكر الله إلا على طهر
وإذا كان تطهر قبل الوقت كان قد أحسن وأتى بأفضل مما وجب عليه وكان كالمتطهر للصلاة قبل وقتها وكمن أدى أكثر من الواجب في الزكاة وغيرها وكمن زاد على الواجب في الركوع والسجود وهذا كله حسن إذا لم يكن محظورا كزيادة ركعة خامسة في الصلاة والتيمم مع عدم الماء حسن ليس بمحرم ولهذا يجوز قبل الوقت للنافلة ولمس المصحف وقراءة القرآن وما ذكر من الأثر عن بعض الصحابة فبعضه ضعيف وبعضه معارض بقول غيره ولا إجماع في المسألة وقد قال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
____________________
(21/363)
فصل
وأما الصعيد ففيه أقوال فقيل يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض وإن لم يعلق بيده كالزرنيخ والنورة والجص وكالصخرة الملساء فأما ما لم يكن من جنسها كالمعادن فلا يجوز التيمم به وهو قول أبي حنيفة ومحمد يوافقه لكن بشرط أن يكون مغبرا لقوله { منه }
وقيل يجوز بالأرض وبما اتصل بها حتى بالشجر كما يجوز عنده وعند أبي حنيفة بالحجر والمدر وهو قول مالك وله في الثلج روايتان
إحداهما يجوز التيمم به وهو قول الأوزاعي والثوري وقيل يجوز بالتراب والرمل وهو أحد قولي أبي يوسف وأحمد في إحدى الروايتين وروي عنه أنه يجوز بالرمل عند عدم التراب
وقيل لا يجوز إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى
____________________
(21/364)
واحتج هؤلاء بقوله { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وهذا لا يكون إلا فيما يعلق بالوجه واليد والصخر لا يعلق لا بالوجه ولا باليد واحتجوا بأن بن عباس قال الصعيد الطيب تراب الحرث واحتجوا بقول النبي جعلت لي الأرض مسجدا وجعلت تربتها طهورا قالوا فعم الأرض بحكم المسجد وخص تربتها وهو ترابها بحكم الطهارة
قالوا ولأن الطهارة بالماء اختصت من بين سائر المائعات بما هو ماء في الأصل فكذلك طهارة التراب تختص بما هو تراب في الأصل وهما الأصلان اللذان خلق منهما آدم الماء والتراب وهما العنصران البسيطان بخلاف بقية المائعات والجامدات فإنها مركبة
واحتج الأولون بقوله تعالى { صعيدا } قالوا والصعيد هو الصاعد على وجه الأرض وهذا يعم كل صاعد بدليل قوله تعالى { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } وقوله { فتصبح صعيدا زلقا }
واحتج من لم يخص الحكم بالتراب بأن النبي قال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وفي رواية فعنده مسجده وطهوره فهذا يبين أن المسلم في أي موضع كان عنده مسجده وطهوره
____________________
(21/365)
ومعلوم أن كثيرا من الأرض ليس فيها تراب حرث فإن لم يجز التيمم بالرمل كان مخالفا لهذا الحديث وهذه حجة من جوز التيمم بالرمل دون غيره أو قرن بذلك السبخة فإن من الأرض ما يكون سبخة واختلاف التراب بذلك كاختلافه بالألوان بدليل قول النبي إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على قدر تلك القبضة جاء منهم الأسود والأبيض وبين ذلك وجاء منهم السهل والحزن وبين ذلك ومنهم الخبيث والطيب وبين ذلك
وآدم إنما خلق من تراب والتراب الطيب والخبيث الذي يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا يجوز التيمم به فعلم أن المراد بالطيب الطاهر وهذا بخلاف الأحجار والأشجار فإنها ليست من جنس التراب ولا تعلق باليد بخلاف الزرنيخ والنورة فإنها معادن في الأرض لكنها لا تنطبع كما ينطبع الذهب والفضة والرصاص والنحاس
____________________
(21/366)
قال الشيخ الإمام العالم
مفتي الأنام المجتهد الفقيه الإمام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني رحمه الله ورضي عنه
قول الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون }
هذا الخطاب يقتضي أن كل قائم إلى الصلاة فإنه مأمور بما ذكر من الغسل والمسح وهو الوضوء
وذهبت طائفة إلى أن هذا عام مخصوص
____________________
(21/367)
وذهبت طائفة إلى أنه يوجب الوضوء على كل من كان متوضأ وكلا القولين ضعيف
فأما الأولون فإن منهم من قال المراد بهذا القائم من النوم وهذا معروف عن زيد بن أسلم ومن وافقه من أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم
قالوا الآية أوجبت الوضوء على النائم بهذا وعلى المتغوط بقوله أو جاء أحد منكم من الغائط وعلى لامس النساء بقوله أو لامستم النساء وهذا هو الحدث المعتاد وهو الموجب للوضوء عندهم
ومن هؤلاء من قال فيها تقديم وتأخير تقديره إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء
فيقال أما تناولها للقائم من النوم المعتاد فظاهر لفظها يتناوله وأما كونها مختصة به بحيث لا تتناول من كان مستيقظا وقام إلى الصلاة فهذا ضعيف بل هي متناولة لهذا لفظا ومعنى
وغالب الصلوات يقوم الناس إليها من يقظة لا من نوم
____________________
(21/368)
كالعصر والمغرب والعشاء وكذلك الظهر في الشتاء لكن الفجر يقومون إليها من نوم وكذلك الظهر في القائلة والآية تعم هذا كله
لكن قد يقال إذا أمرت الآية القائم من النوم لأجل الريح التي خرجت منه بغير اختياره فأمرها للقائم الذي خرج منه الريح في اليقظة أولى وأحرى فتكون على هذا دلالة الآية على اليقظان بطريق تنبيه الخطاب وفحواه وإن قيل أن اللفظ عام يتناول هذا بطريق العموم اللفظي
فهذان قولان متوجهان والآية على القولين عامة وتعم أيضا القيام إلى النافلة بالليل والنهار والقيام إلى صلاة الجنازة كما سنبينه إن شاء الله
فمتى كانت عامة لهذا كله فلا وجه لتخصيصها
وقالت طائفة تقدير الكلام إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون أو قد أحدثتم فإن المتوضئ ليس عليه وضوء وكل هذا عن الشافعي رحمه الله ويوجبه الشافعي في التيمم فإن ظاهر القرآن يقتضي وجوب الوضوء والتيمم على كل قائم يخالف هذا
____________________
(21/369)
فإن كان قد قال هذا كان له قولان
ومن المفسرين من يجعل هذا قول عامة الفقهاء من السلف والخلف لاتفاقهم على الحكم فيجعل اتفاقهم على هذا الحكم اتفاقا على الإضمار كما ذكر أبو الفرج بن الجوزي قال وللعلماء في المراد بالآية قولان
أحدهما { إذا قمتم إلى الصلاة } محدثين { فاغسلوا } فصار الحدث مضمرا في وجوب الوضوء وهذا قول سعد بن أبي وقاص وأبي موسى وبن عباس رضي الله عنهم والفقهاء
قال والثاني أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة محدثا كان أو غير محدث
وهذا مروي عن عكرمة وبن سيرين
ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجبا بالسنة وهو ما روى بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد وقال عمدا فعلته يا عمر
قلت أما الحكم وهو أن من توضأ لصلاة صلى بذلك
____________________
(21/370)
الوضوء صلاة أخرى فهذا قول عامة السلف والخلف والخلاف في ذلك شاذ وقد علم بالنقل المتواتر عن النبي أنه لم يكن يوجب الوضوء على من صلى ثم قام إلى صلاة أخرى فإنه قد ثبت بالتواتر أنه صلى بالمسلمين يوم عرفة الظهر والعصر جميعا جمع بهم بين الصلاتين وصلى خلفه ألوف مؤلفة لا يحصيهم إلا الله ولما سلم من الظهر صلى بهم العصر ولم يحدث وضوءا لا هو ولا أحد ولا أمر الناس بإحداث وضوء ولا نقل ذلك أحد وهذا يدل على أن التجديد لا يستحب مطلقا
وهل يستحب التجديد لكل صلاة من الخمس فيه نزاع وفيه عن أحمد رحمه الله روايتان
وكذلك أيضا لما قدم مزدلفة صلى بهم المغرب والعشاء جمعا من غير تجديد وضوء للعشاء وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة وأقام لكل صلاة إقامة وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من حديث بن عمر وبن عباس وأنس رضي الله عنهم كلها تقتضي أنه هو والمسلمون خلفه صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى لم يحدثوا لها وضوءا
____________________
(21/371)
وكذلك هو قد ثبت عنه في الصحيحين من حديث بن عباس وعائشة وغيرهم أنه كان يتوضأ لصلاة الليل فيصلي به الفجر مع أنه كان ينام حتى يغط ويقول تنام عيناي ولا ينام قلبي فهذا أمر من أصح ما يكون أنه كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأه للنافلة يصلي به الفريضة فكيف يقال إنه كان يتوضأ لكل صلاة
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه صلى الظهر ثم قدم عليه وفد عبدالقيس فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر ولم يحدث وضوءا
وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة وتارة النافلة ثم الفريضة وتارة فريضة ثم فريضة كل ذلك بوضوء واحد
وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة
وكان المسلمون على عهده يتوضؤون ثم يصلون ما لم يحدثوا كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة ولم ينقل عنه لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة
____________________
(21/372)
فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل
وأما القول بوجوبه فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول ولإجماع الصحابة والنقل عن علي رضي الله عنه بخلاف ذلك لا يثبت بل الثابت عنه خلافه وعلي رضي الله عنه أجل من أن يخفى عليه مثل هذا والكذب على علي كثير مشهور أكثر منه على غيره
وأحمد بن حنبل رحمه الله مع سعة علمه بآثار الصحابة والتابعين أنكر أن يكون في هذا نزاع وقال أحمد بن القاسم سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد فقال لا بأس بذلك إذا لم ينتقض وضوءه ما ظننت أن أحدا أنكر هذا
وروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال كان النبي يتوضأ عند كل صلاة قلت وكيف كنتم تصنعون قال يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث وهذا هو في الصلوات الخمس المفرقة ولهذا استحب أحمد ذلك في أحد القولين مع أنه كان أحيانا يصلي صلوات بوضوء واحد كما في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال صلى النبي يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر إني
____________________
(21/373)
رأيتك صنعت شيئا لم تكن صنعته قال عمدا صنعته يا عمر
والقرآن أيضا يدل على أنه لا يجب على المتوضئ أن يتوضأ مرة ثانية من وجوه
أحدها أنه سبحانه قال { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } فقد أمر من جاء من الغائط ولم يجد الماء أن يتيمم الصعيد الطيب فدل على أن المجيء من الغائط يوجب التيمم فلو كان الوضوء واجبا على من جاء من الغائط ومن لم يجئ فإن التيمم أولى بالوجوب فإن كثيرا من الفقهاء يوجبون التيمم لكل صلاة وعلى هذا فلا تأثير للمجيء من الغائط فإنه إذا قام إلى الصلاة وجب الوضوء أو التيمم وإن لم يجئ من الغائط ولو جاء من الغائط ولم يقم إلى الصلاة لا يجب عليه وضوء ولا تيمم فيكون ذكر المجيء من الغائط عبثا على قول هؤلاء
الوجه الثاني أنه سبحانه خاطب المؤمنين لأن الناس كلهم يكونون محدثين فإن البول والغائط أمر معتاد لهم وكل بني آدم محدث والأصل فيهم الحدث الأصغر فإن أحدهم من حين كان طفلا قد اعتاد ذلك فلا يزال محدثا بخلاف الجنابة فإنها إنما تعرض لهم
____________________
(21/374)
عند البلوغ والأصل فيهم عدم الجنابة كما أن الأصل فيهم عدم الطهارة الصغرى فلهذا قال { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ثم قال { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فأمرهم بالطهارة الصغرى مطلقا لأن الأصل أنهم كلهم محدثون قبل أن يتوضئوا ثم قال { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وليس منهم جنب إلا من أجنب فلهذا فرق سبحانه بين هذا وهذا
الثالث أن يقال الآية اقتضت وجوب الوضوء إذا قام المؤمن إلى الصلاة فدل على أن القيام هو السبب الموجب للوضوء وأنه إذا قام إلى الصلاة صار واجبا حينئذ وجوبا مضيقا فإذا كان العبد قد توضأ قبل ذلك فقد أدى هذا الواجب قبل تضيقه كما قال { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } فدل على أن النداء يوجب السعي إلى الجمعة وحينئذ يتضيق وقته فلا يجوز أن يشتغل عنه ببيع ولا غيره فإذا سعى إليها قبل النداء فقد سابق إلى الخيرات وسعى قبل تضيق الوقت فهل يقول عاقل إن عليه أن يرجع إلى بيته ليسعى عند النداء
وكذلك الوضوء إذا كان المسلم قد توضأ للظهر قبل الزوال أو للمغرب قبل غروب الشمس أو للفجر قبل طلوعه وهو إنما يقوم إلى الصلاة بعد الوقت فمن قال إن عليه أن يعيد الوضوء فهو
____________________
(21/375)
بمنزلة من يقول إن عليه أن يعيد السعي إذا أتى الجمعة قبل النداء
والمسلمون على عهد نبيهم كانوا يتوضؤون للفجر وغيرها قبل الوقت وكذلك المغرب فإن النبي كان يعجلها ويصليها إذا توارت الشمس بالحجاب وكثير من أصحابه كانت بيوتهم بعيدة من المسجد فهؤلاء لو لم يتوضؤوا قبل المغرب لما أدركوا معه أول الصلاة بل قد تفوتهم جميعا لبعد المواضع وهو نفسه لم يكن يتوضأ بعد الغروب ولا من حضر عنده في المسجد ولا كان يأمر أحدا بتجديد الوضوء بعد المغرب وهذا كله معلوم مقطوع به وما أعرف في هذا خلافا ثابتا عن الصحابة أن من توضأ قبل الوقت عليه أن يعيد الوضوء بعد دخول الوقت ولا يستحب أيضا لمثل هذا تجديد وضوء
وانما تكلم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول هل يستحب له التجديد وأما من لم يصل به فلا يستحب له اعادة الوضوء بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله ولما عليه المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت فقد تبين أن هذا قبل القيام قد أدى هذا الواجب قبل تضييقه كالساعي إلى الجمعة قبل النداء وكمن قضى الدين قبل حلوله ولهذا
____________________
(21/376)
قال الشافعي وغيره ان الصبي اذا صلى ثم بلغ لم يعد الصلاة لأنها تلك الصلاة بعينها سابق اليها قبل وقتها وهو قول في مذهب أحمد وهذا القول أقوى من ايجاب الاعادة ومن أوجبها قاسه على الحج وبينهما فرق كما هو مبسوط في غير هذا الموضع
وهذا الذي ذكرناه في الوضوء هو بعينه في التيمم ولهذا كان قول العلماء ان التيمم كالوضوء فهو طهور المسلم ما لم يجد الماء وان تيمم قبل الوقت وتيمم للنافلة فيصلي به الفريضة وغيرها كما هو قول بن عباس وهو مذهب كثير من العلماء أبي حنيفة وغيره وهو أحد القولين عن أحمد
والقول الآخر وهو التيمم لكل صلاة هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد وهو قول لم يثبت عن غيره من الصحابة كما قد بسط في موضعه فالآية محكمة ولله الحمد وهي على ما دلت عليه من أن كل قائم إلى الصلاة فهو مأمور بالوضوء فان كان قد توضأ قبل ذلك فقد أحسن وفعل الواجب قبل تضييقه وسارع إلى الخيرات كمن سعى إلى الجمعة قبل النداء فقد تبين أن الآية ليس فيها اضمار ولا تخصيص ولا تدل على
____________________
(21/377)
وجوب الوضوء مرتين بل دلت على الحكم الثابت بالسنن المتواترة وهو الذي عليه جماعة المسلمين وهو وجوب الوضوء على المصلي كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال لا يقبل الله صلاة أحدكم اذا أحدث حتى يتوضأ فقال رجل من حضرموت ما الحدث يا أبا هريرة قال فساء أو ضراط وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول
وهذا يوافق الآية الكريمة فإنه يدل على أنه لا بد من الطهور ومن كان على وضوء فهو على طهور وانما يحتاج إلى الوضوء من كان محدثا كما قال لا يقبل الله صلاة أحدكم اذا أحدث حتى يتوضأ وهو اذا توضأ ثم أحدث فقد دلت الآية على أمره بالوضوء اذا قام إلى الصلاة واذا كان قد توضأ فقد فعل ما أمر به كقوله لا تصلي الا بوضوء أو لا تصلي حتى تتوضأ ونحو ذلك مما بين أنه مأمور بالوضوء لجنس الصلاة الشامل لأنواعها وأعيانها ليس مأمورا لكل نوع أو عين بوضوء غير وضوء الآخر ولا في اللفظ ما يدل على ذلك
لكن هذا الوجه لا يدل على تقدم الوضوء على الجنس كمن أسلم
____________________
(21/378)
فتوضأ قبل الزوال أو الغروب أو كمن أحدث فتوضأ قبل دخول الوقت بخلاف الوجه الذي قبله فانه يتناول هذا كله فصل
وقوله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } يقتضي وجوب الوضوء على كل مصل مرة بعد مرة فهو يقتضي التكرار وهذا متفق عليه بين المسلمين في الطهارة وقد دلت عليه السنة المتواترة بل هو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين عن الرسول أنه لم يأمرنا بالوضوء لصلاة واحدة بل أمر بأن يتوضأ كلما صلى ولو صلى صلاة بوضوء وأراد أن يصلي سائر الصلوات بغير وضوء استتيب فان تاب والا قتل
لكن المقصود هنا دلالة الآية عليه وذلك من لفظ الصلاة فان الصلاة هنا اسم جنس ليس المراد صلاة واحدة فقد أمر اذا قام إلى جنس الصلاة أن يتوضأ والجنس يتناول جميع ما يصليه من الصلوات في جميع عمره
فان قيل هذا يقتضي عموم الجنس فمن أين التكرار فاذا
____________________
(21/379)
قام إلى أي صلاة توضأ لكن من أين أنه اذا قام اليها يوما آخر يتوضأ
قيل لأنه في هذا اليوم الثاني قائم إلى الصلاة فهو مأمور بالوضوء اذا قام إلى مسمى الصلاة فحيث وجد قيام إلى مسمى الصلاة فهو مأمور بالوضوء متى وجد ذلك فعليه الوضوء وهو كقوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } فالمراد جنس الدلوك فهو مأمور باقامة الصلاة له وكذلك قوله { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } طلوعا واحدا فكأنه قال قبل كل طلوع لها وقبل كل غروب وأقم الصلاة عند كل دلوك وكل صلاة يقوم اليها متوضأ لها
وقد تنازع الناس في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره
قيل يقتضيه كقول طائفة منهم القاضي أبو يعلى وبن عقيل وقيل لا يقتضيه كقول كثير منهم أبو الخطاب وقيل ان كان معلقا بسبب اقتضى التكرار وهذا هو المنصوص عن أحمد كآية الطهارة والصلاة
____________________
(21/380)
2 فان قيل فهذا لا يتكرر في الطلاق والعتق المعلق
قيل لأن عتق الشخص الواحد لا يتكرر وكذلك الطلاق المعلق نفسه لا يتكرر بل الطلقة الثانية حكمها غير حكم الأولى وهو محدود بثلاث ولكن اذا قال الناذر لله علي ان رزقني الله ولدا أن اعتق عنه واذا أعطاني مالا أن أزكيه أو أتصدق بعشرة تكرر وبسط هذا له موضع آخر فصل
قوله تعالى { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } الآية هذا مما أشكل على بعض الناس
فقال طائفة من الناس أو بمعنى الواو وجعلوا التقدير وجاء أحد منكم من الغائط ولامستم النساء
قالوا لأن من مقتضى أو أن يكون كل من المرض والسفر موجبا للتيمم كالغائط والملامسة وهذا مخالف لمعنى الآية
____________________
(21/381)
فان أو ضد الواو والواو للجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه
وأما معنى أو فلا يوجب الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه بل يقتضي اثبات أحدهما لكن قد يكون ذلك مع اباحة الآخر كقوله جالس الحسن أو بن سيرين وتعلم الفقه أو النحو ومنه خصال الكفارة يخير بينها ولو فعل الجميع جاز وقد يكون مع الحصر يقال للمريض كل هذا أو هذا وكذلك في الخبر هي لاثبات أحدهما اما مع عدم علم المخاطب وهو الشك أو مع علمه وهو الايهام كقوله تعالى { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } لكن المعنى الذي أراده هو الأصح وهو أن خطابه بالتيمم للمريض والمسافر وان كان قد جاء من الغائط أو جامع
ولا ينبغي على قولهم أن يكون المراد أن لا يباح التيمم الا مع هذين بل التقدير بالاحتلام أو حدث بلا غائط فالتيمم هنا أولى وهو سبحانه لما أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء أمرهم اذا كانوا جنبا أن يطهروا وفيهم المحدث بغير الغائط كالقائم من النوم والذي خرجت منه الريح ومنهم الجنب بغير جماع بل باحتلام فالآية عمت كل محدث وكل جنب فقال تعالى { وإن كنتم مرضى أو على سفر } { فتيمموا } فأباح التيمم للمحدث والجنب اذا
____________________
(21/382)
كان مريضا أو على سفر ولم يجد ماء والتيمم رخصة
فقد يظن الظان أنها لا تباح الا مع خفيف الحدث والجنابة كالريح والاحتلام بخلاف الغائط والجماع فان التيمم مع ذلك والصلاة معه مما تستعظمه النفوس وتهابه فقد أنكر بعض كبار الصحابة تيمم الجنب مطلقا وكثير من الناس يهاب الصلاة مع الحدث بالتيمم اذ كان جعل التراب طهورا كالماء هو مما فضل الله به محمدا وأمته ومن لم يستحكم ايمانه لا يستجيز ذلك فبين الله سبحانه أن التيمم مأمور به مع تغليظ الحدث بالغائط وتغليظ الجنابة بالجماع والتقدير وان كنتم مرضى أو مسافرين أو كان مع ذلك جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء
ليس المقصود أن يجعل الغائط والجماع فيما ليس معه مرض أو سفر فانه اذا جاء أحد منكم من الغائط أو لامس النساء وليسوا مرضى ولا مسافرين فقد بين ذلك بقوله { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } وبقوله { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فدلت الآية على وجوب الوضوء والغسل على الصحيح والمقيم
وأيضا فتخصيصه المجيء من الغائط والجماع يجوز أن يكون لا يتيمم في هذه الحالة دون ما هو أخف من ذلك من خروج الريح ومن
____________________
(21/383)
الاحتلام فان الريح كالنوم والاحتلام يكون في المنام فهناك يحصل الحدث والجنابة والانسان نائم فاذا كان في تلك الحال يؤمر بالوضوء والغسل فاذا حصل ذلك وهو يقظان فهو أولى بالوجوب لأن النائم رفع عنه القلم بخلاف اليقظان
ولكن دلت الآية على أن الطهارة تجب وان حصل الحدث والجنابة بغير اختياره كحدث النائم واحتلامه واذا دلت على وجوب طهارة الماء في الحال فوجوبها مع الحدث الذي حصل باختياره أو يقظته أولى وهذا بخلاف التيمم فانه لا يلزم اذا أباح التيمم للمعذور الذي أحدث في النوم باحتلام أو ريح أن يبيحه لمن أحدث باختياره فقال تعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } ليبين جواز التيمم لهذين وان حصل حدثهما في اليقظة وبفعلهما وان كان غليظا
ولو كانت أو بمعنى الواو كان تقدير الكلام ان التيمم لا يباح الا بوجود الشرطين المرض والسفر مع المجيء من الغائط والاحتلام فيلزم من هذا أن لا يباح مع الاحتلام ولا مع الحدث بلا غائط كحدث النائم ومن خرجت منه الريح فان الحكم اذا علق بشرطين لم يثبت مع أحدهما وهذا ليس مرادا قطعا بل هو ضد
____________________
(21/384)
الحق لأنه اذا أبيح مع الغائط الذي يحصل بالاختيار فمع الخفيف وعدم الاختيار أولى
فتبين أن معنى الآية وان كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا وان كان مع ذلك قد جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء كما يقال وان كنت مريضا أو مسافرا والتقدير وان كنتم أيها القائمون إلى الصلاة وأنتم مرضى أو مسافرين قد جئتم من الغائط أو لامستم النساء ولهذا قال من قال انها خطاب للقائمين من النوم ان التقدير اذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء
فانه سبحانه ذكر أولا فعلهم بقوله { إذا قمتم } { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } الثلاثة أفعال وقوله { وإن كنتم مرضى أو على سفر } حال لهم أي كنتم على هذه الحال كقوله وان كنتم على حال العجز عن استعمال الماء اما لعدمه أو لخوف الضرر باستعماله فتيمموا اذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء
ولكن الذي رجحناه أن قوله { إذا قمتم } عام اما لفظا ومعنى واما معنى
____________________
(21/385)
وعلى هذا فالمعنى اذا قمتم إلى الصلاة فتوضئوا أو اغتسلوا ان كنتم جنبا وان كنتم مرضى أو مسافرين أو فعلتم ما هو أبلغ في الحدث جئتم من الغائط أو لامستم النساء اذ التقدير وان كنتم مرضى أو مسافرين وقد قمتم إلى الصلاة أو فعلتم مع القيام إلى الصلاة والمرض أو السفر هذين الأمرين المجيء من الغائط والجماع فيكون قد اجتمع قيامكم إلى الصلاة والمرض والسفر وأحد هذين فالقيام موجب للطهارة والعذر مبيح وهذا القيام فاذا قمتم وجب التيمم ان كان قياما مجردا أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء
ولكن من الناس من يعطف قوله { أو جاء } { أو لامستم } على قوله { إذا قمتم } والتقدير وإذا قمتم أو جاء أو لامستم وهذا مخالف لنظم الآية فإن نظمها يقتضي أن هذا داخل في جزاء الشرط وقوله { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } فإن الذي قاله قريب من جهة المعنى ولكن التقدير وإن كنتم إذا قمتم إلى الصلاة مرضى أو على سفر أو كان مع ذلك جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فهو تقسيم من مفرد ومركب
يقول إن كنتم مرضى أو على سفر قائمين إلى الصلاة فقط بالقيام
____________________
(21/386)
من النوم أو القعود المعتاد أو كنتم مع هذا قد جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء
فقوله تعالى { وإن كنتم مرضى أو على سفر } خطاب لمن قيل لهم { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فالمعنى يا أيها القائم إلى الصلاة توضأ وإن كنت جنبا فاغتسل وإن كنت مريضا أو مسافرا تيمم أو كنت مع هذا وهذا مع قيامك إلى الصلاة وأنت محدث أو جنب ومع مرضك وسفرك قد جئت من الغائط أو لامست النساء فتيمم إن كنت معذورا
وإيضاح هذا إنه من باب عطف الخاص على العام الذي يخص بالذكر لامتيازه وتخصيصه يقتضي ذلك ومثل هذا يقال إنه داخل في العام ثم ذكر بخصوصه ويقال بل ذكره خاصا يمنع دخوله في العام وهذا يجيء في العطف بأو وأما بالواو فمثل قوله تعالى { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وقوله { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم } الآية ومن هذا قوله { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } ونحو ذلك
وأما في أو ففي مثل قوله تعالى { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } وقوله { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما }
____________________
(21/387)
وقوله { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا } وقوله { فمن خاف من موص جنفا أو إثما } فإن الجنف هو الميل عن الحق وإن كان عامدا
قال عامة المفسرين الجنف الخطأ والإثم العمد قال أبو سليمان الدمشقي الجنف الخروج عن الحق وقد يسمى المخطئ العامد إلا أن المفسرين علقوا الجنف على المخطئ والإثم على العامد ومثله قوله { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } فإن الكفور هو الآثم أيضا لكنه عطف خاص على عام وقد قيل هما وصفان لموصوف واحد وهو أبلغ فإن عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كقوله { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } وقوله { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } وقوله { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون } ونظائر هذا كثيرة
قال بن زيد الآثم المذنب الظالم والكفور هذا كله واحد قال بن عطية هو مخير في أنه يعرف الذي ينبغي أن لا يطيعه بأي وصف كان من هذين لأن كل واحد منهم فهو آثم وهو كفور
____________________
(21/388)
ولم يكن للأمة من الكثرة بحيث يغلب الإثم على المعاصي قال واللفظ إنما يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة أو كفور من المشركين
وقال أبو عبيدة وغيره ليس فيها تخيير أو بمعنى الواو وكذلك قال طائفة منهم البغوي وبن الجوزي
وقال المهدي أي لا تطع من أثم أو كفر ودخول أو يوجب أن لا تطيع كل واحد منهما على انفراده ولو قال ولا تطع منهما آثما أو كفورا لم يلزم النهي إلا في حال اجتماع الوصفين
وقد يقال إن الكفور هو الجاحد للحق وإن كان مجتهدا مخطئا فيكون هذا أعم من وجه وهذا أعم من وجه التمسك
وقوله تعالى { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } من هذا الباب فإنه خاطب المؤمنين فقال { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } وهذا يتناول المحدثين كما تقدم ثم قال { وإن كنتم جنبا فاطهروا } ثم قال وإن كنتم مع الحدث والجنابة مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا
____________________
(21/389)
وهذا يتناول كل محدث سواء كان قد جاء من الغائط أو لم يجئ كالمستيقظ من نومه والمستيقظ إذا خرجت منه الريح ويتناول كل جنب سواء كانت جنابته باحتلام أو جماع فقال وإن كنتم محدثون جنب مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط وهذا نوع خاص من الحدث أو لامستم النساء وهذا نوع خاص من الجنابة
ثم قد يقال لفظ الجنب يتناول النوعين وخص المجامع بالذكر وكذلك القائم إلى الصلاة يتناول من جاء من الغائط ومن أحدث بدون ذلك لكن خص الجائي بالذكر كما في قوله { فمن خاف من موص جنفا أو إثما } فالآثم هو المتعمد وتخصيصه بالذكر وإن كان دخل ليبين حكمه بخصوصه ولئلا يظن خروجه عن اللفظ العام وإن كان لم يدخل فهو نوع آخر والتقدير إن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا وهذا معنى الآية فصل
وقوله { أو جاء أحد منكم من الغائط } ذكر الحدث الأصغر فالمجيء من الغائط هو مجيء من الموضع الذي يقضي فيه الحاجة وكانوا
____________________
(21/390)
ينتابون الأماكن المنخفضة وهي الغائط وهو كقولك جاء من المرحاض وجاء من الكنيف ونحو ذلك هذا كله عبارة عمن جاء وقد قضى حاجته بالبول أو الغائط والريح يخرج معهما
وقد تنازع الفقهاء هل تنقض الريح لكونها تستصحب جزءا من الغائط فلا يكون على هذا نوعا آخر أو هي لا تستصحب جزءا من الغائط بل هي نفسها تنقض ونقضها متفق عليه بين المسلمين وقد دل عليه القرآن في قوله { إذا قمتم } سواء كان أريد القيام من النوم أو مطلقا فإن القيام من النوم مراد على كل تقدير وهو إنما نقض بخروج الريح هذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف أن النوم نفسه ليس بناقض ولكنه مظنة خروج الريح
وقد ذهبت طائفة إلى أن النوم نفسه ينقض ونقض الوضوء بقليله وكثيره وهو قول ضعيف وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه كان ينام حتى يغط ثم يقوم يصلي ولا يتوضأ ويقول تنام عيناي ولا ينام قلبي
فدل على أن قلبه الذي لم ينم كان يعرف به أنه لم يحدث ولو كان النوم نفسه كالبول والغائط والريح لنقض كسائر النواقض
وأيضا قد ثبت في الصحيحين أن الصحابة كانوا ينتظرون الصلاة حتى
____________________
(21/391)
تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون وهم في المسجد ينتظرون العشاء خلف النبي
وفي الصحيحين عن بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله شغل عن العشاء ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا رسول الله ثم قال ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم
ولمسلم عنه قال مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله لصلاة العشاء الآخرة فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل أو بعضه ولا ندري أي شيء شغله من أهله أو غير ذلك فقال حين خرج إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى
ولمسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت أعتم رسول الله ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى فقال إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي
ففي هذه الأحاديث الصحيحة أنهم ناموا وقال في بعضها إنهم
____________________
(21/392)
رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا وكان الذين يصلون خلفه جماعة كثيرة وقد طال انتظارهم وناموا ولم يستفصل أحدا لا سئل ولا سأل الناس هل رأيتم رؤيا أو هل مكن أحدكم مقعدته أو هل كان أحدكم مستندا وهل سقط شيء من أعضائه على الأرض فلو كان الحكم يختلف لسألهم
وقد علم أنه في مثل هذا الانتظار بالليل مع كثرة الجمع يقع هذا كله وقد كان يصلي خلفه النساء والصبيان
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت أعتم رسول الله ليلة من الليالي بصلاة العشاء فلم يخرج رسول الله حتى قال عمر بن الخطاب نام النساء والصبيان فخرج رسول الله فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس
وقد خرج البخاري هذا الحديث في باب خروج النساء إلى المسجد بالليل والغلس وفي باب النوم قبل العشاء لمن غلب عليه النوم وخرجه في باب وضوء الصبيان وحضورهم الجماعة وقال فيه إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم
____________________
(21/393)
وهذا يبين أن قول عمر نام النساء والصبيان يعني والناس في المسجد ينتظرون الصلاة
وهذا يبين أن المنتظرين للصلاة كالذي ينتظر الجمعة إذا نام أي نوم كان لم ينتقض وضوؤه فإن النوم ليس بناقض وإنما الناقض الحدث فإذا نام النوم المعتاد الذي يختاره الناس في العادة كنوم الليل والقائلة فهذا يخرج منه الريح في العادة وهو لا يدري إذا خرجت فلما كانت الحكمة خفية لا نعلم بها قام دليلها مقامها وهذا هو النوم الذي يحصل هذا فيه في العادة
وأما النوم الذي يشك فيه هل حصل معه ريح أم لا فلا ينقض الوضوء لأن الطهارة ثابتة بيقين فلا تزول بالشك
وللناس في هذه المسألة أقوال متعددة ليس هذا موضع تفصيلها لكن هذا هو الذي يقوم عليه الدليل
وليس في الكتاب والسنة نص يوجب النقض بكل نوم
فإن قوله العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء قد روي في السنن من حديث علي بن أبي طالب ومعاوية
____________________
(21/394)
رضي الله عنهما وقد ضعفه غير واحد وبتقدير صحته فإنما فيه إذا نامت العينان استطلق الوكاء وهذا يفهم منه أن النوم المعتاد هو الذي يستطلق منه الوكاء ثم نفس الاستطلاق لا ينقض وإنما ينقض ما يخرج مع الاستطلاق وقد يسترخي الإنسان حتى ينطلق الوكاء ولا ينتقض وضوؤه
وإنما قوله في حديث صفوان بن عسال أمرنا أن لا ننزع خفافنا إذا كنا سفرا أو مسافرين ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط أو بول أو نوم فهذا ليس فيه ذكر نقض النوم ولكن فيه أن لابس الخفين لا ينزعهما ثلاثة أيام إلا من جنابة ولا ينزعهما من الغائط والبول والنوم فهو نهي عن نزعهما لهذه الأمور وهو يتناول النوم الذي ينقض ليس فيه أن كل نوم ينقض الوضوء
هذا إذا كان لفظ النوم من كلام النبي فكيف إذا كان من كلام الراوي وصاحب الشريعة قد يعلم أن الناس إذا كانوا قعودا أو قياما في الصلاة أو غيرها فينعس أحدهم وينام ولم يأمر أحدا بالوضوء في مثل هذا
أما الوضوء من النوم المعروف عند الناس فهو الذي يترجح معه في العادة خروج الريح وأما ما كان قد يخرج معه الريح وقد لا يخرج فلا ينقض على أصل الجمهور الذين يقولون إذا شك هل ينقض أو لا ينقض أنه لا ينقض بناء على يقين الطهارة
____________________
(21/395)
فصل
وهو سبحانه أمرنا بالطهارتين الصغرى والكبرى وبالتيمم عن كل منهما فقال { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } فأمر بالوضوء ثم قال { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فأمر بالتطهر من الجنابة كما قال في المحيض { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } وقال في سورة النساء { ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } وهذا يبين أن التطهر هو الاغتسال
والقرآن يدل على أنه لا يجب على الجنب إلا الاغتسال وأنه إذا اغتسل جاز له أن يقرب الصلاة والمغتسل من الجنابة ليس عليه نية رفع الحدث الأصغر كما قال جمهور العلماء والمشهور في مذهب أحمد أن عليه نية رفع الحدث الأصغر وكذلك ليس عليه فعل الوضوء ولا ترتيب ولا موالاة عند الجمهور وهو ظاهر مذهب أحمد
وقيل لا يرتفع الحدث الأصغر إلا بهما
وقيل لا يرتفع حتى يتوضأ روي ذلك عن أحمد
____________________
(21/396)
والقرآن يقتضي أن الاغتسال كاف وأنه ليس عليه بعد الغسل من الجنابة حدث آخر بل صار الأصغر جزءا من الأكبر كما أن الواجب في الأصغر جزء من الواجب في الأكبر فإن الأكبر يتضمن غسل الأعضاء الأربعة
ويدل على ذلك قول النبي لأم عطية واللواتي غسلن ابنته اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها
فجعل غسل مواضع الوضوء جزءا من الغسل لكنه يقدم كما تقدم الميامن
وكذلك الذين نقلوا صفة غسله كعائشة رضي الله عنها ذكرت أنه كان يتوضأ ثم يفيض الماء على شعره ثم على سائر بدنه ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين وكان لا يتوضأ بعد الغسل
فقد دل الكتاب والسنة على أن الجنب والحائض لا يغسلان أعضاء الوضوء ولا ينويان وضوءا بل يتطهران ويغتسلان كما أمر الله تعالى
وقوله { فاطهروا } أراد به الاغتسال فدل على أن قوله في الحيض { حتى يطهرن فإذا تطهرن } أراد به الاغتسال كما قاله الجمهور
____________________
(21/397)
مالك والشافعي وأحمد وأن من قال هو غسل الفرج كما قاله داود فهو ضعيف فصل
قال الله عز وجل { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا }
فقوله { فلم تجدوا ماء } يتعلق بقوله { على سفر } لا بالمرض والمريض يتيمم وإن وجد الماء والمسافر إنما يتيمم إذا لم يجد الماء ذكر سبحانه وتعالى النوعين الغالبين الذي يتضرر باستعمال الماء والذي لا يجده
وقوله { على سفر } يعم السفر الطويل والقصير كما قاله الجمهور
وقوله { وإن كنتم مرضى } كقوله في آية الخوف { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } وقوله في الإحرام { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام }
____________________
(21/398)
{ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } ولم يوقت الله تعالى وقتا في المرض
والذي عليه الجمهور أنه لا يشترط فيه خوف الهلاك بل من كان الوضوء يزيد مرضه أو يؤخر برأه يتيمم وكذلك في الصيام والإحرام ومن يتضرر بالماء لبرد فهو كالمريض عند الجمهور لكن الله ذكر الضرر العام وهو المرض بخلاف البرد فإنه إنما يكون في بعض البلاد لبعض الناس الذين لا يقدرون على الماء الحار
وكذلك ذكر المسافر الذي لا يجد الماء ولم يذكر الحاضر فإن عدمه في الحضر نادر لكن قد يحبس الرجل وليس عنده إلا ما يكفيه لشربه كما أن المسافر قد لا يكون معه إلا ما يكفيه لشربه وشرب دوابه فهذا عند الجمهور عادم للماء فيتيمم فصل
وقوله { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء }
ذكر أعظم ما يوجب الوضوء وهو قضاء الحاجة وأغلظ ما يوجب الغسل وهو ملامسة النساء وأمر كلا منهما إذا كان
____________________
(21/399)
مريضا أو مسافرا لا يجد الماء أن يتيمم وهذا هو مذهب جمهور الخلف والسلف
وقد ثبت تيمم الجنب في أحاديث صحاح وحسان كحديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما وهو في الصحيحين وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه وهو في البخاري وحديث أبي ذر وعمرو بن العاص وصاحب الشجة رضي الله عنهم وهو في السنن
فهاتان آيتان من كتاب الله وخمسة أحاديث عن رسول الله وقد عرفت مناظرة بن مسعود في ذلك لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما
ولهذا نظائر كثيرة عن الصحابة إذا عرفتها تعرف دلالة الكتاب والسنة عن الرجل العظيم القدر تحقيقا لقوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ولا يرد هذا النزاع إلا إلى الله والرسول المعصوم المبلغ عن الله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى الذي هو الواسطة بين الله وبين عباده
____________________
(21/400)
فصل
ونذكر هذا على قوله { أو لامستم النساء }
المراد به الجماع كما قاله بن عباس رضي الله عنهما وغيره من العرب وهو يروى عن علي رضي الله عنه وغيره وهو الصحيح في معنى الآية وليس في نقض الوضوء من مس النساء لا كتاب ولا سنة وقد كان المسلمون دائما يمسون نساءهم وما نقل مسلم واحد عن النبي أنه أمر أحدا بالوضوء من مس النساء
وقول من قال إنه أراد ما دون الجماع وإنه ينقض الوضوء فقد روي عن بن عمر والحسن باليد وهو قول جماعة من السلف في المس بشهوة والوضوء منه حسن مستحب لإطفاء الشهوة كما يستحب الوضوء من الغضب لإطفائه وأما وجوبه فلا
وأما المس المجرد عن الشهوة فما أعلم للنقض به أصلا عن السلف
وقوله تعالى { أو لامستم النساء } لم يذكر في القرآن الوضوء
____________________
(21/401)
منه بل إنما ذكر التيمم بعد أن أمر المحدث القائم للصلاة بالوضوء وأمر الجنب بالاغتسال فذكر الطهارة بالصعيد الطيب ولا بد أن يبين النوعين
وقوله { أو جاء أحد منكم من الغائط } بيان لتيمم هذا
وقوله { أو لامستم النساء } لم يذكر واحدا منهما لبيان طهارة الماء
إذا كان قد عرف أصل هذا فقوله { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } وقوله { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فالآية ليس فيها إلا أن اللامس إذا لم يجد الماء يتيمم فكيف يكون هذا من الحدث الأصغر يأمر من مس المرأة أن يتيمم وهو لم يأمره أن يتوضأ فكيف يأمر بالتيمم من لم يأمره بالوضوء وهو إنما أمر بالتيمم من أمره بالوضوء والاغتسال ونظير هذا يطول ومن تدبر الآية قطع بأن هذا هو المراد فصل
ودلت الآية على أن المسافر يجامع أهله وإن لم يجد الماء ولا يكره له ذلك كما قاله الله في الآية وكما دلت عليه الأحاديث حديث أبي ذر وغيره
____________________
(21/402)
فصل
وقوله { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } دليل على أن التيمم مطهر كالماء سواء
وكذلك ثبت في صحيح السنة أن النبي قال الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير رواه الترمذي وصححه ورواه أبو داود والنسائي
وفي الصحيح عنه قال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا
وهو جعل التراب طهورا في طهارة الحدث وطهارة الجنب كما قال في حديث أبي سعيد إذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما فإن كان بهما أذى أو خبث فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور وقال في حديث أم سلمة
____________________
(21/403)
ذيل المرأة يطهره ما بعده
فدل على أن التيمم مطهر يجعل صاحبه طاهرا كما يجعل الماء مستعمله في الطهارة طاهرا إن لم يكن جنبا ولا محدثا فمن قال إن المتيمم جنب أو محدث فقد خالف الكتاب والسنة بل هو متطهر
وقوله في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أصليت بأصحابك وأنت جنب استفهام أي هل فعلت ذلك فأخبره عمرو رضي الله عنه أنه لم يفعله بل تيمم لخوفه أن يقتله البرد فسكت عنه وضحك ولم يقل شيئا
فإن قيل إن هذا إنكار عليه أنه صلى مع الجنابة فإنه يدل على أن الصلاة مع الجنابة لا تجوز فإنه لم ينكر ما هو منكر فلما أخبره أنه صلى بالتيمم دل على أنه لم يصل وهو جنب
فالحديث حجة على من احتج به وجعل المتيمم جنبا ومحدثا والله يقول { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فلم يجز الله له الصلاة حتى يتطهر والمتيمم قد تطهر بنص الكتاب والسنة فكيف يكون جنبا
____________________
(21/404)
غير متطهر لكنها طهارة بدل فإذا قدر على الماء بطلت هذه الطهارة وتطهر بالماء حينئذ لأن البول المتقدم جعله محدثا والصعيد جعله مطهرا إلى أن يجد الماء فإن وجد الماء فهو محدث بالسبب المتقدم لا أن الحدث كان مستمرا
ثم من قال التيمم مبيح لا رافع فإن نزاعه لفظي فإنه إن قال إنه يبيح الصلاة مع الجنابة والحدث وإنه ليس بطهور فهو يخالف النصوص والجنابة محرمة للصلاة فيمتنع أن يجتمع المبيح والمحرم على سبيل التمام فإن ذلك يقتضي اجتماع الضدين والمتيمم غير ممنوع من الصلاة فالمنع ارتفع بالاتفاق وحكم الجنابة المنع فإذا قيل بوجوده بدون مقتضاها وهو المنع فهذا نزاع لفظي فصل
وفي الآية دلالة على أن المتخلي لا يجب عليه غسل فرجه بالماء إنما يجب الماء في طهارة الحدث بسبيله على أن إزالة النجو والخبث لا يتعين لها الماء فإنه على ذلك تدل النصوص إذ كان النبي أمر فيها تارة بالماء وتارة بغير الماء كما قد بسط في مواضع
____________________
(21/405)
إذ المقصود هنا التنبيه على ما دلت عليه الآية فإن قوله { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } نص في أنه عند عدم الماء يصلي وإن تغوط بلا غسل
وقد ثبت في السنة أنه يكفيه ثلاثة أحجار وأما مع العذر فإنه قال { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } وهذا يتناول كل قائم وهو يتناول من جاء من الغائط كما يتناول من خرجت منه الريح فلو كان غسل الفرجين بالماء واجبا على القائم إلى الصلاة لكان واجبا كوجوب غسل الأعضاء الأربعة
والقرآن يدل على أنه لا يجب عليه إلا ما ذكره من الغسل والمسح وهو يدل على أن المتوضئ والمتيمم متطهر والفرجان جاءت السنة بالاكتفاء فيهما بالاستجمار
وقوله تعالى { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } يدل على أن الاستنجاء مستحب يحبه الله لا أنه واجب بل لما كان غير هؤلاء من المسلمين لا يستنجون بالماء ولم يذمهم على ذلك بل أقرهم ولكن خص هؤلاء بالمدح دل على جواز ما فعله غير هؤلاء وأن فعل هؤلاء أفضل وأنه مما فضل الله به الناس بعضهم على بعض
____________________
(21/406)
فصل
الترتيب في الوضوء وغيره من العبادات والعقود النزاع فيه مشهور
فمذهب الشافعي وأحمد يجب ومذهب مالك وأبي حنيفة لا يجب وأحمد قد نص على وجوبه نصوصا متعددة ولم يذكر المتقدمون كالقاضي ومن قبله عنه نزاعا
قال أبو محمد لم أر عنه فيه خلافا
قال وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه غير واجب
قلت هذه أخذت من نصه في القبضة للاستنشاق فلو أخر غسلها إلى ما بعد غسل الرجلين ففيه عن أحمد روايتان منصوصتان فإنه قال في إحدى الروايتين إنه لو نسيهما حتى صلى تمضمض واستنشق وأعاد الصلاة ولم يعد الوضوء لما في السنن عن المقدام بن معدي كرب أنه أتى بوضوء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق
____________________
(21/407)
فغير أبي الخطاب فرق بينهما وبين غيرهما بأن الترتيب إنما يجب فيما ذكر في القرآن وهما ليسا في القرآن
وأبو الخطاب ومن تبعه رأوا هذا فرقا ضعيفا
فإن الأنف والفم لو لم يكونا من الوجه لما وجب غسلهما ولهذا خرج الأصحاب أنهما من الوجه كما قال الخرقي وغيره والفم والأنف من الوجه ولأن النبي كان يستفتح بهما غسل الوجه يبدأ بغسل ما بطن منه وقدم المضمضة لأن الفم أقرب إلى الظاهر من الأنف ولهذا كان الأمر به أوكد وجاءت الأحاديث الصحيحة بالأمر به ثم كان النبي يغسل سائر الوجه
فإذا قيل بوجوبهما مع النزاع فهما كسائر ما نوزع فيه مثل البياض الذي بين العذار والأذن فمالك وغيره يقول ليس من الوجه وفي النزعتين والتحذيف ثلاثة أوجه
قيل هما من الرأس وقيل من الوجه
والصحيح أن النزعتين من الرأس والتحذيف من الوجه فلو نسي ذلك فهو كما لو نسي المضمضة والاستنشاق
فتسوية أبي الخطاب أقوى
____________________
(21/408)
وعلى هذا فأحمد إنما نص على من ترك ذلك ناسيا ولهذا قيل له نسي المضمضة وحدها فقال الاستنشاق عندي أوكد يعني إذا نسي ذلك وصلى قال يغسلهما ويعيد الصلاة والإعادة إذا ترك الاستنشاق عنده أوكد للأمر به في الأحاديث الصحيحة وكذلك الحديث المرفوع فإن جميع من نقل وضوء النبي أخبروا أنه بدأ بهما
وهذا حكى فعلا واحدا فلا يمكن الجزم بأنه كان متعمدا
وحينئذ فليس في تأخيرهما عمدا سنة بل السنة في النسيان فإن النسيان متيقن فإن الظاهر أنه كان ناسيا إذا قدر الشك فإذا جاز مع التعمد فمع النسيان أولى فالناسي معذور بكل حال بخلاف المتعمد وهو القول الثالث وهو الفرق بين المتعمد لتنكيس الوضوء وبين المعذور بنسيان أو جهل وهو أرجح الأقوال وعليه يدل كلام الصحابة وجمهور العلماء
وهو الموافق لأصول المذهب في غير هذا الموضع وهو المنصوص عن أحمد في الصورة التي خرج منها أبو الخطاب
فمن ذلك إذا أخل بالترتيب بين الذبح والحلق فإن الجاهل يعذر بلا خلاف في المذهب وأما العالم المتعمد فعنه روايتان
____________________
(21/409)
والسنة إنما جاءت عن النبي كان يسأل عن ذلك فيقول افعل ولا حرج لأنهم قدموا وأخروا بلا علم لم يتعمدوا المخالفة للسنة وإلا فالقرآن قد جاء بالترتيب لقوله { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وقال النبي إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل وأحلق حتى أنحر
وقوله { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } أدل على الترتيب من قوله { إن الصفا والمروة من شعائر الله }
لكن يقال قد فرقوا بأن هذه عبادة واحدة مرتبط بعضها ببعض وتلك عبادات كالحج والعمرة والصلاة والزكاة
وهكذا فرق أبو بكر عبد العزيز بين الوضوء وغيره فقال ذاك كله من الحج الدماء والذبح والحلق والطواف والحج عبادة واحدة ولهذا متى وطىء قبل التحلل الأول فسد الحج عند الجمهور وهل يحصل كالدم وحده أو كالدم والحلق على روايتين
ومنها إذا نسي بعض آيات السورة في قيام رمضان فإنه لا يعيدها ولا يعيد ما بعدها مع أنه لو تعمد تنكيس آيات السورة
____________________
(21/410)
وقراءة المؤخر قبل المقدم لم يجز بالاتفاق وإنماالنزاع في ترتيب السور نص على ذلك أحمد وحكاه عن أهل مكة سئل عن الإمام في شهر رمضان يدع الآيات من السورة ترى لمن خلفه أن يقرأها قال نعم ينبغي له أن يفعل قد كانوا بمكة يوكلون رجلا يكتب ما ترك الإمام من الحروف وغيرها فإذا كان ليلة الختمة أعاده
قال الأصحاب كأبي محمد وإنما استحب ذلك لتتم الختمة ويكمل الثواب
فقد جعل أهل مكة وأحمد وأصحابه إعادة المنسي من الآيات وحده يكمل الختمة والثواب وإن كان قد أخل بالترتيب هنا فإنه لم يقرأ تمام السورة وهذا مأثور عن علي رضي الله عنه أنه نسي آية من سورة ثم في أثناء القراءة قرأها وعاد إلى موضعه ولم يشعر أحد أنه نسي إلا من كان حافظا
فهكذا من ترك غسل عضو أو بعضه نسيانا يغسله وحده ولا يعيد غسل ما بعده فيكون قد غسله مرتين فإن هذا لا حاجة إليه
وهذا التفصيل يوافق ما نقل عن الصحابة والأكثرين فإن الأصحاب وغيرهم فعلوا كما نقله بن المنذر عن علي ومكحول والنخعي
____________________
(21/411)
والزهري والأوزاعي فيمن نسي مسح رأسه فرأى في لحيته بللا فمسح به رأسه فلم يأمروه بإعادة غسل رجليه واختاره بن المنذر
وقد نقل عن علي وبن مسعود ما أبالي بأي أعضائي بدأت قال أحمد إنما عنى به اليسرى على اليمنى لأن مخرجهما من الكتاب واحد
ثم قال أحمد حدثني جرير عن قابوس عن أبيه أن عليا سئل فقيل له أحدنا يستعجل فيغسل شيئا قبل شيء فقال لا حتى يكون كما أمره الله تعالى فهذا الذي ذكره أحمد عن علي يدل على وجوب الترتيب
وما نقله بن المنذر في صورة النسيان يدل على أن الترتيب يسقط مع النسيان ويعيد المنسي فقط
فدل على أن التفصيل قول علي رضي الله عنه
وقد ذكر من أسقطه مطلقا ما روي عن بن مسعود رضي الله عنه أنه قال لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك
لكن قال أحمد وغيره لا نعرف لهذا أصلا ونقلوا في الوجوب
____________________
(21/412)
عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن وهؤلاء أئمة التابعين
وصورة النسيان مرادة قطعا فتبين أنها قول جمهور السلف أو جميعهم
والأمر المنكر أن تتعمد تنكيس الوضوء فلا ريب أن هذا مخالف لظاهر الكتاب مخالف للسنة المتواترة فإن هذا لو كان جائزا لكان قد وقع أحيانا أو تبين جوازه كما في ترتيب التسبيح لما قال النبي أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيتهن بدأت
ومما يدل على ذلك شرعا ومذهبا أن من نسي صلاة صلاها إذا ذكرها بالنص
وقد سقط الترتيب هنا في مذهب أحمد بلا خلاف ومذهب أبي حنيفة وغيره
ولكن حكي عن مالك أنه لا يسقط وقاسوا ذلك على ترتيب الطهارة
____________________
(21/413)
وقول النبي من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها نص في أنه يصليها في أي وقت ذكر وليس عليه غير ذلك
وقد سلم الأصحاب أن ترتيب الجمع لا يسقط بالنسيان
وعموم الحديث يدل على سقوطه فلو كانت المنسية هي الأولى من صلاتي الجمع أعادها وحدها بموجب النص ومن أوجب إعادة الثانية فقد خالف
وكذلك يقال في سائر أهل الأعذار كالمسبوق إذا أدركهم في الثانية صلاها معهم ثم صلى الأولى كما لو أدرك بعض الصلاة وليس ترتيب صلاته على أول الصلاة بأعظم من ترتيب آخر الصلاة على أولها
وإذا كان هكذا سقط ما أدرك ويقضي ما سقط فهذا في الصلاتين أولى لا سيما وهو إذا لم يدرك من المغرب إلا تشهدا تشهد ثلاث تشهدات كما في حديث بن مسعود المشهور في قصة مسروق وحديثه
وهذا أصل ثابت بالنص والإجماع يعتبر به نظائره وهو سقوط الترتيب عن المسبوق
____________________
(21/414)
وكانوا في أول الإسلام لا يرتبون فيصلون ما فاتهم ثم يصلون مع الإمام لكن نسخ ذلك وقد روي أن أول من فعله معاذ فقال النبي قد سن لكم معاذ فاتبعوه
والأئمة الأربعة على أنه يقرأ في ركعتي القضاء بالحمد وسورة
وكذلك لو أدرك الإمام ساجدا سجد معه بالنص واتفاق الأئمة
فقد سجد قبل القيام لمتابعة الإمام وإن لم يعتد به لكنه لو فعل هذا عمدا لم يجز فلو كبر وسجد ثم قام لم تصح صلاته
لكن هذا يستدل به على أن الركعة الواحدة يجب فيها الترتيب فإن هذا السجود ولو ضم إليه بعد السلام ركوعا مجردا لم يصر ذلك ركعة بل عليه أن يأتي بركعة بعدها سجدتان لأنه أخل بالترتيب والموالاة
فكذلك إذا نسي الركوع حتى تشهد وسلم ففيه قولان في المذهب هل تبطل صلاته والمنصوص إن لم يطل الفصل بني على ما مضى وهو قول الشافعي رحمه الله وغيره
وذهب طائفة من العلماء إلى سقوط الموالاة والترتيب في الصلاة
____________________
(21/415)
مع النسيان فقال مكحول ومحمد بن أسلم في المصلي ينسى سجدة أو ركعة يصليها متى ما ذكرها ويسجد للسهو وقال الأوزاعي لرجل نسي سجدة من صلاة الظهر فذكرها في صلاة العصر يمضي في صلاته فإذا فرغ سجد
ويدل على هذا القول أحاديث سجود السهو فإنها تدل على أنه يتم الصلاة ثم يسجد للسهو ولو مع طول الفصل
وأما المسبوق فالسجود الذي فعله مع الإمام كان لمتابعة الإمام ولهذا قال النبي لأبي بكرة زادك الله حرصا ولا تعد وهو متمكن من أن يأتي بالركعة بعد السلام فلا عذر له حتى وإذا نسي ركنا من الأولى حتى شرع في الثانية ففيها قولان
مالك وأحمد لا يقولان بالتلفيق بل تلغو المنسي ركنها وتقوم هذه مقامها ولكن هل يكون ذلك بالقراءة أو بالركوع فيه نزاع
والشافعي يقول ما فعله بعد الركوع المنسي فهو لغو لأن فعله في غير محله لا أن يفعل نظيره في الثانية فيكون هو تمام الأول
____________________
(21/416)
كما لو سلم من الصلاة ثم ذكر فإن السلام يقع لغوا
فأحمد ومالك يقولان هو إنما يقصد بما فعله أن يكون من الركعة الثانية لم يقصد أن يكون من الأولى وهو إذا قرأ أو ركع في الركعة الثانية أمكن أن يجعلها هي الأولى فإن الترتيب بين الركعات يسقط بالعذر فلا وجه لإبطال هذه ولا يكون فاعلا له في غير محله إلا إذا جعلت هذه ثانية فإذا جعلت الأولى كان قد فعله في محله
وإذا قيل هو قصد الثانية قبل وقصد بالسجود فيها السجود في الثانية لرعاية ترتيبه في أبعاض الركعة بأن لا يجعل بعضها في ركعة غيرها أولى من رعايتها في الركعتين فإن جعل الأولى ثانية يجوز للعذر كما في المسبوق وأما جعل سجود الثانية تماما للأولى فلا نظير له في الشرع وبسط هذا له مكان آخر
والمقصود هنا سقوط الترتيب في الوضوء بالنسيان وكذلك سقوط الموالاة كما هو قول مالك وكذلك بغير النسيان من الأعذار مثل بعد الماء كما نقل عن بن عمر فإن الصلاة نفسها إذا جاز فيها عدم الموالاة للعذر فالوضوء أولى بدليل صلاة الخوف في حديث بن عمر وأحاديث سجود السهو
____________________
(21/417)
وأما حديث صاحب اللمعة التي كانت في ظهر قدمه فمثل هذا لا ينسى فدل أنه تركها تفريطا
والموالاة في غسل الجنابة لا تجب للحديث الذي فيه أنه رأى في بدنه موضعا لم يصبه الماء فعصر عليه شعره
والأصحاب فرقوا بينه وبين الوضوء فإنه لا يجب ترتيبه فكذلك الموالاة ومالك يوجب الموالاة وإن لم يوجب الترتيب في الوضوء
وأما في الغسل فالبدن كعضو واحد والعضو الواحد لا ترتيب فيه بالاتفاق وأما تعمد تفريق الغسل فهو كتعمد تفريق غسل العضو الواحد لكن فرق بينهما فإن غسل الجنابة كإزالة النجاسة لا يتعدى حكم الماء محله بخلاف الوضوء فإن حكمه طهارة جميع البدن والمغسول أربعة أعضاء وهذا محل نظر والجنب إذا وجد بعض ما يكفيه استعمله وأما المتوضئ ففيه قولان للأصحاب ومن جوز ذلك جعل الوضوء يتفرق للعذر وجعل ما غسل يحصل به بعض الطهارة وكذلك الماسح على الخفين إذا خلعهما هل يقتصر على مسح الرجلين أو يعيد الوضوء فيه قولان هما روايتان
وقد قيل إن المأخذ هو الموالاة وقيل إن المأخذ أن
____________________
(21/418)
الوضوء لا ينتقض فإذا عاد الحدث إلى الرجل عاد إلى جميع الأعضاء وهذا عند العذر فيه نزاع كما تقدم
وقد يكون الترتيب شرطا لا يسقط بجهل ولا نسيان كما في الحديث الصحيح من ذبح قبل الصلاة فإنما هو شاة لحم فالذبح للأضحية مشروط بالصلاة قبله وأبو بردة بن نيار رضي الله عنه كان جاهلا فلم يعذره بالجهل بل أمره بإعادة الذبح بخلاف الذين قدموا في الحج الذبح على الرمي أو الحلق على ما قبله فإنه قال افعل ولا حرج فهاتان سنتان سنة في الأضحية إذا ذبحت قبل الصلاة أنها لا تجزئ وسنة في الهدي إذا ذبح قبل الرمي جهلا أجزأ
والفرق بينهما والله أعلم أن الهدي صار نسكا بسوقه إلى الحرم وتقليده وإشعاره فقد بلغ محله في المكان والزمان فإذا قدم جهلا لم يخرج عن كونه هديا وأما الأضحية فإنها قبل الصلاة لا تتميز عن شاة اللحم كما قال النبي من ذبح قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله وإنما هي نسك بعد الصلاة كما قال تعالى { فصل لربك وانحر } وقال { إن صلاتي ونسكي } فصار فعله قبل هذا الوقت كالصلاة قبل وقتها
____________________
(21/419)
فهذا وقت الأضحية وقته بعد فعل الصلاة كما بين الرسول ذلك في الأحاديث الصحيحة وهو قول الجمهور من العلماء مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم وإنما قدر وقتها بمقدار الصلاة الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد كالخرقي
وفي الأضحية يشترط في أحد القولين أن يذبح بعد الإمام وهو قول مالك وأحد القولين في مذهب أحمد ذكره أبو بكر والحجة فيه حديث جابر في الصحيح
وقد قيل إن قوله { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } نزلت في ذلك وكذلك في الإفاضة من عرفة قبل الإمام قولان في مذهب أحمد يجب فيه دم فهذا عند من يوجبه بمنزلة اتباع المأموم الإمام في الصلاة فصل
وما ذكره من نصه على قراءة ما نسي يدل على أن الترتيب يسقط بالنسيان في القراءة وقد ذكر أحمد وأصحابه أن موالاة الفاتحة واجبة وإذا تركها لعذر نسيان قالوا واللفظ لأبي محمد وإن كثر ذلك أي الفصل استأنف قراءتها إلا أن يكون المسكوت
____________________
(21/420)
مأمورا به كالمأموم يشرع في قراءة الفاتحة ثم يسمع قراءة الإمام فينصت له ثم إذا سكت الإمام أتم قراءتها وأجزأته أومأ إليه أحمد وكذلك إن كان السكوت نسيانا أو نوبا أو لانتقاله إلى غيرها غلطا لم تبطل فإذا ذكر أتى بما بقي منها فإن تمادى فيما هو فيه بعد ذكرها أبطلها ولزمه استئنافها قال وإن قدم آية منها في غير موضعها أبطلها وإن كان غلطا رجع إلى موضع الغلط فأتمها
فلم يسقطوا الترتيب بالعذر كما أسقطوا الموالاة فإن الموالاة أخف فإنه لو قرأ بعض سورة اليوم وبعضها غدا جاز ولو نكسها لم يجز
ويفرق في الترتيب بين الكلام المستقل الذي إذا أتي به وحده كان مما يسوغ تلاوته وبين ما هو مرتبط بغيره فلو قال { صراط الذين أنعمت عليهم } لم يكن هذا كلاما مفيدا حتى يقول { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } ولو قال { إياك نعبد وإياك نستعين } ثم قال { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم } كان مفيدا لكن مثل هذا لا يقع فيه أحد ولا يبتدئ أحد الفاتحة بمثل ذلك لا عمدا ولا غلطا وإنما يقع الغلط فيما يحتاج فيه إلى الترتيب فهذا فرق بين ما ذكروه فيما ينسى من الفاتحة وما ينسى من الختمة
____________________
(21/421)
فصل
ومما يبين أن الترتيب يسقط إذا احتاج إلى التكرار بلا تفريط من الإنسان أن التيمم يجزئ بضربة واحدة كما دل عليه الحديث الصحيح حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما وهو مذهب أحمد بلا خلاف وهو في الصحيحين من حديث أبي موسى ومن حديث بن أبزى
ففي حديث بن أبزى إنما كان يكفيك هكذا فضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه وكذلك لمسلم في حديث أبي موسى إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه إلى الأرض فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه وللبخاري ومسح وجهه وكفيه مرة واحدة
وقد اختلف الأصحاب في هذه الصفة
فقيل يرتب فيمسح وجهه ببطون أصابعه وظاهر يديه براحته
وقيل لا يجب ذلك بل يمسح بهما وجهه وظاهر كفيه
____________________
(21/422)
وعلى الوجهين لا يؤخر مسح الراحتين إلى ما بعد الوجه بل يمسحهما إما قبل الوجه وإما مع الوجه وظهور الكفين ولهذا قال بن عقيل رأيت التيمم بضربة واحدة قد أسقط ترتيبا مستحقا في الوضوء وهو أنه بعد أن مسح باطن يديه مسح وجهه
وفي الصحيحين من حديث عمار بن ياسر من طريق أبي موسى رضي الله عنهما قال إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه لفظ البخاري وضرب بكفيه ضربة على الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بهما وجهه
وهذا صريح في أنه لم يمسح الراحتين بعد الوجه ولا يختلف مذهب أحمد أن ذلك لا يجب وأما ظهور الكفين فرواية البخاري صريحة في أنه مر على ظهر الكف قبل الوجه وقوله في الرواية الأخرى وظاهر كفيه يدل على أنه مسح ظاهر كل منهما براحة اليد الأخرى وقال فيها ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه قبل الوجه
وقال أبو محمد فرض الراحتين سقط بإمرار كل واحدة على ظهر
____________________
(21/423)
الكف وهذا إنما يوجب سقوط فرض باطن الراحة وأما باطن الأصابع فعلى ما ذكره سقط مع الوجه
وعلى كل حال فباطن اليدين يصيبهما التراب حين يضرب بهما الأرض وحين يمسح بهما الوجه وظهر الكفين وإن مسح إحداهما بالأخرى فهو ثلاث مرات
ولو كان الترتيب واجبا لوجب أن يمسح باطنهما بعد الوجه وهذا لا يمكن مع القول بضربة واحدة ولو فعل ذلك للزم تكرار مسحهما مرة بعد مرة فسقط لذلك فإن التيمم لا يشرع فيه التكرار بخلاف الوضوء فإنه وإن غسل يديه ابتداء وأخذ بهما الماء لوجهه فهو بعد الوجه يغسلهما إلى المرفقين وهو يأخذ الماء بهما فيتكرر غسلهما لأن الوضوء يستحب فيه التكرار في الجملة لأنه طهارة بالماء ولكن لو لم يغسل كفيه بعد غسل الوجه فهو محل نظر فإنه يغرف بهما الماء وقد قالوا إذا نوى الاغتراف لم يصر الماء مستعملا وإن نوى غسلهما فيه صار مستعملا وإن لم ينو شيئا ففيه وجهان
والصحيح أنه لا يصير مستعملا وإن نوى غسلهما فيه لمجيء السنة بذلك وهذا يقتضي أن غسلهما بنية الاغتراف لا تحصل به طهارتهما بل لا بد من غسل آخر
____________________
(21/424)
والأقوى أن هذا لا يجب بل غسلهما بنية الاغتراف يجزئ عن تكرار غسلهما كما في التيمم
وأيضا فإنه يغسل ذراعيه بيديه فيكون هذا غسلا لباطن اليد
ولو قيل بل بقي غسلهما ابتداء ومع الوجه يسقط فرضهما كما قيل مثل ذلك في التيمم لكان متوجها فإنه قال في الوضوء { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } كما قال في التيمم { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ففي الوضوء أخر ذكر اليد
لكن الرواية التي انفرد بها البخاري تبين أنه مسح ظهر الكفين قبل الوجه وسائر الروايات مجملة تقتضي أنه لما مسح لم يمسح الراحتين بعد الوجه فكذلك ظهر الكفين بل مسح ظهرهما مع بطنهما لأن مسحهما جملة أقرب إلى الترتيب فإن مسح العضو الواحد بعضه مع بعض أولى من تفريق ذلك
وأيضا فتكون الراحتان ممسوحتين مع ظهر الكف والاعتداد بذلك أولى من الاعتداد بمسحهما مع الوجه
وما ذكره بعض الأصحاب من انه يجعل الأصابع للوجه وبطون الراحتين لظهور الكفين خلاف ما جاءت به الأحاديث
____________________
(21/425)
وليس في كلام أحمد ما يدل عليه وهو متعسر أو متعذر وهو بدعة لا أصل لها في الشرع وبطون الأصابع لا تكاد تستوعب الوجه
وإنما احتاجوا إلى هذا ليجعلوا بعض التراب لظاهر الكفين بعد الوجه
فيقال لهم كما أن الراحتين لا يمسحان بعد الوجه بلا نزاع فكذلك ظهر الكفين فإنهم وإن مسحوا ظهر الكفين بالراحتين ببطون الأصابع مسحوا مع الوجه مسح باليدين قبل الوجه كما قال بن عقيل ولهذا اختار المجد أنه لا يجب الترتيب فيه بل يجوز مسح ظهر الكفين قبل الوجه كما دل عليه الحديث الصحيح والحديث الصحيح يدل على أنه يمسح الوجه وظاهر الكفين بذلك التراب وأن مسح ظهر الكفين بما بقي في اليدين من التراب يكفي لظهر الكفين فإن ألفاظ الحديث كلها تتعلق بأنه يمسح وجهه بيديه ومسح اليدين إحداهما بالأخرى لم يجعل بعض باطن اليد للوجه وبعضه للكفين بل بباطن اليدين مسح وجهه ومسح كفيه ومسح إحداهما بالأخرى
وأجاب القاضي ومن وافقه متابعة لأصحاب الشافعي بأنه إذا تيمم لجرح في عضو يكون التيمم فيه عند وجوب غسله فيفصل بالتيمم بين أبعاض الوضوء هذا فعل مبتدع وفيه ضرر عظيم ومشقة لا
____________________
(21/426)
تأتي بها الشريعة وهذا ونحوه إسراف في وجوب الترتيب حيث لم يوجبه الله ورسوله والنفاة يجوزون التنكيس لغير عذر وخيار الأمور أوساطها ودين الله بين الغالي والجافي والله أعلم وسئل
هل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر أم لا
فأجاب يقوم التيمم مقام الطهارة بالماء فما يبيحه الاغتسال والوضوء من الممنوعات يبيحه التيمم وسئل أيضا رحمه الله
عن رجل قد أصابته جنابة وهو في بستان ولم يكن عنده إلا ماء بارد ويخاف الضرر على نفسه باستعماله والحمام بعيد منه بحيث إذا وصل إلى الحمام واغتسل خرج الوقت فهل إذا تيمم للجنابة وتوضأ وصلى في الوقت يلزمه إعادة وهل يأثم بذلك أو يأثم إذا تيمم وهل التيمم يقوم مقام الماء فيجوز له التيمم لنافلة ويصلي بها فريضة أو يصلي فريضتين في وقتين بتيمم واحد
____________________
(21/427)
فأجاب الحمد لله رب العالمين يجب على كل مسلم أن يصلي الصلوات الخمس في مواقيتها وليس لأحد قط أن يؤخر الصلاة عن وقتها لا لعذر ولا لغير عذر لكن العذر يبيح له شيئين يبيح له ترك ما يعجز عنه ويبيح له الجمع بين الصلاتين
فما عجز عنه العبد من واجبات الصلاة سقط عنه قال الله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } { لا تكلف نفس إلا وسعها } وقال لما ذكر آية الطهارة { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } الآية وقد روي في الصحيحين عن النبي أنه قال إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
فالمريض يصلي على حسب حاله كما قال النبي لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب وسقط عنه ما يعجز عنه من قيام وقعود أو تكميل الركوع والسجود ويفعل ما يقدر عليه فإن قدر على الطهارة بالماء تطهر وإذا عجز عن ذلك لعدم الماء أو خوف الضرر باستعماله تيمم وصلى ولا إعادة عليه لما يتركه من القيام والقعود باتفاق العلماء وكذلك لا إعادة إذا صلى بالتيمم باتفاقهم ولو كان في بدنه نجاسة
____________________
(21/428)
لا يمكنه إزالتها صلى بها ولا إعادة عليه أيضا عند عامة العلماء
ولو لم يجد إلا ثوبا نجسا فقيل يصلي عريانا وقيل يصلي ويعيد وقيل يصلي في الثوب النجس ولا يعيد وهو أصح أقوال العلماء
وكذلك المسافر إذا لم يقدر على استعمال الماء صلى بالتيمم وقيل يعيد في الحضر وقيل يعيد في السفر وقيل لا إعادة عليه لا في الحضر ولا في السفر وهو أصح أقوال العلماء فالصحيح من أقوالهم أنه لا إعادة على أحد فعل ما أمر به بحسب الاستطاعة وإنما يعيد من ترك واجبا يقدر عليه مثل من تركه لنسيانه أو نومه كما قال النبي من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك وقد أمر النبي من توضأ وترك لمعة لم يصبها الماء من قدمه يعيد الوضوء والصلاة
وما ترك لجهله بالواجب مثل من كان يصلي بلا طمأنينة ولا يعلم أنها واجبة فهذا قد اختلفوا فيه هل عليه الإعادة بعد خروج الوقت أو لا على قولين معروفين وهما قولان في مذهب أحمد وغيره والصحيح أن مثل هذا لا إعادة عليه فإن النبي قد ثبت عنه في الصحيح انه قال للأعرابي المسيء في
____________________
(21/429)
صلاته اذهب فصل فإنك لم تصل مرتين أو ثلاثا فقال والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني ما يجزيني في صلاتي فعلمه النبي الصلاة بالطمأنينة ولم يأمره بإعادة ما مضى قبل ذلك الوقت مع قوله والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا ولكن أمره أن يعيد تلك الصلاة لأن وقتها باق فهو مأمور بها أن يصليها في وقتها وأما ما خرج وقته من الصلاة فلم يأمره بإعادته مع كونه قد ترك بعض واجباته لأنه لم يكن يعرف وجوب ذلك عليه
وكذلك لم يأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقضي ما تركه من الصلاة لأجل الجنابة لأنه لم يكن يعرف أنه يجوز الصلاة بالتيمم
وكذلك المستحاضة قالت له إني أستحاض حيضة شديدة منكرة تمنعني الصوم والصلاة فأمرها أن تتوضأ لكل صلاة ولم يأمرها بقضاء ما تركته
وكذلك الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لأحدهم الحبال البيض من الحبال السود أكلوا بعد طلوع الفجر ولم يأمرهم بالإعادة فهؤلاء كانوا جهالا بالوجوب فلم يأمرهم بقضاء ما تركوه في حال
____________________
(21/430)
الجهل كما لا يؤمر الكافر بقضاء ما تركه في حال كفره وجاهليته بخلاف من كان قد علم الوجوب وترك الواجب نسيانا فهذا أمره به إذا ذكره
وأمر النائم من حين يستيقظ فإنه حين النوم لم يكن مأمورا بالصلاة فلهذا كان النائم إذا استيقظ قرب طلوع الشمس يتوضأ ويغتسل وإن طلعت الشمس عند جمهور العلماء كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك بخلاف من كان مستيقظا والوقت واسع مثل الذي يكون نائما في بستان أو قرية والماء بارد يضره والحمام بعيد منه إن خرج إليه ذهب الوقت فإنه يتيمم ويصلي في الوقت ولا يؤخر الصلاة بعد خروج الوقت
وكذلك لو كان في المصر وقد تعذر عليه دخول الحمام إما لكونه لم يفتح أو لبعدها عنه أو لكونه ليس معه ما يعطي الحمامي أجرته ونحو ذلك فإنه يصلي بالتيمم لأن الصلاة بالتيمم فرض إذا عجز عن الماء لعدم أو لخوف الضرر باستعماله ولا إعادة على أحد من هؤلاء ففي كثير من الضرر لا إعادة عليه باتفاق المسلمين كالمريض والمسافر وبعض الضرر تنازع فيه العلماء والصحيح أنه لا إعادة على أحد صلى بحسب استطاعته كما أمر
____________________
(21/431)
فمن صور النزاع من عدم الماء في الحضر ومن تيمم لخشية البرد وكذلك سائر من ترك واجبا لعذر نادر غير متصل فإنه تجب عليه الإعادة عند الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ولا تجب عليه الإعادة عند مالك وأكثر العلماء وأحمد في إحدى الروايتين عنه
وإذا فوت الصلاة حتى خرج الوقت بأن يؤخر صلاة الليل إلى النهار والنهار إلى الليل فإنه يأثم بذلك كما قال النبي في الحديث الصحيح من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وقد جوز بعض العلماء تأخير الصلاة في بعض الأوقات كحال المسايفة كقول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين
والذي عليه أكثر العلماء أنه لا يجوز تأخير الصلاة بحال وهو قول مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه لكن يجوز الجمع بين الصلاتين لعذر عند أكثر العلماء كما جمع النبي بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة والجمع في هذين الموضعين ثابت بالسنة المتواترة واتفاق العلماء وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي أنه كان يجمع في السفر إذا جد به السير وأنه صلى بالمدينة ثمانيا جمعا الظهر والعصر وسبعا المغرب والعشاء أراد بذلك أن لا يحرج أمته لقوله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج }
____________________
(21/432)
فلهذا كان مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء كطائفة من أصحاب مالك وغيره أنه يجوز الجمع بين الصلاتين إذا كان عليه حرج في التفريق فيجمع بينهما المريض وهو مذهب مالك وطائفة من أصحاب الشافعي ويجوز الجمع بين المغرب والعشاء في المطر عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وقال أحمد يجمع إذا كان له شغل وقال القاضي أبو يعلى إذا كان له عذر يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز الجمع
فمذهب فقهاء الحجاز وفقهاء الحديث كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثو ر وبن المنذر وغيرهم يجوز الجمع بين الصلاتين في الجملة ولا يجوز التفويت بأن يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار
ومذهب طائفة من فقهاءالكوفة كأبي حنيفة وغيره أنه لا يجوز الجمع إلا بعرفة ومزدلفة وكذلك إذا تعذر فعلها في الوقت أخرها عن الوقت وقول من أمر بالجمع بين الصلاتين من غير تفويت أرجح من قول من أمر بالتفويت ولم يأمر بالجمع فإن الكتاب والسنة يدلان على أن الله أمر بفعل الصلاة في وقتها وأمر بالمحافظة عليها كما قال تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } هذه نزلت
____________________
(21/433)
ناسخة لتأخير الصلاة يوم الخندق وقال النبي صلوا الصلاة لوقتها
وقد دل الكتاب والسنة على أن المواقيت خمسة في حال الاختيار وهي ثلاثة في حال العذر ففي حال العذر إذا جمع بين الصلاتين بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فإنما صلى الصلاة في وقتها لم يصل واحدة بعد وقتها ولهذا لم يجب عليه عند أكثر العلماء أن ينوي الجمع ولا ينوي القصر وهذا قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في نصوصه المعروفة وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز
ولهذا كان عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد إذا طهرت الحائض في آخر النهار صلت الظهر والعصر جميعا وإذا طهرت في آخر الليل صلت المغرب والعشاء جميعا كما نقل ذلك عن عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وبن عباس لأن الوقت مشترك بين الصلاتين في حال العذر فإذا طهرت في آخر النهار فوقت الظهر باق فتصليها قبل العصر وإذا طهرت في آخر الليل فوقت المغرب باق في حال العذر فتصليها قبل العشاء
ولهذا ذكر الله المواقيت تارة خمسا ويذكرها ثلاثا تارة
____________________
(21/434)
كقوله { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } الآية وهو وقت المغرب والعشاء وكذلك قال الله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر } والدلوك هو الزوال وغسق الليل هو اجتماع ظلمة الليل وهذا يكون بعد مغيب الشفق فأمر الله بالصلاة من الدلوك إلى الغسق فرض في ذلك الظهر والعصر والمغرب والعشاء ودل ذلك على أن هذا كله وقت الصلاة فمن الدلوك إلى المغرب وقت الصلاة ومن المغرب إلى غسق الليل وقت الصلاة وقال { وقرآن الفجر } لأن الفجر خصت بطول القراءة فيها ولهذا جعلت ركعتين في الحضر والسفر فلا تقصر ولا تجمع إلى غيرها فإنه عوض بطول القراءة فيها عن كثرة العدد فصل
وأما التيمم لكل صلاة ولوقت كل صلاة ولا يصلي الفرض بالتيمم للنافلة لأن التيمم طهارة ضرورية والحكم المقدر بالضرورة مقدر بقدرها فلا يتيمم قبل الوقت ولا يبقى بعده وهو مبيح للصلاة لا رافع للحدث لأنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله من غير تجدد حدث فعلم أن الحدث كان باقيا وإنما أبيح للضرورة
____________________
(21/435)
فلا يستبيح إلا ما نواه فهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد
وقيل بل التيمم يقوم مقام الماء مطلقا يستبيح به كما يستباح بالماء ويتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة كما أنه إذا توضأ لنافلة صلى به الفريضة وهذا قول كثير من أهل العلم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية وقال أحمد هذا هو القياس
وهذا القول هو الصحيح وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار فإن الله جعل التيمم مطهرا كما جعل الماء مطهرا فقال تعالى { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } الآية فأخبر تعالى أنه يريد أن يطهرنا بالتراب كما يطهرنا بالماء
وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال فضلنا على الناس بخمس جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وأحلت لنا الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وفي لفظ فأيما رجل أدركته الصلاة من أمتي فعنده مسجده وطهوره
____________________
(21/436)
وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه قال فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها لنا طهورا
فقد بين أن الله جعل الأرض لأمته طهورا كما جعل الماء طهورا
وعن أبي ذر قال قال النبي الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجدت الماء فامسسه بشرتك فإن ذلك خير قال الترمذي حديث حسن صحيح فأخبر أن الله جعل الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين
فمن قال أن التراب لا يطهر من الحدث فقد خالف الكتاب والسنة وإذا كان مطهرا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيا مع أن الله طهر المسلمين بالتيمم من الحدث فالتيمم رافع للحدث مطهر لصاحبه لكن رفع موقت إلى أن يقدر على استعمال الماء فإنه بدل عن الماء فهو مطهر ما دام الماء متعذرا كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها وكان ملك صاحبها ملكا مؤقتا إلى ظهور المالك فإنه
____________________
(21/437)
كان بدلا عن المالك فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها وما ثبت بنص أو إجماع لا يطلب له نظير يقاس به وإنما يطلب النظير لما لا نعلمه إلا بالقياس والاعتبار فيحتاج أن نعتبره بنظير وأما ما شرعه الله ورسوله فعلينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نطلب لذلك نظيرا مع أن الاعتبار يوافق النص كما قال أحمد القياس أن تجعل التراب كالماء
وعلى هذا القول الصحيح يتيمم قبل الوقت إن شاء ويصلي ما لم يحدث أو يقدر على استعمال الماء وإذا تيمم لنفل صلى به فريضة ويجمع بالتيمم الواحد بين فرضين ويقضي به الفائت
وأصحاب القول الآخر احتجوا بآثار منقولة عن بعض الصحابة وهي ضعيفة لا تثبت ولا حجة في شيء منها ولو ثبتت وقول القائل إنها طهارة ضرورية فتقدر بقدر الحاجة قيل له نعم والإنسان محتاج أن لا يزال على طهارة فيتطهر قبل الوقت فإنه محتاج إلى زيادة الثواب ولهذا يصلي النافلة بالتيمم باتفاق المسلمين وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه تيمم لرد السلام في الحضر وقال إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر فدل على أن التيمم يكون مستحبا تارة وواجبا أخرى أي يتيمم في وقت لا يكون التيمم واجبا عليه أن يتيمم وإن كان شرطا للصلاة والتيمم
____________________
(21/438)
قبل الوقت مستحب كما أن الوضوء قبل الوقت مستحب
وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته كالجنازة وصلاة العيد وغيرهما مما يخاف فوته فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة كما أن صلاة التطوع بالتيمم خير من تفويته ولهذا يتيمم للتطوع من كان له ورد في الليل يصليه وقد أصابته جنابة والماء بارد يضره فإذا تيمم وصلى التطوع وقرأ القرآن بالتيمم كان خيرا من تفويت ذلك
فقول القائل إنه حكم مقيد بالضرورة فيقدر بقدرها إن أراد به أن لا يفعل إلا عند تعذر الماء فهو مسلم وإن أراد به أنه لا يجوز التيمم إلا إذا كان التيمم واجبا فقد غلط فإن هذا خلاف السنة وخلاف إجماع المسلمين بل يتيمم للواجب ويتيمم للمستحب كصلاة التطوع وقراءة القرآن المستحبة ومس المصحف المستحب
والله قد جعله طهورا للمسلمين عند عدم الماء فلا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع الله عليهم وقد أراد رفع الحرج عن الأمة فليس لأحد أن يجعل فيه حرجا كما فعله طائفة من الناس أثبتوا فيه من الحرج ما هو معلوم
ولهذا كان الصواب أنه يجوز التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين
____________________
(21/439)
ولا يجب فيه ترتيب بل إذا مسح وجهه بباطن راحتيه أجزأ ذلك عن الوجه والراحتين ثم يمسح ظهور الكفين بعد ذلك فلا يحتاج أن يمسح راحتيه مرتين وعلى هذا دلت السنة وبسط هذه المسائل في موضع آخر والله أعلم وسئل شيخ الإسلام رحمه الله
عن الرجل إذا لم يجد ماء أو تعذر عليه استعماله لمرض أو يخاف من الضرر من شدة البرد وأمثال ذلك فهل يتيمم أم لا
فأجاب التيمم جائز إذا عدم الماء وخاف المرض باستعماله كما نبه الله تعالى على ذلك بذكر المريض وذكر من لم يجد الماء فمن كان الماء يضره بزيادة في مرضه لأجل جرح به أو مرض أو لخشية البرد ونحو ذلك فإنه يتيمم سواء كان جنبا أو محدثا ويصلي
وإذا جاز له الصلاة جاز له الطواف وقراءة القرآن ومس المصحف واللبث في المسجد ولا إعادة عليه إذا صلى سواء كان في الحضر أو في السفر في أصح قولي العلماء
فإن الصحيح أن كل من فعل ما أمر به بحسب قدرته من غير
____________________
(21/440)
تفريط منه ولا عدوان فلا إعادة عليه لا في الصلاة ولا في الصيام ولا الحج ولم يوجب الله على العبد أن يصلي الصلاة الواحدة مرتين ولا يصوم شهرين في عام ولا يحج حجين إلا أن يكون منه تفريط أو عدوان فإن نسي الصلاة كان عليه أن يصليها إذا ذكرها وكذلك إذا نسي بعض فرائضها كالطهارة والركوع والسجود وأما إذا كان عاجزا عن المفروض كمن صلى عريانا لعدم السترة أو صلى بلا قراءة لانعقاد لسانه أو لم يتم الركوع والسجود لمرضه ونحو ذلك فلا إعادة عليه ولا فرق بين العذر النادر والمعتاد وما يدوم ومالا يدوم
وقد اتفق المسلمون على أن المسافر إذا عدم الماء صلى بالتيمم ولا إعادة عليه وعلى أن العريان إذا لم يجد سترة صلى ولا إعادة عليه وعلى أن المريض يصلي بحسب حاله كما قال النبي لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ولا إعادة عليه وسئل رحمه الله
عن رجل يصبح جنبا وليس عنده ما يدخل به الحمام ولا يمكنه أن يغتسل في بيته من أجل البرد فهل له أن يتيمم ويصلي
____________________
(21/441)
ويقرأ القرآن أم لا وهل إذا فعل ذلك تجب عليه الإعادة أم لا وإذا كان عنده ما يرهنه على أجرة الحمام فهل يجب عليه ذلك أم لا
فأجاب الحمد لله يجوز للرجل إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله وإن كان جنبا فإذا خشي إذا اغتسل بالماء البارد أن يضره ولا يمكنه الاغتسال بالماء الحار في بيت ولا حمام ولا غيرهما جاز له التيمم ولا إعادة على الصحيح وإن أمكنه دخول الحمام بجعل وجب عليه ذلك إذا كان واجدا لأجرة الحمام من غير إجحاف في ماله كما يجب شراء الماء للطهارة وإذا كان ممن يمكنه أن يرهن عند الحمامي الطابية والميزب ويوفيه في أثناء يوم ونحو ذلك فعله وإن كان في أداء أجرة الحمام ضرر كنقص نفقة عياله وقضاء دينه صلى بالتيمم والله أعلم وسئل
عن رجل وقع عليه غسل ولم يكن معه في ذلك الوقت ما يدخل به الحمام ويتعذر عليه الماء البارد لشدة برده ثم إنه تيمم وصلى الفريضة وله في الجامع وظيفة فقرأ فيها ثم بعد ذلك دخل الحمام هل يأثم أم لا
____________________
(21/442)
فأجاب الحمد لله رب العالمين لا يأثم بذلك بل فعل ما أمر به فإن من خاف إذا استعمل الماء البارد أن يحصل له صداع أو نزلة أو غير ذلك من الأمراض ولم يمكن الاغتسال بالماء الحار فإنه يتيمم وإن كان جنبا ويصلي عند جماهير علماء الإسلام كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم حتى لو كان له ورد بالليل وأصابته جنابة والماء بارد يضره فإنه يتيمم ويصلي ورده التطوع ويقرأ القرآن في الصلاة وخارج الصلاة ولا يفوت ورده لتعذر الاغتسال بالماء
وهل عليه إعادة الفريضة على قولين
أحدهما لا إعادة عليه وهو قول مالك وأحمد في إحدى الروايتين
والثاني عليه الإعادة وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى هذا إذا كان في الحضر وأما المسافر فهو أولى أن لا يعيد وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه وكل من جازت له الصلاة بالتيمم جازت له القراءة واللبث في المسجد بطريق الأولى
والصحيح أنه لا إعادة عليه ولا على أحد صلى على حسب
____________________
(21/443)
استطاعته وسواء كانت الجنابة من حلال أو حرام لكن فاعل الحرام عليه جنابة ونجاسة الذنب فإن تاب وتطهر بالماء أحبه الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وإن تطهر ولم يتب تطهر من الجنابة ولم يتطهر من نجاسة الذنب فإن تلك لا يزيلها إلا التوبة
وإذا لم يكن معه ما يعطي الحمامي جاز له التيمم ويصلي بلا ريب وإذا لم يكن ممن ينظره الحمامي ولم يجد ما يرهنه عنده ولم يقبل منه فهل عليه أن يدخل بالأجرة المؤجلة فيه قولان هما وجهان في مذهب أحمد
والأظهر أنه إذا كان عادة إظهار الحمامي له أن يغتسل في الحمام كالعادة وإن منعه الحمامي من الدخول من غير ضرر من أن يوفيه حقه لبغض الحمامي ونحو ذلك دخل بغير اختيار الحمامي وأعطاه أجرته وإن لم يكن معه أجرة فمنعه لكونه لم يوفه حقه في الحال ولا هو ممن يعرفه الحمامي لينظره فهذا ليس له أن يدخل إلا برضا الحمامي وإن طابت نفس الحمامي بأخذ ماء في الإناء ولم تطب نفسه بأن يتطهر في دهاليز أبواب الحمام جاز له أن يفعل ما تطيب به نفس الحمامي دون ما لا تطيب إلا بعوض المثل
وإنما يجب عليه أن يشتري الماء البارد والحار ويعطي الحمامي
____________________
(21/444)
أجرة الدخول إذا كان الماء يبذل بثمن المثل أو بزيادة لا يتغابن الناس بمثلها مع قدرته على ذلك
فإن كان محتاجا إلى ذلك لنفقته أو نفقة عياله أو وفاء دينه الذي يطالب به كان صرف ذلك إلى ما يحتاج إليه من نفقة أو قضاء دين مقدما على صرف ذلك في عوض الماء كما لو احتاج إلى الماء لشرب نفسه أو دوابه فإنه يصرفه في ذلك ويتيمم وإن كانت الزيادة على ثمن المثل لا تجحف بماله ففي وجوب بذل العوض في ذلك قولان في مذهب أحمد بن حنبل وغيره وأكثر العلماء على أنه لا يجب والله سبحانه أعلم وسئل
عن المرأة يجامعها بعلها ولا تتمكن من دخول الحمام لعدم الأجرة وغيرها فهل لها أن تتيمم وهل يكره لبعلها مجامعتها والحالة هذه وكذلك المرأة يدخل عليها وقت الصلاة ولم تغتسل وتخاف إن دخلت الحمام أن يفوتها الوقت فهل لها أن تصلي بالتيمم أو تصلي في الحمام
فأجاب الحمد لله الجنب سواء كان رجلا أو امرأة فإنه إذا
____________________
(21/445)
عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله فإن كان لا يمكنه دخول الحمام لعدم الأجرة أو لغير ذلك فإنه يصلي بالتيمم ولا يكره للرجل وطء امرأته كذلك بل له أن يطأها كما له أن يطأها في السفر ويصليا بالتيمم
وإذا أمكن الرجل أو المرأة أن يغتسل ويصلي خارج الحمام فعلا ذلك فإن لم يمكن ذلك مثل أن لا يستيقظ أول الفجر وإن اشتغل بطلب الماء خرج الوقت وإن طلب حطبا يسخن به الماء أو ذهب إلى الحمام فات الوقت فإنه يصلي هنا بالتيمم عند جمهور العلماء إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد قالوا يشتغل بتحصيل الطهارة وإن فات الوقت وهكذا قالوا في اشتغاله بخياطة اللباس وتعلم دلائل القبلة ونحو ذلك
وهذا القول خطأ فإن قياس هذا القول أن المسافر يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت بالوضوء وأن العريان يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت باللباس وهذا خلاف إجماع المسلمين بل على العبد أن يصلي في الوقت بحسب الإمكان وما عجز عنه من واجبات الصلاة سقط عنه
وأما إذا استيقظ آخر الوقت أو إن اشتغل باستقاء الماء من
____________________
(21/446)
البئر خرج الوقت أو إن ذهب إلى الحمام للغسل خرج الوقت فهذا يغتسل عند جمهور العلماء ومالك رحمه الله يقول بل يصلي بالتيمم محافظة على الوقت والجمهور يقولون إذا استيقظ آخر الوقت فهو حينئذ مأمور بالصلاة فالطهارة والوقت في حقه من حين استيقظ وهو ما يمكنه فعل الصلاة فيه وقد قال النبي من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فالوقت المأمور بالصلاة فيه في حق النائم هو إذا استيقظ لا ما قبل ذلك وفي حق الناسي إذا ذكر والله أعلم
وأما إذا كانت المرأة أو الرجل يمكنه الذهاب إلى الحمام لكن إن دخل لا يمكنه الخروج حتى يفوت الوقت إما لكونه مقهورا مثل الغلام الذي لا يخليه سيده يخرج حتى يصلي ومثل المرأة التي معها أولادها فلا يمكنها الخروج حتى تغسلهم ونحو ذلك فهؤلاء لا بد لهم من أحد أمور
إما أن يغتسلوا ويصلوا في الحمام في الوقت وإما أن يصلوا خارج الحمام بعد خروج الوقت وإما أن يصلوا بالتيمم خارج الحمام وبكل قول من هذه الأقوال يفتي طائفة لكن الأظهر أنهم يصلون بالتيمم خارج الحمام لأن الصلاة في الحمام منهي عنها وتفويت الصلاة حتى يخرج الوقت أعظم من ذلك ولا يمكنه الخروج من هذين النهيين إلا بالصلاة
____________________
(21/447)
بالتيمم في الوقت خارج الحمام
وصار هذا كما لو لم يمكنه الصلاة إلا في موضع نجس في الوقت أو في موضع طاهر بعد الوقت إذا اغتسل أو يصلي بالتيمم في مكان طاهر في الوقت فهذا أولى لأن كلا من ذينك منهي عنه
وتنازع الفقهاء فيمن حبس في موضع نجس وصلى فيه هل يعيد على قولين
أصحهما أنه لا إعادة عليه بل الصحيح الذي عليه أكثر العلماء أنه إن كان قد صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان فلا إعادة عليه سواء كان العذر نادرا أو معتادا فإن الله لم يوجب على العبد الصلاة 2 المعينة مرتين إلا إذا كان قد حصل منه إخلال بواجب أو فعل محرم فأما إذا فعل الواجب بحسب الإمكان فلم يأمره مرتين ولا أمر الله أحدا أن يصلي الصلاة ويعيدها بل حيث أمره بالإعادة لم يأمره بذلك ابتداء كمن صلى بلا وضوء ناسيا فإن هذا لم يكن مأمورا بتلك الصلاة بل اعتقاد أنه مأمور خطأ منه وإنما أمره الله أن يصلي بالطهارة فإذا صلى بغير طهارة كان عليه الإعادة كما أمر النبي الذي توضأ وترك موضع ظفر من قدمه لم يصبه الماء أن يعيد الوضوء والصلاة وكما أمر المسيء في صلاته أن يعيد الصلاة وكما أمر
____________________
(21/448)
المصلي خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة
فأما العاجز عن الطهارة أو الستارة أو استقبال القبلة أو عن اجتناب النجاسة أو عن إكمال الركوع والسجود أو عن قراءة الفاتحة ونحو هؤلاء ممن يكون عاجزا عن بعض واجباتها فإن هذا يفعل ما قدر عليه ولا إعادة عليه كما قال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وكما قال النبي إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وسئل
عن المرأة إذا كانت بعيدة عن الحمام وحصل لها جنابة وتخشى من الغسل في البيت من البرد هل لها أن تتيمم وتصلي وإذا أراد زوجها الجماع وتخاف من البرد عليه وعليها هل له أن يتيمم أو يغتسل مع القدرة وتتيمم هي أم يترك الجماع فإذا جامعها وأرادت الدخول إلى الحمام للتطهر هل تتيمم وتجمع بين الصلاتين أو تصلي في الحمام بالغسل وهل لها إذا طهرت من الحيض ولم تغتسل أن تتيمم ويجامعها زوجها أم لا وهل يحتاج التيمم للجنابة إلى وضوء
____________________
(21/449)
أم لا وإذا احتاج هل يقدم الوضوء أم التيمم وهل يحتاج التيمم لكل صلاة أم يصلي الصلوات بتيمم واحد وإذا طهرت المرأة آخر النهار أو آخر الليل وعجزت عن الغسل للبرد وغيره هل تتيمم وتصلي وهل تقضي صلاة اليوم الذي طهرت فيه أو الليلة
ومن أصابه جرح أو كسر وعصبه هل يمسح على العصابة أم يتيمم عن الوضوء للمجروح وبعض الأعضاء يعجز عن إمرار الماء عليه بسبب الجرح أو الكسر وهل يترك الجماع في هذه الحالة أو يفعله ويتيمم ولو علم أن مدة المداواة تطول فيطول تيممه وهل للمرأة أيضا منع الزوج من الجماع إذا كانت لا تقدر على الغسل أم تطيعه وتتيمم ومن وجد الحمام بعيدا متى وصل إليه خرج الوقت هل يتيمم أم يذهب إليه ولو خرج الوقت ومن خاف فوات الجماعة إذا تطهر بالماء هل يتيمم ليحصل على الجماعة أم لا ومن معه رفقة يريدون الجمع فهل الأفضل له الجمع معهم لتحصيل الجماعة أم يصلي وحده في الوقت وقد يكون هو إمامهم فأيما أفضل في حقه جمعا أم الصلاة وحده في وقت كل صلاة ومن كان له صناعة يعملها هو وصناع آخر ويشق عليه الصلاة في وقتها ويبطل الصناع هل يجمع بين الصلاتين وكذلك إذا كان في حراثة وزراعة ويشق عليه طلب الماء هل يتيمم ويصلي ومن يتيمم
____________________
(21/450)
هل يقرأ القرآن في غير الصلاة ويصلي ورده بالليل وهل للمرأة الجنب أو الحائض أن تقرأ على ولدها الصغير ومن لم يجد ترابا هل يتيمم على البساط أو الحصير إذا كان فيهما غبار
فأجاب الحمد لله رب العالمين من أصابته جنابة من احتلام أو جماع حلال أو حرام فعليه أن يغتسل ويصلي فإن تعذر عليه الاغتسال لعدم الماء أو لتضرره باستعماله مثل أن يكون مريضا يزيد الاغتسال في مرضه أو يكون الهواء باردا وإن اغتسل خاف أن يمرض بصداع أو زكام أو نزلة فإنه يتيمم ويصلي سواء كان رجلا أو امرأة وليس له أن يؤخر الصلاة عن وقتها وليس للمرأة أن تمنع زوجها من الجماع بل له أن يجامعها فإن قدرت على الاغتسال وإلا تيممت
وكذلك الرجل إن قدر على الاغتسال وإلا تيمم وله أن يجامعها قبل دخول الحمام فإن قدرت على أن تغتسل وتصلي خارج الحمام فعلت وإن خافت أن تفوتها الصلاة استترت في الحمام وصلت ولا تفوت الصلاة والجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة بالماء خير من أن يفرق بين الصلاتين بالتيمم كما أمر النبي المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل واحد وجعل ذلك خيرا من التفريق بوضوء
____________________
(21/451)
وأيضا فالجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية فلأن يكون مشروعا لتكميل الصلاة أولى والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت والنبي جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر لأجل تكميل الوقوف واتصاله وإلا فقد كان يمكنه أن ينزل فيصلي فجمع بين الصلاتين لتكميل الوقوف فالجمع لتكميل الصلاة أولى
وأيضا فإنه جمع بالمدينة للمطر وهو نفسه لم يكن يتضرر بالمطر بل جمع لتحصيل الصلاة في الجماعة والجمع لتحصيل الجماعة خير من التفريق والانفراد والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في الحمام فإن أعطان الإبل والحمام نهى النبي عن الصلاة فيهما والجمع مشروع بل قد قال النبي من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ثم إنه لما نام عن الصلاة انتقل وقال هذا واد حضرنا فيه الشيطان فأخر الصلاة عن الوقت المأمور به لكون البقعة حضر فيها الشيطان وتلك البقعة تكره الصلاة فيها وتجوز لكن يستحب الانتقال عنها وقد نص على ذلك أحمد بن حنبل وغيره
والحمام وأعطان الإبل مسكن الشياطين ولهذا حرم الصلاة فيها والجمع مشروع للمصلحة الراجحة فإذا جمع لئلا يصلي في أماكن
____________________
(21/452)
الشياطين كان قد أحسن والمرأة إذا لم يكن يمكنها الجمع بطهارة الماء جمعت بطهارة التيمم فإن الصلاة بالتيمم في الوقت المشروع خير من التفريق ومن الصلاة في الأماكن المنهي عنها وإذا أمكن الرجل والمرأة أن يتوضآ ويتيمما فعلا فإن اقتصرا على التيمم أجزأهما في إحدى الروايتين للعلماء
ومذهب أبي حنيفة ومالك لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التيمم بين الأصل والبدل بل إما هذا وإما هذا ومذهب الشافعي وأحمد بل يغتسل بالماء ما أمكنه ويتيمم للباقي وإذا توضأ وتيمم فسواء قدم هذا أو هذا لكن تقديم الوضوء أحسن ويجوز أن يصلي الصلوات بتيمم واحد كما يجوز بوضوء واحد وغسل واحد في أظهر قولي العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين لقول النبي الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير
والمرأة إذا طهرت من الحيض فإن قدرت على الاغتسال وإلا تيممت وصلت فإن طهرت في آخر النهار صلت الظهر والعصر وإن طهرت في آخر الليل صلت المغرب والعشاء ولا يقضي أحد ما صلاه بالتيمم وإذا كان الجرح مكشوفا وأمكن مسحه بالماء فهو خير من التيمم
____________________
(21/453)
وكذلك إذا كان معصوبا أو كسر عظمه فوضع عليه جبيرة فمسح ذلك بالماء خير من التيمم والمريض والجريح والمكسور إذا أصابته جنابة بجماع وغيره والماء يضره يتيمم ويصلي أو يمسح على الجبيرة ويغسل سائر بدنه إن أمكنه ويصلي
وليس للمرأة أن تمنع زوجها الجماع بل يجامعها فإن قدرت على الاغتسال وإلا تيممت وصلت وإذا طهرت من الحيض لم يجامعها إلا بعد الاغتسال وإلا تيممت ووطئها زوجها ويتيمم الواطئ حيث يتيمم للصلاة
وإذا دخل وقت الصلاة كطلوع الفجر ولم يمكنه إذا اغتسل أن يصلي حتى تطلع الشمس لكون الماء بعيدا أو الحمام مغلوقة أو لكونه فقيرا وليس معه أجرة الحمام فإنه يتيمم ويصلي في الوقت ولا يؤخر الصلاة حتى يفوت الوقت وأما إذا استيقظ وقد ضاق الوقت عن الاغتسال فإن كان الماء موجودا فهذا يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس عند أكثر العلماء فإن الوقت في حقه من حين استيقظ بخلاف اليقظان فإن الوقت في حقه من حين طلوع الفجر
ولا بد من الصلاة في وقتها ولا يجوز تأخيرها عن الوقت لأحد أصلا لا بعذر ولا بغير عذر لكن يصلي في الوقت بحسب الإمكان
____________________
(21/454)
فيصلي المريض بحسب حاله في الوقت كما قال النبي لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب فيصلي في الوقت قاعدا ولا يصلي بعد خروج الوقت قائما وكذلك العراة كالذين انكسرت بهم السفينة يصلون في الوقت عراة ولا يؤخرونها ليصلوا في الثياب بعد الوقت
وكذلك من اشتبهت عليه القبلة فيصلي في الوقت بالاجتهاد والتقليد ولا يؤخرها ليصلي بعد الوقت باليقين
وكذلك من كان عليه نجاسة في بدنه أو ثوبه لا يمكنه إزالتها حتى تفوت الصلاة فيصلي بها في الوقت ولا يفوت الصلاة ليصلي طاهرا
وكذلك من حبس في مكان نجس أو كان في حمام أو غير ذلك مما نهي عن الصلاة فيه ولا يمكنه الخروج منه حتى تفوت الصلاة فإنه يصلي في الوقت ولا يفوت الصلاة ليصلي في غيره فالصلاة في الوقت فرض بحسب الإمكان والاستطاعة وإن كانت صلاة ناقصة حتى الخائف يصلي صلاة الخوف في الوقت بحسب الإمكان ولا يفوتها ليصلي صلاة أمن بعد خروج الوقت حتى في حال المقاتلة يصلي ويقاتل ولا يفوت الصلاة ليصلي بلا قتال فالصلاة المفروضة في الوقت وإن كانت ناقصة خير من تفويت الصلاة بعد الوقت وإن كانت كاملة
____________________
(21/455)
بل الصلاة بعد تفويت الوقت عمدا لا تقبل من صاحبها ولا يسقط عنه إثم التفويت المحرم ولو قضاها باتفاق المسلمين فصل
وأما إذا خاف فوات الجنازة أو العيد أو الجمعة ففي التيمم نزاع والأظهر أنه يصليها بالتيمم ولا يفوتها وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجماعة الواجبة إلا بالتيمم فإنه يصليها بالتيمم
ومذهب أحمد في إحدى الروايتين أنه يجوز التيمم للجنازة مع أنه لا يختلف قوله في أنه يجوز أن يعيدها بوضوء فليست العلة على مذهبه تعذر الإعادة بخلاف أبي حنيفة فإنه إنما علل ذلك بتعذر الإعادة وفرق بين الجنازة وبين العيد والجمعة وأحمد لا يعلل بذلك فكيف والجمعة لا تعاد وإنما تصلى ظهرا وليست صلاة الظهر كالجمعة
وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجمعة الواجبة إلا بالتيمم فإنه يصليها بالتيمم والجمع بين الصلاتين حيث يشرع في الصلاة في وقتها ليس بمفوت ولا يشترط للقصر ولا للجمع نية عند أكثر العلماء وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وهو إحدى القولين في مذهب أحمد بل عليه يدل كلامه وهو المنصوص عنه
____________________
(21/456)
والقول الآخر اختيار بعض أصحابه وهو قول الشافعي
والجمع بين الصلاتين يجوز لعذر فالمسافر إذا جد به السير جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء والمسافرون إذا غلب عليهم النعاس وشق عليهم انتظار العشاء جمعوا بينها وبين المغرب ولو كان الإمام لا ينام فصلاته بهم إماما جامعا بين الصلاتين خير من صلاته وحده غير جامع
والحراث إذا خاف إن طلب الماء يسرق ماله أو يتعطل عمله الذي يحتاج إليه صلى بالتيمم وإن أمكنه أن يجمع بين الصلاتين بوضوء فهو خير من أن يفرق بينهما وكذلك سائر الأعذار الذين يباح لهم التيمم إذا أمكنهم الجمع بينهما بطهارة الماء فهو خير من التفريق بينهما بطهارة التيمم والجمع بين الصلاتين لمن له عذر كالمطر والريح الشديدة الباردة ولمن به سلس البول والمستحاضة فصلاتهم بطهارة كاملة جمعا بين الصلاتين خير من صلاتهم بطهارة ناقصة مفرقا بينهما
والمريض أيضا له أن يجمع بين الصلاتين لا سيما إذا كان مع الجمع صلاته أكمل إما لكمال طهارته وإما لإمكان القيام ولو كانت الصلاتان سواء لكن إذا فرق بينهما زاد مرضه فله الجمع بينهما
____________________
(21/457)
وقال أحمد بن حنبل يجوز الجمع إذا كان لشغل قال القاضي أبو يعلى الشغل الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة وقال الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي مبينا عن هؤلاء وهو المريض ومن له قريب يخاف موته ومن يدافع أحدا من الأخبثين ومن يحضره طعام وبه حاجة إليه ومن يخاف من سلطان يأخذه أو غريم يلازمه ولا شيء معه يعطيه والمسافر إذا خاف فوات القافلة ومن يخاف ضررا في ماله ومن يرجو وجوده ومن يخاف من غلبة النعاس حتى يفوته الوقت ومن يخاف من شدة البرد وكذلك في الليلة المظلمة إذا كان فيها وحل فهؤلاء يعذروا وإن تركوا الجمعة والجماعة كذا حكاه بن قدامة في مختصر الهداية فإنه يبيح لهم الجمع بين الصلاتين على ما قاله الإمام أحمد بن حنبل والقاضي أبو يعلى
والصناع والفلاحون إذا كان في الوقت الخاص مشقة عليهم مثل أن يكون الماء بعيدا في فعل صلاة وإذا ذهبوا إليه وتطهروا تعطل بعض العمل الذي يحتاجون إليه فلهم أن يصلوا في الوقت المشترك فيجمعوا بين الصلاتين وأحسن من ذلك أن يؤخروا الظهر إلى قريب العصر فيجمعوها ويصلوها مع العصر وإن كان ذلك جمعا في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر ويجوز مع بعد الماء أن يتيمم ويصلي في الوقت الخاص والجمع بطهارة الماء أفضل والحمد لله وحده
____________________
(21/458)
فصل
كل من جاز له الصلاة بالتيمم من جنب أو محدث جاز له أن يقرأ القرآن خارج الصلاة ويمس المصحف ويصلي بالتيمم النافلة والفريضة ويرقي بالقرآن وغير ذلك فإن الصلاة أعظم من القراءة فمن صلى بالتيمم كانت قراءته بالتيمم أولى والقراءة خارج الصلاة أوسع منها في الصلاة فإن المحدث يقرؤه خارج الصلاة وكل ما يفعله بطهارة الماء في الوضوء والغسل يفعله بطهارة التيمم إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله
وإذا أمكن الجنب الوضوء دون الغسل فتوضأ وتيمم عن الغسل جاز وإن تيمم ولم يتوضأ ففيه قولان قيل يجزيه عن الغسل وهو قول مالك وأبي حنيفة وقيل لا يجزيه وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل
وإذا تيمم بالتراب الذي تحت حصير بيته جاز وكذلك إذا كان هناك غبار لاصق ببعض الأشياء وتيمم بذلك التراب اللاصق جاز وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فللعلماء فيه ثلاثة أقوال
____________________
(21/459)
قيل يجوز لهذا ولهذا وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد
وقيل لا يجوز للجنب ويجوز للحائض إما مطلقا أو إذا خافت النسيان وهو مذهب مالك وقول في مذهب أحمد وغيره فإن قراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي فيه شيء غير الحديث المروي عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا رواه أبو داود وغيره وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث
وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين أحاديث ضعيفة بخلاف روايته عن الشاميين ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله ولم يكن ينههن عن قراءة القرآن كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء بل أمر الحيض أن يخرجن يوم العيد فيكبرون بتكبير المسلمين وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت تلبي وهي حائض وكذلك بمزدلفة ومنى وغير ذلك من المشاعر
وأما الجنب فلم يأمره أن يشهد العيد ولا يصلي ولا أن يقضي شيئا من المناسك لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له في
____________________
(21/460)
ترك الطهارة بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر ولهذا ذكر العلماء ليس للجنب أن يقف بعرفة ومزدلفة ومنى حتى يطهر وإن كانت الطهارة ليست شرطا في ذلك لكن المقصود أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر الله ودعائه مع كراهة ذلك للجنب
فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه لأجل العذر وإن كانت عدتها أغلظ فكذلك قراءة القرآن لم ينهها الشارع عن ذلك
وإن قيل إنه نهي الجنب لأن الجنب يمكنه أن يتطهر ويقرأ بخلاف الحائض تبقى حائضا أياما فيفوتها قراءة القرآن تفويت عبادة تحتاج إليها مع عجزها عن الطهارة وليست القراءة كالصلاة فإن الصلاة يشترط لها الطهارة مع الحدث الأكبر والأصغر والقراءة تجوز مع الحدث الأصغر بالنص واتفاق الأئمة
والصلاة يجب فيها استقبال القبلة واللباس واجتناب النجاسة والقراءة لا يجب فيها شيء من ذلك بل كان النبي يضع رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها وهي حائض وهو حديث صحيح وفي صحيح مسلم أيضا يقول الله عز وجل للنبي
____________________
(21/461)
إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا فتجوز القراءة قائما وقاعدا وماشيا ومضطجعا وراكبا وسئل
عن رجل أرمد فلحقته جنابة ولا يقدر يتطهر بماء مسخن ولا بارد ويقدر على الوضوء فما يصنع
فأجاب الحمد لله إذا كان به رمد فإنه يغسل ما استطاع من بدنه وما يضره الماء كالعين وما يقاربها ففيه قولان للعلماء
أحدهما يتيمم وهو مذهب الشافعي وأحمد
والثاني ليس عليه تيمم وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لكن غسل أكثر البدن الذي يمكن غسله واجب باتفاقهم والله أعلم وسئل
عن رجل باشر امرأته وهو في عافية فهل له أن يصبر بالتطهر إلى أن يتضاحى النهار أم يتيمم ويصلي أفتونا مأجورين
____________________
(21/462)
فأجاب الحمد لله لا يجوز له تأخير الصلاة حتى يخرج الوقت بل عليه إن قدر على الاغتسال بماء بارد أو حار أن يغتسل ويصلي في الوقت وإلا تيمم فإن التيمم لخشية البرد جائز باتفاق الأئمة وإذا صلى بالتيمم فلا إعادة عليه لكن إذا تمكن من الاغتسال اغتسل والله أعلم وسئل
عن امرأة بها مرض في عينيها وثقل في جسمها من الشحم وليس لها قدرة على الحمام لأجل الضرورة وزوجها لم يدعها تطهر وهي تطلب الصلاة فهل يجوز لها أن تغسل جسمها الصحيح وتتيمم عن رأسها
فأجاب نعم إذا لم تقدر على الاغتسال في الماء البارد ولا الحار فعليها أن تصلي في الوقت بالتيمم عند جماهير العلماء لكن مذهب الشافعي وأحمد أنها تغسل ما يمكن وتتيمم للباقي ومذهب أبي حنيفة ومالك إن غسلت الأكثر لم تتيمم وإن لم يمكن إلا غسل الأقل تيممت ولا غسل عليها
____________________
(21/463)
وسئل
عن رجل سافر مع رفقة وهو إمامهم ثم احتلم في يوم شديد البرد وخاف على نفسه أن يقتله البرد فتيمم وصلى بهم فهل يجب عليه إعادة وعلى من صلى خلفه أم لا
فأجاب هذه المسألة هي ثلاث مسائل
الأولى أن تيممه جائز وصلاته جائزة ولا غسل عليه والحالة هذه وهذا متفق عليه بين الأئمة وقد جاء في ذلك حديث في السنن عن عمرو بن العاص أنه فعل ذلك على عهد رسول الله فصلى بأصحابه بالتيمم في السفر وإن ذلك ذكر للنبي وكذلك هذا معروف عن بن عباس
الثانية أنه هل يؤم المتوضئين فالجمهور على أنه يؤمهم كما أمهم عمرو بن العاص وبن عباس وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأصح القولين في مذهب أبي حنيفة ومذهب أبي محمد أنه لا يؤمهم
____________________
(21/464)
الثالثة في الإعادة فالمأموم لا إعادة عليه بالاتفاق مع صحة صلاته وأما الإمام أو غيره إذا صلى بالتيمم لخشية البرد فقيل يعيد مطلقا كقول الشافعي وقيل يعيد في الحضر فقط دون السفر كقول له ورواية عن أحمد وقيل لا يعيد مطلقا كقول مالك وأحمد في الرواية الأخرى وهذا هو الصحيح لأنه فعل ما قدر عليه فلا إعادة عليه ولهذا لم يأمر النبي عمرو بن العاص بإعادة ولم يثبت فيه دليل شرعي يفرق بين الأعذار المعتادة وغير المعتادة والله أعلم وسئل
عن رجل أصابته جنابة ولم يقدر على استعمال الماء من شدة البرد أو الخوف والإنكار عليه فهل إذا تيمم وصلى وقرأ ومس المصحف وتهجد بالليل إماما يجوز له ذلك أم لا وهل يعيد الصلاة أم لا وإلى كم يجوز له التيمم
فأجاب إذا كان خائفا من البرد إن اغتسل بالماء يمرض أو كان خائفا إن اغتسل أن يرمى بما هو بريء منه ويتضرر بذلك أو كان خائفا بينه وبين الماء عدو أو سبع يخاف ضرره إن قصد الماء فإنه يتيمم ويصلي من الجنابة والحدث الأصغر
____________________
(21/465)
وأما الإعادة فقد تنازع العلماء في التيمم لخشية البرد هل يعيد في السفر والحضر أو لا يعيد فيهما أو يعيد في الحضر فقط على ثلاثة أقوال والأشبه بالكتاب والسنة أنه لا إعادة عليه بحال ومن جازت له الصلاة جازت له القراءة ومس المصحف والمتيمم يؤم المغتسل عند جمهور العلماء وهو مذهب الأئمة الأربعة إلا محمد بن الحسن والله أعلم وسئل رحمه الله
عن التيمم إذا كان في يده جراحة وتوضأ وغسل وجهه فهل يلزمه أن يتيمم عند غسل اليدين أم يكمل وضوءه إلى آخره ثم بعد ذلك يتيمم وإن كانت الجراحة مشدودة فهل يلزمه أن يحل الجراح ويغسل جميع الصحيح أم يغسل ما ظهر منها ويترك الشد على حاله
فأجاب الحمد لله هذه المسألة فيها نزاع هما قولان في مذهب أحمد وغيره والصحيح أن له أن يؤخر التيمم حتى يفرغ من وضوئه بل هذا الذي ينبغي أن يفعله إذا قيل إنه يجمع بين الوضوء والتيمم فإن مذهب أبي حنيفة ومالك أنه لا يحتاج إلى تيمم ولكن مذهب
____________________
(21/466)
الشافعي وأحمد أن يجمع بينهما وإذا جبرها مسح عليها سواء كان جبرها على وضوء أو غير وضوء
وكذلك إذا شد عليها عصابة ولا يحتاج إلى تيمم في ذلك هذا أصح أقوال العلماء والله أعلم وسئل
عن رجل جنب وهو في بيت مبلط عادم فيه التراب مغلوق عليه الباب ولم يعلم متى يكون الخروج منه فهل يترك الصلاة إلى وجود الماء والتراب أم لا
فأجاب
إذا لم يقدر على استعمال الماء ولا على التمسح بالصعيد فإنه يصلي بلا ماء ولا تيمم عند الجمهور وهذا أصح القولين وهل عليه الإعادة على قولين
أظهرهما أنه لا إعادة عليه فإن الله يقول { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبي إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ولم يأمر العبد بصلاتين وإذا صلى قرأ القراءة الواجبة والله أعلم
____________________
(21/467)
وسئل
عن رجل نام وهو جنب فلم يستيقظ إلا قريب طلوع الشمس وخشي من الغسل بالماء البارد في وقت البرد وإن سخن الماء خرج الوقت فهل يجوز له أن يفوت الصلاة إلى حيث يغتسل أو يتيمم ويصلي
فأجاب هذه المسألة فيها قولان للعلماء فالأكثر كأبي حنيفة والشافعي وأحمد يأمرونه بطلب الماء وإن صلى بعد طلوع الشمس ومالك يأمره أن يصلي للوقت بالتيمم لأن الوقت مقدم على غيره من واجبات الصلاة بدليل أنه إن استيقظ في الوقت وعلم أنه لا يجد الماء إلا بعد الوقت فإنه يصلي بالتيمم في الوقت بإجماع المسلمين ولا يصلي بعد خروج الوقت بالغسل
وأما الأولون فيفرقون بين هذه الصورة ونظائرها وبين صورة السؤال بأنه قال إنما خوطب بالصلاة عند استيقاظه كما قال النبي من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وإذا كان إنما أمر بها بعد الانتباه فعليه فعلها بحسب ما يمكن
____________________
(21/468)
من الاغتسال المعتاد فيكون فعلها بعد طلوع الشمس فعلا في الوقت الذي أمر الله بالصلاة فيه والله أعلم وسئل
عن رجل أجنب واستيقظ وقد طلع الفجر ثم أراد أن يغتسل فخاف أن تطلع الشمس فتوضأ وصلى وبعد الصلاة اغتسل فهل تجزي الصلاة أم لا
فأجاب إذا أدركته الجنابة فعليه أن يغتسل ويصلي في الوقت وليس له أن يؤخر الغسل فإن كان لم يستيقظ إلا وقت طلوع الشمس فأكثر العلماء يقولون يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس ولا يصلي جنبا وبعضهم قال يصلي في الوقت بالوضوء والتيمم لكن الأول أصح والله أعلم وسئل
عن الجنب إذا انتبه من نومه وهو في الحضر قبل خروج الوقت بقليل هل يتيمم ويصلي في الوقت أو يغتسل ويصلي بعد خروج الوقت
____________________
(21/469)
فأجاب رحمه الله يغتسل ولا يصلي بالتيمم في مثل هذه الصورة عند أكثر العلماء والله أعلم وسئل شيخ الإسلام
إذا دخل وقت الصلاة وهو جنب ويخشى إن اشتغل بفعل الطهارة يفوته الوقت فهل يباح له التيمم ام لا
فأجاب إذا دخل وقت الصلاة وهو مستيقظ والماء بعيد منه يخاف إن طلبه أن تفوته الصلاة أو كان الوقت باردا يخاف إن سخنه أو ذهب إلى الحمام فاتت الصلاة فإنه يصلي بالتيمم في مذهب أحمد وجمهور العلماء
وإن استيقظ آخر الوقت وخاف إن تطهر طلعت الشمس فإنه يصلي هنا بالوضوء بعد طلوع الشمس فإن عند جمهور العلماء اختلافا كإحدى الروايتين عن مالك فإنه هنا إنما خوطب بالصلاة بعد استيقاظه ومن نام عن صلاة صلاها إذا استيقظ وكان ذلك وقتها في حقه
____________________
(21/470)
وسئل
عن أقوام خرجوا من قرية إلى قرية ليصلوا الجمعة فيها فوجدوا الصلاة قد أقيمت وبعضهم على غير وضوء لو ذهب ليتوضأ فاتته الصلاة فهل يتيمم
فأجاب هذه المسألة فيها نزاع والأظهر أنهم إذا لم تمكنهم صلاة الجمعة إلا بالتيمم صلوا بالتيمم والله أعلم وسئل
عن المسافر يصل إلى ماء وقد ضاق الوقت فإن تشاغل بتحصيله خرج الوقت فهل له أن يصلي بالتيمم
فأجاب أما المسافر إذا وصل إلى ماء وقد ضاق الوقت فإنه يصلي بالتيمم على قول جمهور العلماء وكذلك لو كان هناك بئر لكن لا يمكن أن يصنع له حبلا حتى يخرج الوقت أو يمكن حفر الماء ولا يحفر حتى يخرج الوقت فإنه يصلي بالتيمم
____________________
(21/471)
وقد قال بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد إنه يغتسل ويصلي بعد خروج الوقت لاشتغاله بتحصيل الشرط وهذا ضعيف لأن المسلم أمر أن يصلي في الوقت بحسب الإمكان فالمسافر إذا علم أنه لا يجد الماء حتى يفوت الوقت كان فرضا عليه أن يصلي بالتيمم في الوقت باتفاق الأئمة وليس له أن يؤخر الصلاة حتى يصل إلى الماء وقد ضاق الوقت بحيث لا يمكنه الاغتسال والصلاة حتى يخرج الوقت
بل إذا فعل ذلك كان عاصيا بالاتفاق وحينئذ فإذا وصل إلى الماء وقد ضاق الوقت فغرضه إنما هو الصلاة بالتيمم في الوقت وليس هو مأمورا بهذا الاستعمال الذي يفوته معه الوقت بخلاف المستيقظ آخر الوقت والماء حاضر فإن هذا مأمور أن يغتسل ويصلي ووقته من حين يستيقظ لا من حين طلوع الفجر بخلاف من كان يقظانا عند طلوع الفجر أو عند زوالها إما مقيما وإما مسافرا فإن الوقت في حقه من حينئذ وسئل
عن التيمم هل يجوز لأحد أن يصلي به السنن الراتبة والفريضة وأن يقتصر عليه إلى أن يحدث أم لا
____________________
(21/472)
فأجاب نعم يجوز له في أظهر قولي العلماء أن يصلي بالتيمم كما يصلي بالوضوء فيصلي به الفرض والنفل ويتيمم قبل الوقت وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه ولا ينقض التيمم إلا ما ينقض الوضوء والقدرة على استعمال الماء والله أعلم وسئل رحمه الله
عن الحاقن أيما أفضل يصلي بوضوء محتقنا أو أن يحدث ثم يتيمم لعدم الماء
فأجاب صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء مع الاحتقان فإن هذه الصلاة مع الاحتقان مكروهة منهي عنها وفي صحتها روايتان وأما صلاته بالتيمم فصحيحة لا كراهة فيها بالاتفاق والله أعلم
____________________
(21/473)
& باب إزالة النجاسة قال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل
وأما إزالة النجاسة بغير الماء ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد
أحدها المنع كقول الشافعي وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد
والثاني الجواز كقول أبي حنيفة وهو القول الثاني في مذهب مالك وأحمد
والقول الثالث في مذهب أحمد أن ذلك يجوز للحاجة كما في طهارة فم الهرة بريقها وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم ونحو ذلك
والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله لأسماء حتيه ثم اقرصيه
____________________
(21/474)
ثم اغسليه بالماء وقوله في آنية المجوس إرحضوها ثم اغسلوها بالماء وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد صبوا على بوله ذنوبا من ماء فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة ولم يأمر أمرا عاما بأن تزال كل نجاسة بالماء
وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع
منها الاستجمار بالحجارة ومنها قوله في النعلين ثم ليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور ومنها قوله في الذيل يطهره ما بعده ومنها أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ثم لم يكونوا يغسلون ذلك ومنها قوله في الهر إنها من الطوافين عليكم والطوافات مع أن الهر في العادة يأكل الفأر ولم يكن هناك قناة ترد عليها تطهر بها أفواهها بالماء بل طهورها ريقها ومنها أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين
وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة لما في ذلك من فساد الأموال كما لا يجوز الاستنجاء بها
____________________
(21/475)
والذين قالوا لا تزول إلا بالماء منهم من قال إن هذا تعبد وليس الأمر كذلك فإن صاحب الشرع أمر بالماء في قضايا معينة لتعينه لأن إزالتها بالأشربة التي ينتفع بها المسلمون إفساد لها وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة كغسل الثوب والإناء والأرض بالماء فإنه من المعلوم أنه لو كان عندهم ماء ورد وخل وغير ذلك لم يأمرهم بإفساده فكيف إذا لم يكن عندهم
ومنهم من قال إن الماء له من اللطف ما ليس لغيره من المائعات فلا يلحق غيره به وليس الأمر كذلك بل الخل وماء الورد وغيرهما يزيلان ما في الآنية من النجاسة كالماء وأبلغ والاستحالة له أبلغ في الإزالة من الغسل بالماء فإن الإزالة بالماء قد يبقى معها لون النجاسة فيعفى عنه كما قال النبي يكفيك الماء ولا يضرك أثره وغير الماء يزيل الطعم واللون والريح
ومنهم من قال كان القياس ان لا يزول بالماء لتنجيسه بالملاقاة لكن رخص في الماء للحاجة فجعل الإزالة بالماء صورة استحسان فلا يقاس عليها وكلا المقدمتين باطلة فليست إزالتها على خلاف القياس بل القياس أن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها
وقولهم إنه ينجس بالملاقاة ممنوع ومن سلمة فرق بين الوارد
____________________
(21/476)
والمورود عليه أو بين الجاري والواقف ولو قيل إنها على خلاف القياس فالصواب أن ما خالف القياس يقاس عليه إذا عرفت علته إذ الاعتبار في القياس بالجامع والفارق
واعتبار طهاره الخبث بطهارة الحدث ضعيف فإن طهارة الحدث من باب الأفعال المأمور بها ولهذا لم تسقط بالنسيان والجهل واشترط فيها النية عند الجمهور وأما طهارة الخبث فإنها من باب التروك فمقصودها اجتناب الخبث ولهذا لا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده بل لو زالت بالمطر النازل من السماء حصل المقصود كما ذهب إليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم
ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد إنه يعتبر فيها النية فهو قول شاذ مخالف للإجماع السابق مع مخالفته لأئمة المذاهب وإنما قيل مثل هذا من ضيق المجال في المناظرة فإن المنازع لهم في مسألة النية قاس طهارة الحدث على طهارة الخبث فمنعوا الحكم في الأصل وهذا ليس بشيء
ولهذا كان أصح قولي العلماء أنه إذا صلى بالنجاسة جاهلا أو ناسيا فلا إعادة عليه كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه لأن النبي خلع نعليه في الصلاة للأذى الذي كان
____________________
(21/477)
فيهما ولم يستأنف الصلاة وكذلك في الحديث الآخر لما وجد في ثوبه نجاسة أمرهم بغسله ولم يعد الصلاة وذلك لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله العبد ناسيا أو مخطئا فلا إثم عليه كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } وقال تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله تعالى قد فعلت رواه مسلم في صحيحه
ولهذا كان أقوى الأقوال أن ما فعله العبد ناسيا أو مخطئا من محظورات الصلاة والصيام والحج لا يبطل العبادة كالكلام ناسيا والأكل ناسيا والطيب ناسيا وكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسيا وفي هذه المسائل نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه
وإنما المقصود هنا التنبيه على أن النجاسة من باب ترك المنهي عنه فحينئذ إذا زال الخبث بأي طريق كان حصل المقصود ولكن إن زال بفعل العبد ونيته أثيب على ذلك وإلا إذا عدمت بغير فعله ولا نيته زالت المفسدة ولم يكن له ثواب ولم يكن عليه عقاب وسئل رحمه الله
عن استحالة النجاسة كرماد السرجين النجس والزبل النجس
____________________
(21/478)
تصيبه الريح والشمس فيستحيل ترابا فهل تجوز الصلاة عليه أم لا
فأجاب وأما استحالة النجاسة كرماد السرجين النجس والزبل النجس يستحيل ترابا فقد تقدمت هذه المسألة وقد ذكرنا أن فيها قولين في مذهب مالك وأحمد
أحدهما أن ذلك طاهر وهو قول أبي حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم وذكرنا أن هذا القول هو الراجح
فأما الأرض إذا أصابتها نجاسة فمن أصحاب الشافعي وأحمد من يقول إنها تطهر وإن لم يقل بالاستحالة ففي هذه المسألة مع مسألة الاستحالة ثلاثة أقوال والصواب الطهارة في الجميع كما تقدم وقال رحمه الله فصل
وأما طين الشوارع فمبني على أصل وهو أن الأرض إذا أصابتها نجاسة ثم ذهبت بالريح أو الشمس أو نحو ذلك هل تطهر الأرض
____________________
(21/479)
على قولين للفقهاء وهما قولان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما
أحدهما أنها تطهر وهو مذهب أبي حنيفة وغيره ولكن عند أبي حنيفة يصلي عليها ولا يتيمم بها والصحيح أنه يصلي عليها ويتيمم بها وهذا هو الصواب لأنه قد ثبت في الحديث الصحيح عن بن عمر إن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ومن المعلوم أن النجاسة لو كانت باقية لوجب غسل ذلك وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح من أنه أمرهم أن يصبوا على بول الأعرابي الذي بال في المسجد ذنوبا من ماء فإن هذا يحصل به تعجيل تطهير الأرض وهذا مقصود بخلاف ما إذا لم يصب الماء فإن النجاسة تبقى إلى أن تستحيل
وأيضا ففي السنن أن النبي قال إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن وجد بهما أذى فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور وفي السنن أيضا أنه سئل عن المرأة تجر ذيلها على المكان القذر ثم على المكان الطاهر فقال يطهره ما بعده وقد نص أحمد على الأخذ بهذا الحديث الثاني ونص في إحدى الروايتين عنه على الأخذ بالحديث الأول وهو قول من يقول به من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما فإذا كان النبي
____________________
(21/480)
قد جعل التراب يطهر أسفل النعل وأسفل الذيل وسماه طهورا فلأن يطهر نفسه بطريق الأولى والأحرى فالنجاسة إذا استحالت في التراب فصارت ترابا لم يبق نجاسة
وأيضا فقد تنازع العلماء فيما إذا استحالت حقيقة النجاسة واتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت بفعل الله بدون قصد صاحبها وصارت خلا أنها تطهر ولهم فيها إذا قصد التخليل نزاع وتفصيل والصحيح أنه إذا قصد تخليلها لا تطهر بحال كما ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما صح من نهي النبي عن تخليلها ولأن حبسها معصية والطهارة نعمة والمعصية لا تكون سببا للنعمة
وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحا في الملاحة أو صارت رمادا أو صارت الميتة والدم والصديد ترابا كتراب المقبرة فهذا فيه قولان في مذهب مالك وأحمد أحدهما أن ذلك طاهر كمذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر
والثاني أنه نجس كمذهب الشافعي والصواب أن ذلك كله طاهر إذا لم يبق شيء من أثر النجاسة لا طعمها ولا لونها ولا ريحها لأن الله أباح الطيبات وحرم الخبائث وذلك يتبع صفات الأعيان وحقائقها
____________________
(21/481)
فإذا كانت العين ملحا أو خلا دخلت في الطيبات التي أباحها الله ولم تدخل في الخبائث التي حرمها الله وكذلك التراب والرماد وغير ذلك لا يدخل في نصوص التحريم وإذا لم تتناولها أدلة التحريم لا لفظا ولا معنى لم يجز القول بتنجيسه وتحريمه فيكون طاهرا وإذا كان هذا في غير التراب فالتراب أولى بذلك
وحينئذ فطين الشوارع إذا قدر أنه لم يظهر به أثر النجاسة فهو طاهر وإن تيقن أن النجاسة فيه فهذا يعفي عن يسيره فإن الصحابة رضوان الله عليهم كان أحدهم يخوض في الوحل ثم يدخل المسجد فيصلي ولا يغسل رجليه وهذا معروف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من الصحابة كما تقدم وقد حكاه مالك عنهم مطلقا وذكر أنه لو كان في الطين عذرة منبثة لعفي عن ذلك وهكذا قال غيره من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما أنه يعفى عن يسير طين الشوارع مع تيقن نجاسته والله أعلم
____________________
(21/482)
وسئل رحمه الله
عن الخمرة إذا انقلبت خلا ولم يعلم بقلبها هل له أن يأكلها أو يبيعها أو إذا علم أنها انقلبت هل يأكل منها أو يبيعها
فأجاب أما التخليل ففيه نزاع قيل يجوز تخليلها كما يحكى عن أبي حنيفة وقيل لا يجوز لكن إذا خللت طهرت كما يحكى عن مالك وقيل يجوز بنقلها من الشمس إلى الظل وكشف الغطاء عنها ونحو ذلك دون أن يلقى فيها شيء كما هو وجه في مذهب الشافعي وأحمد
وقيل لا يجوز بحال كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد وهذا هو الصحيح فإنه قد ثبت عن النبي إنه سئل عن خمر ليتامى فأمر بإراقتها فقيل له إنهم فقراء فقال سيغنيهم الله من فضله فلما أمر بإراقتها ونهى عن تخليلها وجبت طاعته فيما أمر به ونهى عنه فيجب أن تراق الخمرة ولا تخلل هذا مع كونهم كانوا يتامى ومع كون تلك الخمرة كانت متخذة قبل التحريم فلم يكونوا عصاة
____________________
(21/483)
فإن قيل هذا منسوخ لأنه كان في أول الإسلام فأمروا بذلك كما أمروا بكسر الآنية وشق الظروف ليمتنعوا عنها قيل هذا غلط من وجوه
أحدها أن أمر الله ورسوله لا ينسخ إلا بأمر الله ورسوله ولم يرد بعد هذا نص بنسخه
الثاني إن الخلفاء الراشدين بعد موته عملوا بهذا كما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها ولا جناح على مسلم أن يشتري من خل أهل الذمة فهذا عمر ينهى عن خل الخمر التي قصد إفسادها ويأذن فيما بدأ الله بإفسادها ويرخص في اشتراء خل الخمر من أهل الكتاب لأنهم لا يفسدون خمرهم وإنما يتخلل بغير اختيارهم وفي قول عمر حجة على جميع الأقوال
الوجه الثالث أن يقال الصحابة كانوا أطوع الناس لله ورسوله ولهذا لما حرم عليهم الخمر أراقوها فإذا كانوا مع هذا قد نهوا عن تخليلها وأمروا بإراقتها فمن بعدهم من القرون أولى منهم بذلك فإنهم أقل طاعة لله ورسوله منهم
يبين ذلك أن عمر بن الخطاب غلظ على الناس العقوبة في شرب
____________________
(21/484)
الخمر حتى كان ينفي فيها لأن أهل زمانه كانوا أقل اجتنابا لها من الصحابة على عهد رسول الله فكيف يكون زمان ليس فيه رسول الله ولا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا ريب أن أهله أقل اجتنابا للمحارم فكيف تسد الذريعة عن أولئك المتقين وتفتح لغيرهم وهم أقل تقوى منهم
وأما ما يروى خير خلكم خل خمركم فهذا الكلام لم يقله النبي ومن نقله عنه فقد أخطأ ولكن هو كلام صحيح فإن خل الخمر لا يكون فيها ماء ولكن المراد به الذي بدأ الله بقلبه وأيضا فكل خمر يعمل من العنب بلا ماء فهو مثل خل الخمر
وقد وصف العلماء عمل الخل أنه يوضع أولا في العنب شيء يحمضه حتى لا يستحيل أولا خمرا ولهذا تنازعوا في خمرة الخلال هل يجب إراقتها على قولين في مذهب أحمد وغيره أظهرهما وجوب إراقتها كغيرها فإنه ليس في الشريعة خمرة محترمة ولو كان لشيء من الخمر حرمة لكانت لخمر اليتامى التي اشتريت لهم قبل التحريم وذلك أن الله أمر باجتناب الخمر فلا يجوز اقتناؤها ولا يكون في بيت مسلم خمر أصلا وإنما وقعت الشبهة في التخليل لأن بعض العلماء اعتقد أن التخليل إصلاح لها كدباغ الجلد النجس
وبعضهم قال اقتناؤها لا يجوز لا لتخليل ولا غيره لكن
____________________
(21/485)
إذا صارت خلا فكيف تكون نجسة وبعضهم قال إذا ألقي فيها شيء تنجس أولا ثم تنجست به ثانيا بخلاف ما إذا لم يلق فيها شيء فإنه لا يوجب التنجيس
وأما أهل القول الراجح فقالوا قصد المخلل لتخليلها هو الموجب لتنجيسها فإنه قد نهي عن اقتنائها وأمر بإراقتها فإذا قصد التخليل كان قد فعل محرما وغاية ما يكون تخليلها كتذكية الحيوان والعين إذا كانت محرمة لم تصر محللة بالفعل المنهي عنه لأن المعصية لا تكون سببا للنعمة والرحمة
ولهذا لما كان الحيوان محرما قبل التذكية ولا يباح إلا بالتذكية فلو ذكاه تذكية محرمة مثل أن يذكيه في غير الحلق واللبة مع قدرته عليه أولا يقصد ذكاته أو يأمر وثنيا أو مجوسيا بتذكيته ونحو ذلك لم يبح وكذلك الصيد إذا قتله المحرم لم يصر ذكيا فالعين الواحدة تكون طاهرة حلالا في حال وتكون حراما نجسة في حال تارة باعتبار الفاعل كالفرق بين الكتابي والوثني وتارة باعتبار الفعل كالفرق بين الذبيحة بالمحدد وغيره وتارة باعتبار المحل وغيره كالفرق بين العنق وغيره وتارة باعتبار قصد الفاعل كالفرق بين ما قصد تذكيته وما قصد قتله حتى أنه عند مالك والشافعي وأحمد إذا ذكى الحلال صيدا أبيح للحلال دون المحرم فيكون حلالا طاهرا في حق هذا
____________________
(21/486)
حراما نجسا في حق هذا وانقلاب الخمر إلى الخل من هذا النوع مثل ما كان ذلك محظورا فإذا قصده الإنسان لم يصر الخل به حلالا ولا طاهرا كما لم يصر لحم الحيوان حلالا طاهرا بتذكية غير شرعية
وما ذكرناه عن عمر بن الخطاب هو الذي يعتمد عليه في هذه المسألة أنه متى علم أن صاحبها قد قصد تخليلها لم تشتر منه وإذا لم يعلم ذلك جاز اشتراؤها منه لأن العادة ان صاحب الخمر لا يرضى أن يخللها والله أعلم
____________________
(21/487)
وسئل
عن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة مثل الفأرة ونحوها وماتت فيه هل ينجس أم لا وإذا قيل ينجس فهل يجوز أن يكاثر بغيره حتى يبلغ قلتين أم لا وإذا قيل تجوز المكاثرة هل يجوز إلقاء الطاهر على النجس أو بالعكس أو لا فرق وإذا لم تجز المكاثرة وقيل بنجاسته هل لهم طريق في الانتفاع به مثل الاستصباح به أو غسله إذا قيل يطهر بالغسل أم لا وإذا كانت المياه النجسة اليسيرة تطهر بالمكاثرة هل تطهر سائر المائعات بالمكاثرة أم لا
فأجاب الحمد لله أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة فهل تنجس وإن كانت كثيرة فوق القلتين أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقا إلا بالتغير أولا ينجس الكثير إلا بالتغير كما إذا بلغت قلتين فيه عن أحمد ثلاث روايات
إحداهن أنها تنجس ولو مع الكثرة وهو قول الشافعي وغيره
والثانية أنها كالماء سواء كانت مائية أو غير مائية
____________________
(21/488)
وهو قول طائفة من السلف والخلف كابن مسعود وبن عباس والزهري وأبي ثور وغيرهم وهو قول أبي ثور نقله المروذي عن أبي ثور ويحكى ذلك لأحمد فقال إن أبا ثور شبهه بالماء ذكر ذلك الخلال في جامعه عن المروذي وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة إن حكم المائعات عندهم حكم الماء ومذهبهم في المائعات معروف فيه فإذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر لم تنجس كالماء عندهم وأما أبو ثور فإنه يقول بالعكس بالقلتين كالشافعي والقول أنها كالماء يذكر قولا في مذهب مالك وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين وروي عن أبي نافع من المالكية في الحباب التي بالشام للزيت تموت فيه الفأرة إن ذلك لا يضر الزيت قال وليس الزيت كالماء وقال بن الماجشون في الزيت وغيره تقع فيه الميتة ولم تغير أوصافه وكان كثيرا لم ينجس بخلاف موتها فيه ففرق بين موتها فيه ووقوعها فيه ومذهب بن حزم وغيره من أهل الظاهر أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة إلا السمن إذا وقعت فيه فأرة كما يقولون أن الماء لا ينجس إلا إذا بال فيه بائل
والثالثة يفرق بين المائع المائي كخل الخمر وغير المائي كخل العنب فيلحق الأول بالماء دون الثاني
____________________
(21/489)
وفي الجملة للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال
أحدها أنها كالماء
والثاني أنها أولى بعدم التنجس من الماء لأنها طعام وإدام فإتلافها فيه فساد ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء أو مباينة لها من الماء
والثالث أن الماء أولى بعدم التنجس منها لأنه طهور وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع وذكرنا حجة من قال بالتنجيس وأنهم احتجوا بقول النبي إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وإن كان مائعا فلا تقربوه رواه أبو داود وغيره وبينا ضعف هذا الحديث وطعن البخاري والترمذي وأبو حاتم الرازي والدارقطني وغيرهم فيه وأنهم بينوا أنه غلط فيه معمر على الزهري
قال أبو داود باب في الفأرة تقع في السمن حدثنا مسدد حدثنا سفيان حدثنا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فأخبر النبي فقال ألقوها وما حولها وكلوه وقال ثنا أحمد بن صالح والحسين بن علي واللفظ للحسين
____________________
(21/490)
قالا ثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه قال الحسن قال عبد الرزاق ربما حدث به معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس عن ميمونة عن النبي
قال أبو داود قال أحمد بن صالح قال عبد الرزاق قال أخبرنا عبد الرحمن بن مردويه عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس عن ميمونة عن النبي بمثل حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه
باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن
حدثنا سعيد بن عبد الرحمن وأبو عمار قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فماتت فسئل عنها النبي فقال ألقوها وما حولها وكلوه قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد روي هذا الحديث عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس أن النبي سئل ولم يذكروا فيه عن ميمونة وحديث بن عباس عن ميمونة أصح
____________________
(21/491)
وروى معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي نحوه وهو حديث غير محفوظ قال سمعت محمد بن إسماعيل يقول حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي في هذا خطأ قال والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن بن عباس عن ميمونة
قلت وحديث معمر هذا الذي خطأه البخاري وقال الترمذي إنه غير محفوظ هو الذي قال فيه إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه كما رواه أبو داود وغيره وكذلك الإمام أحمد رضي الله عنه في مسنده وغيره وقد ذكر عبد الرزاق أن معمرا كان يرويه أحيانا من الوجه الآخر فكان يضطرب في إسناده كما اضطرب في متنه وخالف فيه الحفاظ الثقات الذين رووه بغير اللفظ الذي رواه معمر ومعمر كان معروفا بالغلط وأما الزهري فلا يعرف منه غلط فلهذا بين البخاري من كلام الزهري ما دل على خطأ معمر في هذا الحديث قال البخاري في صحيحه
باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب
ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه سمع بن عباس يحدث عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن
____________________
(21/492)
فماتت فسئل النبي عنها فقال ألقوها وما حولها وكلوه قيل لسفيان فإن معمرا يحدثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال ما سمعت الزهري يقوله إلا عن عبيد الله عن بن عباس عن ميمونة عن النبي ولقد سمعته منه مرارا
ثنا عبدان ثنا عبد الله يعني بن المبارك عن يونس عن الزهري أنه سئل عن الدابة تموت في الزيت أو السمن وهو جامد أو غير جامد الفأرة أو غيرها قال بلغنا أن رسول الله أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل من حديث عبيد الله بن عبد الله ثم رواه من طريق مالك كما رواه من طريق بن عيينة
وهذا الحديث رواه الناس عن الزهري كما رواه بن عيينة بسنده ولفظه وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه فرواه تارة عن بن المسيب عن أبي هريرة وقال فيه وإن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه وقيل عنه وإن كان مائعا فاستصبحوا به واضطرب على معمر فيه وظن طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ فعملوا به وممن يثبته محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري وكذلك احتج به احمد لما أفتى بالفرق بين الجامد
____________________
(21/493)
والمائع وكان أحمد يحتج أحيانا بأحاديث ثم يتبين له أنها معلولة كاحتجاجه بقوله لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ثم تبين له بعد ذلك أنه معلول فاستدل بغيره
وأما البخاري والترمذي وغيرهما فعللوا حديث معمر وبينوا غلطه والصواب معهم فذكر البخاري هنا عن بن عيينة أنه قال سمعته من الزهري مرارا لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله وليس في لفظه إلا قوله ألقوها وما حولها وكلوه وكذلك رواه مالك وغيره وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغيره فأفتى بأن النبي أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح فهذه فتيا الزهري في الجامد وغير الجامد فكيف يكون قد روى في هذا الحديث الفرق بينهما وهو يحتج على استواء حكم النوعين بالحديث ورواه بالمعنى
والزهري أحفظ أهل زمانه حتى يقال إنه لا يعرف له غلط في حديث ولا نسيان مع أنه لم يكن في زمانه أكثر حديثا منه ويقال إنه حفظ على الأمة تسعين سنة لم يأت بها غيره وقد كتب عنه سليمان بن عبد الملك = كتابا من حفظه ثم استعاده منه بعد عام فلم يخط منه حرفا فلو لم يكن في الحديث إلا نسيان الزهري أو معمر لكان نسبة النسيان إلى معمر أولى باتفاق أهل العلم
____________________
(21/494)
بالرجال مع كثرة الدلائل على نسيان معمر وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن معمرا كثير الغلط على الزهري قال الإمام أحمد رضي الله عنه فيما حدثه به محمد بن جعفر غندر عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته ثمان نسوة فقال أحمد هكذا حدث به معمر بالبصرة وحدثهم بالبصرة من حفظه وحدث به باليمن عن الزهري بالاستقامة
وقال أبو حاتم الرازي ما حدث به معمر بن راشد بالبصرة ففيه أغاليط وهو صالح الحديث وأكثر الرواة الذين رووا هذا الحديث عن معمر عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة هم البصريون كعبدالواحد بن زياد وعبدالأعلى بن عبدالأعلى الشامي والاضطراب في المتن ظاهر
فإن هذا يقول إن كان ذائبا أو مائعا لم يؤكل وهذا يقول وإن كان مائعا فلا تنتفعوا به واستصبحوا به وهذا يقول فلا تقربوه وهذا يقول فأمر بها أن تؤخذ وما حولها فتطرح فأطلق الجواب ولم يذكر التفصيل
وهذا يبين أنه لم يروه من كتاب بلفظ مضبوط وإنما رواه بحسب ما ظنه من المعنى فغلط وبتقدير صحة هذا اللفظ وهو قوله وإن
____________________
(21/495)
كان مائعا فلا تقربوه فإنما يدل على نجاسة القليل الذي وقعت فيه النجاسة كالسمن المسئول عنه فإنه من المعلوم أنه لم يكن عند السائل سمن فوق قلتين يقع فيه فأرة حتى يقال فيه ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال بل السمن الذي يكون عند أهل المدينة في أوعيتهم يكون في الغالب قليلا فلو صح الحديث لم يدل إلا على نجاسة القليل فإن المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة فلا يدل على نجاستها لا نص صحيح ولا ضعيف ولا إجماع ولا قياس صحيح
وعمدة من ينجسه يظن أن النجاسة إذا وقعت في ماء أو مائع سرت فيه كله فنجسته وقد عرف فساد هذا وأنه لم يقل أحد من المسلمين بطرده فإن طرده يوجب نجاسة البحر بل الذين قالوا هذا الأصل الفاسد منهم من استثنى ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر ومنهم من استثنى في بعض النجاسات ما لا يمكن نزحه ومنهم من استثنى ما فوق القلتين وعلل بعضهم المستثنى بمشقة التنجيس وبعضهم بعدم وصول النجاسة إلى الكثير وبعضهم بتعذر التطهير وهذه العلل موجودة في الكثير من الأدهان فإنه قد يكون في الحب العظيم قناطير مقنطرة من الزيت ولا يمكنهم صيانته عن الواقع والدور والحوانيت مملوءة مما لا يمكن صيانته كالسكر وغيره فالعسر والحرج بتنجيس هذا عظيم جدا
____________________
(21/496)
ولهذا لم يرد بتنجيس الكثير أثر عن النبي ولا عن أصحابه واختلف كلام أحمد رحمه الله في تنجيس الكثير وأما القليل فإنه ظن صحة حديث معمر فأخذ به وقد اطلع غيره على العلة القادحة فيه ولو اطلع عليها لم يقل به ولهذا نظائر كان يأخذ بحديث ثم يتبين له ضعفه فيترك الأخذ به وقد يترك الأخذ به قبل أن تتبين صحته فإذا تبين له صحته أخذ به وهذه طريقة أهل العلم والدين رضي الله عنهم
ولظنه صحته عدل إليه عما رآه من آثار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فروى صالح بن أحمد في مسائله عن أبيه أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا إسماعيل ثنا عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة أن بن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن قال تؤخذ الفأرة وما حولها قلت يا مولانا فإن أثرها كان في السمن كله قال عضضت بهن أبيك إنما كان أثرها بالسمن وهي حية وإنما ماتت حيث وجدت ثنا أبي ثنا وكيع ثنا النضر بن عربي عن عكرمة قال جاء رجل إلى بن عباس فسأله عن جر فيه زيت وقع فيه جرذ فقال بن عباس خذه وما حوله فألقه وكله قلت أليس جال في الجر كله قال إنه جال وفيه الروح فاستقر حيث مات وروى الخلال عن صالح قال ثنا أبي ثنا وكيع ثنا سفيان عن حمران بن أعين عن أبي حرب بن أبي
____________________
(21/497)
الأسود الدؤلي قال سئل بن مسعود عن فأرة وقعت في سمن فقال إنما حرم من الميتة لحمها ودمها
قلت فهذه فتاوي بن عباس وبن مسعود والزهري مع أن بن عباس هو راوي حديث ميمونة ثم إن قول معمر في الحديث الضعيف فلا تقربوه متروك عند عامة السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة فإن جمهورهم يجوزون الاستصباح به وكثير منهم يجوز بيعه أو تطهيره وهذا مخالف لقوله فلا تقربوه
ومن نصر هذا القول يقول قول النبي الماء طهور لا ينجسه شيء احتراز عن الثوب والبدن والإناء ونحو ذلك مما يتنجس والمفهوم لا عموم له وذلك لا يقتضي أن كل ما ليس بماء يتنجس فإن الهواء ونحوه لا يتنجس وليس بماء كما أن قوله إن الماء لا يجنب احتراز عن البدن فإنه يجنب ولا يقتضي ذلك أن كل ما ليس بماء يجنب ولكن خص الماء بالذكر في الموضعين للحاجة إلى بيان حكمه فإن بعض أزواجه اغتسلت فجاء النبي ليتوضأ بسؤرها فأخبرته أنها كانت جنبا فقال إن الماء لا يجنب مع أن الثوب لا يجنب والأرض لا تجنب وتخصيص الماء بالذكر لمفارقة البدن لا لمفارقة كل شيء وكذلك قالوا له أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى
____________________
(21/498)
فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال الماء طهور لا ينجسه شيء فنفى عنه النجاسة للحاجة إلى بيان ذلك كما نفى عنه الجنابة للحاجة إلى بيان ذلك والله سبحانه قد أباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث والنجاسات من الخبائث فالماء إذا تغير بالنجاسة حرم استعماله لأن ذلك استعمال للخبيث
وهذا مبني على أصل وهو أن الماء الكثير إذا وقعت فيه النجاسة فهل مقتضى القياس تنجسه لاختلاط الحلال بالحرام إلى حيث يقوم الدليل على تطهيره أو مقتضى القياس طهارته إلى أن تظهر فيه النجاسة الخبيثة التي يحرم استعمالها للفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم في هذا الأصل قولان
أحدهما قول من يقول الأصل النجاسة وهذا قول أصحاب أبي حنيفة ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد بناء على أن اختلاط الحلال بالحرام يوجب تحريمهما جميعا
ثم إن أصحاب أبي حنيفة طردوا ذلك فيما إذا كان الماء يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر قالوا لأن النجاسة تبلغه إذا بلغته الحركة ولم يمكنهم طرده فيما زاد على ذلك وإلا لزم تنجيس البحر والبحر لا ينجسه شيء بالنص والإجماع ولم يطردوا ذلك فيما
____________________
(21/499)
إذا كان الماء عميقا ومساحته قليلة ثم إذا تنجس الماء فالقياس عندهم يقتضي أن لا يطهر بنزح فيجب طم الآبار المتنجسة وطرد هذا القياس بشر المريسي
وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا بالتطهير بالنزح استحسانا إما بنزح البئر كلها إذا كبر الحيوان أو تفسخ وإما بنزح بعضها إذا صغر بدلاء ذكروا عددها فما أمكن طرد ذلك القياس
وكذلك أصحاب الشافعي وأحمد قالوا بطهارة ما فوق القلتين لأن ذلك يكون في الفلوات والغدران التي لا يمكن صيانتها عن النجاسة فجعلوا طهارة ذلك رخصة لأجل الحاجة على خلاف القياس وكذلك من قال من أصحاب أحمد إن البول والعذرة الرطبة لا ينجس بهما إلا ما أمكن نزحه ترك طرد القياس لأن ما يتعذر نزحه يتعذر تطهيره فجعل تعذر التطهير مانعا من التنجس
فهذه الأقوال وغيرها من مقالات القائلين بهذا الأصل تبين أنه لم يطرده أحد من الفقهاء وإن كلهم خالفوا فيه القياس رخصة وأباحوا ما تخالطه النجاسات من المياه لأجل الحاجة الخاصة
وأما القول الثاني فهو قول من يقول القياس إن لا ينجس الماء حتى
____________________
(21/500)
يتغير كما قاله من قاله من فقهاء الحجاز والعراق وفقهاء الحديث وغيرهم كمالك وأصحابه ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد وهذه طريقة القاضي أبي يعلى بن القاضي أبي حازم مع قوله إن القليل ينجس بالملاقاة وأما بن عقيل وبن المنى وبن المظفر وبن الجوزي وأبو نصر وغيرهم من أصحاب أحمد فنصروا هذا أنه لا ينجس إلا بالتغير كالرواية الموافقة لأهل المدينة وهو قول أبي المحاسن الروياني وغيره من أصحاب الشافعي
وقال الغزالي وددت أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك وكلام أحمد وغيره موافق لهذا القول فإنه لما سئل عن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت طعمه أو لونه بأي شيء ينجس والحديث المروي في ذلك وهو قوله الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ضعيف فأجاب بأن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير فإذا ظهر في الماء طعم الدم او الميتة أو لحم الخنزير كان المستعمل لذلك مستعملا لهذه الخبائث ولو كان القياس عنده التحريم مطلقا لم يخص صورة التحريم باستعمال النجاسة
وفي الجملة فهذا القول هو الصواب وذلك أن الله حرم الخبائث التي هي الدم والميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره واستهلكت لم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير
____________________
(21/501)
أصلا كما أن الخمر إذا استهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شاربا للخمر والخمرة إذا استحالت بنفسها وصارت خلا كانت طاهرة باتفاق العلماء وهذا على قول من يقول إن النجاسة إذا استحالت طهرت أقوى كما هو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد فإن انقلاب النجاسة ملحا ورمادا ونحو ذلك هو كانقلابها ماء فلا فرق بين أن تستحيل رمادا أو ملحا أو ترابا أو ماء أو هواء ونحو ذلك والله تعالى قد أباح لنا الطيبات
وهذه الأدهان والألبان والأشربة الحلوة والحامضة وغيرها من الطيبات والخبيثة قد استهلكت واستحالت فيها فكيف يحرم الطيب الذي أباحه الله تعالى ومن الذي قال إنه إذا خالطه الخبيث واستهلك فيه واستحال قد حرم وليس على ذلك دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس ولهذا قال في حديث بئر بضاعة لما ذكر له أنها يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال الماء طهور لا ينجسه شيء وقال في حديث القلتين إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث وفي اللفظ الآخر لم ينجسه شيء رواه أبو داود وغيره
فقوله لم يحمل الخبث بين أن تنجيسه بأن يحمل الخبث أي بأن يكون الخبث فيه محمولا وذلك يبين أنه مع استحالة الخبث لا ينجس الماء
____________________
(21/502)
فصل
وإذا عرف أصل هذه المسألة فالحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة المطربة فإذا زالت بفعل الله طهرت بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها ولا جناح على مسلم أن يشتري خل خمر من أهل الكتاب ما لم يعلم أنهم تعمدوا فسادها
وذلك لأن اقتناء الخمر محرم فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرا فهو لا يريد تخليلها وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة
وأما سائر النجاسات فيجوز التعمد لإفسادها لأن إفسادها ليس بمحرم كما لا يحد شاربها لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ
____________________
(21/503)
جلود الميتة وجوزوا أيضا إحالة النجاسة بالنار وغيرها والماء لنجاسته سببان
أحدهما متفق عليه والآخر مختلف فيه
فالمتفق عليه التغير بالنجاسة فمتى كان الموجب لنجاسته التغير فزال التغير كان طاهرا كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهرا
والثاني القلة فإذا كان الماء قليلا ووقعت فيه نجاسة ففي نجاسته قولان للعلماء فمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه أنه ينجس ما دون القلتين وأحمد في الرواية المشهورة عنه يستثنى البول والعذرة المائعة فيجعل ما أمكن نزحه نجسا بوقوع ذلك فيه ومذهب أبي حنيفة ينجس ما وصلت إليه الحركة ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة أنه لا ينجس ولو لم يبلغ قلتين واختار هذا القول بعض الشافعية كإحدى الروايات وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب الشافعي كما نصر الأولى طائفة كثيرة من أصحاب أحمد لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة ولم يحدوا ذلك بقلتين وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول فهؤلاء لا ينجسون شيئا إلا بالتغير ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد قال في المائعات كذلك كما قاله الزهري وغيره فهؤلاء لا ينجسون شيئا من المائعات
____________________
(21/504)
إلا بالتغير كما ذكره البخاري في صحيحه لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء
وكذلك في المائعات إذا سويت به فنقول إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصب عليه مائع كثير فيكون الجميع طاهرا إذا لم يكن متغيرا وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين فصار الجميع كثيرا فوق القلتين ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد
أحدهما وهو مذهب الشافعي في الماء إن الجميع طاهر
والوجه الثاني أنه لا يكون طاهرا حتى يكون المضاف كثيرا والمكاثرة المعتبرة أن يصب الطاهر على النجس ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر أيضا وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيرا وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة وكان الجميع كثيرا فوق القلتين كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل وفي ذلك الوجهان المتقدمان
وهذا القول الذي ذكرناه من أن المائعات كالماء أولى بعدم التنجيس من الماء هو الأظهر في الأدلة الشرعية بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجيس الأشربة والأطعمة ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه
____________________
(21/505)
الكلب من الماء القليل كما جاء في الحديث ولم يأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الأطعمة والأشربة واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم فإن في نجاستها من المشقة والحرج والضيق ما لا يخفى على الناس وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب فإذا لم ينجسوا الماء الكثير رفعا للحرج فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة والحرج في هذا أشق ولعل أكثر المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة
فإن قيل الماء يدفع النجاسة عن غيره فعن نفسه أولى وأحرى بخلاف المائعات
قيل الجواب عن ذلك من وجوه
أحدها أن الماء إنما دفعها عن غيره لأنه يزيلها عن ذلك المحل وتنتقل معه فلا يبقى على المحل نجاسة وأما إذا وقعت فيه فإنما كان طاهرا لاستحالتها فيه لا لكونه أزالها عن نفسه ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة إن المائعات كالماء في الإزالة وهي كالماء في التنجيس وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زالت معه أن يزيلها إذا كانت فيه ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل
____________________
(21/506)
وتلك نجسة قبل طهارة المحل وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه هل هي طاهرة أو مطهرة او نجسة
وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال الماء ينجس بوقوعها فيه وإن كان يزيلها عن غيره لما ذكرنا فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة كما دل عليه قول النبي الماء طهور لا ينجسه شيء وقوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث فإنه إذا كان طهورا يطهر به غيره علم أنه لا ينجس بالملاقاة إذ لو نجس بها لكان إذا صب عليه النجاسة ينجس بملاقاتها فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت وإن استحالت زالت
فدل ذلك على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس وإن لم تكن قد زالت كما زالت عن المحل فإن من قال أنه يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره فقد خالف المشاهدة وهذا المعنى يوجد في سائر المائعات من الأشربة وغيرها
الوجه الثاني أن يقال غاية هذا أن يقتضي أنه يمكن إزالة النجاسة بالمائع وهذا أحد القولين في مذهب أحمد ومالك كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره وأحمد جعله لازما لمن قال إن المائع لا ينجس
____________________
(21/507)
بملاقاة النجاسة وقال يلزم على هذا أن تزال به النجاسة وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره كما ذكروه في الماء فيلزم جواز إزالته بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول وهذا هو القياس فنقول به على هذا التقدير وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره لكون الإحالة أقوى من الإزالة فيلزم من قال أنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء فإذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير إما مطلقا وإما مع الكثرة فكذلك الصواب في المائعات
وفي الجملة التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات وفي مسألة ملاقاتها للمائعات الماء وغير الماء
ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول وموجب القياس
ومن كان فقيها خبيرا بمآخذ الأحكام الشرعية وأزال عنه الهوى
____________________
(21/508)
تبين له ذلك ولكن إذا كان في استعمالها فساد فإنه ينهى عن ذلك كما ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها والإبل التي يحج عليها والبقر التي يحرث عليها ونحو ذلك لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث كما ثبت في الصحيح عن النبي لما كان في بعض أسفاره مع أصحابه فنفدت أزوادهم فاستأذنوه في نحر الظهر فاذن لهم ثم أتى عمر فسأله أن يجمع الأزواد فيدعو الله بالبركة فيها ويبقى الظهر ففعل ذلك فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب لا لأن الإبل محرمة فهكذا ينهى فيما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن وعلف دواب الإنس والجن ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها بل لحرمتها فالقول في المائعات كالقول في الجامدات
الوجه الثالث أن يقال إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات فإذا كان الماء لا ينجس بما وقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته فالمائعات أولى وأحرى
الوجه الرابع أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا لون ولا ريح فلا نسلم أن يقال بنجاسته أصلا كما في الخمر المنقلبة أو
____________________
(21/509)
أبلغ وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد ووجه في مذهب الشافعي
الوجه الخامس أن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها كدفع الماء لا يختص بالماء بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة هل تطهر الأرض على قولين
أحدهما تطهر وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وهو الصحيح في الدليل فإنه ثبت عن بن عمر رضي الله عنهما أنه قال كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك وفي السنن أنه قال إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن كان فيهما أذى فليدلكهما في التراب فإن التراب لهما طهور وكان الصحابة كعلي بن أبي طالب وغيره يخوضون في الوحل ثم يدخلون يصلون بالناس ولا يغسلون أقدامهم
وأوكد من هذا قوله في ذيول النساء إذا أصابت أرضا طاهرة بعد أرض خبيثة تلك بتلك وقوله يطهره
____________________
(21/510)
ما بعده وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره وقد نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وهي من أجل المسائل وهذا لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسة فصارت كأسفل الخف ومحل الاستنجاء فإذا كان الشارع قد جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها لأجل الحاجة كما في الاستنجاء بالأحجار وجعل الجامد طهورا علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء
وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال إليها من النجاسة فالمائعات أولى وأحرى لأن إحالتها أشد وأسرع ولبسط هذه المسائل وما يتعلق بها مواضع غير هذا
وأما من قال أن الدهن ينجس بما يقع فيه ففي جواز الاستصباح به قولان في مذهب مالك والشافعي وأحمد أظهرهما جواز الاستصباح به كما نقل ذلك عن طائفة من الصحابة وفي طهارته بالغسل وجهان في مذهب مالك والشافعي وأحمد
أحدهما يطهر بالغسل كما اختاره بن شريح وأبو الخطاب وبن شعبان وغيرهم وهو المشهور من مذهب الشافعي وغيره
والثاني لا يطهر بالغسل وعليه أكثرهم وهذا النزاع يجري في
____________________
(21/511)
الدهن المتغير بالنجاسة فإنه نجس بلا ريب ففي جواز الاستصباح به هذا النزاع وكذلك في غسله هذا النزاع
وأما بيعه فالمشهور أنه لا يجوز بيعه لا من مسلم ولا من كافر وهو المشهور في مذهب الشافعي وغيره وعن أحمد أنه يجوز بيعه من كافر إذا أعلم بنجاسته كما روي عن أبي موسى الأشعري وقد خرج قول له بجواز بيعه منهم من خرجه على جواز الاستصباح به كما فعل أبو الخطاب وغيره وهو ضعيف لأن أحمد وغيره من الأئمة فرقوا بينهما
ومنهم من خرج جواز بيعه على جواز تطهيره لأنه إذا جاز تطهيره صار كالثوب النجس والإناء النجس وذلك يجوز بيعه وفاقا وكذلك أصحاب الشافعي لهم في جواز بيعه إذا قالوا بجواز تطهيره وجهان ومنهم من قال يجوز بيعه مطلقا والله أعلم وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل
وأما المائعات كالزيت والسمن وغيرهما من الأدهان كالخل واللبن وغيرهما إذا وقعت فيه نجاسة مثل الفأرة الميتة ونحوها من النجاسات ففي ذلك قولان للعلماء
____________________
(21/512)
أحدهما أن حكم ذلك حكم الماء وهذا قول الزهري وغيره من السلف وهو إحدى الروايتين عن أحمد ويذكر رواية عن مالك في بعض المواضع وهذا هو أصل قول أبي حنيفة حيث قاس الماء على المائعات
والثاني أن المائعات تنجس بوقوع النجاسة فيها بخلاف الماء فإنه يفرق بين قليله وكثيره وهذا مذهب الشافعي وهو الرواية الأخرى عن مالك وأحمد
وفيها قول ثالث هو رواية عن أحمد وهو الفرق بين المائعات المائية وغيرها فخل التمر يلحق بالماء وخل العنب لا يلحق به
وعلى القول الأول إذا كان الزيت كثيرا مثل أن يكون قلتين فإنه لا ينجس إلا بالتغير كما نص على ذلك أحمد في كلب ولغ في زيت كثير فقال لا ينجس وإن كان المائع قليلا انبنى على النزاع المتقدم في الماء القليل فمن قال إن القليل لا ينجس إلا بالتغير قال ذلك في الزيت وغيره وبذلك أفتى الزهري لما سئل عن الفأرة أو غيرها من الدواب تموت في سمن أو غيره من الأدهان فقال تلقى وما قرب منها ويؤكل سواء كان قليلا أو كثيرا وسواء كان جامدا أو مائعا وقد ذكر ذلك البخاري عنه في صحيحه لمعنى سنذكره إن شاء الله
____________________
(21/513)
ومن قال إن المائع القليل ينجس بوقوع النجاسة قال إنه كالماء فإنه يطهر بالمكاثرة كما يطهر الماء بالمكاثرة فإذا صب عليه زيت كثير طهر الجميع والقول بأن المائعات لا تنجس كما لا ينجس الماء هو القول الراجح بل هي أولى بعدم التنجيس من الماء وذلك لأن الله أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث والأطعمة والأشربة من الأدهان والألبان والزيت والخلول والأطعمة المائعة هي من الطيبات التي أحلها الله لنا فإذا لم يظهر فيها صفة الخبث لا طعمه ولا لونه ولا ريحه ولا شيء من أجزائه كانت على حالها في الطيب فلا يجوز أن تجعل من الخبيث المحرمة مع أن صفاتها صفات الطيب لا صفات الخبائث فإن الفرق بين الطيبات والخبائث بالصفات المميزة بينهما
ولأجل تلك الصفات حرم هذا وأحل هذا وإذا كان هذا الحب وقع فيه قطرة دم أو قطرة خمر وقد استحالت واللبن باق على صفته والزيت باق على صفته لم يكن لتحريم ذلك وجه فإن تلك قد استهلكت واستحالت ولم يبق لها حقيقة من الأحكام يترتب عليها شيء من أحكام الدم والخمر وإنما كانت أولى بالطهارة من الماء لأن الشارع رخص في إراقة الماء وإتلافه حيث لم يرخص في إتلاف المائعات كالاستنجاء فإنه يستنجي بالماء دون هذه وكذلك إزالة سائر النجاسات بالماء
____________________
(21/514)
وأما استعمال المائعات في ذلك فلا يصح سواء قيل تزول النجاسة أولا تزول ولهذا قال من قال من العلماء أن الماء يراق إذا ولغ فيه الكلب ولا تراق آنية الطعام والشراب
وأيضا فإن الماء أسرع تغيرا بالنجاسة من الملح والنجاسة أشد استحالة في غير الماء منها في الماء فالمائعات أبعد عن قبول التنجيس حسا وشرعا من الماء فحيث لا ينجس الماء فالمائعات أولى أن لا تنجس
وأيضا فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن النبي أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم فأجابهم النبي جوابا عاما مطلقا بأن يلقوها وما حولها وأن يأكلوا سمنهم ولم يستفصلهم هل كان مائعا أو جامدا وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال مع أن الغالب على سمن الحجاز أن يكون ذائبا وقد قيل أنه لا يكون إلا ذائبا والغالب على السمن أنه لا يبلغ القلتين مع أنه لم يستفصل هل كان قليلا أو كثيرا
فإن قيل فقد روي في الحديث إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وإن كان مائعا فلا تقربوه رواه أبو داود وغيره
____________________
(21/515)
قيل هذه الزيادة هي التي اعتمد عليها من فرق بين المائع والجامد واعتقدوا أنها ثابتة من كلام النبي وكانوا في ذلك مجتهدين قائلين بمبلغ علمهم واجتهادهم وقد ضعف محمد بن يحيى الذهلي حديث الزهري وصحح هذه الزيادة لكن قد تبين لغيرهم أن هذه الزيادة وقعت خطأ في الحديث ليست من كلام النبي
وهذا هو الذي تبين لنا ولغيرنا ونحن جازمون بأن هذه الزيادة ليست من كلام النبي فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها بعد أن كنا نفتي بها أولا فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل والبخاري والترمذي رحمة الله عليهما وغيرهما من أئمة الحديث قد بينوا لنا أنها باطلة وأن معمرا غلط في روايته لها عن الزهري وكان معمر كثير الغلط والأثبات من أصحاب الزهري كمالك ويونس وبن عيينة خالفوه في ذلك وهو نفسه اضطربت روايته في هذا الحديث إسنادا ومتنا فجعله عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وإنما هو عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس عن ميمونة وروي عنه في بعض طرقه أنه قال إن كان مائعا فاستصبحوا به وفي بعضها فلا تقربوه
والبخاري بين غلطه في هذا بأن ذكر في صحيحه عن يونس عن الزهري نفسه أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال إن كان
____________________
(21/516)
جامدا أو مائعا قليلا أو كثيرا تلقى وما قرب منها ويؤكل لأن النبي سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم فالزهري الذي مدار الحديث عليه قد أفتى في المائع والجامد بأن تلقى الفأرة وما قرب منها ويؤكل واستدل بهذا الحديث كما رواه عنه جمهور أصحابه فتبين أن من ذكر عنه الفرق بين النوعين فقد غلط
وأيضا فالجمود والميعان أمر لا ينضبط بل يقع الاشتباه في كثير من الأطعمة هل تلحق بالجامد أو المائع والشارع لا يفصل بين الحلال والحرام إلا بفصل مبين لا اشتباه فيه كما قال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } والمحرمات مما يتقون فلا بد أن يبين لهم المحرمات بيانا فاصلا بينها وبين الحلال وقد قال تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم }
وأيضا فإذا كانت الخمر التي هي أم الخبائث إذا انقلبت بنفسها حلت باتفاق المسلمين فغيرها من النجاسات أولى أن تطهر بالانقلاب وإذا قدر أن قطرة خمر وقعت في خل مسلم بغير اختياره فاستحالت كانت أولى بالطهارة
فإن قيل الخمر لما نجست بالاستحالة طهرت بالاستحالة بخلاف غيرها والخمر إذا قصد تخليلها لم تطهر
____________________
(21/517)
قيل في الجواب عن الأول أن جميع النجاسات نجست بالاستحالة فإن الإنسان يأكل الطعام ويشرب الشراب وهي طاهرة ثم تستحيل دما وبولا وغائطا فتنجس
وكذلك الحيوان يكون طاهرا فإذا مات احتبست فيه الفضلات وصار حاله بعد الموت خلاف حاله في الحياة فينجس ولهذا يطهر الجلد بعد الدباغ عند الجمهور سواء قيل إن الدباغ كالحياة أو قيل أنه كالذكاة فإن في ذلك قولين مشهورين للعلماء والسنة تدل على أن الدباغ كالذكاة
وأما ما قصد تخليله فذلك لأن حبس الخمر حرام سواء حبست لقصد التخليل أو لا والطهارة نعمة فلا تثبت النعمة بالفعل المحرم وسئل
عن الرجل يسافر في الشتاء ويصيبه بلل المطر والنداوة ويمس مقادم الدواب ورحالها وغير ذلك مما يشق الاحتراز منه على المسافر وينزل منازل متنجسة يفرش عليها فرشه وغير ذلك مما يعلم من أحوال المسافر فهل يعفى عن ذلك وإذا عفي عنه فهل إذا حضر في بلدته
____________________
(21/518)
يجب عليه غسل ما لامس ثيابه وفرشه وفراءه وهي مرتبطة بتلك المقاود وآلة الدواب لا تخلو من النجاسات وقد تكون في بعض الأوقات المقاود رطبة من بول أو بلل ويمسكها بيده ويلمس بيده ثيابه وقد تكون في الصيف يده عرقانة فهل يعفى عن جميع ذلك وإن عفي عنه في السفر هل يكون عفوا له في الحضر أم يجب غسل ما ذكر فإن الكثير من الناس لا يغسلون والأقل من الناس يعتنون بالغسل وهل كان الصحابة يغسلون من ذلك أم يتجاوزون وهل يكون الغسل من ذلك بخلاف السنة والغرض متابعة الصحابة وما كانوا عليه
وفي الرجل إذا مس ثوبه القصاب أو يده وعليه شيء من الدسم غسل ما أصابه منه فهل هو في ذلك مصيب أو هذا وسواس وفي الرجل أيضا يصلي إلى جانبه قصاب في المسجد فيقول مكان هذا القصاب غير طاهر لأن القصابين لا يتحرزون من النجاسة في أبدانهم وثيابهم وإذا صافحه قصاب غسل يده وكذلك إذا مسه الطواف باللحم غسل ما أصابه منه فهل هو مخطئ وما الحكم في ذلك وما الذي كانت عليه الصحابة
وفي الرجل يأكل الشرائح وقد جرت العادة بأن عمالها لا يغسلون اللحم فهل يحرم أكلها أو يكره لكون القصابين يذبحون بسكين
____________________
(21/519)
ويسلخون بها من غير غسل وإذا عفي عنه في الأكل فهل يعفى عن الرجل يأكل من ذلك ويصيب ثوبه وبدنه من ذلك ولا يغسله والمراد ما لو جرى بحضرة الصحابة أو فعل أفتونا مأجورين
فأجاب أما مقاود الخيل ورباطها فطاهر باتفاق الأئمة لأن الخيل طاهرة بالاتفاق ولكن الحمير فيها خلاف هل هي طاهرة أو نجسة أو مشكوك فيها والصحيح الذي لا ريب فيه أن شعرها طاهر إذ قد بينا أن شعر الكلب طاهر فشعر الحمار أولى وإنما الشبهة في ريق الحمار هل يلحق بريق الكلب أو بريق الخيل وأما مقاودها وبراذعها فمحكوم بطهارتها وغاية ما فيها أنه قد يصيبها بول الدواب وروثها
وبول البغل والحمار فيه نزاع بين العلماء منهم من يقول هو طاهر ومنهم من ينجسه وهم الجمهور وهو مذهب الأئمة الأربعة لكن هل يعفى عن يسيره على قولين هما روايتان عن أحمد فإذا عفي عن يسير بوله وروثه كان ما يصيب المقاود وغيرها معفوا عنه وهذا مع تيقن النجاسة
وأما مع الشك فالأصل في ذلك الطهارة والاحتياط في ذلك وسواس فإن الرجل إذا أصابه ما يجوز أن يكون طاهرا ويجوز أن
____________________
(21/520)
يكون نجسا لم يستحب له التجنب على الصحيح ولا الاحتياط فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر هو وصاحب له بميزاب فقطر على صاحبه منه ماء فقال صاحبه يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس فقال عمر يا صاحب الميزاب لا تخبره فإن هذا ليس عليه
وعلى القول بالعفو فإذا فرش في الخانات وغيرها على روث الحمير ونحوها فإنه يعفى عن يسير ذلك وأما روث الخيل فالصحيح أنه طاهر فلا يحتاج إلى عفو ولا يجب عليه شيء من ذلك إذا دخل الحضر وسواء كانت يده رطبة من ماء أو غير ذلك فإنه لا يضره من المقاود وغسل المقاود بدعة لم ينقل ذلك عن الصحابة رضوان الله عليهم بل كانوا يركبونها وامتن الله عليهم بذلك في قوله تعالى { والخيل والبغال والحمير لتركبوها } وكان للنبي بغلة يركبها وروي عنه أنه ركب الحمار وما نقل أنه أمر خدام الدواب أن يحترزوا من ذلك فصل
وثوب القصاب وبدنه محكوم بطهارته وإن كان عليه دسم وغسل اليدين من ذلك وسوسة وبدعة ومكانه من المسجد وغيره طاهر
____________________
(21/521)
وغاية ما يصيب القصاب أن الدم يصيبه أحيانا فالذي يماسه إذا لم يكن عليه دم لا يضره ولو أصابه دم يسير لعفي عنه لأن الدم اليسير معفو عنه ونجاسة القصاب ليست من نجاسة الدسم فإن الدسم طاهر لا نجاسة فيه ويسير الدم معفو عنه وغسل يده من مصافحة القصاب أو الطواف وسوسة وتنطع مخالف للسنة
وقد ذكر البخاري أن عمر بن الخطاب توضأ من جرة امرأة نصرانية وقد كان النبي يقبل زبيبة الحسن وقد صلى وهو حامل أمامة ابنة ابنته فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها ومثل هذا كثير في الآثار يبين سعة الأمر في ذلك فصل
أكل الشوي والشريح جائز سواء غسل اللحم أو لم يغسل بل غسل لحم الذبيحة بدعة فما زال الصحابة رضي الله عنهم على عهد النبي يأخذون اللحم فيطبخونه ويأكلونه بغير غسله وكانوا يرون الدم في القدر خطوطا وذلك أن الله إنما حرم عليهم الدم المسفوح أي المصبوب المهراق فأما ما يبقى في العروق فلم يحرمه ولكن حرم عليهم أن يتبعوا العروق كما تفعل اليهود الذين بظلم منهم
____________________
(21/522)
حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا
وسكين القصاب يذبح بها ويسلخ فلا تحتاج إلى غسل فإن غسل السكاكين التي يذبح بها بدعة وكذلك غسل السيوف وإنما كان السلف يمسحون ذلك مسحا ولهذا جاز في أحد قولي العلماء في الأجسام الصقيلة كالسيف والمرآة إذا أصابها نجاسة أن تمسح ولا تغسل وهذا فيما لا يعفى عنه
فأما ما تعين عدم نجسه فلا يحتاج إلى غسل ولا مسح واليسير يعفى عنه وما عفي عنه فالحمل والمشي بلا ريب فإن كل ما جاز أكله جاز مباشرته في الصلاة وغيرها وليس كل ما جازت مباشرته في الصلاة وغيرها جاز أكله كالسموم المضرة فإنه لا يجوز أكلها ولو باشرها وإن كانت طاهرة تجوز مباشرتها في الصلاة
وذلك لأن الله تعالى حرم علينا الخبائث وأباح لنا الطيبات والخبيث يضر والطيب ينفع وما ضر في مباشرة الظاهر كانت مضرته بممازجة الأبدان إذا أكل أقوى وأقوى وليس كل ما ضر بالممازجة والمخالطة يضر بالمباشرة والملامسة ولهذا كان ما عفي عنه في الحمل كدم الجرح والدماميل وما يعلق بالسكين من دم الشاة ونحو ذلك فهذا إذا وقع في ماء أو مائع فقيل إنه ينجسه وإنما يعفى عنه في المائعات كما تقدم من أن الله إنما حرم الدم المسفوح وقد كان
____________________
(21/523)
أصحاب رسول الله يدخل أحدهم أصبعه في خيشومه فيلوث أصابعه بالدم فيمضي في صلاته وكذلك كانت أيديهم تصيب الدماميل والجراح ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يتحرجون من مباشرة المائعات حتى يغسلوا أيديهم
وقد ثبت أنهم كانوا يضعون اللحم بالقدر فيبقى الدم في الماء خطوطا وهذا لا أعلم بين العلماء خلافا في العفو عنه وأنه لا ينجس باتفاقهم وحينئذ فأي فرق بين كون الدم في مرق القدر أو مائع آخر وكونه في السكين أو غيرها والله أعلم وسئل
عن رجل عنده ستون قنطار زيت بالدمشقي وقعت فيه فأرة في بئر واحدة فهل ينجس بذلك أم لا وهل يجوز بيعه او استعماله أم لا أفتونا مأجورين
فأجاب الحمد لله لا ينجس بذلك بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلا بالتغير لكن تلقي النجاسة وما حولها وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة
____________________
(21/524)
من العلماء كالزهري والبخاري صاحب الصحيح
وقد ذكر ذلك رواية عن مالك وهو أيضا مذهب أبي حنيفة فإنه سوى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة وفي إزالة النجاسة وهو رواية عن أحمد في الإزالة لكن أبو حنيفة رأى مجرد الوصول منجسا وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك فلم يروا الوصول منجسا مع الكثرة
وتنازعوا في القليل
إذ من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبث إذا وقع في الطيب أفسده ومنهم من قال إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره فأما إذا استهلك فيه واستحال فلا وجه لإفساده كما لو انقلبت الخمرة خلا بغير قصد آدمي فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة لكن مذهبه في الماء معروف وعلى هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع ولا دليل على نجاسته لا في كتاب الله ولا سنة رسوله
وعمدة الذين نجسوه احتجاجهم بحديث رواه أبو داود وغيره عن النبي أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وإن كان مائعا فلا
____________________
(21/525)
تقربوه وهذا الحديث إنما يدل لو دل على نجاسة السمن الذي وقع فيه الفأرة فكيف والحديث ضعيف بل باطل غلط فيه معمر على الزهري غلطا معروفا عند النقاد الجهابذة كما ذكره الترمذي عن البخاري
ومن اعتقد من الفقهاء أنه على شرط الصحيح فلم يعلم العلة الباطنة فيه التي توجب العلم ببطلانه فإن علم العلل من خواص علم أئمة الحديث ولهذا بين البخاري في صحيحه ما يوجب فساد هذه الرواية وأن الحديث الصحيح هو على طهارته أدل منه على النجاسة فقال
باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب
حدثنا عبدان قال حدثنا عبد الله يعني بن المبارك عن يونس عن الزهري أنه سئل عن الدابة التي تموت في الزيت أو السمن وهو جامد أو غير جامد الفأرة أو غيرها قال بلغنا أن رسول الله أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل وفي حديث عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس عن ميمونة قال سئل النبي عن فأرة وقعت في سمن فقال ألقوها وما حولها وكلوه فذكر البخاري عن بن شهاب الزهري أعلم الأمة بالسنة في زمانه أنه أفتى في الزيت والسمن الجامد وغير الجامد إذا ماتت فيه الفأرة أنها تطرح وما قرب منها
____________________
(21/526)
واستدل بالحديث الذي رواه عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس أن النبي سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال ألقوها وما حولها وكلوه ولم يقل النبي إن كان مائعا فلا تقربوه بل هذا باطل فذكر البخاري رضي الله عنه هذا ليبين أن من ذكر عن الزهري أنه روى في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه فإنه أجاب بالعموم في الجامد والذائب مستدلا بهذا الحديث بعينه لا سيما والسمن بالحجاز يكون ذائبا أكثر مما يكون جامدا بل قيل إنه لا يكون بالحجاز جامدا بحال
فإطلاق النبي الجواب من غير تفصيل يوجب العموم إذ السؤال كالمعاد في الجواب فكأنه قال إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال هذا إذا كان السمن بالحجاز يكون جامدا ويكون ذائبا فأما إن كان وجود الجامد نادرا أو معدوما كان الحديث نصا في أن السمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة فإنها تلقى وما حولها ويؤكل وبذلك أجاب الزهري فإن مذهبه أن الماء لا ينجس قليله ولا كثيره إلا بالتغير وقد ذكر البخاري في أوائل الصحيح التسوية بين الماء والمائعات
وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة ودلائلها وكلام العلماء فيها
____________________
(21/527)
في غير هذا الموضع كيف وفي تنجيس مثل ذلك وتحريمه من فساد الأطعمة العظيمة وإتلاف الأموال العظيمة القدر ما لا تأتي بمثله الشريعة الجامعة للمحاسن كلها والله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث تنزيها لنا عن المضار وأباح لنا الطيبات كلها لم يحرم علينا شيئا من الطيبات كما حرم على أهل الكتاب بظلمهم طيبات أحلت لهم ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } والله سبحانه أعلم والحمد لله وحده وصلاته على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وسئل
عن الزيت إذا كان في بئر ووقعت فيه نجاسة مثل الفأرة والحية ونحوهما وماتا فيه فما الحكم إذا كان دون القلتين وإذا ولغ الكلب في الزيت أو اللبن فما الحكم فيه
فأجاب رحمه الله إذا كان أكثر من القلتين فهو طاهر عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم وإن كان دون القلتين ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره ومذهب المدنيين وكثير من أهل الحديث أنه طاهر كإحدى الروايتين عن أحمد
____________________
(21/528)
وهو اختيار طائفة من أصحابه كابن عقيل وغيره وكذلك المائع إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فيه نزاع معروف وقد بسط في موضع آخر
والأظهر أنه إذا لم يكن للنجاسة فيه أثر بل استهلكت فيه ولم تغير له لونا ولا طعما ولا ريحا فإنه لا ينجس والله سبحانه أعلم وسئل
عما إذا ولغ الكلب في اللبن ومخض اللبن وظهر فيه زبدة فهل يحل تطهير الزبدة أفتونا مأجورين
فأجاب اللبن وغيره من المائعات هل يتنجس بملاقاة النجاسة أو حكمه حكم الماء هذا فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن أحمد وكذلك مالك له في النجاسة الواقعة في الطعام الكثير هل تنجسه فيه قولان
وأما ولوغ الكلب في الطعام فلا ينجسه عند مالك فهذا على أحد قولي العلماء لم ينجس وعلى القول الآخر ينجس وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عن أصحابه لكن عند هؤلاء هل يطهر
____________________
(21/529)
الدهن بالغسل فيه قولان في مذهب الشافعي وأحمد وهما قولان في مذهب مالك أيضا
فمن قال إن الأدهان تطهر بالغسل قال بطهارته بالغسل وإلا فلا والله أعلم وسئل
عن الكلب إذا ولغ في اللبن أو غيره ما الذي يجب في ذلك
فأجاب وأما الكلب فقد تنازع العلماء فيه على ثلاثة أقوال
أحدها أنه طاهر حتى ريقه وهذا هو مذهب مالك
والثاني نجس حتى شعره وهذا هو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد
والثالث شعره طاهر وريقه نجس وهذا هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهذا أصح الأقوال فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك وإذا ولغ في الماء أريق الماء
____________________
(21/530)
وإن ولغ في اللبن ونحوه فمن العلماء من يقول يؤكل ذلك الطعام كقول مالك وغيره ومنهم من يقول يراق كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد فأما إن كان اللبن كثيرا فالصحيح أنه لا ينجس كما تقدم وسئل شيخ الإسلام رحمه الله
عن الجبن الإفرنجي والجوخ هل هما مكروهان أو قال أحد من الأئمة ممن يعتمد قوله إنهما نجسان وأن الجبن يدهن بدهن الخنزير وكذلك الجوخ
فأجاب الحمد لله أما الجبن المجلوب من بلاد الإفرنج فالذين كرهوه ذكروا لذلك سببين
أحدهما أنه يوضع بينه شحم الخنزير إذا حمل في السفن
والثاني أنهم لا يذكون ما تصنع منه الأنفحة بل يضربون رأس البقر ولا يذكونه
فأما الوجه الأول فغايته أن ينجس ظاهر الجبن فمتى كشط الجبن أو غسل طهر فإن ذلك ثبت في الصحيح أن النبي
____________________
(21/531)
سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم فإذا كان ملاقاة الفأرة للسمن لا توجب نجاسة جميعه فكيف تكون ملاقاة الشحم النجس للجبن توجب نجاسة باطنه ومع هذا فإنما يجب إزالة ظاهره إذا تيقن إصابة النجاسة له وأما مع الشك فلا يجب ذلك
وأما الوجه الثاني فقد علم أنه ليس كل ما يعقرونه من الأنعام يتركون ذكاته بل قد قيل إنهم إنما يفعلون هذا بالبقر وقيل أنهم يفعلون ذلك حتى يسقط ثم يذكونه ومثل هذا لا يوجب تحريم ذبائحهم بل إذا اختلط الحرام بالحلال في عدد لا ينحصر كاختلاط أخته بأهل بلد واختلاط الميتة والمغصوب بأهل بلدة لم يوجب ذلك تحريم ما في البلد كما إذا اختلطت الأخت بالأجنبية والمذكى بالميت فهذا القدر المذكور لا يوجب تحريم ذبائحهم المجهولة الحال وبتقدير أن يكون الجبن مصنوعا من أنفحة ميتة فهذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء
أحدهما أن ذلك مباح طاهر كما هو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين
والثاني أنه حرام نجس كقول مالك والشافعي وأحمد في
____________________
(21/532)
الرواية الأخرى والخلاف مشهور في لبن الميتة وأنفحتها هل هو طاهر أم نجس والمطهرون احتجوا بأن الصحابة أكلوا جبن المجوس مع كون ذبائحهم ميتة ومن خالفهم نازعهم كما هو مذكور في موضع آخر
وأما الجوخ فقد حكى بعض الناس أنهم يدهنونه بشحم الخنزير وقال بعضهم إنه ليس يفعل هذا به كله فإذا وقع الشك في عموم نجاسة الجوخ لم يحكم بنجاسة عينه لإمكان أن تكون النجاسة لم تصبها إذ العين طاهرة ومتى شك في نجاستها فالأصل الطهارة ولو تيقنا نجاسة بعض أشخاص نوع دون بعض لم نحكم بنجاسة جميع أشخاصه ولا بنجاسة ما شككنا في تنجسه ولكن إذا تيقن النجاسة أو قصد قاصد إزالة الشك فغسل الجوخة يطهرها فإن ذلك صوف أصابه دهن نجس وإصابة البول والدم لثوب القطن والكتان أشد وهو به ألصق
وقد قال النبي لمن أصاب دم الحيض ثوبها حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء وفي رواية ولا يضرك أثره والله أعلم
____________________
(21/533)
وسئل
عن مريض طبخ له دواء فوجد فيه زبل الفأر
فأجاب هذه المسألة فيها نزاع معروف بين العلماء هل يعفى عن يسير بعر الفأر ففي أحد القولين في مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما أنه يعفى عن يسيره فيؤكل ما ذكر وهذا أظهر القولين والله أعلم وقال رحمه الله
أما بعد فقد كنا في مجلس التفقه في الدين والنظر في مدارك الأحكام المشروعة تصويرا وتقريرا وتأصيلا وتفصيلا فوقع الكلام في شرح القول في حكم مني الإنسان وغيره من الدواب الطاهرة وفي أرواث البهائم المباحة أهي طاهرة أم نجسة على وجه أحب أصحابنا تقييده وما يقاربه من زيادة ونقصان فكتبت لهم في ذلك فأقول ولا حول ولا قوة إلا بالله
هذا مبني على أصل وفصلين أما الأصل
____________________
(21/534)
فاعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها أن تكون حلالا مطلقا للآدميين وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها ومماستها وهذه كلمة جامعة ومقالة عامة وقضية فاضلة عظيمة المنفعة واسعة البركة يفزع إليها حملة الشريعة فيما لا يحصى من الأعمال وحوادث الناس وقد دل عليها أدلة عشرة مما حضرني ذكره من الشريعة وهي كتاب الله وسنة رسوله واتباع سبيل المؤمنين المنظومة في قوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وقوله { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } ثم مسالك القياس والاعتبار ومناهج الرأي والاستبصار
الصنف الأول الكتاب وهو عدة آيات
الآية الأولى قوله تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } والخطاب لجميع الناس لافتتاح الكلام بقوله { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } ووجه الدلالة أنه أخبر أنه خلق جميع ما في الأرض للناس مضافا إليهم باللام واللام حرف الإضافة وهي توجب اختصاص المضاف بالمضاف إليه واستحقاقه إياه من الوجه الذي يصلح له وهذا المعنى يعم موارد استعمالها كقولهم المال لزيد والسرج للدابة وما أشبه ذلك فيجب إذا أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض
____________________
(21/535)
فضلا من الله ونعمة وخص من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث لما فيها من الإفساد لهم في معاشهم أو معادهم فيبقى الباقي مباحا بموجب الآية
الآية الثانية قوله تعالى { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } دلت الآية من وجهين
أحدهما أنه وبخهم وعنفهم على ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه قبل أن يحله باسمه الخاص فلو لم تكن الأشياء مطلقة مباحة لم يلحقهم ذم ولا توبيخ إذ لو كان حكمها مجهولا أو كانت محظورة لم يكن ذلك
الوجه الثاني أنه قال { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } والتفصيل التبيين فبين أنه بين المحرمات فما لم يبين تحريمه ليس بمحرم وما ليس بمحرم فهو حلال إذ ليس إلا حلال أو حرام
الآية الثالثة قوله تعالى { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } وإذا كان ما في الأرض مسخرا لنا جاز استمتاعنا به كما تقدم
____________________
(21/536)
الآية الرابعة قوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا } الآية فما لم يجد تحريمه ليس بمحرم وما لم يحرم فهو حل ومثل هذه الآية قوله { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } الآية لأن حرف { إنما } يوجب حصر الأول في الثاني فيجب انحصار المحرمات فيما ذكر وقد دل الكتاب على هذا الأصل المحيط في مواضع أخر
الصنف الثاني السنة والذي حضرني منها حديثان
الحديث الأول في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله إن أعظم المسلمين جرما من يسأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته دل ذلك على أن الأشياء لا تحرم إلا بتحريم خاص لقوله لم يحرم ودل أن التحريم قد يكون لأجل المسألة فبين بذلك أنها بدون ذلك ليست محرمة وهو المقصود
الثاني روى أبو داود في سننه عن سلمان الفارسي قال سئل رسول الله عن شيء من السمن والجبن والفراء فقال الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه فمنه دليلان
____________________
(21/537)
أحدهما أنه أفتى بالإطلاق فيه
الثاني قوله وما سكت عنه فهو مما عفا عنه نص في أن ما سكت عنه فلا إثم عليه فيه وتسميته هذا عفوا كأنه والله أعلم لأن التحليل هو الإذن في التناول بخطاب خاص والتحريم المنع من التناول كذلك والسكوت عنه لم يؤذن بخطاب يخصه ولم يمنع منه فيرجع إلى الأصل وهو أن لا عقاب إلا بعد الإرسال وإذا لم يكن فيه عقاب لم يكن محرما وفي السنة دلائل كثيرة على هذا الأصل
الصنف الثالث اتباع سبيل المؤمنين وشهادة شهداء الله في أرضه الذين هم عدول الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر المعصومين من اجتماعهم على ضلالة المفروض اتباعهم وذلك أني لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور وقد نص على ذلك كثير ممن تكلم في أصول الفقه وفروعه وأحسب بعضهم ذكر في ذلك الإجماع يقينا أو ظنا كاليقين
فإن قيل كيف يكون في ذلك إجماع وقد علمت اختلاف الناس في الأعيان قبل مجيء الرسل وإنزال الكتب هل الأصل فيها الحظر أو الإباحة أو لا يدري ما الحكم فيها أو أنه لا حكم لها أصلا واستصحاب الحال دليل متبع وأنه قد ذهب بعض من صنف في أصول
____________________
(21/538)
الفقه من أصحابنا وغيرهم على أن حكم الأعيان الثابت لها قبل الشرع مستصحب بعد الشرع وأن من قال بأن الأصل في الأعيان الحظر استصحب هذا الحكم حتى يقوم دليل الحل
فأقول هذا قول متأخر لم يؤثر أصله عن أحد من السابقين ممن له قدم وذلك أنه قد ثبت أنها بعد مجيء الرسل على الإطلاق وقد زال حكم ذلك الأصل بالأدلة السمعية التي ذكرتها ولست أنكر أن بعض من لم يحط علما بمدارك الأحكام ولم يؤت تمييزا في مظان الاشتباه ربما سحب ذيل ما قبل الشرع على ما بعده إلا أن هذا غلط قبيح لو نبه له لتنبه مثل الغلط في الحساب لا يهتك حريم الإجماع ولا يثلم سنن الاتباع
ولقد اختلف الناس في تلك المسألة هل هي جائزة أم ممتنعة لأن الأرض لم تخل من نبي مرسل إذ كان آدم نبيا مكلما حسب اختلافهم في جواز خلو الأقطار عن حكم مشروع وإن كان الصواب عندنا جوازه
ومنهم من فرضها فيمن ولد بجزيرة إلى غير ذلك من الكلام الذي يبين لك أن لا عمل بها وأنها نظر محض ليس فيه عمل كالكلام في مبدإ اللغات وشبه ذلك على أن الحق الذي لا راد له
____________________
(21/539)
أن قبل الشرع لا تحليل ولا تحريم فإذا لا تحريم يستصحب ويستدام فيبقى الآن كذلك والمقصود خلوها عن المآثم والعقوبات
وأما مسلك الاعتبار بالأشباه والنظائر واجتهاد الرأي في الأصول الجوامع فمن وجوه كثيرة ننبه على بعضها
أحدها أن الله سبحانه خلق هذه الأشياء وجعل فيها للإنسان متاعا ومنفعة ومنها ما قد يضطر إليه وهو سبحانه جواد ماجد كريم رحيم غني صمد والعلم بذلك يدل على العلم بأنه لا يعاقبه ولا يعذبه على مجرد استمتاعه بهذه الأشياء وهوالمطلوب
وثانيها أنها منفعة خالية عن مضرة فكانت مباحة كسائر ما نص على تحليله وهذا الوصف قد دل على تعلق الحكم به النص وهو قوله { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فكل ما نفع فهو طيب وكل ما ضر فهو خبيث والمناسبة الواضحة لكل ذي لب أن النفع يناسب التحليل والضرر يناسب التحريم والدوران فإن التحريم يدور مع المضار وجودا في الميتة والدم ولحم الخنزير وذوات الأنياب والمخالب والخمر وغيرها مما يضر بأنفس الناس وعدما في الأنعام والألبان وغيرها
وثالثها أن هذه الأشياء إما أن يكون لها حكم أولا يكون
____________________
(21/540)
والأول صواب والثاني باطل بالاتفاق وإذا كان لها حكم فالوجوب والكراهة والاستحباب معلومة البطلان بالكلية لم يبق إلا الحل والحرمة باطلة لانتفاء دليلها نصا واستنباطا لم يبق إلا الحل وهو المطلوب
إذا ثبت هذا الأصل فنقول الأصل في الأعيان الطهارة لثلاثة أوجه
أحدها أن الطاهر ما حل ملابسته ومباشرته وحمله في الصلاة والنجس بخلافه وأكثر الأدلة السالفة تجمع جميع وجوه الانتفاع بالأشياء أكلا وشربا ولبسا ومسا وغير ذلك فثبت دخول الطهارة في الحل وهو المطلوب والوجهان الآخران نافلة
الثاني أنه إذا ثبت أن الأصل جواز أكلها وشربها فلأن يكون الأصل ملابستها ومخالطتها الخلق أولى وأحرى وذلك لأن الطعام يخالط البدن ويمازجه وينبت منه فيصير مادة وعنصرا له فإذا كان خبيثا صار البدن خبيثا فيستوجب النار ولهذا قال النبي كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب وأما ما يماس البدن ويباشره فيؤثر أيضا في البدن من ظاهر كتأثير الأخباث في أبداننا وفي ثيابنا المتصلة بأبداننا لكن تأثيرها دون تأثير المخالط الممازج فإذا ثبت حل مخالطة الشيء وممازجته فحل
____________________
(21/541)
ملابسته ومباشرته أولى وهذا قاطع لا شبهة فيه وطرد ذلك أن كل ما حرم مباشرته وملابسته حرم مخالطته وممازجته ولا ينعكس فكل نجس محرم الأكل وليس كل محرم الأكل نجسا وهذا في غاية التحقيق
الوجه الثالث أن الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة وأن النجاسات محصاة مستقصاة وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر كما يقولونه فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك فإنه غاية المتقابلات تجد أحد الجانبين فيها محصورا مضبوطا والجانب الآخر مطلق مرسل والله تعالى الهادي للصواب الفصل الأول
القول في طهارة الأرواث والأبوال من الدواب والطير التي لم تحرم وعلى ذلك عدة أدلة
الدليل الأول أن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر وهذه الأعيان لم يبين لنا نجاستها فهي طاهرة أما الركن الأول من الدليل فقد ثبت بالبراهين الباهرة والحجج القاهرة وأما الثاني فنقول أن المنفي على
____________________
(21/542)
ضربين نفي نحصره ونحيط به كعلمنا بأن السماء ليس فيها شمسان ولا قمران طالعان وأنه ليس لنا إلا قبلة واحدة وأن محمدا لا نبي بعده بل علمنا أنه لا إله إلا الله وأن ما ليس بين اللوحين ليس بقرآن وأنه لم يفرض إلا صوم شهر رمضان وعلم الإنسان أنه ليس في دراهم قبل ولا تغير وأنه لم يطعم وأنه البارحة لم ينم وغير ذلك مما يطول عده فهذا كله نفي مستيقن يبين خطأ من يطلق قوله لا تقبل الشهادة على النفي
الثاني مالا يستيقن نفيه وعدمه ثم منه ما يغلب على القلب ويقوى في الرأي ومنه ما لا يكون كذلك فإذا رأينا حكما منوطا بنفي من الصنف الثاني فالمطلوب أن نرى النفي ويغلب على قلوبنا
والاستدلال بالاستصحاب وبعدم المخصص وعدم الموجب لحمل الكلام على مجازه هو من هذا القسم فإذا بحثنا وسبرنا عما يدل على نجاسة هذه الأعيان والناس يتكلمون فيها منذ مئات من السنين فلم نجد فيها إلا أدلة معروفة شهدنا شهادة جازمة في هذا المقام بحسب علمنا أن لا دليل إلا ذلك
فنقول الاستدلال بهذا الدليل إنما يتم بفسخ ما استدل به على النجاسة
____________________
(21/543)
ونقض ذلك وقد احتج لذلك بمسلكين أثري ونظري
أما الأثري فحديث بن عباس المخرج في الصحيحين أن رسول الله مر بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وروى لا يستنزه والبول اسم جنس محلى باللام فيوجب العموم كالإنسان في قوله { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا } فإن المرتضى أن أسماء الأجناس تقتضي من العموم ما تقتضيه أسماء الجموع لست أقول الجنس الذي يفصل بين واحده وكثيره الهاء كالتمر والبر والشجر فإن حكم تلك حكم الجموع بلا ريب وإنما أقول اسم الجنس المفرد الدال على الشيء وعلى ما أشبهه كإنسان ورجل وفرس وثوب وشبه ذلك
وإذا كان النبي قد أخبر بالعذاب من جنس البول وجب الاحتراز والتنزه من جنس البول فيجمع ذلك أبوال جميع الدواب والحيوان الناطق والبهيم ما يؤكل وما لا يؤكل فيدخل بول الأنعام في هذا العموم وهو المقصود
وهذا قد اعتمد عليه بعض من يدعي الاستدلال بالسمع وبعض الرأي وارتضاه بعض من يتكايس وجعله مفزعا وموئلا
____________________
(21/544)
المسلك الثاني النظري وهو من ثلاثة أوجه
أحدها القياس على البول المحرم فنقول بول وروث فكان نجسا كسائر الأبوال فيحتاج هذا القياس أن يبين أن مناط الحكم في الأصل هو أنه بول وروث وقد دل على ذلك تنبيهات النصوص مثل قوله اتقوا البول وقوله كان بنو إسرائيل إذا اصاب ثوب أحدهم البول قرضه بالمقراض
والمناسبة أيضا فإن البول والروث مستخبث مستقذر تعافه النفوس على حد يوجب المباينة وهذا يناسب التحريم حملا للناس على مكارم الأخلاق ومحاسن الأحوال وقد شهد له بالاعتبار تنجس أرواث الخبائث
الثاني أن نقول إذا فحصنا وبحثنا عن الحد الفاصل بين النجاسات والطهارات وجدنا ما استحال في أبدان الحيوان عن أغذيتها فما صار جزءا فهو طيب الغذاء وما فضل فهو خبيثه ولهذا يسمى رجيعا كأنه أخذ ثم رجع أي رد فما كان من الخبائث يخرج من الجانب الأسفل كالغائط والبول والمني والوذي والودي فهو نجس وما خرج من الجانب الأعلى كالدمع والريق والبصاق والمخاط ونخامة الرأس فهو طاهر وما تردد كبلغم المعدة ففيه تردد
____________________
(21/545)
وهذا الفصل بين ما خرج من أعلى البدن وأسفله قد جاء عن سعيد بن المسيب ونحوه وهو كلام حسن في هذا المقام الضيق الذي لم يفقه كل الفقه حتى زعم زاعمون أنه تعبد محض وابتلاء وتمييز بين من يطيع وبين من يعصي
وعندنا أن هذا الكلام لا حقيقة له بمفرده حتى يضم إليه أشياء أخر فرق من فرق بين ما استحال في معدة الحيوان كالروث والقيء وما استحال من معدته كاللبن
وإذا ثبت ذلك فهذه الأبوال والأرواث مما يستحيل في بدن الحيوان وينصع طيبه ويخرج خبيثه من جهة دبره وأسفله ويكون نجسا فإن فرق بطيب لحم المأكول وخبث لحم المحرم فيقال طيب الحيوان وشرفه وكرمه لا يوجب طهارة روثه فإن الإنسان إنما حرم لحمه كرامة له وشرفا ومع ذلك فبوله أخبث الأبوال
ألا ترى أنكم تقولون إن مفارقة الحياة لا تنجسه وأن ما أبين منه وهو حي فهو طاهر أيضا كما جاء في الأثر وإن لم يؤكل لحمه فلو كان إكرام الحيوان موجبا لطهارة روثه لكان الإنسان في ذلك القدح المعلى وهذا سر المسألة ولبابها
الوجه الثالث أنه في الدرجة السفلى من الاستخباث والطبقة
____________________
(21/546)
النازلة من الاستقذار كما شهد به أنفس الناس وتجده طبائعهم وأخلاقهم حتى لا نكاد نجد أحدا ينزله منزلة در الحيوان ونسله وليس لنا إلا طاهر أو نجس وإذا فارق الطهارات دخل في النجاسات والغالب عليه أحكام النجاسات من مباعدته ومجانبته فلا يكون طاهرا لأن العين إذا تجاذبتها الأصول لحقت بأكثرها شبها وهو متردد بين اللبن وبين غيره من البول وهو بهذا أشبه
ويقوي هذا أنه قال تعالى { في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا } قد ثبت أن الدم نجس فكذلك الفرث لتظهر القدرة والرحمة في إخراج طيب من بين خبيثين ويبين هذا جميعه أنه يوافق غيره من البول في خلقه ولونه وريحه وطعمه فكيف يفرق بينهما مع هذه الجوامع التي تكاد تجعل حقيقة أحدهما حقيقة الآخر
فالوجه الأول قياس التمثيل وتعليق الحكم بالمشترك المدلول عليه
والثاني قياس التعليل بتنقيح مناط الحكم وضبط أصل كلي
والثالث التفريق بينه وبين جنس الطاهرات فلا يجوز إدخاله فيها فهذه أنواع القياس أصل ووصل وفصل
فالوجه الأول هو الأصل والجمع بينه وبين غيره من الأخباث
____________________
(21/547)
والثاني هوالأصل والقاعدة والضابط الذي يدخل فيه
والثالث الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات وهو قياس العكس فالجواب عن هذه الحجج والله المستعان
أما المسلك الأول فضعيف جدا لوجهين
أحدهما أن اللام في البول للتعريف فتفيد ما كان معروفا عند المخاطبين فإن كان المعروف واحدا معهودا فهو المراد وما لم يكن ثم عهد بواحد أفادت الجنس إما جميعه على المرتضى أو مطلقه على رأي بعض الناس وربما كانت كذلك وقد نص أهل المعرفة باللسان والنظر في دلالات الخطاب أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود فأما إذا كان ثم شيء معهود مثل قوله تعالى { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول } صار معهودا بتقدم ذكره وقوله { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم } هو معين لأنه معهود بتقدم معرفته وعلمه فإنه لا يكون لتعريف جنس ذلك الاسم حتى ينظر فيه هل يفيد تعريف عموم الجنس أو مطلق الجنس فافهم هذا فإنه من محاسن المسالك
فإن الحقائق ثلاثة عامة وخاصة ومطلقة
فإذا قلت الإنسان قد تريد جميع الجنس وقد تريد مطلق
____________________
(21/548)
الجنس وقد تريد شيئا بعينه من الجنس
فأما الجنس العام فوجوده في القلوب والنفوس علما ومعرفة وتصورا
وأما الخاص من الجنس مثل زيد وعمرو فوجوده هو حيث حل وهو الذي يقال له وجود في الأعيان وفي خارج الأذهان وقد يتصور هكذا في القلب خاصا متميزا
وأما الجنس المطلق مثل الإنسان المجرد عن عموم وخصوص الذي يقال له نفس الحقيقة ومطلق الجنس فهذا كما لا يتقيد في نفسه لا يتقيد بمحله إلا أنه لا يدرك إلا بالقلوب فتجعل محلا له بهذا الاعتبار وربما جعل موجودا في الأعيان باعتبار أن في كل إنسان حظا من مطلق الإنسانية فالموجود في العين المعينة من النوع حظها وقسطها
فإذا تبين هذا فقوله فإنه كان لا يستنزه من البول بيان للبول المعهود وهو الذي كان يصيبه وهو بول نفسه يدل على هذا أيضا سبعة أوجه
أحدها ما روى فإنه كان لا يستبرئ من البول والاستبراء لا يكون إلا من بول نفسه لأنه طلب براءة الذكر كاستبراء الرحم من الولد
____________________
(21/549)
الثاني أن اللام تعاقب الإضافة فقوله من البول كقوله من بوله وهذا مثل قوله { مفتحة لهم الأبواب } أي أبوابها
الثالث أنه قد روي هذا الحديث من وجوه صحيحة فكان لا يستتر من بوله وهذا يفسر تلك الرواية
ثم هذا الاختلاف في اللفظ متأخر عن منصور روى الأعمش عن مجاهد عن بن عباس ومعلوم أن المحدث لا يجمع بين هذين اللفظين والأصل والظاهر عدم تكرر قول النبي فعلم أنهم رووه بالمعنى ولم يبن أي اللفظين هو الأصل
ثم إن كان النبي قد قال اللفظين مع أن معنى أحدهما يجوز أن يكون موافقا لمعنى الآخر ويجوز أن يكون مخالفا فالظاهر الموافقة يبين هذا أن الحديث في حكاية حال لما مر النبي بقبرين ومعلوم أنها قضية واحدة
الرابع أنه إخبار عن شخص بعينه أن البول كان يصيبه ولا يستتر منه ومعلوم أن الذي جرت العادة به بول نفسه
الخامس أن الحسن قال البول كله نجس وقال أيضا لا بأس بأبوال الغنم فعلم أن البول المطلق عنده هو بول الإنسان
____________________
(21/550)
السادس أن هذا هو المفهوم للسامع عند تجرد قلبه عن الوسواس والتمريح فإنه لا يفهم من قوله فإنه كان لا يستتر من البول إلا بول نفسه ولو قيل إنه لم يخطر لأكثر الناس على بالهم جميع الأبوال من بول بعير وشاة وثور لكان صدقا
السابع أنه يكفي بأن يقال إذا احتمل أن يريد بول نفسه لأنه المعهود وأن يريد جميع جنس البول لم يجز حمله على أحدهما إلا بدليل فيقف الاستدلال وهذا لعمري تنزل وإلا فالذي قدمنا أصل مستقر من أنه يجب حمله على البول المعهود وهو نوع من أنواع البول وهو بول نفسه الذي يصيبه غالبا ويترشرش على أفخاذه وسوقه وربما استهان بإنقائه ولم يحكم الاستنجاء منه فأما بول غيره من الآدميين فإن حكمه وإن ساوى حكم بول نفسه فليس ذلك من نفس هذه الكلمة بل لاستوائهما في الحقيقة والاستواء في الحقيقة يوجب الاستواء في الحكم
ألا ترى أن أحدا لا يكاد يصيبه بول غيره ولو أصابه لساءه ذلك والنبي إنما أخبر عن أمر موجود غالب في هذا الحديث وهو قوله اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر منه فكيف يكون عامة عذاب القبر من شيء لا يكاد يصيب أحدا من الناس وهذا بين لا خفاء به
____________________
(21/551)
الوجه الثاني أنه لو كان عاما في جميع الأبوال فسوف نذكر من الأدلة الخاصة على طهارة هذا النوع ما يوجب اختصاصه من هذا الاسم العام ومعلوم من الأصول المستقرة إذا تعارض الخاص والعام فالعمل بالخاص أولى لأن ترك العمل به إبطال له وإهدار والعمل به ترك لبعض معاني العام وليس استعمال العام وإرادة الخاص ببدع في الكلام بل هو غالب كثير
ولو سلمنا التعارض على التساوي من هذا الوجه فإن في أدلتنا من الوجوه الموجبة للتقديم والترجيح وجوها أخرى من الكثرة والعمل وغير ذلك مما سنبينه إن شاء الله تعالى
ومن عجيب ما اعتمد عليه بعضهم قوله أكثر عذاب القبر من البول والقول فيه كالقول فيما تقدم مع أنا نعلم إصابة الإنسان بول غيره قليل نادر وإنما الكثير إصابته بول نفسه ولو كان أراد أن يدرج بوله في الجنس الذي يكثر وقوع العذاب بنوع منه لكان بمنزلة قوله أكثر عذاب القبر من النجاسات
واعتمد أيضا على قوله لا يصلي أحدكم بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان يعني البول والنجو وزعم أن هذا يفيد تسمية كل بول ونجو أخبث
____________________
(21/552)
والأخبث حرام نجس وهذا في غاية السقوط فإن اللفظ ليس فيه شمول لغير ما يدافع أصلا
وقوله إن الاسم يشمل الجنس كله فيقال له وما الجنس العام أكل بول ونجو أم بول الإنسان ونجوه وقد علم أن الذي يدافع كل شخص من جنس الذي يدافع غيره فأما ما لا يدافع أصلا فلا مدخل له في الحديث فهذه عمدة المخالف
وأما المسلك النظري فالجواب عنه من طريقين مجمل ومفصل
أما المفصل فالجواب عن الوجه الأول من وجهين
أحدهما لا نسلم أن العلة في الأصل أنه بول وروث وما ذكروه من تنبيه النصوص فقد سلف الجواب بأن المراد بها بول الإنسان وما ذكروه من المناسبة فنقول التعليل إما أن يكون بجنس استخباث النفس واستقذارها أو بقدر محدود من الاستخباث والاستقذار
فإن كان الأول وجب تنجيس كل مستخبث مستقذر فيجب نجاسة المخاط والبصاق والنخامة بل نجاسة المني الذي جاء الأثر بإماطته من الثياب بل ربما نفرت النفوس عن بعض هذه الأشياء أشد من نفورها عن أرواث المأكول من البهائم مثل مخطة المجذوم إذا اختلطت
____________________
(21/553)
بالطعام ونخامة الشيخ الكبير إذا وضعت في الشراب وربما كان ذلك مدعاة لبعض الأنفس إلى أن يذرعه القيء
وإن كان التعليل بقدر موقت من الاستقذار فهذا قد يكون حقا لكن لا بد من بيان الحد الفاصل بين القدر من الاستخباث الموجب للتنجيس وبين ما لا يوجب ولم يبين ذلك ولعل هذه الأعيان مما ينقض بيان استقذارها الحد المعتبر
ثم أن التقديرات في الأسباب والأحكام إنما تعلم من جهة استقذارها عن الشرع في الأمر الغالب فنقول متى حكم بنجاسة نوع علمنا أنه مما غلظ استخباثه ومتى لم يحكم بنجاسة نوع علمنا أنه لم يغلظ استخباثه فنعود مستدلين بالحكم على المعتبر من العلة فمتى استربنا في الحكم فنحن في العلة أشد استرابة فبطل هذا وأما الشاهد بالاعتبار فكما أنه شهد لجنس الاستخباث شهد للاستخباث الشديد والاستقذار الغليظ
وثانيهما أن نقول لم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل أنه بول ما يؤكل لحمه وهذه علة مطردة بالإجماع منا ومن المخالفين في هذه المسألة والانعكاس إن لم يكن واجبا فقد حصل الغرض وإن كان شرطا في العلل فنقول فيه ما قالوا في اطراد العلة وأولى حيث خولفوا فيه
____________________
(21/554)
وعدم الانعكاس أيسر من عدم الاطراد
وإذا افترق الصنفان في اللحم والعظم واللبن والشعر فلم لا يجوز افتراقهما في الروث والبول وهذه المناسبة أبين فإن كل واحد من هذه الأجزاء هو بعض من أبعاض البهيمة أو متولد منها فيلحق سائرها قياسا لبعض الشيء على جملته
فإن قيل هذا منقوض بالإنسان فإنه طاهر ولبنه طاهر وكذلك سائر أمواهه وفضلاته ومع هذا فروثه وبوله من أخبث الأخباث فحصل الفرق فيه بين البول وغيره
فنقول اعلم أن الإنسان فارق غيره من الحيوان في هذا الباب طردا وعكسا فقياس البهائم بعضها ببعض وجعلها في حيز يباين حيز الإنسان وجعل الإنسان في حيز هو الواجب ألا ترى أنه لا ينجس بالموت على المختار وهي تنجس بالموت ثم بوله أشد من بولها
ألا ترى أن تحريمه مفارق لتحريم غيره من الحيوان لكرم نوعه وحرمته حتى يحرم الكافر وغيره وحتى لا يحل أن يدبغ جلده مع أن بوله أشد وأغلظ فهذا وغيره يدل على أن بول الإنسان فارق سائر فضلاته أشد من مفارقة بول البهائم فضلاتها إما لعموم
____________________
(21/555)
ملابسته حتى لا يستخف به أو لغير ذلك مما الله أعلم به على أنه يقال في عذرة الإنسان وبوله من الخبث والنتن والقذر ما ليس في عامة الأبوال والأرواث وفي الجملة فإلحاق الأبوال باللحوم في الطهارة والنجاسة أحسن طردا من غيره والله أعلم
وأما الوجه الثاني فنقول ذلك الأصل في الآدميين مسلم والذي جاء عن السلف إنما جاء فيهم من الاستحالة في أبدانهم وخروجه من الشق الأعلى أو الأسفل فمن أين يقال كذلك سائر الحيوان وقد مضت الإشارة إلى الفرق ثم مخالفوهم يمنعونهم أكثر الأحكام في البهائم فيقولون قد ثبت أن ما خبث لحمه خبث لبنه ومنيه بخلاف الآدمي فبطلت هذه القاعدة في الاستحالة بل قد يقولون إن جميع الفضلات الرطبة من البهائم حكمها سواء فما طاب لحمه طاب لبنه وبوله وروثه ومنيه وعرقه وريقه ودمعه وما خبث لحمه خبث لبنه وريقه وبوله وروثه ومنيه وعرقه ودمعه وهذا قول يقوله أحمد في المشهور عنه وقد قاله غيره
وبالجملة فاللبن والمني يشهد لهم بالفرق بين الإنسان والحيوان شهادة قاطعة وباستواء الفضلات من الحيوان ضربا من الشهادة فعلى هذا يقال للإنسان يفرق بين ما يخرج من أعلاه وأسفله لما الله أعلم به فإنه منتصب القامة نجاسته كلها في أعاليه ومعدته التي هي محل استحالة
____________________
(21/556)
الطعام والشراب في الشق الأسفل وأما الثدي ونحوه فهو في الشق الأعلى وليس كذلك البهيمة فإن ضرعها في الجانب المؤخر منها وفيه اللبن الطيب ولا مطمع في إثبات الأحكام بمثل هذه الحزورات
وأما الوجه الثالث فمداره على الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات فإن فصل بنوع الاستقذار بطل بجميع المستقذرات التي ربما كانت أشد استقذارا منه وإن فصل بقدر خاص فلا بد من توقيته وقد مضى تقرير هذا
وأما الجواب العام فمن أوجه ثلاثة
أحدها إن هذا قياس في مقابلة الآثار المنصوصة وهو قياس فاسد الوضع ومن جمع بين ما فرقت السنة بينه فقد ضاهى قول الذين قالوا { إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } ولذلك طهرت السنة هذا ونجست هذا
الثاني أن هذا قياس في باب لم تظهر أسبابه وأنواطه ولم يتبين مأخذه وما بل الناس فيه على قسمين إما قائل يقول هذا استعباد محض وابتلاء صرف فلا قياس ولا إلحاق ولا اجتماع ولا افتراق
____________________
(21/557)
وإما قائل يقول دقت علينا علله وأسبابه وخفيت علينا مسالكه ومذاهبه وقد بعث الله إلينا رسولا يزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة بعثه إلينا ونحن لا نعلم شيئا فإنما نصنع ما رأيناه يصنع والسنة لا تضرب لها الأمثال ولا تعارض بآراء الرجال والدين ليس بالرأي ويجب أن يتهم الرأي على الدين والقياس في مثل هذا الباب ممتنع باتفاق أولي الألباب
الثالث أن يقال هذا كله مداره على التسوية بين بول ما يؤكل لحمه وبول ما لا يؤكل لحمه وهو جمع بين شيئين مفترقين فإن ريح المحرم خبيثة وأما ريح المباح فمنه ما قد يستطاب مثل أرواث الظباء وغيرها وما لم يستطب منه فليس ريحه كريح غيره وكذلك خلقه غالبا فإنه يشتمل على أشياء من المباح وهذا لأن الكلام في حقيقة المسألة وسنعود إليه إن شاء الله في آخرها
الدليل الثاني الحديث المستفيض أخرجه أصحاب الصحيح وغيرهم حديث أنس بن مالك أن ناسا من عكل أو عرينة قدموا المدينة فاجتووها فأمر لهم النبي بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله واستاقوا الذود وذكر الحديث فوجه الحجة أنه أذن لهم في شرب الأبوال ولا بد أن يصيب أفواههم وأيديهم وثيابهم وآنيتهم فإذا كانت
____________________
(21/558)
نجسة وجب تطهير أفواههم وأيديهم وثيابهم للصلاة وتطهير آنيتهم فيجب بيان ذلك لهم لأن تأخير البيان عن وقت الاحتياج إليه لا يجوز ولم يبين لهم النبي أنه يجب عليهم إماطة ما أصابهم منه فدل على أنه غير نجس ومن البين أن لو كانت أبوال الإبل كأبوال الناس لأوشك أن يشتد تغليظه في ذلك
ومن قال إنهم كانوا يعلمون أنها نجسة وأنهم كانوا يعلمون وجوب التطهير من النجاسات فقد أبعد غاية الإبعاد وأتى بشيء قد يستيقن بطلانه لوجوه
أحدها أن الشريعة أول ما شرعت كانت أخفى وبعد انتشار الإسلام وتناقل العلم وإفشائه صارت أبدى وأظهر وإذا كنا إلى اليوم لم يستبن لنا نجاستها بل أكثر الناس على طهارتها وعامة التابعين عليه بل قد قال أبو طالب وغيره إن السلف ما كانوا ينجسونها ولا يتقونها وقال أبو بكر بن المنذر وعليه اعتماد أكثر المتأخرين في نقل الإجماع والخلاف وقد ذكر طهارة الأبوال عن عامة السلف ثم قال قال الشافعي الأبوال كلها نجس قال ولا نعلم أحدا قال قبل الشافعي أن أبوال الأنعام وأبعارها نجس
قلت وقد نقل عن بن عمر أنه سئل عن بول الناقة فقال
____________________
(21/559)
اغسل ما أصابك منه وعن الزهري فيما يصيب الراعي من أبوال الإبل قال ينضح وعن حماد بن أبي سليمان في بول الشاة والبعير يغسل ومذهب أبي حنيفة نجاسة ذلك على تفصيل لهم فيه فلعل الذي أراده بن المنذر القول بوجوب اجتناب قليل البول والروث وكثيره فإن هذا لم يبلغنا عن أحد من السلف ولعل بن عمر أمر بغسله كما يغسل الثوب من المخاط والبصاق والمني ونحو ذلك وقد ثبت عن أبي موسى الأشعري أنه صلى على مكان فيه روث الدواب والصحراء أمامه وقال ها هنا وها هنا سواء وعن أنس بن مالك لا بأس ببول كل ذي كرش
ولست أعرف عن أحد من الصحابة القول بنجاستها بل القول بطهارتها إلا ما ذكر عن بن عمر إن كان أراد النجاسة فمن أين يكون ذلك معلوما لأولئك
وثانيها أنه لو كان نجسا فوجوب التطهر من النجاسة ليس من الأمور البينة قد أنكره في الثياب طائفة من التابعين وغيرهم فمن أين يعلمه أولئك
وثالثها أن هذا لو كان مستفيضا بين ظهراني الصحابة لم يجب أن يعلمه أولئك لأنهم حديثو العهد بالجاهلية والكفر فقد كانوا
____________________
(21/560)
يجهلون أصناف الصلوات وأعدادها وأوقاتها وكذلك غيرها من الشرائع الظاهرة فجهلهم بشرط خفي في أمر خفي أولى وأحرى لا سيما والقوم لم يتفقهوا في الدين أدنى تفقه ولذلك ارتدوا ولم يخالطوا أهل العلم والحكمة بل حين أسلموا وأصابهم الاستيخام أمرهم بالبداوة فيا ليت شعري من أين لهم العلم بهذا الأمر الخفي
ورابعها أن النبي لم يكن في تعليمه وإرشاده واكلا للتعليم إلى غيره بل يبين لكل واحد ما يحتاج إليه وذلك معلوم لمن أحسن المعرفة بالسنن الماضية
وخامسها أنه ليس العلم بنجاسة هذه الأرواث أبين من العلم بنجاسة بول الإنسان الذي قد علمه العذارى في حجالهن وخدورهن ثم قد حذر منه للمهاجرين والأنصار الذين أوتوا العلم والإيمان فصار الأعراب الجفاة أعلم بالأمور الخفية من المهاجرين والأنصار بالأمور الظاهرة فهذا كما ترى
وسادسها أنه فرق بين الأبوال والألبان وأخرجهما مخرجا واحدا والقران بين الشيئين إن لم يوجب استواءهما فلا بد أن يورث شبهة فلو لم يكن البيان واجبا لكانت المقارنة بينه وبين الطاهر موجبة للتمييز بينهما إن كان التمييز حقا
____________________
(21/561)
وفي الحديث دلالة أخرى فيها تنازع وهو أنه أباح لهم شربها ولو كانت محرمة نجسة لم يبح لهم شربها ولست أعلم مخالفا في جواز التداوي بأبوال الإبل كما جاءت السنة لكن اختلفوا في تخريج مناطه فقيل هو أنها مباحة على الإطلاق للتداوي وغير التداوي وقيل بل هي محرمة وإنما أباحها للتداوي وقيل هي مع ذلك نجسة والاستدلال بهذا الوجه يحتاج إلى ركن آخر وهو أن التداوي بالمحرمات النجسة محرم والدليل عليه من وجوه
أحدها أن الأدلة الدالة على التحريم مثل قوله { حرمت عليكم الميتة } وكل ذي ناب من السباع حرام و { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس } عامة في حال التداوي وغير التداوي فمن فرق بينهما فقد فرق بين ما جمع الله بينه وخص العموم وذلك غير جائز
فإن قيل فقد أباحها للضرورة والمتداوي مضطر فتباح له أو أنا نقيس إباحتها للمريض على إباحتها للجائع بجامع الحاجة إليها
يؤيد ذلك أن المرض يسقط الفرائض من القيام في الصلاة والصيام في شهر رمضان والانتقال من الطهارة بالماء إلى الطهارة بالصعيد فكذلك يبيح المحارم لأن الفرائض والمحارم من واد واحد
يؤيد ذلك أن المحرمات من الحلية واللباس مثل الذهب والحرير
____________________
(21/562)
قد جاءت السنة بإباحة اتخاذ الأنف من الذهب وربط الأسنان به ورخص للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير من حكة كانت بهما فدلت هذه الأصول الكثيرة على إباحة المحظورات حين الاحتياج والافتقار إليها
قلت أما إباحتها للضرورة فحق وليس التداوي بضرورة لوجوه
أحدها أن كثيرا من المرضى أو أكثر المرضى يشفون بلا تداو لا سيما في أهل الوبر والقرى والساكنين في نواحي الأرض يشفيهم الله بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم الرافعة للمرض وفيما ييسره لهم من نوع حركة وعمل أو دعوة مستجابة أو رقية نافعة أو قوة للقلب وحسن التوكل إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة غير الدواء وأما الأكل فهو ضروري ولم يجعل الله أبدان الحيوان تقوم إلا بالغذاء فلو لم يكن يأكل لمات فثبت بهذا أن التداوي ليس من الضرورة في شيء
وثانيها أن الأكل عند الضرورة واجب قال مسروق من اضطر إلى الميتة فلم يأكل فمات دخل النار والتداوي غير واجب ومن نازع فيه خصمته السنة في المرأة السوداء التي خيرها النبي بين الصبر على البلاء ودخول الجنة وبين الدعاء
____________________
(21/563)
بالعافية فاختارت البلاء والجنة ولو كان رفع المرض واجبا لم يكن للتخيير موضع كدفع الجوع وفي دعائه لأبي بالحمى وفي اختياره الحمى لأهل قباء وفي دعائه بفناء أمته بالطعن والطاعون وفي نهيه عن الفرار من الطاعون
وخصمه حال أنبياء الله المبتلين الصابرين على البلاء حين لم يتعاطوا الأسباب الدافعة له مثل أيوب عليه السلام وغيره
وخصمه حال السلف الصالح فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين قالوا له ألا ندعو لك الطبيب قال قد رآني قالوا فما قال لك قال إني فعال لما أريد ومثل هذا ونحوه يروى عن الربيع بن خيثم المخبت المنيب الذي هو أفضل الكوفيين أو كأفضلهم وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الهادي المهدي وخلق كثير لا يحصون عددا
ولست أعلم سالفا أوجب التداوي وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضل تركه تفضلا واختيارا لما اختار الله ورضي به وتسليما له وهذا المنصوص عن أحمد وإن كان من أصحابه من يوجبه ومنهم من يستحبه ويرجحه كطريقة كثير من السلف استمساكا لما خلقه الله من الأسباب وجعله من سنته في عباده
____________________
(21/564)
وثالثها أن الدواء لا يستيقن بل وفي كثير من الأمراض لا يظن دفعه للمرض إذ لو اطرد ذلك لم يمت أحد بخلاف دفع الطعام للمسغبة والمجاعة فإنه مستيقن بحكم سنة الله في عباده وخلقه
ورابعها أن المرض يكون له أدوية شتى فإذا لم يندفع بالمحرم انتقل إلى المحلل ومحال أن لا يكون له في الحلال شفاء أو دواء والذي أنزل الداء أنزل لكل داء دواء إلا الموت ولا يجوز أن يكون أدوية الأدواء في القسم المحرم وهو سبحانه الرؤوف الرحيم وإلى هذا الإشارة بالحديث المروي إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها بخلاف المسغبة فإنها وإن اندفعت بأي طعام اتفق إلا أن الخبيث إنما يباح عند فقد غيره فإن صورت مثل هذا في الدواء فتلك صورة نادرة لأن المرض أندر من الجوع بكثير وتعين الدواء المعين وعدم غيره نادر فلا ينتقض هذا على أن في الأوجه السالفة غنى
وخامسها وفيه فقه الباب أن الله تعالى جعل خلقه مفتقرين إلى الطعام والغذاء لا تندفع مجاعتهم ومسغبتهم إلا بنوع الطعام وصنفه فقد هدانا وعلمنا النوع الكاشف للمسغبة المزيل للمخمصة وأما المرض فإنه يزيله بأنواع كثيرة من الأسباب ظاهرة وباطنة روحانية وجسمانية فلم يتعين الدواء مزيلا ثم الدواء بنوعه لم يتعين لنوع من
____________________
(21/565)
أنواع الأجسام في إزالة الداء المعين ثم ذلك النوع المعين يخفى على اكثر الناس بل على عامتهم دركه ومعرفته الخاصة المزاولون منهم هذا الفن أولوا الإفهام والعقول يكون الرجل منهم قد أفنى كثيرا من عمره في معرفته ذلك ثم يخفى عليه نوع المرض وحقيقته ويخفى عليه دواؤه وشفاؤه ففارقت الأسباب المزيلة للمرض الأسباب المزيلة للمخمصة في هذه الحقائق البينة وغيرها فكذلك افترقت أحكامها كما ذكرنا وبهذا ظهر الجواب عن الأقيسة المذكورة والقول الجامع فيما يسقط ويباح للحاجة والضرورة ما حضرني الآن
أما سقوط ما يسقط من القيام والصيام والاغتسال فلأن منفعة ذلك مستيقنة بخلاف التداوي
وأيضا فإن ترك المأمور به أيسر من فعل المنهي عنه قال النبي إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فانظر كيف أوجب الاجتناب عن كل منهي عنه وفرق في المأمور به بين المستطاع وغيره وهذا يكاد يكون دليلا مستقلا في المسألة
وأيضا فإن الواجبات من القيام والجمعة والحج تسقط بأنواع من المشقة التي لا تصلح لاستباحة شيء من المحظورات وهذا بين بالتأمل
____________________
(21/566)
وأما الحلية فإنما أبيح الذهب للأنف وربط الأسنان لأنه اضطرار وهو يسد الحاجة يقينا كالأكل في المخمصة
وأما لبس الحرير للحكة والجرب إن سلم ذلك فإن الحرير والذهب ليسا محرمين على الإطلاق فإنهما قد أبيحا لأحد صنفي المكلفين وأبيح للصنف الآخر بعضهما وأبيح التجارة فيهما وإهداؤهما للمشركين فعلم أنهما أبيحا لمطلق الحاجة والحاجة إلى التداوي أقوى من الحاجة إلى تزين النساء بخلاف المحرمات من النجاسات وأبيح أيضا لحصول المصلحة بذلك في غالب الأمر
ثم الفرق بين الحرير والطعام أن باب الطعام يخالف باب اللباس لأن تأثير الطعام في الأبدان أشد من تأثير اللباس على ما قد مضى فالمحرم من الطعام لا يباح إلا للضرورة التي هي المسغبة والمخمصة والمحرم من اللباس يباح للضرورة وللحاجة أيضا هكذا جاءت السنة ولا جمع بين ما فرق الله بينه والفرق بين الضرورات والحاجات معلوم في كثير من الشرعيات وقد حصل الجواب عن كل ما يعارض به في هذه المسألة
الوجه الثاني أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله سئل عن الخمر أيتداوى بها فقال إنها داء وليست بدواء
____________________
(21/567)
فهذا نص في المنع من التداوي بالخمر ردا على من أباحه وسائر المحرمات مثلها قياسا خلافا لمن فرق بينهما فإن قياس المحرم من الطعام أشبه من الغراب بالغراب بل الخمر قد كانت مباحة في بعض أيام الإسلام وقد أباح بعض المسلمين من نوعها الشرب دون الإسكار والميتة والدم بخلاف ذلك
فإن قيل الخمر قد أخبر النبي أنها داء وليست بدواء فلا يجوز أن يقال هي دواء بخلاف غيرها وأيضا ففي إباحة التداوي بها إجازة اصطناعها واعتصارها وذلك داع إلى شربها ولذلك اختصت بالحد بها دون غيرها من المطاعم الخبيثة لقوة محبة الأنفس لها
فأقول أما قولك لا يجوز أن يقال هي دواء فهو حق وكذلك القول في سائر المحرمات على ما دل عليه الحديث الصحيح إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام ثم ماذا تريد بهذا أتريد أن الله لم يخلق فيها قوة طبيعية من السخونة وغيرها جرت العادة في الكفار والفساق أنه يندفع بها بعض الأدواء الباردة كسائر القوى والطبائع التي أودعها جميع الأدوية من الأجسام 2 أم تريد شيئا آخر فإن
____________________
(21/568)
أردت الأول فهو باطل بالقضايا المجربة التي تواطأت عليها الأمم وجرت عند كثير من الناس مجرى الضروريات بل هو رد لما يشاهد ويعاين بل قد قيل إنه رد للقرآن لقوله تعالى { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } ولعل هذا في الخمر أظهر من جميع المقالات المعلومة من طيب الأبدان
وإن أردت أن النبي أخبر أنها داء للنفوس والقلوب والعقول وهي أم الخبائث والنفس والقلب هو الملك المطلوب صلاحه وكماله وإنما البدن آلة له وهو تابع له مطيع له طاعة الملائكة ربها فإذا صلح القلب صلح البدن كله وإذا فسد القلب فسد البدن كله فالخمر هي داء ومرض للقلب مفسد له مضعضع لأفضل خواصه الذي هو العقل والعلم وإذا فسد القلب فسد البدن كله كما جاءت به السنة فتصير داء للبدن من هذا الوجه بواسطة كونها داء للقلب وكذلك جميع الأموال المغصوبة والمسروقة فإنه ربما صلح عليها البدن ونبت وسمن لكن يفسد عليها القلب فيفسد البدن بفساده
وأما المصلحة التي فيها فإنها منفعة للبدن فقط ونفعها متاع قليل فهي وأن أصلحت شيئا يسيرا فهي في جنب ما تفسده كلا إصلاح وهذا بعينه معنى قوله تعالى { فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } فهذا لعمري شأن جميع المحرمات فإن فيها من
____________________
(21/569)
القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب ثم البدن في الدنيا والآخرة ما يربى على ما فيها من منفعة قليلة تكون في البدن وحده في الدنيا خاصة
على أنا وإن لم نعلم جهة المفسدة في المحرمات فإنا نقطع أن فيها من المفاسد ما يربى على ما نظنه من المصالح فافهم هذا فإن به يظهر فقه المسألة وسرها
وأما إفضاؤه إلى اعتصارها فليس بشيء لأنه يمكن أخذها من أهل الكتاب على أنه يحرم اعتصارها وإنما القول إذا كانت موجودة أن هذا منتقض بإطفاء الحرق بها ودفع الغصة إذا لم يوجد غيرها
وأما اختصاصها بالحد فإن الحسن البصري يوجب الحد في الميتة أيضا والدم ولحم الخنزير لكن الفرق أن في النفوس داعيا طبعيا وباعثا إراديا إلى الخمر فنصب رادع شرعي وزاجر دنيوي أيضا ليتقابلا ويكون مدعاة إلى قلة شربها وليس كذلك غيرها مما ليس في النفوس إليه كثير ميل ولا عظيم طلب
الوجه الثالث ما روى حسان بن مخارق قال قالت أم سلمة اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز فدخل النبي وهو يغلي فقال ما هذا فقلت إن بنتي اشتكت فنبذنا لها هذا فقال
____________________
(21/570)
إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وفي رواية إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وصححه بعض الحفاظ وهذا الحديث نص في المسألة
الوجه الرابع ما رواه أبو داود في السنن أن رجلا وصف له ضفدع يجعلها في دواء فنهى النبي عن قتل الضفدع وقال إن نقنقتها تسبيح فهذا حيوان محرم ولم يبح للتداوي
وهو نص في المسألة ولعل تحريم الضفدع أخف من تحريم الخبائث غيرها فإنه أكثر ما قيل فيها أن نقنقتها تسبيح فما ظنك بالخنزير والميتة وغير ذلك وهذا كله بين لك استخفافه بطلب الطب واقتضائه وإجرائه مجرى الرفق بالمريض وتطييب قلبه ولهذا قال الصادق المصدوق لرجل قال له أنا طبيب قال أنت رفيق والله الطبيب
الوجه الخامس ما روي أيضا في سننه أن النبي نهى عن الدواء الخبيث وهو نص جامع مانع وهو صورة الفتوى في المسألة
الوجه السادس الحديث المرفوع ما أبالي ما أتيت أو ما ركبت إذا شربت ترياقا أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من نفسي مع
____________________
(21/571)
ما روي من كراهة من كره الترياق من السلف على أنه لم يقابل ذلك نص عام ولا خاص يبلغ ذروة المطلب وسنام المقصد في هذا الموضع ولولا أني كتبت هذا من حفظي لاستقصيت القول على وجه يحيط بما دق وجل والله الهادي إلى سواء السبيل
الدليل الثالث وهو في الحقيقة رابع الحديث الصحيح الذي خرجه مسلم وغيره من حديث جابر بن سمرة وغيره أن رسول الله سئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال لا تصلوا فيها فإنها خلقت من الشياطين ووجه الحجة من وجهين
أحدهما أنه أطلق الإذن بالصلاة ولم يشترط حائلا يقي من ملامستها والموضع موضع حاجة إلى البيان فلو احتاج لبينه وقد مضى تقرير هذا وهذا شبيه بقول الشافعي ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال فإنه ترك استفصال السائل أهناك حائل يحول بينك وبين أبعارها مع ظهور الاحتمال ليس مع قيامه فقط وأطلق الإذن بل هذا أوكد من ذلك لأن الحاجة هنا إلى البيان أمس وأوكد
والوجه الثاني أنها لو كانت نجسة كأرواث الآدميين لكانت
____________________
(21/572)
الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش والكنف أو مكروهة كراهية شديدة لأنها مظنة الأخباث والأنجاس فأما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريبا من ذلك فهو جمع بين المتنافيين المتضادين وحاشا الرسول من ذلك
ويؤيد هذا ما روي أن أبا موسى صلى في مبارك الغنم وأشار إلى البرية وقال ها هنا وثم سواء وهو الصاحب الفقيه العالم بالتنزيل الفاهم للتأويل سوى بين محل الأبعار وبين ما خلا عنها فكيف يجامع هذا القول بنجاستها
وأما نهيه عن الصلاة في مبارك الإبل فليست اختصت به دون البقر والغنم والظباء والخيل إذ لو كان السبب نجاسة البول لكان تفريقا بين المتماثلين وهو ممتنع يقينا
الدليل الرابع وهو في الحقيقة سابع ما ثبت واستفاض من أن رسول الله طاف على راحلته وأدخلها المسجد الحرام الذي فضله الله على جميع بقاع الأرض وبركها حتى طاف أسبوعا وكذلك إذنه لأم سلمة أن تطوف راكبة ومعلوم أنه ليس مع الدواب من العقل ما تمتنع به من تلويث المسجد المأمور بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود فلو كانت أبوالها نجسة لكان فيه تعريض
____________________
(21/573)
المسجد الحرام للتنجيس مع أن الضرورة ما دعت إلى ذلك وإنما الحاجة دعت إليه ولهذا استنكر بعض من يرى تنجيسها إدخال الدواب المسجد الحرام وحسبك بقول بطلانا رده في وجه السنة التي لا ريب فيها
الدليل الخامس وهو الثامن ما روي عن النبي أنه قال فأما ما أكل لحمه فلا بأس ببوله وهذا ترجمة المسألة إلا أن الحديث قد اختلف فيه قبولا وردا فقال أبو بكر عبد العزيز ثبت عن النبي وقال غيره هو موقوف على جابر
فإن كان الأول فلا ريب فيه وإن كان الثاني فهو قول صاحب وقد جاء مثله عن غيره من الصحابة أبي موسى الأشعري وغيره فينبني على أن قول الصحابة أولى من قول من بعدهم وأحق أن يتبع وإن علم أنه انتشر في سائرهم ولم ينكروه فصار إجماعا سكوتيا
الدليل السادس وهو التاسع الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله كان ساجدا عند الكعبة فأرسلت قريش عقبة بن أبي معيط إلى قوم قد نحروا جزورا لهم فجاء بفرثها وسلاها فوضعهما على ظهر رسول الله وهو ساجد ولم ينصرف حتى قضى صلاته فهذا أيضا بين في أن
____________________
(21/574)
ذلك الفرث والسلى لم يقطع الصلاة ولا يمكن حمله فيما أرى إلا على أحد وجوه ثلاثة إما أن يقال هو منسوخ وأعني بالنسخ أن هذا الحكم مرتفع وإن لم يكن قد ثبت لأنه بخطاب كان بمكة وهذا ضعيف جدا لأن النسخ لا يصار إليه إلا بيقين وأما بالظن فلا يثبت النسخ وأيضا فإنا ما علمنا أن اجتناب النجاسة كان غير واجب ثم صار واجبا لا سيما من يحتج على اجتناب النجاسة بقوله تعالى { وثيابك فطهر } وسورة المدثر في أول المنزل فيكون فرض التطهير من النجاسات على قول هؤلاء من أول الفرائض فهذا هذا
وإما أن يقال هذا دليل على جواز حمل النجاسة في الصلاة وعامة من يخالف في هذه المسألة لا يقول بهذا القول فيلزمهم ترك الحديث ثم هذا قول ضعيف لخلافه الأحاديث الصحاح في دم الحيض وغيره من الأحاديث ثم إني لا أعلمهم يختلفون أنه مكروه وأن إعادة الصلاة منه أولى فهذا هذا لم يبق إلا أن يقال الفرث والسلى ليس بنجس وإنما هو طاهر لأنه فرث ما يؤكل لحمه وهذا هو الواجب إن شاء الله تعالى لكثرة القائلين به وظهور الدلائل عليه وبطول الوجهين الأولين يوجب تعين هذا
فإن قيل ففيه السلى وقد يكون فيه دم قلنا يجوز أن
____________________
(21/575)
يكون دما يسيرا بل الظاهر أنه يسير والدم اليسير معفو عن حمله في الصلاة
فإن قيل فالسلى لحم من ذبيحة المشركين وذلك نجس وذلك باتفاق قلنا لا نسلم أنه قد كان حرم حينئذ ذبائح المشركين بل المظنون أو المقطوع به أنها لم تكن حرمت حينئذ فإن الصحابة الذين أسلموا لم ينقل أنهم كانوا ينجسون ذبائح قومهم وكذلك النبي لم ينقل عنه أنه كان يجتنب إلا ما ذبح للأصنام أما ما ذبحه قومه في دورهم لم يكن يتجنبه ولو كان تحريم ذبائح المشركين قد وقع في صدر الإسلام لكان في ذلك من المشقة على النفر القليل الذين أسلموا ما لا قبل لهم به فإن عامة أهل البلد مشركون وهم لا يمكنهم أن يأكلوا ويشربوا إلا من طعامهم وخبزهم وفي أوانيهم لقلتهم وضعفهم وفقرهم ثم الأصل عدم التحريم حينئذ فمن ادعاه احتاج إلى دليل
الدليل السابع وهو العاشر ما صح عن النبي أنه نهى عن الاستجمار بالعظم والبعر وقال إنه زاد إخوانكم من الجن وفي لفظ قال فسألوني الطعام لهم ولدوابهم فقلت لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي فلا تستنجوا
____________________
(21/576)
بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن
فوجه الدلالة ان النبي نهى أن يستنجى بالعظم والبعر الذي هو زاد إخواننا من الجن وعلف دوابهم ومعلوم أنه إنما نهي عن ذلك لئلا ننجسه عليهم ولهذا استنبط الفقهاء من هذا أنه لا يجوز الاستنجاء بزاد الإنس ثم أنه قد استفاض النهي في ذلك والتغليظ حتى قال من تقلد وترا أو استنجى بعظم أو رجيع فإن محمدا منه بريء
ومعلوم أنه لو كان البعر في نفسه نجسا لم يكن الاستنجاء به ينجسه ولم يكن فرق بين البعر المستنجى به والبعر الذي لا يستنجى به وهذا جمع بين ما فرقت السنة بينه ثم إن البعر لو كان نجسا لم يصلح أن يكون علفا لقوم مؤمنين فإنها تصير بذلك جلالة ولو جاز أن تصير جلالة لجاز أن تعلف رجيع الإنس ورجيع الدواب فلا فرق حينئذ ولأنه لما جعل الزاد لهم ما فضل عن الإنس ولدوابهم ما فضل عن دواب الإنس من البعر شرط في طعامهم كل عظم ذكر اسم الله عليه فلا بد أن يشرط في علف دوابهم نحو ذلك وهو الطهارة
وهذا يبين لك أن قوله في حديث بن مسعود لما أتاه بحجرين
____________________
(21/577)
وروثة فقال إنها ركس إنما كان لكونها روثة آدمي ونحوه على أنها قضية عين فيحتمل أن تكون روثة ما يؤكل لحمه وروثة ما لا يؤكل لحمه فلا يعم الصنفين ولا يجوز القطع بأنها مما يؤكل لحمه مع أن لفظ الركس لا يدل على النجاسة لأن الركس هو المركوس أي المردود وهو معنى الرجيع ومعلوم أن الاستنجاء بالرجيع لا يجوز بحال إما لنجاسته وإما لكونه علف دواب إخواننا من الجن
الوجه الثامن وهو الحادي عشر أن هذه الأعيان لو كانت نجسة لبينه النبي ولم يبينه فليست نجسة وذلك لأن هذه الأعيان تكثر ملابسة الناس لها ومباشرتهم لكثير منها خصوصا الأمة التي بعث فيها رسول الله فإن الإبل والغنم غالب أموالهم ولا يزالون يباشرونها ويباشرون أماكنها في مقامهم وسفرهم مع كثرة الاحتفاء فيهم حتى أن عمر رضي الله عنه كان يأمر بذلك تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وانتعلوا ومحالب الألبان كثيرا ما يقع فيها من أبوالها وليس ابتلاؤهم بها بأقل من ولوغ الكلب في أوانيهم فلو كانت نجسة يجب غسل الثياب والأبدان والأواني منها وعدم مخالطته ويمنع من الصلاة مع ذلك ويجب تطهير الأرض مما فيه ذلك إذا صلى فيها والصلاة فيها تكثر في أسفارهم وفي مراح أغنامهم ويحرم شرب اللبن الذي يقع فيه بعرها
____________________
(21/578)
وتغسل اليد إذا أصابها البول أو رطوبة البعر إلى غير ذلك من أحكام النجاسة لوجب أن يبين النبي بيانا تحصل به معرفة الحكم ولو بين ذلك لنقل جميعه أو بعضه فإن الشريعة وعادة القوم توجب مثل ذلك فلما لم ينقل ذلك علم أنه لم يبين لهم نجاستها
وعدم ذكر نجاستها دليل على طهارتها من جهة تقريره لهم على مباشرتها وعدم النهي عنه والتقرير دليل الإباحة ومن وجه أن مثل هذا يجب بيانه بالخطاب ولا تحال الأمة فيه على الرأي لأنه من الأصول لا من الفروع ومن جهة أن ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه لا سيما إذا وصل بهذا الوجه
الوجه التاسع وهو الثاني عشر وهو أن الصحابة والتابعين وعامة السلف قد ابتلي الناس في أزمانهم بأضعاف ما ابتلوا في زمن النبي ولا يشك عاقل في كثرة وقوع الحوادث المتعلقة بهذه المسألة ثم المنقول عنهم أحد شيئين إما القول بالطهارة أو عدم الحكم بالنجاسة مثل ما ذكرناه عن أبي موسى وأنس وعبد الله بن مغفل أنه كان يصلي وعلى رجليه أثر السرقين وهذا قد عاين أكابر الصحابة بالعراق وعن عبيد بن عمير قال إن لي غنما تبعر في مسجدي وهذا قد عاين أكابر الصحابة بالحجاز وعن إبراهيم
____________________
(21/579)
النخعي فيمن يصلي وقد أصابه السرقين قال لا بأس وعن أبي جعفر الباقر ونافع مولى بن عمر أنه أصابت عمامته بول بعير فقالا جميعا لا بأس وسألهما جعفر الصادق وهو أشبه بالدليل على أن ما روي عن بن عمر في ذلك من الغسل إما ضعيف أو على سبيل الاستحباب والتنظيف فإن نافعا لا يكاد يخفى عليه طريقة بن عمر في ذلك ولا يكاد يخالفه والمأثور عن السلف في ذلك كثير
وقد نقل عن بعضهم ألفاظ إن ثبتت فليست صريحة بنجاسة محل النزاع مثل ما روي عن الحسن أنه قال البول كله يغسل وقد روي عنه أنه قال لا بأس بأبوال الغنم فعلم أنه أراد بول الإنسان الذكر والأنثى والكبير والصغير وكذلك ما روي عن أبي الشعثاء أنه قال الأبوال كلها أنجاس فلعله أراد ذلك إن ثبت عنه وقد ذكرنا عن بن المنذر وغيره أنه لم يعرف عن أحد من السلف القول بنجاستها ومن المعلوم الذي لا شك فيه أن هذا إجماع على عدم النجاسة بل مقتضاه أن التنجيس من الأقوال المحدثة فيكون مردودا بالأدلة الدالة على إبطال الحوادث لا سيما مقالة محدثة مخالفة لما عليه الصدر الأول ومن المعلوم أن الأعيان الموجودة في زمانهم ومكانهم إذا أمسكوا عن تحريمها وتنجيسها مع الحاجة إلى بيان ذلك كان تحريمها وتنجيسها ممن بعدهم بمنزلة أن يمسكوا عن بيان أفعال يحتاج إلى بيان وجوبها لو كان
____________________
(21/580)
ثابتا فيجيء من بعدهم فيوجبها
ومتى قام المقتضي للتحريم أو الوجوب ولم يذكروا وجوبا ولا تحريما كان إجماعا منهم على عدم اعتقاد الوجوب والتحريم وهو المطلوب وهذه الطريقة معتمدة في كثير من الأحكام وهي أصل عظيم ينبغي للفقيه أن يتأملها ولا يغفل عن غورها لكن لا يسلم إلا بعدم ظهور الخلاف في الصدر الأول فإن كان فيه خلاف محقق بطلت هذه الطريقة والحق أحق أن يتبع
الوجه العاشر وهو الثالث عشر في الحقيقة أنا نعلم يقينا أن الحبوب من الشعير والبيضاء والذرة ونحوها كانت تزرع في مزارع المدينة على عهد النبي وأهل بيته ونعلم أن الدواب إذا داست فلا بد أن تروث وتبول ولو كان ذلك ينجس الحبوب لحرمت مطلقا أو لوجب تنجيسها
وقد أسلمت الحجاز واليمن ونجد وسائر جزائر العرب على عهد رسول الله وبعث إليهم سعاته وعماله يأخذون عشور حبوبهم من الحنطة وغيرها وكانت سمراء الشام تجلب إلى المدينة فيأكل منها رسول الله والمؤمنون على عهده وعامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع وكان يعطي المرأة من نسائه ثمانين وسق شعير من غلة خيبر وكل هذه
____________________
(21/581)
تداس بالدواب التي تروث وتبول عليها فلو كانت تنجس بذلك لكان الواجب على أقل الأحوال تطهير الحب وغسله ومعلوم أنه لم يفعل ذلك ولا فعل على عهده فعلم أنه لم يحكم بنجاستها
ولا يقال هو لم يتيقن أن ذلك الحب الذي أكله مما أصابه البول والأصل الطهارة لأنا نقول فصاحب الحب قد تيقن نجاسة بعض حبه واشتبه عليه الطاهر بالنجس فلا يحل له استعمال الجميع بل الواجب تطهير الجميع كما إذا علم نجاسة بعض البدن أو الثوب أو الأرض وخفي عليه مكان النجاسة غسل ما يتيقن به غسلها وهو لم يأمر بذلك
ثم اشتباه الطاهر بالنجس نوع من اشتباه الطعام الحلال بالحرام فكيف يباح أحدهما من غير تحر فإن القائل إما أن يقول يحرم الجميع وإما أن يقول بالتحري فأما الأكل من أحدهما بلا تحر فلا أعرف أحدا جوزه وإنما يستمسك بالأصل مع تيقن النجاسة ولا محيص عن هذا الدليل إلا إلى أحد أمرين إما أن يقال بطهارة هذه الأبوال والأرواث أو أن يقال عفى عنها في هذا الموضع للحاجة كما يعفى عن ريق الكلب في بدن الصيد على أحد
____________________
(21/582)
الوجهين وكما يطهر محل الاستنجاء بالحجر في أحد الوجهين إلى غير ذلك من مواضع الحاجات
فيقال الأصل فيما استحل جريانه على وفاق الأصل فمن ادعى أن استحلال هذا مخالف للدليل لأجل الحاجة فقد ادعى ما يخالف الأصل فلا يقبل منه إلا بحجة قوية وليس معه من الحجة ما يوجب أن يجعل هذا مخالفا للأصل
ولا شك أنه لو قام دليل يوجب الحظر لأمكن أن يستثنى هذا الموضع فأما ما ذكر من العموم الضعيف والقياس الضعيف فدلالة هذا الموضع على الطهارة المطلقة أقوى من دلالة تلك على النجاسة المطلقة على ما تبين عند التأمل على أن ثبوت طهارتها والعفو عنها في هذا الموضع أحد موارد الخلاف فيبقى إلحاق الباقي به بعدم القائل بالفرق
ومن جنس هذا الوجه الحادي عشر وهو الرابع عشر وهو إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم في كل عصر ومصر على دياس الحبوب من الحنطة وغيرها بالبقر ونحوها مع القطع ببولها وروثها على الحنطة ولم ينكر ذلك منكر ولم يغسل الحنطة لأجل هذا أحد ولا احترز عن شيء مما في البيادر لوصول البول إليه
____________________
(21/583)
والعلم بهذا كله علم اضطراري ما أعلم عليه سؤالا ولا أعلم لمن يخالف هذا شبهة
وهذا العمل إلى زماننا متصل في جميع البلاد لكن لم نحتج بإجماع الأعصار التي ظهر فيها هذا الخلاف لئلا يقول المخالف أنا أخالف في هذا وإنما احتججنا بالإجماع قبل ظهور الخلاف
وهذا الإجماع من جنس الإجماع على كونهم كانوا يأكلون الحنطة ويلبسون الثياب ويسكنون البناء فإنا نتيقن أن الأرض كانت تزرع ونتيقن أنهم كانوا يأكلون ذلك الحب ويقرون على أكله ونتيقن أن الحب لا يداس إلا بالدواب ونتيقن أن لا بد أن تبول على البيدر الذي يبقى أياما ويطول دياسها له وهذه كلها مقدمات يقينية
الوجه الثاني عشر وهو الخامس عشر أن الله تعالى قال { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } فأمر بتطهير بيته الذي هو المسجد الحرام وصح عنه أنه أمر بتنظيف المساجد وقال جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا وقال الطواف بالبيت صلاة ومعلوم قطعا أن الحمام لم يزل ملازما للمسجد الحرام لأمنه وعبادة بيت الله وأنه لا يزال ذرقه ينزل في المسجد وفي المطاف والمصلى فلو كان نجسا لتنجس المسجد بذلك ولوجب
____________________
(21/584)
تطهير المسجد منه إما بإبعاد الحمام أو بتطهير المسجد أو بتسقيف المسجد ولم تصح الصلاة في أفضل المساجد وأمها وسيدها لنجاسة أرضه وهذا كله مما يعلم فساده يقينا
ولا بد من أحد قولين إما طهارته مطلقا أو العفو عنه كما في الدليل قبله وقد بينا رجحان القول بالطهارة المطلقة
الدليل الثالث عشر وهو في الحقيقة السادس عشر مسلك التشبيه والتوجيه فنقول والله الهادي اعلم أن الفرق بين الحيوان المأكول وغير المأكول إنما فرق بينهما لافتراق حقيقتهما وقد سمى الله هذا طيبا وهذا خبيثا
وأسباب التحريم إما القوة السبعية التي تكون في نفس البهيمة فأكلها يورث نبات أبداننا منها فتصير أخلاق الناس أخلاق السباع أو لما الله أعلم به وإما خبث مطعمها كما يأكل الجيف من الطير أو لأنها في نفسها مستخبثة كالحشرات فقد رأينا طيب المطعم يؤثر في الحل وخبثه يؤثر في الحرمة كما جاءت به السنة في لحوم الجلالة ولبنها وبيضها فإنه حرم الطيب لاغتذائه بالخبيث وكذلك النبات المسقي بالماء النجس والمسمد بالسرقين عند من يقول به وقد رأينا عدم الطعام يؤثر في طهارة البول أو خفة نجاسته مثل الصبي الذي لم يأكل
____________________
(21/585)
الطعام فهذا كله يبين أشياء
منها أن الأبوال قد يخفف شأنها بحسب المطعم كالصبي وقد ثبت أن المباحات لا تكون مطاعمها إلا طيبة فغير مستنكر أن تكون أبوالها طاهرة لذلك
ومنها أن المطعم إذا خبث وفسد حرم ما نبت منه من لحم ولبن وبيض كالجلالة والزرع المسمد وكالطير الذي يأكل الجيف فإذا كان فساده يؤثر في تنجيس ما توجبه الطهارة والحل فغير مستنكر أن يكون طيبه وحله يؤثر في تطهير ما يكون في محل آخر نجسا محرما فإن الأرواث والأبوال مستحيلة مخلوقة في باطن البهيمة كغيرها من اللبن وغيره
يبين هذا ما يوجد في هذه الأرواث من مخالفتها غيرها من الأرواث في الخلق والريح واللون وغير ذلك من الصفات فيكون فرق ما بينها فرق ما بين اللبنين والمنبتين وبهذا يظهر خلافها للإنسان
يؤكد ذلك ما قد بيناه من أن المسلمين من الزمن المتقدم وإلى اليوم في كل عصر ومصر ما زالوا يدوسون الزروع المأكولة بالبقر ويصيب الحب من أرواث البقر وأبوالها وما سمعنا أحدا من المسلمين
____________________
(21/586)
غسل حبا ولو كان ذلك منجسا أو مستقذرا لأوشك أن ينهوا عنها وأن تنفر عنه نفوسهم نفورها عن بول الإنسان
ولو قيل هذا إجماع عملي لكان حقا وكذلك ما زال يسقط في المحالب من أبعار الأنعام ولا يكاد أحد يحترز من ذلك ولذلك عفا عن ذلك بعض من يقول بالتنجيس على أن ضبط قانون كلي في الطاهر والنجس مطرد منعكس لم يتيسر وليس ذلك بالواجب علينا بعد علمنا بالأنواع الطاهرة والأنواع النجسة فهذه إشارة لطيفة إلى مسالك الرأي في هذه المسألة وتمامه ما حضرني كتابه في هذا المجلس والله يقول الحق وهو يهدي السبيل الفصل الثاني في مني الآدمي
وفيه أقوال ثلاثة
أحدها أنه نجس كالبول فيجب غسله رطبا ويابسا من البدن والثوب وهذا قول مالك والأوزاعي والثوري وطائفة
وثانيها أنه نجس يجزئ فرك يابسه وهذا قول أبي حنيفة
____________________
(21/587)
وإسحاق ورواية عن أحمد
ثم هنا أوجه قيل يجزئ فرك يابسه ومسح رطبه من الرجل دون المرأة لأنه يعفى عن يسيره ومني الرجل يتأتى فركه ومسحه بخلاف مني المرأة فإنه رقيق كالمذي وهذا منصوص أحمد
وقيل يجزئ فركه فقط منهما لذهابه بالفرك وبقاء أثره بالمسح
وقيل بل الجواز مختص بالفرك من الرجل دون المرأة كما جاءت به السنة كما سنذكره
وثالثها أنه مستقذر كالمخاط والبصاق وهذا قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه وهو الذي نصرناه والدليل عليه وجوه
أحدها ما أخرج مسلم وغيره عن عائشة قالت كنت أفرك المني من ثوب رسول الله ثم يذهب فيصلي فيه وروي في لفظ الدارقطني كنت أفركه إذا كان يابسا وأغسله إذا كان رطبا فهذا نص في أنه ليس كالبول يكون نجسا نجاسة غليظة
فبقي أن يقال يجوز أن يكون نجسا كالدم أو طاهرا كالبصاق
____________________
(21/588)
لكن الثاني أرجح لأن الأصل وجوب تطهير الثياب من الأنجاس قليلها وكثيرها فإذا ثبت جواز حمل قليله في الصلاة ثبت ذلك في كثيره فإن القياس لا يفرق بينهما
فإن قيل فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة أن رسول الله كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه فهذا يعارض حديث الفرك في مني رسول الله والغسل دليل النجاسة فإن الطاهر لا يطهر
فيقال هذا لا يخالفه لأن الغسل للرطب والفرك لليابس كما جاء مفسرا في رواية الدارقطني أو هذا أحيانا وهذا أحيانا وأما الغسل فإن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق والنخامة استقذارا لا تنجيسا ولهذا قال سعد بن أبي وقاص وبن عباس أمطه عنك ولو بإذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق
الدليل الثاني ما روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن عائشة قالت كان رسول الله يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه وهذا من خصائص المستقذرات لا من أحكام النجاسات
____________________
(21/589)
فإن عامة القائلين بنجاسته لا يجوزون مسح رطبه
الدليل الثالث ما احتج به بعض أولينا بما رواه إسحاق الأزرق عن شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن بن عباس قال سئل النبي عن المني يصيب الثوب فقال إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة قال الدارقطني لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك قالوا وهذا لا يقدح لأن إسحاق بن يوسف الأزرق أحد الأئمة وروي عن سفيان وشريك وغيرهما وحدث عنه أحمد ومن في طبقته وقد أخرج له صاحبا الصحيح فيقبل رفعه وما ينفرد به
وأنا أقول أما هذه الفتيا فهي ثابتة عن بن عباس وقبله سعد بن أبي وقاص ذكر ذلك عنهما الشافعي وغيره في كتبهم وأما رفعه إلى النبي فمنكر باطل لا أصل له لأن الناس كلهم رووه عن شريك موقوفا ثم شريك ومحمد بن عبد الرحمن وهو بن أبي ليلى ليسا في الحفظ بذاك والذين هم أعلم منهم بعطاء مثل بن جريج الذي هو أثبت فيه من القطب وغيره من المكيين لم يروه أحد إلا موقوفا وهذا كله دليل على وهم تلك الرواة
____________________
(21/590)
فإن قلت أليس من الأصول المستقرة أن زيادة العدل مقبولة وإن الحكم لمن رفع لا لمن وقف لأنه زائد
قلت هذا عندنا حق مع تكافؤ المحدثين المخبرين وتعادلهم وأما مع زيادة عدد من لم يزد فقد اختلف فيه أولونا وفيه نظر
وأيضا فإنما ذاك إذا لم تتصادم الروايتان وتتعارضا وأما متى تعارضتا يسقط رواية الأقل بلا ريب وها هنا المروي ليس هو مقابل بكون النبي قد قالها ثم قالها صاحبه تارة تارة ذاكرا وتارة آثرا وإنما هو حكاية حال وقضية عين في رجل استفتى على صورة وحروف مأثورة فالناس ذكروا أن المستفتي بن عباس وهذه الرواية ترفعه إلى النبي وليست القضية إلا واحدة إذ لو تعددت القضية لما أهمل الثقات الأثبات ذلك على ما يعرف من اهتمامهم بمثل ذلك
وأيضا فأهل نقد الحديث والمعرفة به أقعد بذلك وليسوا يشكون في أن هذه الرواية وهم
الدليل الرابع أن الأصل في الأعيان الطهارة فيجب القضاء بطهارته حتى يجيئنا ما يوجب القول بأنه نجس وقد بحثنا وسبرنا فلم نجد لذلك
____________________
(21/591)
أصلا فعلم أن كل ما لا يمكن الاحتراز عن ملابسته معفو عنه ومعلوم أن المني يصيب أبدان الناس وثيابهم وفرشهم بغير اختيارهم أكثر مما يلغ الهر في آنيتهم فهو طواف الفضلات بل قد يتمكن الإنسان من الاحتراز من البصاق والمخاط المصيب ثيابه ولا يقدر على الاحتراز من مني الاحتلام والجماع وهذه المشقة الظاهرة توجب طهارته ولو كان المقتضي للتنجيس قائما
ألا ترى أن الشارع خفف في النجاسة المعتادة فاجتزأ فيها بالجامد مع أن إيجاب الاستنجاء عند وجود الماء أهون من إيجاب غسل الثياب من المني لا سيما في الشتاء في حق الفقير ومن ليس له إلا ثوب واحد
فإن قيل الذي يدل على نجاسة المني وجوه
أحدها ما روي عن عمار بن ياسر عن النبي أنه قال إنما يغسل الثوب من البول والغائط والمني والقيء رواه بن عدي وحديث عائشة قد مضى في أن النبي كان يغسله
الوجه الثاني أنه خارج يوجب طهارتي الخبث والحدث فكان نجسا كالبول والحيض وذلك لأن إيجاب نجاسة الطهارة دليل على أنه
____________________
(21/592)
نجس فإن إماطته وتنحيته أخف من التطهير منه فإذا وجب الأثقل فالأخف أولى لا سيما عند من يقول بوجوب الاستنجاء منه فإن الاستنجاء إماطة وتنحية فإذا وجب تنحيته في مخرجه ففي غير مخرجه أحق وأولى
الوجه الثالث أنه من جنس المذي فكان نجسا كالمذي وذاك لأن المذي يخرج عند مقدمات الشهوة والمني أصل المذي عند استكمالها وهو يجري في مجراه ويخرج من مخرجه فإذا نجس الفرع فلأن ينجس الأصل أولى
الوجه الرابع أنه خارج من الذكر أو خارج من القبل فكان نجسا كجميع الخوارج مثل البول والمذي والودي وذلك لأن الحكم في النجاسة منوط بالمخرج
ألا ترى أن الفضلات الخارجة من أعالي البدن ليست نجسة وفي أسافله تكون نجسة وأن جمعها الاستحالة في البدن
الوجه الخامس أنه مستحيل عن الدم لأنه دم قصرته الشهوة ولهذا يخرج عند الإكثار من الجماع أحمر والدم نجس والنجاسة لا تطهر بالاستحالة عندكم
____________________
(21/593)
الوجه السادس أنه يجري في مجرى البول فيتنجس بملاقاة البول فيكون كاللبن في الظرف النجس فهذه أدلة كلها تدل على نجاسته
فنقول الجواب وعلى الله قصد السبيل أما حديث عمار بن ياسر فلا أصل له في إسناده ثابت بن حماد قال الدارقطني ضعيف جدا وقال بن عدي له مناكير وحديث عائشة مضى القول فيه
وأما الوجه الثاني فقولهم يوجب طهارتي الخبث والحدث أما الخبث فممنوع بل الاستنجاء منه مستحب كما يستحب إماطته من الثوب والبدن وقد قيل هو واجب كما قد قيل يجب غسل الأنثيين من المذي وكما يجب غسل أعضاء الوضوء إذا خرج الخارج من الفرج فهذا كله طهارة وجبت لخارج وإن لم يكن المقصود بها إماطته وتنجيسه بل سبب آخر كما يغسل منه سائر البدن
فالحاصل أن سبب الاستنجاء منه ليس هو النجاسة بل سبب آخر فقولهم يوجب طهارة الخبث وصف ممنوع في الفرع فليس غسله عن الفرج للخبث وليست الطهارات منحصرة في ذلك كغسل اليد عند القيام من نوم الليل وغسل الميت والأغسال المستحبة وغسل الأنثيين وغير ذلك فهذه الطهارة إن قيل بوجوبها فهي من القسم الثالث فيبطل قياسه على البول لفساد الوصف الجامع
____________________
(21/594)
وأما ايجابه طهارة الحدث فهو حق لكن طهارة الحدث ليست أسبابها منحصرة في النجاسات فان الصغرى تجب من الريح اجماعا وتجب بموجب الحجة من ملامسة الشهوة ومن مس الفرج ومن لحوم الإبل ومن الردة وغسل الميت وقد كانت تجب في صدر الاسلام من كل ما غيرته النار وكل هذه الأسباب غير نجسه
وأما الكبرى فتجب بالايلاج اذا التقى الختانان ولا نجاسة وتجب بالولادة التي لا دم معها على رأي مختار والولد طاهر وتجب بالموت ولا يقال هو نجس وتجب بالاسلام عند طائفة
فقولهم انما أوجب طهارة الحدث أو أوجب الاغتسال نجس منتقض بهذه الصور الكثيرة فبطل طرده فان ضموا إلى العلة كونه خارجا انتقض بالريح والولد نقضا قادحا
ثم يقال قولكم خارج وصف طردي فلا يجوز الاحتراز به ثم ان عكسه أيضا باطل والوصف عديم التأثير فان ما لا يوجب طهارة الحدث منه شيء كثير نجس كالدم الذي لم يسل واليسير من القيء
وأيضا فسيأتي الفرق ان شاء الله تعالى فهذه أوجه ثلاثة أو أربعة
وأما قولهم التطهير منه أبعد من تطهيره فجمع ما بين متفاوتين
____________________
(21/595)
متباينين فان الطهارة منه طهارة عن حدث وتطهيره ازالة خبث وهما جنسان مختلفان في الحقيقة والأسباب والأحكام من وجوه كثيرة فان هذه تجب لها النية دون تلك
وهذه من باب فعل المأمور به وتلك من باب اجتناب المنهى عنه وهذه مخصوصة بالماء أو التراب وقد تزال تلك بغير الماء في مواضع بالاتفاق وفي مواضع على رأي وهذه يتعدى حكمها محل سببها إلى جميع البدن وتلك يختص حكمها بمحلها وهذه تجب في غير محل السبب أو فيه وفي غيره وتلك تجب في محل السبب فقط وهذه حسية وتلك عقلية وهذه جارية في أكثر أمورها على سنن مقايس البحاثين وتلك مستصعبة على سبر القياس وهذه واجبة بالاتفاق وفي وجوب الأخرى خلاف معلوم وهذه لها بدل وفي بدل تلك في البدن خاصة خلاف ظاهر
وبالجملة فقياس هذه الطهارة على تلك الطهارة كقياس الصلاة على الحج لأن هذه عبادة وتلك عبادة مع اختلاف الحقيقتين
وأما الوجه الثالث وهو الحاقه بالمذي فقد منع الحكم في الأصل على قول بطهارة المذي والاكثرون سلموه وفرقوا بافتراق الحقيقتين فان هذا يخلق منه الولد الذي هو أصل الانسان وذلك بخلافه ألا
____________________
(21/596)
ترى أن عدم الإمناء عيب يبنى عليه أحكام كثيرة منشؤها على أنه نقص وكثرة الامذاء ربما كانت مرضا وهو فضلة محضة لا منفعة فيه كالبول وان اشتركا في انبعاثهما عن شهوة النكاح فليس الموجب لطهارة المني أنه عن شهوة الباءة فقط بل شيء آخر وان أجريناه مجراه فنتكلم عليه ان شاء الله تعالى
وأما كونه فرعا فليس كذلك بل هو بمنزلة الجنين الناقص كالانسان اذا أسقطته المرأة قبل كمال خلقه فانه وان كان مبدأ خلق الانسان فلا يناط به من أحكام الانسان الا ما قل ولو كان فرعا فان النجاسة استخباث وليس استخباث الفرع بالموجب خبث أصله كالفضول الخارجة من الانسان
وأما الوجه الرابع فقياسه على جميع الخارجات بجامع إشتراكهن في المخرج منقوض بالفم فانه مخرج النخامة والبصاق الطاهرين والقيء النجس وكذلك الدبر مخرج الريح الطاهر والغائط النجس وكذلك الأنف مخرج المخاط الطاهر والدم النجس
وان فصلوا بين ما يعتاد الناس من الأمور الطبيعية وبين ما يعرض لهم لاسباب حادثة
____________________
(21/597)
قلنا النخامة المعدية اذا قيل بنجاستها معتادة وكذلك الريح
وأيضا فانا نقول لم قلتم أن الاعتبار بالمخرج ولم لا يقال الاعتبار بالمعدن والمستحال فما خلق في أعلى البدن فطاهر وما خلق في أسفله فنجس والمني يخرج من بين الصلب والترائب بخلاف البول والودي وهذا أشد اطرادا لأن القيء والنخامة المنجسة خارجان من الفم لكن لما استحالا في المعدة كانا نجسين وأيضا فسوف نفرق ان شاء الله تعالى
وأما الوجه الخامس فقولهم مستحيل عن الدم والاستحالة لا تطهر عنه عدة أجوبة مستنيرة قاطعة
أحدها انه منقوض بالآدمي وبمضغته فانهما مستحيلان عنه وبعده عن العلقة وهي دم ولم يقل أحد بنجاسته وكذلك سائر البهائم المأكولة
وثانيها انا لا نسلم ان الدم قبل ظهوره وبروزه يكون نجسا فلا بد من الدليل على تنجيسه ولا يغني القياس عليه إذا ظهر وبرز باتفاق الحقيقة لانا نقول للدليل على طهارته وجوه
أحدها ان النجس هو المستقذر المستخبث وهذا الوصف لا يثبت
____________________
(21/598)
لهذه الأجناس الا بعد مفارقتها مواضع خلقها فوصفها بالنجاسة فيها وصف بما لا تتصف به
وثانيها ان خاصة النجس وجوب مجانبته في الصلاة وهذا مفقود فيها في البدن من الدماء وغيرها ألا ترى أن من صلى حاملا وعاءا مسدودا قد أوعى دما لم تصح صلاته فلئن قلت عفى عنه لمشقة الاحتراز قلت بل جعل طاهرا لمشقة الاحتراز فما المانع منه والرسول يعلل طهارة الهرة بمشقة الاحتراز حيث يقول انها ليست بنجسة انها من الطوافين عليكم والطوافات
بل أقول قد رأينا جنس المشقة في الاحتراز مؤثرا في جنس التخفيف فان كان الاحتراز من جميع الجنس مشقا عفى عن جميعه فحكم بالطهارة وان كان من بعضه عفي عن القدر المشق وهنا يشق الاحتراز من جميع ما في داخل الأبدان فيحكم لنوعه بالطهارة كالهر وما دونها وهذا وجه ثالث
الوجه الرابع ان الدماء المستخبثة في الأبدان وغيرها هي أحد أركان الحيوان التي لا تقوم حياته الا بها حتى سميت نفسا فالحكم
____________________
(21/599)
بأن الله يجعل أحد أركان عباده من الناس والدواب نوعا نجسا في غاية البعد
الوجه الخامس أن الأصل الطهارة فلا تثبت النجاسة إلا بدليل وليس في هذه الدماء المستخبثة شيء من أدلة النجاسة وخصائصها
الوجه السادس انا قد رأينا الأعيان تفترق حالها بين ما اذا كانت في موضع عملها ومنفعتها وبين ما اذا فارقت ذلك فالماء المستعمل ما دام جاريا في أعضاء المتطهر فهو طهور فاذا انفصل تغيرت حاله والماء في المحل النجس ما دام عليه فعمله باق وتطهيره ولا يكون ذلك الا لأنه طاهر مطهر فاذا فارق محل عمله فهو اما نجس أو غير مطهر وهذا مع تغير الأمواه في موارد التطهير تارة بالطاهرات وتارة بالنجاسات فاذا كانت المخالطة التي هي أشد أسباب التغيير لا تؤثر في محل عملنا وانتفاعنا فما ظنك بالجسم المفرد في محل عمله بخلق الله وتدبيره فافهم هذا فانه لباب الفقه
الوجه الثالث عن أصل الدليل أنا لو سلمنا أن الدم نجس فانه قد استحال وتبدل وقولهم الاستحالة لا تطهر
قلنا من أفتى بهذه الفتوى الطويلة العريضة المخالفة للإجماع
____________________
(21/600)
فان المسلمين أجمعوا ان الخمر اذا بدأ الله بافسادها وتحويلها خلا طهرت وكذلك تحويل الدواب والشجر بل أقول الاستقراء دلنا أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس مثل جعل الخمر خلا والدم منيا والعلقة مضغة ولحم الجلالة الخبيث طيبا وكذلك بيضها ولبنها والزرع المسقى بالنجس اذا سقي بالماء الطاهر وغير ذلك فانه يزول حكم التنجيس ويزول حقيقة النجس واسمه التابع للحقيقة وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه فان جميع الأجسام المخلوقة في الأرض فان الله يحولها من حال إلى حال ويبدلها خلقا بعد خلق ولا التفات إلى موادها وعناصرها
وأما ما استحال بسبب كسب الانسان كاحراق الروث حتى يصير رمادا ووضع الخنزير في الملاحة حتى يصير ملحا ففيه خلاف مشهور وللقول بالتطهير اتجاه وظهور ومسألتنا من القسم الأول ولله الحمد
الدليل الخامس أن المني مخالف لجميع ما يخرج من الذكر في خلقه فانه غليظ وتلك رقيقة وفي لونه فانه أبيض شديد البياض وفي ريحه فانه طيب كرائحة الطلع وتلك خبيثة ثم جعله الله أصلا لجميع أنبيائه وأوليائه وعباده الصالحين والانسان المكرم فكيف يكون أصله نجسا ولهذا قال بن عقيل وقد ناظر بعض من يقول بنجاسته
____________________
(21/601)
لرجل قال له ما بالك وبال هذا قال أريد أن أجعل أصله طاهرا وهو يأبى الا أن يكون نجسا
ثم ليس شأنه شأن الفضول بل شأن ما هو غذاء ومادة في الأبدان إذ هو قوام النسل فهو بالأصول أشبه منه بالفضل
الدليل السادس وفيه أجوبه أحدها لا نسلم أنه يجري في مجرى البول فقد قيل إن بينهما جلدة رقيقة وان البول انما يخرج رشحا وهذا مشهور وبالجملة فلا بد من بيان اتصالهما وليس ذلك معلوما الا في ثقب الذكر وهو طاهر أو معفو عن نجاسته
الوجه الثاني أنه لو جرى في مجراه فلا نسلم أن البول قبل ظهوره نجس كما مر تقريره في الدم وهو في الدم أبين منه في البول لأن ذلك ركن وبعض وهذا فضل
الوجه الثالث أنه لو كان نجسا فلا نسلم أن المماسة في باطن الحيوان موجبة للتنجيس كما قد قيل في الاستحالة وهو في المماسة أبين يؤيد هذا قوله تعالى { من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين } ولو كانت المماسة في الباطن للفرث مثلا موجبة للنجاسة لنجس اللبن
____________________
(21/602)
فان قيل فلعل بينهما حاجزا
قيل الأصل عدمه على أن ذكره هذا في معرض بيان ذكر الاقتدار باخراج طيب من بين خبيثين في الاغتذاء ولا يتم الا مع عدم الحاجز والا فهو مع الحاجز ظاهر في كمال خلقه سبحانه
وكذلك قوله خالصا والخلوص لا بد أن يكون مع قيام الموجب للشوب وبالجملة فخروج اللبن من بين الفرث والدم أشبه شيء بخروج المني من مخرج البول وقد سلك هذا المسلك من رأى إنفحة الميتة ولبنها طاهرا لأنه كان طاهرا وإنما حدث نجاسة الوعاء فقال الملاقاة في الباطن غير ظاهر
ومن نجس هذا فرق بينه وبين المني بأن المني ينفصل عن النجس في الباطن أيضا بخلاف اللبن فانه لا يمكن فصله من الميتة الا بعد ابراز الضرع وحينئذ يصير في حد ما يلحقه النجاسة والله يقول الحق وهو يهدي السبيل والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وهذا الذي حضرني في هذا الوقت ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
____________________
(21/603)
وسئل
عن المني هل هو طاهر أم لا وإذا كان طاهرا فما حكم رطوبة فرج المرأة إذا خالطه
فأجاب وأما المني فالصحيح أنه طاهر كما هو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه
وقد قيل انه نجس يجزئ فركه كقول أبي حنيفة وأحمد في رواية أخرى وهل يعفى عن يسيره كالدم أو لا يعفى عنه كالبول على قولين هما روايتان عن أحمد
وقيل إنه يجب غسله كقول مالك والأول هو الصواب فانه من المعلوم أن الصحابة كانوا يحتلمون على عهد النبي وأن المني يصيب بدن أحدهم وثيابه وهذا مما تعم به البلوى فلو كان ذلك نجسا لكان يجب على النبي أمرهم بازالة ذلك من أبدانهم وثيابهم كما أمرهم بالاستنجاء وكما أمر الحائض بأن تغسل دم الحيض من ثوبها بل إصابة الناس المني أعظم بكثير من
____________________
(21/604)
إصابة دم الحيض لثوب الحيض
ومن المعلوم أنه لم ينقل أحد أن النبي أمر أحدا من الصحابة بغسل المني من بدنه ولا ثوبه فعلم يقينا أن هذا لم يكن واجبا عليهم وهذا قاطع لمن تدبره
وأما كون عائشة رضي الله عنها كانت تغسله تارة من ثوب النبي وتفركه تارة فهذا لا يقتضي تنجيسه فان الثوب يغسل من المخاط والبصاق والوسخ وهكذا قال غير واحد من الصحابة كسعد بن ابي وقاص وبن عباس وغيرهما إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق أمطه عنك ولو باذخره وسواء كان الرجل مستنجيا أو مستجمرا فان منيه طاهر
ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد إن مني المستجمر نجس لملاقاته رأس الذكر فقوله ضعيف فان الصحابة كان عامتهم يستجمرون ولم يكن يستنجي بالماء منهم إلا قليل جدا بل كان كثير منهم كانوا لا يعرفون الاستنجاء بل أنكروه ومع هذا فلم يأمر النبي أحدا منهم بغسل منيه بل ولا فركه
والاستجمار بالاحجار هل هو مطهر أو مخفف فيه قولان معروفان فان
____________________
(21/605)
قيل إنه مطهر فلا كلام وإن قيل إنه مخفف وأنه يعفى عن أثره للحاجة فإنه يعفى عنه في محله وفيما يشق الاحتراز عنه والمني يشق الاحتراز منه فألحق بالمخرج وسئل رحمه الله
عن المني ما حكمه
فأجاب الصحيح أن المني طاهر كما هو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وأما كون عائشة تغسله تارة من ثوب رسول الله وتفركه تارة فهذا لا يقتضي تنجيسه فإن الثوب يغسل من المخاط والبصاق والوسخ وهذا قاله غير واحد من الصحابة كسعد بن أبي وقاص وبن عباس وغيرهما إنما هو بمنزلة البصاق والمخاط أمطه عنك ولو بإذخرة وسواء كان الرجل مستنجيا أو مستجمرا فإن منيه طاهر
ومن قال إن مني المستجمر نجس لملاقاته رأس الذكر فقوله ضعيف فإن الصحابة كان عامتهم يستجمرون ولم يكن يستنجي بالماء منهم إلا القليل جدا بل الكثير منهم لا يعرف الاستنجاء بل أنكروه والحق ما هم عليه ومع هذا فلم يأمر النبي
____________________
(21/606)
أحدا منهم بغسل المني ولا فركه
والاستجمار بالحجارة هل هو مخفف أو مطهر فيه قولان معروفان فإن قيل هو مطهر فلا كلام وإن قيل هو مخفف فإنه يعفى عن أثره للحاجة ويعفى عنه في محله وفيما يشق الاحتراز عنه فألحق بالمخرج والله أعلم وسئل رحمه الله
عمن وقع على ثيابه ماء طاقة ما يدري ما هو فهل يجب غسله أم لا
فأجاب لا يجب غسله بل ولا يستحب على الصحيح وكذلك لا يستحب السؤال عنه على الصحيح فقد مر عمر بن الخطاب مع رفيق له فقطر على رفيقه ماء من ميزاب فقال صاحبه يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أم نجس فقال عمر يا صاحب الميزاب لا تخبره فإن هذا ليس عليه والله أعلم
____________________
(21/607)
وسئل رحمه الله
عن الفخار فإنه يشوى بالنجاسة فما حكمه والأفران التي تسخن بالزبل فما حكمها
فأجاب الحمد لله هذه المسائل مبنية على أصلين
أحدهما السرقين النجس ونحوه في الوقود ليسخن الماء أو الطعام ونحو ذلك فقال بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره إن ذلك لا يجوز لأنه يتضمن ملابسة النجاسة ومباشرتها وقال بعضهم إن ذلك مكروه غير محرم لأن إتلاف النجاسة لا يحرم وإنما ذلك مظنة التلوث بها ومما يشبه ذلك الاستصباح بالدهن النجس فإنه استعمال له بالإتلاف والمشهور عن أحمد وغيره من العلماء أن ذلك يجوز وهو المأثور عن الصحابة والقول الآخر عنه وعن غيره المنع لأنه مظنة التلوث به ولكراهة دخان النجاسة
والصحيح أنه لا يحرم شيء من ذلك فإن الله تعالى حرم الخبائث من الدم والميتة ولحم الخنزير وقد ثبت في الصحيحين عن النبي
____________________
(21/608)
أنه قال إنما حرم من الميتة أكلها ثم إنه حرم لبسها قبل الدباغ وهذا وجه قوله في حديث عبد الله بن عكيم كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فإن الرخصة المتقدمة كانت في الانتفاع بالجلود بلا دباغ كما ذهب إليه طائفة من السلف فرفع النهي عما أرخص فأما الانتفاع بها بعد ا لدباغ فلم ينه عنه قط ولهذا كان آخر الروايتين عن أحمد أن الدباغ مطهر لجلود الميتة لكن هل يقوم مقام الذكاة أو مقام الحياة فيطهر جلد المأكول أو جلد ما كان طاهرا في الحياة دون ما سوى ذلك على وجهين أصحهما الأول فيطهر بالدباغ ما تطهره الذكاة لنهيه في حديث عن جلود السباع
وأيضا فإن استعمال الخمر في إطفاء الحريق ونحو ذلك سلمه المنازعون مع أن الأمر بمجانبة الخمر أعظم فإذا جاز إتلاف الخمر بما فيه منفعة فإتلاف النجاسات بما ليس فيه منفعة أولى ولأنهم سلموا جواز طعام الميتة للبزاة والصقور فاستعمالها في النار أولى
وأما قول القائل هذا مظنة ملابستها فيقال ملابسة النجاسة للحاجة جائز إذا طهر بدنه وثيابه عند الصلاة ونحوها كما يجوز الاستنجاء بالماء مع مباشرة النجاسة ولا يكره ذلك على أصح الروايتين عن أحمد وهو قول أكثر الفقهاء والرواية الثانية يكره ذلك
____________________
(21/609)
بل يستعمل الحجر أو يجمع بينهما والمشهور أن الاقتصار على الماء أفضل وإن كان فيه مباشرتها
وفي استعمال جلود الميتة إذا لم يقل بطهارتها في اليابسات روايتان أصحهما جواز ذلك وإن قيل إنه يكره فالكراهة تزول بالحاجة
وأما قوله هذا يفضي إلى التلوث بدخان النجاسة فهذا مبني على الأصل الثاني وهو أن النجاسة في الملاحة إذا صارت ملحا ونحو ذلك فهل هي نجسة أم لا على قولين مشهورين للعلماء هما روايتان عن أحمد نص عليهما في الخنزير المشوي في التنور هل تطهر النار ما لصق به أم يحتاج إلى غسل ما أصابه منه على روايتين منصوصتين
أحدهما هي نجسة وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحاب أحمد وأحد قولي أصحاب مالك وهؤلاء يقولون لا يطهر من النجاسة بالاستحالة إلا الخمرة المنتقلة بنفسها والجلد المدبوغ إذا قيل أن الدبغ إحالة لا إزالة
والقول الثاني وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي المالكية وغيرهم أنها لا تبقى نجسة وهذا هو الصواب فإن هذه الأعيان لم يتناولها نص التحريم لا لفظا ولا معنى وليست في معنى النصوص
____________________
(21/610)
بل هي أعيان طيبة فيتناولها نص التحليل وهي أولى بذلك من الخمر المنقلبة بنفسها وما ذكروه من الفرق بأن الخمر نجست بالاستحالة فتطهر بالاستحالة باطل فإن جميع النجاسات إنما نجست بالاستحالة كالدم فإنه مستحيل عن الغذاء الطاهر وكذلك البول والعذرة حتى الحيوان النجس مستحيل عن الماء والتراب ونحوهما من الطاهرات
ولا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة فإن نفس النجس لم يطهر لكن استحال وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس وإن كان مستحيلا منه والمادة واحدة كما أن الماء ليس هو الزرع والهواء والحب وتراب المقبرة ليس هو الميت والإنسان ليس هو المني
والله تعالى يخلق أجسام العالم بعضها من بعض ويحيل بعضها إلى بعض وهي تبدل مع الحقائق ليس هذا هذا فكيف يكون الرماد هو العظم الميت واللحم والدم نفسه بمعنى أنه يتناوله اسم العظم وأما كونه هو هو باعتبار الأصل والمادة فهذا لا يضر فإن التحريم يتبع الاسم والمعنى الذي هو الخبث وكلاهما منتف
وعلى هذا فدخان النار الموقدة بالنجاسة طاهر وبخار الماء النجس الذي يجتمع في السقف طاهر وأمثال ذلك من المسائل
____________________
(21/611)
وإذا كان كذلك فهذا الفخار طاهر إذ ليس فيه من النجاسة شيء وإن قيل إنه خالطه من دخانها خرج على القولين والصحيح أنه طاهر
وأما نفس استعمال النجاسة فقد تقدم الكلام فيه والنزاع في الماء المسخن بالنجاسة فإنه طاهر لكن هل يكره على قولين هما روايتان عن أحمد
إحداهما لا يكره وهو قول أبي حنيفة والشافعي
والثاني يكره وهو مذهب مالك
وللكراهة مأخذان
أحدهما خشية أن يكون قد وصل إلى الماء شيء من النجاسة فيكره لاحتمال تنجسه فعلى هذا إذا كان بين الموقد وبين النار حاجز حصين لم يكره وهذه طريقة الشريف أبي جعفر وبن عقيل وغيرهما
والثاني أن سبب الكراهة كون استعمال النجاسة مكروها وأن السخونة حصلت بفعل مكروه وهذه طريقة القاضي أبي يعلى ومثل هذا
____________________
(21/612)
طبخ الطعام بالوقود النجس فإن نضج الطعام كسخونة الماء والكراهة في طبخ الفخار بالوقود النجس تشبه تسخين الماء الذي ليس بينه وبين النار حاجز والله أعلم وسئل
عن بول ما يؤكل لحمه هل هو نجس
فأجاب أما بول ما يؤكل لحمه وروث ذلك فإن أكثر السلف على أن ذلك ليس بنجس وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما ويقال إنه لم يذهب أحد من الصحابة إلى تنجيس ذلك بل القول بنجاسة ذلك قول محدث لا سلف له من الصحابة وقد بسطنا القول في هذه المسألة في كتاب مفرد وبينا فيه بضعة عشر دليلا شرعيا وأن ذلك ليس بنجس
والقائل بتنجيس ذلك ليس معه دليل شرعي على نجاسته أصلا فإن غاية ما اعتمدوا عليه قوله تنزهوا من البول وظنوا أن هذا عام في جميع الأحوال وليس كذلك فإن اللام لتعريف العهد والبول المعهود هو بول الآدمي ودليله قوله تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ومعلوم أن عامة عذاب
____________________
(21/613)
القبر إنما هو من بول الآدمي نفسه الذي يصيبه كثيرا لا من بول البهائم الذي لا يصيبه إلا نادرا
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه أمر العرنيين الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام أن يلحقوا بإبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ولم يأمرهم مع ذلك بغسل ما يصيب أفواههم وأيديهم ولا بغسل الأوعية التي فيها الأبوال مع حدثان عهدهم بالإسلام ولو كان بول الأنعام كبول الإنسان لكان بيان ذلك واجبا ولم يجز تأخير البيان عن وقت الحاجة لا سيما مع أنه قرنها بالألبان التي هي حلال طاهرة مع أن التداوي بالخبائث قد ثبت فيه النهي عن النبي من وجوه كثيرة
وأيضا فقد ثبت في الصحيح أن النبي كان يصلي في مرابض الغنم وأنه أذن في الصلاة في مرابض الغنم من غير اشتراط حائل ولو كانت أبعارها نجسة لكانت مرابضها كحشوش بني آدم وكان ينهى عن الصلاة فيها مطلقا أو لا يصلي فيها إلا مع الحائل المانع فلما جاءت السنة بالرخصة في ذلك كان من سوى بين أبوال الآدميين وأبوال الغنم مخالفا للسنة
وأيضا فقد طاف النبي بالبيت على بعيره
____________________
(21/614)
مع إمكان أن يبول البعير وأيضا فما زال المسلمون يدوسون حبوبهم بالبقر مع كثرة ما يقع في الحب من البول وأخباث البقر
وأيضا فإن الأصل في الأعيان الطهارة فلا يجوز التنجيس إلا بدليل ولا دليل على النجاسة إذ ليس في ذلك نص ولا إجماع ولا قياس صحيح وسئل
عن فران يحمي بالزبل ويخبز
فأجاب الحمد لله إذا كان الزبل طاهرا مثل زبل البقر والغنم والإبل وزبل الخيل فهذا لا ينجس الخبز
وإن كان نجسا كزبل البغال والحمر وزبل سائر البهائم فعند بعض العلماء إن كان يابسا فقد يبس الفرن منه ولم ينجس الخبز وإن علق بعضه بالخبز قلع ذلك الموضع ولم ينجس الباقي والله أعلم
____________________
(21/615)
وسئل
عن الكلب هل هو طاهر أم نجس وما قول العلماء فيه
فأجاب أما الكلب فللعلماء فيه ثلاثة أقوال معروفة
أحدها أنه نجس كله حتى شعره كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه
والثاني أنه طاهر حتى ريقه كقول مالك في المشهور عنه
والثالث أن ريقه نجس وأن شعره طاهر وهذا مذهب أبي حنيفة المشهور عنه وهذه هي الرواية المنصورة عند أكثر أصحابه وهو الرواية الأخرى عن أحمد وهذا أرجح الأقوال فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك وإذا ولغ في الماء أريق وإذا ولغ في اللبن ونحوه فمن العلماء من يقول يؤكل ذلك الطعام كقول مالك وغيره ومنهم من يقول يراق كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد فأما إن كان اللبن كثيرا فالصحيح أنه لا ينجس وله في الشعور النابتة على محل نجس ثلاث روايات
إحداها أن جميعها طاهر حتى شعر الكلب والخنزير وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز
والثانية أن جميعها نجس كقول الشافعي
____________________
(21/616)
والثالثة أن شعر الميتة إن كانت طاهرة في الحياة كان طاهرا كالشاة والفأرة وشعر ما هو نجس في حال الحياة نجس كالكلب والخنزير وهذه هي المنصوصة عند أكثر أصحابه
والقول الراجح هو طهارة الشعور كلها شعر الكلب والخنزير وغيرهما بخلاف الريق وعلى هذا فإذا كان شعر الكلب رطبا وأصاب ثوب الإنسان فلا شيء عليه كما هو مذهب جمهور الفقهاء كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل كما قال تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } وقال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وقال النبي في الحديث الصحيح إن من أعظم المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وفي السنن عن سلمان الفارسي مرفوعا ومنهم من يجعله موقوفا أنه قال الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه
وإذا كان كذلك فالنبي قال طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا أولاهن بالتراب وفي الحديث الآخر إذا ولغ الكلب فأحاديثه كلها ليس فيها إلا ذكر الولوغ لم يذكر سائر الأجزاء فتنجيسها إنما هو بالقياس
____________________
(21/617)
فإذا قيل إن البول أعظم من الريق كان هذا متوجها
وأما إلحاق الشعر بالريق فلا يمكن لأن الريق متحلل من باطن الكلب بخلاف الشعر فإنه نابت على ظهره
والفقهاء كلهم يفرقون بين هذا وهذا فإن جمهورهم يقولون إن شعر الميتة طاهر بخلاف ريقها والشافعي وأكثرهم يقولون إن الزرع النابت في الأرض النجسة طاهر فغاية شعر الكلب أن يكون نابتا في منبت نجس كالزرع النابت في الأرض النجسة فإذا كان الزرع طاهرا فالشعر أولى بالطهارة لأن الزرع فيه رطوبة ولين يظهر فيه أثر النجاسة بخلاف الشعر فإن فيه من اليبوسة والجمود ما يمنع ظهور ذلك فمن قال من أصحاب أحمد كابن عقيل وغيره إن الزرع طاهر فالشعر أولى ومن قال إن الزرع نجس فإن الفرق بينهما ما ذكر فإن الزرع يلحق بالجلالة التي تأكل النجاسة وهذا أيضا حجة في المسألة فإن الجلالة التي تأكل النجاسة قد نهى النبي عن لبنها فإذا حبست حتى تطيب كانت حلالا باتفاق المسلمين لأنها قبل ذلك يظهر أثر النجاسة في لبنها وبيضها وعرقها فيظهر نتن النجاسة وخبثها فإذا زال ذلك عادت طاهرة فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها والشعر لا يظهر فيه شيء من آثار النجاسة أصلا فلم يكن لتنجيسه معنى
____________________
(21/618)
وهذا يتبين بالكلام في شعور الميتة كما سنذكره إن شاء الله تعالى
وكل حيوان قيل بنجاسته فالكلام في شعره وريشه كالكلام في شعر الكلب فإذا قيل بنجاسة كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير إلا الهرة وما دونها في الخلقة كما هو مذهب كثير من العلماء علماء أهل العراق وهو أشهر الروايتين عن أحمد فإن الكلام في ريش ذلك وشعره فيه هذا النزاع هل هو نجس على روايتين عن أحمد
إحداهما أنه طاهر وهو مذهب الجمهور كأبي حنيفة والشافعي ومالك
والرواية الثانية أنه نجس كما هو اختيار كثير من متأخري أصحاب أحمد والقول بطهارة ذلك هو الصواب كما تقدم
وأيضا فالنبي رخص في اقتناء كلب الصيد والماشية والحرث ولا بد لمن اقتناه أن يصيبه رطوبة شعوره كما يصيبه رطوبة البغل والحمار وغير ذلك فالقول بنجاسة شعورها
____________________
(21/619)
والحال هذه من الحرج المرفوع عن الأمة
وأيضا فإن لعاب الكلب إذا أصاب الصيد لم يجب غسله في أظهر قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا بغسل ذلك فقد عفى عن لعاب الكلب في موضع الحاجة وأمر بغسله في غير موضع الحاجة فدل على أن الشارع راعى مصلحة الخلق وحاجتهم والله أعلم وسئل
عن كلب طلع من ماء فانتفض على شيء فهل يجب تسبيعه
فأجاب مذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما يجب تسبيعه ومذهب أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما لا يجب تسبيعه والله أعلم وسئل
عن سؤر البغل والحمار هل هو طاهر
فأجاب وأما سؤر البغل والحمار فأكثر العلماء يجوزون التوضؤ به كمالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه
____________________
(21/620)
والرواية الأخرى عنه مشكوك فيه كقول أبي حنيفة فيتوضأ به ويتيمم
والثالثة أنه نجس لأنه متولد من باطن حيوان نجس فيكون نجسا كلعاب الكلب لكن النبي قال في الهرة إنها من الطوافين عليكم والطوافات فعلل طهارة سؤرها لكونها من الطوافين علينا والطوافات وهذا يقتضي أن الحاجة مقتضية للطهارة وهذا من حجة من يبيح سؤر البغل والحمار فإن الحاجة داعية إلى ذلك والمانع يقول ذلك مثل سؤر الكلب فإنه مع إباحة قنيته لما يحتاج فيه إليه نهي عن سؤره
والمرخص يقول إن الكلب أباحه للحاجة ولهذا حرم ثمنه بخلاف البغل والحمار فإن بيعهما جائز باتفاق المسلمين والمسألة مبنية على أسآر السباع وما لا يؤكل لحمه وسئل
عن طين جبل بزبل حمار وطين به سطح فوقع عليه قطر فتعلق به ما حكمه
فأجاب الحمد لله إن كان يسيرا عفي عنه في أحد قولي العلماء
____________________
(21/621)
وهو إحدى الروايات عن أحمد لا سيما إذا كان الزبل قد خلط بالطين الذي طين به السطح فقد يكون قد استحال وإن لم يستحل فالذي تعلق بالقطر شيء يسير وسئل
عما إذا بال الفأر في الفراش هل يصلى فيه
فأجاب غسله أحوط ويعفى عن يسيره في أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد وسئل
عن ريش القنفذ هل هو نجس
فأجاب الحمد لله هو طاهر وإن وجد بعد موته عند جمهور العلماء وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه
____________________
(21/622)
& باب الحيض سئل شيخ الإسلام
عما يروى عن النبي أنه قال الحيض للجارية البكر ثلاثة أيام ولياليهن وأكثره خمسة عشر هل هو صحيح وما تأويله على مذهب الشافعي وأحمد
فأجاب أما نقل هذا الخبر عن النبي فهو باطل بل هو كذب موضوع باتفاق علماء الحديث ولكن هو مشهور عن أبي الخلد عن أنس وقد تكلم في أبي الخلد
وأما الذين يقولون أكثر الحيض خمسة عشر كما يقوله الشافعي وأحمد ويقولون أقله يوم كما يقوله الشافعي وأحمد أو لا حد له كما يقوله مالك فهم يقولون لم يثبت عن النبي ولا عن أصحابه في هذا شيء والمرجع في ذلك إلى العادة كما قلنا والله أعلم
____________________
(21/623)
وسئل
عن جماع الحائض هل يجوز أم لا
فأجاب وطء الحائض لا يجوز باتفاق الأئمة كما حرم الله ذلك ورسوله فإن وطئها وكانت حائضا ففي الكفارة عليه نزاع مشهور وفي غسلها من الجنابة دون الحيض نزاع بين العلماء ووطء النفساء كوطء الحائض حرام باتفاق الأئمة
لكن له أن يستمتع من الحائض والنفساء بما فوق الإزار وسواء استمتع منها بفمه أو بيده أو برجله فلو وطئها في بطنها واستمنى جاز ولو استمتع بفخذيها ففي جوازه نزاع بين العلماء والله أعلم وسئل
عن المرأة تطهر من الحيض ولم تجد ماءا تغتسل به هل لزوجها أن يطأها قبل غسلها من غير شرط
فأجاب أما المرأة الحائض إذا انقطع دمها فلا يطؤها زوجها حتى
____________________
(21/624)
تغتسل إذا كانت قادرة على الاغتسال وإلا تيممت كما هو مذهب جمهور العلماء كمالك وأحمد والشافعي
وهذا معنى ما يروى عن الصحابة حيث روي عن بضعة عشر من الصحابة منهم الخلفاء أنهم قالوا في المعتدة هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة
والقرآن يدل على ذلك قال الله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } قال مجاهد حتى يطهرن يعني ينقطع الدم فإذا تطهرن اغتسلن بالماء وهو كما قال مجاهد وإنما ذكر الله غايتين على قراءة الجمهور لأن قوله { حتى يطهرن } غاية التحريم الحاصل بالحيض وهو تحريم لا يزول بالاغتسال ولا غيره فهذا التحريم يزول بانقطاع الدم ثم يبقى الوطء بعد ذلك جائزا بشرط الاغتسال لا يبقى محرما على الإطلاق فلهذا قال { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله }
وهذا كقوله { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } فنكاح الزوج الثاني غاية التحريم الحاصل بالثلاث فإذا نكحت الزوج الثاني زال ذلك التحريم لكن صارت في عصمة الثاني فحرمت لأجل حقه لا لأجل الطلاق الثلاث فإذا طلقها جاز للأول أن يتزوجها
____________________
(21/625)
وقد قال بعض أهل الظاهر المراد بقوله { فإذا تطهرن } أي غسلن فروجهن وليس بشيء لأن الله قد قال { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فالتطهر في كتاب الله هو الاغتسال وأما قوله { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } فهذا يدخل فيه المغتسل والمتوضئ والمستنجي لكن التطهر المقرون بالحيض كالتطهر المقرون بالجنابة والمراد به الاغتسال
وأبو حنيفة رحمه الله يقول إذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة أو انقطع الدم لعشرة أيام حلت بناء على أنه محكوم بطهارتها في هذه الأحوال وقول الجمهور هو الصواب كما تقدم والله أعلم وسئل رحمه الله
عن إتيان الحائض قبل الغسل وما معنى قول أبي حنيفة فإن انقطع الدم لأقل من عشرة أيام لم يجز وطؤها حتى تغتسل وإن انقطع دمها لعشرة أيام جاز وطؤها قبل الغسل وهل الأئمة موافقون على ذلك
فأجاب أما مذهب الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد فإنه لا يجوز
____________________
(21/626)
وطؤها حتى تغتسل كما قال تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } وأما أبو حنيفة فيجوز وطأها إذا انقطع لأكثر الحيض أو مر عليها وقت الصلاة فاغتسلت وقول الجمهور هو الذي يدل عليه ظاهر القرآن والآثار وسئل
عن الحديثين المتفق عليهما في الصحيحين
أحدهما عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي فقالت إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي وفي رواية وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي
والحديث الثاني عن عائشة أيضا رضي الله عنها أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت رسول الله عن ذلك فأمرها أن تغتسل لكل صلاة فهل كانت تغتسل الغسل الكامل المشروع أم كانت تغسل الدم وتتوضأ ومع هذا
____________________
(21/627)
فهل كانت ناسية لأيام الحيض أم كانت مبتدأة وهل نسخ أحد الحديثين الآخر وأيهما كان الناسخ وهل إذا ابتليت المرأة بما ابتليت به أم حبيبة أن تغتسل الغسل الكامل وإذا أمرت بالغسل فيكون هذا من الحرج العظيم وقد قال الله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وهل في ذلك نزاع بين الأئمة
فأجاب ليس أحد الحديثين ناسخا للآخر ولا منافاة بينهما فإن الحديث الأول فيمن كانت لها عادة تعلم قدرها فإذا استحيضت قعدت قدر العادة ولهذا قال فدعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها وقال إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي وبهذا الحديث أخذ جمهور العلماء في المستحاضة المعتادة أنها ترجع إلى عادتها وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والإمام أحمد
لكنهم متنازعون لو كانت مميزة تميز الدم الأسود من الأحمر فهل تقدم التمييز على العادة أم العادة على التمييز
فمنهم من يقدم التمييز على العادة وهو مذهب الشافعي وأحمدفي إحدى الروايتين
والثاني في أنها تقدم العادة وهو ظاهر الحديث وهو مذهب
____________________
(21/628)
أبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه بل أبو حنيفة لم يعتبر التمييز كما أن مالكا لم يعتبر العادة لكن الشافعي وأحمد يعتبران هذا وهذا والنزاع في التقديم
وأما الحديث الثاني فليس فيه أن النبي أمرها أن تغتسل لكل صلاة ولكن أمرها بالغسل مطلقا فكانت هي تغتسل لكل صلاة والغسل لكل صلاة مستحب ليس بواجب عند الأئمة الأربعة وغيرهم إذا قعدت أياما معلومة هي أيام الحيض ثم اغتسلت كما تغتسل من انقطع حيضها ثم صلت وصامت في هذه الاستحاضة بل الواجب عليها أن تتوضأ عند كل صلاة من الصلوات الخمس عند الجمهور كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأما مالك فعنده ليس عليها وضوء ولا غسل فإن دم الاستحاضة لا ينقض الوضوء عنده لا هو ولا غيره من النادرات وقد احتج الأكثرون بما في الترمذي وغيره أن النبي أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة
وهذه المستحاضة الثانية لم تكن مبتدأة وإن كان ذلك قد ظنه بعض الناس فإنها كانت عجوزا كبيرة وإنما حملوا أمرها على أنها كانت ناسية لعادتها وفي السنن أنها أمرت أن تحيض ستا أو سبعا كما جاء ذلك في حديث سلمة بنت سهل وبهذا احتج الإمام
____________________
(21/629)
أحمد وغيره على أن المستحاضة المتميزة تجلس ستا أو سبعا وهو غالب الحيض
وفي المستحاضة عن النبي ثلاث سنن سنة في العادة لمن تقدم وسنة في المميزة وهو قوله دم الحيض أسود يعرف وسنة في غالب الحيض وهو قوله تحيضي ستا أو سبعا ثم اغتسلي وصلي ثلاثا وعشرين أو أربعا وعشرين كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرهن
والعلماء لهم في الاستحاضة نزاع فإن أمرها مشكل لاشتباه دم الحيض بدم الاستحاضة فلا بد من فاصل يفصل هذا من هذا
والعلامات التي قيل بها ستة
إما العادة فإن العادة أقوى العلامات لأن الأصل مقام الحيض دون غيره
وإما التمييز لأنه الدم الأسود والثخين المنتن أولى أن يكون حيضا من الأحمر
وإما اعتبار غالب عادة النساء لأن الأصل إلحاق الفرد بالأعم
____________________
(21/630)
الأغلب فهذه العلامات الثلاث تدل عليها السنة والاعتبار ومن الفقهاء من يجلسها ليلة وهو أقل الحيض ومنهم من يجلسها الأكثر لأنه أصل دم الصحة ومنهم من يلحقها بعادة نسائها
وهل هذا حكم الناسية أو حكم المبتدأة والناسية جميعا فيه نزاع وأصوب الأقوال اعتبار العلامات التي جاءت بها السنة وإلغاء ما سوى ذلك
وأما المتميزة فتجلس غالب الحيض كما جاءت به السنة ومن لم يجعل لها دما محكوما بأنه حيض بل أمرها بالاحتياط مطلقا فقد كلفها أمرا عظيما لا تأتي الشريعة بمثله وفيه تبغيض عبادة الله إلى أهل دين الله وقد رفع الله الحرج عن المسلمين وهو من أضعف الأقوال جدا
وأصل هذا أن الدم باعتبار حكمه لا يخرج عن خمسة أقسام
دم مقطوع بأنه حيض كالدم المعتاد الذي لا استحاضة معه
ودم مقطوع بأنه استحاضة كدم الصغيرة
ودم يحتمل الأمرين لكن الأظهر أنه حيض وهو دم المعتادة
____________________
(21/631)
والمميزة ونحوهما من المستحاضات الذي يحكم بأنه حيض
ودم يحتمل الأمرين والأظهر أنه دم فساد وهو الدم الذي يحكم بأنه استحاضة من دماء هؤلاء
ودم مشكوك فيه لا يترجح فيه أحد الأمرين فهذا يقول به طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما فيوجبون على من أصابها أن تصوم وتصلي ثم تقضي الصوم والصواب أن هذا القول باطل لوجوه
أحدها أن الله تعالى يقول { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } فالله تعالى قد بين للمسلمين في المستحاضة وغيرها ما تتقيه من الصلاة والصيام في زمن الحيض فكيف يقال إن الشريعة فيها شك مستمر يحكم به الرسول وأمته نعم قد يكون شك خاص ببعض الناس كالذي يشك هل أحدث أم لا كالشبهات التي لا يعلمها كثير من الناس فأما شك وشبهة تكون في نفس الشريعة فهذا باطل والذين يجعلون هذا دم شك يجعلون ذلك حكم الشرع لا يقولون نحن شككنا فإن الشاك لا علم عنده فلا يجزم وهؤلاء يجزمون بوجوب الصيام وإعادته لشكهم
الوجه الثاني أن الشريعة ليس فيها إيجاب الصلاة مرتين ولا
____________________
(21/632)
الصيام مرتين إلا بتفريط من العبد فأما مع عدم تفريطه فلم يوجب الله صوم شهرين في السنة ولا صلاة ظهرين في يوم وهذا مما يعرف به ضعف قول من يوجب الصلاة ويوجب إعادتها فإن هذا أصل ضعيف كما بسط القول عليه في غير هذا الموضع
ويدخل في هذا من يأمر بالصلاة خلف الفاسق وإعادتها وبالصلاة مع الأعذار النادرة التي لا تتصل وإعادتها ومن يأمر المستحاضة بالصيام مرتين ونحو ذلك مما يوجد في مذهب الشافعي وأحمد في أحد القولين
فإن الصواب ما عليه جمهور المسلمين أن من فعل العبادة كما أمر بحسب وسعه فلا إعادة عليه كما قال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } ولم يعرف قط أن رسول الله أمر العبد أن يصلي الصلاة مرتين لكن يأمر بالإعادة من لم يفعل ما أمر به مع القدرة على ذلك كما قال للمسيء في صلاته أرجع فصل فإنك لم تصل وكما أمر من صلى خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة فأما المعذور كالذي يتيمم لعدم الماء أو خوف الضرر باستعماله لمرض أو لبرد وكالاستحاضة وأمثال هؤلاء فإن سنة رسول الله في هؤلاء أن يفعلوا ما يقدرون عليه بحسب استطاعتهم ويسقط عنهم ما يعجزون عنه بل سنته فيمن كان لم يعلم الوجوب أنه لا قضاء
____________________
(21/633)
عليه لأن التكليف مشروط بالتمكن من العلم والقدرة على الفعل
ولهذا لم يأمر عمر وعمارا بإعادة الصلاة لما كانا جنبين فعمر لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة ظنا أن التراب يصل إلى حيث يصل الماء وكذلك الذين أكلوا من الصحابة حتى تبين لهم الحبال السود من البيض لم يأمرهم بالإعادة وكذلك الذين صلوا إلى غير الكعبة قبل أن يبلغهم الخبر الناسخ لم يأمرهم بالإعادة وكان بعضهم بالحبشة وبعضهم بمكة وبعضهم بغيرها بل بعض من كان بالمدينة صلوا بعض الصلاة إلى الكعبة وبعضها إلى الصخرة ولم يأمرهم بالإعادة ونظائرها متعددة
فمن استقرأ ماجاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها
ولهذا عذر المجتهد المخطئ لعجزه عن معرفة الحق في تلك المسألة وهذا بخلاف المفرط المتمكن من فعل ما أمر به فهذا هو الذي يستحق العقاب ولهذا قال النبي لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب وهذه قاعدة كبيرة تحتاج إلى بسط ليس هذا موضعه
____________________
(21/634)
ومقصود السائل ما يتعلق بالمستحاضة وقد بينا أن الصواب أنه ليس عليها في صورة من الصور أن تصوم وتقضي الصوم كما يقوله في بعض الصور من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وأنه ليس عليها أن تغتسل لكل صلاة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم والله أعلم وسئل
عن امرأة نفساء لم تغتسل فهل يجوز وطؤها قبل الغسل أم لا
فأجاب لا يجوز وطء الحائض والنفساء حتى يغتسلا فإن عدمت الماء أو خافت الضرر باستعمالها الماء لمرض او برد شديد تتيمم وتوطأ بعد ذلك هذا مذهب جماهير الأئمة كمالك والشافعي وأحمد وقد دل على ذلك القرآن بقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن } أي ينقطع الدم فإذا تطهرن أي اغتسلن بالماء كما قال { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وقد روي ما يدل على ذلك عن أكابر الصحابة كعمر وعثمان وعلي وبن مسعود وأبي موسى وغيرهم حيث جعلوا الزوج أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة
وأما أبو حنيفة فمذهبه إن انقطع الدم لعشرة أيام أو أكثر ومر عليها وقت صلاة أو اغتسلت وطئها وإلا فلا والله أعلم
____________________
(21/635)
وسئل رحمه الله
عن امرأة نفساء هل يجوز لها قراءة القرآن في حال النفاس وهل يجوز وطؤها قبل انقضاء الأربعين أم لا وهل إذا قضت الأربعين ولم تغتسل فهل يجوز وطؤها بغير غسل أم لا
فأجاب الحمد لله أما وطؤها قبل أن ينقطع الدم فحرام باتفاق الأئمة وإذا انقطع الدم بدون الأربعين فعليها أن تغتسل وتصلي لكن ينبغي لزوجها أن لا يقربها إلى تمام الأربعين
وأما قراءتها القرآن فإن لم تخف النسيان فلا تقرؤه وأما إذا خافت النسيان فإنها تقرؤه في أحد قولي العلماء وإذا انقطع الدم واغتسلت قرأت القرآن وصلت بالاتفاق فإن تعذر اغتسالها لعدم الماء أو لخوف ضرر لمرض ونحوه فإنها تتيمم وتفعل بالتيمم ما تفعل بالاغتسال والله أعلم
____________________
(21/636)
( بسم الله الرحمن الرحيم (
( سئل رحمه الله (
هل كانت الصلاة على من قبلنا
من الأمم مثل ما هي علينا من الوجوب والأوقات والأفعال والهيئات أم لا ( فأجاب (
رضى الله عنه
كانت لهم صلاة فى هذه الأوقات لكن ليست مماثلة لصلاتنا فى الأوقات والهيئات وغيرهما والله أعلم
( وسئل (
عن رجل يفسق ويشرب الخمر ويصلى الصلوات الخمس وقد قال ( كل صلاة لم تنه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد صاحبها من الله الا بعدا (
فأجاب
هذا الحديث ليس بثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم لكن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله فى كتابه وبكل
____________________
(22/5)
حال فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدا بل الذى يصلى خير من الذى لا يصلى وأقرب إلى الله منه وإن كان فاسقا
لكن قال بن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( ان العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها الا نصفها الا ثلثها إلا ربعها حتى قال إلا عشرها ( فإن الصلاة إذا أتى بها كما أمر نهته عن الفحشاء والمنكر وإذا لم تنهه دل على تضييعه لحقوقها وإن كان مطيعا وقد قال تعالى ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة الآية ( وإضاعتها التفريط فى واجباتها وإن كان يصليها والله أعلم ( وسئل (
عن قوله تعالى ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( والرجل إذا شرب الخمر وصلى وهو سكران هل تجوز صلاته أم لا ( فأجاب (
صلاة السكران الذى لا يعلم ما يقول لا تجوز بإتفاق بل ولا يجوز أن يمكن من دخول المسجد لهذه الآية وغيرها فإن النهى عن قربان الصلاة وقربان مواضع الصلاة والله أعلم
____________________
(22/6)
( وقال شيخ الإسلام رحمه الله (
( فصل (
فى ( قاعدة ( ما ترك من واجب وفعل من محرم قبل الإسلام والتوبة قاعدة ما تركه الكافر الأصلى من واجب كالصلاة والزكاة والصيام فإنه لا يجب عليه قضاؤه بعد الإسلام بالإجماع لأنه لم يعتقد وجوبه سواء كانت الرسالة قد بلغته أو لم تكن بلغته وسواء كان كفره جحودا أو عنادا أو جهلا
ولا فرق فى هذا بين الذمى والحربى بخلاف ما على الذمى من الحقوق التى أوجبت الذمة أداءها كقضاء الدين ورد الأمانات والغصوب فإن هذه لا تسقط بالإسلام لا لالتزامه وجوبها قبل الإسلام
وأما الحربى المحض فلم يلتزم وجوب شيء للمسلمين لا من العبادات ولا من الحقوق فليس عليه قضاء شيء لا من حقوق الله ولا من حقوق المسلمين وإن كان يعاقب على تركها لو لم يسلم فإن الإسلام يهدم ما كان قبله
____________________
(22/7)
وكذلك ما فعله الكافر من المحرمات فى دين الإسلام التى يستحلها فى دينه كالعقود والقبوض الفاسدة كعقد الربا والميسر وبيع الخمر والخنزير والنكاح بلا ولى ولا شهود وقبض مال المسلمين بالقهر والاستيلاء ونحو ذلك فإن ذلك المحرم يسقط حكمه بالإسلام ويبقى فى حقه بمنزلة مالم يحرم فإن الإسلام يغفر له به تحريم ذلك العقد والقبض فيصير الفعل فى حقه عفوا بمنزلة من عقد عقدا أو قبض قبضا غير محرم فيجرى فى حقه مجرى الصحيح فى حق المسلمين ولهذا ما تقابضوا فيه من العقود الفاسدة أقروا على ملكه إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا
وكذلك عقود النكاح التى إنقضى سبب فسادها قبل الحكم والإسلام بخلاف مالم يتقابضوه فإنه لا يجوز لهم بعد الإسلام أن يقبضوا قبضا محرما كما لا يعقدون عقدا محرما وهذا مقرر فى موضعه لقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين ) فأمرهم بترك ما بقى فى الذمم من الربا ولم يأمرهم برد المقبوض
وقال النبى ( من أسلم على شيء فهو له ( وقال ( وأيما قسم قسم فى الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام ( وأقر أهل الجاهلية على مناكحهم التى كانت فى الجاهلية مع أن كثيرا منها كان غير مباح فى الإسلام
____________________
(22/8)
وهذا كالمتفق عليه بين الأئمة المشهورين لكن ثم خلاف شاذ فى بعض صوره
وأما ما إستولى عليه أهل الحرب من أموال المسلمين ثم اسلموا فإنه لهم بسنة رسول الله وإتفاق السلف وجماهير الأئمة وهو منصوص أحمد وظاهر مذهبه
وأما التحاكم إلينا فى مثل هذه الصورة فانها تكون إذا كانوا ذوى عهد بأمان أو ذمة أو صلح فنقرهم عليه فى هذه الصورة أيضا فهذا فى الحقوق التى وجبت له بإعتقاده فى كفره وإن كان سببها محرما فى دين الإسلام
وأما العقوبات فإنه لا يعاقب على ما فعله قبل الإسلام من محرم سواء كان يعتقد تحريمه أو لم يعتقده فلا يعاقب على قتل نفس ولا ربا ولا سرقة ولا غير ذلك سواء فعل ذلك بالمسلمين أو بأهل دينه فإنه إن كان بالمسلمين فهو يعتقد إباحة ذلك منهم وأما أهل دينه فهم مباحون فى دين الإسلام وإن إعتقد هو الحظر ولهذا نقول إنما سباه وغنمه الكفار بعضهم من نفوس بعض وأموالهم فإنهم لا يعاقبون عليها بعد الإسلام وإن إعتقدوا التحريم فمتى كان مباحا فى دينه أو فى دين الإسلام زالت العقوبة
____________________
(22/9)
لكن إن كان محرما فى الدينين مثل أن يكون بينه وبين قوم عهد فإن كان عهده مع المسلمين فهذا هو المستأمن والذمى والمصالح فهؤلاء يضمنون ما اتلفوه للمسلمين من النفوس والأموال ويعاقبون على ما تعدوا به على المسلمين ويعاقبون على الزنى وفى شرب الخمر خلاف معروف واما إن كان عهدهم مع غير المسلمين مثل قضية المغيرة بن شعبة
فصل
فأما المرتد فلا يجب عليه قضاء ما تركه فى الردة من صلاة وزكاة وصيام فى المشهور ولزمه ما تركه قبل الردة فى المشهور وقيل يجب عليه القضاء وقيل لا يجب فى الصورتين ويحكى ثلاث روايات عن أحمد وأما ما فعله من المحرمات فإن كان فى قبضة المسلمين ضمن ما اتلفه من نفس ومال وإن كان فى طائفة ممتنعة ففيه روايات فصل
وأما المسلم إذا ترك الواجب قبل بلوغ الحجة أو متأولا مثل من ترك الوضوء من لحوم الإبل او مس الذكر أو صلى فى أعطان
____________________
(22/10)
الإبل او ترك الصلاة جهلا بوجوبها عليه بعد إسلامه ونحو ذلك فهل يجب عليه قضاء هذه الواجبات على قولين فى المذهب تارة تكون رواية منصوصة وتارة تكون وجها
واصلها أن حكم الخطاب بفروع الشريعة هل يثبت حكمه فى حق المسلم قبل بلوغه على وجهين ذكرهما القاضي أبويعلى فى مصنف مفرد وفيها وجه ثالث إختاره طائفة من الأصحاب وهو الفرق بين الخطاب الناسخ والخطاب المبتدأ فلا يثبت النسخ إلا بعد بلوغ الناسخ بخلاف الخطاب المبتدأ وقد قرروه بالدلائل الكثيرة أنه لا يجب القضاء فى هذه الصور كلها وانه لا يثبت حكم الخطاب إلا بعد البلاغ جملة وتفصيلا
ولهذا لم يامر النبى بالقضاء لأبي ذر لما مكث مدة لا يصلى مع الجنابة بالتيمم ولا أمر عمر بن الخطاب فى قضية عمار بن ياسر ولا أمر بإعادة الصوم من أكل حتى يتبين له العقال الأبيض من الأسود ونظائره متعددة فى الشريعة
بل إذا عفى للكافر بعد الإسلام عما تركه من الواجبات لعدم الإعتقاد وإن كان الله قد فرضها عليه وهو معذب على تركها فلأن يعفو للمسلم عما تركه من الواجبات لعدم إعتقاد الوجوب وهو غير معذبه
____________________
(22/11)
على الترك لإجتهاده أو تقليده او جهله الذى يعذر به أولى واحرى وكما أن الإسلام يجب ما كان قبله فالتوبة تجب ما كان قبلها لا سيما توبة المعذور الذى بلغه النص او فهمه بعد أن لم يكن تمكن من سمعه وفهمه وهذا ظاهر جدا إلى الغاية
وكذلك ما فعله من العقود والقبوض التى لم يبلغه تحريمها لجهل يعذر به أو تأويل فعلى إحدى القولين حكمه فيها هذا الحكم وأولى فإذا عامل معاملة يعتقد جوازها بتأويل من ربا أو ميسر أو ثمن خمر أو نكاح فاسد أو غير ذلك ثم تبين له الحق وتاب أو تحاكم إلينا او إستفتانا فإنه يقر على ما قبضه بهذه العقود ويقر على النكاح الذى مضى مفسده مثل أن يكون قد تزوج بلا ولي أو بلا شهود معتقدا جواز ذلك او نكح الخامسة فى عدة الرابعة أو نكاح تحليل مختلف فيه أو غير ذلك فإنه وإن تبين له فيما بعد فساد النكاح فإنه يقر عليه أما إذا كان نكح بإجتهاد وتبين له الفساد بإجتهاد فهذا مبنى على أن الإجتهاد لا ينقض بالإجتهاد لا فى الحكم ولا فى الفتيا أيضا فهذا مأخذ آخر
وإنما الغرض هنا أنه لو تيقن التحريم بالنص القاطع كتيقن
____________________
(22/12)
من كان كافرا صحة الإسلام فإنا نقره على ما مضى من عقد النكاح ومن المقبوض فى العقد الفاسد إذا لم يكن المفسد قائما كما يقر الكفار بعد الإسلام على مناكحتهم التى كانت محرمة فى الإسلام وأولى
فإن فعل الواجبات وترك المحرمات باب واحد كما تقدم فى الكافر وهذا بين فإن العفو والإقرار للمسلم المتأول بعد الرجوع عن تأويله أولى من العفو والإقرار عن الكافر المتأول لكن فى هذا خلاف فى المذهب وغيره
وشبهة المخالف نظره إلى أن هذا منهى عنه والنهي يقتضي الفساد وجعل المسلمين جنسا واحدا ولم يفرق بين المتأول وغيره ونظيرهذه المسألة ما أتلفه أهل البغى المتأولون على أهل العدل من النفوس والأموال هل يضمنون على روايتين
إحداهما يضمنونه جعلا لهم كالمحاربين وكقتال العصبية الذى لا تأويل فيه وهذا نظير من يجعل العقود والقبوض المتأول فيها بمنزلة مالا تأويل فيه
والثانية لا يضمنونه وعلى هذا إتفق السلف كما قال الزهري وقعت الفتنة واصحاب رسول الله متوافرون فأجمعوا
____________________
(22/13)
أن كل دم أو مال أوفرج أصيب بتأويل القرآن فلا ضمان فيه وفى لفظ الحقوهم فى ذلك بأهل الجاهلية
ولهذا لم يضمن النبى أسامة دم الذى قتله بعد ما قال لا إله إلا الله لأنه قتله متأولا أى أنهم وإن إستحلوا المحرم لكن لما كانوا جاهلين متأولين كانوا بمنزلة أهل الجاهلية فى عدم الضمان وإن فارقوهم فى عفو الله ورحمته لأن هذه الأمة عفى لها عن الخطأ والنسيان بخلاف الكافر فإنه لا يغفر له الكفر الذى اخطأ فيه فصل
وهذا الذى ذكرته فيما تركه المسلم من واجب أو فعله من محرم بتأويل إجتهاد أو تقليد واضح عندى وحاله فيه أحسن من حال الكافر المتأول
وهذا لا يمنع ان أقاتل الباغى المتأول وأجلد الشارب المتأول ونحو ذلك فإن التأويل لا يرفع عقوبة الدنيا مطلقا إذ الغرض بالعقوبة دفع فساد الإعتداء كما لا يرفع عقوبة الكافر وإنما الكلام فى قضاء ما تركه من واجب وفى العقود والقبوض التى فعلها بتأويل
____________________
(22/14)
وفى ضمان النفوس والأموال التى إستحلها بتأويل كما إستحل أسامة قتل الذى قتله بعد ما قال لا إله إلا الله وكذلك لا يعاقب على ما مضى إذا لم يكن فيه زجر عن المستقبل
وأما العقوبة للدفع عن المستقبل كقتال الباغي وجلد الشارب فهذه مقصودها أداء الواجب فى المستقبل ودفع المحرم فى المستقبل وهذا لا كلام فيه فإنه يشرع فى مثل هذا عقوبة المتأول فى بعض المواضع
وإنما الغرض بما يتعلق بالماضى من قضاء واجبه وترك الحقوق التى حصلت فيه والعقوبة على ما فعله فهذه الأمور المتعلقه به من الحدود والحقوق والعبادات هي التى يجب ان يكون المسلم المتأول أحسن حالا فيها من الكافر المتأول وأولى
فالتوبة تجب ما قبلها والمسلم المتأول معذور ومعه الإسلام الذى تغفر معه الخطايا والتوبة التى تجب ما كان قبلها وفى إيجاب القضاء وإسقاط الحقوق وإقامة العقوبات تنفير عن التوبة والرجوع إلى الحق أكثر من التنفير بذلك للكافر فإن أعلام الإسلام ودلالته أعظم من أعلام هذه الفروع وأدلتها والداعى إلى الإسلام من سلطان الحجة والقدرة قد يكون أعظم من الداعى إلى هذه الفروع
____________________
(22/15)
وهذا لا شبهة فيه عندي وإن كان فيه نزاع فإني أعلم أنه لولا مضي السنة بمثل ذلك فى حق الكفار لكان مقتضى هذا القياس عند اصحابه طرده فى حق الكافر أيضا وقد راعى أصحاب أبى حنيفة ذلك فى النكاح فلم يمنعوا منه إلا ماله مساغ فى الإسلام والنزاع لا يهتك حرمة العلم والفقه بعد ظهور حجته فصل
ولكن النظر فى فصلين
احدهما من ترك الواجب او فعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه ولكن جهلا واعراضا عن طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه أو أنه سمع ايجاب هذا وتحريم هذا ولم يلتزمه اعراضا لا كفرا بالرسالة فهذان نوعان يقعان كثيرا من ترك طلب العلم الواجب عليه حتى ترك الواجب وفعل المحرم غير عالم بوجوبه وتحريمه او بلغه الخطاب فى ذلك ولم يلتزم اتباعه تعصبا لمذهبه او اتباعا لهواه فان هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعى كما ترك الكافر الاسلام
فان الاعتقاد هو الاقرار بالتصديق والالتزام فقد يترك التصديق
____________________
(22/16)
والالتزام جميعا لعدم النظر الموجب للتصديق وقد يكون مصدقا بقلبه لكنه غير مقر ولا ملتزم اتباعا لهواه فهل يكون حال هذا اذا تاب واقر بالوجوب والتحريم تصديقا والتزاما بمنزلة الكافر اذا اسلم لأن التوبة تجب ما قبلها كما ان الاسلام يجب ما قبله فهذه الصورة ابعد من التى قبلها فان من اوجب القضاء على التارك المتأول وفسخ العقد والقبض على المتأول المعذور فعلى هذا المذنب بترك الاعتقاد الواجب أولى
واما على القول الذى قررناه وجزمنا بصحته فهذا فيه نظر قد يقال هذا عاص ظالم بترك التعلم والالتزام فلا يلزم من العفو عن المخطئين فى تاويله العفو عن هذا
وقد يقال وهو أظهر فى الدليل والقياس ليس هذا باسوأ حال من الكافر المعاند الذى ترك استماع القرآن كبرا وحسدا وهوى او سمعه وتدبره واستيقنت نفسه انه حق من عند الله ولكن جحد ذلك ظلما وعلوا كحال فرعون واكثر اهل الكتاب والمشركين الذين لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون
والتوبة كالاسلام فان الذى قال ( الاسلام يهدم ما كان قبله ( هو الذي قال التوبة تهدم ما كان قبلها وذلك في حديث واحد
____________________
(22/17)
من رواية عمرو بن العاص رواه أحمد ومسلم
فاذا كان العفو عن الكافر لاجل ما وجد من الاسلام الماحى والحسنات يذهبن السيئات ولان فى عدم العفو تنفير عن الدخول لما يلزم الداخل فيه من الاصار والاغلال الموضوعة على لسان هذا النبى ( ) فهذا المعنى موجود في التوبة عن الجهل والظلم فان الاعتراف بالحق والرجوع إليه حسنة يمحو الله بها السيئات وفى عدم العفو تنفير عظيم عن التوبة واصار ثقيلة واغلال عظيمة على التائبين
وقد ثبت فى صحيح مسلم عن ابى ذر عن النبى ( ان الله يبدل لعبده التائب بدل كل سيئة حسنة ( على ظاهر قوله ( يبدل الله سيئاتهم حسنات ) فاذا كانت تلك التى تاب منها صارت حسنات لم يبق فى حقه بعد التوبة سيئة اصلا فيصير ذلك القبض والعقد من باب المعفو عنه ويصير ذلك الترك من باب المعفو عنه فلا يجعل تاركا لواجب ولا فاعلا لمحرم وبهذا يحصل الجمع بين الادلة الشرعية فان النبى قال ( من نام عن صلاة او نسيها فليصلها اذا ذكرها )
واختلف الناس فيمن ترك الصلاة والصوم عامدا هل يقضيه
____________________
(22/18)
فقال الأكثرون يقضيه وقال بعضهم لا يقضيه ولا يصح فعله بعد وقته كالحج وقد ثبت عن النبى انه قال عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها ( فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة (
ودل الكتاب والسنة وإتفاق السلف على الفرق بين من يضيع الصلاة فيصليها بعد الوقت والفرق بين من يتركها ولو كانت بعد الوقت لا تصح بحال لكان الجميع سواء لكن المضيع لوقتها كان ملتزما لوجوبها وإنما ضيع بعض حقوقها وهو الوقت وأتى بالفعل فأما من لم يعلم وجوبها عليه جهلا وضلالا أو علم الإيجاب ولم يلتزمه فهذا إن كان كافرا فهو مرتد وفى وجوب القضاء عليه الخلاف المتقدم لكن هذا شبيه بكفر النفاق
فالكلام فى هذا متصل بالكلام فيمن أقام الصلاة وآتى الزكاة نفاقا أو رياء فإن هذا يجزئه فى الظاهر ولا يقبل منه فى الباطن قال الله تعالى { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } وقال { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }
____________________
(22/19)
وقال تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون } وقال تعالى { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }
وقد إختلف أصحابنا فى الإمام إذا أخذ الزكاة قهرا هل تجزئه فى الباطن على وجهين مع أنها لا تستعاد منه
أحدهما لا تجزيه لعدم النية مع القدرة عليها
والثانى أن نية الإمام تقوم مقام نية الممتنع لأن الإمام نائب المسلمين فى اداء الحقوق الواجبة عليهم والأول أصح فإن النبى كان يأخذها منهم بإعطائهم إياها وقد صرح القرآن بنفى قبولها لأنهم ينفقون وهم كارهون فعلم أنه ان أنفق مع كراهة الإنفاق لم تقبل منه كمن صلى رياء
لكن لو تاب المنافق والمرائى فهل تجب عليه فى الباطن الإعادة أو تنعطف توبته على ما عمله قبل ذلك فيثاب عليه أو لا يعيد ولا يثاب
أما الإعادة فلا تجب على المنافق قطعا لأنه قد تاب من المنافقين جماعة عن النفاق على عهد رسول الله ولم يأمر أحدا منهم بالإعادة وقد قال تعالى { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة }
____________________
(22/20)
وايضا فالمنافق كافر فى الباطن فإذا آمن فقد غفر له ما قد سلف فلا يجب عليه القضاء كما لا يجب على الكافر المعلن إذا أسلم
وأما ثوابه على ما تقدم مع التوبة فيشبه الكافر إذا عمل صالحا فى كفره ثم أسلم هل يثاب عليه ففى الصحيحين أن النبى قال ( لحكيم بن حزام ( أسلمت على ما سلف لك من خير (
وأما المرائي إذا تاب من الرياء مع كونه كان يعتقد الوجوب فهو شبيه بالمسألة التى نتكلم فيها وهى مسألة من لم يلتزم أداء الواجب وإن لم يكن كافرا فى الباطن ففى إيجاب القضاء عليه تنفير عظيم عن التوبة
فإن الرجل قد يعيش مدة طويلة لا يصلي ولا يزكي وقد لا يصوم أيضا ولا يبالي من أين كسب المال أمن حلال أم من حرام ولا يضبط حدود النكاح والطلاق وغير ذلك فهو فى جاهلية إلا أنه منتسب إلى الإسلام فإذا هداه الله وتاب عليه فإن أوجب عليه قضاء جميع ما تركه من الواجبات وأمر برد جميع ما
____________________
(22/21)
إكتسبه من الأموال والخروج عما يحبه من الإبضاع إلى غير ذلك صارت التوبة فى حقه عذابا وكان الكفر حينئذ أحب إليه من ذلك الإسلام الذى كان عليه فإن توبته من الكفر رحمة وتوبته وهو مسلم عذاب
وأعرف طائفة من الصالحين من يتمنى أن يكون كافرا ليسلم فيغفر له ما قد سلف لأن التوبة عنده متعذرة عليه أو متعسرة على ما قد قيل له وإعتقده من التوبة ثم هذا منفر لأكثر أهل الفسوق عن التوبة وهو شبيه بالمؤيس للناس من رحمة الله
ووضع الآصار ثقيلة والأغلال عظيمة على التائبين الذين هم أحباب الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين والله أفرح بتوبة عبده من الواجد لماله الذى به قوامه بعد اليأس منه
فينبغى لهذا المقام أن يحرر فإن كفر الكافر لم يسقط عنه ما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات لكون الكافر كان معذورا بمنزلة المجتهد فإنه لا يعذر بلا خلاف وإنما غفر له لأن الإسلام توبة والتوبة تجب ما قبلها والتوبة توبة من ترك تصديق وإقرار وترك عمل وفعل فيشبه والله أعلم أن يجعل حال هؤلاء فى جاهليتهم كحال غيرهم
____________________
(22/22)
فصل
فالأحوال المانعة من وجوب القضاء للواجب والترك للمحرم الكفر الظاهر والكفر الباطن والكفر الأصلى وكفر الردة والجهل الذى يعذر به لعدم بلوغ الخطاب أو لمعارضة تأويل بإجتهاد أو تقليد
وسئل
عن قوم منتسبين إلى المشائخ يتوبونهم عن قطع الطريق وقتل النفس والسرقة وألزموهم بالصلاة لكونهم يصلون صلاة عادة البادية فهل تجب إقامة حدود الصلاة أم لا
فأجاب أما الصلاة فقد قال الله تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون } وقال تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا }
____________________
(22/23)
فقد ذم الله تعالى للفى كتابه الذين يصلون إذا سهوا عن الصلاة
وذلك على وجهين
أحدهما أن يؤخرها عن وقتها
الثانى أن لا يكمل واجباتها من الطهارة والطمأنينة والخشوع وغير ذلك كما ثبت فى الصحيح أن النبى قال ( تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق ثلاث مرار يترقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا (
فجعل النبى صلاة المنافقين التأخير وقلة ذكر إسم الله سبحانه وقد قال تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } وقال { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما }
وأما قوله سبحانه وتعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا }
____________________
(22/24)
فقد قال بعض السلف إضاعتها تأخيرها عن وقتها وإضاعة حقوقها قالوا وكانوا يصلون ولو تركوها لكانوا كفارا فإنه قد صح عن النبى أنه قال ( ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة ( وقال ( العهد الذى بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ( وفى الحديث ( أن العبد إذا كمل الصلاة صعدت ولها برهان كبرهان الشمس وتقول حفظك الله كما حفظتنى وإن لم يكملها فإنها تلف كما يلف الثوب ويضرب بها وجه صاحبها وتقول ضيعك الله كما ضيعتنى (
وفى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها حتى قال إلا عشرها ( وقال بن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها
وقوله ( وإتبعوا الشهوات ) الذى يشتغل به عن إقامة الصلاة كما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بنوع من أنواع الشهوات كالرقص والغناء وأمثال ذلك
وفى الصحيحين ( أن رجلا دخل المسجد فصلى ركعتين ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فقال وعليك السلام
____________________
(22/25)
ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى ثم اتاه فسلم عليه فقال وعليك السلام إرجع فصل فإنك لم تصل مرتين أو ثلاثا فقال والذى بعثك بالحق ما أحسن غيرها فعلمنى ما يجزئنى فى الصلاة فقال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم إقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم إركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك فى صلاتك كلها (
وفى السنن عنه أنه قال ( لا تقبل صلاة من لم يقم صلبه فى الركوع والسجود ( ( ونهى عن نقر كنقر الغراب ( ورأى حذيفة رجلا يصلي لا يتم الركوع والسجود فقال لو مت مت على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمدا أو قال لو مات هذا رواه إبن خزيمة فى صحيحه
وسئل
عمن قال إن الصبيان مأمورون بالصلاة قبل البلوغ وقال آخر لا نسلم فقال له ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر ( فقال هذا ما هو أمر من الله ولم يفهم منه تنقيص فهل يجب فى ذلك شيء أفتونا مأجورين
____________________
(22/26)
فأجاب إن كان المتكلم أراد أن الله أمرهم بالصلاة بمعنى أنه أوجبها عليهم فالصواب مع الثانى وأما إن أراد أنهم مأمورون أي أن الرجال يأمرونهم بها لأمر الله إياهم بالأمر أو أنها مستحبة فى حق الصبيان فالصواب مع المتكلم
وقول القائل ما هو أمر من الله إذا أراد به أنه ليس أمرا من الله للصبيان بل هو أمر لمن يأمر الصبيان فقد أصاب وإن أراد أن هذا ليس أمرا من الله لأحد فهذا خطأ يجب عليه أن يرجع عنه ويستغفر الله والله أعلم
وسئل
عن أقوام يؤخرون صلاة الليل إلى النهار لأشغال لهم من زرع أو حرث أو جنابة أو خدمة استاذ أو غير ذلك فهل يجوز لهم ذلك أم لا
فأجاب لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل ولا يؤخر صلاة الليل إلى النهار لشغل من الأشغال لا لحصد ولا لحرث ولا لصناعة ولا لجنابة ولا نجاسة ولا صيد ولا لهو ولا لعب ولا لخدمة أستاذ ولا غير ذلك بل المسلمون كلهم متفقون على أن عليه أن
____________________
(22/27)
يصلي الظهر والعصر بالنهار ويصلى الفجر قبل طلوع الشمس ولا يترك ذلك لصناعة من الصناعات ولا للهو ولا لغير ذلك من الأشغال وليس للمالك أن يمنع مملوكه ولا للمستأجر أن يمنع الأجير من الصلاة فى وقتها
ومن أخرها لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس وجبت عقوبته بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب فإن تاب والتزم أن يصلي في الوقت ألزم بذلك وان قال لا أصلي إلا بعد غروب الشمس لاشتغاله بالصناعة والصيد أو غير ذلك فانه يقتل
وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ( وفي الصحيحين عنه أنه قال ( من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله ( وفى وصية أبى بكر الصديق لعمر بن الخطاب أنه قال إن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وحقا بالنهار لا يقبله بالليل
والنبى كان أخر صلاة العصر يوم الخندق لاشتغاله بجهاد الكفار ثم صلاها بعد المغرب فأنزل الله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
____________________
(22/28)
وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم ان الصلاة الوسطى صلاة العصر فلهذا قال جمهور العلماء إن ذلك التأخير منسوخ بهذه الآية فلم يجوزوا تأخير الصلاة حال القتال بل أوجبوا عليه الصلاة فى الوقت حال القتال وهذا مذهب مالك والشافعى واحمد فى المشهور عنه
وعن أحمد رواية أخرى أنه يخير حال القتال بين الصلاة وبين التأخير ومذهب أبى حنيفة يشتغل بالقتال ويصلى بعد الوقت وأما تأخير الصلاة لغير الجهاد كصناعة أو زراعة أو صيد أو عمل من الأعمال ونحو ذلك فلا يجوزه أحد من العلماء بل قد قال تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } قال طائفة من السلف هم الذين يؤخرونها عن وقتها وقال بعضهم هم الذين لا يؤدونها على الوجه المأمور به وإن صلاها فى الوقت فتأخيرها عن الوقت حرام باتفاق العلماء فان العلماء متفقون على أن تأخير صلاة الليل إلى النهار وتأخير صلاة النهار إلى الليل بمنزلة تأخير صيام شهر رمضان إلى شوال
فمن قال أصلي الظهر والعصر بالليل فهو باتفاق العلماء بمنزلة من قال أفطر شهر رمضان وأصوم شوال
وإنما يعذر بالتأخير النائم والناسى كما قال النبى ( من نام عن صلاة
____________________
(22/29)
أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها الا ذلك (
فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لجنابة ولا حدث ولا نجاسة ولا غير ذلك بل يصلى فى الوقت بحسب حاله فان كان محدثا وقد عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله تيمم وصلى وكذلك الجنب يتيمم ويصلى إذا عدم الماء أو خاف الضرر بإستعماله لمرض أو لبرد
وكذلك العريان يصلى فى الوقت عريانا ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت فى ثيابه وكذلك إذا كان 0 عليه نجاسة لا يقدر أن يزيلها فيصلى فى الوقت بحسب حاله وهكذا المريض يصلي على حسب حاله فى الوقت كما قال النبى لعمران بن حصين ( صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ( فالمريض باتفاق العلماء يصلى فى الوقت قاعدا أو على جنب اذا كان القيام يزيد فى مرضه ولا يصلى بعد خروج الوقت قائما
وهذا كله لأن فعل الصلاة فى وقتها فرض والوقت اوكد فرائض الصلاة كما أن صيام شهر رمضان واجب فى وقته ليس لأحد أن يؤخره عن وقته ولكن يجوز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة باتفاق المسلمين
وكذلك يجوز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء وبين الظهر والعصر
____________________
(22/30)
عند كثير من العلماء للسفر والمرض ونحو ذلك من الأعذار
وأما تأخير صلاة النهار إلى الليل وتأخير صلاة الليل إلى النهار فلا يجوز لمرض ولا لسفر ولا لشغل من الأشغال ولا لصناعة باتفاق العلماء بل قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجمع بين صلاتين من غير عذر من الكبائر لكن المسافر يصلى ركعتين ليس عليه أن يصلى أربعا بل الركعتان تجزئ المسافر فى سفر القصر باتفاق العلماء
ومن قال أنه يجب على كل مسافر أن يصلي أربعا فهو بمنزلة من قال إنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان وكلاهما ضلال مخالف لاجماع المسلمين يستتاب قائله فان تاب وإلا قتل والمسلمون متفقون على أن المسافر إذا صلى الرباعية ركعتين والفجر ركعتين والمغرب ثلاثا وأفطر شهر رمضان وقضاه أجزأه ذلك
وأما من صام فى السفر شهر رمضان أو صلى أربعا ففيه نزاع مشهور بين العلماء منهم من قال لا يجزئه ذلك فالمريض له أن يؤخر الصوم بإتفاق المسلمين وليس له أن يؤخر الصلاة بإتفاق المسلمين والمسافر له أن يؤخر الصيام بإتفاق المسلمين وليس له أن يؤخر الصلاة بإتفاق المسلمين
____________________
(22/31)
وهذا مما يبين أن المحافظة على الصلاة فى وقتها أوكد من الصوم فى وقته قال تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات } قال طائفة من السلف إضاعتها تأخيرها عن وقتها ولو تركوها لكانوا كفارا
وقال النبى ( سيكون بعدى أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة ( رواه مسلم عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بك إذا كان عليكم امراء يؤخرون الصلاة عن وقتها وينسؤن الصلاة عن وقتها قلت فماذا تأمرنى قال صل الصلاة لوقتها فان أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة ( وعن عبادة بن الصامت عن النبى قال ( سيكون عليكم أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ( وقال رجل أصلي معهم قال ( نعم ان شئت واجعلوها تطوعا ( رواه أحمد وأبو داود ورواه عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كيف بكم اذا كان عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها ( قلت فما تأمرنى ان ادركنى ذلك يا رسول الله قال صل الصلاة لوقتها واجعل صلاتك معهم نافلة (
ولهذا اتفق العلماء على أن الرجل اذا كان عريانا مثل أن تنكسر
____________________
(22/32)
بهم السفينة أو تسلبه القطاع ثيابه فانه يصلي فى الوقت عريانا والمسافر إذا عدم الماء يصلي بالتيمم فى الوقت باتفاق العلماء وان كان يجد الماء بعد الوقت وكذلك الجنب المسافر إذا عدم الماء تيمم وصلى ولا إعادة عليه بإتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم وكذلك إذا كان البرد شديدا فخاف ان اغتسل أن يمرض فإنه يتيمم ويصلي في الوقت ولا يؤخر الصلاة حتى يصلى بعد الوقت باغتسال وقد قال النبى ( الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين ( فإذا وجدت الماء فامسسه بشرتك فان ذلك خير (
وكل ما يباح بالماء يباح بالتيمم فاذا تيمم لصلاة فريضة قرأ القرآن داخل الصلاة وخارجها وإن كان جنبا ومن امتنع عن الصلاة بالتيمم فإنه من جنس اليهود والنصارى فان التيمم لأمة محمد خاصة كما قال النبى فى الحديث الصحيح ( فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لي الأرض مسجدا وجعلت تربتها طهورا وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى ( وفى لفظ ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره (
وقد تنازع العلماء هل يتيمم قبل الوقت وهل يتيمم لكل صلاة أو يبطل بخروج الوقت أو يصلى ما شاء كما يصلى بالماء
____________________
(22/33)
ولا ينقضه الا ما ينقض الوضوء أو القدرة على إستعمال الماء وهذا مذهب أبى حنيفة وأحد الأقوال فى مذهب أحمد وغيره فان النبى قال ( الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين فاذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير ( قال الترمذى حديث حسن صحيح
وإذا كان عليه نجاسة وليس عنده ما يزيلها به صلى فى الوقت وعليه النجاسة كما صلى عمر بن الخطاب وجرحه يثعب دما ولم يؤخر الصلاة حتى خرج الوقت
ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا فقيل يصلى عريانا وقيل يصلى فيه ويعيد وقيل يصلى فيه ولايعيد وهذا أصح أقوال العلماء فإن الله لم يأمر العبد أن يصلي الفرض مرتين الا اذا لم يفعل الواجب الذى يقدر عليه فى المرة الأولى مثل أن يصلى بلا طمأنينة فعليه أن يعيد الصلاة كما أمر النبى من صلى ولم يطمئن أن يعيد الصلاة وقال ( ارجع فصل فانك لم تصل (
وكذلك من نسي الطهارة وصلى بلا وضوء فعليه أن يعيد كما أمر النبى من توضأ وترك لمعة فى قدمه لم يمسها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة
____________________
(22/34)
فأما من فعل ما أمر به بحسب قدرته فقد قال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبى ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (
ومن كان مستيقظا فى الوقت والماء بعيد منه لايدركه الا بعد الوقت فانه يصلى فى الوقت بالتيمم باتفاق العلماء وكذلك إذا كان البرد شديدا ويضره الماء البارد ولا يمكنه الذهاب إلى الحمام أو تسخين الماء حتى يخرج الوقت فإنه يصلي فى الوقت بالتيمم والمرأة والرجل فى ذلك سواء فإذا كانا جنبين ولم يمكنهما الإغتسال حتى يخرج الوقت فإنهما يصليان فى الوقت بالتيمم
والمرأة الحائض إذا إنقطع دمها فى الوقت ولم يمكنها الإغتسال إلا بعد خروج وقت تيممت وصلت فى الوقت ومن ظن أن الصلاة بعد خروج الوقت بالماء خير من الصلاة فى الوقت بالتيمم فهو ضال جاهل
وإذا إستيقظ آخر وقت الفجر فإذا إغتسل طلعت الشمس فجمهور العلماء هنا يقولون يغتسل ويصلى بعد طلوع الشمس وهذا مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد وأحد القولين فى مذهب مالك وقال فى القول الآخر بل يتيمم أيضا هنا ويصلى قبل طلوع الشمس
____________________
(22/35)
كما تقدم فى تلك المسائل لأن الصلاة فى الوقت بالتيمم خير من الصلاة بعده بالغسل والصحيح قول الجمهور لأن الوقت فى حق النائم هو من حين يستيقظ كما قال النبي ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ( فالوقت فى حق النائم هو من حين يستيقظ وما قبل ذلك لم يكن وقتا فى حقه
وإذا كان كذلك فإذا إستيقظ قبل طلوع الشمس فلم يمكنه الإغتسال والصلاة إلا بعد طلوعها فقد صلى الصلاة فى وقتها ولم يفوتها بخلاف من إستيقظ فى أول الوقت فإن الوقت فى حقه قبل طلوع الشمس فليس له أن يفوت الصلاة وكذلك من نسي صلاة وذكرها فإنه حينئذ يغتسل ويصلى فى أي وقت كان وهذا هو الوقت فى حقه فإذا لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس كما إستيقظ أصحاب النبى لما ناموا عن الصلاة عام خيبر فإنه يصلي بالطهارة الكاملة وإن أخرها إلى حين الزوال فإذا قدر أنه كان جنبا فإنه يدخل الحمام ويغتسل وإن أخرها إلى قريب الزوال ولا يصلى هنا بالتيمم ويستحب له أن ينتقل عن المكان الذى نام فيه كما إنتقل النبى وأصحابه عن المكان الذى ناموا فيه وقال ( هذا مكان حضرنا فيه الشيطان ( وقد نص على ذلك أحمد وغيره وإن صلى فيه جازت صلاته
____________________
(22/36)
فإن قيل هذا يسمى قضاء أو أداء
قيل الفرق بين اللفظين هو فرق إصطلاحى لا أصل له فى كلام الله ورسوله فإن الله تعالى سمى فعل العبادة فى وقتها قضاء كما قال فى الجمعة { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } وقال تعالى { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله } مع أن هذين يفعلان فى الوقت و ( القضاء ( فى لغة العرب هو إكمال الشيء وإتمامه كما قال تعالى { فقضاهن سبع سماوات } أي أكملهن وأتمهن فمن فعل العبادة كاملة فقد قضاها وإن فعلها فى وقتها
وقد إتفق العلماء فيما أعلم على أنه لو إعتقد بقاء وقت الصلاة فنواها أداء ثم تبين أنه صلى بعد خروج الوقت صحت لأنه ولو إعتقد خروجه فنواها قضاء ثم تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته
وكل من فعل العبادة فى الوقت الذي أمر به أجزأته صلاته سواء نواها أداء أو قضاء والجمعة تصح سواء نواها أداء أو قضاء إذ أراد القضاء المذكور فى القرآن والنائم والناسي إذا صليا وقت الذكر والإنتباه فقد صليا فى الوقت الذي أمرا بالصلاة فيه وإن كانا قد صليا بعد خروج الوقت المشروع لغيرهما فمن سمى ذلك قضاء بإعتبار هذا المعنى وكان فى لغته أن القضاء فعل العبادة بعد خروج الوقت المقدر شرعا
____________________
(22/37)
للعموم فهذه التسمية لا تضر ولاتنفع
وبالجملة فليس لأحد قط شغل يسقط عنه فعل الصلاة فى وقتها بحيث يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار بل لابد من فعلها فى الوقت لكن يصلى بحسب حاله فما قدر عليه من فرائضها فعله وما عجز عنه سقط عنه ولكن يجوز الجمع للعذر بين صلاتى النهار وبين صلاتي الليل عند أكثر العلماء فيجوز الجمع للمسافر إذا جد به السير عند مالك والشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين عنه ولا يجوز فى الرواية الأخرى عنه وهو قول أبى حنيفة
وفعل الصلاة فى وقتها أولى من الجمع إذا لم يكن عليه حرج بخلاف القصر فإن صلاة ركعتين أفضل من صلاة أربع عند جماهير العلماء فلو صلى المسافر أربعا فهل تجزئه صلاته على قولين والنبى كان فى جميع أسفاره يصلى ركعتين ولم يصل فى السفر أربعا قط ولا أبو بكر ولا عمر
وسئل
عن العمل الذى لله بالنهار لا يقبله بالليل والعمل الذى بالليل لا يقبله بالنهار
____________________
(22/38)
فأجاب وأما عمل النهار الذي لا يقبله الله بالليل وعمل الليل الذي لا يقبله الله بالنهار فهما صلاة الظهر والعصر لا يحل للإنسان أن يؤخرهما إلى الليل بل قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ( وفى صحيح البخارى عنه أنه قال ( من فاتته صلاة العصر حبط عمله (
فاما من نام عن صلاة أو نسيها فقد قال ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها (
وأما من فوتها متعمدا فقد أتى كبيرة من أعظم الكبائر وعليه القضاء عند جمهور العلماء وعند بعضهم لا يصح فعلها قضاء أصلا ومع القضاء عليه لا تبرأ ذمته من جميع الواجب ولا يقبلها الله منه بحيث يرتفع عنه العقاب ويستوجب الثواب بل يخفف عنه العذاب بما فعله من القضاء ويبقى عليه إثم التفويت وهو من الذنوب التى تحتاج إلى مسقط آخر بمنزلة من عليه حقان فعل أحدهما وترك الآخر قال تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } وتأخيرها عن وقتها من السهو عنها بإتفاق العلماء
وقال تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } قال غير واحد من السلف إضاعتها تأخيرها
____________________
(22/39)
عن وقتها فقد أخبر الله سبحانه أن الويل لمن اضاعها وإن صلاها ومن كان له الويل لم يكن قد يقبل عمله وإن كان له ذنوب أخر فإذا لم يكن ممتثلا للأمر فى نفس العمل لم يتقبل ذلك العمل قال أبوبكر الصديق رضى الله عنه فى وصيته لعمر وأعلم أن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وحقا بالنهار لا يقبله بالليل وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن تارك الصلاة من غير عذر هل هو مسلم فى تلك الحال
فأجاب أما تارك الصلاة فهذا إن لم يكن معتقدا لوجوبها فهو كافر بالنص والإجماع لكن إذا اسلم ولم يعلم أن الله أوجب عليه الصلاة أو وجوب بعض أركانها مثل أن يصلي بلا وضوء فلا يعلم ان الله أوجب عليه الوضوء أو يصلي مع الجنابة فلا يعلم أن الله أوجب عليه غسل الجنابة فهذا ليس بكافر إذا لم يعلم
لكن إذا علم الوجوب هل يجب عليه القضاء فيه قولان للعلماء فى مذهب أحمد ومالك وغيرهما قيل يجب عليه القضاء وهو المشهور عن أصحاب الشافعى وكثير من اصحاب أحمد وقيل لا يجب عليه
____________________
(22/40)
القضاء وهذا هو الظاهر
وعن أحمد فى هذا الأصل روايتان منصوصتان فيمن صلى فى معاطن الإبل ولم يكن علم بالنهى ثم علم هل يعيد على روايتين ومن صلى ولم يتوضأ من لحوم الإبل ولم يكن علم بالنهي ثم علم هل يعيد على روايتين منصوصتين
وقيل عليه الإعادة إذا ترك الصلاة جاهلا بوجوبها فى دار الإسلام دون دار الحرب وهو المشهور من مذهب أبى حنيفة والصائم إذا فعل ما يفطر به جاهلا بتحريم ذلك فهل عليه الإعادة على قولين فى مذهب أحمد وكذلك من فعل محظورا [ فى ] الحج جاهلا
وأصل هذا أن حكم الخطاب هل يثبت فى حق المكلف قبل أن يبلغه فيه ثلاثة اقوال فى مذهب أحمد وغيره قيل يثبت وقيل لا يثبت وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ والأظهر أنه لا يجب قضاء شيء من ذلك ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلاغ لقوله تعالى { لأنذركم به ومن بلغ } وقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولقوله { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ومثل هذا فى القرآن متعدد بين سبحانه أنه لا يعاقب أحدا حتى يبلغه ما جاء به الرسول
ومن علم ان محمدا رسول الله فآمن بذلك ولم يعلم كثيرا مما
____________________
(22/41)
جاء به لم يعذبه الله على ما لم يبلغه فإنه إذا لم يعذ به على ترك الإيمان بعد البلوغ فإنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلاغ أولى وأحرى وهذه سنة رسول الله المستفيضة عنه فى أمثال ذلك
فإنه قد ثبت فى الصحاح أن طائفة من اصحابه ظنوا أن قوله تعالى { الخيط الأبيض من الخيط الأسود } هو الحبل الأبيض من الحبل الأسود فكان أحدهم يربط فى رجله حبلا ثم يأكل حتى يتبين هذا من هذا فبين النبى أن المراد بياض النهار وسواد الليل ولم يأمرهم بالإعادة وكذلك عمر بن الخطاب وعمار أجنبا فلم يصل عمر حتى أدرك الماء وظن عمار أن التراب يصل إلى حيث يصل الماء فتمرغ كما تمرغ الدابة ولم يأمر واحدا منهم بالقضاء وكذلك أبوذر بقى مدة جنبا لم يصل ولم يأمره بالقضاء بل أمره بالتيمم فى المستقبل
وكذلك المستحاضة قالت أنى استحاض حيضة شديدة تمنعنى الصلاة والصوم فأمرها بالصلاة زمن دم الإستحاضة ولم يأمرها بالقضاء
ولما حرم الكلام فى الصلاة تكلم معاوية بن الحكم السلمى فى
____________________
(22/42)
الصلاة بعد التحريم جاهلا بالتحريم فقال له ( أن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ( ولم يأمره بإعادة الصلاة
ولما زيد فى صلاة الحضر حين هاجر إلى المدينة كان من كان بعيدا عنه مثل من كان بمكة وبأرض الحبشة يصلون ركعتين ولم يأمرهم النبى بإعادة الصلاة ولما فرض شهر رمضان فى السنة الثانية من الهجرة ولم يبلغ الخبر إلى من كان بأرض الحبشة من المسلمين حتى فات ذلك الشهر لم يأمرهم بإعادة الصيام
وكان بعض الأنصار لما ذهبوا إلى النبى من المدينة إلى مكة قبل الهجرة قد صلى إلى الكعبة معتقدا جواز ذلك قبل أن يؤمر بإستقبال الكعبة وكانوا حينئذ يستقبلون الشام فلما ذكر ذلك للنبى أمره بإستقبال الشام ولم يأمره بإعادة ما كان صلى
وثبت عنه فى الصحيحين أنه سئل وهو بالجعرانة عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بالخلوق فلما نزل عليه الوحى قال له ( إنزع عنك جبتك وإغسل عنك أثر الخلوق وإصنع فى
____________________
(22/43)
عمرتك ما كنت صانعا فى حجك ( وهذا قد فعل محظورا فى الحج وهو لبس الجبة ولم يأمره النبى على ذلك بدم ولو فعل ذلك مع العلم للزمه دم
وثبت عنه فى الصحيحين انه قال للأعرابي المسىء فى صلاته ( صل فإنك لم تصل ( مرتين او ثلاثا فقال والذى بعثك بالحق ما احسن غير هذا فعلمنى ما يجزينى فى الصلاة فعلمه الصلاة المجزية ( ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك مع قوله ما احسن غير هذا وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة لأن وقتها باق فهو مخاطب بها والتى صلاها لم تبرأ بها الذمة ووقت الصلاة باق
ومعلوم أنه لو بلغ صبى أو أسلم كافر أو طهرت حائض او أفاق مجنون والوقت باق لزمتهم الصلاة أداء لا قضاء وإذا كان بعد خروج الوقت فلا إثم عليهم فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجوب الطمأنينة فى أثناء الوقت فوجبت عليه الطمأنينة حينئذ ولم تجب عليه قبل ذلك فلهذا أمره بالطمأنينة فى صلاة تلك الوقت دون ما قبلها
وكذلك أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد ولمن ترك لمعة من قدمه أن يعيد الوضوء والصلاة وقوله اولا ( صل فإنك لم تصل
____________________
(22/44)
تبين أن ما فعله لم يكن صلاة ولكن لم يعرف أنه كان جاهلا بوجوب الطمأنينة فلهذا أمره بالإعادة إبتداء ثم علمه إياها لما قال ( والذى بعثك بالحق لا أحسن غير هذا (
فهذه نصوصه فى محظورات الصلاة والصيام والحج مع الجهل فيمن ترك واجباتها مع الجهل واما أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد فذلك انه لم يأت بالواجب مع بقاء الوقت فثبت الوجوب فى حقه حين أمره النبى لبقاء وقت الوجوب لم يأمره بذلك مع مضي الوقت وأما أمره لمن ترك لمعة فى رجله لم يصبها الماء بالإعادة فلأنه كان ناسيا فلم يفعل الواجب كمن نسي الصلاة وكان الوقت باقيا فإنها قضية معينة بشخص لا يمكن أن يكون فى الوقت وبعده أعنى انه رآى فى رجل رجل لمعة لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة رواه أبوداود وقال احمد بن حنبل حديث جيد
وأما قوله ( ويل للأعقاب من النار ( ونحوه فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء ليس فى ذلك أمر بإعادة شيء ومن كان أيضا يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين أو عن المشائخ الواصلين أو عن بعض أتباعهم أو أن الشيخ يصلي عنهم أو أن لله عبادا
____________________
(22/45)
اسقط عنهم الصلاة كما يوجد كثير من ذلك فى كثير من المنتسبين إلى الفقر والزهد وإتباع بعض المشايخ والمعرفة فهؤلاء يستتابون بإتفاق الأئمة فإن أقروا بالوجوب وإلا قوتلوا وإذا أصروا على جحد الوجوب حتى قتلوا كانوا من المرتدين ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك فى أظهر قولي العلماء فإن هؤلاء إما ان يكونوا مرتدين وإما ان يكونوا مسلمين جاهلين للوجوب
فإن قيل إنهم مرتدون عن الإسلام فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء كما لا يقضي الكافر إذا أسلم ما ترك حال الكفر بإتفاق العلماء ومذهب مالك وابى حنيفة وأحمد فى أظهر الروايتين عنه والأخرى يقضي المرتد كقول الشافعى والأول اظهر
فإن الذين إرتدوا على عهد رسول الله كالحارث بن قيس وطائفة معه أنزل الله فيهم { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم } الآية والتى بعدها وكعبد الله بن أبى سرح والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر وأنزل فيهم { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } فهؤلاء عادوا إلى الإسلام وعبد الله بن ابى سرح عاد إلى الإسلام عام الفتح وبايعه النبى ولم يأمر أحدا
____________________
(22/46)
منهم بإعادة ما ترك حال الكفر فى الردة كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا
وقد إرتد فى حياته خلق كثير إتبعوا الأسود العنسي الذى تنبأ بصنعاء اليمن ثم قتله الله وعاد أولئك إلى الإسلام ولم يؤمروا بالإعادة
وتنبأ مسيلمة الكذاب وأتبعه خلق كثير قاتلهم الصديق والصحابة بعد موته حتى أعادوا من بقى منهم إلى الإسلام ولم يأمر أحدا منهم بالقضاء وكذلك سائر المرتدين بعد موته
وكان اكثر البوادي قد إرتدوا ثم عادوا إلى الإسلام ولم يأمر أحدا منهم بقضاء ما ترك من الصلاة وقوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } يتناول كل كافر
وإن قيل إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين بل جهالا بالوجوب وقد تقدم أن الأظهر فى حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور ولا قضاء عليهم فهذا حكم من تركها غير معتقد لوجوبها
وأما من إعتقد وجوبها مع إصراره على الترك فقد ذكر عليه المفرعون من الفقهاء
فروعا
____________________
(22/47)
أحدها هذا فقيل عند جمهورهم مالك والشافعي وأحمد وإذا صبر حتى يقتل فهل يقتل كافرا مرتدا أو فاسقا كفساق المسلمين على قولين مشهورين حكيا روايتين عن أحمد وهذه الفروع لم تنقل عن الصحابة وهي فروع فاسدة فإن كان مقرى بالصلا ة فى الباطن معتقدا لوجوبها يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل وهو لا يصلي هذا لا يعرف من بنى أدم وعادتهم ولهذا لم يقع هذا قط فى الإسلام ولا يعرف أن أحدا يعتقد وجوبها ويقال له أن لم تصل وإلا قتلناك وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب فهذا لم يقع قط فى الإسلام
ومتى إمتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن فى الباطن مقرى بوجوبها ولا ملتزما بفعلها وهذا كافر بإتفاق المسلمين كما إستفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا ودلت عليه النصوص الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم ( ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة ( رواه مسلم وقوله ( العهد الذى بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (
وقول عبد الله بن شقيق كان أصحاب محمد لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة فمن كان مصرا على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط فهذا لا يكون قط مسلما مقرى بوجوبها فإن اعتقاد
____________________
(22/48)
الوجوب وإعتقاد أن تاركها يستحق القتل هذا داع تام إلى فعلها والداعى مع القدرة يوجب وجود المقدور فإذا كان قادرا ولم يفعل قط علم أن الداعي فى حقه لم يوجد والإعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل لكن هذا قد يعارضه أحيانا أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها وتفويتها أحيانا
فأما من كان مصرا على تركها لا يصلى قط ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلما لكن أكثر الناس يصلون تارة ويتركونها تارة فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها وهؤلاء تحت الوعيد وهم الذين جاء فيهم الحديث الذى فى السنن حديث عبادة عن النبى أنه قال ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد فى اليوم والليلة من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ( فالمحافظ عليها الذى يصليها فى مواقيتها كما أمر الله تعالى والذي ليس يؤخرها أحيانا عن وقتها او يترك واجباتها فهذا تحت مشيئة الله تعالى وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضة كما جاء فى الحديث
____________________
(22/49)
وسئل
عمن يؤمر بالصلاة فيمتنع وماذا يجب عليه ومن إعتذر بقوله ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ( هل يكون له عذر فى أنه لا يعاقب على ترك الصلاة ام لا وماذا يجب على الأمراء وولاة الأمور فى حق من تحت أيديهم إذا تركوا الصلاة وهل قيامهم فى ذلك من أعظم الجهاد واكبر أبواب البر
فأجاب
الحمد لله من يمتنع عن الصلاة المفروضة فإنه يستحق العقوبة الغليظة بإتفاق أئمة المسلمين بل يجب عند جمهور الأمة كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل
بل تارك الصلاة شر من السارق والزاني وشارب الخمر وآكل الحشيشة
ويجب على كل مطاع أن يأمر من يطيعه بالصلاة حتى الصغار الذين لم يبلغوا قال النبى ( مروهم بالصلاة لسبع وإضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم فى المضاجع
____________________
(22/50)
ومن كان عنده صغير مملوك أو يتيم أو ولد فلم يأمره بالصلاة فإنه يعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير ويعزر الكبير على ذلك تعزيرا بليغا لأنه عصى الله ورسوله وكذلك من عنده مماليك كبار أو غلمان الخيل والجمال والبزاة أو فراشون أو بابية يغسلون الأبدان والثياب أو خدم أو زوجة أو سرية أو إماء فعليه ان يأمر جميع هؤلاء بالصلاة فإن لم يفعل كان عاصيا لله ورسوله ولم يستحق هذا أن يكون من جند المسلمين بل من جند التتار فإن التتار يتكلمون بالشهادتين ومع هذا فقتالهم واجب بإجماع المسلمين
وكذلك كل طائفة ممتنعة عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة أو الباطنة المعلومة فإنه يجب قتالها فلو قالوا نشهد ولا نصلي قوتلوا حتى يصلوا ولو قالوا نصلي ولا نزكي قوتلوا حتى يزكوا ولو قالوا نزكى ولا نصوم ولا نحج قوتلوا حتى يصوموا رمضان ويحجوا البيت ولو قالوا نفعل هذا لكن لا ندع الربا ولا شرب الخمر ولا الفواحش ولا نجاهد فى سبيل الله ولا نضرب الجزية على اليهود والنصارى ونحو ذلك قوتلوا حتى يفعلوا ذلك كما قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله }
وقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله }
____________________
(22/51)
والربا آخر ما حرم الله وكان أهل الطائف قد اسلموا وصلوا وجاهدوا فبين الله أنهم إذا لم ينتهوا عن الربا كانوا ممن حارب الله ورسوله
وفى الصحيحين أنه لما توفي رسول الله وكفر من كفر من العرب قال عمر لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ( فقال ابوبكر الم يقل إلا بحقها والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعلمت أنه الحق
وفى الصحيح أن النبى ذكر الخوارج فقال ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فإقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة (
فإذا كان الذين يقومون الليل ويصومون النهار ويقرؤون
____________________
(22/52)
القرآن أمر النبى بقتالهم لأنهم فارقوا السنة والجماعة فكيف بالطوائف الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام وإنما يعملون بما ساق ملوكهم وأمثال ذلك والله أعلم
وسئل
عن رجل يأمره الناس بالصلاة ولم يصل فما الذي يجب عليه فأجاب
إذا لم يصل فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل والله أعلم
وسئل
عمن ترك صلاة واحدة عمدا بنية أنه يفعلها بعد خروج وقتها قضاء فهل يكون فعله كبيرة من الكبائر
فأجاب
الحمد لله نعم تأخير الصلاة عن غير وقتها الذي يجب فعلها فيه عمدا من الكبائر بل قد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر وقد رواه الترمذى مرفوعا عن بن عباس عن النبى أنه
____________________
(22/53)
قال ( من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر (
ورفع هذا إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان فيه نظر فإن الترمذى قال ( العمل على هذا عند أهل العلم والأثر معروف وأهل العلم ذكروا ذلك مقرين له لا منكرين له (
وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله ( وحبوط العمل لا يتوعد به إلا على ما هو من أعظم الكبائر وكذلك تفويت العصر أعظم من تفويت غيرها فإنها الصلاة الوسطى المخصوصة بالأمر بالمحافظة عليها وهي التى فرضت على من كان قبلنا فضيعوها فمن حافظ عليها فله الأجر مرتين وهي التى لما فاتت سليمان فعل بالخيل ما فعل
وفى الصحيح عن النبى ايضا أنه قال ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ( والموتور أهله وماله يبقى مسلوبا ليس له ما ينتفع به من الأهل والمال وهو بمنزلة الذى حبط عمله
وايضا فإن الله تعالى يقول { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون }
____________________
(22/54)
فتوعد بالويل لمن يسهو عن الصلاة حتى يخرج وقتها وإن صلاها بعد ذلك وكذلك قوله تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقد سألوا إبن مسعود عن إضاعتها فقال ( هو تأخيرها حتى يخرج وقتها فقالوا ما كنا نرى ذلك إلا تركها فقال لو تركوها لكانوا كفارا وقد كان إبن مسعود يقول عن بعض أمراء الكوفة فى زمانه ما فعل خلفكم لكونهم كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها
وقوله واتبعوا الشهوات يتناول كل من إستعمل ما يشتهيه عن المحافظة عليها فى وقتها سواء كان المشتهى من جنس المحرمات كالمأكول المحرم والمشروب المحرم والمنكوح المحرم والمسموع المحرم أو كان من جنس المباحات لكن الإسراف فيه ينهى عنه أو غير ذلك فمن إشتغل عن فعلها فى الوقت بلعب أو لهو أو حديث مع أصحابه او تنزه فى بستانه أو عمارة عقاره أو سعى فى تجارته أوغير ذلك فقد اضاع تلك الصلاة وإتبع ما يشتهيه وقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } ومن الهاه ماله وولده عن فعل المكتوبة فى وقتها دخل فى ذلك فيكون خاسرا وقال تعالى في ضد هؤلاء { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة }
____________________
(22/55)
فإذا كان سبحانه قد توعد بلقي الغى من يضيع الصلاة عن وقتها ويتبع الشهوات والمؤخر لها عن وقتها مشتغلا بما يشتهيه هو مضيع لها متبع لشهوته فدل ذلك على انه من الكبائر إذ هذا الوعيد لا يكون إلا على كبيرة ويؤيد ذلك جعله خاسرا والخسران لا يكون بمجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر
وأيضا فلا أحدا يخالف أن من صلى بلا طهارة أو إلى غير القبلة عمدا وترك الركوع والسجود او القراءة او غير ذلك متعمدا أنه قد فعل بذلك كبيرة بل قد يتورع فى كفره إن لم يستحل ذلك وأما إذا استحله فهو كافر بلا
ريب ومعلوم ان الوقت للصلاة مقدم على هذه الفروض وغيرها فإنه لا نزاع بين المسلمين أنه إذا علم المسافر العادم للماء أنه يجده بعد الوقت لم يجز له تأخير الصلاة ليصليها بعد الوقت بوضوء أو غسل بل ذلك هو الفرض وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا استحله فهو كافر بلا ريب
____________________
(22/56)
ومعلوم أنه إن علم أنه بعد الوقت يمكنه أن يصلى باتمام الركوع والسجود والقراءة كان الواجب عليه ان يصلي فى الوقت لإمكانه
واما قول بعض أصحابنا إنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لناو لجمعها أو مشتغل بشرطها فهذا لم يقله قبله أحد من الأصحاب بل ولا احد من سائر طوائف المسلمين إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي فهذا اشك فيه ولا ريب أنه ليس على عمومه وإطلاقه بإجماع المسلمين وإنما فيه صورة معروفة كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلا يستقي ولا يفرغ إلا بعد الوقت وإذا أمكن العريان أن يخيط له ثوبا ولا يفرغ إلا بعد الوقت ونحو هذه الصور ومع هذا فالذي قاله فى ذلك خلاف المذهب المعروف عن احمد واصحابه وخلاف قول جماعة علماء المسلمين من الحنفية والمالكية وغيرهم
وما أعلم من يوافقه على ذلك إلا بعض أصحاب الشافعى ومن قال ذلك فهو محجوج بإجماع المسلمين على أن مجرد الإشتغال بالشرط لا يبيح تأخير الصلاة عن وقتها المحدود شرعا فإنه لو دخل الوقت وأمكنه أن يطلب الماء وهو لا يجده إلا بعد الوقت لم يجز له التأخير بإتفاق المسلمين وإن كان مشتغلا بالشرط وكذلك العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية ليشتري له منها ثوبا وهو لا يصلي إلا بعد خروج الوقت لم يجز له التأخير بلانزاع
____________________
(22/57)
والأمى كذلك إذا أمكنه تعلم الفاتحة وهو لا يتعلمها حتى يخرج الوقت كان عليه أن يصلي في الوقت وكذلك العاجز عن تعلم التكبير والتشهد إذا ضاق الوقت صلى بحسب الإمكان ولم ينتظر وكذلك المستحاضة لو كان دمها ينقطع بعد الوقت لم يجز لها أن تؤخر الصلاة لتصلي بطهارة بعد الوقت بل تصلى فى الوقت بحسب الإمكان
وأما حيث جاز الجمع فالوقت واحد والمؤخر ليس بمؤخر عن الوقت الذى يجوز فعلها فيه بل فى أحد القولين أنه لا يحتاج الجمع إلى النية كما قال أبوبكر وكذلك القصر وهو مذهب الجمهور كأبى حنيفة ومالك
وكذلك صلاة الخوف تجب فى الوقت مع إمكان أن يؤخرها فلا يستدبر القبلة ولا يعمل عملا كثيرا فى الصلاة ولا يتخلف عن الإمام بركعة ولا يفارق الإمام قبل السلام ولا يقضي ما سبق له قبل السلام ونحو ذلك مما يفعل فى صلاة الخوف وليس ذلك إلا لأجل الوقت وإلا ففعلها بعد الوقت ولو بالليل ممكن على إلا كمال
وكذلك من اشتبهت عليه القبلة وامكنه تأخير الصلاة إلى أن يأتى مصرا يعلم فيه القبلة لم يجز له ذلك وإنما نازع من نازع إذا امكنه تعلم دلائل القبلة ولا يتعلمها حتى يخرج الوقت وهذا النزاع هو
____________________
(22/58)
القول المحدث الشاذ الذى تقدم ذكره
وأما النزاع المعروف بين الأئمة فى مثل ما إذا إستيقظ النائم فى آخر الوقت ولم يمكنه أن يصلي قبل الطلوع بوضوء هل يصلى بتيمم أو يتوضأ ويصلى بعد الطلوع على قولين مشهورين ( الأول ( قول مالك مراعاة للوقت ( الثانى ( قول الأكثرين كأحمد والشافعى وأبى حنيفة
وهذه المسألة هي التى توهم من توهم أن الشرط مقدم على الوقت وليس كذلك فإن الوقت فى حق النائم هو من حين يستيقظ كما ثبت فى الصحيح عن النبى انه قال ( من نام عن صلاة او نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ( فجعل الوقت الذى أوجب الله على العبد فيه هو وقت الذكر والإنتباه وحينئذ فمن فعلها فى هذا الوقت بحسب ما يمكنه من الطهارة الواجبة فقد فعلها فى الوقت وهذا ليس بمفرط ولا مضيع لها قال النبى ( ليس فى النوم تفريط إنما التفريط فى اليقظة (
بخلاف المتنبه من أول الوقت فإنه مأمور أن يفعلها فى ذلك الوقت بحيث لو اخرها عنه عمدا كان مضيعا مفرطا فإذا إشتغل عنها بشرطها
____________________
(22/59)
وكان قد أخرها عن الوقت الذى أمر أن يفعلها فيه ولولا أنه مأمور بفعلها فى ذلك الوقت لجاز تأخيرها عن الوقت إذا كان مشتغلا بتحصيل ماء الطهارة أو ثوب الإستعارة بالذهاب إلى مكانه ونحو ذلك وهذا خلاف إجماع المسلمين بل المستيقظ فى آخر الوقت إنما عليه أن يتوضأ كما يتوضأ المستيقظ فى الوقت فلو أخرها لأنه يجد الماء عند الزوال ونحو ذلك لم يجز له ذلك
وأيضا فقد نص العلماء على أنه إذا جاء وقت الصلاة ولم يصل فإنه يقتل وإن قال انا اصليها قضاء كما يقتل إذا قال اصلي بغير وضوء أو إلى غير القبلة وكل فرض من فرائض الصلاة المجمع عليها إذا تركه عمدا فإنه يقتل بتركه كما أنه يقتل بترك الصلاة
فإن قلنا يقتل بضيق الثانية والرابعة فالأمر كذلك وكذلك إذا قلنا يقتل بضيق الأولى وهو الصحيح أو الثالثة فإن ذلك مبني على أنه هل يقتل بترك صلاة او بثلاث على روايتين
وإذا قيل بترك صلاة فهل يشترط وقت التى بعدها أو يكفى ضيق وقتها على وجهين وفيها وجه ثالث وهو الفرق بين صلاتى الجمع وغيرها ولا يعارض ما ذكرناه انه يصح بعد الوقت بخلاف بقية الفرائض لإن الوقت إذا فات لم يمكن إستدراكه فلا يمكنه أن
____________________
(22/60)
يفعلها إلا فائته ويبقى إثم التأخير من باب الكبائر التى تمحوها التوبة ونحوها وأما بقية الفرائض فيمكن إستدراكها بالقضاء
وأما الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها ونهى النبى صلى الله عليه وسلم عن قتالهم فإن قيل إنهم كانوا يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت فلا كلام وإن قيل وهو الصحيح إنهم كانوا يفوتونها فقد أمر النبى الأمة بالصلاة فى الوقت وقال ( اجعلوا صلاتكم معهم نافلة ( ونهى عن قتالهم كما نهى عن قتال الأئمة إذا استاثروا وظلموا الناس حقوقهم وإعتدوا عليهم وإن كان يقع من الكبائر فى أثناء ذلك ما يقع
ومؤخرها عن وقتها فاسق والأئمة لا يقاتلون بمجرد الفسق وإن كان الواحد المقدور قد يقتل لبعض أنواع الفسق كالزنا وغيره فليس كلما جاز فيه القتل جاز أن يقاتل الأئمة لفعلهم إياه إذ فساد القتال أعظم من فساد كبيرة يرتكبها ولي الأمر
ولهذا نص من نص من اصحاب أحمد وغيره على أن النافلة تصلى خلف الفساق لأن النبى أمر بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها وهؤلاء الأئمة فساق وقد أمر بفعلها خلفهم نافلة
____________________
(22/61)
والمقصود أن الفسق بتفويت الصلاة أمر معروف عند الفقهاء
لكن لو قال قائل الكبيرة تفويتها دائما فإن ذلك إصرار على الصغيرة
قيل له قد تقدم ما يبين أن الوعيد يلحق بتفويت صلاة واحدة وأيضا فان الاصرار هو العزم على العود ومن أتى صغيرة وتاب منها ثم عادإليها لم يكن قد أتى كبيرة
وايضا فمن اشترط المداومة على التفويت محتاج إلى ضابط فإن أراد بذلك المداومة على طول عمره لم يكن المذكورون من هذا الباب وإن أراد مقدارا محدودا طولب بدليل عليه
وأيضا فالقتل بترك واحدة ابلغ من جعل ذلك كبيرة والله سبحانه أعلم
____________________
(22/62)
وسئل
عن مسلم تارك للصلاة ويصلى الجمعة فهل تجب عليه اللعنة
فأجاب
الحمد لله هذا استوجب العقوبة بإتفاق المسلمين والواجب عند جمهور العلماء كمالك والشافعي واحمد أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ولعن تارك الصلاة على وجه العموم جائز وأما لعنة المعين فالأولى تركها لأنه يمكن أن يتوب والله أعلم
____________________
(22/63)
& باب الأذان والإقامة (
وسئل
عن الأذان هل هو فرض أم سنة وهل يستحب الترجيع أم لا وهل التكبير اربع أو اثنتان كمالك وهل الإقامة شفع أو فرد وهل يقول قد قامت الصلاة مرة أو مرتين
فاجاب الصحيح أن الأذان فرض على الكفاية فليس لأهل مدينة ولا قرية أن يدعوا الأذان والإقامة وهذا هو المشهور من مذهب أحمد وغيره
وقد أطلق طوائف من العلماء أنه سنة ثم من هؤلاء من يقول أنه إذا إتفق أهل بلد على تركه قوتلوا والنزاع مع هؤلاء قريب من النزاع اللفظي فإن كثيرا من العلماء يطلق القول بالسنة على ما يذم تاركه شرعا ويعاقب تاركه شرعا فالنزاع بين هذا وبين من يقول أنه واجب نزاع لفظى ولهذا نظائر متعددة
____________________
(22/64)
وأما من زعم أنه سنة لا إثم على تاركيه ولا عقوبة فهذا القول خطأ فإن الأذان هو شعار دار الإسلام الذى ثبت فى الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلق إستحلال أهل الدار بتركه فكان يصلى الصبح ثم ينظر فإن سمع مؤذنا لم يغر وإلا أغار وفى السنن لأبى داود والنسائى عن أبى الدرداء قال سمعت رسول الله يقول ( ما من ثلاثة فى قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا إستحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإن الذئب ياكل الشاة القاصية ( وقد قال تعالى { استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون }
وأما الترجيع وتركه وتثنية التكبير وتربيعة وتثنية الإقامة وإفرادها فقد ثبت فى صحيح مسلم والسنن حديث ابى محذورة الذى علمه النبى صلى الله عليه وسلم الأذان عام فتح مكة وكان الأذان فيه وفى ولده بمكة ثبت انه علمه الأذان والإقامة وفيه ( الترجيع ( وروى فى حديثه ( التكبير مرتين ( كما فى صحيح مسلم وروى ( أربعا ( كما فى سنن أبى داود وغيره وفى حديثه أنه علمه الإقامة شفعا وثبت فى الصحيح عن انس بن مالك قال لما كثر الناس قال تذاكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه
____________________
(22/65)
فذكروا أن يوروا نارا أو يضربوا ناقوسا فأمر بلال ان يشفع الأذان ويوتر الإقامة ( وفى رواية للبخارى ) ( إلا الإقامة ( وفى سنن أبى داود وغيره أن عبد الله بن زيد لما أرى الأذان وأمره النبى أن يلقيه على بلال فألقاه عليه وفيه التكبير أربعا بلا ترجيع
وإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم وهو تسويغ كل ما ثبت فى ذلك عن النبى لا يكرهون شيئا من ذلك إذ تنوع صفة الأذان والإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله لأمته
وأما من بلغ به الحال إلى الإختلاف والتفرق حتى يوالى ويعادى ويقاتل على مثل هذا ونحوه مما سوغه الله تعالى كما يفعله بعض أهل المشرق فهؤلاء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكذلك ما يقوله بعض الأئمة ولا أحب تسميته من كراهة بعضهم للترجيع وظنهم أن أبا محذورة غلط فى نقله وأنه كرره ليحفظه ومن كراهة من خالفهم لشفع الإقامة مع أنهم يختارون أذان أبى محذورة وهؤلاء يختارون إقامته ويكرهون أذانه وهؤلاء يختارون أذانه ويكرهون
____________________
(22/66)
إقامته فكلاهما قولان متقابلان والوسط أنه لا يكره لا هذا ولا هذا
وإن كان أحمد وغيره من أئمة الحديث يختارون أذان بلال وإقامته لمداومته على ذلك بحضرته فهذا كما يختار بعض القراءات والتشهدات ونحو ذلك ومن تمام السنة فى مثل هذا أن يفعل هذا تارة وهذا تارة وهذا فى مكان وهذا فى مكان لأن هجر ما وردت به السنة وملازمة غيره قد يفضى إلى أن يجعل السنة بدعة والمستحب واجبا ويفضى ذلك إلى التفرق والإختلاف إذا فعل آخرون الوجه الآخر
فيجب على المسلم ان يراعى القواعد الكلية التى فيها الإعتصام بالسنة والجماعة لا سيما فى مثل صلاة الجماعة وأصح الناس طريقة فى ذلك هم علماء الحديث الذين عرفوا السنة وإتبعوها إذ من أئمة الفقه من إعتمد فى ذلك على أحاديث ضعيفة ومنهم من كان عمدته العمل الذى وجده ببلده وجعل ذلك السنة دون ما خالفه مع العلم بأن النبى قد وسع فى ذلك وكل سنة
وربما جعل بعضهم أذان بلال وإقامته ما وجده فى بلده إما بالكوفة وإما بالشام وإما بالمدينة وبلال لم يؤذن بعد النبى إلا قليلا وإنما أذن بالمدينة سعد القرظى مؤذن أهل قباء
____________________
(22/67)
والترجيع فى الأذان إختيار مالك والشافعى لكن مالكا يرى التكبير مرتين والشافعى يراه اربعا وتركه إختيار أبى حنيفة وأما احمد فعنده كلاهما سنة وتركه أحب إليه لأنه أذان بلال
والإقامة يختار إفرادها مالك والشافعى واحمد وهو مع ذلك يقول إن تثنيتها سنة والثلاثة أبوحنيفة والشافعى وأحمد يختارون تكرير لفظ الإقامة دون مالك والله أعلم
( وقال شيخ الإسلام (
وأما الأذان الذى هو شعار الإسلام فقد إستعمل فقهاء الحديث كأحمد = فيه جميع سنن رسول الله إستحسن أذان بلال وإقامته وأذان أبى محذورة وإقامته
وقد ثبت فى صحيح مسلم وغيره ان النبى صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان مرجعا وفى الإقامة مشفوعة
وثبت فى الصحيحين ( أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ( وفى السنن أنه لم يكن يرجع فرجح أحمد أذان بلال لأنه الذى كان يفعل بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما قبل
____________________
(22/68)
أذان ابى محذورة وبعده إلى أن مات وإستحسن اذان ابى محذورة ولم يكرهه
وهذا أصل مستمر له فى جميع صفات العبادات أقوالها وافعالها يستحسن كلما ثبت عن النبى من غير كراهة لشيء منه مع علمه بذلك وإختياره للبعض أو تسويته بين الجميع كما يجوز القراءة بكل قراءة ثابته وإن كان قد إختار بعض القراءة مثل أنواع الأذان والإقامة وانواع التشهدات الثابتة عن النبى كتشهد إبن مسعود وأبى موسى وإبن عباس وغيرهم
وأحبها إليه تشهد إبن مسعود لأسباب متعددة ( منها ( كونه أصحها واشهرها و ( منها ( كونه محفوظ الألفاظ لم يختلف فى حرف منه و ( منها ) كون غالبها يوافق ألفاظه فيقتضى أنه الذى كان النبى صلى الله عليه وسلم يأمر به غالبا
وكذلك انواع الإستفتاح والإستعاذة المأثورة وأنه إختار بعضها
وكذلك موضع رفع اليدين فى الصلاة ومحل وضعها بعد الرفع وصفات التحميد المشروع بعد التسميع ومنها صفات الصلاة على النبى وإن إختار بعضها
____________________
(22/69)
ومنها أنواع صلاة الخوف ويجوز كل ما فعله النبى من غير كراهة
ومنها أنواع تكبيرات العيد يجوز كل ماثور وإن إستحب بعضه
ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع وإن إختار التربيع وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك ويكرهون بعضه
فمنهم من يكره ( الترجيع ( فى الأذان كأبى حنيفة ومنهم من يكره تركه كالشافعى ومنهم من يكره شفع الإقامة كالشافعى ومنهم من يكره إفرادها حتى قد آل الأمر بالإتباع إلى نوع جاهلية فصاروا يقتتلون فى بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية مع أن الجميع حسن قد أمر به رسول الله أمر بلالا بإفراد الإقامة وأمر أبا محذورة بشفعها وإن الضلالة حق الضلالة أن ينهى عما امر به النبى
وسئل
عن المؤذن إذا قال ( الصلاة خير من النوم ( هل السنة أن يستدير ويلتفت أم يستقبل القبلة أم الشرق
____________________
(22/70)
فأجاب ليس هذا سنة عند أحد من العلماء بل السنة ان يقولها وهو مستقبل القبلة كغيرها من كلمات الأذان وكقوله فى الإقامة قد قامت الصلاة ولم يستثن من ذلك العلماء إلا الحيعلة فإنه يلتفت بها يمينا وشمالا ولا يختص المشرق بالكلمتين وليس فى الأذان والإقامة ما يختص المشرق والمغرب بجنسه فمن قال ( الصلاة خير من النوم ( كلاهما إلى المشرق أو المغرب فهو مبتدع خارج عن السنة فى الأذان بإتفاق العلماء
وقد تنازع العلماء هل يدور فى المنارة على قولين مشهورين فمن دار فقد فعل ما يسوغ فيه الإجتهاد ولكنه مع ذلك إن دار لقوله ( الصلاة خير من النوم ( لزمه أن يدور مرتين ولا قائل به وإن خص المشرق بهما كان أبعد عن السنة فتعين ان يقولها مستقبل القبلة والله أعلم
وقال الشيخ رحمه الله
لما ذهبت على البريد كنا نجمع بين الصلاتين فكنت أولا أؤذن عند الغروب وأنا راكب ثم تأملت فوجدت النبى لما جمع ليلة جمع لم يؤذنوا للمغرب فى طريقهم بل أخر التأذين
____________________
(22/71)
حتى نزل فصرت افعل ذلك لأنه فى الجمع صار وقت الثانية وقتا لهما والأذان أعلام بوقت الصلاة
ولهذا قلنا يؤذن للفائتة كما أذن بلال لما ناموا عن صلاة الفجر لأنه وقتها والأذان للوقت الذى تفعل فيه لا الوقت الذى تجب فيه
وسئل
عمن أحرم ودخل فى الصلاة وكانت نافلة ثم سمع المؤذن فهل يقطع الصلاة ويقول مثل ما قال المؤذن او يتم صلاته ويقول مثل ما يقول المؤذن
فأجاب إذا سمع المؤذن يؤذن وهو فى صلاة فإنه يتمها ولا يقول مثل ما يقول عند جمهور العلماء وأما إذا كان خارج الصلاة فى قراءة او ذكر أو دعاء فانه يقطع ذلك ويقول مثل ما يقول المؤذن لأن موافقة المؤذن عبادة مؤقتة يفوت وقتها وهذه الأذكار لا تفوت
وإذا قطع الموالاة فيها لسبب شرعى كان جائزا مثل ما يقطع
____________________
(22/72)
الموالاة فيها بكلام لما يحتاج إليه من خطاب آدمى وأمر بمعروف ونهى عن منكر وكذلك لو قطع الموالاة بسجود تلاوة ونحو ذلك بخلاف الصلاة فإنه لا يقطع موالاتها بسبب آخر كما لو سمع غيره يقرأ سجدة التلاوة لم يسجد فى الصلاة عند جمهور العلماء ومع هذا ففى هذا نزاع معروف والله أعلم
____________________
(22/73)
)
& باب شروط الصلاة (
قال رحمه الله فصل
وأما إذا ابتدءوا الصلاة بالمواقيت ففقهاء الحديث قد إستعملوا فى هذا الباب جميع النصوص الواردة عن النبى فى اوقات الجواز وأوقات الإختيار
فوقت الفجر ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس ووقت الظهر من الزوال إلى مصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال ووقت العصر إلى إصفرار الشمس على ظاهر مذهب أحمد ووقت المغرب إلى مغيب الشفق ووقت العشاء إلى منتصف الليل على ظاهر مذهب أحمد
وهذا بعينه قول رسول الله فى الحديث
____________________
(22/74)
الذى رواه مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن عمرو وروى أيضا من حديث ابى هريرة رضى الله عنه وليس عن النبى حديث من قوله فى المواقيت الخمس أصح منه وكذلك صح معناه من غير وجه من فعل النبى فى المدينة من حديث ابى موسى وبريدة رضى الله عنهما وجاء مفرقا فى عدة احاديث وغالب الفقهاء إنما إستعملوا غالب ذلك
فأهل العراق المشهور عنهم أن العصر لايدخل وقتها حتى يصير ظل كل شيء مثليه وأهل الحجاز مالك وغيره ليس للمغرب عندهم إلا وقت واحد
فصل
وكذلك نقول بما جاءت به السنة والآثار من الجمع بين الصلاتين فى السفر والمطر والمرض كما فى حديث المستحاضة وغير ذلك من الأعذار
ونقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من ان الوقت وقتان وقت إختيار وهو خمس مواقيت ووقت إضطرار وهو ثلاث مواقيت ولهذا امرت الصحابة كعبدالرحمن بن عوف وإبن عباس وغيرهما
____________________
(22/75)
الحائض إذا طهرت قبل الغروب ان تصلى الظهر والعصر وإذا طهرت قبل الفجر ان تصلى المغرب والعشاء واحمد موافق فى هذه المسائل لمالك رحمه الله وزائد عليه بما جاءت به الآثار والشافعى رحمه الله هو دون مالك فى ذلك وأبوحنيفة اصله فى الجمع معروف
وكذلك اوقات الإستحباب فإن أهل الحديث يستحبون الصلاة فى اول الوقت فى الجملة إلا حيث يكون فى التأخير مصلحة راجحة كما جاءت به السنة فيستحبون تأخير الظهر فى الحر مطلقا سواء كانوا مجتمعين او متفرقين ويستحبون تأخير العشاء مالم يشق
وبكل ذلك جاءت السنن الصحيحة التى لا دافع لها وكل من الفقهاء يوافقهم فى البعض أو الأغلب
فأبو حنيفة يستحب التأخير إلا فى المغرب والشافعى يستحب التقديم مطلقا حتى فى العشاء على أحد القولين وحتى فى الحر إذا كانوا مجتمعين وحديث أبى ذر الصحيح فيه امر النبى لهم بالأبراد وكانوا
____________________
(22/76)
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه
فصل
قاعدة فى أعداد ركعات الصلوات وأوقاتها وما يدخل فى ذلك من جمع وقصر
جرت عادة كثير من العلماء المصنفين للعلم أن يذكروا فى ( باب مواقيت الصلاة ( أوقاتها وأعدادها واسماءها ثم منهم من يذكر القصر والجمع فى بابين مفترقين مع صلاة أهل الأعذار كالمريض والخائف
ومنهم من يذكر الجمع فى المواقيت واما القصر فيفرده فإن سبب القصر هو السفر وحده فقران صلاة المسافر بصلاة الخائف والمريض مناسب
وأما الجمع فاسبابه متعددة لإختصاص السفر به ونحن نذكر فى كل منهما فصلا جامعا
____________________
(22/77)
أما العدد فمعلوم أنها خمس صلوات ثلاثة رباعية وواحدة ثلاثية وواحدة ثنائية هذا فى الحضر وأما فى السفر فقد سافر رسول الله قريبا من ثلاثين سفرة وكان يصلى ركعتين فى اسفاره ولم ينقل عنه أحد من أهل العلم انه صلى فى السفر الفرض اربعا قط حتى فى حجة الوداع وهى آخر أسفاره كان يصلى بالمسلمين بمنى الصلوات ركعتين ركعتين وهذا من العلم العام المستفيض المتواتر الذى إتفق على نقله عنه جميع اصحابه ومن أخذ العلم عنهم
والحديث الذى رواه الدار قطنى عن عائشة ان النبى كان يقصر فى السفر ويتم ويفطر وتصوم باطل فى الإتمام وإن كان صحيحا فى الإفطار بخلاف النقل المتواتر المستفيض ولم يذكر هذا بعد قط
وكيف يكون والنبى فى اسفاره إنما كان يصلى الفرض إماما لكن مرة فى غزوة تبوك إحتبس للطهارة ساعة فقدموا عبد الرحمن بن عوف وادرك النبى خلفه بعض الصلاة فلو صلى بهم اربعا فى السفر لكان هذا من أوكد ما تتوفر هممهم ودواعيهم على نقله لمخالفته سنته المستمرة وعادته الدائمة كما نقلوا أنه جمع بين الصلاتين أحيانا فلما لم ينقل ذلك احد منهم علم قطعا أنه لم يفعل ذلك
____________________
(22/78)
ولهذا قال بن عمر صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر أي من اعتقد أن صلاة ركعتين ليس بمسنون ولا مشروع فقد كفر
وكذلك قال عمر بن الخطاب صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم
وقالت عائشة رضى الله عنها الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر واتمت صلاة الحضر قال الزهري فقلت لعروة فما بال عائشة تتم قال تأولت كما تأول عثمان اخرجاه فى الصحيحين
وقال النبى ( إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ( هذا ولما حج النبى صلى الله عليه وسلم حجة الوداع كان يقصر الصلاة فى مقامه بمكة والمشاعر مع أنه دخل مكة يوم الأحد وخرج منها يوم الخميس إلى منى وعرف يوم الجمعة وأقام بمنى إلى عشية الثلاثاء وبات بالمحصب ليلة الأربعاء وطاف للوداع تلك الليلة وأقام أيضا قبل ذلك فى غزوة الفتح بمكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة وأقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة
____________________
(22/79)
وأما الحديث الذى يروى عن عائشة ( انها إعتمرت مع رسول الله من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت يا رسول الله بأبى أنت وأمى قصرت وأتممت وأفطرت وصمت قال احسنت يا عائشة وما عاب على ( رواه النسائى وروى الدارقطنى ( خرجت مع النبى صلى الله عليه وسلم فى عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر واتممت ( وقال إسناده حسن فهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن النبى اتم وإنما فيه إذنه فى الإتمام مع أن هذا الحديث على هذا الوجه ليس بصحيح بل هو خطأ لوجوه
أحدها أن الذى فى الصحيحين عن عائشة ( إن صلاة السفر ركعتان ( وقد ذكر إبن أخيها وهو أعلم الناس بها انها إنما أتمت الصلاة فى السفر بتأويل تأولته لا بنص كان معها فعلم أنه لم يكن معها فيه نص
الثانى ان فى الحديث ( أنها خرجت معتمرة معه فى رمضان عمرة رمضان وكانت صائمة ( وهذا كذب بإتفاق أهل العلم فإن النبى لم يعتمر فى رمضان قط وإنما كانت عمره كلها فى شوال وإذا كان لم يعتمر فى رمضان ولم يكن فى عمره عليه صوم بطل هذا الحديث
____________________
(22/80)
الثالث ان النبى صلى الله عليه وسلم إنما سافر فى رمضان غزوة بدر وغزوة الفتح فأما غزوة بدر فلم يكن معه فيها ازواجه ولا كانت عائشة وأما غزوة الفتح فقد كان صام فيها فى اول سفره ثم افطر خلاف ما فى هذا الحديث المفتعل
الرابع أن إعتمار عائشة معه فيه نظر
الخامس أن عائشة لم تكن بالتى تصوم وتصلى طول سفرها إلى مكة وتخالف فعله بغير إذنه بل كانت تستفتيه قبل الفعل فإن الإقدام على مثل ذلك لا يجوز
فثبت بهذه السنة المتواترة أن صلاة السفر ركعتان كما ان صلاة الحضر أربع فإن عدد الركعات إنما اخذ من فعل النبى الذى سنه لأمته وبطل قول من يقول من اصحاب أحمد والشافعى إن الأصل أربع وإنما الركعتان رخصة
وبنوا على هذا أن القاصر يحتاج إلى نية القصر فى اول الصلاة كما قاله الشافعى وهو قول الخرقى والقاضى وغيرهما بل الصواب ما قاله جمهور اهل العلم وهو إختيار أبى بكر وغيره أن القصر لا يحتاج إلى نية بل دخول المسافر فى صلاته كدخول الحاضر بل لو
____________________
(22/81)
نوى المسافر ان يصلى أربعا لكره له ذلك وكانت السنة أن يصلى ركعتين ونصوص الإمام أحمد إنما تدل على هذا القول
وقد تنازع أهل العلم فى التربيع فى السفر هل هو محرم أو مكروه او ترك الأفضل أو هو أفضل على اربعة اقوال
فالأول قول أبى حنيفة ورواية عن مالك
والثانى رواية عنه وعن أحمد
والثالث رواية عن أحمد واصح قولى الشافعى
والرابع قول له ( والرابع ( خطأ قطعا لا ريب فيه والثالث ضعيف وإنما المتوجه أن يكون التربيع إما محرم او مكروه لأن طائفة من الصحابة كانوا يربعون وكان الآخرون لا ينكرونه عليهم إنكار من فعل المحرم بل إنكار من فعل المكروه
وأما قوله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا }
فهنا علق القصر بسببين الضرب فى الأرض والخوف من فتنة الذين كفروا لأن القصر المطلق يتناول قصر عددها وقصر عملها واركانها مثل الإيماء بالركوع والسجود فهذا القصر إنما يشرع بالسببين كلاهما
____________________
(22/82)
كل سبب له قصر فالسفر يقتضى قصر العدد والخوف يقتضى قصر الأركان ولو قيل إن القصر المعلق هو قصر الأركان فإن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر لكان وجيها ولهذا قال ( فاذا إطمأننتم فأقيموا الصلاة (
فقد ظهر بهذا ان القصر لا يسوى بالجمع فإنه سنة رسول الله وشرعته لأمته بل الإتمام فى السفر أضعف من الجمع فى السفر فإن الجمع قد ثبت عنه انه كان يفعله فى السفر أحيانا وأما الإتمام فيه فلم ينقل عنه قط وكلاهما مختلف فيه بين الأئمة فإنهم مختلفون فى جواز الإتمام وفى جواز الجمع متفقون على جواز القصر وجواز الإفراد فلا يشبه بالسنة المتواترة أن النبى كان يداوم عليه فى أسفاره وقد إتفقت الأمة عليه فلا يصار إلى أن ما فعله فى سفره مرات متعددة وقد تنازعت فيه الأمة
فصل (
وأما الوقت فالأصل فى ذلك ان الوقت فى كتاب الله وسنة رسول الله نوعان وقت إختيار ورفاهية ووقت حاجة وضرورة
____________________
(22/83)
أما الأول فالأوقات خمسة وأما الثانى فالأوقات ثلاثة فصلاتا الليل وصلاتا النهار وهما اللتان فيهما الجمع والقصر بخلاف صلاة الفجر فإنه ليس فيها جمع ولا قصر لكل منهما وقت مختص وقت الرفاهية والإختيار والوقت مشترك بينهما عند الحاجة والإضطرار لكن لا تؤخر صلاة نهار إلى ليل ولا صلاة ليل إلى نهار
ولهذا وقع الأمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى صلاة العصر وقال النبى فيها ( من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله ( وقال ( فكأنما وتر أهله وماله ( وقد دل على هذا الأصل ان الله فى كتابه ذكر الوقوت تارة ثلاثة وتارة خمسة
أما الثلاثة ففى قوله ( أقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل ( وفى قوله ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ( وقوله ( وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وأدبار النجوم (
وأما الخمس فقد ذكرها أربعة فى قوله ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد فى السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ( وقوله ( فإصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ( وقوله ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس
____________________
(22/84)
وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ( والسنة هى التى فسرت ذلك وبينته وأحكمته
وذلك أنه قد ثبت بالنقل المتواتر عن النبى ( أنه كان يصلى الصلوات الخمس فى خمس مواقيت فى حال مقامه بالمدينة وفى غالب أسفاره حتى أنه فى حجة الوداع آخر أسفاره كان يصلى كل صلاة فى وقتها ركعتين وإنما جمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين العشائين بمزدلفة ولهذا قال إبن مسعود ما رأيت رسول الله صلى صلاة لغير وقتها إلا المغرب ليلة جمع والفجر بمزدلفة وإنما قال ذلك لأنه غلس بها تغليسا شديدا وقد بين جابر فى حديثه انه صلاها حين طلع الفجر
ولهذا إتفق المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة لأن جمع هاتين الصلاتين فى حجة الوداع دون غيرهما مما صلاه بالمسلمين بمنى أو بمكة هو من المنقول نقلا عاما متواترا مستفيضا
وثبت عنه أنه بين مواقيت الصلاة بفعله لمن سأله عن المواقيت بالمدينة كما رواه مسلم فى صحيحه من حديث أبى موسى وحديث بريدة بن الحصيب وبين له جبريل المواقيت بمكة كما رواه جابر وإبن عباس وروى مسلم فى صحيحه المواقيت من كلام النبى صلى الله
____________________
(22/85)
عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر وهو أحسن أحاديث المواقيت لأنه بيان بكلام النبى صلى الله عليه وسلم حيث قال
( وقت الفجر مالم تطلع الشمس ووقت الظهر مالم يصر ظل كل شيء مثله ووقت العصر مالم تصفر الشمس ووقت المغرب مالم يسقط نور الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل ( وقد روى نحو ذلك من حديث أبى هريرة مرفوعا وفيه نظر وعلى هذه الأحاديث إعتمد الإمام أحمد لكثرة إطلاعه على السنن وأما غيره من الأئمة فبلغه بعض هذه الأحاديث دون بعض فاتبع ما بلغه ومن إتبع ما بلغه فقد أحسن وما على المحسنين من سبيل
وقال فى غير حديث ( سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم إجعلوا صلاتكم معهم نافلة ( فهذا دليل على أنه لا يجوز تأخير الأولى إلى وقت الثانية ولا يجوز الجمع لغير حاجة فإن الأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار ولكن غايتهم أن يؤخروا الظهر إلى وقت العصر أو العصر إلى الإصفرار أو يؤخروا المغرب إلى مغيب الشفق وأما العشاء فلو أخروها إلى نصف الليل لم يكن ذلك مكروها وتأخيرها إلى ما بعد ذلك لم يكن يفعله أحد ولا هو مما يفعله الأمراء
____________________
(22/86)
وأما الثلاث فقد ثبت عنه فى الأحاديث الصحيحة من حديث إبن عمر وأنس بن مالك ومعاذ بن جبل انه كان يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء يجمع فى وقت الثانية إذا جد به السير فى وقت الأولى أو إذا كان سائرا فى وقتها وهذا مما إتفق عليه القائلون بالجمع بين الصلاتين من فقهاء الحديث واهل الحجاز وكذلك ما روى عنه ( انه كان فى غزوة تبوك إذا إرتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ( رواه اهل السنن من حديث معاذ ورواه مسلم فى صحيحه عن معاذ ( أن النبى جمع فى غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ( وإنما تنازعوا فيما إذا كان نازلا فى وقت الصلاتين كلاهما
وفيه روايتان عن أحمد
إحداهما لا يجمع لعدم السنة والحاجة وهو قول مالك وإختيار الخرقى
الثانية
يجمع وهو قول الشافعى لحديث روى فى ذلك ايضا رواه ابو داود وذكر بن عبدالبر أنه لم يرو غيره وثبت عنه ايضا بالأحاديث الصحيحة وبالإتفاق أنه جمع فى حجة الوداع بعرفة بين صلاتى العشي وبمزدلفة بين صلاتى العشائين وثبت عنه فى الصحيحين من حديث إبن عباس ( أنه صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر
____________________
(22/87)
والمغرب والعشاء ( وفى صحيح مسلم عنه ( جمع رسول الله بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر قيل لإبن عباس ما أراد بذلك قال أراد ان لا يحرج أمته ( وكذلك قال معاذ بن جبل
وروى أهل السنن عنه حديثين أو ثلاثة انه امر المستحاضة بالجمع بين الصلاتين فى حديث حمنة بنت جحش وغيرها فهذا الجمع بالمدينة للمطر ولغير مطر وقد نبه إبن عباس على الجمع للخوف والمطر والجمع عند المسير فى السفر يجمع فى المقام وفى السفر لرفع الحرج فعلم بذلك أنه ليس السفر سبب للجمع كما هو سبب للقصر فإن قصر العدد دائر مع السفر وجودا وعدما وأما الجمع فقد جمع فى غير سفر وقد كان فى السفر يجمع للمسير ويجمع فى مثل عرفة ومزدلفة ولا يجمع فى سائر مواطن السفر وامر المستحاضة بالجمع
فظهر بذلك ان الجمع هو لرفع الحرج فإذا كان فى التفريق حرج جاز الجمع وهو وقت العذر والحاجة ولهذا قال الصحابة كعبدالرحمن بن عوف وإبن عمر فى الحائض إذا طهرت قبل الغروب صلت الظهر والعصر وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب والعشاء وقال بذلك أهل الجمع كمالك والشافعى وأحمد فهذا يوافق ( قاعدة الجمع ( فى ان الوقت مشترك بين صلاتى الجمع عند الضرورة
____________________
(22/88)
والمانع فمن ادرك آخر الوقت المشترك فقد أدرك الصلاتين كلاهما
ومن قال من أصحابنا وغيرهم إن الجمع معلق بسفر القصر وجودا وعدما حتى منعوا الحاج الذين بمكة وغيرهم من الجمع بين صلاتى العشى وصلاتى العشاء فما أعلم لقولهم حجة تعتمد بل خلاف السنة المعلومة يقينا عن النبى فانا قد علمنا أنه لم يأمر أحدا من الحجاج معه من أهل مكة أن يؤخروا العصر إلى وقتها المختص ولا يعجلوا المغرب قبل الوصول إلى مزدلفة فيصلوها إما بعرفة وإما قريبا من المازمين هذا مما هو معلوم يقينا ولا قال هذا أحد بل كلامه ونصوصه تقتضى أنه يجمع بين الصلاتين ويؤخر المغرب جميع أهل الموسم كما جاءت به السنة وكما إختاره طوائف من أصحابه كأبى الخطاب فى العبادات وأبى محمد المقدسى وغيرهما
ثم إما أن يقال إن الجمع معلق بالسفر مطلقا قصيره وطويله إما مطلقا وإما لأجل المسير وإما أن يقال الجمع بمزدلفة لأجل النسك كما يقوله من يقوله من أصحابنا وغيرهم والأول أصوب عندى وأقيسه بأصول أحمد ونصوصه فإنه قد نص على الجمع فى الحضر لشغل فإذا جد به السير فى السفر القصير فهو أولى ولأن الأحكام المعلقة بالسفر تختص بالسفر كالقصر والفطر والمسح وأما المتعلقة بالطويل والقصير كالصلاة على الدابة والمتيمم وكأكل الميتة
____________________
(22/89)
فهذه جاءت للحاجة وكذلك يجوز فى الحضر والجمع هو من هذا الباب إنما جاز لعموم الحاجة لا لخصوص السفر ولهذا كان ما تعلق بالسفر إنما هو رخصة قد يستغنى عنها وأما ما تعلق بالحاجة فإنه قد يكون ضرورة لابد منها فالأول كفطر المسافر والثانى كفطر المريض فهذا هذا والله أعلم
ومما يشبه هذه الآية فى العموم والجمع وإن إشتبه معناها قوله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فإنه أباح القصر بشرطين الضرب فى الأرض وخوف الكفار
ولهذا إعتقد كثير من الناس أن القصر مجرد قصر العدد أشكل عليهم فمن أهل البدع من قال لا يجوز قصر الصلاة إلا فى حال الخوف حتى روى الصحابة السنن المتواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى القصر فى سفر الأمن وقال إبن عمر صلاة السفر ركعتان من خالف السنة فقد كفر فإن من الخوارج من يرد السنة المخالفة لظاهر القرآن مع علمه بأن الرسول سنها
وقال حارثه بن وهب صلينا مع رسول الله آمن ما كان ركعتين وقال عبد الله بن مسعود صلينا خلف
____________________
(22/90)
رسول الله بمنى ركعتين وخلف أبى بكر ركعتين وخلف عمر ركعتين وقال عمر ليعلى بن أمية لما سأله عن الآية فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( صدقة تصدق الله بها عليكم فإقبلوا صدقته (
فأخبر النبى أن القصر فى سفر الأمن صدقة من الله ولم يقل إنها مخالفة لظاهر القرآن فنقول القصر الكامل المطلق هو قصر العدد وقصر الأركان فقصر العدد جعل الرباعية ركعتين وقصر الأركان هو قصر القيام والركوع والسجود كما فى صلاة الخوف الشديد وصلاة الخوف اليسير
فالسفر سبب قصر العدد والخوف سبب قصر الأركان فإذا إجتمع الأمران قصر العدد والأركان وإن إنفرد أحد السببين إنفرد قصره فقوله سبحانه { أن تقصروا من الصلاة } مطلق فى هذا القصر وهذا القصر وسنة رسول الله تفسر مجمل القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه وهى مفسرة له لا مخالفة لظاهره
ونظير هذا أيضا ما قرئ به فى قوله { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم } من أن المسح مطلق يدخل فيه المسح بإسالة وهو الغسل
____________________
(22/91)
والمسح بغير إسالة وهو المسح بلا غسل فالقرآن أمر بمسح مطلق والسنة تثبت أن المسح فى الرأس بغير إسالة والمسح على الرجلين بإساله فهي مفسرة له لا مخالفة لظاهره فينبغى تدبر القرآن ومعرفة وجوهه فإن أكثر ما يتوهم الناس أنه قد خولف ظاهره وليس كذلك وإنما له دلالات يعرفها من أعطاه الله فهما فى كتابه
ويستفيد بذلك خمسة فوائد
أحدها تقرير الأحكام بدلائل القرآن
والثانى بيان إتفاق الكتاب والسنة
والثالث بيان أن السنة مفسرة له لا منافية له
والرابع بيان المعانى والبيان التى فى القرآن
والخامس الإجماع موافق للكتاب والسنة والله أعلم
وسئل
عن قوله صلى الله عليه وسلم ( أفضل الأعمال عند الله الصلاة لوقتها ( فهل هو الأول أو الثانى
____________________
(22/92)
فأجاب
الوقت يعم أول الوقت وآخره والله يقبلها فى جميع الوقت لكن أوله أفضل من آخره إلا حيث إستثناه الشارع كالظهر فى شدة الحر وكالعشاء إذا لم يشق على المأمومين والله أعلم
وسئل رحمه الله
هل يشترط الليل إلى مطلع الشمس وكم أقل ما بين وقت المغرب ودخول العشاء من منازل القمر
فأجاب
أما وقت العشاء فهو مغيب الشفق الأحمر لكن فى البناء يحتاط حتى يغيب الأبيض فإنه قد تستتر الحمرة بالجدران فإذا غاب البياض تيقن مغيب الأحمر هذا مذهب الجمهور كمالك والشافعى وأحمد
وأما أبوحنيفة فالشفق عنده هو البياض وأهل الحساب يقولون أن وقتها منزلتان لكن هذا لا ينضبط فإن المنازل إنما تعرف بالكواكب بعضها قريب من المنزلة الحقيقية وبعضها بعيد من ذلك
وأيضا فوقت العشاء فى الطول والقصر يتبع النهار فيكون
____________________
(22/93)
فى الصيف أطول كما أن وقت الفجر يتبع الليل فيكون فى الشتاء أطول
ومن زعم أن حصة العشاء بقدر حصة الفجر فى الشتاء وفى الصيف فقد غلط غلطا حسيا بإتفاق الناس
وسبب غلطه أن الأنوار تتبع الأبخرة ففى الشتاء يكثر البخار بالليل فيظهر النور فيه أولا وفى الصيف تقل الأبخرة بالليل وفى الصيف يتكدر الجو بالنهار بالأبخرة ويصفو فى الشتاء لأن الشمس مزقت البخار والمطر لبد الغبار
وأيضا فإن النورين تابعان للشمس هذا يتقدمها وهذا يتأخر عنها فيجب أن يكونا تابعين للشمس فإذا كان فى الشتاء طال زمن مغيبها فيطول زمان الضوء التابع لها
وأما جعل هذه الحصة بقدر هذه الحصة وإن الفجر فى الصيف أطول والعشاء فى الشتاء أطول وجعل الفجر تابعا للنهار يطول فى الصيف ويقصر فى الشتاء وجعل الشفق تابعا لليل يقصر فى الصيف ويطول فى الشتاء فهذا قلب الحس والعقل والشرع ولا يتأخر ظهور السواد عن مغيب الشمس والله أعلم
____________________
(22/94)
وسئل
هل التغليس أفضل أم الأسفار
فأجاب
الحمد لله بل التغليس أفضل إذا لم يكن ثم سبب يقتضى التأخير فإن الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبى تبين أنه كان يغلس بصلاة الفجر كما فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت ( لقد كان رسول الله يصلى الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس ( والنبى لم يكن فى مسجده قناديل كما فى الصحيحين عن أبى برزة الأسلمى ( أن النبى كان يقرأ فى الفجر بما بين الستين آية إلى المائة وينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه وهذه القراءة هي نحو نصف جزء أو ثلث جزء وكان فراغه من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه وهكذا فى الصحيح من غير هذا الوجه أنه كان يغلس بالفجر وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده وكان بعده أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فنشأ فى دولتهم فقهاء رأوا
____________________
(22/95)
عادتهم فظنوا أن تأخير الفجر والعصر أفضل من تقديمهما وذلك غلط فى السنة
وإحتجوا بما رواه الترمذى عن النبى أنه قال ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ( وقد صححه الترمذى وهذا الحديث لو كان معارضا لم يقاومها لأن تلك فى الصحيحين وهى مشهورة مستفيضة والخبر الواحد إذا خالف المشهور المستفيض كان شاذا وقد يكون منسوخا لأن التغليس هو فعله حتى مات وفعل الخلفاء الراشدين بعده
وقد تأول الطحاوى من أصحاب أبى حنيفة وغيره كأبى حفص البرمكى من أصحاب أحمد وغيرهما قوله ( أسفروا بالفجر ( على أن المراد بالأسفار بالخروج منها أى أطيلوا صلاة الفجر حتى تخرجوا منها مسفرين
وقيل المراد بالأسفار التبين أى صلوها إذا تبين الفجر وإنكشف ووضح فإن فى الصحيحين عن بن مسعود قال ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة وصلاة المغرب بجمع وصلاة الفجر إنما صلاها يومئذ بعد طلوع الفجر هكذا فى صحيح مسلم عن جابر قال ( وصلى صلاة الفجر حين برق
____________________
(22/96)
الفجر ( وإنما مراد عبد الله بن مسعود أنه كان يؤخر الفجر عن أول طلوع الفجر حتى يتبين وينكشف ويظهر وذلك اليوم عجلها قبل
وبهذا تتفق معانى أحاديث النبى وأما إذا أخرها لسبب يقتضي التأخير مثل المتيمم عادته إنما يؤخرها ليصلي آخر الوقت بوضوء والمنفرد يؤخرها حتى يصلى آخر الوقت فى جماعة أو أن يقدر على الصلاة آخر الوقت قائما وفى أول الوقت لا يقدر إلا قاعدا ونحو ذلك مما يكون فيه فضيلة تزيد على الصلاة فى أول الوقت فالتأخير لذلك أفضل والله أعلم
وسئل
عن قوله ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر (
فأجاب
أما قوله ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ( فإنه حديث صحيح لكن قد إستفاض عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يغلس بالفجر حتى كانت تنصرف نساء المؤمنات متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس فلهذا فسروا ذلك الحديث بوجهين
____________________
(22/97)
أحدهما
أنه أراد الأسفار بالخروج منها أى أطيلوا القراءة حتى تخرجوا منها مسفرين فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بالستين آية إلى مائة آية نحو نصف حزب
والوجه الثانى أنه أراد أن يتبين الفجر ويظهر فلا يصلى مع غلبة الظن فإن النبى كان يصلى بعد التبين إلآ يوم مزدلفة فإنه قدمها ذلك اليوم على عادته والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل من اهل القبلة ترك الصلاة مدة سنتين ثم تاب بعد ذلك وواظب على أدائها فهل يجب عليه قضاء ما فاته منها أم لا
فأجاب
أما من ترك الصلاة أو فرضا من فرائضها فاما إن يكون قد ترك ذلك ناسيا له بعد علمه بوجوبه وإما أن يكون جاهلا بوجوبه وإما أن يكون لعذر يعتقد معه جواز التاخير وإما أن يتركه عالما عمدا
فأما الناسي للصلاة فعليه أن يصليها إذا ذكرها لسنة رسول
____________________
(22/98)
الله المستفيضة عنه بإتفاق الأئمة قال ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ( وقد إستفاض فى الصحيح وغيره ( أنه نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر فى السفر فصلوها بعد ما طلعت الشمس السنة والفريضة بأذان وإقامة (
وكذلك من نسي طهارة الحدث وصلى ناسيا فعليه أن يعيد الصلاة بطهارة بلا نزاع حتى لو كان الناسي إماما كان عليه أن يعيد الصلاة ولا إعادة على المأمومين إذا لم يعلموا عند جمهور العلماء كمالك والشافعى وأحمد فى المنصوص المشهور عنه كما جرى لعمر وعثمان رضي الله عنهما
وأما من نسي طهارة الخبث فإنه لا إعادة عليه فى مذهب مالك وأحمد فى أصح الروايتين عنه والشافعى فى أحد قوليه لأن هذا من باب فعل المنهى عنه وتلك من باب ترك المأمور به ومن فعل ما نهي عنه ناسيا فلا إثم عليه بالكتاب والسنة كما جاءت به السنة فيمن أكل فى رمضان ناسيا وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد وطرد ذلك فيمن تكلم فى الصلاة ناسيا ومن تطيب ولبس ناسيا كما هو مذهب الشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين عنه
____________________
(22/99)
وكذلك من فعل المحلوف عليه ناسيا كما هو أحد القولين عن الشافعى وأحمد
وهنا مسائل تنازع العلماء فيها مثل من نسي الماء فى رحله وصلى بالتيمم وأمثال ذلك ليس هذا موضع تفصيلها
وأما من ترك الصلاة جاهلا بوجوبها مثل من اسلم فى دار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه فهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال وجهان فى مذهب أحمد
أحدها عليه الإعادة مطلقا وهو قول الشافعي وأحد الوجهين فى مذهب أحمد
والثانى
عليه الإعادة إذا تركها بدار الإسلام دون دار الحرب وهو مذهب أبى حنيفة لأن دار الحرب دار جهل يعذر فيه بخلاف دار الإسلام
والثالث
لا إعادة عليه مطلقا وهو الوجه الثانى فى مذهب أحمد وغيره
واصل هذين الوجهين أن حكم الشارع هل يثبت فى حق
____________________
(22/100)
المكلف قبل بلوغ الخطاب له فيه ثلاثة أقوال فى مذهب أحمد وغيره
أحدها يثبت مطلقا
والثانى لا يثبت مطلقا و
الثالث يثبت حكم الخطاب المبتدأ دون الخطاب الناسخ كقضية أهل قباء وكالنزاع المعروف فى الوكيل إذا عزل فهل يثبت حكم العزل فى حقه قبل العلم
وعلى هذا لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النص مثل أن يأكل لحم الإبل ولا يتوضأ ثم يبلغه النص ويتبين له وجوب الوضوء أو يصلي فى أعطان الإبل ثم يبلغه ويتبين له النص فهل عليه إعادة ما مضى فيه قولان هما روايتان عن أحمد
ونظيره أن يمس ذكره ويصلى ثم يتبين له وجوب الوضوء من مس الذكر
والصحيح فى جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان ولأنه قال وما كنا معذبين حتى نبعث
____________________
(22/101)
رسولا فمن لم يبلغه أمر الرسول فى شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه ولهذا لم يأمر النبى عمر وعمارا لما أجنبا فلم يصل عمر وصلى عمار بالتمرغ أن يعيد واحد منهما وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب ويمكث أياما لا يصلى وكذلك لم يأمر من أكل من الصحابة حتى يتبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء كما لم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ لهم بالقضاء
ومن هذا الباب ( المستحاضة ( إذا مكثت مدة لا تصلي لإعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها ففى وجوب القضاء عليها قولان
أحدهما لا إعادة عليها كما نقل عن مالك وغيره لأن المستحاضة التى قالت للنبى ( إنى حضت حيضة شديدة كبيرة منكرة منعتنى الصلاة والصيام ( أمرها بما يجب فى المستقبل ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضى
وقد ثبت عندي بالنقل المتواتر أن فى النساء والرجال بالبوادى وغير البوادى ومن يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة بل إذا قيل للمرأة صلى تقول حتى أكبر وأصير عجوزة ظانه أنه لا يخاطب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة كالعجوز ونحوها وفى أتباع الشيوخ
____________________
(22/102)
طوائف كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلوات سواء قيل كانوا كفارا أو كانوا معذورين بالجهل
وكذلك من كان منافقا زنديقا يظهر الإسلام ويبطن خلافه وهو لا يصلي أو يصلى أحيانا بلا وضوء أو لا يعتقد وجوب الصلاة فإنه إذا تاب من نفاقه وصلى فإنه لا قضاء عليه عند جمهور العلماء والمرتد الذى كان يعتقد وجوب الصلاة ثم إرتد عن الإسلام ثم عاد لا يجب عليه قضاء ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء كمالك وأبى حنيفة وأحمد فى ظاهر مذهبه فإن المرتدين الذين إرتدوا على عهد النبى صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سعد بن أبى سرح وغيره مكثوا على الكفر مدة ثم أسلموا ولم يأمر أحدا منهم بقضاء ما تركوه وكذلك المرتدون على عهد أبى بكر لم يؤمروا بقضاء صلاة ولا غيرها
واما من كان عالما بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها الموقت فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة وذهب طائفة منهم إبن حزم وغيره إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمدا والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(22/103)
وسئل رحمه الله
عن رجل عليه صلوات كثيرة فاتته هل يصليها بسننها أم الفريضة وحدها وهل تقضى فى سائر الأوقات من ليل أو نهار
فأجاب المسارعة إلى قضاء الفوائت الكثيرة أولى من الإشتغال عنها بالنوافل وأما مع قلة الفوائت فقضاء السنن معها حسن فإن النبى لما نام هو وأصحابه عن الصلاة صلاة الفجر عام حنين قضوا السنة والفريضة ولما فاتته الصلاة يوم الخندق قضى الفرائض بلا سنن والفوائت المفروضة تقضى فى جميع الأوقات فإن النبى قال ( من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى ( والله أعلم
وسئل
أيهما أفضل صلاة النافلة أم القضاء
فأجاب
إذا كان عليه قضاء واجب فالاشتغال به أولى من الإشتغال بالنوافل التى تشغل عنه
____________________
(22/104)
وسئل شيخ الإسلام
عن رجل صلى ركعتين من فرض الظهر فسلم ثم لم يذكرها إلا وهو فى فرض العصر فى ركعتين منها فى التحيات فماذا يصنع
فأجاب
إن كان مأموما فإنه يتم العصر ثم يقضى الظهر وفى إعادة العصر قولان للعلماء فإن هذه المسألة مبنية على أن صلاة الظهر بطلت بطول الفصل والشروع فى غيرها فيكون بمنزلة من فاتته الظهر ومن فاتته الظهر
وحضرت جماعة العصر فإنه يصلى العصر ثم يصلى الظهر ثم هل يعيد العصر فيه قولان للصحابة والعلماء
أحدهما يعيدها وهو مذهب أبى حنيفة ومالك والمشهور فى مذهب أحمد
والثانى لا يعيد وهو قول إبن عباس ومذهب الشافعى وإختيار جدى ومتى ذكر الفائتة فى أثناء الصلاة كان كما لو ذكر قبل الشروع فيها ولو لم يذكر الفائتة حتى فرغت الحاضرة فإن الحاضرة تجزئة عند جمهور العلماء كأبى حنيفة والشافعى وأحمد وأما مالك فغالب ظنى أن مذهبه أنها لا تصح والله أعلم
____________________
(22/105)
وسئل رحمه الله
عن رجل فاتته صلاة العصر فجاء إلى المسجد فوجد المغرب قد أقيمت فهل يصلى الفائتة قبل المغرب أم لا
فأجاب
الحمد لله رب العالمين بل يصلى المغرب مع الإمام ثم يصلى العصر بإتفاق الأئمة ولكن هل يعيد المغرب فيه قولان
أحدهما يعيد وهو قول إبن عمر ومالك وأبى حنيفة وأحمد فى المشهور عنه
والثانى لا يعيد المغرب وهو قول بن عباس وقول الشافعى والقول الآخر فى مذهب أحمد والثانى أصح فإن الله لم يوجب على العبد أن يصلى الصلاة مرتين إذا إتقى الله ما إستطاع والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل دخل الجامع والخطيب يخطب وهو لا يسمع كلام
____________________
(22/106)
الخطيب فذكر أن عليه قضاء صلاة فقضاها فى ذلك الوقت فهل يجوز ذلك أم لا فأجاب
الحمد لله إذا ذكر أن عليه فائتة وهو فى الخطبة يسمع الخطيب أولا يسمعه فله أن يقضيها فى ذلك الوقت إذا أمكنه القضاء وإدراك الجمعة بل ذلك واجب عليه عند جمهور العلماء لأن النهى عن الصلاة وقت الخطبة لا يتناول النهى عن الفريضه والفائته مفروضه فى اصح قولى العلماء بل لا يتناول تحية المسجد فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلى ركعتين (
وايضا فإن فعل الفائتة فى وقت النهى ثابت فى الصحيح لقوله من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر
وقد تنازع العلماء فيما إذا ذكر الفائتة عند قيامه إلى الصلاة هل يبدأ بالفائتة وإن فاتته الجمعة كما يقوله أبو حنيفة أو يصلي الجمعة ثم يصلى الفائتة كما يقول الشافعى واحمد وغيرهما ثم هل عليه إعادة الجمعة ظهرا على قولين هما روايتان عن أحمد
واصل هذا أن الترتيب فى قضاء الفوائت واجب فى الصلوات
____________________
(22/107)
القليلة عند الجمهور كأبى حنيفة ومالك وأحمد بل يجب عنده فى إحدى الروايتين فى القليلة والكثيرة وبينهم نزاع فى حد القليل وكذلك يجب قضاء الفوائت على الفور عندهم وكذلك عند الشافعى إذا تركها عمدا فى الصحيح عندهم بخلاف الناسى
واحتج الجمهور بقول النبى ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ( وفى لفظ فإن ذلك وقتها ( وإختلف الموجبون للترتيب هل يسقط بضيق الوقت على قولين هما روايتان عن أحمد لكن أشهرهما عنه أنه يسقط الترتيب كقول أبى حنيفة وأصحابه والأخرى لا يسقط كقول مالك وكذلك هل يسقط بالنسيان فيه نزاع نحو هذا
وإذا كانت المسارعة إلى قضاء الفائتة وتقديمها على الحاضرة بهذه المزية كان فعل ذلك فى مثل هذا الوقت هو الواجب وأما الشافعى فإذا كان يجوز تحية المسجد فى هذا الوقت فالفائتة أولى بالجواز والله أعلم
____________________
(22/108)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
فصل
فى ( اللباس فى الصلاة ( وهو أخذ الزينة عند كل مسجد الذى يسمية الفقهاء & باب ستر العورة فى الصلاة فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذى يستر فى الصلاة هو الذى يستر عن أعين الناظرين وهو العورة وأخذ ما يستر فى الصلاة من قوله { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن } ثم قال { ولا يبدين زينتهن } يعنى الباطنة إلا لبعولتهن الآية
فقال يجوز لها فى الصلاة أن تبدى الزينة الظاهرة دون الباطنة والسلف قد تنازعوا فى الزينة الظاهرة على قولين فقال بن مسعود ومن وافقه هي الثياب وقال بن عباس ومن وافقه هي فى الوجه واليدين مثل الكحل والخاتم
وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء فى النظر إلى المرأة الأجنبية فقيل يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى وقول فى مذهب أحمد
____________________
(22/109)
وقيل لا يجوز وهو ظاهر مذهب أحمد فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها وهو قول مالك
وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوى المحارم وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } حجب النساء عن الرجال وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش فأرخى الستر ومنع النساء أن ينظرن ولما إصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين وإلا فهي مما ملكت يمينه فحجبها
فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن و ( الجلباب ( هو الملاءة وهو الذى يسميه إبن مسعود وغيره الرداء وتسميه العامة الإزار وهو الإزار الكبير الذى يغطى رأسها وسائر بدنها وقد حكى أبوعبيد وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا
____________________
(22/110)
عينها ومن جنسه النقاب فكن النساء ينتقبن وفى الصحيح أن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب كان الوجه واليدان من الزينة التى أمرت ألا تظهرها للأجانب فما بقى يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة فإبن مسعود ذكر آخر الأمرين وإبن عباس ذكر أول الأمرين
وعلى هذا فقوله { أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن } يدل على أن لها أن تبدى الزينة الباطنة لمملوكها وفيه قولان قيل المراد الإماء والإماء الكتابيات كما قاله بن المسيب ورجحه أحمد وغيره وقيل هو المملوك الرجل كما قاله بن عباس وغيره وهو الرواية الأخرى عن أحمد
فهذا يقتضى جواز نظر العبد إلى مولاته وقد جاءت بذلك أحاديث وهذا لأجل الحاجة لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد والمعامل والخاطب فإذا جاز نظر أولئك فنظر العبد أولى وليس فى هذا مايوجب أن يكون محرما يسافر بها كغير أولى الأربة فإنهم يجوز لهم النظر وليسوا محارم يسافرون بها فليس كل من جاز له النظر جاز له السفر بها ولا الخلوة بها بل عبدها ينظر إليها للحاجة وإن كان لا يخلو بها ولا يسافر بها
____________________
(22/111)
فإنه لم يدخل فى قوله ( لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذى محرم ( فإنه يجوز له أن يتزوجها إذا عتق كما يجوز لزوج أختها أن يتزوجها إذا طلق أختها والمحرم من تحرم عليه على التأبيد ولهذا قال إبن عمر سفر المرأة مع عبدها ضيعة
فالآية رخصت فى إبداء الزينة لذوى المحارم وغيرهم وحديث السفر ليس فيه إلا ذوى المحارم وذكر فى الآية نساءهن أو ما ملكت أيمانهن وغير أولى الأربة وهى لا تسافر معهم وقوله { أو نسائهن } قال إحتراز عن النساء المشركات فلا تكون المشركة قابلة للمسلمة ولا تدخل معهن الحمام لكن قد كن النسوة اليهوديات يدخلن على عائشة وغيرها فيرين وجهها ويديها بخلاف الرجال فيكون هذا فى الزينة الظاهرة فى حق النساء الذميات وليس للذميات أن يطلعن على الزينة الباطنة ويكون الظهور والبطون بحسب ما يجوز لها إظهاره ولهذا كان أقاربها تبدى لهن الباطنة وللزوج خاصة ليست للأقارب
وقوله { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } دليل على أنها تغطى العنق فيكون من الباطن لا الظاهر ما فيه من القلادة وغيرها
____________________
(22/112)
فصل
فهذا ستر النساء عن الرجال وستر الرجال عن الرجال والنساء عن النساء فى العورة الخاصة كما قال صلى الله عليه وسلم ( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ( وكما قال ( إحفظ عورتك إلا عن زوجتك أو ما ملكت يمينك ( قلت فإذا كان القوم بعضهم فى بعض قال ( إن إستطعت أن لا يرينها أحد فلا يراها قلت فإذا كان أحدنا خاليا قال فالله أحق أن يستحيى منه ( ونهى أن يفضى الرجل إلى الرجل فى ثوب واحد والمرأة إلى المرأة فى ثوب واحد وقال عن الأولاد ( مروهم بالصلاة لسبع وإضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم فى المضاجع ( فنهى عن النظر واللمس لعورة النظير لما فى ذلك من القبح والفحش
وأما الرجال مع النساء فلأجل شهوة النكاح فهذان نوعان وفى الصلاة نوع ثالث فإن المرأة لوصلت وحدها كانت مأمورة بالإختمار وفى غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها فى بيتها فأخذ الزينة فى الصلاة لحق الله فليس لأحد أن يطوف بالبيت عريانا ولو
____________________
(22/113)
كان وحده بالليل ولا يصلى عريانا ولو كان وحده فعلم أن أخذ الزينة فى الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس فهذا نوع وهذا نوع
وحينئذ فقد يستر المصلى فى الصلاة ما يجوز إبداؤه فى غير الصلاة وقد يبدى فى الصلاة ما يستره عن الرجال
فالأول مثل المنكبين فإن النبى نهى أن يصلى الرجل فى الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء فهذا لحق الصلاة ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة وكذلك المرأ ة الحرة تختمر فى الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ( وهى لا تختمر عند زوجها ولا عند ذوى محارمها فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء ولا يجوز لها فى الصلاة أن تكشف رأسها لهؤلاء ولا لغيرهم
وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان ليس لها أن تبدى ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدى إلا الثياب وأما ستر ذلك فى الصلاة فلا يجب بإتفاق المسلمين بل يجوز لها إبداؤهما فى الصلاة عند جمهور العلماء كأبى حنيفة والشافعى وغيرهما وهو إحدى الروايتين عن أحمد فكذلك القدم يجوز إبداؤه عند أبى حنيفة وهو الأقوى فإن عائشة جعلته من الزينة الظاهرة قالت { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قالت ( الفتخ ( حلق
____________________
(22/114)
من فضة تكون فى أصابع الرجلين رواه إبن أبى حاتم فهذا دليل على أن النساء كن يظهرن أقدامهن أولا كما يظهرن الوجه واليدين كن يرخين ذيولهن فهي إذا مشت قد يظهر قدمها ولم يكن يمشين فى خفاف وأحذية وتغطية هذا فى الصلاة فيه حرج عظيم وأم سلمة قالت ( تصلى المرأة فى ثوب سابغ يغطى ظهر قدميها ( فهي إذا سجدت قد يبدو باطن القدم
وبالجملة قد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها فى الصلاة أن تلبس الجلباب الذى يسترها إذا كانت فى بيتها وإنما ذلك إذا خرجت وحينئذ فتصلى فى بيتها وإن رؤى وجهها ويداها وقدماها كما كن يمشين أولا قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهن فليست العورة فى الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طردا ولا عكسا
وبن مسعود رضى الله عنه لما قال ( الزينة الظاهرة هي الثياب لم يقل إنها كلها عورة حتى ظفرها بل هذا قول أحمد يعنى أنها تشترط فى الصلاة فإن الفقهاء يسمون ذلك ( باب ستر العورة ( وليس هذا من ألفاظ الرسول ولا فى الكتاب والسنة أن ما يستره المصلى فهو عورة بل قال تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد } ونهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يطوف بالبيت عريانا فالصلاة أولى وسئل عن الصلاة فى الثوب الواحد فقال ( أو لكلكم ثوبان
____________________
(22/115)
وقال فى الثوب الواحد ( إن كان واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فإتزر به ( ونهى أن يصلى الرجل فى ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء (
فهذا دليل على أنه يؤمر فى الصلاة بستر العورة الفخذ وغيره وإن جوزنا للرجل النظر إلى ذلك فإذا قلنا على احد القولين وهو إحدى الروايتين عن أحمد أن العورة هي السوأتان وأن الفخذ ليست بعورة فهذا فى جواز نظر الرجل إليها ليس هو فى الصلاة والطواف فلا يجوز أن يصلى الرجل مكشوف الفخذين سواء قيل هما عورة أو لا ولا يطوف عريانا بل عليه أن يصلى فى ثوب واحد ولابد من ذلك إن كان ضيقا اتزر به وإن كان واسعا التحف به كما أنه لو صلى وحده فى بيت كان عليه تغطية ذلك بإتفاق العلماء
وأما صلاة الرجل بادى الفخذين مع القدرة على الإزار فهذا لا يجوز ولا ينبغى أن يكون فى ذلك خلاف ومن بنى ذلك على الروايتين فى العورة كما فعله طائفة فقد غلطوا ولم يقل أحمد ولا غيره أن المصلى يصلى على هذه الحال كيف وأحمد يأمره بستر المنكبين فكيف يبيح له كشف الفخذ فهذا هذا
____________________
(22/116)
وقد إختلف فى وجوب ستر العورة إذا كان الرجل خاليا ولم يختلف فى أنه فى الصلاة لا بد من اللباس لا تجوز الصلاة عريانا مع قدرته على اللباس بإتفاق العلماء ولهذا جوز أحمد وغيره للعراة إن يصلوا قعودا ويكون إمامهم وسطهم بخلاف خارج الصلاة وهذه الحرمة لا لأجل النظر وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده لما قال قلت يا رسول الله فإذا كان أحدنا خاليا قال ( فالله أحق أن يستحيى منه من الناس ( فإذا كان هذا خارج الصلاة فهو فى الصلاة أحق أن يستحيى منه فتؤخذ الزينة لمناجاته سبحانه
ولهذا قال بن عمر لغلامه نافع لما رآه يصلى حاسرا أرأيت لو خرجت إلى الناس كنت تخرج هكذا قال لا قال فالله أحق من يتجمل له وفى الحديث الصحيح لما قيل له الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا فقال ( إن الله جميل يحب الجمال (
وهذا كما أمر المصلى بالطهارة والنظافة والطيب فقد أمر النبى أن تتخذ المساجد فى البيوت وتنظف وتطيب وعلى هذا فيستتر فى الصلاة أبلغ مما يستتر الرجل من الرجل والمرأة من المرأة ولهذا أمرت المرأة أن تختمر فى الصلاة وأما وجهها
____________________
(22/117)
ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب لم تنه عن إبدائه للنساء ولا لذوى المحارم
فعلم أنه ليس من جنس عورة الرجل مع الرجل والمرأة مع المرأة التى نهى عنها لأجل الفحش وقبح كشف العورة بل هذا من مقدمات الفاحشة فكان النهى عن إبدائها نهيا عن مقدمات الفاحشة كما قال فى الآية { ذلكم أزكى لكم } وقال فى آية الحجاب { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } فنهى عن هذا سدا للذريعة لا أنه عورة مطلقة لا فى الصلاة ولا غيرها فهذا هذا
وأمر المرأة فى الصلاة بتغطية يديها بعيد جدا واليدان يسجدان كما يسجد الوجه والنساء على عهد النبى إنما كان لهن قمص وكن يصنعن الصنائع والقمص عليهن فتبدى المرأة يديها إذا عجنت وطحنت وخبزت ولو كان ستر اليدين فى الصلاة واجبا لبينه النبى وكذلك القدمان وإنما أمر بالخمار فقط مع القميص فكن يصلين بقمصهن وخمرهن وأما الثوب التى كانت المرأة ترخيه وسألت عن ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال ( شبرا ( فقلن إذن تبدو سوقهن فقال ( ذراع لا يزدن عليه ( وقول عمر بن أبى ربيعة
____________________
(22/118)
** كتب القتل والقتال علينا **
وعلى الغانيات جر الذيول ** فهذا كان إذا خرجن من البيوت ولهذا سئل عن المرأة تجر ذيلها على المكان القذر فقال ( يطهره ما بعده ( وأما فى نفس البيت فلم تكن تلبس ذلك كما أن الخفاف إتخذها النساء بعد ذلك لستر السوق إذا خرجن وهن لا يلبسنها فى البيوت ولهذا قلن إذن تبدوا سوقهن فكان المقصود تغطية الساق لأن الثوب إذا كان فوق الكعبين بدا الساق عند المشى
وقد روى ( اعروا النساء يلزمن الحجال ( يعنى إذا لم يكن لها ما تلبسه فى الخروج لزمت البيت وكن نساء المسلمين يصلين فى بيوتهن وقد قال النبى ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن ( ولم يؤمرن مع القمص إلا بالخمر لم تؤمر بسراويل لأن القميص يغنى عنه ولم تؤمر بما يغطى رجليها لاخف ولا جورب ولا بما يغطى يديها لا بقفازين ولا غير ذلك فدل على أنه لا يجب عليها فى الصلاة ستر ذلك إذا لم يكن عندها رجال أجانب وقد روى ( أن الملائكة لا تنظر إلى الزينة الباطنة فإذا وضعت خمارها وقميصها لم ينظر إليها ( وروى فى ذلك حديث عن خديجة
____________________
(22/119)
فهذا القدر للقميص والخمار هو المأمور به لحق الصلاة كما يؤمر الرجل إذا صلى فى ثوب واسع أن يلتحف به فيغطى عورته ومنكبيه فالمنكبان فى حقه كالرأس فى حق المرأة لأنه يصلى فى قميص أو ما يقوم مقام القميص وهو فى الإحرام لا يلبس على بدنه ما يقدر له كالقميص والجبة كما أن المرأة لا تنتقب ولا تلبس القفازين وأما رأسه فلا يخمره ووجه المرأة فيه قولان فى مذهب أحمد وغيره قيل أنه كرأس الرجل فلا يغطى وقيل إنه كيديه فلا تغطى بالنقاب والبرقع ونحو ذلك مما صنع على قدره وهذا هو الصحيح فإن النبى لم ينه إلا عن القفازين والنقاب
وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير وضع ما يجافيها عن الوجه فعلم أن وجهها كيدى الرجل ويديها وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم فلها أن تغطى وجهها ويديها لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو كما أن الرجل لا يلبس السراويل ويلبس الإزار والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(22/120)
وسئل
عن الصلاة فى النعل ونحوه
فأجاب
أما الصلاة فى النعل ونحوه مثل الجمجم والمداس والزربول وغير ذلك فلا يكره بل هو مستحب لما ثبت فى الصحيح عن النبى أنه كان يصلى فى نعليه وفى السنن عنه أنه قال ( ان اليهود لا يصلون فى نعالهم فخالفوهم ( فأمر بالصلاة فى النعال مخالفة لليهود
وإذا علمت طهارتها لم تكره الصلاة فيها بإتفاق المسلمين وأما إذا تيقن نجاستها فلا يصلى فيها حتى تطهر
لكن الصحيح انه إذا دلك النعل بالأرض طهر بذلك كما جاءت به السنة سواء كانت النجاسة عذرة أو غير عذرة فإن أسفل النعل محل تكرر ملاقاة النجاسة له فهو بمنزلة السبيلين فلما كان إزالته عنها بالحجارة ثابتا بالسنة المتواترة فكذلك هذا
____________________
(22/121)
وإذا شك فى نجاسة أسفل الخف لم تكره الصلاة فيه ولو تيقن بعد الصلاة أنه كان نجسا فلا إعادة عليه فى الصحيح وكذلك غيره كالبدن والثياب والأرض
وسئل
عن لبس القباء فى الصلاة إذا أراد أن يدخل يديه فى أكمامه هل يكره أم لا
فأجاب
الحمد لله لا بأس بذلك فإن الفقهاء ذكروا جواز ذلك وليس هو مثل السدل المكروه لما فيه من مشابهة اليهود فإن هذه اللبسة ليست من ملابس اليهود والله أعلم
وسئل
عن الفراء من جلود الوحوش هل تجوز الصلاة فيها
فأجاب
الحمد لله أما جلد الأرنب فتجوز الصلاة فيه بلا ريب وأما الثعلب ففيه نزاع والأظهر جواز الصلاة فيه وجلد الضبع وكذلك كل جلد غير جلود السباع التى نهى النبى عن لبسها
____________________
(22/122)
وسئل
عن المرأة إذا ظهر شيء من شعرها فى الصلاة هل تبطل صلاتها أم لا
فأجاب
إذا إنكشف شيء يسير من شعرها وبدنها لم يكن عليها الإعادة عند أكثر العلماء وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد
وإن إنكشف شيء كثير أعادت الصلاة فى الوقت عند عامة العلماء الأئمة الأربعة وغيرهم والله أعلم
وسئل
عن المرأة إذا صلت وظاهر قدمها مكشوف هل تصح صلاتها
فأجاب
هذا فيه نزاع بين العلماء ومذهب أبى حنيفة صلاتها جائزة وهو أحد القولين
____________________
(22/123)
وقال رحمه الله
فصل
فى ( محبة الجمال ( ثبت فى صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يدخل النار أحد فى قلبه مثقال ذرة من إيمان ولا يدخل الجنة أحد فى قلبه مثقال حبة خردل من كبر ( وفى رواية ( لايدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ( فقال رجل يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا فقال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس (
فقوله ( إن الله جميل يحب الجمال ( فقد أدرج فيه حسن الثياب التى هي المسؤول عنها فعلم أن الله يحب الجميل من الناس ويدخل فى عمومه بطريق الفحوى الجميل من كل شيء وهذا كقوله فى الحديث الذى رواه الترمذى ( إن الله نظيف يحب النظافة (
وقد ثبت عنه فى الصحيح ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا
____________________
(22/124)
وهذا مما يستدل به على استحباب التجمل فى الجمع والأعياد كما فى الصحيحين ( أن عمر بن الخطاب رأى حلة تباع فى السوق فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه تلبسها فقال إنما يلبس هذه من لاخلاق له فى الآخرة ( وهذا يوافقه فى حسن الثياب ما فى السنن عن أبى الأحوص الجشمى قال ( رآني النبى وعلى أطمار فقال هل لك من مال قلت نعم قال من أى المال قلت من كل ما آتانى الله من الإبل والشاء قال فلتر نعمة الله عليك وكرامته عليك (
وفيها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله ( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ( لكن هذا لظهور نعمة الله وما فى ذلك من شكره وأنه يحب أن يشكر وذلك لمحبة الجمال وهذا الحديث قد ضل قوم بما تأولوه رأوه معارضا
وكل مصنوع الرب جميل لقول الله تعالى { الذي أحسن كل شيء خلقه } فيحب كل شيء وقد يستدلون بقول بعض المشائخ المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب
____________________
(22/125)
والمخلوقات كلها مراده له وهؤلاء يصرح أحدهم بإطلاق الجمال فى كل شيء واقل ما يصيب هؤلاء أنهم يتركون الغيرة لله والنهى عن المنكر والبغض فى الله والجهاد فى سبيله وإقامة حدوده وهم فى ذلك متناقضون إذ لا يتمكنون من الرضا بكل موجود فإن المنكرات هي أمور مضرة لهم ولغيرهم فيبقى أحدهم مع طبعه وذوقه وينسلخون عن دين الله وربما دخل أحدهم فى الإتحاد والحلول المطلق وفيهم من يخص الحلول والإتحاد ببعض المخلوقات كالمسيح أو علي أو غيرهما أو المشائخ والملوك والمردان
فيقولون بحلوله فى الصور الجميلة ويعبدونها ومنهم من لا يرى ذلك بل يتدين بحب الصور الجميلة من النساء الأجانب والمردان وغير ذلك ويرى هذا من الجمال الذى يحبه الله فيحبه هو ويلبس المحبة الطبيعية المحرمة بالمحبة الدينية ويجعل ما حرمه الله مما يقرب إليه { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء }
والآخرون قالوا قد ثبت فى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ( وقد قال تعالى عن المنافقين { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } وقال تعالى { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا }
____________________
(22/126)
والأثاث المال من اللباس ونحوه والرئى المنظر فأخبر أن الذين أهلكهم قبلهم كانوا أحسن صورا وأحسن أثاثا وأموالا ليبين أن ذلك لا ينفع عنده ولا يعبأ به وقال النبى ( لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ( وفى السنن عنه أنه قال ( البذاذة من الإيمان (
وأيضا فقد حرم علينا من لباس الحرير والذهب وآنية الذهب والفضة ما هو من أعظم الجمال فى الدنيا وحرم الله الفخر والخيلاء واللباس الذى فيه الفخر والخيلاء كإطالة الثياب حتى ثبت فى الصحيح عنه أنه قال ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ( ومثل ذلك ما فى الصحيح عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا ( وفى الصحيح عن بن عمر أن النبى قال ( بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل فى الأرض إلى يوم القيامة
وقال تعالى { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله } فأخبر أن لباس التقوى خير من ذلك وقال تعالى { أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } وقال تعالى فى حق قارون { فخرج على قومه في زينته }
____________________
(22/127)
قالوا بثياب الأرجوان ولهذا ثبت عن عبد الله إبن عمرو قال ( رأى رسول الله على ثوبين معصفرين فقال إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما قلت أغسلهما قال أحرقهما ( ولهذا كره العلماء الأحمر المشبع حمرة كما جاء النهى عن الميثرة الحمراء وقال عمر بن الخطاب دعوا هذه البراقات للنساء والآثار فى هذا ونحوه كثيرة وقال تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } إلى قوله { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } وقال النبى فى الحديث الصحيح عن جرير بن عبد الله قال ( سألت رسول الله عن نظرة الفجأة فقال أصرف بصرك ( وفى السنن أنه قال لعلى يا على لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة ( وقد قال تعالى { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } وقال { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين } وقال { زين للناس حب الشهوات من النساء } إلى قوله { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } وقد قال تعالى مع ذمه لما ذمه من
____________________
(22/128)
هذه الزينة قل { من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة }
فنقول اعلم أن ما يصفه النبى من محبته للأجناس المحبوبة وما يبغضه من ذلك هو مثل ما يأمر به من الأفعال وينهى عنه من ذلك فإن الحب والبغض هما اصل الأمر والنهى وذلك نظير ما يعده على الأعمال الحسنة من الثواب ويتوعد به على الأعمال السيئة من العقاب فأمره ونهيه ووعده ووعيده وحبه وبغضه وثوابه وعقابه كل ذلك من
وقد بسطنا الكلام على ما يتعلق بهذه القاعدة فى غير موضع لتعلقها بأصول الدين وفروعه فإن من أكبر شعبها ( مسألة الأسماء والأحكام ( فى فساق أهل الملة وهل يجتمع فى حق الشخص الواحد الثواب والعقاب كما يقوله أهل السنة والجماعة أم لا يجتمع ذلك كما يقوله جمهور الخوارج والمعتزلة وهل يكون الشيء الواحد محبوبا من وجه مبغوضا من وجه محمودا من وجه مذموما من وجه وقد تنازع فى ذلك أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم والتعارض بين النصوص إنما هو لتعارض المقتضى للحمد والذم من الصفات
____________________
(22/129)
القائمة بذلك ولهذا كان هذا الجنس موجبا للفرقة والفتنة
فأول مسألة فرقت بين الأمة مسألة الفاسق الملى فأدرجته الخوارج فى نصوص الوعيد فخلدوه فى النار لكن لم يحكموا بكفره فلو كان شيء خيرا محضا لم يوجب فرقة ولو كان شرا محضا لم يخف أمره لكن لإجتماع الأمرين فيه أوجب الفتنة
وكذلك ( مسألة القدر ( التى هي من جملة فروع هذا الأصل فإنه إجتمع فى الأفعال الواقعة التى نهى الله عنها أنها مرادة له لكونها من الموجودات وأنها غير محبوبة له بل ممقوتة مبغوضة فأثبتوا وجود الكائنات بدون مشيئته ولهذا لما قال غيلان القدرى لربيعة بن أبى عبد الرحمن يا ربيعة نشدتك الله أترى الله يحب أن يعصى فقال له ربيعة أفترى الله يعصى قسرا فكأنه القمه حجرا يقول له نزهته عن محبة المعاصى فسلبته الإرادة والقدرة وجعلته مقهورا مقسورا
وقال من عارض القدرية بل كل ما أراده فقد أحبه ورضيه ولزمهم أن يكون الكفر والفسوق والعصيان محبوبا لله مرضيا
وقالوا أيضا يأمر بما لا يريد وكل ما أمر به من الحسنات
____________________
(22/130)
فإنه لم يرده وربما قالوا ولم يحبه ولم يرضه إلا إذا وجد قالوا ولكن أمر به وطلبه
فقيل لهم هل يكون طلب وإرادة وإستدعاء بلا إرادة ولا محبة ولا رضى هذا جمع بين النقيضين فتحيروا فأولئك سلبوا الرب خلقه وقدرته وإرادته العامة وهؤلاء سلبوه محبته ورضاه وإرادته الدينية وما تضمنه أمره ونهيه من ذلك فكما أن الأولين لم يثبتوا أن الشخص الواحد يكون مثابا معاقبا بل إما مثابا وإما معاقبا فهؤلاء لم يثبتوا ان الفعل الواحد يكون مرادا من وجه دون وجه مرادا غير محبوب بل إما مراد محبوب وإما غير مراد ولا محبوب
وكما تفرقوا فى صفات الخالق تفرقوا فى صفات المخلوق فأولئك لم يثبتوا له إلا قدرة واحدة تكون قبل الفعل وهؤلاء لم يثبتوا له إلا قدرة واحدة تكون مع الفعل أولئك نفوا القدرة الكونية التى بها يكون الفعل وهؤلاء نفواالقدرة الدينية التي بها يأمر الله العبد وينهاه وهذا من أصول تفرقهم في مسألة تكليف ما لا يطاق
وانقسموا إلى قدرية مجوسية تثبت الأمر والنهى وتنفى القضاء والقدر وإلى قدرية مشركية شر منهم تثبت القضاء والقدر وتكذب بالأمر والنهى أو ببعض ذلك وإلى قدرية إبليسية تصدق بالأمر لكن ترى ذلك تناقضا مخالفا للحق والحكمة وهذا
____________________
(22/131)
شأن عامة ما تتعارض فيه الأسباب والدلائل
تجد فريقا يقولون بهذا دون هذا وفريقا بالعكس أو الأمرين فإعتقدوا تناقضهما فصاروا متحيرين معرضين عن التصديق بهما جميعا ومتناقضين مع هذا تارة ومع هذا تارة وهذا تجده فى مسائل الكلام والإعتقادات ومسائل الإرادة والعبادات كمسألة السماع الصوتى ومسألة الكلام ومسائل الصفات وكلام الله تعالى وغير ذلك من المسائل
وأصل هذا كله هو العدل بالتسوية بين المتماثلين فإن الله يقول { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } وقد بسطنا القول فى ذلك وبينا أن العدل جماع الدين والحق والخير كله فى غير موضع والعدل الحقيقى قد يكون متعذرا أو متعسرا إما علمه وإما العمل به لكون التماثل من كل وجه غير متمكن او غير معلوم فيكون الواجب فى مثل ذلك ما كان اشبه بالعدل وأقرب إليه وهى الطريقة المثلى ولهذا قال سبحانه { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها }
____________________
(22/132)
وسئل (
عن المتنزه عن الأقمشة الثمينة مثل الحرير والكتان المتغالى فى تحسينه وما ناسبها هل فى ترك ذلك اجر أم لا أفتونا مأجورين
فأجاب
الحمد لله رب العالمين أما ما حرمه الله ورسوله كالحرير فإنه يثاب على تركه كما يعاقب على فعله وقد ثبت عن النبى أنه قال ( من يلبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة ( وقال عن الحرير والذهب ( هذا حرام على ذكور امتى حل لإناثها (
وأما المباحات فيثاب على ترك فضولها وهو مالا يحتاج إليه لمصلحة دينه كما ان الإسراف فى المباحات منهى عنه كما قال تعالى { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } وقال تعالى عن اصحاب النار ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم ( وقال تعالى { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } وقال تعالى { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا }
____________________
(22/133)
والإسراف فى المباحات هو مجاوزة الحد وهو من العدوان المحرم وترك فضولها هو من الزهد المباح وأما الإمتناع من فعل المباحات مطلقا كالذى يمتنع من أكل اللحم وأكل الخبز أو شرب الماء أو لبس الكتان والقطن ولا يلبس إلا الصوف ويمتنع من نكاح النساء ويظن أن هذا من الزهد المستحب فهذا جاهل ضال من جنس زهاد النصارى قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } نزلت هذه الآية بسبب أن جماعة من الصحابة كانوا قد عزموا على ترك أكل الطيبات كاللحم ونحوه وترك النكاح
وفى الصحيحين عن أنس أن النبى قال ( ما بال رجال يقول احدهم أما انا فأصوم ولا أفطر ويقول الآخر أما أنا فأقوم ولا أنام ويقول الآخر أما أنا فلا آكل اللحم لكنى أصوم وأفطر واقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى
____________________
(22/134)
وفى صحيح البخارى أن النبى رأى رجلا قائما فى الشمس فقال ( ما هذا قالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبى مروه أن يستظل وأن يتكلم وأن يجلس ويتم صومه ( وقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون }
فأمر بالأكل من الطيبات والشكر له والطيب هو ما ينفع الإنسان وحرم الخبائث وهو ما يضره وأمر بشكره وهو العمل بطاعته بفعل المأمور وترك المحذور وفى صحيح مسلم عن النبى أنه قال ( إن الله ليرضى على العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها ( وقال تعالى { كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } فمن اكل من الطيبات ولم يشكر ولم يعمل صالحا كان معاقبا على ما تركه من الواجبات ولم تحل له الطيبات
فإنه إنما أحلها لمن يستعين بها على طاعته لا لمن يستعين بها على معصيته كما قال تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين } وقال الخليل
____________________
(22/135)
{ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير }
ولهذا لا يجوز أن يعان الإنسان بالمباحات على المعاصى مثل من يعطى الخبز واللحم لمن يشرب عليه الخمر ويستعين به على الفواحش
ومن حرم الطيبات التى أحلها الله من الطعام واللباس والنكاح وغير ذلك وإعتقد أن ترك ذلك مطلقا هو أفضل من فعله لمن يستعين به على طاعة الله كان معتديا معاقبا على تحريمه ما أحل الله ورسوله وعلى تعبده لله تعالى بالرهبانية ورغبته عن سنة رسول الله وعلى ما فرط فيه من الواجبات وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
وكذلك من أسرف فى بعض العبادات كسرد الصوم ومداومة قيام الليل حتى يضعفه ذلك عن بعض الواجبات كان مستحقا للعقاب كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو ( إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولزوجك عليك حقا فآت كل ذى حق حقه (
فاصل الدين فعل الواجبات وترك المحرمات فما تقرب العبد
____________________
(22/136)
إلى الله بأفضل من أداء ما افترض عليه ولا يزال العبد يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يحبه فالنوافل المستحبة التى لا تمنع الواجبات مما يرفع الله بها الدرجات وترك فضول المباحات وهو ما لا يحتاج إليها لفعل واجب ولا مستحب مع الإيثار بها مما يثيب الله فاعله عليه ومن تركها لمجرد البخل لا للتقرب إلى الله لم يكن محمودا
ومن إمتنع عن نوع من الأنواع التى اباحها الله على وجه التقرب بتركها فهو مخطىء ضال ومن تناول ما اباحه الله من الطعام واللباس مظهرا لنعمة الله مستعينا على طاعة الله كان مثابا على ذلك
وقوله تعالى { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } أي عن شكر النعيم فيطالب العبد بأداء شكر نعمة الله على النعيم فإن الله سبحانه لا يعاقب على ما أباح وإنما يعاقب على ترك مأمور وفعل محذور وهذه القواعد الجامعة تبين المسائل المذكورة وغيرها
واما الحرير فهو حرام على الرجال إلا فى مواضع مستثناة فمن لبس ما حرم الله ورسوله فهو آثم
وأما الكتان والقطن ونحوهما فمن تركه مع الحاجة فهو جاهل ضال ومن اسرف فيه فهو مذموم ومن تجمل بلبسه إظهارا لنعمة الله عليه فهو مشكور على ذلك
____________________
(22/137)
فإن النبى قال ( إن الله إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يرى أثر نعمه عليه ( وقال ( إن الله جميل يحب الجمال ( ومن ترك لبس الرفيع من الثياب تواضعا لله لا بخلا ولا إلتزاما للترك مطلقا فإن الله يثيبه على ذلك ويكسوه من حلل الكرامة
وتكره الشهرة من الثياب وهو المترفع الخارج عن العادة والمتخفض الخارج عن العادة فإن السلف كانوا يكرهون الشهرتين المترفع والمتخفض وفى الحديث ( من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة ( وخيار الأمور أوساطها
والفعل الواحد فى الظاهر يثاب الإنسان على فعله مع النية الصالحة ويعاقب على فعله مع النية الفاسدة فمن حج ماشيا لقوته على المشي وآثر بالنفقة كان مأجورا أجرين أجر المشى وأجر الإيثار ومن حج ماشيا بخلا بالمال إضرارا بنفسه كان آثما إثمين إثم البخل وإثم الإضرار ومن حج راكبا لضعفه عن المشى وللإستعانة بذلك على راحته ليتقوى بذلك على العبادة كان مأجورا أجرين ومن حج راكبا يظلم الجمال والحمال كان آثما إثمين
وكذلك اللباس فمن ترك جميل الثياب بخلا بالمال لم يكن له أجر ومن تركه متعبدا بتحريم المباحات كان آثما ومن لبس
____________________
(22/138)
جميل الثياب إظهارا لنعمة الله وإستعانة على طاعة الله كان مأجورا ومن لبسه فخرا وخيلاء كان آثما فإن الله لا يحب كل مختال فخور
ولهذا حرم إطالة الثوب بهذه النية كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله يوم القيامة إليه فقال أبوبكر يا رسول الله إن طرف إزارى يسترخى إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال يا أبا بكر إنك لست ممن يفعله خيلاء ( وفى الصحيحين عن النبى أنه قال ( بينما رجل يجر إزاره خيلاء إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ( فهذه المسائل ونحوها تتنوع بتنوع علمهم وإعتقادهم والعبد مأمور أن يقول فى كل صلاة { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } والله سبحانه وتعالى أعلم
وسئل
عن الحرير المحض هل يجوز للخياط خياطته للرجال وهل أجرته حرام وهل ينكر عليه لذلك وهل تباح الخياطة بخيوط الحرير فى غير الحرير وهل تجوز خياطته للنساء
____________________
(22/139)
فأجاب
الحمد لله لا يجوز خياطة الحرير لمن يلبس لباسا محرما مثل لبس الرجل للحرير المصمت فى غير حال الحرب ولغير التداوى فإن هذا من الإعانة على الإثم والعدوان وكذلك صنعة آنية الذهب والفضة على أصح القولين عند جماهير العلماء وكذلك صنعة آلات الملاهى ومثل تصوير الحيوان وتصوير الأوثان والصلبان وأمثال ذلك مما يكون فيه تصوير الشيء على صورة يحرم إستعماله فيها
وكذلك صنعة الخمر وأما أمكنة المعاصى والكفر ونحو ذلك والعوض المأخوذ على هذا العمل المحرم خبيث ويجب إنكار ذلك وأما خياطته لمن يلبسه لبسا جائزا فهو مباح كخياطته النساء وإن كان الرجل يمسه عند الخياطة فإن هذا ليس من المحرم ومثل ذلك صناعة الذهب والفضة لمن يستعمله إستعمالا مباحا
ويجوز استعمال خيوط الحرير فى لباس الرجال وكذلك يباح العلم والسجاف ونحو ذلك مما جاءت به السنة بالرخصة فيه وهو ما كان موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة وقد كان للنبى جبة مكفوفة بحرير
____________________
(22/140)
وسئل رحمه الله تعالى
عن خياط خاط للنصارى سير حرير فيه صليب ذهب فهل عليه إثم فى خياطته وهل تكون أجرته حلالا أم لا فأجاب نعم إذا أعان الرجل على معصية الله كان آثما لأنه أعان على الإثم والعدوان ولهذا لعن النبى صلى الله عليه وسلم الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها
وأكثر هؤلاء كالعاصر والحامل والساقى إنما هم يعاونون على شربها ولهذا ينهى عن بيع السلاح لمن يقاتل به قتالا محرما كقتال المسلمين والقتال فى الفتنة فإذا كان هذا فى الإعانة على المعاصى فكيف بالإعانة على الكفر وشعائر الكفر
والصليب لا يجوز عمله بأجرة ولا غير أجرة ولا بيعه صليبا كما لا يجوز بيع الأصنام ولا عملها كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير
____________________
(22/141)
والأصنام ( وثبت عنه أنه لعن المصورين وأنه كان لا يرى فى البيت صورة الاقضبه فصانع الصليب ملعون لعنه الله ورسوله
ومن أخذ عوضا عن عين محرمة أو نفع إستفوفاه مثل أجرة حمال الخمر وأجرة صانع الصليب وأجرة البغى ونحو ذلك فليتصدق بها وليتب من ذلك العمل المحرم وتكون صدقته بالعوض كفارة لما فعله فإن هذا العوض لا يجوز الإنتفاع به لأنه عوض خبيث ولا يعاد إلى صاحبه لأنه قد إستوفى العوض ويتصدق به كما نص على ذلك من نص من العلماء كما نص عليه الإمام أحمد فى مثل حامل الخمر ونص عليه أصحاب مالك وغيرهم
وسئل
عمن يتجر فى الإقباع هل يجوز له بيع القبع المرعزي وشراؤه والاكتساء منه وما يجرى مجراه من الحرير الصامت أو يحرم عليه لكون القبع لبس الرجال دون النساء وهل يجوز بيعه للجند والصبيان إذا كانوا دون البلوغ أو لليهود والنصارى أم لا إلى غير ذلك من المسائل
فأجاب
أما أقباع الحرير فيحرم لبسها على الرجال ولانها حرير
____________________
(22/142)
ولبس الحرير حرام على الرجال بسنة رسول الله وإجماع العلماء وإن كان مبطنا بقطن أو كتان
وأما على النساء فلأن الأقباع من لباس الرجال وقد لعن النبى المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء
وأما لباس الحرير للصبيان الذين لم يبلغوا ففيه قولان مشهوران للعلماء لكن أظهرهما أنه لا يجوز فإن ما حرم على الرجل فعله حرم عليه أن يمكن منه الصغير فإنه يأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ويضربه عليها إذا بلغ عشرا فكيف يحل له أن يلبسه المحرمات
وقد رأى عمر بن الخطاب على صبى للزبير ثوبا من حرير فمزقه وقال ( لا تلبسوهم الحرير ( وكذلك بن مسعود مزق ثوب حرير كان على إبنه وما حرم لبسه لم تحل صنعته ولا بيعه لمن يلبسه من أهل التحريم
ولا فرق فى ذلك بين الجند وغيرهم فلا يحل للرجل أن يكتسب بأن يخيط الحرير لمن يحرم عليه لبسه فإن ذلك إعانة على الإثم والعدوان وهو مثل الإعانة على الفواحش ونحوها
وكذلك لا يباع
____________________
(22/143)
الحرير لرجل يلبسه من أهل التحريم وأما بيع الحرير للنساء فيجوز وكذلك إذا بيع لكافر فإن عمر بن الخطاب أرسل بحرير أعطاه إياه النبى إلى رجل مشرك
وسئل
هل طرح القباء على الكتفين من غير أن يدخل يديه فى أكمامه مكروه
فأجاب
لا بأس بذلك بإتفاق الفقهاء وقد ذكروا جواز ذلك وليس هذا من السدل المكروه لأن هذه اللبسة ليست لبسه اليهود
وسئل
عن طول السراويل إذا تعدى عن الكعب هل يجوز
فأجاب
طول القميص والسراويل وسائر اللباس إذا تعدى ليس له أن يجعل ذلك أسفل من الكعبين كما جاءت بذلك الأحاديث الثابتة عن النبى وقال ( الإسبال فى السراويل والأزار والقميص ( يعنى نهى عن الإسبال
____________________
(22/144)
وسئل رحمه الله
عن لبس الكوفية للنساء ما حكمها إذا كانت بالدائر والفرق وفى لبسهن الفراجى وما الضابط فى التشبه بالرجال فى الملبوس هل هو بالنسبة إلى ما كان على عهد رسول الله أو كل زمان بحسبه
فأجاب
الحمد لله الكوفية التى بالفرق والدائر من غير أن تستر الشعر المسدول هي من لباس الصبيان والمرأة اللابسة لذلك متشبهة بهم وهذا النوع قد يكون أول من فعله من النساء قصدت التشبه بالمردان كما يقصد بعض البغايا أن تضفر شعرها ضفيرا واحدا مسدولا بين الكتفين وأن ترخى لها السوالف وأن تعتم لتشبه المردان فى العمامة والعذار والشعر ثم قد تفعل الحرة بعض ذلك لا تقصد هذا لكن هي فى ذلك متشبهة بالرجال
وقد إستفاضت السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الصحاح وغيرها بلعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء وفى رواية ( أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من
____________________
(22/145)
النساء ( وأمر بنفى المخنثين وقد نص على نفيهم الشافعي وأحمد وغيرهما وقالوا جاءت سنة رسول الله بالنفى فى حد الزنى وبنفي المخنثين
وفى صحيح مسلم عنه أنه قال ( صنفان من أهل النار من أمتى لم أرهما بعد كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله (
وفى السنن أنه مر بباب أم سلمة وهى تعتصب فقال ( يا أم سلمة لية لا ليتين ( وقد فسر قوله ( كاسيات عاريات ( بأن تكتسي مالا يسترها فهي كاسية وهى فى الحقيقة عارية مثل من تكتسى الثوب الرقيق الذى يصف بشرتها أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها مثل عجيزتها وساعدها ونحو ذلك وإنما كسوة المرأة ما يسترها فلا يبدي جسمها ولا حجم أعضائها لكونه كثيفا واسعا
ومن هنا يظهر الضابط فى نهيه عن تشبه الرجال بالنساء وعن تشبه النساء بالرجال وأن الأصل فى ذلك ليس هو راجعا إلى مجرد ما يختاره الرجال والنساء ويشتهونه ويعتادونه فإنه لو كان كذلك لكان إذا إصطلح قوم على أن يلبس الرجال الخمر التي
____________________
(22/146)
تغطي الرأس والوجه والعنق والجلابيب التى تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة ونحو ذلك أن يكون هذا سائغا وهذا خلاف النص والإجماع فإن الله تعالى قال للنساء { وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } الآية وقال { قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } الآية وقال { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى }
فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستنده مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال بإختيارهم وشهوتهم لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب ولا أن يضربن بالخمر على الجيوب ولم يحرم عليهن التبرج تبرج الجاهلية الأولى لأن ذلك كان عادة لأولئك وليس الضابط فى ذلك لباسا معينا من جهة نص النبى أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده بحيث يقال إن ذلك هو الواجب وغيره يحرم
فإن النساء على عهده كن يلبسن ثيابا طويلات الذيل بحيث ينجر خلف المرأة إذا خرجت والرجل مأمور بأن يشمر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين ولهذا لما نهى النبى الرجال عن إسبال الإزار وقيل له فالنساء قال ( يرخين شبرا قيل له إذن
____________________
(22/147)
تنكشف سوقهن قال ذراعا لا يزدن عليه ( قال الترمذى حديث صحيح
حتى أنه لأجل ذلك روى أنه رخص للمرأة إذا جرت ذيلها على مكان قذر ثم مرت به على مكان طيب أنه يطهر بذلك وذلك قول طائفة من أهل العلم فى مذهب أحمد وغيره جعل المجرور بمنزلة النعل الذى يكثر ملاقاته النجاسة فيطهر بالجامد كما يطهر السبيلان بالجامد لما تكرر ملاقاتهما النجاسة
ثم إن هذا ليس معينا للستر فلو لبست المرأة سراويل أو خفا واسعا صلبا كالموق وتدلى فوقه الجلباب بحيث لا يظهر حجم القدم لكان هذا محصلا للمقصود بخلاف الخف اللين الذى يبدى حجم القدم فإن هذا من لباس الرجال وكذلك المرأة لو لبست جبة وفروة لحاجتها إلى ذلك إلى دفع البرد لم تنه عن ذلك
فلو قال قائل لم يكن النساء يلبسن الفراء قلنا فإن ذلك يتعلق بالحاجة فالبلاد الباردة يحتاج فيها إلى غلظ الكسوة وكونها مدفئة وإن لم يحتج إلى ذلك فى البلاد الحارة فالفارق بين لباس الرجال والنساء يعود إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء وهو ما يناسب ما يؤمر به الرجال وما تؤمر به النساء فالنساء مأمورات
____________________
(22/148)
بالإستتار والإحتجاب دون التبرج والظهور ولهذا لم يشرع لها رفع الصوت فى الأذان ولا التلبية ولا الصعود إلى الصفا والمروة ولا التجرد فى الإحرام كما يتجرد الرجل
فإن الرجل مأمور أن يكشف رأسه وأن لا يلبس الثياب المعتادة وهى التى تصنع على قدر أعضائه فلا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا الخف لكن لما كان محتاجا إلى ما يستر العورة ويمشى فيه رخص له فى آخر الأمر إذا لم يجد إزارا أن يلبس سراويل وإذا لم يجد نعلين أن يلبس خفين وجعل ذلك بدلا للحاجة العامة بخلاف ما يحتاج إليه حاجة خاصة لمرض أو برد فإن عليه الفدية إذا لبسه ولهذا طرد أبوحنيفة هذا القياس وخالفه الأكثرون للحديث الصحيح ولأجل الفرق بين هذا وهذا
وأما المرأة فإنها لم تنه عن شيء من اللباس لأنها مأمورة بالإستتار والإحتجاب فلا يشرع لها ضد ذلك لكن منعت أن تنتقب وأن تلبس القفازين لأن ذلك لباس مصنوع على قدر العضو ولا حاجة بها إليه
وقد تنازع الفقهاء هل وجهها كرأس الرجل او كيديه على قولين فى مذهب أحمد وغيره فمن جعل وجهها كرأسه أمرها إذا
____________________
(22/149)
سدلت الثوب من فوق رأسها أن تجافيه عن الوجه كما يجافى عن الرأس ما يظلل به
ومن جعله كاليدين وهو الصحيح قال هي لم تنه عن ستر الوجه وإنما نهيت عن الإنتقاب كما نهيت عن القفازين وذلك كما نهى الرجل عن القميص والسراويل ونحو ذلك ففى معناه البرقع وما صنع لستر الوجه فأما تغطية الوجه بما يسدل من فوق الرأس فهو مثل تغطيته عند النوم بالملحفة ونحوها ومثل تغطية اليدين بالكمين وهى لم تنه عن ذلك
فلو اراد الرجال أن ينتقبوا ويتبرقعوا ويدعوا النساء باديات الوجوه لمنعوا من ذلك
وكذلك المرأة أمرت أن تجتمع فى الصلاة ولا تجافى بين أعضائها وأمرت ان تغطى رأسها فلا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولو كانت فى جوف بيت لا يراها أحد من الأجانب فدل ذلك على أنها مامورة من جهة الشرع بستر لا يؤمر به الرجل حقا لله عليها وإن لم يرها بشر وقد قال تعالى { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } وقال النبى ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن ( وقال ( صلاة إحداكن
____________________
(22/150)
فى مخدعها أفضل من صلاتها فى حجرتها وصلاتها فى حجرتها أفضل من صلاتها فى دارها وصلاتها فى دارها أفضل من صلاتها فى مسجد قومها وصلاتها فى مسجد قومها أفضل من صلاتها معى ( وهذا كله لما فى ذلك من الإستتار والإحتجاب
ومعلوم أن المساكن من جنس الملابس كلاهما جعل فى الأصل للوقاية ودفع الضرر كما جعل الأكل والشرب لجلب المنفعة فاللباس يتقى الإنسان به الحر والبرد ويتقى به سلاح العدو وكذلك المساكن يتقى بها الحر والبرد ويتقى بها العدو وقال تعالى { والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } فذكر فى هذا الموضع ما يحتاجون إليه لدفع ما قد يؤذيهم
وذكر فى أول السورة ما يضطرون إليه لدفع ما يضرهم فقال { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } فذكر ما يستدفئون به ويدفعون به البرد لأن البرد يهلكهم والحر يؤذيهم ولهذا قال بعض العرب البرد بؤس والحر اذى ولهذا السبب لم يذكر فى الآية الآخرى وقاية البرد فإن ذلك تقدم فى أول السورة وهو ذكر فى أثناء السورة ما أتم به النعمة وذكر
____________________
(22/151)
فى أول السورة أصول النعم ولهذا قال { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون }
والمقصود هنا أن مقصود الثياب تشبه مقصود المساكن والنساء مأمورات فى هذا بما يسترهن ويحجبهن فإذا إختلف لباس الرجال والنساء عما كان أقرب إلى مقصود الإستتار والإحتجاب كان للنساء وكان ضده للرجال
وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان
أحدهما الفرق بين الرجال والنساء
والثانى إحتجاب النساء فلو كان مقصوده مجرد الفرق لحصل ذلك بأى وجه حصل به الإختلاف وقد تقدم فساد ذلك بل أبلغ من ذلك أن المقصود باللباس إظهار الفرق بين المسلم والذمى ليترتب على كل منهما من الأحكام الظاهرة ما يناسبه
ومعلوم أن هذا يحصل بأي لباس إصطلحت الطائفتان على التميز به ومع هذا فقد روعى فى ذلك ما هو أخص من الفرق فإن لباس الأبيض لما كان أفضل من غيره كما قال ( عليكم بالبياض فليلبسه أحياؤكم وكفنوا فيه موتاكم ( لم يكن
____________________
(22/152)
من السنة أن يجعل لباس أهل الذمة الأبيض ولباس أهل الإسلام المصبوغ كالعسلى والأدكن ونحو ذلك بل الأمر بالعكس
وكذلك فى الشعور وغيرها فكيف الأمر فى لباس الرجال والنساء ليس المقصود به مجرد الفرق بل لا بد من رعاية جانب الإحتجاب والإستتار
وكذلك ايضا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن وبين الرجال بل الفرق أيضا مقصود حتى لو قدر أن الصنفين إشتركوا فيما يستر ويحجب بحيث يشتبه لباس الصنفين لنهوا عن ذلك
والله تعالى قد بين هذا المقصود أيضا بقوله تعالى { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } فجعل كونهن يعرفن باللباس الفارق أمرا مقصودا
ولهذا جاءت صيغة النهى بلفظ التشبه بقوله ( لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء ( وقال ( لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من
____________________
(22/153)
النساء ( فعلق الحكم بإسم التشبه ويكون كل صنف يتصف بصفة الآخر
وقد بسطنا هذه القاعدة فى ( إقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ( وبينا أن المشابهة فى الأمور الظاهرة تورث تناسبا وتشابها فى الأخلاق والأعمال ولهذا نهينا عن مشابهة الكفار ومشابهة الأعاجم ومشابهة الأعراب ونهى كلا من الرجال والنساء عن مشابهة الصنف الآخر كما فى الحديث المرفوع ( من تشبه بقوم فهو منهم ( و ( ليس منا من تشبه بغيرنا ( والرجل المتشبة بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه حتى يفضى الأمر به إلى التخنث المحض والتمكين من نفسه كأنه إمرأة
ولما كان الغناء مقدمة ذلك وكان من عمل النساء كانوا يسمون الرجال المغنين مخانيث والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشاركة الرجال ما قد يفضى ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجل وتطلب ان تعلو على الرجال كما تعلو الرجال على النساء وتفعل من الأفعال ما ينافى الحياء والخفر المشروع للنساء وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة
وإذا تبين أنه لابد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يتميز به الرجال عن النساء وان يكون لباس النساء فيه من
____________________
(22/154)
الإستتار والإحتجاب ما يحصل مقصود ذلك ظهر اصل هذا الباب وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال نهيت عنه المرأة وإذا كان ساترا كالفراجى التى جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء والنهى عن مثل هذا بتغير العادات وأما ما كان الفرق عائدا إلى نفس الستر فهذا يؤمر به النساء بما كان أستر ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك فإذا إجتمع فى اللباس قلة الستر والمشابهة نهى عنه من الوجهين والله أعلم
وسئل
عن لبس النساء هذه العمائم التى على رؤوسهن هل هي حرام أو مكروه وما العمائم التى تستحب للنساء وهل يجوز لهن لبس الخف
فأجاب
الحمد لله وحده هذه العمائم التى تلبسها النساء حرام بلا ريب ففى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( صنفان من أهل النار من أمتى لم أرهما بعد نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن مثل اسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ورجال معهم سياط مثل اذناب البقر يضربون بها عباد الله
____________________
(22/155)
وأيضا فقد صح عن النبى أنه قال ( لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنسا ء ( وفى لفظ ( لعن الله المتخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ( وفى سنن أبى داود أنه رأى أم سلمة تعتصب فقال ( يا ام سلمة لية لا ليتان (
وما كان من لباس الرجال مثل العمامة والخف والقباء الذى للرجال والثياب التى تبدي مقاطع خلقها والثوب الرقيق الذى لا يستر البشرة وغير ذلك فإن المرأة تنهى عنه وعلى وليها كأبيها وزوجها أن ينهاها عن ذلك والله أعلم
(
وسئل
هل يجوز للنساء لبس العصائب الكبار التى يتشبهن بلبسها بالرجال أم لا وهل ورد فى تحريم ذلك نص خاص أم لا
فأجاب
الحمد لله أما لبس النساء العصائب الكبار فهو حرام فقد ثبت فى الصحيح عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى أنه قال ( صنفان من أمتى لم أرهما بعد نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأمثال أسنمة البخت لا يدخلن
____________________
(22/156)
الجنة ولا يجدن ريحها ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله ( وفى السنن أن النبى قال لأم سلمة وهى تعتصب ( يا ام سلمة لية لا ليتان ( وفى الصحيح أنه قال ( لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء (
والنصوص عامة وخاصة بتحريم ذلك وقد أخبر النبى بأن هؤلاء من أهل النار واخبر بهم قبل أن يكونوا والله أعلم
وسئل (
عما إذا صلى فى موضع نجس ( فأجاب إذا صلى وبعض بدنه فى موضع نجس لم يمكنه الصلاة إلا فيه فهو معذور وتصح صلاته
وأما إن أمكنه الصلاة فى موضع طاهر فليس له أن يصلى فى الموضع النجس
____________________
(22/157)
وسئل
هل تكره الصلاة فى أى موضع من الأرض
فأجاب
نعم ينهى عن الصلاة فى مواطن فإنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه سئل عن الصلاة فى أعطان الإبل فقال ( لا تصلوا فيها ( وسئل عن الصلاة فى مبارك الغنم فقال ( صلوا فيها ( وفى السنن أنه قال ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ( وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا (
وفى الصحيح عنه أنه قال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك ( وفى السنن ( أنه نهى عن الصلاة بأرض الخسف ( وفى سنن إبن ماجه وغيره ( أنه نهى عن الصلاة فى سبع مواطن المقبرة والمجزرة والمزبلة وقارعة الطريق والحمام وظهر البيت الحرام ( وهذه المواضع غير ظهر بيت الله الحرام قد يعللها بعض الفقهاء بأنها مظنة النجاسة وبعضهم يجعل النهى تعبدا
____________________
(22/158)
والصحيح ان عللها مختلفة تارة تكون العلة مشابهة أهل الشرك كالصلاة عند القبور وتارة لكونها مأوى للشياطين كاعطان الإبل وتارة لغير ذلك والله اعلم
وسئل
عن الحمام إذا إضطر المسلم للصلاة فيها وخاف فوات الوقت هل يجوز ذلك أم لا
فأجاب
إذا لم يمكنه أن يغتسل ويخرج ويصلى حتى يخرج الوقت فإنه يغتسل ويصلى بالحمام فإن الصلاة فى الأماكن المنهى عنها فى الوقت أولى من الصلاة بعد الوقت فى غيرها ولهذا لو حبس فى الحش صلى فيه وفى الإعادة نزاع والصحيح أنه لا إعادة عليه ولهذا يصلى فى الوقت عريانا إذا لم يمكنه إلا كذلك وأما أن أمكنه الإغتسال والخروج للصلاة خارج الحمام فى الوقت لم يجز له الصلاة فى الحمام وكذلك لو أمكنه الإغتسال فى بيته فإنه لا يصلى فى الحمام إلا لحاجة والله أعلم
____________________
(22/159)
وسئل رحمه الله (
عن الصلاة فى الحمام
فأجاب
فى سنن أبى داود وغيره عن ابى سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ( وقد صححه الحفاظ وأما إن ضاق الوقت فهل يصلى فى الحمام أو يفوت الصلاة حتى يخرج فيصلى خارجها على قولين فى مذهب أحمد وغيره فلا يصلح ان يصلى فى الحمام
وينبغى لمن أصابته جنابة إن إحتاج إلى الحمام أن يغتسل فى أول الوقت ويخرج يصلى ثم إن أحب ان يتم إغتساله بالسدر ونحوه عاد إلى الحمام وجمهور العلماء على أن الصلاة فيها منهى عنها إما نهى تحريم أو لا تصح كالمشهور من مذهب أحمد وغيره وإما نهى تنزيه كمذهب الشافعى وغيره
____________________
(22/160)
وسئل
هل له أن يصلى فى الحمام إذا خاف خروج الوقت أم لا
فأجاب
أما إذا ذهب إلى الحمام ليغتسل ويخرج ويصلى خارج الحمام فى الوقت فلم يمكنه إلا أن يصلى فى الحمام أو تفوت الصلاة فالصلاة فى الحمام خير من تفويت الصلاة فإن الصلاة فى الحمام كالصلاة فى الحش والمواضع النجسة ونحو ذلك
ومن كان فى موضع نجس ولم يمكنه أن يخرج منه حتى يفوت الوقت فإنه يصلى فيه ولا يفوت الوقت لأن مراعاة الوقت مقدمة على مراعاة جميع الواجبات وأما إن كان يعلم أنه إذا ذهب إلى الحمام لم يمكنه الخروج حتى يخرج الوقت فقد تقدمت هذه المسألة والأظهر انه يصلى بالتيمم فإن الصلاة بالتيمم خير من الصلاة فى الأماكن التى نهى عنها وعن الصلاة بعد خروج الوقت
____________________
(22/161)
وسئل رحمه الله
هل الصلاة فى البيع والكنائس جائزة مع وجود الصور أم لا وهل يقال أنها بيوت الله أم لا
فأجاب
ليست بيوت الله وإنما بيوت الله المساجد بل هي بيوت يكفر فيها بالله وإن كان قد يذكر فيها فالبيوت بمنزلة أهلها وأهلها كفار فهي بيوت عبادة الكفار
وأما الصلاة فيها ففيها ثلاثة أقوال للعلماء فى مذهب أحمد وغيره المنع مطلقا وهو قول مالك والأذن مطلقا وهو قول بعض أصحاب أحمد والثالث وهو الصحيح المأثور عن عمر بن الخطاب وغيره وهو منصوص عن أحمد وغيره أنه إن كان فيها صور لم يصل فيها لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ولأن النبى لم يدخل الكعبة حتى محى ما فيها من الصور وكذلك قال عمر إنا كنا لا ندخل كنائسهم والصور فيها
وهى بمنزلة المسجد المبنى على القبر ففى الصحيحين أنه ذكر
____________________
(22/162)
للنبى كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الحسن والتصاوير فقال ( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ( وأما إذا لم يكن فيها صور فقد صلى الصحابة فى الكنيسة والله أعلم
وسئل
عمن يبسط سجادة فى الجامع ويصلى عليها هل ما فعله بدعة أم لا
فأجاب
الحمد لله رب العالمين أما الصلاة على السجادة بحيث يتحرى المصلى ذلك فلم تكن هذه سنة السلف من المهاجرين والأنصار ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان على عهد رسول الله بل كانوا يصلون فى مسجده على الأرض لا يتخذ أحدهم سجادة يختص بالصلاة عليها وقد روى ان عبد الرحمن بن مهدى لما قدم المدينة بسط سجادة فأمر مالك بحبسه فقيل له إنه عبد الرحمن بن مهدى فقال ( أما علمت أن بسط السجادة فى مسجدنا بدعة
وفى الصحيح عن أبى سعيد الخدرى فى حديث إعتكاف النبى صلى
____________________
(22/163)
الله عليه وسلم قال ( إعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فذكر الحديث وفيه قال من اعتكف فليرجع إلى معتكفه فإنى رأيت هذه الليلة ورأيتنى أسجد فى ماء وطين ) وفى آخره ( فلقد رأيت يعنى صبيحة إحدى وعشرين على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين ( فهذا بين أن سجوده كان على الطين وكان مسجده مسقوفا بجريد النخل ينزل منه المطر فكان مسجده من جنس الأرض
وربما وضعوا فيه الحصى كما فى سنن أبى داود عن عبد الله بن الحارث قال سألت إبن عمر رضى الله عنهما عن الحصى الذى كان فى المسجد فقال مطرنا ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة فجعل الرجل ياتى بالحصى فى ثوبه فيبسطه تحته فلما قضى رسول الله الصلاة قال ( ما احسن هذا (
وفى سنن أبى داود أيضا عن أبى بدر شجاع بن الوليد عن شريك عن أبى حصين عن أبى صالح عن أبى هريرة قال أبو بدر أراه قد رفعه إلى النبى قال ( إن الحصاة تناشد الذى يخرجها من المسجد ( ولهذا فى السنن والمسند عن أبى ذر قال قال رسول الله ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه ( وفى لفظ فى مسند أحمد قال ( سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن مسح
____________________
(22/164)
الحصى فقال ( واحدة أودع ( وفى المسند ايضا عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لأن يمسك أحدكم يده عن الحصى خير له من مائة ناقة كلها سود الحدق فإن غلب أحدكم الشيطان فليمسح واحدة ( وهذا كما فى الصحيحين عن معيقيب أن النبى قال فى الرجل يسوى التراب حيث يسجد قال ( إن كنت فاعلا فواحدة (
فهذا بين أنهم كانوا يسجدون على التراب والحصى فكان أحدهم يسوى بيده موضع سجوده فكره لهم النبى صلى الله عليه وسلم ذلك العبث ورخص فى المرة الواحدة للحاجة وإن تركها كان أحسن
وعن انس بن مالك رضى الله عنه قال ( كنا نصلى مع رسول الله فى شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا ان يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه ( أخرجه صاحب الصحاح كالبخارى ومسلم وأهل وأهل السنن وغيرهم وفى هذا الحديث بيان أن أحدهم إنما كان يتقى شدة الحر بأن يبسط ثوبه المتصل كإزاره وردائه وقميصه فيسجد عليه
وهذا بين أنهم لم يكونوا يصلون على سجادات بل ولا على حائل ولهذا كان النبى وأصحابه يصلون تارة فى نعالهم
____________________
(22/165)
وتارة حفاة كما فى سنن ابى داود والمسند عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبى ( انه صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم فلما إنصرف قال لم خلعتم قالوا رأيناك خلعت فخعلنا قال فإن جبريل أتانى فأخبرنى أن بهما خبثا فإذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما ( ففى هذا بيان أن صلاتهم فى نعالهم وإن ذلك كان يفعل فى المسجد إذ لم يكن يوطأ بهما على مفارش وأنه إذا رأى بنعليه أذى فإنه يمسحهما بالأرض ويصلى فيهما ولا يحتاج إلى غسلهما ولا إلى نزعها وقت الصلاة ووضع قدميه عليهما كما يفعله كثير من الناس
وبهذا كله جاءت السنة ففى الصحيحين والمسند عن أبى سلمة سعيد بن يزيد قال ( سألت أنسا أكان النبى يصلى فى نعليه ( قال نعم
وفى سنن أبى داود عن شداد بن اوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون فى نعالهم ولا خفافهم ( فقد أمرنا بمخالفة ذلك إذ هم ينزعون الخفاف والنعال عند الصلاة ويأتمون فيما يذكر عنهم بموسى عليه السلام حيث قيل له وقت المناجاة ( إخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى ( فنهينا عن التشبه بهم
____________________
(22/166)
وأمرنا أن نصلى فى خفافنا ونعالنا وإن كان بهما أذى مسحناهما بالأرض لما تقدم
ولما روى أبو داود أيضا عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إذا وطىء أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب لهما طهور ( وفى لفظ قال ( إذا وطىء الأذى بخفيه فطهورهما التراب ( وعن عائشة رضى الله عنها عن رسول الله بمعناه وقد قيل حديث عائشة حديث حسن
وأما حديث أبى هريرة فلفظه الثانى من رواية محمد بن عجلان وقد خرج له البخارى فى الشواهد ومسلم فى المتابعات ووثقه غير واحد واللفظ الأول لم يسم راويه لكن تعدده مع عدم التهمة وعدم الشذوذ يقتضى أنه حسن أيضا وهذا أصح قولى العلماء ومع دلالة السنة عليه هو مقتضى الإعتبار فإن هذا محل تتكرر ملاقاته للنجاسة فأجزأ الإزالة عنه بالجامد كالمخرجين فإنه يجزئ فيهما الإستجمار بالأحجار كما تواترت به السنة مع القدرة على الماء وقد اجمع المسلمون على جواز الإستجمار
يبين ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون
____________________
(22/167)
تارة فى نعالهم وتارة حفاة كما فى السنن لأبى داود وإبن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ( رأيت رسول الله يصلى حافيا ومنتعلا والحجة فى الإنتعال ظاهرة (
وأما فى الإحتفاء ففى سنن أبى داود والنسائى عن عبد الله بن السائب قال ( رأيت رسول الله يصلى يوم الفتح ووضع نعليه عن يساره ( وكذلك فى سنن ابى داود حديث أبى سعيد المتقدم قال ( بينما رسول الله يصلى باصحابه إذا خلع نعليه ووضعهما عن يساره ( وتمام الحديث يدل على أنه كان فى المسجد كما تقدم وكذلك حديث إبن السائب فإن أصله قد رواه مسلم والنسائى وإبن ماجه عن عبد الله بن السائب قال ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة فإستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهرون أو ذكر موسى وعيسى اخذت رسول الله سعلة فركع ( وعبد الله بن السائب حاضر لذلك فهذا كان فى المسجد الحرام وقد وضع نعليه فى المسجد مع العلم بان الناس يصلون ويطوفون بذلك الموضع فلو كان الإحتراز من نجاسة أسفل النعل مستحبا لكان النبى صلى الله عليه وسلم أحق الناس بفعل المستحب الذى فيه صيانة المسجد
وايضا ففى سنن أبى داود عن سعيد بن ابى سعيد عن أبيه عن أبى هريرة
____________________
(22/168)
عن رسول الله قال ( إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما احدا وليجعلهما بين رجليه أو ليصل فيهما ( وفيه أيضا عن يوسف بن ماهك عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره تكون عن يمين غيره إلا أن لا يكون عن يساره أحد وليضعهما بين رجليه ( وهذا الحديث قد قيل فى إسناده لين لكنه هو والحديث الأول قد إتفقا على أن يجعلهما بين رجليه ولو كان كان الإحتراز من ظن نجاستهما مشروعا لم يكن كذلك
وأيضا ففى الأول الصلاة فيهما وفى الثانى وضعهما عن يساره إذا لم يكن هناك مصل وما ذكر من كراهة وضعهما عن يمينه أو عن يمين غيره لم يكن للأحتراز من النجاسة لكن من جهة الأدب كما ذكره البصاق عن يمينه
وفى صحيح مسلم عن خباب بن الأرت قال ( شكونا إلى رسول الله شدة حر الرمضاء فى جباهنا وأكفنا فلم يشكنا ( وقد ظن طائفة أن هذه الزيادة فى مسلم وليس كذلك وسبب هذه الشكوى أنهم كانوا يسجدون على الأرض فتسخن جباههم وأكفهم وطلبوا منه أن يؤخر الصلاة زيادة على ما كان يؤخرها ويبرد بها فلم يفعل وقد ظن بعض الفقهاء أنهم طلبوا منه
____________________
(22/169)
أن يسجدوا على ما يقيهم من الحر من عمامة ونحوها فلم يفعل وجعلوا ذلك حجة فى وجوب مباشرة المصلى بالجبهة وهذه حجة ضعيفة لوجهين
أحدهما أنه تقدم حديث أنس المتفق على صحته ( وأنهم كانوا إذا لم يستطع احدهم أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه وسجد عليه ( والسجود على ما يتصل بالإنسان من كمه وذيله وطرف إزاره وردائه فيه النزاع المشهور وقال هشام عن الحسن البصرى كان اصحاب رسول الله يسجدون وأيديهم فى ثيابهم ويسجد الرجل على عمامته رواه البيهقى وقد إستشهد بذلك البخارى فى باب السجود على الثوب من شدة الحر فقال ( وقال الحسن كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويداه فى كمه ( وروى حديث انس المتقدم قال ( كنا نصلى مع النبى فيضع أحدنا الثوب من شدة الحر فى مكان السجود (
واما ما يروى عن عبادة بن الصامت أنه كان إذا قام إلى الصلاة حسر العمامة عن جبهته وعن نافع ( أن إبن عمر كان إذا سجد وعليه العمامة يرفعها حتى يضع جبهته بالأرض ( رواه البيهقى وروى أيضا عن على رضى الله عنه قال ( إذا كان أحدكم يصلى فليحسر العمامة عن جبهته ( فلا ريب إن هذا هو السنة عند الإختيار وقد تقدم
____________________
(22/170)
حديث أبى سعيد الخدرى فى الصحيحين ( وأنه رأى أثر الماء والطين على أنف النبى وأرنبته
وفى لفظ قال ( فصلى بنا رسول الله حتى رأيت أثر الماء والطين على جبهة رسول الله وأرنبته تصديق رؤياه ( وقد رواه البخارى بهذا اللفظ وقال الحميدى يحتج بهذا الحديث أن لا تمسح الجبهة فى الصلاة بل تمسح بعد الصلاة لأن النبى صلى الله عليه وسلم رؤى الماء فى أرنبته وجبهته بعد ما صلى
قلت كره العلماء كأحمد وغيره مسح الجبهة فى الصلاة من التراب ونحوه الذى يعلق بها فى السجود وتنازعوا فى مسحه بعد الصلاة على قولين هما روايتان عن أحمد كالقولين اللذين هما روايتان عن أحمد فى مسح ماء الوضوء بالمنديل وفى إزالة خلوف فم الصائم بعد الزوال بالسواك ونحو ذلك مما هو من أثر العبادة وعن أبى حميد الساعدى ( أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد مكن جبهته بالأرض ويجافى يديه عن جنبيه ووضع يديه حذو منكبيه ( رواه أبو داود والترمذى وقال حديث حسن صحيح وعن وائل بن حجر قال رأيت رسول الله صلى الله وسلم يسجد على الأرض واضعا جبهته وأنفه في سجوده رواه أحمد
____________________
(22/171)
فالأحاديث والآثار تدل على أنهم فى حال الإختيار كانوا يباشرون الأرض بالجبا وعند الحاجة كالحر ونحوه يتقون بما يتصل بهم من طرف ثوب وعمامة وقلنسوة ولهذا كان أعدل الأقوال فى هذه المسألة أنه يرخص فى ذلك عند الحاجة ويكره السجود على العمامة ونحوها عند عدم الحاجة وفى المسألة نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه
الوجه الثانى ( أنه لو كان مطلوبهم منه السجود على الحائل لأذن لهم فى إتخاذ ما يسجدون عليه منفصلا عنهم فقد ثبت عنه أنه كان يصلى على الخمرة فقالت ميمونة ( كان رسول الله يصلى على الخمرة ( أخرجه اصحاب الصحيح كالبخارى ومسلم وأهل السنن الثلاثة أبوداود والنسائى وإبن ماجه ورواه أحمد فى المسند ورواه الترمذى من حديث إبن عباس ولفظ أبى داود ( كان يصلى وأنا حذاءه وأنا حائض وربما اصابنى ثوبه إذا سجد وكان يصلى على الخمرة ( وفى صحيح مسلم والسنن الأربعة والمسند عن عائشة رضى الله عنها قالت ( قال رسول الله ناولينى الخمرة من المسجد فقلت يا رسول الله إنى حائض فقال إن حيضتك ليست فى يدك (
وعن ميمونة قالت ( كان رسول الله يتكىء على إحدانا وهى حائض فيضع رأسه فى حجرها فيقرأ القرآن وهى
____________________
(22/172)
حائض ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها فى المسجد وهى حائض ( رواه أحمد والنسائى ولفظه فتبسطها وهى حائض ( فهذا صلاته على الخمرة وهى نسج ينسج من غوص كان يسجد عليه
وأيضا فى الصحيحين عن انس بن مالك ( إن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته فأكل منه ثم قال قوموا فلأصل لكم قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد إسود من طول مالبس فنضحته بماء فقام رسول الله فصففت أنا واليتيم من ورائه والعجوز من ورائنا فصلى لنا رسول الله ركعتين ثم إنصرف
وفى البخارى وسنن أبى داود عن أنس بن مالك قال ( قال رجل من الأنصار يا رسول الله أنى رجل ضخم وكان ضخما لا أستطيع أن أصلى معك وصنع له طعاما ودعاه إلى بيته وقال ( صل حتى أراك كيف تصلى فأقتدي بك فنضحوا له طرف حصير لهم فقام فصلى ركعتين قيل لأنس أكان يصلى فقال لم أره صلى إلا يومئذ ( وفى سنن أبى داود عن أنس بن مالك أن رسول الله كان يزور أم سليم فتدركه الصلاة احيانا فيصلى على بساط لها وهو حصير تنضحه بالماء ( ولمسلم عن أبى سعيد الخدرى ( أنه دخل على رسول الله قال
____________________
(22/173)
( فرأيته يصلى على حصير يسجد عليه ( وفى الصحيحين عن أبى سلمة عن عائشة قالت ( كنت أنام بين يدى رسول الله ورجلاى فى قبلته فإذا سجد غمزنى فقبضت رجلى فإذا قام بسطتهما قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح (
وعن عروة عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى وهى معترضة فيما بينه وبين القبلة على فراش أهله إعتراض الجنازة ( وفى لفظ عن عراك عن عروة ( ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذى ينامان عليه ( وهذه الألفاظ كلها للبخارى إستدلوا بها فى باب الصلاة على الفرش وذكر اللفظ الأخير مرسلا لأنه فى معنى التفسير للمسند أن عروة إنما سمع من عائشة وهو أعلم بما سمع منها
ولا نزاع بين أهل العلم فى جواز الصلاة السجود على المفارش إذا كانت من جنس الأرض كالخمرة والحصير ونحوه وإنما تنازعوا فى كراهة ذلك على ماليس من جنس الأرض كالإنطاع المبسوطة من جلود الأنعام وكالبسط والزرابى المصبوغة من الصوف وأكثر أهل العلم يرخصون فى ذلك ايضا وهو مذهب أهل الحديث كالشافعى واحمد ومذهب أهل الكوفة كأبى حنيفة وغيرهم وقد إستدلوا على جواز ذلك ايضا بحديث عائشة فإن الفراش لم يكن من جنس
____________________
(22/174)
الأرض وإنما كان من ادم أو صوف
وعن المغيرة بن شعبة قال ( كان النبى يصلى على الحصير وعلى الفروة المدبوغة ( رواه أحمد وابو داود من حديث أبى عون محمد بن عبد الله بن سعيد الثقفى عن ابيه عن المغيرة قال أبوحاتم الرازى عبد الله بن سعيد مجهول وعن بن عباس ( أن النبى صلى على بساط ( رواه أحمد وإبن ماجه وفى تاريخ البخارى عن أبى الدرداء قال ( ما ابالى لو صليت على خمر (
وإذا ثبت جواز الصلاة على ما يفرش بالسنة والإجماع علم أن النبى لم يمنعهم أن يتخذوا شيئا يسجدون عليه يتقون به الحر ولكن طلبوا منه تأخير الصلاة زيادة على ما كان يؤخرها فلم يجبهم وكان منهم من يتقى الحر إما بشيء منفصل عنه وإما بما يتصل به من طرف ثوبه فإن قيل ففى حديث الخمرة حجة لمن يتخذ السجادة كما قد إحتج بذلك بعضهم
قيل الجواب عن ذلك من وجوه أحدها ان النبى لم يكن يصلى على الخمرة
____________________
(22/175)
دائما بل أحيانا كأنه كان إذا إشتد الحر يتقى بها الحر ونحو ذلك بدليل ما قد تقدم من حديث أبى سعيد أنه رأى أثر الماء والطين فى جبهته وأنفه فلم يكن فى هذا حجة لمن يتخذ السجادة يصلى عليها دائما
والثانى قد ذكروا أنها كانت لموضع سجوده لم تكن بمنزلة السجادة التى تسع جميع بدنه كأنه كان يتقى بها الحر هكذا قال أهل الغريب قالوا ( الخمرة ( كالحصير الصغير تعمل من سعف النخل وتنسج بالسيور والخيوط وهى قدر ما يوضع عليه الوجه والأنف فإذا كبرت عن ذلك فهي حصير سميت بذلك لسترها الوجه والكعبين من حر الأرض وبردها وقيل لأنها تخمر وجه المصلى أى تستره وقيل لأن خيوطها مستورة بسعفها وقد قال بعضهم فى حديث إبن عباس ( جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التى كان قاعدا عليها فإحترقت منها مثل موضع درهم ( قال وهذا ظاهر فى إطلاق الخمرة على الكبير من نوعها لكن هذا الحديث لا تعلم صحته والقعود عليها لا يدل على أنها طويلة بقدر ما يصلى عليها فلا يعارض ذلك ما ذكروه
الثالث ( أن الخمرة لم تكن لأجل إتقاء النجاسة أو الإحتراز منها
____________________
(22/176)
كما يعلل بذلك من يصلى على السجادة ويقول انه إنما يفعل ذلك للإحتراز من نجاسة المسجد أو نجاسة حصر المسجد وفرشه لكثرة دوس العامة عليه فإنه قد ثبت أنه كان يصلى فى نعليه وأنه صلى بأصحابه فى نعليه وهم فى نعالهم وأنه امر بالصلاة فى النعال لمخالفة اليهود وأنه أمر إذا كان بها أذى أن تدلك بالتراب ويصلى بها ومعلوم أن النعال تصيب الأرض وقد صرح فى الحديث بأنه يصلى فيها بعد ذلك الدلك وإن اصابها أذى
فمن تكون هذه شريعته وسنته كيف يستحب أن يجعل بينه وبين الأرض حائلا لأجل النجاسة فإن المراتب أربع
أما الغلاة من الموسوسين فإنهم لا يصلون على الأرض ولا على ما يفرش للعامة على الأرض لكن على سجادة ونحوها وهؤلاء كيف يصلون فى نعالهم وذلك أبعد من الصلاة على الأرض فإن النعال قد لاقت الطريق التى مشوا فيها وإحتمل أن تلقى النجاسة بل قد يقوى ذلك فى بعض المواضع فإذا كانوا لا يصلون على ألارض مباشرين لها بأقدامهم مع ان ذلك الموقف الأصل فيه الطهارة ولا يلاقونه إلا وقت الصلاة فكيف بالنعال التى تكررت ملاقاتها للطرقات التى تمشى فيها البهائم والآدميون وهى مظنة النجاسة ولهذا هؤلاء إذا صلوا على جنازة وضعوا أقدامهم
____________________
(22/177)
على ظاهر النعال لئلا يكونوا حاملين النجاسة ولا مباشرين لها ومنهم من يتورع عن ذلك فإن فى الصلاة على ما فى أسفله نجاسة خلافا معروفا فيفرش لأحدهم مفروش على الأرض وهذه المرتبة أبعد المراتب عن السنة (
الثانية أن يصلى على الحصير ونحوها دون ألأرض وما يلاقيها (
الثالثة أن يصلى على الأرض ولا يصلى فى النعل الذى تكرر ملاقاتها للطرقات فإن طهارة ما يتحرى ألأرض قد يكون ظاهرا وإحتمال تنجيسه بعيد بخلاف أسفل النعل ( الرابعة (
أن يصلى فى النعلين وإذا وجد فيهما أذى دلكهما بالتراب كما أمر بذلك النبى فهذه المرتبة هي التى جاءت بها السنة فعلم أن من كانت سنته هي هذه المرتبة الرابعة إمتنع أن يستحب أن يجعل بينه وبين ألأرض حائلا من سجادة وغيرها لأجل الإحتراز من النجاسة فلا يجوز حمل حديث الخمرة على أنه وضعها لإتقاء النجاسة فبطل إستدلالهم بها على ذلك وأما إذا كانت لإتقاء الحر فهذا يستعمل إذا إحتيج إليه لذلك وإذا إستغنى عنه لم يفعل
الرابع ( أن الخمرة لم يأمر النبى بها الصحابه
____________________
(22/178)
ولم يكن كل منهم يتخذ له خمرة بل كانوا يسجدون على التراب والحصى كما تقدم ولو كان ذلك مستحبا أو سنة لفعلوه ولأمرهم به فعلم أنه كان رخصة لأجل الحاجة إلى ما يدفع الأذى عن المصلى وهم كانوا يدفعون الأذى بثيابهم ونحوها من المعلوم أن الصحابة فى عهده وبعده أفضل منا وإتبع للسنة وأطوع لأمره فلو كان المقصود بذلك ما يقصده متخذوا السجادات لكان الصحابة يفعلون ذلك
الوجه الخامس أن المسجد لم يكن مفروشا بل كان ترابا وحصى وقد صلى النبى صلى الله عليه وسلم على الحصير وفراش امرأته ونحو ذلك ولم يصل هناك لا على خمرة ولا سجادة ولا غيرها
فإن قيل ففى حديث ميمونة وعائشة ما يقتضى أنه كان يصلى على الخمرة فى بيته فإنه قال ناولينى الخمرة من المسجد وأيضا ففى حديث ميمونة المتقدم ما يشعر بذلك
قيل من إتخذ السجادة ليفرشها على حصر المسجد لم يكن له فى هذا الفعل حجة فى السنة بل كانت البدعة فى ذلك منكرة من وجوه
أحدها أن هؤلاء يتقى أحدهم أن يصلى على ألأرض حذرا أن
____________________
(22/179)
تكون نجسة مع أن الصلاة على ألأرض سنة ثابتة بالنقل المتواتر فقد قال ( جعلت لى ألأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره ( ولا يشرع إتقاء الصلاة عليها لأجل هذا بل قد ثبت فى صحيح البخارى عن إبن عمر قال ( كانت الكلاب تقبل وتدبر فى مسجد رسول الله ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ( أو كما قال وفى سنن ابى داود ( تبول وتقبل وتدبر ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ( وهذا الحديث إحتج به من رأى أن النجاسة إذا اصابت الأرض فإنها تطهر بالشمس والريح ونحو ذلك كما هو أحد القولين فى مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما وهو مذهب ابى حنيفة
وإحتجوا أيضا بأن النبى أمر بذلك النعل النجس بالأرض وجعل التراب لها طهورا فإذا كان طهورا فى إزالة النجاسة عن غيره فلآن يكون طهورا فى إزالة النجاسة عن نفسه بطريق الأولى وهذا القول قد يقول به من لا يقول أن النجاسة تطهر بالإستحالة فإن أحد القولين فى مذهب الشافعى وأحمد تطهر بذلك مع قول هؤلاء إن النجاسة لا تطهر بالإستحالة
وأما من قال إن النجاسة تطهر بالإستحالى كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد القولين فى مذهب مالك وهو مذهب
____________________
(22/180)
أبى حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم فالأمر على قول هؤلاء أظهر فإنهم يقولون أن الروث النجس إذا صار رمادا ونحوه فهو طاهر وما يقع فى الملاحة من دم وميتة ونحوهما إذا صار ملحا فهو طاهر
وقد إتفقوا جميعهم أن الخمر إذا إستحالت بفعل الله سبحانه فصارت خلا طهرت وثبت ذلك عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة فسائر الأعيان إذا إنقلبت يقيسونها على الخمر المنقلبة ومن فرق بينهما يعتذر بأن الخمر نجست بالإستحالة فطهرت بالإستحالة لأن العصير كان طاهرا فلما إستحال خمرا نجس فإذا إستحال خلا طهر
وهذا قول ضعيف فإن جميع النجاسات إنما نجست أيضا بالإستحالة فإن الطعام والشراب يتناوله الحيوان طاهرا فى حال الحياة ثم يموت فينجس وكذلك الخنزير والكلب والسباع أيضا عند من يقول بنجاستها إنما خلقت من الماء والطين والتراب الطاهرين
وأيضا فإن هذا الخل والملح ونحوهما أعيان طيبه طاهرة داخلة فى قوله تعالى { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فللمحرم المنجس لها ان يقول أنه حرمها لكونها داخلة فى المنصوص أو لكونها فى معنى الداخلة فيه فكلا الأمرين منتف فإن النص لا يتناولها
____________________
(22/181)
ومعنى النص الذى هو الخبث منتف فيها ولكن كان اصلها نجسا وهذا لا يضر فإن الله يخرج الطيب من الخبيث ويخرج الخبيث من الطيب ولا ريب أ ن هذا القول أقوى فى الحجة نصا وقياسا
وعلى ما تقدم ذكره ينبنى طهارة المقابر فإن القائلين بنجاسة المقبرة العتيقة يقولون أنه خالط التراب صديد الموتى ونحوه وإستحال عن ذلك فينجسونه وأما على قول الإستحالة وغيره من الأقوال فلا يكون التراب نجسا وقد دل على ذلك ما ثبت فى الصحيحين من أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حائطا لبنى النجار وكان فيه قبور المشركين وخرب ونخل فأمر النبى بالقبور فنبشت وبالنخل فقطعت وبالخرب فسويت وجعل قبلة المسجد فهذا كان مقبرة للمشركين ثم ان النبى صلى الله عليه وسلم لما امر بنبشهم لم يأمر بنقل التراب الذى لاقاهم وغيره من تراب المقبرة ولا أمر بالإحتراز من العذرة وليس هذا موضع بسط هذه المسألة لكن الغرض التنبيه على أن ما عليه أكثر أهل الوسواس من توقى الأرض وتنجيسها باطل بالنص وأن كان بعضه فيه نزاع وبعضه باطل بالإجماع أو غيره من الأدلة الشرعية
____________________
(22/182)
الوجه الثانى أن هؤلاء يفترش أحدهم السجادة على مصليات المسلمين من الحصر والبسط ونحو ذلك مما يفرش فى المساجد فيزدادون بدعة على بدعتهم وهذا الأمر لم يفعله أحد من السلف ولم ينقل عن النبى ما يكون شبهة لهم فضلا عن أن يكون دليلا بل يعللون أن هذه الحصر يطؤها عامة الناس ولعل أحدهم أن يكون قد رأى أو سمع أنه بعض الأوقات بال صبى أو غيره على بعض حصر المسجد أو رأى عليه شيئا من ذرق الحمام أو غيره فيصير ذلك حجة فى الوسواس
وقد علم بالتواتر أن المسجد الحرام ما زال يطأ عليه المسلمون على عهد رسول الله وعهد خلفائه وهناك من الحمام ما ليس بغيره ويمر بالمطاف من الخلق ما لا يمر بمسجد من المساجد فتكون هذه الشبهة التى ذكرتموها أقوى ثم انه لم يكن النبى وخلفاؤه وأصحابه يصلى هناك على حائل ولا يستحب ذلك فلو كان هذا مستحبا كما زعمه هؤلاء لم يكن النبى وحلفاؤه وأصحابه متفقين على ترك المستحب الأفضل ويكون هؤلاء أطوع لله وأحسن عملا من النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه فإن هذا خلاف ما ثبت فى الكتاب والسنة والإجماع
وأيضا فقد كانوا يطؤون مسجد رسول الله
____________________
(22/183)
بنعالهم وخفافهم ويصلون فيه مع قيام هذا الإحتمال ولم يستحب لهم هذا الإحتراز الذى إبتدعه هؤلاء فعلم خطؤهم فى ذلك وقد يفرقون بينهما بأن يقولوا الأرض تطهر بالشمس والريح والإستحالة دون الحصير فيقال هذا إذا كان حقا فإنما هو من النجاسة المخففة وذلك يظهر بالوجه ( الثالث
وهو أن النجاسة لا يستحب البحث عما لم يظهر منها ولا الإحتراز عما ليس عليه دليل ظاهر لإحتمال وجوده فإن كان قد قال طائفة من الفقهاء من اصحاب أحمد وغيرهم إنه يستحب الإحتراز عن المشكوك فيه مطلقا فهو قول ضعيف وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ( أنه مر هو وصاحب له بمكان فسقط على صاحبه ماء من ميزاب فنادى صاحبه يا صاحب الميزاب أماؤك طاهر أم نجس فقال له عمر يا صاحب الميزاب لا تخبره فإن هذا ليس عليه ( فنهى عمر عن إخباره لأنه تكلف من السؤال مالم يؤمر به وهذا قد ينبنى على أصل
وهو أن النجاسة إنما يثبت حكمها مع العلم فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة لم تجب عليه الإعادة فى أصح قولى العلماء وهو مذهب مالك وغيره وأحمد فى أقوى الروايتين وسواء كان علمها ثم نسيها أو جهلها إبتداء لما تقدم من
____________________
(22/184)
أن النبى صلى فى نعليه ثم خلعهما فى اثناء الصلاة لما أخبره جبريل أن بهما أذى ومضى فى صلاته ولم يستأنفها مع كون ذلك موجودا فى اول الصلاة لكن لم يعلم به فتكلفه للخلع فى أثنائها مع أنه لولا الحاجة لكان عبثا أو مكروها يدل على أنه مأمور به من إجتناب النجاسة مع العلم ومظنة تدل على العفو عنها فى حال عدم العلم بها
وقد روى أبو داود أيضا عن ام جحدر العامرية أنها سألت عائشة عن دم الحيض يصيب الثوب فقالت ( كنت مع رسول الله وعلينا شعارنا وقد ألقينا فوقه كساء فلما اصبح رسول الله أخذ الكساء فلبسه 4 ثم خرج فصلى الغداة ثم جلس فقال رجل يا رسول الله هذه لمعة من دم فقبض رسول الله ما يليها فبعث بها إلى مصرورة فى يد غلام فقال إغسلى هذا وأجفيها وأرسلى بها إلى فدعوت بقصعتى فغسلتها ثم أجففتها فأعدتها إليه فجاء رسول الله نصف النهار وهى عليه (
وفى هذا الحديث لم يأمر المأمومين بالإعادة ولا ذكر لهم أنه يعيد وأن عليه الإعادة ولا ذكرت ذلك عائشة وظاهر هذا أنه لم يعد ولأن النجاسة من باب المنهى عنه فى الصلاة وباب المنهى عنه
____________________
(22/185)
معفو فيه عن المخطىء والناسى كما قال فى دعاء الرسول والمؤمنين ( ربنا لا تؤخذنا إن نسينا او أخطأنا ( وقد ثبت فى الصحيح من حديث أبى هريرة أن الله إستجاب هذا الدعاء
ولأن الأدلة الشرعية دلت على أن الكلام ونحوه من مبطلات الصلاة يعفى فيها عن الناسى والجاهل وهو قول مالك والشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين وقد دل على ذلك حديث ذى اليدين ونحوه وحديث معاوية بن الحكم السلمى لما شمت العاطس فى الصلاة وحديث إبن مسعود المتفق عليه فى التشهد لما كانوا يقولون أولا السلام على الله قبل عباده فنهاهم عن ذلك وقال أن الله هو السلام وأمرهم بالتشهد المشهور ولم يأمرهم بالإعادة وكذلك حديث الأعرابى الذى قال فى دعائه اللهم إرحمنى وأرحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا وأمثال ذلك
فهذا ونحوه مما يبين أن الأمور المنهى عنها فى الصلا ة وغيرها يعفى فيها عن الناسى والمخطىء ونحوهما من هذاالباب
وإذا كان كذلك فإذا لم يكن عالما بالنجاسة صحت صلاته باطنا وظاهرا فلا حاجة به حينئذ عن السؤال عن أشياء إن أبديت ساءته قد عفا الله عنها وهؤلاء قد يبلغ الحال بأحدهم إلى أن يكره الصلاة
____________________
(22/186)
إلا على سجادة بل قد جعل الصلاة على غيرها محرما فيمتنع منه إمتناعه من المحرم وهذا فيه مشابهة لأهل الكتاب الذين كانوا لا يصلون إلا فى مساجدهم فإن الذى لا يصلى إلا على ما يصنع للصلاة من المفارش شبيه بالذى لا يصلى إلا فيما يصنع للصلاة من الأماكن
وأيضا فقد يجعلون ذلك من شعائر اهل الدين فيعدون ترك ذلك من قله الدين ومن قلة الإعتناء بأمر الصلاة فيجعلون ما ابتدعوه من الهدى الذى ما أنزل به من سلطان أكمل من هدى محمد وأصحابه وربما تظاهر أحدهم بوضع السجادة على منكبه وإظهار المسابح فى يده وجعله من شعار الدين والصلاة وقد علم بالنقل المتواتر ان النبى وأصحابه لم يكن هذا شعارهم وكانوا يسبحون ويعقدون على اصابعهم كما جاء فى الحديث ( اعقدن بالأصابع فإنهن مسؤلات مستنطقات ( وربما عقد أحدهم التسبيح بحصى أو نوى
والتسبيح بالسابح من الناس من كرهه ومنهم من رخص فيه لكن لم يقل احد ان التسبيح به افضل من التسبيح بالأصابع وغيرها وإذا كان هذا مستحبا يظهر فقصد إظهار ذلك والتميز به على الناس مذموم فإنه إن لم يكن رياء فهو تشبه بأهل الرياء إذ كثير ممن يصنع هذا يظهر منه الرياء ولو كان رياء بأمر مشروع لكانت احدى المصيبتن لكنه رياء ليس
____________________
(22/187)
مشروعا وقد قال تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال الفضيل إبن عياض رضى الله عنه أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا على ما أخلصه وأصوبه قال ان العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ان يكون لله والصواب ان يكون على السنة
وهذا الذى قاله الفضيل متفق عليه بين المسلمين فإنه لابد له فى العمل ان يكون مشروعا مأمورا به وهو العمل الصالح ولا بد ان يقصد به وجه الله كما قال تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول ( اللهم اجعل عملى كله صالحا وإجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لاحد فيه شيئا ( ومنه قوله تعالى { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وقال تعالى { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا }
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( يقول الله تعالى ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيرى فإنى منه بريء وهو كله للذى أشرك به ) وفى السنن عن العرباض بن سارية قال ( وعظنا رسول الله
____________________
(22/188)
عليه وسلم موعظة ذرقت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعيش منكم فسيرى إختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ( وفى الصحيحين عن عائشة عن النبى أنه قال ( من احدث فى أمرنا ماليس منه فهو رد ( وفى لفظ ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وفى صحيح مسلم عن جابر ان رسول الله كان يقول فى خطبته ( إن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (
وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد فهذا منهى عنه بإتفاق المسلمين بل محرم وهل تصح صلاته على ذلك المفروش فيه قولان للعلماء لأنه غصب بقعة فى المسجد بفرش ذلك المفروش فيها ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلى فى ذلك المكان ومن صلى فى بقعة من المسجد مع منع غيره ان يصلى فيها فهل هو كالصلاة فى الأرض المغصوبة على وجهين وفى الصلاة فى الأرض
____________________
(22/189)
المغصوبة قولان للعلماء وهذا مستند من كره الصلاة فى المقاصير التى يمنع الصلاة فيها عموم الناس
والمشروع فى المسجد أن الناس يتمون الصف الأول كما قال النبى ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها قال يتمون الصف الأول فالأول ويتراصون فى الصف ( وفى الصحيحين عنه أنه قال ( لو يعلم الناس ما فى النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لإستهموا ولو يعلمون ما فى التهجير لإستبقوا إليه (
والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد فإذا قدم المفروش وتأخر هو فقد خالف الشريعة من وجهين من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد ومنعه السابقين إلى المسجد أن يصلوا فيه وأن يتموا الصف الأول فالأول ثم أنه يتخطى الناس إذا حضروا وفى الحديث ( الذى يتخطى رقاب الناس يتخذ جسرا إلى جهنم ( وقال النبى للرجل ( إجلس فقد آذيت (
ثم إذا فرش هذا فهل لمن سبق إلى المسجد أن يرفع ذلك ويصلى موضعه فيه قولان
____________________
(22/190)
أحدهما ليس له ذلك لأنه تصرف فى ملك الغير بغير إذنه
والثانى وهو الصحيح أن لغيره رفعه والصلاة مكانه لأن هذا السابق يستحق الصلاة فى ذلك الصف المقدم وهو مأمور بذلك ايضا وهو لا يتمكن من فعل هذا المامور وإستيفاء هذا الحق إلا برفع ذلك المفروش ومالا يتم المامور إلا به فهو مأمور به
وأيضا فذلك المفروش وضعه هناك على وجه الغصب وذلك منكر وقد قال النبى ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ( لكن ينبغى أن يراعى فى ذلك أن لا يؤول إلى منكر أعظم منه والله تعالى أعلم والحمد لله وحده
وسئل رحمه الله
عن الحديث ( أن النبى صلى على سجادة ( فقد أورد شخص عن عبد الله بن عمر عن عائشة عن النبى ( أنه توضأ وقال يا عائشة إئتيني بالخمرة فأتت به فصلى عليه ( فأجاب لفظ الحديث ( أنه طلب الخمرة ( والخمرة شيء يصنع من الخوص
____________________
(22/191)
فسجد عليه يتقى به حر الأرض وأذاها فإن حديث الخمرة صحيح وأما إتخاذها كبيرة يصلى عليها يتقى بها النجاسة ونحوها فلم يكن النبى يتخذ سجادة يصلى عليها ولا الصحابة بل كانوا يصلون حفاة ومنتعلين ويصلون على التراب والحصير وغير ذلك من غير حائل
وقد ثبت عنه فى الصحيحين ( أنه كان يصلى فى نعليه ( وقال ( إن اليهود لا يصلون فى نعالهم فخالفوهم ( وصلى مرة فى نعليه واصحابه فى نعالهم فخلعهما فى الصلاة فخلعوا فقال ( مالكم خلعتم نعالكم قالوا رأيناك خلعت فخلعنا قال إن جبريل أتانى فأخبرنى أن فيهما أذى فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر فى نعليه فإن كان فيهما أذى فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور (
فإذا كان النبى وأصحابه يصلون فى نعالهم ولا يخلعونها بل يطؤون بها على الأرض ويصلون فيها فكيف يظن أنه كان يتخذ سجادة يفرشها على حصير أو غيره ثم يصلى عليها فهذا لم يكن أحد يفعله من الصحابة وينقل عن مالك أنه لما قدم بعض العلماء وفرش فى مسجد النبى شيئا من ذلك أمر بحبسه وقال ( أما علمت أن هذا فى مسجدنا بدعة والله أعلم
____________________
(22/192)
وسئل أيضا رحمه الله تعالى
عمن تحجر موضعا من المسجد بسجادة أو بساط أو غير ذلك هل هو حرام وإذا صلى إنسان على شيء من ذلك بغير إذن مالكه هل يكره أم لا ( فأجاب (
ليس لأحد أن يتحجر من المسجد شيئا لا سجادة يفرشها قبل حضوره ولا بساطا ولا غير ذلك وليس لغيره أن يصلى عليها بغير إذنه لكن يرفعها ويصلى مكانها فى أصح قولى العلماء والله أعلم
وسئل
عن دخول النصرانى أو اليهودى فى المسجد بإذن المسلم أو بغير إذنه أو يتخذه طريقا فهل يجوز
فأجاب
ليس للمسلم أن يتخذ المسجد طريقا فكيف إذا اتخذه الكافر طريقا فإن هذا يمنع بلا ريب
____________________
(22/193)
وأما إذا كان دخله ذمى لمصلحة فهذا فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد
أحدهما لا يجوز وهو مذهب مالك لأن ذلك هو الذى إستقر عليه عمل الصحابة
والثانى يجوز وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى وفى إشتراط إذن المسلم وجهان فى مذهب أحمد وغيره
وسئل
هل تصح الصلاة فى المسجد إذا كان فيه قبر والناس تجتمع فيه لصلاتى الجماعة والجمعة أم لا وهل يمهد القبر أو يعمل عليه حاجز أو حائط
فأجاب
الحمد لله إتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر لأن النبى قال ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك
____________________
(22/194)
وأنه لا يجوز دفن ميت فى مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غير أما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديدا
وإن كان المسجد بنى بعد القبر فأما أن يزال المسجد وإما أن تزال صورة القبر فالمسجد الذى على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل فإنه منهى عنه
وسئل
عن جماعة نازلين فى الجامع مقيمين ليلا ونهارا وأكلهم وشربهم ونومهم وقماشهم وأثاثهم الجميع فى الجامع ويمنعون من ينزل عندهم من غير جنسهم وحكروا الجامع ثم إن جماعة دخلوا بعض المقاصير يقرؤون القرآن إحتسابا فمنعهم بعض المجاورين وقال هذا موضعنا فهل يجوز ذلك أفتونا مأجورين
فأجاب
الحمد لله ليس لأحد من الناس أن يختص بشيء من المسجد بحيث يمنع غيره منه دائما بل قد ( نهى النبى عن إيطان كإيطان البعير (
قال العلماء معناه أن يتخذ الرجل مكانا من المسجد لا يصلى
____________________
(22/195)
إلا فيه فإذا كان ليس له ملازمة مكان بعينه للصلاة كيف بمن يتحجر بقعة دائما هذا لو كان إنما يفعل فيها ما يبنى له المسجد من الصلاة والذكر ونحو ذلك فكيف إذا إتخذ المسجد بمنزلة البيوت فيه أكله وشربه ونومه وسائر أحواله التى تشتمل على مالم تبن المساجد له دائما فإن هذا يمنع بإتفاق المسلمين فإنما وقعت الرخصة فى بعض ذلك لذوى الحاجة مثل ما كان أهل الصفة كان الرجل يأتى مهاجرا إلى المدينة وليس له مكان يأوى إليه فيقيم بالصفة إلى أن يتيسر له أهل أو مكان يأوى إليه ثم ينتقل ومثل المسكينة التى كانت تأوى إلى المسجد وكانت تقمه ومثل ما كان إبن عمر يبيت فى المسجد وهو عزب لأنه لم يكن له بيت يأوى إليه حتى تزوج
ومن هذا الباب على بن أبى طالب لما تقاول هو وفاطمة ذهب إلى المسجد فنام فيه فيجب الفرق بين الأمر اليسير وذوى الحاجات وبين ما يصير عادة ويكثر وما يكون لغير ذوى الحاجات ولهذا قال إبن عباس لا تتخذوا المسجد مبيتا ومقيلا هذا ولم يفعل فيه إلا النوم فكيف ما ذكر من الأمور والعلماء قد تنازعوا فى المعتكف هل ينبغى له ان يأكل فى المسجد أو فى بيته مع أنه مأمور بملازمة المسجد وأن لا يخرج منه إلا لحاجة
والأئمة كرهوا إتخاذ المقاصير فى المسجد لما احدثها بعض الملوك لأجل الصلاة خاصة وأولئك إنما
____________________
(22/196)
كانوا يصلون فيها خاصة
فأما إتخاذها للسكنى والمبيت وحفظ القماش والمتاع فيها فما علمت مسلما ترخص فى ذلك فإن هذا يجعل المسجد بمنزلة الفنادق التى فيها مساكن متحجرة والمسجد لا بد أن يكون مشتركا بين المسلمين لا يختص أحد بشيء منه إلا بمقدار لبثه للعمل المشروع فيه فمن سبق إلى بقعة من المسجد لصلاة أو قراءة أو ذكر أو تعلم علم أو إعتكاف ونحو ذلك فهو أحق به حتى يقضى ذلك العمل ليس لأحد إقامته منه فإن النبى نهى أن يقام الرجل من مجلسة ولكن يوسع ويفسح وإذا إنتقض وضوءه ثم عاد فهو أحق بمكانه فإن النبى صلى الله عليه وسلم سن ذلك قال ( إذا قام الرجل عن مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به (
واما أن يختص بالمقام والسكنى فيه كما يختص الناس بمساكنهم فهذا من أعظم المنكرات بإتفاق المسلمين وأبلغ ما يكون من المقام فى المسجد مقام المعتكف كما كان النبى يعتكف فى المسجد وكان يحتجر له حصيرا فيعتكف فيه وكان يعتكف فى قبة وكذلك كان الناس يعتكفون فى المساجد ويضربون لهم فيه القباب فهذا مدة الإعتكاف خاصة والإعتكاف عبادة شرعية وليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لما لابد منه والمشروع له
____________________
(22/197)
ان لا يشتغل إلا بقربة إلى الله والذى يتخذه سكنا ليس معتكفا بل يشتمل على فعل المحظور وعلى المنع من المشروع فإن من كان بهذه الحال منع الناس من أن يفعلوا فى تلك البقعة ما بنى له المسجد من صلاة وقراءة وذكر كما فى الإستفتاء أن بعضهم يمنع من يقرأ القرآن فى تلك البقعة كغيره من القراء والذى فعله هذا الظالم منكرمن وجوه
أحدها ( إتخاذ المسجد مبيتا ومقيلا وسكنا كبيوت الخانات والفنادق (
والثانى منعه من يقرأ القرآن حيث يشرع
والثالث منع بعض الناس دون بعض فإن إحتج بأن أولئك يقرؤون لأجل الوقف الموقوف عليهم وهذا ليس من أهل الوقف كان هذا العذر أقبح من المنع لأن من يقرأ القرآن محتسبا أولى بالمعاونة ممن يقرأه لأجل الوقف وليس للواقف أن يغير دين الله وليس بمجرد وقفه يصير لأهل الوقف فى المسجد حق لم يكن لهم قبل ذلك ولهذا لو أراد الواقف أن يحتجر بقعة من المسجد لأجل وقفه بحيث يمنع غيره منها لم يكن له ذلك ولو عين بقعة من المسجد لما أمر به من قراءة أو تعليم ونحو ذلك لم تتعين تلك البقعة كما لا تتعين فى
____________________
(22/198)
النذر فإن الإنسان لو نذر أن يصلى ويعتكف فى بقعة من المسجد لم تتعين تلك البقعة وكان له أن يصلى ويعتكف فى سائر بقاع المسجد عند عامة أهل العلم لكن هل عليه كفارة يمين على وجهين فى مذهب أحمد
وأما الأئمة الثلاثة فلا يوجبون عليه كفارة وهذا لأنه لا يجب بالنذر إلا ما كان طاعة بدون النذر وإلا فالنذر لا يجعل ما ليس بعبادة عبادة والناذر ليس عليه أن يوقف إلا ما كان طاعة لله كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه
ولهذا لو نذر حراما أو مكروها أو مباحا مستوى الطرفين لم يكن عليه الوفاء به
وفى الكفارة قولان أوجبها فى المشهور أحمد ولم يوجبها الثلاثة
وكذلك شرط الواقف والبائع وغيرهما
كما قال النبى ( ما بال رجال يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله من إشترط شرطا ليس فى كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ( وهذا كله
____________________
(22/199)
لأنه ليس لأحد أن يغير شريعته التى بعث بها رسوله ولا يبتدع فى دين الله ما لم يأذن به الله ولا يغير أحكام المساجد عن حكمها الذى شرع الله ورسوله والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن النوم فى المسجد والكلام والمشى بالنعال فى أماكن الصلاة هل يجوز ذلك أم لا
فأجاب
أما النوم أحيانا للمحتاج مثل الغريب والفقير الذى لا مسكن له فجائز وأما إتخاذه مبيتا ومقيلا فينهون عنه
وأما الكلام الذى يحبه الله ورسوله فى المسجد فحسن وأما المحرم فهو فى المسجد أشد تحريما وكذلك المكروه ويكره فيه فضول المباح
وأما المشى بالنعال فجائز كما كان الصحابة يمشون بنعالهم فى مسجد النبى لكن ينبغى للرجل إذا أتى المسجد أن يفعل ما أمره به رسول الله فينظر فى نعليه فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور والله أعلم
____________________
(22/200)
وسئل
عن السواك وتسريح اللحية فى المسجد هل هو جائز أم لا
فأجاب
أما السواك فى المسجد فما علمت أحدا من العلماء كرهه بل الآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون فى المسجد ويجوز أن يبصق الرجل فى ثيابه فى المسجد ويمتخط فى ثيابه بإتفاق الأئمة وبسنة رسول الله الثابتة عنه بل يجوز التوضؤ فى المسجد بلا كراهة عند جمهور العلماء فإذا جاز الوضوء فيه مع أن الوضوء يكون فيه السواك وتجوز الصلاة فيه والصلاة يستاك عندها فكيف يكره السواك وإذا جاز البصاق والإمتخاط فيه فكيف يكره السواك
وأما التسريح فإنما كرهه بعض الناس بناء على أن شعر الإنسان المنفصل نجس ويمنع أن يكون فى المسجد شيء نجس أو بناء على أنه كالقذاة وجمهور العلماء على أن شعر الإنسان المنفصل عنه طاهر كمذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد فى ظاهر مذهبه وأحد الوجهين فى مذهب الشافعى وهو الصحيح فإن النبى صلى الله
____________________
(22/201)
عليه وسلم حلق رأسه واعطى نصفه لأبى طلحة ونصفه قسمه بين الناس
و (
وباب الطهارة والنجاسة ( يشارك النبى فيه أمته بل الأصل أنه أسوة لهم فى جميع الأحكام إلا ما قام فيه دليل يوجب إختصاصه به وايضا الصحيح الذى عليه الجمهور أن شعور الميتة طاهرة بل فى أحد قولى العلماء وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد فى إحدى الروايتين أن جميع الشعور طاهرة حتى شعر الخنزير وعلى القولين إذا سرح شعره وجمع الشعر فلم يترك فى المسجد فلا بأس بذلك
وأما ترك شعره فى المسجد فهذا يكره وإن لم يكن نجسا فإن المسجد يصان حتى عن القذاة التى تقع فى العين والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن الضحايا هل يجوز ذبحها فى المسجد وهل تغسل الموتى وتدفن الأجنة فيها وهل يجوز تغيير وقفها من غير منفعة تعود عليها وهل يجوز الإستنجاء فى المسجد والغسل وإذا لم يجز فما جزاء
____________________
(22/202)
من يفعله ولا يأتمر بأمر الله ولا ينتهى عما نهى عنه وإن أفتاه عالم سبه وهل يجب على ولى الأمر زجره ومنعه وإعادة الوقف إلى ما كان عليه
فأجاب لا يجوز أن يذبح فى المسجد لا ضحايا ولا غيرها كيف والمجزرة المعدة للذبح قد كره الصلاة فيها إما كراهية تحريم وإما كراهية تنزيه فكيف يجعل المسجد مشابها للمجزرة وفى ذلك من تلويث الدم للمسجد ما يجب تنزيهه
وكذلك لا يجوز أن يدفن فى المسجد ميت لا صغير ولا كبير ولا جنين ولا غيره فإن المساجد لا يجوز تشبيهها بالمقابر
وأما تغيير الوقف لغير مصلحة فلا يجوز ولا يجوز الإستنجاء فيها
وأما الوضوء ففى كراهته فى المسجد نزاع بين العلماء والأرجح أنه لا يكره إلا أن يحصل معه إمتخاط أو بصاق فى المسجد فإن البصاق فى المسجد خطيئة وكفارتها دفنها فكيف بالمخاط
ومن لم يأتمر بما أمره الله به وينته عما نهى الله عنه بل يرد على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فإنه يعاقب العقوبة الشرعية التى توجب له ولأمثاله أداء الواجبات وترك المحرمات
____________________
(22/203)
ولا تغسل الموتى فى المسجد وإذا أحدث فى المسجد ما يضر بالمصلين أزيل ما يضرهم وعمل بما يصلحهم إما إعادته إلى الصفة الأولى أو أصلح والله أعلم
وسئل
عمن يعلم الصبيان فى المسجد هل يجوز له البيات فى المسجد
فأجاب
الحمد لله يصان المسجد عما يؤذيه ويؤذى المصلين فيه حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه وكذلك توسيخهم لحصره ونحو ذلك لا سيما إن كان وقت الصلاة فإن ذلك من عظيم المنكرات
وأما المبيت فيه فإن كان لحاجة كالغريب الذى لا أهل له والغريب الفقير الذى لا بيت له ونحو ذلك إذا كان يبيت فيه بقدر الحاجة ثم ينتقل فلا بأس وأما من إتخذه مبيتا ومقيلا فلا يجوز ذلك
____________________
(22/204)
وسئل رحمه الله
عن مسجد يقرأ فيه القرآن والتلقين بكرة وعشية ثم على باب المسجد شهود يكثرون الكلام ويقع التشويش على القراء فهل يجوز ذلك أم لا
فأجاب
الحمد لله ليس لأحد أن يؤذى أهل المسجد أهل الصلاة أو القراءة أو الذكر أو الدعاء ونحو ذلك مما بنيت المساجد له فليس لأحد أن يفعل فى المسجد ولا على بابه أو قريبا منه ما يشوش على هؤلاء بل قد خرج النبى صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال ( أيها الناس كلكم يناجى ربه فلا يجهر بعضكم على بعض فى القراءة ( فإذا كان قد نهى المصلى أن يجهر على المصلى فكيف بغيره ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يفضى إلى ذلك منع من ذلك والله أعلم
____________________
(22/205)
وسئل (
عن السؤال فى الجامع هل هو حلال أم حرام أو مكروه وأن تركه أوجب من فعله (
فأجاب (
الحمد لله أصل السؤال محرم فى المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة فإن كان به ضرورة وسأل فى المسجد ولم يؤذ أحدا بتخطيه رقاب الناس ولا غير تخطيه ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله ولم يجهر جهرا يضر الناس مثل أن يسأل والخطيب يخطب أو وهم يسمعون علما يشغلهم به ونحو ذلك جاز والله أعلم
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
فصل
فى ( إستقبال القبلة ( وأنه لا نزاع بين العلماء فى الواجب من ذلك وإن النزاع بين القائلين بالجهة والعين لا حقيقة له
قال الله تعالى
____________________
(22/206)
{ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } إلى قوله { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } وشطره نحوه وتلقاؤه كما قال ** أقيمى أم زنباع أقيمى ** صدور العيس شطر بنى تميم **
وقال ( ولكل وجهة هو موليها ( و ( الوجهة ( هي الجهة كما فى عدة وزنة أصلها وعدة ووزنة فالقبلة هي التى تستقبل والوجهة هي التى يوليها
وهو سبحانه أمره بأن يولى وجهه شطر المسجد الحرام والمسجد الحرام هو الحرم كله كما فى قوله { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وليس ذلك مختصا بالكعبة وهذا يحقق الأثر المروي ( الكعبة قبلة المسجد والمسجد قبلة مكة ومكة قبلة الحرم والحرم قبلة الأرض ( وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه صلى فى قبلة الكعبة ركعتين وقال ( هذه القبلة ( وثبت عنه فى الصحيحين أنه قال ( لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا ( فنهى عن إستقبال القبلة بغائط أو بول وأمر بإستقبالها فى الصلاة فالقبلة التى نهى عن إستقبالها
____________________
(22/207)
وإستدبارها بالغائط والبول هي القبلة التى أمر المصلى بإستقبالها فى الصلاة
وقال ( صلى الله عليه وسلم ما بين المشرق والمغرب قبلة ( قال الترمذى حديث صحيح وهكذا قال غير واحد من الصحابة مثل عمر وعثمان وعلى بن أبى طالب وإبن عباس وإبن عمر وغيرهم ولا يعرف عن أحد من الصحابة فى ذلك نزاع وهكذا نص عليه ائمة المذاهب المتبوعة وكلامهم فى ذلك معروف وقد حكى متأخروا الفقهاء فى ذلك قولين فى مذهب أحمد وغيره
وقد تأملت نصوص أحمد فى هذا الباب فوجدتها متفقة لا إختلاف فيها وكذلك يذكر الإختلاف فى مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعى وهو عند التحقيق ليس بخلاف بل من قال يجتهد أن يصلى إلى عين الكعبة أو فرضه إستقبال عين الكعبة بحسب إجتهاده فقد أصاب ومن قال يجتهد أن يصلى إلى جهة الكعبة أو فرضه إستقبال القبلة فقد اصاب وذلك انهم متفقون على أن من شاهد الكعبة فإنه يصلى إليها ومتفقون على أنه كلما قرب المصلون إليها كان صفهم أقصر من البعيدين عنها وهذا شأن كل ما يستقبل
فالصف القريب منها لا يزيد طوله على قدر الكعبة ولو زاد
____________________
(22/208)
لكان الزائد مصليا إلى غير الكعبة والصف الذى خلفه يكون اطول منه وهلم جرا فإذا كانت الصفوف تحت سقائف المسجد كانت منحنية بقدر ما يستقبلون الكعبة وهم يصلون إليها وإلى جهتها أيضا فإذا بعد الناس عنها كانوا مصلين إلى جهتها وهم مصلون إليها ايضا ولو كان الصف طويلا يزيد طوله على قدر الكعبة صحت صلاتهم بإتفاق المسلمين وإن كان الصف مستقيما حيث لم يشاهدوها ومن المعلوم أنه لو سار من الصفوف على خط مستقيم إليها لكان ما يزيد على قدرها خارجا عن مسافتها
فمن توهم أن الفرض أن يقصد المصلى الصلاة فى مكان لو سار على خط مستقيم وصل إلى عين الكعبة فقد أخطأ ومن فسر وجوب الصلاة إلى العين بهذا وأوجب هذا فقد أخطأ وإن كان هذا قد قاله قائل من المجتهدين فهذا القول خطأ خالف نص الكتاب والسنة وإجماع السلف بل وإجماع الأمة فإن الأمة متفقة على صحة صلاة الصف المستطيل الذى يزيد طوله على سمت الكعبة بأضعاف مضاعفة وإن كان الصف مستقيما لا إنحناء فيه ولا تقوس
فإن قيل مع البعد لا يحتاج إلى الإنحناء والتقوس كما يحتاج إليه فى القرب كما أن الناس إذا إستقبلوا الهلال أو الشمس أو جبلا من الجبال فإنهم يستقبلونه مع كثرتهم وتفرقهم ولو كان قريبا لم يستقبلوه
____________________
(22/209)
إلا مع القلة والإجتماع قيل لا ريب أنه ليس الإنحناء والتقوس فى البعد بقدر الإنحناء والتقوس فى القرب بل كلما زاد البعد قل الإنحناء وكلما قرب كثر الإنحناء حتى يكون أعظم الناس إنحناء وتقوسا الصف الذى يلى الكعبة ولكن مع هذا فلابد من التقوس والإنحناء فى البعد إذا كان المقصود أن يكون بينه وبينها خط مستقيم بحيث لو مشى إليه لوصل إليها لكن يكون التقوس شيئا يسيرا جدا كما قيل أنه إذا قدر الصف ميلا وهو مثلا فى الشام كان الإنحناء من كل واحد بقدر شعيرة فإن هذا ذكره بعض من نص على وجوب إستقبال العين وقال إن مثل هذا التقوس اليسير يعفى عنه
فيقال له فهذا معنى قولنا إن الواجب إستقبال الجهة وهو العفو عن وجوب تحرى مثل هذا التقوس والإنحناء فصار النزاع لفظيا لا حقيقة له فالمقصود أن من صلى إلى جهتها فهو مصل إلى عينها وإن كان ليس عليه أن يتحرى مثل هذا ولا يقال لمن صلى كذلك أنه مخطىء فى الباطن معفو عنه بل هذا مستقبل القبلة باطنا وظاهرا وهذا هو الذى أمر به ولهذا لما بنى أصحاب رسول الله مساجد الأمصار كان فى بعضها مالو خرج منه خط مستقيم إلى الكعبة لكان منحرفا وكانت صلاة المسلمين فيه جائزة بإتفاق المسلمين
____________________
(22/210)
وبهذا يظهر حقيقة قول من قال إن من قرب منها أو من مسجد النبى لا تكون إلا على خط مستقيم لأنه لا يقر على خطأ فيقال هؤلاء إعتقدوا أن مثل هذه القبلة تكون خطأ وإنما تكون خطأ لو كان الفرض أن يتحرى إستقبال خط مستقيم بين وسط أنفه وبينها وليس الأمر كذلك بل قد تقدم نصوص الكتاب والسنة بخلاف ذلك
ونظير هذا قول بعضهم إذا وقف الناس يوم العاشر خطأ أجزأهم فالصواب أن ذلك هو يوم عرفة باطنا وظاهرا ولا خطأ فى ذلك بل يوم عرفة هو اليوم الذى يعرف فيه الناس والهلال إنما يكون هلالا إذا إستهله الناس وإذا طلع ولم يستهلوه فليس بهلال مع أن النزاع فى الهلال مشهور هل هو إسم لما يطلع وإن لم يستهل به أو لما يستهل به وفيه قولان معروفان فى مذهب أحمد وغيره بخلاف النزاع فى إستقبال الكعبة
ويدل على ذلك أنه لو قيل بأن على الإنسان أن يتحرى أن يكون بين وسط أنفه وجبهته وبينها خط مستقيم قيل فلا بد من طريق يعلم بها ذلك فإن الله لم يوجب شيئا إلا وقد نصب على العلم به دليلا ومعلوم أن طريق العلم بذلك لا يعرفه إلا خاصة الناس مع إختلافهم فيه ومع كثرة الخطأ فى ذلك ووجوب إستقبال القبلة عام
____________________
(22/211)
لجميع المسلمين فلا يكون العلم الواجب خفيا لا يعلم إلا بطريق طويلة صعبة مخوفة مع تعذر العلم بذلك أو تعسره فى أغلب الأحوال
ولهذا كان الذين سلكوا هذه الطريق يتكلمون بلا علم مع إختلافهم فى ذلك والدليل المشهور لهم الجدى والقطب فمنهم من يقول القطب هو الجدى وهو كوكب خفى وهذا خطأ من ثلاثة أوجه فإن القطب ليس هو الجدى والجدى ليس بكوكب خفى بل كوكب نير والقطب ليس أيضا كوكبا ومنهم من يقول الجدى هو كوكب خفى وهو خطأ وجمهورهم يقولون القطب كوكب خفى ويحكون قولين فى القطب هل يدور أو لا يدور وهذا تخليط فإن القطب الذى هو مركز الحركة لا يتغير عن موضعه كما أن قطب الرحى لا يتغير عن موضعه ولكن هناك كوكب صغير خفى قريب منه
وهذا إذا سمى قطبا كان تسميته بإعتبار كونه أقرب الكواكب إلى القطب وهذا يدور فالكواكب تدور بلا ريب ومدار الحركة الذى هو قطبها لا يدور بلا ريب فحكاية قولين فى ذلك كلام من لم يميز بين هذا وهذا والدليل الظاهر هو الجدى والإستدلال به على العين إنما يكون فى بعض الأوقات لا في جميعها فإن القطب إذا كانت الشمس فى وسط السماء عند تناهى قصر الظلال يكون القطب محاذيا للركن الشامى من البيت الذى يكون عن
____________________
(22/212)
يمين المستقبل للباب فمن كان بلده محاذيا لهذا القطب كأهل حران ونحوهم كانت صلاتهم إلى الركن ولهذا يقال أعدل القبل قبلتهم
ومن كان بلده غربى هؤلاء كأهل الشام فإنهم يميلون إلى جهة المشرق قليلا بقدر بعدهم عن هذا الخط فكلما بعدوا ازدادوا فى الإنحراف ومن كان شرقى هؤلاء كأهل العراق كانت قبلته بالعكس ولهذا كان أهل تلك البلاد يجعلون القطب وما قرب منه خلف أقفائهم وأهل الشام يميلون قليلا فيجعلون ما بين الأذن اليسرى ونقرة القفا أو خلف الأذن اليسرى بحسب قرب البلد وبعده عن هؤلاء وأهل العراق يجعلون ذلك خلف الأذن اليمنى ومعلوم أن النبى والصحابة لم يأمروا أحدا بمراعاة القطب ولا ما قرب منه ولا الجدى ولا بنات نعش ولا غير ذلك
ولهذا أنكر الإمام أحمد على من أمر بمراعاة ذلك وأمر أن لا تعتبر القبلة بالجدى وقال ليس فى الحديث ذكر الجدى ولكن ما بين المشرق والمغرب قبلة وهو كما قال فإنه لو كان تحديد القبلة بذلك واجبا أو مستحبا لكان الصحابة أعلم بذلك وإليه أسبق ولكان النبى بين ذلك فإنه لم يدع من الدين شيئا إلا بينه فكيف وقد صرح بأن ما بين المشرق والمغرب قبلة ونهى عن إستقبال القبلة وإستدبارها بغائط أو بول ومعلوم بإتفاق
____________________
(22/213)
المسلمين ان المنهى عنه من ذلك ليس هو أن يكون بين المتخلى وبين الكعبة خط مستقيم بل المنهى عنه أعم من ذلك وهوأمر بإستقبال القبلة فى حال كما نهى عن إستقبالها فى حال وإن كان النهى قد يتناول مالا يتناوله الأمر لكن هذا يوافق قوله ( مابين المشرق والمغرب قبلة (
وأيضا فإن تعليق الدين بذلك يفضى إلى تنازع الأمة وإختلافها فى دينها والله قد نهى عن التفرق والإختلاف فإن جماهير الناس لا يعلمون ذلك تحديدا وإنما هم فيه مقلدون لمن قرب ذلك فالتحديد فى هذا متعذر أو متعسر ومثل هذا لا ترد به الشريعة والذين يدعون الحساب ومعرفة ذلك تجد أكثرهم يتكلمون فى ذلك بما هو خطأ وبما إذا طولبوا بدليله رجعوا إلى مقدمات غير معلومة وأخبار من لا يوثق بخبره والذين ذكروا بعض ذلك من الفقهاء هم تلقوه عن هؤلاء ولم يحكموه فصار مرجع أتباع هؤلاء وهؤلاء إلى تقليد يتضمن خطأ فى كثير من المواضيع ثم يدعى هذا أن هذه القبلة التى عينها هي الصواب دون ما عينه الآخر ويدعى الآخر ضد ذلك حتى يصير الناس أحزابا وفرقا وكل ذلك مما نهى الله عنه ورسوله
وسبب ذلك أنهم أدخلوا فى دينهم ما ليس منه وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله فإختلفوا فى تلك البدعة التى شرعوها لأنها
____________________
(22/214)
لا ضابط لها
كما يختلف الذين يريدون أن يعلموا طلوع الهلال بالحساب أو طلوع الفجر بالحساب وهو أمر لا يقوم عليه دليل حسابى مطرد بل ذلك متناقض مختلف فهؤلاء أعرضوا عن الدين الواسع والأدلة الشرعية فدخلوا فى أنواع من الجهل والبدع مع دعواهم العلم والحذق كذلك يفعل الله بمن خرج عن المشروع إلى البدع وتنطع فى الدين
وقد ثبت فى الصحيح صحيح مسلم عن الأحنف بن قيس عن إبن مسعود عن النبى أنه قال ( هلك المتنطعون ( قالها ثلاثا ورواه أيضا أحمد وأبو داود
وأيضا فإن الله قال { فول وجهك شطر المسجد الحرام } وقال { ولكل وجهة هو موليها } أى مستقبلها وقال النبى ( هذه القبلة ( والقبلة ما يستقبل وقال ( من صلى صلاتنا وإستقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فذلك المسلم له مالنا وعليه ما علينا (
وأجمع المسلمون على أنه يجب على المصلى إستقبال القبلة في الجملة فالمأمور به الإستقبال للقبلة وتولية الوجه شطر المسجد الحرام فينظر هل الإستقبال وتولية الوجه من شرطه أن يكون وسط وجهه مستقبلا
____________________
(22/215)
لها كوسط الأنف وما يحاذيه من الجبهة والذقن ونحو ذلك أو يكون الشخص مستقبلا لما يستقبله إذا وجه إليه وجهه وإن لم يحاذه بوسط وجهه فهذا أصل المسألة
ومعلوم أن الناس قد سن لهم أن يستقبلوا الخطيب بوجوههم ونهوا عن إستقبال القبلة بغائط أو بول وامثال ذلك مما لم يشترط فيه أن يكون الإستقبال بوسط الوجه والبدن بل لو كان منحرفا إنحرافا يسيرا لم يقدح ذلك فى الإستقبال
والإسم إن كان له حد فى الشرع رجع إليه وإلا رجع إلى حده فى اللغة والعرف والإستقبال هنا دل عليه الشرع واللغة والعرف وأما الشارع فقال ( مابين المشرق والمغرب قبلة ( ومعلوم أن من كان بالمدينة والشام ونحوهما إذا جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه فهو مستقبل للكعبة ببدنه بحيث يمكن أن يخرج من وجهه خط مستقيم إلى الكعبة ومن صدره وبطنه لكن قد لا يكون ذلك الخط من وسط وجهه وصدره فعلم أن الإستقبال بالوجه أعم من ان يختص بوسطه فقط والله أعلم
____________________
(22/216)
وسئل عن النية فى الطهارة والصلاة والصيام والحج وغير ذلك فهل محل ذلك القلب أم اللسان وهل يجب أن نجهر بالنية أو يستحب ذلك أو قال أحد من المسلمين أن لم يفعل ذلك بطلت صلاته أو غيرها أو قال إن صلاة الجاهر أفضل من صلاة الخافت إماما كان أو مأموما أو منفردا وهل التلفظ بها واجب أم لا أو قال أحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم من أئمة المسلمين إن لم يتلفظ بالنية بطلت صلاته
وإذا كانت غير واجبة فهل يستحب التلفظ بها وما السنة التى كان عليها رسول الله والخلفاء الراشدون وإذا اصر على الجهر بها معتقدا أن ذلك مشروع فهل هو مبتدع مخالف لشريعة الإسلام أم لا وهل يستحق التعزير على ذلك إذا لم ينته وابسطوا لنا الجواب
فأجاب الحمد لله محل النية القلب دون اللسان بإتفاق أئمة
____________________
(22/217)
المسلمين فى جميع العبادات الصلاة والطهارة والزكاة والحج والصيام والعتق والجهاد وغير ذلك ولو تكلم بلسانه بخلاف ما نوى فى قلبه كان الإعتبار بما نوى بقلبه لا باللفظ ولو تكلم بلسانه ولم تحصل النية فى قلبه لم يجزئ ذلك بإتفاق أئمة المسلمين
فإن النية هي من جنس القصد ولهذا تقول العرب نواك الله بخير أى قصدك بخير وقول النبى ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ( مراده بالنية النية التى فى القلب دون اللسان بإتفاق أئمة المسلمين الأئمة الأربعة وغيرهم
وسبب الحديث يدل على ذلك فإن سببه ان رجلا هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فسمى مهاجر أم قيس فخطب النبى على المنبر وذكر هذا الحديث وهذا كان نيته فى قلبه
والجهر بالنية لا يجب ولا يستحب بإتفاق المسلمين بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشريعة إذا فعل ذلك معتقدا أنه من الشرع فهو جاهل ضال يستحق التعزير وإلا العقوبة على ذلك إذا أصر
____________________
(22/218)
على ذلك بعد تعريفه والبيان له لا سيما إذا آذى من إلى جانبه برفع صوته أو كرر ذلك مرة بعد مرة فإنه يستحق التعزير البليغ على ذلك ولم يقل أحد من المسلمين إن صلاة الجاهر بالنية أفضل من صلاة الخافت بها سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا
وأما التلفظ بها سرا فلا يجب أيضا عند الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين ولم يقل أحد من الأئمة إن التلفظ بالنية واجب لا فى طهارة ولا فى صلاة ولا صيام ولا حج
ولا يجب على المصلى أن يقول بلسانه أصلى الصبح ولا اصلى الظهر ولا العصر ولا إماما ولا مأموما ولا يقول بلسانه فرضا ولا نفلا ولا غير ذلك بل يكفى في أن تكون نيته فى قلبه والله يعلم ما فى القلوب
وكذلك نية الغسل من الجنابة والوضوء يكفى فيه نية القلب
وكذلك نية الصيام فى رمضان لا يجب على أحد أن يقول أنا صائم غدا بإتفاق الأئمة بل يكفيه نية قلبه
والنية تتبع العلم فمن علم ما يريد أن يفعله فلا بد أن ينويه فإذا علم المسلم أن غدا من رمضان وهو ممن يصوم رمضان فلا بد
____________________
(22/219)
أن ينوى الصيام فإذا علم أن غدا العيد لم ينو الصيام تلك الليلة
وكذلك الصلاة فإذا علم أن الصلاة القائمة صلاة الفجر أو الظهر وهو يعلم أنه يريد أن يصلى صلاة الفجر أو الظهر فإنه إنما ينوى تلك الصلاة لا يمكنه ان يعلم أنها الفجر وينوى الظهر
وكذلك إذا علم أنه يصلى إماما أو مأموما فإنه لابد أن ينوى ذلك والنية تتبع العلم والإعتقاد إتباعا ضروريا إذا كان يعلم ما يريد [ أن ] يفعله فلا بد أن ينويه فإذا كان يعلم أنه يريد أن يصلى الظهر وقد علم أن تلك الصلاة صلاة الظهر إمتنع أن يقصد غيرها ولو إعتقد أن الوقت قد خرج أجزأته صلاته بإتفاق الأئمة ولو إعتقد أنه خرج فنوى الصلاة بعد الوقت فتبين أنها فى الوقت أجزأته الصلاة بإتفاق الأئمة
وإذا كان قصده أن يصلى على الجنازة أى جنازة كانت فظنها رجلا وكانت امرأة صحت صلاته بخلاف ما نوى وإذا كان مقصوده أن لا يصلى إلا على من يعتقده فلانا وصلى على من يعتقد أنه فلان فتبين غيره فإنه هنا لم يقصد الصلاة على ذلك الحاضر
____________________
(22/220)
والمقصود هنا أن التلفظ بالنية لا يجب عند أحد من الأئمة ولكن بعض المتأخرين خرج وجها فى مذهب الشافعى بوجوب ذلك وغلطه جماهير أصحاب الشافعى وكان غلطه أن الشافعى قال لا بد من النطق فى أولها فظن هذا الغالط أن الشافعى أراد النطق بالنية فغلطه أصحاب الشافعى جميعهم وقالوا إنما أراد النطق بالتكبير لا بالنية ولكن التلفظ بها هل هو مستحب أم لا هذا فيه قولان معروفان للفقهاء
منهم من إستحب التلفظ بها كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبى حنيفة والشافعى وأحمد وقالوا التلفظ بها أوكد وإستحبوا التلفظ بها فى الصلاة والصيام والحج وغير ذلك
ومنهم من لم يستحب التلفظ بها كما قال ذلك من قاله من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما وهذا هو المنصوص عن مالك وأحمد سئل تقول قبل التكبير شيئا قال لا
وهذا هو الصواب فإن النبى لم يكن يقول قبل التكبير شيئا ولم يكن يتلفظ بالنية لا فى الطهارة ولا فى الصلاة ولا فى الصيام ولا فى الحج ولا غيرها من العبادات ولا خلفاؤه ولا أمر أحدا أن يتلفظ بالنية بل قال لمن علمه الصلاة كبر كما فى
____________________
(22/221)
الصحيح عن عائشة رضى الله عنها قالت ( كان رسول الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ( ولم يتلفظ قبل التكبير بنية ولا غيرها ولا علم ذلك أحدا من المسلمين ولو كان ذلك مستحبا لفعله النبى ولعظمه المسلمون
وكذلك فى الحج إنما كان يستفتح الإحرام بالتلبية وشرع للمسلمين أن يلبوا فى أول الحج وقال لضباعة بنت الزبير ( حجى وإشترطى فقولى لبيك اللهم لبيك ومحلى حيث حبستني ( فأمرها أن تشترط بعد التلبية
ولم يشرع لأحد أن يقول قبل التلبية شيئا لا يقول اللهم أنى أريد العمرة والحج ولا الحج والعمرة ولا يقول فيسره لى وتقبله منى ولا يقول نويتهما جميعا ولا يقول أحرمت لله ولا غير ذلك من العبادات كلها ولا يقول قبل التلبية شيئا بل جعل التلبية فى الحج كالتكبير فى الصلاة
وكان هو واصحابه يقولون فلان أهل بالحج أهل بالعمرة أو أهل بهما جميعا كما يقال كبر للصلاة وإلا هلال رفع الصوت بالتلبية وكان يقول فى تلبيته ( لبيك حجا وعمرة ( ينوى ما يريد [ أن
____________________
(22/222)
يفعله بعد التلبية لا قبلها
وجميع ما أحدثه الناس من التلفظ بالنية قبل التكبير وقبل التلبية وفى الطهارة وسائر العبادات فهي من البدع التى لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما يحدث فى العبادات المشروعة من الزيادات التى لم يشرعها رسول الله فهي بدعة بل كان صلى الله عليه وسلم يداوم فى العبادات على تركها ففعلها والمداومة عليها بدعة وضلالة من وجهين من حيث إعتقاد المعتقد أن ذلك مشروع مستحب أى يكون فعله خير من تركه مع أن النبى لم يكن يفعله البتة فيبقى حقيقة هذا القول إنما فعلناه أكمل وأفضل مما فعله رسول الله
وقد سأل رجل مالك بن أنس عن الإحرام قبل الميقات فقال ( أخاف عليك الفتنة فقال له السائل أى فتنة فى ذلك وإنما زيادة أميال فى طاعة الله عز وجل قال وأى فتنة أعظم من أن تظن فى نفسك أنك خصصت بفضل لم يفعله رسول الله (
وقد ثبت فى الصحيحين أنه قال ( من رغب عن سنتى فليس منى ( فأى من ظن أن سنة أفضل من سنتى فرغب عما سننته معتقدا
____________________
(22/223)
أنما رغب فيه أفضل مما رغب عنه فليس منى لأن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم كما فى الصحيح عن النبى أنه كان يخطب بذلك يوم الجمعة
فمن قال ( أن هدى غير محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من هدى محمد فهو مفتون بل ضال قال الله تعالى إجلالا له وتثبيتا لحجته على الناس كافة ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( أى وجيع
وهو صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين بإتباعه وأن يعتقدوا وجوب ما أوجبه وإستحباب ما أحبه وأنه لا أفضل من ذلك فمن لم يعتقد هذا فقد عصى أمره وفى صحيح مسلم عن النبى أنه قال ( هلك المتنطعون قالها ثلاثا ( أى المشددون فى غير موضع التشديد وقال أبى بن كعب وإبن مسعود إقتصاد فى سنة خير من إجتهاد فى بدعة
ولا يحتج محتج بجمع التراويح ويقول ( نعمت البدعة هذه ( فإنها بدعة فى اللغة لكونهم فعلوا مالم يكونوا يفعلونه فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه وهى سنة من الشريعة وهكذا إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ومصر الأمصار كالكوفة
____________________
(22/224)
والبصرة وجمع القرآن فى مصحف واحد وفرض الديوان وغير ذلك فقيام رمضان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وصلى بهم جماعة عدة ليال وكانوا على عهد رسول الله يصلون جماعة وفرادى لكن لم يداوم على جماعة واحدة لئلا يفترض عليهم فلما مات إستقرت الشريعة
فلما كان عمر رضى الله عنه جمعهم على إمام واحد والذى جمعهم أبى بن كعب جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعمر هو من الخلفاء الراشدين حيث يقول صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ ( يعنى الإضراس لأنها أعظم فى القوة
وفى صحيح مسلم عن إبن عمر أنه قال ( صلاة السفر ركعتان فمن خالف السنة كفر ( فأى من إعتقد أن الركعتين فى السفر لا تجزئ المسافر كفر
والوجه الثانى من حيث المداومة على خلاف ما دوام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العبادات فإن هذا بدعة بإتفاق الأئمة وإن ظن الظان أن فى زيادته خيرا كما أحدثه بعض المتقدمين من الأذان والإقامة فى العيدين فنهوا عن ذلك وكرهه أئمة المسلمين
كما
____________________
(22/225)
لو صلى عقيب السعى ركعتين قياسا على ركعتى الطواف وقد إستحب ذلك بعض المتأخرين من أصحاب الشافعى وإستحب بعض المتأخرين من أصحاب أحمد فى الحاج إذا دخل المسجد الحرام أن يستفتح بتحية المسجد فخالفوا الأئمة والسنة وإنما السنة أن يستفتح المحرم بالطواف كما فعل النبى لما دخل المسجد بخلاف المقيم الذى يريد الصلاة فيه دون الطواف فهذا إذا صلى تحية المسجد فحسن
وفى الجملة فإن النبى قد أكمل الله له ولأمته الدين وأتم به صلى الله عليه وسلم عليهم النعمة فمن جعل عملا واجبا مالم يوجبه الله ورسوله أو مكروها لم يكرهه الله ورسوله فهو غالط
فإجماع أئمة الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله ومن خرج عن هذا وهذا فقد دخل فى حرب من الله فمن شرع من الدين مالم يأذن به الله وحرم مالم يحرم الله ورسوله فهو من دين أهل الجاهلية المخالفين لرسوله الذين ذمهم الله فى سورة الأنعام والأعراف وغيرهما من السور حيث شرعوا من الدين مالم يأذن به الله فحرموا مالم يحرمه الله وأحلوا ما حرمه الله فذمهم الله وعابهم على ذلك
فلهذا كان دين المؤمنين بالله ورسوله أن الأحكام الخمسة الإيجاب
____________________
(22/226)
والإستحباب والتحليل والكراهية والتحريم لا يؤخذ إلا عن رسول الله فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله
فمن ذلك ما إتفق عليه أئمة الدين ومنه ما تنازعوا فيه فردوه إلى الله ورسوله كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
فمن تكلم بجهل وبما يخالف الأئمة فإنه ينهى عن ذلك ويؤدب على الإصرار كما يفعل بأمثاله من الجهال ولا يقتدى فى خلاف الشريعة بأحد من أئمة الضلالة وإن كان مشهورا عنه العلم كما قال بعض السلف لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك والله أعلم والحمد لله
وسئل
عمن يخرج من بيته ناويا الطهارة أو الصلاة هل يحتاج إلى تجديد نية غير هذه عند فعل الطهارة أو الصلاة أو لا وهل التلفظ
____________________
(22/227)
بالنية سنة أم لا
فأجاب
الحمد لله رب العالمين سئل الإمام أحمد عن رجل يخرج من بيته للصلاة هل ينوى حين الصلاة فقال قد نوى حين خرج ولهذا قال أكابر أصحابه كالخرقى وغيره يجزئه تقديم النية على التكبير من حين يدخل وقت الصلاة وإذا كان مستحضرا للنية إلى حين الصلاة أجزأ ذلك بإتفاق العلماء فإن النية لا يجب التلفظ بها بإتفاق العلماء
ومعلوم فى العادة أن من كبر فى الصلاة لا بد أن يقصد الصلاة وإذا علم أنه يصلى الظهر نوى الظهر فمتى علم مايريد فعله نواه بالضرورة ولكن إذا لم يعلم أو نسى شذت عنه النية وهذا نادر والتلفظ بالنية فى إستحبابه قولان فى مذهب أحمد وغيره والمنصوص عنه أنه لا يستحب التلفظ بالنية قال أبو داود قلت لأحمد يقول المصلى قبل التكبير شيئا قال لا
وسئل
هل يجب أن تكون النية مقارنة للتكبير والمسئول أن يوضح لنا كيفية مقارنتها للتكبير كما ذكر الشافعى أنه لا تصح الصلاة إلا
____________________
(22/228)
بمقارنتها التكبير وهذا يعسر
فأجاب
أما مقارنتها التكبير فللعلماء فيه قولان مشهوران أحدهما لا يجب
والمقارنة المشروطة قد تفسر بوقوع التكبير عقيب النية وهذا ممكن لا صعوبة فيه بل عامة الناس إنما يصلون هكذا وهذا أمر ضرورى لو كلفوا تركه لعجزوا عنه
وقد تفسر بإنبساط آخر النية على آخر التكبير بحيث يكون أولها مع أوله وآخرها مع آخره وهذا لا يصح لأنه يقتضى عزوب كمال النية فى أول الصلاة وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة
وقد تفسر بحضور جميع النية مع جميع آخر التكبير وهذا تنازعوا فى إمكانه
فمن العلماء من قال إن هذا غير ممكن ولا مقدور للبشر عليه فضلا عن وجوبه ولو قيل بإمكانه فهو متعسر فيسقط بالحرج
____________________
(22/229)
وأيضا فمما يبطل هذا والذى قبله أن المكبر ينبغى له أن يتدبر التكبير ويتصوره فيكون قلبه مشغولا بمعنى التكبير لا بما يشغله عن ذلك من إستحضار النية ولأن النية من الشروط والشروط تتقدم العبادات ويستمر حكمها إلى آخرها كالطهارة والله أعلم
وسئل
عن ( النية ( فى الدخول فى العبادات من الصلاة وغيرها هل تفتقر إلى نطق اللسان مثل قول القائل نويت أصوم نويت أصلى هل هو واجب أم لا
فأجاب
الحمد لله نية الطهارة من وضوء أو غسل أو تيمم والصلاة والصيام والحج والزكاة والكفارات
وغير ذلك من العبادات لا تفتقر إلى نطق اللسان بإتفاق أئمة الإسلام بل النية محلها القلب دون اللسان بإتفاقهم فلو لفظ بلسانه غلطا بخلاف ما نوى فى قلبه كان الإعتبار بما نوى لا بما لفظ ولم يذكر أحد فى ذلك خلافا إلا أن بعض متأخرى أصحاب الشافعى رحمه الله خرج وجها فى ذلك وغلطه فيه أئمة أصحابه
وكان سبب غلطه أن الشافعى قال ( إن الصلاة لا بد من النطق
____________________
(22/230)
فى أولها وأراد الشافعى بذلك التكبير الواجب فى أولها فظن هذا الغالط أن الشافعى أراد النطق بالنية فغلطه أصحاب الشافعى جميعهم
ولكن تنازع العلماء هل يستحب التلفظ بالنية سرا أم لا هذا فيه قولان معروفان للفقهاء
فقال طائفة من أصحاب ابى حنيفة والشافعى وأحمد يستحب التلفظ بها لكونه أوكد وقالت طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما لا يستحب التلفظ بها لأن ذلك بدعة لم تنقل عن رسول الله ولا عن اصحابه ولا أمر النبى أحدا من أمته أن يتلفظ بالنية ولا علم ذلك أحدا من المسلمين ولو كان هذا مشهورا مشروعا لم يهمله النبى وأصحابه مع أن الأمة مبتلاة به كل يوم وليلة
وهذا القول أصح الأقوال بل التلفظ بالنية نقص فى العقل والدين أما فى الدين فلأنه بدعة وأما فى العقل فلأنه بمنزلة من يريد أن يأكل طعاما فيقول نويت بوضع يدى فى هذا الإناء أنى أريد أن آخذ منه لقمة فأضعها فى فمى فامضغها ثم أبلعها لأشبع مثل القائل الذى يقول نويت أصلى فريضة هذه الصلاة المفروضة على
____________________
(22/231)
حاضر الوقت أربع ركعات فى جماعة أداء لله تعالى فهذا كله حمق وجهل وذلك أن النية بلاغ العلم فمتى علم العبد ما يفعله كان قد نواه ضرورة فلا يتصور مع وجود العلم بالعقل أن يفعل بلا نية ولا يمكن مع عدم العلم أن تحصل نية
وقد إتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع بل من إعتاد ذلك فإنه ينبغى له أن يؤدب تأديبا يمنعه عن ذلك التعبد بالبدع وإيذاء الناس برفع صوته لأنه قد جاء الحديث ( أيها الناس كلكم يناجى ربه فلا يجهرن بعضكم على بعض بالقراءة فكيف حال من يشوش على الناس بكلامه بغير قراءة بل يقول نويت أصلى أصلى فريضة كذا وكذا فى وقت كذا وكذا من ألأفعال التى لم يشرعها رسول الله
وسئل رحمه الله
عن رجل قيل له لا يجوز الجهر بالنية فى الصلاة ولا أمر به النبى فقال صحيح أنه ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم ولا أمر به لكن ما نهى عنه ولا تبطل صلاة من جهر بها ثم أنه قال لنا بدعة حسنة وبدعة سيئة وإحتج بالتراويح
____________________
(22/232)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جمعها ولا نهى عنها وأن عمر الذى جمع الناس عليها وأمر بها فهل هو كما قال وهل تسمى سنن الخلفاء الراشدين بدعة وهل [ يقاس ] على سننهم ما سنه غيرهم فهل لها أصل فيما يقوله ويفعله وقوله ولا تبطل صلاة من جهر بالنية فى الصلاة وغيرها فهل يأثم المنكر عليه أم لا
فأجاب
الحمد لله الجهر بالنية فى الصلاة من البدع السيئة ليس من البدع الحسنة وهذا متفق عليه بين المسلمين لم يقل أحد منهم أن الجهر بالنية مستحب ولا هو بدعة حسنة فمن قال ذلك فقد خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الأئمة الأربعة وغيرهم وقائل هذا يستتاب فإن تاب وإلا عوقب بما يستحقه
وإنما تنازع الناس فى نفس التلفظ بها سرا هل يستحب أم لا على قولين والصواب أنه لا يستحب التلفظ بها فإن النبى وأصحابه لم يكونوا يتلفظون بها لا سرا ولا جهرا والعبادات التى شرعها النبى لأمته ليس لأحد تغييرها ولا إحداث بدعة فيها
وليس لأحد أن يقول أن مثل هذا من البدع الحسنة مثل ما أحدث بعض الناس الأذان فى العيدين والذى أحدثه مروان بن
____________________
(22/233)
الحكم فأنكر الصحابة والتابعون لهم بإحسان ذلك هذا وإن كان الأذان ذكر الله لأنه ليس من السنة وكذلك لما أحدث الناس إجتماعا راتبا غير الشرعى مثل الإجتماع على صلاة معينة أول رجب أو أول ليلة جمعة فيه وليلة النصف من شعبان فأنكر ذلك علماء المسلمين
ولو أحدث ناس صلاة سادسة يجتمعون عليها غير الصلوات الخمس لأنكر ذلك عليهم المسلمون وأخذوا على أيديهم
وأما ( قيام رمضان ( فإن رسول الله سنه لأمته وصلى بهم جماعة عدة ليال وكانوا على عهده يصلون جماعة وفرادى لكن لم يداوموا على جماعة واحدة لئلا تفرض عليهم فلما مات النبى صلى الله عليه وسلم إستقرت الشريعة فلما كان عمر رضى الله عنه جمعهم على إمام واحد وهو أبى بن كعب الذى جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه
وعمر رضى الله عنه هو من الخلفاء الراشدين حيث يقول ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ ( يعنى الأضراس لأنها أعظم فى القوة
وهذا الذى فعله هو سنة لكنه قال نعمت البدعة هذه فإنها
____________________
(22/234)
بدعة فى اللغة لكونهم فعلوا مالم يكونوا يفعلونه فى حياة رسول الله يعنى من الإجتماع على مثل هذه وهى سنة من الشريعة
وهكذا إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وهى الحجاز واليمن واليمامة وكل البلاد الذى لم يبلغه ملك فارس والروم من جزيرة العرب ومصر الأمصار كالكوفة والبصرة وجمع القرآن فى مصحف واحد وفرض الديوان والأذان الأول يوم الجمعة وإستنابة من يصلى بالناس يوم العيد خارج المصر ونحو ذلك مما سنه الخلفاء الراشدون لأنهم سنوه بأمر الله ورسوله فهو سنة وإن كان فى اللغة يسمى بدعة
وأما الجهر بالنية وتكريرها فبدعة سيئة ليست مستحبة بإتفاق المسلمين لأنها لم يكن يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون
وسئل
عن رجل إذا صلى يشوش على الصفوف الذى حواليه بالجهر بالنية وأنكروا عليه مرة ولم يرجع وقال له إنسان هذا الذى تفعله ما هو
____________________
(22/235)
من دين الله وأنت مخالف فيه السنة فقال هذا دين الله الذى بعث به رسله ويجب على كل مسلم أن يفعل هذا وكذلك تلاوة القرآن يجهر بها خلف الإمام فهل هكذا كان يفعل رسول الله أو أحد من الصحابة أو أحد من الأئمة الأربعة أو من علماء المسلمين فإذا كان لم يكن رسول الله واصحابه والعلماء يعملون هذا فى الصلاة فماذا يجب على من ينسب هذا إليهم وهو يعمله فهل يحل للمسلم أن يعينه بكلمه واحدة إذا عمل هذا ونسبه إلى أنه من الدين ويقول للمنكرين عليه كل يعمل فى دينه ما يشتهى وإنكاركم على جهل وهل هم مصيبون فى ذلك أم لا
فأجاب
الحمد لله الجهر بلفظ النية ليس مشروعا عند أحد من علماء المسلمين ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من خلفائه واصحابه وسلف الأمة وأئمتها ومن إدعى أن ذلك دين الله وأنه واجب فإنه يجب تعريفه الشريعة وإستتابته من هذا القول فإن أصر على ذلك قتل بل النية الواجبة فى العبادات كالوضوء والغسل والصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك محلها القلب بإتفاق أئمة المسلمين
والنية هي القصد والإرادة والقصد والإرادة محلهما القلب دون اللسان بإتفاق العقلاء فلو نوى بقلبه صحت نيته عند الأئمة الأربعة
____________________
(22/236)
وسائرأئمة المسلمين من الأولين والآخرين وليس فى ذلك خلاف عند من يقتدى به ويفتى بقوله ولكن بعض المتأخرين من أتباع الأئمة زعم أن اللفظ بالنية واجب ولم يقل إن الجهر بها واجب ومع هذا فهذا القول خطأ صريح مخالف لإجماع المسلمين ولما علم بالإضطرار من دين الإسلام عند من يعلم سنة رسول الله وسنة خلفائه وكيف كان يصلى الصحابة والتابعون فإن كل من يعلم ذلك يعلم أنهم لم يكونوا يتلفظون بالنية ولا أمرهم النبى بذلك ولا علمه لأحد من الصحابة بل قد ثبت فى الصحيحين وغيرهما أنه قال للأعرابى المسىء فى صلاته ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم إقرأ ما تيسر معك من القرآن ( وفى السنن عنه أنه قال ( مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم وفى صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها ( أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ( وقد ثبت بالنقل المتواتر وإجماع المسلمين أن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يفتتحون الصلاة بالتكبير
ولم ينقل مسلم لا عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه قد تلفظ قبل التكبير بلفظ النية لا سرا ولا جهرا ولا أنه أمر بذلك ومن المعلوم أن الهمم والدواعى متوفرة على نقل ذلك لو كان
____________________
(22/237)
ذلك وأنه يمتنع على أهل التواتر عادة وشرعا كتمان نقل ذلك فإذا لم ينقله أحد علم قطعا أنه لم يكن
ولهذا يتنازع الفقهاء المتأخرون فى اللفظ بالنية هل هو مستحب مع النية التى فى القلب فإستحبه طائفة من أصحاب أبى حنيفة والشافعى وأحمد قالوا لأنه أوكد وأتم تحقيقا للنية ولم يستحبه طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما وهو المنصوص عن أحمد وغيره بل رأوا أنه بدعة مكروهة
قالوا لو أنه كان مستحبا لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأمر به فإنه قد بين كل ما يقرب إلى الله لا سيما الصلاة التى لا تؤخذ صفتها إلا عنه وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( صلوا كما رأيتمونى أصلى (
قال هؤلاء فزيادة هذا وأمثاله فى صفة الصلاة بمنزلة سائر الزيادات المحدثة فى العبادات كمن زاد فى العيدين الأذان والإقامة ومن زاد فى السعى صلاة ركعتين على المروة وأمثال ذلك
قالوا وأيضا فإن التلفظ بالنية فاسد فى العقل فإن قول القائل أنوى أن أفعل كذا وكذا بمنزلة قوله أنوى آكل هذا الطعام
____________________
(22/238)
لأشبع وأنوى ألبس هذا الثوب لأستتر وأمثال ذلك من النيات الموجودة فى القلب التى يستقبح النطق بها وقد قال الله تعالى { أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } وقال طائفة من السلف فى قوله { إنما نطعمكم لوجه الله } قالوا لم يقولوه بألسنتهم وإنما علمه الله من قلوبهم فأخبر به عنهم
وبالجملة فلابد من النية فى القلب بلا نزاع وأما التلفظ بها سرا فهل يكره أو يستحب فيه نزاع بين المتأخرين
وأما الجهر بها فهو مكروه منهى عنه غير مشروع بإتفاق المسلمين وكذلك تكريرها أشد واشد
وسواء فى ذلك الإمام والمأموم والمنفرد فكل هؤلاء لا يشرع لأحد منهم أن يجهر بلفظ النية ولا يكررها بإتفاق المسلمين بل ينهون عن ذلك بل جهر المنفرد بالقراءة إذا كان فيه اذى لغيره لم يشرع كما خرج النبى على أصحابه وهم يصلون فقال ( أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة )
وأما المأموم فالسنة له المخافتة بإتفاق المسلمين لكن إذا جهر أحيانا
____________________
(22/239)
بشيء من الذكر فلا بأس كالإمام إذا أسمعهم أحيانا الآية فى صلاة السر فقد ثبت فى الصحيح عن أبى قتادة أنه أخبر عن النبى أنه كان فى صلاة الظهر والعصر يسمعهم الآية أحيانا ( وثبت فى الصحيح ان من الصحابة المأمومين من جهر بدعاء حين إفتتاح الصلاة وعند رفع رأسه من الركوع ولم ينكر النبى صلى الله عليه وسلم ذلك ومن أصر على فعل شيء من البدع وتحسينها فإنه ينبغى أن يعزر تعزيرا يردعه وأمثاله عن مثل ذلك
ومن نسب إلى رسول الله الباطل خطأ فإنه يعرف فإن لم ينته عوقب ولا يحل لأحد أن يتكلم فى الدين بلا علم ولا يعين من تكلم فى الدين بلا علم أو أدخل فى الدين ما ليس منه
وأما قول القائل كل يعمل فى دينه الذى يشتهى فهي كلمة عظيمة يجب أن يستتاب منها وإلا عوقب بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل فليس لأحد أن يعمل فى الدين إلا ما شرعه الله ورسوله دون ما يشتهيه ويهواه قال الله تعالى { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وقال تعالى { وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم } { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } وقال { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } وقال تعالى { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }
____________________
(22/240)
وقال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقد روى عنه أنه قال ( والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ( قال تعالى { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } وقال تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى { المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } وقال تعالى { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن } وأمثال هذا فى القرآن كثير
فتبين أن على العبد أن يتبع الحق الذى بعث الله به رسوله ولا يجعل دينه تبعا لهواه والله أعلم
____________________
(22/241)
وسئل
عن رجلين تنازعا فى ( النية ( فقال أحدهما لا تدخل الصلاة إلا بالنية وإستدل على ذلك بقوله ( لكل إمرىء ما نوى ( وقال الآخر تجوز بلا نية افتونا مأجورين
فأجاب
الحمد لله الصلاة لا تجوز إلا بنية لكن محل النية القلب بإتفاق المسلمين وهى القصد والإرادة
فإن نوى بقلبه خلاف ما نطق بلسانه كان الإعتبار بما قصد بقلبه وتنازع العلماء هل يستحب أن يتكلم بما نواه على قولين
وإتفقوا على أنه لا يستحب الجهر بالنية ولا تكرير التكلم بها بل ذلك منهى عنه بإتفاق الأئمة ولو لم يتكلم بالنية صحت صلاته عند الأئمة الأربعة وغيرهم ولم يخالف إلا بعض شذوذ المتأخرين
____________________
(22/242)
وسئل رحمه الله
عن قوله صلى الله عليه وسلم ( نية المرء أبلغ من عمله (
فأجاب
هذا الكلام قاله غير واحد وبعضهم يذكره مرفوعا وبيانه من وجوه
أحدها أن النية المجردة من العمل يثاب عليها والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة وإتفاق الأئمة أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص لله لم يقبل منه ذلك وقد ثبت فى الصحيحين من غير وجه عن النبى أنه قال ( من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة (
الثانى أن من نوى الخير 2 وعمل منه مقدوره وعجز عن إكماله كان له أجر عامل كما فى الصحيحين عن النبى أنه قال ( إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولاقطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر ( وقد صحح الترمذى حديث أبى كبشة الأنمارى عن النبى
____________________
(22/243)
( أنه ذكر أربعة رجال رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل فيه بطاعة الله ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فقال لو أن لى مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان قال فهما فى الأجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يعمل فيه بمعصية الله ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فقال لو أن لى مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان قال فهما فى الوزر سواء (
وفى الصحيحين عن النبى أنه قال ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من إتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من إتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شىء ( وفى الصحيحين عنه أنه قال ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم ( وشواهد هذا كثيرة و
الثالث أن القلب ملك البدن والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده والنية عمل الملك بخلاف الأعمال الظاهرة فإنها عمل الجنود
الرابع ( أن توبة العاجز عن المعصية تصح عند أهل السنة
____________________
(22/244)
كتوبة المجبوب عن الزنى وكتوبة المقطوع اللسان عن القذف وغيره وأصل التوبة عزم القلب وهذا حاصل مع العجز
الخامس أن النية لا يدخلها فساد بخلاف الأعمال الظاهرة فإن النية أصلها حب الله ورسوله وإرادة وجهه وهذا هو بنفسه محبوب لله ورسوله مرضى لله ورسوله والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة ومالم تسلم منها لم تكن مقبولة ولهذا كانت اعمال القلب المجردة أفضل من أعمال البدن المجردة كما قال بعض السلف قوة المؤمن فى قلبه وضعفه فى جسمه وقوة المنافق فى جسمة وضعفه فى قلبه وتفصيل هذا يطول والله أعلم
وسئل رحمه الله
عن رجل حنفى صلى فى جماعة وأسر نيته ثم رفع يديه فى كل تكبيرة فأنكر عليه فقيه الجماعة وقال له هذا لا يجوز فى مذهبك وأنت مبتدع فيه وأنت مذبذب لا بامامك إقتديت ولا بمذهبك إهتديت فهل ما فعله نقص فى صلاته ومخالفة للسنة ولإمامه أم لا
فأجاب
الحمد لله أما الذى أنكر عليه إسراره بالنية فهو جاهل فإن الجهر بالنية لا يجب ولا يستحب لا فى مذهب أبى حنيفة ولا
____________________
(22/245)
أحد من أئمة المسلمين بل كلهم متفقون على أنه لا يشرع الجهر بالنية ومن جهر بالنية فهو مخطىء مخالف للسنة بإتفاق أئمة الدين بل مذهب أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد وسائر أئمة المسلمين أنه إذا نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه بالنية لا سرا ولا جهرا كانت صحيحة ولا يجب التكلم بالنية لا عند أبى حنيفة ولا عند أحد من الأئمة حتى أن بعض متأخرى أصحاب الشافعى لما ذكر وجها مخرجا أن اللفظ بالنية واجب غلطه بقية أصحابه وقالوا إنما أوجب الشافعى النطق فى أول الصلاة بالتكبير لا بالنية
وأما ابوحنيفة وأصحابه فلم يتنازعوا فى أن النطق بالنية لا يجب وكذلك مالك واصحابه واحمد وأصحابه بل تنازع العلماء هل يستحب التلفظ بالنية سرا ( على
قولين فقال طائفة من اصحاب ابى حنيفة والشافعى وأحمد يستحب التلفظ بالنية لا الجهر بها ولا يجب التلفظ ولا الجهر
وقال طائفة من اصحاب مالك وأحمد وغيرهم بل لا يستحب التلفظ بالنية لا سرا ولا جهرا كما لا يجب بإتفاق الأئمة لأن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يتلفظون بالنية لا سرا ولا جهرا وهذا القول هو الصواب الذى جاءت به السنة
____________________
(22/246)
وأما رفع اليدين فى كل تكبيرة حتى فى السجود فليست هي السنة التى كان النبى يفعلها ولكن الأمة متفقة على أنه يرفع اليدين مع تكبيرة الإفتتاح
وأما رفعهما عند الركوع والإعتدال من الركوع فلم يعرفه أكثر فقهاء الكوفة كإبراهيم النخعى وأبى حنيفة والثورى وغيرهم وأما أكثر فقهاء الأمصار وعلماء الآثار فإنهم عرفوا ذلك لما أنه إستفاضت به السنة عن النبى كالأوزاعى والشافعى وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبى عبيد وهو إحدى الروايتين عن مالك
فإنه قد ثبت فى الصحيحين من حديث إبن عمر وغيره ( إن النبى كان يرفع يديه إذا إفتتح الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع ولا يفعل ذلك فى السجود ولا كذلك بين السجدتين ( وثبت هذا عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الصحيح من حديث مالك بن الحويرث ووائل بن حجر وأبى حميد الساعدى فى عشرة من اصحاب النبى أحدهم أبوقتادة وهو معروف من حديث على بن أبى طالب وأبى هريرة وعدد كثير من الصحابة عن النبى وكان إبن عمر رضى الله عنهما إذا رأى من يصلى ولا يرفع يديه فى الصلاة حصبه وقال عقبة إبن عامر له بكل إشارة عشر حسنات
____________________
(22/247)
والكوفيون حجتهم أن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه لم يكن يرفع يديه وهم معذورون قبل ان تبلغهم السنة الصحيحة فإن عبد الله بن مسعود هو الفقية الذى بعثه عمر بن الخطاب ليعلم أهل الكوفة السنة لكن قد حفظ الرفع عن النبى كثير من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وإبن مسعود لم يصرح بأن النبى لم يرفع إلا أول مرة لكنهم رأوه يصلى ولا يرفع إلا أول مرة والإنسان قد ينسى وقد يذهل وقد خفى على إبن مسعود التطبيق فى الصلاة فكان يصلى وإذا ركع طبق بين يديه كما كانوا يفعلون أول الإسلام ثم إن التطبيق نسخ بعد ذلك وأمروا بالركب وهذا لم يحفظه إبن مسعود فإن الرفع المتنازع فيه ليس من نواقض الصلاة بل يجوز ان يصلى بلا رفع وإذا رفع كان أفضل وأحسن
وإذا كان الرجل متبعا لأبى حنيفة أو مالك أو الشافعى أو أحمد ورأى فى بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فإتبعه كان قد أحسن فى ذلك ولم يقدح ذلك فى دينه ولا عدالته بلا نزاع بل هذا أولى بالحق وأحب إلى الله ورسوله ممن يتعصب لواحد معين غير النبى كمن يتعصب لمالك أو الشافعى أو أحمد أو أبى حنيفة ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذى ينبغى إتباعه دون قول الإمام الذى خالفه
____________________
(22/248)
فمن فعل هذا كان جاهلا ضالا بل قد يكون كافرا فإنه متى إعتقد أنه يجب على الناس إتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل بل غاية ما يقال أنه يسوغ أو ينبغى أو يجب على العامى أن يقلد واحدا لا بعينه من غير تعيين زيد ولا عمرو
وأما أن يقول قائل إنه يجب على العامة تقليد فلان أو فلان فهذا لا يقوله مسلم
ومن كان مواليا للأئمة محبا لهم يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنه فهو محسن فى ذلك بل هذا أحسن حالا من غيره ولا يقال لمثل هذا مذبذب على وجه الذم وإنما المذبذب المذموم الذى لا يكون مع المؤمنين ولا مع الكفار بل يأتى المؤمنين بوجه ويأتى الكافرين بوجه كما قال تعالى فى حق المنافقين { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس } إلى قوله { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } وقال النبى ( مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هؤلاء مرة وإلى هؤلاء مرة (
فهؤلاء المنافقون المذبذبون هم الذين ذمهم الله ورسوله وقال فى
____________________
(22/249)
حقهم ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ( وقال تعالى فى حقهم { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } فهؤلاء المنافقون الذين يتولون اليهود الذين غضب الله عليهم ماهم من اليهود ولا هم منا مثل من أظهر الإسلام من اليهود والنصارى والتتر وغيرهم وقلبه مع طائفته فلا هو مؤمن محض ولا هو كافر ظاهرا وباطنا فهؤلاء هم المذبذبون الذين ذمهم الله ورسوله وأوجب على عباده أن يكونوا مؤمنين لا كفارا ولا منافقين بل يحبون لله ويبغضون لله ويعطون لله ويمنعون لله
قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } إلى قوله { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } الآية وقال تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه }
____________________
(22/250)
وقال تعالى { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم }
وفى الصحيحين عن النبى أنه قال ( مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ( وفى الصحيحين عنه أنه قال ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين اصابعه ( وفى الصحيحين عنه أنه قال ( المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه ( وفى الصحيحين أنه قال ( والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه ( وقال ( والذى نفسى بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أخبركم بشى إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالإجتماع والإئتلاف ونهاهم عن الإفتراق والإختلاف فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } إلى قوله { لعلكم تهتدون } إلى قوله { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال إبن عباس رضى الله عنهما ( تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة
____________________
(22/251)
فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين وإن تنازعوا فى بعض فروع الشريعة فى الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق او الفرائض او غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة
ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين كالرافضى الذى يتعصب لعلى دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة وكالخارجى الذى يقدح فى عثمان وعلى رضى الله عنهما فهذه طرق اهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون خارجون عن الشريعة والمنهاج الذى بعث الله به رسوله فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء سواء تعصب لمالك أو الشافعى أو أبى حنيفة او أحمد أو غيرهم
ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلا بقدره فى العلم والدين وبقدر الآخرين فيكون جاهلا ظالما والله يأمر بالعلم والعدل وينهى عن الجهل والظلم قال تعالى { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات } إلى آخر السورة
وهذا أبويوسف ومحمد أتبع الناس لأبى حنيفة وأعلمهم بقوله
____________________
(22/252)
وهما قد خالفاه فى مسائل لا تكاد تحصى لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما إتباعه وهما مع ذلك معظمان لإمامهما لا يقال فيهما مذبذبان بل أبوحنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة فى خلافه فيقول بها ولا يقال له مذبذب فإن الانسان لا يزال يطلب العلم والإيمان فإذا تبين له من العلم ما كان خافيا عليه إتبعه وليس هذا مذبذبا بل هذا مهتد زاده الله هدى وقد قال تعالى { وقل رب زدني علما }
فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين وعلماء المؤمنين وإن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده ويعلم أن من إجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن إجتهد منهم فأخطأ فله أجر لإجتهاده وخطؤه مغفور له وعلى المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ فإن النبى قال ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ( وسواء رفع يديه أو لم يرفع يديه لا يقدح ذلك فى صلاتهم ولا يبطلها لا عند أبى حنيفة ولا الشافعى ولا مالك ولا أحمد ولو رفع الإمام دون المأموم أو المأموم دون الإمام لم يقدح ذلك فى صلاة واحد منهما ولو رفع الرجل فى بعض الأوقات دون بعض لم يقدح ذلك فى صلاته وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعارا يوجب إتباعه وينهى عن غيره مما جاءت به السنة بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع مثل الأذان والإقامة فقد
____________________
(22/253)
ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ( وثبت عنه فى الصحيحين ( أنه علم أبا محذورة الإقامة شفعا شفعا كالأذان ( فمن شفع الإقامة فقد أحسن ومن أفردها فقد أحسن ومن أوجب هذا دون هذا فهو مخطىء ضال ومن والى من يفعل هذا دون هذا بمجرد ذلك فهو مخطىء ضال
وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم فى المذاهب وغيرها حتى تجد المنتسب إلى الشافعى يتعصب لمذهبه على مذهب أبى حنيفة حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى أبى حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعى وغيره حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى احمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا او هذا وفى المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا وكل هذا من التفرق والإختلاف الذى نهى الله ورسوله عنه
وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل المتبعين الظن وما تهوى الأنفس المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله مستحقون للذم والعقاب وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه فإن الإعتصام بالجماعة والإئتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح فى الأصل بحفظ الفرع وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب
____________________
(22/254)
والسنة إلا ما شاء الله بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو آراء فاسدة او حكايات عن بعض العلماء والشيوخ قد تكون صدقا وقد تكون كذبا وإن كانت صدقا فليس صاحبها معصوما يتمسكون بنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ويدعون النقل المصدق عن القائل المعصوم وهو ما نقله الثقات الإثبات من أهل العلم ودونوه فى الكتب الصحاح عن النبى
فإن الناقلين لذلك مصدقون بإتفاق أئمة الدين والمنقول عنه معصوم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى قد أوجب الله تعالى على جميع الخلق طاعته وإتباعه قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }
والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل والهدى والنية والله أعلم والحمد لله وحده
____________________
(22/255)
وسئل
عن إمام شافعى يقول الله أكبر يكرر التكبير مرات عديدة والناس وقوف خلفه
فأجاب
الحمد لله تكرير اللفظ بالنية والتكبير والجهر بلفظ النية أيضا منهى عنه عند الشافعى وسائر أئمة الإسلام وفاعل ذلك مسىء وإن إعتقد ذلك دينا فقد خرج عن إجماع المسلمين ويجب نهيه عن ذلك وإن عزل عن الإمامة إذا لم ينته كان له وجه فإن فى سنن أبى داود ( أن النبى أمر بعزل إمام لأجل بزاقة فى القبلة ( فإن الإمام عليه ان يصلى كما كان النبى يصلى ليس له أن يقتصر على ما يقتصر عليه المنفرد بل ينهى عن التطويل والتقصير فكيف إذا أصر على ما ينهى عنه الإمام والمأموم والمنفرد والله أعلم
____________________
(22/256)
وسئل
عن رجل إذا صلى بالليل ينوى ويقول أصلى نصيب الليل
فأجاب
هذه العبارة أصلى نصيب الليل لم تنقل عن سلف الأمة وأئمتها والمشروع أن ينوى الصلاة لله سواء كانت بالليل أو النهار وليس عليه أن يتلفظ بالنية فإن تلفظ بها وقال اصلى لله صلاة الليل أو أصلى قيام الليل ونحو ذلك جاز ولم يستحب ذلك بل الإقتداء بالسنة اولى والله أعلم
وسئل
عن رجل أدرك مع الجماعة ركعة فلما سلم الإمام قام ليتم صلاته فجاء آخر فصلى معه فهل يجوز الإقتداء بهذا المأموم
فأجاب
أما الأول ففى صلاته قولان فى مذهب أحمد وغيره لكن الصحيح أن مثل هذا جائز وهو قول أكثر العلماء إذا كان الإمام قد نوى الإمامة والمؤتم قد نوى الإئتمام فإن نوى المأموم
____________________
(22/257)
الإئتمام ولم ينو الإمام الإمامة ففيه قولان
أحدهما تصح كقول الشافعي ومالك وغيرهما وهو رواية عن أحمد
والثانى لا تصح وهو المشهور عن أحمد وذلك أن ذلك الرجل كان مؤتما فى أول الصلاة وصار منفردا بعد سلام الإمام فإذا ائتم به ذلك الرجل صار المنفرد إماما كما صار النبى إماما بإبن عباس بعد ان كان منفردا وهذا يصح فى النفل كما جاء فى هذا الحديث كما هو منصوص عن أحمد وغيره من الأئمة وإن كان قد ذكر فى مذهبه قول بأنه لا يجوز وأما فى الفرض فنزاع مشهور والصحيح جواز ذلك فى الفرض والنفل فإن الإمام إلتزم بالإمامة أكثر مما كان يلزمه فى حال الإنفراد فليس بمصير المنفرد إماما محذورا أصلا بخلاف الأول والله أعلم
____________________
(22/258)
& باب صفة الصلاة
سئل رحمه الله
عن رجل مشى إلى صلاة الجمعة مستعجلا فأنكر ذلك عليه بعض الناس وقال إمش على رسلك فرد ذلك الرجل وقال ( قد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } فما الصواب
فأجاب (
ليس المراد بالسعى المأمور به العدو فإنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون واتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وروى فإقضوا ( ولكن قال الأئمة السعى فى كتاب الله هو العمل والفعل كما قال تعالى { إن سعيكم لشتى } وقال تعالى { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } وقال تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها } وقال تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا }
____________________
(22/259)
وقال عن فرعون { ثم أدبر يسعى } وقد قرأ عمر بن الخطاب ( فإمضوا إلى ذكر الله ( فالسعى المأمور به إلى الجمعة هو المضى إليها والذهاب إليها
ولفظ ( السعى ( فى الأصل إسم جنس ومن شأن أهل العرف إذا كان الإسم عاما لنوعين فإنهم يفردون أحد نوعيه بإسم ويبقى الإسم العام مختصا بالنوع الآخر كما فى لفظ ( ذوى الأرحام ( فإنه يعم جميع الأقارب من يرث بفرض وتعصيب ومن لا فر ض له ولا تعصيب فلما ميز ذو الفرض والعصبة صار فى عرف الفقهاء ذووا الأرحام مختصا بمن لا فرض له ولا تعصيب
وكذلك لفظ ( الجائز ( يعم ما وجب ولزم من الأفعال والعقود ومالم يلزم فلما خص بعض الأعمال بالوجوب وبعض العقود باللزوم بقى إسم الجائز فى عرفهم مختصا بالنوع الآخر
وكذلك إسم ( الخمر ( هو عام لكل شراب لكن لما أفرد ما يصنع من غير العنب بإسم النبيذ صار اسم الخمر فى العرف مختصا بعصير العنب حتى ظن طائفة من العلماء إن إسم الخمر فى الكتاب والسنة مختص بذلك وقد تواترت الأحاديث عن النبى بعمومه ونظائر هذا كثيرة
____________________
(22/260)
وبسبب هذا الإشتراك الحادث غلط كثير من الناس فى فهم الخطاب بلفظ السعى من هذا الباب فإنه فى الأصل عام فى كل ذهاب ومضى وهو السعى المأمور به فى القرآن وقد يخص أحد النوعين باسم المشى فيبقى لفظ السعى مختصا بالنوع الآخر وهذا هو السعى الذى نهى عنه النبى حيث قال ( إذا أقيمت الصلاة فلاتأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون ( وقد روى أن عمر كان يقرأ ( فإمضوا ( ويقول لو قرأتها فإسعوا لعدوت حتى يكون كذا وهذا إن صح عنه فيكون قد إعتقد أن لفظ السعى هو الخاص
ومما يشبه هذا السعى بين الصفا والمروة فإنه إنما يهرول فى بطن الوادى بين الميلين ثم لفظ السعى يخص بهذا وقد يجعل لفظ السعى عاما لجميع الطواف بين الصفا والمروة لكن هذا كأنه بإعتبار أن بعضه سعى خاص والله أعلم
وسئل
عن أقوام يبتدرون السواري قبل الناس وقبل تكميل الصفوف ويتخذون لهم مواضع دون الصف فهل يجوز التأخر عن الصف الأول
____________________
(22/261)
فأجاب
قد ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها قال يسدون الأول فالأول ويتراصون فى الصف ( وثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( لو يعلم الناس ما فى النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لإستهموا عليه ( وثبت عنه فى الصحيح ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ( وأمثال ذلك من السنن التى ينبغى فيها للمصلين أن يتموا الصف الأول ثم الثانى
فمن جاء أول الناس وصف فى غير الأول فقد خالف الشريعة وإذا ضم إلى ذلك إساءة الصلاة او فضول الكلام او مكروهه أو محرمه ونحو ذلك مما يصان المسجد عنه فقد ترك تعظيم الشرائع وخرج عن الحدود المشروعة من طاعة الله وإن لم يعتقد نقص ما فعله ويلتزم إتباع أمر الله إستحق العقوبة البليغة التى تحمله وامثاله على أداء ما امر الله به وترك ما نهى الله عنه والله أعلم
____________________
(22/262)
وسئل
عن المصلين إذا لم يسووا صفوفهم بل كل إنسان يصلى منفردا وهل تجوز صلاتهم هكذا فى الأسواق أم لا
فأجاب
ليس لأحد ان يصلى منفردا خلف الصف بل على الناس أن يصلوا مصطفين وفى السنن عن النبى أنه قال ( لا صلاة لفذ خلف الصف ( ولا يصح لهم أن يصلوا فى السوق حتى تتصل الصفوف بل عليهم أن يقاربوا الصفوف ويسدوا الأول فالأول والله أعلم
____________________
(22/263)
وسئل شيخ الإسلام احمد بن تيمية رحمه الله (
عما يشتبه على الطالب للعبادة من جهة الأفضلية مما إختلف فيه الأئمة من المسائل التى أذكرها وهى أيما أفضل فى صلاة الجهر ترك الجهر بالبسملة أو الجهر بها وأيما أفضل المداومة على القنوت فى صلاة الفجر أم تركه ام فعله أحيانا بحسب المصلحة وكذلك فى الوتر وأيما أفضل طول الصلاة ومناسبة أبعاضها فى الكمية والكيفية أو تخفيفها بحسب ما إعتادوه فى هذه الأزمنة وايما أفضل مع قصر الصلاة فى السفر مداومة الجمع أم فعله أحيانا بحسب الحاجة وهل قيام الليل كله بدعة أم سنة أم قيام بعضه أفضل من قيامه كله وكذلك سرد الصوم أفضل أم صوم بعض الأيام وإفطار بعضها وفى المواصلة أيضا وهل لبس الخشن وأكله دائما أفضل أم لا وأيما أفضل فعل السنن الرواتب فى السفر أم تركها أم فعل البعض دون البعض وكذلك التطوع بالنوافل فى السفر وأيما افضل الصوم فى السفر أم الفطر وإذا لم يجد ماء أو تعذر عليه إستعماله لمرض أو يخاف منه الضرر من شدة البرد وأمثال ذلك
____________________
(22/264)
فهل يتيمم أم لا وهل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر ام لا وايما أفضل فى إغماء هلال رمضان الصوم أم الفطر أم يخير بينهما أم يستحب فعل احدهما وهل ما واظب عليه النبى فى جميع أفعاله وأحواله وأقواله وحركاته وسكناته وفى شأنه كله من العبادات والعادات هل المواظبة على ذلك كله سنة فى حق كل واحد من الأمة أم يختلف بحسب إختلاف المراتب والراتبين أفتونا مأجورين
( فأجاب (
الحمد لله هذه المسائل التى يقع فيها النزاع مما يتعلق بصفات العبادات أربعة أقسام
منها ما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه سن كل واحد من الأمرين وإتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك لكن قد يتنازعون فى الأفضل وهو بمنزلة القراءات الثابتة عن النبى التى إتفق الناس على جواز القراءة بأى قراءة شاء منها كالقراءة المشهورة بين المسلمين فهذه يقرأ المسلم بما شاء منها وإن إختار بعضها لسبب من الأسباب
ومن هذا الباب الإستفتاحات المنقولة عن النبى
____________________
(22/265)
إنه كان يقولها فى قيام الليل وأنواع الأدعية التى كان يدعو بها فى صلاته فى آخر التشهد فهذه الأنواع الثابتة عن النبى صلى الله عليه وسلم كلها سائغة بإتفاق المسلمين لكن ما أمر به من ذلك أفضل لنا مما فعله ولم يأمر به
وقد ثبت فى الصحيح أنه قال ( إذا قعد أحدكم فى التشهد فليستعذ بالله من أربع يقول اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ( فالدعاء بهذا أفضل من الدعاء بقوله ( اللهم إغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وانت المؤخر لا إله إلا أنت ) وهذا أيضا قد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله فى أخر صلاته لكن الأول أمر به
وما تنازع العلماء فى وجوبه فهو اوكد مما لم يأمر به ولم يتنازع العلماء فى وجوبه وكذلك الدعاء الذى كان يكرره كثيرا كقوله ( ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ( اوكد مما ليس كذلك
____________________
(22/266)
القسم الثانى ( ما إتفق العلماء على أنه إذا فعل كلا من الأمرين كانت عبادته صحيحة ولا إثم عليه لكن يتنازعون فى الأفضل وفيما كان النبى يفعله ومسألة القنوت فى الفجر والوتر والجهر بالبسملة وصفة الإستعاذة ونحوها من هذا الباب فإنهم متفقون على أن من جهر بالبسملة صحت صلاته ومن خافت صحت صلاته وعلى أن من قنت فى الفجر صحت صلاته ومن لم يقنت فيها صحت صلاته وكذلك القنوت فى الوتر وإنما تنازعوا فى وجوب قراءة البسملة وجمهورهم على أن قراءتها لا تجب وتنازعوا أيضا فى إستحباب قراءتها وجمهورهم على أن قراءتها مستحبة
وتنازعوا فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه مثل ان يترك قراءة البسملة والمأموم يعتقد وجوبها أو يمس ذكره ولا يتوضأ والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك أو يصلى فى جلود الميتة المدبوغة والمأموم يرى ان الدباغ لا يطهر أو يحتجم ولا يتوضأ والمأموم يرى الوضوء من الحجامة والصحيح المقطوع به أن صلاة المأموم صحيحة خلف إمامه وإن كان إمامه مخطئا فى نفس الأمر لما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يصلون لكم فإن اصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم (
وكذلك إذا إقتدى المأموم بمن يقنت فى الفجر أو الوتر قنت معه سواء
____________________
(22/267)
قنت قبل الركوع أو بعده وإن كان لا يقنت لم يقنت معه
ولو كان الإمام يرى إستحباب شيء والمأمومون لا يستحبونه فتركه لأجل الإتفاق والإئتلاف كان قد أحسن
مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة كالمغرب كقول من قاله من أهل العراق والثانى أنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها كقول من قال ذلك من اهل الحجاز
والثالث أن الأمرين جائزان كما هو ظاهر مذهب الشافعى وأحمد وغيرهما وهو الصحيح وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله فلو كان الإمام يرى الفصل فإختار المأمومون أن يصلى الوتر كالمغرب فوافقهم على ذلك تأليفا لقلوبهم كان قد أحسن كما قال النبى لعائشة ( لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه ( فترك الأفضل عنده لئلا ينفر الناس
____________________
(22/268)
وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم كان قد أحسن وإنما تنازعوا فى الأفضل فهو بحسب ما إعتقدوه من السنة
وطائفة من أهل العراق إعتقدت أن النبى لم يقنت إلا شهرا ثم على وجه النسخ له فإعتقدوا أن القنوت فى المكتوبات منسوخ وطائفة من اهل الحجاز إعتقدوا أن النبى ما زال يقنت حتى فارق الدنيا ثم منهم من إعتقد أنه كان يقنت قبل الركوع ومنهم من كان يعتقد أنه كان يقنت بعد الركوع والصواب هو ( القول الثالث ( الذى عليه جمهور أهل الحديث وكثير من أئمة أهل الحجاز وهو الذى ثبت فى الصحيحين وغيرهما أنه قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم ترك هذا القنوت ثم أنه بعد ذلك بمدة بعد خيبر وبعد إسلام أبى هريرة قنت وكان يقول فى قنوته ( اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر وإجعلها عليهم سنين كسنى يوسف ( فلو كان قد نسخ القنوت لم يقنت هذه المرة الثانية وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه قنت فى المغرب وفى العشاء الآخرة
وفى السنن أنه كان يقنت فى الصلوات الخمس وأكثر قنوته
____________________
(22/269)
كان فى الفجر ولم يكن يداوم على القنوت لا فى الفجر ولا غيرها بل قد ثبت فى الصحيحين عن أنس أنه قال ( لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا ( فالحديث الذى رواه الحاكم وغيره من حديث الربيع بن أنس عن أنس انه قال ( ما زال يقنت حتى فارق الدنيا ( إنما قاله فى سياقه القنوت قبل الركوع وهذا الحديث لو عارض الحديث الصحيح لم يلتفت إليه فإن الربيع بن أنس ليس من رجال الصحيح فكيف وهو لم يعارضه وإنما معناه أنه كان يطيل القيام فى الفجر دائما قبل الركوع
وأما انه كان يدعو فى الفجر دائما قبل الركوع أو بعده بدعاء يسمع منه أو لا يسمع فهذا باطل قطعا وكل من تأمل ألأحاديث الصحيحة علم هذا بالضرورة وعلم أن هذا لو كان واقعا لنقله الصحابة والتابعون ولما أهملوا قنوته الراتب المشروع لنا مع أنهم نقلوا قنوته الذى لا يشرع بعينه وإنما يشرع نظيره فإن دعاءه لأولئك المعينين وعلى أولئك المعينين ليس بمشروع بإتفاق المسلمين بل إنما يشرع نظيره فيشرع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين ويدعو على الكفار فى الفجر وفى غيرها من الصلوات وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصارى بدعائه الذى فيه ( اللهم إلعن كفرة أهل الكتاب ( إلى آخره
____________________
(22/270)
وكذلك على رضى الله عنه لما حارب قوما قنت يدعو عليهم وينبغى للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة وإذا سمى من يدعو لهم من المؤمنين ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسنا
وأما قنوت الوتر فللعلماء فيه ثلاثة اقوال قيل لا يستحب بحال لأنه لم يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قنت فى الوتر وقيل بل يستحب فى جميع السنة كما ينقل عن إبن مسعود وغيره ولأن فى السنن أن النبى علم الحسن بن على رضى الله عنهما دعاء يدعو به فى قنوت الوتر وقيل بل يقنت فى النصف الأخير من رمضان كما كان أبى بن كعب يفعل
وحقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ فى الصلاة من شاء فعله ومن شاء تركه كما يخير الرجل أن يوتر بثلاث أو خمس أو سبع وكما يخير إذا أوتر بثلاث إن شاء فصل وإن شاء وصل
وكذلك يخير فى دعاء القنوت إن شاء فعله وإن شاء تركه وإذا صلى بهم قيام رمضان فإن قنت فى جميع الشهر فقد أحسن وإن قنت فى النصف الأخير فقد أحسن وإن لم يقنت بحال فقد أحسن
____________________
(22/271)
كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبى فيه عددا معينا بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد فى رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبى بن كعب كان يصلى بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام فى رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن
والأفضل يختلف بإختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم إحتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبى يصلى لنفسه فى رمضان وغيره هو الأفضل وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذى يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره
ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبى لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ فإذا كانت هذه
____________________
(22/272)
السعة فى نفس عدد القيام فكيف الظن بزيادة القيام لأجل دعاء القنوت أو تركه كل ذلك سائغ حسن وقد ينشط الرجل فيكون الأفضل فى حقه تطويل العبادة وقد لا ينشط فيكون الأفضل فى حقه تخفيفها
وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود هكذا كان يفعل فى المكتوبات وقيام الليل وصلاة الكسوف وغير ذلك
وقد تنازع الناس هل الأفضل طول القيام أم كثرة الركوع والسجود أو كلاهما سواء على ثلاثة أقوال
أصحها أن كليهما سواء فإن القيام إختص بالقراءة وهى أفضل من الذكر والدعاء والسجود نفسه أفضل من القيام فينبغى أنه إذا طول القيام أن يطيل الركوع والسجود وهذا هو طول القنوت الذى أجاب به النبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له أى الصلاة أفضل فقال ( طول القنوت ( فإن القنوت هو إدامة العبادة سواء كان فى حال القيام أو الركوع أو السجود كما قال تعالى { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } فسماه قانتا فى حال سجوده كما سماه قانتا فى حال قيامه
____________________
(22/273)
وأما البسملة فلا ريب أنه كان فى الصحابة من يجهر بها وفيهم من كان لا يجهر بها بل يقرؤها سرا أو لا يقرؤها والذين كانوا يجهرون بها أكثرهم كان يجهر بها تارة ويخافت بها أخرى وهذا لأن الذكر قد يكون السنة المخافتة به ويجهر به لمصلحة راجحة مثل تعليم المأمومين فإنه قد ثبت فى الصحيح أن إبن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة ليعلمهم أنها سنة
وتنازع العلماء فى القراءة على الجنازة على ثلاثة أقوال
قيل لا تستحب بحال كما هو مذهب أبى حنيفة ومالك
وقيل بل يجب فيها القراءة بالفاتحة كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعى وأحمد
وقيل بل قراءة الفاتحة فيها سنة وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءة جاز وهذا هو الصواب
وثبت فى الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقول ( الله أكبر سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ( يجهر بذلك مرات كثيرة ( وإتفق العلماء على أن الجهر بذلك ليس بسنة راتبة لكن جهر به للتعليم ولذلك نقل عن بعض الصحابة أنه كان
____________________
(22/274)
يجهر أحيانا بالتعوذ فإذا كان من الصحابة من جهر بالإستفتاح والإستعاذة مع إقرار الصحابة له على ذلك فالجهر بالبسملة أولى أن يكون كذلك وأن يشرع الجهر بها أحيانا لمصلحة راجحة
لكن لا نزاع بين أهل العلم بالحديث أن النبى لم يجهر بالإستفتاح ولا بالإستعاذة بل قد ثبت فى الصحيح أن أبا هريرة قال له يا رسول الله ارأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول قال ( أقول اللهم بعد بينى وبين خطاياى كما بعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقنى من خطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم إغسلنى من خطاياى بالثلج والماء والبرد (
وفى السنن عنه أنه كان يستعيذ فى الصلاة قبل القراءة والجهر بالبسملة أقوى من الجهر بالإستعاذة لأنها آية من كتاب الله تعالى وقد تنازع العلماء فى وجوبها وإن كانوا قد تنازعوا فى وجوب الإستفتاح والإستعاذة وفى ذلك قولان فى مذهب أحمد وغيره لكن النزاع فى ذلك أضعف من النزاع فى وجوب البسملة
والقائلون بوجوبها من العلماء أفضل وأكثر لكن لم يثبت عن النبى أنه كان يجهر بها وليس فى الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر والأحاديث الصريحة بالجهر كلها
____________________
(22/275)
ضعيفة بل موضوعة ولهذا لما صنف الدارقطنى مصنفا فى ذلك قيل له هل في ذلك شيء صحيح فقال أما عن النبى صلى الله عليه وسلم فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف
ولو كان النبى يجهر بها دائما لكان الصحابة ينقلون ذلك ولكان الخلفاء يعلمون ذلك ولما كان الناس يحتاجون أن يسألوا أنس بن مالك بعد إنقضاء عصر الخلفاء ولما كان الخلفاء الراشدون ثم خلفاء بنى أمية وبنى العباس كلهم متفقين على ترك الجهر ولما كان أهل المدينة وهم أعلم أهل المدائن بسنته ينكرون قراءتها بالكلية سرا وجهرا والأحاديث الصحيحة تدل على أنها آية من كتاب الله وليست من الفاتحة ولا غيرها
وقد تنازع العلماء هل هي آية أو بعض آية من كل سورة أو ليست من القرآن إلا فى سورة النمل أو هي آية من كتاب الله حيث كتبت فى المصاحف وليست من السور على ثلاثة أقوال
والقول الثالث ( هو أوسط الأقوال وبه تجتمع الأدلة فإن كتابة الصحابة لها فى المصاحف دليل على أنها من كتاب الله وكونهم فصلوها عن السورة التى بعدها دليل على أنها ليست منها وقد ثبت فى الصحيح أن النبى قال ( نزلت على آنفا سورة فقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر } إلى آخرها
____________________
(22/276)
وثبت فى الصحيح ( أنه أول ما جاء الملك بالوحى قال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } فهذا اول ما نزل ولم ينزل قبل ذلك ( بسم الله الرحمن الرحيم )
وثبت عنه فى السنن أنه قال ( سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهى تبارك الذى بيده الملك وهى ثلاثون آية بدون البسملة (
وثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( يقول الله تعالى قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدى ما سأل فإذا قال العبد ( الحمد لله رب العالمين ( قال الله حمدنى عبدى فإذا قال ( الرحمن الرحيم
) قال الله أثنى على عبدى فإذا قال { مالك يوم الدين } قال الله مجدنى عبدى فإذا قال { إياك نعبد وإياك نستعين } قال هذه الآية بينى وبين عبدى نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال الله هؤلاء لعبدى ولعبدى ما سأل
فهذا الحديث صحيح صريح فى أنها ليست من الفاتحة ولم يعارضه
____________________
(22/277)
حديث صحيح صريح وأجود ما يرى فى هذا الباب من الحديث إنما يدل على أنه يقرأ بها في أول الفاتحة لا يدل على أنها منها ولهذا كان القراء منهم من يقرأ بها فى أول السورة ومنهم من لا يقرأ بها فدل على أن كلا الأمرين سائغ لكن من قرأ بها كان قد أتى بالأفضل وكذلك من كرر قراءتها فى أول كل سورة كان أحسن ممن ترك قراءتها لأنه قرأ ما كتبته الصحابه فى المصاحف فلو قدر أنهم كتبوها على وجه التبرك لكان ينبغى أن تقرأ على وجه التبرك وإلا فكيف يكتبون فى المصحف مالا يشرع قراءته وهم قد جردوا المصحف عما ليس من القرآن حتى أنهم لم يكتبوا التأمين ولا أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا غير ذلك مع أن السنة للمصلى أن يقول عقب الفاتحة آمين فكيف يكتبون مالا يشرع أن يقوله وهم لم يكتبوا ما يشرع أن يقوله المصلى من غير القرآن فإذا جمع بين الأدلة الشرعية دلت على أنها من كتاب الله وليست من السورة
والحديث الصحيح عن أنس ليس فيه نفى قراءة النبى وأبى بكر وعمر ( وعثمان ( فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ( أو ( فلم يكونوا يجهرون ( ببسم الله الرحمن الرحيم ( ورواية من روى ( فلم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم ( في
____________________
(22/278)
أول قراءة ولا آخرها ( إنما تدل على نفى الجهر لأن أنسا لم ينف إلا ما علم وهو لا يعلم ما كان يقوله النبى صلى الله عليه وسلم سرا ولا يمكن أن يقال إن النبى لم يكن يسكت بل يصل التكبير بالقراءة فإنه قد ثبت فى الصحيحين أن أبا هريرة قال له ( أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول (
ومن تأول حديث أنس على نفى قراءتها سرا فهو مقابل لقول من قال مراد أنس أنهم كانوا يفتتحون بفاتحة الكتاب قبل غيرها من السور وهذا أيضا ضعيف فإن هذا من العلم العام الذى ما زال الناس يفعلونه وقد كان الحجاج بن يوسف وغيره من الأمراء الذين صلى خلفهم أنس يقرؤون الفاتحة قبل السورة ولم ينازع فى ذلك أحد ولا سئل عن ذلك أحد لا أنس ولا غيره ولا يحتاج أن يروى أنس هذا عن النبى وصاحبيه ومن روى عن أنس أنه شك هل كان النبي يقرأ البسملة أو لا يقرؤها فروايته توافق الروايات الصحيحة لأن أنسا لم يكن يعلم هل قرأها سرا أم لا وإنما نفى الجهر
ومن هذا الباب الذى إتفق العلماء على أنه يجوز فيه الأمران فعل الرواتب فى السفر فإنه من شاء فعلها ومن شاء تركها بإتفاق الأئمة والصلاة التى يجوز فعلها وتركها قد يكون فعلها أحيانا أفضل
____________________
(22/279)
لحاجة الإنسان إليها وقد يكون تركها أفضل إذا كان مشتغلا عن النافلة بما هو أفضل منها لكن النبى فى السفر لم يكن يصلى من الرواتب إلا ركعتى الفجر والوتر ولما نام عن الفجر صلى السنة والفريضة بعد ما طلعت الشمس وكان يصلى على راحلته قبل أى وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلى عليها المكتوبة وهذا كله ثابت فى الصحيح
فأما الصلاة قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب فلم ينقل أحد عنه أنه فعل ذلك فى السفر
وقد تنازع العلماء فى السنن الرواتب مع الفريضة فمنهم من لم يوقت فى ذلك شيئا ومنهم من وقت أشياء بأحاديث ضعيفة بل أحاديث يعلم أهل العلم بالحديث أنها موضوعة كمن يوقت ستا قبل الظهر وأربعا بعدها وأربعا قبل العصر وأربعا قبل العشاء وأربعا بعدها ونحو ذلك
والصواب فى هذا الباب القول بما ثبت فى الأحاديث الصحيحة دون ما عارضها وقد ثبت فى الصحيح ثلاثة أحاديث حديث إبن عمر قال ( حفظت عن رسول الله ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء
____________________
(22/280)
وركعتين قبل الفجر ( وحديث عائشة كان رسول الله يصلى قبل الظهر أربعا وهو فى الصحيح أيضا وسائره فى صحيح مسلم كحديث إبن عمر وهكذا فى الصحيح وفى رواية صححها الترمذى صلى قبل الظهر ركعتين
وحديث أم حبيبة عن النبى أنه قال ( من صلى فى يوم وليلة إثنتى عشرة ركعة تطوعا غير فريضة بنى الله له بيتا فى الجنة ( وقد جاء فى السنن تفسيرها ( أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر ( فهذا الحديث الصحيح فيه أنه رغب بقوله فى ثنتى عشرة ركعة
وفى الحديثين الصحيحين أنه كان يصلى مع المكتوبة إما عشر ركعات وإما إثنتى عشرة ركعة وكان يقوم من الليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة فكان مجموع صلاة الفريضة والنافلة فى اليوم والليلة نحو أربعين ركعة كان يوتر صلاة النهار بالمغرب ويوتر صلاة الليل بوتر الليل وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة وقال فى الثالثة لمن شاء ( كراهية أن يتخذها الناس سنة
____________________
(22/281)
وثبت فى الصحيح أن أصحابه كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها ركعتين وهو يراهم ولا ينهاهم فإذا كان التطوع بين أذانى المغرب مشروعا فلأن يكون مشروعا بين أذانى العصر والعشاء بطريق الأولى لأن السنة تعجيل المغرب بإتفاق الأئمة فدل ذلك على أن الصلاة قبل العصر وقبل المغرب وقبل العشاء من التطوع المشروع وليس هو من السنن الراتبة التى قدرها بقوله ولا داوم عليها بفعله
ومن ظن أنه كان له سنة يصليها قبل العصر قضاها بعد العصر فقد غلط وإنما كانت تلك ركعتى الظهر لما فاتته قضاها بعد العصر وما يفعل بعد الظهر فهو قبل العصر ولم يقض بعد العصر إلا الركعتين بعد الظهر
و ( التطوع المشروع ( كالصلاة بين الأذانين وكالصلاة وقت الضحى ونحو ذلك هو كسائر التطوعات من الذكر والقراءة والدعاء مما قد يكون مستحبا لمن لا يشتغل عنه بما هو أفضل منه ولا يكون مستحبا لمن اشتغل عنه بما هو أفضل منه والمداومة على القليل أفضل من كثير لا يداوم عليه ولهذا كان عمل رسول الله ديمة
واستحب الأئمة أن يكون للرجل عدد من الركعات يقوم بها من
____________________
(22/282)
الليل لا يتركها فإن نشط أطالها وإن كسل خففها وإذا نام عنها صلى بدلها من النهار كما كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا نام عن صلاة الليل صلى فى النهار إثنتى عشرة ركعة وقال ( من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل (
ومن هذا الباب ( صلاة الضحى ( فإن النبى لم يكن يداوم عليها بإتفاق أهل العلم بسنته ومن زعم من الفقهاء أن ركعتى الضحى كانتا واجبتين عليه فقد غلط والحديث الذى يذكرونه ( ثلاث هن على فريضة ولكم تطوع الوتر والفجر وركعتا الضحى ( حديث موضوع بل ثبت فى حديث صحيح لا معارض له أن النبى كان يصلى وقت الضحى لسبب عارض لا لأجل الوقت مثل أن ينام من الليل فيصلى من النهار إثنتى عشرة ركعة ومثل أن يقدم من سفر وقت الضحى فيدخل المسجد فيصلى فيه
ومثل ما صلى لما فتح مكة ثمانى ركعات وهذه الصلاة كانوا يسمونها ( صلاة الفتح ( وكان من الأمراء من يصليها إذا فتح مصرا فإن النبى إنما صلاها لما فتح مكة ولو كان سببها مجرد الوقت كقيام الليل لم يختص بفتح مكة ولهذا كان
____________________
(22/283)
من الصحابة من لا يصلى الضحى لكن قد ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه قال أوصانى خليلى بثلاث صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتى الضحى وأن أوتر قبل أن أنام ( وفى رواية لمسلم ( وركعتى الضحى كل يوم (
وفى صحيح مسلم عن أبى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن المنكر صدقة ويجزى من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ( وفى صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال ( خرج النبى على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال ( صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى ( وهذه ا لأحاديث الصحيحة وأمثالها تبين إن الصلاة وقت الضحى حسنة محبوبة (
بقى أن يقال فهل الأفضل المداومة عليها كما فى حديث أبى هريرة أو الأفضل ترك المداومة إقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم هذا مما تنازعوا فيه والأشبه أن يقال من كان مداوما على قيام الليل أغناه عن المداومة على صلاة الضحى كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يفعل ومن كان ينام عن قيام الليل فصلاة الضحى بدل عن قيام الليل
____________________
(22/284)
وفى حديث أبى هريرة أنه أوصاه أن يوتر قبل أن ينام وهذا إنما يوصى به من لم يكن عادته قيام الليل وإلا فمن كانت عادته قيام الليل وهو يستيقظ غالبا من الليل فالوتر آخر الليل أفضل له كما ثبت فى الحديث الصحيح عن النبى ( من خشى أن لا يستيقظ آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يستيقظ آخره فليوتر آخره فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل ( وقد ثبت فى الصحيح عن النبى ( أنه سئل أى الصلاة أفضل بعد المكتوبة فقال قيام الليل (
فصل
والقسم الثالث ما قد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فيه أنه سن الأمرين لكن بعض أهل العلم حرم أحد النوعين أو كرهه لكونه لم يبلغه أو تأول الحديث تأويلا ضعيفا والصواب فى مثل هذا أن كل ما سنه رسول الله لأمته فهو مسنون لا ينهى عن شيء منه وإن كان بعضه أفضل من ذلك
فمن ذلك أنواع التشهدات فإنه قد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم تشهد إبن مسعود وثبت عنه فى صحيح
____________________
(22/285)
مسلم تشهد أبى موسى وألفاظه قريبة من ألفاظه وثبت عنه فى صحيح مسلم تشهد إبن عباس
وفى السنن تشهد إبن عمر وعائشة وجابر وثبت فى الموطأ وغيره أن عمر بن الخطاب علم المسلمين تشهدا على منبر النبى ولم يكن عمر ليعلمهم تشهدا يقرونه عليه إلا وهو مشروع فلهذا كان الصواب عند الأئمة المحققين أن التشهد بكل من هذه جائز لا كراهة فيه ومن قال إن الإتيان بالفاظ تشهد إبن مسعود واجب كما قاله بعض أصحاب أحمد فقد أخطأ
ومن ذلك الأذان والإقامة فإنه قد ثبت فى الصحيح عن أنس أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة وثبت فى الصحيح ( أنه علم أبا محذورة الأذان والإقامة فرجع فى الأذان وثنى الإقامة ( وفى بعض طرقه أنه كبر فى أوله أربعا كما فى السنن وفى بعضها أنه كبر مرتين كما فى صحيح مسلم
وفى السنن أن أذان بلال الذى رواه عبد الله بن زيد ليس فيه ترجيع للأذان ولا تثنية للإقامة فكل واحد من أذان بلال وأبى محذورة سنة فسواء رجع المؤذن فى الأذان أو لم يرجع وسواء أفرد الإقامة أو ثناها فقد أحسن وإتبع السنة
____________________
(22/286)
ومن قال أن الترجيع واجب لابد منه أو أنه مكروه منهى عنه فكلاهما مخطىء وكذلك من قال أن أفراد الإقامة مكروه أو تثنيتها مكروه فقد أخطأ وأما إختيار أحدهما فهذا من مسائل الإجتهاد كإختيار بعض القراءات على بعض وإختيار بعض التشهدات على بعض
ومن هذا الباب أنواع ( صلاة الخوف ( التى صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أنواع ( الإستسقاء ( فإنه إستسقى مرة فى مسجده بلا صلاة الإستسقاء ومرة خرج إلى الصحراء فصلى بهم ركعتين وكانوا يستسقون بالدعاء بلا صلاة كما فعل ذلك خلفاؤه فكل ذلك حسن جائز
ومن هذا الباب الصوم والفطر للمسافر فى رمضان فإن الأئمة الأربعة اتفقوا على جواز الأمرين وذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز إلا الفطر وأنه لو صام لم يجزئه وزعموا أن الإذن لهم فى الصوم فى السفر منسوخ بقوله ( ليس من البر الصيام فى السفر ( والصحيح ما عليه الأئمة وليس فى هذا الحديث ما ينافى إذنه لهم فى الصيام فى السفر فإنه نفى أن يكون من البر ولم ينف أن
____________________
(22/287)
يكون جائزا مباحا والفرض يسقط بفعل النوع الجائز المباح إذا أتى بالمأمور به والمراد به كونه فى السفر ليس من البر كما لو صام وعطش نفسه بأكل المالح أو صام وأضحى للشمس فإنه يقال ليس من البر الصيام فى الشمس ولهذا قال سفيان بن عيينة معناه ليس من صام بأبر ممن لم يصم
ففى هذا ما دل على أن الفطر أفضل فإنه آخر الأمرين من النبى صلى الله عليه وسلم فإنه صام أولا فى السفر ثم أفطر فيه ومن كان يظن أن الصوم فى السفر نقص فى الدين فهذا مبتدع ضال وإذا صام على هذا الوجه معتقدا وجوب الصوم عليه وتحريم الفطر فقد أمر طائفة من السلف والخلف بالإعادة
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى أن حمزة إبن عمرو سأله فقال إننى رجل أكثر الصوم أفأصوم فى السفر فقال ( إن أفطرت فحسن وإن صمت فلا بأس ( فإذا فعل الرجل فى السفر أيسر الأمرين عليه من تعجيل الصوم أو تأخيره فقد أحسن فإن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر أما إذا كان الصوم فى السفر أشق عليه من تأخيره فالتأخير أفضل فإن فى المسند عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ( وأخرجه بعضهم إما إبن خزيمة وإما غيره فى صحيحه وهذه الصحاح مرتبتها دون مرتبة صحيحى البخارى ومسلم
____________________
(22/288)
وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون منظر الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان فكان فى الصحابة من يصومه إحتياطا وكان منهم من يفطر ولم نعلم أحدا منهم أوجب صومه بل الذين صاموه إنما صاموه على طريق التحرى والإحتياط والآثار المنقولة عنهم صريحة فى ذلك كما نقل عن عمر وعلى ومعاوية وعبد الله إبن عمر وعائشة وغيرهم
والعلماء متنازعون فيه على أقوال منهم من نهى عن صومه نهى تحريم أو تنزيه كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك والشافعى وأحمد ومنهم من يوجبه كما يقول ذلك طائفة من أصحاب أحمد ومنهم من يشرع فيه الأمرين بمنزلة الإمساك إذا غم مطلع الفجر وهذا مذهب أبى حنيفة وهو المنصوص عن أحمد فإنه كان يصومه على طريق الإحتياط إتباعا لإبن عمر وغيره لا على طريق الإيجاب كسائر ما يشك فى وجوبه فإنه يستحب فعله إحتياطا من غير وجوب
وإذا صامه الرجل بنية معلقة بأن ينوى إن كان من رمضان أجزأه وإلا فلا فتبين أنه من رمضان أجزأه ذلك عند أكثر العلماء وهو مذهب أبى حنيفة وأصح الروايتين عن أحمد وغيره فإن النية تتبع العلم فمن علم ما يريد فعله نواه بغير إختياره وأما إذا لم يعلم الشيء فيمتنع أن يقصده
____________________
(22/289)
فلا يتصور أن يقصد صوم رمضان جزما من لم يعلم أنه من رمضان
وقد يدخل فى هذا الباب القصر فى السفر والجمع بين الصلاتين والذى مضت به سنة رسول الله أنه كان يقصر فى السفر فلا يصلى الرباعية فى السفر إلا ركعتين وكذلك الشيخان بعده أبوبكر ثم عمر
وما كان يجمع فى السفر بين الصلاتين إلا أحيانا عند الحاجة لم يكن جمعه كقصره بل القصر سنة راتبة والجمع رخصة عارضة فمن نقل عن النبى أنه ربع فى السفر الظهر أو العصر أو العشاء فهذا غلط فإن هذا لم ينقله عنه أحد لا باسناد صحيح ولا ضعيف ولكن روى بعض الناس حديثا عن عائشة أنها قالت ( كان رسول الله فى السفر يقصر وتتم ويفطر وتصوم فسألته عن ذلك فقال أحسنت يا عائشة ( فتوهم بعض العلماء أنه هو كان الذى يقصر فى السفر ويتم وهذا لم يروه أحد ونفس الحديث المروى فى فعلها باطل ولم تكن عائشة ولا أحد غيرها ممن كان مع النبى يصلى إلا كصلاته ولم يصل معه أحد أربعا قط لا بعرفة ولا بمزدلفة ولا غيرهما لا من أهل مكة ولا من غيرهم بل جميع المسلمين كانوا يصلون معه ركعتين وكان يقيم بمنى أيام الموسم يصلى بالناس ركعتين وكذلك بعده أبوبكر ثم عمر
____________________
(22/290)
ثم عثمان بن عفان فى أول خلافته ثم صلى بعد ذلك اربعا لأمور رآها تقتضى ذلك فإختلف الناس عليه فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه
ولم يجمع النبى فى حجة الوداع إلا بعرفة وبمزدلفة خاصة لكنه كان إذا جد به السير فى غير ذلك من أسفاره أخر المغرب إلى بعد العشاء ثم صلاهما جميعا ثم أخر الظهر إلى وقت العصر فصلاهما جميعا ولهذا كان الصحيح من قولى العلماء أن القصر فى السفر يجوز سواء نوى القصر أو لم ينوه وكذلك الجمع حيث يجوز له سواء نواه مع الصلاة الأولى أو لم ينوه فإن الصحابة لما صلوا خلف النبى بعرفة الظهر ركعتين ثم العصر ركعتين لم يأمرهم عند إفتتاح صلاة الظهر بأن ينووا الجمع ولا كانوا يعلمون أنه يجمع لأنه لم يفعل ذلك فى غير سفرته تلك ولا أمر أحدا خلفه لا من أهل مكة ولا غيرهم أن ينفرد عنه لا بتربيع الصلاتين ولا بتأخير صلاة العصر بل صلوها معه
وقد إتفق العلماء على جواز القصر فى السفر وإتفقوا أنه الأفضل إلا قولا شاذا لبعضهم وإتفقوا أن فعل كل صلاة فى وقتها فى السفر أفضل إذا لم يكن هناك سبب يوجب الجمع إلا قولا شاذا لبعضهم
____________________
(22/291)
والقصر سببه السفر خاصة لا يجوز فى غير السفر وإما الجمع فسببه الحاجة والعذر فإذا إحتاج إليه جمع في السفر القصير والطويل وكذلك الجمع للمطر ونحوه وللمرض ونحوه ولغير ذلك من الأسباب فإن المقصود به رفع الحرج عن الأمة ولم يرد عن النبى أنه جمع فى السفر وهو نازل إلا فى حديث واحد ولهذا تنازع المجوزون للجمع كمالك والشافعى وأحمد هل يجوز الجمع للمسافر النازل فمنع منه مالك وأحمد فى إحدى الروايتين عنه وجوزه الشافعى وأحمد فى الرواية الأخرى ومنع أبوحنيفة الجمع إلا بعرفة ومزدلفة
ومن هذا الباب التمتع والإفراد والقران فى الحج فإن مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة جواز الأمور الثلاثة
وذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز إلا التمتع وهو قول إبن عباس ومن وافقه من أهل الحديث والشيعة وكان طائفة من بنى أمية ومن إتبعهم ينهون عن المتعة ويعاقبون من تمتع
وقد تنازع العلماء فى حج النبى هل تمتع فيه أو أفرد أو قرن وتنازعوا أى الثلاثة أفضل فطائفة من أصحاب أحمد تظن أنه تمتع تمتعا حل فيه من إحرامه وطائفة أخرى تظن أنه أحرم بالعمرة ولم يحرم بالحج حتى طاف وسعى للعمرة
____________________
(22/292)
وطائفة من اصحاب مالك والشافعى تظن أنه أفرد الحج وإعتمر عقيب ذلك وطائفة من أصحاب أبى حنيفة تظن أنه قرن قرانا طاف فيه طوافين وسعى فيه سعيين وطائفة تظن أنه أحرم مطلقا وكل ذلك خطأ لم تروه الصحابة رضوان الله عليهم بل عامة روايات الصحابة متفقة ومن نسبهم إلى الإختلاف فى ذلك فلعدم فهمه أحكامهم فإن الصحابة نقلوا أن النبى تمتع بالعمرة إلى الحج هكذا الذى نقله عامة الصحابة ونقل غير واحد من هؤلاء وغيرهم أنه قرن بين العمرة والحج وأنه أهل بهما جميعا كما نقلوا أنه إعتمر مع حجته مع إتفاقهم على أنه لم يعتمر بعد الحج بل لم يعتمر معه من أصحابه بعد الحج إلا عائشة لأجل حيضتها
ولفظ ( المتمتع ( فى الكتاب والسنة وكلام الصحابة إسم لمن جمع بين العمرة والحج فى أشهر الحج سواء أحرم بهما جميعا أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج أو أحرم بالحج بعد تحلله من العمرة وهذا هو التمتع الخاص فى عرف المتأخرين وأحرم بالحج بعد قضاء العمرة قبل التحلل منها لكونه ساق الهدى أو مع كونه لم يسقه وهذا قد يسمونه متمتعا التمتع الخاص وقارنا وقد يقولون لا يدخل فى التمتع الخاص بل هو قارن
وما ذكرته من أن القران يسمونه تمتعا جاء مصرحا به فى أحاديث
____________________
(22/293)
صحيحة وهؤلاء الذين نقلوا أنه تمتع نقل بعضهم أنه أفرد الحج فإنه أفرد أعمال الحج ولم يحل من إحرامه لأجل سوقه الهدى فهو لم يتمتع متعة حل فيها من إحرامه فلهذا صار كالمفرد من هذا الوجه
وأما الأفضل لمن قدم فى أشهر الحج ولم يسق الهدى فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل له كما أمر النبى أصحابه فى حجة الوداع فإنه أمر كل من لم يسق الهدى بالتمتع ومن ساق الهدى فالقران له أفضل كما فعل النبى ومن إعتمر فى سفرة وحج فى سفرة أو إعتمر قبل أشهر الحج وأقام حتى يحج فهذا الإفراد له أفضل من التمتع والقران بإتفاق الأئمة الأربعة
(
وأما القسم الرابع ( فهو مما تنازع العلماء فيه فأوجب أحدهم شيئا أو إستحبه وحرمه الآخر والسنة لا تدل إلا على أحد القولين لم تسوغهما جميعا فهذا هو أشكل الأقسام الأربعة وأما الثلاثة المتقدمة فالسنة قد سوغت الأمرين
وهذا مثل تنازعهم فى قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال قيل ليس له أن يقرأ حال جهر الإمام إذا كان يسمع لا بالفاتحة ولا غيرها وهذا قول الجمهور من السلف
____________________
(22/294)
والخلف وهذا مذهب مالك وأحمد وأبى حنيفة وغيرهم وأحد قولى الشافعى وقيل بل يجوز الأمران والقراءة أفضل ويروى هذا عن الأوزاعى وأهل الشام والليث بن سعد وهو إختيار طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم وقيل بل القراءة واجبة وهو القول الآخر للشافعى
وقول الجمهور هو الصحيح فإن الله سبحانه قال { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } قال أحمد ( أجمع الناس على أنها نزلت فى الصلاة وقد ثبت فى الصحيح من حديث أبى موسى عن النبى أنه قال ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا وإذا كبر وركع فكبروا وإركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم فتلك بتلك ( الحديث إلى آخره وروى هذا اللفظ من حديث أبى هريرة أيضا وذكر مسلم أنه ثابت فقد أمر الله ورسوله بالإنصات للإمام إذا قرأ وجعل النبى صلى الله عليه وسلم ذلك من جملة الإئتمام به فمن لم ينصت له لم يكن قد إئتم به ومعلوم أن الإمام يجهر لأجل المأموم ولهذا يؤمن المأموم على دعائه فإذا لم يستمع لقراءته ضاع جهره ومصلحة متابعة الإمام مقدمة على مصلحة ما يؤمر به المنفرد ألا ترى أنه لو أدرك الإمام فى وتر من صلاته فعل كما يفعل فيتشهد عقيب الوتر
____________________
(22/295)
ويسجد بعد التكبير إذا وجده ساجدا كل ذلك لأجل المتابعة فكيف لا يستمع لقراءته مع أنه بالإستماع يحصل له مصلحة القراءة فإن المستمع له مثل أجر القارئ
ومما يبين هذا إتفاقهم كلهم على أنه لا يقرأ معه فيما زاد على الفاتحة إذا جهر فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له لكانت قراءته لنفسه أفضل من إستماعه للإمام وإذا كان يحصل له بالإنصات أجر القارئ لم يحتج إلى قراءته فلا يكون فيها منفعة بل فيها مضرة شغلته عن الإستماع المأمور به وقد تنازعوا إذا لم يسمع الإمام لكون الصلاة صلاة مخافتة أو لبعد المأموم أو طرشه أو نحو ذلك هل الأولى له أن يقرأ أو يسكت والصحيح أن الأولى له أن يقرأ فى هذه المواضع لأنه لا يستمع قراءة يحصل له بها مقصود القراءة فإذا قرأ لنفسه حصل له أجر القراءة وإلا بقى ساكتا لا قارئا ولا مستمعا ومن سكت غير مستمع ولا قارئ فى الصلاة لم يكن مأمورا بذلك ولا محمودا بل جميع أفعال الصلاة لا بد فيها من ذكر الله تعالى كالقراءة والتسبيح والدعاء أو الإستماع للذكر
وإذا قيل بأن الإمام يحمل عنه فرض القراءة فقراءته لنفسه أكمل له وأنفع له وأصلح لقلبه وأرفع له عند ربه والإنصات
____________________
(22/296)
لا يؤمر به إلا حال الجهر فأما حال المخافتة فليس فيه صوت مسموع حتى ينصت له
ومن هذا الباب فعل الصلاة التى لها سبب مثل تحية المسجد بعد الفجر والعصر فمن العلماء من يستحب ذلك ومنهم من يكرهه كراهة تحريم أو تنزيه والسنة إما أن تستحبه وإما أن تكرهه والصحيح قول من إستحب ذلك وهو مذهب الشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين إختارها طائفة من أصحابه فإن أحاديث النهى عن الصلاة فى هذه الأوقات مثل قوله ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ( عموم مخصوص خص منها صلاة الجنائز بإتفاق المسلمين وخص منها قضاء الفوائت بقوله ( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح (
وقد ثبت عن النبى أنه قضى ركعتى الظهر بعد العصر وقال للرجلين اللذين رآهما لم يصليا بعد الفجر فى مسجد الخيف ( إذا صليتما فى رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ( وقد قال ( يا بنى عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى فيه أية ساعة شاء من ليل أو نهار ( فهذا المنصوص يبين أن ذلك العموم خرجت منه صورة
____________________
(22/297)
أما قوله ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين ( فهو أمر عام لم يخص منه صورة فلا يجوز تخصيصه بعموم مخصوص بل العموم المحفوظ أولى من العموم المخصوص
وأيضا فإن الصلاة والإمام على المنبر أشد من الصلاة بعد الفجر والعصر وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلى ركعتين ( فلما أمر بالركعتين فى وقت هذا النهى فكذلك فى وقت ذلك النهى وأولى ولأن أحاديث النهى فى بعضها ( لا تتحروا بصلاتكم ( فنهى عن التحرى للصلاة ذلك الوقت ولأن من العلماء من قال ( إن النهى فيها نهى تنزيه لا تحريم (
ومن السلف من جوز التطوع بعد العصر مطلقا وإحتجوا بحديث عائشة لأن النهى عن الصلاة إنما كان سدا للذريعة إلى التشبه بالكفار وما كان منهيا عنه للذريعة فإنه يفعل لأجل المصلحة الراجحة كالصلاة التى لها سبب تفوت بفوات السبب فإن لم تفعل فيه وإلا فاتت المصلحة والتطوع المطلق لا يحتاج إلى فعله وقت النهى فإن الإنسان لا يستغرق الليل والنهار بالصلاة فلم يكن فى النهى تفويت مصلحة وفى فعله فيه مفسدة بخلاف التطوع الذى له سبب يفوت كسجدة التلاوة وصلاة الكسوف ثم أنه إذا جاز ركعتا الطواف مع إمكان تأخير
____________________
(22/298)
الطواف فما يفوت أولى أن يجوز
وطائفة من أصحابنا يجوزون قضاء السنن الرواتب دون غيرها لكون النبى قضى ركعتى الظهر وروى عنه أنه رخص فى قضاء ركعتى الفجر فيقال إذا جاز قضاء السنة الراتبة مع إمكان تأخيرها فما يفوت كالكسوف وسجود التلاوة وتحية المسجد أولى أن يجوز بل قد ثبت بالحديث الصحيح قضاء الفريضة فى هذا الوقت مع أنه قد يستحب تأخير قضائها كما أخر النبى قضاء الفجر لما نام عنها فى غزوة خيبر وقال ( إن هذا واد حضرنا فيه الشيطان فإذا جاز فعل ما يمكن تأخيره فما لا يمكن ولا يستحب تأخيره أولى وبسط هذه المسائل لا يمكن فى هذا الجواب
فصل
وأما قيام الليل وصيام النهار فالأفضل فى ذلك ما ثبت فى الصحيح عن النبى أنه فعله وقال ( أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وأفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولايفر إذا لاقى ( وقد ثبت
____________________
(22/299)
فى الصحاح أن عبد الله بن عمرو قال لأصومن النهار ولأقومن الليل ولأقران القرآن كل يوم فقال له النبى ( لا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين أى غارت ونفهت له النفس أى سئمت ولكن صم من كل شهر ثلاثة ايام فذلك صيامك الدهر ( يعنى الحسنة بعشر أمثالها فقال ( أنى أطيق أفضل من ذلك فما زال يزايده حتى قال ( صم يوما وأفطر يوما ( قال أنى أطيق أفضل من ذلك قال ( لا أفضل من ذلك ( وقال له ( فى القراءة ( اقرأ القرآن فى كل شهر فما زال يزايده حتى قال أقرأ فى سبع ( وذكر له أن أفضل القيام قيام داود وقال له ( إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولزوجك عليك حقا فآت كل ذى حق حقه ) فبين له أن المداومة على هذا العمل تغير البدن والنفس وتمنع من فعل ما هو أجر من ذلك من القيام لحق النفس والأهل والزوج
وأفضل الجهاد والعمل الصالح ما كان أطوع للرب وأنفع للعبد فإذا كان يضره ويمنعه مما هو أنفع منه لم يكن ذلك صالحا وقد ثبت فى الصحيح أن رجالا قال أحدهم أما أنا فأصوم لا أفطر وقال الآخر أما أنا فأقوم لا أنام وقال الآخر أما أنا فلا آكل اللحم وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء فقال
____________________
(22/300)
( ما بال رجال يقول أحدهم كيت وكيت لكنى أصوم وأفطر وأقوم وانام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى ( فبين صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا الزهد الفاسد والعبادة الفاسدة ليست من سنته فمن رغب فيها عن سنته فرآها خيرا من سنته فليس منه
وقد قال أبى بن كعب ( عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا فإقشعر جلده من خشية الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجر وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدا وإن إقتصادا فى سبيل وسنة خير من إجتهاد فى خلاف سبيل وسنة فإحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت إجتهادا أو إقتصادا على منهاج الأنبياء وسنتهم وكذلك قال عبد الله بن مسعود إقتصاد فى سنة خير من إجتهاد فى بدعة
وقد تنازع العلماء فى سرد الصوم إذا أفطر يومى العيدين وأيام منى فإستحب ذلك طائفة من الفقهاء والعباد فرأوه أفضل من صوم يوم وفطر يوم وطائفة أخرى لم يروه أفضل بل جعلوه سائغا بلا كراهة وجعلوا صوم شطر الدهر أفضل منه وحملوا ما ورد فى ترك صوم الدهر على من صام أيام النهى والقول الثالث
____________________
(22/301)
وهو الصواب قول من جعل ذلك تركا للأولى أو كره ذلك فإن الأحاديث الصحيحة عن النبى كنهيه لعبدالله بن عمرو عن ذلك وقوله ( من صام الدهر فلا صام ولا أفطر ( وغيرها صريحة فى أن هذا ليس بمشروع
ومن حمل ذلك على أن المراد صوم الأيام الخمسة فقد غلط فإن صوم الدهر لا يراد به صوم خمسة أيام فقط وتلك الخمسة صومها محرم ولو أفطر غيرها فلم ينه عنها لكون ذلك صوما للدهر ولا يجوز أن ينهى عن صوم أكثر من ثلاثمائة يوم والمراد خمسة بل مثال هذا مثال من قال إئتنى بكل من فى الجامع وأراد به خمسة منهم وأيضا فإنه علل ذلك بأنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس وهذا إنما يكون فى سرد الصوم لا فى صوم الخمسة
وأيضا فإن فى الصحيح ( أن سائلا سأله عن صوم الدهر فقال من صام الدهر فلا صام ولا أفطر قال فمن يصوم يومين ويفطر يوما فقال ومن يطيق ذلك قال فمن يصوم يوما ويفطر يومين فقال وددت أنى طوقت ذلك فقال فمن يصوم يوما ويفطر يوما فقال ذلك أفضل الصوم ( فسألوه عن صوم الدهر ثم عن صوم ثلثيه ثم عن صوم ثلثه ثم عن صوم شطره
____________________
(22/302)
وأما قوله ( صيام ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر ( وقوله ( من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر الحسنة بعشر أمثالها ( ونحو ذلك فمراده أن من فعل هذا يحصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر من غير حصول المفسدة فإذا صام ثلاثة أيام من كل شهر حصل له أجر صوم الدهر بدون شهر رمضان وإذا صام رمضان وستا من شوال حصل بالمجموع أجر صوم الدهر وكان القياس أن يكون إستغراق الزمان بالصوم عبادة لولا ما فى ذلك من المعارض الراجح وقد بين النبى الراجح وهو إضاعة ما هو أولى من الصوم وحصول المفسدة راجحة فيكون قد فوت مصلحة راجحة واجبة أو مستحبة مع حصول مفسدة راجحة على مصلحة الصوم
وقد بين صلى الله عليه وسلم حكمة النهى فقال ( من صام الدهر فلا صام ولا أفطر ( فإنه يصير الصيام له عادة كصيام الليل فلا ينتفع بهذا الصوم ولا يكون صام ولا هو أيضا أفطر
ومن نقل عن الصحابة أنه سرد الصوم فقد ذهب إلى أحد هذه الأقوال وكذلك من نقل عنه أنه كان يقوم جميع الليل دائما أو أنه يصلى الصبح بوضوء العشاء الآخرة كذا كذا سنة مع أن كثيرا من المنقول من ذلك ضعيف وقال عبد الله بن مسعود لأصحابه أنتم
____________________
(22/303)
أكثر صوما وصلاة من اصحاب محمد وهم كانوا خيرا منكم قالوا لم يا أبا عبد الرحمن قال لأنهم كانوا أزهد فى الدنيا وأرغب فى الآخرة
فأما سرد الصوم بعض العام فهذا قد كان النبى صلى الله عليه وسلم يفعله قد كان يصوم حتى يقول القائل لا يفطر ويفطر حتى يقول القائل لا يصوم
وكذلك قيام بعض الليالى جميعها كالعشر الأخير من رمضان أو قيام غيرها أحيانا فهذا مما جاءت به السنن وقد كان الصحابة يفعلونه فثبت فى الصحيح ( أن النبى كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر وأيقظ أهله واحيا ليله كله (
وفى السنن أنه قام بآية ليلة حتى أصبح { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ولكن غالب قيامه كان جوف الليل وكان يصلى بمن حضر عنده كما صلى ليلة بإبن عباس وليلة بإبن مسعود وليلة بحذيفة بن اليمان وقد كان أحيانا يقرأ فى الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران ويركع نحوا من قيامه يقول فى ركوعه ( سبحان ربي العظيم سبحان ربى العظيم ( ويرفع نحوا من ركوعه
____________________
(22/304)
يقول ( لربى الحمد لربى الحمد ( ويسجد نحوا من قيامه يقول ( سبحان ربى الأعلى سبحان ربى الأعلى ( ويجلس نحوا من سجوده يقول ( ربى إغفر لى رب إغفر لى ( ويسجد
وأما ( الوصال فى الصيام ( فقد ثبت انه نهى عنه أصحابه ولم يرخص لهم إلا فى الوصال إلى السحر وأخبر أنه ليس كأحدهم وقد كان طائفة من المجتهدين فى العبادة يواصلون منهم من يبقى شهرا لا يأكل ولا يشرب ومنهم من يبقى شهرين وأكثر وأقل ولكن كثير من هؤلاء ندم على ما فعل وظهر ذلك فى بعضهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بطريق الله وأنصح الخلق لعباد الله وأفضل الخلق وأطوعهم له وأتبعهم لسنته
والأحوال التى تحصل عن أعمال فيها مخالفة السنة أحوال غير محمودة وإن كان فيها مكاشفات وفيها تأثيرات فمن كان خبيرا بهذا الباب علم أن الأحوال الحاصلة عن عبادات غير مشروعة كالأموال المكسوبة بطريق غير شرعى والملك الحاصل بطريق غير شرعى فإن لم يتدارك الله عبده بتوبة يتبع بها الطريق الشرعية وإلا كانت تلك الأمور سببا لضرر يحصل له ثم قد يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له خطؤه وقد يكون مذنبا ذنبا مغفورا لحسنات ماحية وقد يكون مبتلى بمصائب تكفر عنه وقد يعاقب بسلب تلك الأحوال
____________________
(22/305)
وإذا أصر على ترك ما أمر به من السنة وفعل ما نهى عنه فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات حتى قد يصير فاسقا أو داعيا إلى بدعة وإن أصر على الكبائر فقد يخاف عليه أن يسلب الإيمان فإن البدع لا تزال تخرج الإنسان من صغير إلى كبير حتى تخرجه إلى الإلحاد والزندقة كما وقع هذا لغير واحد ممن كان لهم أحوال من المكاشفات والتأثيرات وقد عرفنا من هذا ماليس هذا موضع ذكره
فالسنة مثال سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق قال الزهري كان من مضى من علمائنا يقولون الإعتصام بالسنة نجاة وعامة من تجد له حالا من مكاشفة أو تأثير أعان به الكفار أو الفجار أو إستعمله فى غير ذلك من معصية فإنما ذاك نتيجة عبادات غير شرعية كمن إكتسب أموالا محرمة فلا يكاد ينفقها إلا فى معصية الله
(
والبدع نوعان (
نوع فى الأقوال والإعتقادات ونوع فى الأفعال والعبادات وهذا الثانى يتضمن الأول كما أن الأول يدعو إلى الثانى
فالمنتسبون إلى العلم والنظر وما يتبع ذلك يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب والسنة من القسم الأول
والمنتسبون إلى العبادة والنظر والإرادة وما يتبع ذلك يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب
____________________
(22/306)
والسنة من القسم الثانى ( وقد أمرنا الله أن نقول فى كل صلاة { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آمين وصح عن النبى أنه قال ( اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ( قال سفيان بن عيينة كانوا يقولون من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى وكان السلف يقولون إحذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فطالب العلم أن لم يقترن بطلبه فعل ما يجب عليه وترك ما يحرم عليه من الإعتصام بالكتاب والسنة وإلا وقع فى الضلال
وأهل الإرادة إن لم يقترن بإرادتهم طلب العلم الواجب عليهم الإعتصام بالكتاب والسنة وإلا وقعوا فى الضلال والبغى ولو إعتصم رجل بالعلم الشرعي من غير عمل بالواجب كان غاويا وإذا إعتصم بالعبادة الشرعية من غير علم بالواجب كان ضالا والضلال سمة النصارى والبغى سمة اليهود مع أن كلا من الأمتين فيها الضلال والبغى ولهذا تجد من إنحرف عن الشريعة فى الأمر والنهى من أهل الإرادة والعبادة والسلوك والطريق ينتهون إلى الفناء الذى لا يميزون فيه بين المأمور والمحظور فيكونون فيه متبعين أهواءهم
وإنما الفناء الشرعى أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه
____________________
(22/307)
وبطاعته عن طاعة ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وبسؤاله عن سؤال ما سواه وبخوفه عن خوف ما سواه وهذا هو إخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له وهو دين الإسلام الذى أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب
وتجد أيضا من إنحرف عن الشريعة من الجبر والنفى والإثبات من أهل العلم والنظر والكلام والبحث ينتهى أمرهم إلى الشك والحيرة كما ينتهى الأولون إلى الشطح والطامات فهؤلاء لا يصدقون بالحق وأولئك يصدقون بالباطل وإنما يتحقق الدين بتصديق الرسول فى كل ما أخبر وطاعته فى كل ما أمر باطنا وظاهرا من المعارف والأحوال القلبية وفى الأقوال والأعمال الظاهرة
ومن عظم مطلق السهر والجوع وأمر بهما مطلقا فهو مخطىء بل المحمود السهر الشرعى والجوع الشرعى فالسهر الشرعى كما تقدم من صلاة أو ذكر أو قراءة أو كتابة علم أو نظر فيه أو درسه أو غير ذلك من العبادات والأفضل يتنوع بتنوع الناس فبعض العلماء يقول كتابة الحديث أفضل من صلاة النافلة وبعض الشيوخ يقول ركعتان أصليهما بالليل حيث لا يرانى أحد أفضل من كتابة مائة حديث وآخر من الأئمة يقول بل الأفضل فعل هذا وهذا والأفضل يتنوع بتنوع أحوال الناس فمن الأعمال ما يكون جنسه أفضل ثم يكون
____________________
(22/308)
تارة مرجوحا أو منهيا عنه كالصلاة فإنها أفضل من قراءة القرآن وقراءة القرآن أفضل من الذكر والذكر أفضل من الدعاء ثم الصلاة فى أوقات النهى كما بعد الفجر والعصر ووقت الخطبة منهى عنها والإشتغال حينئذ إما بقراءة أو ذكر أو دعاء أوإستماع أفضل من ذلك
وكذلك قراءة القرآن أفضل من الذكر ثم الذكر فى الركوع والسجود هو المشروع دون قراءة القرآن وكذلك الدعاء فى آخر الصلاة هو المشروع دون القراءة والذكر وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل فيكون أفضل فى حقه كما أن الحج فى حق النساء أفضل من الجهاد
ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة ومنهم من يكون إجتهاده فى الدعاء لكمال ضرورته أفضل له من ذكر هو فيه غافل والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له وتارة هذا أفضل له ومعرفة حال كل شخص شخص وبيان الأفضل له لا يمكن ذكره فى كتاب بل لا بد من هداية يهدى الله بها عبده إلى ما هو أصلح وما صدق الله عبد إلا صنع له
وفى الصحيح ( أن النبى كان إذا قام من الليل
____________________
(22/309)
يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدنى لما إختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم (
فصل
وأما الأكل واللباس فخير الهدى هدى محمد وكان خلقه فى الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا إشتهاه ولا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا فكان أن حضر خبز ولحم أكله وإن حضر فاكهة وخبز ولحم أكله وإن حضر تمر وحده أو خبز وحده أكله وإن حضر حلو أو عسل طعمه ايضا وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد وكان يأكل القثاء بالرطب فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول لا آكل لونين ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة
وكان أحيانا يمضى الشهران والثلاثة لا يوقد فى بيته نار ولا يأكلون إلا التمر والماء وأحيانا يربط على بطنه الحجر من الجوع وكان لا يعيب طعاما فإن إشتهاه أكله وإلا تركه وأكل على
____________________
(22/310)
مائدته لحم ضب فإمتنع من أكله وقال ( إنه ليس بحرام ولكن لم يكن بأرض قومى فأجدنى إعافه (
وكذلك اللباس كان يلبس القميص والعمامة ويلبس الإزار والرداء ويلبس الجبة والفروج وكان يلبس من القطن والصوف وغير ذلك لبس فى السفر جبة صوف وكان يلبس مما يجلب من اليمن وغيرها وغالب ذلك مصنوع من القطن وكانوا يلبسون من قباطى مصر وهى منسوجة من الكتان فسنته فى ذلك تقتضى أن يلبس الرجل ويطعم مما يسره الله ببلده من الطعام واللباس وهذا يتنوع بتنوع الأمصار
وقد كان إجتمع طائفة من أصحابه على الإمتناع من أكل اللحم ونحوه وعلى الإمتناع من تزوج النساء فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } وفى الصحيحين عنه أنه بلغه أن رجالا قال أحدهم أما أنا فأصوم لا أفطر وقال الآخر أما أنا فأقوم لا أنام وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر أما أنا فلا آكل اللحم فقال ( لكنى أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى ( وقد قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون }
____________________
(22/311)
فأمر بأكل الطيبات والشكر لله فمن حرم الطيبات كان معتديا ومن لم يشكر كان مفرطا مضيعا لحق الله وفى صحيح مسلم عن النبى أنه قال ( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها ( وفى الترمذى وغيره عن النبى أنه قال ( الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر (
فهذه الطريق التى كان عليها رسول الله عليه وسلم هي أعدل الطرق وأقومها والإنحراف عنها إلى وجهين
قوم يسرفون فى تناول الشهوات مع إعراضهم عن القيام بالواجبات وقد قال تعالى { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وقال تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا }
وقوم يحرمون الطيبات ويبتدعون رهبانية لم يشرعها الله تعالى ولا رهبانية فى الإسلام وقد قال تعالى { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وقال تعالى { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } وفى الصحيح عن النبى أنه قال ( إن الله أمر المؤمنين
____________________
(22/312)
بما أمر به المرسلين فقال تعالى { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك ( وكل حلال طيب وكل طيب حلال فإن الله أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث لكن جهة طيبه كونه نافعا لذيذا
والله حرم علينا كل ما يضرنا وأباح لنا كل ما ينفعنا بخلاف أهل الكتاب فإنه بظلم منهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم فحرم عليهم طيبات عقوبة لهم ومحمد لم يحرم علينا شيئا من الطيبات والناس تتنوع أحوالهم فى الطعام واللباس والجوع والشبع والشخص الواحد يتنوع حاله ولكن خير الأعمال ما كان لله أطوع ولصاحبه أنفع وقد يكون ذلك أيسر العملين وقد يكون أشدهما فليس كل شديد فاضلا ولا كل يسير مفضولا بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة لا لمجرد تعذيب النفس كالجهاد الذى قال فيه تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم }
____________________
(22/313)
والحج هو الجهاد الصغير ولهذا قال النبى لعائشة رضى الله عنها فى العمرة ( أجرك على قدر نصبك ( وقال تعالى فى الجهاد { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين }
وأما مجرد تعذيب النفس والبدن من غير منفعة راجحة فليس هذا مشروعا لنا بل أمرنا الله بما ينفعنا ونهانا عما يضرنا وقد قال فى الحديث الصحيح ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ( وقال لمعاذ وأبى موسى لما بعثهما إلى اليمن ( يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا ( وقال ( هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فإستعينوا بالغدوة والروحة وشىء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا ( وروى عنه أنه قال ( أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة (
فالإنسان إذا أصابه فى الجهاد والحج أو غير ذلك حر أو برد أو جوع ونحو ذلك فهو مما يحمد عليه قال الله تعالى { وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } وكذلك قال ( الكفارات إسباغ الوضوء
____________________
(22/314)
على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وإنتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط (
وأما مجرد بروز الإنسان للحر والبرد بلا منفعة شرعية وإحتفاؤه وكشف رأسه ونحو ذلك مما يظن بعض الناس أنه من مجاهدة النفس فهذا إذا لم يكن فيه منفعة للإنسان وطاعة لله فلا خير فيه بل قد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما فى الشمس فقال ( ما هذا قالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم فى الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه (
ولهذا نهى عن الصمت الدائم بل المشروع ما قاله النبى قال ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ( فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه والسكوت عن الشر خير من التكلم به
فصل
والأفضل للإمام أن يتحرى صلاة رسول الله التى كان يصليها بأصحابه بل هذا هو المشروع الذى يأمر به الأئمة
____________________
(22/315)
كما ثبت عنه فى الصحيح أنه قال لمالك بن الحويرث وصاحبه ( إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أحدكما وصلوا كما رأيتمونى أصلى (
وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه كان يقرأ فى الفجر بما بين الستين آية إلى مائة آية وهذا بالتقريب نحو ثلث جزء إلى نصف جزء من تجزئه ثلاثين فكان يقرأ بطوال المفصل يقرأ بقاف ويقرأ ألم تنزيل وتبارك ويقرأ سورة المؤمنين ويقرأ الصافات ونحو ذلك
وكان يقرأ فى الظهر بأقل من ذلك بنحو ثلاثين آية ويقرأ فى العصر بأقل من ذلك ويقرأ فى المغرب بأقل من ذلك مثل قصار المفصل وفى العشاء الآخرة بنحو ( والشمس وضحاها ( و ( الليل إذا يغشى ( ونحوهما
وكان أحيانا يطيل الصلاة ويقرأ بأكثر من ذلك حتى يقرأ فى المغرب ( بالأعراف ( ويقرأ فيها ( بالطور ( ويقرأ فيها ( بالمرسلات (
وأبوبكر الصديق قرأ مرة فى الفجر بسورة البقرة وعمر كان يقرأ فى الفجر ( بسورة هود ( وسورة يوسف ( ونحوهما وأحيانا يخفف إما لكونه فى السفر أو لغير ذلك كما قال صلى
____________________
(22/316)
الله عليه وسلم ( إنى لأدخل فى الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبى فأخفف لما أعلم من وجد أمه به ( حتى روى عنه أنه قرأ في الفجر ( سورة التكوير ( و ( سورة الزلزلة ( فينبغى للإمام أن يتحرى الإقتداء برسول الله
وإذا كان المأمومون لم يعتادوا لصلاته وربما نفروا عنها درجهم إليها شيئا بعد شيء فلا يبدؤهم بما ينفرهم عنها بل يتبع السنة بحسب الإمكان وليس للإمام أن يطيل على القدر المشروع إلا أن يختاروا ذلك كما ثبت عنه فى الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم ( من أم الناس فليخفف بهم فإن منهم السقيم والكبير وذا الحاجة ( أخرجاه فى الصحيحين وقال ( إذا أم أحدكم الناس فليخفف وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ( وكان يطيل الركوع والسجود والإعتدالين كما ثبت عنه فى الصحيح ( أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يقوم حتى يقول القائل قد نسى وإذا رفع رأسه من السجود يقعد حتى يقول القائل قد نسى (
وفى السنن أن أنس بن مالك شبه صلاة عمر بن عبد العزيز بصلاته وكان عمر يسبح فى الركوع نحو عشر تسبيحات وفى السجود نحو عشر تسبيحات فينبغى للإمام أن يفعل فى الغالب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله فى الغالب وإذا إقتضت المصلحة أن يطيل أكثر
____________________
(22/317)
من ذلك أو يقصر عن ذلك فعل ذلك كما كان النبى أحيانا يزيد على ذلك وأحيانا ينقص عن ذلك
فصل
وأما الوضوء عند كل حدث ففيه حديث بلال المعروف عن بريدة بن حصيب قال ( اصبح رسول الله فدعا بلالا فقال يا بلال بم سبقتنى إلى الجنة فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامى دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامى فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب فقلت لمن هذا القصر فقالوا لرجل عربى فقلت أنا عربى لمن هذا القصر فقالوا لرجل من قريش قلت أنا رجل من قريش لمن هذا القصر فقالوا لرجل من أمة محمد فقلت أنا محمد لمن هذا القصر فقالوا لعمر بن الخطاب فقال بلال يا رسول الله ما اذنت قط إلا صليت ركعتين وما أصابنى حدث قط إلا توضأت عندها فرأيت أن لله على ركعتين فقال رسول الله عليك بهما ( قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح
وهذا يقتضى استحباب الوضوء عند كل حدث
ولا يعارض
____________________
(22/318)
ذلك الحديث الذى فى الصحيح عن إبن عباس قال ( كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء من الغائط فأتى بطعام فقيل له ألا تتوضأ قال لم أصل فأتوضأ ( فإن هذا ينفى وجوب الوضوء وينفى أن يكون مأمورا بالوضوء لأجل مجرد الأكل ولم نعلم أحدا إستحب الوضوء للأكل إلا إذا كان جنبا وتنازع العلماء فى غسل اليدين قبل الأكل هل يكره أو يستحب على قولين هما روايتان عن أحمد
فمن إستحب ذلك إحتج بحديث سلمان أنه قال للنبى ( قرأت فى التوراة أن من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ( ومن كرهه قال ( لأن هذا خلاف سنة المسلمين فإنهم لم يكونوا يتوضؤن قبل الأكل وإنما كان هذا من فعل اليهود فيكره التشبه بهم
وأما حديث سلمان فقد ضعفه بعضهم وقد يقال كان هذا فى أول الإسلام لما كان النبى يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ولهذا كان يسدل شعره موافقة ثم فرق بعد ذلك ولهذا صام عاشوراء لما قدم المدينة ثم أنه قال قبل موته ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ( يعني مع العاشر لأجل مخالفة اليهود
____________________
(22/319)
فصل
وأما سؤال السائل عن المواظبة على ما واظب عليه النبى فى عبادته وعادته هل هي سنة أم تختلف بإختلاف أحوال الراتبين فيقال الذى نحن مأمورون به هو طاعة الله ورسوله فعلينا أن نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما امرنا به فإن الله قد ذكر طاعته في أكثر من ثلاثين موضعا من كتابه فقال تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله }
وقد أوجب السعادة لمن أطاعه بقوله { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } وعلق السعادة والشقاوة بطاعته ومعصيته فى قوله ( { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين }
وكان صلى الله عليه وسلم يقول فى خطبته ( من يطع الله ورسوله
____________________
(22/320)
فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا ( وجميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وتقواه وخشيته وإلى طاعتهم كما قال نوح عليه السلام { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } وقال تعالى { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } وقال كل من نوح والنبيين { فاتقوا الله وأطيعون }
وطاعة الرسول فيما امرنا به هو الأصل الذى على كل مسلم أن يعتمده وهو سبب السعادة كما أن ترك ذلك سبب الشقاوة وطاعته فى أمره أولى بنا من موافقته فى فعل لم يأمرنا بموافقته فيه بإتفاق المسلمين ولم يتنازع العلماء أن أمره أوكد من فعله فإن فعله قد يكون مختصا به وقد يكون مستحبا وأما أمره لنا فهو من دين الله الذى امرنا به ومن أفعاله ما قد علم أنه أمرنا أن نفعل مثله كقوله ( صلوا كما رأيتمونى أصلى ( وقوله ( لما صلى بهم على المنبر ( إنما فعلت هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى ( وقوله لما حج ( خذوا عنى مناسككم (
وأيضا فقد ثبت بالكتاب والسنة أن ما فعله على وجه العادة فهو مباح لنا إلا أن يقوم دليل على إختصاصه به كما قال سبحانه وتعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } فأباح له أن يتزوج
____________________
(22/321)
أمرأة دعيه ليرفع الحرج عن المؤمنين فى أزواج أدعيائهم فعلم أن ما فعله كان لنا مباحا أن نفعله
ولما خصه ببعض ألأحكام قال { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما } فلما أحل له أن ينكح الموهوبة بين أن ذلك خالص له من دون المؤمنين فليس لأحد أن ينكح إمرأة بلا مهر غيره
وفى صحيح مسلم ( أن رجلا سأل رسول الله أيقبل الصائم فقال له سل هذه لام سلمة فأخبرتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقال يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال له أما والله إننى لأتقاكم لله وأخشاكم له
فلما اجابه بفعله دل ذلك على أنه يباح للأمة ما أبيح له ولهذا كان جمهور علماء الأمة على أن الله إذا أمره بأمر أو نهاه عن شيء كانت أمته أسوة له فى ذلك ما لم يقم دليل على إختصاصه بذلك
____________________
(22/322)
فمن خصائصه ما كان من خصائص نبوته ورسالته فهذا ليس لأحد أن يقتدى به فيه فإنه لا نبى بعده وهذا مثل كونه يطاع فى كل ما يأمر به وينهى عنه وإن لم يعلم جهة أمره حتى يقتل كل من أمر بقتله وليس هذا لأحد بعده فولاة الأمور من العلماء والأمراء يطاعون إذا لم يأمروا بخلاف أمره ولهذا جعل الله طاعتهم فى ضمن طاعته قال الله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } فقال { وأطيعوا الرسول وأولي الأمر } لأن أولى الأمر يطاعون طاعة تابعة لطاعته فلا يطاعون إستقلالا ولا طاعة مطلقة وأما الرسول فيطاع طاعة مطلقة مستقلة فإنه ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ( فقال تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فإذا أمرنا الرسول كان علينا أن نطيعه وأن لم نعلم جهة أمره وطاعته طاعة الله لا تكون طاعته بمعصية الله قط بخلاف غيره
وقد ذكر الناس من خصائصه فيما يجب عليه ويحرم عليه ويكرم به ماليس هذا موضع تفصيله وبعض ذلك متفق عليه وبعضه متنازع فيه وقد كان صلى الله عليه وسلم إمام الأمة وهو الذى يقضى بينهم وهو الذى يقسم وهو الذى يغزو بهم وهو الذى يقيم الحدود وهو الذى يستوفى الحقوق وهو الذى يصلى بهم فالإقتداء به فى كل مرتبة بحسب تلك المرتبة فأمام الصلاة والحج يقتدى
____________________
(22/323)
به فى ذلك وأمير الغزو يقتدى به فى ذلك والذى يقيم الحدود يقتدى به فى ذلك والذى يقضى أو يفتى يقتدى به فى ذلك
وقد تنازع الناس فى أمور فعلها هل هي من خصائصه أم للأمة فعلها كدخوله فى الصلاة إماما بعد أن صلى بالناس غيره وكتركه الصلاة على الغال والقاتل وأيضا فإذا فعل فعلا لسبب وقد علمنا ذلك السبب أمكننا أن نقتدى به فيه فأما إذا لم نعلم السبب أو كان السبب أمرا إتفاقيا فهذا مما يتنازع فيه الناس مثل نزوله فى مكان فى سفره فمن العلماء من يستحب أن ينزل حيث نزل كما كان إبن عمر يفعل وهؤلاء يقولون نفس موافقته فى الفعل هو حسن وإن كان فعله هو إتفاقا ونحن فعلناه لقصد التشبه به ومن العلماء من يقول إنما تستحب المتابعة إذا فعلناه على الوجه الذى فعله فأما إذا فعله إتفاقا لم يشرع لنا أن نقصد مالم يقصده ولهذا كان أكثر المهاجرين والأنصار لا يفعلون كما كان إبن عمر يفعل
وأيضا فالإقتداء به يكون تارة فى نوع الفعل وتارة فى جنسه فإنه قد يفعل الفعل لمعنى يعم ذلك النوع وغيره لا لمعنى يخصه فيكون المشروع هو الأمر العام
مثال ذلك إحتجامه فإن ذلك كان لحاجته
____________________
(22/324)
إلى إخراج الدم الفاسد ثم التأسى هل هو مخصوص بالحجامة أو المقصود إخراج الدم على الوجه النافع ومعلوم أن التأسى هو المشروع فإذا كان البلد حارا يخرج فيه الدم إلى الجلد كانت الحجامة هي المصلحة وإن كان البلد باردا يغور فيه الدم إلى العروق كان أخراجه بالفصد هو المصلحة وكذلك إدهانه هل المقصود خصوص الدهن أو المقصود ترجيل الشعر فإن كان البلد رطبا وأهله يغتسلون بالماء الحار الذى يغنيهم عن الدهن والدهن يؤذى شعورهم وجلودهم يكون المشروع فى حقهم ترجيل الشعر بما هو أصلح لهم ومعلوم أن الثانى هو الأشبه
وكذلك لما كان يأكل الرطب والتمر وخبز الشعير ونحو ذلك من قوت بلده فهل التأسى به أن يقصد خصوص الرطب والتمر والشعير حتى يفعل ذلك من يكون فى بلاد لا ينبت فيها التمر ولا يقتاتون الشعير بل يقتاتون البر أو الرز أو غير ذلك ومعلوم أن الثانى هو المشروع والدليل على ذلك أن الصحابة لما فتحوا الأمصار كان كل منهم يأكل من قوت بلده ويلبس من لباس بلده من غير أن يقصد أقوات المدينة ولباسها ولو كان هذا الثانى هو الأفضل فى حقهم لكانوا أولى بإختيار الأفضل
____________________
(22/325)
وعلى هذا يبنى نزاع العلماء فى صدقة الفطر إذا لم يكن أهل البلد يقتاتون التمر والشعير فهل يخرجون من قوتهم كالبر والرز أو يخرجون من التمر والشعير لأن النبى فرض ذلك فإن فى الصحيحين عن إبن عمر أنه قال ( فرض رسول الله صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل صغير أو كبير ذكر أو أنثى حر أو عبد من المسلمين وهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان عن أحمد وأكثر العلماء على أنه يخرج من قوت بلده وهذا هو الصحيح كما ذكر الله ذلك فى الكفارة بقوله { من أوسط ما تطعمون أهليكم }
ومن هذا الباب أن الغالب عليه وعلى أصحابه أنهم كانوا يأتزرون ويرتدون فهل الأفضل لكل أحد أن يرتدى ويأتزر ولو مع القميص أو الأفضل أن يلبس مع القميص السراويل من غير حاجة إلى الإزار والرداء هذا أيضا مما تنازع فيه العلماء والثانى أظهر وهذا باب واسع
وهذا النوع ليس مخصوصا بفعله وفعل أصحابه بل وبكثير مما أمرهم به ونهاهم عنه وهذا سمته طائفة من الناس ( تنقيح المناط ( وهو أن يكون الحكم قد ثبت فى عين معينة وليس مخصوصا بها بل الحكم ثابت فيها وفى غيرها فيحتاج أن يعرف ( مناط الحكم
____________________
(22/326)
مثال ذلك أنه قد ثبت فى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت فى سمن فقال ( القوها وما حولها وكلوا سمنكم ( فإنه متفق على ان الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن بل الحكم ثابت فيما هو أعم منهما فبقى المناط الذى علق به الحكم ما هو فطائفة من أهل العلم يزعمون أن الحكم مختص بفأرة وقعت فى سمن فينجسون ما كان كذلك مطلقا ولا ينجسون السمن إذا وقع فيه الكلب والبول والعذرة ولا ينجسون الزيت ونحوه إذا وقعت فيه الفأرة وهذا القول خطأ قطعا
وليس هذا مبنيا على كون القياس حجة فإن القياس الذى يكون النزاع فيه هو تخريج المناط وهو أن يجوز إختصاص مورد النص بالحكم فإذا جاز إختصاصه وجاز أن يكون الحكم مشتركا بين مورد النص وغيره إحتاج معتبر القياس إلى أن يعلم أن المشترك بين الأصل والفرع هو مناط الحكم كما فى قوله ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الملح بالملح إلا مثلا بمثل ( فلما نهى عن التفاضل فى مثل هذه الأصناف أمكن أن يكون النهى لمعنى مشترك ولمعنى مختص
ولما سئل عن فأرة وقعت فى سمن ( فأجاب (
عن تلك
____________________
(22/327)
القضية المعينة ولإخفاء أن الحكم ليس مختصا بها وكذلك سائر قضايا الأعيان كالأعرابى الذى قال له إنى وقعت على أهلى فى رمضان فأمره أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا فإن الحكم ليس مخصوصا بذلك الأعرابى بإتفاق المسلمين لكن هل أمره بذلك لكونه أفطر أو جامع فى رمضان أو أفطر فيه بالجماع أو افطر بالجنس الأعلى هذا مما تنازع فيه العلماء
وكذلك لما سأله سائل عمن أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بالخلوق فقال ( إنزع عنك الجبة وإغسل عنك أثر الخلوق وإصنع فى عمرتك ما كنت صانعا فى حجتك ( فهل أمره بغسل الخلوق لكونه طيبا حتى يؤمر المحرم بغسل كل طيب كان عليه أو لكونه خلوقا لرجل وقد نهى أن يتزعفر الرجل فينهى عن الخلوق للرجل سواء كان محرما أو غير محرم
وكذلك لما عتقت بريرة فخيرها فإختارت نفسها عند من يقول إن زوجها كان عبدا فإن المسلمين إتفقوا على أن الحكم لا يختص بها لكن هل التخيير لكونها عتقت تحت عبد فكملت تحت ناقص ولا تخير إذا عتقت تحت الحر أو الحكم لكونها ملكت نفسها فتخير سواء كان الزوج حرا أو عبدا هذا مما تنازعوا فيه وهذا باب واسع وهو متناول لكل حكم تعلق بعين معينة مع العلم بأنه لا يختص بها
____________________
(22/328)
فيحتاج أن يعرف المناط الذى يتعلق به الحكم وهذا النوع يسميه بعض الناس قياسا وبعضهم لا يسميه قياسا ولهذا كان أبوحنيفة وأصحابه يستعملونه فى المواضع التى لا يستعملون فيها القياس
والصواب أن هذا ليس من القياس الذى يمكن فيه النزاع كما أن تحقيق المناط ليس مما يقبل النزاع بإتفاق العلماء
وهذه الأنواع الثلاثة ( تحقيق المناط ( وتنقيح المناط ( و ( تخريج المناط ( هي جماع الإجتهاد
فالأول ( أن يعمل بالنص والإجماع فإن الحكم معلق بوصف يحتاج فى الحكم على المعين إلى أن يعلم ثبوت ذلك الوصف فيه كما يعلم أن الله أمرنا بإشهاد ذوى عدل منا وممن نرضى من الشهداء ولكن لا يمكن تعيين كل شاهد فيحتاج أن يعلم فى الشهود المعينين هل هم من ذوى العدل المرضيين أم لا وكما أمر الله بعشرة الزوجين بالمعروف وقال النبى ( للنساء رزقهن وكسوتهن بالمعروف ( ولم يمكن تعيين كل زوج فيحتاج أن ينظر فى الأعيان ثم من الفقهاء من يقول إن نفقة الزوجة مقدرة بالشرع والصواب ما عليه الجمهور أن ذلك مردود إلى العرف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند ( خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف
____________________
(22/329)
وكما قال تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ويبقى النظر فى تسليمه إلى هذا التاجر بجزء من الربح هل هو من التى هي أحسن أم لا وكذلك قوله { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } يبقى هذا الشخص المعين هل هو من الفقراء المساكين المذكورين فى القرآن أم لا وكما حرم الله الخمر والربا عموما يبقى الكلام فى الشراب المعين هل هو خمر أم لا وهذا النوع مما إتفق عليه المسلمون بل العقلاء بأنه لا يمكن أن ينص الشارع على حكم كل شخص إنما يتكلم بكلام عام وكان نبينا قد أوتى جوامع الكلم
(
وأما النوع الثانى ( الذى يسمونه تنقيح المناط ( بأن ينص على حكم أعيان معينة لكن قد علمنا أن الحكم لا يختص بها فالصواب فى مثل هذا أنه ليس من باب القياس لإتفاقهم على النص بل المعين هنا نص على نوعه ولكنه يحتاج إلى أن يعرف نوعه ومسألة الفأرة فى السمن من هذا الباب فإن الحكم ليس مخصوصا بتلك الفأرة وذلك السمن ولا بفأر المدينة وسمنها ولكن السائل سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت فى سمن ( فأجابه (
لا أن الجواب يختص به ولا بسؤاله كما أجاب غيره ولفظ الفأرة والسمن ليست من كلام النبى حتى يكون هو الذى علق الحكم بها بل من كلام السائل الذى أخبر بما وقع له كما قال له
____________________
(22/330)
الأعرابى إنه وقع على امرأته ولو وقع على سريته لكان الأمر كذلك وكما قال له الاخر رأيت بياض خلخالها فى القمر فوثبت عليها ولو وطئها بدون ذلك كان الحكم كذلك
فالصواب فى هذا ما عليه الأئمة المشهورون أن الحكم فى ذلك معلق بالخبيث الذى حرمه الله إذا وقع فى السمن ونحوه من المائعات لأن الله أباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث فإذا علقنا الحكم بهذا المعنى كنا قد إتبعنا كتاب الله فإذا وقع الخبيث فى الطيب ألقى الخبيث وما حوله وأكل الطيب كما أمر النبى
وليس هذا الجواب موضع بسط مثل هذه المسائل ولكن نبهنا على هذا لأن الإقتداء بالنبى فى أفعاله يتعلق بهذا وحينئذ هذا مما يتعلق بإجتهاد الناس وإستدلالهم وما يؤتيهم الله من الفقه والحكمة والعلم وأحق الناس بالحق من علق الأحكام بالمعانى التى علقها بها الشارع
وهذا موضع تفاوت فيه الناس وتنازعوا هل يستفاد ذلك من خطاب الشارع أو من المعانى القياسية فقوم زعموا أن أكثر أحكام أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع بل تحتاج إلى القياس وقوم زعموا أن جميع أحكامها ثابتة بالنص وأسرفوا فى تعلقهم بالظاهر
____________________
(22/331)
حتى أنكروا فحوى الخطاب وتنبيهه كقوله تعالى { فلا تقل لهما أف } وقالوا إن هذا لا يدل إلا على النهى عن التأفيف لا يفهم منه النهى عن الضرب والشتم وأنكروا ( تنقيح المناط ( وإدعوا فى الألفاظ من الظهور مالا تدل عليه وقوم يقدمون القياس تارة لكون دلالة النص غير تامة أو لكونه خبر الواحد وأقوام يعارضون بين النص والقياس ويقدمون النص ويتناقضون ونحن قد بينا فى غير هذا الموضع أن الأدله الصحيحة لا تتناقض فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة
فإن القياس الصحيح حقيقة التسوية بين المتماثلين وهذا هو العدل الذى أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل والرسول لا يأمر بخلاف العدل ولا يحكم فى شيئين متماثلين بحكمين مختلفين ولا يحرم الشيء ويحل نظيره
وقد تأملنا عامة المواضع التى قيل إن القياس فيها عارض النص وإن حكم النص فيها على خلاف القياس فوجدنا ما خصه الشارع بحكم عن نظائره فإنما خصه به لإختصاصه بوصف أوجب إختصاصه بالحكم كما خص العرايا بجواز بيعها بمثلها خرصا لتعذر الكيل مع
____________________
(22/332)
الحاجة إلى البيع والحاجة توجب الإنتقال إلى البدل عند تعذر الأصل
فالخرص عند الحاجة قام مقام الكيل كما يقوم التراب مقام الماء والميتة مقام المذكى عند الحاجة وكذلك قول من قال القرض أو الإجارة أو القراض أو المساقاة أو المزارعة ونحو ذلك على خلاف القياس أن أراد به أن هذه الأفعال إختصت بصفات أوجبت أن يكون حكمها مخالفا لحكم ماليس مثلها فقد صدق وهذا هو مقتضى القياس وإن أراد أن الفعلين المتماثلين حكم فيهما بحكمين مختلفين فهذا خطأ ينزه عنه من هو دون الأنبياء صلوات الله عليهم
ولكن هذه الأقيسة المعارضة هي الفاسدة كقياس الذين قالوا { إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } وقياس الذين قالوا ( أتاكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ) يعنون الميتة وقال تعالى { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون }
ولعل من رزقه الله فهما وآتاه من لدنه علما يجد عامة الأحكام التى تعلم بقياس شرعى صحيح يدل عليها الخطاب الشرعى كما أن غاية
____________________
(22/333)
ما يدل عليه الخطاب الشرعى هو موافق للعدل الذى هو مطلوب القياس الصحيح
وإذا كان الأمر كذلك فالكلام فى أعيان أحوال الرجل السالك يحتاج إلى نظر خاص وإستهداء من الله والله قد أمر العبد ان يقول فى كل صلاة { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فعلى العبد ان يجتهد فى تحقيق هذا الدعاء ليصيرمن الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
____________________
(22/334)
( وقال شيخ الإسلام رحمه الله (
فصل
(
العبادات التى جاءت على وجوه متنوعة (
قد تقدم القول فى مواضع أن العبادات التى فعلها النبى على أنواع يشرع فعلها على جميع تلك الأنواع لا يكره منها شيء وذلك مثل أنواع التشهدات وأنواع الإستفتاح ومثل الوتر أول الليل وآخره ومثل الجهر بالقراءة فى قيام الليل والمخافتة وأنواع القراءات التى أنزل القرآن عليها والتكبير فى العيد ومثل الترجيع فى الأذان وتركه ومثل إفراد الإقامة وتثنيتها
وقد بسطنا فى جواب مسائل الزرعية وغيرها أن ما إختلف فيه العلماء وأراد الإنسان أن يحتاط فيه فهو نوعان
أحدهما ما إتفقوا فيه على جواز الأمرين ولكن تنازعوا أيهما أفضل
____________________
(22/335)
والثانى ما تنازعوا فيه فى جواز أحدهما وكثير مما تنازعوا فيه قد جاءت السنة فيه بالأمرين مثل الحج قيل لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة بل قيل ولا تجوز المتعة وقيل بل ذلك واجب والصحيح أن كليهما جائز فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة فى حجة الوداع بالفسخ وقد كان خيرهم بين الثلاثة وقد حج الخلفاء بعده ولم يفسخوا كما بسط فى موضعه وكذلك الصوم فى السفر قيل لا يجوز بل يجب الفطر والصحيح الذى عليه الجمهور جواز الأمرين
ثم قال كثير منهم أن الصوم أفضل والصحيح أن الفطر أفضل إلا لمصلحة راجحة وما قال أحد أنه لا يجوز الفطر كما يظنه بعض الجهال وهذا مبسوط فى مواضع
والمقصود هنا أن ما جاءت به السنة على وجوه كالأذان والإقامة وصلاة الخوف والإستفتاح فالكلام فيه من مقامين (
أحدهما ( فى جواز تلك الوجوه كلها بلا كراهة وهذا هو الصواب وهو مذهب أحمد وغيره فى هذا كله ومن العلماء من قد يكره أو يحرم بعض تلك الوجوه لظنه أن السنة لم تأت به أو أنه منسوخ كما كره طائفة الترجيع فى الأذان وقالوا إنما قاله لأبى
____________________
(22/336)
محذورة تلقينا للإسلام لا تعليما للأذان والصواب أنه جعله من الأذان وهذا هو الذى فهمه أبومحذورة وقد عمل بذلك هو وولده والمسلمون يقرونهم على ذلك بمكة وغيرها
وكره طائفة الأذان بلا ترجيع وهو غلط أيضا فإن أذان بلال الثابت ليس فيه ترجيع وكره طائفة ترجيعها وكره طائفة صلاة الخوف إلا على حديث إبن عمر وكره آخرون ما أمر به هؤلاء
والصواب فى هذا كله أن كل ما جاءت به السنة فلا كراهة لشيء منه بل هو جائز وهذا مبسوط فى مواضع
والمقصود هنا هو ( المقام الثانى ( وهو أن ما فعله النبى من أنواع متنوعة وإن قيل إن بعض تلك الأنواع أفضل فالإقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم فى أن يفعل هذا تارة وهذا تارة أفضل من لزوم أحد الأمرين وهجر الآخر وهذا مثل الإستفتاح ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال ( قلت يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول قال أقول اللهم بعد بينى وبين خطاياى كما بعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقنى من خطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم إغسلنى من خطاياى بالثلج والماء والبرد ( ولم يخرج البخارى فى الإستفتاح شيئا إلا
____________________
(22/337)
هذا وهو أقوى الحجج على الإستفتاح فى المكتوبة فإنه صريح فى ذلك بقوله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة وهذا سؤال عن السكوت لا عن القول سرا ويشهد له حديث سمرة وحديث أبى بن كعب أنه كان له سكتتان
وأيضا فللناس فى الصلاة أقوال
أحدها أنه لا سكوت فيها كقول مالك ولا يستحب عنده إستفتاح ولا إستعاذة ولا سكوت لقراءة الإمام (
والثانى (
أنه ليس فيها إلا سكوت واحد للإستفتاح كقول أبى حنيفة لأن هذا الحديث يدل على هذه السكتة
والثالث ( إن فيها سكتتين كما فى حديث السنن لكن روى فيه أنه يسكت إذا فرغ من القراءة وهو الصحيح وروى إذا فرغ من الفاتحة فقال طائفة من اصحاب الشافعى وأحمد يستحب ثلاث سكتات
وسكتة الفاتحة جعلها أصحاب الشافعى وطائفة من أصحاب أحمد ليقرأ المأموم الفاتحة والصحيح أنه لا يستحب إلا سكتتان فليس فى الحديث إلا ذلك وإحدى الروايتين غلط وإلا كانت ثلاثا
____________________
(22/338)
وهذا هو المنصوص عن أحمد وأنه لا يستحب إلا سكتتان والثانية عند الفراغ من القراءة للإستراحة والفصل بينها وبين الركوع
وأما السكوت عقيب الفاتحة فلا يستحبه أحمد كما لا يستحبه مالك وابوحنيفة والجمهور لا يستحبون أن يسكت الإمام ليقرأ المأموم وذلك أن قراءة المأموم عندهم إذا جهر الإمام ليست بواجبة ولا مستحبة بل هي منهى عنها وهل تبطل الصلاة إذا قرأ مع الإمام فيه وجهان فى مذهب أحمد فهو إذا كان يسمع قراءة الإمام فإستماعه أفضل من قراءته كإستماعه لما زاد على الفاتحة فيحصل له مقصود القراءة والإستماع يدل على قراءته فجمعه بين الإستماع والقراءة جمع بين البدل والمبدل ولهذا لم يستحب أحمد وجمهور أصحابه قراءته فى سكتات الإمام إلا أن يسكت سكوتا بليغا يتسع للإستفتاح والقراءة
وأما إن ضاق عنهما فقوله وقول أكثر أصحابه إن الإستفتاح أولى من القراءة بل هو فى إحدى الروايتين يأمر بالإستفتاح مع جهر الإمام فإذا كان الإمام ممن يسكت عقيب الفاتحة سكوتا يتسع للقراءة فالقراءة فيه أفضل من عدم القراءة لكن هل يقال القراءة فيه بالفاتحة أفضل للإختلاف فى وجوبها أو بغيرها من القرآن لكونه قد إستمعها هذا فيه نزاع ومقتضى نصوص أحمد وأكثر اصحابه أن
____________________
(22/339)
القراءة بغيرها أفضل
فإنه لا يستحب أن يقرأ بها مع إستماعه قراءتها وعامة السلف الذين كرهوا القراءة خلف الإمام هو فيما إذا جهر ولم يكن أكثر الأئمة يسكت عقب الفاتحة سكوتا طويلا وكان الذى يقرأ حال الجهر قليلا وهذا منهى عنه بالكتاب والسنة وعلى النهى عنه جمهور السلف والخلف وفى بطلان الصلاة وبذلك نزاع
ومن العلماء من يقول يقرأ حال جهره بالفاتحة وإن لم يقرأ بها ففى بطلان صلاته أيضا نزاع فالنزاع من الطرفين لكن الذين ينهون عن القراءة مع الإمام هم جمهور السلف والخلف ومعهم الكتاب والسنة الصحيحة والذين أوجبوها على المأموم فى حال الجهر هكذا فحديثهم قد ضعفه الأئمة ورواه أبوداود وقوله فى حديث أبى موسى ( وإذا قرأ فانصتوا ( صححه أحمد وإسحاق ومسلم بن الحجاج وغيرهم وعلله البخارى بأنه إختلف فيه وليس ذلك بقادح فى صحته بخلاف ذلك الحديث فإنه لم يخرج فى الصحيح وضعفه ثابت من وجوه وإنما هو قول عبادة بن الصامت بل يفعل فى سكوته ما يشرع من الإستفتاح والإستعاذة ولو لم يسكت الإمام سكوتا يتسع لذلك أو لم يدرك سكوته
فهل يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام فيه ثلاث روايات إحداها يستفتح ويستعيذ مع جهر الامام وإن لم يقرأ لأن
____________________
(22/340)
مقصود القراءة حصل بالإستماع وهو لا يسمع إستفتاحه وإستعاذته إذ كان الإمام يفعل ذلك سرا
والثانية يستفتح ولا يستعيذ لأن الإستعاذة تراد للقراءة وهو لا يقرأ وأما الإستفتاح فهو تابع لتكبيرة الإفتتاح
والثالثة (
لا يستفتح ولا يستعيذ وهو أصح وهو قول أكثر العلماء كمالك والشافعى وكذا أبوحنيفة فيما أظن لأنه مأمور بالإنصات والإستماع فلا يتكلم بغير ذلك ولأنه ممنوع من القراءة فكذا يمنع من ذلك وكثير من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم يقول منعه أولى لأن القراءة واجبة وقد سقطت بالإستماع لكن مذهب أحمد ليس منعه من القراءة أوكد فإن القراءة عنده لا تجب على المأموم لا سرا ولا جهرا وإن إختلف فى وجوبها على المأموم فقد إختلف فى وجوب الإستفتاح والإستعاذة وفى مذهبه فى ذلك قولان مشهوران
ومن حجة من يأمر بهما عند الجهر أنهما واجبان لم يجعل عنهما بدل بخلاف القراءة فإنه جعل منها بدل وهو الإستماع لكن الصحيح أن ذلك ليس بواجب والإستعاذة إنما أمر بها من يقرأ والأمر بإستماع قراءة الإمام والإنصات له مذكور فى القرآن وفى السنة الصحيحة وهو
____________________
(22/341)
إجماع الأمة فيما زاد على الفاتحة وهو قول جماهير السلف من الصحابة وغيرهم فى الفاتحة وغيرها وهو أحد قولى الشافعى وإختاره طائفة من حذاق أصحابه كالرازى وأبى محمد بن عبدالسلام فإن القراءة مع جهر الإمام منكر مخالف للكتاب والسنة وما كان عليه عامة الصحابة ولكن طائفة من أصحاب أحمد إستحبوا للمأموم القراءة فى سكتات الإمام ومنهم من إستحب أن يقرأ بالفاتحة وإن جهر وهو إختيار جدى كما إستحب ذلك طائفة منهم الأوزاعى وغيره وإستحب بعضهم للإمام أن يسكت عقب الفاتحة ليقرأ من خلفه وأحمد لم يستحب هذا السكوت فإنه لا يستحب القراءة إذا جهر الإمام وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا أن سكوت الإستفتاح ثبت بهذا الحديث الصحيح ومع هذا فعامة العلماء من الصحابة ومن بعدهم يستحبون الإستفتاح بغيره كما يستحب جمهورهم الإستفتاح بقوله ( سبحانك اللهم ( وقد بينا سبب ذلك فى غير هذا الموضع وهو أن فضل بعض الذكر على بعض هو لأجل ما إختص به الفاضل لا لأجل
إسناده والذكر ثلاثة أنواع أفضله ما كان ثناء على الله ثم ما كان إنشاء من العبد أو إعترافا بما يجب لله عليه ثم ما كان دعاء من العبد
____________________
(22/342)
فالأول مثل النصف الأول من الفاتحة ومثل ( سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ( ومثل التسبيح فى الركوع والسجود
والثانى مثل قوله ( وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض ( ومثل قوله فى الركوع والسجود ( اللهم لك ركعت ولك سجدت ( وكما فى حديث على الذى رواه مسلم
والثالث مثل قوله ( اللهم بعد بينى وبين خطاياى ( ومثل دعائه فى الركوع والسجود ولهذا أوجب طائفة من اصحاب أحمد ما كان ثناء كما أوجبوا الإستفتاح وحكى فى ذلك عن أحمد روايتان وإختار إبن بطة وغيره وجوب ذلك وهذا لبسطه موضع آخر
والمقصود هنا أن النوع المفضول مثل الإستفتاح الذى رواه أبوهريرة ومثل الإستفتاح بوجهت أو سبحانك اللهم عند من يفضل الآخر فعله أحيانا أفضل من المداومة على نوع وهجر نوع وذلك أن أفضل الهدى هدى محمد كما ثبت فى الصحيح أنه كان يقول فى خطبة الجمعة ( خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ( ولم يكن يداوم على إستفتاح واحد قطعا فإن حديث أبى هريرة يدل على أنه كان يستفتح بهذا
____________________
(22/343)
فإن قيل كان يداوم عليه فكانت المداومة عليه أفضل قلنا لم يقل هذا أحد من العلماء فيما علمناه فعلم أنه لم يكن يداوم عليه
وأيضا فقد كان عمر يجهر ( بسبحانك اللهم وبحمدك ( يعلمها الناس ولولا أن النبى كان يقولها فى الفريضة ما فعل ذلك عمر وأقره المسلمون وكما كان بعضهم يجهر بالإستعاذة وكذلك قيل فى جهر جماعة منهم بالبسملة أنه كان لتعليم الناس قراءتها كما جهر من جهر منهم بالإستعاذة والإستفتاح وكما جهر إبن عباس بقراءة الفاتحة فى صلاة الجنازة ولهذا كان الصواب هو المنصوص عن أحمد أنه يستحب الجهر أحيانا بذلك فيستحب الجهر بالبسملة أحيانا ونص قوم على أنه كان يجهر بها إذا صلى بالمدينة فظن القاضي أن ذلك لأن أهل المدينة شيعة يجهرون بها وينكرون على من لم يجهر بها لأن القاضي لما حج كان قد ظهر بها التشيع وإستولى عليها وعلى أهل مكة العبيديون المصريون وقطعوا الحج من العراق مدة وإنما حج القاضي من الشام
والصواب أن أحمد لم يأمر بالجهر لذلك بل لأن أهل المدينة على عهده كانوا لا يقرؤون بها سرا ولا جهرا كما هو مذهب مالك فأراد أن يجهر بها كما جهر بها من جهر من الصحابة تعليما للسنة وأنه يستحب قراءتها فى الجملة وقد إستحب أحمد أيضا لمن صلى بقوم لا يقنتون
____________________
(22/344)
بالوتر وأرادوا من الإمام أن لا يقنت لتأليفهم فقد إستحب ترك الأفضل لتأليفهم وهذا يوافق تعليل القاضي فيستحب الجهر بها إذا كان المأمومون يختارون الجهر لتأليفهم ويستحب أيضا إذا كان فيه إظهار السنة وهم يتعلمون السنة منه ولا ينكرونه عليه
وهذا كله يرجع إلى أصل جامع وهو ان المفضول قد يصير فاضلا لمصلحة راجحة وإذا كان المحرم كأكل الميتة قد يصير واجبا للمصلحة الراجحة ودفع الضرر فلأن يصير المفضول فاضلا لمصلحة راجحة أولى
وكذلك يقال فى أجناس العبادات كالصلاة جنسها أفضل من جنس القراءة والذكر ثم أنها منهى عنها فى أوقات النهى فالقراءة والذكر والدعاء فى ذلك الوقت أفضل من الصلاة وكذلك الدعاء فى مشاعر الحج بعرفة ومزدلفة ومنى والصفا والمروة أفضل من القراءة أيضا بالنص والإجماع فإن النبى قال ( إنى نهيت ان أقرأ القرآن راكعا وساجدا ( وهذا في الصحيح من حديث إبن عباس ومن حديث على ايضا أنه نهاه عن ذلك ولو قرأ هل تبطل صلاته فيه وجهان فى مذهب أحمد فالنهى عن الصلاة والقراءة فى المشاعر الفضيلة
____________________
(22/345)
فإن الطهارة شرط فى الصلاة ولا يشترط له الطهارة ولكل مكان عبادة تشرع وكذلك ترك الصلاة وقت النهى مشروع فى كل زمان وأما الطواف فهل تكره فيه القراءة فيه قولان مشهوران للعلماء وهما روايتان عن أحمد والرخصة مذهب الشافعى بل هو مستحب فيه القراءة ولا يستحب الجهر بها وللأخرى مصنف
وإذا كان هذا من أجناس العبادات التى ثبت فضل بعضها على بعض بالنص والإجماع فكيف فى أنواع الذكر لا سيما فيما فيه نزاع فالأصل بلا ريب هدى النبى وقد ثبت أنه كان يستفتح بهذا الإستفتاح الذى فى حديث أبى هريرة فالأفضل أن يستفتح به أحيانا ويستفتح بغيره احيانا
وأيضا فلكل إستفتاح حاجة ليست لغيره فيأخذ المؤمن بحظه من كل ذكر وأيضا فقد يحتاج الإنسان إلى المفضول ولا يكفيه الفاضل كما فى { قل هو الله أحد } فإنها تعدل ثلث القرآن أى يحصل لصاحبها من الأجر ما يعدل ثواب ثلث القرآن في القدر لا فى الصفة فإن ما فى القرآن من الأمر والنهى والقصص والوعد والوعيد لا يغنى عنه
____________________
(22/346)
{ قل هو الله أحد } وليس أجرها من جنس أجرها وإن كان جنس أجر ( قل هو الله أحد ( أفضل فقد يحتاج إلى المفضول حيث لا يغنى الفاضل كما يحتاج الإنسان إلى رجله حيث لا تغنى عنها عينه
وكذلك المخلوقات لكل مخلوق حكمة خلق لأجلها فكذلك العبادات فجميع ما شرعه الرسول له حكمة ومقصود ينتفع به في مقصوده فلا يهمل ما شرعه من المستحبات وإن قيل إن جنس غيره افضل فهو فى زمانه ومكانه أفضل من غيره والصلوات التى كان يدعو فيها بهذا الإستفتاح كان دعاؤه فيها بهذا الإستفتاح أفضل من غيره وهو دعاؤه بالطهارة والتنقية من الذنوب والتبعيد عنها من جنس الإستغفار فى السحر وكاستغفاره عقب الصلاة وقد كان يدعو بمثل هذا الدعاء فى آخر قيام الإعتدال بعد التحميد فكان يفتتح به القيام تارة ويختم به القيام أيضا
وقد روى عنه فى الإستفتاح أنواع وعامتها فى قيام الليل كما ذكر ذلك أحمد ويستحب للمصلى بالليل أن يستفتح بها كلها وهذا أفضل من ان يداوم على نوع ويهجر غيره فإن هذا هدى النبى لكن يقال أيضا هدى النبى هو الأفضل ومن الناس من لا يصلح له الأفضل بل يكون فعله للمفضول
____________________
(22/347)
أنفع كمن ينتفع بالدعاء دون الذكر أو بالذكر دون القراءة أو بالقراءة دون صلاة التطوع فالعبادة التى ينتفع بها فيحضر لها قلبه ويرغب فيها ويحبها أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة كالغذاء الذى يشتهيه الإنسان وهو جائع هو أنفع له من غذاء لا يشتهيه أو يأكله وهو غير جائع
فكذلك يقال هنا قد تكون مداومته على النوع المفضول أنفع لمحبته وشهود قلبه وفهمه ذلك الذكر ونحن إذا قلنا التنوع فى هذه الأذكار أفضل فهو أيضا تفضيل لجنس التنوع والمفضول قد يكون أنفع لبعض الناس لمناسبته له كما قد يكون جنسه فى الشرع أفضل فى بعض الأمكنة والأزمنة والأحوال فالمفضول تارة يكون أفضل مطلقا فى حق جميع الناس كما تقدم وقد يكون أفضل لبعض الناس لأن إنتفاعه به اتم وهذه حال أكثر الناس قد لا ينتفعون بالمفضول لمناسبته لأحوالهم الناقصة مالا ينتفعون بالفاضل الذى لا يصلون إلى ان يكونوا من أهله
فصل
وكذلك ( صلاة الخوف ( إذا صلى مرة على وجه ومرة على وجه كان إتبع من حفظ وجه وترك آخر وقد يكون على وجه
____________________
(22/348)
أفضل فى وقت لمناسبة حاله حال ذلك الوقت وربما كان بعض الذكر والدعاء فى بعض الأوقات أفضل كذلك فقد يكون فى حال يكون الإستغفار أنفع له وفى حال يكون إقراره لله بالتوحيد أفضل له وفى حال يكون تسبيحه وتحميده وتهليله وتكبيره أفضل له والذين يستحبون بعض المشروع ويكرهون بعضه فإن الله سبحانه يقيم طائفة تقول هذا وطائفة تقول هذا وطائفة تقول هذا ويتنازعون فإن بسبب النزاع تظهر كل طائفة من السنة ما قالت به وتركته الأخرى كالمختلفين فى البسملة هل تجب ويجهر بها أم تكره قراءتها سرا وجهرا يحتاج أولئك أن يظهروا ما يدل على أنها من القرآن آية مفردة تبعا للسور ويحتاج اولئك أن يظهروا ما يدل على أنها ليست من السور ولا تجب قراءتها وكلا القولين حق
وسورة اقرأ ( هي أول ما نزل من القرآن وقد إحتج بها كل من الطائفتين وفيها حجة لما معه من الحق فالذين قالوا ليست من السورة قالوا إن جبريل لما أتى النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمره بقراءتها بل أمره أن يقرأ { باسم ربك الذي خلق } ولو كانت هي أول السورة لأمره بها وهذا ثابت فى الصحيحين من حديث عائشة والذين قالوا بقراءتها قالوا قد قال { اقرأ باسم ربك الذي خلق } فهذا أمر لكل قارئ أن يقرأ بإسم ربه فإذا قيل أذبح بسم الله
____________________
(22/349)
وكل بسم الله وإركب بسم الله فمعناه اذكر إسم الله إذا فعلت ذلك فلما قال { اقرأ باسم ربك } كان أمرا للقارئ أن يذكر إسم الله فيقول بإسم الله وهذا أولى من ذكر إسم ربه عند الذبح والأكل والشرب
وهنا قد أمر بالإستعاذة أيضا عند القراءة وهو إذا قال ( بسم الله الرحمن الرحيم ( فقد إمتثل ما أمر به فذكر إسم ربه إذا قرأ وإنما لم يذكرها جبريل ابتداء لأنه بعد لم يتعلم شيئا من القرآن لكن علمه هذا وأمره فيه بذكر إسم ربه إذا قرأ فكان بعد هذا إذا قرأ السورة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم كما ثبت فى صحيح مسلم أنه قال ( قد أنزل على آنفا سورة ( ثم قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وإنحر إن شأنئك هو الأبتر (
ولكن هذه تدل على أنها تبع للقرآن المقصود لما فيها من ذكر الله ولهذا كتبت فى المصاحف مفردة عن السورة لم تخلط بها فهي قرآن مكتوب فى المصاحف لكن أنزل تبعا لغيره والمقصود غيره فلهذا أفردت فى الكتابة والتلاوة ففى الكتابة تكتب مفردة وفى التلاوة كان النبى صلى الله عليه وسلم لا يجهر بها ولم يجعلها من القرآن المفروض فى الحديث الصحيح بقوله ( يقول الله تعالى قسمت الصلاة
____________________
(22/350)
بينى وبين عبدى نصفين نصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل فإذا قال العبد { الحمد لله رب العالمين } قال الله حمدنى عبدى فإذا قال { الرحمن الرحيم } قال أثنى على عبدى فإذا قال { مالك يوم الدين } قال مجدنى عبدى إلى آخر الحديث
وهذا قول جمهور العلماء فى البسملة أنها آية من القرآن مفردة وليست من السورة وأنه يقرأ بها فى الصلاة سرا فلا تخرج من القرآن وتهجر ولا تشبه بالقرآن المقصود فتجهر وهى تشبه الإستعاذة من بعض الوجوه لكن الإستعاذة ليست بقرآن ولم تكتب فى المصاحف وإنما فيه الأمر بالإستعاذة وهذا قرآن والفاتحة سبع آيات بالإتفاق وقد ثبت ذلك بقوله { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( فاتحة الكتاب هي السبع المثانى (
وقد كان كثير من السلف يقول البسملة آية منها ويقرؤها وكثير من السلف لا يجعلها منها ويجعل الآية السابعة { أنعمت عليهم } كما دل على ذلك حديث أبى هريرة الصحيح وكلا القولين حق فهي منها من وجه وليست منها من وجه والفاتحة سبع آيات من وجه تكون البسملة منها فتكون آية ومن وجه لا تكون منها فالآية السابعة ( أنعمت عليهم ( لأن البسملة أنزلت تبعا للسور
____________________
(22/351)
والمقصود أن يبتدأ القرآن بذكر إسم الله فهي أنزلت فى أول السورة تبعا لم تنزل فى أواخر السور وكتبت فى المصاحف مفردة لكن تبعا لما بعدها لا لما قبلها ولهذا قال النبى ( قد أنزلت على آنفا سورة ( وقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر }
وفى السنن كان النبى لا يعلم فصل السورة حتى ينزل عليه ( بسم الله الرحمن الرحيم ( فمن جهة كونها تابعة للسورة تجعل منها ومن جهة كون المقصود أن يقرأ بسم الله كما يفعل سائر الأفعال بإسم الله والقرآن المقصود غيرها لم تكن آية من السورة ولهذا قال النبى ( أنى لأعلم سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهى ( تبارك الذى بيده الملك (
والقراء منهم من يفصل بها بين السورتين ومنهم من لا يفصل لكون القرآن كله كلام الله فلا يفصلون بها بين السورتين كمن سمى إذا أكل ثم أكل أنواعا من الطعام ومنهم من يسمى فى أول كل سورة وهذا أحسن لمتابعته لخط المصحف وهو بمنزلة رفع طعام ووضع طعام فالتسمية عنده أفضل
____________________
(22/352)
وكذلك من ذبح شاة بعد شاة فالتسمية على كل شاة أفضل وأما تلاوتها فى اول الفاتحة فهو إبتداء بها للقرآن ولهذا إختلف كلام أحمد هل قراءتها فى أول الفاتحة واجبة فرض لا تصح الصلاة إلا به على روايتين وذكر عنه روايتان فى الإستعاذة والإستفتاح فالبسملة أولى بالوجوب ثم وجوبها قد يبتنى على أنها من الفاتحة وقد يقال بوجوبها وإن لم تكن من الفاتحة كما يوجب الإستعاذة والإستفتاح ولهذا لا يجعل الجهر بها تبعا لوجوبها بل يوجبها ويستحب المخافتة بها ولو كانت من الفاتحة من كل وجه لكان الجهر ببعض الفاتحة دون بعض بعيدا عن الأصول فإذا جعلت منها من وجه دون وجه إتفقت الأدلة والأصول وأعطى كل شيء من ذلك صفة ولم يقل أنها من القرآن فى أول الفاتحة ولو كقول من لم يجعلها من القرآن فى حال إلا فى سورة النمل
وقد قال طائفة أنها من القرآن فى قراءة دون قراءة لتواتر هذه القراءات فيقال المتواتر هو الأمر الوجودى وهو ما سمعوه من القرآن من الصحابة وبلغوه عن الرسول والقرآن فى زمانه لم يكتب ولا كان ترتيب السور على هذا الوجه أمرا واجبا مأمورا به من عندالله بل الأمر مفوض فى ذلك إلى إختيار المسلمين ولهذا كان لجماعة من الصحابة لكل منهم إصطلاح فى ترتيب سوره غير
____________________
(22/353)
إصطلاح الآخر وحينئذ فيكون الذين لا يقرءونها قد اقرأهم الرسول ولم يبسمل وأولئك اقرأهم وبسمل فهذا يدل على جواز الأمرين وإن كان أحدهما أفضل لا يدل على أنها فى أحد الحرفين ليست من القرآن وأنه نهى عن قراءتها فإن هذا جمع بين النقيضين كيف يسوغ قراءتها والنهى عن قراءتها بل هذا يدل على جواز الأمرين كالحروف التى ثبتت فى قراءة دون قراءة مثل { من تحتها } ومثل { إن الله هو الغني } فالرسول يجوز إثبات ذلك ويجوز حذفه كلاهما جائز فى شرعه
وبهذا يتبين أن من قال من الفقهاء أنها واجبة على قراءة من أثبتها أو مكروهة على قراءة من لم يثبتها فقد غلط بل القرآن يدل على جواز الأمرين ومن قرأ بإحدى القراءات لا يقال أنه كلما قرأ يجب أن يقرأ بها ومن ترك ما قرأ به غيره لا يقول إن قراءة أولئك مكروهة بل كل ذلك جائز بالإتفاق وإن رجح كل قوم شيئا وبهذا يتبين أن من أنكر كونها من القرآن بالكلية إلا فى سورة النمل وقطع بخطأ من إثبتها بناء على أن القرآنية لا تثبت إلا بالقطع فهو مخطىء فى ذلك ويقال له ولا تنفى إلا بالقطع أيضا
ثم يقال له من أثبتها يقطع بأنها ثابتة ويقطع بخطأ من نفاها بل التحقيق أن كون الشيء قطعيا أو غير قطعى أمر اضافى والقراءات
____________________
(22/354)
تدل على جواز الأمرين ولكن القراءة بها أفضل وهذا قول جمهور العلماء يجوزون هذا ويرجحون قراءتها ويخفونها عن غيرها من القرآن لأنها تابعة لغيرها والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل
____________________
(22/355)
وقال شيخ الإسلام (
قاعدة ( فى صفات العبادات الظاهرة التى حصل فيها تنازع بين الأمة فى الرواية والرأى مثل الأذان والجهر بالبسملة والقنوت فى الفجر والتسليم فى الصلاة ورفع الأيدى فيها ووضع الأكف فوق الأكف
ومثل التمتع والإفراد والقران فى الحج ونحو ذلك فإن التنازع فى هذه العبادات الظاهرة والشعائر أوجب أنواعا من الفساد الذى يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون (
أحدها ( جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذى يحبه الله ورسوله والذى سنه رسول الله لأمته والذى أمرهم بإتباعه (
الثانى ( ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض وبغيهم عليهم تارة بنهيهم عما لم ينه الله عنه وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم لعدم موافقتهم له
____________________
(22/356)
على الوجه الذى يؤثرونه حتى يقدمون فى الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخرا عند الله ورسوله ويتركون من يكون مقدما عند الله ورسوله لذلك (
الثالث ( إتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم مدينا بإتباع الأهواء فى هذه الأمور المشروعة وحتى يصير فى كثير من المتفقهة والمتعبدة من الأهواء من جنس ما فى أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة كالخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم وقد قال تعالى فى كتابه ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ( وقال فى كتابه { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل }
الرابع ( التفرق والإختلاف المخالف للإجتماع والإئتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا ويعاديه ويحب بعضا ويواليه على غير ذات الله وحتى يفضى الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز وببعضهم إلى الإقتتال بالأيدى والسلاح وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلى بعضهم خلف بعض وهذا كله من أعظم الأمور التى حرمها الله ورسوله
____________________
(22/357)
والإجتماع والأئتلاف من أعظم الأمور التى أوجبها الله ورسوله قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } إلى قوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال إبن عباس تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة
وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة بخروجه عن السنة التى شرعها رسول الله لأمته ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة التى أمر الله بها ورسوله قال تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقال تعالى { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات } وقال تعالى { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } وقال تعالى { إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } وقال تعالى { وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } وقال تعالى { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة }
____________________
(22/358)
وقال تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } وقال { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } وقال { إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس }
وهذا الأصل العظيم وهو الإعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله تعالى به فى كتابه
ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ومما عظمت به وصية النبى فى مواطن عامة وخاصة مثل قوله ( عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ( وقوله ( فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد ( وقوله ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ( وقوله ( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ( قالوا بلى يا رسول الله قال ( صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين (
وقوله ( من جاءكم وامركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فإضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان ( وقوله ( يصلون لكم
____________________
(22/359)
فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم ( وقوله ( ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة ناجية وإثنتان وسبعون فى النار قيل ومن الفرقة الناجية قال هي الجماعة يد الله على الجماعة (
و ( باب الفساد ( الذى وقع فى هذه الأمة بل وفى غيرها هو التفرق والإختلاف فإنه وقع بين امرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم وإن كان بعض ذلك مغفورا لصاحبه لإجتهاده الذى يغفر فيه خطؤه أو لحسناته الماحية أو توبته أو لغير ذلك لكن يعلم أن رعايته من اعظم أصول الإسلام ولهذا كان إمتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة ويذكرون فى كثير من السنن والآثار فى ذلك ما يطول ذكره وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذى يجب تقديم العمل به هو الإجماع فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة (
النوع الخامس ( هو شك كثير من الناس وطعنهم فى كثير مما أهل السنة والجماعة عليه متفقون بل وفى بعض ما عليه أهل الإسلام بل وبعض ما عليه سائر أهل الملل متفقون وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارة ومن جهة تنازعهم ورأيهم أخرى
____________________
(22/360)
أما الأول فقد علم الله الذكر الذى أنزله على رسوله وأمر أزواج نبيه بذكره حيث يقول { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } حفظه من ان يقع فيه من التحريف ما وقع فيما انزل قبله كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة فعصم حروف التنزيل أن يغير وحفظ تأويله أن يضل فيه اهل الهدى المتمسكون بالسنة والجماعة وحفظ أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم عما ليس فيها من الكذب عمدا أو خطأ بما أقامه من علماء أهل الحديث وحفاظه الذين فحصوا عنها وعن نقلتها ورواتها وعلموا من ذلك مالا يعلم غيرهم حتى صاروا مجتمعين على ما تلقوه بالقبول منها إجماعا معصوما من الخطأ لأسباب يطول وصفها فى هذا الموضع وعلموا هم خصوصا وسائر علماء الأمة بل وعامتها عموما ما صانوا به الدين عن ان يزاد فيه أو ينقص منه مثلما علموا أنه لم يفرض عليهم فى اليوم والليلة إلا الصلوات الخمس وإن مقادير ركعاتها ما بين الثنائى والثلاثى والرباعى وأنه لم يفرض عليهم من الصوم إلا شهر رمضان ومن الحج إلا حج البيت العتيق ومن الزكاة إلا فرائضها المعروفة إلى نحو ذلك
وعلموا كذب أهل الجهل والضلالة فيما قد يأثرونه عن النبى لعلمهم بكذب من يزعم من الرافضة أن النبى صلى
____________________
(22/361)
الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة نصا قاطعا جليا وزعم آخرين أنه نص على العباس
وعلموا أكاذيب الرافضة والناصبة التى يأثرونها فى مثل ( الغزوات ) التى يروونها عن على وليس لها حقيقة كما يرويها المكذبون الطرقية مثل أكاذيبهم الزائدة فى سيرة عنتر والبطال حيث علموا مجموع مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن القتال فيها كان فى تسعة مغاز فقط ولم يكن عدة المسلمين ولا العدو فى شيء من مغازى القتال عشرين الفا
ومثل ( الفضائل ( المروية ليزيد بن معاوية ونحوه والأحاديث التى يرويها كثير من الكرامية فى الأرجاء ونحوه والأحاديث التى يرويها كثير من النساك فى صلوات أيام الأسبوع وفى صلوات أيام الأشهر الثلاثة والأحاديث التى يروونها فى إستماع النبى هو واصحابه وتواجده وسقوط البردة عن ردائه وتمزيقه الثوب وأخذ جبريل لبعضه وصعوده به إلى السماء وقتال أهل الصفة مع الكفار وإستماعهم لمناجاته ليلة الإسراء والأحاديث المأثورة فى نزول الرب إلى الأرض يوم عرفة وصبيحة مزدلفة ورؤية النبى له فى الأرض بعين رأسه وأمثال هذه الأحاديث المكذوبة التى يطول وصفها فإن المكذوب من ذلك لا يحصيه أحد إلا الله تعالى لأن الكذب يحدث شيئا فشيئا ليس بمنزلة الصدق
____________________
(22/362)
الموروث عن النبى الذى لا يحدث بعده وإنما يكون موجودا فى زمنه وهو محفوظ محروس بنقل خلفاء الرسول وورثة الأنبياء
وكان من الدلائل على إنتفاء هذه الأمور المكذوبة وغيرها وجوه (
أحدها ( أن ما توفرت لهم همم الخلق ودواعيهم على نقله وإشاعته يمتنع في العادة كتمانه فانفراد العدد القليل به يدل على كذبهم كما يعلم كذب من خرج يوم الجمعة وأخبر بحادثة كبيرة فى الجامع مثل سقوط الخطيب وقتله وإمساك أقوام فى المسجد إذا لم يخبر بذلك إلا الواحد والإثنان ويعلم كذب من اخبر أن فى الطرقات بلادا عظيمة وأمما كثيرين ولم يخبر بذلك السيارة وإنما إنفرد به الواحد والإثنان ويعلم كذب من أخبر بمعادن ذهب وفضة متيسرة لمن أرادها بمكان يعلمه الناس ولم يخبر بذلك إلا الواحد والإثنان وأمثال ذلك كثيرة فبإعتبار العقل وقياسه وضربه الأمثال يعلم كذب ما ينقل من الأمور التى مضت سنة الله بظهورها وإنتشارها لو كانت موجودة
كما يعلم أيضا صدق ما مضت سنة الله فى عباده أنهم لا يتواطؤون فيه على الكذب من الأمور المتواترة والمنقولات المستفيضة فإن الله جبل جماهير الأمم على الصدق والبيان فى مثل هذه الأمور دون
____________________
(22/363)
الكذب والكتمان كما جبلهم على الأكل والشرب واللباس فالنفس بطبعها تختار الصدق إذا لم يكن لها فى الكذب غرض راجح وتختار الأخبار بهذه الأمور العظيمة دون كتمانها
والناس يستخبر بعضهم بعضا ويميلون إلى الإستخبار والإستفهام عما يقع وكل شخص له من يؤثر أن يصدقه ويبين له دون أن يكذبه ويكتمه والكذب والكتمان يقع كثيرا فى بنى آدم فى قضايا كثيرة لا تنضبط كما يقع منهم الزنى وقتل النفوس والموت جوعا وعريا ونحو ذلك لكن ليس الغالب على إنسابهم إلا الصحة وعلى أنفسهم إلا البقاء فالغرض هنا أن الأمور المتواترة يعلم انهم لم يتواطؤوا فيها على الكذب والأخبار الشاذة يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكتمان (
الوجه الثانى ( أن دين الأمة يوجب عليهم تبليغ الدين وإظهاره وبيانه ويحرم عليهم كتمانه ويوجب عليهم الصدق ويحرم عليهم الكذب فتواطؤهم على كتمان ما يجب بيانه كتواطئهم على الكذب وكلاهما من أقبح الأمور التى تحرم فى دين الأمة وذلك باعث موجب الصدق والبيان (
الثالث ( أنه قد علم من عدل سلف الأمة ودينها وعظيم رغبتها فى تبليغ الدين وإظهاره وعظيم مجانبتها للكذب على الرسول صلى الله
____________________
(22/364)
عليه وسلم ما يوجب أعظم العلوم الضرورية بأنهم لم يكذبوا فيما نقلوه عنه ولا كتموا ما أمرهم بتبليغه وهذه العادة الحاجية الخاصة الدينية لهم غير العادة العامة المشتركة بين جنس البشر (
الرابع ( أن العلماء الخاصة يعلمون من نصوص رسول الله الموجبة عليهم التبليغ ومن تعظيمهم لأمر الله ورسوله ومن دين آحادهم مثل الخلفاء ومثل إبن مسعود وأبى ومعاذ وأبى الدرداء إلى إبن عمر وإبن عباس وإبن عمرو وغيرهم يعلمون علما يقينا لا يتخالجه ريب إمتناع هؤلاء من كتمان قواعد الدين التى يجب تبليغها إلى العامة كما يعلمون إمتناعهم من الكذب على رسول الله
ويعلم ايضا أهل الحديث مثل أحوال المشاهير بمعرفة ذلك مثل الزهري وقتادة ويحيى بن أبى كثير ومثل مالك والثورى وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم أمورا يعلمون معها إمتناعهم من الكذب وإمتناعهم عن كتمان تبليغ هذه الأمور العظيمة التى تأبى أحوالهم كتمانها لو كانت موجودة ولهم فى ذلك أسباب يطول شرحها وليس الغرض هنا تقرير ذلك وإنما الغرض التنبيه على ما وقع من الشبهة لبعض الناس من أهل الأهواء
____________________
(22/365)
قالوا هذا الذى ذكرتموه معارض بأمر الأذان والإقامة فإنه كان يفعل على عهد النبى كل يوم خمس مرات ومع هذا فقد وقع الإختلاف فى صفته وكذلك الجهر بالبسملة والقنوت فى الفجر وحجة الوداع من أعظم وقائعه وقد وقع الإختلاف فى نقلها وذكروا نحو هذه الأمور التى وقعت فيها الشبهة والنزاع عند بعض الناس وجعلوا هذا معارضا لما تقدم ليسوغوا أن يكون من أمور الدين مالم ينقل بل كتم لأهواء وأغراض
وأما جهة الرأى والتنازع فإن تنازع العلماء وإختلافهم فى صفات العبادات بل وفى غير ذلك من أمور الدين صار شبهة لكثير من أهل الأهواء من الرافضة وغيرهم وقالوا إن دين الله واحد والحق لا يكون فى جهتين ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا (
فهذا التفرق والإختلاف دليل على إنتفاء الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة ويعبرون عنهم بعبارات تارة يسمونهم الجمهور وتارة يسمونهم الحشوية وتارة يسمونهم العامة ثم صار أهل الأهواء لما جعلوا هذا مانعا من كون الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة كل ينتحل سبيلا من سبل الشيطان
____________________
(22/366)
فالرافضة تنتحل النقل عن أهل البيت لما لا وجود له وأصل من وضع ذلك لهم زنادقة مثل رئيسهم الأول عبد الله بن سبأ الذى إبتدع لهم الرفض ووضع لهم أن النبى نص على علي بالخلافة وأنه ظلم ومنع حقه وقال انه كان معصوما وغرض الزنادقة بذلك التوسل إلى هدم الإسلام ولهذا كان الرفض باب الزندقة والإلحاد فالصابئة المتفلسفة ومن أخذ ببعض أمورهم أو زاد عليهم من القرامطة والنصيرية والإسماعيلية والحاكمية وغيرهم إنما يدخلون إلى الزندقة والكفر بالكتاب والرسول وشرائع الإسلام من باب التشيع والرفض والمعتزلة ونحوهم تنتحل القياس والعقل وتطعن فى كثير مما ينقله أهل السنة والجماعة ويعللون ذلك بما ذكر من الإختلاف ونحوه وربما جعل ذلك بعض أرباب الملة من اسباب الطعن فيها وفى أهلها فيكون بعض هؤلاء المتعصبين ببعض هذه الأمور الصغار ساعيا فى هدم قواعد الإسلام الكبار (
فصل (
إذا تبين بعض ما حصل فى هذا الإختلاف والتفرق من الفساد فنحن نذكر طريق زوال ذلك ونذكر ما هو الواجب فى الدين فى هذه المنازعات وذلك ببيان الأصلين اللذين هما ( السنة والجماعة
____________________
(22/367)
المدلول عليهما بكتاب الله فإنه إذا إتبع كتاب الله وما تضمنه من إتباع رسوله والإعتصام بحبله جميعا حصل الهدى والفلاح وزال الضلال والشقاء
أما الأصل الأول وهو ( الجماعة ) وبدأنا به لأنه أعرف عند عموم الخلق ولهذا يجب عليهم تقديم الإجماع على ما يظنونه من معانى الكتاب والسنة
فنقول عامة هذه التنازعات إنما هي فى أمور مستحبات ومكروهات لا فى واجبات ومحرمات فإن الرجل إذا حج متمتعا أو مفردا أو قارنا كان حجة مجزئا عند عامة علماء المسلمين وإن تنازعوا فى الأفضل من ذلك ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك فمن الشيعة من يوجب المتعة ويحرم ماعداها ومن الناصبة من يحرم المتعة ولا يبيحها بحال
وكذلك الأذان سواء رجع فيه أو لم يرجع فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها وسواء ربع التكبير فى أوله أو ثناه وإنما يخالف فى ذلك بعض شواذ المتفقهة كما خالف فيه بعض الشيعة فأوجب له الحيعلة ( بحى على خير العمل ( وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية بأيها أقام صحت إقامته عند عامة علماء الإسلام إلا
____________________
(22/368)
ما تنازع فيه شذوذ الناس
وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما أو يكره الآخر أو يختار أن لا يقرأ بها فالمنازعة بينهم فى المستحب وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عوام العلماء فإنهم وإن تنازعوا بالجهر والمخافتة فى موضعهما هل هما واجبان أم لا وفيه نزاع معروف فى مذهب مالك وأحمد وغيرهما فهذا فى الجهر الطويل بالقدر الكثير مثل المخافتة بقرآن الفجر والجهر بقراءة صلاة الظهر
فأما الجهر بالشيء اليسير أو المخافتة به فمما لا ينبغي لأحد أن يبطل الصلاة بذلك وما أعلم أحدا قال به فقد ثبت فى الصحيحين عن النبى أنه كان فى صلاة المخافتة يسمعهم الآية أحيانا وفى صحيح البخارى عن رفاعة بن رافع الزرقى قال ( كنا نصلى وراء النبى فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما إنصرف قال ( من المتكلم قال أنا قال ( رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول (
ومعلوم أنه لولا جهره بها لما سمعه النبى ولا
____________________
(22/369)
الراوي ومعلوم أن المستحب للمأموم المخافتة بمثل ذلك وكذلك ثبت فى الصحيح عن عمر أنه كان يجهر بدعاء الإستفتاح ( سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وهذا فعله بين المهاجرين والأنصار والسنة الراتبة فيه المخافتة وكذلك كان من الصحابة من يجهر بالإستعاذة وفى الصحيح عن إبن عباس أنه جهر بقراءة الفاتحة على الجنازة وقال لتعلموا أنها السنة ولهذا نظائر
وأيضا فلا نزاع أنه كان من الصحابة من يجهر بالبسملة كإبن الزبير ونحوه ومنهم من لم يكن يجهر بها كإبن مسعود وغيره وتكلم الصحابة فى ذلك ولم يبطل أحد منهم صلاة أحد فى ذلك وهذا مما لم أعلم فيه نزاعا وإن تنازعوا فى وجوب قراءتها فتلك مسألة أخرى
وكذلك القنوت فى الفجر إنما النزاع بينهم فى إستحبابه أو كراهيته وسجود السهو لتركه أو فعله وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة من ترك القنوت وأنه ليس بواجب وكذلك من فعله إذ هو تطويل يسير للإعتدال ودعاء الله فى هذا الأذان فإذا كان كل واحد من مؤذنى رسول الله قد أمره النبى
____________________
(22/370)
بأحد النوعين صار ذلك مثل تعليمه القرآن لعمر بحرف ولهشام بن حكيم بحرف آخر وكلاهما قرآن أذن الله أن يقرأ به
وكذلك الترجيع فى الأذان هو ثابت فى اذان أبى محذورة وهو محذوف من أذان بلال الذى رووه فى السنن وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة بها صح الجهر بها عن طائفة من الصحابة وصحت المخافتة بها عن أكثرهم وعن بعضهم الأمران جميعا
وأما المأثور عن النبى فالذى فى الصحاح والسنن يقتضى أنه لم يكن يجهر بها كما عليه عمل أكثر الصحابة وأمته ففى الصحيح حديث أنس وعائشة وأبى هريرة يدل على ذلك دلالة بينة لا شبهة فيها وفى السنن أحاديث أخر مثل حديث إبن مغفل وغيره وليس فى الصحاح والسنن حديث فيه ذكر جهره بها والأحاديث المصرحة بالجهر عنه كلها ضعيفة عند أهل العلم بالحديث ولهذا لم يخرجوا فى أمهات الدواوين منها شيئا ولكن فى الصحاح والسنن أحاديث محتملة
وقد روى الطبرانى بإسناد حسن عن إبن عباس أن النبى كان يجهر بها إذ كان بمكة وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات ورواه أبوداود فى الناسخ والمنسوخ وهذا
____________________
(22/371)
يناسب الواقع فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها وأما أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون بها وكذلك أكثر البصريين وبعضهم كان يجهر بها ولهذا سألوا أنسا عن ذلك ولعل النبى كان يجهر بها بعض الأحيان أو جهرا خفيفا إذا كان ذلك محفوظا وإذا كان فى نفس كتب الحديث أنه فعل هذا مرة وهذا مرة زالت الشبهة
وأما القنوت فأمره بين لا شبهة فيه عند التأمل التام فإنه قد ثبت فى الصحاح عن النبى ( أنه قنت فى الفجر مرة يدعو على رعل وذكوان وعصية ( ثم تركه ولم يكن تركه نسخا له لأنه ثبت عنه فى الصحاح أنه قنت بعد ذلك يدعو للمسلمين مثل الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين ويدعو على مضر وثبت عنه انه قنت أيضا فى المغرب والعشاء وسائر الصلوات قنوت إستنصار
فهذا فى الجملة منقول ثابت عنه لكن إعتقد بعض العلماء من الكوفيين أنه تركه ترك نسخ فإعتقد أن القنوت منسوخ وإعتقد بعضهم من المكيين أنه ما زال يقنت فى الفجر القنوت المتنازع فيه حتى فارق الدنيا والذى عليه أهل المعرفة بالحديث أنه قنت لسبب وتركه لزوال السبب
____________________
(22/372)
فالقنوت من السنن العوارض لا الرواتب لأنه ثبت أنه تركه لما زال العارض ثم عاد إليه مرة أخرى ثم تركه لما زال العارض وثبت فى الصحاح أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا هكذا ثبت عن أنس وغيره ولم ينقل أحد قط عنه أنه قنت القنوت المتنازع فيه لا قبل الركوع ولا بعده ولا فى كتب الصحاح والسنن شيء من ذلك بل قد أنكر ذلك الصحابة كإبن عمر وابى مالك الأشجعى وغيرهما
ومن المعلوم قطعا أن الرسول لو كان كل يوم يقنت قنوتا يجهر به لكان له فيه دعاء ينقله بعض الصحابة فإنهم نقلوا ما كان يقوله فى القنوت العارض وقنوت الوتر فالقنوت الراتب أولى أن ينقل دعاؤه فيه فإذا كان الذى نستحبه إنما يدعو فيه لقنوت الوتر علم أنه ليس فيه شيء عن النبى وهذا مما يعلم باليقين القطعى كما يعلم عدم النص على هذا وامثاله فإنه من الممتنع أن يكون الصحابة كلهم أهملوا نقل ذلك فإنه مما يعلم بطلانه قطعا
وكذلك المأثور عن الصحابة مثل عمر وعلي وغيرهما هو القنوت العارض قنوت النوازل ودعاء عمر فيه وهو قوله ( اللهم عذب كفرة اهل الكتاب إلخ ( يقتضى أنه دعا به عند قتله للنصارى وكذلك دعاء على عند قتاله لبعض أهل القبلة والحديث الذى فيه عن
____________________
(22/373)
أنس ( أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ( مع ضعف فى إسناده وأنه ليس فى السنن إنما فيه القنوت قبل الركوع
وفى الصحاح عن انس انه قال ( لم يقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهرا ( والقنوت قبل الركوع هو القيام الطويل إذ لفظ القنوت معناه دوام الطاعة فتارة يكون فى السجود وتارة يكون فى القيام كما قد بيناه فى غير هذا الموضع
وأما حجة الوداع وإن إشتبهت على كثير من الناس فإنما أتوا من جهة الألفاظ المشتركة حيث سمعوا بعض الصحابة يقول أنه تمتع بالعمرة إلى الحج وهؤلاء أيضا يقولون أنه أفرد الحج ويقول بعضهم أنه قرن العمرة إلى الحج ولا خلاف فى ذلك فإنهم لم يختلفوا أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه وأنه كان قد ساق الهدى ونحره يوم النحر وأنه لم يعتمر بعد الحجة فى ذلك العام لا هو ولا أحد من أصحابه إلا عائشة أمر أخاها ان يعمرها من التنعيم أدنى الحل وكذلك الأحاديث الصحيحة عنه فيها انه لم يطف بالصفا والمروة إلا مرة واحدة مع طوافه الأول
فالذين نقلوا أنه أفرد الحج صدقوا لأنه أفرد أعمال الحج لم يقرن
____________________
(22/374)
بها عمل العمرة كما يتوهم من يقول أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين ولم يتمتع تمتعا حل به من إحرامه كما يفعله المتمتع الذى لم يسق الهدى بل قد أمر جميع اصحابه الذين لم يسوقوا الهدى أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة ويهلوا بالحج بعد قضاء عمرتهم
____________________
(22/375)
وقال الشيخ رحمه الله (
( فصل (
(
أنواع الإستفتاح للصلاة ثلاثة (
وهي أنواع الأذكار مطلقا بعد القرآن أعلاها ما كان ثناء على الله ويليه ما كان خبرا من العبد عن عبادة الله والثالث ما كان دعاء للعبد
فإن الكلام إما إخبار وإما إنشاء وأفضل الإخبار ما كان خبرا عن الله والإخبار عن الله أفضل من الخبر عن غيره ومن الإنشاءات ولهذا كانت { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن لأنها تتضمن الخبر عن الله وكانت آية الكرسى أفضل آية فى القرآن لأنها خبر عن الله فما كان من الذكر من جنس هذه السورة وهذه الآية فهو أفضل الأنواع والسؤال للرب هو بعد الذكر المحض كما فى حديث مالك بن الحويرث ( من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين (
ولهذا كانت الفاتحة نصفين نصفا ثناء ونصفا دعاء والنصف
____________________
(22/376)
الثانى هو المقدم وهو الذى لله عز وجل وكذلك فى حديث الشفاعة الصحيح قال ( فإذا رأيت ربى خررت له ساجدا فأحمد ربى بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن فيقول أى محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه وإشفع تشفع ( فبدأ بالحمد لله حتى أذن له فى السؤال فسأل
وفى صحيح البخارى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر اللهم إغفر لى فإن دعا إستجيب دعاؤه وإن توضأ وصلى قبلت صلاته ( وقال ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ( ولهذا كان التشهد ثناء على الله عز وجل وقال فى آخره ثم ليتخير من المسألة ما شاء
والأدعية الشرعية هي بعد التشهد لم يشرع الدعاء فى القعود قبل التشهد بل قدم الثناء على الدعاء وفى حديث الذى دعا قبل الثناء قال النبى صلى الله عليه وسلم ( عجل هذا ( فروى الإمام أحمد ( والترمذى وأبو داود عن فضالة بن عبيد قال ( سمع رسول الله رجلا يدعو فى صلاته لم يحمد الله ولم يصل على
____________________
(22/377)
النبى فقال رسول الله عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلى على النبى ثم يدعو بعد ذلك بما شاء (
والذكر المشروع بإتفاق المسلمين فى الركوع والسجود والإعتدال وأما الدعاء فى الفرض ففى كراهيته نزاع وإن كان الصحيح أنه لا يكره ولكن الذكر أفضل فإن الذكر مأمور به فيهما بقوله تعالى { فسبح باسم ربك العظيم } و { سبح اسم ربك الأعلى } قال النبى صلى الله عليه وسلم ( إجعلوها فى ركوعكم ( والثانية ( إجعلوها فى سجودكم (
فأما قوله ( أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فإجتهدوا فى الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ( ففيه الأمر فى الركوع بالتعظيم وأمره بالدعاء فى السجود بيان منه أن الدعاء فى السجود أحق بالإجابة من الركوع ولهذا قال فقمن أن يستجاب لكم كما قال ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ( فهو أمر بأن يكون الدعاء فى السجود
أمر بالصفة لا بالموصوف أو أمر بالصفة والموصوف وإن كان التسبيح أفضل فإنه ليس من شرط المأمور أن لا يكون غيره أفضل
____________________
(22/378)
منه لأن الدعاء هو بحسب مطلوب العبد لم يذكر دعاءا معينا أمر به كما أمر بالفاتحة بقوله { اهدنا الصراط المستقيم } والدعاء الواجب لا يكون إلا معينا وإن كان جنس الدعاء واجبا فمعلوم أن الدعاء جائز فى نفس الصلاة وخارج الصلاة واكثر الأدعية المنقولة عن النبى كانت فى آخر الصلاة كما فى الحديث المروى عنه انه ذكر ( أن أجوب الدعاء جوف الليل الآخر ( و ( دبر الصلاة (
فعلم أن الدعاء دبر الصلاة لا سيما قبل السلام كما كان النبى يدعو فى الغالب فهو أجوب سائر أحوال الصلاة لأنه دعاء بعد إكمال العبادة
وأما السجود فإنما ذكره والركوع لأنه قال ( أنى نهيت أن اقرأ القرآن راكعا أو ساجدا أما الركوع فعظموا فيه الرب واما السجود فإجتهدوا فى الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ( فلما نهى عن القراءة فى هذين الحالين ذكر ما يكون بدلا مشروعا لمن اراد فخص الركوع بالتعظيم والسجود بالدعاء فجمع الأقسام الثلاثة القراءة والذكر والدعاء
ومما يبين فضل الذكر على المسألة ما ثبت فى صحيح مسلم
____________________
(22/379)
عن النبى أنه قال ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ( ولهذا أمر بالذكر من عجز عن القراءة فى الصلاة لأن الإعتدال مشروع فيه التحميد بالسنة المتواترة وإجماع المسلمين وهو الذى كان النبى صلى الله عليه وسلم يفعله فى كل صلاة وكان أحيانا يدعو بعد التحميد بقوله ( اللهم باعد بينى وبين خطاياى ( فأخر السؤال عن الحمد والثناء والمجد وأمر أيضا بالحمد بقوله ( فإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد ( وما داوم عليه وقدمه وأمر به أفضل مما كان يفعله أحيانا ويؤخره ولم يأمر به
وأيضا فنوع الثناء إضافة الرب إلى نفسه ونوع السؤال إضافة إلى عبده فقال ( إذا قال العبد ( الحمد لله رب العالمين ( قال الله حمدنى عبدى فإذا قال ( الرحمن الرحيم ( قال اثنى على عبدي وإذا قال ( مالك يوم الدين ( قال الله مجدنى عبدى فإذا قال ( إياك نعبد وإياك نستعين ( قال هذه الآية بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل فإذا قال ( إهدنا الصراط المستقيم ( إلى آخر السورة قال هؤلاء لعبدى ولعبدى ما سأل (
وأيضا فجماهير العلماء على إيجاب الثناء فيوجبون التشهد الأخير وكذلك التشهد الأول يجب مع الذكر عند مالك وأحمد فإذا تركه
____________________
(22/380)
عمدا بطلت صلاته وتسبيح الركوع والسجود كذلك ايضا عند أحمد وغيره وكذلك التكبير تكبير الإنتقال فمذهب مالك من ترك من ذلك ثلاثا عمدا أعاد الصلاة ومذهب احمد مشهور عنه مطلقا وما يذكره اصحاب أحمد فى مسائل الخلاف إن إيجاب هذه الأذكار من مفردات أحمد عن الثلاثة فذلك لأن أصحاب مالك يسمون هذه سننا والسنة عندهم قد تكون واجبة إذا تركها أعاد وهذه من ذلك فيظن من يظن أن السنة عندهم لا تكون إلا لما يجوز تركه وليس كذلك
وأما الدعاء فلم يجب منه دعاء مفرد أصلا بل ما وجب من الفاتحة وجب بعد الثناء وكذلك من أوجب أن يدعو بعد التشهد بالدعاء المأمور به هناك وهو الإستعاذة من عذاب جهنم والقبر وفتنة المحيا والممات والدجال فإنما أوجبه بعد التشهد الذى هو ثناء وهو قول طاووس ووجه فى مذهب أحمد
وأيضا فالدعاء لم يشرع مجردا لم يشرع إلا مع الثناء وأما الثناء فقد شرع مجردا بلا كراهة فلو إقتصر فى الإعتدال على الثناء وفى الركوع والسجود على التسبيح كان مشروعا بلا كراهة ولو إقتصر فى ذلك على الدعاء لم يكن مشروعا وفى بطلان الصلاة نزاع و (
أيضا ( فالثناء يتضمن مقصود الدعاء كما فى الحديث ( أفضل
____________________
(22/381)
الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ( فإن ثناء الداعى على المدعو بما يتضمن حصول مطلوبة قد يكون أبلغ من ذكر المطلوب كما قيل ** إذا أثنى عليك المرء يوما ** كفاه من تعرضه الثناء ** ولهذا يقول فى الدعاء المأثور ( أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السماوات والأرض ( فسأله بأن له الحمد فعلم بأن الإعتراف بكونه مستحقا للحمد هو سبب فى حصول المطلوب
وهذا كقول أيوب عليه السلام ( مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين ( فقوله ( هذا احسن من قوله ( إرحمنى وفى دعاء ليلة القدر الذى روته عائشة ( اللهم أنك عفو تحب العفو فإعف عنى (
وفى الصحيحين عن إبن عباس ( أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله الحليم العظيم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض رب العرش الكريم (
ومما يبين فضل الثناء على الدعاء أن الثناء المشروع يستلزم الإيمان بالله وأما الدعاء فقد لا يستلزمه إذ الكفار يسألون الله
____________________
(22/382)
فيعطيهم كما أخبر الله بذلك فى القرآن فى غير موضع فإن سؤال الرزق والعافية ونحو ذلك من الأدعية المشروعة هو مما يدعو به المؤمن والكافر بخلاف الثناء كقوله ( سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ( والتحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته ( فإن هذا لا يثنى به إلا المؤمن وكذلك قوله ( اللهم ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعده ( لكن قد يكون بعض الثناء يقر به الكفار كإقرارهم بأن الله خالق السماوات والأرض وأنه يجيب المضطر إذا دعاه ونحو ذلك
لكن المشركون لم يكن لهم ثناء مشروع يثنون به على الله حتى في تلبيتهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ( تملكه وما ملك وكذلك النصارى ثناؤهم فيه الشرك وأما اليهود فليس فى عبادتهم ثناء اللهم إلا ما يكون مأثورا عن الأنبياء وذلك من ثناء أهل الإيمان وكذلك النصارى إن كان عندهم شيء من ذلك وأما ما شرعه من ثنائه فهو يتضمن الإيمان والأدلة الدالة على فضل جنس الثناء على جنس الدعاء كثيرة مثل أمره أن يقال عند سماع المؤذن مثل ما يقول ثم يصلى على النبى ثم يسأل له الوسيلة ثم يسأل العبد بعد ذلك فقدم الثناء على
____________________
(22/383)
الدعاء وهكذا بعد التشهد فإنه قدم فيه الثناء على الله ثم الدعاء لرسوله ثم للإنسان وكذلك هنا مع أنى لا أعلم فى هذا نزاعا بين العلماء ولكن المفضول قد يكون أحيانا افضل فإن الصلاة أفضل من قراءة القرآن والقرآن أفضل من الذكر والذكر أفضل من الدعاء والمفضول قد يعرض له حال يكون فيه أفضل لأسباب متعددة إما مطلقا كفضيلة القراءة وقت النهى على الصلاة وإما لحال مخصوص وهذا مبسوط فى موضع آخر
والمقصود هنا أن جنس الثناء أفضل من السؤال كما قال تعالى ( من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) وقراءة القرآن أفضل منهما كما فى حديث الترمذى عن ابى سعيد عن النبى أنه قال ( يقول الله عز وجل ( من شغله قراءة القرآن عن ذكرى ومسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ( قال الترمذى حسن غريب
وهذا بين فى الإعتبار لأن السائل غاية مقصوده حصول مطلوبه ومراده فهو مريد من الله وإن كان مطلوبه محبوبا لله مثل أن يطلب منه إعانته على ذكره وشكره وحسن عبادته فهو يريد منه هذا الأمر المحبوب لله
____________________
(22/384)
وأما المثنى فهو ذاكر لنفس محبوب الحق من أسمائه وصفاته فالمطلوب بهذا معرفة الله ومحبته وعبادته وهذا مطلوب لنفسه لا لغيره وهو الغاية التى خلق لها الخلق كما قال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } والسؤال وسيلة إلى هذا ولهذا قال فى الفاتحة { إياك نعبد وإياك نستعين } فقدم قوله { إياك نعبد } لأنه المقصود لنفسه على قوله { وإياك نستعين } لأنه وسيلة إلى ذلك والمقاصد مقدمة فى القصد والقول على الوسائل ثم مقصود السائل من الدعاء يحصل لهذا العابد المثنى مع إشتغاله بأشرف القسمين
وأما الداعى فإذا كان مهتما بما هو محتاج إليه من جلب منفعة ودفع مضرة كحاجته إلى الرزق والنصر الضرورى كان إشتغاله بهذا نفسه صارفا له عن غيره فإذا دعا الله سبحانه فقد يحصل له بالدعاء من معرفة الله ومحبته والثناء عليه والعبودية له والإفتقار إليه ما هو أفضل وأنفع من مطلوبه ذلك كما قال بعض السلف يا إبن آدم لقد بورك لك فى حاجة كثرت فيها قرع باب سيدك وقال بعضهم أنه ليكون لى إلى الله حاجة فإدعوه فيفتح لى من باب معرفته ما أحب معه أن لا يعجل لى قضاءها لئلا ينصرف قلبى عن الدعاء
والسائل إذا حصل سؤاله برد فإنه لم يكن مراده إلا سؤاله وإذا حصل إعرض عن الله فهذا حال الكفار الذين ذمهم الله فى القرآن كقوله { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه }
____________________
(22/385)
وقال تعالى { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون } وقال تعالى { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار }
فقوله سبحانه { نسي ما كان يدعو إليه من قبل } أى نسى ما كان يدعوالله إليه وهو الحاجة التى طلبها فإن دعاءه كان إليها أى توجهه إليها وقصده فهي الغاية التى كان يقصدها وإذا كانت ما مصدرية كان تقديره نسى كونه يدعو الله إلى حاجته كما قال تعالى فى الآية الآخرى { فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } لكن على هذا يبقى الضمير فى إليه عائدا على غير مذكور بخلاف ما إذا جعلت بمعنى الذى فان التقدير نسي حاجته الذي دعاني إليها من قبل فنسي دعاءه الله الذي كان سبب الحاجة وإلى حرف الغاية كما قال تعالى فى الآية الأخرى { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون } فقد
____________________
(22/386)
أخبر تعالى أنه يكشف ما يدعون إليه وهى الشدة التى دعوا إليها
وأما المؤمن فلابد بعد قضاء حاجته من عبادة الله وإخلاصه له كما أمره إما قياما بالواجب فقط فيكون من الأبرار أو بالواجب والمستحب فيكون من المقربين ومن ترك بعض ما أمر به بعد قضاء حاجته فهو من أهل الذنوب وقد يكون ذلك من الشرك الأصغر الذى يبتلى به غالب الخلق إما شركا فى الربوبية وإما شركا فى الألوهية كما هو مبسوط فى موضعه
وقد يبتلى فى أماكن الجهل وزمانه كثير من الناس بما هو من الشرك الأكبر وهم لا يعلمون فالسائل مقصوده سؤاله وإن حصل له ما هو محبوب الرب من إنابته إليه ومحبته وتوبته فهذا بالعرض وقد يدوم والأغلب أنه لا يدوم إلا أن يكون ذلك المحبوب للرب هو سؤاله مثل أن يسأل الله التوبة والإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته فهنا مطلوبه محبوب للرب ولهذا ذم الله من لم يطلب إلا الدنيا فى قوله { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق }
وأما المثنى فنفس ثنائه محبوب للرب وحصول مقصود السائل يحصل ضمنا وتبعا فهذا أرفع لكن هذا إنما يتم لمن يخلص إيمانه
____________________
(22/387)
فصار يحب الله ويحب حمده وثناءه وذكره وذلك أحب إلى قلبه من مطالب السائلين رزقا ونصرا
وأما من كان إهتمامه بهذا أكثر فهذا يكون إنتفاعه بالدعاء أكثر وإن كان جنس الثناء أفضل كما أن قراءة القرآن أفضل من الذكر والدعاء وقد يكون بعض الناس لنقص حاله إنتفاعه بالذكر والدعاء أكمل فهو خير له بحسب حاله لا أفضل فى نفس الأمر
والمقصود هنا بيان ما شرعه الله لعباده مطلقا عاما ولهذا ما كان من أذكار الصلاة من جنس الدعاء لم يجب عند عامة العلماء
وأما الثناء كدعاء الإستفتاح وغيره فإختلفوا فى وجوبه فذهب طائفة من أصحاب أحمد إلى وجوب الذكر الذى هو ثناء كالإستفتاح وهو إختيار إبن بطة وغيره وذكر هذا رواية عن أحمد كما وجب فى المشهور عنه التسبيح فى الركوع والسجود والتسميع والتحميد وتكبيرة الإنتقال فهذان نوعان ظهر فضل أحدهما على الآخر
وأما النوع المتوسط بينهما فهو إخبار الإنسان بعبادة الله تعالى كقوله { وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } وقوله { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } وقوله ( لك سجدت ولك عبدت وبك آمنت وبك أسلمت ) ونحو ذلك فهذا
____________________
(22/388)
أفضل من الدعاء ودون الثناء فإنه إنشاء وإخبار بما يحبه الله ويأمر به العبد فمقصوده محبوب الحق فهو أفضل مما مقصوده مطلوب العبد لكن جنس الثناء أفضل منه كما روى مسلم فى صحيحه عن النبى أنه قال ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ( فجعل هذا الكلام الذى هو ذكر الله أفضل من جميع الكلام بعد القرآن وكذلك قال للرجل الذى قال لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمنى ما يجزينى فعله ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فجعل ذلك بدلا عن القرآن
فصل
وسورة { قل هو الله أحد } أفضل من { قل يا أيها الكافرون } وتلك أمر بأن يقال ما هو صفة الرب وهذه أمر بأن يقال ما هو إنشاء خبر عن توحيد العبد وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقدم ذلك الصنف
كقوله فى الحديث الصحيح ( اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن أنت الحق وقولك الحق ووعدك حق والجنة حق والنار حق
____________________
(22/389)
والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فإغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهى لا إله إلا أنت )
فهذا الذكر تضمن الأنواع الثلاثة فقدم ما هو خبر عن الله واليوم الآخر ورسوله ثم ذكر ما هو خبر عن توحيد العبد وإيمانه ثم ختم بالسؤال وهذا لأن خبر الإنسان عن نفسه سلوك يشهد فيه نفسه وتحقيق عبادة الله عز وجل وأما الثناء المحض فهو لا يشهد فيه إلا الله عز وجل بأسمائه وصفاته وما جرد فيه ذكر الله تعالى أفضل مما جرد فيه الخلق أيضا ولهذا فضلت سورة { قل هو الله أحد } وجعلت تعدل ثلث القرآن لأنها صفة الرحمن وذكره محضا لم تشب بذكر غيره لكن فى إبتداء السلوك لابد من ذكر الإنشاء ولهذا كان مبتدأ الدخول فى الإسلام أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بخلاف حال العبادة المحضة فإنه يقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
فإن الشهادة بها يصير مسلما وهو الأصل والأساس ولهذا جعلت ركنا فى الخطب فى خطب الصلاة وهى التشهد يختم القرآن بقوله ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وفى الخطب خارج الصلاة كخطبة
____________________
(22/390)
الحاجة خطبة إبن مسعود والخطب المشروعة خطبة الجمعة وغيرها
وفى السنن عن النبى أنه قال ( كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء (
والذين أوجبوا ذكر النبى فى الخطبة كأصحاب الشافعى وأحمد قال كثير منهم يجب مع الحمد الصلاة عليه وقال بعضهم يجب ذكره إما بالصلاة وإما بالتشهد وهو إختيار جدى أبى البركات
والصواب أن ذكره بالتشهد هو الواجب لدلالة هذا الحديث ولأن الشهادة إيمان به والصلاة عليه دعاء له وأين هذا من هذا والتشهد فى الصلاة لابد فيه من الشهادة له فى الأول والآخر وإما الصلاة عليه فشرعت مع الدعاء
وأما التشهد فهو مشروع فى الخطب والثناء فتشهد الصلاة ثناء على الحق شرع فيه التشهد والخطبة خطاب مع الناس شرع فيها التشهد والأذان ذكر الله يقصد به الإعلام بوقت العبادة وفعلها فشرع فيه التشهد وإما الصلاة عليه فإنما جاءت الآثار بأنها تكون مع الدعاء كحديث الذى قال فيه ( عجل هذا ( وأمثاله فإن الصلاة
____________________
(22/391)
عليه من جنس الدعاء وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيكون الدعاء له مقدما على الدعاء لغيره كما قدم السلام عليه فى التشهد على السلام على غيره حتى على المصلى نفسه فهذا مما يبين كمال أسرار الدين فقدم فى الخطب الحمد على التشهد كما قدم فى الفاتحة الحمد على التوحيد بقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } فإن فى سنن أبى داود وغيره عن النبى أنه قال ( كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم ( فالحمد لله له الإبتداء
ولهذا كانت خطب النبى يفتتحها بالحمد لله وكذلك الصلاة إنما تفتتح بالحمد فتفتتح بسورة الحمد عند المسلمين كلهم إذ هي السنة المتواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم وتفتتح بالجهر بكلمة ( الحمد ( عند المسلمين جمهورهم
وإذا كانت البسملة مقصودة عند جمهورهم فهي وسيلة إذ قول القارئ بسم الله معناه بسم الله أقرأ أو أنا قارئ ولهذا شرعت التسمية فى إفتتاح الأعمال كلها فيسمى الله عند الأكل والشرب ودخول المنزل والخروج منه ودخول المسجد والخروج منه وغير ذلك من الأفعال وهى عند الذبح من شعائر التوحيد فالصلاة والقراءة عمل من الأعمال فإفتتحت بالتسمية
____________________
(22/392)
ولهذا إنما أنزلها الله فى أول كل سورة وهى من القرآن حيث كتبت كما كتبها الصحابة لكنها آية مفردة فى أول السورة وليست من السورة وهذا القول أعدل الأقوال الثلاثة التى للعلماء فيها فلما كانت تابعة ووسيلة والحمد مقصود لنفسه والتسمية لأجله جهر بالمقصود وأعلن وأخفى الوسيلة كما هو قول جمهور العلماء وعليه تدل الأحاديث الصحيحة ألا ترى أنه بإتفاق المسلمين وهى السنة المتواترة عن النبى لا يجهر بها فى الخطب بل يفتتح الخطبة بالحمد وإن لم تكن الخطبة قرآنا
ولهذا لم يذكرها النبى فى الحديث الصحيح حديث قسمة الصلاة بين العبد والرب وخطبة الجمعة تفتتح بالحمد بالسنة المتواترة وإتفاق العلماء وأما خطبة الإستسقاء ففيها ثلاثة أقوال فى مذهب أحمد وغيره
أحدها ( أنها تفتتح بالحمد لله كالجمعة ( و ( الثانى ( بالتكبير كالعيد
والثالث بالإستغفار لأنه أخص بالإستسقاء وخطبة العيد قد ذكر عبد الله بن عقبة أنها تفتتح بالتكبير وأخذ بذلك من أخذ
____________________
(22/393)
به من الفقهاء لكن لم ينقل أحد عن النبى أنه إفتتح خطبته بغير الحمد لا خطبة عيد ولا إستسقاء ولا غير ذلك وقد قال ( كل امر ذى بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم (
وقد كان يخطب خطب الحج وغير خطب الحج خطبا عارضة ولم ينقل أحد عنه أنه إفتتح خطبة بغير الحمد فالذى لا بد منه فى الخطبة الحمد لله والتشهد والحمد يتبعه التسبيح والتشهد يتبعه التكبير وهذه هي ( الباقيات الصالحات ( وقال تعالى { فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين }
( فصل (
إذا تبين هذا الأصل فأفضل أنواع الإستفتاح ما كان ثناء محضا مثل ( سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ( وقوله الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ( ولكن ذاك فيه من الثناء ما ليس فى هذا فإنه تضمن ذكر ( الباقيات الصالحات ( التى هي أفضل الكلام بعد القرآن وتضمن قوله ( تبارك إسمك وتعالى جدك ( وهما من القرآن أيضا ولهذا كان أكثر السلف يستفتحون به وكان عمر بن الخطاب يجهر به ويعلمه الناس
____________________
(22/394)
وبعده النوع الثانى وهو الخبر عن عبادة العبد كقوله ( وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض إلخ ( وهو يتضمن الدعاء وإن إستفتح العبد بهذا بعد ذلك فقد جمع بين الأنواع الثلاثة وهو أفضل الإستفتاحات كما جاء ذلك فى حديث مصرحا به وهو إختيار أبى يوسف وإبن هبيرة الوزير من أصحاب أحمد صاحب ( الإفصاح ( وهكذا أستفتح أنا
وبعده النوع الثالث كقوله ( اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب إلخ ( وهكذا ذكر الركوع والسجود والتسبيح فيهما أفضل من قوله ( لك ركعت ولك سجدت ( وهذا أفضل من الدعاء والترتيب هنا متفق عليه فيما اعلم فإنى لم أعلم أحدا قال إن الدعاء فيهما أفضل من التسبيح كما قيل مثل ذلك فى الإستفتاح
فإن قلت هذا الترتيب عكس الأسانيد فإنه ليس فى الصحيحين حديث عن النبى فى إستفتاح الفريضة إلا هذا الدعاء ( اللهم باعد بينى وبين خطاياى ( وقوله ( وجهت وجهى ( فى صحيح مسلم وحديث ( سبحانك اللهم ( فى السنن وقد تكلم فيه وقد روى أن هذا كان فى قيام الليل وكذلك قوله ( وجهت وجهى
____________________
(22/395)
قلت كون هذا مما بلغنا من طريق أصح من هذا فهذا ليس فى صفة الذكر نفسه فضيلة توجب فضله على الآخر لكنه طريق لعلمنا به والفضيلة كانت ثابتة عن النبى وفى زمنه قبل أن يبلغنا الأمر
وقد ثبت فى الصحيح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يجهر بسبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك يعلمه الناس فلولا أن هذا من السنن المشروعة لم يفعل هذا عمر ويقره المسلمون عليه
وحديث أبى هريرة دليل على أن الإستفتاح لا يختص بسبحانك اللهم ووجهت وجهى وغيرهما بل يستفتح بكل ما روى لكن فضل بعض الأنواع على بعض يكون بدليل آخر كما قدمنا
وأيضا فإن قوله ( سبحانك اللهم إلخ ( يتضمن الباقيات الصالحات التى هي أفضل الكلام بعد القرآن كما فى صحيح مسلم عن النبى أنه قال ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر (
وايضا ففى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل
____________________
(22/396)
أى الكلام أفضل قال ( ما إصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده ( فهذه الكلمة هي أول ما فى الإستفتاح وهى أفضل الكلام
وأيضا فالله قد أمر بالتسبيح بحمده وعبر بذلك عن الصلاة بقوله ( فسبح بحمد ربك حين تقوم ( فكان إبتداء الإمتثال بهذا الذكر أولى وقد قال طائفة من المفسرين كالضحاك فى تفسير هذه الآية هو قول المصلى سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وقد بسطت الكلام على معنى هذه الكلمة فى غير هذا الموضع وبينت أنها تشتمل على التنزيه والتحميد والتعظيم بصفات البقاء والإثبات وأفعاله كلها سبحانه وبحمده
( فصل (
التكبير مشروع فى الأماكن العالية وحال إرتفاع العبد وحيث يقصد الإعلان كالتكبير فى الأذان والتكبير فى الأعياد والتكبير إذا علا شرفا والتكبير إذا رقى الصفا والمروة والتكبير إذا ركب الدابة والتسبيح فى الأماكن المنخفضة وحيث ما نزل العبد كما فى السنن عن جابر قال ( كنا مع النبى إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك
____________________
(22/397)
والحمد مفتاح كل أمر ذى بال من مناجاة الرب ومخاطبة العباد بعضهم بعضا والشهادة مقرونة بالحمد وبالتكبير فهي فى الأذان وفى الخطب خاتمة الثناء فتذكر بعد التكبير ثم يخاطب الناس بقول المؤذن حى على الصلاة حى على الفلاح وتذكر فى الخطب ثم يخاطب الناس بقول إما بعد وتذكر فى التشهد ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فالحمد والتوحيد مقدم فى خطاب الخلق للخالق والحمد له الإبتداء
فإن الله لما خلق آدم عليه السلام أول ما أنطقه بالحمد فإنه عطس وقال الحمد لله رب العالمين فقال الله يرحمك ربك وكان أول ما نطق به الحمد وأول ما سمع من الله الرحمة وبه إفتتح الله أم القرآن والتشهد هو الخاتمة فأول الفاتحة ( الحمد لله ( وآخر ما للرب ( إياك نعبد (
وكذلك التشهد والخطب فيها التشهد بعد الفاتحة فإن يتضمن إلهيه الرب وهو أن يكون الرب هو المعبود هذا هو الغاية التى ينتهى إليها اعمال العباد و ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( لكن قدم الحمد لأن الحمد يكون من الله ويكون من الخلق وهو باق فى الجنة ف ( آخر دعواهم إن الحمد لله رب العالمين ( بخلاف العبادة فإن العبادة إنما تكون فى الدنيا بالسجود ونحوه وتوحيده وذكره باق فى الجنة يلهمه أهل الجنة كما يلهمهم النفس
____________________
(22/398)
وهذه الأذكار هي من جنس الأقوال ليست من العبادات العملية كالسجود والقيام والإحرام والرب تعالى يحمد نفسه ولا يعبد نفسه فالحمد أوسع العلوم الإلهية والحمد يفتح به ويختم به فالسنة لمن أكل وشرب أن يحمد الله وفى صحيح مسلم عن النبى أنه قال ( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها ( وقال تعالى { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } وقال تعالى { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } وقال { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }
فصل
وإنما فرض عليه من الدعاء الراتب الذى يتكرر بتكرر الصلوات بل الركعات فرضها ونفلها هو الدعاء الذى تتضمنه أم القرآن وهو قوله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } لأن كل عبد فهو مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ولا وصول إلى السعادة إلا به فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم أو من الضالين
____________________
(22/399)
وهذا الإهتداء لا يحصل إلا بهدى الله { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } وهذه الآية مما يبين به فساد مذهب القدرية الذين يزعمون أن العبد لا يفتقر فى حصول هذا الإهتداء بل كل عبد عندهم فمعه ما يحصل به الطاعة والمعصية لا فرق عندهم بين المؤمن والكافر ولم يخص الله المؤمن عندهم بهدى حصل به الإهتداء والكلام عليهم مبسوط فى موضع آخر
والمقصود هنا أن كل عبد فهو مفتقر دائما إلى حصول هذه الهداية وأما سؤال من يقول فقد هداهم إلى الإيمان فلا حاجة إلى الهدى وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهدى فكلام من لم يعرف حال الإنسان وما أمر به فإن الصراط المستقيم حقيقته أن تفعل كل وقت ما أمرت به فى ذلك الوقت من علم وعمل ولا تفعل ما نهيت عنه وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحذور وهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن يحصل للعبد فى وقت واحد بل كل وقت يحتاج أن يجعل الله فى قلبه من العلوم والإرادات ما يهدى به فى ذلك الوقت
نعم حصل له هدى مجمل بأن القرآن حق ودين الإسلام حق والرسول حق ونحو ذلك ولكن هذا الهدى المجمل لا يغنيه إن لم يحصل هدى مفصل فى كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التى يحار
____________________
(22/400)
فى كثير منها أكثر عقول الخلق ويغلب الهوى والشهوات أكثر الخلق لغلبة الشبهات والشهوات على النفوس
والإنسان خلق ظلوما جهولا فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل فى محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى عدل ينافى ظلمه فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم وقد قال الله تعالى لنبيه بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان { إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا } فأخبر أنه فعل هذا ليهديه صراطا مستقيما فإذا كان هذا حاله فكيف بحال غيره
{ الصراط المستقيم } ( قد فسر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية فكل هذا حق فهو موصوف بهذا وبغيره فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية فى سعادته ونجاته بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا إنقطع رزقه مات والموت لا بد منه فإن كان من أهل الهداية كان سعيدا بعد الموت وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية فيكون رحمة فى حقه
____________________
(22/401)
وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب حتى قتل فإذا كان من أهل الهداية والإستقامة مات شهيدا وكان القتل من تمام نعمة الله عليه فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر بل لا نسبة بينهما فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم
وأيضا
فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر لأنه إذا هدى الصراط المستقيم كان من المتقين ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ( وكان من المتوكلين ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره ( وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن ينصر الله ينصره الله وكان من جند الله وجند الله هم الغالبون فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر
فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب يحصل به كل منفعة ويندفع به كل مضرة فلهذا فرض على العبد وهذا مما يبين أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها أصلا وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع فإذا تعينت الأفعال فهذا أولى والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(22/402)
وسئل رحمه الله (
عن ( إستفتاح الصلاة ( هل هو واجب أو مستحب وما قول العلماء فى ذلك (
فأجاب (
الإستفتاح عقب التكبير مسنون عند جمهور الأئمة كأبى حنيفة والشافعى وأحمد كما ثبت ذلك فى الأحاديث الصحيحة مثل حديث ابى هريرة المتفق عليه فى الصحيحين قال ( قلت يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول قال أقول اللهم باعد بينى ( وذكر الدعاء فبين أن النبى كان يسكت بين التكبير والقراءة سكوتا يدعو فيه
وقد جاء فى صفته أنواع وغالبها فى قيام الليل فمن إستفتح بقوله ( سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ( فقد أحسن فإنه قد ثبت فى صحيح مسلم أن عمر كان يجهر فى الصلاة المكتوبة بذلك وقد روى ذلك فى السنن مرفوعا إلى النبى
____________________
(22/403)
ومن إستفتح بقوله ( وجهت وجهى ( إلخ فقد أحسن فإنه قد ثبت فى صحيح مسلم ان النبى كان يستفتح به وروى أن ذلك كان فى الفرض وروي أنه فى قيام الليل ومن جمع بينهما فإستفتح ب ( سبحانك اللهم وبحمدك ( إلى آخره ووجهت وجهى ( فقد أحسن وقد روى فى ذلك حديث مرفوع و (
الأول ( إختيار أبى حنيفة واحمد و ( الثانى ( إختيار الشافعى و ( الثالث ( إختيار طائفة من اصحاب أبى حنيفة ومن أصحاب أحمد وكل ذلك حسن بمنزلة أنواع التشهدات وبمنزلة القراءات السبع التى يقرأ الإنسان منها بما إختار
وأما كونه واجبا فمذهب الجمهور أنه مستحب وليس بواجب وهو قول أبى حنيفة والشافعى وهو المشهور عن أحمد وفى مذهبه قول آخر يذكره بعضهم رواية عنه أن الإستفتاح واجب والله أعلم
(
وسئل (
عن رجل يؤم الناس وبعد تكبيرة الإحرام يجهر بالتعوذ ثم يسمى ويقرأ ويفعل ذلك فى كل صلاة
____________________
(22/404)
فأجاب ( إذا فعل ذلك أحيانا للتعليم ونحوه فلا بأس بذلك كما كان عمر بن الخطاب يجهر بدعاء الإستفتاح مدة وكما كان إبن عمر وأبو هريرة يجهران بالإستعاذة احيانا وأما المداومة على الجهر بذلك فبدعة مخالفة لسنة رسول الله وخلفائه الراشدين فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائما بل لم ينقل أحد عن النبى أنه جهر بالإستعاذة والله أعلم
( وقال شيخ الإسلام رحمه الله (
( فصل (
فأما صفة الصلاة ومن شعائرها مسألة البسملة فإن الناس إضطربوا فيها نفيا وإثباتا فى كونها آية من القرآن وفى قراءتها وصنفت من الطرفين مصنفات يظهر فى بعض كلامها نوع جهل وظلم مع أن الخطب فيها يسير
وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها فمن شعائر الفرقة والإختلاف الذى نهينا عنها إذ الداعى لذلك هو ترجيح الشعائر المفترقة بين الأمة وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدا لولا ما يدعو
____________________
(22/405)
إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة
فأما كونها آية من القرآن فقالت طائفة كمالك ليست من القرآن إلا فى سورة النمل والتزموا أن الصحابة أودعوا المصحف ماليس من كلام الله على سبيل التبرك وحكى طائفة من أصحاب أحمد هذا رواية عنه وربما إعتقد بعضهم أنه مذهبه
وقالت طائفة منهم الشافعى ما كتبوها فى المصحف بقلم المصحف مع تجريدهم للمصحف عماليس من القرآن إلا وهى من السورة مع أدلة أخرى
وتوسط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققى أصحاب أبى حنيفة فقالوا كتابتها فى المصحف تقتضى أنها من القرآن للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن لكن لا يقتضى ذلك أنها من السورة بل تكون آية مفردة أنزلت فى أول كل سورة كما كتبها الصحابة سطرا مفصولا كما قال إبن عباس كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ( فعند هؤلاء هي آية من كتاب الله فى أول كل سورة كتبت فيه وليست من السور وهذا هو المنصوص عن أحمد فى غير موضع ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره وهو أوسط الأقوال وأعدلها
____________________
(22/406)
وكذلك الأمر فى تلاوتها فى الصلاة طائفة لا تقرؤها لا سرا ولا جهرا كمالك والأوزاعى
وطائفة تقرؤها جهرا كأصحاب إبن جريج والشافعى
والطائفة الثالثة المتوسطة جماهير فقهاء الحديث مع فقهاء أهل الرأى يقرءونها سرا كما نقل عن جماهير الصحابة مع أن أحمد يستعمل ما روى عن الصحابة فى هذا الباب فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة حتى أنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها فقال بعض أصحابه لأنهم كانوا ينكرون على من يجهر بها
ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف فى الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبى صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما فى إبقائه من تأليف القلوب وكما أنكر إبن مسعود على عثمان إتمام الصلاة فى السفر ثم صلى خلفه متما وقال الخلاف شر
وهذا وإن كان وجها حسنا فمقصود أحمد أن أهل المدينة كانوا لا يقرءونها فيجهر بها ليبين أن قراءتها سنة كما جهر إبن عباس بقراءة أم الكتاب على الجنازة وقال لتعلموا أنها سنة وكما جهر عمر
____________________
(22/407)
بالإستفتاح غير مرة وكما كان النبى يجهر بالآية أحيانا فى صلاة الظهر والعصر
ولهذا نقل عن اكثر من روى عنه الجهر بها من الصحابة المخافتة فكانهم جهروا لاظهار انهم يقرءونها كما جهر بعضهم بالاستعاذة ايضا والاعتدال فى كل شيء استعمال الاثار على وجهها فان كون النبى يجهر بها دائما واكثر الصحابة لم ينقلوا ذلك ولم يفعلوه ممتنع قطعا وقد ثبت عن غير واحد منهم نفيه عن النبى ولم يعارض ذلك خبر ثابت الا وهو محتمل وكون الجهر بها لا يشرع بحال مع انه قدثبت عن غير واحد من الصحابة نسبة للصحابة إلى فعل المكروه واقراره مع ان الجهر فى صلاة المخافتة يشرع لعارض كما تقدم
وكراهة قراءتها مع ما فى قراءتها من الآثار الثابتة عن الصحابة المرفوع بعضها إلى النبى وكون الصحابة كتبتها فى المصحف وانها كانت تنزل مع السورة فيه ما فيه مع انها اذا قرئت فى اول كتاب سليمان فقراءتها فى اول كتاب الله فى غاية المناسبة فمتابعة الاثار فيها الاعتدال والائتلاف والتوسط الذى هو افضل الامور
ثم مقدار الصلاة يختار فيه فقهاء الحديث صلاة النبى صلى الله عليه
____________________
(22/408)
وسلم التى كان يفعلها غالبا وهى الصلاة المعتدلة المتقاربة التى يخفف فيها القيام والقعود ويطيل فيها الركوع والسجود ويسوى بين الركوع والسجود وبين الاعتدال منهما كما ثبت ذلك عن النبى مع كون القراءة فى الفجر بما بين الستين إلى المائة وفى الظهر نحو الثلاثين اية وفى العصر والعشاء على النصف من ذلك مع انه قد يخفف عن هذه الصلاة لعارض كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ( انى لأدخل فى الصلاة وانا أريد ان اطيلها فأسمع بكاء الصبى فأخفف لما أعلم من وجد امه به )
كما أنه قد يطيلها على ذلك لعارض كما قرأ النبى ( ) فى المغرب بطولى الطوليين وهى الاعراف ويستحب اطالة الركعة الاولى من كل صلاة على الثانية ويستحب ان يمد فى الاوليين ويحذف فى الاخريين كما رواه سعد بن أبى وقاص عن النبى وعامة فقهاء الحديث على هذا
ومن الفقهاء من لا يستحب ان يمد الاعتدال عن الركوع والسجود ومنهم من يراه ركنا خفيفا بناءا على انه يشرع تابعا لاجل الفصل لا انه مقصود ومنهم من يسوى بين الركعتين الاوليين ومنهم من يستحب الا يزيد الامام فى تسبيح الركوع والسجود على ثلاث إلى اقوال اخر قالوها
____________________
(22/409)
وسئل عن حديث نعيم المجمر قال ( كنت وراء ابى هريرة فقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ثم قرأ بأم الكتاب حتى بلغ ( ولا الضالن ) قال آمين وقال الناس آمين ويقول كلما سجد الله اكبر فلما سلم قال والذى نفسى بيده انى لاشبهكم صلاة برسول الله ) وكان المعتمر بن سليمان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ويقول ما آلوا ان اقتدى بصلاة أبى وقال أبى ما آلوا ان اقتدى بصلاة أنس وقال أنس ما الوا ان اقتدى بصلاة النبى فهذا حديث ثابت فى الجهر بها ذكر الحاكم ابو عبد الله ان رواة هذا الحديث عن اخرهم ثقات فهل يحمل ما قاله أنس وهو صليت خلف رسول الله وابى بكر وعمر وعثمان فلم اسمع احدا منهم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم على عدم السماع وما التحقيق فى هذه المسألة والصواب
فأجاب الحمد لله رب العالمين اما حديث انس فى نفى الجهر فهو
____________________
(22/410)
صريح لايحتمل هذا التأويل فانه قد رواه مسلم فى صحيحه فقال فيه صليت خلف النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا فى آخرها وهذا النفى لا يجوز الا مع العلم بذلك لا يجوز بمجرد كونه لم يسمع مع امكان الجهر بلا سماع
واللفظ الآخر الذى فى صحيح مسلم صليت خلف النبى وابى بكر وعمر وعثمان فلم اسمع احدا منهم يجهر او قال يصلى ببسم الله الرحمن الرحيم فهذا نفى فيه السماع ولو لم يرو الا هذا اللفظ لم يجز تأويله بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ جهرا ولا يسمع انس لوجوه (
أحدها ) ان انسا انما روى هذا ليبين لهم ما كان النبى يفعله اذ لا غرض للناس فى معرفة كون أنس سمع او لم يسمع الا ليستدلوا بعدم سماعه على عدم المسموع فلو لم يكن ما ذكره دليلا على نفى ذلك لم يكن انس ليروى شيئا لا فائدة لهم فيه ولا كانوا يروون مثل هذا الذى لا يفيدهم (
الثانى ) ان مثل هذا اللفظ صار دالا فى العرف على عدم ما لم
____________________
(22/411)
يدرك فاذا قال ما سمعنا اوما راينا لما شانه ان يسمعه ويراه كان مقصوده بذلك نفى وجوده وذكر نفى الادراك دليل على ذلك ومعلوم انه دليل فيما جرت العادة بادراكه
وهذا يظهر ( بالوجه الثالث ) وهو ان انسا كان يخدم النبى من حين قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة إلى ان مات وكان يدخل على نسائه قبل احجاب ويصحبه حضرا وسفرا وكان حين حج النبى تحت ناقته يسيل عليه لعابها افيمكن مع هذا القرب الخاص والصحبة الطويلة ان لا يسمع النبى يجهر بها مع كونه يجهر بها هذا مما يعلم بالضرورة بطلانه فى العادة
ثم انه صحب ابا بكر وعمر وعثمان وتولى لابى بكر وعمر ولايات ولاكان يمكن مع طول مدتهم انهم كانوا يجهرون وهو لا يسمع ذلك فتبين ان هذا تحريف لا تاويل لو لم يرو الا هذا اللفظ فكيف والآخر صريح فى نفى الذكر بها وهو يفضل هذه الرواية الاخرى وكلا الروايتين ينفي تأويل من تأول قوله يفتتحون الصلاة ( بالحمد لله رب العالمين ) انه اراد السورة فان قوله يفتتحون ( بالحمد لله رب العالمين ) لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فى اول قراءة ولا فى فى آخرها صريح انه فى قصد الافتتاح بالاية لا بسورة الفاتحة التى
____________________
(22/412)
أولها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) اذ لو كان مقصوده ذلك لتناقض حديثاه
وأيضا فإن إفتتاح الصلاة بالفاتحة قبل السورة هو من العلم الظاهر العام الذى يعرفه الخاص والعام كما يعلمون إن الركوع قبل السجود وجميع الأئمة غير النبى وأبى بكر وعمر وعثمان يفعلون هذا ليس فى نقل مثل هذا فائدة ولا هذا مما يحتاج فيه إلى نقل أنس وهم قد سالوه عن ذلك وليس هذا مما يسأل عنه وجميع الأئمة من أمراء الأمصار والجيوش وخلفاء بنى أمية وبنى الزبير وغيرهم ممن أدركه أنس كانوا يفتتحون بالفاتحة ولم يشتبه هذا على أحد ولا شك فكيف يظن أن أنسا قصد تعريفهم بهذا وأنهم سألوه عنه وإنما مثل ذلك مثل أن يقال فكانوا يصلون الظهر أربعا والعصر أربعا والمغرب ثلاثا أو يقول فكانوا يجهرون فى العشاءين والفجر ويخافتون فى صلاتى الظهرين أو يقول فكانوا يجهرون فى الأوليين دون الأخيرتين
ومثل حديث أنس حديث عائشة الذى فى الصحيح أيضا ( أن النبى كان يفتتح الصلاة بالتكبير ( والقراءة بالحمد لله رب العالمين ( إلى آخره وقد روى ( يفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ( وهذا صريح فى إرادة
____________________
(22/413)
الآية لكن مع هذا ليس فى حديث أنس نفى لقراءتها سرا لأنه روى ( فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم ( وهذا إنما نفى هنا الجهر
وأما اللفظ الآخر ( لا يذكرون ( فهو إنما ينفى ما يمكنه العلم بإنتفائه وذلك موجود فى الجهر فإنه إذا لم يسمع مع القرب علم أنهم لم يجهروا
وأما كون الإمام لم يقرأها فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن له بين التكبير والقراءة سكتة يمكن فيها القراءة سرا ولهذا إستدل بحديث أنس على عدم القراءة من لم ير هناك سكوتا كمالك وغيره لكن قد ثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول قال ( أقول كذا وكذا ( إلى آخره وفى السنن من حديث عمران وأبى وغيرهما أنه كان يسكت قبل القراءة وفيها أنه كان يستعيذ وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسا أن ينفى قراءتها فى ذلك السكوت فيكون نفيه للذكر وإخباره بإفتتاح القراءة بها إنما هو فى الجهر وكما أن الإمساك عن الجهر مع الذكر سرا يسمى سكوتا كما فى حديث أبى هريرة فيصلح أن يقال لم يقرأها ولم يذكرها أى جهرا فإن لفظ السكوت ولفظ نفى الذكر والقراءة مدلولها هنا واحد
____________________
(22/414)
ويؤيد هذا حديث عبد الله بن مغفل الذى فى السنن أنه سمع إبنه يجهر بها فأنكر عليه وقال يا بنى إياك والحدث وذكر أنه صلى خلف النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يجهرون بها فهذا مطابق لحديث أنس وحديث عائشة اللذين فى الصحيح
وأيضا فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعى على نقله فلو كان النبى يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة لم يكن فى العادة ولا فى الشرع ترك نقل ذلك بل لو إنفرد بنقل مثل هذا الواحد والإثنان لقطع بكذبهما إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه كالتواطؤ على الكذب فيه ويمثل هذا بكذب دعوى الرافضة فى النص على علي فى الخلافة وأمثال ذلك
وقد إتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس فى الجهر بها حديث صريح ولم يرو أهل السنن المشهورة كأبى داود والترمذى والنسائى شيئا من ذلك وإنما يوجد الجهر بها صريحا فى احاديث موضوعة يرويها الثعلبى والماوردى وأمثالهما فى التفسير أو فى بعض كتب الفقهاء الذين لا يميزون بين الموضوع وغيره بل يحتجون بمثل حديث الحميرا
____________________
(22/415)
وأعجب من ذلك أن من أفاضل الفقهاء من لم يعز فى كتابه حديث إلى البخارى إلا حديثا فى البسملة وذلك الحديث ليس فى البخارى ومن هذا مبلغ علمه فى الحديث كيف يكون حالهم فى هذا الباب أو يرويها من جمع هذا الباب كالدارقطنى والخطيب وغيرهما فإنهم جمعوا ما روى وإذا سئلوا عن صحتها قالوا بموجب علمهم كما قال الدارقطنى لما دخل مصر وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بها فجمعها فقيل له هل فيها شيء صحيح فقال أما عن النبى فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف
وسئل أبوبكر الخطيب عن مثل ذلك فذكر حديثين حديث معاوية لما صلى بالمدينة وقد رواه الشافعى رضى الله عنه وقال حدثنا عبدالمجيد عن إبن جريج قال أخبرنى عبد الله بن عثمان بن خثيم أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره أن أنس بن مالك قال صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بأم القرآن فقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ( لأم القرآن ولم يقرأ بها للسورة التى بعدها ولم يكبر حين يهوى حتى قضى تلك الصلاة فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كل مكان يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت فلما صلى بعد ذلك قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ( للسورة التى بعد أم القرآن وكبر حين يهوى ساجدا
____________________
(22/416)
وقال الشافعى أنبأنا إبراهيم بن محمد قال حدثنى إبن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر إذا خفض وإذا رفع فناداه المهاجرون حين سلم والأنصار أى معاوية سرقت الصلاة وذكره وقال الشافعى أنبأنا يحيى بن سليم عن عبد الله إبن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده عن معاوية والمهاجرين والأنصار بمثله أو مثل معناه لا يخالفه وأحسب هذا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول وهو فى كتاب إسماعيل إبن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده عن معاوية وذكر الخطيب أنه أقوى ما يحتج به وليس بحجة كما يأتى بيانه
فإذا كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه ليس فى الجهر حديث صحيح ولا صريح فضلا أن يكون فيها اخبار مستفيضة أو متواترة إمتنع أن النبى كان يجهر بها كما يمتنع أن يكون كان يجهر بالإستفتاح والتعوذ ثم لا ينقل
فإن قيل هذا معارض بترك الجهر بها فإنه مما تتوافر الهمم والدواعى على نقله ثم هو مع ذلك ليس منقولا بالتواتر بل قد تنازع فيه العلماء كما أن ترك الجهر بتقدير ثبوته كان يداوم عليه ثم لم ينقل نقلا قاطعا بل وقع فيه النزاع
____________________
(22/417)
قيل الجواب عن هذا من وجوه (
أحدها ( أن الذى تتوافر الهمم والدواعى على نقله فى العادة ويجب نقله شرعا هو الأمور الوجودية فأما الأمور العدمية فلا خبر لها ولا ينقل منها إلا ما ظن وجوده أو إحتيج إلى معرفته فينقل للحاجة ولهذا قالوا لو نقل ناقل افتراض صلاة سادسة أو زيادة على صوم رمضان أو حجا غبر حج البيت أو زيادة فى القرآن أو زيادة فى ركعات الصلاة أو فرائض الزكاة ونحو ذلك لقطعنا بكذبه فإن هذا لو كان لوجب نقله قاطعا عادة وشرعا وإن عدم النقل ( يدل على انه ) لم ينقل نقلا قاطعا عادة وشرعا بل يستدل بعدم نقله مع توافر الهمم والدواعى فى العادة والشرع على نقله أنه لم يكن
وقد مثل الناس ذلك بما لو نقل ناقل أن الخطيب يوم الجمعة سقط من المنبر ولم يصل الجمعة أو أن قوما إقتتلوا فى المسجد بالسيوف فإنه إذا كان نقل هذا الواحد والإثنان والثلاثة دون بقية الناس علمنا كذبهم فى ذلك لأن هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله فى العادة وإن كانوا لا ينقلون عدم الإقتتال ولا غيره من الأمور العدمية يوضح ذلك أنهم لم ينقلوا الجهر بالإستفتاح والإستعاذة وإستدلت الأمة على عدم جهره بذلك وإن كان لم ينقل نقلا عاما عدم الجهر بذلك فبالطريق الذى يعلم عدم جهره بذلك يعلم عدم جهره بالبسملة وبهذا
____________________
(22/418)
يحصل الجواب عما يريده بعض المتكلمين على هذا الأصل وهو كون الأمور التى تتوافر الهمم والدواعى على نقلها يمتنع ترك نقلها فإنهم عارضوا أحاديث الجهر والقنوت والأذان والإقامة فأما الأذان والإقامة فقد نقل فعل هذا وهذا وأما القنوت فإنه قنت تارة وترك تارة وأما الجهر فإن الخبر عنه أمر وجودى ولم ينقل فيدخل فى القاعدة (
الوجه الثانى ( أن الأمور العدمية لما إحتيج إلى نقلها نقلت فلما إنقرض عصر الخلفاء الراشدين وصار بعض الأئمة يجهر بها كإبن الزبير ونحوه سأل بعض الناس بقايا الصحابة كأنس فروى لهم انس ترك الجهر بها وأما مع وجود الخلفاء فكانت السنة ظاهرة مشهورة ولم يكن فى الخلفاؤ من يجهر بها فلم يحتج إلى السؤال عن الأمور العدمية حتى ينقل (
الثالث ( أن نفى الجهر قد نقل نقلا صحيحا صريحا فى حديث أبى هريرة والجهر بها لم ينقل نقلا صحيحا صريحا مع أن العادة والشرع يقتضى ان الأمور الوجودية أحق بالنقل الصحيح الصريح من الأمور العدمية
وهذه الوجوه من تدبرها وكان عالما بالأدلة القطعية قطع
____________________
(22/419)
بأن النبى لم يكن يجهر بها بل ومن لم يتدرب فى معرفة الأدلة القطعية من غيرها يقول أيضا إذا كان الجهر بها ليس فيه حديث صحيح صريح فكيف يمكن بعد هذا أن النبى كان يجهر بها ولم تنقل الأمة هذه السنة بل أهملوها وضيعوها وهل هذه إلا بمثابة أن ينقل ناقل أنه كان يجهر بالإستفتاح والإستعاذة كما كان فيهم من يجهر بالبسملة ومع هذا فنحن نعلم بالإضطرار أن النبى لم يكن يجهر بالإستفتاح والإستعاذة كما كان يجهر بالفاتحة كذلك نعلم بالإضطرار أن النبى لم يكن يجهر بالبسملة كما كان يجهر بالفاتحة ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحيانا أو أنه كان يجهر بها قديما ثم ترك ذلك كما روى أبوداود فى مراسيله عن سعيد بن جبير ورواه الطبرانى فى معجمه عن إبن عباس ( أن النبى كان يجهر بها بمكة فكان المشركون إذا سمعوها سبوا الرحمن فترك الجهر فما جهر بها حتى مات ( فهذا محتمل
وأما الجهر العارض فمثل ما فى الصحيح أنه كان يجهر بالآية أحيانا ومثل جهر بعض الصحابة خلفه بقوله ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ومثل جهر عمر بقوله سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ومثل جهر إبن عمر وأبى
____________________
(22/420)
هريرة بالإستعاذة ومثل جهر إبن عباس بالقراءة على الجنازة ليعلموا أنها سنة ويمكن أن يقال جهر من جهر بها من الصحابة كان على هذا الوجه ليعرفوا أن قراءتها سنة لا لأن الجهر بها سنة
ومن تدبر عامة الآثار الثابتة فى هذا الباب علم أنها آية من كتاب الله وأنهم قرأوها لبيان ذلك لا لبيان كونها من الفاتحة وأن الجهر بها سنة مثل ما ذكر إبن وهب فى جامعه قال أخبرنى رجال من أهل العلم عن إبن عباس وأبى هريرة وزيد بن أسلم وإبن شهاب مثله بغير هذا الحديث عن إبن عمر انه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم
قفال إبن شهاب يريد بذلك انها آية من القرآن فإن الله أنزلها قال وكان أهل الفقه يفعلون ذلك فيما مضى من الرزمان وحديث إبن عمر معروف من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن إبن عمر أنه كان إذا صلى جهر ( ببسم الله الرحمن الرحيم ( فإذا قال { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال ( بسم الله الرحمن الرحيم ( فهذا الذى ذكره بن شهاب الزهري هو أعلم أهل زمانه بالسنة يبين حقيقة الحال فإن العمدة فى ألاثار فى قراءتها إنما هي عن إبن عباس وأبى هريرة وإبن عمر وقد عرف حقيقة حال أبى هربيرة فى ذلك وكذلك غيره رضى الله عنهم أجعين
____________________
(22/421)
ولهذا كان العلماء بالحديث ممن يروى الجهر بها ليس معه حديث صريح لعلمه بان تلك أحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله وإنما يتمسك بلفظ محتمل مثل إعتمادهم على حديث نعيم المجمر عن أبى هريرة المتقدم وقد رواه النسائى فإن العارفين بالحديث يقولون إنه عمدتهم فى هذه المسأله ولا حجة فيه
فإن فى صحيح مسلم عن ابى هريرة أظهر دلالة على نفى قراءتها من دلالة هذا على الجهر بها فإن فى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( يقول الله قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين نصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل فإذا قال العبد { الحمد لله رب العالمين } قال الله حمدنى عبدى فإذا قال ( الرحمن الرحيم ( قال أثنى على عبدى فإذا قال { مالك يوم الدين } قال مجدنى عبدى أو قال فوض إلى عبدى فإذا قال { إياك نعبد وإياك نستعين } قال فهذه الآية بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل فإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال فهؤلاء لعبدى ولعبدى ما سأل (
وقد روى عبد الله بن زياد بن سليمان وهو كذاب انه قال فى أوله فإذا قال ( بسم الله الرحمن الرحيم قال ذكرنى عبدى
____________________
(22/422)
ولهذا إتفق أهل العلم على كذب هذه الزيادة وإنما كثر الكذب فى أحاديث الجهر لأن الشيعة ترى الجهر وهم أكذب الطوائف فوضعوا فى ذلك احاديث لبسوا بها على الناس دينهم ولهذا يوجد فى كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثورى أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين وترك الجهر بالبسملة كما يذكرون تقديم أبى بكر وعمر ونحو ذلك لأن هذا من شعار الرافضة
ولهذا ذهب أبوعلى بن ابى هريرة أحد الأ ئمة من أصحاب الشافعى إلى ترك الجهر بها قال لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين كما ذهب من اصحاب الشافعى إلى تسنمة القبور لأن التسطيح صار من شعار اهل البدع
فحديث أبى هريرة دليل على أنها ليست من القراءة الواجبة ولا من القراءة المقسومة وهو على نفى القراءة مطلقا أظهر من دلالة حديث نعيم المجمر على الجهر فإن فى حديث نعيم المجمر أنه قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ( ثم قرأ أم القرآن وهذا دليل على أنها ليست من القرآن عندهم وحديث أبى هريرة الذى فى مسلم يصدق ذلك فإنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج ( فقال له رجل يا أبا هريرة أنا أحيانا أكون وراء الإمام فقال ( اقرأ بها
____________________
(22/423)
فى نفسك يا فارسى فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( قال الله تعالى قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ( الحديث وهذا صريح فى أن أم القرآن التى يجب قراءتها فى الصلاة عند أبى هريرة هي القراءة المقسومة التى ذكرها مع دلالة قول النبى على ذلك وذلك ينفى وجوب قراءتها عند أبى هريرة فيكون أبوهريرة وإن كان قرأ بها إستحبابا لا وجوبا
والجهر بها مع كونها ليست من الفاتحة قول لم يقل به احد من الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المشهورين ولا اعلم به قائلا لكن هي من الفاتحة وإيجاب قراءتها مع المخافتة بها قول طائفة من أهل الحديث وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإذا كان أبوهريرة إنما قرأها إستحبابا لا وجوبا وعلى هذا القول لا تشرع المداومة على الجهر بها كان جهره بها أولى أن يثبت دليلا على أنه ليعرفهم إستحبابا قراءتها وأن قراءتها مشروعة كما جهر عمر بالإستفتاح وكما جهر إبن عباس بقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة ونحو ذلك ويكون ابوهريرة قصد تعريفهم أنها تقرأ فى الجملة وإن لم يجهر بها وحينئذ فلا يكون هذا مخالفا لحديث أنس الذى فى الصحيح وحديث عائشة الذى فى الصحيح وغير ذلك هذا إن كان الحديث دالا على أنه جهر بها فإن لفظه ليس صريحا بذلك من وجهين (
____________________
(22/424)
أحدها ( أنه قال قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ( ثم قرأ أم القرآن ولفظ القراءة محتمل أن يكون قرأها سرا ويكون نعيم علم ذلك بقربه منه فإن قراءة السر إذا قويت يسمعها من يلى القارئ ويمكن أن أبا هريرة أخبره بقراءتها وقد اخبر أبو قتادة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفى الأخيرتين بفاتحة الكتاب وهى قراءة سر كيف وقد بين فى الحديث أنها ليست من الفاتحة فأراد بذلك وجوب قراءتها فضلا عن كون الجهر بها سنة فإن النزاع فى الثانى أضعف (
الثانى ( أنه لم يخبر النبى صلى الله عليه وسلم انه قرأها قبل أم الكتاب وإنما قال فى آخر الصلاة إنى لأشبهكم صلاة برسول الله وفى الحديث انه أمن وكبر فى الخفض والرفع وهذا ونحوه مما كان يتركه الأئمة فيكون اشبههم برسول الله من هذه الوجوه التى فيها ما فعله رسول الله وتركوه هم ولا يلزم إذا كان أشبههم بصلاة رسول الله أن تكون صلاته مثل صلاته من كل وجه ولعل قراءتها مع الجهر أمثل من ترك قراءتها بالكلية عند أبى هريرة وكان اولئك لا يقرأونها أصلا فيكون قراءتها مع الجهر أشبه عنده بصلاة رسول الله وإن كان غيره ينازع فى ذلك
____________________
(22/425)
وأما حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه فيعلم اولا أن تصحيح الحاكم وحده وتوثيقه وحده لا يوثق به فيما دون هذا فكيف فى مثل هذا الموضع الذى يعارض فيه بتوثيق الحاكم وقد إتفق أهل العلم فى الصحيح على خلافه ومن له أدنى خبرة فى الحديث وأهله لا يعارض بتوثيق الحاكم وقد ثبت فى الصحيح خلافه فإن أهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من التساهل والتسامح فى ( باب التصحيح ( حتى أن تصحيحه دون تصحيح الترمذى والدارقطنى وأمثالهما بلا نزاع فكيف بتصحيح البخارى ومسلم بل تصحيحه دون تصحيح أبى بكر إبن خزيمة وأبى حاتم بن حبان البستى وأمثالهما بل تصحيح الحافظ أبى عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى فى مختاره خير من تصحيح الحاكم فكتابه فى هذا الباب خير من كتاب الحاكم بلا ريب عند من يعرف الحديث وتحسين الترمذى أحيانا يكون مثل تصحيحه أو أرجح وكثيرا ما يصحح الحاكم أحاديث يجزم بأنها موضوعة لا أصل لها فهذا هذا والمعروف عن سليمان التيمي وإبنه معتمر أنهما كانا يجهران بالبسملة لكن نقله عن أنس هو المنكر كيف واصحاب أنس الثقات الإثبات يروون عنه خلاف ذلك حتى أن شعبة سأل قتادة عن هذا قال أنت سمعت أنسا يذكر ذلك قال نعم وأخبره باللفظ الصريح المنافى 4 للجهر
ونقل شعبة عن قتادة ما سمعه من أنس فى غاية الصحة وأرفع
____________________
(22/426)
درجات الصحيح عند أهله إذ قتادة أحفظ أهل زمانه أو من أحفظهم وكذلك إتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم وهذا مما يرد به قول من زعم أن بعض الناس روى حديث أنس بالمعنى الذى فهمه وأنه لم يكن فى لفظه إلا قوله يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ففهم بعض الرواة من ذلك نفى قراءتها فرواه من عنده فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو ابعد الناس علما برواة الحديث وألفاظ روايتهم الصريحة التى لا تقبل التأويل وبأنهم من العدالة والضبط فى الغاية التى لا تحتمل المجازفة أو أنه مكابر صاحب هوى يتبع هواه ويدع موجب العلم والدليل
ثم يقال هب أن المعتمر أخذ صلاته عن أبيه وأبوه عن أنس وأنس عن النبى فهذا مجمل ومحتمل إذ ليس يمكن أن يثبت كل حكم جزئى من احكام الصلاة بمثل هذا الإسناد المجمل لأنه من المعلوم أن مع طول الزمان وتعدد الإسناد لا تضبط الجزئيات فى افعال كثيرة متفرقة حق الضبط إلا بنقل مفصل لا مجمل وإلا فمن المعلوم أن مثل منصور بن المعتمر وحماد بن ابى سليمان والأعمش وغيرهم أخذوا صلاتهم عن إبراهيم النخعى وذويه وإبراهيم أخذها عن علقمة والأسود ونحوهما وهم أخذوها عن إبن مسعود وإبن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم وهذا الإسناد أجل رجالا من
____________________
(22/427)
ذلك الإسناد وهؤلاء أخذ الصلاة عنهم أبوحنيفة والثورى وإبن أبى ليلى وأمثالهم من فقهاء الكوفة فهل يجوز أن يجعل نفس صلاة هؤلاء هي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد حتى فى موارد النزاع فإن جاز هذا كان هؤلاء لا يجهرون ولا يرفعون أيديهم إلا فى تكبيرة الإفتتاح ويسفرون الفجر وأنواع ذلك مما عليه الكوفيون
ونظير هذه إحتجاج بعضهم على الجهر بأن اهل مكة من اصحاب إبن جريج كانوا يجهرون وأنهم أخذوا صلاتهم عن إبن جريج وهو أخذها عن عطاء وعطاء عن بن الزبير وإبن الزبير عن أبى بكر الصديق وابو بكر عن النبى ولا ريب أن الشافعى رضى الله عنه أول ما أخذ الفقه فى هذه المسألة وغيرها عن أصحاب إبن جريج كسعيد بن سالم القداح ومسلم بن خالد الزنجى لكن مثل هذه الأسانيد المجملة لا يثبت بها أحكام مفصلة تنازع الناس فيها
ولئن جاز ذلك ليكونن مالك أرجح من هؤلاء فإنه لا يستريب عاقل أن الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين كانوا بالمدينة أجل قدرا وأعلم بالسنة واتبع لها ممن كان بالكوفة ومكة والبصرة وقد إحتج أصحاب مالك على ترك الجهر بالعمل المستمر بالمدينة فقالوا هذا
____________________
(22/428)
المحراب الذى كان يصلى فيه رسول الله ثم ابو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم الأئمة وهلم جرا ونقلهم لصلاة رسول الله نقل متواتر كلهم شهدوا صلاة رسول الله ثم صلاة خلفائه وكانوا اشد محافظة على السنة وأشد إنكارا على من خالفها من غيرهم فيمتنع أن يغيروا صلاة رسول الله عليه وسلم وهذا العمل يقترن به عمل الخلفاء كلهم من بنى أمية وبنى العباس فإنهم كلهم لم يكونوا يجهرون وليس لجميع هؤلاء غرض بالإطباق على تغيير السنة فى مثل هذا ولا يمكن أن الأئمة كلهم أقرتهم على خلاف السنة بل نحن نعلم ضرورة أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يبدلون سنة لا تتعلق بأمر ملكهم وما يتعلق بذلك من الأهواء وليست هذه المسألة مما للملوك فيها غرض
وهذه الحجة إذا إحتج بها المحتج لم تكن دون تلك بل نحن نعلم أنها أقوى منها فإنه لا يشك مسلم أن الجزم بكون صلاة التابعين بالمدينة أشبه بصلاة الصحابة بها والصحابة بها أشبه صلاة بصلاة رسول الله أقرب من الجزم بكون صلاة شخص أو شخصين أشبه بصلاة آخر حتى ينتهى ذلك إلى النبى ولهذا لم يذهب ذاهب قط إلى ان عمل غير أهل المدينة
____________________
(22/429)
أو إجماعهم حجة وإنما تنوزع فى عمل أهل المدينة وإجماعهم هل هو حجة أم لا نزاعا لا يقصر عن عمل غيرهم وإجماع غيرهم أن لم يزد عليه
فتبين دفع ذلك العمل عن سليمان التيمي وإبن جريج وأمثالهما بعمل أهل المدينة لو لم يكن المنقول نقلا صحيحا صريحا عن انس يخالف ذلك فكيف والأمر فى رواية أنس اظهر وأشهر واصح وأثبت من ان يعارض بهذا الحديث المجمل الذى لم يثبت وإنما صححه مثل الحاكم وأمثاله
ومثل هذا أيضا يظهر ضعف حديث معاوية الذى فيه أنه صلى بالصحابة بالمدينة فأنكروا عليه ترك قراءة البسملة فى أول الفاتحة وأول السورة حتى عاد يعمل ذلك فإن هذا الحديث وإن كان الدار قطنى قال إسناده ثقات وقال الخطيب هو أجود ما يعتمد عليه فى هذه المسألة كما نقل ذلك عنه نصر المقدسى فهذا الحديث يعلم ضعفه من وجوه (
أحدها ( أنه يروى عن أنس أيضا الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة الذى يرد هذا (
الثانى ( أن مدار ذلك الحديث على عبد الله بن عثمان بن خثيم
____________________
(22/430)
وقد ضعفه طائفة وقد إضطربوا فى روايته إسنادا ومتنا كما تقدم وذلك يبين أنه غير محفوظ (
الثالث ( أنه ليس فيه إسناد متصل السماع بل فيه من الضعفة والإضطراب مالا يؤمن معه الإنقطاع أو سوء الحفظ (
الرابع ( أن أنسا كان مقيما بالبصرة ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسا كان معه بل الظاهر أنه لم يكن معه (
الخامس ( أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت بالمدينة والراوى لها أنس وكان بالبصرة وهى مما تتوافر الهمم والدواعى على نقلها ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته وأهل المدينة لم ينقل أحد منهم ذلك بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك والناقل ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء (
السادس ( أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر فى أول الفاتحة والسورة لكان هذا أيضا معروفا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه ولم ينقل هذا أحد عن معاوية بل الشاميون كلهم خلفاؤهم وعلماؤهم كان مذهبهم ترك الجهر بها بل الأوزاعى مذهبه فيها مذهب مالك لا يقرؤها سرا ولا جهرا فهذه الوجوه وامثالها إذا تدبرها العالم
____________________
(22/431)
قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له وإما مغير عن وجهه وإن الذى حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح فحصلت الآفة من إنقطاع إسناده
وقيل هذا الحديث لو كان تقوم به الحجة لكان شاذا لأنه خلاف ما رواه الناس الثقات الإثبات عن أنس وعن أهل المدينة وأهل الشام ومن شرط الحديث الثابت أن لا يكون شاذا ولا معللا وهذا شاذ معلل إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته
والعمدة التى إعتمدها المصنفون فى الجهر بها ووجوب قراءتها إنما هو كتابتها فى المصحف بقلم القرآن وأن الصحابة جردوا القرآن عما ليس منه
والذين نازعوهم دفعوا هذه الحجة بلا حق كقولهم القرآن لا يثبت إلا بقاطع ولو كان هذا قاطعا لكفر مخالفه وقد سلك أبوبكر إبن الطيب الباقلانى وغيره هذا المسلك وإدعوا أنهم يقطعون بخطأ الشافعى فى كونه جعل البسملة من القرآن معتمدين على هذه الحجة وأنه لا يجوز إثبات القرآن إلا بالتواتر ولا تواتر هنا فيجب القطاع بنفى كونها من القرآن
والتحقيق أن هذه الحجة مقابلة بمثلها فيقال لهم بل يقطع
____________________
(22/432)
بكونها من القرآن حيث كتبت كما قطعتم بنفى كونها ليست منه ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون القرآن المكتوب بين لوحى المصحف كلام الله ونحن نعلم بالإضطرار أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا أن ما كتبوه بين لوحى المصحف كلام الله الذى أنزله على نبيه لم يكتبوا فيه ماليس من كلام الله
فإن قال المنازع إن قطعتم بأن البسملة من القرآن حيث كتبت فكفروا النافى قيل لهم وهذا يعارض حكمه إذا قطعتم بنفى كونها من القرآن فكفروا منازعكم
وقد إتفقت الأمة على نفى التكفير فى هذا الباب مع دعوى كثير من الطائفتين القطع بمذهبه وذلك لأنه ليس كل ما كان قطعيا عند شخص يجب أن يكون قطعيا عند غيره وليس كل ما إدعت طائفة أنه قطعى عندها يجب ان يكون قطعيا فى نفس الأمر بل قد يقع الغلط فى دعوى المدعى القطع فى غير محل القطع كما يغلط فى سمعه وفهمه ونقله وغير ذلك من احواله كما قد يغلط الحس الظاهر فى مواضع وحينئذ فيقال الأقوال فى كونها من القرآن ثلاثة طرفان ووسط (
____________________
(22/433)
الطرف
الأول ( قول من يقول أنها ليست من القرآن إلا فى سورة النمل كما قال مالك وطائفة من الحنفية وكما قاله بعض أصحاب أحمد مدعيا أنه مذهبه أو ناقلا لذلك رواية عنه (
والطرف المقابل له ( قول من يقول أنها من كل سورة آية أوبعض آية كما هو المشهور من مذهب الشافعى ومن وافقه وقد نقل عن الشافعى أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة وإنما يستفتح بها فى السور تبركا بها وأما كونها من الفاتحة فلم يثبت عنه فيه دليل (
والقول الوسط ( أنها من القرآن حيث كتبت وإنها مع ذلك ليست من السور بل كتبت آية فى أول كل سورة وكذلك تتلى آية منفردة فى أول كل سورة كما تلاها النبى حين انزلت عليه سورة { إنا أعطيناك الكوثر } كما ثبت ذلك فى صحيح مسلم كما فى قوله ( إن سورة من القرآن هي ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهى سورة تبارك الذى بيده الملك ( رواه اهل السنن وحسنه الترمذى وهذا القول قول عبد الله بن المبارك وهو المنصوص الصريح عن احمد بن حنبل
وذكر ابوبكر الرازى أن هذا مقتضى مذهب أبى حنيفة عنده
____________________
(22/434)
وهو قول سائر من حقق القول فى هذه المسألة وتوسط فيها جمع من مقتضى الأدلة وكتابتها سطرا مفصولا عن السورة ويؤيد ذلك قول إبن عباس ( كان رسول الله لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم ( رواه أبو داود وهؤلاء لهم فى الفاتحة قولان هما روايتان عن أحمد
(
أحدهما ( أنها من الفاتحة دون غيرها تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة (
والثانى ( وهو الأصح لا فرق بين الفاتحة وغيرها فى ذلك وأن قراءتها فى أول الفاتحة كقراءتها فى أول السور والأحاديث الصحيحة توافق هذا القول لا تخالفه
وحينئذ الخلاف أيضا فى قراءتها فى الصلاة ثلاثة اقوال (
أحدها ( أنها واجبة وجوب الفاتحة كمذهب الشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين وطائفة من أهل الحديث بناء على أنها من الفاتحة (
والثانى ( قول من يقول قراءتها مكروهة سرا وجهرا كما هو المشهور من مذهب مالك (
والقول الثالث ( إن قراءتها جائزة بل مستحبة وهذا مذهب
____________________
(22/435)
أبى حنيفة وأحمد فى المشهور عنه وأكثر أهل الحديث وطائفة من هؤلاء يسوى بين قراءتها وترك قراءتها ويخير بين الأمرين معتقدين أن هذا على إحدى القراءتين وذلك على القراءة الأخرى
ثم مع قراءتها هل يسن الجهر أو لا يسن على ثلاثة أقوال
قيل يسن الجهر بها كقول الشافعى ومن وافقه
وقيل لا يسن الجهر بها كما هو قول الجمهور من أهل الحديث والرأى وفقهاء الأمصار
وقيل يخير بينهما كما يروى عن إسحاق وهو قول إبن حزم وغيره
ومع هذا فالصواب أن مالا يجهر به قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة فيشرع للإمام أحيانا لمثل تعليم المأمومين ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانا ويسوغ أيضا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب وإجتماع الكلمة خوفا من التنفير عما يصلح كما ترك النبى بناء البيت على قواعد إبراهيم لكون قريش كانوا حديثى عهد بالجاهلية وخشى تنفيرهم بذلك
____________________
(22/436)
ورأى ان مصلحة الإجتماع والإئتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم
وقال إبن مسعود لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه فقيل له فى ذلك فقال الخلاف شر ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة وفى وصل الوتر وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول مراعاة إئتلاف المأمومين أو لتعريفهم السنة وأمثال ذلك والله أعلم
____________________
(22/437)
وسئل أيضا رحمه الله تعالى (
عن ( بسم الله الرحمن الرحيم ( هل هي آية من أول كل سورة أفتونا مأجورين (
فأجاب الحمد لله إتفق المسلمون على أنها من القرآن فى قوله { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } وتنازعوا فيها فى أوائل السور حيث كتبت على ثلاثة اقوال
أحدها أنها ليست من القرآن وإنما كتبت تبركا بها وهذا مذهب مالك وطائفة من الحنفية ويحكى هذا رواية عن أحمد ولا يصح عنه وإن كان قولا فى مذهبه
والثانى أنها من كل سورة إما آية وإما بعض آية وهذا مذهب الشافعى رضى الله عنه
والثالث أنها من القرآن حيث كتبت آية من كتاب الله من أول كل سورة وليست من السورة وهذا مذهب إبن المبارك وأحمد
____________________
(22/438)
إبن حنبل رضى الله عنه وغيرهما وذكر الرازى أنه مقتضى مذهب أبى حنيفة عنده وهذا أعدل الأقوال
فإن كتابتها فى المصحف بقلم القرآن تدل على أنها من القرآن وكتابتها مفردة مفصولة عما قبلها وما بعدها تدل على أنها ليست من السورة ويدل على ذلك ما رواه أهل السنن عن النبى أنه قال ( أن سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له ( وهى ( تبارك الذى بيده الملك ( وهذا لا ينافى ذلك فإن فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم أغفى إغفاءة فقال ( لقد نزلت على آنفا سورة وقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) إنا أعطيناك الكوثر ( لأن ذلك لم يذكر فيه أنها من السورة بل فيه أنها تقرأ فى اول السورة وهذا سنة فإنها تقرأ فى اول كل سورة وإن لم تكن من السورة
ومثله حديث إبن عباس ( كان رسول الله لا يعرف فصل السورة حتى تنزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ( رواه أبوداود ففيه أنها نزلت للفصل وليس فيه أنها آية منها ( وتبارك الذى بيده الملك ( ثلاثون آية بدون البسملة ولأن العادين لآيات القرآن لم يعد أحد منهم البسملة من السورة لكن هؤلاء تنازعوا فى الفاتحة هل هي آية منها دون غيرها على قولين هما روايتان عن احمد
____________________
(22/439)
أحدهما أنها من الفاتحة دون غيرها وهذا مذهب طائفة من أهل الحديث أظنه قول أبى عبيد وإحتج هؤلاء بالآثار التى رويت فى ان البسملة من الفاتحة وعلى قول هؤلاء تجب قراءتها فى الصلاة وهؤلاء يوجبون قراءتها وإن لم يجهروا بها
والثانى أنها ليست من الفاتحة كما انها ليست من غيرها وهذا اظهر فإنه قد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يقول الله تعالى قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين نصفها لى ونصفها له ولعبدى ما سأل يقول العبد ( الحمد لله رب العالمين ( يقول الله حمدنى عبدى يقول العبد ( الرحمن الرحيم ( يقول الله أثنى على عبدى يقول العبد { مالك يوم الدين } يقول الله مجدنى عبدى يقول العبد { إياك نعبد وإياك نستعين } يقول الله فهذه الآية بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل يقول العبد { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخرها يقول الله فهؤلاء لعبدى ولعبدى ما سأل فلو كانت من الفاتحة لذكرها كما ذكر غيرها
وقد روى ذكرها فى حديث موضوع رواه عبد الله بن زياد إبن سمعان فذكره مثل الثعلبى فى تفسيره ومثل من جمع أحاديث الجهر وأنها كلها ضعيفة أو موضوعة ولو كانت منها لما كان للرب
____________________
(22/440)
ثلاث آيات ونصف وللعبد ثلاث ونصف وظاهر الحديث ان القسمة وقعت على الآيات فإنه قال ( فهؤلاء لعبدى ( وهؤلاء إشارة إلى جمع فعلم أن من قوله ( إهدنا الصراط المستقيم ( إلى آخرها ثلاث آيات على قول من لا يعد البسملة آية منها ومن عدها آية منها جعل هذا آيتين
وايضا فإن الفاتحة سورة من سور القرآن والبسملة مكتوبة فى أولها فلا فرق بينها وبين غيرها من السور فى مثل ذلك وهذا من أظهر وجوه الإعتبار
وأيضا فلو كانت منها لتليت فى الصلاة جهرا كماتتلى سائر آيات السورة وهذا مذهب من يرى الجهر بها كالشافعى وطائفة من المكيين والبصريين فإنهم قالوا أنها آية من الفاتحة يجهر بها كسائر آيات الفاتحة وإعتمد على آثار منقولة بعضها عن الصحابة وبعضها عن النبى فأما المأثور عن الصحابة كإبن الزبير ونحوه ففيه صحيح وفيه ضعيف وأما المأثور عن النبى فهو ضعيف أو موضوع كما ذكر ذلك حفاظ الحديث كالدارقطنى وغيره
ولهذا لم يرو أهل السنن والمسانيد المعروفة عن النبى صلى الله
____________________
(22/441)
عليه وسلم فى الجهر بها حديثا واحدا وإنما يروى أمثال هذه الأحاديث من لا يميز من أهل التفسير كالثعلبى ونحوه وكبعض من صنف فى هذا الباب من أهل الحديث كما يذكره طائفة من الفقهاء فى كتب الفقه وقد حكى القول بالجهر عن أحمد وغيره بناء على إحدى الروايتين عنه من أنها من الفاتحة فيجهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة وليس هذا مذهبه بل يخافت بها عنده وإن
قال هي من الفاتحة لكن يجهر بها عنده لمصلحة راجحة مثل أن يكون المصلون لا يقرءونها بحال فيجهر بها ليعلمهم أن قراءتها سنة كما جهر إبن عباس بالفاتحة على الجنازة وكما جهر عمر بن الخطاب بالإستفتاح وكما نقل عن ابى هريرة أنه قرأ بها ثم قرأ بأم الكتاب وقال أنا أشبهكم صلاة برسول الله رواه النسائى وهو اجود ما إحتجوا به
وكذلك فسر بعض أصحاب أحمد خلافه أنه كان يجهر بها إذا كان المأمومون ينكرون على من لم يجهر بها وامثال ذلك فإن الجهر بها والمخافتة سنة فلو جهر بها المخافت صحت صلاته بلا ريب وجمهور العلماء كابى حنيفة ومالك واحمد والأوزاعى لا يرون الجهر لكن منهم من يقرؤها سرا كأبى حنيفة وأحمد وغيرهما ومنهم من لا يقرؤها سرا ولا جهرا كمالك
____________________
(22/442)
وحجة الجمهور ما ثبت فى الصحيح من ( أن النبى وأبا بكر وعمر كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم وفى لفظ لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا آخرها ( والله أعلم
(
وسئل (
هل من يلحن فى الفاتحة تصح صلاته أم لا (
فأجاب (
أما اللحن فى الفاتحة الذى لا يحيل المعنى فتصح صلاة صاحبه إماما أو منفردا مثل أن يقول { رب العالمين } و { الضالين } ونحو ذلك
واما ما قرئ به مثل الحمد لله رب ورب ورب ومثل الحمد لله والحمد لله بضم اللام أو بكسر الدال ومثل عليهم وعليهم وعليهم وأمثال ذلك فهذا لا يعد لحنا
وأما اللحن الذى يحيل المعنى إذا علم صاحبه معناه مثل أن يقول { صراط الذين أنعمت عليهم } وهو يعلم ان هذا ضمير المتكلم لا تصح صلاته وإن لم يعلم أنه يحيل المعنى وإعتقد أن هذا ضمير المخاطب ففيه نزاع والله أعلم
____________________
(22/443)
وسئل (
عمن يقرأ القرآن وما عنده أحد يسأله عن اللحن إلخ وإذا وقف على شيء يطلع فى المصحف هل يلحقه إثم أم لا (
فأجاب (
إن إحتاج إلى قراءة القرآن قرأه بحسب الإمكان ورجع إلى المصحف فيما يشكل عليه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يترك ما يحتاج إليه وينتهى به من القراءة لأجل ما يعرض من الغلط أحيانا إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة والله أعلم
(
وسئل (
عما إذا نصب المخفوض فى صلاته (
فأجاب (
إن كان عالما بطلت صلاته لأنه متلاعب فى صلاته وإن كان جاهلا لم تبطل على أحد الوجهين
____________________
(22/444)
وسئل (
عن رجل يصلى بقوم وهو يقرأ بقراءة الشيخ أبى عمرو فهل إذا قرأ لورش أو لنافع بإختلاف الروايات مع حملة قراءته لأبى عمرو يأثم او تنقص صلاته أو ترد (
فأجاب (
يجوز أن يقرأ بعض القرآن بحرف أبى عمرو وبعضه بحرف نافع وسواء كان ذلك فى ركعة أو ركعتين وسواء كان خارج الصلاة او داخلها والله أعلم
(
وسئل (
هل روى عن النبى أنه صلى بالأعراف أو بالأنعام جميعا فى المغرب أو فى صلاة غيرها وإن كان قد رواه أحمد هل هو صحيح أم لا
فأجاب
الحمد لله نعم ثبت فى الصحيح انه صلى فى المغرب بالأعراف ولكن لم يكن يداوم على ذلك ومرة أخرى قرأ فيها بالمرسلات ومرة أخرى قرأ فيها بالطور وهذا كله فى الصحيح والله أعلم
____________________
(22/445)
وسئل رحمه الله (
عن رفع الأيدى بعد الركوع هل يبطل الصلاة أم لا (
فأجاب (
الحمد لله لا يبطل الصلاة بإتفاق الأئمة بل أكثر أئمة المسلمين يستحبون هذا كما إستفاضت به السنة عن النبى من حديث إبن عمر ومالك بن الحويرث ووائل بن حجر وأبى حميد الساعدى وأبى قتادة الأنصارى فى عشرة من الصحابة وحديث على وأبى هريرة وغيرهم
وهو مستحب عند جمهور العلماء وهو مذهب الشافعى وأحمد ومالك فى إحدى الروايتين عنه وأبوحنيفة قال أنه لا يستحب ولم يقل إنه يبطل صلاته والله أعلم
(
وسئل (
عن قول النبى ( ولا ينفع ذا الجد منك الجد ( وهل هو بالخفض أو بالضم أفتونا مأجورين
____________________
(22/446)
فأجاب (
الحمد لله أما الأولى فبالخفض وأما الثانية فبالضم والمعنى أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده أى لا ينجيه ويخلصه منك جده وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح و ( الجد ( هو الغنى وهو العظمة وهو المال بين أنه من كان له فى الدنيا رئاسة ومال لم ينجه ذلك ولم يخلصه من الله وإنما ينجيه من عذابه إيمانه وتقواه فإنه قال ( اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ( فبين فى هذا الحديث أصلين عظيمين (
أحدهما ( توحيد الربوبية وهو أن لا معطى لما منع الله ولا مانع لما أعطاه ولا يتوكل إلا عليه ولا يسأل إلا هو
والثانى توحيد الإلهية وهو بيان ما ينفع وما لا ينفع وأنه ليس كل من أعطى مالا أو دنيا أو رئاسة كان ذلك نافعا له عند الله منجيا له من عذابه فإن الله يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الإيمان إلا من يحب قال تعالى { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا } يقول ما كل من وسعت عليه أكرمته ولا كل من قدرت عليه أكون قد اهنته بل هذا إبتلاء ليشكر العبد على السراء ويصبر على الضراء فمن رزق الشكر
____________________
(22/447)
والصبر كان كل قضاء يقضيه الله خيرا له كما فى الصحيح عن النبى أنه قال ( لا يقضى الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ( (
وتوحيد الإلهية ( أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا فيطيعه ويطيع رسله ويفعل ما يحبه ويرضاه
وأما توحيد الربوبية فيدخل ما قدره وقضاه وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه وأرضاه والعبد مأمور بأن يعبد الله ويفعل ما أمر به وهو توحيد الإلهية ويستعين الله على ذلك وهو توحيد له فيقول ( إياك نعبد وإياك نستعين ( والله أعلم
( وسئل رحمه الله (
إذا اراد إنسان ان يسجد فى الصلاة يتأخر خطوتين هل يكره ذلك ام لا ( فأجاب (
وأما التأخر حين السجود فليس بسنة ولا ينبغى فعل ذلك إلا إذا كان الموضع ضيقا فيتأخر ليتمكن من السجود
____________________
(22/448)
وسئل رحمه الله (
عن الصلاة وإتقاء الأرض بوضع ركبتيه قبل يديه أو يديه قبل ركبتيه (
فأجاب (
أما الصلاة بكليهما فجائزة بإتفاق العلماء إن شاء المصلى يضع ركبتيه قبل يديه وإن شاء وضع يديه ثم ركبتيه وصلاته صحيحة فى الحالتين بإتفاق العلماء ولكن تنازعوا فى الأفضل
فقيل الأول كما هو مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين
وقيل الثانى كما هو مذهب مالك وأحمد فى الرواية الأخرى وقد روى بكل منهما حديث فى السنن عن النبى ففى السنن عنه ( أنه كان إذا صلى وضع ركبتيه ثم يديه وإذا رفع رفع يديه ثم ركبتيه ( وفى سنن أبى داود وغيره أنه قال ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك بروك الجمل ولكن يضع يديه ثم ركبتيه ( وقد روى ضد ذلك وقيل أنه منسوخ والله أعلم
____________________
(22/449)
وسئل رحمه الله (
عما يروي عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أمرت أن اسجد على سبعة أعظم وان لا أكف لى ثوبا ولا شعرا وفى رواية وأن لا أكفت لى ثوبا ولا شعرا ( فما هو الكف ( وما هو الكفت وهل ضفر الشعر من الكفت (
فأجاب (
الكفت الجمع والضم والكف قريب منه وهو منع الشعر والثوب من السجود وينهى الرجل أن يصلى وشعره مغروز فى رأسه او معقوص
وفيه عن النبى ( مثل الذى يصلى وهو معقوص كمثل الذى يصلى وهو مكتوف ( لأن المكتوف لا يسجد ثوبه والمعقوص لا يسجد شعره وإما الضفر مع إرساله فليس من الكفت والله أعلم
____________________
(22/450)
وسئل (
عن رجل يصلى مأموما ويجلس بين الركعات جلسة الإستراحة ولم يفعل ذلك الإمام فهل يجوز ذلك له وإذا جاز هل يكون منقصا لأجره لأجل كونه لم يتابع الإمام فى سرعة الإمام (
فأجاب (
جلسة الإستراحة قد ثبت فى الصحيح أن النبى جلسها لكن تردد العلماء هل فعل ذلك من كبر السن للحاجة أو فعل ذلك لأنه من سنة الصلاة
فمن قال بالثانى إستحبها كقول الشافعي وأحمد فى إحدى الروايتين
ومن قال بالأول لم يستحبها إلا عند الحاجة كقول أبى حنيفة ومالك وأحمد فى الرواية الأخرى ومن فعلها لم ينكر عليه وإن كان مأموما لكون التأخر بمقدار ماليس هو من التخلف المنهي عنه عند من يقول بإستحبابها وهل هذا إلا فعل فى محل اجتهاد فإنه قد تعارض فعل هذه السنة عنده والمبادرة إلى موافقة الإمام
____________________
(22/451)
فإن ذلك أولى من التخلف لكنه يسير فصار مثل ما إذا قام من التشهد الأول قبل أن يكمله المأموم والمأموم يرى أنه مستحب أو مثل أن يسلم وقد بقى عليه يسير من الدعاء هل يسلم أو يتمه ومثل هذه المسائل هي من مسائل الإجتهاد والأقوى أن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب والله أعلم
(
وسئل رحمه الله (
عن رفع اليدين بعد القيام من الجلسة بعد الركعتين الأوليين هل هو مندوب إليه وهل فعله النبى أو أحد من الصحابة (
فاجاب (
نعم هو مندوب إليه عند محققى العلماء العالمين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقول طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعى وغيرهم وقد ثبت ذلك عن النبى فى الصحاح والسنن ففى البخارى وسنن أبى داود والنسائى عن نافع ( أن إبن عمر كان إذا دخل فى الصلاة كبر ورفع يديه واذا ركع رفع يديه واذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه واذا قام من الركعتين رفع يديه ورفع ذلك بن عمر
____________________
(22/452)
إلى النبى
وعن على بن أبى طالب عن النبى ( أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وإذا أراد أن يركع ويصنعه إذا رفع من الركوع ولا يرفع يديه فى شيء من صلاته وهو قاعد وإذا قام من الركعتين رفع يديه كذلك وكبر ( رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه وإبن ماجه والترمذى وقال حديث حسن صحيح وعن أبى حميد الساعدى أنه ذكر صفة صلاة النبى صلى الله عليه وسلم وفيه ( إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه كما صنع حين إفتتح الصلاة ( رواه الإمام أحمد وأبو داود وإبن ماجه والنسائى والترمذى وصححه
فهذه أحاديث صحيحة ثابته مع ما فى ذلك من الآثار وليس لها ما يصلح أن يكون معارضا مقاوما فضلا عن أن يكون راجحا والله أعلم
____________________
(22/453)
وسئل شيخ الاسلام عن قوله ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ( الحديث وقوله ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ( هل الحديثان فى الصحة سواء وما الحكم فى ذكر الآل دون إبراهيم
فأجاب الحمد لله هذا الحديث فى الصحاح من أربعة أوجه أشهرها حديث عبد الرحمن بن أبى ليلى قال لقينى كعب بن عجرة فقال ألا أهدى لك هدية ( خرج علينا رسول الله فقلنا قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلى عليك قال ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك وفى لفظ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ( رواه أهل الصحاح والسنن والمسانيد كالبخارى ومسلم وأبى داود والترمذى والنسائى وإبن ماجه والإمام أحمد فى مسنده وغيرهم
____________________
(22/454)
وهذا لفظ الجماعة إلا أن الترمذى قال فيه على إبراهيم فى الموضعين لم يذكر آله وذلك رواية لأبى داود والنسائى وفى رواية ( كما صليت على آل إبراهيم ( وقال ( كما باركت على إبراهيم ( ذكر لفظ الآل فى الأول ولفظ إبراهيم فى الاخر
وفى الصحيحين والسنن الثلاثة عن أبى حميد الساعدى أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلى عليك قال ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ( هذا هو اللفظ المشهور وقد روى فيه كما صليت على إبراهيم وكما باركت على إبراهيم بدون لفظ الآل فى الموضعين وفى صحيح البخارى عن أبى سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف الصلاة عليك قال ( قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم (
وفى صحيح مسلم عن أبى مسعود الأنصارى قال ( أتانا رسول الله ونحن فى مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد امرنا الله أن نصلى عليك فكيف نصلى عليك قال فسكت رسول الله حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلى
____________________
(22/455)
الله عليه وسلم ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم فى العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم ( وقد رواه أيضا غير مسلم كمالك واحمد وأبى داود والنسائى والترمذى بلفظ آخر وفى بعض طرقه ( كما صليت على إبراهيم وكما باركت على إبراهيم ( لم يذكر ( الآل ( وفى رواية ( كما صليت على إبراهيم وكما باركت على آل إبراهيم ( فهذه الأحاديث التى فى الصحاح لم أجد فيها ولا فيما نقل لفظ ( ابراهيم وآل إبراهيم بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ آل إبراهيم ) ( وفى بعضها لفظ ( إبراهيم ( وقد يجيء فى أحد الموضعين لفظ ( آل إبراهيم ( وفى الآخر لفظ ( إبراهيم (
وقد روى لفظ ( ابراهيم وآل ابراهيم ) فى حديث رواه البيهقى عن يحيى بن السناو عن رجل من بنى الحارث عن بن مسعود عن رسول الله أنه قال ( اذا تشهد احدكم فى الصلاة فليقل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وارحم محمدا كما صليت وباركت وترحمت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد ) وهذا اسناده ضعيف لكن رواه بن ماجه فى سننه عن بن مسعود موقوفا قال اذا صليتم
____________________
(22/456)
على رسول الله فاحسنوا الصلاة فانكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه قال فقولوا له فعلمنا قال ( قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وامام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك امام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الاولون والآخرون اللهم صل على محمد وعلى ال محمد كما صليت على ابراهيم وال ابراهيم انك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وال ابراهيم انك حميد مجيد ) ولا يحضرنى اسناد هذا الاثر ولم يبلغنى إلى الساعة حديث مسند باسناد ثابت ( كما صليت على ابراهيم وكما باركت على ابراهيم وال ابراهيم ) بل أحاديث السنن توافق احاديث الصحيحين كما فى سنن ابى داود عن أبى هريرة ان النبى قال ( من سره ان يكتال بالمكيال الاوفى اذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صل على محمد النبى وعلى أزواجه امهات المؤمنين وذريته واهل بيته كما صليت على ال ابراهيم انك حميد مجيد ) رواه الشافعى فى مسنده عن ابى هريرة قال قلنا يا رسول الله كيف نصلى عليك يعنى فى الصلاة قال ( تقولون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم ثم تسلمون علي
____________________
(22/457)
ومن المتأخرين من سلك فى بعض هذه الادعية والاذكار التى كان النبى يقولها ويعملها بالفاظ متنوعة ورويت بالفاظ متنوعة طريقة محدثة بأن جمع بين تلك الالفاظ واستحب ذلك ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها
مثاله الحديث الذى فى الصحيحين عن ابى بكر الصديق رضى الله عنه انه قال يا رسول الله علمنى دعاء ادعو به فى صلاتى قال ( قل اللهم انى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب الا أنت ) فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمنى انك انت الغفور الرحيم ) قد روى كثيرا وروي كبيرا فيقول هذا القائل يستحب أن يقول ( كثيرا ) كبيرا وكذلك اذا روى ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ) وروى ( اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته ) وأمثال ذلك وهذه طريقة محدثة لم يسبق اليها احدمن الائمة المعروفين
وطرد هذه الطريقة ان يذكر التشهد بجميع هذه الالفاظ المأثورة وان يقال الاستفتاح بجميع الالفاظ المأثورة وهذا مع انه خلاف عمل المسلمين لم يستحبه احد من ائمتهم بل عملوا بخلافه فهو بدعة فى الشرع فاسد فى العقل
____________________
(22/458)
اما الاول فلان تنوع الفاظ الذكر والدعاء كتنوع الفاظ القرآن مثل ( تعملون ) و ( يعلمون ) و ( باعدوا ) و ( بعدوا ) و ( ارجلكم ) و ( ارجلكم ) ومعلوم ان المسلمين متفقون على انه لا يستحب للقارئ فى الصلاة والقارئ عبادة وتدبرا خارج الصلاة ان يجمع بين هذه الحروف انما يفعل الجمع بعض القراء بعض الاوقات ليمتحن بحفظه للحروف وتمييزه للقراءات وقد تكلم الناس فى هذا
وأما الجمع فى كل القراءة المشروعة المامور بها فغير مشروع باتفاق المسلمين بل يخير بين تلك الحروف واذا قرأ بهذه تارة وبهذه تارة كان حسنا كذلك الاذكار اذا قال تارة ( ظلما كثيرا ) وتارة ( ظلما كبيرا ) كان حسنا كذلك اذا قال تارة ( على آل محمد ) وتارة ( على أزواجه وذريته ) كان حسنا كما أنه فى التشهد اذا تشهد تارة بتشهد بن مسعود وتارة بتشهد بن عباس وتارة بتشهد عمر كان حسنا وفى الاستفتاح اذا استفتح تارة باستفتاح عمر وتارة باستفتاح على وتارة باستفتاح ابى هريرة ونحو ذلك كان حسنا
وقد إحتج غير واحد من العلماء كالشافعى وغيره على جواز الأنواع المأثورة فى التشهدات ونحوها بالحديث الذى فى الصحاح عن
____________________
(22/459)
النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف فاقرءوا بما تيسر ( قالوا فإذا كان القرآن قد رخص فى قراءته سبعة أحرف فغيره من الذكر والدعاء أولى أن يرخص فى أن يقال على عدة أحرف ومعلوم أن المشروع فى ذلك أن يقرأ أحدها أو هذا تارة وهذا تارة لا الجمع بينهما فإن النبى لم يجمع بين هذه الألفاظ فى آن واحد بل قال هذا تارة وهذا تارة إذا كان قد قالهما
وأما إذا إختلفت الرواية فى لفظ فقد يمكن أنه قالهما أو يمكن أنه رخص فيهما ويمكن أن أحد الراويين حفظ اللفظ دون الآخر وهذا يجيء فى مثل قوله ( كبيرا ( كثيرا ( وأما مثل قوله ( وعلى آل محمد ) وقوله فى الأخرى ( وعلى أزواجه وذريته ( فلا ريب أنه قال هذا تارة وهذا تارة ولهذا إحتج من إحتج بذلك على تفسير الآل وللناس فى ذلك قولان مشهوران (
أحدهما ( أنهم أهل بيته الذين حرموا الصدقة وهذا هو المنصوص عن الشافعى وأحمد وعلى هذا ففى تحريم الصدقة على أزواجه وكونهم من أهل بيته روايتان عن أحمد
إحداهما لسن من أهل بيته وهو قول زيد بن ارقم الذى رواه مسلم فى صحيحه عنه
____________________
(22/460)
والثانية ( هن من أهل بيته لهذا الحديث فإنه قال ( وعلى أزواجه وذريته ) وقوله { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } وقوله فى قصة إبراهيم { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } وقد دخلت سارة ولأنه إستثنى امرأة لوط من آله فدل على دخولها فى الآل وحديث الكساء يدل على أن عليا وفاطمة وحسنا وحسينا أحق بالدخول فى أهل البيت من غيرهم كما أن قوله فى المسجد المؤسس على التقوى ( هو مسجدى هذا ( يدل على أنه أحق بذلك وأن مسجد قباء أيضا مؤسس على التقوى كما دل عليه نزول الآية وسياقها وكما أن أزواجه داخلات فى آله وأهل بيته كما دل عليه نزول الآية وسياقها وقد تبين أن دخول أزواجه فى آل بيته أصح وإن كان مواليهن لا يدخلون فى موالى آله بدليل الصدقة على بريرة مولاة عائشة ونهيه عنها أبا رافع مولى العباس وعلى هذا القول فآل المطلب هل هم من آله ومن أهل بيته الذين تحرم عليهم الصدقة على روايتين عن أحمد (
إحداهما ( أنهم منهم وهو قول الشافعى (
والثانية ( ليسوا منهم وهو مذهب أبى حنيفة ومالك و (
القول الثانى ( أن آل محمد هم أمته أو الإتقياء من أمته وهذا
____________________
(22/461)
روى عن مالك أن صح وقاله طائفة من اصحاب أحمد وغيرهم وقد يحتجون على ذلك بما روى الخلال وتمام هذه أنه سئل عن آل محمد فقال ( كل مؤمن تقى ( وهذا الحديث موضوع لا أصل له
والمقصود هنا أن النبى ثبت عنه أنه قال أحيانا ( وعلى آل محمد ( وكان يقول أحيانا ( وعلى أزواجه وذريته ( فمن قال أحدهما أو هذا تارة وهذا تارة فقد أحسن وأما من جمع بينهما فقد خالف السنة
ثم إنه فاسد من جهة العقل أيضا فإن احد اللفظين بدل عن الآخر فلا يجمع بين البدل والمبدل ومن تدبر ما يقول وفهمه علم ذلك
وأما الحكم فى ذلك فيقال لفظ آل فلان إذا أطلق فى الكتاب والسنة دخل فيه فلان كما في قوله { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } وقوله { إلا آل لوط نجيناهم بسحر } وقوله { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } وقوله { سلام على إل ياسين } ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( اللهم صل على آل أبى أوفى (
وكذلك لفظ ( أهل البيت ( كقوله تعالى ( رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ( فإن إبراهيم داخل فيهم وكذلك قوله ( من سره
____________________
(22/462)
ان يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل ( اللهم صل على محمد النبى ( الحديث وسبب ذلك أن لفظ ( الآل ( أصله أول تحركت الواو وإنفتح ما قبلها فقلبت ألفا فقيل آل ومثله باب وناب وفى الأفعال قال وعاد ونحو ذلك ومن قال أصله أهل فقلبت الهاء الفا فقد غلط فإنه قال مالا دليل عليه وإدعى القلب الشاذ بغير حجة مع مخالفته للأصل
وأيضا فإن لفظ الأهل يضيفونه إلى الجماد وإلى غير المعظم كما يقولون أهل البيت وأهل المدينة واهل الفقير وأهل المسكين وإما الآل فإنما يضاف إلى معظم من شأنه أن يؤول غيره أو يسوسه فيكون مآله إليه ومنه الإيالة وهى السياسة فآل الشخص هم من يؤوله ويؤول إليه ويرجع إليه ونفسه هي أول وأولى من يسوسه ويؤول إليه فلهذا كان لفظ آل فلان متناولا له ولا يقال هو مختص به بل يتناوله ويتناول من يؤوله فلهذا جاء فى أكثر الألفاظ ( كما صليت على آل إبراهيم وكما باركت على آل إبراهيم ( وجاء فى بعضها ( إبراهيم ( نفسه لأنه هو الأصل فى الصلاة والزكاة وسائر أهل بيته إنما يحصل لهم ذلك تبعا وجاء فى بعضها ذكر هذا وهذا تنبيها على هذين
فإن قيل فلم قيل ( صل على محمد وعلى آل محمد وبارك
____________________
(22/463)
على محمد وآل محمد فذكر هنا محمدا وآل محمد وذكر هناك لفظ ( آل إبراهيم أو إبراهيم (
قيل ( لأن الصلاة على محمد وعلى آله ذكرت فى مقام الطلب والدعاء وأما الصلاة على إبراهيم ففى مقام الخبر والقصة إذ قوله على محمد وعلى آل محمد ( جملة طلبية وقوله ( صليت على آل إبراهيم ( جملة خبرية والجملة الطلبية إذا بسطت كان مناسبا لأن المطلوب يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه
وأما الخبر فهو خبر عن أمر قد وقع وإنقضى لا يحتمل الزيادة والنقصان فلم يمكن فى زيادة اللفظ زيادة المعنى فكان الإيجاز فيه والإختصار أكمل وأتم وأحسن ولهذا جاء بلفظ آل إبراهيم تارة وبلفظ إبراهيم أخرى لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر وهو الصلاة التى وقعت ومضت إذ قد علم أن الصلاة على إبراهيم التى وقعت هي الصلاة على آل إبراهيم والصلاة على آل إبراهيم صلاة على إبراهيم فكان المراد باللفظين واحدا مع الإيجاز والإختصار
وأما فى الطلب فلو قيل ( صل الله على محمد ( لم يكن فى هذا ما يدل على الصلاة على آل محمد إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ ليس خبرا عن أمر قد وقع وإستقر ولو قيل صل على
____________________
(22/464)
آل محمد لكان إنما يصلى عليه فى العموم فقيل على محمد وعلى آل محمد فإنه يحصل بذلك الصلاة عليه بخصوصه وبالصلاة على آله
ثم إن قيل أنه داخل فى آله مع الإقتران كما هو داخل مع الإطلاق فقد صلى عليه مرتين خصوصا وعموما وهذا ينشأ على قول من يقول العام المعطوف على الخاص يتناول الخاص
ولو ( قيل ( أنه لم يدخل لم يضر فإن الصلاة عليه خصوصا تغني وأيضا ففى ذلك بيان أن الصلاة على سائر الآل إنما طلبت تبعا له وأنه هو الأصل الذى بسببه طلبت الصلاة على آله وهذا يتم بجواب السؤال المشهور وهو أن قوله ( كما صليت على إبراهيم ( يشعر بفضيلة إبراهيم لأن المشبه دون المشبه به وقد اجاب الناس عن ذلك بأجوبه ضعيفة
فقيل التشبيه عائد إلى الصلاة على الأول فقط فقوله ( صل على محمد ( كلام منقطع وقوله ( وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ( كلام مبتدأ وهذا نقله العمرانى عن الشافعى وهذا باطل عن الشافعى قطعا لا يليق بعلمه وفصاحته فإن هذا كلام ركيك فى غاية البعد وفيه من جهة العربية بحوث لا تليق بهذا الموضع
____________________
(22/465)
الثانى قول من منع كون المشبه به أعلى من المشبه وقال يجوز أن يكونا متماثلين قال صاحب هذا القول والنبى يفضل على إبراهيم من وجوه غير الصلاة وهما متماثلان فى الصلاة وهذا أيضا ضعيف فإن الصلاة من الله من أعلى المراتب أو أعلاها ومحمد أفضل الخلق فيها فكيف وقد أمر الله بها بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلون عليه وأيضا فالله وملائكته يصلون على معلم الخير وهو أفضل معلمى الخير والأدلة كثيرة لا يتسع لها هذا الجواب
الثالث قول من قال آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس مثلهم فى آل محمد فإذا طلب من الصلاة مثلما صلى على هؤلاء حصل لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم فإنهم دون الأنبياء وبقيت الزيادة لمحمد فحصل له بذلك من الصلاة عليه مزية ليست لإبراهيم ولا لغيره وهذا الجواب أحسن مما تقدم
وأحسن منه أن يقال محمد هو من آل إبراهيم كما روى على إبن أبي طلحة عن إبن عباس فى قوله ( إن الله إصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ( قال إبن عباس محمد من آل إبراهيم وهذا بين فإنه إذا دخل غيره من الأنبياء فى آل إبراهيم فهو أحق بالدخول فيهم فيكون قولنا كما صليت على آل
____________________
(22/466)
إبراهيم متناولا للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية آل إبراهيم وقد قال تعالى { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } ثم أمرنا أن نصلى على محمد وعلى آل محمد خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموما ثم لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم والباقى له فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم
ومعلوم أن هذا أمر عظيم يحصل له به أعظم مما لإبراهيم وغيره فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به وله نصيب وافر من المشبه وله أكثر المطلوب صار له من المشبه وحده أكثر مما لإبراهيم وغيره وإن كان جملة المطلوب مثل المشبه وإنضاف إلى ذلك ماله من المشبه به فظهر بهذا من فضله على كل من النبيين ما هو اللائق به تسليما كثيرا وجزاه عنا أفضل ما جزى رسولا عن أمته اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
____________________
(22/467)
وسئل رحمه الله (
عن الصلاة على النبى هل الأفضل فيها سرا أم جهرا وهل روى عن النبى أنه قال إزعجوا أعضاءكم بالصلاة على ( أم لا والحديث الذى يروى عن إبن عباس ( أنه أمرهم بالجهر ليسمع من لم يسمع ( أفتونا مأجورين (
فأجاب (
أما الحديث المذكور فهو كذب موضوع بإتفاق أهل العلم وكذلك الحديث الآخر وكذلك سائر ما يروى فى رفع الصوت بالصلاة عليه مثل الأحاديث التى يرويها الباعة لتنفيق السلع أو يرويها السؤال من قصاص وغيرهم لجمع الناس وجبايتهم ونحو ذلك
والصلاة عليه هي دعاء من الأدعية كما علم النبى أمته حين قالوا قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك فقال ( قولوا ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ( أخرجاه فى الصحيحين والسنة فى الدعاء كله المخافتة إلا أن يكون هناك سبب يشرع له الجهر
____________________
(22/468)
قال تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } وقال تعالى عن زكريا { إذ نادى ربه نداء خفيا }
بل السنة فى الذكر كله ذلك كما قال تعالى { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال } وفى الصحيحين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا معه فى سفر فجعلوا يرفعون أصواتهم فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا وإنما تدعون سميعا قريبا أن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ( وهذا الذى ذكرناه فى الصلاة عليه والدعاء مما إتفق عليه العلماء فكلهم يأمرون العبد إذا دعا أن يصلى على النبى كما يدعو لا يرفع صوته بالصلاة عليه أكثر من الدعاء سواء كان فى صلاة كالصلاة التامة وصلاة الجنازة أو كان خارج الصلاة حتى عقيب التلبية فإنه يرفع صوته بالتلبية ثم عقيب ذلك يصلى على النبى ويدعو سرا وكذلك بين تكبيرات العيد إذا ذكر الله وصلى على النبى فإنه وإن جهر بالتكبير لا يجهر بذلك
وكذلك لو إقتصر على الصلاة عليه خارج الصلاة مثل أن يذكر فيصلى عليه فإنه لم يستحب أحد من أهل العلم رفع
____________________
(22/469)
الصوت بذلك فقائل ذلك مخطئ مخالف لما عليه علماء المسلمين
وأما رفع الصوت بالصلاة أو الرضى الذى يفعله بعض المؤذنين قدام بعض الخطباء فى الجمع فهذا مكروه أو محرم بإتفاق الأمة لكن منهم من يقول يصلى عليه سرا ومنهم من يقول يسكت والله أعلم
(
وسئل (
عمن يقول ( اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من صلاتك شيء وبارك على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء وإرحم محمدا وآل محمد حتى لا يبقى من رحمتك شيء وسلم على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من سلامك شيء ( أفتونا مأجورين (
فأجاب (
الحمد لله ليس هذا الدعاء مأثورا عن احد من السلف وقول القائل حتى لا يبقى من صلاتك شيء ورحمتك شيء إن أراد به ان ينفد ما عند الله من ذلك فهذا جاهل فإن ما عند الله من الخير لا نفاد له وإن أراد أنه بدعائه معطيه جميع ما يمكن أن يعطاه فهذا أيضا جهل فإن دعاءه ليس هو السبب الممكن من ذلك
____________________
(22/470)
وسئل (
عن اقوام حصل بينهم كلام فى الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم منهم من قال أنها فرض واجب فى كل وقت ومن لا يصلى عليه يأثم وقال بعضهم هي فرض فى الصلاة المكتوبة لأنها من فروض الصلاة وما عدا ذلك فغير فرض لكن موعود الذى يصلى عليه بكل مرة عشرة (
فأجاب (
الحمد لله مذهب الشافعى وأحمد فى إحدى الروايتين أنها واجبة فى الصلاة ولا تجب فى غيرها ومذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد فى الرواية الأخرى أنها لا تجب فى الصلاة ثم من هؤلاء من قال تجب فى العمر مرة ومنهم من قال تجب فى المجلس الذى يذكر فيه والمسألة مبسوطة فى غير هذا الموضع والله أعلم
____________________
(22/471)
وسئل (
عن قوله ( من صلى على مرة صلى الله عليه عشرا ومن صلى على عشرا صلى الله عليه مائة ومن صلى على مائة صلى الله عليه الف مرة ومن لم يصل على يبقى فى قلبه حسرات ولو دخل الجنة ( إذا صلى العبد على الرسول يصلى الله على ذلك العبد ام لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين ثبت فى الصحيح عن النبى أنه قال ( من صلى على مرة صلى الله عليه عشرا ( وفى السنن عنه أنه قال ( ما إجتمع قوم فى مجلس فلم يذكروا الله فيه ولم يصلوا فيه على إلا كان عليهم ترة يوم القيامة ( والترة النغص والحسرة والله أعلم
(
وسئل (
هل يجوز أن يصلى على غير النبى صلى الله عليه وسلم بأن يقال اللهم صل على فلان
____________________
(22/472)
فأجاب (
الحمد لله قد تنازع العلماء هل لغير النبى أن يصلى على غير النبى مفردا على قولين
أحدهما المنع وهو المنقول عن مالك والشافعى وإختيار جدى أبى البركات
والثانى أنه يجوز وهو المنصوص عن احمد وإختيار أكثر أصحابه كالقاضى وإبن عقيل والشيخ عبدالقادر وإحتجوا بما روى عن علي أنه قال لعمر صلى الله عليك
وإحتج الأولون بقول إبن عباس لا اعلم الصلاة تنبغى من أحد على أحد إلا على رسول الله وهذا الذى قاله إبن عباس قاله لما ظهرت الشيعة وصارت تظهر الصلاة على علي دون غيره فهذا مكروه منهى عنه كما قال إبن عباس
وأما ما نقل عن على فإذا لم يكن على وجه الغلو وجعل ذلك شعارا لغير الرسول فهذا نوع من الدعاء وليس فى الكتاب والسنة ما يمنع منه وقد قال تعالى { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } وقال النبى ( إن الملائكة تصلى على أحدكم مادام
____________________
(22/473)
فى مصلاة الذى صلى فيه مالم يحدث ( وفى حديث قبض الروح ( صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه (
ولا نزاع بين العلماء ان النبى يصلى على غيره كقوله ( اللهم صل على آل أبى أوفى ( وأنه يصلى على غيره تبعا له كقوله ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ( والله أعلم
( وقال شيخ الإسلام رحمه الله (
( فصل (
المنصوص المشهور عن الإمام أحمد أنه لا يدعو فى الصلاة إلا بالأدعية المشروعة المأثورة كما قال الأثرم قلت لأحمد بماذا أدعو بعد التشهد قال بما جاء فى الخبر قلت له أو ليس قال رسول الله ( ثم ليتخير من الدعاء ما شاء ( قال يتخير مما جاء فى الخبر فعاودته فقال ما فى الخبر هذا معنى كلام أحمد
قلت وقد بينت بعض أصل ذلك لقوله { إنه لا يحب المعتدين } وأن الدعاء ليس كله جائزا بل فيه عدوان محرم والمشروع
____________________
(22/474)
لا عدوان فيه وأن العدوان يكون تارة فى كثرة الألفاظ وتارة فى المعانى كما قد فسر أحد الصحابة ذلك إذ قال هذا لابنه لما قال اللهم أنى أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها وقال الأخر أسالك الجنة وقصورها وأنهارها واعوذ بك من النار وسلاسلها واغلالها فقال أى بنى سل الله الجنة وتعوذ به من النار فقد سمعت رسول الله يقول ( سيكون فى هذه الأمة قوم يعتدون فى الدعاء والطهور ( والإعتداء يكون فى العبادة وفى الزهد وقول احمد بما جاء فى الخبر حسن فإن اللام فى الدعاء للدعاء الذى يحبه الله ليس لجنس الدعاء فإن من الدعاء ما
يحرم فإن قيل ما جاز من الدعاء خارج الصلاة جاز فى الصلاة مثل سؤاله دارا وجارية حسناء
قيل ومن قال إن مثل هذا مشروع خارج الصلاة وأن مثل هذه الألفاظ ليست من العدوان وحينئذ فيقال الدعاء المستحب هو الدعاء المشروع فإن الإستحباب إنما يتلقى من الشارع فما لم يشرعه لا يكون مستحبا بل يكون شرع من الدين مالم يأذن به الله فإن الدعاء من أعظم الدين لكن إذا دعا بدعاء لم يعلم أنه مستحب أو علم أنه جائز غير مستحب لم تبطل صلاته بذلك فإن الصلاة إنما تبطل بكلام الآدميين والدعاء ليس من جنس كلام الآدميين بل هو
____________________
(22/475)
كما لو أثنى على الله بثناء لم يشرع له وقد وجد مثل هذا من بعض الصحابة على عهد النبى ولم ينكر عليه كونه أثنى ثناء لم يشرع له فى ذلك المكان بل نفى ماله فيه من الأجر ومن الدعاء ما يكون مكروها ولا تبطل به الصلاة ومنه ما تبطل به الصلاة فالدعاء خمسة أقسام
الذى يشرع هو الواجب والمستحب وأما المباح فلا يستحب ولا يبطل الصلاة والمكروه يكره ولا يبطلها كالإلتفات فى الصلاة وكما لو تشهد فى القيام أو قرأ فى القعود والمحرم يبطلها لأنه من الكلام وهذا تحقيق قول أحمد فإنه لم يبطل الصلاة بالدعاء غير المأثور لكنه لم يستحبه إذ لا يستحب غير المشروع وبين أن التخيير عاد إلى المشروع والمشروع يكون بلفظ النص وبمعناه إذ لم يقيد النبى الدعاء بلفظ واحد كالقراءة
ولهذا لما كانت صلاة الجنازة مقصودها الدعاء لم يوقت فيها وقتا ولما كان الذكر أفضل كان أقرب إلى التوقيت كالأذان والتلبية ونحو ذلك
فأما قول الجد رحمه الله إلا بما ورد فى الأخبار وبما يرجع إلى أمر دينه ففيه نظر فإن أحمد لم يذكر إلا الأخبار وأيضا
____________________
(22/476)
فالدعاء بمصالح الدنيا جائز فإنه مشروع والدعاء ببعض أمور الدين قد يكون من العدوان كما ذكر عن الصحابة وكما لو سأل منازل الأنبياء فالأجود أن يقال إلا بالدعاء المشروع المسنون وهو ما وردت به الأخبار وما كان فى معناه لأن ذلك لم يوجب علينا التعبد بلفظه كالقرآن
ونحن منعنا من ترجمة القرآن لأن لفظه مقصود وكذلك التكبير ونحوه فأما الدعاء فلم يوقت فيه لفظ لكن كرهه أحمد بغير العربية فالمراتب ثلاثة
القراءة والذكر والدعاء باللفظ المنصوص ثم باللفظ العربى فى معنى المنصوص ثم باللفظ العجمى فهذا كرهه أحمد فى الصلاة وفى البطلان به خلاف وهو من باب البدل وأهل الرأى يجوزون مع تشددهم فى المنع من الكلام فى الصلاة حتى كرهوا الدعاء الذى ليس فى القرآن أو ليس فى الخبر وأبطلوا به الصلاة ويجوزون الترجمة بالعجمية فلم يجعل بالعربية عبادة وجوزوا التكبير بكل لفظ يدل على التعظيم
فهم توسعوا فى إبدال القرآن بالعجمية وفى إبدال الذكر بغيره من الأذكار ولم يتوسعوا مثله فى الدعاء وأحمد وغيره من الأئمة
____________________
(22/477)
بالعكس الدعاء عندهم أوسع وهذا هو الصواب لأن النبى قال ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ( ولم يوقت فى دعاء الجنازة شيئا ولم يوقت لأصحابه دعاء معينا كما وقت لهم الذكر فكيف يقيد ما اطلقه الرسول من الدعاء ويطلق ما قيده من الذكر مع أن الذكر أفضل من الدعاء كما قررناه فى غير هذا الموضع
ولهذا توجب الأذكار العلمية مالم يجب من الثنائية
ولهذا كان أفضل الكلام بعد القرآن الكلمات الباقيات الصالحات ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ( فأمر النبى بهذه الكلمات لمن عجز عن القرآن وقال ( هن أفضل الكلام بعد القرآن ( ولهذا كان أفضل الإستفتاحات فى الصلاة ما تضمنت ذلك وهو قوله ( سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ( لما قد بيناه فى غير هذا الموضع
وذكرنا أن هذا ثناء فهو أفضل من الدعاء وهو ثناء بمعنى افضل الكلام بعد القرآن وذلك مقتضى للإجابة يبين ذلك ما رواه البخارى فى صحيحه عن أبى أمامه قال قال رسول الله صلى الله عليه
____________________
(22/478)
وسلم ( من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ودعا استجيب له وإن توضأ قبلت صلاته ( فقد أخبر أن هذه الكلمات الخمس إذا إفتتح بها المستيقظ من الليل كلامه كان ذلك سببا لإجابة دعائه ولقبول صلاته إذا توضأ بعد ذلك فيكون إفتتاح الصلاة بذلك سببا لقبولها وما فيها من الدعاء أو حمد الله والثناء عليه قبل دعائه ولذلك أمر النبى بذلك فى حديث [ المسىء ) فقال ( كبر فإحمد الله وأثن عليه ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن (
وأيضا ففى أحاديث أخر من أحاديث الإفتتاح أنه كان يقول ( الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا ( وهذا معناها
وأيضا فإنها مستحبة بين تكبيرات العيد الزوائد كما نقل ذلك عن إبن مسعود وتلك التكبيرات هي من جنس تكبيرات الإفتتاح
وأيضا ففى الحديث الآخر من احاديث الإستفتاح أنه كان يكبر عشرا ويحمد عشرا ويسبح عشرا أو كما قال فتوافق معانى الأحاديث الكثيرة على معنى هذا الإفتتاح كتوافق معنى تشهد أبى
____________________
(22/479)
موسى وغيره على معنى تشهد إبن مسعود وإذا كان الذكر الواحد قد جاءت عامة الأذكار بمعناه كان أرجح مما لم يجيء فيه إلا حديث واحد لأنه يدل على كثرة قصد النبى صلى الله عليه وسلم لتلك المعانى وما كثر قصده وإختياره له كان مقدما على مالم يكثر
ويؤيد ذلك أن هذه الكلمات مشروعة فى دبر الصلوات المكتوبات أيضا كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة فتكون هي من الفواتح والخواتم التى أوتيها نبينا فإنه أوتى فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
(
وسئل رحمه الله (
هل الدعاء عقيب الفرائض أم السنن أم بعد التشهد فى الصلاة (
فأجاب (
السنة التي كان النبى يفعلها ويأمر بها أن يدعو فى التشهد قبل السلام كما ثبت عنه فى الصحيح أنه كان يقول بعد التشهد ( اللهم أنى أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال
____________________
(22/480)
وفى الصحيح أيضا أنه أمر بهذا الدعاء بعد التشهد وكذلك فى الصحيح أنه كان يقول بعد التشهد قبل السلام ( اللهم إغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ( وفى الصحيح أن أبا بكر قال يا رسول الله علمنى دعاء أدعو به فى صلاتى فقال ( قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فإغفر لى مغفرة من عندك وإرحمنى إنك أنت الغفور الرحيم (
وفى الصحيح أحاديث غير هذه أنه كان يدعو بعد التشهد وقبل السلام وكان يدعو فى سجوده وفى رواية كان يدعو إذا رفع رأسه من الركوع وكان يدعو فى إفتتاح الصلاة ولم يقل أحد عنه أنه كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام بل كان يذكر الله بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير كما جاء فى الأحاديث الصحيحة والله أعلم
(
وسئل (
عمن قال لا يجوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين إسما ولا يقول يا حنان يا منان ولا يقول يا دليل الحائرين فهل له أن يقول ذلك
____________________
(22/481)
فأجاب (
الحمد لله هذا القول وإن كان قد قاله طائفة من المتأخرين كأبى محمد بن حزم وغيره فإن جمهور العلماء على خلافه وعلى ذلك مضى سلف الأمة وأئمتها
وهو الصواب لوجوه (
احدها ( أن التسعة والتسعين إسما لم يرد فى تعيينها حديث صحيح عن النبى وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذى الذى رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن ابى حمزة وحفاظ أهل الحديث يقولون هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث وفيها حديث ثان أضعف من هذا رواه إبن ماجه وقد روى فى عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف
وهذا القائل الذى حصر أسماء الله فى تسعة وتسعين لم يمكنه إستخراجها من القرآن وإذا لم يقم على تعيينها دليل يجب القول به لم يمكن أن يقال هي التى يجوز الدعاء بها دون غيرها لأنه لا سبيل إلى تمييز المأمور من المحظور فكل إسم يجهل حاله يمكن أن يكون من المأمور ويمكن أن يكون من المحظور وإن قيل لا تدعوا إلا بإسم له ذكر فى الكتاب والسنة قيل هذا أكثر من تسعة وتسعين
(
الوجه الثانى ( أنه إذا قيل تعيينها على ما فى حديث الترمذى مثلا ففى الكتاب والسنة أسماء ليست فى ذلك الحديث مثل إسم
____________________
(22/482)
الرب ( فإنه ليس فى حديث الترمذى وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الإسم كقول آدم { ربنا ظلمنا أنفسنا } وقول نوح { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } وقول إبراهيم { رب اغفر لي ولوالدي } وقول موسى { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } وقول المسيح { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء } وأمثال ذلك حتى أنه يذكر عن مالك وغيره أنهم كرهوا أن يقال يا سيدى بل يقال يارب لأنه دعاء النبيين وغيرهم كما ذكر الله فى القرآن
وكذلك إسم المنان ففى الحديث الذى رواه أهل السنن أن النبى صلى الله عليه وسلم سمع داعيا يدعو اللهم أنى أسألك بأن لك الملك أنت الله المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حى يا قيوم فقال النبى ( لقد دعا الله بإسمه الأعظم الذى إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى ( وهذا رد لقول من زعم أنه لا يمكن فى أسمائه المنان
وقد قال الإمام أحمد رضى الله عنه لرجل ودعه قل يا دليل الحائرين دلنى على طريق الصادقين وإجعلنى من عبادك الصالحين وقد أنكر طائفة من أهل الكلام كالقاضى أبى بكر وأبى الوفاء إبن عقيل أن يكون من أسمائه الدليل لأنهم ظنوا أن الدليل
____________________
(22/483)
هو الدلالة التى يستدل بها والصواب ما عليه الجمهور لأن الدليل فى الأصل هو المعرف للمدلول ولو كان الدليل ما يستدل به فالعبد يستدل به أيضا فهو دليل من الوجهين جميعا
وايضا فقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله وتر يحب الوتر ( وليس هذا الإسم فى هذه التسعة والتسعين وثبت عنه فى الصحيح أنه قال ( إن الله جميل يحب الجمال ( وليس هو فيها وفى الترمذى وغيره أنه قال ( إن الله نظيف يحب النظافة ( وليس هذا فيها وفى الصحيح عنه أنه قال ( أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ( وليس هذا فيها وتتبع هذا يطول
ولفظ التسعة والتسعين المشهورة عند الناس فى الترمذى الله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلى الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوى
____________________
(22/484)
المتين الولى الحميد المحصى المبدىء المعيد المحيى المميت الحى القيوم الواجد الماجد الأحد ويروى الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالى المتعالى البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغنى المغنى المعطى المانع الضار النافع النور الهادى البديع الباقى الوارث الرشيد الصبور الذى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (
ومن اسمائه التى ليست فى هذه التسعة والتسعين إسمه السبوح وفى الحديث عن النبى أنه كان يقول ( سبوح قدوس ( وإسمه ( الشافى ( كما ثبت فى الصحيح أنه كان يقول ( أذهب البأس رب الناس وإشف أنت الشافى لا شافى إلا أنت شفاء لا يغادر سقما ( وكذلك إسماؤه المضافة مثل أرحم الراحمين وخير الغافرين ورب العالمين ومالك يوم الدين وأحسن الخالقين وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ومقلب القلوب وغير ذلك مما ثبت فى الكتاب والسنة وثبت فى الدعاء بها بإجماع المسلمين وليس من هذه التسعة والتسعين
الوجه الثالث ما إحتج به الخطابى وغيره وهو حديث إبن مسعود عن النبى أنه قال ( ما أصاب عبدا قط
____________________
(22/485)
هم ولا حزن فقال اللهم أنى عبدك وإبن عبدك وإبن أمتك ناصيتى بيدك ماض فى حكمك عدل فى قضاؤك أسألك بكل إسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته فى كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو إستاثرت به فى علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبى وشفاء صدرى وجلاء حزنى وذهاب غمى وهمى إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا ( قالوا يارسول الله أفلا نتعلمهن قال ( بلى ينبغى لمن سمعهن أن يتعلمهن ( رواه الإمام احمد فى المسند وأبو حاتم إبن حبان فى صحيحه
قال الخطابى وغيره فهذا يدل على أن له اسماء إستاثر بها وذلك يدل على أن قوله ( إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ( إن فى أسمائه تسعة وتسعين من أحصاها دخل الجنة كما يقول القائل أن لى ألف درهم أعددتها للصدقة وإن كان ماله أكثر من ذلك
والله فى القرآن قال { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } فأمر أن يدعى بأسمائه الحسنى مطلقا ولم يقل ليست اسماؤه الحسنى إلا تسعة وتسعين إسما والحديث قد سلم معناه والله أعلم
____________________
(22/486)
وسئل رحمه الله (
عن رجل قال إذا دعا العبد لا يقول يا الله يا رحمن (
فأجاب (
الحمد لله لا خلاف بين المسلمين ان العبد إذا دعا ربه يقول يا الله يا رحمن وهذا معلوم بالإضطرار من دين الإسلام كما قال تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } وكان النبى يقول فى دعائه ( يا الله يا رحمن ( فقال المشركون محمد ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فقال الله تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } أى المدعو إله واحد وإن تعددت أسماؤه كما قال تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه }
ومن أنكر أن يقال يا الله يا رحمن فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل والله أعلم
____________________
(22/487)
وسئل (
عن امرأة سمعت فى الحديث ( اللهم أنى عبدك وإبن عبدك ناصيتى بيدك ( إلى آخره فداومت على هذا اللفظ فقيل لها قولى اللهم أنى أمتك بنت أمتك إلى آخره فأبت إلا المداومة على اللفظ فهل هي مصيبة أم لا (
فأجاب (
بل ينبغى لها أن تقول اللهم أنى أمتك بنت عبدك إبن أمتك فهو أولى وأحسن وإن كان قولها عبدك إبن عبدك له مخرج فى العربية كلفظ الزوج والله أعلم
(
وسئل (
عن رجل دعا دعاء ملحونا فقال له رجل ما يقبل الله دعاء ملحونا (
فأجاب (
من قال هذا القول فهو آثم مخالف للكتاب والسنة ولما كان عليه السلف وأما من دعا الله مخلصا له الدين بدعاء جائز سمعه
____________________
(22/488)
الله وأجاب دعاءه سواء كان معربا أو ملحونا والكلام المذكور لا اصل له بل ينبغى للداعى إذا لم تكن عادته الأعراب أن لا يتكلف الأعراب قال بعض السلف إذا جاء الأعراب ذهب الخشوع وهذا كما يكره تكلف السجع فى الدعاء فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به فإن أصل الدعاء من القلب واللسان تابع للقلب
ومن جعل همته فى الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه لا يحضره قبل ذلك وهذا أمر يجده كل مؤمن فى قلبه والدعاء يجوز بالعربية وبغير العربية والله سبحانه يعلم قصد الداعى ومراده وإن لم يقوم لسانه فإنه يعلم ضجيج الأصوات بإختلاف اللغات على تنوع الحاجات
( وقال رحمه الله (
( فصل (
وأما السلام من الصلاة فالمختار عند مالك ومن تبعه من أهل المدينة تسليمة واحدة فى جميع الصلاة فرضها ونفلها المشتملة على الأركان الفعلية أو على ركن واحد
____________________
(22/489)
وعند أهل الكوفة تسليمتان فى جميع ذلك ووافقهم الشافعى
والمختار فى المشهور عن أحمد أن الصلاة الكاملة المشتملة على قيام وركوع وسجود يسلم منها تسليمتان وأما الصلاة بركن واحد كصلاة الجنائز وسجود التلاوة وسجود الشكر فالمختار فيها تسليمة واحدة كما جاءت أكثر الآثار بذلك
فالخروج من الأركان الفعلية المتعددة بالتسليم المتعدد ومن الركن الفعلى المفرد بالتسليم المفرد فإن صلاة النبى كانت معتدلة فما طولها أعطى كل جزء منها حظه من الطول وما خففها أدخل التخفيف على عامة أجزائها
(
وسئل (
عن رجل إذا سلم عن يمينه يقول السلام عليكم ورحمة الله أسألك الفوز بالجنة وعن شماله السلام عليكم أسألك النجاة من النار فهل هذا مكروه أم لا فإن كان مكروها فما الدليل على كراهته (
فأجاب (
الحمد لله نعم يكره هذا لأن هذا بدعة فإن هذا
____________________
(22/490)
لم يفعله رسول الله ولا إستحبه احد من العلماء وهو إحداث دعاء فى الصلاة فى غير محله يفصل بأحدهما بين التسليمتين ويصل التسليمة بالآخر وليس لأحد فصل الصفة المشروعة بمثل هذا كما لو قال سمع الله لمن حمده أسألك الفوز بالجنة ربنا ولك الحمد أسألك النجاة من النار وأمثال ذلك والله أعلم
____________________
(22/491)
& باب الذكر بعد الصلاة (
( وسئل رحمه الله (
عن حديث عقبة بن عامر قال ( أمرنى رسول الله أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة ( وعن أبى أمامة قال ( قيل يا رسول الله أى الدعاء اسمع قال جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبة ( وعن معاذ بن جبل أن رسول الله أخذ بيده فقال ( يا معاذ والله إنى لأحبك فلا تدعن فى دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ( فهل هذه الأحاديث تدل على أن الدعاء بعد الخروج من الصلاة سنة أفتونا وأبسطوا القول فى ذلك ماجورين (
فاجاب (
الحمد لله رب العالمين الأحاديث المعروفة فى الصحاح والسنن والمساند تدل على أن النبى كان يدعو فى دبر صلاته قبل الخروج منها وكان يأمر أصحابه بذلك ويعلمهم ذلك ولم ينقل أحد أن النبى كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعا لا فى الفجر ولا فى العصر ولا فى غيرهما من الصلوات بل قد ثبت عنه أنه كان
____________________
(22/492)
يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة
ففى الصحيح ( أنه كان قبل أن ينصرف يستغفر ثلاثا ويقول ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ( وفى الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة أنه كان يقول ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما اعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ( وفى الصحيح من حديث إبن الزبير ( أن النبى كان يهلل بهؤلاء الكلمات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ( وفى الصحيح عن إبن عباس ( إن رفع الناس أصواتهم بالذكر كان على عهد النبى ( وفى لفظ كنا نعرف إنقضاء صلاته بالتكبير
والأذكار التى كان النبى يعلمها المسلمين عقيب الصلاة أنواع
____________________
(22/493)
أحدها ( أنه يسبح ثلاثا وثلاثين ويحمد ثلاثا وثلاثين ويكبر ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون ويقول تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ( رواه مسلم فى صحيحه
والثانى يقولها خمسا وعشرين ويضم إليها ( لا إله إلا الله ( وقد رواه مسلم
والثالث يقول الثلاثة ثلاثا وثلاثين وهذا على وجهين
أحدهما أن يقول كل واحدة ثلاثا وثلاثين
والثانى أن يقول كل واحدة إحدى عشرة مرة والثلاث والثلاثون فى الحديث المتفق عليه فى الصحيحين
والخامس يكبر أربعا وثلاثين ليتم مائة
والسادس يقول الثلاثة عشرا عشرا فهذا هو الذى مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك مناسب لأن المصلى يناجي ربه فدعاؤه له ومسألته إياه وهو يناجيه أولى به من مسألته ودعائه بعد إنصرافه عنه
____________________
(22/494)
وأما الذكر بعد الإنصراف فكما قالت عائشة رضى الله عنها هو مثل مسح المرآة بعد صقالها فإن الصلاة نور فهي تصقل القلب كما تصقل المرآة ثم الذكر بعد ذلك بمنزلة مسح المرآة وقد قال الله تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } قيل إذا فرغت من أشغال الدنيا فإنصب فى العبادة وإلى ربك فإرغب وهذا أشهر القولين وخرج شريح القاضي على قوم من الحاكة يوم عيد وهم يلعبون فقال مالكم تلعبون قالوا إنا تفرغنا قال أو بهذا أمر الفارغ وتلا قوله تعالى { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب }
ويناسب هذا قوله تعالى { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا } إلى قوله { إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا } أى ذهابا ومجيئا وبالليل تكون فارغا وناشئة الليل فى اصح القولين إنما تكون بعد النوم يقال نشأ إذا قام بعد النوم فإذا قام بعد النوم كانت مواطأة قلبه للسانه أشد لعدم ما يشغل القلب وزوال أثر حركة النهار بالنوم وكان قوله ( أقوم (
وقد قيل فإذا فرغت من { الصلاة } فإنصب فى الدعاء { وإلى ربك فارغب } وهذا القول سواء كان صحيحا أو لم يكن فإنه يمنع الدعاء فى آخر الصلاة لا سيما والنبى هو المأمور بهذا فلابد أن يمتثل ما أمره الله به
____________________
(22/495)
ودعاؤه فى الصلاة المنقول عنه فى الصحاح وغيرها إنما كان قبل الخروج من الصلاة وقد قال لأصحابه فى الحديث الصحيح ( إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول ( اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال (
وفى حديث إبن مسعود الصحيح لما ذكر التشهد قال ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ( وقد روت عائشة وغيرها دعاءه فى صلاته بالليل وأنه كان قبل الخروج من الصلاة
فقول من قال إذا فرغت من الصلاة فإنصب فى الدعاء يشبه قول من قال فى حديث إبن مسعود لما ذكر التشهد فإذا فعلت ذلك فقد قضيت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فإقعد وهذه الزيادة سواء كانت من كلام النبى صلى الله عليه وسلم أو من كلام من أدرجها فى حديث إبن مسعود كما يقول ذلك من ذكره من أئمة الحديث ففيها أن قائل ذلك جعل ذلك قضاء للصلاة فهكذا جعله هذا المفسر فراغا من الصلاة مع أن تفسير قوله { فإذا فرغت فانصب } أى فرغت من الصلاة قول ضعيف فإن قوله إذا فرغت مطلق ولأن الفارغ أن أريد به الفارغ من العبادة فالدعاء أيضا عبادة وأن أريد به الفراغ من
____________________
(22/496)
أشغال الدنيا بالصلاة فليس كذلك
يوضح ذلك أنه لا نزاع بين المسلمين أن الصلاة يدعى فيها كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يدعو فيها فقد ثبت عنه فى الصحيح أنه كان يقول فى دعاء الإستفتاح اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقنى من خطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم إغسلنى من خطاياى بالماء والثلج والبرد ( وأنه كان يقول ( اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربى وأنا عبدك ظلمت نفسى وإعترفت بذنبى فإغفر لى ذنوبى جميعا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وإهدنى لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدى لأحسنها إلا أنت وإصرف عنى سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت (
وثبت عنه فى الصحيح أنه كان يدعو إذا رفع رأسه من الركوع وثبت عنه الدعاء فى الركوع والسجود سواء كان فى النفل أو فى الفرض وتواتر عنه الدعاء آخر الصلاة وفى الصحيحين أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال يا رسول الله علمنى دعاء أدعو به فى صلاتى فقال ( قل اللهم أنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فإغفر لى مغفرة من عندك وإرحمنى إنك أنت الغفور الرحيم ( فإذا كان الدعاء مشروعا فى الصلاة لا سيما فى آخرها فكيف يقول
____________________
(22/497)
إذا فرغت من الصلاة فإنصب فى الدعاء والذى فرغ منه هو نظير الذى أمر به فهو فى الصلاة كان ناصبا فى الدعاء لا فارغا ثم أنه لم يقل مسلم إن الدعاء بعد الخروج من الصلاة يكون أوكد وأقوى منه فى الصلاة ثم لو كان قوله { فانصب } فى الدعاء لم يحتج إلى قوله { وإلى ربك فارغب } فإنه قد علم أن الدعاء إنما يكون لله
فعلم أنه أمره بشيئين أن يجتهد فى العبادة عند فراغه من أشغاله وأن تكون رغبته إلى ربه لا إلى غيره كما فى قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } فقوله إياك نعبد موافق لقوله فإنصب وقوله وإياك نستعين موافق لقوله ( وإلى ربك فإرغب ومثله قوله { فاعبده وتوكل عليه } وقوله { هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } وقول شعيب عليه السلام { عليه توكلت وإليه أنيب } ومنه الذى يروى عند دخول المسجد اللهم إجعلنى من أوجه من توجه إليك وأقرب من تقرب إليك وأفضل من سألك ورغب إليك والأثر الآخر واليك الرغباء والعمل وذلك إن دعاء الله المذكور فى القرآن نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة ورغبة فقوله { فانصب وإلى ربك فارغب } يجمع نوعى دعاء الله قال تعالى { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } وقال تعالى { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } الآية ونظائرة كثيرة
____________________
(22/498)
وأما لفظ ( دبر الصلاة ( فقد يراد به آخر جزء منه وقد يراد به ما يلى آخر جزء منه كما فى دبر الإنسان فإنه آخر جزء منه ومثله لفظ ( العقب ( قد يراد به الجزء المؤخر من الشيء كعقب الإنسان وقد يراد به ما يلى ذلك فالدعاء المذكور في دبرالصلاة إما أن يراد به آخر جزء منها ليوافق بقية الأحاديث أو يراد به ما يلى آخرها ويكون ذلك ما بعد التشهد كما سمى ذلك قضاء للصلاة وفراغا منها حيث لم يبق إلا السلام المنافى للصلاة بحيث لو فعله عمدا فى الصلاة بطلت صلاته ولا تبطل سائر الأذكار المشروعة فى الصلاة أو يكون مطلقا أو مجملا وبكل حال فلا يجوز أن يخص به ما بعد السلام لأن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل ذلك ولا يجوز أن يشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة
والناس لهم فى هذه فيما بعد السلام ثلاثة أحوال
منهم من لا يرى قعود الإمام مستقبل المأموم لا بذكر ولا دعاء ولا غير ذلك وحجتهم ما يروى عن السلف أنهم كانوا يكرهون للإمام أن يستديم إستقبال القبلة بعد السلام فظنوا أن ذلك يوجب قيامه من مكانه ولم يعلموا أن إنصرافه مستقبل المأمومين بوجهه كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يفعل يحصل هذا المقصود
____________________
(22/499)
وهذا يفعله من يفعله من اصحاب مالك
ومنهم من يرى دعاء الإمام والمأموم بعد السلام ثم منهم من يرى ذلك فى الصلوات الخمس ومنهم من يراه فى صلاة الفجر والعصر كما ذكر ذلك من ذكره من اصحاب الشافعى وأحمد وغيرهم وليس مع هؤلاء بذلك سنة وإنما غايتهم التمسك بلفظ مجمل أو بقياس كقول بعضهم ما بعد الفجر والعصر ليس بوقت صلاة فيستحب فيه الدعاء ومن المعلوم أن ما تقدمت به سنة رسول الله الثابتة الصحيحة بل المتواترة لا يحتاج فيه إلى مجمل ولا إلى قياس
وأما قول عقبة بن عامر أمرنى رسول الله أن اقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة فهذا بعد الخروج منها
وأما حديث أبى إمامة ( قيل يا رسول الله أى الدعاء أسمع قال جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبة ( فهذا يجب أن لا يخص ما بعد السلام بل لا بد أن يتناول ما قبل السلام وان قيل انه يعم ما قبل السلام وما بعده لكن ذلك لا يستلزم أن يكون دعاء الإمام والمأموم جميعا بعد السلام سنة كما لا يلزم مثل ذلك قبل السلام بل إذا دعا كل واحد وحده بعد السلام فهذا لا يخالف السنة وكذلك قوله لمعاذ بن جبل
____________________
(22/500)
لا تدعن فى دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ( يتناول ما قبل السلام ويتناول ما بعده أيضا كما تقدم فإن معاذا كان يصلى إماما بقومه كما كان النبى يصلى إماما وقد بعثه إلى اليمن معلما لهم فلو كان هذا مشروعا للإمام والمأموم مجتمعين على ذلك كدعاء القنوت لكان يقول ( اللهم أعنا على ذكرك وشكرك فلما ذكره بصيغة الإفراد علم أنه لا يشرع للإمام والمأموم ذلك بصيغة الجمع
ومما يوضح ذلك ما فى الصحيح عن البراء بن عازب قال ( كنا إذا صلينا خلف رسول الله أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه قال فسمعته يقول رب قنى عذابك يوم تبعث عبادك أو يوم تجمع عبادك ( فهذا فيه دعاؤه صلى الله عليه وسلم بصيغة الإفراد كما فى حديث معاذ وكلاهما إمام
وفيه أنه كان يستقبل المأمومين وأنه لا يدعو بصيغة الجمع وقد ذكر حديث معاذ بعض من صنف فى الأحكام فى الأدعية فى الصلاة قبل السلام موافقة لسائر الأحاديث كما فى مسلم والسنن الثلاثة عن أبى هريرة أن النبى قال ( إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال
____________________
(22/501)
وفى مسلم وغيره عن إبن عباس ( ان رسول الله كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول ( اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال (
وفى السنن أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ما تقول فى الصلاة قال أتشهد ثم أقول اللهم إنى أسألك الجنة وأعوذ بك من النار أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولهما ندندن ( رواه أبو داود وأبو حاتم فى صحيحه وظاهر هذا أن دندنتهما أيضا بعد التشهد فى الصلاة ليكون نظير ما قاله وعن شداد بن اوس أن رسول الله كان يقول فى صلاته ( اللهم إنى أسالك الثبات فى الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسالك قلبا سليما ولسانا صادقا واسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم ( رواه النسائى
وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أن النبى كان يدعو فى الصلاة ( اللهم أنى أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات اللهم أنى أعوذ بك من المغرم والمأثم فقال له قائل ما اكثر ما تستعيذ
____________________
(22/502)
يا رسول الله من المغرم قال إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف (
قال المصنف فى الأحكام والظاهر أن هذا يدل على انه كان بعد التشهد يدل عليه حديث إبن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد التشهد ( اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ( وقد تقدم حديث إبن عباس الذى فى الصحيحين أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن وحديث أبى هريرة وأنه يقال بعد التشهد وقد روى فى لفظ الدبر ما رواه البخارى وغيره عن سعد بن أبى وقاص أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول أن رسول الله كان يتعوذ بهن دبر الصلاة ( اللهم أنى أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر (
وفى النسائى عن أبى بكرة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول فى دبر الصلاة ( اللهم أنى اعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر ( وفى النسائى ايضا عن عائشة رضى الله عنها قالت دخلت على
____________________
(22/503)
امرأة من اليهود فقالت ( إن عذاب القبر من البول فقلت كذبت فقالت بلى أنا لنقرض منه الجلود والثوب فخرج رسول الله إلى الصلاة وقد إرتفعت أصواتنا فقال ( ما هذا ( فأخبرته بما قالت قال ( صدقت ( فما صلى بعد يومئذ إلا قال فى دبر الصلاة ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أجرنى من حر النار وعذاب القبر (
قال المصنف فى ( الأحكام ( والظاهر أن المراد بدبر الصلاة فى الأحاديث الثلاثة قبل السلام توفيقا بينه وبين ما تقدم من حديث إبن عباس وأبى هريرة قلت وهذا الذى قاله صحيح فإن هذا الحديث فى الصحيح من حديث عائشة رضى الله عنها أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رضى الله عنها رسول الله عن عذاب القبر فقال ( نعم عذاب القبر حق ( قالت عائشة فما رأيت رسول الله بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر والأحاديث فى هذا الباب يوافق بعضها بعضا وتبين ما تقدم والله أعلم
____________________
(22/504)
وسئل (
عن جماعة يسبحون الله ويحمدونه ويكبرونه هل ذلك سنة أم مكروه وربما فى الجماعة من يثقل بالتطويل من غير ضرورة (
فأجاب (
التسبيح والتكبير عقب الصلاة مستحب ليس بواجب ومن أراد أن يقوم قبل ذلك فله ذلك ولا ينكر عليه وليس لمن أراد فعل المستحب أن يتركه ولكن ينبغى للمأموم أن لا يقوم حتى ينصرف الإمام أى ينتقل عن القبلة ولا ينبغى للإمام أن يقعد بعد السلام مستقبل القبلة إلا مقدار ما يستغفر ثلاثا ويقول ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ( وإذا إنتقل الإمام فمن أراد أن يقوم قام ومن أحب ان يقعد يذكر الله فعل ذلك
____________________
(22/505)
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله (
( فصل (
وعد التسبيح بالأصابع سنة كما قال النبى للنساء ( سبحن وإعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات ( وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن وكان من الصحابة رضى الله عنهم من يفعل ذلك وقد رأى النبى أم المؤمنين تسبح بالحصى واقرها على ذلك وروى أن أبا هريرة كان يسبح به
وأما التسبيح بما يجعل فى نظام من الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه ومنهم من لم يكرهه وإذا أحسنت فيه النية فهو حسن غير مكروه وأما إتخاذه من غير حاجة أو إظهاره للناس مثل تعليقه فى العنق أو جعله كالسوار فى اليد او نحو ذلك فهذا إما رياء للناس أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة الأول محرم والثاني أقل أحواله الكراهة فإن مراءاة الناس فى العبادات المختصة كالصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن من أعظم الذنوب قال الله
____________________
(22/506)
تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون } وقال تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }
فأما المرائى بالفرائض فكل أحد يعلم قبح حاله وأن الله يعاقبه لكونه لم يعبده مخلصا له الدين والله تعالى يقول { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة }
وقال تعالى { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص } فهذا فى القرآن كثير
وأما المرائى بنوافل الصلاة والصوم والذكر وقراءة القرآن فلا يظن الظان أنه يكتفى فيه بحبوط عمله فقط بحيث يكون لا له ولا عليه بل هو مستحق للذم والعقاب على قصده شهرة عبادة غير الله إذ هي عبادات مختصة ولا تصح إلا من مسلم ولا يجوز إيقاعها على غير وجه التقرب بخلاف ما فيه نفع العبد كالتعليم والإمامة فهذا فى الإستئجار عليه نزاع بين العلماء والله أعلم
____________________
(22/507)
وسئل (
عن قراءة آية الكرسى دبر كل صلاة فى جماعة هل هي مستحبة أم لا وما كان فعل النبى فى الصلاة وقوله ( دبر كل صلاة (
فأجاب (
الحمد لله قد روى فى قراءة آية الكرسى عقيب الصلاة حديث لكنه ضعيف ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها فلا يمكن أن يثبت به حكم شرعى ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفاؤه يجهرون بعد الصلاة بقراءة آية الكرسى ولا غيرها من القرآن فجهر الإمام والمأموم بذلك والمداومة عليها بدعة مكروهة بلا ريب فإن ذلك أحداث شعار بمنزلة أن يحدث آخر جهر الإمام والمأمومين بقراءة الفاتحة دائما أو خواتيم البقرة أو أول الحديد أو آخر الحشر او بمنزلة إجتماع الإمام والمأموم دائما على صلاة ركعتين عقيب الفريضة ونحو ذلك مما لا ريب أنه من البدع
وأما إذا قرأ الإمام آية الكرسى فى نفسه أو قرأها أحد المأمومين فهذا لا بأس به إذ قراءتها عمل صالح وليس فى ذلك تغيير لشعائر
____________________
(22/508)
الإسلام كما لو كان له ورد من القرآن والدعاء والذكر عقيب الصلاة
وأما الذى ثبت فى فضائل الأعمال فى الصحيح عن النبى من الذكر عقيب الصلاة ففى الصحيح عن المغيرة بن شعبة انه كان يقول دبر كل صلاة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (
وفى الصحيح أيضا عن إبن الزبير أنه كان يقول ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ( وثبت فى الصحيح أنه قال ( من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد ثلاثا وثلاثين وكبر ثلاثا وثلاثين وذلك تسعة وتسعون وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر (
وقد روى فى الصحيحين أنه يقول كل واحد خمسة وعشرين ويزيد فيها التهليل وروى أنه يقول كل واحد عشر ويروى أحد عشر مرة وروى أنه يكبر أربعا وثلاثين وعن إبن عباس أن رفع
____________________
(22/509)
الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله قال إبن عباس كنت أعلم إذا إنصرفوا بذلك إذا سمعته وفى لفظ ما كنت أعرف إنقضاء صلاة رسول الله إلا بالتكبير فهذه هي الأذكار التى جاءت بها السنة فى ادبار الصلاة
(
وسئل رحمه الله (
عمن يقول أنا أعتقد أن من أحدث شيئا من الأذكار غير ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنه أنه قد أساء وأخطأ إذ لو إرتضى ان يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيه وإمامه ودليله لاكتفى بما صح عنه من الأذكار فعدوله إلى رأيه وإختراعه جهل وتزيين من الشيطان وخلاف للسنة إذ الرسول لم يترك خيرا إلا دلنا عليه وشرعه لنا ولم يدخر الله عنه خيرا بدليل إعطائه خير الدنيا والآخرة إذ هو إكرم الخلق على الله فهل الأمر كذلك أم لا (
فأجاب (
الحمد لله لا ريب إن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات والعبادات مبناها على التوقيف والإتباع لا على الهوى
____________________
(22/510)
والإبتداع فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحرى من الذكر والدعاء وسالكها على سبيل أمان وسلامة والفوائد والنتائج التى تحصل لا يعبر عنه لسان ولا يحيط به إنسان وما سواها من الأذكار قد يكون محرما وقد يكون مكروها وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدى إليه اكثر الناس وهى جملة يطول تفصيلها
وليس لأحد أن يسن للناس نوعا من الأذكار والأدعية غير المسنون ويجعلها عبادة راتبة يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس بل هذا إبتداع دين لم يأذن الله به بخلاف ما يدعو به المرء أحيانا من غير أن يجعله للناس سنة فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معنى محرما لم يجز الجزم بتحريمه لكن قد يكون فيه ذلك والإنسان لا يشعر به وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت فهذا وأمثاله قريب
وأما إتخاذ ورد غير شرعى وإستنان ذكر غير شرعى فهذا مما ينهى عنه ومع هذا ففى الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة ونهاية المقاصد العلية ولا يعدل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مفرط أو متعد
____________________
(22/511)
وسئل رحمه الله (
عن الدعاء عقيب الصلاة هل هو سنة أم لا ومن أنكر على إمام لم يدع عقيب صلاة العصر هل هو مصيب أم مخطىء (
فأجاب ( الحمد لله لم يكن النبى يدعو هو والمأمومون عقيب الصلوات الخمس كما يفعله بعض الناس عقيب الفجر والعصر ولا نقل ذلك عن أحد ولا إستحب ذلك أحد من الأئمة ومن نقل عن الشافعى أنه إستحب ذلك فقد غلط عليه ولفظه الموجود فى كتبه ينافى ذلك وكذلك أحمد وغيره من الأئمة لم يستحبوا ذلك
ولكن طائفة من أصحاب أحمد وأبى حنيفة وغيرهما إستحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر قالوا لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما فتعوض بالدعاء عن الصلاة
وإستحب طائفة أخرى من اصحاب الشافعى وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه
____________________
(22/512)
ومن أنكر عليه فهو مخطئ بإتفاق العلماء فإن هذا ليس مأمورا به لا أمر إيجاب ولا أمر إستحباب فى هذا الموطن والمنكر على التارك أحق بالإنكار منه بل الفاعل أحق بالإنكار فإن المداومة على مالم يكن النبى يداوم عليه فى الصلوات الخمس ليس مشروعا بل مكروه كما لو داوم على الدعاء قبل الدخول فى الصلوات أو داوم على القنوت فى الركعة الأولى أو فى الصلوات الخمس أو داوم على الجهر بالإستفتاح فى كل صلاة ونحو ذلك فإنه مكروه وإن كان القنوت فى الصلوات الخمس قد فعله النبى أحيانا وقد كان عمر يجهر بالإستفتاح أحيانا وجهر رجل خلف النبى صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك فاقره عليه فليس كل ما يشرع فعله أحيانا تشرع المداومة عليه
ولو دعا الامام والمأموم أحيانا عقيب الصلاة لأمر عارض لم يعد هذا مخالفا للسنة كالذى يداوم على ذلك والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبى كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام ويأمر بذلك كما قد بسطنا الكلام على ذلك وذكرنا ما فى ذلك من الأحاديث وما يظن أن فيه حجة للمنازع فى غير هذا الموضع وذلك لأن المصلى يناجى ربه فإذا سلم إنصرف عن مناجاته ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذى يناسب دون سؤاله
____________________
(22/513)
بعد إنصرافه كما أن من كان يخاطب ملكا أو غيره فإن سؤاله وهو مقبل على مخاطبته أولى من سؤاله له بعد إنصرافه
وسئل عن هذا الذى يفعله الناس بعد كل صلاة من الدعاء هل هو مكروة وهل ورد عن أحد من السلف فعل ذلك ويتركون أيضا الذكر الذى صح أن النبى كان يقوله ويشتغلون بالدعاء فهل [ الأفضل ] الإشتغال بالذكر الوارد عن النبى أو هذا الدعاء وهل صح ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه ويمسح وجهه أم لا
فأجاب الحمد لله رب العالمين الذى نقل عن النبى من ذلك بعد الصلاة المكتوبة إنما هو الذكر المعروف كالأذكار التى فى الصحاح وكتب السنن والمسانيد وغيرها مثل ما فى الصحيح أنه كان قبل أن ينصرف من الصلاة يستغفر ثلاثا ثم يقول ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ( وفى الصحيح أنه كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
____________________
(22/514)
اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (
وفى الصحيح أنه كان يهلل هؤلاء الكلمات فى دبر المكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون )
وفى الصحيح أن رفع الصوت بالتكبير عقيب إنصراف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله وأنهم كانوا يعرفون إنقضاء صلاة رسول الله بذلك وفى الصحيح أنه قال ( من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد ثلاثا وثلاثين وكبر ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ( وفى الصحيح أيضا أنه يقول ( سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين ( وفى السنن أنواع أخر
والمأثور ستة أنواع
____________________
(22/515)
أحدها أنه يقول هذه الكلمات عشرا عشرا عشرا فالمجموع ثلاثون
والثانى أن يقول كل واحدة إحدى عشر فالمجموع ثلاث وثلاثون
والثالث أن يقول كل واحدة ثلاثا وثلاثين فالمجموع تسع وتسعون
والرابع أن يختم ذلك بالتوحيد التام فالمجموع مائة
والخامس ان يقول كل واحد من الكلمات الأربع خمسا وعشرين فالمجموع مائة
وأما قراءة آية الكرسى فقد رويت بإسناد لا يمكن أن يثبت به سنة
وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبى ولكن نقل عنه أنه أمر معاذا أن يقول دبر كل صلاة ( اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ( ونحو ذلك ولفظ دبر الصلاة قد يراد به آخر جزء من الصلاة كما يراد بدبر الشيء مؤخره وقد يراد به ما بعد إنقضائها كما في قوله تعالى { وأدبار السجود } وقد يراد به مجموع الأمرين وبعض الأحاديث
____________________
(22/516)
يفسر بعضا لمن تتبع ذلك وتدبره وبالجملة فهنا شيئان (
أحدهما ( دعاء المصلى المنفرد كدعاء المصلى صلاة الاستخارة وغيرها من الصلوات ودعاء المصلى وحده إماما كان أو مأموما و (
الثانى ( دعاء الإمام والمأمومين جميعا فهذا الثانى لا ريب أن النبى لم يفعله فى أعقاب المكتوبات كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه إذ لو فعل ذلك لنقله عنه اصحابه ثم التابعون ثم العلماء كما نقلوا ما هو دون ذلك ولهذا كان العلماء المتأخرون فى هذا الدعاء على أقوال
منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر كما ذكر ذلك طائفة من اصحاب أبى حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم ولم يكن معهم فى ذلك سنة يحتجون بها وإنما إحتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما
ومنهم من إستحبه أدبار الصلوات كلها وقال لا يجهر به إلا إذا قصد التعليم كما ذكر ذلك طائفة من اصحاب الشافعى وغيرهم وليس معهم فى ذلك سنة إلا مجرد كون الدعاء مشروعا وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة وهذا الذى ذكروه قد إعتبره الشارع فى صلب الصلاة فالدعاء فى آخرها قبل الخروج مشروع مسنون
____________________
(22/517)
بالسنة المتواترة وبإتفاق المسلمين بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء فى آخرها واجب وأوجبوا الدعاء الذى أمر به النبى صلى الله عليه وسلم آخر الصلاة بقوله ( إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ( رواه مسلم وغيره وكان طاووس يأمر من لم يدع به أن يعيد الصلاة وهو قول بعض أصحاب أحمد وكذلك فى حديث إبن مسعود ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ( وفى حديث عائشة وغيرها أنه كان يدعو فى هذا الموطن والأحاديث بذلك كثيرة
والمناسبة الإعتبارية فيه ظاهرة فإن المصلى يناجي ربه فما دام فى الصلاة لم ينصرف فإنه يناجى ربه فالدعاء حينئذ مناسب لحاله أما إذا إنصرف إلى الناس من مناجاة الله لم يكن موطن مناجاة له ودعاء وإنما هو موطن ذكر له وثناء عليه فالمناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه فى الصلاة أما حال الإنصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى
وكما أن من العلماء من إستحب عقب الصلاة من الدعاء مالم ترد به السنة فمنهم طائفة تقابل هذه لا يستحبون القعود المشروع بعد الصلاة ولا يستعملون الذكر المأثور بل قد يكرهون ذلك وينهون
____________________
(22/518)
عنه فهؤلاء مفرطون بالنهى عن المشروع وأولئك مجاوزون الأمر بغير المشروع والدين إنما هو الأمر بالمشروع دون غير المشروع
وأما رفع النبى يديه فى الدعاء فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحه وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة والله أعلم
(
وسئل (
هل دعاء الإمام والمأموم عقيب صلاة الفرض جائز أم لا (
فأجاب (
الحمد لله أما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة فهو بدعة لم يكن على عهد النبى بل إنما كان دعاؤه فى صلب الصلاة فإن المصلى يناجى ربه فإذا دعا حال مناجاته له كان مناسبا
وأما الدعاء بعد إنصرافه من مناجاته وخطابه فغير مناسب وإنما المسنون عقب الصلاة هو الذكر المأثور عن النبى من التهليل والتحميد والتكبير كما كان النبى يقول عقب الصلاة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك
____________________
(22/519)
وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (
وقد ثبت فى الصحيح أنه قال ( من سبح دبر الصلاة ثلاثا وثلاثين وحمد ثلاثا وثلاثين وكبر ثلاثا وثلاثين فذلك تسعة وتسعون وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير حطت خطاياه أو كما قال فهذا ونحوه هو المسنون عقب الصلاة والله أعلم
(
وسئل (
عن رجل ينكر على أهل الذكر يقول لهم هذا الذكر بدعة وجهركم في الذكر بدعة وهم يفتتحون بالقرآن ويختتمون ثم يدعون للمسلمين الأحياء والأموات ويجمعون التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة ويصلون على النبى والمنكر يعمل السماع مرات بالتصفيق ويبطل الذكر فى وقت عمل السماع (
فأجاب (
الإجتماع لذكر الله وإستماع كتابه والدعاء عمل صالح وهو من أفضل القربات والعبادات فى الأوقات ففى الصحيح عن
____________________
(22/520)
النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن لله ملائكة سياحين فى الأرض فإذا مروا بقوم يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم ( وذكر الحديث وفيه ( وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ( لكن ينبغى أن يكون هذا أحيانا فى بعض الأوقات والأمكنة فلا يجعل سنة راتبة يحافظ عليها إلا ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم المداومة عليه فى الجماعات من الصلوات الخمس فى الجماعات ومن الجمعات والأعياد ونحو ذلك
وأما محافظة الإنسان على أوراد له من الصلاة أو القراءة أو الذكر أو الدعاء طرفى النهار وزلفا من الليل وغير ذلك فهذا سنة رسول الله والصالحين من عباد الله قديما وحديثا فما سن عمله على وجه الإجتماع كالمكتوبات فعل كذلك وما سن المداومة عليه على وجه الإنفراد من الأوراد عمل كذلك كما كان الصحابة رضى الله عنهم يجتمعون أحيانا يأمرون أحدهم يقرأ والباقون يستمعون وكان عمر بن الخطاب يقول يا ابا موسى ذكرنا ربنا فيقرا وهم يستمعون وكان من الصحابة من يقول إجلسوا بنا نؤمن ساعة وصلى النبى صلى الله عليه وسلم بأصحابه التطوع فى جماعة مرات وخرج على الصحابة من أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم يستمع
____________________
(22/521)
وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب ودمع العين وإقشعرار الجسوم فهذا أفضل الأحوال التى نطق بها الكتاب والسنة
وأما الإضطراب الشديد والغشى والموت والصيحات فهذا أن كان صاحبه مغلوبا عليه لم يلم عليه كما قد كان يكون فى التابعين ومن بعدهم فإن منشأة قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب والقوة والتمكن أفضل كما هو حال النبى والصحابة وأما السكون قسوة وجفاء فهذا مذموم لا خير فيه
وأما ما ذكر من السماع فالمشروع الذى تصلح به القلوب ويكون وسيلتها إلى ربها بصلة ما بينه وبينها هو سماع كتاب الله الذى هو سماع خيار هذه الأمة لا سيما وقد قال ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ( وقال ( زينوا القرآن بأصواتكم ( وهو السماع الممدوح فى الكتاب والسنة لكن لما نسى بعض الأمة حظا من هذا السماع الذي ذكروا به القى بينهم العداوة والبغضاء فاحدث قوم سماع القصائد والتصفيق والغناء مضاهاة لما ذمه الله من المكاء والتصدية والمشابهة لما إبتدعه النصارى وقابلهم قوم قست قلوبهم عن ذكر الله وما نزل من الحق وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة مضاهاة لما عابه الله على اليهود والدين الوسط هو ما عليه خيار هذه الأمة قديما وحديثا والله أعلم
____________________
(22/522)
وسئل رحمه الله (
عن عوام فقراء يجتمعون فى مسجد يذكرون ويقرؤون شيئا من القرآن ثم يدعون ويكشفون روؤسهم ويبكون ويتضرعون وليس قصدهم من ذلك رياء ولا سمعة بل يفعلونه على وجه التقرب إلى الله تعالى فهل يجوز ذلك أم لا (
فأجاب (
الحمد لله الإجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة كالإجتماعات المشروعة ولا إقترن به بدعة منكرة وأما كشف الرأس مع ذلك فمكروه لا سيما إذا إتخذ على أنه عبادة فإنه حينئذ يكون منكرا ولا يجوز التعبد بذلك والله أعلم
(
وسئل (
عن رجل إذا صلى ذكر فى جوفه ( بسم الله ( بابنا ( تبارك ( حيطاننا ( يس ( سقفنا فقال رجل هذا كفر أعوذ بالله
____________________
(22/523)
من هذا القول فهل يجب على ما قال هذا المنكر رد وإذا لم يجب عليه فما حكم هذا القول (
فأجاب (
الحمد لله رب العالمين ليس هذا كفر فإن هذا الدعاء وأمثاله يقصد به التحصن والتحرز بهذه الكلمات فيتقى بها من الشر كما يتقى ساكن البيت بالبيت من الشر والحر والبرد والعدو
وهذا كما جاء فى الحديث المعروف عن النبى فى الكلمات الخمس التى قام يحيى بن زكريا فى بنى إسرائيل قال ( أوصيكم بذكر الله فإن مثل ذلك مثل رجل طلبه العدو فدخل حصنا فإمتنع به من العدو فكذلك ذكر الله هو حصن بن آدم من الشيطان أو كما قال ( فشبه ذكر الله فى إمتناع الإنسان به من الشيطان بالحصن الذى يمتنع به من العدو
والحصن له باب وسقف وحيطان ونحو هذا أن الأعمال الصالحة من ذكر الله وغيره تسمى جنة ولباسا كما قال تعالى { ولباس التقوى ذلك خير } فى أشهر القولين وكما قال فى الحديث ( خذوا جنتكم قالوا يا رسول الله من عدو حضر قال لا ولكن جنتكم من النار سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ( ومنه قول الخطيب فتدرعوا جنن التقوى قبل جنن
____________________
(22/524)
السابرى وفوقوا سهام الدعاء قبل سهام القسى ومثل هذا كثير يسمى سورا وحيطانا ودرعا وجنة ونحو ذلك
ولكن هذا الدعاء المسؤل عنه ليس بمأثور والمشروع للإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة فإن الدعاء من أفضل العبادات وقد نهانا الله عن الإعتداء فيه فينبغى لنا أن نتبع فيه ما شرع وسن كما أنه ينبغى لنا ذلك فى غيره من العبادات والذى يعدل عن الدعاء المشروع إلى غيره وإن كان من أحزاب بعض المشائخ الأحسن له أن لا يفوته الأكمل الأفضل وهى الأدعية النبوية فإنها أفضل وأكمل بإتفاق المسلمين من الأدعية التى ليست كذلك وإن قالها بعض الشيوخ فكيف يكون فى عين الأدعية ما هو خطأ أو اثم أو غير ذلك
ومن اشد الناس عيبا من يتخذ حزبا ليس بمأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان حزبا لبعض المشائخ ويدع الأحزاب النبوية التى كان يقولها سيد بنى آدم وإمام الخلق وحجة الله على عبادة والله أعلم
____________________
(22/525)
باب ما يكره فى الصلاة (
(
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه (
( فصل (
فى بيان ما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها قال الله تعالى فى غير موضع من كتابه { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقال تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين } وقال تعالى { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون } وقال تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } وقال تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقال تعالى { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } وقال تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين }
____________________
(22/526)
وسيأتى بيان الدلالة فى هذه الآيات
وقد أخرج البخارى ومسلم فى الصحيحين وأخرج أصحاب السنن أبوداود والترمذى والنسائى وإبن ماجه وأصحاب المسانيد كمسند أحمد وغير ذلك من اصول الإسلام عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله دخل المسجد فدخل رجل ثم جاء فسلم على النبى صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه السلام وقال إرجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم سلم عليه فقال رسول الله وعليك السلام ثم قال إرجع فصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال الرجل والذى بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمنى قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم إركع حتى تطمئن راكعا ثم إرفع حتى تعتدل قائما ثم إسجد حتى تطمئن ساجدا ثم إجلس حتى تطمئن جالسا ثم إفعل ذلك فى صلاتك كلها ( وفى رواية للبخارى ( إذا قمت إلى الصلاة فإسبغ الوضوء ثم إستقبل القبلة فكبر وإقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم إركع حتى تطمئن راكعا ثم إرفع رأسك حتى تعتدل قائما ثم إسجد حتى تطمئن ساجدا ثم إرفع حتى تستوى وتطمئن جالسا ثم إسجد حتى تطمئن ساجدا
____________________
(22/527)
ثم إرفع حتى تستوى قائما ثم إفعل ذلك فى صلاتك كلها (
وفى رواية له ( ثم إركع حتى تطمئن راكعا ثم إرفع حتى تستوى قائما ( وباقيه مثله وفى رواية وإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما انتقصت من هذا فإنما إنتقصته من صلاتك
وعن رفاعة بن رافع رضى الله عنه ( أن رجلا دخل المسجد فذكر الحديث وقال فيه فقال النبى صلى الله عليه وسلم إنه لاتتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر ويحمد الله عز وجل ويثنى عليه ويقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى يطمئن راكعا ثم يقول الله اكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوى قائما ثم يسجد حتى يطمئن ساجدا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوى قاعدا ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يرفع رأسه فيكبر فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته ( وفى رواية ( إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله عز وجل فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله ويحمده ثم يقرأ من القرآن ما أذن له وتيسر وذكر نحو اللفظ الأول وقال ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه وربما قال جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله وتسترخى
____________________
(22/528)
ثم يكبر فيستوى قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال لا تتم صلاة لأحدكم حتى يفعل ذلك ( رواه أهل السنن أبوداود والنسائى وإبن ماجه والترمذى وقال حديث حسن والروايتان لفظ أبى داود
وفى رواية ثالثة له ( قال إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم إقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ فإذا ركعت فضع راحتك على ركبتيك وإمدد ظهرك وقال إذا سجدت فمكن لسجودك فإذا رفعت فإقعد على فخذك اليسرى ( وفى رواية أخرى قال ( إذا أنت قمت فى صلاتك فكبر الله عز وجل ثم إقرأ ما تيسر عليك من القرآن ( وقال فيه ( فإذا جلست فى وسط الصلاة فإطمئن وإفترش فخذك اليسرى ثم تشهد ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك ) وفى رواية أخرى ( قال فتوضا كما أمرك الله ثم تشهد فأتم ثم كبر فإن كان معك قرآن فإقرأ به وإلا فإحمد الله عز وجل وكبره وهلله ( وقال فيه ( وإن إنتقصت منه شيئا إنتقصت من صلاتك (
فالنبى أمر ذلك المسىء فى صلاته بأن يعيد الصلاة وامر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب وأمره
____________________
(22/529)
إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة كما أمره بالركوع والسجود وأمره المطلق على الإيجاب
وأيضا قال له ( فإنك لم تصل ( فنفى أن يكون عمله الأول صلاة والعمل لا يكون منفيا إلا إذا إنتفى شيء من واجباته فأما إذا فعل كما أوجبه الله عز وجل فإنه لا يصح نفيه لإنتفاء شيء من المستحبات التى ليست بواجبة
وأما ما يقوله بعض الناس إن هذا نفى للكمال كقوله ( لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد ( فيقال له نعم هو لنفى الكمال لكن لنفى كمال الواجبات أو لنفى كمال المستحبات فأما الأول فحق وأما الثانى فباطل لا يوجد مثل ذلك فى كلام الله عز وجل ولا فى كلام رسوله قط وليس بحق فإن الشيء إذا كملت واجباته فكيف يصح نفيه
وأيضا فلو جاز لجاز نفى صلاة عامة الأولين والآخرين لأن كمال المستحبات من أندرالأمور
وعلى هذا فما جاء من نفى الأعمال فى الكتاب والسنة فإنما هو لإنتفاء بعض واجباته كقوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
____________________
(22/530)
وقوله تعالى { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } وقوله تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } الآية ( وقوله { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } الآية ( ونظائر ذلك كثيرة
ومن ذلك قوله ( لا إيمان لمن لا أمانه له ( و ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ( ولا صلاة إلا بوضوء (
وأما قوله ( لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد ( فهذا اللفظ قد قيل إنه لا يحفظ عن النبى وذكر عبدالحق الأشبيلى أنه رواه بإسناد كلهم ثقات وبكل حال فهو مأثور عن على رضى الله عنه ولكن نظيره فى السنن عن النبى أنه قال ( من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له (
ولا ريب أن هذا يقتضى أن إجابة المؤذن المنادى والصلاة فى جماعة من الواجبات كما ثبت فى الصحيح أن إبن أم مكتوم قال
____________________
(22/531)
( يا رسول الله إنى رجل شاسع الدار ولى قائد لا يلائمنى فهل تجد لى رخصة أن أصلى فى بيتى قال هل تسمع النداء قال نعم قال ما اجد لك رخصة ( لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه ويثاب على ما فعله من الصلاة أم يقال إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها هذا فيه نزاع بين العلماء وعلى هذا قوله ( إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما إنتقصت من هذا فإنما إنتقصت من صلاتك (
فقد بين أن الكمال الذى نفى هو هذا التمام الذى ذكره النبى صلى الله عليه وسلم فإن التارك لبعض ذلك قد إنتقص من صلاته بعض ما اوجبه الله فيها وكذلك قوله فى الحديث الآخر ( فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته (
ويؤيد هذا أنه أمره بأن يعيد الصلاة ولو كان المتروك مستحبا لم يأمره بالإعادة ولهذا يؤمر مثل هذا المسىء بالإعادة كما أمر النبى هذا لكن لو لم يعد وفعلها ناقصة فهل يقال إن وجودها كعدمها بحيث يعاقب على تركها أو يقال إنه يثاب على ما فعله ويعاقب على ما تركه بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع هذا فيه نزاع والثانى أظهر لما روى أبو داود وإبن ماجه عن أنس بن حكيم الضبى قال ( خاف
____________________
(22/532)
رجل من زياد أو إبن زياد فأتى المدينة فلقى أبا هريرة رضى الله عنه قال فنسبنى فإنتسبت له فقال يا فتى ألا أحدثك حديثا قال قلت بلى يرحمك الله قال يونس فأحسبه ذكره عن النبى قال إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة قال يقول ربنا عز وجل لملائكته وهو أعلم إنظروا فى صلاة عبدى أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان إنتقص منها شيئا قال إنظروا هل لعبدى من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموها من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم ( وفى لفظ عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن إنتقص من فريضته شيئا قال الرب إنظروا هل لعبدى من تطوع فكمل به ما إنتقص من الفريضة ثم يكون سائر أعماله على هذا ( رواه الترمذى وقال حديث حسن
وروى أيضا أبو داود وإبن ماجه عن تميم الدارى رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى قال ( ثم الزكاة مثل ذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك (
وأيضا فعن ابى مسعود البدرى رضى الله عنه قال قال رسول
____________________
(22/533)
الله ( لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره فى الركوع والسجود ( رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذى حديث حسن صحيح فهذا صريح فى انه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينتصب من السجود فهذا يدل على إيجاب الإعتدال فى الركوع والسجود
وهذه المسألة وإن لم تكن هي مسألة الطمأنينة فهي تناسبها وتلازمها وذلك أن هذا الحديث نص صريح فى وجوب الإعتدال فإذا وجب الإعتدال لإتمام الركوع والسجود فالطمأنينة فيهما أوجب وذلك أن قوله ( يقيم ظهره فى الركوع والسجود ( أى عند رفعه رأسه منهما فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع والسجود لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحنى إلى أن يعود فيعتدل ويكون السجود من حين الخروج من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل فالخفض والرفع هما طرفا الركوع والسجود وتمامهما فلهذا قال ( يقيم صلبه فى الركوع والسجود (
ويبين ذلك أن وجوب هذا من الإعتدالين كوجوب إتمام الركوع والسجود وهذا كقوله فى الحديث المتقدم ( ثم يكبر فيسجد
____________________
(22/534)
فيمكن وجهه حتى تطمئن مفاصله وتسترخى ثم يكبر فيستوى قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه ( فأخبر أن إقامة الصلب فى الرفع من السجود لا فى حال الخفض
والحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الإعتدالين ووجوب الطمأنينة لكن قال فى الركوع والسجود والقعود ( حتى تطمئن راكعا وحتى تطمئن ساجدا وحتى تطمئن جالسا ( وقال فى الرفع من الركوع ( حتى تعتدل قائما وحتى تستوى قائما ( لأن القائم يعتدل ويستوى وذلك مستلزم للطمأنينة
وأما الراكع والساجد فليسا منتصبين وذلك الجالس لا يوصف بتمام الإعتدال والإستواء فإنه قد يكون فيه إنحناء إما إلى أحد الشقين ولا سيما عند التورك وإما إلى أمامه لأن أعضاءه التى يجلس عليها منحنية غير مستوية ومعتدلة مع أنه قد روى إبن ماجه أنه قال فى الرفع من الركوع ( حتى تطمئن قائما (
وعن على بن شيبان الحنفى قال ( خرجنا حتى قدمنا على رسول الله فبايعناه وصلينا خلفه فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلاته يعنى صلبه فى الركوع والسجود فلما قضى النبى الصلاة قال يا معشر المسلمين لا صلاة
____________________
(22/535)
لمن لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود ( رواه الإمام أحمد وإبن ماجه وفى رواية للإمام أحمد أن رسول الله قال ( لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده (
وهذا يبين أن إقامة الصلب هي الإعتدال فى الركوع كما بيناه وإن كان طائفة من العلماء من اصحابنا وغيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة وإحتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده لا على الإعتدالين وعلى ما ذكرناه فإنه يدل عليهما
وروى الإمام أحمد فى المسند عن أبى قتادة رضى الله عنه قال قال رسول الله ( أسوأ الناس سرقة الذى يسرق من صلاته قالوا يا رسول الله كيف يسرق من صلاته قال لا يتم ركوعها ولا سجودها ( أو قال ( لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود ( وهذا التردد فى اللفظ ظاهره أن المعنى المقصود من اللفظين واحد وإنما شك فى اللفظ كما فى نظائر ذلك
وأيضا فعن عبد الرحمن بن شبل رضى الله عنه قال ( نهى رسول الله عن نقر الغراب وإفتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان فى المسجد كما يوطن البعير ( أخرجه أبو داود والنسائى وبن ماجة وإنما
____________________
(22/536)
جمع بين الأفعال الثلاثة وإن كانت مختلفة الأجناس لأنه يجمعها مشابهة البهائم فى الصلاة فنهى عن مشابهة فعل الغراب وعما يشبه فعل السبع وعما يشبه فعل البعير وإن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين لما فيه من أحاديث أخر وفى الصحيحين عن قتادة عن أنس رضى الله عنه عن النبى قال ( إعتدلوا فى الركوع والسجود ولا يبسطن أحدكم ذراعيه إنبساط الكلب ( لاسيما وقد بين فى حديث آخر ( أنه من صلاة المنافقين والله تعالى أخبر فى كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين
فروى مسلم فى صحيحه عن أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( تلك صلاة المنافق يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قرنى شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ( فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة ويضيع فعلها وينقرها فدل ذلك على ذم هذا وهذا وإن كان كلاهما تاركا للواجب
وذلك حجة واضحة فى أن نقر الصلاة غير جائز وأنه من فعل من فيه نفاق والنفاق كله حرام وهذا الحديث حجة مستقلة بنفسها وهو مفسر لحديث قبله وقال الله تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } وهذا وعيد شديد لمن ينقر فى صلاته
____________________
(22/537)
فلا يتم ركوعه وسجوده بالإعتدال والطمأنينة
والمثل الذى ضربه النبى من أحسن الأمثال فإن الصلاة قوت القلوب كما أن الغذاء قوت الجسد فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل فالقلب لا يقتات بالنقر فى الصلاة بل لا بد من صلاة تامة تقيت القلوب
وأما ما يرويه طوائف من العامة أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ( رأى رجلا ينقر فى صلاته فنهاه عن ذلك فقال لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار فسكت عنه عمر ( فهذا لا أصل له ولم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغنى لا فى الصحيح ولا فى الضعيف والكذب ظاهر عليه فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك وهم فى الدرك الأسفل من النار
وأيضا فعن أبى عبد الله الأشعرى الشامى قال ( صلى رسول الله بأصحابه ثم جلس فى طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلى فجعل يركع وينقر فى سجوده ورسول الله ينظر إليه فقال ترون هذا لو مات مات على غير ملة محمد ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرمة إنما مثل الذى يصلى ولا يتم ركوعه وينقر فى سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين
____________________
(22/538)
لا تغنيان عنه شيئا فأسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار وأتموا الركوع والسجود ( قال أبوصالح فقلت لأبى عبد الله الأشعرى من حدثك بهذا الحديث قال أمراء الأجناد خالد بن الوليد وعمرو إبن العاص وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبى سفيان كل هؤلاء يقولون سمعت رسول الله رواه أبوبكر بن خزيمة فى صحيحه بكماله وروى إبن ماجه بعضه
وأيضا ففى صحيح البخارى عن أبى وائل عن زيد بن وهب ( أن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده فلما قضى صلاته دعاه وقال له حذيفة ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمدا ولفظ أبى وائل ( ما صليت وأحسبه قال لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم (
وهذا الذى لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة أو ترك الإعتدال أو ترك كلاهما فإنه لا بد أن يكون قد ترك بعض ذلك إذ نقر الغراب والفصل بين السجدتين بحد السيف والهبوط من الركوع إلى السجود لا يمكن أن ينقص منه مع الإتيان بما قد يقال إنه ركوع أو سجود وهذا الرجل كان يأتي بما قد يقال له ركوع وسجود لكنه لم يتمه ومع هذا قال له حذيفة ( ما صليت ( فنفى عنه الصلاة ثم قال لو
____________________
(22/539)
( مت مت على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم وعلى غير السنة ( وكلاهما المراد به هنا الدين والشريعة ليس المراد به فعل المستحبات فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبى من المستحبات
ولأن لفظ ( الفطرة والسنة ( فى كلامهم هو الدين والشريعة وإن كان بعض الناس إصطلحوا على أن لفظ ( السنة ( يراد به ماليس بفرض إذ قد يراد بها ذلك كما فى قوله ( إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه ( فهي تتناول ما سنة من الواجبات أعظم مما سنة من التطوعات كما فى الصحيح عن إبن مسعود رضى الله عنه قال ( إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإن هذه الصلوات فى جماعة من سنن الهدى وإنكم لو صليتم فى بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف فى بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ( ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ
ولأن الله سبحانه وتعالى أمر فى كتابه بإقامة الصلاة وذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها فقال تعالى فى غير موضع ( وأقيموا
____________________
(22/540)
الصلاة ( وإقامتها تتضمن إتمامها بحسب الإمكان كما سيأتى فى حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال ( أقيموا الركوع والسجود فإنى أراكم من بعد ظهرى ( وفى رواية ( أتموا الركوع والسجود ( وسيأتى تقرير دلالة ذلك
والدليل على ذلك من القرآن أنه سبحانه وتعالى قال { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا }
فأباح الله القصر من عددها والقصر من صفتها ولهذا علقه بشرطين السفر والخوف فالسفر يبيح قصر العدد فقط كما قال النبى ( إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ( ولهذا كانت سنة رسول الله المتواترة عنه التى إتفقت الأمة على نقلها عنه ( أنه كان يصلى الرباعية فى السفر ركعتين ( ولم يصلها فى السفر أربعا قط ولا أبو بكر ولا عمر رضى الله عنهما لا فى الحج ولا فى العمرة ولا فى الجهاد والخوف يبيح قصر صفتها كما قال الله فى تمام الكلام { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } فذكر صلاة الخوف وهى صلاة ذات الرقاع إذ كان العدو فى جهة القبلة وكان فيها
____________________
(22/541)
( أنهم كانوا يصلون خلفه فإذا قام إلى الثانية فارقوه وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم ( كما قال { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } فجعل السجود لهم خاصة فعلم أنهم يفعلونه منفردين ثم قال ( ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ( فعلم أنهم يفعلونه
وفى هذه الصلاة تفريق المأمومين ومفارقة الأولين للإمام وقيام الآخرين قبل سلام الإمام ويتمون لأنفسهم ركعة ثم قال تعالى { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } فأمرهم بعد الأمن بإقامة الصلاة وذلك يتضمن الإتمام وترك القصر منها الذى أباحه الخوف والسفر فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان وأما قوله فى صلاة الخوف { فأقمت لهم الصلاة } فتلك اقامة وإتمام في حال الخوف كما أن الركعتين فى السفر إقامة وإتمام كما ثبت فى الصحيح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ( وهذا يبين ما رواه مسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه إقصار الناس الصلاة اليوم وإنما قال الله عز وجل
____________________
(22/542)
{ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وقد ذهب ذلك اليوم فقال عجبت مما عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فإقبلوا صدقته ( فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقا مشروط بعدم الأمن فبينت السنة أن القصر نوعان كل نوع له شرط
وثبتت السنة أن الصلاة مشروعة فى السفر تامة لأنه بذلك أمر الناس ليست مقصورة فى الأجر والثواب وإن كانت مقصورة فى الصفة والعمل إذ المصلى يؤمر بالإطالة تارة ويؤمر بالإقتصار تارة
وأيضا فإن الله تعالى قال ( فإذا إطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ( والموقوت قد فسره السلف بالمفروض وفسروه بماله وقت والمفروض هو المقدر المحدد فإن التوقيت والتقدير والتحديد والفرض ألفاظ متقاربة وذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقوتة وذلك فى زمانها وأفعالها وكما أن زمانها محدود فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة وهو يتناول تقدير عددها بأن جعله خمسا وجعل بعضها أربعا فى الحضر وإثنتين فى السفر وبعضها ثلاثا وبعضها إثنتين فى الحضر والسفر وتقدير عملها أيضا ولهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم والتأخير فى الزمان كما يجوز أيضا القصر من عددها
____________________
(22/543)
ومن صفتها بحسب ما جاءت به الشريعة وذلك أيضا مقدر عند العذر كما هو مقدر عند غير العذر ولهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل أو صلاة الليل إلى النهار وصلاتى النهار الظهر والعصر وصلاتى الليل المغرب والعشاء وكذلك اصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها وصفتها وهو موقوت محدود ولا بد أن تكون الأفعال محدودة الإبتداء والإنتهاء فالقيام محدود بالإنتصاب بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحنى الراكع بإختياره لم يكن قد أتى بحد القيام
ومن المعلوم أن ذكر القيام الذى هو القراءة أفضل من ذكر الركوع والسجود ولكن نفس عمل الركوع والسجود أفضل من عمل القيام ولهذا كان عبادة بنفسه ولم يصح فى شرعنا إلا لله بوجه من الوجوه وغير ذلك من ألأدلة المذكورة فى غير هذا الموضع
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة بقدر التمكن منها فالساجد عليه أن يصل إلى الأرض وهو غاية التمكن ليس له غاية دون ذلك إلا لعذر وهو من حين انحنائه أخذ فى السجود سواء سجد من قيام أو من قعود فينبغى أن يكون إبتداء السجود مقدرا بذلك بحيث يسجد من قيام أو قعود لا
____________________
(22/544)
يكون سجوده من إنحناء فإن ذلك يمنع كونه مقدرا محدودا بحسب الإمكان ومتى وجب ذلك وجب الإعتدال فى الركوع وبين السجدتين
وأيضا ففى ذلك إتمام الركوع والسجود
وأيضا فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر وذلك هو الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا فإن قدر الشيء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده ولهذا يقال للشيء الدائم ليس له قدر فإن القدر لا يكون لأدنى حركة بل لحركة ذات إمتداد
وأيضا فإن الله عز وجل أمرنا بإقامتها والإقامة أن تجعل قائمة والشىء القائم هو المستقيم المعتدل فلا بد أن تكون أفعال الصلاة مستقرة معتدلة وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها وإستقرارها وهذا يتضمن الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يقم السجود ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر وكذلك الراكع
يبين ذلك ما جاء فى الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضى الله عنهما قال قال رسول الله ( سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة ( وأخرجاه من حديث
____________________
(22/545)
عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله ( أتموا الصفوف فإنى أراكم من خلف ظهرى ( وفى لفظ ( أقيموا الصفوف ( وروى البخارى من حديث حميد عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقيموا صفوفكم وتراصوا فإنى أراكم من وراء ظهرى وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وبدنه ببدنه (
فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها بحيث لو خرجوا عن الإستواء والإعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا لم يكونوا مصطفين ولكانوا يؤمرون بالإعادة وهم بذلك أولى من الذى صلى خلف الصف وحده فأمره النبى أن يعيد صلاته فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها بحيث لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود
ويدل على ذلك وهو دليل مستقل فى المسألة ما اخرجاه فى الصحيحين عن شعبة عن قتادة عن أنس رضى الله عنه عن النبى قال أقيموا الركوع والسجود فوالله إنى لأراكم من بعدى وفى رواية من بعد ظهرى إذا ركعتم وسجدتم ( وفى رواية للبخارى عن همام عن قتادة عن أنس رضى الله عنه أنه سمع النبى يقول ( أتموا الركوع
____________________
(22/546)
والسجود فوالذى نفسى بيده اني لأراكم من بعد ظهرى إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم ( ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائى وإبن أبى عروبة عن قتادة عن أنس رضى الله عنه أن نبى الله قال ( أتموا الركوع والسجود ولفظ إبن أبي عروبة أقيموا الركوع والسجود فإنى أراكم وذكره (
فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامهما كما فى اللفظ الآخر
وأيضا فأمره لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالإنحناء فى الجملة بل الأمر بالإقامة يقتضى أيضا الإعتدال فيهما وإتمام طرفيهما وفى هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الإنصراف قبله وأيضا فقوله تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } أمر بالقنوت فى القيام لله والقنوت دوام الطاعة لله عز وجل سواء كان فى حال الإنتصاب أو فى حال السجود كما قال تعالى { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } وقال تعالى { فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله }
____________________
(22/547)
وقال { ومن يقنت منكن لله ورسوله } وقال { وله من في السماوات والأرض كل له قانتون }
فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى { وقوموا لله قانتين } إما أن يكون أمرا بإقامة الصلاة مطلقا كما فى قوله { كونوا قوامين بالقسط } فيعم أفعالها ويقتضى الدوام فى أفعالها وإما أن يكون المراد به القيام المخالف للقعود فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده ويقتضى الطول وهو القنوت المتضمن للدعاء كقنوت النوازل وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه
وإذا ثبت وجوب هذا ثبت وجوب الطمأنينة فى سائر الأفعال بطريق الأولى
ويقوى الوجه الأول حديث زيد بن أرقم الذى فى الصحيحين عنه قال ( كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه إلى الصلاة فنزلت { وقوموا لله قانتين } قال فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون فى الصلاة ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب فى جميع الصلاة فإقتضى ذلك الأمر بالقنوت فى جميع الصلاة ودل الأمر بالقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس لأن القنوت هو دوام الطاعة فالمشتغل بمخاطبة العباد تارك للإشتغال
____________________
(22/548)
بالصلاة التى هي عبادة الله وطاعته فلا يكون مداوما على طاعته ولهذا قال النبى لما سلم عليه ولم يرد بعد أن كان يرد ( أن فى الصلاة لشغلا ( فأخبر أن فى الصلاة ما يشغل المصلى عن مخاطبة الناس وهذا هو القنوت فيها وهو دوام الطاعة ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسى بما هو مشروع فيها من القراءة والتسبيح لأن ذلك لا يشغله عنها ولا ينافى القنوت فيها
وأيضا فإنه سبحانه قال ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ( فأخبر أنه لا يكون مؤمنا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات وسبح بحمد ربه
ومعلوم أن قراءة القرآن فى الصلاة هي تذكير بالآيات ولذلك وجب السجود مع ذلك وقد أوجب خرورهم سجدا وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم وذلك يقتضى وجوب التسبيح فى السجود وهذا يقتضى وجوب الطمأنينة ولهذا قال طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم
والثانى أن الخرور هو السقوط والوقوع وهذا إنما يقال فيما يثبت ويسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض ولهذا قال
____________________
(22/549)
الله فإذا وجبت جنوبها والوجوب فى الأصل هو الثبوت والإستقرار
وأيضا فعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال ( لما نزلت { فسبح باسم ربك العظيم } قال رسول الله ( إجعلوها فى ركوعكم ولما نزلت { سبح اسم ربك الأعلى } قال إجعلوها فى سجودكم ( رواه أبو داود وإبن ماجه فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بجعل هذين التسبيحين فى الركوع والسجود وأمره على الوجوب وذلك يقتضى وجوب ركوع وسجود تبعا لهذا التسبيح وذلك هو الطمأنينة
ثم إن من الفقهاء من قد يقول التسبيح ليس بواجب وهذا القول يخالف ظاهر الكتاب والسنة فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل والقول جميعا فإذا دل دليل على عدم وجوب القول لم يمنع وجوب الفعل
وأما من يقول بوجوب التسبيح فيستدل لذلك بقوله تعالى { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } وهذا أمر بالصلاة كلها كما ثبت فى الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلى رضى الله عنه قال ( كنا جلوسا عند النبى إذ نظر
____________________
(22/550)
إلى القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون فى رؤيته فإن إستطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فإفعلوا ثم قرأ ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب
)
وإذا كان الله عز وجل قد سمى الصلاة تسبيحا فقد دل ذلك على وجوب التسبيح كما أنه لما سماها قياما فى قوله تعالى { قم الليل إلا قليلا } دل على وجوب القيام وكذلك لما سماها قرآنا فى قوله تعالى { وقرآن الفجر } دل على وجوب القرآن فيها ولما سماها ركوعا وسجودا فى مواضع دل على وجوب الركوع والسجود فيها
وذلك أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها فاذا وجدت هذه الأفعال فتكون من الأبعاض اللازمة كما أنهم يسمون الإنسان بإبعاضه اللآزمة له فيسمونه رقبة ورأسا ووجها ونحو ذلك كما فى قوله تعالى ( { فتحرير رقبة } ولو جاز وجود الصلاة بدون التسبيح لكان الأمر بالتسبيح لا يصلح ان يكون أمرا بالصلاة فإن اللفظ حينئذ لا يكون دالا على معناه ولا على ما يستلزم معناه
وأيضا فإن الله عز وجل ذم عموم الإنسان وإستثنى المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون قال تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون }
____________________
(22/551)
والسلف من الصحابة ومن بعدهم قد فسروا الدائم على الصلاة بالمحافظ على أوقاتها وبالدائم على أفعالها بالإقبال عليها والآية تعم هذا وهذا فإنه قال ( على صلاتهم دائمون ( والدائم على الفعل هو المديم له الذى يفعله دائما فإذا كان هذا فيما يفعل فى الأوقات المتفرقة وهو أن يفعله كل يوم بحيث لا يفعله تارة ويتركه أخرى وسمى ذلك دواما عليه فالدوام على الفعل الواحد المتصل أولى أن يكون دواما وأن تتناول الآية ذلك وذلك يدل على وجوب إدامة أفعالها لأن الله عز وجل ذم عموم الإنسان وإستثنى المداوم على هذه الصفة فتارك إدامة أفعالها يكون مذموما من الشارع والشارع لا يذم إلا على ترك واجب أو فعل محرم
وأيضا فإنه سبحانه وتعالى قال { إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون } فدل ذلك على أن المصلى قد يكون دائما على صلاته وقد لا يكون دائما عليها وأن المصلى الذي ليس بدائم مذموم وهذا يوجب ذم من لا يديم أفعالها المتصلة والمنفصلة واذا وجب دوام أفعالها فذلك هو نفس الطمأنينة فإنه يدل على وجوب ادامة الركوع والسجود وغيرهما ولو كان المجزىء أقل مما ذكر من الخفض وهو نقر الغراب لم يكن ذلك دواما ولم يجب الدوام على الركوع
____________________
(22/552)
والسجود وهما اصل أفعال الصلاة
فعلم أنه كما تجب الصلاة يجب الدوام عليها المتضمن للطمأنينة والسكينة فى أفعالها
وأيضا فقد قال الله تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين }
وهذا يقتضى ذم غير الخاشعين كقوله تعالى { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } وقوله تعالى { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }
فقد دل كتاب الله عز وجل على من كبر عليه ما يحبه الله وأنه مذموم بذلك فى الدين مسخوط منه ذلك والذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرم وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع
فمن المعلوم أن الخشوع المذكور فى قوله تعالى { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } لابد أن يتضمن الخشوع فى الصلاة فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى إذ لو قيل إن الصلاة
____________________
(22/553)
لكبيرة إلا على من خشع خارجها ولم يخشع فيها كان يقتضى أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها وتكبر على من خشع فيها وقد إنتفى مدلول الآية فثبت أن الخشوع واجب فى الصلاة
ويدل على وجوب الخشوع فيها ايضا قوله تعالى { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضى أنه لا يرثها غيرهم وقد دل هذا على وجوب هذه الخصال إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات ولهذا لم يذكر فى هذه الخصال إلا ما هو واجب وإذا كان الخشوع فى الصلاة واجبا فالخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعا
ومنه حديث عمر رضى الله عنه حيث رأى رجلا يعبث فى صلاته فقال ( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ( أى لسكنت
____________________
(22/554)
وخضعت
وقال تعالى { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز والإهتزاز حركة وتربو والربو الإرتفاع فعلم أن الخشوع فيه سكون وإنخفاض ولهذا كان النبى يقول فى حال ركوعه ( اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعى وبصرى ومخى وعقلى وعصبى ( رواه مسلم فى صحيحه فوصف نفسه بالخشوع فى حال الركوع لأن الراكع ساكن متواضع وبذلك فسرت الآية ففى التفسير المشهور الذى يقال له تفسير الوالبى عن على بن أبى طلحة عن إبن عباس رضى الله عنهما وقد رواه المصنفون فى التفسير كأبى بكر بن المنذر ومحمد بن جرير الطبرى وغيرهما من حديث أبى صالح عبد الله بن صالح عن معاوية بن أبى صالح عن على بن أبى طلحة عن إبن عباس قوله تعالى { في صلاتهم خاشعون } يقول خائفون ساكنون ورووا فى التفاسير المسندة كتفسير إبن المنذر وغيره من حديث سفيان الثورى عن منصور عن مجاهد ( خاشعون ( قال ( السكون فيها ( قال وكذلك قال الزهري ومن حديث هشام عن مغيرة عن إبراهيم النخعى قال الخشوع فى القلب وقال ساكنون قال الضحاك الخشوع الرهبة لله وروى
____________________
(22/555)
عن الحسن خائفون وروى إبن المنذر من حديث أبى عبد الرحمن المقبرى حدثنا المسعودى حدثنا أبو سنان أنه قال فى هذه الآية { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال الخشوع فى القلب وأن يلين كنفه للمرء المسلم وأن لا تلتفت فى صلاتك
وفى تفسير إبن المنذر أيضا ما فى تفسير إسحاق بن راهوية عن روح حدثنا سعيد عن قتادة ( الذين هم فى صلاتهم خاشعون ( قال الخشوع فى القلب والخوف وغض البصر فى الصلاة وعن ابى عبيدة معمر بن المثنى فى كتابه ( مختار القرآن ( فى صلاتهم خاشعون ( أى لا تطمح أبصارهم ولا يلتفتون وقد روى الإمام أحمد فى ( كتاب الناسخ والمنسوخ ( من حديث إبن سيرين ورواه إسحاق بن راهوية فى التفسير وإبن المنذر أيضا فى التفسير الذى له رواه من حديث الثورى حدثنى خالد عن إبن سيرين قال ( كان النبى صلى الله عليه وسلم يرفع بصره إلى السماء فأمر بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده ( أى محل سجوده قال سفيان وحدثنى غيره عن إبن سيرين ( أن هذه الآية نزلت فى ذلك ( قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون ( قال هو سكون المرء فى صلاته قال معمر وقال الحسن ( خائفون ( وقال قتادة ( الخشوع فى القلب ( ومنه خشوع البصر وخفضه وسكونه ضد تقليبه فى الجهات كقوله تعالى { فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر }
____________________
(22/556)
وقوله تعالى { يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } وفى القراءة الأخرى ( خشعا أبصارهم ( وفى هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصارهم بخلاف آية الصلاة فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين بقوله تعالى ( الذين هم فى صلاتهم خاشعون ( وقوله تعالى ( وانها لكبيرة إلا على الخاشعين ( وقال تعالى ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة (
ومن ذلك خشوع الأصوات كقوله تعالى { وخشعت الأصوات للرحمن } وهو إنخفاضها وسكونها وقال تعالى { وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } وقال تعالى { وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية } وهذا يكون يوم القيامة وهذا هو الصواب من القولين بلا ريب
____________________
(22/557)
كما قال فى القسم الآخر { وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية } وقال تعالى { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين }
وإذا كان الخشوع فى الصلاة واجبا وهو متضمن للسكون والخشوع فمن نقر نقر الغراب لم يخشع فى سجوده وكذلك من لم يرفع رأسه من الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن ومن لم يسكن لم يخشع فى ركوعه ولا فى سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا وهو الذى بيناه
ويدل على وجوب الخشوع فى الصلاة أن النبى توعد تاركيه كالذى يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته ورفعه وهو ضد حال الخاشع فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله ( ما بال أقوام يرفعون أبصارهم فى صلاتهم فإشتد قوله فى ذلك فقال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم ( وعن جابر بن سمرة قال ( دخل رسول الله المسجد وفيه ناس يصلون رافعى أبصارهم إلى السماء فقال لينتهين رجال يشخصون أبصارهم إلى السماء أو لا ترجع إليهم أبصارهم
____________________
(22/558)
الأول فى البخارى والثانى فى مسلم وكلاهما فى سنن أبى داود والنسائى وإبن ماجه
وقال محمد بن سيرين كان رسول الله يرفع بصره فى الصلاة فلما نزلت هذه الآية { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } لم يكن يجاوز بصره موضع سجوده رواه الإمام أحمد فى ( كتاب الناسخ والمنسوخ ( فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافى الخشوع حرمه النبى صلى الله عليه وسلم وتوعد عليه
وأما الإلتفات لغير حاجة فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه فلهذا كان ينقص الصلاة كما روى البخارى وابو داود والنسائى عن عائشة رضى الله عنها قالت سألت رسول الله عن التفات الرجل فى الصلاة فقال ( هو إختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ( وروى أبو داود والنسائى عن ابى الأحوص عن أبى ذر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال الله مقبلا على العبد وهو فى صلاته ما لم يلتفت فإذا إلتفت إنصرف عنه (
وأما لحاجة فلا بأس به كما روى أبوداود عن سهل بن الحنظلية قال ( ثوب بالصلاة يعنى صلاة الصبح فجعل رسول الله صلى
____________________
(22/559)
الله عليه وسلم يصلى وهو يلتفت إلى الشعب ( قال ابو داود ( وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس ( وهذا كحمله أمامة بنت أبى العاص بن الربيع من زينب بنت رسول الله وفتحه الباب لعائشة ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم وتأخره فى صلاة الكسوف وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته وأمره بقتل الحية والعقرب فى الصلاة وأمره برد المار بين يدى المصلى ومقاتلته وأمره النساء بالتصفيق وإشارته فى الصلاة وغير ذلك من الأفعال التى تفعل لحاجة ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافى للخشوع المنهى عنه فى الصلاة
ويدل على ذلك أيضا ما رواه تميم الطائى عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال ( دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس رافعوا أيديهم قال الراوى وهو زهير بن معاوية وأراه قال فى الصلاة فقال مالى أراكم رافعى أيديكم كانها أذناب خيل شمس إسكنوا فى الصلاة ( رواه مسلم وأبوداود والنسائى ورووا أيضا عن عبيد الله بن القبطية عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال ( كنا إذا صلينا خلف رسول الله فسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه ومن عن يساره فلما صلى قال ما بال أحدكم يومئ بيده كأنها أذناب خيل شمس إنما يكفى أحدكم
____________________
(22/560)
أو ألا يكفى أحدكم ان يقول هكذا وأشار بإصبعه يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله ( وفى رواية قال ( أما يكفى أحدكم أو أحدهم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله ( ولفظ مسلم ( صلينا مع رسول الله وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا السلام عليكم فنظر إلينا رسول الله فقال ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يؤمى بيده (
فقد أمر رسول الله بالسكون فى الصلاة وهذا يقتضى السكون فيها كلها والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة فمن لم يطمئن لم يسكن فيها وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر الله تعالى به من الخشوع فيها واحق الناس بإتباع هذا هم أهل الحديث
ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدى هو النهى عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه وحمله على ذلك فقد غلط فإن الحديث جاء مفسرا بأنهم كانوا إذا سلموا فى الصلاة سلام التحليل أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال
ويبين ذلك قوله ( مالى أراكم رافعى أيديكم كأنها أذناب خيل
____________________
(22/561)
شمس و ( الشمس ( جمع شموس وهوالذى تقول له العامة الشموص وهو الذى يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال وهى حركة لا سكون فيها
وأما رفع الأيدى عند الركوع وعند الرفع بمثل رفعها عند الإستفتاح فذلك مشروع بإتفاق المسلمين فكيف يكون الحديث نهيا عنه
وقوله ( إسكنوا فى الصلاة ( يتضمن ذلك ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب عبد الله بن المبارك فرفع إبن المبارك يديه فقال له ( أتريد أن تطير ( فقال ( إن كنت اطير فى أول مرة فأنا أطير فى الثانية وإلا فلا ( وهذا نقض لما ذكره من المعنى
وأيضا فقد تواترت السنن عن النبى وأصحابه بهذا الرفع فلا يكون نهيا عنه ولا يكون ذلك الحديث معارضا بل لو قد تعارضا فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها وهذا الرفع فيه سكون فقوله ( إسكنوا فى الصلاة ( لا ينافى هذا الرفع كرفع الإستفتاح وكسائر أفعال الصلاة بل قوله ( إسكنوا ( يقتضى السكون فى كل
____________________
(22/562)
بعض من أبعاض الصلاة وذلك يقتضى وجوب السكون فى الركوع والسجود والإعتدالين
فبين هذا أن السكون مشروع فى جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان ولهذا يسكن فيها فى الإنتقالات التى منتهاها إلى الحركة فإن السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة كما أمر النبى فى المشى إليها وهى حركة إليها فكيف بالحركة فيها فقال ( إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فإقضوا (
وهذا أيضا دليل مستقل فى المسألة فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فإقضوا ( رواه البخارى ومسلم وأبو داود وإبن ماجه قال أبو داود وكذلك قال الترمذى وإبن أبى ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب بن أبى حمزة عن الزهري ( وما فاتكم فأتموا ( وقال إبن عيينة عن الزهري فإقضوا ( قال محمد بن عمر عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه وجعفر بن أبى ربيعة عن الأعرج عن أبى هريرة ( فأتموا ( وإبن مسعود عن النبى ( فأتموا ( وروى أبوداود عن أبى
____________________
(22/563)
هريرة عن النبى قال ( إئتوا الصلاة وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم وإقضوا ما سبقكم ( قال أبوداود وكذا قال إبن سيرين عن أبى هريرة رضى الله عنه ( وليقض ( وكذلك قال أبورافع عن أبى هريرة وأبوذر رضى الله عنه روى عنه ( فأتموا وإقضوا ( إختلف عنه
فإذا كان النبى قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة ونهى عن السعى الذى هو إسراع فى ذلك لكونه سببا للصلاة فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة وينهى فيها عن الإستعجال فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة منهى عن الإستعجال بطريق الأولى والأحرى لا سيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذى يوجب عليه الذهاب إليها ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع وإن أفضى ذلك إلى فوات بعض الصلاة فأمره بالسكينة وأن يصلى ما فاته منفردا بعد سلام الإمام وجعل ذلك مقدما على الإسراع إليها وهذا يقتضى شدة النهى عن الإستعجال إليها فكيف فيها
يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبى ثمامة الحناط عن كعب بن عجرة قال إن رسول الله قال ( إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه فى صلاة ( فقد نهاه فى مشيه إلى الصلاة عما
____________________
(22/564)
نهاه عنه فى الصلاة من الكلام والعمل له منفردا فكيف يكون حال المصلى نفسه فى ذلك المشى وغير ذلك فإذا كان منهيا عن السرعة والعجلة فى المشى مأمورا بالسكينة وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلى قاضيا له فأولى أن يكون مأمورا بالسكينة فيها
ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر فى كتابه بالسكينة والقصد فى الحركة والمشى مطلقا فقال ( وإقصد فى مشيك وإغضض من صوتك وقال تعالى { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } قال الحسن وغيره ( بسكينة ووقار ( فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء فإذا كان مأمورا بالسكينة والوقار فى الأفعال العادية التى هي من جنس الحركة فكيف الأفعال العبادية ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون كالركوع والسجود فإن هذه الأدلة تقتضى السكينة فى الإنتقال كالرفع والخفض والنهوض والإنحطاط وأما نفس الأفعال التى هي المقصود بالإنتقال كالركوع نفسه والسجود نفسه والقيام والقعود أنفسهما وهذه هي من نفسها سكون فمن لم يسكن فيها لم يأت بها وانما هو بمنزلة من اهوى إلى القعود ولم يأت به كمن مد يده إلى الطعام ولم يأكل منه أو وضعه على فيه ولم يطعمه
وأيضا فإن الله تعالى أوجب الركوع والسجود فى الكتاب
____________________
(22/565)
والسنة وهو واجب بالإجماع لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } وقوله تعالى { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } وقوله تعالى { فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } وقوله تعالى { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون } وقوله تعالى { واسجد واقترب } وقوله تعالى { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب }
فدل على أن الذى لا يسجد لله من الناس قد حق عليه العذاب وقوله { ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا } وقوله تعالى { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } وقوله تعالى { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } وقوله تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }
وإذا كان الله عز وجل قد فرض الركوع والسجود لله فى كتابه كما فرض أصل الصلاة فالنبى هو المبين للناس ما نزل إليهم وسنته تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه
____________________
(22/566)
وفعله إذا خرج إمتثالا لأمر أو تفسيرا لمجمل كان حكمه حكم ما إمتثله وفسره وهذا كما أنه لما كان يأتى فى كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبا وكان هذا إمتثالا منه لما أمر الله به من الركوع والسجود وتفسيرا لما أجمل ذكره فى القرآن وكذلك المرجع إلى سنته فى كيفية السجود وقد كان يصلى الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالإعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة فى أفعال الصلاة كلها قد نقل ذلك كل من نقل صلاة الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالإعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة وكذلك كانت صلاة أصحابه على عهده وهذا يقتضى وجوب السكون والطمأنينة فى هذه الأفعال كما يقتضى وجوب عددها وهو سجودان مع كل ركوع
وأيضا فإن مداومته على ذلك فى كل صلاة كل يوم مع كثرة الصلوات من أقوى الأدلة على وجوب ذلك إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة ليبين الجواز أو ليبين جواز تركه بقوله فلما لم يبين لا بقوله ولا بفعله جواز ترك ذلك مع مداومته عليه كان ذلك دليلا على وجوبه
وأيضا فقد ثبت عنه فى صحيح البخارى
____________________
(22/567)
أنه قال لمالك بن الحويرث وصاحبه ( إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وصلوا كما رأيتمونى أصلى ( فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلى
وذلك يقتضى أنه يجب على الإمام أن يصلى بالناس كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى لهم ولا معارض لذلك ولا مخصص فإن الإمام يجب عليه مالا يجب على المأموم والمنفرد
وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الصحيحين عن سهل بن سعد أنه قال ( لقد رأيت رسول الله قام على المنبر وكبر وكبر الناس معه وراءه وهو على المنبر ثم رجع فنزل القهقري حتى سجد فى أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى ( وفى سنن أبى داود والنسائى عن سالم البراد قال ( أتينا عقبة بن عامر الأنصارى أبا مسعود فقلنا له حدثنا عن صلاة رسول الله فقام بين أيدينا فى المسجد فكبر فلما ركع وضع يديه على ركبتيه وجعل أصابعه أسفل من ذلك وجافى بين مرفقيه حتى إستقر كل شيء منه ثم قال سمع الله لمن حمده فقام حتى إستقر كل شيء منه ثم كبر وسجد ووضع كفيه على الأرض ثم جافى بين مرفقيه حتى إستقر كل شيء
____________________
(22/568)
منه ثم رفع رأسه فجلس حتى إستقر كل شيء منه ففعل ذلك أيضا ثم صلى أربع ركعات مثل هذه الركعة فصلى صلاته ثم قال هكذا رأينا رسول الله يصلى (
وهذا إجماع الصحابة رضى الله عنهم فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين وإذا رأى بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه ونهاه ولا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك وهذا إجماع منهم على وجوب السكون والطمأنينة فى الصلاة قولا وفعلا ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانا كما كانوا يتركون ماليس بواجب
وأيضا فإن الركوع والسجود فى لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه وحين وضع وجهه على الأرض فأما مجرد الخفض والرفع عنه فلا يسمى ذلك ركوعا ولا سجودا ومن سماه ركوعا وسجودا فقد غلط على اللغة فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يسمى راكعا وساجدا حتى يكون فاعله ممتثلا للأمر وحتى يقال إن هذا الأمر المطالب به يحصل الإمتثال فيه بفعل ما يتناوله الإسم فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى فى اللغة ركوعا وسجودا وهذا مما لا سبيل إليه ولا دليل عليه فقائل ذلك قائل بغير علم فى كتاب الله وفى لغة العرب وإذا حصل الشك هل هذا ساجد او ليس بساجد لم يكن ممتثلا بإلاتفاق لأن الوجوب معلوم وفعل
____________________
(22/569)